شرح المفصل لابن يعيش
ابن يعيش
شرح المفصل للزمخشري تأليف موفّق الدين أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش الموصلي المتوفى سنة 643هـ قدّم له ووضع هوامشه وفهارسه الدكتور إميل بديع يعقوب الجزء الأول منشورات محمد على بيضون لنشر كتب السنة والجماعة دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
المقدمة
دار الكتب العلمية جميع الحقوق محفوظة جميع حقوق الملكية الادبية والفنيه محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملاً أو مجزأ أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطيًّا. الطَبعَة الأوْلى 1422هـ - 2001م ـــــــــــــ دار الكتب العلمية بيروت- لبنان رمل الظريف. شارع البحتري، بناية ملكارت هاتف وفاكس: 364398 - 366135 - 378542 (9611) صندوق بريد:1109424 بيروت- لبنان
القسم الأول ترجمة الزمخشري (صاحب "المفصل") وترجمة ابن يعيش (صاحب الشرح)
القسم الأول ترجمة الزمخشري (صاحب "المفصّل") وترجمة ابن يعيش (صاحب الشرح)
الفصل الأول ترجمة الزمخشري
الفصل الأول ترجمة الزمخشري (¬1) 1 - مصادر ترجمته ومراجعها (¬2): - الأعلام: 7/ 178. - إنباه الرواة: 3/ 265 - 272. - إيضاح المكنون: 1/ 67؛ 2/ 86. - البداية والنهاية: 12/ 235. - بغية الوعاة: 2/ 279 - 280. - تاج العروس: 11/ 448 - 451 (زمخشر). - تاريخ آداب اللغة العربية: 3/ 46 - 48. - تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان: 5/ 215 - 238. - تاريخ الإِسلام (وفيات 521 - 540 هـ). ص 486 - 490. - دائرة المعارف الإِسلامية: 10/ 403 - 410. - روضات الجنات: ص 211 - 214. - (كتاب) الزمخشري لأحمد محمَّد الحوفيّ. - سير أعلام النبلاء: 20/ 151 - 156. - شذرات الذهب: 4/ 118 - 121. - ذوات الوفيات: 4/ 183. - الكامل في التاريخ: 11/ 97. - كشف الظنون ص 117، 164، 185، 616، 781، 791، 831، 832، 895، 915، 1009، 1022، 1056، 1082، 1085، 1206، 1217، 1326، 1398، 1407، 1427، 1475، 1539، 1584، 1607، 1674، 1675، 1734، 1774، 1791، 1798، 1837، 1877، 1890، 1955، 1978. - لسان الميزان: 6/ 4. ¬
2 - اسمه، وكنيته، ولقبه، وحياته
- مجلة "المجمع العلميّ العربي: 5/ 135. - المختصر في أخبار البشر: 3/ 17. - مرآة الجنان: 3/ 269 - 271. - معجم الأدباء: 19/ 126 - 135. معجم البلدان: 3/ 147 (زمخشر). - معجم اللغويين العرب: 2/ 263. - معجم المؤلفين: 12/ 186 - 187. - معجم المطبوعات العربية والمعربة ص 973. - مفتاح السعادة: 1/ 429 - 430. - المنتظم في تاريخ الأمم والملوك: 18/ 37 - 38. - النجوم الزاهرة: 5/ 274. - نزهة الألباء: ص 469 - 478. - هدية العارفين: 2/ 402، 403. - وفيات الأعيان: 5/ 168 - 174 (¬1). 2 - اسمه، وكنيته، ولقبه، وحياته: هو محمود بن عمر بن محمَّد بن أحمد (¬2)، أبو القاسم، جار الله، الزمخشري. ولد يوم الأربعاء في السابع والعشرين من رجب سنة 467 هـ /1074م (¬3) في قرية تُدعى "زمخشر" القريبة جدًّاا من خوارزم، حتى إنها دخلت في جملة المدينة عندما كثرت العمارة في هذه الأخيرة (¬4). ومن هنا نسبته الزمشخريّ، أمّا "جار الله" فلقب لقَّب نفسه به لأنّه جاور بمكة زمنًا، فصار هذا اللقب علمًا عليه (¬5)، وأمّا "فخر خوارزم" (¬6) فلقب آخر لقّبه الناسُ به بعد أن قصدوه للانتفاع بعلمه. ¬
نشأ الزمخشريّ بزمخشر، ودرس بها، ثمّ رحل إلى بخارى لطلب العلم (¬1)، ثم إلى خراسان حيث اتصل ببعض رجال الدولة السلجوقيّة ومدحهم (¬2)، ثمّ إلى أصفهان حيث مدح ملكها محمَّد بن أبي الفتح ملكشاه (¬3)، ثمّ إلى بغداد حيث ناظر بها وسمع من علمائها (¬4)، فإلى مكة حيث اتصل بأميرها أبي الحسن علي بن حمزة بن وهّاس الشريف الحسنيّ، وكان ذا فضل غزير، وله تصانيف مفيدة وقريحة في النظم والنثر مجيدة (¬5)، فتبادلا المديح شعرًا (¬6). وفي أيام مقامه بالحجاز زار همدان، ومدح آل زرير (¬7)، ثم طوَّف في بلاد العرب، وزار تربة، وهي وادٍ على مسيرة أربع ليالي من الطائف، يقول: "وطئتُ كلّ تربة في أرض العرب، فوجدت تربة أطيب الترب" (¬8). وبعد إقامته مدة بمكة، شاقه وطنه، فعاد إليه، لكنّه سرعان ما حنّ إلى مكة، فعاد إليها، فقيل له: "قد زجَّيتَ أكثر عمرك هناك، فما الموجب"؟ فقال: "القلب الذي لا أجده ثَمَّ أجده ها هنا" (¬9). وفي أثناء عودته إلى مكة عرّج على الشام، ومدح تاج الملوك بوري طفتكين، صاحب دمشق (¬10). وفي مكة لقي من ابن وهّاس ما كان يلقاه من قبل من حفاوة وتعظيم، وكان ابن وهّاس يوافقه في مذهبه، فشجعه على تأليف كتابه "الكشاف" (¬11). وبعد مكّة عاد إلى وطنه ثانية، معرجًا على بغداد سنة 533 هـ (¬12)، وبقي في خوارزم إلى أن أتته المنيّة ليلة عرفة سنة 538 هـ/ 1134م بجرجانيّة، وهي قصبة خوارزم على شاطئ نهر جيحون (¬13). وقد رثاه بعضهم بأبيات، من جملتها [من البسيط]: فأرضُ مكَّةَ تذري الدمعَ مقلتُها ... حزنًا لفرقةِ جار الله محمودِ (¬14) وروي أنّه أوصى أن تُكتب على قبره الأبيات التالية [من الكامل]: يا مَنْ يرى مَدَّ البعوضِ جناحَها ... في ظلمةِ الليلِ البهيمِ الأليلِ ¬
3 - أساتذته
ويرى عروقَ نياطِها في نحرها ... والمخ في تلك العظامِ النُّخَّل اغْفِرْ لِعَبْدٍ تابَ من فرطاتِه ... ما كانَ منه في الزمانِ الأولِ (¬1) 3 - أساتذته: تتلمذ الزمخشريّ على علماء عصره، ولعلّ أعظمهم أثرًا في نفسه أبو مضر محمود بن جرير الضبّيّ الأصفهاني (¬2)، وكان يلقب بفريد العصر ووحيد الدهر في علم اللغة والنحو، فدرس عليه النحو الأدب، وكان الزمخشريّ يحب أستاذه أبا مضر، فلما توفي سنة 507 هـ/ 1113م رثاه بقوله [من الطويل]: وقائلةٍ: ما هذه الدررُ التي ... تساقطُ من عينيكَ سمطينِ سمطينِ فقلتُ لها: الدرّ الذي كان قد حشا ... أبو مضرٍ أذُني تساقطَ من عيني (¬3) وأخذ الأدب أيضًا عن أبي علي الحسن بن المظفر النيسابوري (¬4). وسمع الحديث من شيخ الإِسلام أبي منصور نصر الحارثيّ، ومن أبي سعد الشقّانيّ (¬5)، ومن أبي الخطاب بن البطر (¬6). وقرأ على أبي منصور بن الجواليقي بعض كتب اللغة من فواتحها مستجيزًا لها (¬7). وقرأ في مكة على عبد الله بن طلبة اليابري كتاب سيبويه وشرح رسالة ابن أبي زيد (¬8). 4 - تلامذته: تتلمذ على الزمخشريّ كثيرون. قال القفطيّ: "ما دخل بلدًا إلاَّ واجتمعوا عليه وتتلمذوا له، واستفادوا منه، وكان علّامة الأدب، ونسّابة العرب، أقام بخوارزم تُضرب إليه أكباد الإبل، وتحطّ بفنائه رحال الرجال، وتُحدى باسمه مطايا الآمال" (¬9). ومن تلامذته بزمخشر أبو عمرو عامر بن الحسن السمار، وبطبرستان أبو المحاسن إسماعيل بن عبد الله الطويلي، وبأبيورد أبو المحاسن عبد الرحيم بن عبد الله البزاز، وبسمرقند أبو سعد أحمد بن محمود الشاتي، وبخوارزم أبو طاهر سامان بن عبد الملك الفقيه، والموفق بن أحمد بن أبي سعيد المعروف بأخطب خوارزم (¬10). ¬
5 - شخصيته
وتتلمذ عليه أيضًا محمَّد بن أبي القاسم بايجوك، أبو الفضل الخوارزمي الآدمي الملقب زين المشايخ، النحويّ الأديب (ت 562 هـ/ 1166 م) (¬1)، وأبو يوسف يعقوب بن علي بن محمَّد بن جعفر البلخي، أحد الأئمة في النحو والأدب (¬2)، وعلي بن عيسى بن حمزة بن وهاس، أمير مكة (¬3)، وزينب بنت الشَّعريّ التي أجازت ابن خلكان (¬4). وكتب إليه الحافظ أبو الطاهر أحمد بن محمَّد السلفي يستجيزه (¬5)؛ وأما الشريف السيد الفاضل الكامل أبو الحسن علي بن عيسى بن حمزة الحسني فقد أخذ عن الزمخشريّ، وأخذ الزمخشريّ عنه (¬6)، وقيل: قرأ السيد الفاضل علي الزمخشريّ، وبرَّز عليه (¬7). 5 - شخصيَّته: لم تذكر لنا كتب التراجم من صفاته الجسديّة سوى أنّه كان أعرج يمشي في رجل من خشب، وروي أنّه لما كان ببغداد سأله أحمد بن علي بن محمَّد، أبو الحسن الدامغاني (ت 540 هـ/ 1145 م) "عن سبب قطعها، فقال: دعاء الوالدة، وذلك أنني في صباي أمسكت عصفورًا، وربطته بخيط في رجله، وانفلت من يدي، فأدركته، وقد دخل في خرق، فجذبته، فأنقطعت رجله في الخيط، فتألّمت أمّي لذلك، وقالت: قطع الله رجل الأبعد كما قطع رجله، فلمّا وصلت إلى سن الطلب، رحلتُ إلى بُخارى لطلب العلم، فسقطت عن الدابة، فانكسرت الرجل، وعملتُ عملاً أوجب قطهما" (¬8). وكان، إذا مشى، ألقى عليها ثيابه الطوال، فيظنّ من يراه أنّه أعرج (¬9). وكان بيده محضر فيه شهادة خَلْق كثير ممن اطلعوا على حقيقة ذلك خوفُ امن أن يظن من لم يعلم صورة الحال أنها قُطعت لريبة (¬10). ولعلّ أبرز معالم شخصيّته النفسيّة شغفه بالعلم، إذ أكثر من الرحلة في طلبه، ولم يزل يطلبه حتى في سنّ السادسة والستين، فقد ذكر القفطيّ أنه رآه عند أبي منصور بن الجواليقي سنة 533 هـ مرتين قارئًا عليه بعض كتب اللغة من فواتحها، ومستجيزًا لها (¬11). ¬
وبفضل جهده الكبير في تحصيل العلم أصبح الزمخشريّ متقنًا للغة الفارسيّة، عالمًا في اللغة، والنحو، والعروض، والأدب، والبلاغة، والتفسير، والقراءات، والحديث، والفقه، وعلم الكلام، والمنطق. وكان الزمخشريّ شاعرًا له ديوان، ومن مليح شعره قوله [من الطويل]: أقولُ لِظَبْيٍ مَرّ بي وَهْو راتِعٌ ... أَأَنْتَ أخو ليلى؟ فقال: يُقالُ فقلتُ: وفي حكمِ الصبابةِ والهوى ... يقال: أخو ليلى؟ فقال: يُقالُ فقُلتُ: وفي ظِلِّ الأراكةِ والحمى ... يقال: ويُسْتَسْقى؟ فقال: يقالُ (¬1) وقد افتخر بعلومه، فقال [من الطويل]: ترانيَ في عِلْمِ المُنَزَّلِ عالمًا ... وما أنا في علم الأحاديثِ راسفا فللسنةِ البيضاءِ فيَّ مناجحٌ ... ويبغي كتاب الله منّي المعارفا وما أنا من علم الدياناتِ عاطلاً ... فأحْسَنُ حَلْي لم يزلْ لي شانفا وما للغاتِ العربِ مثْلي مُقَوِّم ... أبى كلُّ ندبٍ متقن أن يخالفا وبي يستفيد النحو من أن يسوسه ... نُهّى لم يجدْها الذائقون حصائفا وعلما المعاني والبيانِ كِلاهما ... أزفُّ إلى الخطاب منه وصايفا وعلم القوافي والأعاريضِ شاهِدُ ... بِفُسْحَةِ خطوي فيه إذ كنتُ زاحفا أقَرّتْ بيَ الآدابُ أصلاً لها ومَن ... رأى مشرفيّاتٍ جَحَدْنَ المشارفا وديوانُ منظومي يُريك بدائعًا ... وديوانُ مَنْثوري يُريك طرائفا (¬2) وكان الزمخشريّ على مذهب المعتزلة مجاهرًا به حنفيًّا (¬3) "حتى نقل عنه أنه كان إذا قصد صاحبًا له، واستأذن عليه في الدخول، يقول لمن يأخذ له الإذن: قلْ له: أبو القاسم المعتزليّ بالباب. وأوّل ما صنَّف كتاب "الكشّاف" كتب استفتاح الخطبة: "الحمد لله الذي خلق القرآن"، فيقال: إنّه قيل له: متى تركته على هذه الهيئة، هجره الناس، ولا يرغب أحد فيه، فغيَّره بقوله: "الحمد لله الذي جعل القرآن"، و"جعل" عندهم [أي: عند المعتزلة، بمعنى "خلق" (¬4). ¬
6 - مؤلفاته
وعاش الزمخشريّ حياته أعزب (¬1)، تقيًا متديّنًا (¬2)، أبيّ النفس (¬3)، طموحًا (¬4)، متواضعًا، لطيف المعاملة، ظريف المجاملة (¬5)، قاسيًا على مخالفيه من المعتزلة والمتصوّفة (¬6)، محبًا للعربية وأهلها، منافحًا عنهما في وجه الشعوبيَّة التي بلغت أشدّها في عصره. قال في مقدمة كتابه "المفصّل": "الله أحمد على أن جعلني من علماء العربيّة، وجبلني على الغضب للعرب والعصبيّة، وأبى لي أن أنفرد من صميم أنصارهم وأمتاز، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز، وعصمني من مذهبهم الذي لم يُجدِ عليهم إلًّا الرشق بألسنة اللاعنين، والمشق (¬7) بأسنّة الطاعنين". وقد جَهرَ بتفضيل العرب على العجم، فقال: "العرب نبع (¬8) صلب المعاجم، والغَرَب (¬9) مَثَل للأعاجم" (¬10)، وقال: "فرقك بين الرُّطب والعجم (¬11) هو الفرق بين العرب والعجم" (¬12). 6 - مؤلفاته: ألّف الزمخشريّ في العلوم الدينيّة ورجالها، واللغة، والنحو، والعروض، والأدب، وفيما يلي قائمة بمؤلفاته مرتبة ترتيبًا ألفبائيًا (¬13): - الأجناس (¬14). - الأحاجي النحوية، وهو كتاب "المحاجاة ... " الآتي ذكره. - أساس البلاغة؛ معجم لغويّ يهتمّ بالاستعارة والمجاز، وهو أوّل معجم عربيّ مرتب حسب أوائل الأصول بحسب الترتيب الألفبائي (¬15). ¬
- الأسماء (¬1). - أطواق الذهب أو النصائح الصغار، وهو مئة مقالة في المواعظ والنصائح والحكم (¬2). - أعجب العجب في شرح لاميّة العرب (¬3). - الأمالي في كل فنّ (¬4). - الأمكنة والجبال والمياه والبقاع المشهورة في أشعار العرب (¬5). - الأنموذج، في النحو، وهو مقتضب من المفصّل (¬6). - تسلية الضرير (¬7). - جواهر اللغة (¬8). - حاشية على المفصّل (¬9)، ولعله "شرح بعض مشكلات المفصّل" الآتي ذكره. - خصائص العشرة الكرام البررة (¬10). - الدرّ الدائر المنتخب في كنايات واستعارات وتشبيهات العرب (¬11). - ديوان التمثيل (¬12). ¬
- ديوان خطب (¬1). - ديوان الرسائل (¬2). - ديوان شعر (¬3). - الرائض في الفرائض (¬4). - رؤوس المسائل، في الفقه (¬5). - ربيع الأبرار ونصوص الأخبار: مختارات شتى من الأدب والتاريخ والعلوم (¬6). - رسالة الأسرار (¬7). - رسالة التصرفات (¬8). - رسالة في كلمة الشهادة (¬9). - رسالة في المجاز والاستعارة (¬10). - رسالة المسأمة (¬11). - الرسالة الناصحة (¬12). - سوائر الأمثال (¬13). - شافي العيّ من كلام الشافعي (¬14). - شرح أبيات كتاب سيبويه (¬15). ¬
- شرح بعض مشكلات المفصّل (¬1). - شرح المقامات: شرح لمقاماته التي سيأتي ذكرها (¬2). - شقائق النعمان في حقائق النعمان (في مناقب أبي حنيفة) (¬3). - صميم العربية (¬4). - ضالة الناشد والرائض في علم الفرائض (¬5). - عقل الكل (¬6). - الفائق في غريب الحديث (¬7). - القسطاط في العروض (¬8). - القصيدة البعوضيّة (¬9)، وفيها ثناء على الله ورسوله في خاتمة وصف بعوضة. - قصيدة في سؤال الغزالي عن جلوس الله على العرش وقصور المعرفة البشرية (¬10). - الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل (¬11)، وهو تفسير للقرآن الكريم. - الكشف في القراءات (¬12). - الكلم النوابغ. انظر نوابغ الكلم. - متشابه أسامي الرواة (¬13). ¬
7 - أقوال العلماء فيه
- مختصر الموافقة بين أهل البيت والصحابة (¬1)، والأصل لأبي سعيد الرازي إسماعيل. - المستقصى في أمثال العرب (¬2)، وهو معجم للأمثال العربية مرتَّب على حروف الهجاء. - معجم الحدود في الفقه (¬3). - المفرد والمؤلف في النحو (¬4). - المفصّل، وسيأتي الحديث عنه بالتفصيل. - المقامات؛ خمسون مقامة في النصح والإرشاد، ولكل منها عنوان، يصدرها بقوله: "يا أبا القاسم"، مخاطبًا نفسه. وقد شرحها بنفسه. - مقدمة الأدب، وهو معجم عربي فارسي، وأكمله فيما بعد بجزء تركي (¬5). - المنهاج، في الأصول (¬6). - نزهة المتأنس ونهزة المقتبس (¬7). - النصائح الصغار (¬8)، وهو كتاب "أطواق الذهب نفسه". - النصائح الكبار (¬9)، وهو كتاب المقامات نفسه. - نكت الأعراب في غريب الإعراب، وهو في غريب إعراب القرآن الكريم (¬10). نوابغ الكلم (¬11): حِكَم قصار. 7 - أقوال العلماء فيه: أجمع العلماء على الثناء على الزمخشريّ، ومدحه بسعة العلم، وكثرة ¬
8 - كتاب المفصل
الفضل، والتفنّن في العلوم، وقد لقّبوه بـ"فخر خوارزم" كما سبق القول. قال السيوطيّ: "كان واسع العلم، كثير الفضل، غايةً في الذكاء وجودة القريحة، متفننًا في كل علم" (¬1). وقال ابن خلكان: "الإِمام الكبير في التفسير والحديث والنحو واللغة وعلم البيان. كان إمام عصره من غير مدافع تشدّ إليه الرحال في فنونه" (¬2). وقال القفطيّ: "وكان - رحمه الله - ممّن يضرب به المثل في علم الأدب والنحو واللغة ... وما دخل بلدًا إلّا واجتمعوا عليه وتلمذوا له، واستفادوا منه. وكان علاّمة ونسّابة العرب، أقام بخوارزم تُضرب إليه أكباد الإبل، وتحطّ بفنائه رحال الرجال، وتُحدى باسمه مطايا الآمال" (¬3). وقال في مكان آخر: "وكان الزمخشريّ أعلم فضلاء العجم بالعربية في زمانه، وأكثرهم أنسًا واطلاعًا على كتبها، وبه ختم فضلاؤهم" (¬4). وقال ياقوت الحموي: "كان إمامًا في التفسير والنحو واللغة والأدب، واسع العلم، كبير الفضل، متفننًا في علوم شتَّى" (¬5). وقال الشريف السيد الفاضل الكامل أبو الحسن علي بن عيسى بن حمزة الحسنيّ [من الطويل]: جميعُ قرى الدنيا سوى القريةِ التي ... تبوَّأها دارًا فداءُ زمَخْشَرا وأَحْرِ بأَنْ تُزْهى زمَخْشَرُ بامْرِىءِ ... إذا عُدَّ في أُسْدِ الشَّرى زَمَخَ الشَّرَى (¬6) وقال محمَّد طيب المكي صاحب "الوشاح الحامدي المفصّل على مخدرات المفصّل": "أستاذ الدنيا، فخر خوارزم، جار الله، العلامة أبو القاسم محمود الزمخشريّ، من أكابر الأمّة، وقد ألقت العلومُ إليه أطراف الأزِمّة، واتفقت على إطرائه الألسنة، وتشرَّفت بمكانه وزمانه الأمكنة والأزمنة" (¬7). 8 - كتاب المفصّل (¬8): شرع الزمخشريّ في تأليف هذا الكتاب يوم الأحد في غرّة رمضان سنة 513 هـ/ ¬
1119 م؛ وفرغ منه في غرّة المحرم سنة 515 هـ / 1121 م (¬1). والذي دفعه إلى وضع هذا الكتاب "ما بالمسلمين من الأرب إلى معرفة كلام العرب، وما به من الشفقة والحدب على أشياعه من حفدة الأدب لإنشاء كتاب في الإعراب محيط بكافّة الأبواب (¬2)، مرتب ترتييًا يبلغ بهم الأمد البعيد بأقرب السعي، ويملأ سجالهم بأهون السقي" (¬3). وقد قسّم كتابه إلى أربعة أقسام: أ- القسم الأول: في الأسماء. ب- القسم الثاني: في الأفعال. ج- القسم الثالث: في الحروف. د- القسم الرابع: في المشترك بين الأسماء والأفعال والحروف. أمّا منهجه في تناول موضوعات فصوله، فقد اتَّسم بما يلي: أ- الاستناد إلى الآيات القرآنيّة في عرض القواعد النحويّة، وإلى بعض القراءات القرآنيّة. ب- الاستشهاد بالحديث النبوي الشريف، فكان الزمخشريّ، بهذا الأمر، مخالفًا بعض النحويِّين الذين لم يجيزوا الاستشهاد بالحديث بحجّة أنّه قد يُروى بمعناه لا بلفظه (¬4). ¬
ج- الإكثار من الاستشهاد بالشواهد الشعريّة التي بلغت واحدًا وأربعين وأربعمئة، وقد كرَّر بعضها. د- الاستشهاد بالأمثال والأقوال العربية، ولكن بنسبة تقلّ كثيرًا عن استشهاده بالآيات القرآنية والشواهد الشعريّة. وهو، في تناوله المسائل النحوية، بصريّ المذهب عمومًا مع اعتماد كبير على سيبويه ومتابعة لآرائه. ومن ذلك متابعته له في أنّ الفعل الثاني هو العامل في باب التنازع (¬1)، وأن "زيدًا" في قولك: "هل زيد قام؟ " فاعل لفعل محذوف يُفسره الفعل المذكور، لا مبتدأ كما ذهب الكوفيون (¬2)، وأن متلوّ "لولا" في نحو: "لولا عليّ لسافرت" مبتدأ خبره محذوف، وفي أن خبر "إن" وأخواتها مرفوع بهذه الحروف بما كان مرتفعًا به قبل دخول "إنّ" كما زعم الكوفيّون (¬3)، وفي أنّ الناصب للمنادى ما ينوب عنه حرف النداء، مثل "أريد"، و"أدعو" (¬4). وهذا الالتزام للمذهب البصري جعله يعبر عن نفسه وعن البصرين بضمير المتكلمين، يقول مثلاً، في فصل لام الابتداء: "ويجوز عندنا" "إنّ "زيدًا لسوف يقوم" ولا يجوِّزه الكوفيّون" (¬5)؛ كما أنّه يشير أحيانا إلى البصريين بأنهم أصحابه (¬6). ومع هذا الالتزام، نراه يختار أحيانًا رأي الكوفيّين، فقد وافقهم في زيادة الفعل "حدَّث" على الأفعال المتعدِّية إلى ثلاثة مفاعيل، كقول الحارث بن حلِّزة اليشكريّ [من الخفيف]: إنْ منَعْتُم ما تُسْألون فَمَن حُدْ ... دثْتُموهُ لهُ علينا العلاء (¬7) وفي أن يكون البدل والمبدل منه نكرة (¬8)، كما في الآية: {مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} (¬9)، وفي فصل حرف التعليل "أي" قال: "اختلف النحويون في إعراب "ما" في "فيمه" و"عمه" و"لمه"، فهي عند البصريّين مجرورة، وعند الكوفيّين منصوبة بفعل مضمر، كأنك قلت: "كي تفعل ماذا"، وما أرى هذا القول بعيدًا عن الصواب" (¬10). وقد يختار بعض آراء أصحاب المدرسة البغدادية، كموافقته مثلاً أبا عليّ الفارسيّ في أنّ "ما" في مثل "نعمّا محمَّد" نكرة تامّة منصوبة على التمييز (¬11). وإلى جانب اختياراته الكوفيّة والبغداديّة نراه أحيانًا ينفرد بآراء، ومنها ذهابه ¬
إلى أنّ رافع الخبر هو الابتداء فقط (¬1)، وإلى أنّ "لن" تفيد تأكيد النفي (¬2). أمّا أسلوب "المفصّل" فقد أراد الزمخشريّ كما يقول في مقدمة هذا الكتاب أن يتصف بالإيجاز غير المُخِلّ والتلخيص غير الممِلّ، لكنه، كما يقول ابن يعيش في مقدمة شرحه لهذا الكتاب، اشتمل "على ضروب منها لفظ أغربت عبارته فأشكل، ولفظ تتجاذبه معانٍ، فهو مجمل، ومنها ما هو بادٍ للأفهام إلّا أنّه خالٍ من الدليل مهمل". ولهذا السبب كَثر شُرّاح الكتاب. وكان للمفصّل أهمّيَة كبيرة لدى العلماء، فأقبلوا عليه ثناءً وشرحًا، ونظمًا، واختصارًا، وردًّا على أخطائه (¬3). ومن الذين أثنوا عليه ابن يعيش، فقد قال في مقدمة كتابه "شرح المفصّل": إنّه كتاب جليل القدر، نابه الذكر، جمعت فصوله أصول علم النحو، وأوجز لفظه، فتيسَّر على الطالب تحصيله. ووصفه حاجي خليفة بأنه كتاب "عظيم القدر" (¬4). وقال فيه الشاعر [من الطويل]: إذا ما أردتَ النحو هاك محصَّلا ... عليكَ من الكتبِ الحسانِ مُفَصَّلا (¬5) وقال الآخر [من الطويل]: مفصَّلُ جارِ الله في الحسنِ غايةٌ ... وألفاظُهُ فيه كدُرٍّ مُفَصَّلِ ولولا التُقى قلت: المفصَّلُ مُحْجِرٌ ... كآيٍ طوالٍ من طوالِ المفصَّلِ (¬6) ومن الذين شرحوه (¬7): - أحمد بن أبي بكر الحلواني (ت 620 هـ / 1223 م) (¬8). - أحمد بن محمَّد المقدسي القاضي (ت 638 هـ / 1240 م) (¬9). ¬
- أحمد بن محمود بن قاسم الجندي الأندلسي، من علماء القرن الثامن الهجري، وسمّى شرحه "الإقليد" (¬1). - بدر الدين أبو فارس النعساني الحلبي (¬2). - أبو البقاء العكبري، عبد الله بن الحسين (538 هـ / 1143 م -616 هـ / 1219 م)، وسمّى شرحه "المحصّل" (¬3). - ابن الحاجب عثمان بن عمر (570 هـ / 1174 م- 646 هـ / 1249 م)، وسمّى شرحه "الإيضاح" (¬4). - حسين بن علي السغناقي (ت 710 هـ/ 1310 م)، وسمّى شرحه "الموصل" (¬5). - الخوارزمي، أبو محمَّد مجد الدين القاسم بن الحسين (555 هـ/ 1160 م- 617 هـ / 1220 م)، وسمّى شرحه "التخمير" (¬6)، وهو في ثلاثة مجلدات، وله شرح له آخر وسيط، وثالث مختصر (¬7). - الرازي، فخر الدين محمَّد بن عمر (544 هـ / 1150 م- 606 هـ/ 1210 م) (¬8). - السخاوي، أبو الحسن علي بن محمَّد بن عبد الصمد (558 هـ / 1163 م- 643 هـ/ 1245 م)، وسمّى شرحه "المفضل" (¬9). وللسخاوي أيضًا كتاب آخر في شرح تصريفه سماه "سفر السعادة وسفير الإفادة" (¬10). - عبد الواحد بن عبد الكريم الأنصاري (... - 651 هـ/ 1253 م)، وسمّى شرحه "المفضّل " (¬11). ¬
- علي بن عمر بن الخليل بن عمر المعروف بالفخر الاسفندري (ت 698 هـ / 1299 م)، وسمّى شرحه "كتاب المقتبس في توضيح ما التبس" (¬1). - ابن عمرون، محمَّد بن محمَّد الحلبي (ت 649 هـ / 1251 م) (¬2). - القاسم بن أحمد اللورقي الأندلسيّ، علم الدين (ت 661 هـ/ 1262 م)، وسمّى شرحه "الموصّل" (¬3). - القفطيّ، الوزير جمال الدين علي بن يوسف (ت 646 هـ/ 1248 م) (¬4). - ابن مالك، محمَّد بن عبد الله (600 هـ (1203 م- 672 هـ / 1274 م) وسمّى كتابه "ذكر أبنية الأسماء الموجودة في المفصّل" (¬5). - محمَّد بن سعد المروزي، وسمّى شرحه "المحصل" (¬6). - محمَّد طيب المكيّ الهندي، وسمّى شرحه "الوشاح الحامديّ المفصّل على مخدرات المفصّل" (¬7). - محمَّد بن محمَّد الخطيب (¬8). - المرادي، بدر الدين حسن بن قاسم (ت 749 هـ/ 1348 م) (¬9). - مظهر الدين الشريف الرضيّ محمَّد، وسمّى شرحه "المكمل" (¬10). - المهدي لدين الله أحمد بن يحيى المرتضى (775 هـ/1373 م-840 هـ/ 1437 م)، وسمّى شرحه "التاج المكلل" (¬11). - ابن النجار البغدادي، أبو عبد الله محمَّد بن محمود (572 هـ / 1183 م - 643 هـ/1245م) (¬12). ¬
- يحيى بن حمزة بن السيد المرتضى ابن رسول الله (669 هـ / 1270 م - 745 هـ/ 1344 م)، وسمّى شرحه "المحصل لكشف أسرار المفصّل" (¬1). - ابن يعيش، موفق الدين يعيش بن علي (553 هـ / 1161 م- 643 هـ / 1245 م)، وهو الشرح الذي سنتناوله بالتفصيل بعد قليل. - أبو يوسف، منتجب الدين يعقوب الهمداني (ت 643 هـ / 1245 م) (¬2). - شروحات أخرى له ولشواهده لمجاهيل (¬3). - وشرح أبياته أبو البركات مبارك بن أحمد المعروف بابن المستوفي (ت 638 هـ / 1240 م)، وسمّى شرحه "إثبات المحصل في نسبة أبيات المفصّل"، ورضي الدين حسن بن محمَّد الصغاني (577 هـ / 1181 - 650 هـ / 1252 م)؛ وعبد الظاهر بن بشران (أونشوان) (649 هـ/ 1251 م) (¬4)؛ وفخر الدين الخوارزميّ (¬5). ونظمه أبو نصر فتح بن موسى الخضراوي القصري (ت 663 هـ/ 1264 م)؛ وأبو شامة عبد الرحمن بن إسماعيل الدمشقي (ت 665 هـ / 1266 م) (¬6). واختصره الشيخ عبد الكريم بن عطاء الله الإسكندراني (ت 612 هـ / 1215 م)، وشمس الدين محمَّد بن يوسف القونوي (ت 788 هـ/ 1386 م) (¬7). وصنف أبو الحجّاج يوسف بن معزوز القيسي الأندلسيّ (ت 625 هـ / 1227 م) في الردّ على المفصّل كتابًا سماه "كتاب التنبيه على أغلاط الزمخشريّ في المفصّل وما خالف فيه سيبويه" (¬8). ... ¬
الفصل الثاني ترجمة ابن يعيش
الفصل الثاني ترجمة ابن يعيش 1 - مصادر ترجمته ومراجعها: - الأعلام 8/ 206. - إنباه الرواة 4/ 45 - 50. - بغية الوعاة 2/ 351 - 352. - تاريخ الأدب العربي لكارل بروكلمان 5/ 274 - 275. - دائرة المعارف 3/ 281. - دائرة المعارف الإِسلامية 1/ 303 - 304. - شذرات الذهب 5/ 228 - 229. - كشف الظنون ص 412، 1175. - المختصر في أخبار البشر 3/ 183. - المدارس النحوية ص 280 - 281. - معجم المؤلفين 14/ 256. - معجم المطبوعات العربية والمعرّبة ص 288. - المعجم المفصّل في اللغويين العرب 2/ 355. - مفتاح السعادة 1/ 158 - 159. - هدية العارفين 2/ 548. - وفيات الأعيان 7/ 46 - 53. 2 - ترجمته: أبو البقاء يعيش بن علي بن يعيش بن أبي السرايا بن محمَّد، الموصليّ الأصل، الحلبيّ المولد والمنشأ، الملقب موفق الدين النحوي، والمعروف بـ"ابن الصائغ" (¬1): نحويّ لغويّ. ¬
3 - أساتذته
ولد ابن يعيش في الثالث من رمضان عام 553 هـ (= 28 سبتمبر سنة 1158 م). رحل من حلب في صدر عمره قاصدًا بغداد ليحضر مجلس أبي البركات عبد الرحمن بن محمَّد، المعروف بابن الأنباري، ومجالس غيره من علماء بغداد آنذاك. فلما وصل إلى الموصل، بلغه خبر وفاته، فأقام بالموصل مدّة مديدة يدرس الحديث، ثمّ عاد إلى حلب، ووقف حياته على التدريس، فانتفع به خلق كثير من أهل حلب وغيرها، حتى إن الرؤساء الذين كانوا بحلب ذلك الزمان كانوا تلامذته. توفي ابن يعيش في حلب في الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة 643 هـ (= 18 أكتوبر سنة 1245 م)، ودفن فيها في المقام المنسوب إلى إبراهيم الخليل. 3 - أساتذته: قرأ ابن يعيش النحو على أبي السخاء فتيان الحلبي، وأبي العباس المغربي النيروزيّ، وسمع الحديث على أبي الفضل عبد الله بن أحمد الخطيب الطوسي بالموصل، وعلى أبي محمَّد عبد الله بن عمر بن سويدة التكريتي، وبحلب على أبي الفرج يحيى بن محمود الثقفي، والقاضي أبي الحسن أحمد بن محمَّد بن نصر بن صغير القيسراني، وبدمشق على تاج الدين الكندي (¬1). 4 - مؤلفاته: يبدو أنّ ابن يعيش لم يكن غزير الإنتاج، إذ لم تذكر لنا مصادر ترجمته سوى المؤلفات التالية: 1 - شرح المفصّل. 2 - شرح التصريف الملوكي (¬2). 3 - أجوبة على مسائل نحوية لأبي نصر الدمشقي (¬3) 4 - تفسير المنتهى من بيان إعراب القرآن (¬4). 5 - كتاب في القراءات (¬5). ¬
5 - أقوال العلماء فيه
5 - أقوال العلماء فيه: لم يذكره الذين ترجموا له إلَّا بالمدح والثناء على علمه وفضله. قال عنه الوزير جمال الدين أبو الحسن علي بن يوسف القفطيّ (ت 146 هـ / 1248 م)، وكان معاصره وساكنًا في جواره: "لو أنصفتُه ما أجريتُه في حلبة النحاة، ولو أنّ النحو قنطرة الآداب، لنزَّهته عن مشاركة من قصَدَه ونحّاه، فإنّني إنْ وصفتُه بالنحو فهو أديب، أو بالبلاغة فهو خطيب، أو بالعدالة فهو أبو ذرّها، أو بالمعاني فهو مكنون دُرّها، أو بجميع الفضائل فهو حالب دَرِّها. إمام إذا قاسَ قطع، وإذا تربَّعَ رَبْع الأدب بَرعَ، وإن سُئِل بَيَّن المُشكِل، وإن اسْتُفسِر فَصَّل المُجْمل. تصدَّر في زاوية أبي علي [الفارسيّ]، وجَلَّى للطلبة غامضَ كلامه، وما تعبيرُ كلِّ متصدِّر جليّ" (¬1). وقال معاصره ابن خلِّكان (أبو العباس شمس الدين أحمد محمَّد (ت 681 هـ / 1282 م): " ... ولما وصلت إلى حلب لأجل الاشتغال بالعلم الشريف، وكان دخولي إليها يوم الثلاثاء مستهلّ ذي القعدة سنة ست وعشرين وستمائة (=20 أيلول سنة 1229 م)، وهي إذ ذاك أم البلاد، مشحونة بالعلماء والمشتغلين. وكان الشيخ موفّق الدين المذكور شيخ الجماعة في الأدب، لم يكن فيهم مثله، فشرعت في القراءة عليه. وكان يُقرىء بجامعها في المقصورة الشماليّة بعد العصر، وبين الصلاتين بالمدرسة الرواحية، وكان عنده جماعة قد تنبّهوا وتميَّزوا به، وهم ملازمون مجلسه لا يفارقونه في وقت الإقراء. وابتدأت بكتاب "اللمع" لابن جني، فقرأت عليه معظمه مع سماعي لدروس الجماعة الحاضرين، وذلك في أواخر سنة سبع وعشرين، وما أتممته إلَّا على غيره لعذر اقتضى ذلك. وكان حسن التفهيم، لطيف الكلام، طويل الروح على المبتدىء والمنتهي. وكان خفيف الروح، ظريف الشمائل، كثير المجون، مع سكينة ووقار" (¬2). وقال عنه السيوطي (جمال الدين عبد الرحمن بن الكمال (ت 911 هـ / 1505 م): "وكان من بار أئمّة العربية، ماهرًا في النحو والتصنيف. قدِمَ دمشق، وجالس الكنديّ، وتصدّر بحلَب للإقراء زمانًا، وطال عمرُه، وشاع ذكرُه، وغالبَ فضلاء حلب تلامذتُه" (¬3). 6 - كتابه "شرح المفصَّل": تقدّم القول في الفصل السابق أنّ نحويين عديدين تناولوا "المفصّل" شرحًا، ونظمًا، ¬
واختصارًا، وردًّا عليه وتصحيحًا لأخطائه، لكنّ شرح ابن يعيش انفرد بالشهرة بين العلماء، وذلك أن الشارح أقبل على المفصَّل، كما يقول في مقدمة شرحه، وهو في سن السبعين، بعد أن نضج علمًا، وترسّخت قدمه في النحو والصرف، وأصبح خبيرًا بمذاهب البصريين والكوفيين والبغداديين. أمّا سبب تخصيصه كتاب "المفصّل" بالشرح دون غيره من كتب النحاة، فلأنّ هذا الكتاب، كما يذكر في مقدمة شرحه، جليل القدر نابه الذكر إلَّا أن فيه ألفاظًا أشكلت، وعبارات مجملة، ومعانٍ خالية من الدليل. قال: "لما كان الكتاب الموسوم بـ"المفصّل" من تأليف الإِمام العلّامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمخشريّ، رحمه الله، جليلاً قدره، نابهًا ذكرُه، قد جمعت أصولَ هذا العلم فصولُه، وأوجز لفظه، فتيسَّر على الطالب تحصيله، إلَّا أنّه مشتمل على ضروب، منها أغربت عبارته فأشكل، ولفظ تتجاذبه معانٍ، فهو مجمل. ومنها ما هو بادٍ للأفهام، إلَّا أنّه خالٍ من الدليل مهمل، استخرت الله تعالى في إملاء كتاب أشرح فيه مشكله، وأوضح مجمله، وأُتبع كلّ حكم منه حججَه وعِلَله. ولا أَدّعي أنه، رحمه الله، أحل بذلك تقصيرًا عما أتيت به في هذا الكتاب، إذ من المعلوم أن من كان قادرًا على بلاغة الإيجاز كان قادرًا على بلاغة الإطناب". ويتلخص منهج ابن يعيش في شرحه في أنه تابعَ الزمخشريّ في مفصَّله فصلاً فصلاً، وفقرةً فقرةً، وعبارةً عبارة من أوّل الكتاب إلى آخره. فكان يُثبت كلام الزمخشريّ بحسب تقسيمات الزمخشريّ نفسه لهذا الكلام، ثم يُتبعه بالشرح والتفصيل، والنقد، متوسِّعًا في شرحه، عارضًا لآراء النحويين المختلفة في المسألة الواحدة، حتى جاء شرحه أشبه بدائرة معارف لآراء النحاة على اختلاف مدارسهم، "حتى كأنّه لم يترك مصنفًا لعَلَم من أعلامهم إلَّا استوعبه, وتمثَّل كل ما فيه من آراءه تمثُّلاً منقطع النظير" (¬1). والقارئ لهذا الشرح يظهر له منذ الصفحات الأولى شدّة حماسة ابن يعيش للبصريين، وانتصاره لهم، وهو يسمّيهم "أصحابه" (¬2)، موهنًا آراء الكوفيين ومن وافقهم، مكثِرًا من الاستشهاد بسيبويه حتى كاد أن يستنفد آراء. وهو دائم التأييد له، فإن وجد أنْ رأيًا من آرائه سيبويه لا يوافقه، وهذا نادر، ذهب إلى أن هذا الرأي هو"الظاهر" من كلام سيبويه (¬3). وقد انتصر لرأي البصريين في أن "الاسم" مشتق من "السمو" لا من "السمة" كما قال الكوفيّون (¬4)، وفي أن فاعل "ضربني" في قولك: "ضربني وضربت ¬
زيدًا" مُضْمَر دلّ عليه مفعول "ضربت"، وليس كما قال الكسائي إنه لا فاعل له (¬1)؛ وفي أنّ عامل الرفع في المبتدأ هو الابتداء لا الخبر كما ذهب إليه الكوفيون (¬2)، كذلك ضعَّف رأي هؤلاء في أن الاسم الواقع بعد "لولا" يرتفع بها لنيابتها عن الفعل (¬3)، كما ضعَّف رأيهم في أنّ "إنّ" وأخواتها لا تعمل الرفع في الخبر، وإنما هو مرفوع على حاله قبل دخول"إنّ" وصواحبها (¬4). ولكن تعصّبه للبصريين لم يمنعه من استحسان بعض آراء الكوفيّين، وذلك في أحيانٍ قليلة، كاستحسانه تخريجهم لقراءة: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (¬5) على أنّ "إنْ" نافية، واللام بمعنى "إلَّا"، والتقدير: ما هذان إلَّا ساحران (¬6)، وجوَّز رأي الكوفيّين في صرف ما لا ينصرف في الضرورة الشعريَّة (¬7)، واستحسن رأي أبي علي الفارسيّ في أنّ المعطوف في مثل "قام محمَّد وعُمَر" معمول لفعل محذوف من جنس الفعل الأول (¬8)، وفي أنّ اللام الداخلة أو اللازمة مع "إن" الملغاة فارقة بينها وبين "إن" النافية (¬9). وهو في شرحه يستشهد بالكثير من الآيات القرآنية (¬10)، والقراءات، والشواهد الشعرية (¬11)، كما استشهد بالأحاديث النبويّة (¬12)، والأمثال (¬13)، والأقوال (¬14). وكان يشرح ما يجده صعبًا من الألفاظ، وينسب الأبيات الشعرية التي لم ينسبها الزمخشريّ، ويُبَيِّن مواضع الاستشهاد فيها، إلى عرض آراء مختلفة في المسألة الواحدة، ثمّ مناقشتها. وفي الجملة، جاء الشرح محقّقًا غايته، مستوفيًا شروطه، حتى قال ابن خلّكان: "ليس في جملة الشروح مثله" (¬15)، وقال القفطيّ: "وصل به ما فَصَّله، وفرَّق على المستفيدين ما أجمله، واستقى له من ركيّة القوم ما جُمَّ له، وشرَّفه بعنايته وإعانته، فنوَّه ¬
7 - عملي في الكتاب
بذكْره وجَمَّلَه، وبسط فيه القول بَسْطًا أعيا الشارحين، وأظهر من عُونه وعُيونه ما فتح به بابًا للمادحين" (¬1). 7 - عملي في الكتاب: طبع "شرح المفصل" للمرّة الأولى في ليبزغ في ألمانيا سنة 1882 م، بتحقيق المستشرق الألماني الدكتور جوستاف ياهن (Dr. G. John) في 1552 صفحة من القطع الكبير مع مقدّمة بالألمانية في ست عشرة صفحة. وتتميز هذه الطبعة بضبط المتن وتحريك الأبيات الشعريَّة، إلا أنه يشوبها الكثير من الأخطاء الطباعية وغيرها. وقد أشارت إلى بعض هذه الأخطاء في ذيلين للتصحيحات (ص 904 - 910، وص 1497 - 1499). وهي خالية من الهوامش، والمقارنات بين النسخ، ولعلّها استندت إلى نسخة واحدة للكتاب. وأعادت إدارةُ الطباعة المنيريّة في مصر طباعةَ هذا الكتاب في عشرة أجزاء من القطع الكبير، وكتبت في صفحة عنوانه: "صُحِّح وعُلِّق عليه حواشٍ نفيسة بعد مراجعته على أصول خطَّيَّة بمعرفة مشيخة الأزهر المعمور". والمقارِن بين الطبعتين يجد أنّ طبعة ليبزغ أفضل ضبْطًا، وأوضح متنًا، والتصحيح الذي أشارت إليه الطبعة المصرية لا يتبين له، بل الواضح أن الأخطاء هي هي، حتّى إنّ محقق الطبعة المصرية لم يستفِد من ذيلي التصحيحات المرفقين بطبعة ليبزغ، وعليه، تكون الأخطاء في الطبعة المصرية أكثر. أمّا الحواشي فتقتصر على التعليق على الشواهد الشعرية شرحًا ونسبةً وتبيان مواضع الشواهد فيها. وأما "الأصول الخطيَّة" المذكورة- كما تقدّم- في صفحة عنوان الكتاب، فلا نعرف عنها شيئًا، وفي الجزء الأول إشارات قليلة جدًّا إلى بعض نسخ الكتاب (¬2)، أمّا الأجزاء الأخرى فتخلو من هذه الإشارات. وفي السنة 1988 م وضع الدكتور عبد الحسين المبارك، أستاذ الدراسات اللغويّة بجامعة البصرة، الفهارس الفنية لهذه الطبعهَ (¬3)، وكذلك فعل عاصم بهجة البيطار سنة1990م (¬4). ¬
وجئت أخدم هذا الكتاب عن طريق: أ- هذه المقدمة المسهبة في حياة الزمخشريّ ومؤلَّفاته ومنهجه النحويّ. ب- ضبط متن الكتاب سواء بالحركات أم بعلامات الترقيم المناسبة. ج- تخريج الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة، والشواهد الشعرية والأمثال العربيّة مع اعتناء خاص بالشواهد الشعريّة من حيث تعيين بحورها وشعرائها ومصادرها ومعانيها وإعرابها ومواطن الاستشهاد فيها. د- بعض التعليقات والتصحيحات والاستدراكات مع الحرص على عدم إثقال المتن بكثرة الحواشي. هـ - وضع عناوين لفِقَر الكتاب، وذلك بهدف تبسيط العَرْض، وسهولة التناول. و- الفهارس المختلفة التي أثبتّها في نهاية الكتاب. وبعد، عسى أن يكون عملي مفيدًا للغتي العربيّة التي أحبّ ولأهلها، وأن أكون قد وفقت فيه، وإلّا فحسبي أنَّني حاولت، والله أسأل أن يلهمني السَّداد والرشاد في القول والعمل، إنّه المستعان، وعليه أتوكَّل. د. إميل بديع يعقوب كفر عقا الكورة- لبنان الشمالي
صفحة العنوان من طبعة ليبزغ
الصفحة الأولى من طبعة ليبزغ
الصفحة الأخيرة من طبعة ليبزغ
شرح المفصل (الشيخ العالم العلامة جامع الفوائد موفّق الدين يعيش) (ابن علي بن يعيش النحوي المتوفي سنة 643 هجرية) (علي صاحبها أفضل صلاة واكمل تحية) الجزء الأول (قرار المجلس الأعلي للأزهر تدريس هذا الكتاب) (عنيت بطبعه ونشره بأمر المشيخة) ادارة الطباعة المنيرية لصاحبها ومديرها محمَّد منير عبده الدمشقي (صحح وعلق عليه حواشي نفيسة بعد مراجعته علي أصول خطية بمعرفة مشيخة الأزهر المعمور) حقوق الطبع علي هذا الشكل والتصحيح محفوظة إلى ادارة الطباعة المنيرية بمصر بشارع الكحكيين نمره 1 صفحة العنوان من الطبعة المصرية
الصفحة الأولى من الطبعة المصرية
الصفحة الأخيرة من الطبعة المصرية
القسم الثاني كتاب شرح المفصل
القسم الثاني كتاب شرح المفصل
بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يسِّر ولا تُعسِّر، ربِّ زِدْني علْمًا أحَمدُ الله الذي بدأ بالإحسان" وأحسنَ خَلْقَ الإنسان، واختصّه بنُطْقِ اللّسان، وفَضِيلةِ البَيان، وجعل له من العقل الصحيح، والكلامِ الفصيح، مُنْبِئًا عن نفسه، ومُخْبِرًا عمّا وَراء شَخْصه، وصلى اللهُ على محمّد خاتم أَنبيائه، ومُبلِّغ أَنْبائه، وعلى آله وأصحابه وأصفيائه. بعدُ، فلمّا كان الكتابُ الموسومُ بالمُفَصَّل من تأليف الإِمام العلامة أبي القاسم محمود بن عمر الزمَخشريِّ، رحمه الله، جليلاً قَدْرُه، نابهًا ذكْرُه، قد جمعت أصولَ هذا العلم فصولُه، وأُوجِز لفظُه، فتَيسَّر على الطالب تحصيلُه، إلاَّ أنّه مشتملٌ على ضروب منها لفظٌ أَغْرَبَتْ (¬1) عِبارتُه فأَشْكَل، ولفظٌ تتجاذبُه معانٍ، فهو مُجْمَل، ومنها ما هو بادٍ للأَفهام إلاَّ أنه خالٍ من الدليل مُهْمَل، استخرتُ الله تعالى في إملاءِ كتاب أشرَحُ فيه مُشْكِلَه، وأُوضِحُ مُجْمَلَه، وأُتبع كلَّ حكم منه حُجَجَه وعِلَلَه. ولا أَدَّعِي أنه، رحمه الله، أَخَل بذلك تقصيرًا عمّا أتيتُ به في هذا الكتاب؛ إذ من المعلوم أنّ مَنْ كان قادرًا على بلاغةِ الإيجاز، كان قادرًا على بلاغةِ الإطناب؛ قال الخليل بن أحمد، رحمه الله: "من الأبواب ما لو شِئنا أن نشرحَه حتّى يستوِي فيه القويُّ والضعيفُ، لَفَعَلْنالأولكنْ يجِب أن يكون للعالم مَزِيَّةٌ بعدَنا". وكنتُ ابتدأتُ بهذا الكتاب، ثمّ عَرَض دون إتمامه عِدَّةُ موانعَ، منها اعتراضُ الشواغل، ومنها ما أحدثته السبعون بين القَلَم والأَنامل، ومنها أن الزمان فسد حتى علا باقِلُه (¬2) على درجة قُسٍّ (¬3)، وانحطّ قسُّه عن درجة باقلٍ؛ فلمّا شرّف الله هذا العَصْرَ ¬
بدولةِ مولانا السلطانِ الملك العالم العادل المجاهد المرابط المنصور غياث الدنيا والدِّين، ملكِ الإِسلام والمسلمين، سلطانِ الأُمّة، ظهيرِ الخلافة، مُحْيِي العَدْلِ في العالَمِين، سيّدِ الملوكِ والسلاطين، أعزّ الله أنصارَه، وأبقى على الزمان محاسنَ سِيرته وأخبارَه، وسَرَتِ الرُكْبانُ بأنّه، خلّد الله مُلْكَه، أحْيَا من هذا العِلْمِ رَمِيمًا، وأعادَ ماءَه جَمامًا جَميمًا؛ أَمْلَيْتُه حاوِيًا لضروب من فوائد العربيّة، وأنفذتُه خِدْمةً خَفَّت إلى مقرّه الشريفِ، وإن ثقُل برجائها ظَهْرُ المَطيَّة، وبالله أستعِينُ على ما نَوَيْتُه واعتقدتُه، وأستعِيذُه من الزَّلل فيما نحوتُه واعتمدتُه، إنّه وليُّ ذلك، والقادرُ عليه. * * *
[شرح مقدمة المفصل]
[شرح مقدمة المفصل] قال جارُ الله العلامة أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشريُّ- و"زمخشرُ": قريةٌ من قري خوارزم , وُلد بها في رجبٍ من سنةِ سبع وستين وأربع مئةٍ, وتُوفّي ليلةَ عرفة سنةَ ثمانٍ وثلاثين وخمسِ مئةٍ, وقيل له: "جارُ الله" لكثرةِ مجاورته بمكة, حرسها الله -: "اللهَ أحمدُ علي أن جعلني من علماء العربيَّة" قال الشارح: الشيخ الإِمام العالم العلّامة جامعُ الفوائد مُوَفَّقُ الدين أبو البقاء يَعِيشُ بن علي بن يعيشَ النحْويُّ، رحمةُ الله عليه (¬1): "الله" اسمٌ من أسماءِ الخالق، سُبْحانَه، خاصٌّ لا يَشْرَكُه فيه غيرُه، ولا يُدْعَى به أحدٌ سِواه، قَبَضَ الله الألسُنَ عن ذلك؛ واختلف العلماءُ فيه: هل هو اسمٌ موضوعٌ، أو مشتقٌّ (¬2)؟ فذهب سِيبويهِ في بعضِ أقواله إلى أنّه اسمٌ مرتجَلٌ للعَلَميّة غيرُ مشتقٍّ؛ فلا يجوز حذفُ الألف والسلام منه (¬3)، كما يجوز نَزْعُهما من "الرحمن الرحيم". وذهب آخرون إلى أنّه مشتقٌ. ولسيبويه في اشتقاقه قولان: أحدُهما: أنّ أصله "إِلاهٌ" على زنة "فِعالٍ" من قولهم: ألَهَ الرجلُ يَأْلَهُ إلاهَةً؛ أي: عَبَدَ عِبادَةٌ. قال رُؤبَةُ [من الرجز]: 1 - للهِ دَرُّ الغانِياتِ المُدَّهِ ... سَبَّحْنَ واسترجَعْنَ مِن تأَلُّهِ ¬
ومعنَى الإلهِ: "المعبود". وقولُ المُوَحِّد: "لا إلَه إلاَّ الله"، أي: لا معبودَ إلاَّ الله، وحذفوا منه الهمزة تخفيفُ الكثرةِ وروده واستعماله، ثمّ أُدخلت الألف والسلام للتعظيم ودَفْع الشِّياع الذي ذهبوا إليه من تَسْمِيَةِ أصنامهم وما يعبدُونه آلِهَةً، فصار لفظُه "الله"، ثمّ لزمت الألفُ واللامُ كالعوض من الهمزة المحذوفة، وصارتا كأحدِ حروف الاسم لا تُفارِقانه، ولذلك قد يقطَعون الهمزةَ في النداء والقَسَمِ، نحو قولهم: "يا أَللهُ اغْفِرْ لي"، وقولِهم: "أنا، الله لأفعلنَّ"؛ وقيل: العوضُ ألفُ "فِعالٍ". والقول الثاني من قَولي سيبويه: أن أصله "لاهٌ"، ومنه قولُ الراجز (¬1) [من مخلَّع البسيط]: 2 - كَحَلْفَةٍ (¬2) من أَبِي ربَاحِ ... يَسْمَعُها (¬3) لاهُهُ الكُبارُ أي: "إلاهُهُ"، ثمّ أُدخلت الألف والسلام عليه لما ذكرناه، وجرى مجرَى العَلَم، نحو: "الحَسَنُ"، و"العَبّاس"، ونحوهما ممّا أصلُه الصفةُ. ووزنُ "لاهٍ": "فَعْلٌ"، واشتقاقُه ¬
من "لاهَ يَلِيهُ" إذا تستَّر؛ كأنّه، سبحانه، يُسمَّى بذلك لاستتاره واحتجابِه عن إدراك الأبصار؛ وألفُ "لاهٍ" منقلبةٌ عن ياءٍ، يدلّ على ذلك قولُهم: "لَهيَ أبوك"، ألا ترى كيف ظهرت الياءُ لما نُقلت إلى موضع اللام؟ وتُفخَّم اللام تعظيمًا إلاَّ أن يمنع مانعٌ؛ من كسرةٍ، أو ياءٍ قبلها، نحوَ: "بِاللهِ"، و"رأيتُ عَبْدَيِ الله". وانتصابُ اسم "الله" هنا لِوقوع الحمد عليه؛ وإنمّا قُدّم على العامل فيه لضرب من العِناية والاهتمام بالمحمود، سبحانه وتعالى، والعربُ تُقدِّم ما أَهَمَّ شَأْنُه (¬1)؛ أعني نحوَ قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬2)، وأصلُ الكلام: نعبدك ونستعينك، فقُدّم المفعول لضرب من العناية بالمعبود، سبحانه، ولو أتى به على أصله، وقال: "أحمدُ اللهَ"، لَجاز، إلاَّ أنّه يكون خبرًا ساذجًا بلا تخصيص، ولا دلالةٍ على العِناية به. والحَمْدُ نوعٌ من المَدْح، وهو الثناءُ على الرجل لما فيه من حَسَنِ؛ يقال: حَمِدْتُ الرجلَ أَحْمَدُه حَمْدًا ومَحْمِدَةً، ومَحْمَدَةً، وهو يقارب الشُّكْرَ في المعنى؛ والفرقُ بينهما يظهَر بضدّهما، فضدُّ الحمدِ: الذمُّ، وضدُّ الشكر: الكُفْرانُ؛ وذلك أنّ الشكر لا يكون إلاَّ عن معروف؛ يقال: حمِدتُه على ما فيه، وشكرتُه على ما منه. وقد يوضَع أحدُهما موضعَ الآخر، لتقارُب معنَييهما. وقيل: الحمدُ أعمُّ من الشكر، فكلُّ شكر حمدٌ، وليس كلُّ حمد شكرًا. وقوله: "على أن جَعَلَني من عُلماءِ العربيَّةِ" أي: صيّرني عالِمًا من عُلمائها. و"جَعَلَ" هذه تتعدّى إلى مفعولين، ويكون الثاني هو الأولَ في المعنى. ومثلُه قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} (¬3). ولـ "جَعَلَ" مواضعُ أُخَرُ؛ تكون بمعنَى "خَلَقَ"، و"عَمِلَ"، فتتعدّى إلى مفعول واحد؛ نحوَ قوله تعالى: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} (¬4)؛ وتكون بمعنَى التسْمِيَة، كقولك: "جعل حَسَنِي سَيئًا"، وكقوله تعالى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} (¬5). وتكون من أفعالِ المُقارَبة، بمعنَى "طَفِقَ"؛ تقول من ذلك: "جعل يقول"، و"أخذ يقول". و"العُلَماءُ": جمعُ "عالم"، على حدّ: "شاعِر وشُعَراءَ" و"عاقل وعقلاء"؛ ويجوز أن يكون جمعَ "عَلِيم" ها هنا, لأنّ "عليمًا" بمعنَى "عالم"، وهو أبلغُ في الصفة؛ وإنما قلنا: إِنه جمعُ "عالم"، مع قلّةِ ما جاء من جمع "فاعلٍ" على "فُعَلَاءَ"، وذلك من قِبَل أن "عالمًا" و"عليمًا" لُغتان. ويقول: "علماء" مَن ليس من لغته "عليمٌ"، فعُلم بذلك أنّه جمعُ "عالم". ¬
والمراد بـ "العربية": اللغةُ، وإن كانت العربيةُ أعمَّ من اللغة؛ لأنّ اللغة تقع على كل مُفْرَد من كلام العرب، والعربيةُ تقع على المفرد والمركَّب. * * * وقوله: "وجَبَلَني على الغَضَب للعَرَبِ، والعَصَبيةِ". "جبلني" أي: طبعني، يقال: جبل الله الخَلْقَ على كذا، أي: طبعهم؛ وهو مأخوذٌ من "الجِبِلَّة" وهي الطَّبِيعةُ؛ يقال ذلك للرجل يثبُت على أمرٍ، ولا ينفصل عنه. و"الغضب": خِلافُ الرِّضَى؛ يقال "غضِبتُ له" إذا كان حيًّا، و"غضبت به"، إذا كان مَيْتًا. و"العصبيّة": التعصُّبُ؛ مأخوذٌ من قولهم: "عَصَبَ القومُ بفُلان"، إذا أحاطوا به؛ وسُمّيتْ به "العَصَبَةُ"، وهي قَرابةُ الرجل لأبِيه؛ وأصلُ ذلك كله "العَصَبُ"، وهو أَطْنابُ المفاصل؛ لأنّ الأقارب يرتبط بعضهم ببعض كرَبْط العَصَبِ المفاصل. ... وقوله: "وأَبَى لي أن أنفرد عن صَميم أنصارهم، وأمتازَ، وأَنضوِيَ إلى لَفيفِ الشعُوبيّه، وأنْحازَ". قولُهُ "أبى لي": كَرِهَ لي، يقال: "أَبَى يَأْبَى"، بفتح العين في الماضي والمضارع، وهو فعلٌ نادرٌ، ولم يأت منه إلاَّ ما كان عينُه أو لامُه حرفاً حَلْقيًّا؛ يقال: انفَرَدَ بالأمر؛ إذا قام فيه وحدَه من غير مشارِكِ، وانفرد عنه؛ إذا تركه وفارَقَ الجماعةَ؛ مأخوذ من الفَرْد، وهو الوَتر. والصَّمِيم: الخالِص من كلّ شيء، وصميمُ الحَرّ والبَرْد أشَدُّ، وأصلُ الصميم العَظْمُ الذي هو قِوامُ العِظام، والأنصار والأعوان، الواحدُ نَصِيرٌ، والنصير والناصر واحدٌ، و"فَعِيلٌ" يُجْمَع على "أَفْعالٍ"، كشريف وأشْراف، وأمّا فاعلٌ فبابُه أن يُجمع على "فَعْلٍ"، كـ"شارب وشَرْب"، و"تاجر وتَجْر". و"أمتاز": "أَفْتَعِلُ"؛ من مِزْتُ الشيء أَمِيزُه؛ إذا فَرَزْتَه، يقال: امتاز القومُ؛ أي: تميَّز بعضُهم عن بعض، والمراد: أنعزِلُ وأخرُجُ من جُملتهم؛ ومنه قوله تعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} (¬1)؛ أي: انعزلوا عن أهلِ الجنّة، وكونوا فِرْقَة على حِدَة. و"أنضوي": أىِ: أدخُل معهم، وأنتسِب إليهم. و"اللفيف": ما اجتمع من الناس من قبائل شتَّى، كأنَّه ها هنا ضِدُ "صَمِيمهم". و"الشعوبية"، بضمّ الشين: قومٌ يُصغّرون شأنَ العرب، وهو منسوبٌ إلى "الشُّعوب"، وهو جمعُ "شَعْب"، وهو ما تشعَّب من قبائِل العرب والعَجَم، ونظيرُه من النَّسَب إلى الجمع قولهم: "أَبْناويٌّ" في النسب إلى أَبْناءِ فارِسَ؛ وقيل: سُمّوا بذلك ¬
لتعلُّقهم بظاهرِ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} (¬1). وقال "ابن هُبَيْرة" في المُحْكَم: غلبت "الشعوبيّةُ"، بلفظ الجمع، على جيل من العجم، حتّى قيل لمحتقِرِ أمرِ العرب: "شعوبيٌّ"، وإن لم يكن منهم، وأضافوا إلى الجمع لغَلَبته على الجيل الواحد، كقولهم: "أنصاريّ". و"أنحاز": أي: أعتزل، وقالوا للذي ينحاز عن القوم ويعتزلهم: "حُوزِيّ". ... وقوله: "وعَصَمَنِي من مَذْهَبهم الذي لم يُجْدِ عليهم إلاَّ الرَّشْقَ بألْسِنَةِ اللاعنين والمَشْقَ بأَسِنَّةِ الطاعِنين": يقال: عصمني من كذا؛ أي: منعني، ودفع عنّي، و"المَذْهَب": المأْخَذُ، وأصلُه: مكانُ الذَّهاب، كـ"المَطْلَع" لموضعِ الطلُوع، ومثلُه "المَدْخَل" و"المَخْرَج". "الذي لم يُجد عليهم"؛ أي: لم يُعْطِهم، يقال: أَجْدَى عليه؛ أي: أعطاه، وأصلُه من "الجَدا"، وهو المَطَرُ العامُّ. و"الرَّشْقُ": الإصابة بالمَكْرُوه، يقال: رشقهم بالكلام؛ إذا نال منهم به، وأصلُه من الرشق بالسهْم. و"الأَلْسِنَةُ": جمع "لِسانِ"، و"اللسانُ" يذكر ويؤنَّث؛ فمن ذكّره ذهب إلى العُضْو، وجَمَعَه على أَلْسِنَةٍ كـ"حِمار وأَحْمِرَةٍ"؛ ومَن أنّثه ذهب إلى الجارِحة، وجَمَعَه على "أَلْسُنٍ"، كـ"ذِراع وأَذْرُع". و"اللاعنون": جمعُ "لاعِنٍ" جَمْعَ السَّلامة، و"اللَّعْنُ": الطَرْدُ والبُعْدُ، يقال للطَّريد: لَعِينٌ، ورجل "لُعْنَةٌ"، بسكون العين: يلعَنه الناسُ كثيراً، و"لُعَنةٌ"، بالتحريك: يلعن الناسَ كثيراً. و"المَشْقُ": سُرْعَةُ الطعْن. و"الأسِنةُ": جمع "سِنان". و"الطاعنون": جمع "طاعِنٍ"، يقال: طعن بالقول يَطْعُن طَعَنانًا، وطعن بالرُّمْح يَطْعُن، بالضمّ، طَعْنًا، ورجلٌ طَعَّانٌ في أَعْراضِ الناس؛ وفي الحديث: "لا يكون المؤمن طَعّانًا" (¬2). والمراد أن هؤلاء الذين يُبغِضون العربَ ولُغاتِهم لم يكتسبوا بهذا المذهب إلاَّ السقُوطَ من أعينِ الناسِ والمَذَمَّةَ؛ وقد ألَمَّ بهذا المعنى "الحَيْصَ بَيْصَ" في قوله [من الخفيف]: 3 - لا تَضَعْ مِن عَظِيمِ قَدْرٍ وإنْ ... كنت مُشارًا إليه بالتَّعْظِيمِ ¬
فالكَبِيرُ العظيمُ يَصْغُرُ قَدْرًا ... بالتَّجَرِّي على الكبيرِ العظيمِ وَلَعُ الخَمْرِ بالعُقُولِ رَمَى الخَمْرَ ... بتَنْجِيسِها وبالتَّحْرِيمِ ... وقوله: "وإلى أفضل السابقين والمُصَلِّين أُوَجِّهُ أفضلَ صَلَواتِ المُصَلّين؛ محمّدٍ المحفوفِ من بني عَدْنانَ بجماجمِها وأَرحائِها، النازِل من قُرَيْشٍ في سُرّةِ بَطْحائها": "السابقُ" من الخَيْل: هو الذي يَأتي في الحَلْبَة أوّلاً، و"المُصَلِّي": الذي يَتْلُوه؛ سُمّي مُصلِّيًا لأنّ رأسه يكون عند صَلّا السابق، و"الصَّلَا": مَغْرِز الذَّنَب؛ وكَنَى بذلك عن الأوّلين والآخرين من الثَّقَلَيْن (¬1). وقوله: "أفضلَ صلواتِ المصلّين": أي دُعاء الداعين؛ يريد صلواتِهم على محمّد - صلى الله عليه وسلم -؛ و"محمَّدٌ": اسمْ عَرَبيٌّ، وه و"مُفَعَّلٌ" من الحَمْد، والتكريرُ فيه للتكثير؛ كما تقول: كرّمته فهو مكرَّمٌ، وعظّمته فهو معظَّمٌ؛ إذا فعلت ذلك مرَّة بعد مرّة؛ وهو منقول من الصفة على سبيلِ التَّفاؤل (¬2) أنَّه سيكثُر حمدُه؛ وكان كذلك - صلى الله عليه وسلم -. روى بعضُ نَقَلَةِ العلْم فيما حكاه ابنُ دُرَيْد أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمّا وُلد، أَمر عبدُ المُطلِب بجَزُورٍ، فَنُحِرتْ، ودعا رجال قُرَيْشٍ، وكانت سُنَّتُهم في المَوْلود، إذا وُلد في استقبالِ الليل، كَفَؤوا عليه قِدْرًا حتى يُصبحَ، ففعلوا ذلك بالنبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فأصبحوا وقوإنشقّت عنه القدرُ، وهو شاخصٌ إلى السماء، فلمّا حضرت رجالُ قريش، وطعِموا، قالوا لعبد المطّلب: ما سمّيتَ ابنك هذا؟ قال: سمّيتُه "محمّدًا". قالوا: ما هذا من أسماء آبائك. قال: أردتُ أن يُحْمَد في السمَوات والأرضِ. يقال: رجلٌ محمودٌ، ومحمّدٌ. قال الأَعْشَى [من الطويل]: 4 - إليك، أَبَيْتَ اللعْنَ، كان كَلالُها ... إلى الواحدِ الفَرْدِ الجَوادِ المحمّدِ (¬3) فـ "محمودٌ" لا يدل على الكثرة، و"محمَّدٌ" يدلّ على ذلك. والذي يدل على الفرق بينهما قول الشاعر [من الطويل]: 5 - فلستَ بمحمودٍ ولا بمحمَّدٍ ... ولكِنَّما أَنْتَ الحِبَطُّ الحُباتِرُ (¬4) وقد سمّت العربُ في الجاهليّة رجالاً من أبنائهم بذلك؛ منهم: "محمّدُ بن حُمْرانَ ¬
الجُعْفِّي" الشاعر، وكان في عَصْرِ "امرئ القَيْس"، وسمّاه شُوَيْعِرًا؛ و"محمّدُ بن خَوْليِّ الهَمْدانّي" و"محمّدُ بن بِلال بن أُحَيْحَة"، وكان زوجَ "سَلْمَى بنتِ عمر و"، جَدّةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم جَده؛ و"محمدُ بن سُفْيانَ بن مُجاشِع بن دارِم"، و"محمّدُ بن مَسْلَمَة الأنصاري"، و"أبو محمّد بن أَوْس بن زيد"؛ شَهِدَ بَدْرًا. و"المحفوف": المحوَّط الذي قد أُطِيفَ به؛ يقال: حَفَّ به؛ أي: أطاف. قال الله تعالى: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} (¬1)؛ أي: جعلنا النخل مُطيفُ ابهما؛ و"الأحَفَّةُ": الجَوانِبُ، الواحِدُ "حِفافٌ"، مثلُ "جِرابٍ" وأَجْرِبَةِ، ويقال: حفّ به القومُ؛ أي: صاروا في أحفّته؛ أي: جوانبِه. ومنه قوله تعالى: {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} (¬2). و"عَدْنانُ": جَدُّ النبي - صلى الله عليه وسلم - الأَعْلَى، انتسب إليه النبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ قال: "كذب النَّسّابون فيما بعد عدنان". وهو، صلواتُ الله عليه، محمّدُ بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشِم بن عبد مَناف بن قُصَي بن كِلاب بن مُرةَ بن كَعْب بن لُؤي بن غالب بن فِهْر بن مالِك بن النضر بن كِنانَةَ بن خُزَيْمَة بن مُدْرِكَةَ؛ و"مدركةُ": لقبٌ، واسمُه: عمرو بن إليَاس بن مُضَرَ بن نِزَار بن مَعَدّ بن عدنانَ، من ولد إسماعيل بن إبراهيمَ، إلاَّ أن الأسماء من عدنان إلى إسماعيل لا يعلمها إلاَّ الله. و"جماجِمُ العرب": قبائلُها التي تجمع البُطُونَ، فتَنْسُب إليها دونهم، نحو: كَلْبِ بن وَبَرَةَ؛ إذا قلت: "كلبىّ"، استغنيتَ أن تنسُب إلى شيء من بطونه. و"أرحاءُ العرب": القَبائلُ التي تستقِّل بنفسها، وتستغني عن غيرها، والأرحاءُ خمسةٌ. وقولُه: "النازِل من قريشٍ في سُرَّةٍ بَطْحائِها": "قُرَيْشٌ": من ولد "النَّضْر"، ومن لم يكن من ولد "النَّضر" فليس قُرشيًّا. وكان لقريشٍ عِظَمٌ في الجاهليّه، وشَرَف في الإِسلام بمحمّد - صلى الله عليه وسلم -. و"البَطْحاءُ": ما اتّسع من الأرض، و"سُرَّتُها": وَسَطُها؛ مأخوذٌ من سرّةِ الإنسان، والمرادُ أنه من صَمِيم قريش، ووَسَطُ كلّ شيء: أعدلُه؛ قال الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬3)؛ قال العَرْجيّ [من الوافر]: 6 - كأنّي لم أَكُنْ فِيكُمْ وَسِيطًا ... ولم تَكُ نِسْبَتِي في آلِ عَمْرِو (¬4) ¬
ومنه: "واسِطةٌ القِلادة"، للجَوْهَر الذي يكون في وسطها، وهو أَجْودها. ويقال: "قريشُ الأباطح"، و"قريشُ البِطاح": وهم الذين سكنوا بطحاءَ مكةَ. ويقال لغَيْرهم: "قريشُ الضواحِي". و"قريشُ البطاح" هم الأفاضِلُ، وهم: بنو عبد مَناف، وبنو عبد الدار، وبنو عبد العُزَّى، وبنو زُهْرَةَ، وبنو تَيْم بن مُرَّةَ، وبنو سَهْم، وجُمَحَ، وبنو عَدِيّ بن كَعْب، وبنو حِسْل بن عامِر بن لُؤَيّ، وبنو هِلال بن أُهَيْب بن ضَبَّةَ بن الحارِث بن فِهْر؛ ويقال لهم: "الابْطَحيّون" أيضًا. قال البُحْتُرِيّ في المُتَوَكِّل [من البسيط]: 7 - يا ابنَ الأَباطِحِ من أَرْضٍ أَباطِحُها ... في ذُرْوَةِ المجْدِ أعْلَى مِن رَوابِيها (¬1) فهؤلاء: "قريشُ الأباطح". و"بطحاءُ الوادي": مَسِيلٌ فيه دُقاقُ الحَصَى. وأمّا "قريشُ الضواحي"، فهم الذين لم تَسَعْهم الأباطحُ، فنزلوا ضَواحِي مكّةَ، وهم: مَعِيصُ بن عامِر بن لُؤي، وتَيْمُ بن غالِب بن فِهْر، ومُحارِبٌ والحارثُ ابنا فِهْر. ... وقوله: "المبعوث إلى الأسود والأحمر بالكتاب العَرَبيّ المنوَّر": يريد: المرسَل إلى جميع الناس؛ عَرَبيِّهم وعَجَميِّهم. فالمرادُ بالأسود العربُ, لأنّ الغالِبَ عليهم السُّمْرَةُ والسَّوادُ، والمُرادُ بالأحمر العجمُ, لأنّ الغالب عليهم الشُّقْرةُ والبَياضُ؛ وقيل لعائِشة رضي الله هـ عنها: "الحُمَيراءُ"، لبياضها؛ يقال: "أتاني كلُّ أسودَ منهم وأحمَر". ولا يقال: أبيضَ؛ ومعناه: جميعُ عربيِّهم وعجميِّهم. قال الشاعر [من الطويل]: 8 - جَمَعْتُم فأوْعَيْتم وجِئْتم بمَعْشَرٍ ... تَوافَتْ بهم حُمْرَانُ عبدٍ وسُودُها (¬2) يريد بـ"عبد": عبدَ بن أبي بكر بن كِلاب. وقوله: "بالكتاب العربي المنوّر": "المنوّر": ذو النور؛ أي: هو ضياء يُهْتَدَى به. ... وقوله: "ولآله الطيِّبين أدْعُو الله بالرِّضْوان لهم، وأَدْعوه على أهل الشِّقاق لهم، والعُدْوانِ ": "آلُه" - صلى الله عليه وسلم -: أهلُ بيته، والألفُ في "آل" منقلبةٌ عن همزةٍ هي بدلٌ من هاء "أهل"، ولا يُستعمل "الآل" في كل موضع يُستعمل فيه "الأهل"، فلا يقال: "آلُ الإسكاف"، ولا "آل الخَيّاط"، ولا: "انصرفْ إلى آلك"، كما يقال: "إلى أهلك"، وإنمّا يختصّ "الآلُ" بالإشراف؛ يقال: "القُرّاء آلُ الله"، و"اللهم صلِّ على محمّد، وعلى آلِ ¬
محمّد"، قال الله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} (¬1). و"أدعو الله بالرضوان لهم": "اللامُ " متعلِّقةٌ بـ"أدع و"، لا بـ"الرضوان"؛ والمعنى: أَسْأَلُ الله لهم الرضوانَ عنهم، وهي في موضع نصب على أنّه مفعولٌ لَهُ؛ أي: من أجلهم. وقوله: و"أدعوه على أهلِ الشِّقاق لهم والعُدْوانِ"؛ أي: أدعو الله لنُصْرتهم على مَنْ شاقَّهم وعَدَا عليهم. و"الشِّقاقُ ": المُخالفةُ، و"العُدوانُ": الظّلْمُ الصَّراحُ. ... وقوله: "ولعل الذين يغُضّون من العربيّة، ويَضَعون من مِقْدارها، ويريدون أن يخفِضوا ما رفع الله من مَنارها": يقال: غَضَّ منه يَغُضُّ؛ إذا وضع منه، ونقص من مِقداره؛ والوَضْعُ من الشيء: الانتقاصُ منه، والحَطُّ من قَدْره؛ من قولهم: وضعتُ الشيء؛ إذا حططتَه؛ يقال: وضعتُه أَضَعُهُ وَضْعًا، وحكى الفَرّاء: مَوْضِعًا، ومَوْضُوعًا. و"مِقْدارها": قَدْرُها؛ يقال: قَدَرٌ، وقَدْرٌ، بفتح الدال وسكونها، وهو: مَبْلَغُ الشيء. و"الخَفْضُ": ضدُّ الرَّفْع، وهو: الانحِطاط؛ والله تعالى يخفِضُ مَن يَشاءُ ويَرفعُ مَن يَشاءُ. و"المَنار": الأعلًامُ تُوضَع على الطُّرُق ليُهْتَدَى بها؛ و"ذو المنار": مَلِكٌ من مُلوك اليَمَن؛ سُمّي بذلك لأنّه أوّلُ مَن وضع المنارَ على الطرق، ليهتدِيَ بها الناسُ. ... وقوله: "حيثُ لم بجعل خِيَرَةَ رُسُلِه، وخَيرَ كُتُبِه، في عَجَم خَلْقه، ولكن في عَرَبه، لا يبعُدون عن الشُّعوبيّه، منابَذةً للحَق الأَبْلَجِ وزَيْغًا عن سَواء المَنْهَج": "حَيْثُ": ظرفُ مكان يتعلَّق بقوله: "يضعون من مقدارها"، ويجوز أن يتعلق بقوله: "يغضّون"، وتعلُّقُه بالأقرب أَوْلى؛ يعني: حيث لم يُبْعَث النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في العجم، ولا نُزّل القرآنُ المَجيدُ بلسانٍ غير العربي. وقوله: "لا يبعدون عن الشُّعوبيّة": هو خبرُ "لعلَّ". و"البُعْدُ": ضدُ القُرب؛ يقال: بَعُدَ بالضمّ يَبْعُدُ؛ إذا تَباعَد، و"بَعِدَ" بالكسر؛ إذا هَلَكَ، فهو باعِدٌ، وجَمْعُه: "بَعَدٌ"، مثلُ: "خادِمٍ وخَدَمٍ". وقوله: "مُنابذةً للحق الأبلج"؛ أي: مُكاشفةً ومُجاهَرة؛ يقال: نابَذَهُ الحَرْبَ، أي: كاشَفَه؛ وانتصابُه على أنّه مصدرٌ في موضع الحال؛ نحو: "قتلتُه صَبْرًا، وأتيتُه رَكْضًا"؛ أي: مُنابِذين للحقّ؛ أي مجاهرين. والأبلجُ: الأبيضُ المُشْرِقُ. قال [من الرجز]: 9 - حتّى بَدَتْ أَعْلامُ صُبْحٍ أَبْلَجًا (¬2) ¬
ويقال: "الحقُّ أبلَجُ"؛ أي: واضِحٌ مُضِيءٌ، و"الباطلُ لَجْلَجٌ" (¬1)؛ أي: يَتَلَجْلَجُ فلا يُعْرَف. و"الزَّيْغ" المَيْل؛ يقال: قَوْمٌ زَاغةٌ عن الشيء؛ أي: زائغون. و"سواءُ المَنهج": وَسَطُه، و"سواءُ الدار": وسطها. قال الشاعر [من البسيط]: 10 - غَشَّيْتُهُ وَهْوَ في جَأْواءَ بَاسِلَةٍ ... عَضْبًا أَصابَ سَواءَ الرأسِ فانْفَلقَا (¬2) أي: وَسَطَ الرأس. و"المنهجُ": الطريق البَيِّن. ... قال: "والذي يُقْضَى منه العَجَب حالُ هؤلاء في قِلّة إنصافهم، وفَرْطِ جَوْرهم، واعتسافِهم". "يُقْضَى منه العَجَبُ": أي يُوفَى منه العجبُ حقَّه؛ يقال: وَفَيْتُ هذا الأمر حقَّه؛ إذا تَناهيتَ فيه، وأَذَيْتَه وافِيًا، وهو من: "قَضَيْتُ الدَّيْنَ". قال كُثَيِّرْ [من الطويل]: 11 - قَضَى كلُّ ذي دَيْن فوَفَّى غَرِيمَهُ ... وعَزَّةُ ممطولٌ مُعَنّى غريمُها (¬3) ولا تكاد العربُ تستعمل هذه اللفظة إلاَّ منفيةٌ، نحو: "ما قضيتُ العجب من هذا"؛ لأنهم يريدون المبالغة في تفخيم الأمر وتعظيمه، وأنّه لا يُمْكِن تَوْفِيَةُ العجب حقَّه لعظمه. قال الشاعر [من البسيط]: 12 - أُنْبِئْتُ أنّ شَبِيهَ الوَبْرِ أَوْعَدَنِي ... وما قَضَيْتُ بهذا المُوعِدِي عَجَبَا (¬4) هكذا ذكره الأصَمعيُّ في كتابه فيما يلحَن فيه العامّةُ؛ قال: يقولون: "قضيتُ العجبَ من كذا"، والصَّوابُ: "ما كِدْتُ أَقْضِي منه العجبَ"، ولا يبعُد جوازُه، إذا أُريد الإكثار من العجب تفخيمًا لسَبَبه. و"الإنصاف" خِلافُ الجَوْر والظُّلْمِ. و"الفَرْط": تجاوُزُ الحَدّ. و"الجَوْر": المَيْلُ عن القَصْد. و"العَسْف": الأَخذُ على غير قَصْد؛ يقال: "عسف" و"اعتسف"؛ إذا مال عن طريقه. ... ¬
قال: "وذلك أنّهم لا يَجِدون عِلْمًا من العُلوم الإِسلاميّه، فِقْهِها وكلامِها، وعِلْمَي تفسيرِها وأخبارِها، إلاَّ وافتقارُه إلى العربيّة بيّنٌ لا يُدْفع، ومكشوفٌ لا يتقنّع": المرادُ بـ"العلوم الإِسلامية": الفقه، وأصولُ الدِّبن، والأخبارُ عن الرَّسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلومُ الكتاب العزيز. وإنمّا اقتصر على الفقه والكلام, لأنّ الفقه يشتمل على علم الكتاب والسُّنّةِ، كأنّه احترز عن علوم الأَوائل، نحو الحِكْمةِ والفَلْسَفَةِ والهَنْدَسَةِ؛ فإنّ أصول هذه العلوم يونانيّةٌ، ثم نُقلت إلى العربيّ، فمعانِي هذه العلوم لا تُعْرَف على الحقيقة إلاَّ بمعرفة ألفاظها، والوُصلَةُ إلى معرفة ألفاظها معرفةُ علم العربيّة. وقوله: "وذلك بيّنٌ لا يُدْفَع، ومكشوفٌ لا يتقنّع"؛ أي: الافتقارُ إلى العربيّة ظاهرٌ لا يُمْكِن جُحودُه، وبادٍ لا يسعُ سَتْرُه. ... قال: "ويَرَوْنَ الكلامَ في مُعظم أبواب أُصول الفقه ومسائلها، مبنيًّا على علم الإعراب، والتفاسيرَ مشحونةً بالروايات عن سِيبَوَيْه والأخفَش والكسائي والفَرّاء، وغيرهم من النحويّين البصريّين والكوفيّين، والاستظهارَ في مآخِذِ النُّصوص بأقاويلِهم، والتشبُّثَ بأهداب فَسْرِهم وتأويلِهِم". "الاستظهارُ": الاستعانةُ، وهو"استفعالٌ"، من "الظهير" وهو: المُعين. و"المآخِذُ": جمع "مأْخَذِ"، وهو اسمُ مكان، كـ"المَقْتَل" و"المَخْرَج"، لمكان القَتْل والخُروجِ. و"النصوص": جمعُ " نَصٍّ"؛ وهو الكتابُ والسُّنَّة، وهو بمعنَى: "منصوصٍ عليه"؛ وأصلُ "النصِّ": الرَّفْعُ؛ يقال: نصّ الناقةَ يَنُصُّها؛ إذا رفعها في السير؛ ونصّ الحديث؛ إذا رفعه، وعزاه إلى صاحبه؛ ونص العَرُوسَ؛ إذا أقعدها على المِنَصَّة، وهو ما يُنصُّ من كُرسىّ، أو دَكَّةٍ، أو غير ذلك؛ أي: يُرفع. و"التشبّث": التعلُّقُ؛ يقال: تَشَبَّثَ؛ إذا تَعَلَّقَ. و"الأهداب": جمع "هُدْب"، وهو: طَرَفُ الثوب؛ يقال: تَعلَّقَ بأهداب الأدب وأذْيالِه؛ إذا كان له منه حظٌّ. و"الفَسْرُ": الكَشْفُ، و"التفسير": "تفعيلٌ" منه، و"التأويلُ": "تفعيلٌ" من "آلَ يَؤول"؛ إذا رجع. والفرقُ بين "التفسير" و"التأويل": أنّ "التفسير": الكَشْفُ عن المراد من اللفظ، سواءٌ كان ذلك ظاهرًا في المراد أو غير ظاهر؛ و"التأويلُ": إنما هو صرفُ اللفظ عن الظاهر إلى غيره ممّا يحتمله اللفظُ؛ فإذن كل تأويلٍ تفسيرٌ، وليس كلّ تفسير تأويلاً. ***
قال: "وبهذا اللسان مناقلتُهم في العِلم، ومحاورتُهم، وتدريسُهم، ومناظرتُهم، وبه تقطُر في القراطيس أقلامُهم، وبه تسطُرُ الصُّكوكَ والسجلّاتِ حُكّامُهم". "المناقلة": المحادثة؛ يقال: ناقلتُه الكلامَ؛ إذا حدّثتَه وحَدَّثكَ. و"المحاورة": المجاوبة، وهو مداولة الجواب ومراجعتُه. و"التدريس": مصدرُ درّس يُدرِّس تدريسًا، التضعيفُ فيه للتعدية؛ كان قبل التضعيف يتعدّى إلى مفعول واحد، نحو: "درستُ القرآنَ والدَّرْسَ"، و"درّستُه إيّاهما". و"المناظرة": المجادلة، وهو "مُفاعَلَةٌ" من النظر, لأن كلّ واحد ينظر فيما يُفْلِج به على صاحبه، وقِل: هو من النظير، وهو المِثْل، فمعنى "المناظرة": المماثلةُ فيما هم فيه. قوله: "وبه تقطر": "الهاءُ" ترجع إلى علم العربيّة والنحوِ، و"تقطر" تَسيلُ، يقال: قَطَرَ الماءُ وغيرُه يَقْطُرُ، وقَطَرْتُه أنا؛ يكون متعدّيًا وغير متعدّ، كـ"رَجَعَ ورَجَعْتُه". و"القراطيس": جمع "قِرْطاس"، وهو ما يُكْتَب فيه، يقال: "قِرْطاسٌ" و"قُرْطاسٌ"، بكسر القاف وضمّها، ويقال: "قَرْطَسٌ" أيضًا، حكاها أبو زيد. و"تسطر": تَكْتُبُ، وأصلُه الصَّفُّ، يقال: بني سَطْرًا، وغرس سطرًا، وسُمّيت الكتابة تسطيرًا لأنها تُعْمَل صُفوفًا. قال الراجز: 13 - إِنّي وأسْطارٍ سُطِرْنَ سَطْرًا (¬1) و"الصكوك": جمع "صَكٍّ" وهو الكتاب. و"السجلّات": جمع "سِجِلٍّ"، وهو الكتاب أيضًا، مأخوذٌ من "السَّجْل"، وهو الدَّلْوُ المملوءةُ، لأنها تتضمن أحكامًا، و"الحُكَّام": القُضاة. ... قال: "فهم ملتبسون بالعربيّة أيّةً سلكوا، غيرُ منفكّين منها أينما وجّهوا، كلٌّ عليها حيثُ سيّروا". "ملتبسون بالعربّية": أي مخالطون وممازجون لها؛ من قولهم: تلبّستُ بالأمر والثوبِ، أي خالطتُه. وقوله: "أيّةً سلكوا": أي أيَّ طريقٍ وأيَّ سبيل؛ لأنّ "السبيل" يُذكَّر ويُؤنَث؛ قال ¬
الله تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ} (¬1). و"أَيٌّ": قد تُؤنَّث إذا أُضيفت إلى مؤنّثٍ، وتَرْكُ التأنيث أَكْثَرُ فيها. وقوله: "سَلَكُوا": أي مضوا ونفذوا، يقال: سَلَكْتُ الشيءَ في الشيء إذا أنفذتَه فيه، وطَعْنَةٌ سُلْكَى؛ إذا واجَهَهُ بها. وقوله: "غير منفكّين": أي غير زائلين؛ يقال: "انفكّ" و"زال" و"برِح" بمعنى واحد. وقوله: "أينما وجّهوا": معناه توجّهوا، يقال: وجَّهَ وتَوَجَّهَ بمعنى واحد، ومثله "نَكَّب" و"تَنَكَّبَ" و"بَيَّنَ" و"تَبَيَّنَ"، وفي المثل: "أَيْنَما أُوَجِّه أَلْقَ سَعْدًا" (¬2)؛ ومنه: صَوَّحَ النَّبْتُ وتَصَوَّحَ، وقَدَّمَ وتَقَدَّمَ. وقوله: "كَلٌّ عليها حيثُ سيّروا": "الكَلّ": العِيال والثِّقَل؛ قال الله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ} (¬3)، وسيّروا بمعنى ساروا، والتضعيفُ للتكثير، كقولهم: "موَّتَ الشاءُ ورَبَّضَ الغنمُ"، ألا ترى أنّ الفعل غير متعدّ كما كان قبل التضعيف. ... قال: "ثمَّ إنهم في تضاعيف ذلك يجحدون فَضْلَها، ويدفعون خَصْلَها، ويذهبون عن توقيرها وتعظيمها، وينهَوْن عن تعلُّمها وتعليمها، ويمزّقون أديمَها، ويَمْضَغُون لَحْمَها، فهُم في ذلك على المثل السائر: "الشعير يُؤْكَلُ ويُذَمُّ" (¬4). "التضاعيفُ": جمع تضعيفِ، وهو مصدرُ ضعّفتُه؛ إذا زدته مثله أو أكثَرَ، يقال: أضعَفْتُه إضعافًا، وضاعفتُه مضاعفةً، وضعّفتُه تضعيفًا، كلُّه بمعنى واحد، وإنمّا جُمع، والمصادر لا تثنَّى ولا تُجمع, لأنه أراد أنواعًا من التضعيف مختلفةً، كما يقال العلوم والأشغالُ. و"يجحدون": أي يُنكِرون، ولا يكون الجُحود إلّا مع علم الجاحد. قال الله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} (¬5). و"الفضل": الزيادة والخَيْر، والمعنى أنّهم يُنكِرون زيادة نَفْعِها وخيرها. ¬
و"يدفعون خصلها": "الخَصْلُ": الغَلْبُ في النضال والسِّباق، يقال: تَخَاصَلَ القَوْمُ، إذا تَراهَنوا في الرَّمْي؛ وأحْرَزَ فلانٌ خَصْلَه، إذا غلب. وقوله: "ويذهبون عن توقيرها وتعظيمها": أي يُعْرِضون عن ذَيْنِكَ من أمرها، يقال: ذهبت إليه، إذا قصدته؛ وذهبت عنه إذا أعرضت عنه، والتوقير والتعظيم واحدٌ؛ قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} (¬1): أي عَظَمَةً؛ وحسُن عطفُ أحدهما على الآخر لاختلاف لفظيهما؛ ومثله قوله تعالى: {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا} (¬2)، والوَهْنُ والضُّعْفُ واحدٌ، ومثلُه قول الشاعر [من الطويل]: 14 - أَلا حَبَّذَا هِنْدٌ وأَرْضٌ بها هِنْدُ ... وهندٌ أَتَى مِن دُونِها النَّأْيُ والبُعْدُ (¬3) والنَّأْيُ والبُعْدُ واحدٌ، ومثله [من الوافر]: 15 - وأَلْفَى قَوْلَهَا كَذِبًا ومَيْنا (¬4) والكذِبُ والمَيْنُ واحدٌ. وقوله: "وينهون عن تعلُّمها وتعليمها": التعلُّم: مصدرُ تَعَلَّمَ، والتعليمُ مصدرُ "علَّمَ"، والتكريرُ فيه للتعدية, لأنّه بمعنى المَعْرِفَةِ، و"تعلَّم": مطاوع "علَّم"، يقال: علَّمْتُه فتعَلَّم. وقوله: "ويمزِّقون أديمها": التمزيقُ: التخريقُ، يقال: مزقتُ الثوبَ أَمْزِقُه مَزْقًا، ومزّقته تمزيقًا؛ إذا كثُر ذلك منه، والأدِيمُ: الجِلْدُ، وجمعُه: أَدَمٌ؛ كـ"أَفِيق وأَفَق"، والَأفِيقُ: الجِلْدُ قبل دِباغَته، وهذا النوعُ من الجمع اسمُ جِنْسٍ، وليس بتكسير، ألا ترى أنّك تُذكِّره فتقول: هو الأَدَمُ والأَفَقُ؛ ولو كان تكسيرًا لكان مؤنَّثّا؛ كما تقول: هي الثيابُ ¬
والجِفانُ. والأَدَمَةُ: باطنُ الجِلْدِ، والبَشَرةُ: ظاهرُه؛ يقال: "رجلٌ مُؤْدَمٌ مُبْشَرٌ" (¬1)، أي قد جَمَعَ بين لين الأديم وخُشونَةِ البشرة. وقوله: و"يمضغون لحمها": أي يأكلون بالغِيبَة والعَيْبِ؛ من قوله تعالى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} (¬2)، و"المَضْغُ": إدارةُ الطعام في الفم، يقال: مَضَغَ يَمْضُغُ، بالضمّ والفتح؛ فالضمُّ على الأصل، والفتحُ لمكان حرف الحَلق، إلّا أنّ الضمّ هو الأصلُ، وأجوَدُ ها هنا لقُرْب الغين من الفم. والمَثَلُ السائرُ "الشَّعِير يُؤكَلُ ويُذَمّ": يُضْرَب هذا المثل لكلِّ من يُنتفَع به ويجازَى بالقبيح؛ وذلك أن الشعير يُؤْكَل، فيُسمِّن ويُغْنِي عن جُوعٍ، وهو مذمومٌ. ... وقوله: "ويدَّعون الاستغناء عنها وأنهم ليسوا في شِقٍّ منها": "يدَّعون" يَزْعَمون، وهو "يفتعلون" من "الدَّعْوى"، ومنه قول امرئ القيس [من المتقارب]: 16 - لا يَدَّعِي القَوْمُ أنّي أَفِرْ (¬3) و"الشقُّ ": الناحية والجانب، والمعنى أنّهم يتبّرؤون منها ويدّعون الاستغناء عنها. ... قال: "فإن صحَّ ذلك، فما بالُهم لا يُطلِّقون اللغة رأسًا والإعرابَ، ولا يقطعون بينهما وبينهم الأسبابَ". "فما بالُهم": فما حالُهم؛ وأصلُ "الطلاق" الإرسالُ والتخليةُ، يقال: ناقةٌ طالقٌ، ونَعْجَةٌ طالقٌ، إذا كانت مُرْسَلة ترعى حيث شاءت، ويقال: طلّقتُ المرأة تطليقًا، وطَلَقتْ هي طلاقًا، ولا يقال: طلُقتْ بالضمّ. و"اللغة": عبارةٌ عن العلم بالكَلِم المفردة، و"الإعراب": عبارةٌ عن اختلاف أواخرها لإبانة معانيها. وقوله: "لا يقطعون بينهما": أي بين اللغة والإعراب، و"بينهم": أي بين هؤلاء القوم، أي الشُّعُوبية. و"الأسباب": الوُصُلات، واحدُها سَبَبٌ، مثل قَلَم وأَقْلَام؛ وأصولُ "السبب": الحَبْلُ الذي يُشَدُّ به الشيء، ثمّ يجعل كلُّ ما جَرَّ شيئًا سَبَبًا له. ... ¬
وقوله: "فيَطْمِسُوا من تفسير القرآن آثارَهما، ويَنْفُضوا من أصول الفِقه غُبارهما": يقال: "طَمَسَ الطريقُ": انمحى ودرس، و"طمستُه": يُستعمل متعدّيًا، وغير متعدٍّ؛ "يَطْمِسُ ويَطْمُسُ" بالكسر والضمّ، والكسرُ في المتعدّي، والضمُّ في اللازم هو القياس، إلّا أن اللغات تداخلت؛ يريد أنّه لا بُدّ في التفسير من استعمال العربيّة، والاستضاءة بدلالة ألفاظها إذ كان مُنْزلًا باللسان العربيّ، فلا بُدّ من معرفة ألفاظ العرب، والاطّلاع على مواضعها؛ إذ الألفاظ أدلّةُ المعاني، فكذلك أصولُ الفقه مرتبطةٌ بمعرفة العربيّة، لأنّه يُبتنى على معرفة الكتاب والسُنّةِ، ولا يُعْرَف معناهما إلا بمعرفة العربيّة، ولذلك كانت شرطًا في صحّة الاجتهاد. ... قال: "ولا يتكلّموا في الاستثناء، فإنّه نحوٌ؛ وفي الفرق بين المعرَّف والمنكَّر، فإنّه نحوٌ؛ وفي التعريفَين، تعريف الجِنْس، وتعريف العَهْد، فإنهما نحوٌ؛ وفي الحروف كالواو والفاءِ و"ثمَّ" و"لامِ" المِلْك و"مِن" التبعيض ونظائرها": يُشير بذلك إلى شدّة فاقة الفقيه إلى معرفة العربيّة، ألا ترى أنّ الرجل إذا أقرّ فقال: "لفلانٍ عندي مئةٌ غيرُ درهم"، برفع "غير" يكون مُقِرًّا بالمئة كاملة, لأنّ "غَيْرُ" هنا صفة للمئة، وصفتُها لا تَنْقُص شَيئًا منها، وكذلك لو قال: "له علىَّ مئةٌ إلَّا درهمٌ"، كان مقرًّا بالمئة كاملةً لأنّ "إلّا" تكون وصفًا كـ"غير"، قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬1)، ولو قال: "له عندي مئةٌ غيرَ درهم، أو إلا درهمًا"، بالنصب، لكان مقرًّا بتسعةٍ وتسعين درهمًا, لأنه استثناءٌ، والاستثناءُ: إخراجُ ما بعد حرف الاستثناء من أن يتناوله الأوَّلُ؛ وكذلك لو قال: "ما له عليَّ مئةٌ إلّا درهَمْين"، لم يلزمه شيء، كما لو قال: "ما له عليَّ ثمانية وتسعون درهمًا"؛ ولو رفع فقال: "ما له عندي مئةٌ إلَّا درهمان"، لكان مقرًّا بدرهمَيْن. والمسائلُ في ذلك كثيرة؛ ومن ذلك لو قال: "إن دَخَلْتِ الدارَ فأنتِ طالقٌ"، فإنّه لا يقع الطلاقُ إلّا بدخول تلك الدارِ المعيَّنة؛ ولو قال: "إن دخلتِ دارًا فأنتِ طالقٌ، وقع الطلاقُ بدخولِ أيّ دارٍ دخلتها؛ لأنّه علَّقَ الطلاق بدخول دارٍ منكورةٍ، ولشياعها تعمُّ؛ وفي الأوّل علّق الطلاق بدخول دارٍ معهودةٍ، فلا يقع الطلاقُ إلّا بدخولها. وأمّا الفرق بين لام العهد ولام الجنس فمن جهة المعنى، وأمّا اللفظُ فشيءٌ واحدٌ؛ وذلك أنّك إذا قلت: "الرجلُ"، وأردتَ العَهْدَ، فإنّه يخصّ واحدًا بعينه؛ ومعنى العهد أن تكون مع إنسانٍ في حديث ثالثٍ غائبٍ، ثم يُقْبِل الرجلُ فتقول: "وافَى الرجلُ"، أي الذي كنّا في حديثه وذِكْره قد وافى؛ وإن أردتَ تعريفَ الجنس، فإنّه يدّل على العُموم والكثرة، ولا يكون مُخْبِرًا عن إحاطةٍ بجميع الجنس, لأنّ ذلك متعذِّرٌ غيرُ مُمْكِنٍ، فإذا قلت: ¬
"العَسَلُ حُلْوٌ، والخَلُّ حامضٌ"، فإنّما معناه: العسلُ الشائعُ في الدنيا، المعروفُ بالعقل، دون حاسّة المشاهَدةِ، حلوٌ؛ وكذلك الخَلّ. والذي يدل على أنّ الألف واللام إذا أُريد بهما الجنس تعُمّان قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬1)، فصحّةُ الاستثناء من "الإنسان" تدلّ على أن المراد به الجماعة. ومن ذلك حروف العطف، نحو "الواو" و"الفاء" و"ثمّ"، فإنّ الواو معناها الجمعُ المُطْلَقُ من غير ترتيب، والفاء تدلّ على أن الثاني بعد الأوّل بلا مُهْلَهٍ، و"ثُمَّ" كذلك، إلّا أن بينهما تراخيا؛ فعلى هذا إذا قال لزوجته: "أنتِ طالقٌ إن دخلتِ الدارَ، وكلّمتُكِ"، فهذه تَطْلُق بوقوع الفعلَين جميعًا بدخول الدار والكلام، لا تطلق بأحدهما دون الآخر، فإن دخلت الدارَ ولم يُكلِّمها لم تطلق، وإن كلّمها ولم تدخل الدار لم تطلق، ولكن إذا جُمع بينهما طلقت، ولا يبالى بأيهما بدأ، بالكلام أم بالدخول، أيُّ ذلك بدأ به وقع الطلاقُ، بعد أن يُجْمَعَ بينهما, لأنّ المعطوف بالواو يجوز أن يقع آخِرُه قبل أوّله، ألا ترى أنّك تقول: "رأيتُ زيدًا وعمرًا"، فيجوز أن يكون عمرو في الرؤية قبل زيد؛ قال الله تعالى: {وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬2)؛ وكذلك إن قال لعبده: "إن دخلتَ الدارَ وكلّمتَ زيدًا فأنت حُرٌّ"، فإنّه لا يعتِق إلّا بوقوع الفعلَين جميعًا كيف وقعا، ولا فَرْقَ فيه بين وقوع الأوّل قبل الثاني، والثاني قبل الأوّل في اللفظ؛ ولو قال: إن دخلتَ فكلّمتَ عمرًا، لا يقع العِتْقُ إلّا بالجمع بينهما، مُرَتَّبًا الكلامُ بعد الدخول بلا مُهْلةٍ، ولو قال ذلك بـ"ثُمَّ"، لكان في الترتيب مثل الفاء، إلّا أنّه يكون بينهما تمادٍ وتراخٍ. ومن ذلك حروف الجرّ، نحو"مِنْ" واللام؛ فإنّ الرجل إذا حلف وقال: و"الله لا آكُل من طعام زيد"؛ فإنه يحنث بأَكْلِ اليسير منه. ولو قال: "لا آكلُ طعامَ زيد"؛ فإنّه لا يحنث إلّا بأَكْل الجميع. وكذلك لو كان عنده عبدٌ فقال: هو لَزيدٌ، بفتح اللام والرفع، لم يلزمه شيءٌ، ولو قال: "لِزيدٍ"، بكسر اللام والخفض، لكان مُقِرًّا له به؛ لأنّ اللام إذا فتحها، كانت تأكيدًا، وكان مخبرًا أنّ العبد اسمُه زيد؛ وإذا كسر اللامَ، كانت لامَ المِلْك الخافضةَ، وكان مخبرًا أنّه مِلْكُه. ... قال: "وفي الحذف والإضمار، وفي أبواب الاختصار والتكرار، وفي التطليق، بالمصدر واسم الفاعل، وفي الفرق بين "إِنْ" و"أَنْ" و"إِذَا" و"مَتَى" و"كُلَّمَا" وأشباهِها، ممّا يطول ذكرُها؛ فإنّ ذلك كله من النحو". ومن ذلك مسائل الطلاق، إذا قال: "أنْتِ طالقٌ"؛ طلقت منه، وإن لم يَنْوِ؛ ولو أتى بلفظ المصدر، فقال: "أنت طَلاقٌ"؛ لم يقع الطلاقُ إلّا بنيّته, لأنّه ليس بصريحٍ، إنّما هو كناية عن إرادة إيقاع المصدر موقع اسم ¬
الفاعل، على حدِّ "ماءٍ غَوْرٍ"، أي غائرٍ؛ ومنهم من يجعله صريحًا يقع به الطلاقُ من غير نيّةٍ، كاسم الفاعل، لكثرة إيقاع المصدر موقع اسم الفاعل وكثرةِ استعماله في الطلاق، حتى صار ظاهرًا فيه؛ قال الشاعر [من الطويل]: 17 - فإنْ تَرْفُقِي يا هِنْدُ فالرِّفْقُ أَيْمَنٌ ... وإنْ تَخْرُقي يا هندُ فالخُرْقُ أَلأَمُ فأنْتِ الطَّلاقُ والطَّلاقُ عَزِيمَةٌ ... ثلاثًا ومَن يَخْرُقْ أَعَفُّ وأَظْلَمُ فبينِي بها إنْ كنتِ غيرَ رَفِيقَةٍ ... فما لا مْرِىءٍ بعدَ الثلاثة مُقْدَمُ (¬1) فأَوْقع "الطلاق" موقعَ "طالقٍ" على ما ترى، ويجوز أن يكون على حذف مضاف، أي: ذاتُ طلاقٍ، كما يقال: صَلَّى المَسْجِدُ، والمراد: أهلُ المسجد، {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬2)، وهو كثيرٌ. واعلمْ أن هذه المصادر إذا أُجريت مجرى أسماء الفاعلين، ووُضعت موضعها، ذلك فيها وجهان؛ أجودُهما: أن تتركها على لفظٍ واحدٍ في الواحد والاثنين والجمع والمؤنَّث، فتقول: "أنتِ طلاقٌ"، و"أنتما طلاقٌ"، و"أنتم طلاقٌ"، و"أنتنّ طلاقٌ"؛ و"هذا رجلٌ عدلٌ"، و"رجالٌ عدلٌ"، و"نسوةٌ عدلٌ"؛ والآخر: أن تثنّي، وتجمع، فتقول: عَدْلان وعُدُولٌ؛ وأنشد ابن الأعرابيّ [من الطويل]: 18 - طَمِعْتُ بلَيْلَى أن تَرِيعَ وإنّما ... يُقَطِّعُ أعناقَ الرجالِ المَطامعُ وبايَعْتُ لَيْلَى في خَلاءٍ ولم يكن ... شُهُودٌ على ليْلَى عُدُولٌ مَقانِعُ (¬3) فجمع "عَدْلًا" و"مَقْنَعًا"، كما ترى، وقد رُوي قوله: و"الطلاقُ عزيمةٌ ثلاث"، على ثلاثة أوجهٍ: "الطلاق عزيمةٌ ثلاثٌ"، برفع "عزيمة" ونصب "الثلاث"، و"الطلاقٌ عزيمةٌ ثلاثٌ" برفعهما، و"الطلاقُ عزيمةً ثلاثٌ" بنصب "العزيمة" ورفع " الثلاث"؛ فإذا نُصبت "الثلاث"، فكأنّه قال: أنت طالقٌ ثلاثًا، ويكون قولهُ: و"الطلاقُ عزيمةٌ" مبتدأ وخبرًا، فكأنّه قال: والطلاقُ منّي جِدٌّ غيرُ لَغْوٍ؛ وإذا رفعهما، كانت "الثلاثُ" خبرًا ثانيًا، أي ¬
الطلاقُ الذي يقع بمثله الطلاقُ هو الثلاثُ، أو يكون موضِحًا للعزيمة على سبيل البدل، وتقع واحدةً لا غيرُ، ويجوز أن يكون المراد: أنت طالقٌ ثلاثًا، ثمّ فسّر ذلك بقوله: و"الطلاقُ عزيمةٌ ثلاثٌ"، كأنّه قال: والطلاقُ الذي ذكرتُه ونويتُه عزيمةٌ ثلاثٌ؛ فسّره بهذا الدليل، هذا إذا نوى "الثلاث"، ودليلٌ على ذلك قوله: "فبيني بها"، فهذا دليلٌ على إرادة الثلاثة والبَيْنُونَةِ؛ وأمّا إذا نصب "عزيمةً"، مع رفع "الثلاث"، فعلى إضمار فعل، كأنّه قال: والطلاقُ ثلاثٌ، أعزمُ عليك عزيمة؛ ويجوز أن يكون التقدير: والطلاقُ، إذا كان عزيمةً، ثلاثٌ؛ كما تقول: "عبدُ الله راكبًا أحسنُ منه ماشيًا"، والمرادُ: إذا كان ماشيًا، كما تقول: "هذا بُسْرًا أطيبُ منه رُطْبًا"، أي هذا إذا كان بسرًا أطيبُ منه إذا كان رطبًا. وقوله: "ومن يخرق أعقُّ وأظلمُ"، قد حذف الفاء الذي هو جوابُ الشرط والمبتدأُ أيضًا، والمعنى: فهو أعقُّ وأظلمُ، وهو من ضرورات الشعر المستقبَحة. ومن ذلك الفرق بين "إن" المكسورة الخفيفة وبين المفتوحة، وذلك أنّ المكسورة معناها الشرطُ، والمفتوحة معناها الغَرَضُ والعِلَّةُ، ولو قال: أنتِ طالقٌ إنْ دخلتِ الدار؛ لم يقع الطلاقُ حتّى تدخل الدار, لأنّ معنى تعليق الشيء على شرطٍ، هو وقوفُ دخوله في الوجود على دخول غيره في الوجود، ولو فتح "أَنْ" لكانت طالقًا في الحال؛ لأنّ المعنى أنتِ طالقٌ لأَنْ دخلتِ الدار، أي من أجلِ أنْ دخلت الدار، فصار دخولُ الدار علّة طلاقها، لا شرطًا في وقوع طلاقها كما كان في المكسورة؛ وكذلك لو شدَّد "أنْ" يقع الطلاقُ في الحال، كانت دَخَلَتِ الدار، أو لم تكن. ومن ذلك: "إذا" و"مَتَى" و"كُلَّمَا" تُستعمل في الشرط، كما تُستعمل "إن"، إلّا أنّ الفرق بين هذه الأشياء وبين "إِنْ"، أنَّ "إِنْ" تُعلِّق فعلاً بفعل، و"إذَا" و"كُلَّمَا" للزمان المعيَّن، فإذا قال: "أنتِ طالقٌ إنْ دخلتِ الدار"، أو قال: "أنت طالقٌ إذا دخلتِ الدار"، لم تطلق حتّى تدخل الدار؛ أمّا "إِنْ" فشرطٌ لا يقع الطلاقُ إلّا بوجودِ ما بعدها، وأمّا "إذَا" فوَقْتٌ مستقبلٌ فيه معنى الشرط، فكأنّه قال: "أنتِ طالقٌ إذا جاء وقت كذا وكذا"، فهي تطلق وقتَ دخول الدار، فقد استوتْ "إِنْ" و"إِذَا" في هذا الموضع، في وقوع الطلاق، وتفترقان في موضع آخَر، فلو قال: "إذا لم أطلّقك، أو متى لم أطلّقك، فأنت طالقٌ"، وَقَعَ الطلاقُ علىّ الفَوْرِ بمُضِيّ زمان يُمْكِن أن تُطَلَّق فيه، ولم تُطَلَّق؛ ولو قال: "إن لم أطلّقك فأنت طالقٌ"، كان كأنّه على التراخي يمتدّ إلى حين موتِ أحدهما، وذلك لأنّ "إذا" و"مَتَى" اسمان للزمان المستقبل، ومعناهما: "أيَّ وقتٍ"، ولهذا تقع جوابًا عن السؤال عن الوقت، فإذا قيل: "متى ألقاك"؟ فيقال: "إذا شئتَ"، كما تقول: "يومَ الجُمْعَةِ، أو يومَ السَّبْتِ"، ونحوهما، وليست كذلك "إِنْ"، ألا ترى أنّه لو قيل: "متى ألقاك"؟ لم يُقَلْ في جوابه: "إِنْ
شئتَ"، وإنّما تُستعمل "إِنْ" في الفعل، ولهذا يُجاب بها عن سؤالٍ عن الفعل، فإذا قيل: هل تأتيني؟ فيقال في الجواب: "إِن شئتَ". و"مَتَى" حالُها كحالِ "إِذَا" في أنّها للزمان، وليس في هذه الكلم ما يقتضي التكرارَ إلّا "كُلَّمَا"، وذلك أنّك إذا قلت: "كلّما دخلتِ الدارَ فأنتِ طالقٌ" طلقت بكل دخولٍ، إلى أَنْ ينتهي عددُ الطلاق, لأنّ "ما" مِنْ "كُلَّمَا" مع ما بعده مصدرٌ، فإذا قال: "كُلَّما دخلتِ" فمعناه: كلَّ دخولِ يُوجَد منكِ فأنتِ به طالقٌ؛ و"كُلٌّ" معناه: الإحاطةُ والعُمُومُ، فلذلك يتناول كل دخول. * * * وقوله: "وهلّا سفّهوا رَأْيَ محمّد بن الحَسَنُ الشَّيبانيّ - رحمه الله - فيما أودع كتابَ "الأيَمان""، وهو صاحب الإِمام أبي حنيفة -رضي الله عنهما- وذلك أنّه ضمّن كتابه المعروفَ بـ"الجامع الكبير" في كتاب "الأيمان" منه مسائلَ فقهٍ تُبتنى على أصول العربيّةِ، لا تتضِحُ إلّا لمن له قَدَمٌ راسخٌ في هذا العلم، فمن مسائله الغامضة أنَّه إذا قال: "أيُّ عَبِيدِي ضَرَبَكَ فهو حُرٌّ"، فَضَرَبَهُ الجميعُ عَتَقُوا، ولو قال: "أيُّ عبيدي ضربتَه فهو حرٌّ"، فَضَرَبَ الجميعَ، لم يعتق إلّا الأوّلُ منهم؛ فكلامُ هذا الحِبر مَسُوقٌ على كلام النحويّ في هذه المسألة، وذلك من قِبَل أنّ الفعل في المسألة الأولى مسندٌ إلى عامٍّ، وهو ضميرُ "أيٍّ"، و"أَيٌّ": كلمةُ عُموم؛ وفي المسألة الثانية خاصٌّ, لأنّ الفعل فيه مسندٌ إلى ضمير المخاطَب، وهو خاصٌّ، إذ الراجع إلى "أَيٍّ" ضميرُ المفعول، والفعلُ يصير عامًّا بعُموم فاعله، وذلك أنّ الفاعل كالجُزء من الفعل، وإنّما كان كذلك, لأنّ الفعل لا يَستغني عنه، وقد يُستغنى عن المفعول، فكأنّه أحدُ أجزائه التي لا يُستغنى عنها، ويدلّ على ذلك أُمورٌ: الأوَّلُ: منها أنّه متى اتّصل بالفعل الماضي ضميرُ الفاعل سكن آخِرهُ، نحو: "ضَرَبْتُ" و"ضَرَبْنَا"، وذلك لئلّا يجتمع في كلمةٍ أربعُ حركاتٍ لوازمَ لو قيل: "ضَرَبْتُ"، ولا يلزم ذلك في المفعول لأنّه فَضْلَةٌ، فهو كالأجْنَبيّ من الفعل. الثاني: أنك تقول: "قامت هندٌ وقعدتْ زَيْنَبُ"، فتُؤنِّث الفعلَ لتأنيث فاعله، والقياسُ أن لا يلحق الكلمةَ عَلَمُ التأنيث إلّا لتأنيثها في نفسها، نحو "قائمةٍ" و"قاعدةٍ"، وأمّا أن تلحق الكلمةَ العلامةُ، والمرادُ تأنيثُ غيرها، فلا، فلولا أنّ الفعل والفاعل ككلمةٍ واحدةٍ، لَمَا جاز ذلك. الثالث: أنّك تقول: "يضربان"، و"تضربان"، و"يضربون"، و"تضربون"، و"تضربين"، فالنونُ في هذه الأفعال علامةُ الرفع، وقد تخلَّل بينه وبين المرفوع ضميرُ الفاعل، وهو الألفُ والواو والياءُ في "يضربان" و"يضربون" و"تضربين"، فلو لم يكن الفاعلُ والفعلُ عندهم كشيءٍ واحدٍ، لَمَا جاز الفصل بين الفعل وإعرابه بكلمةٍ أُخرى،
ولا يجوز مثل ذلك في المفعول، ومن ذلك أنهم قد قالوا: "كُنْتِيٌّ"، فنسبوا إلى "كُنْت"، قال الشاعر [من الطويل]: 19 - فأَصبَحْتُ كُنْتِيًّا وأصبحتُ عاجِنًا ... وشَرُّ خِصالِ المَرْءِ كُنْتُ وعاجِنُ (¬1) فلو لم يكن الفعل والفاعل عندهم كالجزء الواحد، لَمَا جازت النسبة إليه، إذ الجُمَلُ لا يُنْسَب إليها، وقد قالوا: "لا تُحَبِّذْهُ بما لا ينفعه"، فاشتقّوا من الفعل والفاعل فعلًا لاتحادهما، فَبانَ بما ذكرناه أنّ الفعل والفاعل عندهم شيءٌ واحدٌ، فلذلك لمّا كان الفاعل في "أيُّ عبيدي ضربك" عامًّا، صار الفعل عامّا، ولمّا كان الفاعل في "أيُّ عبيدي ضربتَه" خاصًا, لأنّه كنايةٌ عن المخاطَب، صار الفعل خاصًّا، ولولا خَوْضُ هذا الإِمام في لُجَّةِ بَحْرِ هذا العلم النفيس، ورُسوخُ قَدَمِه فيه، لَمَا أَلَمَّ بفقه هذه المسألة ونظائرها، ممّا أَوْدعه كتابه، فجاحدُ فَضْلِ هذا العلم مكابِرٌ، والمنكِّبُ عنه خاسرٌ. * * * وقوله: "وما لهم لم يتراطنوا في مجالس التدريس، وحَلَقِ المناظرة، ثمّ نظروا هل تركوا العلم جَمالًا وأُبَّهةً؟ وهل أصبحت الخاصّةُ بالعامّة مشبَّهةً؟ وهل انقلبوا هُزْأَةً للساخرين، وضُحْكَةً للناظرين". هذا "التراطُنُ": التكلُّم بكلام العجم، قال الشاعر [من الكامل]: 20 - أَصْوَاتُهُمْ كَتَراطُنِ الفُرْسِ (¬2) و"مجالس التدريس": أَماكِنُه، وهو جمعُ "مَجْلِسٍ" لمكان الجلُوس، و"التدريسُ": مصدرُ "دَرَّسَ يُدَرِّسُ تدريسًا"، والتضعيفُ فيه للتعدية، تقول: "دَرَسْتُ العلمَ دَرْسًا، ودرّسته تدريسًا"، صار بالتضعيف يتعدّى إلى مفعولَين، وقيل: سُمّي "إِدْرِيسُ": "إِدريسَ" لكثرةِ دراسته كتابَ الله تعالى، وكان اسمُه "أَخْنُوخَ". و"حَلَقُ المناظرة": الجماعة يجتمعون للمناظرة وغيرِها، قيل لهم ذلك لتحلُّقهم واستدارتهم، تشبيهًا بحَلْقَةِ الخاتم والدِّرعْ، يقال: "حَلْقَةٌ" بسكون اللام، والجمعُ: ¬
"حَلَقٌ" بفتح الحاء واللام، جمعٌ على غير قياس؛ قال الأصمعيّ: الجمحُ "حِلَقٌ" بكسر الحاء وفتح اللام كَ "بدْرَةٍ وبِدَرِ"، و"قَصْعَةٍ وقِصَع". وحكى يونُس: "حَلَقَةٌ" في الواحد، بفتح الحاء واللام، والجمعُ "حَلَقٌ" بالتحريك أَيضًا. قال ثَعْلَبٌ: "كلّهم يُجيزه على ضُعفه". قال أبو يوسف: سمعتُ أبا عمرو الشَّيْبانيَّ يقول: "ليس في الكلام "حَلَقةٌ" بالتحريك إلّا جمع "حالِقٍ" الذي يحلق الشَّعْرَ، على حَدِّ "كافِرٍ وكَفَرَةٍ"". "المناظرة": مُفاعَلَةٌ من "النظَر"، لأن كلّ واحد ينظر ويفكر فيما يُفْلِج به على صاحبه، وقيل: هو من النظير، لأنّ كل واحد منهما نظيرُ صاحبه في النظر. و"الجمَالُ": الحُسْنُ، يقال: قد جَمُلَ الرجلُ، بالضمّ، جَمالاً، وهو جَمِيلٌ وجُمَّالٌ، بالتشديد للمبالغة، وامرأةٌ جَمِيلةٌ وجَمْلَاءُ، عن الكسائيّ، وأنشد [من الرمل]: 21 - فَهيَ جَمْلَاءُ كَبَدْرٍ طَالِعٍ ... بَذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعًا بالجَمالِ (¬1) و"الأُبَّهَة": الجَلالُ. و"الخاصَّة": خِلافُ العامّة. و"الهُزْأَة"، بسكون الزاي (¬2): الرجلُ يُهْزَأُ به، و"الهُزَأَةُ" بالتحريك: الذي يكثر استهزاؤه بالناس، و"الْهُزْءُ": السُّخْرِيِّةُ، يقال: هَزَأَ واسْتَهْزَأَ؛ ومثله: الضُّحْكَةُ والضُّحَكَةُ؛ فالإسكانُ للمفعول، والتحريكُ للفاعل. * * * وقوله: "فإنّ الإعراب أَجْدَى من تَفارِيق العَصَا". "أَجْدَى": أَنْفَعُ، وهو أَفْعَلُ من "الجَدَا"، وهو العَطِيَّةُ، وأصلُ "الجدا" المطرُ العامُّ، وهو مثلٌ يُضْرَب لمن يكثر الانتفاعُ به (¬3)، لأنّ العصا كلّما كُسرت حصل منها منافعُ؛ وأصلُه أنّ غَنِيَّةَ الكلابيّة كان لها ولدٌ شاطرٌ، كان يُلاعِبُ الصِّبْيانَ فيَشُجُّونه، فتأخذ أَرْشَ الشِّجاج (¬4) حتّى استغنت من ذلك، فقالت [من الرجز]: 22 - أَحْلِفُ بالمَرْوَةِ يومًا والصَّفَا ... إنّك أَجْدَى من تَفارِيقِ العَصَا (¬5) سُئل أعرابيٌّ عن قولهم: "أَجْدَى من تفاريق العصا"، فقال: إنّ العصا تُقْطَع ¬
سواجيرَ (¬1) للأُسارَى والكلاب، ثمّ تُقْطَع السواجيرُ أَوْتادًا، ثمّ تقطع الأوتادُ أَشِظَّةً (¬2)، فإن جعلوا رأسَ الشِّظاظ كالفَلْكَة، صار مِهارًا للبختي (¬3)، فإن فرق المهارُ صار منه تَوادٍ؛ وهي خشباتٌ تُشَدّ على خِلفِ الناقة إذا صُرَّت، فإن كانت العصا قَناةً فكُلُّ شِقَّة منها جُلاهِقٌ؛ وهو قَوْسُ البُنْدُقِ، وإن فُرقت الشِّقّةُ صارت سِهامًا، وإذا فرقت السهام صارت حِظاءٌ؛ والحِظاءُ جمعُ حَظْوَةٍ، وهو السَّهْم الصغير, فإن فُرقت الحظاءُ صارت مَغازلَ، فإن فُرقت المغازل شَعَّبَ بها المُشعِّبُ أقداحَه المصدوعَة؛ فكيف تَشَظَّتْ آلَتْ إلى نَفْعٍ، فضُرب في الانتفاع بها المثل. وفي قوله: "أجدى من تفاريق العصا" نَظَرٌ، وذلك أنّ "أفعَلَ مِن كذا" لا يُستعمل إلّا ممّا يستعمل منه "ما أَفْعَلَهُ"، والتعجُّبُ لا يكون ممّا هو على أربعة أحرف، والجيّدُ أن يقال: "أنفعُ من تفاريق العصا"، ويجوز أن يُحْمَل على رأي من يقول: ما أعطاهُ للدراهم وأَوْلاه للخَيْر! * * * وقوله: "وآثارُه الحسنةُ عديدُ الحَصَا". "الآثارُ": ما بقي من رسم الشيء؛ وسُنَنُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آثارُه، وواحدُ "الآثار": "أَثَرٌ" و"إِثْرٌ"، بفتح الهمزة والثاء، وكسرِ الهمزة وسكون الثاء، والمرادُ به منافعُ الإعراب، و"العَدِيدُ" و"العَدَدُ" واحدٌ، يقال: عددتُ الشيءَ إذا أَحْصَيْتَه، يقال: هو عديدُ الحصا والترابِ مبالغةٌ في الكثرة. * * * قال "ومَن لم يَتَّق الَّلهَ في تنزيله، فاجترأ على تَعاطِي تأويله، وهو غيرُ مُعْرِبٍ". "التنزيلُ": مصدرُ "نَزَّلَ ينزِّل تَنْزِيلًا"، مثل "كلّم يكلّم تكليمًا"، والمرادُ به ههنا المفعولُ، بمعنى: "مُنَزَّلِهِ"، والمصدرُ يُستعمل بمعنى المفعول كثيرًا، نحو: "ضَرْب الأميرِ"، أي مضروبه؛ و"خَلْقِ الله" أي مخلوقه. و"اجترأ": أَقْدَمَ، وهو"افتعل" من "الجَراءةِ". و"تأويلُه": تفسيرُ ما يَؤُولُ إليه. و"هو غيرُ مُعْرِب": أي ليس بذي معرفةٍ بالإعراب، يقال: "رجلٌ مُعْرِبٌ"، أي ذو حَظٍّ منه. وقوله: "رَكِبَ عَمْياءَ، وخَبَطَ خَبْطَ عَشْواءَ": هو مثلٌ يضرب لمن يُصيب مرةً ¬
ويُخْطِىء أخرى (¬1)، والمراد: يركب عَمْياءَ، أي ناقةً عمياءَ، و"الخَبْطُ": الضَّرْبُ، يقال: خَبَطَ البعيرُ بِيَدَيْه الأرضَ خَبْطًا، إذا ضَرَبَها، ومنه قيل: "خَبْطُ عَشْواءَ"، وهي الناقةُ التي في بَصَرها ضعفٌ، فهي تخبط إذا مشتْ، لا تتوقّى شيئًا. قال الخليل: "العَشْواءُ هي الناقة التي لا تبصر ما أمامها، فهي تخبط بيدَيها كل شيء، وقد يكون ذلك من حدَّتها، فهي ترفع طَرْفَها، ولا تتعمّد موقع يَدَيْها". قال: "وقال ما هو تقوُّلٌ وافتراءٌ وهُراءٌ، وكلامُ الله منه بُراءٌ". و"التقوُّلُ": الباطلُ، وهو مصدرُ "تَقَوَّلَ تَقَوُّلًا"، وهو بناءٌ للدخول في أمرٍ ليس منه، كقولهم: "تَقَيَّسَ" و"تَنَزَّرَ"، إذا انتمى إلى "قَيْسٍ" و"نِزارٍ"، وليس منهم. و"الافتراءُ": الاختلاقُ، "افتعالٌ" من الفِرْيَة والخَلْقِ، وهو الكذب. و"الهُراءُ": المنطقُ الفاسدُ، يقال منه: "أَهْرَأَ الرجلُ في منطقه"، وقيل: "الهُراءُ": الكثيرُ؛ قال ذو الرُّمَّة [من الطويل]: 23 - لها بَشَرٌ مِثْلُ الحَرِيرِ ومَنْطِقٌ ... رَخِيمُ الحَواشِي لا هُراءٌ ولا نَزْرُ (¬2) و"البُراءُ": بمعنى "البَرِيءِ"، يقال: "بُراءٌ" و"بَرِيءٌ"، مثل "طُوالٍ" و"طَوِيلٍ". * * * قال: "وهو المِرْقاةُ المنصوبةُ إلى عِلْم البيان، المُطْلِع على نُكَتِ نَظْم القرآن". "المِرْقاةُ": الدَّرَجَةُ. و"البَيانُ": الكَشْفُ عن الشيء، و"البيانُ": الفصاحةُ؛ المرادُ به ههنا: علمُ الكلام المنثور" نحو الجِناسِ والطِّباق، ونحوهما. و"المُطْلِعُ": المُظْهِرُ، قال: أَطْلَعْتُهُ على الأمر، إذا أَرَيْتَه إِيّاه، والمرادُ أنّه وُصْلَةٌ إلى فَهْم معاني كتاب الله- عزّ وجلّ- ومعرفةِ فوائده. * * * وقوله: "الكافِل بإبراز محاسنه". "الكافلُ": الكافي، مِن "كَفَلَ اليَتيمَ"، إذا كفاه، ومنه قوله تعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} (¬3) ¬
أي عالها، وكَفاها المَؤُونَةَ، وهو ههنا بمعنى التكفُّل، ولذلك عدّاه بالباء. و"الإبرازُ": مصدرُ أَبْرَزَهُ يُبْرِزُهُ، إذا أَظْهَرَهُ. و"المحاسِنُ": المآثِرُ، وهو ضِدُّ المساوِىء، الواحد "حُسْنٌ"، جاء على غير بناء واحدِه، كـ "المَذاكَير"، كأنّ قياس واحدِه "مَحْسَنٌ". * * * وقوله: "المُوَكَّلِ بإثارة مَعادِنِه". "المُوَكَّلُ": أي المعتمَدُ، من "الوَكِيل"، يقال: "وكّلتُه بكذا أُوَكِّلُهُ"، والفاعل "مُوَكَّلٌ"، والمفعولُ "مُوَكَّلٌ". و"الإثارةُ": الإظهارُ، من أثَرْت الحديثَ إذا نقلتَه عن غيرك، والمراد أنَّ النحْو طريقٌ إلى ظهورِ ما في القرآن من حَسَنٍ وبَدِيع. و"المَعادنُ": جمعُ "مَعْدِنٍ"، بكسر الدال، ومعدنُ كلِّ شيء: مَرْكَزُهُ، والمراد أنّه المعتمَدُ في بيان أُصوله. * * * وقوله: "فالصادُّ عنه كالسادِّ لطُرُقِ الخَيْر كي لا تُسْلَكَ". "الصادُّ": المُعْرِضُ والمانعُ، يقال: صَدَّ عن الشيء صُدُودًا، أي أَعْرَضَ. و"السادُّ": فاعلٌ من "سَدَدْتُ الشيءَ سَدًّا"، إذا منعت النُّفُوذَ فيه. و"الطُّرُقُ": جمعُ "طَرِيقٍ". و"الخَيْرُ": ضِدُّ الشَّرّ. و"السلُوكُ": النفُوذُ، والمعنى أنّ المانع من تعلُّمِ النحو كسادِّ طُرُقِ الخير، ووجوهِ البرِّ أن يُنْفَذَ فيها. * * * وقوله: "والمُرِيدِ بموارِده أن تُعافَ وتُتْرَكَ". "المُرِيدُ": فاعلٌ من "الإرادة"، وهي المَشيئةُ. و"المَوارِدُ": الطُّرُقُ، قال الشاعر [من الوافر]: 24 - أمِيرُ المؤمنين على صِراطٍ ... إذا اعْوَجَّ المَوارِدُ مستقيمِ (¬1) أي المانع منه، والمُعْرِض عنه، كالمانع من طُرُق الخير. و"المُريدِ بطُرُقه أن تُعافَ": أي تُكْرَهَ وتُتْرَكَ. * * * وقوله: "ولقد نَدَبَني ما بالمسلمين من الأرَبِ إلى معرفة كلام العرب". "ندبني": دَعَاني، يقال: ندبتُه إلى الحَرْب أو غيره إذا دعوتَه إليه. و"الأَرَبُ ¬
والإرْبَةُ والمَأْرَبَةُ": الحاجَة، وخصَّ المسلمين بذلك دون غيرهم لَأمْرَين: أحدُهما: أنّ الغالب على المسلمين التكلُّمُ بلسان العرب، والنحْوُ قانونٌ يُتوصّل به إلى كلام العرب. والأمرُ الثاني أنّه وَسيلةٌ إلى معرفة الكتاب العزيز والسُنّةِ اللذين بهما عمادُ الإسلام. ... وقوله: "وما بي من الشفَقَة والحَدَب على أَشْياعي من حَفَدة الأَدَب". "الشفَقَةُ": بمعنى الحَذَر، يقال: "أَشْفَقْتُ عليه"، إذا خَشِيتَ عليه، و"أَشْفَقْتُ منه"، إذا حَذِرْتَه. والمصدر "الإشفَاقُ"، و"الشفَقَة" الاسم، و"الحَدَبُ": التعَطُّفُ، يقال: حَدِبَ عليه، وتَحَدَّبَ، إذا تَعَطَّفَ. و"الأَشْياعُ": الأَحْزابُ والأعوانُ. والحَفَدَةُ: الخَدَمُ، واحدُهم "حافِدٌ"، على حَدِّ "كافرٍ وكَفَرَةٍ ". * * * وقوله: "لإِنْشَاءِ كِتابٍ في الإعراب، مُحِيط بكافّةِ الأبواب". "الإنشاءُ": الاختراعُ، يقال "أَنْشَأَ خُطْبَةً ورِسالةً وقصيدةً" إذا اخترع ذلك. وقوله: "بكافّةِ الأبواب". شاذٌّ من وجهَين: أحدُهما أنّ كافَّةً لا تُستعمل إلّا حالًا (¬1)، وههنا قد خفضها بالباء، على أنّه قد ورد منه شيءٌ في الكلام عن جماعةٍ من المتأخّرين، كالفارقيّ الخطيب، والحَرِيريّ، وقد عيب عليهما ذلك، والذين استعملوه لَجَؤوا إلى القياس، والاستعمالُ ما ذكرناه. والوجه الثاني: أنّه استعمله في غير الأنَاسيّ، و"الكافّةُ": الجماعة من الناس لُغَةً. * * * ¬
قال: "مُرتَّب ترتيبًا يبلُغ بهم الأمَدَ البعيدَ بأقْرب السَّعي، ويملأ سِجالَهم بأهونِ السَّقْي". "الأَمَدُ": الغايَةُ، و"السِّجالُ": جمعُ سَجْلٍ، وهو الدلْو؛ قال الخليل: "السَّجْلُ": الدلْوُ المَلأى (¬1). وقوله: "فأنشأتُ هذا الكتابَ المُتَرْجَمَ بكتاب "المُفَصَّل في صَنْعة الإعراب" مقسومًا أربعة أقسام؛ القسمُ الأوّلُ: في الأسماء، القسمُ الثاني: في الأفعال، القسمُ الثالثُ: في الحروف، القسمُ الرابعُ: في المشترك". قلتُ: إنّما قَسَمَه هذه القِسْمَةَ ليُسَهِّلَ على الطالب حِفظَه، وعلى الناظر فيه وِجْدَانَ ما يرومه، ويجري ذلك مَجْرَى الأبواب في غيره. ... قوله: "وصنّفتُ كُلًّا من هذه الأقسام تصنيفًا". معناه: ميّزتُ كلَّ صنف منها على حِدَةٍ، و"الصنفُ": النوعُ من كلّ شيءٍ. و"فصّلتُ كلَّ صنفٍ منها تفصيلًا": أي جعلتُه فُصولًا. ... وقوله: "حتّى رجع كلّ شيءٍ في نصابه". "نصابُ" كلِّ شيءٍ: أَصْلُه. و"استقرَّ في مَرْكَزه": أي في موضعه، ومركزُ الجُنْدِ: موضعُهم، كأنّه موضعُ رَكْزِهم الرماح. ... "ولم أَدَّخِرْ فيما جمعتُ فيه من الفوائد المتكاثرةِ". "أدَّخِر": أَفْتَعِل، من "الذَّخْر" فأَبْدَلَ من الذال دالًا غيرَ معجمةٍ، وادَّغَمَ فيها التاءَ، وذلك من قِبَل أنّ الدال حرفٌ مجهورٌ، والتاءَ حرفٌ مهموسٌ، فكرهوا تجاوُرَهما مع ما بينهما من التنافي، وإبدالُ الذال دالًا لأنّها تُوافِقها في الجَهْر، وتُوافِق التاءَ في المَخْرَج، تقريبًا لأحدهما من الآخَر. والمعنى: إِنّني لم أُبْقِ شيئًا ممّا عندي من الفوائد إلّا أَوْدعتُه إيّاه. ... "ونظمتُ من الفرائد المتناثرة". "نظمتُ": أي جمعتُ، من قولهم: "نظمتُ الخَرَزَ واللُّؤْلُؤَ في خَيْطٍ"، و"الخيطُ": النظامُ. و"الفرائدُ": جمعُ فَرِيدَةٍ، وهو الكبار من الدُّرّ، و"المتناثرةُ": المتبدّدةُ، والمراد: إِنّني جمعت فيه من المسائل الفاخرة ما كان متفرِّقًا في غيره، وعبّرتُ عنه بأحسَنِ عبارةٍ. ... ¬
وقوله: "مع الإيجاز غيرِ المُخِلِّ". "الإيجازُ": الإقلالُ، يقال: "كلامٌ وَجْزٌ ووَجِيرٌ ومُوجِرٌ"، إذا قلَّ مع تمام المعنى، وما أَحْسَنَ قول ابن الرُّوميّ يصف امرأةً تُطِيب الحديثَ [من الكامل]: 25 - وحديثُها السِّحْرُ الحَلالُ لَوَ اَنَّهُ ... لم يَجْنِ قَتْلَ (¬1) المُسْلِمِ المتحرِّزِ إِنْ طَالَ لم يُمْلِلْ وإِنْ هي أَوْجَزَتْ ... وَدَّ المُحَدَّثُ أنّها لم تُوجِز شَرَكُ القُلُوبِ وفِتْنَةٌ ما مِثْلُهَا ... للمُطْمَئِنِّ وعُقْلَةُ المُسْتَوْفِزِ (¬2) "المُخِلُّ": المُهْمِلُ، يقال: "أَخَلَّ بكذا"، إذا أَهْمله وتركه، كأنَّه مأخوذٌ من الخَلَل، وهو الفُرجَة بين الشيئين. ... "والتلخيصِ غيرِ المُمِلِّ مُناصَحةٌ". "التلخيصُ": الشرح والتبيين، يقال: "لخّصتُ له المعنى"، إذا شرحتَه وبيّنته له. و"المَلَلُ": السَّآمَةُ، يقال "مَلِلْتُ الشيء أَمَلُّه"، إذا سَئِمْتَه، والمعنى: إِنّني أوجزت العبارةَ من غير تَرْكِ شيءٍ من الفوائد، وبيّنتُه بشرحي من غير إملالٍ بطول العبارة. و"المناصحة": المفاعلة من النُّصْح، وهو خلاف الغشّ. * * * وقوله: "لمقتبسِيه": أي لمستفيديه، يقال: أَقْبَسْتُ الرجلَ عِلمًا، وقبستُه نارًا، واقتبستُ منه علمًا ونارًا. قال الكسائيّ: أقبستُ الرجلَ علمًا ونارًا سواءٌ، وقبستُه فيهما. * * * وقوله: "أرجو": أي آمُلُ، تقول: رَجَوْتُهُ أَرْجُوه رَجْوًا، وارتجَيْتُه أَرْتَجِيهِ ارتجاءً، وتَرَجَّيْتُه أَتَرجَّاه تَرَجِّيًا. * * * وقوله: "أَنْ اجْتَنِيَ منها ثَمَرَتَيْ دُعاءٍ يُستجاب، وثَناءٍ يُستطاب"، يقال: "جنيتُ الثمرةَ واجتنيتُها": اقتطفتُها، وثمرٌ جَنِيُّ حينَ يُقْطَف، و"الثَّمَرَةُ": واحدُ الثِّمار، و"الثَّمَرُ" جنسٌ، وثمرةُ كلّ شيءٍ ما يُنْتِجُهُ. و"الدُّعاءُ": مصدرُ "دَعَا يَدْعُو" و"الدَّعْوَةُ": المرّة الواحدة. و"المستجاب": المقبول، و"الثناء": الكلام الجميل، و"المستطاب": الطيِّب. * * * ¬
وقوله: "واللَّهُ -عزّ سلطانُه- وَليُّ المَعُونَة على كلّ خيرٍ والتأييدِ، والمَلِيُّ بالتوفيق فيه والتسديدِ". قلت: لمّا أضاف "كُلّاً" إلى "خيرٍ"، استغرق الجنسَ، لأنّ معنى "الكُلِّ" الإحاطةُ والعُمومُ، فصار كما لو أدخل عليه الألفَ واللامَ، كأنّه قال: "واللَّهُ وَلِيُّ المَعُونَة على الخير والتأييدِ"، فيستغرق الجميع، فاعرف ذلك.
في معنى الكلمة والكلام
في معنى الكلمة والكلام فصل [تعريف الكلمة والكلام] قال صاحب الكتاب: "الكلمة هي اللفظة الدالّة على معنى مفردِ بالوضع. وهي جنسٌ تحته ثلاثة أنواع: الاسم، والفعل، والحرف. والكلام هو المركب من كلمتين أُسندت إحداهما إلى الأخرى, وذاك لا يتأتى إلا في اسمين، كقولك: زيدٌ أخوك، وبشرٌ صاحبك"؛ أو في فعلٍ واسمٍ، نحو قولك: "ضرب زيدٌ وانطلق بكرٌ"، وتسمَّى الجملة". * * * قال الشارح: - وفّقه الله- موفَّقُ الدين أبو البَقَاء يَعِيشُ بنُ علي بن يَعِيشَ النحويّ: اعلم أنّهم إذا أرادوا الدلالة على حقيقة شيءٍ وتمييزه من غيره تمييزًا ذاتيًّا حدّوه بحدّ يُحصِّل لهم الغرضَ المطلوبَ، وقد حدّ صاحب الكتاب الكلمة بما ذكر، وهذه طريقةُ الحدود أن يُؤْتَى بالجنس القريب، ثمّ يُقْرَن به جميع الفُصول، فالجنسُ يدلّ على جَوْهَر المحدود دلالةً عامّةً، والقريبُ منه أدَلُّ على حقيقة المحدود، لأنّه يتضمّن ما فوقَه من الذاتيّات العامّة؛ والفصلُ يدلّ على جوهر المحدود دلالةّ خاصّةً. فاللفظة جِنْسٌ للكلمة، وذلك أنّها تشتمل المُهْمَل والمستعمل، فالمهملُ ما يُمْكِن ائتلافُه من الحروف ولم يَضَعْه الواضع بإزاء معنًى نحو"صص" و"كق" ونحوهما، وهذا وما كان مثله لا يسمَّى واحد منها كلمةً (¬1)، لأنّه ليس شيئًا من وَضْع الواضع، ويسمّى لفظة, لأنّه جماعةُ حروفٍ ملفوظٍ بها، هكذا قال سيبويه؛ فكلُّ كلمةٍ لفظةٌ، وليس كلّ لفظة كلمةً؛ ولو قال عِوَضَ اللفظة: "عَرَضٌ" أو"صَوْتٌ" لصحَّ ذلك، ولكنّ اللفظة أَقْرَبُ لأنّه يتضمّنها. والأشياء الدالّة خمسةٌ: الخَطّ، والعَقْد، والإشارة، والنصْبة، واللفْظ. وحَدَّ باللفظة لأنّها جوهرُ الكلمة، دون غيرها ممّا ذكرنا أنّه دالٌّ. وقوله: "الدالّةُ على معنّى": فصلٌ فَصَلَه من المُهْمَل الذي لا يدلّ على معنى. وقوله: "مُفْرَد": فصلٌ ثانٍ فصله من المركَّب، نحو: "الرجل"، و"الغلام"، ونحوهما ¬
[أقسام الكلمة]
مما هو معرَّفٌ بالألف واللام، فإنّه يدلّ على معنيَيْن: التعريفِ، والمعرَّفِ؛ وهو من جهة النطْق لفظةٌ واحدةٌ، وكلمتان؛ إذ كان مركّبًا من الألف واللام الدالّةِ على التعريف، وهي كلمةٌ، لأنّها حرفُ معنًى، والمعرَّفُ كلمةٌ أخرى، واعتبارُ ذلك أن يدلّ مجموعُ اللفظ على معنًى، ولا يدلّ جُزْؤُه على شيءٍ من معناه، ولا على غيره من حيثُ هو جُزْءٌ له، وذلك نحو قولك: "زَيْدٌ"، فهذا اللفظُ يدلّ على المسمّى، ولو أفردتَ حرفًا من هذا اللفظ، أو حرفَيْن، نحو الزاي (¬1) مثلًا، لم يدلّ على معنًى ألبَتَّة، بخلاف ما تقدّم من المركَّب، من نحو"الغلام"، فإنّك لو أفردت اللام لَدَلَّتْ على التعريف، إذ كانت أداةً له، كالكاف في "كَزَيْدٍ"، والباء في "بِزَيدٍ"، ومن ذلك "ضَرَبَا" و"ضَرَبُوا" ونحوهُما، فإنّ كل واحد من ذلك لفظةٌ، وفي الحُكْم كلمتان؛ الفعلُ كلمةٌ، والألف والواو كلمةٌ، لأنّها تُفِيد المسند إليه، فلو سمّيت بـ"ضَرَبَا" و"ضَرَبُوا" كان كلمةً واحدةً، لانّك لو أفردتَ الألف والواو، لم تدلّ على جُزْءٍ من المسمّى، كما كانت قبل التسمية. وقوله: "بالوضع" فصلٌ ثالثٌ، احترز به من أمور، منها ما قد يدلّ بالطبْع، وذلك أنّ من الألفاظ ما قد تكون دالّةً على معنى بالطبع لا بالوضع، وذلك كقول النائم: "أَخْ"، فإنّه يُفْهَم منه استغراقُه في النوم، وكذلك قوله عند السعال: "أَحْ"، فإِنّه يفهم منه أَذى (¬2) الصدر؛ فهذه ألفاظٌ، لأنّها مركَّبةٌ من حروفٍ ملفوظٍ بها، ولا يقال لها كَلِمٌ، لأنّ دلالتها لم تكن بالتواضُع والاصطلاح. الأمر الثاني: الانفصال عمّا قد يغلط فيه العامّةُ، وتُصحِّفه. وذلك أنّ اللفظة إذا صُحّفت وفهِم منها مُصحِّفُه معنًى ما، فلا تسمَّى كلمةً صناعيَّةً، لأنّ دلالتها على ذلك المعنى لم تكن بالتواضع. ومنها أن يحترز بذلك من التسمية بالجُمَل، نحو: "بَرَقَ نَحْرُهُ"، و"تأَبَّطَ شَرًّا"، فإنّ هذه الأشياء جُمَلٌ خَبَرَّيةٌ، وبعد التسمية بها كِلَمٌ مفردةٌ، لا يدل جزءُ اللفظ منها على جزء من المعنى، فكانت مفردةً بالوضع، فاعرفه. وفي الكلمة لغتان: "كَلِمَةٌ" بوزن "ثَفِنَةٍ" و"لَبِنَةٍ"، وهي لغة أهل الحجاز؛ و"كِلْمَةٌ" بوزن "كِسْرَةٍ" و"سِدْرةٍ"، وهي لغة بني تميمٍ. وتجمع "الكلمة" على "كلمات" وهو بناءُ قلَّةٍ لأنّه جمع على منهاج التثنية، والكثيرُ "كَلِمٌ"؛ وهذا النوع من الجمع جنسٌ عندنا، وليس بتكسير، وقد تقدّم نحو ذلك. ... [أقسام الكلمة] قال صاحب الكتاب: "وهي جنس تحته ثلاثة أنواع: الاسم, الفعل, والحرف". * * * قال الشارح: الجنسُ عند النحويّين والفقهاء هو اللفظ العامّ. وكلُّ لفظ عمَّ شيئين فصاعدًا فهو جنسٌ لِمَا تحته، سواءٌ اختلف نوعه أو لم يختلف؛ وعند آخرين لا يكون جنسًا ¬
حتّى يختلف بالنوع، نحو: "الحيوان"، فإنّه جنسٌ للإنسان، والفرس، والطائر، ونحو ذلك؛ فالعامُّ جنسٌ، وما تحته نوعٌ، وقد يكون جنسًا لأنواع، ونوعًا لجنسٍ، كـ"الحَيْوان"، فإنّه نوعٌ بالنسبة إلى الجِسْم، وجنسٌ بالنسبة إلى الإنسان والفرس. وإذ قد فُهم معنى الجنس فالكلمةُ إذًا جنسٌ، والاسمُ والفعلُ والحرفُ أنواعٌ. ولذلك يصدق إطلاقُ اسم الكلمة على كلّ واحد من الاسم والفعل والحرف، فتقول: الاسمُ كلمةٌ، والفعلُ كلمةٌ، والحرفُ كلمةٌ؛ كما يصدق اسمُ الحيوان على كلّ واحد من الإنسان والفرس والطائر، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "والكلام هو المركّب من كلمتين أسندت إحداهما إلي الأخري". * * * قال الشارح: اعلم أن الكلام عند النحويين عبارةٌ عن كلّ لفظٍ مستقلٌ بنفسه، مُفيدٍ لمعناه، ويسمّى: "الجملة"، نحو: "زيدٌ أخوك"، و"قام بكرٌ"، وهذا معنى قول صاحب الكتاب: "المركّب من كلمتَيْن أسندت إحداهما إلى الأخرى"، فالمرادُ بالمركّب اللفظ المركّبُ، فحذف الموصوف لظهور معناه. وقوله: "من كلمتَيْن" فصل احترز به عمّا يأتلف من الحروف، نحو: الأسماء المفردة، نحو: "زيدٍ"، و"عمرٍو"، ونحوهما. وقوله: "أُسندت إحداهما إلى الأخرى"، فصلٌ ثانٍ احترز به عن مثل "مَعْدِيكَرِبَ" و"حَضْرَمَوْتَ"، وذلك أن المركب على ضربَيْن: تركيبُ إفرادٍ، وتركيبُ إسنادٍ، فتركيبُ الإفراد أن تأتي بكلمتَيْن، فتركّبهما، وتجعلهما كلمةً واحدةً، بإزاء حقيقةٍ واحدةٍ، بعد أن كانتا بإزاء حقيقتَيْن، وهو من قبيل النقْل، ويكون في الأعلام، نحو"معديكرب" و"حضرموت" و"قَالِيقَلَا" (¬1). ولا تفيد هذه الكَلِمُ بعد التركيب حتى يُخْبَر عنها بكلمةٍ أخرى، نحو "معديكرب مُقْبِلٌ" و"حضرموتُ طيبةٌ"، وهو اسمُ بَلَدٍ باليَمَن. وتركيب الإسناد أن تركّب كلمة مع كلمة، تُنْسَب إحداهما إلى الأخرى. فعرَّفك بقوله: "أُسندت إحداهما إلى الأخرى" أنّه لم يُرِدْ مُطْلَقَ التركيب، بل تركيبَ الكلمة مع الكلمة، إذا كان لإحداهما تعلُّقٌ بالأخرى، على السبيل الذي به يحسن موقعُ الخبر، وتمامُ الفائدة. وإنّما عبّر بالإسناد، ولم يعبّر بلفظ الخبر، وذلك من قِبَلِ أن الإسناد أعمُّ من الخبر، لأنّ الإسناد يشمل الخبر، وغيره من الأمر والنهْي والاستفهام، فكلُّ خبر مسندٌ، وليس كلُّ مسند خبرّا، وإن كان مرجعُ الجميع إلى الخبر من جهة المعنى؛ ألا ترى أنّ معنى قولنا: "قُمْ": أَطْلُبُ قِيامَك. وكذلك الاستفهامُ والنهي، فاعرفه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: "وهذا لا يتأتّي إلا في اسمين, أو فعل واسم؛ ويسمي الجملة". * * * قال الشارح: قوله: "وهذا"إشارةٌ إلى التركيب الذي ينعقد به الكلام، ويحصل منه الفائدةُ فإنّ ذلك لا يحصل إلّا من اسمَيْن، نحو: "زيدٌ أخوك"، و"اللهُ إِلهُنَا"، لأنّ الاسم كما يكون مخبرًا عنه فقد يكون خبرًا، أو من فعلٍ واسم، نحو: "قام زيدٌ"، و"انطلق بكرٌ"، فيكون الفعل خبرًا، والاسم المخبَر عنه. ولا يتأتّى ذلك من فعلَيْن، لأنّ الفعل نفسه خبرٌ، ولا يفيد حتّى تُسْنِده إلى مُحَدَّثٍ عنه. ولا يتأتّى من فعلٍ وحرفٍ، ولا حرفٍ واسمٍ، لأن الحرف جاء لمعنًى في الاسم والفعلِ، فهو كالجُزء منهما، وجزءُ الشيء لا ينعقد مع غيره كلامًا، ولم يُفِد الحرفُ مع الاسم إلّا في مَوْطِن واحد؛ وهو النداءُ خاصّةً، وذلك لنيابَة الحرف فيه عن الفعل، ولذلك ساغت فيه الإِمالةُ. واعلم أنّهم قد اختلفوا في الكلام، فذهب قومٌ إلى أنّه مصدرٌ، وفعلُه "كلَّمَ"، جاء محذوف الزوائد، ومثلُه "سلَّمَ سلامًا"، و"أَعْطَى عطاءً"؛ قالوا: والذي يدلّ على أنّه مصدرٌ، أنّك تُعْمِله، فتقول: عجبتُ من كلامِك زيدًا، فإعمالُك إيّاه في زيد دليلٌ على أنّه مصدرٌ، إذ لو كان اسما لم يجز إعمالُه، وقد أُعْمِل. قال الشاعر [من الوافر]: 26 - [أكُفْرًا بعدَ ردّ الموتِ عنِّي] ... وبَعْدَ عَطائك المئةَ الرِّتاعَا ¬
فاَعْمَل "العَطاء" في "المائة" وقال الآخر [من الطويل]: 27 - أَلا هَلْ إلى رَيَّا سَبِيلٌ وساعةٍ ... تُكلِّمُني فيها من الدهْر خالِيا فأَشْفِيَ نفسي من تَبارِيحِ ما بها ... فإنّ كَلامِيها شِفاةٌ لِمَا بِيَا وذهب الأكثرون إلى أنّه اسمٌ للمصدر، وذلك أنّ فِعْلَه الجاري عليه لا يخلو من أن يكون "كلَّمَ" مضاعَفَ العين، مثلَ "سلَّمَ" أو"تَكَلَّمَ"؛ فـ "كَلَّمَ": فعلٌ يأتي مصدرُه على "التَّفْعِيل". و"تَكَلَّمَ" مثلُ "تَفَعَّلَ"، يأتي مصدرُه على "التَّفَعُّل". فثبت أنّ الكلام اسمٌ للمصدر، والمصدرُ الحقيقيُّ "التكليمُ" و"التسليمُ"، قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬1) وقال: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (¬2). والكلامُ والسلامُ اسمٌ للمصدر، ولا يمتنع أن يُفيد اسمُ الشيء ما يفيده مسمّاه. قال الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ ¬
رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا} (¬1)، وقد يُطْلَق الكلام بإزاء المعنى القائِم بالنفس. قال الشاعر [من الكامل]: 28 - إِنّ الكلامَ لَفِي الفُؤادِ وإنّما ... جُعل اللِّسانُ عن الفُؤادِ دَليلا فإذا كان اسمَ المعنى، كان عبارةَ عمّا يتكلّم به من المعنى؛ وإذا كان مصدرًا، كان عبارةً عن فعلِ جارحة اللسان، وهو المحصِّلُ المعنى المتكَّمَ به؛ وإذا كان اسمًا للمصدر، كان عبارةً عن التكليم، الذي هو عبارةٌ عن فعلِ جارحةِ اللسان. وممّا يُسْأَل عنه هنا الفرقُ بين الكلام، والقول، والكَلِمِ. والجوابُ: أنّ الكلام عبارةٌ عن الجُمَل المفيدةِ، وهو جنسٌ لها؛ فكلُّ واحدة من الجملِ الفعليّةِ والاسميّةِ نوعٌ له، يصدق إطلاقُه عليها، كما أنّ الكلمة جنسٌ للمفردات، فيصح أن يقال: كلُّ "زيدٌ قائمٌ" كلامٌ، ولا يقال: كلُّ كلامٍ "زيدٌ قائمٌ". وكذلك مع الجملة الفعليّة. وأمّا الكَلِمُ فجماعةُ "كلمةٍ"، كـ "لَبِنَةٍ"، و"لَبِنٍ"، و"ثَفِنَةٍ" (¬2) و"ثَفِنٍ". فهو يقع على ما كان جَمْعًا، مفيدًا كان أو غيرَ مفيدٍ. فإذا قلت: "قام زيدٌ" أو"زيدٌ قائمٌ"، فهو كلامٌ، لحُصولِ الفائدة منه. ولا يقال له: كَلِمٌ. لأنّه ليس بجمعٍ، إذ كان من جُزْأَيْن، وأَقلُّ الجمع ثلاثةٌ. ولو قلت: "إنّ زيدًا قائمٌ"، و"ما زيدٌ قائمٌ"، كان كلامًا من جهة إفادته، وتسمَّى كَلِمَا لأنّه جمعٌ. وأما "القولُ " فهو أعمُّ منهما، لأنّه عبارةٌ عن جميع ما ينطق به اللسانُ، تامًّا كان ¬
وناقصًا، والكلامُ والكَلِمُ أخصُّ منه. والذي قضى بذلك الاشتقاقُ مع السماع؛ ألا ترى أنّ اشتقاق "الكلام" من "الكَلْم"، وهو الجرحُ، كأنّه لشدّة تأثيره ونُفوذِه في الأنفس كالجَرْح، لأنّه إنْ كان حَسَنًا أثّر سرورًا في الأنفس، وإن كان قبيحًا أثّر حُزْنًا. مع أنَّه في غالب الأمر يَنْزع إلى الشرّ، ويدعو إليه. قال الشاعر [من المتقارب]: 29 - [ولو عَنْ نثا غيرهِ جاءَني] ... وَجَرْحُ اللِّسانِ كجَرْحِ الَيدِ وقال الآخر [من الطويل]: 30 - قَوارِصُ تَأْتِيني وتحتقِرونها ... وقد يَمْلأُ القَطْرُ الإِناءَ فيَفْعُمُ ¬
وغيرُ المفيد لا تأثيرَ له في النفس. وأمّا القَوْل فهو من معنى الإسراع والخِفَّة، ولذلك قيل لكلِّ ما مذَلَ به اللسانُ، وأسرع إليه، تامًّا كان أو ناقصًا: قَوْلٌ. * * * ¬
القسم الأول من الكتاب وهو قسم الأسماء.
القسم الأول من الكتاب وهو قسم الأسماء. (¬1) ¬
فصل [تعريف الاسم وخصائصه]
فصل [تعريف الاسم وخصائصه] قال صاحب الكتاب: "الاسم ما دلّ علي معني في نفسه, دلالة مجرَّدة عن الاقتران, وله خصائص, منها: جواز الإسناد إليه, ودخول حرف التعريف, والجرُّ, والتنوين, والإضافة". * * * قال الشارح: قد أكثر الناسُ في حدّ الاسم؛ فأمّا سيبويه فإنّه لم يحدّه بحدٍّ ينفصِل به من غيره، بل ذَكَر منه مَثَلًا، اكتفى به عن الحدّ، فقال: "الاسمُ: رجلٌ، وفرسٌ" (¬1)، وكأنّه لمّا حدّ الفعلَ والحرفَ تميَّز عنده الاسمُ. ونحا أبو العبّاس (¬2) قريبًا من ذلك، فقال: "فأمّا الأسماء فما كان واقعًا على معانٍ، نحو: رجل، وفرس، وزيد" (¬3). وقد حدّه أبو بكر محمّد بن السَّريّ، فقال: "الاسمُ ما دلّ على معنّى مفردٍ"، كأنّه قصد الانفصال من الفعل، إذ كان الفعل يدلّ على شيئين: الحَدَثِ والزمانِ. فإن قيل: "اليوم" و"الليلة" قد دلّت على أَزمنةٍ، فما الفرقُ بينهما وبين الفعل؟ قيل: "اليومُ" مفردٌ للزمان، ولم يُوضَعْ مع ذلك لمعنى آخرَ، والفعلُ ليس زمانًا فقط. فإن قيل: فـ "أَيْنَ" و"كَيْفَ" و"مَنْ" أسماءٌ دلّت على شيئين الاسميّةِ والاستفهامِ، وهذا قادحٌ في الحدّ. فالجوابُ: أنّ هذا إنمّا يكون كاسرًا للحدّ إن لو كان الاسمُ على بابه من الاستعمال، فأمّا وقد نُقل عن بابه، واستُعمل مكانَ غيره على طريق النيابة، فلا؛ وذلك أنّ "مَن" يدلّ على معنى الاسميّة بمجرَّدها، واستفادة الاستفهام إنمّا هو من خارج، من تقدير همزة الاستفهام معها، فكأنّك إذا قلت: "مَنْ عندَك؟ " أصلُه "أَمَنْ عندك؟ " فهما في الحقيقة كلمتان: الهمزةُ، إذ كانت حرف معنًى، و"من" الدالّةُ على المسمّى. لكنّه لمّا كانت "مَنْ" لا تُسْتعمل إلّا مع الاستفهام، استغني عن همزة الاستفهام للزومها إيّاها، وصارت "مَنْ" نائبةً عنها، ولذلك بُنيت؛ فدلالتُها على الاسميّة دلالةٌ لفظيّةٌ، ودلالتُها على الاستفهام من خارجٍ. ¬
ولو وُجد اسمٌ مُعْرَبٌ نحو "زيد" و"عمرو"، وهو يدلّ على ما دلّ عليه "مَنْ" من غير نيابةٍ، لكان قادحًا في الحدّ. وقد حدّه السيرافيّ بحدٍّ آخَرَ، فقال: "الاسم كلُّ كلمةٍ دلّت على معنّى في نفسها، من غير اقتران بزمان محصَّل"؛ فقولُه: "كلمة" جنسٌ للاسم، يشترك فيه الأضربُ الثلاثُ: الاسم، والفعل، والحرف. وقولُه: "تدلّ على معنى في نفسها" فصلٌ احترز به من الحرف، لأن الحرف يدّل على معنًى في غيره. وقولُه: "من غير اقتران بزمان محصَّل "فصلٌ ثانٍ جُمع بها المصادر إلى الأسماء، ومُنع الأفعال أن تدخل في حدّ الأسماء، لأن الأحداث تدل على أزمنة مُبْهَمة، إذ لا يكون حَدَثٌ إلّا في زمانٍ، ودلالةُ الفعل على زمان معلوم: إمّا ماض، وإمّا غير ماض. وقد اعترضوا على هذا الحدّ بـ "مَضْرِب الشُّوَّل" (¬1) و"خُفُوق النَّجْم" (¬2)، وزعموا أن "مضرب الشوّل" يدل على الضراب وزمنه، وذلك وقتٌ معلومٌ، وكذلك "خفوق النجم". وقد أُجيب عنه بأنّ "المضرب" وَضْعٌ للزمان الذي يقع فيه الضرابُ دون الضراب، فقولُنا: "مضرب الشوّل" كقولنا: "مَشْتًى" و"مَصِيفٌ". وقولُهم: "أتى مضربُ الشوّل"، و"انقضى مضربُ الشوّل"، كقولهم: "أتى وقتُه" و"ذهب وقتُه". و"الضرابُ" إنمّا فُهم من كونه مشتقًّا من لفظه. والحدودُ يراعَى فيها الأَوضَاعُ، لا ما يُفْهَم من طريق الاشتقاق، أو غيره، ممّا هو من لوازمه. ألا ترى أنّ "ضاربًا" يُفهَم منه "الضربُ"، لأنّه من لفظه؛ والمفعولُ، لأنّه يقتضيه، ولم يُوضَع لواحدٍ منهما، بل وُضع للفاعل لا غيرُ. وأمّا قول صاحب الكتاب في حدّه: "ما دل على معنى في نفسه دلالةً مجرّدةً عن الاقتران"؛ فقوله: "ما دلّ" ترجمةٌ عن الحقيقة التي يشترك فيها القُبُلُ الثلاثُ، نحو: "كلمةٍ"، ولو صرّح بها لكان أَدَلَّ على الحقيقة، لأنّه أقربُ إلى المحدود، إذ ما عامٌّ يشمل كلَّ دالّ من لفظٍ وغيره، و"الكلمةُ" لفظٌ، والاسمُ المحدودُ من قبيل الألفاظ، لكنّه وضع العامّ موضعَ الخاصّ. وقوله: "في نفسه" فصلٌ، احترز به عن الحرف، إذ الحرف يدلّ على معنًى في غيره. وقوله: "دلالةً مجرَّدةً عن الاقتران" فصلٌ ثانٍ، احترز به عن الفعل، لأنّ الفعل يدلّ على معنًى مقترنٍ بزمان. وحاصلُ هذا الحدّ راجع إلى الأوّل، وهو ما دلّ على معنى مفرد. ويُرَدّ على هذا الحدّ المصادرُ، وسائرُ الأحداثِ، لانّها تدلّ على معنًى وزمانٍ، وذلك أنّ أكثر النحويين يضيف إلى ذلك الزمانَ المحصَّلَ، لأنّ زمن المصادر مبهم. ورُبّما أوْردوا نَقْضًا "مَقْدَمَ الحاجِّ" و"خُفوقَ النَّجْمِ". والحقُّ أنّه لا يحتاح إلى التعرُّض، لقوله: "محصَّل"، لأنّا نريد بالدلالة الدلالةَ اللفظيةَ، والمصادرُ لا تدلّ على ¬
الزمن، من جهة اللفظ، وإنّما الزمان من لوازمها وضروراتِها، وهذه الدلالةُ لا اعتدادَ بها، فلا يلزم التحرُّرُ عنها، ألا ترى أن جميع الأفعال لا بدّ من وقوعها في مكان؟ ولا قائل أن الفعل دالٌّ على المكان، كما يقال أنّه دالٌّ على الزمن؟ وأمّا "خفوق النجم" فالمراد "وقت خفوق النجم"، فالزمنُ مستفادٌ من الوقت المحذوف، لا من الخفوق نفسه، على أنّا نقول: "المَضْرِبُ" و"المَقْدَمُ" زَمَنُ الضراب والُقدوم، وإنّما يُبيِّن بإضافته إلى الحاجّ والشُّوَّلِ، وذلك الزمنُ معلومٌ بالعُرْف، لا مفهوم من اللفظ ألا ترى أنّك لو أخليته من الإضافة، فقلت: "أتيتُ مَقْدَمًا"، لم يُفْهَم من ذلك زمانٌ، فعلمت أنّ هذه الألفاظ، مجرَّدةٌ عن الاقتران، أنفسُها. وأما اشتقاق الاسم فقد اختلف العلماءُ فيه، فذهب البصريون إلى أنّه مشتقّ من "السُّمُوّ"، وذهب الكوفيون إلى أنّه مشتقُّ من "السِّمَة"، وهي العلامة (¬1). والقول على المذهبَيْن أنّه لما كان علامة على المسمّى، يعلوه، ويدلّ على ما تحته من المعنى، كالطابع على الدرهم والدينار، والوَسْمِ على الأموال. وذهب البصريون إلى أنه مشتقُّ من "السُّمُوّ"، وهو العُلُوُّ، لا من "السِّمَة" التي هي العلامة. قال الزّجاج: "جُعل الاسم تنويهًا للدلالة على المعنى، لأنّ المعنى تحت الاسم". وذهب الكوفيون إلى أنَّه مشتقٌّ من "السّمَة" التي هي العلامة. وكلامُهما حسن من جهة المعنى، إلّا أنّ اللفظ يشهد معِ البصريين؛ ألا ترى أنّك تقول: "أَسْمَيْتُه"، إذا دعوتَه باسمه، أو جعلتَ له اسمًا. والأصلُ "أسْمَوْتُه"، فقلبوا الواو ياءً، لوقوعها رابعةً، على حدِّ "أَدْعَيْتُ" و"أَغْزَيْتُ"؛ ولو كان من "السمة" لقيل: "أَوْسَمْتُه"، لأنّ لام "السُّمُوّ" واوٌ تكون آخرًا، وفاء "السمة" واوٌ تكون أوّلاً. ومن ذلك قولهم في تصغيره: "سُمَيٌّ" وأصله "سَميْوٌ"، فقلبوا الواو ياءً، وادُّغمت، على حدّ "سيِّدٍ" و"مَيتٍ"، ولو كان من "الوَسْم" لقيل فيه: "وُسَيْمٌ"، فتقع الواوُ الأوُلى (¬2) مضمومةً، فإن شئت أقررتَها، وإن شئت همزتَها؛ على حدِّ "وَقَّتتُ" و"أَقَّتتُ"، وفي عدم ذلك، وأنّه لم يُقَل دليلٌ على ما قلناه. ومن ذلك قولهم في تكسيره: "أَسْماءٌ". وأصله: "أَسْماوٌ"، فوقعت الواو طرفًا وقبلها ألفٌ زائدةٌ، فقُلبت همزةً، بعد أن قُلبت ألفًا. ولو كان من الوسم لقيل فيه: "أَوْسامٌ". فليس لم يقل ذلك، دلّ على صحة مذهب البصريين، وأنّه من "السُّمُوّ". فإن ادُّعي القلبُ، فليس ذلك بالسهل، فلا يصار إليه وعنه مندوحةٌ. وفي الاسم لغاتٌ: "اِسمٌ" بكسر الهمزة، و"اُسم" بضّم الهمزة، و"سِمٌ" بكسر السين من غير همزة، وقالوا: "سُمٌ" بضمّ السين. قال الشاعر [من الرجز]: ¬
31 - باسمِ الّذي في كُلِّ سُورَةٍ سِمُهْ وقال الآخر [من الرجز]: 32 - وعامُنا أَعْجبَنَا مُقَدَّمُه ... يُدْعَى أَبَا السَّمْحِ وقِرْضابٌ سُمِهْ يروى بضمّ السين وكسرِها وقد ذُكر فيه لغة خامسة، قالوا: "سُمّى"، بزِنَةِ "هُدًى" و"عُلى". وأنشدوا [من الرجز]: 33 - واللهُ أَسْماك سُمًى مُبارَكا ¬
[خصائص الاسم]
ولا حجّةَ في ذلك؛ لاحتمالِ أن يكون على لغةِ من قال: "سُمٌ" ونَصَبَه، لأنّه مفعولٌ ثانٍ. فإن صحّت هذه اللغة من جهة أخرى فمجازُها أنّه تَمَّمَ الاسمَ، ولم يحذف منه شيئًا، كما تمّم الآخَرُ في "غَدًا"، فقال [من الرجز]: 34 - إنّ مع اليوم أخاه غَدْوَا [خصائص الاسم] قال صاحب الكتاب: "وله خصائص, منها: جواز الإسناد إليه، ودخول حرف التعريف عليه, والجر, والتنوين, والإضافة". * * * قال الشارح: - ختم اللهُ بالصالحات أعمالَه-: "الخصائصُ" جمعُ "خَصِيصةٍ"، وهي ¬
تأنيثُ "الخصيص"، بمعنى "الخاصّ"، ثمّ جُعلت اسمًا للشيء الذي يختصّ بالشيءِ، ويُلازِمه، فيكون دليلاً عليه، وأمارةً على وجوده كدلالة الحدّ، إلّا أنّ دلالة العلامةٌ دلالةٌ خاصة، ودلالة الحدّ دلالةٌ عامّةٌ؛ وذلك أنّك إذا قلت: "الرجل"، دلّت الألفُ واللامُ على خصوصِ كَوْنِ هذه الكلمة اسمًا، والحدُّ يدلّ على ضروب الأسماء كلَّها، والحدُّ يُشترط فيه الاطّرادُ والانعكاسُ، نحو قولك: "كلُّ ما دلّ على معنًى مفردٍ فهو اسمٌ، وما لم يدلّ على ذلك فليس باسم"، والعلامةُ يُشترط فيها الاطّرادُ دون الانعكاس، نحو قولك: "كلُّ ما دخل عليه الألفُ واللامُ فهو اسمٌ"، فهذا مطّردٌ في كلّ ما تدخله هذه الأداةُ؛ ولا ينعكس، فيقال: "كلُّ ما لم تدخله الألفُ واللامُ فليس باسم", لأنّ المضمرات أسماءٌ، ولا تدخلها الألف واللام، وكذلك غالبُ الأعلام والمبهماتِ، وكثيرٌ من الأسماء، نحو: "أَيْنَ"، و"كَيْفَ"، و"مَنْ"، لا تدخل الألف واللام شيئًا من ذلك، وهي مع ذلك أسماءٌ. ومن خواصّ الاسم جواز الإسناد إليه، فالإسنادُ وصفٌ دالٌّ على أنّ المسنَد إليه اسمٌ، إذ كان ذلك مختصًّا به, لأن الفعل والحرف لا يكون منهما إسنادٌ، وذلك لأنّ الفعل خبرٌ، وإذا أسندتَ الخبر إلى مثله لم تُفِد المخاطَبَ شيئًا، إذ الفائدة إنّما تحصل بإسناد الخبر إلى مُخْبَر عنه معروفٍ، نحو: "قام زيدٌ" و"قعد بكرٌ"؛ والفعلُ نكرةٌ لأنّه موضوعٌ للخبر، وحقيقةُ الخبر أن يكون نكرةً، لأنه الجُزْءُ المستفادُ، ولو كان الفعل معرفةً لم يكن فيه للمخاطب فائدةٌ, لأنّ حَّد الكلام أن تبتدىء بالاسم الذي يعرفه المخاطبُ، كما تعرفه أنت، ثمّ تأتي بالخبر الذي لا يعلمه، ليستفيدَه. ولا يصحُّ أن يُسْنَد إلى الحرف أيضًا شيءٌ، لأنّ الحرف لا معنَى له في نفسه، فلم يُفِد الإسنادُ إليه، ولا إسنادُه إلى غيره، فلذلك اختص الإسنادُ إليه بالاسم وحده. ومن خواص الاسم دخول حرف التعريف، وإنّما قال: "حرف التعريف"، ولم يقل: "الألف واللام"، على عادة النحويين لوجهَيْن: أحدُهما: أنّ الحرف عند سيبويه اللام وحدها، والهمزةُ دخلت توصُّلًا إلى النطق بالساكن، وعند الخليل أن التعريف بالألف والسلام جميعًا (¬1)، وهما حرفٌ واحدٌ مركَّبٌ من حرفَيْن، نحو: "هَلْ"، و"بَلْ"؛ فقال: "حرف التعريف"، ليشملَ المذهبَيْن. والوجه الثاني: أنَّه احترز به من اللغة الطائيّة، لأنّ لغتهم إبدالُ لام التعريف ميمًا، نحو قوله عليه السلام: "ليس مِن امْبِرّ امْصِيامُ في امْسَفَر" (¬2)، فعبَّرَ بحرف التعريف ليعُمّ اللغة الطائيةَ، وغيرَها. ¬
وإنما كان التعريف مختصًّا بالاسم، لأنّ الاسم يُحدَّث عنه، والمحدَّث عنه لا يكون إلّا معرفةً، والفعلُ خبرٌ، وقد ذكرنا أنّ حقيقة الخبر أن يكون نكرةً. ولا يصحّ أيضًا تعريفُ الحرف، لأنّه لمّا كان معناه في الاسم والفعل، صار كالجزء منهما، وجُزءُ الشيء لا يُوصَف بكونه معرفة ولا نكرةً، فلذلك كانت أداةُ التعريف مختصّة بالاسم، فأمّا ما رَواهُ أبو زيدٍ من قول الشاعر [من الطويل]: 35 - وَيستخرجُ (¬1) اليَرْبُوعَ من نافِقائه ... ومن جُحْرِهِ ذو الشيْخَةِ اليَتَقَصَّعُ فشاذٌّ في القياس والاستعمال. والذي شجّعه على ذلك أنّه قد رأى الألف واللام بمعنى "الّذي" في الصفات، فاستعملها في الفعل على ذلك المعنى. ومن خواصّ الاسم الجرّ، وذلك أنّه لا يكون في الفعل، ولا الحرفِ؛ أمّا الحروف فلأنّها مبنيّةٌ لا يدخلها الجرُّ، ولا شيءٌ من أنواع الإعراب، ولا ينعقد منها كلام مع غيرها ¬
فتحكم على محلّها بإعراب ذلك الموضع؛ وأمّا الفعل فَمِنْهُ ما هو مُعْرَبٌ، وهو المضارعُ، إلّا أنّه لا يدخله الجرُّ، وسنُوضِح (¬1) علّةَ امتناعه منه في موضعه من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى. ومن خواصّ الاسم التنوين، والمراد بالتنوين ههنا تنوينُ التمكين، نحو: "رجلٍ"، و"فرسٍ"، و"زيدٍ"، و"عمرٍو"، ولا يكون ذلك إلّا في الأسماء، فهو من خواصّها، لأنه دخل للفرق بين ما ينصرف من الأسماء، فلذلك كان خصيصًا بها، ولم يُرِد مُطْلَقَ التنوين؛ ألا ترى أنّ من جملة التنوين تنوينَ الترَنُّمِ؛ ولا تمتنع الأفعالُ منه، نحو قوله [من الوافر]: 36 - [أقِلّي اللَّومَ عاذِلَ والعتابَنْ] ... وقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصابَنْ ¬
ونحو قوله [من الرجز]: 37 - دايَنْت أَرْوَى والدُّيُونُ تُقْضَن ... [فمَطَلَتْ بَعْضًا وأَدّتْ بَغضَنْ] فبَيَّنَ بذلك أنّه ليس المراد مُطلَقَ التنوين. ومن خواصّ الاسم الإضافة. والمراد بالإضافة هنا أن يكون الاسم مضافًا، لا مضافًا إليه. وذلك مختصٌّ بالأسماء، إذ الغرضُ من الإضافة الحقيقيِّة التعريفُ، ولا معنى لتعريف الأفعال، ولا الحروفِ. فأمّا المضاف إليه فقد يكونْ فعلاً، نحو قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} (¬1)، وقولِ الشاعر [من الطويل]: 38 - على حِينِ عَاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبَا ... [وقلتُ ألَمَّا تَصْحُ والشَّيْبُ وازعُ] ¬
فلذلك لم يكن من خواصّ الاسم؛ فهذه الأشياءُ من غالب خصائص الأسماء، فكلُّ كلمة دخلها شيءٌ من هذه العَلامات، فهي اسمٌ ولا ينعكس ذلك. ¬
ومن أصناف الاسم
ومن أصناف الاسم اسمُ الجِنْس فصل [تعريفه وقسماه] قال صاحب الكتاب: "وهو ما علق على شيء وعلى كل من أشبهه. وينقسم إلى اسم عين، واسم معنى؛ وكلاهما ينقسم إلى اسم غير صفة، واسم هو صفةٌ. فالاسم غير الصفة نحو: "رجل", و"فرس", و"علم", و"جهل"؛ والصفة نحو: "راكب", و"جالس", و"مفهوم", و"مضمر". قال الشارح: اعلم أن اسم الجنس ما كان دالا علي حقيقةٍ موجودةٍ, وذواتٍ كثيرةٍ. وتحقيقُ ذلك أنّ الاسم المفرد إذا دلّ على أشياء كثيرة، ودلّ مع ذلك على الأمر الذي وقع به تشابُهُ تلك الأشياءِ تشابُهًا تامًّا، حتى يكون ذلك الاسمُ اسمًا لذلك الأمر الذي وقع به التشابُهُ، فإنّ ذلك الاسم يسمّى اسم الجنس، وهو المتواطىء كـ "الحيوان"، الواقع على الإنسان والفرس والثور والأسد، فالتشابُه بين هذه الأشياء وقع بالحياة الموجودة في الجميع. وكذلك إذا قلت: "إنسانٌ"، وقع على كلّ إنسان، باعتبار الأَدَميّة. وكذلك إذا قلت: "رجلٌ"، وقع على كلّ رجل، باعتبار الرجليّة، وهي الذُّكوريّةُ والأدميّةُ، وهذا معنى قوله: "ما عُلّق على شيء، وعلى كلِّ ما أشبهه". فإنْ دلّ الاسمُ المفردُ على أشياء كثيرة، ولم يدلّ على الأمر الذي تشابهت تلك الأشياءُ به، فإنّه يسمّى "المشترك"، مثل اسم "العَيْن" الواقع على العُضْو الذي يُبْصَر به، وعلى يَنْبُوع الماءِ، وعلى الذهَب وعلى عين الرُّكْبَةِ. واعلم أن الشمول تارةً يكون بالوجود نحو: "الإنسان"، و"الفرس"، و"الثور"، و"الأسد"، وتارةً يكون بالاستعداد والقوّة، نحو: "الشمس" و"القمر"، فإنّهما - وإن لم يكن لهما في الوجود مشارِكٌ - فهما شاملان بالقوّة. فإنّا لو قدّرنا خَلْقَ نِيرانِ تُماثِل الشمسَ والقمر، لأطلِقَ عليها اسم الشمس والقمر، باعتبار النور. * * *
قال: "وينقسم إلى اسم عين، واسم معنى". * * * قال الشارح: المراد باسم العين ما كان شَخْصًا يُدْرِكه البصرُ، كـ"رجلٍ"، و"فرسٍ"، ونحوهما من المَرئيّات. والمعاني عبارةٌ عن المصادر، كـ"العِلْم"، و"القُدْرَة"، مصدرَيْ "علم" و"قدر". وذلك ممّا يُدْرَك بالعقل دون حاسّة البصر. وكلاهما ينقسم إلى اسم هو صفة، وغير صفة. فالاسمُ غير الصفة ما كان جنسًا غيرَ مأخوذٍ من فعلٍ، نحو: "رجل"، و"فرس"، و"عِلْم"، و"جَهْل". والصفةُ ما كان مأخوذًا من الفعل، نحو: اسم الفاعل، واسم المفعول، كـ"ضارب"، و"مضروب"، وما أشبههما من الصفات الفعليّة؛ و"أَحْمَرَ" و"أَصْفَرَ"، وما أشبههما من صفات الحِلْية؛ و"بَصْريّ"، و"مَغْرِبيّ"، ونحوهما من صفات النسبة، كلُّ هذه صفاتٌ تعرفها بأنّها جاريةٌ على الموصوفين، ومثالُ جَرَيانها قولك: "هذا رجلٌ ضارب، ومضروبٌ"، وكذلك الباقي. فإن قيل: اشترطتم في الصفة أن تكون مأخوذةً من فعل، فما بالُك حكمت على "بصريّ"، و"مغربيّ" بأنّهما صفتان، وليسا من فعل؟ قيل: لمّا أضفتهما حَدَثَ فيهما معنى: الفعل، لأنهما صارا في معنى: منسوب أو مَعْزُوِّ. والفرق بين الصفة وغير الصفة من جهة المعنى؛ وذلك أنّ الصفة تدلّ على ذاتٍ وصفةٍ، نحو: "أَسْوَدَ"، مَثَلًا؛ فهذه الكلمةُ تدل على شيئين؛ أحدُهما الذاتُ، والآخرُ السوادُ، إلّا أنّ دلالتها على الذات دلالةُ تسميةٍ، ودلالتها على السواد من جهةِ أنّه مشتقٌّ من لفظه، فهو من خارج؛ وغيرُ الصفة لا يدل إلّا على شيءٍ واحد، وهو ذات المسمى. ولمّا قسم الأعيان والمعاني إلى صفاتٍ، وغير صفات، مثَّلَ بالأمْرَيْن؛ فـ "رجلَّ"، و"فرسٌ" من أسماء الأعيان غير الصفات، و"عِلْمٌ" و"جَهْلٌ" من أسماء المعاني، و"راكبٌ" و"جالسٌ" من صفات الأعيان؛ ألا ترى أنّها تجري صفاتٍ على أسماء الأعيان، نحو قولك: "رجلٌ راكبٌ"، و"غلامٌ جالسٌ"، و"مفهومٌ"، و"مُضْمَرٌ"، من صفات المعاني؛ ألا تراك تقول: "هذا معنَى مفهومٌ"، و"حديثٌ مضمرٌ"، أي: غيرُ بادٍ للأفهام، والمرادُ أنّ المعاني توصَف كما توصَف الأعيانُ، فاعرفه.
العلم
ومن أصناف الاسم العَلَمُ فصل [تعريف العلم وأقسامه] قال صاحب الكتاب: "وهو ما علق شيء بعينه, غير متناولٍ ما أشبهه, ولا يخلو من أن يكون اسمًا , كـ"زيد" و"جعفر"، أو كنية كـ "أبي عمرو" و"أم كلثوم"؛ أو لقباً كـ "بطة" و"فقة"". * * * قال الشارح: اعلم أن العَلَم هو الاسمُ الخاصُّ الذي لا أَخَصَّ منه. ويركَّب على المسمّى لتخليصه من الجنس بالاسميّة، فيُفرَّق بينه وبين مسمّياتٍ كثيرة بذلك الاسم، ولا يتناول مماثله في الحقيقة والصورة، لأنّه تسميةُ شيءٍ باسم، ليس له في الأصل أن يسمّى به على وجه التشبيه، وذلك أنّه لم يوضَع بإزاء حقيقةٍ شاملةٍ، ولا لمعنّى في الاسم، ولذلك قال أصحابنا: إنّ الأعلام لا تفيد معنًى، ألا ترى أنّها تقع على الشيء ومخالفِه وقُوعًا واحدًا؟ نحو: "زيد"، فإنّه يقع على الأسود كما يقع على الأبيض، وعلى القصير كما قد يقع على الطويل، وليست أسماءُ الأجناس كذلك؛ لأنها مفيدةٌ، ألا ترى أنّ"رجلًا" يفيد صيغةً مخصوصةٌ، ولا يقع على المرأة، من حيث كان مفيدًا؟ و"زيدٌ" يصلح أن يكون عَلَمًا على الرجل والمرأةِ، ولذلك قال النحويون: العَلَمُ ما يجوز تبديلُه وتغييرُه، ولا يلزم من ذلك تغيير اللغة، فإنّه يجوز أن تنقل اسمَ وَلدك وعبدِك من "خالدٍ" إلى "جعفرٍ"، ومن "بكرٍ" إلى "محمّدٍ"، ولا يلزم من ذلك تغييرُ اللغة؛ وليس كذلك اسمُ الجنس، فإنّك لو سمّيت الرجل فرسًا، أو الفرسَ جَملاً، كان ذلك تغييرًا للغة، وإنّما أُتي بالأعلام للاختصار، وترك التطويل، بتعداد الصفات، ألا ترى أنّة لولا العَلَمُ لاحتَجْتَ، إذا أردت الإخبار عن واحدٍ من الرجال بعينه، أن تُعدِّد صفاته، حتّى يعرفه المخاطَبُ، فأغنى الأعلامُ عن ذلك أجمعَ.
والعَلَمُ مأخوذٌ من عَلَم الأمير، أو عَلَم الثَّوْب، كأنه علامةٌ عليه يُعْرَف به. وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام: اسمٍ، نحو: "زيد" و"عمرو"؛ وكُنْيَةٍ كـ "أبي عمرٍو"، و"أُمّ كُلْثُومٍ"؛ ولقب، كـ"بَطَّةَ" و"قُفَّةَ". والكنيةُ لم تكن علمًا في الأصل، وإنّما كانت عادتهم أن يدعوا الإنسان باسمه، وإذا وُلد له ولدٌ دُعي باسم ولده توقيرًا له، وتفخيمًا لشأنه، فيقال له: أبو فلانٍ، وأمّ فلانٍ، ولذلك استقبحوا أن يكني الإنسانُ نفسَه. وقد يكنون الوليد، فيقولون: أبو فلان، على سبيل التفاؤل بالسلامة، وبُلوغِ سِنِّ الإيلاد. يقال منه: كنَوْت الرجل، وكنَيْته. وهو من الكِناية، وهي التَّوْرية. والكنية من الأعلام، وهي جاريةٌ مجرى الأسماء المضافة، نحو: عبد الله، وعبد الواحد. والذي يدلّ على أنّها أعلامٌ قولُ الشاعر [من البسيط]: 39 - ما زِلْتُ أَفْتَحُ أَبْوابًا وأُغْلِقُها ... حتّى أتيتُ أَبَا عمرِو بنَ عَمّارِ فحذف التنوين من "أبي عمرو", لأنّه لو لم يكن علمًا لما حُذف، بمنزلة حذفه من جعفرِ بن عمّار. وأمّا اللَّقَبُ فهو النَّبَزُ، كقولهم: "قُفَّةُ" و"بَطَّةُ"، لقبَيْن، فـ "قفّةُ" لقبٌ، و"بطّةُ" لقبٌ. و"القفّةُ": كاليَقْطِينَة، تُتّخَذ من الخُوص، يُشبَّه بها الكبيرُ، يقال: شيخ كالقفّة، وقيل للشجر البالية. ¬
وهذه الأقسام الثلاثة كلُّها ترجع إلى معنى واحد، وهو العَلَم، ولذلك لا يجوز تغييرها وتبديلها، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "وينقسم إلى مفرد, ومركب, ومنقول, ومرتجل. فالمفرد نحو: زيد وعمرو. والمركب إما جملة نحو برق نحره, تأبط شرًا وذري حباً وشاب قرناها ويزيد في مثل قوله: نُبّئْتُ أخوالي بني يَزيدُ ... ظُلماً علينا لهمُ فَديدُ وأما غيرُ جملة اسمان جعلا إسماً واحداً نحو: معد يكرب وبعلبك وعمرويه ونفطويه. أو مضاف ومضاف إليه كـ "عبد مناف" وامرئ القيس والكني. * * * قال الشارح: الاسم العَلَم يكون مفردًا، أو مركّبًا. فالمفرد هو الأصل، لأنّ التركيب بعد الإفراد، وذلك نحو: "زيد"، و"عمرو". والمرادُ بالإفراد أنّه يدلّ على حقيقة واحدة، قبل النقل وبعده. والمركَّبُ من الأعلام هو الذي يدلّ على حقيقة واحدة بعد النقل، وقبل النقل كان يدلّ على أكثر من ذلك. والمركّب على ثلاثة أضرب: جملةٌ، وهو كلُّ كلام عمِل بعضُه في بعضٍ، نحو: "ذرّى حَبًّا"، من قوله [من الرجز]: ¬
41 - إنّ لها مُرَكَّنّا إِرْزَبَّا ... كأنّه جَبْهَةُ ذَرَّى حَبَّا (¬1) ومثلُه "تَأَبَّطَ شرًّا" (¬2)، سمّي بذلك لانّه تأبّط حَيَّةً، فسمّي بذلك (¬3)؛ وهي جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ ومفعولٍ. ومن الجُمَل المسمَّى بها "شابَ قَرْناها"، قال الشاعر [من الطويل]: 42 - كَذَبْتُم وَبَيْتِ اللَّهِ لا تَنْكِحونها ... بني "شابَ قَرْناها" تَصُرُّ وتَحْلُبُ ¬
ومنه "بَرَقَ نخرُهُ"، وهو اسم رجل، وهو فعلٌ وفاعلٌ. ومثلُه "يَزِيدُ" في قوله [من الرجز]: نُبّئْتُ أَخْوالي بني يَزِيدُ ... ظُلْمًا علينا لَهُمُ فَدِيدُ وهو فعلٌ سمّي به، وفيه ضميرُ فاعلٍ، ولذلك حكاه مرفوعًا؛ ولو كانت التسميةُ بالفعل وحده، لكان من قبيل ما لا ينصرف، نحو: "تَغْلبَ" و"يَشْكُرَ". و"الفديد": الصوت، يقال: فَدُّ الرجلُ يَفِدُّ فَدِيدًا؛ إذا صَوَّتَ. ورجلٌ فَدّادٌ: شديدُ الصوت. و"بني يزيدُ" منصوبٌ على البدل من "أخوالي". و"لهم فديدٌ": جملةٌ من مبتدأ وخبر، في موضع المفعول الثالث. و"لهم": يتعلّق بمحذوفٍ. و"علينا": يتعلق بـ "لَهُم"، ولا يمتنع تقديمُه عليه، وإن كان العامل معنًى، كما قالوا: "كل يومٍ لك ثَوْبٌ"؛ ولا يعمل فيه "فديدٌ"، لأنّه مصدرٌ كـ "النَّهِيق"، و"النَّذِير"، فلا يتقدّم عليه ما كان من تمامه. و"ظُلْمًا": مصدرٌ في موضع الحال، أو مفعولٌ له، والعاملُ فيه فعلٌ محذوفٌ دلٌ عليه "لهُم فَدِيدٌ"؛ والتقديرُ: "حملوا علينا، أو شدّوا علينا ظُلْمًا"؛ ويجوز أن يكون "ظلمًا" نصبًا على أنَّه مفعول ثالث، أي: "ذوي ظُلْم"، ويكون "لَهُم فَدِيدُ" في موضع الحال، كالتفسير لقوله: "ظُلْمًا". وفي نُسَخ المفصّل: "يَزِيدُ" بالياء، وصوابُه "تَزِيدُ" بالتاء المعجمة بثنتَيْن من فوقها؛ وهو: "تَزِيد بن حُلْوان"، أبو قبيلةٍ معروفةٍ، إليه تُنْسَب البُرود التَّزِيدية. قال عَلْقَمَةُ [من البسيط]: 43 - رَدَّ القِيانُ جِمالَ الحَيّ فاحْتَمَلُوا ... فكلُّهم بالتَّزِيديَّاتِ مَعْكُومُ ¬
[العلم المنقول]
وإنّما سمّوا بالجُمَل ليُشبِّهوا حالَ المسمَّى بها بحالِ من يوصَف بالجملة، وهذا يقتضي الحكاية لأنّة يجرى مجرى المَثَل، فحكوا الكلامَ كما كان في أوّل حال. والثاني: من المركّبات: اسمان، رُكّب أحدهما مع الآخر، حتّى صارا كالاسم الواحد، نحو: "حَضْرَمَوْتَ" و"بَعْلَبَكَّ" و"مَعْدِيكرِبَ"، ويُشبَّه بما فيه تاءُ التأنيث، ولذلك لا ينصرف. ومن هذا النوع: "سِيبَوَيْهِ" و"نِفْطَوَيْهِ" و"عَمْرَوَيْهِ" إلّا أنّه مركَّبٌ من اسم وصوتٍ أَعْجمىٍّ، فانحطّ عن درجة "إسماعيلَ" و"إبراهيمَ"، فبُني على الكسر لذلك. الثالث: من المركّبات: المضاف، وهو ضربان: اسمٌ غيرُ كُنْيَةٍ، نحو: "ذي النُون" و"عبد الله" و"امرئ القَيْسِ"؛ وكنيةٌ، نحو: "أبي زيدٍ" و"أبي جَعْفَرٍ"، وقد مضى الكلامُ عليه قَبْلُ. * * * [العلم المنقول] قال صاحب الكتاب: "والمنقول على ستة أنواع: منقولٌ عن اسم عين كـ "ثور" و"أسد"؛ ومنقول عن اسم معنى: كفضل وإياس، ومنقول عن صفة كحاتم ونائلة؛ ومنقول عن فعل إما ماضٍ كشمر وكعسب، وإما مضارع كتغلب ويشكر، وإما أمر كـ "إصمت" في قول الراعي [من البسيط]: 44 - أَشْلَى سَلُوقيَةً باتتْ وباتَ بها ... بوَحْشِ إِصْمِتَ في أصْلابِها أَوَدُ ¬
وأطرقا في قول الهذلي [من المتقارب]: 45 - على أطْرِقا بالياتُ (¬1) الخيامِ ... إلا الثمام وإلا العصي ومنقول عن صوت كـ "ببة"، وهو نبز "عبد الله بن الحارث بن نوفل"؛ ومنقول عن مركب وقد ذكرناه". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الأعلام على ضربَيْن: منقولٌ ومرتجلٌ، والغالبُ عليها النقل. ومعنى النقل أن يكون الاسمُ بإزاء حقيقةٍ شاملةٍ، فتنقله إلى حقيقةٍ أخرى خاصّةٍ، وليس لها أن تُسَمَّى به (¬2) في الأصل. وهو على ثلاثة أضرب: منقولٌ عن اسم، ومنقولٌ عن فِعْل، ومنقولٌ عن صوت. فامّا الأوّل: وهو النقل عن الأسماء، فضربان: عَينٌ ومعنى. فالعينُ يكون اسمًا وصفةً؛ فالمنقولُ عن الاسم غيرِ الصفة نحو رجل سُمّي بـ "أسدٍ" أو"ثَورٍ" أو"حَجَرٍ"، هي في الأصل أسماءُ الأجناس لأنّها بإزاء حقَيقهٍ شاملةٍ، وإنّما نقلتَها إلى العلميّة، فصارت لذلك تدلّ على مخصوصٍ بعد أن كانت تدلّ على شائعٍ. والمنقول عن الصفة نحو"مالكٍ" و"فاطِمةَ"؛ فهذان الاسمان وَصْفان في الأصل لأنّهما اسما فاعلَين (¬3)، تقول: "هذا رجلٌ مالكٌ"، فهو "فاعلٌ" من المُلْكِ، قال الله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬4)، وقال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ} (¬5). و"فاطمةُ": "فاعلَةُ" من: "فطمتِ الأُمُّ وَلَدَها، فهي فاطمةٌ". وكذلك "حاتِمٌ" و"نائِلَةُ": "حاتمٌ": "فاعلٌ" من: "حتمتُ الأمر إذا أحكمتَه"، أو من "الحَتْم"، وهو القضاء. و"نائلةُ": "فاعلةُ" من: "نُلْته نَوْلًا، ونَوَّلْتُه"، أي أَعْطَيْتُه، فهذه في الأصل ¬
أوصافٌ لأنّها أسماءُ فاعلين، ثمّ نقلت فصارت أعلامًا، كما صار أسَدٌ وثَوْرٌ كذلك. وما نُقل عن الصفة وفيه اللامُ المُعرَّفة، فإنّها تقرّ فيه بعد النقل، نحو: "الحارث"، و"العبّاس". وما نُقل منها مجرَّدًا من الألف واللام، لم يجز دخولُهما عليه بعد النقل نحو: "سعيدٍ" و" مُكْرَمٍ" و"حاتم" و"نائلةَ". وما فيه الألفُ واللامُ بعد النقل، فإشعارٌ فيه بتَبْقية معنى الصفة، ولذلك يجرى عليه أحكامُ الصفة، كما قال الأعشى [من الطويل]: 46 - أتاني وَعِيدُ الحُوصِ من آلِ جَعْفَرٍ ... [فَيَا عَبْدَ عَمْرٍو لو نَهَيْتَ الأحَاوِصَا] فجمعه جمعَ الصفة كما تجمعه قبل النقل، على حدّ "أَحْمَرَ"، و"حُمْرٍ". قال الخليل "كأنّهم جعلوه الشيء بعينه" (¬1)؛ يريد أنّهم لمحوا اتّصافَه بمعنى ذلك الاسم. وأمّا ما نقل من الأسماء، وهو معنى، نحو: "فَضْل" و"إياس" و"زيد" و"عمرو"، فهذه كلها معانٍ لأنّها مصادرُ في الأصل فـ "فَضْلٌ" مصدرُ "فَضَلَ يَفْضُلُ فَضْلًا"، و"إِيَاسٌ" مصدرُ "آسَه يَؤُوسُه إِيَاسًا وأَوْسًا" إذا أَعْطاه، و"زَيْدُ" مصدرُ "زادَ يَزِيدُ زَيْدًا وزِيادةً". فأمّا قوله [من البسيط]: 47 - وأَنْتُمُ مَعْشَرٌ زَيْدٌ على مائةٍ ... فأَجْمِعُوا أَمْرَكُم طُرًّا فكِيدُونِي ¬
شرح المفردات
فإنه مصدرٌ وُصف به على حدّ قولك: "رَجُلٌ عَدْلٌ"، و"ماءٌ غَوْرٌ". وأمّا الثاني: وهو ما نقل عن الفعل، فقد نُقل من ثلاثة أفعالٍ: الماضي، والمضارع، والأمرِ. فالماضي نحو: "شَمَّرَ"، اسمِ رجلٍ، وهو منقولٌ من "شمّر إزارَه" إذا رفعه، و"شمّر في الأمر" إذا خَفَّ، ومنه: "ناقةٌ شِمِّيرٌ" أي: سريعةٌ، ومثلُه: "خَضَّمُ بن عمرو بن تميم". قال الشاعر [من الرجز]: 48 - لولا الإِلهُ ما سَكَنَّا خَضَّمَا ... ولا ظَلِلْنا بالمَشائِي قُيَّمَا أي بِلادَ "خَصّمَ"، يعني بلاد بني تميم. ¬
ومن المسمّين بالماضي "كَعْسَبُ"، وهو من "الكعسبة"، وهو: العَدْو السريع، وهو رُباعيٌّ. ومثلُه "تَرْجَمُ"، من قولهم: "تَرْجَمَ عن الشيء". وأمّا "دُئِلُ" فقبيلةُ أبي الأسود، فإنّ سيبويه لم يذكره في أبنية الأسماء. وذكر الأخفش أنّه قد جاء في المعارف؛ والمعارفُ غيرُ معوَّلٍ عليها في الأبنية، لأنّه يجوز أن يسمّى الرجل بما لا نظير له في الكلام. وذكر الأخفش أنّه اسمُ دُوَيْبَّهٍ تُشْبِه ابنَ عِرْسٍ. وأنشد [من المنسرح]: 49 - جاؤوا بجَيْشٍ لو قِيسَ مُعْرَسُهُ ... ما كان إلّا كَمُعْرَسِ الدُّئلِ فعلى ذلك تَحتمل قبيلةُ أبي الأسود أن تكون من هذا، فتكون كـ"أَسَد"، و"ثَوْرٍ"؛ والآخر أن يكون منقولاً من الفعل، مثل "شَمَّر"، و"خَضَّمَ"؛ من قولك: "دَأَلَ يَدْأَلُ"، وهو مَشْىٌ فيه بَغْىٌ ونشاطٌ، كأنّه قيل: "دُئلَ في هذا المكان"، كما يقال: "سِيرَ فيه"، و"عُدِيَ فيه"، ثمّ سُمّي به مفردًا. وأمّا المضارع، فنحو "يَشْكُرَ"، و"تَغْلِبَ"، و"يَزِيدَ"؛ وهو كثيرٌ. وأمّا الأمر، فنحو قولهم في الفَلاة: "إِصْمتُ"، و"إِصْمِتَةُ". قال الشاعر [من البسيط]: أَشْلَى سَلُوقِيَّةً باتَتْ وباتَ بها ... بوَحْشِ إِصْمِتَ في أصْلابِها أَوَدُ (¬1) قوله: "أشلى"، أي: دعا، يقال: أَشْلَى الكَلْبَ إذا دعاه، وآسَدهُ إذا أغراه بالصَّيْد. والضميرُ في "أشلى" يعود إلى الصائد. و"سلوقيّةٌ": منسوبةٌ إلى "سَلُوقَ"، وهي قريةٌ ¬
باليَمَن، يُنْسَب إليها السيوف والكِلاب. والضميرُ في "باتت" يعود إلى "سلوقيّة"، والضمير في "بات" يعود إلى الصائد. و"إِصْمِتُ": فلاةٌ بعينها، كأنه في الأصل فعلُ أمرٍ من "صَمَتَ يَصْمُت إذا سكت"، كأنّ إنسانًا قال لصاحبه "اصْمِتْ"، يُسْكِته ليسمع حِسَّا؛ أو يكون في فَلاةٍ يُسْكِت المرء فيها صاحبَه خَوفًا، فسُمّي المكان بالفعل خاليّا من الضمير، ولذلك أعربه، ولم يصرفه للتعريف والتأنيث. والمسموعُ في مضارع "صَمَتَ يَصْمُتُ" بالضمّ؛ والكسرُ هنا إمّا أن يكون لغة، أو من تغيير الأسماء، كما قُطَعت الهمزة في التسمية. وذلك أنّ همزة الوصل إنّما حقُّها الدخولُ على الأفعال، وعلى الأسماء الجارية على تلك الأفعال؛ نحو: "انطلق انطلاقًا"، و"اقتدر اقتدارًا". فأمّا الأسماء التي ليست بجارية على أفعالها فألفُ الوصل غيرُ داخلة عليها، إنّما دخلت على أسماء قليلة، نحو: "ابْنٍ"، و"ابْنَةٍ"، و"اثْنَيْنِ"، و"اثنَتَيْنِ"، و"امْرِىءِ"، و"امْرأَةٍ"، و"اسْم"، و"اسْتٍ"، وليس هذا منها؛ وإذا نُقل الفعل إلى الاسم، لزمته أحكامُ الأسماء، فقُطعت الألف لذلك. ورُبّما أنّثوا فقالوا: "إِصْمِتَةُ"، إيذانًا بغَلَبَة الاسميّة بعد التسمية، وشجّعهم على ذلك تأنيثُ المسمّى وهو المَفازة. و"الأصلاب": جمع "صُلْبٍ"، وهو الظهْر. و"الأوَدُ": الاعوجاج؛ والمراد أنها ذات هُبوطٍ وصُعودٍ وهي مُوحِشَةٌ. فأمّا "أَطْرِقَا" في قول الهُذَليّ [من المتقارب]: على أَطْرقَا بِالياتُ الخِيا ... مِ إلاَّ الثُّمامَ وإلا العِصِي (¬1) فإنّ البيت لأبي ذُؤَيْبٍ الهذليّ من قصيدةٍ أوّلُها: عرفتُ الدِيارَ كرَقْمِ الذُّوِي ... يُذَبِّرُها الكاتبُ الحِمْيَرِي وهذه القصيدة تُرْوَى مطلقةً مرفوعةً، وتروى مقيَّدةً ساكنةً، وهي من المتقارب. فمن أطلقها كانت من الضرب الأوّل، ووزنُه "فعولن": "عِصِيْ يو"، ومن قيّدها كانت من الضرب الثالث، وهو المحذوف، ووزنه "فعلْ": "عِصِيْ". و"أَطْرِقَا": اسم بلدٍ؛ قال الأصمعيّ: "سُمّي بقوله: أَطْرِقْ، أي اسْكُتْ، كأنّ ثلاثةً قال أحدهم لصاحبَيْه: أَطْرِقَا، أي: اسْكُتَا لنسمع، فسُمّي المكان أطرقا". وموضعُ "عَلَى أَطْرِقَا" نصبٌ على الحال من الديار، وكذلك "بِالياتِ الخِيام" نصبٌ على الحال، أيضًا والمراد: عرفت الديار على "أطرقا"، أي في هذه الحال. وقوله: "إلَّا الثُّمامَ وإلّا العصي" يروى "الشام" بالرفع والنصب؛ فمن نصب، فلا إشكال فيه لأنّه استثناءٌ من موجَب، ومَن رفع فبالابتداء، والخبر محذوفٌ، والتقدير: "إلَّا ¬
الثمامُ وإلاّ العصي لم تَبْلَ"، ومَن نصب "الثمام" ورفع "العصيّ" فإنّه حمله على المعنى، وذلك أنّه لمّا قال: "بَلِيَتْ إلَّا الثمامَ"، كان معناه "بقي الثمامُ"، فعطف على هذا المعنى وتوهُّم اللفظ. ومثله قول الآخر [من الطويل]: 50 - وعَضُّ زمانٍ يا ابنَ مَرْوانَ لم يَدَعْ ... من المال إلَّا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ ألا ترى أنّه رفع "أو مجلّف" على معنَى: "بقِي من المال مُسْحَتٌ". ونحوٌ منه قوله [من الطويل]: 51 - غَداةَ أَحَلَّتْ لابن أَصْرَمَ طَعْنَةٌ ... حُصَيْنٍ عَبِيطاتِ السَّدائفِ والخَمْرُ ¬
وذلك أنّه رفع "الخمر" على توهُّم رفع "العبيطات", لأنّه إذا أحَلَّتْها الطعنةُ، فقد حلَّتْ هي. ومَنْ قيّد القافية، جاز أن يكون "العصي" مرفوعًا كالمطلقة، على ما ذكرناه، وجاز أن يكون منصوبًا بالعطف على "الثمام"، إلا أنّه أسكن للوقف، وما فيه الألف واللام يكون الوقف عليه كالمرفوع والمجرور. وفي "أطرقا" ضميرٌ، وهو الألف التي هي ضمير التثنية. فإن قيل: فإذا سُمّي به وفيه ضميرٌ فإنّه يكون جملةً، فينبغي أن يُذْكَر مع الجُمَل المَحْكِيّة في المركَّبات، نحو: "تَأَبَّطَ شَرَّا" و"شَابَ قَرْنَاهَا"، فالجواب أنّ "أطرقا" له جِهتان: جهةُ كَوْنِه أمرًا، وجهةُ كونه جملةً، فأورده ههنا من حيث إنّه أمرٌ، ولو أورده في المركَّبات من حيث هو جملةٌ، لجاز. وقد روى بعضهم: "عَلَا أَطْرُقًا" بضمّ الراء، كأنّه جعله جمعَ "طرِيقٍ"، وجَعَل (¬1) "عَلَا" فعلاً من "العُلُوّ"، وفيه ضميرٌ، كأنّه قال: "السبيلُ عَلَا أطْرُقًا"، وعلى هذا يكون قد أنَّثَ "الطريق", لأنّ "فَعِيلاً" و"فُعالاً"، إنّما يجمعان على "أفعُل" إذا كان مؤنثًا، نحو"عَناقٍ وأعنُقٍ"، و"عُقابٍ وأعْقُبٍ"، ويكون "باليات الخيام" صفةَ "أطرُقٍ". وقيل: "أَطْرِقا" بالكسر: جمع طريق في لغة هُذَيْل؛ تقوّي هذه المقالةَ روايةُ مَن قال: "أَطْرُقا" بالضمّ؛ ومجازُ ذلك أن يكون مقصوًا من "أَطْرِقاءَ"، كأنّه جمَعَ "فَعِيلاً" على "أَفْعِلاء" كـ "صَدِيق وأَصْدِقاءَ"، ثمّ حُذفت الألف الأولى التي للمدّ، فعادت ألف التأنيث إلى أصلها، وهو القصر، وينبغي أن تُكْتَب الألف بالياء على حدّ كَتْبها في "حُبارَى" و"سُمانَى"، ولا شاهد فيه على هذَيْن الوجهَيْن. والثالث: الصوت قد نُقل الصوت إلى العَلَم، كما نقل الاسم والفعل. من ذلك تسميةُ عبد الله بن الحارث بـ "بَبَّة"؛ فيه صوتٌ كانت أُمُّه تُرْقِصه به وهو صبيٌّ، وذلك قولها [من الرجز]: 52 - لأُنْكِحَنَّ بَبَّهْ ... جاريةً خِدَّبَّهْ ¬
[العلم المرتجل]
مُكْرَمَةً مُحَبَّهْ ... تَجُبُّ (¬1) أَهْلَ الكَعْبَهْ فغلب عليه، فسُمّي به. [العلم المرتجل] قال صاحب الكتاب: "والمرتجل علي ضربين: قياسيّ, وشاذٌّ. فالقياسيّ نحو:"غَطَفانَ, وعمران, وحمدان, وفَقعسِ, وحنتفِ". والشاذّ نحو: "محبب, وموهب, وموظب, ومكوزة, وحيوة"". * * * قال الشارح: اعلم أنَّ المرتجَل في الأعلام ما ارتُجل للتسمية به، أي اختُرع ولم يُنْقَل إليه من غيره؛ من قولهم: "ارتجل القصيدة والخُطْبَةَ"، إذا أتى بها عن غير فكْرةٍ وسابقةِ رويَّةٍ. واشتقاقُه من "الرَّجْل"، كأن الشاعر والخطيب أنشأهما وهو على رِجْله في حال الإنشاء. وهو على ضربَيْن، كما ذكر، قياسيّ وشاذّ. والمراد بالقياسيّ أن يكون القياس قابلاً له غير دافعه، وذلك نحو: "حَمْدانَ"، و"عِمْرانَ"، و"غَطَفانَ"، و"فَقْعَسٍ"، و"حَنْتَفٍ"، فهذه الأسماء مرتجلةٌ للعَلَميّة، لأنّها لم تكن موضوعة بإزاء شيءٍ من الأجناس، ثمّ نُقلت منه إلى العلميّة، وإنّما بُنيت صيغها من أوّلِ مرّة للعلميّة. وكونُ القياس قابلاً لها من حيث إنّ لها نظيرًا في كلامهم، فـ "حمدان" في العلم كـ"سَعْدانٍ" اسم نَبْتٍ، و"صفْوانٍ" للحَجَر الأَمْلَس؛ و"عِمران" كـ"سِرْحانٍ" وهو الذئْب، و"حِرْمانٍ وعِصْيانٍ" ¬
فصل [اجتماع الاسم واللقب]
مصدرَيْن، و"فقعس" مثل "سَلْهَبٍ"، وهو الطويل، اسم رجل من بني أَسَدٍ، وهو"فَقْعَسُ ابن طريف"؛ و"حنتف" اسم رجل أيضًا، وهما حنتفان: "حَنْتَفٌ" وأخوه "سَيْفٌ" ابنا "أَوْس بن جُرَيّ اليَرْبُوعيّ"، وليس فيهما خروجٌ عن مقتضى القياس من إظهار تضعيفٍ أو تصحيح مُعْتَلٍّ، نحو: "حَيْوَةَ"، و"مَكْوَزَةَ". ومن المرتجل المعدول نحو: "عُمَرَ"، و"زُفَرَ" و"زُحَلَ" كلُّه مرتجلٌ، لأنّه لا يُعْدَل إلَّا في حال التعريف. وأمّا الشاذّ فما كان بالضدّ ممّا ذُكر، ممّا يدفعه القياسُ؛ فمن ذلك "مَحْبَبٌ" اسمُ رجل؛ القياسُ فيه "مَحَبٌّ" بالإدغام، نحو "مَقَرٍّ" و"مَرَدٍّ"؛ لأنّه "مَفْعَلٌ" من "المَحَبَّةِ" والميمُ زائدةٌ، لقولك: "أحببت"، و"حببت"، ولو كان أصلاً، لجاز أن يكون من قبيل "مَهْدَدٍ" مُلْحَقًا بـ "جَعْفَرٍ"، وإظهارُ التضعيف لذلك، إلَّا أنّه ليس في كلام العرب تركيبُ "م ح ب"، فلذلك كان من الشاذّ. ومن ذلك "مَوْهَبٌ" في اسم رجل، و"مَوْظَبٌ" في اسم مكان. وكلاهما شاذّ، لأن ما فاؤُه واوٌ لا يأتي منه "مَفْعَلٌ" بفتح العين، إنّما هو "مَفْعِلٌ" بكسرها، نحو: "مَوْضِعٍ"، و"مَوْقِعٍ"، و"مَوْرِدٍ"، و"مَوْجِلٍ"، و"مَوْعِدٍ". ومن الشاذّ "مَكْوَزَةُ"، و"مَزْيَدٌ"، قياسُهما "مَكازَة"، و"مَزاد"، كـ "مَفازَةٍ" و"مَعاشٍ"؛ تُقْلَب الواو والياء فيهما ألفًا بعد نقل حركتهما إلى ما قبلهما، ومثله في الشذوذ "مَرْيَمُ"، و"مَدْيَنُ"، لا فَرْقَ بين الأعجميّ والعربيّ في هذا الحكم. ومن الشاذّ "حَيْوَةُ" اسم رجل، وأصله "حَيَّةُ" مضاعفَ الياء، لأنّه ليس في الكلام "حَيْوَةُ"، فقلبوا الياء واوًا، وهذا ضدّ مقتضى القياس؛ لأنّ القياس يقتضي إذا اجتمعت الياء والواوُ، وقد سبقت الأوُلى منهما بالسكون، أن تُقْلَب الواو ياءً على حدّ "سَيَّدٍ ومَيِّتٍ"، وأمّا أن تجتمع اليَاءانِ فتُقْلَب الياءُ واوًا، فلا. فصل [اجتماع الاسم واللقب] قال صاحب الكتاب: "وإذا اجتمع للرجل اسمٌ غيرُ مضاف, ولقبٌ, أضيف اسمه إلي لقبه, فقيل: هذا "سعيدُ كُرْزٍ", و"قيسُ قفّة", و "زيدُ بطَّةَ". وإذا كان مضافًا, أو كنية, أُجري اللقب علي الاسم, فقيل: هذا "عبدُ الله بطةُ" وهذا "أبو زيد قفةُ". * * * قال الشارح: اعلم أنّك إذا لقّبتَ مفردًا بمفرد، وأضفته إليه، نحو: "سعيد كُرْزٍ"، كان اسمُه "سعيدًا"، ولقبُه "كرزًا"؛ فلمّا جُمع بينهما، أُضيف العَلَم إلى اللقب، وكذلك "قَيْسُ قُفَّةَ"، و"زيدُ بَطَّةَ"؛ وإنّما فعلوا ذلك لئلّا يخرجوا عن منهاج أسمائهم، ألا ترى أنّ
أصل أسمائهم إمّا مفردٌ كـ"زيد"، وإمّا مضافٌ كـ"عبد الله"، و"امرئ القيس"، و"أبي بكرٍ"، و"أُمّ جَعْفَرٍ". وليس في كلامهم اسمان مفردان لمسمًّى واحدٍ يُستعمل كلّ واحد منهما مفردًا. فلو جمعوا بين الاسم واللقب مفردَيْن، لا على سبيل الإضافة، لخَرجوا عن منهاج استعمالهم، ولم يكن له نظيرٌ؛ فأضافوا العَلَم إلى اللقب ليجروا على عادتهم في ذلك، ويكون له نظيرٌ في كلامهم، نحو: "عبد الله"، وشِبهِه. فإذا أضفت الاسم إلى اللقب، صار كالاسم الواحد، وسُلب ما فيه من تعريف العلميّة، كما إذا أضفته إلى غير اللقب، نحو: "زيدكم"، فصار التعريفُ بالإضافة. وجُعلت الألقاب معارف، لأنّها قد جرت مجرى الأعلام، وخرجت عن التعريف الذي كان لها بالألف واللام قبل التلقيب؛ كما أنّا إذا قلنا: "الشمس"، كان معرفةً بالألف واللام، وإذا قلنا: "عَبْدُ شَمْس"، كان من قبيل الأعلام. فإن قيل كيف جازت إضافة الاسم إلى اللقب، وهما كشيء واحد؟ وهل هو إلَّا إضافة الشيء إلى نفسه؟ فالجوابُ أن العلم إذا أُضيف إلى اللقب، وابتزّوا ما فيه من تعريف العلميّة، صار للمسمّى لا غير؛ والمسمّى يضاف إلى الاسم، نحو: "ذاتَ مرّةٍ"، و"ذا صباح"، ونحو قوله [من الطويل]: 53 - إِلَيْكُمْ ذَوِي آلِ النَّبِيِّ تَطَلَّعَتْ ... [نوازعُ منْ قلبي ظِماءٌ وألْبُبُ] والإضافة على هذا حقيقيةٌ بمعنى لام المِلْك والاختصاص، فقولك: "قيسُ قُفَّةَ" أي: المختصّ بهذا اللقب، أو كأن هذه اللفظةَ ملَكتِ اللقبَ. ¬
فصل [العلم المختص بالحيوان]
فإن كان العلم مضافًا، أفردوا اللقب، كقولهم: "عبدُ الله بَطَّةُ"، ليصير بمنزلة "أبي بكر زيدٍ"، فيكون من قبيل عطف البيان. فـ "عبدُ الله" كـ "أبي بكرٍ" و"بَطَّةُ" كـ "زيد"، فلم يخرج عن حدّ استعمالهم. فصل [العلم المختصّ بالحيوان] قال صاحب الكتاب: "وقد سمّوا ما يتخذونه, ويألفونه, من خيلهم وإبلهم وغنمهم وكلابهم, وغير ذلك, بأعلام, كلُّ واحد منها مختصّ بشخص بعينه, يعرفونه به؛ كالأعلام في الأناسيّ, وذلك نحو: أعوج, ولاحق, وشدقم, وعليانَ, وخطَّة, وهيلةَ, وضمرانَ, وكسابِ". * * * قال الشارح: اعلم أن الأعلام وُضعت على الأشخاص، ليتميّز بعضُها من بعض. والأشخاصُ على ضربَيْن: أدميّةٌ وغيرُ أدميّة. فالأدميّةُ قد تقدّم شرحُها. وغيرُ الأدميّة على ضربَيْن: منه ما يُتّخذ ويؤلَف كالخيل والإبل والغنم والكلاب، فيحتاجون إلى التمييز بين أفراد ذلك الجنس، فوضعوا لها أعلامًا، ليمتازَ كلُّ شخص باسم ينفرد به كالأناسيّ. وذلك نحو: "أَعْوَجَ" وهو فرسٌ مشهورٌ للعرب، كان في الجاهليّة سابقًا يُنسَب إليه الخيل الأعوجيّة. قال الشاعر [من الطويل]: 54 - نَجَوْت ولم يَمْنُنْ عليك طلاقةً (¬1) ... سِوَى جَيّدِ التقريبِ مِن آلِ أعْوَجا ¬
و"لاحقٌ" وهو فَرَسٌ، كان لمعاوية بن أبي سُفيان - رحمه الله - مشهورٌ، واسمُ فَحْلٍ كان لـ"غنيّ" أيضًا. و"شَدْقَمٌ" وهو فَحْلٌ من الإبل كان للنّعمان. و"عُلَيّانُ": جملٌ كان لكليب بن وائل. قال [من المتقارب]: 55 - وَدُونَ عُلَيّانَ خَرْطُ القَتادِ و"خُطَّةُ"، و"هَيْلةُ"، وهما عَنْزا سَوْءٍ. وقيل "هَيْلَةُ": شاةٌ كانت لقوم من العرب، مَنْ أساء إليها درّتْ له بلبَنها، ومن أحسن إليها وعلّفها نطحته، فكانت العرب تضرب بها المثل. وفي المثل: "لَعَنَ الله مِعْزى خَيْرُها خُطَّةُ" (¬1). وقال الكُمَيْت يخاطب الأبْرَش الكَلْبيّ [من الوافر]: 56 - فإِنّك والتَّحَوُّلَ عن مَعَدّ ... كَهَيْلَةَ قبلنا والحالِبينا و"ضُمْرانُ": وهو كَلْبٌ. و"كَسابِ": وهي كَلْبةٌ. ¬
فصل [علم الجنس المختص بالحيوان]
فصل [علم الجنس المختصّ بالحيوان] قال صاحب الكتاب: "وما لا يُتخذ, ولا يؤلف, فيحتاج إلى التمييز بين أفراده, كالطير, والوحوش, وأحناش, الأرض, وغير ذلك, فإن العلم فيه للجنس بأسره, ليس بعضه أولى به من بعض. فإذا قلت: "أبو براقش"، و"ابن دأية"، و"أسامة"، و"ثعالة"، و"ابن قترة"، و"بنت طبق"، فكأنك قلت: الضرب الذي من شأنه كيت وكيت. ومن هذه الأجناس ماله اسم جنسٍ, واسم علم, كـ "الأسد" و"أسامة" و"الثعلب" و"ثعالة"؛ وما لا يعرف له اسمٌ غير العلم, نحو "ابن مقرضٍ" و"حمار قبّان". وقد صنعوا في ذلك نحو صنيعهم في تسمية الأناسيّ، فوضعوا للجنس اسمًا وكنيةً، فقالوا للأسد "أسامة" و"أبو الحارث"، وللثعلب: "ثعالة" و"أبو الحصين"، وللضبع "حضاجر" و"أم عامر"، وللعقرب: "شبوة" و"أم عريط". ومنها ما له اسم ولا كينة له, كقولهم: "قثم" للضِّبعان، وما له كنيةٌ ولا اسم له, كـ "أبي براقش", و"أبي صبيرة", و"أم رباحٍ" و"أم عجلان"". * * * قال الشارح: اعلم أن العَلَم في هذا الفصل واقعٌ على الجنس، بخلاف ما تقدّم من الأعلام؛ فإنّه واقعٌ على الأشخاص كـ"زيد"، و"عمرو"، فالعلمُ فيه يختصّ شخصًا بعينه، لا يشاركه فيه غيرُه؛ وعلم الجنس يختصّ كل شخص من ذلك الجنس يقع عليه ذلك الاسم، نحو: "أُسامَةَ"، و"ثُعالَة"، فإنّ هذين الاسمَيْن يقعان على كلَّ ما يُخْبَر عنه من الأسد ومن الثعلب. وإنّما كان العلم ههنا للجنس، ولم يكن كالأناسيّ، وذلك لأنّ لكل واحد من الأناسيّ حالاً مع غيره، من معاملةٍ أو مبايعةٍ، فاحتاج إلى اسم يخصّه دون غيره، ليُخْبَر عنه بما له وعليه. وكذلك ما يتّخذه الناسُ ويثبت عندهم ويألفونه من خيلهم وإبلهم وكلابهم. وقد يجعلون لكلّ واحد (¬1) منها لقبًا يخصّه دون غيره، نحو: "أَعْوَجَ" و"لاحِقٍ"، وذلك أنّه قد يختصّ بزيادة حُسْنٍ، أو فَضْلِ عَدْوٍ، فاحتيج لذلك إلي لتمييز بين أفراده بالألقاب الخاصّة، ليُخْبَر عن كلّ واحد بما فيه من المعنى، أو يُؤْمَر له بزيادة نَظَرٍ. وأمّا هذه السباع التي لا تثبت عندهم، فلا يُحْتاج (¬2) إلى الفصل بين أفرادها، فإذا لحقها لقبٌ كان ذلك لكلّ واحد من أشخاص ذلك الجنس أجمعَ، فإذا قلت: "أُسَامَةُ"، أو"ثُعالَةُ"، ¬
أو"ابن قِترَةَ"، فكأنّك قلت هذا الضرب الذي رأيته، أو سمعت به من السباع، أو غيرها (¬1). وهي أعلامٌ معارفُ، لا محالةَ؛ يدلّ على أنّها معارفُ أنّ ما كان منها مضافًا فتعريفُه بيّنٌ بترك صَرْفِ ما أضيف إليه، نحو: "ابن قترةَ"، و"حمار قبّانَ". وما كان منها مفردًا فهو معرفة بامتناعه من الألف واللام اللتَيْن للتعريف، ألا ترى أنّ "ابن مَخاضٍ"، و"ابن لَبُونٍ"، و"ابن ماءٍ"، لمّا كنّ نكراتٍ دخلت فيما أضيفت إليه الألفُ واللامُ، لتعرف شيئاً من شيء، كما تفعل في الخيل والكلاب قال الشاعر [من البسيط]: 57 - وابْنُ اللَّبونِ إذا ما لُزَّ في قَرَنٍ ... لم يَسْتَطِعْ صَوْلَةَ البُزْلِ القَناعِيسِ وقال الآخر [من الوافر]: 58 - وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْمًا ... كفَضْلِ ابنِ المخَاضِ على الفَصِيلِ ¬
قال الآخر [من الطويل]: 59 - مُفدَّمةً قَزًّا كأنّ رِقابَها ... رِقابُ بناتِ الماءِ أفْزَعَها الرَّعْدُ وممّا يدلّ على تعريف هذه الأشياء أنّه يقع بعدها النكرة حالاً، كقولك: "هذا أسامةُ مُقْبِلاً"، و"رأيت ثعالةَ مُولِّيًا". ولو كانت نكراتٍ، لم يقع الحال بعدها. واعلم أن هذه الأشياء معارفُ على ما ذكرنا، إلَّا أن تعريفها أمرٌ لفظيٌّ، وهي من جهة المعنى نكراتٌ لشياعها في كلّ واحد من الجنس، وعدمِ اختصاصها شخصًا بعينه دون غيره، إلَّا أنّ الشياع لم يكن لأنّة بإزاءِ حقيقة شاملة، بل لأجلِ أنّ هذا اللفظ موضوعٌ بإزاء كلّ شخص من هذا الجنس؛ فمن ذلك: "أبو بَراقِشَ"، وهو ¬
طائرٌ ذو ألوانٍ من سَوادٍ وبَياضٍ، يتغيّر في النهار ألوانًا يُضْرَب به المثل في التلوّن (¬1). قال الشاعر [من مجزوء الكامل]: 60 - يغدوا عليك مُرَجَّليـ ... ـن كأنّهم لم يفعلوا كأبي بَراقِشَ كُلَّ لَوْ ... نٍ في لَوْنُهُ يَتَحَوَّلُ ومن ذلك قولهم: "ابن دَأْيَةَ" للغُراب، قيل له ذلك لأنّه يقع على دأية البَعير فينقرها. و"الدأيةُ" من البعير: الموضُع الذي يقع عليه خَشَبُ الرحْلِ، فيعقره. وقالوا: "ابن قَتْرَةَ" لضرب من الحيّات أولي الصِّغَر، كأنّه سُمّي بذلك تشبيهًا بالسهْم الذي لا حديدة فيه، فيقال له: "قترةٌ"، والجمع "قَتَرٌ"، كأنّه منقول منه. وقالوا: "بنت طَبَقٍ" لضرب من الحيّات، وأصله الداهِيَة. وقيل: "بنت طبق": سُلَحْفاةٌ تزعم العرب أنّها تَبيض تسعًا وتسعين بيضة، وتبيض بيضةً تُنْقَفُ عن أَسْوَدَ. ¬
وقالوا: "ابن مِقْرَضٍ"، لدُوَيِّبَة دون الفأر، ولونُها إلى الغُبْرَة. وقيل: هي "الدَّلَق" واسمها بالفارسية: "دَلَه"، تقتل الحَمامَ. وقالوا: "حِمار قَبّان"، وهو دويّبةٌ مستطيلةٌ ذاتُ أَرْجُل. والمسموع فيها تَرْكُ الصرف؛ فعلى هذا يكون "فَعْلانَ"، من "قَبَّ" في الأرض إذا ذهب فيها. وربّما صرفها بعضُهم فيجعلها "فَعّالاً"، من "قَبَنَ"، وهو مثلُ: "قَبَّ"، فيكون كـ "حَسَّان"؛ إن جُعل من "الحُسن" كانت النون أصلاً وانصرف، وإن جعلته من الحَسّ لم ينصرف. قال الشاعر [من الرجز]: 61 - يا عَجَبًا لَقَدْ رأيتُ عَجَبَا ... حِمارَ قَبّانِ يَسُوقُ أَرْنَبَا فتقول في الجماعة: "رأيت حُمُرَ قَبّانٍ". وقالوا: "سامٌّ أَبْرَصَ" لضرب من العِظاءِ. فـ "سامُّ" اسمُ فاعلِ من "السَّمّ"، كأنّه ذو سَمٍّ، و"أبرص": "أَفْعَلُ"، من "البَرَص"؛ قيل له ذلك لبياض لونه. وقالوا: "ابن آوَى"، وهي دابّةٌ قريبةٌ من الثعلب، وتسمّى بالفارسيّة: "شَغال". والجمعُ: "بنات آوى". و"آوى منه" لا ينصرف، لأنّه على زنةِ "أَفْعَلَ" معرفة. وقالوا: "ابن عِرس" لدابَّةٍ دون السِّنَّوْرِ، سَوْداءَ، في عنقها بياضٌ، والجمع: "بنات عرس". وحكى الأَخفش: "بنو عرس" أيضًا. و"عرس" ههنا معرفةٌ، يدل على ذلك وقوعُ النكرة بعدها حالاً، نحو قوله: "هذا ابنُ عرس مُقبِلاً". وقالوا للضَّبُع: "حَضاجِرُ"، و"قَثام"، و"جَعارِ"، و"أُمّ عامرٍ". فـ "حضاجر": جمع "حِضَجْرِ"، وهو العظيمُ البطنِ. قال الشاَعر [من الطويل]: 62 - حِضَجْرٌ كأُمِّ تَوْأمَيْنِ تَوَكَّأَتْ ... على مِرْفَقَيْها مستهِلّةُ عاشرِ ¬
أراد أنّه عظيمُ البطن، كامرأةٍ مُتْئِم، تمَّ لها تسعةُ أشْهُر، ودخلت في العاشر، واتّكأتْ على مرفقَيْها، فنَتَأَ بطنُها، وعظّم؛ فكأن الضبع سُمّيت بذلك لعظم بطنها، فجُعلت كأنّها ذات بطونٍ، وغلب عليه فصار علمًا. و"جَعارِ" و"قَثامِ" معدولان كـ"حَذامِ"، و"قَطامِ". وقالوا للذكر من الضباع: "قُثَمُ"، كـ"عُمَرَ"، و"زُفَرَ". وقيل لها: "جَعارِ"، و"قَثامِ"، لتلطّخها بجَعْرها. و"الجَعْرُ": نجْوُ كلّ ذات مِخْلَبٍ من السباع، ويقال للأَمَة: "قَثَامِ" لنَتْنها، كما يقال: "دَفارِ". وقالوا: "أمّ عَجْلانَ"، لطائرٍ أسودَ، أبيض أصلِ الذَّنَبِ من تحتٍ، وربّما كان أحمر، واسمه: "الفَتّاح". وقد أجروا هذه الأشياء مجرى الأناسيّ، فمنها ما له اسمُ جنس ولقبٌ وكنيةٌ، كالأسد والثعلب. "فأسدٌ" و"ثعلبٌ" من أسماء الأجناس؛ كـ"رجل"، و"فرس"، و"أُسامةُ"، و"ثُعالةُ": علمان كـ"طَلْحَةَ" و"حَمْزَةَ"، شبّهوهما بما سُمّي من المذكّرين وفيه تاءُ التأنيث. و"أبو الحارث" و"أبو الحُصَيْن" كـ "أبي القاسم" و"أبي الحُسَيْن". ومثلُه: "ضَبُعٌ" و"حضاجرُ" و"أمّ عامرٍ"، وكذلك: "عَقْرَبٌ" و"شَبْوَةُ" و"أمّ عِرْيَطِ"؛ ف "ضبُعٌ" و"عقربٌ": اسما (¬1) جنس، و"حضاجرُ" و"شبوةُ": علمان. قال الشاعر [من مجزوء الكامل]: 63 - هَلَّا غَضِبْتَ لِبَيْتِ جا ... رِكَ إذ تُجَرِّدُهُ حَضاجِرْ ¬
كما قالوا للمرأة: "دَنانِيرُ" و"مَصابِيحُ". و"شَبْوَةُ" كـ "مَيَّةَ" و"عَزَّةَ". و"أمّ عِرْيَطٍ" و"أمّ عامرٍ": كنيتان كـ "أمّ هانئ" و"أمّ سَلمَةَ". ومنها ما له عَلَمٌ ولا كنية له، كقولهم لـ "الضِّبْعان": "قُثَمُ"، فقولهم: "قثم"، بمنزلة "عُمَرَ"، و"زُفَرَ"، ونحوهما من المعدول. ومن ذلك: "حِمارُ قَبّانَ"، وهو بمنزلة: "عبد الله" و"امرؤ القيس"، ونحوهما من الأسماء المضافة. ومنها ما له كنيةٌ ولا عَلَمَ له؛ كقولهم: "أبو بَراقِشَ"، و"أبو صُبَيْرَةَ"، و"أمّ رَباحٍ" للقِرْد في لغة أهل اليَمَن، و"أمّ عَجْلَانَ"؛ وهذه كلّها كُنى، ولا عَلَمَ لها. و"ابنُ عِرْسٍ" يجري مجرى الكنية، وهو معرفةٌ، ألا ترى أنّه لا يدخل عليه الألف واللام، فلا يقالّ: ابن العرس. ومن الكُنَى: "أمّ حُبَيْنٍ" (¬1) لدابّة قَدْرِ الكفّ، ورُبّما جاء في الشعر الفصيح "أمّ الحُبين" (¬2). قال الشاعر [من الوافر]: 64 - تَرَى التَّيْمِىَّ يَزْحَفُ كالقَرَنْبَى ... إلى تَيْميّةٍ كعَصَا الخَلِيلِ ¬
فصل [إجراء المعاني مجري الأعيان]
يقول المُجْتَلون عَرُوسُ تَيْمٍ ... شَوَى أُمِّ الحُبَيْنِ ورَأْسُ فِيلِ (¬1) فـ "أمّ حُبَيْن" تجري مجرى "أمّ زيد"، وأمّ "الحُبَيْنِ" تجري مجرى "أمّ الحارث"، و"أمّ الهَيْثَم". فصل [إجراء المعاني مجري الأعيان] قال صاحب الكتاب: " وقد أجروا المعاني في ذلك مجرى الأعيان, فسمّوا التسبيح بـ "سبحان"، والمنية بـ "شعُوب", وأم قشعمٍ، والغدر بـ "كيسانَ"، وهو في لغة بني فهم. قال: [من الطويل]: 65 - إذا ما دعوا كيسان كانت كُهُولهم ... إلى الغدر أدنى من شبابهم المُردِ ¬
ومنه كنوا الضربة بالرِّجْل على مؤخِّر الإنسان بـ "أمّ كيسان"، والمبرة بـ "برَّة" والفجرة بـ "فجار"، والكليّة بـ "زوبر". قال [من الطويل]: 66 - [وإن قال غاوٍ من تنوخ قصيدةً ... بها جربٌ] عُدَّت علي بزوبَرَا وقالوا في الأوقات::لقيتهُ غُدوةَ, وبكرةَ, وسحر, وفينة" وقالوا في الأعداد "ستةُ ضعفُ ثلاثة" و"أربعة نصف ثمانيةَ"". * * * قال الشارح: اعلم أنّهم قد علّقوا الأعلام على المعاني أيضًا، كما علّقوها على الأعيان. إلّا أن تعليقها على المعاني أقلُّ، وذلك لأنّ الغرض منها التعريفُ، والأعيانُ أقعدُ في التعريف من المعاني؛ وذلك لأنّ العِيان يتناولها لظهورها له، وليس كذلك المعاني، لانّها تثبت بالنظر والاستدلال، وفرقٌ ما بين علم الضرورة بالمشاهدة وبين علم الاستدلال بيّنٌ. فمن ذلك قولهم: "سُبْحانَ" هو عَلَمٌ عندنا واقعٌ على معنى التسبيح، وهو مصدرٌ معناه البَراءة والتَّنْزيه، وليس منه فعلٌ، وإنما هو واقعٌ موقعَ التسبيح الذي هو المصدرُ في الحقيقة، جُعل عَلَمًا على هذا المعنى، فهو معرفةٌ لذلك، ولا ينصرف للتعريف وزيادة الألف والنون. قال الأعشى [من السريع]: 67 - أقولُ لمّا جاءني فَخْرُهُ ... سُبْحَانَ مِن عَلْقَمَةَ الفاخِر ¬
فلم ينونّه لما ذكرناه من أنّه لا ينصرف، فإن أضفته فقلت: "سبحان اللَّهِ"، فيصير معرفةً بالإضافة، وابتُزّ منه تعريفُ العلميّة، كما قلنا في الإضافة، نحو: "زيدكم وعَمْركم"، فيكون معرفة بعد سَلْب العلميّة. فأمّا قوله [من البسيط]: 68 - سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحانًا نَعُوذُ به ... وقَبْلَنَا سَبَّح الجُودِيُّ والجُمُدُ ¬
"الجُمُد": المكان المرتفع. وفي تنوين "سبحانَ" هنا وجهان: أحدُهما: أن يكون ضرورةً كما يُصْرَف ما لا ينصرف في الشعر، من نحو"أَحْمَدَ وعُمَرَ". والوجه الثاني: أن يكون أراد النكرة. وأمّا قولهم للمنِيَّةِ: "شَعُوبُ"، فهو لا ينصرف للتعريف والتأنيث؛ فإن جعلته اسمًا للموت، انصرف لأنّه مذكَّرَّ. قال أهل اللغة: سُمّيت بذلك لأنّها تَشْعَب، أي تفرّق، وقد أدخل عليها الألف واللام، فقيل: "الشَّعُوبُ". ويحتمل إدخالُ الألف واللام عليها أمرَيْن: أحدهما: أن تكون زائدة، على حد زيادتها في قوله [من الرجز]: 69 - باعَدَ أُمَّ العَمْرِو من أَسِيرها ... [حرّاس أبوابٍ على قصورِها] ويحتمل -وهو الأمثل- أن يكون رُوعِيَ مذهب الوصفيّة فيها، كأنّه صفةٌ في الأصل، ألا ترى أنّها على أمْثِلة الصفات، نحو: "أَكُولٍ"، و"ضَرُوبٍ"، فإذًا اللام فيها بمنزلتها في "العبّاس"، و"الحارث". ويؤيّد هذا ما قالوه في اشتقاقها أنّها سُمّيت بذلك لأنّها تشعب، أي تفرق. ومن قال: "شَعُوبُ" بلا لام، غَلَّبَ جانب العلميّة، وعرّاها في اللفظ من مذهب الوصفيّة؛ كما فعل من قال: "عَبّاسٌ" و"حَسَنٌ"، وإن لم يَعْرَ من ذلك في المعنى. وقد كنوا عنها بـ "أمّ قَشْعَم"، على نحو صَنيعهم في الأعيان، وإنّما كنوا عن المنيّة بـ "أمّ قشعم"؛ لأنّ الرجل إذا قُتل، اجتمعت علبه القَشاعِمُ، وهي النُّسُور. ¬
من ذلك "كَيْسانُ"، وهو عَلَم على الغَدْر، معرفةٌ، لإشارتك به إلى المعنى المخصوص، فهو لا ينصرف، للتعريف وزيادة الألف والنون. وقد كنوا عن الضربة بالرِّجْل على مؤخر الإنسان بـ "أمّ كَيْسانَ"، لأنّ ذلك يدلّ على تَوْلِيَةٍ وغَدْرٍ؛ مأخوذٌ من "الكيّس", لأنّ الغدر في الحرب والنُّكوصَ، إنّما يكون من الاْكياس، لأنّ الإقدام والشجاعة نوعُ تهوُّر. وأما البيت الذي أنشده، وهو قوله [من الطويل]: إذا ما دَعَوْا كَيْسانَ كانتْ كُهولُهم ... إلى الغَدْر أَدْنَى من شَبابِهِمُ (¬1) المُرْدِ - أَوْرده ابن الأعرابيّ في نوادره لضَمْرَة بن ضَمْرَة بن جابر. ورواه ابن دُرَيْد للنمر ابن تَوْلَب في بني سَعْد، وهم أخواله، وكانوا أغاروا على إبله، فقال [من الطويل]: إذا كنتَ في سَعْدٍ وأُمُّكَ مِنْهُمُ ... غَرِيبًا فلا يَغْرُرْك خالُك من سَعْدِ إذا ما دعوا كيسانَ ... إلخ وبعده: فإنّ ابنَ أُخْتِ القَوْمِ مُصْغًى إِناؤُه ... إذا لم يُزاحِمْ خالَهُ بِأَبٍ جَلْدِ وقيل: هي لغَسّانَ بن وَعْلَةَ- فشاهدٌ على تسمية الغدر بـ "كيسان"؛ يهجو قومًا وَصَفْهم بانهماكِ الكبير والصغير في الغدر، فالعقلاءُ منهم، وهم الكُهولُ، أَسْرَعُ إليه من ذوي الجهل، وهم المُرْدُ الشبابُ. ومن الأعلام على المعاني قولهم: "بَرَّةُ"، و"فَجارِ"؛ أمّا "برّة" فعَلَمٌ على المَبَرَّة، وأنشد سيبويه [من الكامل]: 70 - إِنّا اقْتَسَمْنَا خُطَّتَيْنَا بَيْنَنَا ... فحملتُ بَرَّةَ واحتملتَ فَجارِ ¬
فـ "برّةُ": اسمٌ للخُطّة التي هي المَبَرّة، و"فَجارِ": عَلَمٌ على الفَجْرَة؛ والأصل أن يكون "فجار" معدولاً عن "فَجْرَة"، أو"فاجرةَ" علمًا، كما أنّ "حذام" و"قَطامِ" معدولان عن "حاذمةَ" و"قاطمةَ" عَلَمَيْن، ويؤيّد ذلك أنه قرنها بقوله: "بَرَّة"؟ فكمَا أنّ "برّة" عَلَمٌ بلا رَيْب، فكذلك ما عُدل عنه "فجارِ"، ولو عُدل عن "برّة" هذه، لكان القياس "بَرارِ" كـ "فَجارِ". ومن ذلك: "زَوْبَرُ"، يقال: "أخذ الشيءَ بزَوْبَرِهِ"، أي: كلَّه. قال الطرمّاح [من الطويل]: وإن قال غاوٍ من تَنُوخَ قَصِيدَةَ ... بها جَرَبٌ عُدَّتْ عَليَّ بِزَوْبَرَا (¬1) والمعنى: وإن قال غاو من تنوخ، أي: غيرُ رشيد، قصيدةً بها جربٌ، أي: عَيْبٌ من هجاءٍ، ونحوهِ: عُدّت عليَّ بِزَوْبَرَ، أي: نُسبت إلىَّ بكمالها. وجعل "زوبر" عَلَمًا على هذا المعنى، فلذلك لم يصرفه. ومن الأسماء المعلَّقة على المعاني: "غُدْوَةُ"، و"بُكْرَةُ"، و"سَحَرُ"، إذا أردت ذلك من يوم بعينه، فهي معارفُ، فـ "غدوةُ" و"بكرةُ" لا ينصرفان للتعريف والتأنيث، كأنّهما جُعلا عَلَمًا على هذا المعنى. وهو من قبيل التعريف اللفظيّ، ألا تركما أنّه لا فرق بين "غدوة" و"غَداةٍ" في المعنى، و"غداةٌ" نكرةٌ. وأمّا "سَحَرُ" فمعرفةٌ إذا أردت سحرَ يوم بعينه، لا ينصرف للتعريف والعدلِ عن الألف واللام؛ فإن أردت التنكير، صرفته، قال الله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} (¬2). ومثله "فَيْنَةُ"، وهو اسمٌ منُ أسماء الزمان، بمعنى الحين، وهو معرفةٌ عَلَمٌ، فلذلك لا ينصرف؛ تقول: "لقيتُه فَيْنَةَ بعدَ فينةَ"، أي: الحينَ بعد الحين، تريد النَّدَرَى. وحكى أبو زيد: "الفينةَ بعد الفينة" بالألف واللام. وهذا يكون ممّا اعتقب عليه تعريفان، أحدهما بالألف واللام، والآخر بالوضع والعلميّة. وليس كـ "الحَسَنُ والعَبّاس", لأنّه ليس بصفة في الأصل. ومثلُه قولهم للشمس: "إِلاهَةُ" و"الإِلاهة" في اعتقاب تعريفَيْن عليه. ومن الأسماء المعلّقة على المعاني: أسماءُ العدد، وهي معرفةٌ, لأنها عددٌ معروفُ القَدْرِ، ألا تري أنّ "ستّة" أكثرُ من "خمسة" بواحد، وكذلك "ثمانيةُ" ضعفُ ¬
فصل [علمية الأوزان الصرفية]
"أربعةَ". وإذا كانت معروفةَ المقاديرِ، كانت معرفة أعلامًا على هذه المقادير. وقد يدخلها اللام. فيقال: "الثلاثةُ نصفُ الستة، والسبعةُ تعجز عن الثمانيةِ واحدًا"، فتكون ممّا اعتقب عليه تعريفان. فإذا قلت: "عندي ستّةٌ"، كان المراد الجنس المعدود لا نفس العدد, لأنّ العدد لا يكون عندك. واعلم أن هذه الأسماء مبنيةٌ على السكون, لأنّها لم تقع موقع الأسماء، فتكونَ فاعلة أو مفعولةً أو مبتدأةً؛ والإعرابُ في أصله إنما هو للفرق بين اسمَيْن، معنَى كلَّ واحد منهما يخالف معنى الآخر، فلمّا لم تكن هذه الأسماءُ على الحدّ الذي يُستوجب به الإعرابُ، سُكَّنَتُ، وصارت بمنزلة صوتٍ تصوته، نحو: "صَهْ"، و"مَهْ". فإن أَوْقعتها موقع الأسماء أعربتها، وذلك قولك: "ثمانيةُ ضعفُ أربعةَ، وأربعةُ نصفُ ثمانية" فأعربتَ هذه الأسماء، ولم تصرفها للتعريف والتأنيث. فصل [عَلَميَّة الأوزان الصَّرفية] قال صاحب الكتاب: "ومن الأعلام الأمثلة التي يوزن بها في قولك: "فعلان", الذي مؤنثة "فعلى"، و"أفعل" صفة لا ينصرف. ووزن "طلحة" و"إصبعٍ": "فعلة" و"إفعل"". * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأمثلة التي يوزَن بها الأسماء والأفعال من الأعلام الخاصة المعلَّقة على المعاني، لإشارتك بها إلى معنى معرفة. ومنزلتُها منزلةُ اسم غيرِ صفة. وإن مثّلت به الصفة، فإن أوقعته موقعَ نكرة، كان اسمًا منكورًا، وإن أوقعته موقعَ معرفة، كان اسمًا معرفة؛ ثم يُنْظَر، فإن كان فيه في حال التعريف والتنكير ما يمنع الصرفَ، مُنعِ صرفه، وإن لم يكن فيه ما يمنع الصرف، كان منصرفًا. مثالُ ذلك أنّا نقول: "كلُّ "أَفْعَلٍ" يكون صفةً لا ينصرف"، فتَصْرف "أفعل" هذا لأنّ "كلّا" تُوجب له التنكيرَ، كقولك: "كلُّ رجلٍ". وهو اسم ليس بصفة، فليس فيه إلَّا واحدةٌ، وهي وزن الفعل، فانصرف لذلك، وإن كان المُمثَّلَ به لا ينصرف, لأن الذي مثّلتَ به "أَحْمرَ" وبابه فيه علّتان: وزنُ الفعل والصفةُ، ولا يمتنع أن ينصرف المثال، ولا ينصرف الممثَّل به، لأنّ كلّ واحد منهما له حكمُ نفسه في الصرف. وتقول: ""أَفْعَلُ" إذا كان اسمًا نكِرةً فإنّه ينصرف"، فلا ينصرف "أَفْعَلُ" هذا، لأنّه في موضع معرفة، وقد اجتمع فيه التعريف ووزن الفعل، وإن كان الممثَّل منصرفًا، نحو: "أَفْكَلٍ" وَ"أَيْدَع" لأنّهما اسمان نكرتان، فليس فيهما علّةٌ سوى وزن الفعل. فإنّا إذا قلنا: ""فَعْلانُ" الذيَ مؤنّثُه "فَعْلَى" "وأَفْعَلُ" صفة لا ينصرف"، فإنّ المثال في هاتَيْن المسألتين والممثَّل به لا ينصرفان جميعًا؛ إلَّا أن المانع للصرف في المثال غيرُ المانع في الممثَّل،
فصل [العلم بالغلبة]
وذلك أنّ المثال الذي هو "فعلانُ" لا ينصرف للتعريف وزيادة الألف والنون، وكذلك قولك: "أَفْعَلُ" صفةً، فالمثالُ الذي هو "أَفْعَلُ" هنا لا ينصرف للتعريف ووزن الفعل، والممثَّلُ به نحو: "سَكْرَانَ" لا ينصرف للصفة وزيادة الألف والنون، وكذلك "أَحمرُ" لا ينصرف للوزن والصفة، فكلُّ واحد من المثال والممثَّل به له حُكْمٌ في الصرف يخُصّه. وتقول: "طَلْحَةُ" و"إصْبَعٌ": "فَعْلَةُ" و"إِفْعَلُ"، ووزنُ "طلحةَ": "فَعْلَةُ" لا ينصرف للتعريف والتأنيث. و"إفْعَلُ" مثالُ "إِصْبَع" لا ينصرف للتعريف ووزن فعل الأمر، نحو "اعْلَمْ"، و"اسْلَمْ" والممَثَّل به الذي هو إِصْبَعٌ ينصرف لأنّه نكرةٌ، ليس فيه إلَّا وزن الفعل وحده، فاعرفه. فصل [العَلَم بالغَلَبة] قال صاحب الكتاب: "وقد يغلب بعضُ الأسماء الشائعة على أحد المسمنِّينَ به, فيصير علمًا له بالغلبة. وذلك نحو: "ابن عُمر", و"ابن عباس", و"ابن مسعود" غلبت على العبادلة دون من عداهم من أبناء آبائهم، وكذلك "ابن الزُّبير" غلب على "عبد الله" دون غيره من أبناء الزبير، "وابن الصعق", و"ابن كُراعَ" و"ابن رألان" غالبةٌ على "يزيد", و"سُويدٍ" و"جابرٍ" بحيث لا يذهب الوهم إلى أحد من إخوتهم". * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأسماء ليست أعلامًا على الحقيقة، لأنّ العَلَم كلُّ اسم علّقتَه على مسمّى بعينه، فيصير معرفةً بالوضع، ولا يدلّ على وجود معنى ذلك الاسم في مسمّاه؛ ألا ترى أنك تسمّي "جعفرًا" و"زيداً"، فـ "جعفرٌ": اسم نَهْرٍ. قال الشاعر [من الطويل]: 71 - إلى بَلَدٍ لا بَقَّ فيه ولا أَذَى ... ولا نَبَطِيّاتٍ يُفَجِّرْنَ جَعْفَرَا ¬
و"زَيْدٌ": مصدرُ "زَادَ يَزِيدُ زَيْدًا وزِيادَةً". وأنت إذا سمّيت رجلاً بأحدهما فلم تسمّه لأنّه نهرٌ، أو زائدٌ على غيره. وهذه الأسماء -أعني "ابن عمر" و"ابن عَبّاس" و"ابن مسعود"- وغيرها ممّا ذكره في الأصل، شاملةٌ كل مولود لهم، والاسمُ إذا غلب واشتهر، صار كالمتواضَع عليه، وجرى مجرى العلم في إفادة التعريف، وذَهابِ الوهم إلى شخص بعينه، حتى لا يقال لكلّ من كان ابنًا لعمر وعباس: ابنُ عمر وابن عبّاس، حتى يقيَّد باسمه أو صفتِه. فـ "ابنُ عمر" غلب على "عبد الله بن عمر بن الخطّاب"، رضي الله عنه. و"ابن عبّاس" غلب على "عبد الله بن عبّاس بن عبد المطّلب" رضي الله عنه. و"ابن مسعود" غلب على "عبد الله بن مسعود". و"ابن الزُّبَيْر" غلب على "عبد الله بن الزُّبَيْر ابن العَوام"، وذلك لشُهْرتهم بالعِلمْ، كان يضرب بهم المثل في الفِقْه؛ يقال: فقهُ العَبادِلَة. وقوله: "العبادلة" تكسيرُ "عبد الله"، كأنّه رُكّب من المضاف والمضاف إليه اسم رباعيٌّ، نحو: "عَبْدَلٍ"، ثم جمعوا على "عبادلة" كـ "صَيارِفَةٍ"، و"صَياقِلَةٍ"، وقد يفعلون مثلَ ذلك في النسب. قالوا: "عَبْدَريّ"، "وعَبْشَميّ"، في النسب إلى "عبد الدار"، و"عبد شَمْسٍ"، كأنّهم نسبوا إلى "عَبْدَرٍ"، و"عَبْشَمٍ"؛ فعلى هذا قياس تكسيره "عَبادِرَةٌ"؛ و"عَباشِمَةٌ"، وليس ذلك بقياس. وقالوا: "ابن الصَّعِق". و"الصعقُ": رجل هت كِلابٍ مُعاصرُ النُّعْمان بن المُنْدِر، واسمه "خُوَيْلِدُ بن نُفَيْل بن عمرو بن كِلابٍ"، كان يطعم الطعامَ بتهامَةَ، فهَبَّتْ ريحٌ، فسفت التُّرابَ في جِفانه، فشَتَمَها، فرُمي بصاعقةٍ قتلته، فقال بعض أهله [من الوافر]: 72 - وإن خُوَيْلِدًا فابْكِي عليه ... قتيلُ الرِّيحِ في البَلَد التِّهامِي ¬
فصل [دخول لام التعريف علي الأعلام]
فعُرف خويلدٌ بـ"الصعق"، وغلب عليه حتى إذا قيل: "الصعق"، لا يُفْهَم سِواه، ولا يسبق الوهمُ إلى غيره ممّن أصابته صاعقةٌ. وعُرف ابنُه "يزيد" بـ "ابن الصعق" لشُهْرته، وكان أفضلَ وُلْده مالاً، وأغزرهم جُودًا، وأكثرَهم حُروبًا ووَقائعَ، فلذلك إذا قيل: "ابنُ الصعق" لا يذهب الذهاب إلى غيره من بني أبيه إلَّا بقَيدٍ أو قرينةٍ. وكذلك إذا قالوا: "ابن رَأْلانَ". هو"ابن رألان الطائيُّ السِّنْبِسىُّ"، لا يسبق الوهم إلى غيره من إخوته. ومن ذلك: "ابن كُراعَ العُكْلِيُّ"، لا ينصرف الوهم إلى غيره من بني كراع، وذلك لغلبة الاستعمال. فجرت هذه الأسماء مجرى الأعلام في التعريف، وإن لم تكنها لِما ذكرناه. فصل [دخول لام التعريف علي الأعلام] قال صاحب الكتاب: "وبعض الأعلام يدخله لام التعريف وذلك على نوعين: لازمٌ, وغير لازم. فاللازم في نحو: "النَّجم" للثُّرَيَّا, و"الصَّعِق", وغير ذلك مما غلب من الشائعة, ألا ترى إنهما, هكذا معرَّفين باللام, اسمان لكل نجم عهده المخاطِبُ والمخاطَبُ, ولكل معهود ممن أصيب بالصاعقة, ثم غلب "النجم" على الثريا, و"الصعقُ" على خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب". * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأسماء التي ذكرها بالألف واللام من قبيل الأعلام في الشهرة وإفادة التعريف. وهي على ضربَيْن، منها ما يلزمه الألفُ واللامُ، ولا يفارقانه، ومنها ما لا يلزمه، بل أنت مخيَّرٌ في إثباتها وإسقاطها. فالأوّل نحو قولهم: "النَّجْمُ " للثُّرَيَّا، و"الصَّعِقُ" لخُوَيْلِدٍ. و"النجم" أصله نجم لواحد النجوم، ثمْ أُدخل عليه الألف واللام، فقالوا: "النجم" لأيِّ نجم كان بين المخاطِبين فيه عهدٌ، ثم غلب على الثريّا لكثرة الاستعمال. قال الهُذَليّ [من الكَامل]: 73 - فَوَرَدْنَ والعيُّوقُ مَقْعَدَ رَابِىءِ ... الضُّرَباءِ خَلْفَ النَّجْمِ لايَتَتَلّعُ ¬
فـ "النجم". ها هنا: الثريّا. وقال الأصمعيّ: "هو الجَوْزاء"، وأنكره الرِّياشيُّ. يصف حُمُرًا وردن الماءَ بلَيل. و"العَيّوق" كوكبٌ يطلع بحِيال الثريّا، و"الرابىءُ": الأمين الحافظُ، يقعد خَلْفَ ضارب القِداح، كلّما نهد قِدْحٌ حفظه كيلا يُبْدَل. و"الضُّرَباء": جمعُ ضاربٍ أو ضريبٍ. يقول: فوردن - يعني الحُمُرَ- والعيّوقُ من النجم مَقْعَدَ رابىء الضرباء؛ ومقعدُه خَلْفَهم، وهذا في زمن الحَرّ, لأن العيّوق لا يكون من النجم بهذه الحال إلَّا في زمن الصيف. فالنجمُ علمٌ على الثُّريا كما ترى؛ فإذا أُطلق النجم، فلا ينصرف إلّا إليها (¬1)، إلّا بقرينة. وأمّا "الثريّا" فتصغيرُ "الثرْوَى"؛ "فَعْلَى" من "الثرْوَة"؛ قيل لها ذلك لكثرة كواكبها، وهي سبعةٌ أو نحوُها. قال الشاعر [من الطويل]: 74 - خَلِيلىَّ إني للثريا لَحاسِدٌ ... وإنّي على رَيْب الزمان لَواجدُ تَجمّعَ منها شَملُها وَهْيَ سِتَّةٌ ... وأَفْقِدُ مَن أَحْبَبْتُهُ وهو واحِدُ ¬
وأصلها "ثُرَيْوَا"، فاجتمعت الياء والواو، وقد سبق الأوّل منهما بالسكون، فقُلبت الواو ياءً، وادُّغمت الياء، في الياء، على حدّ "سَيِّدٍ" و"مَيِّتٍ"، ثم دخلت عليها الألف واللام للعَهْد، ثمّ غلب اللفظ على هذه الكواكب دون سائرِ ما يوصف بالثَّرْوة والكثرة. وكذلك "الصَّعِق"، أصله "صَعِقٌ"؛ من قولهم: "صَعِقَ الرجلُ فهو صَعِقٌ"، على حدّ "حَذِرَ فهو حَذِرٌ"، و"فَهِمَ فهو فَهِمٌ"، فهو وصفٌ عامٌّ لكلِّ من أصابته صاعِقةٌ، ثمّ دخلته الألف واللام لتعريف العَهْد، لِيَخُصَّه دون غيره مِمّن أُصيب بالصاعقة، على حدّ دخولها في "النجم" و"الثريّا"، ثمّ غلب على "خُوَيْلِدٍ" حتّى صار علمًا، وإن كان تعريفها في الأصل بالألف واللام، لا بالتسمية، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "فاللام فيهما, والإضافة في "ابن رألانَ", و"ابن كراع", مثلان في أنهما لا تُنزعان". قال الشارح: يُشير إلى أنّ التعريف في "ابن عمر" و"ابن عبّاس"، ونحوهما، بالإضافة. ألا ترى أنّك لو نزعت الألف واللام من هذه الأسماء لَزال التعريف، كما لو حذفت المضاف إليه من "ابن كراع"، و"ابن رألان"، ونحوهما، بطل التعريفُ؛ لأنّ تعريف "ابن كراع" بالإضافة، كما كان التعريف في "النجم" و"الثريا" ونحوهما بالألف واللام، فلذلك قال: فاللام فيهما، والإضافة في "ابن رألان"، و"ابن كراع" مثلان يعني من حيث إنّ التعريف في الموضعَيْن بهما لا بالوضع. * * * قال صاحب الكتاب: "وكذلك "الدَّبرانُ", و"العيوقُ" و"السِّماكُ", و"الثُّريَّا", لأنها غلبت على الكواكب المخصوصة, من بين ما يوصف بالدُّبور والعوق والسُّموك والثروة". * * * ¬
قال الشارح: وممّا جرى بالغلبة مجرى الأعلام، ولزمته اللامُ، قولهم: "الدَّبَرانُ"، و"العَيُّوقُ" و "السَّماكُ" للنجوم المعروفة، فإنها أوصافٌ في الحقيقة مشتقّةٌ بمعنى الفاعل، ولزمتها اللام, لأنهم أرادوا فيها معنى الصفة؛ فـ "الدبران" مأخوذ من "دَبَرَ" إذا تَأَخَّرَ، بمعنى "الدابر" وهم يزعمون أنّ "الدبران" يتبع "الثريّا" خاطبًا لها. ونظيره من الصفات "الصَّلَتانُ"، وهو النشيط، مأخوذ من السيف الصَّلْت. و"العَيّوق" مأخوذ من "عَاقَ يَعُوق"، بمعنى "العائق". قالوا: عاقَ "الدبرانَ" عن الوصول إلى "الثريا"؛ زعموا أنّ الدبران جاء خاطبًا، وساق مَهْرَها كواكبَ صغارًا معه، تسمّى القِلاصَ. قال الشاعر [من البسيط]: 75 - أمّا ابنُ طَوْقٍ فقدْ أَوْفَى بذِمَّتِهِ ... كما وَفَى بِقلاصِ النَّجْمِ حادِيها والعيّوق بينهما في العُرْض إلى ناحية السماك، فكأنّه يعوقه عنها. ونظيرُ "العَيُّوق" من الصفات "القَيُّومُ". و"السِّماك" من "سَمَكَ" إذا ارتفع، والسماءُ سامكةٌ، أي: مرتفعهٌ، ومنه النُّجومُ السوامكُ. ومعنى "السِّماك": السامكُ. فهذه الأسماءُ، وإن كانت بمعنى "فاعلٍ"- فالدبرانُ بمعنى الدابر، والعيوقُ بمعنى العائق، والسماكُ بمعنى السامك- فلا يجوز إطلاقه على كلَّ ما يُطْلَق عليه "فاعلٌ"، فلا يقال: "الدبران"، لكلّ ما يقال فيه: "الدابر". وكذلك العيّوق والسماك، وذلك لأن الاسمَيْن قد يكونان مشتقَّين من شيء، والمعنى فيهما واحدٌ، وبناؤهما مختلفٌ، فيختصّ أحدُ البناءين شيئًا دون شيء للفرق؛ ألا ترى أنهم قالوا: "عِدْلٌ" لِما يعادِل من المتاع، و"عَدِيلٌ" لِما يعادل من الأناسيّ، والأصل واحدٌ، وهو (ع د ل)، والمعنى واحدٌ، ولكنّهم خصّوا كلَّ بناءٍ بمعنى لا يشاركه فيه الآخرُ للفرق. ¬
ومثله "بِناءٌ حَصِينٌ"، و"امرأةٌ حَصانٌ"، والأصل واحدٌ، والمعنى واحدٌ، وهو "الحَرْزُ"؛ فالبناءُ يحرزُ من يكون فيه، ويلجَأ إليه؛ والمرأةُ تحرز فَرْجَها. فكذلك هذه النجومُ، اختصّت بهذه الأبنية التي هي "الدبران"، و"السماك"، و"العيّوق"، ولا يُطْلَق عليها (¬1) الدابر والعائق والسامك، وإن كانت بمعناها للفرق. وممّا يجري هذا المجرى في لزوم الألف واللام أسماءُ الأيّام، نحو: "الثلاثاء"، و"الأربعاء"، بمعنى الثالث والرابع: واختصّا (¬2) بهذا الزمان، كما اختصّ العيوقُ، وبابُه، فلا يقال لكل ثالثٍ ورابعٍ: "ثلاثاء" و"أربعاء"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "وما لم يُعرف باشتقاقٍ من هذا النوع فملحقٌ بما عُرف". * * * قال الشارح: يريد أنك لا تجد اسمًا يغلب على أُمَّته، وفيه اللامُ لازمة، إلَّا وهو مشتقٌ صفةً. فإن جاء اسمٌ عربىٌّ قد لزمته اللام، ولا يُعْرَف أصله الذي اشتُقّ منه، حكمت عليه بأنّه مشتقٌّ، حَمْلاً على ما ظهر من ذلك, لأنّ عدم اطّلاعنا على ذلك جهلٌ بما علِم غيرُنا. * * * قال صاحب الكتاب: "وغيرُ اللازم في نحو "الحارث", و"العباس" و"المظفَّر", و"الفضل", و"العلاء", وما كان صفة في أصله أو مصدرًا". * * * قال الشارح: هذه الأسماء، أعني "الحارث"، و"العبّاس"، وما كان مثلهما، تدخلهما اللامُ، ولا تلزم لزومَها في نحو "الدَّبَران" و"العَيّوق" والسِّماك" و"الصَّعِق"، وذلك أنّ تعريف نحوِ "الدبران" و"الصعق" وأخواتِهما، في الحقيمَة، باللام، فلو نُزعت منها، لتنكّرتْ، ولذلك لم يجز نَزْعُها منها. وأمّا "الحارث"، و"العَبّاس"، ونحوهما، فإنّ تعريفهما بالوضع والعلمية دون اللام؛ والذي يدل على ذلك قولُهم: "أبو عمرو بنُ العَلاء"، و"محمّدُ بنُ الحَسَنُ"، بطَرْح التنوين من "عمرٍو"، و"محمّدٍ"؛ وذلك لأنّ "ابْنًا" مضافٌ إلى العلم، فجرى مجرى "أبي عمرو بنِ بكرٍ"، ولو كان "العلاءُ" معرَّفًا باللام، لوجب إثباتُ التنوين، كما يثبت مع ما يُعرَّف باللام، نحوَ: "جاءني أبو عمرٍو ابنُ العَلاء". وإذا ثبت أنّها أعلامٌ، فهي غيرُ محتاجة في تعريفها إلى اللام، إلَّا أنّها لمّا كانت ¬
فصل [تأويل العلم]
منقولة من الصفة، من نحو "حارث" و"عباس"، من قولك: "مررتُ برجل حارثٍ، بمعنى الكاسب، كأنه يحرث لدُنْياه؛ وكذلك "عَباسٌ"، و"العبّاسُ": المُحْرِب الذي يعبِس في الحَرْب. وكذلك تقول: رجلٌ مُظَفَّرٌ. وهو "مُفَعَّلٌ" من "ظَفرَهُ الله". وأمّا "الفَضْل"، و"العَلاء"، فهما، وإن كانا مصدرَيْن في الحقيقة، فقد يوصَف بالمصادر مبالغةً، كما قالوا: "ماءٌ غَوْرٌ"، و"رجلٌ عَدْلٌ"، فجرى لذلك عندهم مجرى الأوصاف الغالبة. وهذه الصفات المنقولة ضَرْبان؛ أحدهما: ما نُقل وفيه الألف واللام، من نحو: "الحسن" و"العبّاس"، وما أشبههما؛ والآخَرُ: ما نُقل ولا لام فيه، من نحو: "سَعِيد" و"مُكَرَّم". فأمّا ما نُقل ولا لام فيه، فلا تدخله اللام بعد النقل، فلا يقال: "السعيد" ولا: "المكرّم"، لأنّ العلمية تحظر الزيادةَ، كما تحظر النقصَ. وأمّا ما نُقل وفيه اللام فيقرّ بعد النقل عليه؛ وما أدخل فيه الألف واللام بعد النقل فمُراعاةً لمذهب الوصفيّة؛ قال الخليل: "جعلها الشيء بعينه" (¬1)، أي لم يجعلها كأنّه سُمي بها، وإنّما جعلها أوصافًا مفيدةً معنى الاسم في المسمّى، كما تكون الصفةُ؛ فإقرارُ اللام للإيذان ببَقايا أحكام الصفة. ومن لم يُثْبِت اللام وقال: "حارث" و"عبّاس" و"مظفَّر"، خلّصها أسماء (¬2)، وعرّاها من مذهب الوصفيّة في اللفظ، وإن لم تَعْرَ من روائح الصفة، على كل حال، ألا ترى أنهم سمّوا الخُبْز "جابرًا"، قالوا: لأنّه يجبِر الجائعَ! وقالوا للبَلَد: "واسِطٌ"؛ قال سيبويه: "سمّوه بذلك لأنّه وَسَطُ ما بين العِراق والبصرة" (¬3). فقد ترى معنى الصفة فيه، وإن لم تدخله اللام. وقوله: "ما كان صفة في أصله، أو مصدرًا". يعني ما كان صفة قبل النقل تدخله لام التعريف، أو مصدرًا موصوفًا به على سبيل المبالغة، نحوَ: "الفضل"، و"العلاء"، من نحوِ: "هذا رجل فَضْلٌ وعَلاءٌ" ولا يريد كلّ مصدر. ألا ترى أنّ نحو: "زيد" و"عمرو" أصلهما المصدر، ولا تدخلهما اللام. فصل [تأويل العلم] قال صاحب الكتاب: "وقد يُتأوّل العلم بواحد من الأمة المسماة به, فلذلك من التأول يجري مجرى "رجل" و"فرس" فيُجترأ على إضافته, وإدخال اللام عليه, ¬
قالوا: "مُضَرُ الحَمْراءِ" و"رَبيعةُ الفَرَسِ"، و"أنمارُ الشاةِ". قال [من الطويل]: 76 - عَلَا زَيْدُنا يومَ النَّقَا رأسَ زيدِكم ... بأبْيَضَ ماضِي الشَفْرَتَين يَمانِ وقال أبو النَّجْم [من الرجز]: باعَدَ أُمَّ العَمْرو من أسِيرها ... حُرّاسُ أَبْوابٍ على قُصُورِها (¬1) وقال الآخر [من الطويل]: 77 - رأيتُ الوَلِيدَ بنَ اليَزِبد مبارَكًا ... شديدًا بأحْناءِ الخِلافةِ كاهِلُهْ ¬
وقال الأخْطَل [من الطويل]: 78 - وقد كان منهم حاجبٌ وابنُ أمِّهِ ... أبو جَنْدَلٍ والزيْدُ زيدُ المَعارِكِ وعن أبي العبّاس: إذا ذكر الرجلُ جماعةً، اسمُ كلّ واحد منهم "زيدٌ"، قيل له: فما بين الزيد الأول والزبد الآخِرِ؟ وهذا الزيدُ أشرفُ من ذلك المزيد وهو قليلٌ". * * * قال الشارح: اعلم أن العَلَم الخاص لا يجوز إضافته، ولا إدخال لام التعريف فيه، لاستغنائه بتعريف العَلَميّة عن تعريف آخَر، إلَّا أنّه ربّما شُورِكَ في اسمه، أو اعتُقد ذلك، فيخرج عن أن يكون معرفةً، ويصير من أُمّةٍ، كلُّ واحد له مثلُ اسمه، ويجري حينئذ ¬
مجرى الأسماء الشائعة، نحو: "رجل" و"فرس"، فحينئذ يُجترأ على إضافته، وإدخالِ الألف واللام عليه، كما يفعل ذلك في الأسماء الشائعة. فالإضافةُ نحو قولك: "زيدكم"، و"عمركم". وقد أنشدوا أبياتًا تشهد بصحّة الاستعمال، ومن ذلك قول الشاعر: علا زيدنا يوم النقا ... إلخ فالشاهد فيه أنّه أضاف "زيدًا" إلى المضمر، فجرى في تعريفه بالإضافة مجرى "أخيك" و"صاحبك". و"النَّقا": الكَثيب من الرمل، وكتبه بالألف لأنّه من الواو، بدليل ظهورها في التثنية، نحو: "نَقَوانِ"؛ ومن قال: "نَقَيانِ"، كتبه بالياء. يذكرهم بوَقْعَةٍ جرتْ في ذلك المكان، وكانت الغَلَبَةُ لهم. ومن ذلك قول أبي النَّجْم: باعد أمَّ العمرو من أسيرها ... إلخ الشاهد فيه إدخال اللام على "العمرو"، يريد بـ "أسيرها" نفسه، كأنّه في أسْرها، لعِشْقه إياها. ومن ذلك قول ابن مَيّادة: رأيت الوليد بن اليزيد مباركًا ... إلخ الشاهد فيه قوله: "اليزيد"، والمراد به "يزيد"؛ وأمّا "الوليد" فهو من باب "الحَسَنُ"، و"العبّاس". ومن ذلك قول الأخطل: وقد كان منهم حاجب ... إلخ الشاهد فيه إدخال الألف واللام على "زيد". ومن ذلك أنشد ابن الأعرابيّ [من الرجز]: 79 - يا لَيْتَ أمَّ العَمْرِو كانت صاحبي ... مكانَ مَن أَنْشَا (¬1) على الركائب ¬
فأدخل اللام على "عمرو". ومن ذلك قول الآخر [من الطويل]: 80 - يَزِيدُ سُلَيْمِ سالِمُ المالِ والفَتَى ... فَتَى الأَزْدِ للأموال غيرُ مُسالِمِ فقال: "يزيدُ سليم"، فأضافه لمّا كان ثمَّ شريكٌ في الاسم تَوهّم (¬1) تنكيرَه، وأضافه للتعريف. وقولُه: "سالم المال" يهجوه بذلك، وينسبه إلى البُخْل. ومثله في الإضافة قوله [من الرجز]: 81 - يا عُمرَ الخَيْرِ جُزِيتَ الجَنهْ ... اُكْسُ بُنَيّاتِي وأُمَّهُنَّهْ ¬
ومن ذلك "مضر الحمراء" و"ربيعة الفرس" و"أنمار الشاة"؛ هؤلاء بنو نِزار، وكان أبوهم مات، وخلف لهم تُراثًا ناطقًا وصامتًا، فأتوا أَفْعَى نَجْرانَ، حكيمَ الزمان، فجعل القُبَّةَ الحمراء والذهبَ لمضر، والأفراسَ لربيعة، والشاةَ لأنمار؛ وأضيف كلّ واحد إلى ما حكم له به، تعريفًا له بذلك. واعلم أن هذه الأعلام متى أضفتَها، سلبتَها ما كان فيها من تعريف العَلَميّة، وكسوتَها بعدُ تعريفًا إضافيًّا، وجرت مجرى "أخيك"، و"غلامك"، في تعريفها بالإضافة. فعلى هذا لو سُئلت عن "زيدِ عمرٍو" في قولِ من قال: "رأيت زيد عمرو"، و"مررت بزيدِ عمرو"، لقلت: مَن زيدُ عمرو؟ بالرفع لا غيرُ. ولم يجز الحِكاية، فلا تقولَ: من زيدَ عمرو؟ بالنصب، ولا مَن زيدِ عمرو؟ بالجّر. كما لو سئلت عن صاحب عمرو، لقلت: مَن صاحبُ عمرو؟ بالرفع. والذي يدلّ على أن الاسم لا يضاف إلَّا وهو نكرةٌ أن ما لا يمكن تنكيرُه من الأسماء لا يجوز إضافته، نحوَ الأسماء المضمرة، وأسماء الإشارة؛ لا تقول: "هُوَ بكرٍ"، ولا: "هؤلاء زيدِ"؛ كما تقول: "غلامُ زيدٍ"، و"أصحابُ بكرٍ"؛ لأن تعريف هذه الأسماء لا يفارقها، ولا يمكن اعتقادُ التنكير فيها. وإذ قد علمت أن العَلَم متى أضفته ابتززتَه تعريفَه، وكسوتَه تعريفًا إضافيًّا، فتعلم إنّه إذا أضيف إلى نكرة، فهو نكرةٌ، نحو: "مررت بزيدِ رجلٍ وعمرو امرأةٍ". إلَّا أنّه يحدث فيه نوعُ تخصيص، إذ جعلتَه "زيدَ رجل"، ولم تجعله "زيدًا" شائعًا في الزيدين، كما أنّك إذا قلت: "غلامُ رجل" استُفيد منه أنّه ليس لامرأة. وأمّا إدخال اللام عليه، فقليل جدًّا في الاستعمال، وإن كان القياسُ لا يأباه كلَّ الإباء, لأنّك إذا قدّرت فيه التنكيرَ، وأنّه ليس له مَزِيَّةٌ على غيره من المسمَّين به، جرى مجرى "رجل" و"فرس" ولا تستنكر أن تُدْخِل عليه لام التعريف، وقد جاء في الشعر، وما أَقَلَّهُ! نحو ما تقدّم من الأبيات، وذلك أنه لمّا اعتقد فيه التنكيرَ لمشاركٍ له في الاسم، إمّا توهُّمًا أو وُجودًا، عرّفه باللام. ومن ذلك الحكاية عن أبي العبّاس أنه "إذا ذُكر جماعةٌ، اسمُ كل واحد منهم: زيد، فيقول المُجيب: فما بين المزيد الأوّل والزيد الآخر؟ وهذا الزيدُ أشرفُ من ذلك الزيد"؛ فمُجازُها ما ذكرنا من اعتقاد التنكير مع قلّته ¬
في الكلام، وما ورد من ذلك في الشعر فضرورة. وقد استبعد بعضُهم دخول اللام على العلم، فحمل ما جاء منه على أنّها زيادةٌ، على حدّ زيادتها في "اللات"، و"العُزَّى"، و"الذِي"، و"الَّتِي" و"الآنَ"، وأمّا قول الشاعر [من البسيط]: 82 - [أخو رغائبَ يُعطيها وُيسْأَلُها] ... يَأْبَى الظُّلامةَ منه النَّوْفَلُ الزُّفَرُ فإنّ "الزفر" هنا صفةٌ، وليس بعَلَم، ومعناه: السيّد. و"النوفلُ": الكثير العَطاءِ، فلو سمّيت رجلاً بـ "زفر"، هذا بعد خَلْعك منه اللامَ، لوجب صرفُه حينئذ كـ "صُرَدٍ"، "ونُغَرٍ"، و"جُعَل". وما لا ينصرف معدولًا عن "فاعِلٍ" لا يجوز دخول اللام عليه، كـ"زُحَلَ"، و"قُثَمَ"، و"جُشَمَ". وإنمّا كثرت الإضافة في الأعلام، ولم يستقبحوا ذلك فيها استقباحَهم تعريفها باللام، لوجهَيْن: أحدهما: أن الإضافة قد تجِدها في أنفس الأعلام كثيرًا واسعًا، نحو: "عبد الله" و"عبد الصَّمَد"، و"ذي الرُّمَّة"، و"أبي محمَّد" وسائرِ الكُنَى، فلم يتناف اللفظان، أعني العَلَم والإضافة. والوجهُ الثاني: أن الإضافة قد تكون منفصلة في كثير من كلامهم، فلا تفيد التعريفَ، نحوَ قوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬1)، و {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (¬2)، وعامّةِ أسماء ¬
فصل [تعريف المثني والمجموع]
الفاعلين إذا أريد بها الحال والاستقبال، وكذلك باب "الحَسَنِ الوَجْهِ". وليست اللام كذلك؛ لأنه لا يُنْوَى فيها الانفصال، ولا تجد اللامَ معرِّفة في الأعلام، كما تعرِّفها الإضافةُ. فأمّا "الصَّعِق" و"الدَّبرَان"، فإنّهما ليست أعلامًا في الحقيقة، على ما تقدّم، وإنمّا تعريفُها باللام. وأمّا "الحارث" و"العباس" ونظائرهما، فإنّ تعريفهما بالعَلَميّة، وإنّما دخلت اللام لأنّها كانت ثابتة فيها قبل النقل، فأُقِرَّتْ بعده إيذانًا بمعنى الوصفيّة، وقد تقدّم ذلك. فصل [تعريف المثني والمجموع] قال صاحب الكتاب: "وكل مثنى أو مجموع من الأعلام فتعريفه باللام, إلا نحو "أبانين" و"عمايتين" و"عرفات" و"أذرعات". قال [من الطويل]: 83 - وقَبْلِيَ مات الخالِدانِ كِلاهما ... عَمِيدُ بني جَحْوانَ وابنُ المُضَلَّلِ أراد "خالدَ بن نَضْلَةَ"، و"خالدَ بن قَيسِ بنِ المضلّل"، وقالوا لكَعْبِ بن كلاب، وكعبِ بن رَبِيعَةَ، وعامر بن مالك بن جعفر، وعامر بن الطُّفَيل"، وقيسِ بن عَنّاب، وقبسِ بن هَزَمَةَ: "الكَعْبانِ"، و"العامران"، و"القبسان". قال [من الرجز]: 84 - أنا ابنُ سَعْدٍ أكْرَمَ السعْدِينا ¬
وفي حديث زيد بن ثابتٍ- رضي الله عنه -: هؤلاء المُحَمَّدون بالباب". وقالوا: "طَلْحَة الطَلَحات"، و"ابن قيسِ الرُّقَيّات"، وكذلك: "الأسُامتان"، و"الأساماتُ"، ونحوُ ذلك". * * * قال الشارح: اعلم إنّك إذا ثنّيتَ الاسم العَلَم تَنكَّر (¬1)، وزال عنه تعريف العلميّة، لمشاركةِ غيره له في اسمه، وصَيْرورتِه بلفظٍ لم يقع به التسميةُ في الأصل، فيجري مجرى "رجل" و"فرس"، فقيل: "زيدان" و"عمران"، كما قيل: "رجلان" و"فرسان"؛ والفرقُ بينهما أنّ "الزيدين" و"العمرين" مشترِكان في التسمية بـ "زيد" و"عمرو"، و"الرجلان" و"الفرسان" مشتركان في الحقيقة، وهي الذُّكوريّة والأدَميّة. ألا ترى أنك لو سمّيت امرأةً أو فرسًا بـ "زيد"، وجمعتَ بينه وبين رجل اسمُه "زيد"، لقلت: "الزيدان" في التثنية لاشتراكهما في اللقب، مع اختلاف الحقيقتَيْن. ويؤيِّد عندك أنّه نكرةٌ أنّك تصفه بالنكرة، فتقول: "جاءني زيدان كريمان"، و"رأيت زيدَيْن كريمَيْن"، و"مررت بزيدَيْن كريمَيْن" فكريمان نكرةٌ لا محالةَ، وقد جرى وصْفًا عليه؛ فعلمتَ بذلك أنّه نكرة. فإذا أردت التعريف كان بالألف واللام، والإضافة، نحوَ: "الزيدان"، و"العمران"، و"زيداك"، و"عمراك". فتعريفُه بعد التثنية من غير وجه تعريفه قبل، فإذًا لا تكون التثنية إلَّا فيما يصح تنكيرة، فأمّا المضمرات من نحو: "هُما"، و"أنتُما"، والموصولاتُ من نحو قولك: "اللَّذَانِ"، و"اللَّتَانِ"، والمبهماتُ من نحو: "هاتان" و"هَذَانِ"، فكلُّها صيَغٌ صيغت للتثنية، وليست بتثنية صِناعيّة، على ما سنذكر في موضعه. وقد جاءت أعلامٌ معارفُ بلفظ التثنية والجمع. وذلك إنّما جاء في الأماكن من الجبال والبقاع التي لا يفارق بعضُها بعضًا، نحو: "أبانَيْن"، و"عَمايَتَيْن"، و"عَرَفاتٍ"، و"أَذْرِعاتٍ"؛ فـ "أبانان" جبلان متقابلان، متصلٌ أحدهما بالآخر، فلمّا كانا (¬2) متّصلَين لا يفارق واحد منهما صاحبه، وحالُ كل واحد منهما في الخِصْب والقَحْط واحدٌ، لا يشار ¬
إلى واحد منهما بتعريف دون الآخر، جريا مجرى الشيء الواحد، نح و"يَثْرِبَ"، و"يَذْبُلَ" فخصّا باسمٍ علمٍ؛ كما خُص "يثربُ"، و"يذبلُ" بذلك. قال الشاعر [من المنسرح]: 85 - لو بأبانَيْن جاء يَخْطُبُها ... رُمِّلَ ما أَنْفُ خاطبٍ بِدَمِ وحالُ "عمايَتَيْن"، وهما جبلان متناوِحان، حالُ "أبانَيْن" قال الشاعر [من الكامل]: 86 - لو أن عُصْمَ عَمايَتَيْن ويَذْبُلٍ ... سَمِعَا حديثَك أَنْزَلَا الأَوْعالَا ¬
ومثل ذلك من الجمع "عَرَفاتٌ"؛ وهي معرفة لأنّها اسمٌ لبِقاع معلومة، غيرِ متفرّقة، ولا موجودةِ بعضُها دون بعض. ويدلّ على أنّها معارف ما حكاه سيبويه عنهم من قولهم: "هذه عرفاتٌ مباركًا فيها" (¬1)؛ فانتصابُ الحال بعدها يدلّ على أنّها معرفة. وفيها لغتان: الصرفُ وتركُه. والصرفُ أفصح من حيث كان جَمْعًا لمواضع مجتمعة؛ كأنّ كلّ موضع منهم عَرَفَةُ، فجُعلت مكانًا واحدًا، ووُضح لها اسم خاصّ. وتنوينُها في الحقيقة تنوينُ مقابلةٍ. والتاء للجمع لا لمجرَّدِ التأنيث. قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} (¬2) بالتنوين. وحالُ "أَذْرِعاتٍ" كحال "عرفات". قال امرؤ القيس [من الطويل]: 87 - تَنَوَّرْتُها من أَذْرِعاتٍ وأَهْلُها ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دارِها نَظَرٌ عالِي يروى بالصرف وتَرْكه، على ما ذكر. ¬
وكذلك يقولون: "هذان أبانان بيّنَيْن"، فيقع بعدها الحال؛ كما تقول- "هذا زيدٌ واقفًا". وربّما قيل لكل واحد منهما: "أبانُ". وما عدا ما ذُكر من التثنية والجمع، فتعريفه باللام، نحوَ قولك: "الزيدان"، و"العمران". فأمّا الأسماء التي ذكرها وهي "الخالدان"، و"الكَعْبان"، وسائرُ ما مثّل به، فشاهدٌ على ما ادّعاه مِن أنهّم إذا ثنّوا الاسمَ، أو جمعوه، تَنكَّر (¬1)، فإذا أرادوا تعريفَه فباللام، فمن ذلك الخالدان. وأنشد: وقبلي مات الخالدان ... إلخ والصواب: "فقبلي"، بالفاء؛ وهو للأَسْوَد بن يَعْفُرَ وقبله [من الطويل]: فإنْ يَكُ يَوْمِي قد دَنَا وِإخالُه ... كوارِدةٍ يومًا إلى ظِمءِ مَنْهَلِ والشاهد فيه قوله: "والخالدان"؛ والمراد: خالد بن قيس من بني جَحْوان من بني أسَد؛ وخالد بن قيس بن نَضْلَة بن المضلّل؛ وهو من بني أسد أيضًا. وقال ابن السِّكَّيت في إصلاحه: الخالدان: خالد بن نضلة بن جحوان بن فَقْعَس، وخالد بن قيس بن المضلَّل بن مالك الأصغر بن مُنْقِذ بن طَريف بن عمرو (¬2) بن قُعَيْن (¬3). ووجه الشاهد فيه أنَّه لمّا ثنّى "الخالدان" تنكّرا (¬4)، وإذا أريد تعريفُهما عرّفهما باللام، وصار تعريفهما بعد التثنية تعريفَ عَهْد، بعد أن كان تعريف علميّة. يقول: إن كان قد دنا يومي، فلستُ بأوّل، المَوْتَى؛ قد مات قبلي الخالدان، وكانا سيّدين. و"إخال": أظُنُّ أنّه قد قرِب، وبقي منه كما بقي من مَسِير الإبل إلى الماء للشُّرْب. و"المَناهِل": المواضع التي يجتمع فيها الماء، الواحدُ "مَنْهَل". ومثله "الكَعْبان"؛ وهما: كعب بن كِلاب، وكعب بن رَبِيعة بن عُقَيْل بن كعب بن ربيعة بن عامر من بني صَعْصَعَةَ؛ و"العامران": عامر بن الطُّفَيْل بن مالك بن جعفر بن ¬
كلاب، وهو أبو عليّ؛ وعامر بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة، من بني مُلاعِب الأسِنَّة، وهو أبو بَراء. وقالوا: "القَيسان"؛ وهما من طَيّىء: قيسُ بن عنّاب بن أبي حارثة، من بني عَتُود، وقيس بن هَزَمَةَ بن عنّاب. وقد رُوي "عنّاب" بالنون، و"عتّاب" بالتاء؛ وهو المشهور ابن أبي حارثة. وأمَّا قول الآخر، وهو رُؤْبَة: أنا ابن سعد أكرم السعدينا (¬1) فالرواية بنصب "أكرم" على الفخر والمدح. ولو خفضت على النعت لجاز. وقال: "السعدينا"، لأن السُّعُود في العرب كثيرٌ؛ منهم: سعد بن مالك في ربيعة، وسعد بن ذُبْيان في غَطَفان؛ وسعد بن بكر في هَوازِنَ، وسعد بن هُذَيْم في قُضاعة. ورؤبةُ من بني سعد بن زيدِ مَناة بن تميم، وفيهم الشَّرَفُ والعددُ. وأمَّا "المحمدون" في حديث زيد بن ثابت، فهم: محمّد بن أبي بكر، ومحمّد بن حاطب، ومحمّد بن طَلْحَة بن عُبَيْد الله، ومحمّد بن جعفر بن أبي طالب. وأمَّا "طلحةُ الطَّلَحات"، فهو (¬2): طلحة بن عبد الله بن خَلَف الخُزاعيّ. وفيه يقول عبيد الله بن قيس الرُّقَيات [من الخفيف]: 88 - رَحِمَ اللهُ أَعْظُمًا دفنوها ... بسِجِسْتانَ طَلْحَةَ الطَّلَحاتِ ¬
فصل [أسماء الكناية]
قيل: إنما قيل له ذلك، لأنّه كان في أجداده جماعةٌ يسمّون بطلحة، فأُضيف إليهم، لأنّه كان أكرمهم. وقيل: كان في زمانه جماعةٌ، اسمُ كلِّ واحد منهم طلحة، فعَلَاهم بالكرم؛ والطلحاتُ المعروفون بالكرم هم: طلحة بن عمر بن عُبَيْد الله بن عمرو بن يَعْمَرَ بن عثمان التَّيْميّ، وهو طلحةُ الجُودِ؛ وطلحة بن عبد الله بن عَوْف بن أبي عبد الرَّحمن بن عوف الزُّبَيْريّ، وهو طلحةُ النَّدَى؛ وطلحة بن الحسن بن عليّ، وهو طلحة الخير؛ وطلحة بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر، وهو طلحة الدراهم. وأمَّا "ابن قيس الرُّقَيَّاتِ" فهو: عُبَيْد الله بن قيس الرقيّات بن شُرَيْح بن مالك بن ربيعة، وهو النُّوَيْعِمُ؛ وإنّما نُسب قيس إلى الرقَيّاتِ؛ لأنه تَزوَّج عدةَ نسوة وافق أسماؤُهُن كلّهن رقيّةَ. وقال غيره: كانت له عدة جَدّات أسماؤهن كلّهن رقيّة. وقيل: إنّما أُضيف إليهن, لأنّه كان يُشبِّب بعذَة نساء تسمّين رقيّة، وهو قول السُّكَّريّ. وقيل: سمي "رقيّات" كما يسمّى الرجل بـ "مَساجِدَ". ومنه قوله: وقد يُقال: ابن قيسٍ الرقيّاتُ بتنوين "قيس"، ورفع "الرقيّات" على عطف البيان، كأنّه لقبٌ له، كقولك: عبد الله بطّةُ. و"أسامةُ": علم للأسد، لا يدخله الألف واللام. والتثنية: "الأسامتان"، إذا أُريد التعريف، و"الأسامات" للجمع، كـ "الطلحات"؛ كل ذلك معرَّف باللام حين تَنكَّر تثنيته وجمعه. فاعرفه. فصل [أسماء الكناية] قال صاحب الكتاب: "وفلان", و"فلانة" و"أبو فلان", و"أمُّ فلانة": كناياتٌ عن أسامي الأناسي وكناهم. وقد ذكروا أنهم إذ كنوا عن أعلام البهائم أدخلوا اللام, فقالوا: "الفلان", و"الفلانة", وأمَّا "هن" و"هنة" فللكناية (¬1) عن أسماء الأجناس". * * * قال الشارح: اعلم أن المراد بالكناية التعبيرُ عن المراد بلفظ غير الموضوع له، لضرب من الاستحسان والإيجاز. ومن ذلك قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (¬2)، كنى بذلك عن قَضاء الحاجة, لأنّ كلَّ من يأكل الطعامَ يحتاج إلى قضاء الحاجة. ومنه قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ (¬3) وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬4)، كنى عن تكذيبهم ¬
في قولهم لهُودٍ عليه السلام (¬1): {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} (¬2)، وهو مأخوذ من "كنَوْت" عن الشيء، و"كنَيْت"، بالواو والياء، إذا عبّرتَ عنه بعبارةٍ أُخرى تَوْرِيَةً. والمضمراتُ كلّها كنايات عمّا تقدّمها من الظَّواهر. و"فلانٌ" و"فلانةُ": كناياتٌ عن أعلام الأناسيّ خاصةً، ولا يدخلها اللام، إيذانًا بأن المَكْنيّ عنه كذلك. قال الشاعر [من الرجز]: 89 - في لَجَّةٍ أَمْسِكْ فُلَانًا عن فُلِ أراد: فلانًا عن فلان، وإنّما حذف تخفيفًا، وهذا الحذفُ من تغييرات النداء، واستعمالُه ها هنا، في غير النداء، ضرورة. و"أبو فلانٍ"، و"أُمُّ فلانٍ": كنايةٌ عن الكُنَى، نحو: "أبي محمّدٍ"، و"أبي القاسم"، و"أُمُّ هانِيء". وإذا كنوا عن أعلام البهائم أدخلوا اللام، فقالوا: "الفلان"، و"الفلانة". وذلك لنُقْصانهن عن درجة الأناسيّ في التعريف؛ إذ العلميةُ فيها إنّما كان على التشبيه بالأناسيّ. فأمّا "هَنٌ"، وَ"هَنَةٌ" فكنايات عن الأجناس. فَـ "هَنٌ": كنايةٌ عن المذكّر، و"هنةٌ" كنايةٌ عن المؤنّث؛ تقول: "عندي هَنُو زيدٍ"، وإذا سُئِلت عنه قلت: كنايةٌ أو توريةٌ بَيانًا له وإيضاحًا. فإن نكرتَ وقلت: "هنٌ"، و"هنةٌ"، كان كناية عن النكرات، كما كان "فلانٌ" ¬
كناية عن المعارف والأعلام. فإن أضفت كانت كناية عن المعارف المضافةِ؛ وأكثرُ ما يُستعمل في المُنْكَرات والشدائد. قال الشاعر [من المتقارب]: 90 - وقد رَابَني قولُها يا هَنا ... هُ وَيْحَكَ أَلْحَقْتَ شَرًّا بِشَرْ فمعنَى "يا هناهُ": يا رجلُ. و"هناه" لا يستعمل إلَّا في النداء. وقال الآخر [من السريع]: 91 - رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ ما فيهما .... وقد بَدَا هَنْكِ من المِئْزَرِ ¬
أراد "هَنُك" بالرفع؛ أعربه بالحركة في حال الإضافة، وهي لغةٌ، وسكّنه تشبيهًا بـ"عَضْدٍ". وليس بأبعدَ من قول امرئ القيسْ [من السريع]: 92 - فاليَوْمَ أَشْرَبْ غيرَ مُستَحْقبٍ ... إثْمًا من اللهِ ولا واغِلِ لأنه في البيت منفصلٌ، وههنا متصلٌ. ¬
"المعرب"
ومن أصناف الاسم "المُعْرَبُ" فصل قال صاحب الكتاب: "الكلام في المُعْرَب، وإن كان خليقاً, من قِبَلِ اشتراك الاسم والفعل في الإعراب, بأن يقع في القسم الرابع، إلا أن اعتراض موجبين صوّب إيراده في هذا القسم. أحدهما: أن حق الإعراب للاسم في أصله, والفعل إنما تطفل عليه فيه بسبب المضارعة. الثاني أنه لا بد من تقدم معرفة الإعراب للخصائص في سائر الأبواب". * * * قال الشارح: اعلم أن المُعْرَب يفيد الكلمةَ والإعرابَ؛ فالكلمةُ ذات المعرَب التي وقع بها الإعرابُ، اسمًا كان أو فعلًا، إلَّا أن دلالته على الكلمة دلالةُ تسميةٍ ومطابَقةٍ، ودلالتَه على الإعراب دلالةُ التزامٍ؛ فهو من خارجٍ من جهة الاشتقاق، إذ كان من لفظه. والمراد بالمعرَب ما كان فيه إعرابٌ، أو قابلًا للإعراب. وليس المراد منه أن يكون فيه إعرابٌ لا محالةَ. ألا ترى أنك تقول في "زيد" و"رجل": إنّهما معربان، وإن لم يكن فيهما في الحال إعرابٌ, لأن الاسم إذا كان وحدَه مفردًا من غير ضميمةٍ إليه، لم يستحقّ الإعرابَ, لأن الإعراب إنّما يؤتَى به للفرق بين المعاني، فإذا كان وحده، كان كصَوْتٍ تصوت به، فإن ركّبته مع غيره تركيبًا تحصل به الفائدةُ، نحوَ قولك: "زيدٌ منطلقٌ، وقام بكرٌ"، فحينئذ يستحق الإعرابَ لإخبارك عنه. وقدّم الكلامَ على المعرب قبل الاعراب، وإن كان المعرب مشتقًّا من الإعراب، والمشتقُّ منه قبل المشتقّ؛ وذلك من قِبَلِ أنّه لمّا كان المعربُ يقوم بنفسه من غير إعرابٍ، والإعرابُ لا يقوم بنفسه، صار المعربُ كالمَحلّ له، والإعراب كالعَرَض فيه، فكما يلزم تقديمُ المَحلّ على الحال، كذلك يلزم تقدمُ المعرب على الإعراب. واعلم أنّه لمّا رتّب كتابَه أربعةَ أقسام: قِسْمًا في الأسماء، وقسمًا في الأفعال، وقسمًا في الحروف، وقسمًا في المشترَك، قَضَتِ القسمةُ بإيراد الكلام على المعرب في قسم المشترك، من حيث كان يشترِك فيه الاسمُ والفعلُ، فاعتذر عن الوَفاء بذلك بأمرَيْن:
فصل [تعريف الاسم المعرب]
أحدهما: أن أصل الإعراب أن يكون للأسماء دون الأفعال، والأفعالُ محمولة في الإعراب على الأسماء على ما سيوضَح أمرُه في موضعه، فقدّم ذِكْرَه في قسم الأسماء، باعتبارِ أنّه الأصلُ في ذلك؛ والأمرُ الثاني: أنّه لما كانت الحاجةُ ماسّةً إلى تقديمه, لأن إدراك المعاني مرتبِطٌ به، قدّمه لذلك. فصل [تعريف الاسم المعرب] قال صاحب الكتاب: "والاسم المعرب ما اختلف آخره باختلاف العوامل, لفظًا أو محلّاً, بحركةٍ أو حرفٍ. فاختلافه لفظًا بحركة في كلِّ ما كان حرف إعرابه صحيحًا أو جاريًا مجراه, كقولك: "جاء الرجلُ", و"رأيت الرجل", و"مررت بالرجل"". * * * قال الشارح: "قوله ما اختلف آخِرُه"؛ يريد من الأسماء، لكنّه تركه ثِقَةً بعلم المخاطَب به، ولولا ذلك التقديرُ، لكان اللفظ عامًا يشمَل الاسمَ والفعلَ المعرَبَيْن، وإنمَّا مرادُه تفسيرُ الاسم المُعْرَب لا غيرُ. ويجوز أن يكون أطلق العامَّ، وأراد به الخاصَّ، واحترز بذلك من المبنيّ, لأن المبنّي لا يختلف آخِرُه، وإنّما يلزم طريقةً واحدةً من سكونٍ أو حركةٍ؛ فحركةُ آخره كحركة أوّلِه وحَشوِه في اللزوم والثبات. والمرادُ باختلاف الآخِر اختلافُ الحركات عليه، لا أنّ الحرف في نفسه يختلف ويتغيّر. وقوله: "باختلاف العوامل"؛ يحترز ممّا قد يتحرّك من المبنيّات على السكون، بغير حركةٍ لالتقاء الساكنَيْن، أو لإلقاء حركةِ غيره عليه. فالأوّلُ نحوُ: "شُدُّ"، و"شُدَّ"، و"شُدِّ"، و"مُدُّ"، و"مُدَّ"، و"مُدِّ"؛ فهذا وأشباهُه يجوز فيه ثلاثة أوجه: الضمّ والفتح والكسر. فالضمُّ للإتباع، والفتحُ للتخفيف، والكسرُ لالتقاء الساكنَيْن. ومن ذلك قولك: "أخذت مِنَ الرجُل"؛ فتفتح النون لالتقاء الساكنَيْن بسكونها وسكون اللام بعدها، وتقول: "أخذت مِنِ ابْنِكَ"، فتكسرها لسكون النون وما بعدها. وأمّا ما حُرّك لإلقاء حركة غيره عليه، فنحو قولك: "كَمَ خَذْتَ"؟ في: "كَمْ أخذت"؟ "وكَمِ بِلِكَ"؛ في: "كَمْ إبِلِكَ"؟ و"كَمُ خْتًا لك"؟ في: "كَمْ أُخْتًا لك"؟ ألقيتَ حركاتِ الهمزات على الميم تخفيفًا للهمزة، وقد قُرىء {قَدَ فْلَحَ المُؤْمِنُونَ} (¬1). وهذا يأتي في موضعه مستوفىً. وهذا اختلافٌ كائنٌ في المبنيّات، وليس بإعراب, لأنّه لم يَحْدُث بعامل، فلذلك قيّد الاختلافَ أن يكون بعامل، ولم يُطْلِقْهُ. ¬
وقوله: "لفظًا أو محلاًّ"؛ احترز به من الأسماء التي لا يتبيّن فيها الإعرابُ، وإنّما يُدْرَك البيان من العوامل قبلها، وذلك نحو الأسماء المقصورة، من نحو: "عَصًا"، وَ"رَحًى"؛ والمنقوص في حالتَي الرفع والجرّ, لأن هذه الأسماء معرَبةٌ، وإن لم يظهر فيها إعرابٌ، وإنّما لم يظهر فيها إعراب لنُبُوِّ حرف الإعراب عن تحمُّل الحركات. وجملة الأمر أنّ المعرب على ضربَيْن: أحدهما: باختلاف في اللفظ بادٍ للأسماع؛ والآخرُ: باختلاف في المحلّ، يقدر تقديرًا من غيرِ أن يُلْفَظ به. فالاختلافُ في اللفظ يكون بحركة، أو حرف. فالاختلاف بالحركة يكون في كلّ اسم حرفُ إعرابه صحيحٌ، أو جارٍ مجرى الصحيح. فالصحيح ما لم يكن حرفُ إعرابه حرفَ عِلّة، كالواو، والياء، والألف، وذلك نحو: "رجل"، "وفرس". فالآخِرُ من هذه الكَلِم قد اختلف بحسبِ تعاقُب العوامل في أوّلها، وهو: الابتداء، ورأيت، والباء (¬1). وقوله: "أو ما كان جاريًا مجراه"؛ يريد أو ما كان جاريًا مجرى الصحيح من المعتل، وذلك إذا سكن ما قبل حرف العلّة منه، وإنّما يتأتى ذلك في الواو، والياء. فأمّا الألف فلا يمكن سكونُ ما قبلها، وإذا سكن ما قبل حرف العلّة، جرى مجرى الصحيح في تعاقُب حركات الإعراب عليه، نحو قولك: "هذا غَزْوٌ وظَبْيٌ"، و"رأيت غزوًا وظبيًا"، و"مررت بغزوٍ وظبي". وإنما كان كذلك لأنّ الواو إذا انضمّ ما قبلها، والياءَ إذا انكسر ما قبلها، أشبهتا الألفَ، وصارتا مَدَّتَيْن، كما أن الألف كذلك، فحينئذ تثقل الضمّةُ والكسرةُ عليهما، كثقلهما على الألف، إلَّا أن امتناع الألف من الحركة للتعذّر، وامتناعَ الواو والياء منها نوعُ استحسانٍ للثقل، مع إمكان الإتيان بهما فيهما. فأمّا إذا سكن ما قبل الواو والياء، زال المَدّ منهما، وفارقتا الألفَ بذلك، فجرتا لذلك مجرى الصحيح، ولم يثقل عليهما ضمّةٌ وكسرةٌ. وكذلك الواو المشدّدة، والياء المشدّدة، تدخلهما حركاتُ الإعراب من غير ثقل؛ تقول: "هذا عَدُوٌّ وكُرْسِيٌّ"، و"رأيت عدوًّا وكرسيًّا"، و"مررت بعدوٍّ وكرسيٍّ ". وذلك لأنّ الحرف المشدَّد يُعَدّ بحرفَيْن، الأوّل منهما ساكنٌ، والثاني متحرّك. والواوُ الأولى من "عدوّ" والياءُ الأولى من "كرسيّ" بمنزلة الزاي من "غَزْوٍ"، والباء من "ظَبْي" والحاء من "نُحْيٍ" في السكون، فلذلك كان حكمُهما في تعاقُب الحركات عيهما واحدًا. فإن قيل: "قد اشترطتم في الاسم المعرب بالحركات أن يكون حرفُ إعرابه صحيحًا، فما تعنون بحرف الإعراب"؟ فالجواب: أن المراد بقولنا: "حرف الإعراب": ¬
[المعرب بالحروف]
محلُّ الإعراب، وهو من كل معرب آخِرُه، نحوُ الدال من "زيد"، والباء من "يَضْرِبُ". وعلى هذا لا يكون للمبنيّ حرفُ إعراب، لأنه لا إعرابَ فيه، وربمّا سُمي آخِرُ الكلمة مطلقًا حرفَ إعراب، سواء كانت معربة، أو لم تكن معربة، فعلى هذا حرفُ الإعراب مِن "ضَرَبَ": "الباءُ"؛ على معنَى أنّه لو أُعْرب، أو كان ممّا يُعْرَب، لكان محلَّ الإعراب. فإن قيل: "ولِمَ كان الإعراب في آخر الكلمة، ولم يكن في أوّلها، ولا في وَسَطها"؟ قيل: إنّما كان كذلك لوجهَيْن: أحدهما: أن الإعراب دليلٌ، والمعربَ مدلولٌ عليه. ولا يصحّ إقامةُ الدليل، إلَّا بعد تقدُّم ذكرِ المدلول عليه؛ فلذلك كان الإعراب آخرًا. الوجهُ الثاني: أنه لمّا احتيج إلى الإعراب، لم يَخْلُ من أن يكون أوّلاً، أو وسطًا، أو آخرًا. فلم يجز أن يكون أوّلاً, لأن الحرف الأول لا يكون إلّا متحرّكًا. فلو جُعل الإعراب أوّلاً، لم يُعْلَم إعرابٌ هو أم بناءٌ. ومع ذلك، فإنّ من جملة الإعراب الجزمَ الذي هو سكونٌ في آخِر الأفعال. فلو كان الإعرابُ أوّلاً لامتنع منها الجزم، إذ الأوّل لا يمكن أن يكون ساكنًا. ولم يُجْعَل وسطًا، لأن بوسط الكلمة يُعْرَف وزنها: هل هي على "فَعَلٍ"، كـ "فَرَسٍ"، أو"فَعِلٍ"، كـ "كَتِفٍ"، أو على "فَعُلٍ" كـ "عَضُدٍ"، مع أنّ من الأسماء ما هو رباعيٌّ لا وسطَ له. فلمّا امتنع الاْوّلُ والوسطُ بما ذكرناه، لم يبق إلَّا جَعْلُ الإعراب آخِرًا، فاعرفه. * * * [المُعرب بالحروف] قال صاحب الكتاب: "واختلافه لفظًا بحرف في ثلاثة مواضع: في الأسماء الستة مضافة, وذلك نحو:"جاءني أبوه, وأخوه, وحموه, وهنوه, وفوه, وذو مال", ورأيت أباه", و"مررت بأبيه", وكذلك الباقية؛ وفي "كلا" مضافًا إلى مضمر, تقول: "جاءني كلاهما", و"رأيت كليهما", و"مررت بكليهما"؛وفي التثنية والجمع على حدّها, تقول: "جاءني مسلمان ومسلمون" ورأيت مسلمينِ ومسلمينَ", و"مررت بمسلمين ومسلمين"". * * * قال الشارح: اعلم أن أصل الإعراب أن يكون بالحركات، والإعرابُ بالحروف فَرْعٌ عليها. وإنمّا كان الإعراب بالحركات هو الأصل لوجهَيْن: أحدهما: أنّا لمّا افتقرنا إلى الإعراب للدلالة على المعنى، كانت الحركات أوْلى, لأنها أقلُّ وأخفُّ، وبها نَصِلُ إلى الغرض، فلم يكن بنا حاجةٌ إلى تكلُّفِ ما هو أثقل. ولذلك كثرتْ في بابها، أعني الحركات، دون غيرها، ممّا أُعْرب به. وقُدّر غيرها بها ولم تُقدَّر هي به. الوجه الثاني: أنَّا لمّا افتقرنا إلى علامات تدل على المعاني وتفرق بينها، وكانت الكَلِم مركَّبة من
الحروف، وجب أن تكون العلامات غيرَ الحروف؛ لأنّ العلامة غيرُ المعلَّم، كالطَّراز في الثوب. ولذلك كانت الحركات هي الأصلَ؛ هذا هو القياس. وقد خُولف الدليل، وأعربوا بعضَ الكلم بالحروف لأمرٍ اقتضاه، وذلك في مواضعَ. منها: الأسماء الستّة المعتلّة؛ إذا كانت مضافة؛ ومنها "كِلا"؛ ومنها التثنية، والجمع السالم. فأمّا الأسماء الستّة المعتلّة، وهي: "أخوك"، و"أبوك"، و"حموك"، و"فوك"، و"هنوك"، و"ذو مال"، فهذه الأسماء إذا أُضيفت إلى غير ضميرِ متكلّم، كان رفعها بالواو، ونصبها بالألف، وجرّها بالياء؛ نحوَ قولك: "هذا أخوك وأبوك"، و"رأيت أخاك وأباك" و"مررت بأخيك وأبيك". وكذلك سائرها. وإنما أُعربت هذه الأسماء بالحروف, لأنها أسماءٌ حُذفت لاماتها في حال إفرادها، وتضمّنت معنى الإضافة، فجُعل إعرابها بالحروف كالعوض من حذفِ لاماتها. واحترزنا بقولنا: "وتضمّنت معنى الإضافة"، عن مثل "يَدٍ"، و"دَم"، و"غَدٍ"، وشِبْهِها ممّا حُذفت لامه. فإن قيل: قولكم: "تضمّنت معنى الإضافة" زيادةُ وصف لا تاثيرَ له، وإلحاقُه بالعلّة يكون حَشْوًا، فلا يكون جُزْء للعلّة. فالجواب لا نُسِلّم أنَّه لا تأثير له، وذلك لأنه إذا تضمّن معنى الإضافة، صار في معنى التثنية، لدلالته على شيئَيْن، مع أنّا نقول: إن إلحاق الوصف بالعلّة، مع عدم المناسَبة إذا ذُكر احترازًا من وُرود نَقصٍ، جاز كما لو كان له تأثير؛ وذلك لأنّ الأوصاف في العلّة تفتقر إلى شيئَيْن: أحدهما: أن يكون لها تأثيرٌ، والثاني: أن تكون للاحتراز. فكما لا يكون ما له تأثير حشوًا، كذلك لا يكون ما فيه احتراز حشوًا. وقال قوم: إنّما أُعربت هذه الأسماء بالحروف توطئة لإعراب التثنية والجمع بالحروف؛ وذلك أنهم لمّا اعتزموا إعرابَ التثنية والجمع بالحروف؛ جعلوا بعض المفردة بالحروف، حتى لا يُسْتوحش من الإعراب في التثنية والجمع السالم (¬1) بالحروف. ونظيرُ التوطئة ها هنا قول أبي إسحاق: "إنّ اللام الأوُلى، في نحو قولهم: "واللهِ لَئنْ زُرْتَني لأكرمتُك"، إنّما دخلت زائدة مُؤْذِنة باللام الثانية التي هي جوابُ القسم ومعتمَدُه". وقد اختلفوا في هذه الحروف؛ فذهب سيبويه إلى أنهّا حروف إعرابٍ، والإعراب فيها مقدَّرٌ، كما يقدَّر في الأسماء المقصورة؛ وإنّما قُلبت في النصب والجرّ للدلالة على الإعراب المقدَّر فيها, ولا يلزم مثلُ ذلك في الأسماء المقصورة, لأنّهم أرادوا اختلافَ أواخر هذه الأسماء توطئة للتثنية والجمع، على ما ذكرنا، فلم يلزم في غيرها ممّا كان في معناها. ¬
وذهب الأخفش إلى مثلِ مذهب سيبويه في أنّها حروف إعراب، ويدلّ على الإعراب في أحد قولَيْه، إلَّا أنه لا يقول: إنّ فيها إعرابًا مَنْوِيًّا. وذهب الجَرْمِيّ إلى أن الانقلاب فيها بمنزلة الإعراب. وفيه ضعفٌ؛ لأنّه يلزم أن تكون في حال الرفع غيرَ معربة, لأنّ الواو لامُ الكلمة في الأصل، ولم تنقلب عن غيرها. وذهب المازني إلى أنّها معربة بالحركات، وأن الباء في "أبيك" حرفُ الإعراب، والخاء في "أخيك" حرف الإعراب، وكذلك الباقيةُ، وهذه الحروف، أعني "الواو"، و"الألف"، و"الياء"، إشباعٌ حدث عن الحركات؛ وإشباعُ حركات الإعراب حتّى ينشأ عنها هذه الحروفُ كثيرٌ، في الشعر وغيره، وتُؤيِّده عنده لغةُ من يُعْرِب بالحركات في حال الإضافة، نحوَ: "هذا أبُك"، و"رأيت أبَك"، و"مررت بأبِك"، وهو ضعيف أيضًا؛ لأنّ هذا الإشباع إنّما يكون في ضرورة الشعر، ولا داعِيَ يدعو إليه في حال الاختيار، ولا دليل عليه. مع أنّه يلزم منه أن يكون لنا اسمٌ ظاهرٌ معربٌ، على حرف واحد، وهو: "فُوك"، و"ذُو مالٍ"، وذلك معدوم. وذهب الزِّياديّ إلى أنها أنفسَها إعرابٌ. وذلك فاسد أيضًا؛ لأنّه يلزم منه أن يكون اسم معرب على حرف واحد، وهو "فوك، وذو مال". وكان عليّ بن عيسى الرَّبعيّ يذهب إلى أنها معربةٌ بالحركات، وأن هذه الحروف، أعني: الواو والألف والياء، لاماتٌ؛ فإذا قلت: "هذا أخوك"، فأصلُه: "أَخَوُكَ"، وإنما نُقلت الضمّة من الواو إلى الخاء، لئلاّ تنقلب ألفًا لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلها؛ وإذا قلت: "أخيك"، فأصله "أخَوِكَ"، فنقلت الكسرة من الواو إلى الخاء، ثمّ قلبتَها ياء لسكونها وانكسارِ ما قبلها. ولا ينفكّ من ضُعْف أيضًا, لأن نقل الحركة إنما يكون إلى حرف ساكن. وذهب الكوفيون (¬1) إلى أنها معربة من مكانَيْن، بالحروف والحركاتِ التي قبلها؛ فإذا قلت: "هذا أخوك"، فهو مرفوع، والواو علامةُ الرفع، والضمّةُ التي قبلها؛ وإذا قلت: "رأيت أخاك"، فالألف علامة النصب، والفتحةُ التي قبلها؛ وإذا قلت: "مررت بأخيك"، فالياء علامة الجرّ، والكسرةُ التي قبلها. وهو قول ضعيف من قِبَلِ أن الإعراب أمارةٌ على المعنى، وذلك يحصل بعلامة واحدة، ولم يكن لنا حاجة إلى أكثر منها. واعلم أن هذه الأسماء قد خُولف فيها القياس بحذف لاماتها في حال إفرادها، لأنّك إذا قلت: "أخٌ"، فأصله: "أخَوٌ"؛ "وأبٌ"، فأصله: "أبَوٌ"، ¬
و"حَمٌ"، فأصله: "حَمَوٌ"؛ و"هَنٌ"، فأصله: "هَنَوٌ". والذي يدلّ على ذلك قولُهم في التثنية: "أخَوَانِ"، و"أبوان"، و"حموان"، و"هنوان". وقالوا في الجمع: "هَنَواتٌ". قال الشاعر [من الطويل]: 93 - أرَى ابنَ نِزارٍ قد جَفاني وَمَلَّني ... على هَنَواتٍ شَأنُها مُتَتابِعُ وكان مقتضى القياس فيها أن تقلب الواو فيها ألفًا لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، إلَّا أنهم حذفوها تخفيفًا، مبالغة في التخفيف. والقياسُ ما قدّمناه؛ ألا ترى أنهم لم يحذفوا اللام في مثل "عَصًا"، وَ "رَحًى". ويُحْكَى أن "بَلْحارِثِ" يأتون بها على القياس مقصورةً، فيقولون: "هذا أبًا وأخًا، ورأيت أبًا وأخًا". قال الشاعر [من الرجز]: 94 - إن أبَاها وأبا أباها ... قد بَلَغَا في المَجْد غايَتاها ¬
وَيُحْكَى أن منهم من يحذف لاماتِها في كلّ حال، ويُعْرِبها بالحركات في حال إضافتها، فيقول: "هذا أبُكَ"، و"رأيت أبَكَ"، و"مررت بأبِكَ". وأمَّا "فَمٌ"، فأصله: "فَوْهٌ"، بزنة "فَوْزٍ". يدلّك على ذلك قولك في تكسيره: "أفَوَاهٌ"، وفي تصغيره: "فُوَيْهٌ". فهذا وحدَه لامُه هاءٌ، والهاءُ مشبَّهة بحروف العِلّة لخفائها، وقُرْبها في المَخْرَج من الألف، فحُذفت كحذفِ حرف العلّة، فبقيت الواو، التي هي عينٌ، حرفَ الإعراب، وكان القياس قلبَها ألفًا لتحرّكها بحركات الإعراب وانفتاح ما قبلها، ثمّ يدخل التنوين على حدّ دخوله في نحو: "عَصًا"، و"رَحًى"، فتحذف الألف لالتقاء الساكنَيْن، فبقي الاسم المعرب على حرف واحد، وذلك معدومُ النظير. فلمّا كان القياس يُؤدِّي إلى ما ذُكر، أبدلوا من الواو ميمًا, لأن الميم حرفٌ جَلْدٌ، يتحمّل الحركاتِ من غير استثقال. وهما من الشفتَيْن فهما متقاربان، وقلت: "هذا فَمٌ"، و"رأيت فَمًا"، و"مررت بفَمٍ". وأمّا "ذو مالٍ" فأصلُ "ذو" فيه "ذَوًا"، مثلُ "عَصًا"، و"قَفًا"، يدلّ على ذلك قوله تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} (¬1). وأن تكون لامه ياءً أمثلُ من أن تكون واوًا، وذلك لأنّ القضاء عليها بالواو يُصيِّرها من باب "القُوَّة"، و"الهُوَّة"، ممّا عينه ولامه من واد واحد؛ والقضاءُ عليها بالياء يصيّرها من بابِ "شَوَيْتُ"، و"لَوَيْتُ"، وهو أكثر من الأوّل، والعملُ إنّما هو على الأكثر. وأمّا "ذُو" فلا تُستعمل إلَّا مضافةً، ولا تضاف إلَّا إلى اسم جنس، من نحوِ: "مال" و"عَقْل"، ونحوهما. ولا تضاف إلى صفة، ولا مضمرٍ؛ فلا يُقال: "ذو صالحٍ"، ولا "ذو ¬
طالحٍ"، ولا يجوز "ذُوهُ"، ولا "ذُوكَ". لأنّها لم تدخل إلَّا وُصْلَةً إلى وصف الأسماء بالأجناس، كما دخلت "الَّذِي" وصلةً إلى وصف المعارف بالجُمَل، وكما أُتي بـ "أيًّ" وصلةً إلى نِداءِ ما فيه الألف واللام في قولك: "يا أيُّهَا الرجلُ"، "ويَا أيُّها الناسُ". وقد جاء مضافًا إلى المضمر. قال كَعْب بن زُهَيْر [من الوافر]: 95 - صَبَحْنا الخَزْرَجِيَّةَ مُرْهَفاتٍ ... أبارَ ذَوِي أرُومَتِها ذَوُوهَا وقال الآخر [من مجزوء الرمل]: 96 - إنَّما يَعْرِفُ ذَا الفَضْ ... ـلِ من الناسِ ذَوُوهُ والذي جسّر على ذلك كونُ الضمير عائدًا إلى اسم الجنس. وأضعفُ من ذلك قولُ من يقول: "اللَّهُمَّ صَل على محمَّدٍ وذَوِيهِ"، من قِبَلِ أن مضمره لا يعود إلى جنس. والذي حسّنه قليلاً أنّها ليست بصفةٍ موجودةِ الموصوفِ، فجرت مجرَى ما ليس بصفة. ¬
فأمّا قوله تعالى، في قراءة ابن مسعود: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (¬1)، فالأشبهُ بالقياس أن يكون "العالم" ها هنا مصدرًا كـ "الفالج"، و"الباطل". فكَأنّه قال: "وفوق كلّ ذي عِلْم عليمٌ"، فالقراءتان في المعنى سَواءٌ. ويجوز أن يكون على مذهب من يرى زيادةَ "ذِي"، فيكون حاصلُه: و"فوق كل عالمٍ عليمٌ". ويجوز أن يكون من إضَافة المسمّى إلى الاسم، أي: و"فوق كلّ شخص يسمّى عالماً، أو يُقال له: عالمٌ، عليمٌ"؛ وذلك على حد قول الشاعر [من الطويل]: إليكم ذوِي آلِ النبي تَطلّعتْ ... نَوازعُ من قَلْبِي ظِماءٌ وَأَلْبُبُ (¬2) على ما سنذكر في موضعه. والموضع الثاني: ما اختلف آخِرُه في اللفظ بحرف، وهو"كِلا". اعلمْ أنّ "كِلا" اسمٌ مفردٌ، يفيد معنى التثنية؛ كما أنّ "كُلاًّ" اسم مفرد، يفيد معنى الجمع والكثرةِ. هذا مذهب البصريين (¬3). وذهب الكوفيون إلى أنَّه اسمٌ مُثَنًّى لفظًا ومعنًى. والصوابُ مذهب البصريين؛ بدليل جوازِ وقوع الخبر عنه مفردًا، نحوَ قولك: "كِلَا أخوَيْك مُقْبِلٌ". قال الشاعر [من الوافر]: 97 - كِلا يَوْمَيْ أُمامَةَ يومُ صَدًّ ... وإنْ لم نَأْتِها إلَّا لِماما ¬
وقال الآخر [من الوافر]: 98 - أُكاشِرُهُ وأَعْلَمُ أنْ كِلانا ... على ماساءَ صاحِبُهُ حَرِيصُ فأخبر عنها بالمفرد، وهو"يوم صدّ"، و"حريص"؛ وكلاهما مفردٌ، ولو كانت تثنيةً حقيقيّةً، لفظًا ومعنًى، كما زعموا، لَمَا جاز إلَّا "يَوْمَا صَدًّ" و"حريصان"؛ ألا ترى أنّه لا يجوز بوجهٍ أن تقول: "الزيدان قائمٌ". وممّا يدل على إفرادها من جهة اللفظ جوازُ إضافتها إلى المثنّى؛ كقولك: "جاءني كلا أخوَيْك، وكلا الرجلَيْن"، و"مررت بهما كلَيْهما". ولو كانت تثنيةً على الحقيقة، لم يجز ذلك، ولَكان من قبيلِ إضافة الشيء إلى نفسه، وذلك ممتنع؛ ألَّا ترى أنه لا يُقال: "مررت بهما اثنَيْهما"، كما تقول: "مررت بهما كِلَيْهما". وممّا يدلّ على إفرادها أنّك متى أضفتها إلى ظاهر، كانت بالألف على كلّ حال، وليس المثنّى كذلك. فإن قيل: فقد عاد الضمير إلهيا بلفظ التثنية، نحوَ قوله [من البسيط]: 99 - كِلاهما حِينَ جدَّ الجَرْيُ بينهما ... قد أقْلَعَا وكِلَا أنْفَيْهِما رابِي ¬
فقال: "قد أقلعا"، وأنت لا تقول: "زيدٌ قامَا". فالجواب: أن هذا محمولٌ على المعنى، كما يُحْمَل على معنَى "كُلٍّ"، و"مَنْ"؛ نحو قوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} (¬1)، وقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (¬2)، وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (¬3). وفي موضع آخر: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} (¬4)، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} (¬5)؛ فأعاد الضمير على اللفظ تارةً بالإفراد، وعلى المعنى أُخْرَى بالجمع، فكذلك "كِلا" لفظة مفردة، ومعناها التثنية، فلَكَ أن تحمل الخبرَ تارة على اللفظ فتُفْرِده، وتارة على المعنى فتثنّيه. ونوّنه صاحبُ الكتاب، فقال: "كِلا" (¬6)؛ لأنّه عنده مفرد، من قبيل المقصور، وهو غير مضاف، وألفُ "كلا" لامٌ، وليست زائدة، لئلاّ يبقى الاسم الظاهر على حرفَيْن، وليس ذلك في كلامهم أصلاً. وذهب بعضهم إلى أنّها منقلبة عن ياء، وذلك لأنّه رآها قد أميلت. قال سيبويه: لو سمّيتَ بـ "كِلاً"، وثنّيتَ، لقلبتَ الألف ياءً, لأنّه قد سُمع فيها ¬
الإمالة. والأمثل أن تكون منقلبة عن واو, لأنّها قد أُبدلت تاءً في "كلتا"، وإبدالُ التاء من الواو، أضعافُ (¬1) إبدالها من الياء؛ والعملُ إنّما هو على الأكثر. وإنما أميلت لكسرة الكاف، ولأئها تنقلب ياءً، وذلك إذا أُضيفت إلى مضمر في حال النصب والجرّ، نحوَ: "ضربت الرجلَيْن كِلَيْهما"، و"مررت بهما كِلَيْهما". وإنّما قلبوها في هذه الحال تشبيهًا بـ "عَلَيْكَ"، و"إلَيْكَ"، و"لَدَيْكَ". ووجهُ الشَبَه بينهما أنّ آخِرَها ألفٌ، كأواخرِ هذه الكلم؛ وهي ملازِمةٌ للإضافة، كما أنّ تلك كذلك؛ وليس لها تصرّفُ غيرها، ممّا يُستعمل مفردًا ومضافًا، فجرت مجرى الأدَوات، نحو: "عَلَى"، و"إلَى"، والظروفِ غير المتمكّنة، نحو: "لَدَى"، فقلبوا ألفها لذلك ياءً، كما قلبوا الألف في "عليك"، و"إليك"، و"لديك"، ولم يقلبوها في الرفع ياءً، فيقولوا: "قام الرجلان كليهما"، لانّها بعُدت برفعها عن شَبَهِ "عليك"، و"إليك"، و"لديك"؛ إذ كُنَّ لا حَظَّ لهنّ في الرفع. فهذه الألفُ، وإن فُهم من اختلافها الإعرابُ، فليس الاختلافُ في الحقيقة لأجل الإعراب، بل لِمَا ذكرتُ لك. وحالُ "كِلْتَا" كحالِ "كلا" في الإفراد والانقلاب، إلَّا أنّها مؤنّثة. قال الله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} (¬2). وقد اختلف العلماءُ في هذه التاء. فذهب سيبويه إلى أن الألف للتأنيث (¬3)، والتاء بدلٌ من لام الكلمة، كما أُبدلت منها في "بِنْت"، و"أُخْت"، ووزنُها "فِعْلَى" كـ "ذِكْرى" و"حِفْرَى"، وهو نَبْتٌ. وذهب أبو عمر الجَرْميّ إلى أن التاء للتأنيث، والألف لام الكلمة، كما كانت في "كِلا". واَلأوْجَه الأوَّل، وذلك لأمرَيْن: أحدهما: ندرةُ البناء، وانّه ليس في الأسماء "فِعْتَلٌ". والثاني: أنّ تاء التأنيث لا تكون في الأسماء المفردة إلَّا وقبلها مفتوحٌ، نحوَ: "حَمْزَةَ"، و"طَلْحَةَ"، و"قائمةٍ"، و"قاعدةٍ"؛ و"كلتا" اسمٌ مفردٌ عندنا، وما قبل التاء فيه ساكنٌ، فلم تكن تاؤه للتأنيث، مع أن تاء التأنيث لا تكون حشوًا في كلمة؛ فلو سمّيت رجلاً بـ "كلتا"، لم تصرفه في معرفة ولا نكرةٍ، كما لو سمْيت بـ "ذِكْرَى"، و"سَكْرَى"، لأنّ الألف للتأنيث. وقياسُ مذهب أبي عمر الجرمي أن لا تصرفه في المعرفة، وتصرفه في النكرة, لأنه كـ "قائمة"، و"قاعدة" إذا سُمّي بهما، فاعرفه. فأما التثنية وجمع السلامة فإنهما يُعْرَبان بالحروف، وتختلف أواخرُهما بها. فأمّا التثنية فإن إعرابها بحرفَيْن؛ الألف والياء. فالألفُ للرفع، والياءُ للنصب والجر، إلَّا أنّك ¬
تفتح ما قبل الياء، فتقول: "جاءني الزيدان والعمران"، و"رأيت الزيدَيْن والعمرَيْن"؛ و"مررت بالزيدّيْن والعمرَيْن". والجمعُ السالمُ إعرابه بحرفَيْن أيضًا، وهما الواو والياء، فالرفع بالواو، نحو قولك: "جاءني الزيدون والمسلمون"؛ والجر والنصب بالياء؛ إلا أنك تكسر ما قبل الياء في الجمع، فَرْقًا بينه (¬1) وبين التثنية. تقول: "رأيت الزيدِين، والعمرِين"؛ و"مررت بالزيدِين، والعمرِين". والتثنية والجمع فَصْلان يُستقصى الكلام عليهما فيهما. * * * قال صاحب الكتاب: "واختلافه محلاً في نحو: "العصا", و"سعدى" و"القاضي", في حالتي الرفع الجر, وهو في النصب كـ "الضارب"". * * * قال الشارح: يريد أن اختلاف الآخِر يقْدَّر تقديرًا، من غيرِ أن يُلْفَظ به، وذلك إذا كان حرفُ الإعراب نابِيًا عن تحمُّل الحركة؛ بأن يكون حرفَ عِلّة، كالألف في "عَصًا" و"حُبْلَى"، والياء في "قاضٍ"؛ لأنّ الكلمة في نفسها معربةٌ بحُكْم الاسميّة، إذ لم يعرض فيها ما يُخْرِجها عن التمكّن، واستحقاقِ الإعراب. وإنما حرفُ الإعراب في "عصا" وشِبْهه ألفٌ، والألف لا تتحرَّك بحركة، لأنّها مَدَّةٌ في الحَلْق، وتحريكُها يمنعها من الاستطالة والامتدادِ، ويُفْضِي بها إلى مُخْرَج الحركة. فكونُ الإعراب لا يظهر فيها لم يكن لأنّ الكلمة غيرُ معربة، بل لنُبُوّ في محل الحركة. بخلافِ "مَنْ"، و"كَمْ"، ونحوِهما من المبنيات، فإنّ الإعراب لا يتعذر على حرف الإعرابُ منها، لأنه حرفٌ صحيح يمكن تحريكُه. فلو كانت الكلمةُ في نفسها معربة، لَظهر الإعرابُ فيها، وإنّما الكلمةُ جَمْعًا في موضعِ كلمة معربة. وكذلك ياءُ "المَاضي"، و"الداعي"، لا يظهر فيهما الرفعُ والجرُّ، لثقلِ الضمّة والكسرة على الياء المكسورِ ما قبلها، فهي نابيةٌ عن تحمّلِ الضمّة والكسرة. واعلم أن صاحب الكتاب لم يستقصِ الكلام على المقصور والمنقوص، وإنمّا أشار إليهما إشارة، ولا بد من التنبيه على نُكَت بابَيْهما، بما فيه مَقْنَعٌ إن شاء الله تعالى. المقصور: اعلم أن المقصور كلُّ اسم وقعتْ في آخره ألف مفردةٌ، نحوُ: "العَصَا"، و"الفتَى"، و"حُبْلَى"، و"سَكْرَى". وقولُنا: "مفردة"، احترازٌ من مثل: "حَمْرَاءَ، وصحراء"، وبابِهما. فإنّ هذه الأسماء في آخِرها ألفان: ألفُ التأنيث المنقلبةُ همزةً، وألفٌ أُخرى قبلها للمَدّ. وإنّما سمّي مقصورًا لأنه قُصر عن الإعراب كلَّه، أي حُبس عنه، فلم يدخله رفعٌ ولا نصبٌ ولا جرٌّ. ¬
فتقول في الرفع "هذه عصًا ورحى يا فَتَى"؛ وفي الجرّ: "مررت بعصًا ورحى يا فتى"؛ وفي النصب: "رأيت عصًا ورحًى يا فتى". والقصرُ: الحبسُ. ومنه قوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} (¬1) أي محبوسات، وإنّما لم يدخله شيء من حركات الإعراب, لأنّ في آخِره ألفًا؛ والألفُ لا تتحرّك بحركة، على ما تقدّم، فكان فيها مقدَّرًا؛ فإذا قلت: في الرفع: "هذه عصا"، ففي الألف ضمّةٌ منويّةٌ؛ وإذا قلت في النصب: "رأيت عصا"، ففي الألف فتحة منويّةٌ؛ وإذا قلت في الجرّ: "مررت بعصا"، ففي الألف كسرة منوية. والمقصور على ضربَيْن: منصرفٌ، وغيرُ منصرف. فالمنصرف: ما يدخله التنوينُ وحدَه؛ نحو: "عصا"، و"رحى". ثمّ يلتقي ساكنان الألفُ، التي هي لام الكلمة، والتنوينُ بعدها ساكنٌ، فيحذف لالتقاء الساكنين. وكانت الألف أوْلى بالحذف من التنوين لوجوه ثلاثة: أحدُها: أن التنوين دخل لمعنًى، ويزول بزَوالِ ذلك المعنى، وليست الألف كذلك لأنّها لام الكلمة. الثاني: أنّ الألف إذا حُذفت، بقي قبلها ما يدلّ على الألف المحذوفة، وهي الفتحة قبلها؛ وليس على حذف التنوين دليلٌ. الثالثُ: أن الساكن الأول هو المانع من النطق بالثاني، فكان حذفه هو الوجه لإزالة المانع، فلذلك تقول: "هذا عصًا"، و"رأيت عصًا"، و"مررت بعصًا"، بالتنوين من غير ألف. وغير المنصرف: ما كان في آخِره ألفُ التأنيث المفردةُ؛ نحو: "حُبْلَى" وَ"سَكْرَى". فهذا لا يدخله شيءٌ من الإعراب, لأنّ في آخِره ألفًا، والألفُ لا تقبل الحركةَ؛ ولا يدخله التنوين, لأنّه غير منصرف، لأجل التأنيث اللازم، فتقول: "هذه حُبْلَى وسَكْرَى"، و"رأيت حبَلى وسكرَى"، و"مررت بحبلَى وسكرَى"، فالألفُ ثابتةٌ على كلّ حال لا تُحْذَف، إلَّا إذا لقِيها ساكنٌ بعدها من كلمة أخرى، نحوَ: "حُبْلَى الْقَوْمِ" و"سَكْرَى ابْنِكَ". فاعرفه. والمنقوص: كل اسم وقعت في آخره ياء قبلها كسرةٌ، نحو: "القاضِي"، و"الداعِي"، و"قاضٍ"، و"داع". فهذا يدخله النصبُ وحده مع التنوين، ولا يدخله رفعٌ، ولا جرٌّ. وإنّما سمّي منقوصًا لأنه نقص شيئَيْن: حركةً وحرفًا. فالحركةُ هي الضمّة، أو الكسرة حُذفت للثقل؛ والحرفُ هو الياء، حُذف لالتقاء الساكنين. فتقول في الرفع: "هذا قاضٍ، يا فَتَى"؛ وفي الجرّ: "مررت بقاضٍ، يا فتى". وكان الأصل: "هذا قاضِىٌ"، بضمّ الياء وتنوينها، و: "مررت ¬
فصل [نوعا الاسم المعرب]
بقاضِي"، بكسر الياء وتنوينها أيضًا؛ فاستُثقلت الضمّة والكسرة على الياء المكسورِ ما قبلها، لأنهّا قد صارت مَدَّةً كالألف، لِسَعَةِ مَخْرَجها وكونِ حركةِ ما قبلها من جنسها، على ما تقدّم، فحُذفت الضمّة والكسرةُ لما تقدّم، ولمّا حُذفت سكنت الياءُ، وكان التنوين بعدها ساكنًا، فحُذفت لالتقاء الساكنين، على ما ذكرناه في المقصور. فلذلك تقول في الرفع: "هذا قاضٍ"؛ وفي الجرّ: "مررت بقاضٍ. قال الله تعالى: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} (¬1)، وقال: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} (¬2)؛ وتقول في النصب: "رأيت قاضِيًا"، تُثْبِت الفتحة لخفتها. قال الله تعالى: {إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ} (¬3)، وقال: {أجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} (¬4). فاعرفه. فصل [نوعا الاسم المعرب] قال صاحب الكتاب: "والاسم المعرب على نوعين؛ نوع يستوفي حركات الأعراب والتنوين, كـ "زيد" و"رجل" ويسمى المنصرف؛ ونوع يختزل عنه الجر والتنوين, لشبه الفعل, ويحرك بالفتح في موضع الجر, كـ "أحمد" و"مروان" إلا إذ أضيف, أو دخله لام التعريف, ويسمى غير المنصرف. واسم المتمكن يجمعهما, وقد يقال للمنصرف, الأمكن". * * * قال الشارح: اعلم أن الاسم المعرب على ضربَيْن؛ منصرفٌ، وغيرُ منصرف. فالمنصرف: ما دخلتْه الحركات الثلاث مع التنوين، سواءٌ كان دخولها عليه لفظًا، أو تقديرًا. فاللفظُ نحوُ: "هذا رجلٌ، وفرسٌ، وزيدٌ، وعمرٌو"؛ و"رأيت رجلًا، وفرسًا، وزيدًا، وعمرًا"؛ و"مررت برجلٍ، وفرسٍ، وزيدٍ، وعمرٍو"؛ والتقديرُ نحو قولك: "هذا عما ورحًى"؛ و"رأيت عصًا ورحًى"، و"مررت بعصًا ورحًى". فهذه الأسماءُ كلُّها متمكنةٌ، وما كان مثلها، وإن لم يظهر فيها الإعرابُ؛ لأنّ عدمَ ظهور الإعراب إنّما كان لنُبُوّ حرف الإعراب عن تحمُّل الحركة على ما ذكرنا. والمتمكّن وصفٌ راجع إلى جملة المعرب. وأصلُ الصرف التنوينُ وحده، على ما سنذكر في موضعه، وهذا الضربُ من الأسماء سُمّي المتمكنَ الأمْكَنَ. فالمتمكنُ أعم من الأمكن؛ فكل أمكنَ متمكن، وليس كلُّ متمكّن أمكنَ. والتمكّنُ: رُسوخُ القَدَم في الاسمية. وقولُنا: اسم متمكنٌ؛ أي: راسخُ القدم في الاسمية. وقولنا: اسمٌ متمكنٌ؛ أي: هو بمكانٍ منها؛ أي: لم يخرج إلى شَبَه الحرف، فيمتنعَ من الإعراب. ¬
والأمكنُ، على زنة "أفْعَلَ" التي للتفضيل؛ أي: هو أتمُّ تمكُنًا من غيره، لم يعرض فيه شَبَهُ الحرف، فيُخْرجَه إلى البناء؛ ولم يشابه الفعلَ، فينقُصَ تمكُّنُه، ويمتنعَ منه بعضُ حركات الإعراب، وهو الجرّ، ويمتنعَ منه التنوينُ الذي هو من خصائص الأسماء؛ فكان بذلك أمكنَ من غيره؛ أي: أرسخَ قدمًا في مكانه من الاسميّة. وقد ذهب بعضهم إلى أن "المَكان" مأخوذٌ من "كَانَ يَكُونُ"، فهو"مَفْعَلٌ" منه، كـ "المَقام"، و"المَراح". ولا أراه صحيحًا، لقولهم: "تَمَكَّنَ". ولو كان من الكَوْن، لقيل: تَكَوَّنَ. فأمَّا "تَمَسْكَنَ"، و"تَمَدْرَعَ" فقليل، من قبيل الغلط، لا يُقاس عليه. وقد قالوا في الجمع: "أمْكِنَةٌ". وهذا نَصّ. الضرب الثاني، وهو غير المنصرف. وهو ما يشابه الفعلَ من وجهَيْن؛ فلم يدخله جرٌّ ولا تنوينٌ، ويكون آخِره في الجرّ مفتوحًا؛ نحوَ: "هذا أَحْمَدُ، وعُمَرُ"؛ و"رأيت أحمدَ وعمرَ"؛ و"مررت بأحمدَ وعمرَ". والبغداديّون يسمّون بابَ ما لا ينصرف: بابَ ما لا يُجْرَى. والصرفُ قريبٌ من الإجراء, لأنّ صَرْف الاسم إجراؤُه على ما له من الأصل، من دخولِ الحركات الثلاث التي هي علامات الإعراب، ويدخله التنوينُ أيضًا؛ وذلك لأنّ الاسم بإطلاقه يستحقّ وجوهَ الإعراب للفرق بين المعاني الطارئة عليه بعد دلالته على مسمّاه. والاسم على ضربَيْن: نكرةٌ، ومعرفةٌ. والنكرةُ هي الأصل، والأخفُّ عليهم، والأمكنُ عندهم. والمعرفةُ فرعٌ. فلمّا كانت النكرةُ أخفّ عليهم، ألحقوها التنوينَ دليلًا على الخفّة. ولذلك لم يلحق الأفعالَ لثِقَلها. ولا بدّ من بيانِ ثقل الأفعال. فإنّ مَدارَ هذا الباب على شَبَهِ ما لا ينصرف بالفعل (¬1) في الثقل، حتىّ جرى مجراه فيه، ولذلك حُذف التنوين ممّا لا ينصرف لثقله، حَمْلاً على الفعل. وإنمّا قلنا: إن الأفعال أثقلُ من الأسماء لوجهَن: أحدهما: أنّ الاسم أكثرُ من الفعل؛ من حيثُ أنّ كلّ فعلٍ لا بدّ له من فاعلٍ اسم يكون معه، وقد يستغني الاسمُ عن الفعل. وإذا ثبت أنّه أكثرُ في الكلام، كان أكثر استعمالًا؛ وإذا كثُر استعماله، خَفَّ على الألسِنة لكثرة تداوُله. ألا ترى أن العَجَميّ إذا تعاطَى كلامَ العرب، ثقُل على لسانه لقِلّة استعماله له؛ وكذلك العربي إذا تعاطى كلامَ العجم، كان ثقيلًا عليه لقلّة استعماله له. الوجه الثاني: أن الفعل يقتضي فاعلًا ومفعولًا، فصار كالمركَّب منهما، إذ لا يستغني عنهما. والاسم لا يقتضي شيئًا من ذلك، إذ هو سِمَةٌ على المسمى لا غيرُ، فهو مفردٌ، والمفردُ أخفُّ من المركّب. فقد ثبت بهذا البيان أن الأفعال أثقل من الأسماء. وهي مع ثقلها فروعٌ في الأسماء ¬
من حيث كانت مشتقّة من المصادر، التي هي ضربٌ من الأسماء، على الصحيح من المذهب، وأنها مفتقرة إلى الأسماء من حيث كانت لا تقوم بأنفسها، وكان في الأسماء ما هو فرعٌ على غيره، من حيث إنه ثانٍ له، ودخيلٌ عليه، فحصل بين هذا الضرب من الأسماء، وبين الأفعال، مشاركة ومشابهةٌ في الفَرْعيّة. والشيءُ إذا أشبهَ الشيءَ أُعطي حُكْمًا من أحكامه، على حسب قوّة الشَّبَه. وليس كل شَبَهٍ بين شيئَيْن يُوجب لأحدهما حُكْمًا هو في الأصل للآخر، ولَكن الشَّبَه إذا قوِي، أوْجَبَ الحكمَ؛ وإذا ضعُف، لم يُوجب. فكلّما كان الشبهُ أخصَّ، كان أقوى؛ وكلّما كان أعمّ، كان أضعف. فالشبهُ الأعمُّ كشَبَهِ الفعل بالاسم من جهةِ أنّه يدل على معنًى؛ فهذا لا يُوجِب له حكمًا، لأنه عامٌ في كل اسم وفعلٍ. وليس كذلك الشبهُ من جهةِ أنّه ثانٍ باجتماع السببَيْن فيه, لأن هذا يختصّ نوعًا من الأسماء دون سائرها فهو خاصٌّ، مُقرَّبٌ الاسمَ من الفعل. فإذا اجتمع في الاسم عِلّتان فَرْعِيَّتان من العِلَل التسع، أو عِلّةٌ واحدةٌ مكرَّرةٌ، على ما سيوضَح فيما بعدُ، إن شاء الله تعالى؛ فإئه يُشْبِه الفعلَ من وجهَيْن، ويسري عليه ثقلُ الفعل، فحينئذ مُنع الصرف، فلم يدخله جرّ ولا تنوينٌ. واختلفوا في منع الصرف ما هو؟ فقال قومٌ: هو عبارةٌ عن منعِ الاسم الجرَّ والتنوينَ دفعةً واحدةٌ، وليس أحَدهما تابعًا للآخر؛ إذ كان الفعلُ لا يدخله جرٌّ ولا تنوينٌ. وهو قولٌ بظاهرِ الحال. وقال قوم ينتمون إلى التحقيق: إن الجرَّ في الأسماء نظيرُ الجزم في الأفعال، فلا يُمْنَع الذي لا ينصرف ما في الفعل نظيرُه، وإنما المحذوفُ منه عَلَمُ الخِفّة، وهو التنوين وحدَه، لثقلِ ما لا ينصرف، لمشابهةِ الفعل. ثمّ يتبع الجرّ التنوينَ في الزَّوال, لأنّ التنوين خاصّةٌ للاسم، والجرّ خاصةٌ له أيضًا، فتتبع الخاصّةُ الخاصّةَ. ويدل على ذلك أنّ المرفوع والمنصوب لا مَدْخَل للجرّ فيه، إنّما يذهب منه التنوينُ لا غيرُ. قال أبو علي: لو جُرَّ الاسم الذي لا ينصرف، مع حذفِ تنوينه، فقيل: "مررت بأحْمَدِ وإبراهيم"؛ لأشبهَ المبنياتِ؛ نحوَ: "أَمْسِ" و"جَيْرِ". ثم لمّا مُنع الجرّ، ولا بد للجارّ من عَمَلٍ وتأثيرٍ، شارَكَ النصبَ في حركته لتواخِيهما؛ كما شارك نصبُ الفعل جزمَه في مثلِ "لم يَفْعَلَا"، و"لن يَفْعَلَا" وأخواتِهما. على أنّ أبا الحسن وأبا العبّاس، رحمهما الله، ذهبا إلى أن غير المنصرف مبنيٌّ في حالِ فتحه إذا دخله الجارُّ. والمحققون على خلافِ ذلك. وهو رأي سيبويه. فعلى هذا القول إذا قلت: "نظرت إلى الرجل الأسْمَرِ وأسْمَرِكُم". فالاسمُ باقٍ على منع صرفه، وإن انْجَرَّ؛ لأنّ الشبه قائمٌ، وعَلَمَ الصرف، الذي هو التنوينُ، معدومٌ. وعلى القول الأول يكون الاسم منصرفًا؛ لأنه لما دخله الألفُ واللام
فصل [أسباب منع الصرف]
والإضافةُ، وهما خاصةٌ للاسم، بعُد عن الأفعال، وغلبت الاسميّةُ فانصرف. وقوله: "واسمُ المتمكنِ يجمعهما"؛ يريد: أنّ ما لا ينصرف متمكنٌ؛ لأنّ التمكّن هو استحقاقُ الاسم الإعرابَ بحكمِ الاسميّة؛ وما لا ينصرف مُعْرَبٌ، فهو متمكَّنٌ لذلك وإن كان غيرُه أمكنَ منه. فاعرفه. فصل [أسباب منع الصرف] قال صاحب الكتاب: "والاسم يمتنع من الصرف متى اجتمع فيهب اثنان من أسباب تسعة أو تكرر واحدٌ؛ وهي: العلمية, والتأنيث اللازم لفظًا أو معنى, في نحو: "سعاد" و"طلحة". ووزن الفعل الذي يغلبه في نحو: "أفعل", فإنه فيه أكثر منه في الاسم, أو يخصه, في نحو: "ضُرِبَ", إن سمي به. والوصفية, في نحو: "أحمر". والعدل من صيغة إلى أخرى, في نحو: "عمر" و"ثلاث". وأن يكون جمعًا ليس علي زنته واحدٌ، كـ"مساجد", و"مصابيح", إلا ما اعتل آخره, نحو: "جوارٍ", فإنه في الرفع والجر كـ "قاضٍ", وفي النصب كـ "ضوارب"، و"حضاجر", و"سراويل" في التقدير؛ جمع "حضجر", و"سروالة". والتركيب, في نحو: "معد يكرب" و"بعلبك". والعجمة, في الأعلام خاصّةً. والألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث, في نحو: "سكران", و"عثمان",إلا إذا اضطر الشاعر, فصرف. * * * قال الشارح: الأسباب المانعةُ من الصرف تسعة؛ وهي: العَلَميّة، والتأنيث، ووزن الفعل، والوصف، والعدل، والجمع، والتركيب، والعُجْمة، والألف والنون الزوائد. فهذه التسعةُ متى اجتمع منها اثنتان في اسم، أو واحدٌ يقوم مقامَ سببَيْن، امتنع من الصرف، فلم يدخله جرٌّ ولا تنوينٌ، ويكون في موضع الجرّ مفتوحًا؛ وذلك قولك: "هذا أحْمَدُ وعمرُ"، و"مررت بأحمدَ وعمرَ". وإنّما كان كذلك لشَبَهه بالفعل لاجتماع السببَيْن فيه. وذلك أن كل واحد فرعٌ على غيره، فإذا اجتمع في الاسم سببان، فقد اجتمع فيه فرعان، فصار فرعًا من جهتَيْن:
أحدهما: أنّه لا يقوم بنفسه، ويفتقر إلى اسم يكون معه، والاسمُ لا يفتقر إلى فعل، فكان فرعًا عليه. والآخَرُ: أنَّه مشتقّ من المصدر الذي هو ضربٌ من الأسماء، فلمّا أشبهَه في الفرعية، امتنع منه الجرُّ والتنوينُ، كما امتنعا من الفعل. والتعريفُ فرعٌ على التنكير, لأنّ أصل الأسماء أن تكون نكرات، ولذلك كانت المعرفةُ ذاتَ علامةٍ وافتقارٍ إلى وَضْع لنقْله عن الأصل؛ كنقلِ "جَعْفَرٍ" عن اسمِ النهر الذي هو نكرةٌ شائعٌ إلى واحد بعينه. فالتعريفُ المانعُ من الصرف هو الذي ينقل الاسمَ من جهةِ أنَّه متضمَّنٌ فيه، من غير علامةٍ تدخل عليه، وهو تعريف العلمية. والتأنيث فرعٌ على التذكير لوجهَيْن: أحدهما: أنّ الأسماء قبل الاطلاع على تأنيثها وتذكيرها يعبَّر عنها بلفظ مذكَّر، نحوِ: "شَيْءٍ"، و"حَيَوانٍ"، و"إنسان". فإذا عُلم تأنيثُها، رُكب عليها العلامةُ. وليس كذلك المؤنث. الثاني: أن المؤنّث له علامةٌ على ما سبق، فكان فرعًا. وقوله: "التأنيث اللازم" وصفٌ احترز به عن تأنيث الفَرْق؛ وهو الفارقُ بين المذكّر والمؤنّث في مثل: "قائمةٍ"، و"قاعدةٍ"، ونحوهما من الصفات؛ و"امرئٍ"، و"امرأةٍ"، ونحوهما من الأجناس. ومن ذلك ما كان من التأنيث فارقًا بين الواحد والجمع، مثلَ: "قَمْحٍ"، و"قَمْحَةٍ"، و"شَعِيرٍ"، و"شَعِيرَةٍ". فهذا التأنيثُ لا اعتدادَ به، وإنمّا المانعُ من الصرف التأنيثُ اللازمُ. فإن سُمّي بشيء ممّا ذُكر، وفيه تاءُ التأنيث العارضةُ، لزِمه التأنيثُ بالتسمية، فلم يجز سقوطها، واعتُدّ بها سببًا مانعًا من الصرف إذا انضمّ إليه غيره، نحوَ: "طَلْحَةَ"، و"حَمْزَةَ"، فإنّهما لا ينصرفان لاجتماع التأنيث والتعريفِ، فإذا نُكر انصرف, لأنه لم يبقَ فيه إلَّا التأنيثُ وحدَه. فأمّا ألف التأنيث المقصورة والممدودة، نحو: "حُبْلَى"، و"بُشْرَى"، و"سَكْرَى"، و"حَمْراءَ"، و"صَفْراءَ"، فإنّ كلّ واحدة منهما مانعةٌ من الصرف بانفرادها، من غيرِ احتياج إلى سبب آخر، فلا ينوَّن شيء من ذلك في النكرة. فإذا لم ينصرف في النكرة، فأحْرَى أن لا ينصرف في المعرفة، لأنّ المانع باقٍ بعد التعريف، والتعريفُ ممّا يزيده ثقلاً. وإنّما كان هذا التأنيث وحده كافيًا في منع الصرف لأن الألف للتأنيث، وهي تزيد على تاء التأنيث قوةٌ, لأنّها يُبْنَى معها الاسم، وتصير كبعضِ حروفه، ويتغير الاسم معها عن بنْيةِ التذكير، نحو: "سَكْرانَ"، و"سَكْرَى"؛ و"أحْمَرَ"، و"حَمْراءَ"؛ فبنيةُ كلّ واحد من المؤنَث غيرُ بنيةِ المذكّر. وليست التاء كذلك، إنّما تدخل الاسمَ المذكّرَ من غير تغيُّرِ بِنْيته دلالةً على التأنيث، نحوَ: "قائم"، و"قائمةٌ".
ويؤيِّد عندك ذلك وُضوحًا أن ألف التأنيث إذا كانت رابعةً، تثبت في التكسير، نحو: "حُبْلَى"، و"حَبَالَى"؛ و"سَكْرَى"، و"سُكَارَى"؛ كما تثبت الراءُ في "حَوافِرَ"، والميمُ في "دَراهِمَ". وليست التاء كذلك، بل تُحْذَف في التكسير؛ نحو"طَلْحَةَ"، و"طِلاح"؛ و"جَفْنَةِ"، و"جِفَانٍ". فلمّا كانت الألف مختلطة بالاسم الاختلاطَ الذي ذكرناه، كانت لها مَزِيَّةٌ على التاء، فصارت مشاركتُها لها في التأنيث علَّة، ومزيّتُها عليها علّة أُخرى، كأنّه تأنيثان. فلذلك قال صاحب الكتاب: "متى اجتمع سببان أو تكرّر واحد". ويعبَّر عنها بأنّها علّةٌ تقوم مقامَ علّتَيْن، والفِقْهُ فيها ما ذكرناه. فأمّا الألف الزائدة للإلحاق، نحو: "أرْطًى"، و"حَبَنْطًى"، وما أشبه ذلك من الأسماء المذكرة التي في آخرها ألفٌ زائدةٌ، فهي تنصرف في النكرة، نحو: "هذا أرْطى"، و"رأيت أرطًى"، و"مررت بأرطى". فتنوينُه دليل على تذكيره وصرفِه. فإن سمّيت به رجلًا، لم ينصرف للتعريف وشَبَهِ ألفِه بألف التأنيث، من حيثُ إنّها زائدةٌ، وإنها لا تدخل عليها تاءُ التأنيث؛ لأنّ العلمية تحظر الزيادةَ، كما تحظر النقصَ، فتقول: "هذا أرطَى مُقْبلًا"، من غير تنوين. وقوله "لفظًا أو معنى" يريد باللفظ: أن يكون فيه علامةُ تأنيث في اللفظ، وإن لم يكن مسمّاه مؤئثا كـ "طلحةَ"، و"حمزةَ"، فإنّهما لا ينصرفان للتعريف ولفظِ التأنيث، وإن كان مسمَّى كل واحد منهما مذكرًا. ويريد بالمعنى: أن يكون مسمّاه مؤنّثًا، وإن لم يكن فيه علامةُ تأنيث ظاهرةً، وإنمّا يقدَّر فيه علامةُ التأنيث تقديرًا، نحوَ: "هِنْدَ"، و"جُمَلَ"، و"سُعادَ"، و"زَيْنَبَ". والذي يدل أنّ علم التأنيث مقدَّرٌ أنَّه يظهر في التصغرِ؛ فتقول: "هُنَيْدَةُ"، و"جُمَيْلَةُ"، فتظهر التاءُ. فأمّا "زينب"، و"سعاد"، فإنّ تاء التأنيث لا تظهر في تصغيرهما, لأن الحرف الزائد على الثلاثة يتنزّل منزلةَ علم التأنيث. ولو سمّيت رجلًا بـ "زينب، وسعاد"، لم تصرفهما أيضًا، لغلبةِ التأنيث على الاسم، فكذلك لو سمّيته بـ "عَناق"، لكان حكمُه حكمَ "سعاد" في غلبة التأنيث، فلا ينصرف. وأمّا وزن الفعل فهو من الأسباب المانعة للصرف. وهو فرعٌ, لأنّ البناء للفعل؛ إذ كان يخُصّه، أو يغلب عليه، فكان أوْلى به. وجملةُ الأمر أن وزن الفعل على ثلاثة أضرب: وزنٌ يخصّ الفعلَ، لا يوجَد في الأسماء؛ وضربٌ يكون في الأفعال والأسماء، إلَّا أنّه في الأفعال أغلبُ؛ وضربٌ يكون فيهما من غير غلبةٍ لأحدهما على الآخر. فالأولُ؛ نحوُ: "ضُرِبَ"، و"ضُورِبَ". فهذان بناءان يخصّان الأفعالَ, لأنّه بناءُ ما لم يسمَّ فاعلُه، فلا يكون مثلُه في الأسماء، وإنما جاء "دُئِلُ"، وهو اسم قبيلةِ أبي
الأسْوَدَ (¬1)، وقد تقدّم الكلام عليها في الأعلام. فإذا سمّيت بـ "ضُرِبَ"، أو"ضُورِبَ"، لم ينصرف ذلك الاسم في المعرفة، للتعريف ووزن الفعل. فلو خُفّف هذا الاسم، أعني "ضُرِبَ" ونحوهُ، بأن أسكنتَ عينَه، فقلت: "ضُرْبَ"، على حد قولهم في "كَتِفٍ": "كَتْفٌ"، بسكون التاء؛ فسيبويه، رحمه الله، يصرفه لزَوالِ لفظِ بناء الفعل (¬2). ولأبي العبّاس فيه تفصيلٌ ما أحسنَه! وهو: إن كان التخفيف قبل النقل والتسميةِ انصرف للزُوم الإسكان له، ومَصِيرِه إلى زنة الاسم، نحوِ: "قُفْلٍ"، و"بُرْدٍ"؛ وإن كان الإسكان بعد النقل والتسميةِ لم ينصرف، إذ الإسكان عارضٌ، بدليلِ جوازِ استعمال الأصل. فالحركةُ وإن كانت محذوفة من اللفظ، فهي في حكمِ المنطوق بها. ولو سمّيت بمثلِ "ردَّ"، و"شُدَّ"، و"قِيلَ"، و"بِيع"، لانْصرف. لأنّ هذا إعلالٌ لازمٌ لرَفْضِ أصله، وهو عدمُ استعماله، فصار كأنّه لا أصلَ له غيرَ البناء الذي هو عليه. والتحق "رُدَّ" و"شُدَّ" بـ "حُبّ"، و"دُرّ"؛ و"قِيلَ"، و"بيع" بـ "فِيلٍ"، و"دِيكٍ". ومن ذلك "فَعَّلَ" مثلُ "ضَرَّبَ"، و"كَسَّرَ" بتضعيف العين؛ إذا سمّيت بشيء من ذلك لم ينصرف في المعرفة، للتعريف ووزِن الفعل. وينصرف في النكرة، لزوالِ أحد السببَيْن، وهو التعريف؛ لأن هذا أيضًا بناءٌ خاصٌّ للفعل، لا حَظَّ فيه للأسماء. وإنمّا وردت ألفاظٌ في الأعلام. قالوا: "خَضَّمُ"، وهو اسمُ رجل، وهو خضّم بن عمرو بن كِلاب بن تميم. قال الثماعر [من الرجز]: لولا الإلهُ ما سَكَنَّا خَضَّمَا ... ولاظَلِلْنَا بالمَشائي قُيَّمَا (¬3) يريد بلاد "خضّم"، أي بلاد "بني تميم"؛ قالوا: "عَثرُ"، و"بَذرُ"؛ فـ "عَثَّرُ": اسم مكان، و"بذَّرُ" ماءٌ معروف. قال الشاعر، وهو زُهَيْر [من البسيط]: 100 - لَيْثٌ بِعَثرَ يصطادُ الرجالَ إذا ... ما كَذبَ اللَّيْثُ عن أقْرانِه صَدَقَا ¬
وقال الآخر، وهو كُثَيَّرٌ [من الطويل]: 101 - سَقَا الله أمْواهًا عَرَفْتُ مَكانَها ... جُرابًا ومَلْكُومًا وَبذَّرَ والغَمْرا وهذه أعلامٌ؛ ولا اعتدادَ بالأعلام في الأبنية، وقد تقدّم شرحُ ذلك. فأمّا "بَقَّمُ"، للنبت المصبوغ به، و"شَلَّمُ" لبيتِ المقدسِ؛ فهما أعجميّان (¬1). وأمّا الضرب الثاني؛ وهو ما يغلب وُجودُه في الأفعال، نحوُ: "أفْكَلٍ": وهو اسمٌ للرَّعْدَة، و"أيَدَعٍ": وهو صِبْغٌ، و"أرْمَلٍ"، و"أكْلُبٍ"، و"إِصْبَعٍ"، و"يَرْمَعٍ": وهي حجارةٌ دِقاقٌ تلمَع؛ و"يَعْمَلٍ": وهو جمع "يَعْمَلَةٍ"، وهي الناقةُ السريعةُ؛ و"يَلْمَقٍ": وهو من أسماء القَباء؛ فهذه الأبنيةُ في الأسماء، وإن كانت صالحةَ العدّةِ، فهي في الأفعال أعمُّ وأغلبُ, لأن في أوّلها هذه الزوائد، وهي تكثر في أوائلِ الأفعال المضارعة، فكأنّ البناء للفعل. لذلك فـ "أفْكَلٌ"، و"أيْدَعٌ"، و"أرْمَلٌ"، بمنزلةِ "أذْهَبُ"، و"أشْرَبُ"، من الأفعال. و"أكْلُبٌ" بمنزلةِ "أقْتُلُ"، و"أخْرُجُ". و"إصْبَعٌ" بمنزلةِ "اعلَمْ "، و"اسْمَعْ " في الأمر، وفي المضارع فيمن يكسِر حرفَ المضارعة ما ¬
عَدَا الياءَ. و"يَرْمَعٌ"، و"يَعْمَلٌ"، و"يَلْمَقٌ" بمنزلةِ "يَذْهَبُ"، و"يَرْكَبُ". فإذا سُمّي بشيء من ذلك، لم ينصرف في المعرفة، للتعريف ووزنِ الفعل. لأنّه لمّا غلب في الفعل، كان البناءُ له؛ والأسماء دخيلةٌ عليه. وأمّا الضرب الثالث، وهو البناء الذي يشترك فيه الأسماءُ والأفعالُ، وذلك بأن يسمَّى بمثلِ "ضَرَبَ"، و"عَلِمَ"، و"ظَرُفَ"؛ فإنّه منصرفٌ، معرفة كان أو نكرةً, لأنّه يكثر في الأسماء كثرتَه في الأفعال من غير غلبةٍ. فنظيرُ "ضَرَبَ" في الأفعال من الأسماء "جَبَلٌ"، و"قَلَمٌ". ونظيرُ "عَلِمَ": "كَتِفٌ"، وَ "رَجِلٌ". ونظيرُ "ظَرُفَ": "عَضُدٌ"، وَ "يَقُظٌ". وليس ذلك في أحدهما أغلبَ منه في الآخر، فلم يكن الفعلُ أوْلى به، فلم يكن سببًا. وقد ذهب عيسى بن عمر إلى منعِ صرفِ ما سُمّي بشيء من ذلك، واحتجّ بقول الشاعر [من الوافر]: 102 - أنَا ابنُ جَلَا وطَلّاعُ الثَّنَايَا ... متى أَضعِ العِمامةَ تَعْرِفُونِي ¬
قال الروايةُ: "جَلَا"، من غير تنوين، وهو فعلٌ سُمي به أبوهُ. وليس في ذلك حجّةٌ عند سيبويه (¬1)، لاحتمالِ أن يكون سُمّي بالفعل، وفيه ضميرُ فاعلٍ، فيكون جملة؛ والجُمَلُ تُحْكَى إذا سُمّي بها، نحوَ "بَرَقَ نَحْرُهُ"، و"شَابَ قَرْنَاهَا"؛ أو يكون جملة غيرَ مسمًّى بها، في موضع الصفةِ لمحذوفٍ، والتقديرُ: "أنا ابنُ رجلٍ جَلَا"، كما قال [من الوافر]: 103 - كأنّك من جِمالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ بينَ رِجْلَيْه بَشنِّ والمراد جَمَلٌ من جمال بني أقيش، فلا يكون منه على كِلا الوجهين حجّةٌ. وأمّا الوصف فهو فرع على الموصوف، وهو علّةٌ في منع الصرف, لأن الصفة تحتاج إلى الموصوف، كاحتياج الفعل إلى الفاعل. فالموصوفُ متقدّمٌ على الصفة، كقولك: "مررت برجلٍ أسمرَ، وثَوْبٍ أحمرَ". والصفةُ مشتقةٌ، كما أن الفعل مشتقٌّ، فكان فرعًا، كما أنّ الفعل فرعٌ. فإذا انضمّ إليه سببٌ آخرُ، مَنَعَا الصرف، نحوَ: "أحْمَرَ"، ¬
و"أصْفَرَ"، و"عَطْشانَ "، و"سَكْرانَ". فـ "أحمرُ"، وشِبْهُهُ، لا ينصرف للصفة ووزنِ الفعل. وكذلك لو صغّرته، لكان غيرَ منصرف أيضًا؛ لأنّ هذا الفعل قد صُغّر في التعجّب. قال الشاعر [من البسيط]: 104 - يا ما أُمَيْلِحَ غِزْلَانًا شَدَنَّ لَنَا ... من هؤُلَيائكُن الضالِ والسَّمُرِ وأمّا العَدْل فهو اشتقاقُ اسم عن اسم، على طريق التغيير له. نحوُ اشتقاق "عُمَرَ" عن "عامِرٍ". والمشتقُّ فرعٌ على المشتقّ منه. والفرق بين العدل وبين الاشتقاق، الذي ليس بعدل، أنّ الاشتقاق يكون لمعنى آخر، أُخذ من الأول، كـ"ضارِب" من "الضَّرْبِ"؛ فهذا ليس بعدل، ولا من الأسباب المانعة من الصرف, لأنّه اشتُقّ من الأصل بمعنى الفاعل، وهو غيرُ معَى الأصل الذي هو"الضّرْبُ". والعدلُ هو أن تريد لفظًا، ثمّ تعدِل عنه إلى لفظ آخر، فيكون المسموعُ لفظًا، والمرادُ غيره. ولا يكون العدلُ في المعنى، إنما يكون في اللفظ، فلذلك كان سببًا, لأنّه فرعٌ على المعدول عنه. فـ "عُمَرُ" عَلَمٌ معدولٌ عن "عَامِرٍ" عَلَمٍ أيضًا. وكذلك "زُفَرُ" معدولٌ عن "زافرٍ" عَلَمٍ أيضًا. وفي الأعلام ¬
"زافرٌ"، وإليه تُنْسَب "الزافريّة"، و"الزافرُ" من "زَفرَ" الحِمْلَ "يَزْفِرُه" إذا حمله. و"قُثَمُ" معدول عن "قاثمٍ" عَلَمًا، وهو منقول من "القاثم"، وهو اسمُ الفاعل من "قَثَمَ" إذا أَعطَى كثيرًا. و"زُحَلُ" معدول عن "زاحلٍ"، سُمّي بذلك لبُعْده. فهذه الأسماءُ كلّها معدولة. ألا ترى أن ذلك ليس في أُصول النكرات. و"فُعَل" يأتي على ضروبٍ منها ما ذكرناه من المعدول، ومنها أن يجيء جنسًا، نحوَ "صُرَدٍ"، و"نُغَرٍ"، و"سُبَدٍ" لطائر. ويجيء صفةٌ كـ "حُطَمٍ". قال الشاعر [من الرجز]: 105 - قد لَفَّها الليلُ بسَوّاقٍ حُطَمْ و"زُفَر" من قوله [من البسيط]: يَأْبَى الظُلامةَ منها النَّوْفَلُ الزُّفَرُ (¬1) ويجيء جمعًا نحوَ "ثُقْبَةٍ"، و"ثُقَبٍ"؛ و"رُطْبَةٍ"، و"رُطَبٍ". فلو سُمّي بشيء من ذلك لانصرف، لأنه منقولٌ من نكرة. واعتبارُ العدل من ضروب "فُعَلَ" بامتناعِ الألف واللام منه. وعرفنا أنّة معدول أنّه ورد في اللغة غيرَ منصرفَ، وليس فيه من موانعِ الصرف سوى التعريف. وكان "عُمَرُ" علمًا معدولاً عن "عامِرٍ" وصفًا، وهو مصروفٌ على أصلِ ما ينبغي أن يكون عليه الأسماءُ، و"عُمَرُ" لفظةٌ من لفظِ "عامر"، وهو غيرُ مصروف، فعُلم أن سببه مع التعريف كونُه مغيَّرًا عنه. ¬
والمعدولُ بابُه السماعُ. ألا ترى أنهم لم يقولوا في "مالِكٍ": "مُلَكُ"، ولا في "حارِثٍ": "حُرَثُ"، كما قالوا: "عُمَرُ"، و"زُفَرُ". والمعدول على ضربَيْن: معرفةٌ، ونكرةٌ. فالمعرفةُ قد تقدّم ذِكْرُها، وهو نحو "عمر"، و"زفر"، وهو من قبيل المرتجَل, لأنّه يُغير في حال العلميّة، فلو نكر لانصرف، نحوَ قولك: "مررت بزُحَلَ، وزحلٍ آخرَ؛ وعُمَرَ، وعُمَرٍ آخر"، لبَقائه بلا سبب؛ لأنه لمّا زال التعريفُ بالتنكير، زال العدلُ أيضًا؛ لأنه إنما كان عُدل عن معرفة علمٍ؛ فإذا نُكّر، لم يكن ذلك العَلَمُ مرادًا فانصرف. وأمّا المعدول في حال التنكير، فنحو: "أُحَادَ"، و "ثُلَاثَ"، و"رُبَاعَ"، وما كان منها نكراتٍ، بد ليل قوله تعالي: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (1)، فـ "مثنى"، و"ثلاث"، و"رباع"، في موضع الصفة لـ "أجنحة"، وهي نكرةٌ. قال الشاعر [من الطويل]: 106 - ولكِنَّما اْهْلِي بِواب أنِيسُهُ ... ذِئابٌ تَبَغى الناسَ مَثْنَى ومَوْحَدُ (¬2) فأجراه وصفًا لـ "ذئاب"، وهو نكرةٌ؛ وصفة النكرة نكرةٌ. والمانع له من الصرف ¬
على هذا الوصفُ، والعدلُ عن العدد المكرَّر. فأمَّا الوصف فظاهرٌ؛ وأمّا العدل فالمرادُ بـ "مثنى": اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ. وكذلك "ثُلاثُ"، و"رُباعُ"، فالعدلُ هنا يوجِب التكريرَ، فإذا قال: "جاء القومُ ثُلاثَ ورُباعَ"، فمعناه أنهم تحزَّبوا وقتَ المجِيء ثلاثةً ثلاثةً، وأربعةً أربعةً. وقالوا: "مَوْحَدُ" كـ "مَثْنَى"، و"مَثْلَثَ". فأمّا "مَثْلَثُ"، و"مَرْبَعُ" إلى العَقْد، فقياسٌ؛ ولم يُسْمَع. ونظيرُ "ثُلاثَ"، و"رُباعَ" في الصفة والوزنِ "أُحَادُ" و"ثُنَاءُ"؛ وقد سُمِعَا. قال الشاعر [من الوافر]: 107 - مَنَتْ لك أن تُلاقِينِي المَنايا ... أُحادَ أُحادَ في شَهْرٍ حَلالِ وأمّا ما وراءَ ذلك إلى "عُشارَ"، فغيرُ مسموع، والقياسُ لا يدفعه، على أنّه قد جاء في شعر الكُمَيْت [من المتقارب]: 108 - [ولمْ يَسْتَريثُوكَ حَتَّى رمَيتَ ... فوقَ الرجال] خِصالًا عُشارا ¬
فإن سُمّي رجلٌ بـ "مَثْنَى"، و"ثُلاث"، و"رُباع" ونظائِرها، انصرف في المعرفة؛ فتقول فيه: "هذا مَثْنى وثُلَاثٌ" بالتنوين, لأنّ الصفة بالتسمية قد زالت؛ وزال العدلُ أيضًا لزَوالِ معنى العدد بالتسمية، وحَدَثَ فيه سببٌ آخر غيرُهما، وهو التعريف، فانصرف لبَقائه على سبب واحد. فإن نكّرته بعد التسمية لم ينصرف، على قياسِ قول سيبويه: لأنّه أشبه حالَه قبل النقل. وينصرف على قياسِ قول أبي الحسن؛ لخُلُوّه من سببٍ ألبتة. وحُكي أن ابن كَيْسان قال: قال أهلُ الكوفة: "مَثْنَى"، و"مَوْحَدُ"، بمنزلة "عُمَرَ"، وإن هذا الاسم معرفةٌ، فإذا سمّيت به رجلاً لم ينصرف، كما لم ينصرف، "عمر" اسمُ رجل. ولسائرِ المعدولة فصولٌ يأتي الكلامُ عليها هناك مفصَّلًا، إن شاءَ الله تعالى. وأمّا الجمع المانع من الصرف، فهو كلُّ جمع يكون ثالثُه ألفًا وبعدها حرفان أو ثلاثةُ أحرف أوْسَطُها ساكنٌ، كـ "دَوَابَّ"، و"مَخَادَّ"، و"مَساجِدَ"، و"مَنابِرَ"، و"دَنانِيرَ"، و"مَفَاتِيحَ". فكلُّ ما كان هذا النوع، فإنّه لا ينصرف نكرةً ولا معرفة. قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} (¬1). وقال الله تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} (¬2). وقال تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} (¬3). فهذا الجمع، وما كان مثله ممّا فيه شَبَهٌ بالتصغير؛ ووجهُ الشبه بينهما أنّ ثالِثَه حرفٌ لين زائدٌ، وبعد الثالث مكسورٌ، كما أنّه في التصغير كذلك، فـ "دَراهِمُ" في الجمع كـ "دُرَيْهِم"، و"دَنَانِيرُ" كـ "دُنَيْنِيرٍ"، ليس بينهما فرقٌ إلا ضَمُّ أوّل الاسم المصغّر، وفتحُ أوّلِ هذا الجمع. وهو غيرُ مصروف، والذي منعه من الصرف كونُه جمعًا لا نظير له في الآحاد، فصار بعدمِ النظير كأنّه جُمع مرّتَيْن؛ وذلك أن كل جمع له نظيرٌ من الواحد، فحكمُه (¬4) في التكسير والصرف كحكم نظيره. فـ "كِلابٌ" منصرفٌ في النكرة والمعرفةِ, لأنّ نظيرَه في الواحد "كتابٌ"، و"إتان" كذلك، فلو كان "كِلابٌ" ممّا يُجْمَع، لكان قياسُ جَمْعه "كُلُبٌ"، على حدّ "كِتابٍ"، و"كُتُبٍ". وكذلك باقي الجموع. وهذا الجمعُ، أعني "مساجد"، و"دراهم" لما كان الجمعَ الذي ينتهي إليه الجموعُ، ¬
ولا نظيرَ له في الآحاد، مكسَّرٌ على حدّه، صار كأنّه جُمع مرّتَيْن، نحوَ: "كَلْبٍ، وأَكْلُبٍ، وأَكالِبَ"؛و"رَهْطٍ، وأَرْهُطٍ، وأَرَاهِطَ". وكُرّرت العلّةُ، وقامت مقامَ علّتَيْن كما قلنا فيَ ألف التأنيث. وليس في الأسباب ما يمنع الصرفَ وحده، ويقوم مقامَ علّتين، سوى ألف التأنيث، وهذا الضرب من الجموع، فإذا كان هذا الجمع صحيحًا غيرَ معتَلّ، فإنّه غيرُ منصرف، نحو: "هذهَ مساجدُ ودراهمُ". ويكون في موضع الجرّ مفتوحًا، فإن كان معتلًا بالياء، نحو: "جَوَارٍ"، و"غَوَاشٍ"، فإنّه ينوَّن في الرفع والجرّ، ويُفْتَح في النصب من غير تنوين، نحو: "هذه جوارٍ وغواشٍ"، و"مررت بجوارٍ وغواشٍ"؛ و"رأيت جَوارِيَ وغواشِيَ"؛ كما تقول: "رأيت ضواربَ". وفيه مذهبان؛ أحدهما: قولُ الخليل وسيبويه أنّه لمّا كان جمعًا، والجمعُ أثقلُ من الواحد، وهو الجمعُ الذي ينتهي إليه الكثرةُ على ما تقدّم، نحو"أكالِب"، و"أَراهِطَ"، و"أَشافٍ"، وكان آخِرُه ياء مكسورًا ما قبلها، وكانت الضمّةُ والكسرةُ مقدَّرتَيْن فيهما، وهما مستثقَلتان، وذلك ممّا يزيده ثقلًا، فحذفوا الياء حذفًا تخفيفًا، فلمّا حذفوا الياء، نقص الاسمُ عن مثال "مَفَاعِل"، فدخله التنوينُ، على حدِّ دخوله في "قِصَاعٍ"، و"جِفَانٍ" لأنّه صار على وَزْنه؛ والذي يدلّ على ذلك أنك إذا صِرْت إلى النصب لم تحذف الياء، لخفّةِ الفتحة، ولأنّهم لما حذفوا الياء في الرفع والجرَّ، ودخله التنوينُ، وافَقَ المفردَ المنقوصَ، فصار قولُك: "هذه جوارِ وغواشٍ"؛ و"مررت بجوارٍ وغواشٍ"، كقولك: "هذا قاضٍ"، و"مررت بقاضٍ"، أرادوا أن يوافقه في النصب، لئلّا يختلف حالاهما. وذهب أبو إسحاق الزجّاجُ إلى أنّ التنوين في "جوارٍ"، و"غواشٍ" ونحوه، بدلٌ من الحركة الملقاة عن الياء في الرفع والجرَّ لثِقلهما؛ ولمّا دخل التنوينُ، عوضًا على ما ذكرنا، حُذفت الياء لالتقاء الساكنين، سكونها وسكون التنوين بعدها، على ما قلنا في: "قاضٍ"، و"غازٍ". ولا يلزم ذلك في النصب، لثُبوت الفتحة، وهذا الوجهُ فيه ضعفٌ، لأَنّه يلزم أن يُعوَّض في نحوِ: "يَغْزُو"، و"يَرْمِي". فإن قيل: إن الأفعال لا يدخلها تنوينٌ، فلذلك لم يعوّضوا في: "يغزو"، و"يرمي". فالجواب: إن الأفعال إنّما يمتنع منها تنوينُ التمكين، وهو الدالُّ على الخفّة؛ فأمّا غير ذلك من التنوين فإنّه يدخلها. ألا ترى إلى قوله [من الوافر]: وقُولِي إنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصابَنْ (¬1) ¬
وقولِه [من الطويل]: 109 - ألا أَيُّهَا الليْلُ الطويلُ ألا انْجَلِنْ ... [بصُبْحٍ وما الإصباحُ مِنْكَ بأَمْثَلِنْ] وقولِ العَجّاج [من الرجز]: 110 - [ما هاجَ أحْزانًا وشَجْوّا قد شجا] ... مِن طَلَلٍ كالأَتْحَمِى أَنْهَجَنْ وتنوينُ "جوارٍ" و"غواشٍ" ليس بتنوينِ تمكين، إنّما هو عوضٌ؛ فلا يمتنع من الأفعال، كما لا يمتنع تنوينُ الترنُّم. ¬
وكان يُونُسُ، وعِيسَى، وأبو زيد، والكسائيُّ، فيما حكاه أبو عثمان، ينظرون إلى "جوارٍ"، ونحوه من المنقوص؛ فكلّ ما كان له نظيرٌ من الصحيح مصروفٌ، صرفوه؛ وما لم يكن نظيرُه مصروفًا، لم يصرفوه، وفتحوه في موضع الجرّ، كما يفعلون في غيرِ معتلّ (¬1)، ويسكنونه في موضع الرفع خاصةً. قال الفَرَزْدَق [من الطويل]: 111 - ولَوْ كان عبدُ الله مَوْلًى هَجَوْتُهُ ... ولكن عبدَ الله مولَى مَوالِيَا ففتح في موضع الجرّ، وهو قول أهلِ بغداد؛ والصرفُ قولُ الخليل، وسيبويه (¬2)، وأبي عمرو بن العَلاء، وابن أبي إسحاق، وسائرِ البصريّين. فأمّا قول صاحب الكتاب: "وحَضاجِرُ، وسَراوِيلُ، في التقدير جمعُ حِضجْر، وسِرْوالَةٍ"، فإشكالٌ أورده على نفسه, لأنّه قد تقدّم من قاعدةِ هذا الباب أن يكون جمعًا لا نظيرَ له في الآحاد؛ و"حضاجرُ" على زنةِ "دَراهِمَ"، و"سَواهِمَ": الضَّبُع (¬3) مفردٌ. قال الشاعر [من مجزوء الكامل]: هَلاَّ غَضِبْتَ لرَحْلِ جا .... رِك إذ تُجرَّده حَضاجِرْ (¬4) ¬
و"سراويلُ": اسمٌ مفردٌ لهذا اللباس، فكأنّ في ذلك هَدْمَ هذه القاعدة، بإيرادِ نظير لهذا الجمع من الآحاد، ثّم انفصل عنه بأن قال: "أمّا حضاجرُ، فجمعٌ عند سيبويه، سُميت به الضبعُ"؛ وهو معرفةٌ، والمعارفُ من أسماءِ المُدُن والناسِ، قد سُمّي بالجموع، نحوَ قولهم للقبيلة: "كِلابٌ"، وقالوا: "المَدائنُ" لموضع معروف، وهو كثير. فواحدُ "حضاجر": "حِضجْز"، وقد تقدّم الكلام عليه. وأمّا "سراويل" فهو عند سيبويه (¬1)، والنحويّين، أعجميٌّ وَقَعَ في كلام العرب، فوافق بناؤه بناء ما لا ينصرف في معرفة ولا نكرةٍ؛ وهو"قَنادِيلُ"، و"دَنانيرُ". قال الشاعر، وهو ابن مُقْبِل [من الطويل]: 112 - يُمَشي بها ذَبُّ الرَّيادِ كأنّه ... فَتى فارِسيٌّ في سراويلَ رامِحُ ويروى: "أتَى دُونها ذلك الرياد"، هكذا أنشده صاحب الصَّحاح (¬2). قوله: "ذبُّ الرياد": الثورُ الوحشيُّ. والمراد: فتى فارسيٌّ رامحٌ في سراويل. ومن الناس من يجعله جمعًا لـ "سِرْوالَةٍ"، وهي قطعةُ خِرْقَةٍ منه، كـ "دَخارِيصَ"، وأنشدوا [من المتقارب]: 113 - عليه من اللُّؤْم سِرْوالَةٌ ... فليس يَرِقُّ لِمُستعْطِفِ ¬
فيكون كـ "عِثْكالَةٍ"، و"عَثاكيلَ"، وهو رأيُ أبي العَباس. ويضعف من جهة المعنى, لأنه لا يريد أن يكون عليه من اللؤم قطعةٌ، وإنِّما هو هَجْوٌ، والسراويلُ: تمامُ اللباس، فأراد أنّه تامُّ التَّرَدِّي باللؤم. قال أبو الحسن: من العرب من يجعله واحدًا، فيصرفه، والسماعُ حجّةٌ عليه. قال أبو عليّ: الوجه عندي أن لا ينصرف في النكرة, لأنّه مؤنّث علي بناءٍ لا يكون في الآحاد، فمن جعله جمعًا، فأمره واضحٌ؛ ومن جعله مفردًا، فهو أعجمىٌّ، ولا اعتدادَ بالأبنية الأعجمية. وأمّا التركيب فهو من الأسباب المانعةِ من الصرف، من حيث كان المركَّبُ فرعًا على الواحد، وثانيًا له, لأنّ البَسِيط قبل المركب، وهو على وجهين؛ أحدهما: أن يكون من اسمَيْن، ويكون لكلّ واحد من الاسمين معنًى، فيكون حكمُهما حكمَ المعطوف أحدهما على الآخر؛ فهذا يستحقّ البناء لتضمُّنه معنى حرف العطف، وذلك نحو: "خمسَة عشرَ"، وبابِه. ألا ترى أن مدلولَ كل واحد من الخمسة والعشرة مرادٌ؛ كما لو عطفت أحدهما على الآخر، فقلت: "خمسةٌ وعشرة"، فلمّا حذفتَ حرف العطف، وتَضمّن الاسمان معناه، بُنِيَا كما بُني "كَيْفَ"، و"أَيْنَ"، لما تضمّنا معنى همزة الاستفهام: وكما بُني "مَنْ" حين تضمّن معنى حرف الجزاء، وهي "إن". وأمّا القِسم الثاني، وهو الداخل في بابِ ما لا ينصرف، فهو أن يكون الاسمان كشيء واحد، ولا يدلّ كلُّ واحد منهما على معنى، ويكون موقع الثاني من الأوّل موقعَ هاء التأنيث. فما كان من هذا النوع، فإنّه يجري مجرى ما فيه تاء التأنيث، من أنّه لا ينصرف في المعرفة، نحو"حَضْرَمَوْتَ"؛ تقول: "هذا حضرموتَ"، و"مررت بحضرموتَ"، فلا ينصرف؛ لأنّه معرفة مركَبٌ، والاسمُ الثاني من الصدر بمنزلةِ تاء ¬
التأنيث ممّا دخلت عليه. ألا ترى أنّك تفتح آخرَ الأول منهما، كما تفتح ما قبل تاء التأنيث؛ فإن نكرته صرفته، تقول: "هذا حضرَموتُ وحضرَموتٌ آخَرُ"، منعتَ الأولَ الصرفَ؛ لأنّه معرفةٌ، وصرفتَ الثاني؛ لأنه لماّزال التعريفُ، بقيت علّةٌ واحدةٌ، وهو التركيبُ، فانصرف، وفُتح الاسم الأوّل للتركيب. وينزل الثاني من الأوّل منزلةَ تاء التأنيث، ويمتنع الثاني من الصرف للتركيب والتعريف. وكلُّ ما كان من ذلك، كان على ما ذكرنا مع منع الصرف. ويجوز فيه إضافةُ الأوّل إلى الثاني، فإذا أضفت، أعربت الأوّل بما يستحقّه من الإعراب؛ ونظرت في الثاني، فإن كان ممّا ينصرف، صرفته؛ وإن كان ممّا لا ينصرف، لم تصرفه. فتقول فيما يضاف إلى المنصرف: "هذا حَضْرُمَوْتِ وبَعْلُ بَك"؛ وإن أضفت إلى ما لا ينصرف، قلت: "هذا رَامُ هُرْمُزَ ومارُ سَرْجِسَ"، و"رأيت رامَ هرمزَ ومارَ سرجسَ"؛ و"مررت برامِ هرمزَ وبمارِ سرجسَ". قال جَريرٌ [من الوافر]: 114 - لَقِيتُم بالجَزِيرَة خَيْلَ قَيْسٍ. . . فَقُلْتُم مارَ سَرْجِسَ لاقِتالَا أنشد على قول من أضاف. فمن لم يضف يقول: "مارَ سرجسُ" بالضمّ, لأنّه يجعله كالاسم الواحد حكمًا؛ يقول: "يا مارَسرجسُ". وأمّا "مَعْدِيكرِبُ" ففيه الوجهان؛ التركيب والإضافة. فإن ركّبتهما، جعلتهما اسمًا واحدًا، وأعربتهما إعراب ما لا ينصرف، فتقول: "هذا معديكربُ"، و"رأيت معديكربَ"، و"مررت بمعديكربَ"، كما تقول: "هذا طلحةُ"، و"رأيت طلحةَ"، و"مررت بطلحةَ". وإذا أضفت، كان لك في الثاني منعُ الصرف، وصرفُه. فإذا صرفته اعتقدت فيه ¬
التذكيرَ، وإذا منعته الصرفَ، اعتقدت فيه التأنيثَ؛ فتقول في المنصرف: "هذا معدِي كرب"، و"رأيت معدِي كربٍ"، و"مررت بمعدِي كرب"، كما تقول: "هذا غلامُ زيد"، و"رأيت غلام زيد"، و"مررت بغلامِ زيدٍ". وتقول في غير المنصرف: "هذا معدِي كربَ"، و"رأيت معدِي كربَ"، و"مررت بمعدِي كربَ"، كما تقول: "هذا غلامُ زَيْنَبَ"، و"رأيت غلامَ زينبَ"، و"مررت بغلام زينبَ". واعلم أنّ في "معديكرب" شذوذَيْن: أحدهما: من جهة البِنْية؛ لأنهّم قالوا: "مَعْدِي"، بالكسر، على زنة "مَفْعِل"، والقياسُ "مَفْعَلٌ"، بالفتح، نحو: "المَرْمَى"، و"المَغْزَى". وما اعتلّت فاؤه يجيء المكان منه على "مَفْعِلٍ"، بالكسر، نحو: المَوْرِد، و"المَوْضِع"؛ فهذا وجهٌ من الشذوذ. والوجه الثاني: سكونُ الياء من "معديكرب"، وهو في موضع حركة؛ ألا ترى أنك إذا ركّبت فقلت: "هذا معديكربُ"، كانت الياء بإزاء الراء من "حَضْرَمَوْتَ"، واللام من "بَعْلبَك"، وكِلاهما مفتوحٌ. وإذا أضفت كان ينبغي أن تُسكَّن في موضع الرفع والجرّ، وتفتح في موضع النصب، كما في سائر المنقوصة من نحو: "هذا قاضي زيد"، و"مررت بقاضي زيد"، و"رأيت قاضِيَ زيد". ولم يجز الأمرُ في "معديكرب" كذلك، بل سكنت في حال النصب، كما سكنت في حال الرفع والجرّ؛ وذلك لأتهم شبّهوها في حال التركيبِ وحصولها حشوا بما هو من نفس الكلمة، نحو الياء في "دَرْدَبيسٍ"؛ (¬1)، والياء في "عَيْضَمُوزٍ" (¬2). قال الخليل: شبّهوها بالألف في "مَثنَى"، و"مَعْنًى"؛ وأمّا في حال الإضافة، فسكنوها أيضًا تشبيهًا لها بالمركّبة، للزوم هذا الاسم الإضافة؛ ولأنهّم لما سكّنوها في المركّب، وهو موضعٌ لا تكون (¬3) فيه إلاّ مفتوحةٌ، سكنوها ها هنا, لأنه موضعٌ قد تسكن فيه؛ ألا ترى أنّها قد تسكن في الرفع والجرّ، فحُمل النصب في مثل هذا على الرفع والجرّ، لجواز إسكانه في ضرورة الشعر، حملًا على المرفوع والمجرور، تشبيهًا لها بالألف. فاعرفه. وأمّا العُجْمَة، فإنها من الأسباب المانعة من الصرف, لأنّ المعجمة دخيلةٌ على كلام العرب؛ لأنّها تكون أوّلاً في كلام العجم، ثمّ تُعرَّب، فهي ثانيةٌ له، وفرعٌ عليه. واعلم أن قولهم: "المعجمة"، ليس المراد منه لغة فارِسَ لا غيرُ، بل كلَّ ما كان خارجًا عن كلام العرب، من رُومٍ ويُونانَ وغيرهم. وتنقسم العجمةُ إلى قسمين: أحدهما: ما عُرّب من أسماء الأجناس، فنُقل إلى العربي جنسًا شائعًا، واستُعمل استعمالَ الأجناس، فجرى مجرى العربيّ، فلا يكون من أسباب منعِ الصرف. واعتباره ¬
بدخول الألف واللام عليه، وذلك كـ "الإبْرِيسَم"، و"الديباج"، و"الفِرِنْد"، و"اللجام"، و"الإِستبْرَق"، فهذا النوعُ من الأعجميّ جارٍ مجرى العربيّ، يمنعه من الصرف ما يمنعه، ويُوجبه له ما يوجبه. والثاني: من المعرَّب ما نُقل عَلَمًا، نحو: "إسحاق"، و"يَعْقُوبَ"، و"فِرْعَوْنَ"، و"هَامَانَ"، و"خُتْلُخَ"، و"تَكِينَ"؛ فهذه في لغتها الأعجميّة أعلامٌ، والأعلامُ معارفُ، والمعرفةُ أحدُ الأسباب المانعة من الصرف، وقد عُرّبت بالنقل، فزادها ذلك ثِقلًا. والأسماء الأعجميّة تُعْرَف بعلاماتٍ؛ منها: خروجها عن أبنية العرب، نحو: "إسماعيل"، و"جِبْرِيلَ". ومنها: مُقارَبَةُ ألفاظِ العجم، إلَّا أنها غُيرت إلى المُعْرَبة، نحو: "أَبْرَاهام" إذ قالوا: "إِبْراهِيمُ" على الإخلاص. ومنها: تركُ الصرف، نحو: "إبْلِيسَ"، ولو كان عربيًّا لانصرف. ومن زعم أنّه من "أَبْلَسَ"، إذا يَئِسَ، فقد غلط؛ لأنّ الاشتقاق لا يكون في الأسماء الأعجميّة. وأمّا الألف والنون المضارعتان لألفي التأنيث، فهي من الأسباب المانعة من الصرف، من حيث كانتا زائدتَيْن، والزائدُ فرغٌ على المَزِيد عليه. وهما مع ذلك مضارعتان لألفي التأنيث، نحو: "حَمْراءَ"، و"صَحراءَ"، والألف في "حمراء" و"صحراء" يمنع الصرفَ، فكذلك ما أشبَهه، وذلك نحو: "عَطْشانَ"، و"سَكْرانَ"، و"غَرْثان"، و"غَضْبانَ"، واعتبارُه أن يكون "فَعْلَانَ"، ومؤنّثُه "فَعْلَى"، نحو قولك في المذكّر: "عَطْشانُ"، وفي المؤنّث: "عَطْشَى"، و"سَكْرانُ"، وفي المؤنّث: "سَكْرَى"، و"غَرْثانُ"، وفي المؤنّث: "غَرْثَى"؛ لا تقول: "سَكْرانَة"، ولا "عطشانة"، ولا "غرثانة" في اللغة الفُصْحَى. وإنّما قلنا: "فَعْلَانُ"، ومؤنّثه "فَعْلَى"، احترازًا من "فَعْلَان" آخر، لا "فَعْلَى" له في الصفات. قالوا: "رجل سَيْفان"، للطويل الممشوقِ؛ وقالوا: "امرأة سَيفانةٌ"، ولم يقولوا: "سَيْفَى"، وقالوا: "رجلٌ نَدْمانٌ"، و"امرأة ندمانةٌ"، ولم يقولوا: "نَدْمَى". فهذا ونحوه مصروفٌ لا محالة. ووجه المضارعة بين الألف والنون في "سكران" وبابه، وبين ألفي التأنيث في: "حمراء"، و"قصباء"؛ أنهما زِيدتَا زَيْدًا معًا، كما أنّهما في "حمراء" كذلك؛ وأنّ الأوّل من الزائدَيْن في كل واحد منهما ألفٌ؛ وأنّ صيغة المذكّر فيهما مخالفةٌ لصيغة المؤنّث؛ وأنّ الآخر من كلّ واحد منهما يمتنع من إلحاق تاء التأنيث. فكما لا تقول في "حمراء"، و"صفراء": "حمراءةٌ، وصفراءةٌ"، كذلك لا تقول في "عطشان": "عطشانةٌ"، ولا في: "غضبان": "غضبانةٌ". بل تَقول في المؤنّث: "غَضْبَى"، و"عَطْشَى". وقولنا: "في اللغة الفُصْحَى" احترازٌ عمّا رُوي عن بعض بني أسدٍ: "غضبانةٌ"، و"عطشانةٌ"، فألحق النون تاء التأنيث، وفرق بين المذكّر والمؤنث بالعلامة، لا بالصيغة.
وقياس هذه اللغة الصرف في النكرة كـ "ندمانٍ"، فتقول: "هذا عطشانٌ"، و"رأيت عطشانًا"، و"مررت بعطشانٍ". وأمّا الأعلام، نحو: "مَرْوانَ"، و"عَدْنانَ"، و"غيْلانَ"، فهي أسماءٌ لا تنصرف للتعريف وزيادة الألف والنون. واعلم أن هذه الألف والنون في هذه الأعلام، وما كان نحوها، محمولاتٌ على باب "عطشانَ"، و"سكران"، لقُرْب ما بينهما، ألا ترى أنّهما زائدتان كزيادتهما، وأنه لا يدخل عليها تاءُ التأنيث؛ لا تقول: "مروانةْ"، ولا "عدنانةٌ"، لأن العلمية تحظُر الزيادة، كما تحظر النقص. وليس المانعُ من الصرف كونه على زنةِ "فَعْلَان"، ألا ترى أنّ "عُثْمان"، و"ذُبْيان"، و"سُفْيان" حكمها حكم "عَدْنان "، و"غَيْلان". فإن قيل: فأنت تقول: "سَلْمان"، و"سَلْمَى"، فهلّا كان كـ "عَطْشان"، و"عطْشى" قيل: ليس "سلمان، وسلمى"، من قبيل "عطشان، وعطشى"؛ إنّما ذلك من قبيلِ تَلاقِي اللغة، وأمرٌ حصل بحكم الاتّفاق، لا أئه كان مقصودًا. وقد كثرت زيادة الألف والنون آخرًا على هذا الحدّ، فإن جُهل أمرُها في موضعٍ، قُضي بزيادة النون فيه، إلى أن تقوم الدلالةُ بخلافه؛ فإن سمّيت رجلًا بـ "سِرْحانٍ"، أو امرأةً، منعتَه الصرف؛ لانّه صار حكمه حكمَ "عَدْنانَ"، و"ذُبْيانَ". فإن نكّرته، انصرف لا محالةَ. فإن سمّيت بـ "رُمّانٍ"؛ فسيبويه والخليلُ لا يصرفانه (¬1)، ويحكمان على الألف والنون بالزيادة، حملًا على الأكثر؛ وأبو الحسن يصرفه، ويحملها على أنّها أصلٌ، وحجّته أنّه قد كثُر في النَّبات "فُعَّالٌ"، نحو: "سُمّاقٍ"، و"حُمّاضٍ"، و"عُنّابٍ"، و"جُمّارٍ". * * * وقوله: "إلَّا إذا اضُطر الشاعر فصرف"؛ يعني أنّ الاسم إذا اجتمع فيه سببان من الأسباب التسعة، امتنع من الصرف، ولم يجز صرفُه، إلا في ضرورة الشعر، فإنّ ضرورة الشعر تُبيح كثيرَا ممّا يحظره النَّثْرُ، واستعمالَ ما لا يسوغ استعمالُه في حال الاختيار والسعة. فجميعُ ما لا ينصرف يجوز صرفُه في الشعر لإتمام القافية، وإقامة وزنه (¬2) بزيادة التنوين. وهو من أحسن الضرورات, لأنّه رَدٌّ إلى الأصل، ولا خِلافَ في ذلك، إلَّا ما كان في آخره ألفُ التأنيث المقصورةُ، فإنّه لا يجورُ صرفه للضرورة, لأنّه لا ينتفع بصرفه لأنّه لا يسُدّ ثُلْمَة في البيت من الشعر، وذلك أنك إذا نوّنت مثلَ "حُبْلَى"، و"سَكْرَى"، فقلت: "حُبْلى"، و"سَكْرى"، فتحذف ألف التأنيث لسكونها، وسكون التنوين، بعدها، فلم يحصل بذلك انتفاعٌ, لأنّك زدتَ التنوين، وحذفت الألف، فما ربحت إلَّا كَسْوَ قياسٍ، ولم تَحظَ بفائدة. واعلم أنّك إذا نوّنت اسمًا غير منصرف ضرورةً، جررته أيضًا؛ لأنّك تردّه إلى ¬
أصله، فتحرِّكه بالحركات الثلاث التي تنبغي له، نحو قوله [من الطويل]: 115 - إذا ما غَزَوْا بالجَيْش حَلَّقَ فَوْقَهم ... عَصائبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بعَصائبِ فخفض "عصائبَ" لمّا ردّها إلى أصلها. * * * قال صاحب الكتاب: أما السبب الواحد, فغير مانع أبداً, وما تعلَّق به الكوفيون في إجازة منعه في الشعر ليس بثبت. قال الشارح: السبب الواحد لا يمنع الصرفَ في حال الاختيار والسعةِ. وقد أجاز الكوفيون، والأخفش، وجماعةٌ من المتأخِّرين البصريين؛ كأبي عليّ، وابن بُرْهان وغيرهما، تركَ صرف ما ينصرف. وأباه سيبويه، وأكثر البصريين. وقد أنكر المنعَ أبو العَبّاس المبرّدُ، وقال: "ليس لمنعِ الصرف أصلٌ يُرَدّ إليه"، وقد أنشد من أجاز ذلك أبياتًا صالحةَ العدة. قال عبّاس بن مِرْداس [من المتقارب]: 116 - فما كان حِصْنٌ ولا حابِسٌ. . . يَفُوقان مِرْداسَ في مَجْمَعِ ¬
فلم يصرف "مرداسًا"، وهو أبوه. ومن ذلك قول ذي الإِصبع (¬1) العَدْواني [من الهزج]: 117 - ومِمَّن ولدُوا عامرُ ... ذو الطُّولِ وذُو العَرْضِ ولم يصرف "عامرًا". وأنشدوامن مجزوء الوافر]: 118 - ومُصْعَبُ حِينَ جَدَّ الأَمرُ ... أَكْبَرُها وأَطْيَبُها إلى أبياتٍ أُخَر غير هذه، جاءت في أشعار العرب أضعافَ ما ذكرناه. وقد تَأوَّلها أبو العبّاس، ورَوَى شيئًا منها على غير ما رووه. فأمّا بيتُ عبّاس فإنّ الرواية الصحيحة: ¬
"يفوقان شَيْخِيَ في مجمع"؛ وشيخُه: هو مرداسٌ. وإن صحّت روايتهم، فإنّه جعله قبيلةً لتقدُّمه، وكثرةِ أشياعه. وأمّا "عامرُ ذو الطول" فأبو القبيلة، ويجوز أن يكون جعله القبيلة نفسها، فلم يصرفه، ثم ردّ الكلامَ في الصفة إلى اللفظ. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ} (¬1)، صرف الأول؛ جعله أبا القبيلة، ومنعه الصرفَ ثانيًا؛ لأنّه جعله نفس القبيلة. وأمّا قوله مُصْعَبُ: "حين جدّ الأمر"، فإنّ الرواية الصحيحة: "وأَنْتُمْ حينَ جدّ الأَّمر". وإن صحّت تلك الروايةُ، حمله على إرادة القبيلة. وكان أبو بكر بن السَّرّاج يقول: "لو صحّت الرواية في ترك صرف ما ينصرف (¬2)، ما كان بأبعد من قوله [من الطويل]: 119 - فبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَه قال قائلٌ ... لِمَن جَمَلٌ رِخْوُ المِلاطِ نَجِيبُ إنما هو"فبَيْنَا هو"، فحذف الواو من "هُوَ"، وهي متحرّكةٌ، من نفس الكلمة؛ وإذا جاز حذفُ ما هو من نفس الحرف، كان حذف التنوين، الذي هو زيادةٌ، للضرورة أولى. والذي ذكره ابن السرّاج لا أراه؛ لأن التنوين حرفٌ دخل لمعنى، فإذا حُذف، أَخَلَّ بذلك المعنى. وليس كذلك ما هو من نفس الكلمة؛ ألا ترى أنَّه لمّا اجتمع التنوين مع ياء ¬
المنقوص، في مثل "قاضٍ"؛ ومع المقصور في مثل "عَصًا"، واقتضت الحال حذف أحدهما، حذف لام الكلمة، وبقي التنوين: لأن حذف التنوين ربّما أوقع لَبْسًا, وليس كذلك حذف الواو من قوله: "فبيناه يشري رحله". واعلم أن النصوص الواردة في هذا الباب ليس ردُّها بالسَّهْل. والمذهبُ فيه منعُ صرف المنصرف من الأسماء، إذا كان فيه علّةٌ واحدةٌ من العِلَل التسع؛ حتّى لو اجتمع معها علّةٌ أخرى، امتنع من الصرف في حال الاختيار والسعةُ. فللضرورة اعتُبر مُطْلَقُ الثِّقَل. وفي حال الاختيار اعتُبر ثقلٌ مخصوصٌ. فإذا أعتبرت النصوص الواردة في هذا الباب، كان أكثرها أعلامًا معارف، فامتنع الصرفُ للضرورة بسبب واحد من سببَيْن. فلو جاء مثل "رجل"، و"فرس" وأريد منعُه الصرفَ للضرورة، لم يجز عندي. فأمّا صاحب الكتاب فإنّه اختار منعَ جوازِ صرفِ ما ينصرف في الضرورة، وهو مذهب سيبويه، والأكثر من البصريين، وقد ذكرتُ حجّتهم في ذلك. * * * قال صاحب الكتاب: "وما أحد سببيه, أو أسبابه, العلمية؛ فحكمه الصرف عند التنكير, كقولك: "رُبَّ سعادٍ, وقطامٍ" لبقائه بلا سبب, أو على سبب واحد". * * * قال الشارح: قد ذكرنا أنّ العَلَميّة أحدُ الأسباب المانعة من الصرف، من حيث كان التعريفُ فرعًا، والتنكير أصلًا، على ما مضى. والعلميّةُ تجامع ستّةَ أسباب من موانعِ الصرف: أحدُها: العجمة، في مثل "إبراهيم"، و"إسماعيل"، و"إسحاق"، و"يعقوب"، فهذه الأسماء لا تنصرف للتعريف والعجمة. قال الله تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ} (¬1). وقال عَزَّ من قائلٍ: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} (¬2) الثاني: وزنُ الفعل، نحو: "يَزِيدَ"، و "تَغْلِبَ"، و"يَشْكُرَ"، و"يَغمَرَ"، و"خَضَّمَ"، و"ضُرِبَ"، إذا سُمي به، فهذا، وما كان مثله، لا ينصرف، للتعريف ووزن الفعل. الثالث: العدلُ، في مثل: "عُمَرَ"، و"زُفَرَ"، و"حَذَامَ"، و"قَطَامَ"، عُدل من "عامِرٍ"، و"زافِرٍ"، و"حاذِمَةَ"، و"قاطِمَةَ"، أعلامًا. الرابع: زيادةُ الألف والنون، في نحو: "عُثْمانَ"، و"ذُبْيانَ"، و"سَلْمانَ"، و"عَدْنانَ"، فهذا لا ينصرف للتعريف وزيادة الألف والنون. الخامس: التركيب، نحو: "بَعْلَبَك"، و"مَعْدِيكَرِبَ"، و"رَامَ هُرْمُزَ"، وما كان مثلها، ممّا جُعل الاسمان فيه اسمًا واحدًا؛ فهذه الأسماءُ لا تنصرف للتعريف والتركيب. ¬
السادس: التأنيث، في مثل: "طَلْحَةَ"، و"حَمْزَةَ"، و"سُعادَ"، و"قَطَامَ"، فهذه لا تنصرف للتعريف والتأنيث؛ فالتانيثُ في نحو: "طلحة"، و"حمزة" بالتاء، وفي "سُعادَ" بتقدير التاء، إلَّا أنه لا يظهر لكون الحرف الزائد على الثلاثة ينزل منزلة علامة التأنيث، ولذلك يتعاقبان، إلَّا فيما لا يُعْتدّ به؛ وذلك في تصغير "وَراء"، و"قُدّامٍ"، فقد قيل: "وُرَئئَةْ"، و"قُدَيْدِيمَةٌ"، وهو قليل. وأمّا "سَقَرُ"، وما كان مثله، فإنّ حركة عينه قامت مقامَ الحرف الرابع على ما سنذكر. فهذه الستّة إحدى علّتَيْها: التعريف. فإذا نُكرت، زالت إحدى العلّتَيْن، وهو التعريف، فبقيت علّةٌ واحدةٌ، فينصرف، فتقول: "هذا إبراهيمُ وإبراهيمٌ آخر، وأحْمَدُ وأحمدٌ آخرُ، وعُمَرُ وعمرٌ آخر، وعثمانُ وعثمانٌ آخر"، وهذا بعلبكُّ وبعلبكُّ آخرُ"، وهذا حمزةُ وحمزةٌ آخر". * * * وقوله: "نحو رُبَّ سُعادٍ وقَطامٍ، لبقائه بلا سبب، أو على سبب واحد"؛ فالمراد أنّ "سعادَ"، وما كان مثله، مثلَ: "طلحةَ"، فيه التعريفُ والتأنيثُ، فهذا نُكّر، انصرف لزوالِ التعريف. و"قَطامُ" فيه ثلاثُ عِلَل: التعريفُ والتأنيثُ، والعدلُ. فإذا نُكر زال التعريفُ، وزال أيضًا العدلُ، لزوالِ التعريف؛ لأنّه إنّما كان معدولًا في حال التعريف، فبقي في كلّ واحد منهما سببٌ واحدٌ، وهو التأنيث، وهذا الضربُ من التأنيث لا أثَرَ له إلَّا مع التعريف، فإذا زال التعريفُ، بطل حكمه، وصار الاسمُ في حكمِ ما لا سبب فيه، فإن شئتَ أن تقول: بقي بلا سبب, لأن السبب الباقي لا أثرَ له، وإن شئت أن تقول: بقي على سبب واحد، وهو التأنيث لفظًا. ومثله: "عُمَرُ"، إذا نكّرته، زال التعريفُ، وزال العدلُ بزواله أيضًا. وهذا إنّما يطّرد فيما مَثلَ به من "سعادَ"، و"قطامَ"، ونظائرهما، إلا في كلَّ ما أحد سببيه التعريفُ، ألا ترى أنّ "أَذَرْبَيجانَ" قد اجتمع فيه التعريفُ، والتركيبُ، والعجمةُ، وزيادةُ الألف والنون، فإذا زال التعريف جاز أن يقال: لبقائه بلا سبب، إذ كان لا أثرَ لهذه الأسباب إلَّا مع التعريف، ولا يقال: بقي على سبب واحد؛ لأنه لمّا زال التعريفُ، بقي فيه أكثرُ من سبب واحد، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "إلا نحو: "أحمر", فإن فيه خلافاً بين الأخفش, وصاحب الكتاب" (¬1). * * * قال صاحب الكتاب: لمّا أطلق، وقال وما أحد سببيه، أو أسبابه، العلميةُ، فحكمه الصرفُ عند التنكير. استثنى "أَحْمَرَ"، ونحوه من الصفات، إذ كان فيه خلافٌ، إذا سُمّي به، ثمّ ¬
نُكّر؛ فإن سيبويه يمنع من صرفه بعد تنكيره (¬1)، كما كان يمنعه في حالِ تعريفه؛ إلَّا أنّ المانع من الصرف مختلِفٌ؛ ففي حال التعريفِ المانعُ من الصرف التعريفُ ووزنُ الفعل، وفي حال التنكير شَبَهُه بحاله قبل التسمية. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى صرفه, لأنّه بالتسمية فارَقَ الصفة، وعرض فيه التعريفُ ووزنُ الفعل، على ما ذُكر. فإذا نُكّر، زال التعريفُ، وبقي فيه عِلّةٌ واحدةٌ، وهي الوزنُ وحده، فانصرف. وأرى القياسَ ما قاله أبو الحسن، وكذلك ما كان نحوه، مثلَ: "سَكْرانَ، وعَطْشانَ"، إذا سمي بشيء من ذلك، ثم نُكر، فهو على الخلاف. قال صاحب الكتاب: "وما فيه سببان من الثلاثي الساكن الحشو- "كـ "نوح", و"لوط"- منصرفٌ في اللغة الفصيحة التي عليها التنزيل, لمقاومة السكون أحد السببين. وقوم يجرونه على القياس, فلا يصرفونه. وقد جمعهما الشاعر في قوله [من المسرح]: 120 - لم تتلفع بفضل مئزرها ... دعدٌ ولم تسق دعد في العلب * * * قال الشارح: اعلم أنّ ما كان ساكن الوسط من الثلاثيّ المؤنّث، إذا كان معرفة، فالوجهُ منعُه الصرفَ، لاجتماع السببين. وقد يصرفه بعضُهم لخفته بسكون وسطه، فكأنّ الخفة قاوَمَتْ أحدَ السببَيْن، فبقي سببٌ واحدٌ، فانصرف عند هؤلاء. وفيه رَدٌّ إلى الأصل. وقد أنشد قول جَرِيرٍ: لم تتلفّعْ بفضل ... إلخ ¬
والشاهد فيه صرفُ "دَعْدٍ" وتركُ صرفها. و"التلفُّع": التقنُّعُ، والتَّرَدَّي. و"العُلَبُ": جمعُ "عُلْبةٍ" كـ "ظُلْمَةٍ" و"ظُلَمٍ". وهو إِناءٌ من جِلْد يشرب به الأعرابُ. يصفها بأنّها حَضَريَةٌ (¬1)، رقيقةُ العيش، لا تلبسَ ما يلبسه العربُ، ولا تشرب مما يشربون. ومثله قول الآخر [من الطويل]: ألَا حَبَّذَا هِنْدٌ وأَرْضٌ بها هِنْدُ ... وهندٌ أَتَى مِن دُونِها النَّأْيُ والبُعْدُ (¬2) فصرف "هندًا" في موضعين من البيت. وليس ذلك من قبيل الضرورة؛ لأنه لو لم يصرف، لم ينكسر وزنُ البيت. والقياسُ الصرف؛ لأنّ مُراعاةَ اللفظ فيما لا ينصرف هو البابُ. ألا ترى أنهم قالوا: "ذَلَذِلًا"، و"جَنَدِلًا" فصرفوه، وإن كان المراد "ذَلاذِلَ"، و"جَنادِلَ" غير مصروفَيْن، لأنّهما بزنة "مَساجِدَ"، لكنّهم حذفوا الألف منهما تخفيفًا؛ وما حذف للتخفيف، كان في حكم المنطوق به؛ ويؤيّد وُضوحًا أن الألف مرادةٌ، أنّه قد اجتمع فيها أربعُ متحركاتٍ متوالياتٍ في كلمة، مع كون الألف مرادةّ، فهو مصروفٌ لمراعاة اللفظ. وكان الزجّاج لا يرى صرفَ نحو: "هندٍ"، و"دعدٍ"، و"جُمْلٍ"، ولا صرفَ شيء من المؤنّث يسمّى باسم على ثلاثة أحرف أوْسطُها ساكنٌ. فأمّا الاسم الأعجمي الثلاثيّ الساكنُ الوسطِ فمصروفٌ ألبتّة، نحوَ: "لُوطٍ"، و"نُوحٍ". قال الله تعالى: {امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا} (¬3). واعلم أنّ اعتمادهم في نحو: "هند"، و"دعد"، وما كان مثلهما الصرف ومَنْعَه؛ واعتمادَهم في نحو: "نوح"، و"لوط" الصرفَ ألبتّة، مع تَساويهما في الخفّة، لسكونِ أوسطهما، دليلٌ على أن حكمَ التأنيث أقوى في منعِ الصرف من العُجْمة. وصاحبُ الكتاب لم يفرق بين "هند", و"جمل"وبين "لوط", و"نوح", وجعل حكم"نوح", و"لوط" في الصرف ومنعهِ كـ "هند","دعد"؛ وهو القياسُ ,إلاَ أن المسموع ما ذكرنا. * * * قال صاحب الكتاب: "وأما ما فيه سببٌ زائدٌ, كـ "ماه" (¬4) , و"جور" (¬5) , فإن فيهما ما في "نوحٍ" مع زيادة التأنيث, فلا مقال في امتناع صرفه" قال الشارح: أمّا "مَاهُ"، و"جُورُ" إذا سُمّي بهما امرأتان، فلا كلامَ في منعِ ¬
صرفهما؛ لأنّه قد اجتمع فيه ثلاثةُ أسباب: التعريف، والتسمية والتأنيث، والعجمة؛ ولذلك لو سمّيت امرأةَ بـ "دُكَّ"، أو "حُشَّ"، لكان غيرَ مصروف، لِما ذكرناه، ولو سمّيت بهما رجلاً، لكان حكمهما حكمَ "نُوحٍ"، و"لُوطٍ". * * * قال صاحب الكتاب: "والتكرر (¬1) في نحو: "بشرى", و"صحراء" و"مساجد", و"مصابيح", نزل البناء على حرف تأنيث لا يقع منفصلاً بحالٍ، والزنةُ التي لا واحد عليها منزلة تأنيثٍ ثانٍ, وجمع ثان". * * * قال الشارح: لما ذكر في أَثْناءِ هذا الفصل أن السبب الواحد لا يكون مانعًا من الصرف ألبتة، خاف أن متوهَّمٌ أنّ نحو: "حُبْلَى"، و"بُشْرَى"، و"صَحْراءَ"، وَ"مَسَاجِدَ" ناقضٌ لِما قَرَّرَه، فنَبَّهَ عليه، وعرّف أنّ العلّة ها هنا متكرّرةٌ؛ وذلك أنّ ألف التأنيث المقصورة والممدودة في نحو: "حُبْلَى"، و"سَكْرى"، و"حَمْراءَ"، و"صَحْراءَ" هي المانعةُ من الصرف وحدها، وأن الصفة لا أثَرَ لها، بل هي سببٌ زائدٌ على المانع. ألا ترى أنّ نحو: "حُبارَى"، و"بُهْمَى"، و"شُكاعَى" أسماءٌ غيرُ صفات، وليس فيها إلَّا الألف وحدها؛ وأن "صحراء"، و"طَرْفاءَ" ليست بصفة، وليس مع الألف الممدودة فيهما سِواها، وإنما منعت الصرفَ لأنهّا لازمةٌ للتأنيث، وقد بنيت الكلمة عليها، فتتنرّل منزلةَ الجُزء منها، فلذلك تثبت في التكسير، نحوَ: "حُبْلَى"، و"حَبالَى"؛ و"سَكْرَى"، و"سُكَارَى"؛ و"صَحْراءَ"، و"صَحارَى". وليست التاء كذلك في نحو: "طلحةَ"، و"حمزةَ"، إنّما هي علامةٌ منفصلةٌ بمنزلةِ اسم ضُمَّ إلى اسم، ولذلك تحذف في التكسير في نحو: "قَرْيَةٍ"، و"قُرّى"؛ و"ظُلْمَةٍ"، و"ظُلَمٍ"؛ و"جَفْنَةٍ"، و"جِفانٍ"؛ و"طَلْحَةٍ"، و"طِلاحٍ". فالألفُ تُشارِك التاءَ في التأنيث، وتزيدَ عليها باللزوم، فصار لزومُ التأنيث بمنزلة تأنيثٍ ثانٍ. فهذا معنى تكرُّر العلّة. وكذلك نحوُ: "مساجِدَ"، و"مَصابِيحَ"، وذلك أن هذا الجمع لمّا لم يكن له نظيرٌ في الآحاد، وليس في المجموع جمعٌ إلَّا ولَهُ نظيرٌ في الآحاد، على ما تقدّم، فصار هذا الجمعُ لعدمِ النظير كأنّه جُمع ثانيًا، فتكرّرت العلّةُ، وقد تقدّم ذلك مبسوطًا. ¬
القول في وجوه إعراب الاسم
القول في وجوه إعراب الاسم فصل قال صاحب الكتاب: "هي الرفع والنصب والجر. وكل واحد منها علم على معنى؛ فالرفع علم الفاعلية, والفاعل واحدٌ ليس إلا. وأما المبتدأ, وخبره, وخبر "إن" وأخواتها, و"لا" التي لنفي الجنس, واسم "ما" و"لا" المشبهتين بـ "ليس", فملحقات بالفاعل على سبيل التشبيه والتقريب. وكذلك النصب علم المفعولية؛ والمفعول خمسة أضرب: المفعول المطلق, والمفعول به, والمفعول فيه ,والمفعول معه, والمفعول له. والحال, والتمييز, والمستثنى المنصوب, والخبر في باب "كان" والاسم في باب "إن" والمنصوب بـ "لا" التي لنفي الجنس, وخبر "ما" و"لا" المشبهتين بـ "ليس". ملحقاتٌ بالمفعول. والجر علم الإضافة. وأما التوابع فهي في رفعها ونصبها وجرَّها داخلة تحت أحكام المتبوعات؛ ينصب عمل العامل على القبيلين (¬1) انصبابةً واحدة. وأنا أسوق هذه الأجناس كلها مرتبة مفصلة, بعون الله وحسن تأييده". * * * قال الشارح: اعلم أن الإعراب في اللغة: البَيانُ. يقال: أَعْرَبَ عن حاجته، إذا أبان عنها. ومنه قوله عليه السلام: "الثَّيِّبُ تُعْرِب عن نفسها" (¬2). وهو مشتقٌّ من لفظِ "العَرَب" ومعناه؛ وذلك لِما يُعْزَى إليهم من الفصاحة. يقال: "أَعْرَبَ"، و"تَعَرَّبَ"، إذا تَخَلَّقَ بخُلْق العرب في البيان والفصاحة. كما يقال: "تَمَعْدَدَ"، إذا تكلّم بكلام مَعَدّ. و"الإعراب": الإبانةُ عن المعاني باختلافِ أواخر الكلم، لتعاقُب العوامل في أوّلها. ألا ترى أنك لو قلت: "ضَرَبَ زيدْ عمرْو"، بالسكون من غير إعراب، لم يُعْلَم الفاعل من المفعول. ولو اقتُصر في البيان على حِفْظِ المَرْتَبة، فيُعْلَم الفاعلُ بتقدُّمه، والمفعولُ بتأخُّره، لضاق المذهبُ، ولم يُوجَد من الاتّساع بالتقديم والتأخيرِ ما يُوجَد ¬
بوجودِ الإعراب؛ ألا ترى أنك تقول: "ضرب زيدٌ عمرًا"، و"أكرم أخاك أبوك"، فيُعْلَم الفاعل برَفْعه، والمفعولُ بنَصْبه، سواءٌ تقدّم أو تأخّر. فإن قيل: فأنت تقول: "ضَرَبَ هذا هذا"، و"أكرم عِيسَى مُوسَى"، وتقتصر في البيان على المرتبة. قيل: هذا شيء قادت إليه الضرورةُ هنا لتعذُّر ظهور الإعراب فيهما, ولو ظهر الإعرابُ فيهما، أو في أحدهما، أو وُجدت قَرِينةٌ مَعْنَويّةٌ أو لفظيّةٌ، جاز الاتّساعُ بالتقديم والتأخير؛ نحوُ: "ضرب عيسى زيدٌ". فظهورُ الرفع في "زيد" عرّفك أن "عيسى" مفعولٌ، ولم يظهر فيه الإعرابُ. وكذلك لو قيل: "أكَلَ كُمَّثْرَى عيسى"، جاز تقديمُ المفعول لظهورِ المعنى لِسَبْق الخاطر إلى أن الكمّثرى مأكولٌ. وكذلك لو ثنّيتَهما، أو نعتَّهما، أو أحدهما، جاز التقديمُ والتأخيرُ، فتقول: "ضرب المُوسَيانِ العِيسَيَيْن"، و"ضرب عيسى الكريمَ موسى"، فحينئذ يجوز التقديم والتأخير في ذلك كلّه، لظهورِ المعنى بالقرائن. واعلم أنهم قد اختلفوا في الإعراب ما هو؟ فذهب جماعةٌ من المحقّقين إلى أنّه معنى؛ قالوا: وذلك اختلافُ أواخرِ الكَلِم، لاختلافِ العوامل في أوّلها، نحو: "هذا زيد"، و"رأيت زيدًا"، و"مررت بزيدٍ". والاختلافُ معنى لا محالةَ. وذهب قومٌ من المتأخّرين إلى أنه نفسُ الحركات. وهو رأيُ ابن دُرُسْتَوَيْهِ. فالإعرابُ عندهم لفط لا معنى، فهو عبارةٌ عن كلّ حركة أو سكونِ يَطْرَأ على آخر الكلمة في اللفظ، يَحْدُث بعاملٍ، ويَبْطُل ببُطْلانه. والأظهر المذهب الأول، لاتفاقهم على أنهم قالوا: حركاتُ الإعراب. ولوكان الإعرابُ نفسَ الحركات، لكان من إضافة الشيء إلى نقسه، وذلك ممتنعٌ. وقوله: "وُجوه الإعراب"؛ يريد به أنواع إعراب الأسماء التي هي الرفع والنصب والجرّ؛ لأنه لمّا كانت معاني المسمّى مختلفة، تارةً تكون فاعلة، وتارةً تكون مفعولة، وتارةً تكون مضافًا إليها؛ كان الإعرابُ المضافُ إليه مختلفًا، ليكون الدليل على حسب المدلول عليه. واعلم أن سيبويه فصل بين ألقابِ حركاتِ الإعراب، وألقاب حركات البناء؛ فسمّى حركاتِ الإعراب رفعًا ونصبًا وجرًّا وجزمًا، وحركاتِ البناء؛ ضمًّا وفَتْحًا وكَسْرًا ووقْفًا، للفرق بينهما (¬1). فإذا قيل: هذا الاسم مرفوعٌ، أو منصوبٌ، أو مجرورٌ، عُلم بهذه الألقاب أن عاملًا عمِل فيه، يجوز زوالُه ودخولُ عامل آخر يُحْدِث عملَه، ووقعت الكفايةُ في الفرق بهذا اللفظ، وأغنى عن أن يقول ضمّةٌ حدثت بعامل، أو فتحةٌ حدثت بعامل، أو كسرة حدثت بعامل، فكان في التسمية فائدةُ الإيجاز والاختصار. ¬
وقد خالَفَه الكوفيون، وسمّوا الضمّة اللازمة: رفعًا، والفتحةَ والكسرةَ: نصبًا، وجرًّا. والصوابُ مذهبُ سيبويه، لما فيه من الفائدة. واعلم أن إعرابَ الأسماء من هذه الأربعة الرفعُ والنصبُ والجرُّ. ولا يدخل الاسمَ جزمٌ. وإنمّا لم تُجْزَم الأسماء لتمكُّنها, ولزوم الحركة والتنوين لها، فلو جُزمت، لأبطل الجازمُ الحركة؛ وإذا زالت الحركةُ، زال بزوالها التنوين, لأن التنوين تابعٌ للحركة؛ ولو زالا اختلّت الكلمةُ بذهاب شيئين: أحدهما: الحركة، وهو دليلُ كونها فاعلة أو مفعولة أو مضافًا إليها؛ والآخرُ: التنوين، الذي هو دليلُ كونه منصرفًا. فإن قيل: فهلاّ أذهب الجازمُ الحركةَ وحدَها. قيل: لو حُذفت الحركة للجازم، لزم تحريكُ حرف الإعراب لسكونه وسكونِ التنوين بعده. ولو فعلنا ذلك لعاد لفظُ المجزوم، إلى لفظ غير المجزوم فلم يصح الجزمُ فيه, لأنّه لا يسلَم سكونه. وُيحْكَى عن المازني أنه قال: لم يدخل الجزمُ الأسماءَ لأنّه بعواملَ يمتنع دخولُها على الأسماء من جهة المعنى، نحو: "لَمْ"، و"لَمَّا"، و"إن" المُجازِيَة، وما جرى مجراها. * * * وقوله:"وكل واحد منها عَلَم على معنى"؛ يريد: الرفع والنصب والجرّ؛ كلُّ واحد منها علمٌ على معنّى من معاني الاسم، التي هي الفاعليّةُ، والمفعوليةُ، والإضافةُ. ولولا إرادةُ جَعْلِ كلّ واحد منها على معنى من هذه المعاني، لم تكن حاجةٌ إلى كثرتها وتعدُّدِها. * * * ثم قال: "فالرفع علمُ الفاعلية"، فقدّم الكلام على الفاعل من بين المرفوعات، لا سِيَّما المبتدأ المُشارِكِه (¬1) في الإخبار عنه؛ وذلك لأنّ الفاعل يُظْهِر برفعه فائدةَ دخولِ الإعراب الكلامَ، من حيث كان تكلُّفُ زيادةِ الإعراب إنّما احتُمل للفرق بين المعاني، التي لولاها وقع لَبْسٌ. فالرفعُ إنما هو للفرق بين الفاعل والمفعول اللذين يجوز أن يكون كل واحد منهما فاعلاً ومفعولًا؛ ورفعُ المبتدأ والخبر لم يكن لأمرِ يُخْشَى التباسه، بل لضرب من الاستحسان، والتشبيه بالفاعل، من حيث كان كل واحد منهما مُخْبَرًا عنه؛ وافتقارُ المبتدأ إلى الخبر الذي بعده، كافتقار الفاعل إلى الخبر الذي قبله، ولذلك رُفع المبتدأ والخبر. وذهب سيبويه (¬2)، وابن السرّاج، إلى أنّ المبتدأ والخبر هما الأوّل، والأصل في ¬
استحقاق الرفع؛ وغيرَهما من المرفوعات محمولٌ عليهما. ومنه قولُ سيبويه: "اعلم أن الاسم أوّله الابتداءُ"؛ يريد أوّلُه المبتدأُ, لأن المبتدأ هو الاسم المرفوع، والابتداء هو العامل، وذلك لأن المبتدأ يكون مُعْرى من العوامل اللفظية، ويَعْرَى الاسمُ من (¬1) غيره في التقدير قبل أن يقترن به غيرُه، والذي عليه حِذاقُ أصحابنا اليومَ المذهبُ الأوَّل. وصاحبُ هذا الكتاب ذكر الفاعلَ أوّلًا، وحمل عليه المبتدأ، والخبرَ، واسمَ كَانَ، وخبرَ "إن"، وخبرَ "لاَ" التي لنفي الجنس، واسم "ما" و"لاَ" التي بمعنَى "لَيْسَ"؛ وجعل لكلّ واحد منها فصلًا يأتي عقيبَ هذا، مرتَبًا هذا الترتيبَ، ويستقصي عليها الكلامُ هناك. * * * وقوله. "والفاعلُ واحدٌ ليس إلّا"؛ يريد: أنّ كلّ فعل، متعدّيًا (¬2) كان أو غيرَ متعدّ، لا يكون له إلَّا فاعلٌ واحدٌ. والعلّةُ في ذلك أن الفعل حديثٌ، وخبرٌ، فلا بدّ له من مُحَدَّثٍ عنه، يُسْنَد ذلك الحديث إليه، ويُنْسَب إليه، وإلّا عدِمتْ فائدتُه. فإذا ذكرتَ بعده اسمًا، وأسندتَ ذلك الفعل إليه، اشتَغل به، وصار حديثًا عنه. وإن جئت بعده باسم آخَرَ، وقع فضلةً، فينتصب انتصابَ الفضلات، وهو المفعولُ به. * * * وقوله: "ليس إلّا"؛ يريد: ليس إلَّا ذلك، فحذف المستثنى منه تخفيفًا، وحذف المستثنى أيضًا. وحذفُ المستثنى بعدَ "إلَّا" سائغٌ، إذا وقعت بعدَ "لَيْسَ". وسيوضح في موضعه من الاستثناء، إن شاء الله تعالى. ¬
ذكر المرفوعات
ذكر المرفوعات الفاعل فصل [تعريف الفاعل] قال صاحب الكتاب: "هو ما كان المسند إليه, من فعل أو شبهه, مقدمًا عليه أبداً؛ كقولك: "ضرب زيدٌ", و"زيدٌ ضاربٌ غلامه" و"حسنٌ وجهه". وحقه الرفع, ورافعه ما أسند إليه". * * * قال الشارح: اعلم اْنّه قدّم الكلام في الإعراب على المرفوعات؛ لأنها اللوازمُ للجملة، والعُمْدةُ فيها، والتي لا تخلو منها وما عداها فضلةٌ، يستقلّ الكلامُ دونها. ثمَ قدّم الكلام على الفاعل؛ لأنّه الأصل في استحقاق الرفع، وما عداه محمولٌ عليه، على ما تقدّم شرحُه. واعلم أن الفاعل في عُرْف النحويّين: كل اسم ذكرتَه بعد فعلِ، وأسندتَ ونسبت ذلك الفعلَ إلى ذلك الاسم. ولذلك كان في الإيجاب والنفي سَواءً. وبعضهم يقول في وصفه: كل اسم تَقدَّمه فعلٌ، غيرُ مغيَّر عن بِنْيته، وأسندتَ ونسبتَ ذلك الفعلَ إلى ذلك الاسم؛ ويريد بقوله: "غير مغير عن بنيته" الانفصالَ من فعلِ ما لم يُسَم فاعلُه. ولا حاجةَ إلى الاحتراز من ذلك, لأنّ الفعل إذا أُسند إلى المفعول، نحوَ: "ضُرِبَ زيدٌ"، و"أُكْرِمَ بكرٌ" صار ارتفاعه من جهةِ ارتفاع الفاعل؛ إذ ليس من شرط الفاعل أن يكون موجدًا للفعل, أو مؤثَّرًا فيه. وقال بعضهم في وصفه: هو الاسم الذي يَجِب تقديمُ خبره لمجرَّدِ كونه خبرًا، كأنّه احترز بقوله: "لمجرّد كونه خبرًا" من الخبر إذا تضمّن معنَى الاستفهام، من نحوِ: "أيْنَ زيدٌ"؟ و"كَيْفَ محمَّدٌ"؟ و"متى الخروجُ؟ " فإن هذه الظروف التي وقعت أخبارًا يجِب تقديمُها, لكن لا لمجرّد كونه خبرًا؛ بل لِما تضمّنه الخبرُ من الاستفهام الذي له صَدْرُ الكلام. وهذا الكلام عندي ليس بمَرْضيّ؛ لأن خبرَ الفاعل، الذي هو الفعلُ، لم يتقدّم لمجرّدِ كونه خبرًا؛ إذ لو كان الأمرُ كذلك، لوجب تقديمُ كل خبر من نحوِ: "زيد قائمٌ،
وعبدُ الله ذاهبٌ"، فلمّا لم يجب ذلك في كلّ خبر، عُلم أنه إنّما وجب تقديمُ خبرِ الفاعل لأمرٍ وراءَ كونه خبرًا، وهو كونه عاملًا فيه؛ ورتبةُ العامل أن يكون قبل المعمول؛ وكونُه عاملًا فيه سببٌ أوجب تقديمه، كما أن تضمُّن الخبر همزةَ الاستفهام في قولك: "أيْنَ زيدٌ؟ " ونظائره، سببٌ أوجب تقديمَه، فاعرفه. وفي الجملة الفاعلُ في عُرْفِ أهلِ هذه الصَّنْعة أمر لفظيٌّ؛ يدل على ذلك تسميتُهم إيّاه فاعلاً في الصُّوَر المختلفة من النفي، والإيجاب، والمستقبَل، والاستفهام، ما دام مقدَّمًا عليه؛ وذلك نحو: "قَامَ زيدٌ"، و"سَيَقُومُ زيدٌ"، و"هَلْ يقوم زيد؟ " و"زيدٌ في جميع هذه الصُوَر فاعلٌ، من حيث إنّ الفعل مسنَدٌ إليه، ومقدَّمٌ عليه، سواءٌ فَعَل أو لم يفعل. ويؤيّد إعراضَهم عن المعنى عندك وُضوحًا أنّك لو قدّمت الفاعل، فقلت: "زيدٌ قام"، لم يبق عندك فاعلًا، وإنمّا يكون مبتدأ وخبرًا معرّضًا للعوامل اللفظية. * * * وقوله: "وحقه الرفعُ"؛ يعني وخَصَّته من الحركات الرفعُ. ورافِعُه ما أُسند إليه من الفعل، أو ما كان في معناه من الأسماء، مثالُ الفعل "قام زيدٌ"، رفعتَ "زيدًا" بـ "قَامَ". ومثالُ ما هو في معنى الفعل من الأسماء نحو أسماء الفاعلين والمفعولين والصفاتِ المشبَّهةِ بأسماء الفاعلين، نحو قولك: "زيدٌ ضاربٌ غلامُه، وحَسَنٌ وَجْهُه، ومضروبٌ أخوه"، فهذا في تقديرِ "يضرِبُ غلامُه، وحَسُنَ وجهُه، ويُضْرَب أخوه"؛ فارتفاعُ كل واحد من "الغلام"، و"الوجهِ" و"الأخ " كارتفاع "زيدٍ" بالفعل قبله من قولك: "ضَرَبَ زيدٌ". وربمّا قال بعضهم في عِبارته: "الفاعلُ ما ارتفع بإسناد الفعل إليه". وهو تقريبٌ، وهو في الحقيقة غير جائز, لأنّ الإِسناد معنًى، ولا خلافَ أن عاملَ الفاعل لفظيّ. فإن قيل: ولِمَ كان حقُّ الفاعل أن يكون مرفوعًا؟ فالجواب عن ذلك من وُجوهٍ. أحدها: أنّ الفاعل رُفع للفرق بينه وبين المفعول الذي لولا الإعرابُ لجاز أن يُتوهّم أنه فاعلٌ، وكان الغرضُ اختصاصَ كل واحد منها بعلامةِ تُميِّزه عن صاحبه، وكان زِمامُ هذا الأمر بيَدِ الواضع. وثانيها: أن الفاعل إنّما اختُصّ بالرفع لقُوّته، والمفعول بالنصب لضُعْفه. والمعنى بقوّة الفاعل تمكُّنُه بلُزومه الفعلَ وعدمِ استغناءِ الفعل، عنه؛ وليس المفعول كذلك، بل يجوز سقوطُه، وحذفُه. ألا ترى أنّك تقول: "ضَرَبَ زيدٌ"، ويكون الكلام مستقلاّ، وإن لم تذكر مفعولًا. ولو أخذتَ تحذف الفاعلَ، ولم تُقِمْ مقامَه شيئًا، نحوَ: "ضَرَبَ زيدًا"، من غير فاعلٍ، لم يكن كلامًا؛ وإذَا كان الفاعلُ أقوى، والمفعولُ أضعف. والضمّةُ أقوى من الفتحة, لأنّ الضمّة من الواو، والفتحة من الألف، والواوُ أقوى من الألف، لأنّها أضْيَقُ مَخْرَجًا, ولذلك يسوغ تحريكُ الواو، ولا يمكن ذلك في
الألف، لسَعَةِ مخرجها؛ ومخرجُ الحرف كلّما اتّسع ضعُف الصوتُ الخارجُ منه؛ وإذا ضاق، صلب الصوتُ، وقَوِيَ. فناسبوا بأن أعطوا الأقوى الأقوى، والأضعفَ الأضعفَ. ووجهٌ ثالث: أن الفاعل أقلُّ من المفعول، إذ الفعلُ لا يكون له إلا فاعلٌ واحدٌ، وقد يكون له مفعولاتٌ كثيرةٌ، نحوَ: "ضَرَبَ زيد عمرًا"، و"أعطيتُ زيدًا درهمًا"، و"أعلمتُ زيدًا عمرًا خيرَ الناس"، فيتعدّى إلى مفعول واحد، وإلى اثنين، وإلى ثلاثةٍ، ولك أن تأتي بالمصدر بعد ذلك، والظرفِ من الزمان، والظرفِ من المكان، والمفعولِ له، والمفعولِ معه، والحالِ، والاستثناء. والضمّةُ أثقلُ من الفتحة؛ فاعطوا الفاعلَ، الذي هو قليلٌ، الرفعَ الذي هو ثقيلٌ، وأعطوا المفعولَ، الذي هو كثير، النصبَ الذي هو خفيفٌ. وإنما فعلوا ذلك لوجهَيْن: أحدهما: لِيَقِل في كلامهم ما يستثقلون، وهو الضمّة. والثاني: أنهم خصّوا الفاعلَ بالرفع، والمفعولَ بالنصب، ليكون ذلك عَدْلاً في الكلام، فيكونَ ثقلُ الرفع موازِيًا لقلّةِ الفاعل، وخِفةُ النصب موازِية لكثرةِ المفعول. ومثلُه مثلُ مَن نُصب بين يَدْيه حَجَران؛ أحدهما خمسةُ أرطال، والآخرُ عشرةُ أرطال، ثمّ قيل له: عالِجْ إن شئت الخفيفَ (¬1) عشرَ مرّات، وإن شئت عالجِ الثقيلَ خمس مرّات. فتكون كثرةُ ممارسَةِ الخفيفَ موازية لقلّة ممارسةِ الثقيل، فيكون ذلك جاريًا على منهاج الحِكْمة والعَدْلِ. فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "والأصل فيه أن يلي الفعل, لأنه كالجزء منه؛ إذا قُدّم عليه غيره, كان في النية مؤخرًا, ومن ثم جاز: "ضرب غلامه زيدٌ", وامتنع: "ضرب غلامه زيدًا". * * * قال الشارح: اعلم أن القياس في الفعل، من حيث هو حركةُ الفاعل، في الأصل، أن يكون بعد الفاعل؛ لأنّ وجوده قبل وجودِ فعله، لكنه عَرَضَ للفعل أن كان عاملًا في الفاعل والمفعولِ، لتعلُّقهما به، واقتضائه إيّاهما، وكانت مرتبةُ العامل قبل المعمول، فقُدّم الفعل عليهما لذلك، وكان العلمُ باستحقاقِ تقدُّم الفاعل على فعله، من حيث هو مُوجِدُه ثانيًا، فأغنى أَمْنُ اللبْس فيه عن وضع اللفظَ عليه، فلذلك قُدّم الفعل، وكان الفاعل لازمًا له، يتنزل منزلةَ الجُزْء منه، بدليلِ أَنّه لا يستغني عنه، ولا يجوز إخلاءُ الفعل عن فاعلِ، ولذلك إذا اتّصل به ضميرُه، أسكن آخِره، نحوَ: "ضَرَبْتُ"، وَ "ضَرَبْنَا"، و"ضَرَبْتُمْ"، على ما سنذكر في الفصل الذي بعده. وقد تقدّم من الدليل، في شرح الخُطْبة، على شدّةِ اتّصالِ الفاعل بالفعل، واختلاطِه ¬
به، ما فيه مَقْنَعٌ. وإذا كان الفاعل كالجزء من الفعل، وجب أن يترتّب بعده. ولهذا المعنى لا يجوز أن يتقدّم عليه، كما لا يجوز تقديمُ حرفٍ من حروفِ الكلمة على أوّلها. ووجب تأخيرُ المفعول من حيث كان فَضْلَةً، لا يتوقّف انعقادُ الكلام على وجوده؛ فإذا رُتْبَةُ الفعل يجب أن يكون أوّلًا، ورتبةُ الفاعل أن يكون بعده، ورتبةُ المفعول أن يكون آخرًا. وقد تقدّم المفعول لضرب من التوسّع والاهتمامِ به، والنيّةُ به التأخيرُ. ولذلك جاز أن يقال: "ضرب غلامَه زيدٌ" فـ "الغلامُ" مفعول، وهو مضافٌ إلى ضمير الفاعل، وهو بعده متأخرٌ عنه، فهو في الظاهر إضمارٌ قبل الذكر. لكنّه لمّا كان مفعولًا، كانت النيةُ به التأخير؛ لأنّه لمّا وقع في غير موضعه، كانت النيّة به التأخيرَ إلى موضعه، ويكون الضميرُ قد تقدّم في اللفظ دون المعنى، وذلك جائزٌ. ولو قلت: "ضرب غلامُه زيذًا"، برفع "الغلام"، مع أمَّه متّصلٌ بضمير المفعول، لكان ممتنعًا؛ لأن الضمير فيه قد تقدّم على الظاهر لفظًا ومعنى, لأنّ الفاعل وقع أولًا وهي مرتبته، والشيء إذا وقع في مرتبته، لا يجوز أن يُنْوَى بها غيرها. وقد أقدم أبو الفَتْح بن جِني على جواز مثل ذلك، وجعله قياسًا؛ قال: "وذلك لكثرةِ ما جاء من تقديم المفعول على الفاعل، حتى صار تقديمُ المفعول كالأصل"، وحمل عليه قول الشاعر [من الطويل]: 121 - جَزَى رَبُّهُ عَني عَدِيَّ بنَ حاتِمٍ ... جَزاءَ الكِلابِ العاوِياتِ وقد فَعَلْ وذلك خلا فُ ما عليه الجمهورُ، والصوابُ أن تكون الهاء عائدةً إلى المصدر، والتقديرُ: "جزى ربُّ الجزاء"، وصار ذكرُ الفعل كتقديم المصدر، إذ كان دالاً عليه. ومثله قولهم: "من كذبَ كان شَرًّا له"، أبي: كان الكِذْبُ شرًّا له. وبعضهم يقول: ¬
فصل [الفاعل المضمر]
الضميرُ في البيت يعود إلى المفعول بعده، ولكن على سبيلِ الضرورة، ولا يجوز مثلُه في حال الاختيار وسَعَةِ الكلام. فاعرفه. فصل [الفاعل المُضْمر] قال صاحب الكتاب: "ومضمرُه في الإسناد إليه كمظهره؛ تقول: "ضربت", و"ضربنا", و"ضربوا" و"ضربن", وتقول: "زيدٌ ضرب" فتنوي في "ضرب" فاعلاً, وهو ضميرٌ يرجع إلى "زيد" شبيهٌ بالتاء الراجعة إلى "أنا", و"أنت" في "أنا ضربت", و"أنت ضربت"". * * * قال الشارح: لا فرقَ بين إسناد الفعل إلى الفاعل الظاهر، وبين إسناده إلى المضمر، من جهةِ حصول الفائدة. واشتغالُ الفعل بالفاعل المضمر كاشتغاله بالظاهر، إلَّا أنّك إذا أسندته إلى ظاهرٍ، كان مرفوعًا، وظهر الإعرابُ فيه؛ وإذا أسندته إلى مضمر، لم يظهر الإعرابُ فيه, لأنّه مبنيٌّ، وإنّما يُحْكَم على مَحَلّه بالرفع. فإذا قلت: "ضَرَبْتُ"، كانت التاء في محلّ مرفوع, لأنهّا الفاعلة. واعلم أن الفعل الماضي إذا اتّصل به ضميرُ الفاعل، سكن آخِرُه، نحو: "ضَرَبْتُ"، و"قَبِلْتُ"، وذلك لئلاّ يتوالى في كلمة أربع متحرّكات لوازمَ. فقولُنا "لوازم " تحرّزٌ من ضمير المفعول, لأنّ الفعل لا يسكن لامُه إذا اتّصل به ضميرُ المفعول, لأن ضمير المفعول ليس بلازم للفعل؛ ألا ترى أنّه يجوز إسقاطُه وحذفُه، وأن لا تذكره، فتقول: "ضَرَبَكَ"، بالتحريك، فيجتمع فيه أربعُ متحرّكات، إذا لم تكن لوازمَ, لأن ضمير المفعول في حكمِ المنفصل؛ فعلى هذا تقول: "ضَرَبْنَا"، بسكون الباء، إذا أردت الفاعلَ. ويقع الظاهرُ بعده منصوبًا, لأنّه المفعوَل. وتقول "ضَرَبَنَا"، بحركة الباء، إذا أردت المفعول، ويقع الظاهر بعده مرفوعًا، لائه الفاعل. فقد بَانَ الفرقُ بين "ضَرَبْنَا"، و"ضَرَبَنَا"؛ و"حَدثنا" و"حَدثَنَا"؛ إذا أسكنت فالضمير فاعلٌ، وإذا حرّكت فالضمير مفعولٌ. وقوله: "فهو ضميرٌ يرجع إلى زيد"؛ يريد بذلك أنّك إذا أخبرتَ عن "أَنَا"، وهو ضميرٌ منفصلٌ، فقلت: "أنا ضربت"، وعن "أَنْتَ" في قولك "أنتَ ضربتَ"؛ فكما يعود إلى كلّ واحد منهما ضميرٌ متصلٌ، يظهر في اللفظ له صورةٌ، تُدْرِكها الحاسةُ في الخَط، كان كذلك في الغائب، ولم يظهر له صورةٌ، ولا لفظٌ، حملا لِما جُهل أمرُه على ما عُلم. فاعرفه. فصل [التنازع] قال صاحب الكتاب: "ومن إضمار الفاعل قولك: "ضربني وضربت زيدًا"،تضمر
في الأول اسم من ضربك وضربته إضماراً على شريطة التفسير، لأنك لما حاولت في هذا الكلام أن تجعل "زيداً" فاعلاً ومفعولاً, فوجهت الفعلين إليه, استغنيت بذكره مرة. ولما لم يكن بُدٌّ من إعمال أحدهما فيه, أعملت الذي أوليته إياه. ومنه قول طفيل؛ الغنوي أنشده سيبويه [من الطويل]: 122 - [وكمتا مدماة كأن متونها] ... جرى فوقها واستشعرت لون مذهب" * * * قال الشارح: هذا الفصل من باب إعمالِ الفعلَيْن. وهو بابُ الفاعلَيْن والمفعولَيْن. اعلم أنّك إذا ذكرت فعلَيْن، أو نحوَهَما من الأسماء العاملة، ووجّهتَهما إلى مفعول واحد؛ نحو: "ضَرَبَنِي وضربتُ زيدًا"، فإنّ كلّ واحد من الفعلَيْن موجَّةٌ إلى "زيد" من جهة المعنى، إذ كان فاعلاً للأوّل، ومفعولًا للثاني، ولم يجز أن يعملا جميعًا فيه, لأنّ الاسم الواحد لا يكون مرفوعًا ومنصوبًا في حال واحدة. على أنّ الفرّاء قد ذهب إلى انّك إذا قلت: "قَامَ وقَعَدَ زيدٌ"، فكِلا الفعلين عاملٌ في "زيد". وهو ضعيفٌ, لأن من الجائز ¬
تغييرَ أحدِ العاملَيْن بغيره من النواصب، وحينئذ يؤدّي إلى أن يكون الاسم الواحد مرفوعًا ومنصوبًا في حال واحدة، وذلك فاسدٌ. وإذ لم يجز أن يعملا معًا فيه، وجب أن يعمل أحدهما فيه، وتُقدّر للآخر معمولًا يدلّ عليه المذكورُ. وذهب الجميع إلى جوازِ إعمالِ أيهما شئتَ، واختلفوا في الأَولوية (¬1)؛ فذهب البصريون إلى أنّ إعمال الثاني أوْلَى، وذهب الكوفيون إلى أن إعمالَ الأول أولى (¬2). فإذا قلت: "ضربني وضربتُ زيدًا"، نصبت "زيدًا"، لأنّك أعملت فيه "ضَرَبْتُ"، ولم تُعْمِل الأولَ فيه لفطًا، وإن كان المعنى عليه. وذهب سيبويه (¬3) إلى أن في "ضَرَبَنِي" فاعلًا مضمرًا دلّ عليه المذكور. وحَمَلَه على القول بذلك امتناعُ خُلُوِّ الفعل من فاعل في اللفظ. وذهب الكِسائيّ إلى أن الفاعل محذوفٌ دلّ عليه الظاهرُ. وكان الفرّاء لا يرى الإضمارَ قبل الذكر. وأثَرُ هذا الخلافِ يظهر في التثنية والجمع، فتقول على مذهب سيبويه في التثنية: "ضَرَباني وضربتُ الزيدَيْن"؛ وفي الجمع: "ضربوني وضربتُ الزيدِين"، فتُظْهِر علامةَ التثنية والجمع, لأن فيه ضميرًا. وتقول على مذهب الكسائيّ: "ضربني وضربتُ زيدًا"، وفي التثنية: "ضربني وضربتُ الزيدَيْن"؛ وفي الجمع: "ضربني وضربت الزيدِين"، فتُوحّد الفعلَ الأول في كل حال لخُلُوّه من الضمير. والصحيح مذهب سيبويه, لأن الإضمار قبل الذكر قد ورد عنهم في مواضعَ على شريطةِ التفسير؛ من ذلك إضمارُ الشَّأن والقِصَّةِ والحديثِ في باب المبتدأ والخبر وما دخل عليهما، نحو قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬4)؛ وهو إضمَارُ الشأن والحديثِ، وفسّره بعده؛ ونحو قول الشاعر [من الطويل]: 123 - إذا مُتُّ كان، الناسُ نِصْفان: شَامِتٌ ... وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنْتُ أَصْنَعُ ¬
المراد: كان الشأنُ والأمرُ الناسُ نصفان. ومن ذلك قوله: "نِعْمَ رجلًا زيدٌ"، ففي "نِعْم" فاعلٌ مضمرٌ فسّرته النكرةُ بعده، والتقديرُ: "نعم الرجلُ رجلًا زيدٌ"، أي المضمرُ كنايةٌ عن رجلٍ. ومثلُه: "رُبَّهُ رجلًا" أدخل "رُبَّ" على مضمر لم يتقدّم له ذكرُ ظاهرٍ، وفسّره بما بعده؛ ويسمّيه الكوفيون المضمر المجهولَ. وأمّا حذفُ الفاعل ألبتّة، وإخلاء الفعل عنه، فغيرُ معروف في شيء من كلامهم. فكان ما قلناه، وهو الحملِ على الإضمار بشرط التفسير أوْلَى؛ إذ كان له نظيرٌ من كلام العرب، فكان أقَل مخالفة. * * * وقوله: "تُضْمِر في الأوّل اسمَ من ضربك وضربتَه"؛ يريد مضمَر الاسم المذكور؛ لأنّه فاعلٌ ومفعولٌ من جهة المعنى؛ إذ كان ضاربًا ومضروبًا. ولذلك يُترجَم بباب الفاعلَيْن والمفعولَيْن اللذَيْن يفعل كل واحد منهما بصاحبه مثلَ ما يفعل به الآخرُ. فإذَا قلت: "ضربني وضربتُ زيدًا"، أضمرت في الأوّل اسمَ "زيد" الذي فَعَل بك من الضرب مثلَ ما فعلتَ به. فأمّا البيت الذي أنشده، وهو من أبيات الكتاب، لطُفَيْل الغَنَويّ [من الطويل]: وكُمْتًا مُدَمّاةً كأنّ مُتونَها ... جَرَى فَوْقَها واستَشْعَرَتْ لَوْنَ مُذْهَبِ فشاهدٌ على إعمال الثاني، وهو اختيارُ سيبويه، نصب "اللونَ" بـ "استشعرت"، وأضمر في "جَرَى" فاعلًا دلّ عليه "لونُ مذهب". ولو كان أعمل الأولَ، لَرَفَعَ اللونَ ¬
بالفعل الأولِ، وكان أظهر ضميرَ المفعول في "استشعرت"، وقال: و"استشعرَتْهُ"؛ كأنّه يصف خَيْلاً، وأنّ ألوانها كُمْتٌ مشوبةٌ بحْمْرة، كأن عليها شِعارَ ذهب. و"الشعارُ": ما يلي الجَسَدَ من الثياب، و"المُذْهَبُ"، ها هنا؛ من أسماء الذهب. فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "وكذلك إذا قلت: ضربت وضربني زيد, رفعته, لإيلائك إياه الرافع، وحذفت مفعول الأول استغناءً عنه. وعلى هذا تُعمل الأقرب أبدًا, فتقول: "ضربت وضربني قومك". قال سيبويه ولو لم تحمل الكلام على الآخر, لقلت: "ضربت وضربوني قومك" (¬1). وهو الوجه المختار الذي ورد به التنزيل. قال الله تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} (¬2) , و {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (¬3) وإليه ذهب أصحابنا البصريون" (¬4). * * * قال الشارح: إذا قلت: "ضربتُ وضربني زيدٌ"، برفعِ "زيد"، أعملت الثاني, وهو فعلٌ ومفعولٌ، وليس بعد الفعل والمفعول إلَّا الفاعلُ؛ والفاعلُ حقُّه الرفع، وهذا معنى قوله: "لإيلائك إيّاه الرافعَ"، يشير بذلك إلى قُرْبه منه، وحذفت مفعول الأوّل استغناءً عنه، ولمَ تُضْمِره, لأنّ المفعول فضلةٌ، فلم تحتج إلى إضماره. وعلى هذا يُعْمَل الأقربُ أبدًا، وذلك متقضَى القياس، فتقول: "ضربنُ وضربني قومُك"، أعملتَ الثاني، ولذلك رفعتَ "القوم"، ووحّدتَ الفعل لخلوّه من الضمير. ولو أعمل الأوّلَ لَقلت: "ضربتُ وضربونىِ قومَك"، بنصبِ "القوم" وإظهارِ ضميرِ الجماعة في الفعل الثاني؛ لأنّ تقديره: "ضربتُ قومَك وضربوني". والوجه المختار: "ضربنتُ وضربني قومُك"، وبه ورد الكتابُ العزيز. قال الله تعالى: {آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا} (¬5)؛ أعمل الثاني، ولو أعمل الأوّل لقال: "آتوني أفرغه عليه قطرًا"، إذ التقدير: "آتوني قطرًا أفرغه عليه". ومثله قوله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (¬6)؛ أعمل الثاني، ,وهو"اقرؤوا"، ولو أعمل الأوّل لقال: "هاؤم اقرؤوه ¬
كتابيه". واعلم أن هذا الاستدلال بالظاهر والغالب؛ وذلك لأنه يجوز أن يكون أعمل الأوّل، وحذف المفعول الثاني, لأنّ المفعولَ فضلةٌ يجوز أن لا يأتي به. ومثله قول الفرزدق [من الطويل]: 124 - ولكِن نِصْفًا لو سَبَبْتُ وسَبَّنِي. . . بَنُو عبدِ شَمْسِ بنِ مَنافٍ وهاشمِ فهذا مثل قولهم: "ضربتُ وضربني قومُك"، أعمل الثاني، وهو "سبني"، ولو أعمل الأوّل لقال: "وسبّوني", لأن التقدير: "لو سببتُ بني عبد شمس وسبّوني". * * * قال صاحب الكتاب: "وقد يعمل الأول, وهو قليل. ومنه قول عمر بن أبي ربيعة [من الطويل]: 125 - [إذا هي لم تستك بعود أراكةٍ] ... تُنُخِّلَ فاستاكت به عُودُ إسحلِ ¬
وعليه الكوفيون. وتقول على المذهبين: "قاما وقعد أخواك", و"قام وقعدا أخواك". وليس قول امرئ القيس [من الطويل]: 126 - [ولو أنَّ ما أسعي لأدني معيشةٍ] ... كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال ¬
من قبيل ما نحن بصدده؛ إذ لم يوجَّهُ فيه الفعل الثاني إلى ما وجه إليه الأول". * * * قال الشارح: قد ذكرنا أنّه لا خلافَ في جوازِ إعمالِ أيّ الفعلَيْن شئتَ، لتعلُّقِ معنى الاسم بكلّ واحد من الفعلَيْن. وإنّما الخلافُ في الأوّل منهما. فذهب الكوفيون إلى أنّ إعمالَ الفعل الأول أوْلى، وتَعلّقوا بأبيات أنشدوها، منها قولُ عمر بن أبي ربيعة: إذا هي لم تَسْتَكْ بعُودِ أراكةٍ ... تُنُخِّلَ فاسْتاكتْ به عُودُ إسْحِلِ الشاهد فيه رفعُ "عودِ إسحل" بالفعل الأوّل، والتقديرُ: تُنُخِّلَ عودُ إسحل فاستاكتْ به. ولو أعمل الثاني لَقَال: تُنخّل فاستاكت بعودِ إسحل. فقوله: "تنخّل" أبي: "اختير"، و"الإسحلُ": شجرٌ يُشبِه الأثْلَ، يُسْتاك به، ينبت بالحِجاز. وهذا لا دليلَ فيه, لأنّ ذلك يدلّ على الجواز، ولا خلافَ فيه. وأمّا أن يدلّ على الأولية فلا. وحجّةُ البصريين في ترجيحِ إعمالِ الثاني أنّه أقربُ إلى المعمول، وليس في إعماله تغييرُ المعنى، إذ لا فرقَ في المعنى بين إعمالِ الأول والثاني، وتكتسب به رعايةَ جانب القُرْب وحُرْمةِ المجاوَرة. ومما يدلّ على رعايتهم جانبَ القرب والمجاورةِ أَنّهم قالوا: "جُحْرُ ضَبٍّ خَرِبٍ"، "وماءُ شَنّ باردٍ"، فأتبعوا الأوصافَ إعرابَ ما قبلها، وإن لم يكن المعنى عليه؛ ألا ترى أنّ الضبّ لا يوصَف بالخَراب، والشنَّ لا يوصَف بالبُرُودة، وإنما هما من صفات الجُحْر والماءِ. ومن الدليل على مراعاةِ القرب والمجاورةِ قولُهم: "خَشَّنْتُ بصَدْره وصدَرَ زيدٍ"، فأجازوا في المعطوف وجهَيْن؛ أجْوَدُهما الخفضُ ها هنا حملًا على الباء، وإن كانت زائدةً في حكمِ الساقط، للقرب والمجاورةِ. وكان إعمالُ الثاني فيما نحن بصَدَده أوْلى للقرب والمجاورَةِ، والمعنى فيهما واحدٌ. * * * قال: وتقول على المذهبَيْن: "قاما وقعدا أخواك"، و"قام وقعد أخواك". قد تقدّم من قولنا أنه إذا وُجَه الفعلان إلى اسم واحد، لا يجوز أن يعملا فيه جميعًا، وإذ كانت القَضيةُ كذلك، وجب أن يعمل فيه أحدُهما لفطًا ومعنًى، ويعملَ ¬
الآخرُ فيه من جهة المعنى لا غيرُ. فتقول على مذهب سيبويه: "قاما وقعد أخواك، فتُثنِّي الفعلَ الأولَ, لأنّ فيه ضميرًا. وتقول: "قام وقعد أخواك" على مذهب الكِسائيّ، وتُوَحِّد الفعلَيْن جميعًا؛ الأولَ لأنّ فاعِلَه محذوفٌ عنده. والثاني لأنّه عمل في الظاهر بعده. وتقول على مذهب الفرّاء: "قام وقعد أخواك"، فتوحّد الفعلَيْن جميعًا أيضًا، لخُلُوّهما من الضمير، لأنّهما جميعًا عَمِلاَ في هذا الاسم الظاهرِ ورَفَعَاه. فأمّا بيت امرئ القيس [من الطويل]: فلو أن ما أسْعَى لأدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي ولم أطْلُبْ قَلِيلٌ من المالِ فليس من هذا الباب, لأن شرطَ هذا الباب أن يكون كلُّ واحد من الفعلَيْن موجِّهًا إلى ما وُتجه إليه الآخرُ، وهو الاسمُ المذكور، وليس الأمرُ في البيت كذلك؛ لأنّ الفعل الأول موجَّةٌ إلى القليل من المال، والثاني موجَّهٌ إلى المُلْك، ولم يجعل القليلَ مطلوبًا، وإنّما كان مطلوبه الملكَ. وتلخيصُ معنى البيت: إنّني لو سعيتُ لمنزلةٍ دَنيّةٍ، كفاني قليلٌ من المال، ولم أطلب الكثيرَ؛ ألا ترى أنّه قال في البيت الثاني: وَلَكِنَّمَا أسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ ... وقد يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أمْثالِي ولو نصب "قليلاً" بـ "أطْلُب" استحال المعنى، وصار التقديرُ: "كفاني قليلٌ ولم أطلب قليلاً"، فيكون هذا عطفَ جملة على (¬1) جملة لا تعلُّقَ لإحداهما (¬2) بالأخرى، كقولك: "ضربني زيدٌ"، و"لم أُكْرِم بكرًا"؛ وحذف المفعولَ من الجملة الثانية لدلالةِ البيت الثاني عليه؛ يصف بُعْدَ همِّته، فيقول: لو كان سَعْيِي في الدنيا لأدْنَى حَظٍّ فيها, لَكَفَتْنِي البُلْغَةُ من العَيْش، ولم أتَجَشمْ ما أتَجَشَّمُ. وإنّما طَلَبِي مَعالِي الأمُور، كالمُمُلْك ونحوهِ. فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: ومن إضماره قولهم: "إذا كان غدًا فائتني", أي: إذا كان ما نحن عليه غدًا". * * * قال الشارح: يريد ومن إضمار الفاعل أنّ الإنسان يقول لِمَن يخاطبه في أمر يطلبه: "إذا كان غدًا فائتني" يريد: إذا كان ما نحن عليه غدًا فائتني. فـ "كَانَ". ههنا، بمعنَى الحُدوث، والتقديرُ: إذا حدث هذا الأمرُ غدًا، فائتني، فأضمر الفاعل لدلالة الحال عليه، وصار تفسيرُ الحال كتقديمِ الظاهر. ونحوٌ منه [من الطويل]: ¬
فصل [إضمار عامل الفاعل]
127 - فإن كان لا يُرْضِيك حتّى تَرُدَّني ... إلى قَطَرِيّ لا إخالُك راضِيَا المراد: فإن كان لا يرضيك ما جرى في الحال التي نحن عليها. فصل [إضمار عامل الفاعل] قال صاحب الكتاب: "وقد يجيء الفاعل ورافعه مضمرٌ؛ يقال: "من فعل"؟ فتقول: "زيدٌ"، بإضمار "فَعَلَ", ومنه قوله عز وجل: "يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال" (¬1) , فيمن قرأها مفتوحة الباء (¬2) , أي: يسبح له رجالٌ. ومنه بيت الكتاب [من الطويل]: 128 - ليبك يزيد ضارعٌ لخصومةٍ ... [ومختبطٌ مما تُطيحُ الطوائح] أي: ليبكه ضارعٌ". ¬
قال الشارح: اعلم أن الفاعل قد يُذْكَر، وفعلُه الرافعُ له محذوفٌ لأمر يدلّ عليه، وذلك أنّ الإنسان قد يرى مضروبًا أو مقتولًا، ولا يعلم مَن أوقعَ به ذلك الفعلَ من الضرب أو القتلِ، وكلُّ واحد منهما يقتضي فاعلًا في الجملة، فيَسْأل عن الفاعل، فيقول: "مَن ضَرَبَهُ؟ " أو: "من قتله؟ " فيقول المسؤولُ: "زيدٌ"، أو: "عمرٌو"، يريد: ضَرَبَهُ زيدٌ، أو قتله عمرٌو، فيرتفع الاسمُ بذلك الفعل المقدَّر، وإن لم يُنْطَق به, لأنّ السائل لم يشُكّ في الفعل، وإنما يشكّ في فاعله، ولو أظهره فقال: "ضربه زيدٌ"، لكان أجودَ شيءٍ، وصار ذكرُ الفعل كالتأكيد. ومن ذلك قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ} (¬1) بفتح الباء في قراءةِ عاصم وابن عامر. وذلك أنَّه بناه لِمَا لم يسمَّ فاعلُه، فأقام الجارَّ والمجرورَ بعده مقامَ الفاعل، ثمّ فسّر مَن يُسبِّح على تقديرِ سؤالِ سائل: "من يُسبِّحه"؟ فقال: "رجالٌ"، أبي: يُسبِّح له رجالٌ، فرفع "رجالًا" بهذا الفعل المضمر الذي يدلّ عليه "يُسبَّح", لأنّه لمّا قال: "يسبَّح له"، دلّ أنّ ثمَّّ مسبِّحًا .. ومثله بيتُ الكتاب: لِيُبْكَ يَزِيدُ ضارعٌ لِخُصُومةٍ. . . ومختبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَوائحُ البيت لابن نَهِيك النَّهْشَلِيّ. والشاهد فيه رفعُ "ضارع" بفعل محذوف، كأنّه قيل: "من يَبكيه"؟ فقال: "ضارعٌ لخصومة"، أبي: يبكيه ضارع لخصومة. "والمختبِط": المحتاج، وأصلُه ضربُ الشجر للإبل لِيسقُطَ ورقُها وتُعْلَفَ. يصِف أنَّه كان مُقيمًا بحُجَّةِ ¬
المظلوم، ناصرًا له، مؤاسِيًا للفقير المحتاج. و"الضارعُ": الدليلُ الخاضعُ. و"تُطِيحُ": تُذْهِبُ وتُهْلِكُ، يُقال: أطاحتْه السِّنُون، إذا ذهبتْ (¬1) به في طلب الرِّزْق، وأهلكتْه. و"الطوائح": جمعُ "مُطِيحَةٍ"، وهي القَواذفُ، يُقال: طَوَّحَتْهُ الطوَائحُ، أبي: تَرامتْ به المَهالكُ، والقياسُ أن يُقال: "المَطاوِحُ", لأنّه جمعُ "مطيحة"؛ وإنّما جاء على حذفِ الزوائد، كما قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} (¬2)، والقِياسُ: "مَلاقِح", لأنّه جمعُ "مُلْقحَةٍ"، وإنما جاء محذوفَ الزوائد. ورَواه الأصمعىُّ: "لِيَبْكِ يزيدَ ضارعٌ لخصومة"، عى بِنْية الفاعل، ولا شاهدَ فيه على هذه الرواية. فعلى قياسِ قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ} (¬3) أجاز سيبويه: "ضُرِبَ زيدْ عمرٌو", لأنّك لما قلت: "ضُرِبَ" عُلم أن له ضاربًا، والتقديرُ ضَرَبَهُ عمرٌو". ومثله قراءةُ من قرأ {زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (¬4)، قال أبو العبّاس: "المعنى: "زَيَّنَهُ شُركاؤُهم"، فرفع الشركاء بفعل مضمر دلّ عليه: زُين. * * * قال صاحب الكتاب: والمرفوع في قولهم: "هل زيدٌ خرج"؟ فاعل فعل مضمرٍ يفسره الظاهر. وكذلك, في قوله عز وجل: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} (¬5) , وبيت الحماسة [من البسيط]: 129 - [إذاً لقام بنصري معشرٌ خُشُنٌ ... عند الحفيظة] إن ذو لُوثةِ لانا ¬
وفي مثل للعرب: "لو ذات سوارٍ لطمتني" (¬1) , وقوله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} (¬2) , علي معني: ولو ثبت. ومنه المثل: "إلا حضيّةٌ فلا أليةٌ" (¬3) , أي: إن لا تكن لك في النساء حظيّةٌ فإني غير أليّةٍ". * * * قال الشارح: اعلم أن الاستفهام يقتضي الفعلَ، ويطلبه. وذلك من قِبَل أن الاستفهام في الحقيقة إئما هو عن الفعل, لأنّك إنّما تستفهم عمّا تشُكّ فيه، وتجهل عملَه. والشكُّ إنما وقع في الفعل، وأمّا الاسمُ فمعلومٌ عندك. وإذا كان حرفُ الاستفهام إنمّا دخل للفعل، لا للاسم، كان الاختيارُ أن يَلِيَه الفعلُ الذي دخل من أجله. وإذا وقع الاسمُ بعد حرف الاستفهام، وكان بعده فعلٌ، فالاختيارُ أن يكون مرتفعًا بفعلٍ مضمر، دلّ عليه الظاهرُ؛ لأنه إذا اجتمع الاسمُ والفعلُ، كان حملُه على الأصل أوْلى، وذلك نحوُ قولك: "أزيدٌ قام؟ " ورفعُه بالابتداء حسنٌ، لا قُبْحَ فيه, لأن الاستفهام يدخل على المبتدأ والخبر. وأبو الحسن الأخفش يختار أن يكون مرتفعًا بفعل مضمر على ما قلناه. وأبو عمر الجرْميّ يختار أن يكون مرتفعًا بالابتداء, لأنّ الاستفهام يقع بعده المبتدأُ والخبرُ، كما ذكرناه، ولا يفتقر إلى تكلّف تقديرِ محذوف. وأمّا تمثيلُ صاحب الكتاب بقوله: "هل زيدٌ قام"؟ فلم يمثل بالهمزة، فيقول: "أزيدٌ ¬
قام"؟ وذلك من قِبَل أن سيبويه يفرق بين الهمزة و"هَلْ". فعنده إذا قلت: "أزيدٌ قام"؟ جاز أن يرتفع الاسم بالابتداء جوازًا حسنًا. وإذا قلت: "هل زيدٌ قام"؟ يقع إضمارُ الفعل لازمًا, ولم يرتفع الاسمُ بعده إلَّا بفعل مضمر على أنّه فاعلٌ، وقبُح رفعُه بالابتداء. ولم يجز تقديمُ الاسم ههنا إلَّا في الشعر، فلذلك مثّله بـ "هَلْ" دون الهمزة. وإنمّا قبُح رفعُه بعد "هَلْ" بالابتداء، ولم يقبُح بعد الهمزة؛ وذلك من قِبَل أن الهمزة أمُّ الباب، وأعمُّ تصرُّفًا، وأقواها (¬1) في باب الاستفهام؛ لأنها تدخل في مواضع الاستفهام كلِّها، وغيرُها ممّا يُسْتفهم به، يلزَم موضعًا، ويختصّ به، وينتقل عنه إلى الاستفهام، نحوَ: "مَنْ" و"كَمْ" و"هَلْ"، فَـ "مَنْ": سؤالٌ عمّن يعقِل. وقد تنتقل فتكون بمعنَى "الذِي"، و"كَمْ": سؤالٌ عن عَدَدٍ، وقد تُستعمل بمعنَى "رُبَّ"، و"هَلْ": لا يُسْأَلُ بها في جميع المواضع. ألا ترى أنّك تقول: "أزيدٌ عندك أم عمرٌو"؟ على معنَى "أيهمَا عندك"؟ ولم يجز في ذلك المعنى أن تقول: "هل زيدٌ عندك أم عمرٌو؟ " وقد تنتقل عن الاستفهام إلى معنَى "قَدْ"، نحوَ قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (¬2)، أي: قد أتى. وقد تكون بمعنَى النفي، نحو قوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ} (¬3). وإذ كانت الهمزةُ أعمَّ تصرُّفًا، وأقوى في باب الاستفهام، توسّعوا فيها أكثرَ ممّا توسّعوا في غيرها من حروف الاستفهام، فلم يستقبحوا أن يكون بعدها المبتدأُ والخبرُ، ويكونَ الخبرُ فعلًا. واستُقبح ذلك في غيرها من حروف الاستفهام لقلّةِ تصرُّفها. فإن قيل: إذا كان الاستفهامُ يقتضي الفعلَ، على ما أقررتم، في بالُكم ترفعون بعده المبتدأ والخبرَ؟ فتقولون: "أزيدٌ قائمٌ"؟ و"هل زيد قائمٌ"؟ فالجوابُ: أن الجملة قبل دخول الاستفهام تدل على فائدةٍ؛ فدخل الاستفهامُ سؤالًا عن تلك الفائدة. وذكرُ قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (¬4)؛ فـ "أحَد" هنا مرتفعٌ بفعل مضمر تفسيرهُ الظاهرُ الذي هو"استجارك"، والتقديرُ: "إن استجارك أحدٌ من المشركين استجارك فأجِرْه"، وذلك أنّ "إنْ" في باب الجزاء بمنزلة الألف في باب الاستفهام. وذلك لأنّها تدخل في مواضع الجزاء كلَّها، وسائرُ حروف الجزاء نحوُ: "مَنْ" و"مَتَى" لها مواضعُ مخصوصةٌ؛ فـ "مَنْ": شرطٌ فيمن يعقل، و"مَتَى": شرطٌ ¬
في الزمان، وليست "إنْ" كذلك، بل تأتي شرطًا في الأشياء كلها، فلذلك حسُن أن يَلِيَها الاسمُ في اللفظ، ويُقدَّر له عاملٌ، وذلك نحوُ: "إنْ زيدٌ أتاني آتِهِ"، ترفع "زيدًا" بفعل مضمر يُفسِّره هذا الظاهرُ، والتقديرُ: إن أتاني زيد أتاني آته، قال النمِرُ بن تَوْلَبٍ [من الكامل]: 130 - لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِسًا أهْلَكْتُه ... وإذا هلكتُ فعِنْدَ ذلك فاجْزَعِي نصب "منفسًا" بعدَ "إنْ" بإضمار فعل تقديرُه: "إن أهلكتُ منفسًا أهلكتُه". ويجوز رفعُ "منفس"، فيقال: "إنْ منفسٌ أهلكتُه"، على تقديرِ "إنْ هَلَكَ منفسٌ". ولا بدّ من تقدير فعل إمّا ناصبٍ وإمّا رافعٍ. ¬
وزعم الفَرّاء أنّ "أحَدًا" في الآية يرتفع بالعائد الذي عاد إليه، وهو ضميرُ الفاعل الذي في "استجارك". وهو قول فاسد، لأنّا إذا رفعناه بما قال، فقد جعلنا استجارك خبرًا لـ "أحد" وصار الكلامُ كالمبتدأ والخبر. وأمّا بيت الحماسة [من البسيط]: إذا لَقامَ بِنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ ... عندَ الحَفِيظة إنْ ذُو لُوثَةٍ لانَا الشاهد فيه: رفعُ "ذو لوثة" بفعل مضمر دلّ عليه "لَانَا"، والتقديرُ: "إن لانَ ذو لوثة لانَا"، لمكانِ حرف الجزاء، وهي "إنْ"، واقتضائها الفعلَ، وأنه لا يقع بعدها مبتدأٌ وخبرٌ؛ لا يجوز أن يُقال: "إنْ زيدٌ قائمٌ أكرمتُك".و"الخُشُنُ"؛ جمعُ "أخْشَنَ"، بمعنى "الخُشْن"، والجمعُ "خُشْنٌ" بسكون الشين، نحوُ قوله [من الرجز]: 131 - ألْيَنُ مَسًّا في حَوايَا البَطْنِ ... مِن يَثْرِبِيّاتٍ قِذَاذٍ خُشْنِ وتحريكُ الشين في البيت ضرورة، و"الحَفِيظةُ": الغَضَبُ. و"اللُّوثَةُ": الضُّعْفُ والاسترخاءُ؛ أبي: إنهم يخشُنُون إذا لانَ الضعيفُ لَعَجْزٍ أو ذِلَّةٍ. يصِفهم بالمَنَعَة. وأما المَثَل، وهو قولهم: "لو ذاتُ سِوارٍ لطمتَني"، فالاسمُ الذي هو"ذات سوار" مرتفعٌ بعد "لَوْ" بفعل مقدر دلّ عليه "لطمتني"، والتقديرُ: "لو لطمتني ذاتُ سوار لطمتني"، من قِبَل أنّ "لَوْ" تقتضي الفعلَ اقتضاءَ "إن" الشرطيّةِ, لأنّ "لَوْ" شرطٌ فيما مضى، كما أنّ "إنْ" شرطٌ فيما يستقبل. ويحكى أنّ حاتمًا الطائيّ أُسر في بلادِ بني عَنْزَةَ، فغاب عنها الرجالُ، وبقي فيما بين نسائهم حاتمٌ مقيَّدًا مغلولًا، ثمّ اتفق لهنّ الارتحالُ، فارتحلن بحاتم. فلمّا بلغْن بعضَ الطريق، مَسَّهن الجُوعُ. وكان عادةُ الجاهِلية أكْلَ الفَصِيد في المَخْمَصَة (¬1). فقال: افْكُكْنَ ¬
عنّي الغُلَّ لأفْزدَ. ففككْن عنه، فنزل عن الناقة ونَحَرها، فقيل له في ذلك، فقال: "هكذا فَزْدِي أنَهْ"، فلطمتْه جاريةٌ بما فعل، فقال: "لو ذاتُ سوارٍ لطمتني"، يريد: لو حُرَّةٌ لطمتني. والمعنى لو لطمتني من كانت في الشَّرَف لي كُفْئًا، لَهانَ عليّ ذلك. وأمّا المَثَل الآخر، وهو قول العرب: "إلا حَظِيةٌ فلا ألِيةٌ" (¬1)، فمعناه: "إنْ لا تكن لك في النساء حظيةٌ، فإنيّ غيرُ أليةٍ"؛ كأنّها قالت: "إن كنت ممّن لا تَحْظَى عنده امرأةٌ، فإني غيرُ أليةٍ". ولو عنتْ بالحظيّة نفسَها, لم يكن إلَّا نصبًا؛ إذ التقديرُ: "إلا أكُنْ حظيةٌ"، فيكون منصوبًا, لأنّه خبرُ "كَانَ". يُضْرَب لِمَن أخظأتْه الحُظْوَةُ، فيقال: إن أخطأتْك الحُظْوَةُ فيما تطلب، فلا تَأْلُ أن تتودّد إلى الناس، لَعَلَّكَ تُدْرِك بعضَ ما تريد. وأصلُه في المرأة تَصْلَفُ عند زوجها. و"حظيّةٌ"، و"أليةٌ"" "فَعِيلَةٌ" من "الحُظْوَة"، و"الألْوِ". و"ألَوْتُ" أي: قَصَّرْتُ. والأصلُ "حَظيوَةٌ"، و"ألِيوَةٌ"، وإتما قُلبت الواو ياءً لوقُوع الياء الساكنةِ قبلها على حدِّ "سَيِّدٍ" و"مَيِّتٍ". وأما قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا} (¬2) فـ"أن" وما بعدها من الاسم والخبر بتأويلِ مصدر من لفظ الخبر مضافٍ إلى الاسم، وهو في موضع رفع بفعل محذوف، وتقديرهُ: ولو ثبت صَبْرُهم، أو وقع، لِما ذكرناه من أنّ "لو" لا يَلِيها إلا الفعلُ. واعلمْ أنّك لو قلت: "لو أن زيدًا قائمٌ لأكرمناه"، لم يجز؛ وإذا قلت: "لو أنّ زيدًا قام لأكرمناه"، جاز، وذلك لوقُوعِ الفعل في خبرِ "أنَّ"، فيكون مفسِّرًا لذلك الفعل المحذوفِ الرافعِ، كأنَّا قلنا: "لو صَحَّ أن زيدًا قام"، أو: "لو ثبت". فإن قيل: فكيف يكون "قَامَ"، من قولك: "لو أن زيدًا قام" دالاً على "صَحَّ" و"ثَبَتَ"، وليس من لفظه؟ قيل: لمّا كانا في المعنى شيئًا واحدًا، جاز أن يفسَّر أحدهُما بالآخر؛ ألا ترى أنّه لا فرقَ بين أن تقول: "قام زيدٌ"، وبين أن تقول: "صَحَّ قيامُ زيد"، أو: "ثَبَتَ قيامُ زيد"؛ فلمّا كان إيّاه في المعنى، جاز أن يدلّ "قَامَ" على "صَحَّ"؛ لأنّ الصَّحَّة للقيام، فيجوز أن يدل أحدهُما على الآخر، من حيث هما فعلان ماضيان، وأحدُهما ملتبسٌ بالآخر، من حيث كانت "أنَّ" وما اتّصل بها في موضعِ المصدر، والفعلُ المضمرُ مُسْنَدٌ إليه. وقد أجاز سيبويه أن تكون "أنَّ" وما اتّصل بها بعدَ "لَوْ"، وإنْ كان فيها معنَى المجازاة، في موضعِ رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ؛ وجاز, لأن الفعلَ الذي هو خبرُ "أنّ" يُصحِّح لها معنَى المجازاة. وساغ ذلك لأنّها ليست عاملة "إِن" الشرطيّةِ، فجاز أن يقع بعدها المبتدأُ. وقال السيرافيّ: لو كانت "أنَّ" في موضعِ اسم مبتدأ، لجَاز أن يُقال: "لو أنّ زيدًا جالسٌ أتَيْناك"، على معنَى: "لو وقع هذا"؛ والحقُّ الأوَّل لاقتضائها الفعلَ. ¬
المبتدأ والخبر
المبتدأ والخبر فصل [تعريفهما] قال صاحب الكتاب: " هما الإسمان المجردان للإسناد نحو قولك زيد منطلق. والمراد بالتجريد إخلاؤهما من العوامل التي هي "كان و"إن", و"حسبت" وأخواتها، لأنهما إذا لم يخلوا منها تلعّبت بهما وغصبتهما القرار على الرفع. وإنما اشترط في التجريد أن يكون من أجل الإسناد لأنهما لو جُرّدا, لا للإسناد, لكانا في حكم الأصوات التي حقها أن ينعق بها غير معربةٍ, لأن الإعراب لا يستحق إلا بعد العقد والتركيب. وكونهما مجردين للإسناد هو رافعهما لأنه معنى قد تناولهما معًا تناولاً واحدًا من حيث إن الإسناد لا يتأتى بدون طرفين: مسند ومسند إليه. ونظير ذلك أن معنى التشبيه في كأن" لما اقتضى مشبّهًا ومشبهًا به, كانت عامله في الجُزأين؛ وشبههما بالفاعل أن المبتدأ مثله في أنه مسند إليه, والخبر في أنه جزء ثان من الجملة". * * * قال الشارح: هذا الفصل واضحٌ من كلام صاحب الكتاب. غيرَ أنَّا نذكُر نُكَتًا تختصّ بهذا الفصل، لا بدّ منها. اعلم أن المبتدأ: كلُّ اسم ابتدأتَه، وجرّدتَه من العوامل اللفظيّةِ، للإخبار عنه. والعوامل اللفظيّةِ هي أفعالٌ وحروفٌ، تختصّ بالمبتدأ والخبرِ. فأمّا الأفعال فنحوُ: "كَانَ" وأخواتِها، والحروفُ نحوُ: "أنَّ" وأخواتِها، و"مَا" الحِجازيّةِ. وإنّما اشترط أن يكون مجرَّدًا من العوامل اللفظيةِ لأنّ المبتدأ شرطُه أن يكون مرفوعًا، وإذا لم يتجرّد من العوامل، تلعّبتْ به، فرفعتْه تارةً، ونصبنْه أُخرى، نحوَ: "كان زيدٌ قائمًا"، و"إنّ زيدًا قائمٌ"، و"ما زيدٌ قائمًا"، و"ظننت زيدًا قائمًا". وإذا كان كذلك، خرج عن حكمِ المبتدأ والخبرِ إلى شَبَهِ الفعل والفاعلِ، وهذا معنى قوله: غصبتْهما القَرارَ على الرفع. وقوله: "المجرَّدان للإسناد"، يريد بذلك أنّك إذا قلت: "زيدٌ"، فتُجرِّده من العوامل اللفظيّةِ، ولم تُخْبِر عنه بشيء، كان بمنزلةِ صَوْت تُصوِّته لا يستحقّ الإعرابَ, لأنّ الإعراب إنّما أُتي به للفرق بين المعاني. وإذا أخبرت عن الاسم بمعنى من المعاني
المفيدةِ احتيج إلى الإعراب لِيدلّ على ذلك المعنى. فأمّا إذا ذكرتَه وحدَه، ولم تُخْبِر عنه، كان بمنزلةِ صوت تصوّته غيرِ معرَب. * * * وقوله: "وكونُهما مجرَّدَيْن للإسناد هو رافعُهما لأنّه معنى قد تناولهما معًا تناوُلًا واحدًا" إشارةٌ إلى أنّ العامل في المبتدأ والخبرِ تجريدُهما من العوامل اللفظيّة. وهي مسألةٌ قد اختلف فيها العُلماءُ؛ فذهب الكوفيون إلى أن المبتدأ يرفع الخبرَ، والخبر يرفع المبتدأ، فهما يترافعان (¬1). قالوا: وإنما قلنا: ذلك لأنّا وجدنا المبتدأ لا بدّ له من خبرٍ، والخبرَ لا بدّ له من مبتدأ، فلمّا كان كلُّ واحد منهما لا ينفَك من الآخر، ويقتضي صاحبَه، عمِل كل واحد منهما في صاحبه، مِثْلَ عَمَلِ صاحبه فيه. قالوا: ولا يمتنع الشيءُ أن يكون عاملًا ومعمولًا في حال واحدة، وقد جاء لذلك نظائرُ؛ منها قوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬2)، فنصب "أيّا" بـ "تَدْعُوا"، وجزم "تدعوا" بـ "أيّ"، فكان كلُّ واحد منهما عاملًا ومعمولًا في حال واحدة. ومثلُه قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} (¬3)، فـ "أيْنَمَا" منصوبٌ بـ "تكونُوا"، لأنه الخبرُ، و"تكونُوا" مجزومٌ بـ "أيْنَمَا". وذلك كثير في كلامهم؛ فكذلك ههنا. وهو فاسدٌ لأنه يؤدّي إلى مُحال، وذلك أن العامل حقُّه أن يتقدّم على المعمول. وإذا قلنا: إنّهما يترافعان، وجب أن يكون كلُّ واحد منهما قبل الآخر، وذلك محالٌ, لأنّه يلزمَ أن يكون الاسم الواحد أوّلًا وآخِرًا في حال واحدة. ومما يؤيّد فَسادَ ما ذهبوا إليه جوازُ دخولِ العوامل اللفظية عليهما، نحوَ: "كان زيدٌ أخاك"، و"إن زيدًا أخوك"، و"ظننتُ زيدًا أخاك"، فلو كان كلُّ واحد منهما عاملًا في الآخر، لَما جاز أن يدخل عليه عامل غيرهُ. وأمّا الآيات التي أوْردوها، فإن الجواب عنها من وجهَيْن: أحدهما: أنّا لا نُسلَّم أنّ الجزم في الفعل بنفسِ الاسم المنصوب، وإنمّا هو بتقديرِ حرف الشرط الذي هو "إنْ"، والنصبُ في الاسم بالفعل المذكور؛ فإذا العاملُ في كلّ واحد منهما غيرُ الآخر. الثاني: أنا نسلَّم إن كلّ واحد منهما عاملٌ في الآخر، إلَّا أنّه باعتبارَيْن: فالجزمُ باعتبارِ نِيابته عن حرف الشرط، لا من حيث هو اسمٌ؛ والنصبُ في الاسم بالفعل نفسِه، فهما شيئان مختلفان، وليس كذلك ما نحن فيه, لأنّه باعتبارٍ واحدٍ يكون عاملًا ومعمولًا، وهو كونُه مبتدأ وخبرًا. ¬
وذهب البصريون إلى أنّ المبتدأ يرتفع بالابتداء، وهو معنىّ ثمّ اختلفوا فيه؛ فذهب بعضُهم إلى أنّ ذلك المعنى هو التَّعَرِّي من العوامل اللفظيّة. وقال الآخرون: هو التعرّي، وإسنادُ الخبر إليه (¬1). وهو الظاهرُ من كلامِ صاحب هذا الكتاب. والقول على ذلك أنّ التعرّي لا يصِحّ أن يكون سَبَبًا, ولا جزءًا من السبب؛ وذلك أنّ العوامل توجِب عمَلًا، والعدمَ لا يوجِب عمَلًا، إذ لا بدّ للموجِب والموجَبِ من اختصاص يوجِب ذلك، ونِسْبَةُ العدم إلى الأشياء كلَّها نسبةٌ واحدةٌ. فإن قيل: العوامل في هذه الصنعة ليست مؤثرة تأثِيرًا حِسِّيًا، كالإحراق للنار، والبَرْدِ والبَلَّ للماء، وإنّما هي أَماراتٌ ودَلالاتٌ، والأَمارةُ قد تكون بعدم الشيء، كما تكون بوُجوده، ألا ترى أنه لو كان معك ثَوْبان، وأردت أن تُميِّز أحدَهما من الآخر، وصبغتَ أحدَهما، وتركتَ صَبْغَ الآخر، لكان تركُ صبغ أحدِهما في التمييز بمنزلةِ صبغ الآخر؛ فكذلك ههنا. قيل: هذا فاسدٌ؛ لأنّه ليس الغرضُ من قولهم: "إنّ التعرّي عاملٌ" أنه مُعرّفٌ للعامل. إذ لو زُعم أنّه مُعرّفٌ، لكان اعترافًا بأنّ العامل غيرُ التعرّي. وكان أبو إسحق يجعل العاملَ في المبتدأ ما في نفس المتكلّم؛ يعني من الإخبار عنه. قال: لأنّ الاسم لمّا كان لا بدّ له من حديثٍ يُحدَّث به عنه، صار هذا المعنى هو الرافعَ للمبتدأ. والصحيح أن الابتداء اهتمامُك بالاسم، وجعلُك إياه أوّلاً لثانٍ كان خبرًا عنه. والأوّليّةُ معنّى قائمٌ به يكْسِبه قوّةً؛ إذ كان غيرُه متعلّقًا به، وكانت رتبنُه مُتَقَدِّمةً على غيره. وهذه القوّة تُشبِّه به الفاعلَ، لأن الفاعل شرطُ تحقُّقِ معنى الفعل، وأن الفاعل قد أُسند إليه غيرُه، كما أنّ المبتدأ كذلك، إلَّا أنّ خبرَ المبتدأ بعده، وخبرَ الفاعل قبله، وفيما عَدَا ذلك هما فيه سَواءٌ. وأمّا العامل في الخبر فذهب قومٌ إلى أنّه يرتفع بالابتداء وحدَه، وهو ظاهرُ مذهب صاحب الكتاب؛ ألا ترى إلى قوله: "وكونُهما مجرَّدَيْن للإسناد هو رافعُهما"، وإنمّا قلنا ذلك لأَنّه قد ثبت أنَّه عاملٌ في المبتدأ، فوجب أن يكون عاملًا في الخبر، لأنّه يقتضيهما معًا؛ ألا ترى أنّ "كأنَّ" لمّا اقتضت مشبّهًا ومشبَّهًا به، كانت عاملةً في الجزأيْن، كذلك ههنا؛ هذا معنى قوله: "لأنّه معنى يتناولهما معًا تناوُلًا واحدًا"؛ يعني الابتدأءَ. وذهب آخرون إلى أنّ الابتداء والمبتدأ جميعًا يعملان في الخبر؛ قالوا: لأنّا وجدنا الخبرَ لا يقع إلَّا بعد المبتدأ والابتداءِ، فوجب أن يعملا فيه. وهذا القولُ عليه كثيرٌ من البصريين. ولا ينفكّ من ضُعْف؛ وذلك من قِبَل أن المبتدأ اسمٌ، والأصلُ في الأسماء ألّا ¬
فصل [نوعا المبتدأ]
تعمل. وإذا لم يكن لها تأثيرٌ في العمل- والابتداءُ له تأثيرٌ- فإضافةُ ما لا تأثيرَ له إلى ما له تأثير لا تأثيرَ لها (¬1). ويمكن أن يُقال: إن الشيئَيْن إذا تَركَّبا، حدث لهما بالتركيب معنى لا يكون في كلّ واحد من أفرادِ ذلك المركَّب. والذي أراه أنّ العامل في الخبر هو الابتداءُ وحدَه، على ما ذُكر، كما كان عاملًا في المبتدأ؛ إلا أن عمَله في المبتدأ بلا واسطةٍ، وعملَه في الخبر بواسطةِ المبتدأ، يعمل في الخبر عند وجودِ المبتدأ، وإن لم يكن للمبتدأ أثَرٌ في العمل، إلَّا أنّه كالشرط في عمله، كما لو وضعتَ ماءً في قِدْرة، ووضعتها على النار، فإنّ النار تُسخّن الماءَ، فالتسخينُ حصل بالنار عند وجودِ القِدْر، لا بها، فكذلك هنا. وذهب قومٌ إلى أن الابتداء عمل في المبتدأ، والمبتدأ وحده عمل في الخبر. وهذا ضعيفٌ؛ لأن المبتدأ اسمٌ، كما أن الخبر اسمٌ، وليس أحدُهما بأوْلى من صاحبه في العمل فيه, لأن كلّ واحد منهما يقتضي صاحبه. فصل [نوعا المبتدأ] قال صاحب الكتاب: "والمبتدأ على نوعين معرفة وهو القياس، ونكرة إما موصوفة كالتي في قوله عز وجل: {ولعبد مؤمن} (¬2) وإما غير موضوفة كالتي في قولهم "أرجل في الدار أم امرأة"؟ و"ما أحدٌ خيرٌ منك"؛ و"شر أهر ذا نابٍ" (¬3) و"تحت رأسي سرجٌ"،و "علي أبيه دِرعٌ"". * * * قال الشارح: اعلم أنّ أصلَ المبتدأ أن يكون معرفة، وأصلَ الخبر أن يكون نكرة؛ وذلك لأنّ الغرض في الإخبارات إفادةُ المخاطَب ما ليس عنده، وتنزيلُه منزلتَك في علمِ ذلك الخبر. والإخبار عن النكرة لا فائدةَ فيه؛ ألا ترى أنك لو قلت: "رجلٌ قائمٌ"، أو "رجلٌ عالمٌ"، لم يكن في هذا الكلام فائدةٌ، لأنّه لا يُستنكر أن يكون رجلٌ قائمًا وعالمًا، في الوجود، ممّن لا يعرفه المخاطَبُ. وليس هذا الخبرُ الذي تُنزَّل فيه المخاطبَ منزلتَك فيما تعلم. ¬
فإذا اجتمع معك معرفةٌ ونكرةٌ، فحقُّ المعرفة أن تكون هي المبتدأ، وأن يكون الخبرُ النكرةَ؛ لأنّك إذا ابتدأتَ بالاسم الذي يعرفه المخاطَبُ، كما تعرفه أنت، فإنّما ينتظر الذي لا يعلمه؛ فإذا قلت: "قائمٌ"، أو: "حكيمٌ"، فقد أعلمتَه بمثلِ ما علمتَ، ممّا لم يكن بعلْمه، حتى يُشارِكك في العلم. فلو عكستَ وقلت: "قائم زيدٌ"، فـ "قائمٌ" منكورٌ، لا يعرفه المخاطَبُ، لم تجعله خبرًا مقدَّمًا، يستفيده المخاطَبُ. ولا يصحّ أن يكون "زيدٌ" الخبرَ, لأنّ الأسماء لا تُستفاد. ولا يُساوي المتكلَّمُ المخاطَبَ, لأنّ النكرة ما لا يعرفه المخاطَبُ، وإن كان المتكلّمُ يعرفه؛ ألا ترى أنّك تقول: "عندي رجلٌ"، فيكون منكورًا، وإن كان المتكلّمُ يعرفه. فالمعرفةُ والنكرةُ بالنسبة إلى المخاطَب، فلذلك قال: "المبتدأ على نوعَيْن: معرفةٌ، وهو القياسُ". وقد ابتدؤوا بالنكرة في مواضع مخصوصة لحصولِ الفائدة. وتلك المواضعُ: النكرةُ الموصوفةُ؛ والنكرةُ إذا اعتمدتْ على استفهام، أو نفى، وإذا كان الخبرُ عن النكرة ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا، وتقدّم عليها، نحوَ: "تحت رأسيَ سَرْجٌ"، "ولِي مالٌ"، وإذا كان في تأويلِ النفي، نحوَ قولهم: "شَرٌّ أهَرَّ ذا ناب". فأمّا النكرة الموصوفة، فنحوُ قولك: "رجلٌ من بني تميم جاءني"، ومثلُه قولُه تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} (¬1)؛ لمّا وُصف الرجلُ بأنّه من بني تميم، والعبدُ بأنه مؤمنٌ، تَخصَّص (¬2) من رجلٍ آخَر، لسِ له تلك الصفةُ، فقُرّب بهذا التخصيص من المعرفة، فحصل بالإخبار عنه فائدةٌ؛ وإنّما يُراعَى في هذا الباب الفائدةُ. وكذلك إذا اعتمدت النكرةُ على استفهام، أو نفي, لأنّ الكلام صار غيرَ موجَب، فتضمّنت النكرةُ معنى العُمُوم، فأفادت، فجاز الابتداءُ بها لذلك. وذلك نحوُ قولك: "أرجلٌ عندك أم امرأةٌ"؟ و"ما أحدٌ خيرٌ منك". وقالوا في المَثَل: "شَرّ أهرّ ذا ناب". فالابتداءُ بالنكرة فيه حسنٌ, لأنّ معناه "ما أهرّ ذا نابٍ إلَّا شرٌّ"، فالابتداءُ ههنا محمولٌ على معنى الفاعل، وجرى مَثَلًا، فاحتُمل. والأمثالُ تُحتَمل ولا تُغيَّر. ومعنَى "شرٌّ أهرّ ذا ناب" أنّهم سمعوا هَرِيرَ كَلْب في وقتٍ لا يَهِرُّ مثلُه فيه إلَّا لسُوءٍ ظَن. ولم يكن غرضُهم الإخبارَ عن شَرٌّ، وإنّما يريدون الكلبَ أهَرَّهُ شَرٌّ. وإنَّما كان محمولًا على معنى النفي, لأنّ الإخبار به أقوى, لأنّه أوْكَدُ؛ ألا ترى أنّ قولك: "ما قام إلَّا زيدٌ" أوكدُ من قولك: "قام زيدٌ". إنّما احتيج إلى التوكيد في هذه المواضع، من حيث كان أمرًا مُهِمًّا، لِما ذكرناه. ¬
وممًا جاء من ذلك قولُهم في المثل: "شيءٌ ما جاء بك" (¬1)؛ يقوله الرجلُ لرجل جاءَه، وَمَجِيئُه غيرُ معهود في ذلك الوقت، أي: ما جاء بك إلَّا شيءٌ، أي: حادثٌ لا يُعْهَد مثله. وأمّا قولهم: "تحت رأسي سرجٌ"، و"على أبيه دِرْعٌ"، و"لَكَ مالٌ"؛ فالذي سوّغ ذلك كونُك صدّرتَ في الخبر معرفةً هي المحدَّثُ عنها في المعنى؛ ألا ترى أنّ "السرج" من قولك: "تحت رأسي سرجٌ"، وإن كان المحدَّثَ عنه في اللفظ، فالرأس مضافٌ إلى ضمير المتكلّم، وهو الياء من "رأسي"، وهذا الضميرُ هو المحدَّثُ عنه في المعنى، كأنّك قلت: "أنا مُتَوَسِّدٌ سرخًا". وكذلك "على أبيه دِرْعٌ". كأنّك قلت: "أبوه متدرِّعٌ". وكذلك "لَكَ مالٌ"، المعنى: أنت ذو مالٍ. فلمّا كان المعنى مُفيدًا، جاز، وإن كان اللفظ على خِلافه. والذي يؤيّد عندك ما قلناه، انّك لو قلت: "تحت رأسٍ سرجٌ"، و"على رجلٍ درعٌ"، و"لرجلٍ مالٌ"، لم يكن كلامًا. وإنمَّا اشتُرط ههنا أن يكون الخبر مقدَّمًا لوجهَيْن: أحدُهما: أن الظرف والجار والمجرورَ قد يكونان وصفَيْن للنكرة، إذا وقعا بعدها, لأنّه في الحقيقة جملةٌ من حيث كان متعلّقًا بـ "اسْتَقَرَّ"، وهو فعلٌ. ويدلّ أنَّه جملةٌ أنّه يقع صلةً، والصلاتُ لا تكون إلَّا جُمَلًا. وإذا كان كذلك، فلو قلت: "سرجٌ تحت رأسي"، أو: "درعٌ على أبيه"، أو قال: "درهمٌ لي"، لَتَوهَّم المخاطَبُ أنَّه صفةٌ، وينتظر الخبر فيقع عنده لَبْسٌ. والوجه الثاني: أنّهم استقبحوا الابتداءَ بالنكرة في الواجب، فلمّا سمُج ذلك عندهم في اللفظ، أخّروا المبتدأ، وقدّموا الخبرَ. وإنمّا كان تأخيرُه أحسنَ من تقديمه، لأنه وقع موقعَ الخبر، ومن شرطِ الخبر أن يكون نكرةً، فصلح اللفظُ، وإن كُنّا قد أحَطْنَا عِلْمًا أنّه المبتدأ. ومن ذلك قولُهم: "سلامٌ عليك"، و"وَيْلٌ له". قال الله تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} (¬2) و {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} (¬3). ومن ذلك: "أمْتٌ في حَجَرٍ لا فيكَ" (¬4)، فهذه الأسماء كلّها إنّما جاز الابتداءُ بها لأنهّا ليست أخبارًا في المعنى، إنّما هي دعاءٌ، أو مسألةٌ، فهي في معنى الفعل، كما لو كانت منصوبة، والتقديرُ: لِيُسَلَّمِ الله عليك، ولِيَلْزَمْهُ الوَيْلُ. وقولهم: "أمْتٌ في حجرٍ لا فيك" معناه: لِيكن الأمْتُ في الحجارة، لا فيك. و"الأمت": اختلافُ انخفاضٍ وارتفاعٍ. قال الله تعالى: {لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا} (¬5). والمعنى أبقاك اللهُ بعد فَناءِ ¬
فصل [نوعا الخبر]
الحجارة, لأن الحجارة ممّا يوصَف بالبَقاء. قال الشاعر [من البسيط]: 132 - ما أطْيَبَ العَيْشَ لو أن الفَتَى حَجَرٌ ... تَنْبُو الحَوادِثُ عنه وَهْوَ مَلْمُومُ فلمّا كانت في معنى الفعل، كانت مُفيدة، كما لو صرّحتَ بالفعل. والفرق بين الرفع والنصب أنّك، إذا رفعت، كأنّك ابتدأتَ شيئًا قد ثبَتَ عندك، واستقرّ؛ وإذا نصبت، كأنّك تعمل في حالِ حديثك في إثباتها. فصل [نوعا الخَبَر] قال صاحب الكتاب: "والخبر على نوعين مفرد وجملة؛ فالمفرد على ضربين: خالٍ عن الضمير, ومتضمنٌ له. وذلك "زيدٌ غلامك", و"عمرو منطلقٌ"". * * * قال الشارح: اعلم أن خبرَ المبتدأ هو الجزء المستفاد الذي يستفيده السامعُ، ويصير مع المبتدأ كلامًا تامًّا. والذي يدلّ على ذلك أن به يقع التصديقُ والتكذيبُ؛ ألا ترى أنّك إذا قلت: "عبدُ الله منطلقٌ"، فالصِّدْقُ والكِذْبُ إنّما وقعا في انطلاق عبد الله، لا في عبد الله, لأنّ الفائدة في انطلاقه، وإنمّا ذكرتَ عبد الله، وهو معروفٌ عند السامع، لتُسْنِد إليه الخبرَ الذي هو الانطلاقُ. ¬
وخبرُ المبتدأ على ضربَيْن: مفردٌ، وجملةٌ. فإذا كان الخبرُ مفردًا، كان هو المبتدأ في المعنى، أو مُنزَّلًا منزلتَه. فالأوّلُ نحوُ قولك: "زيدٌ منطلقٌ"، و"محمَّد نَبِينَا"؛ فالمنطلقُ هو"زيدٌ"، و"محمّدٌ" هو النبي - صلي الله عليه وسلم -. ويُؤيِّد عندك ههنا أنّ الخبر هو المبتدأ، أنّه يجوز أن تُفسِّر كلَّ واحد منهما بصاحبه؛ ألا تراك لو سُئِلتَ عن زيد من قولك: "زيدٌ منطلقٌ"، فقيل: "مَن زيدٌ هذا الذي ذكرتَه؟ " لقلت: "هو المنطلقُ"، ولو قيل: "مَن المنطلقُ؟ " لقلت: هو زيدٌ. فلمّا جاز تفسيرُ كل واحد منهما بالآخر، دلّ على أنّه هو. وأمّا المُنزَّل منزلةَ ما هو هو، فنحو قولهم: "أبو يوسفَ أبو حَنِيفَة"؛ فأبو يوسف ليس أبا حنيفة، إنّما سدّ مَسَدَّه في العلم، وأغنى غَناءَه. ومنه قولُه تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} (¬1)، أي: هنّ كالأُمّهات في حُرْمَةِ التزويج، وليس بأُمّهاتٍ حقيقة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ} (¬2)، فبقي أن لا تكون أُمَّهاتٍ حقيقةً إلَّا الوالداتُ. ثم المفردُ على ضربَيْن: يكون متحمّلًا للضمير، وخاليًا منه. فالذي يتحمّل الضميرَ ما كان مشتقًّا من الفعل، نحوَ اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفةِ المشبَّهةِ باسم الفاعل، وما كان نحوَ ذلك من الصفات. وذلكَ قولُك: "زيدٌ ضاربٌ"، و"عمرٌو مضروبٌ"، و"خالدٌ حَسَنٌ"، و"محمَّدٌ خيرٌ منك"؛ ففي كلّ واحد من هذه الصفات ضميرٌ مرفوع بأنّه فاعلٌ لا بدّ منه, لأنّ هذه الأخبار في معنى الفعل، فلا بدّ لها من اسم مسنَد إليه؛ ولمّا كانت مسندةً إلى المبتدأ في المعنى، ولا يصِحّ تقديمُ المسند إليه على المسند، أُسند إلى ضميره. وهذا هو التحقيقُ. والذي يدلّ على تحمُّلها الضميرَ المرفوعَ أنّك لو أوْقعت موقعَ المضمر ظاهرًا، لكان مرفوعًا، نحوَ: "زيدٌ ضارب أبوه ومُكْرَمٌ أخوه وحَسَنٌ وَجْهُه". وإذا عملتْ في الظاهر لكونه فاعلاً، عملت في المضمر إذا أُسندت إليه لكونه فاعلًا، وذلك من حيث كان الخبرُ في حكم الفعل، من حيث لا يَعْرَى الفعلُ من فاعل، كذلك هذه الأسماءُ. وتحمُّلُ هذه الأشياء الضميرَ مُجْمَعٌ عليه، من حيث كان الخبرُ منسوبًا إلى ذلك المضمر. ولو نسبتَه إلى ظاهر، لم يكن فيه ضميرٌ، نحوَ: "زيدٌ ضاربٌ غلامُه", لأنّ الفعل لا يرفع فاعلَيْن، وكذلك ما كان في حُكمه، وجاريًا مجراه. وأما القسمُ الثاني، وهو ما لا يتحمّل (¬3) الضميرَ من الأخبار، وذلك إذا كان الخبرُ اسمًا محضًا غير مشتقّ من فعلٍ، نحوَ: "زيدٌ أخوك"، و"عمرٌو غلامُك"، فهذا لا يتحمّل الضميرَ، لأنّه اسمٌ محضٌ عارٍ من الوصفيّة. والذي يتضمَّنُ الضميرَ من الأسماء ما تقدّم وصفُه من الأخبار المشتقّة، كاسم الفاعل، وغيرِه، ممّا ذكرناه. وهذه الأسماءُ ليست ¬
[أنواع الجملة الخبرية]
كذلك، وإنمّا الإخبارُ بأنّه مالِكٌ للغلام، ومختصٌّ بأُخُوّةِ زيد. وقد ذهب الكوفيون، وعليُّ بن عيسى الرُّمانيّ من المتأخّرين من البصريين، إلى أنه يتحمّل الضميرَ. قالوا: لأنّه، وإن كان اسمًا جامدًا غيرَ صفة، فإنّه في معنَى ما هو صفةٌ؛ ألا ترى أنّك إذا قلت: "زيدٌ أخوك"، و"جعفرٌ غلامُك"، لم تُرِدِ الإخبارَ عن الشخص بأنّه مسمًّى بهذه الأسماء، وإنمّا المرادُ إسنادُ معنَى الأُخوّة، وهي القَرابةُ، ومعنَى الغُلاميّة، وهي الخِدْمةُ، إليه؛ وهذه المعاني معانِي أفعال. والصحيح الأوّل، وعليه الأكثرُ من أصحابنا؛ لأنّ تحمّلَ الضمير إنّما كان من جهة اللفظ، لا من جهة المعنى، وذلك لِما فيه من معنى الاشتقاق، ولفظِ الفعل، وهو معدومٌ ههنا. واعلمْ أن خبرَ المبتدأ إذا كان مفردًا، سواءٌ كان مشتقًّا أو غيرَ مشتقّ، فإنه يكون مرفوعًا مثلَ المبتدأ, لأن الابتداء والتَعَرّيَ، كما رفع المبتدأ على ما ذكرناه، كذلك رفع الخبرَ, لأنّ تناوُله إيّاه كتناوله المبتدأ، إلَّا أنّ تناولُه المبتدأ بلا واسطةٍ، وتناوله الخبرَ بواسطةِ المبتدأ، فكان المبتدأُ شرطًا لا عِلّةً. وقد تقدّم ذلك. [أنواع الجملة الخبرية] قال صاحب الكتاب: "والجملة على أربعة أضرب: فعلية, واسمية, وشرطية, وظرفية, وذلك: "زيدٌ ذهب أخوه"، و"عمرو أبوه منطلق"، و"بكر إن تعطه يشكرك"، و"خالد في الدار"". * * * قال الشارح: اعلم أن الجملة تكون خبرًا للمبتدأ كما يكون المفردُ، إلَّا أنّها إذا وقعت خبرًا؛ كانت نائبةً عن المفرد واقعةً موقعَه، ولذلك يُحْكَم على موضعها بالرفع على معنَى أنَّه لو وقع المفردُ الذي هو الأصلُ موقعَها, لكان مرفوعًا، والذي يدلّ على أنّ المفرد أصلٌ والجملةَ فرعٌ عليه أمران: أحدهما أنّ المفرد بسيطٌ والجملةَ مركَّبٌ، والبسيطُ أوِّل والمركّب ثانٍ، فإذا استقلّ المعنى بالاسم المفردِ، ثمّ وقعت الجملةُ موقعه، فالاسمُ المفرد هو الأصلُ، والجملةُ فرعٌ عليه، والأمر الثاني أنّ المبتدأ نظيرُ الفاعل في الإخبار عنهما، والخبر فيهما هو الجزء المستفاد، فكما أنّ الفعل مفردٌ، فكذلك خبرُ المبتدأ مفردٌ. واعلم أنّه قسم الجملة إلى أربعةِ أقسام: فعليّةٍ، واسميّةٍ، وشرطيةِ، وظرفيّةٍ, وهذه قِسْمَةُ أبي عليّ، وهي قسمةٌ لفظيّةٌ، وهي في الحقيقة ضربان: فعليّةٌ واسميّةٌ, لأنّ الشرطيّة في التحقيق مركَّبةٌ من جملتَين فعليّتَيْن: الشرطُ فعلٌ وفاعلٌ، والجزاء فعلٌ وفاعلٌ، والظرفُ في الحقيقة للخبر الذي هو "اسْتَقَرَّ"، وهو فعل وفاعلٌ. فمثالُ الجملة الفعليّة: "زيدٌ قام أبوه"، فـ "زيدٌ" مرتفعٌ بالابتداء، و"قَامَ" في موضع خبره، وفيه ضميرٌ
يرتفع بأنّه فاعلٌ كارتفاع "الأبِ" في قوله: "زيدٌ قام أبوه". وهذا الضميرُ يعود إلى المبتدأ الذي هو "زيدٌ"، ولولَا هذا الضميرُ، لم يصح أن تكون هذه الجملةُ خبرًا عن هذا المبتدأ؛ وذلك لأنّ الجملة كلُّ كلام مستقلّ قائم بنفسه، فإذا لم يكن في الجملة ذكر يربِطها بالمبتدأ حتّى تصيرَ خبرًا وتصيرَ الجملةُ من تَمامِ المبتدأ، وقعت الجملةُ أجْنَبِيّةً من المبتدأ، ولا تكون خبرًا عنه، ألا ترى أنّك لو قلت: "زيدٌ قَامَ عمرٌو"، لم يكن كلامًا لعدمِ العائد فإذا كان ذلك كذلك؛ لم يكن بدٌّ من العائد، وتكون الجملة التي العائدُ منها في موضع رفع خبرًا، وأمّا الجملة الاسميّة فأن يكون الجزءُ الأوّلُ منهما اسمًا كما سمّيت الجَملةَ الأوُلَى فعليةً, لأنّ الجزءَ الأوّلَ فعلٌ، وذلك؛ نحو: "زيدٌ أبوه قائمٌ"، و"محمّدٌ أخوه منطلقٌ"، فـ "زيدٌّ" مبتدأ أولٌ، و"أبوه" مبتدأٌ ثانٍ، و"قائمٌ" خبرُ المبتدأ الثاني، والمبتدأُ الثاني وخبره في موضع رفع لوُقوعه موقعَ خبرِ المبتدأ الأوّل، كما كان قولك: "قام أبوه" كذلك في المسألة الأوُلى، فأخبرتَ عن المبتدأ الثاني - وهو الأبُ - بمفرد، ولذلك لم تحتج إلى ضمير، وأخبرت عن المبتدأ الأوّل بجملةٍ من مبتدأ وخبرِ، وهي "أبوه قائمٌ"، والهاءُ عائدةٌ إلى المبتدأ، ولولا هي لم يصح الخبرُ كما قلنا في الجملة الفعليّة. وأمّا الجملة الثالثة وهي الشرطيّة فنحو قولك: "زيدٌ إن يَقُمْ أَقُمْ معه"، فهذه الجملةُ، وإن كانت من أنواع الجُمَل الفعليّة، وكان الأصل في الجملة الفعلية أن يستقلّ الفعلُ بفاعله، نحو: "قام زيدٌ"، إلَّا أنه لمّا دخل هاهنا حرف الشرط، ربط كلُّ جملة من الشرط والجزاء بالأخرى حتى صارتا كالجملة الواحدة؛ نحو: المبتدأ والخبر، فكما أن المبتدأ لا يستقل إلَّا بذكرِ الخبر، كذلك الشرطُ لا يستقلّ إلَّا بذكر الجزاء، ولصَيْرُورةِ الشرط والجزاءِ كالجملة الواحدة, جاز أن يعود إلى المبتدأ منها عائدٌ واحدٌ؛ نحو: "زيدٌ إن تُكْرِمْهُ يَشْكُرْكَ عمرٌو"، فالهاء في "تكرمه" عائدةٌ إلى "زيد"، ولم يَعُدْ من الجزاء ذكرٌ، ولو عاد الضميرُ منهما جاز، وليس بلازمٍ، نحوَ: "زيدٌ إنْ يَقُمْ أُكْرِمْهُ"، ففي "يَقُمْ" ضميرٌ من "زيدٌ". وكذلك "الهاءُ" في "أُكْرِمْهُ" تعَود إليه أيضًا. الرابعة: الظَّرْف، والظرفُ على ضَرْبين: ظرفٌ من الزمان، وظرفٌ من المكان، وحقيقةُ الظرف ما كان وعاءً، وسُمّي الزمان والمكان ظروفًا لوُقوع الحوادث فيهما، وقد يقع الظرفُ خبرًا عن المبتدأ؛ نحو قولك: "زيدٌ خَلْفَك"، و"القِتالُ اليَوْمَ". واعلم أنّ الظرف على ضربَيْن: ظرفُ زمان، وظرفُ مكان، والمبتدأ أيضًا على ضربين: جُثَّةٌ وحَدَثٌ. فالجُثةُ ما كان شخصًا مَرْئيًّا، والحدثُ ما كان معنى، نحو المصادر مثل "العِلْم" و"القُدْرةِ"، فإذا كان المبتدأُ جثّةً، نحو: "زيدٌ" و"عمرو"، وأردتَ الإخبارَ عنه بالظرف , لم يكن لك الظرفُ إلَّا من ظروفِ المكان، نحو قولك: "زيدٌ عِنْدَكَ"، و"عمرْو خَلْفَكَ". وإذا كان المبتدأُ حَدَثًا، نحو: "القِتال" و"الخُروج"، جاز أن
يُخْبَر عنه بالمكان والزمان. والعِلّة في ذلك أنّ الجثّة قد تكون في مكان دون مكان، فإذا أخبرتَ باستقرارها في بعضِ الأمكِنة يثبت اختصاصها بذلك المكان مع جواز أن تكون في غيره. وكذلك الحدثُ يقع في مكان دون كان؛ مثالُ ذلك قولك: "زيدٌ خَلْفَك" فـ "خلفك" خبرٌ عن "زيدٌ"، وهو مكانٌ معلومٌ بجوازِ أن يخلو منه "زيدٌ" بأن يكون أمامك، أو يَمِينَك، أو في جهةٍ أخرى غيرهما. فإذا خصّصتَه بـ "خَلْفَك" استفاد المخاطَبُ ما لم يكن عنده. وكذلك "القتالُ أمامَك" يجوز أن يقع في مكان غير ذلك؛ وأمّا ظرف الزمان، فإذا أخبرتَ به عن الحَدَث أفاد, لأنّ الأحداث ليست أُمورًا ثابتةً موجودة في كلّ الأحيان؛ بل هي أعراضٌ منقضيةً تحدُث في وقت دون وقت. فإذا قلت: "القِتالُ اليومَ"، و"الخروج بعدَ غدٍ" استفاد المخاطَبُ ما لم يكن عنده لجوازِ أن يخلو ذلك الوقتُ من ذلك الحدث؛ وأما الجُثَثُ فأشخاصٌ ثابتةٌ موجودةٌ في الأحيان كلها, لا اختصاص لحُلولها بزمان دون زمان، إذ كانت موجودة في جميع الأزمنة، فإذا أخبرتَ، وقلت: "زيدٌ اليومَ"،أو"عمرٌو الساعة"، لم تُفِدِ المخاطَبَ شيئًا ليس عنده؛ لأنّ التقدير: زيدٌ حالٌّ، أو مستقرٌّ في اليوم، وذلك معلومٌ, لأنّه لا يخلو أحدٌ من أهلِ عصرك من اليوم، إذ كان الزمانُ لا يتضمّن واحدًا دون واحد، فإن قيل: فأنت تقول: "الليلة الهِلالُ"، والهلالُ جثّةٌ، فكيف جاز هاهنا ولم يجز فيما تقدّم؟ فالجوابُ: أنّه إنّما جاز في مثلِ "الليلة الهلالُ" على تقدير حذف المضاف، والتقديرُ: الليلة حُدوثُ الهلال، أو طُلوعُ الهلالِ، فحُذف المضاف وأُقيم المضاف إليه مقامه لدلالةِ قَرينةِ الحال عليه، لأئك إنما تقول ذلك عند توقُّعِ طُلوعه، فلو قلت: "الشمسُ اليومَ"، أو"القمرُ الليلةَ"، لم يجز إلَّا أن يكونا متوقَّعين، وكذلك لو قلت: "اليومَ زيدٌ" لمن يتوقَع وُصولَه وحُضورَه، جاز. واعلم أنّ الخبر إذا وقع ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا، نحو: "زيدٌ في الدار" و"عمرٌو عندك"، ليس الظرفُ بالخبر على الحقيقة, لأن "الدار" ليست من "زيد" في شيء، وإنمّا الظرفُ معمولٌ للخبر ونائبٌ عنه، والتقديرُ: زيدٌ استقرّ عندك، أو حَدَثَ، أو وَقَعَ، ونحو ذلك، فهذه هي الأخبار في الحقيقة بلا خِلاف بين البصريين، وإنّما حذفتَها، وأقمتَ الظرفَ مقامَها إيجازا لِما في الظرف من الدلالة عليها، إِذ المرادُ بالاستقرار استقرارٌ مُطْلَقٌ، لا استقرارٌ خاصٌّ على ما تقدّم بيانُه، فلو أردت بقولك: "زيدٌ عندك" أنّه جالسٌ، أو قائمٌ, لم يجز الحذفُ, لأن الظرف لا يدلّ عليه, لأنّه ليس من ضرورة كونه في الدار أن يكون جالسًا أو قاعدًا. واعلم أن أصحابنا قد اختلفوا في ذلك المحذوف: هل هو اسمٌ، أو فعلٌ، فذهب الأكثر إلى أنّه فعلٌ، وأنّه من حَيِّز الجُمَل، وتقديره: زيدٌ استقرّ في الدار، أو حلَّ في الدار، ويدلّ على ذلك أمران: أحدهما جَوازُ وُقوعه صِلةٌ، نحو قولك: "الذي في الدار زيدٌ"، والصلةُ لا تكون إلَّا جملة، فإن قيل: التقديرُ: الذي هو مستقرٌّ في الدار كما قال:
"ما أنا بالّذي قائلٌ لك شيئًا"، والمرادُ: بالذي هو قائلٌ، فكذلك هنا يكون الظرفُ متعلّقًا باسم مفرد على تقدير مبتدأ محذوف؛ قيل: اطّرادُ وقوع الظرف خبرًا من غيرِ "هُوَ" دليلٌ على ما قلناه، فإن ظهرت في اللفظ كان حَسَنًا، وإن لمَ تأتِ بها فحسنٌ أيضًا، ولم يقبُح قُبْحَ "مَا أَنَا بَالَّذِي قَائِلٌ لَكَ" ولا هو في قِلّته، فاطّرادُ "جاءني الذي في الدار"، وقلّةُ "ما أنا بالذي قائلٌ لك شيئًا" تدل على ما ذكرناه، والأمر الثاني أنّ الظرف والجارّ والمجرور لا بدّ لهما من متعلَّقٍ به، والأصلُ أن يتعلّق بالفعل، وإنمّا يتعلّق بالاسم إذا كان في معنى الفعل ومن لفظه، ولا شَك أنّ تقدير الأصل الذي هو الفعلُ أوْلى، وقال قومٌ منهم ابنُ السَّرّاج: إِن المحذوف المقدَّر اسمٌ، وإِنَّ الإخبار بالظرف من قبيلِ المفردات، إذ كان يتعلق بمفرد، فتقديره: مستقرٌ أو كائنٌ ونحوهما، والحُجّةُ في ذلك أن أصل الخبر أن يكون مفردًا على ما تقدّم، والجملةُ واقعةٌ موقعه، ولا شكَّ أن إضمار الأصل أولى، ووجةٌ ثان انّك إذا قدّرتَ فعلاً كان جملةً، وإذا قدّرتَ اسمًا كان مفردًا، وكُلَّما قَلَّ الإضمارُ والتقديرُ، كان أولى. واعلم أنّك لمّا حذفت الخبر الذي هو"استقرَّ" "مُسْتَقِرٌّ"، وأقمت الظرف مقامه على ما ذكرنا، صار الظرفُ هو الخبرَ، والمعاملةُ معه، وهو مُغايِرُ المبتدأ في المعنى، ونقلتَ الضمير الذي كان في الاستقرار، إلى الظرف، وصار مرتفعًا بالظرف كما كان مرتفعًا بالاستقرار، ثمّ حذفتَ الاستقرار، وصار أصلاً مرفوضًا لا يجوز إظهاره للاستغناء عنه بالظرف. وقد صرّح ابنُ جِنِّي بجوازِ إظهاره. والقولُ عندي في ذلك أن بعد حذف الخبر الذي هو الاستقرار، ونقل الضمير إلى الظرف، لا يجوز إظهارُ ذلك المحذوفِ؛ لأنه قد صار أصلًا مرفوضًا، فإِن ذكرته أوّلًا، وقلت: "زيدٌ استقرّ عندك"، لم يمنع منه مانعٌ. واعلم أنّك إذا قلت: "زيدٌ عندك" فـ "عِنْدَكَ" ظرفٌ منصوب بالاستقرار المحذوفِ سواء كان فعلاً أو اسمًا، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ، والظرفُ وذلك الضميرُ في موضع رفعٍ بأنّه خبرُ المبتدأ. وإذا قلت: "زيدٌ في الدار أو من الكرام"، فالجارُّ والمجرورُ في موضع نصب بالاستقرار على حد انتصابِ "عِنْدَكَ" إذا قلت: "زيدٌ عندك"، ثمّ الجارُّ والمجرورُ والضمير المنتقلُ في موضع رفعٍ بأَنّه خبرُ المبتدأ. وذهب الكوفيون (¬1) إلى أنّك إذا قلت: "زيدٌ عندك، أو خَلْفَك" لم ينتصب "عندك" و"خلفك" بإضمار فعلٍ ولا بتقديره، وإنّما ينتصب بخِلافِ الأوّل، لأنّك إذا قلت: "زيدٌ أخوك" فـ "زيدٌ" هو الأخُ، فكلُّ واحد منهما رَفَعَ الآخر، وإذا قلت: "زيدٌ خَلْفَك" فإن "خَلْفَكَ" مخالفٌ لـ "زيدٌ" لأنّه ليس إيّاه، فنصبناه بالخلاف. وهذا قولٌ فاسد, لأنّه لو كان الخلافُ يُوجِب النصبَ، لانتصب الأوّلُ كما ينتصب الثاني, لأنّ الثاني إذا خالَفَ الأوّل، فقد خالف الأوّلُ الثاني أيضًا, لأنّ ¬
فصل [شرط الجملة الخبرية]
الخلاف عدم المماثَلة، فكلُّ واحد قد فعل بصاحبه مثلَ ما فعل صاحبه به، وأيضًا فإنَّ من مذهبهم: أن المبتدأ مرتفعٌ بعائدٍ يعود إليه من الظرف إذا قلت: "زيدٌ عندك"، وذلك العائدُ مرفوعٌ، وإذا كان مرفوعًا، فلا بد له من رافعٌ وإذا كان له رافعٌ في الظرف كان ذلك الرافعُ هو الناصب فاعرفه. فصل [شرط الجملة الخبرية] قال صاحب الكتاب: "ولا بد في الجملة الواقعة خبرًا من ذكرٍ يرجع إلى المبتدأ, وقولك: "في الدار" معناه استقر فيها, وقد يكون الراجع معلومًا فيستغنى عن ذكره. وذلك في مثل قولهم: البُرُّ الكُرُّ بستِّينَ والسَّمْنُ منوان بدرهمٍ" (¬1) وقوله تعالى: {ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور} (¬2). * * * قال الشارح: قد تقدّم قولُنا: إِن خبر المبتدأ إذا وقع جملةً فعليّةً كانت، أو اسميّةً، أو شرطيةً، أو ظرفيّةً، فلا بدّ فيها من ضمير يرجع إلى المبتدأ يربطها بالمبتدأ لئلاّ تقع أَجْنَبِيةً من المبتدأ إذا كانت غيرَ الأوّل. وقوله: "إذا قلت زيدٌ في الدار معناه استقرّ فيها" يعني أنّه يتعلق بمحذوف، وقد تقدّم بيانُ ذلك. وقوله: "وقد يكون الراجعُ معلومًا فيُستغنى عن ذكره" يعني أن الراجع إلى المبتدأ إذا كان الخبرُ جملةً؛ فإنّه يجوز حذفه، وإسقاطُه مع شدّة الحاجة إليه، وذلك إذا كان موضعُ المضمر معلومًا غير ملتبس، كقولهم: "السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم" فـ "السمنُ" مبتدأٌ، و"منوان" مبتدأٌ ثانٍ، و"بدرهم" خبرُ المبتدأ الثاني، و"المنوان" وخبره خبرُ المبتدأ الأوّلِ. والعائدُ محذوفٌ تقديره: منوان منه بدرهم. فموضع "منه" المحذوف رفعٌ لأنّه صفة لـ "مَنَوَيْن"، وفيه ضميران: أحدهما مرفوعٌ يعود إلى الموصوف، وهو المنوان، والثاني الهاء المجرورةُ، وهي تعود إلى السمن. لا بد من هذا التقدير لئلّا ينقطع الخبر عن المبتدأ، ولم يتّصل به. وساغ حذفُ العائد هاهنا لأنّ حصولَ العلم به أغنى عن ظهوره، وذلك أن السمن هنا جنسٌ، وما بعده بعض من الجنس، وإنّما يذكر هذا الكلامَ لتسعيرِ الجنس، يقابل كلَّ مقدار منه بمقدار من الثمن، فكأنّه قال: "السمنّ كلُّه منوان منه بدرهم". ولولا هذا التقديرُ لكان المعنى أنّ السمن كلَّه منوان، وأنّه بدرهم، والمرادُ غيرُ ذلك. ¬
فصل [تقديم الخبر علي المبتدأ]
ومثله "البُرُّ الكُرُّ بِسِتِّينَ"، إلَّا أنّ المحذوف هاهنا شيئان: أحدهما ما هو من الكلام وفيه العائد وهو منه، وتقديره: البرُّ الكرُّ منه بستِّين، إلَّا أن موضع "منه" هنا نصبٌ على الحال، لأنّه لا يجوز أن يكون نَعْتًا لـ"الكرّ"، إذ كان معرفة، والعاملُ في الحال الجارُّ والمجرورُ الذي هو الخبرُ، وهو "بستين". وصاحبُ الحال المضمرُ المرفوعُ فيه، وجاز تقدُّمُه عليه وإن كان العاملُ معنَى, لأنّ لفظ الحال جارٌّ ومجرورٌ، فصار كقولك: "كلَّ يوم لك ثَوْبٌ". وفي "مِنْهُ" ضميران على ما ذُكر. أحدهما: مرفوعٌ يعود إلى المضمر في "بستين"، والآخرُ "الهاء" العائدةُ إلى المبتدأ الأولِ الذي هو "البُر" وهي الرابطةُ. والثاني من المحذوفَيْن ما هو من نفسِ الكلام وليس فيه عائدٌ، وهو التمييزُ، والتقديرُ: البرُّ الكرُّ بستّين درهمًا، فترك ذكر "الدرهم" للعلم به، وهو من تمامِ الكلام، ألا ترى أَنَّك لو لم تُرِدْهُ لالتبس، ولم يُعْلَم من أيِّ الأنواع هو الثمنُ، ولا يُستبعد حذفُ العائد من الخبر أو شيء من الخبر للدلالة عليه، فإئه قد جاء حذفُ الجملة التي هي خبرٌ بأسرها للدلالة عليها، نحو قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬1) معناه: "فعدتُهنَّ ثلاثة أشهر" إلَّا أنَّه حُذف لدلالة الأول عليه، وإذا جاز حذفُ الجملة بأسرها، كان حذف شيء منها أسهل. وأمّا قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬2)، فـ "من" في موضع رفع بالابتداء، و"صَبَرَ" و"غَفَرَ" الصِّلةُ، والعائدُ ضميرُ الفاعل فيهما. وقولهُ: "إنّ ذلك لمن عزم الأمور" في موضع الخبر. و"إن" المكسورةُ تُقَدَّر تقدير الجُمَل، فلذلك إذا وقعت خبرًا، افتقرتْ إلى ضمير عائد إلى المبتدأ كما تفتقر الجملةُ إذا وقعت خبرًا , ولم يوجد العائد في الآية، فكان مرادًا تقديرًا، وإنمّا حُذف لقوّةِ الدلالة عليه. والمعنى: إنّ ذلك الصَبْرَ منه، أي: من الصابر. فصل [تقديم الخبر علي المبتدأ] قال صاحب الكتاب: "ويجوز تقديم الخبر على المبتدأ كقولك تميميٌّ أنا، ومشنوءٌ من يشنؤك"، وكقوله تعالى: {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} (¬3) , و {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} (¬4)، المعنى سواء عليهم الإنذار وعدمه. وقد التزم تقديمه فيما وقع فيه المبتدأ نكرةً والخبر ظرفًا وذلك قولك: "في الدار رجلٌ". * * * ¬
قال الشارح: يجوز تقديمُ خبرِ المبتدأ مفردًا كان أو جملةً، فمثالُ المفرد قولك: "قائمٌ زيدٌ"، و"ذاهبٌ عمرٌ". و"قائمٌ" خبرٌ عن "زيد" وقد تقدّم عليه، وكذلك "ذاهبٌ" خبرٌ عن "عمرو". ومثالُ الجملة: "أبوه قائمٌ زيدٌ"، و"أخوه ذاهبٌ عمرٌو"، فـ "أبوه" مبتدأٌ و"قائمٌ" خبرُه، والجملةُ في موضع الخبر عن "زيد"، وقد تقدّم عليه. وكذلك "أخوه ذاهبٌ" مبتدأٌ وخبرٌ في موضع الخبر عن "عمرو"، وذهب الكوفيون (¬1) إلى منع جواز ذلك، واحتجّوا بأن قالوا: إنّما قلنا ذلك, لأنه يؤدي إلى تقديم ضمير الاسم على ظاهره، ألا ترى إنّك إذا قلت: "قائمٌ زيدٌ"، كان في "قائمٌ" ضمير"زيد" بدليلِ أنَّه يظهر في التثنية والجمع، فتقول: "قائمان الزيدان"، و"قائمون الزيدون"، ولو كان خاليًا عن الضمير لكان مُوَحَّدًا في الأحوال كلها. وكذلك إذا قلت: "أبوه قائمٌ زيدٌ"، كانت "الهاءُ" في "أبوه " ضميرَ "زيد"، فقد تقدّم ضمير الاسم على ظاهره، ولا خلافَ أنّ رُتْبَةَ ضمير الاسم أن يكون بعد ظاهره. والمذهب الأوّل لكثرةِ استعماله في كلام العرب قالوا: "مَشْنُوءٌ من يَشْنَؤُكَ"، و"تميميٌّ أنا"، فـ "من يشنؤك" مبتدأ، وقوله: "مشنوءٌ" الخبرُ. وهو مقدَّمٌ. وكذلك "تميميٌّ أنا": "أَنَا" مبتدأ و"تميميٌّ" خبرٌ مقدَّمٌ. ألا ترى أنّ الفائدة المحكوم بها إنّما هي كونُه تميميًّا لا "أَنَا" المتكلَّمُ؛ وأمّا قولهم: إِنه يؤدّي إلى تقديم المضمر على الظاهر، فنقول: إِن تقديم المضمر على الظاهر إنّما يمتنع إذا تقدّم لفظًا ومعنًى، نحو: "ضَرَبَ غلامُه زيدًا" وأمّا إذا تقدّم لفظًا والنيّةُ به التأخيرُ، فلا بَأْسَ به، نحو: "ضرب غلامَه زيدٌ" ألا ترى أن الغلام هاهنا مفعولٌ، ومَرْتَبَةُ المفعول أن يكون بعد الفاعل، فهو، وإن تقدّم لفظًا، فهو مؤخَّرٌ تقديرًا وحُكْمًا. ومنه قوله تعالى: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} (¬2). "الهاء" في "نفسه" عائدةٌ إلى "موسى" وإن كان الظاهر متأخّرًا، لأنّه في حكم المقدَّم من حيث كان فاعلًا، ومثله قولهم في المَثَل: "في أَكْفانه لُفَّ الميّتُ" (¬3)، وقالوا: "في بَيْته يُؤْتَى الحَكَمُ" (¬4). فقد تقدّم المضمر على الظاهر فيهما لفظًا, لأنّ النيّة بهما التأخير، والتقديرُ: لُفَّ الميتُ في أكفانه، ويُؤْتَى الحكمُ في بيته، وإذا ثبت ما ذكرناه، جاز تقديم خبر المبتدأ عليه، وإن كان فيه ضمير, لأن النية فيه التأخير، من قبل أن مرتبة المبتدأ قبل الخبر فاعرفه. ¬
وأمّا قوله تعالى: {وسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} (¬1) و {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} (¬2) فـ "محياهم" مبتدأٌ، و"مماتهم" عَطْفٌ عليه، و "سواءٌ" خبرٌ مقدَّمٌ. وإنّما وُحِّدَ الخبر هاهنا والمُخْبَرُ عنه اثنان لوجهين: أحدهما أن "سواء" مصدرٌ في معنى اسم الفاعل في تأويل مُسْتَوٍ، والمصدر لا يثنَّى ولا يُجْمَع، بل يُعبَّر بلفظةِ الواحد عن التثنية والجمع، فيقال: "هذا عَدلٌ"، و"هذان عدلٌ"، و"هؤلاء عدلٌ"، فكذلك هاهنا. والوجه الآخر أن يكون أراد التقديمَ والتأخير، كأنّه قال: "محياهم سواءٌ ومماتُهم"، كما قال [من الطويل]: 133 - [فمنْ يكُ أَمْسَى بالمدينةِ رحلُه] ... فإني وقَيّارٌ بها لَغَرِيبُ أراد: فإني لغريبٌ بها وقيّارٌ، وكذلك قوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} الفعل هاهنا في تأويل المصدر، والمعنى: سواءٌ عليهم الإنذار وعدم الإنذار، فـ "الإِنذار" وما عطف عليه مبتدأ في المعنى، و"سواءٌ" الخبرُ، وقد تقدّم: و"سواءٌ" مصدرٌ في معنى اسم الفاعل، والتقدير: مستَوِيان على ما تقدّم، ألا ترى أنّ موضع الفائدة الخبرُ، والشكُّ إنّما وقع في استواءِ الإنذار وعدمه، لا في نفس الإنذار وعدمه، ولفظُ ¬
الاستفهام لا يمنع من ذلك، إذ المعنى على التَّعْيين والتحقيق، لا على الاستفهام، وإنّما الهمزةُ هاهنا مستعارةٌ للتسوِية، وليس المرادُ منها الاستفهام، وإنّما جاز استعارتُها للتسوية، لاشتراكهما في معنى التسوية، ألا ترى أنّك تقول في الاستفهام: "أزيدٌ عندك أم عمرٌو؟ "و "أزيدٌ أفضلُ أم خالدٌ؟ " والشيئان اللذان يُسْأل عنهما قد استوى عِلْمُك فيهما، ثمّ تقول في التسوية: "ما أُبالي أَفَعَل أم لم يفعلْ". فأنتَ غيرُ مستفهم، وإن كان اللفظ الاستفهام، وذلك لمشاركته الاستفهام في التسوية لأنّ "معنى ما أُبالِي أفعل أم لم يفعل" أي: هما مستوِيان في عِلْمي، كما قال في الاستفهام كذلك. هذا هو التحقيقُ من جهة المعنى؛ وأمّا إعرابُ اللفظ، فقالوا: "سواءٌ" مبتدأ، والفعلان بعده كالخبر؛ لأنّ بهما تَمامَ الكلام وحُصولَ الفائدة، فكأنّهم أرادوا إصلاحَ اللفظ وتَوْفِيَتَهُ حَقَّهُ. * * * وقوله: "وقد التُزم تقديمه فيما وقع فيه المبتدأ نكرة والخبرُ ظرفًا، وذلك قولك: "في الدار رجلٌ" قد تقدّم في الفصل قبله لِمَ ابتُدىء بالنكرة هنا, ولِمَ التُزم تقديمه بما أغنى عن إعادته. * * * قال صاحب الكتاب: "وأما سلامٌ عليك وويل لك, وما أشبههما من الأدعية فمتروكةٌ على حالها إذا كانت منصوبة منزَّلةً منزلة الفعل, وفي قولهم: أين زيد, وكيف عمرو ومتى القتال. * * * قال الشارح: لمّا تقدّم من كلامه أنّه قد التُزم تقديمُ الخبر إذا وقع المبتدأ نكرةً، والخبر ظرفًا، أورد على نفسه إشكالًا، وهو قولهم: "سلامٌ عليك"، و"وَيْلٌ له"، فإن المبتدأ نكرةٌ، والخبرُ جارٌ ومجرورٌ، ولم يتقدّم على المبتدأ، ثم أجاب بأن المبتدأ في قولك: "لك مالٌ"، و"تَحْتَك بِساطٌ" إنّما التُزم تقديمُ الخبر هناك خوفًا من التباسِ الخبر بالصفة، وهاهنا لا يُلْبَس، لأنه دعاءٌ، ومعناه ظاهرٌ. ألا ترى إنّك إذا قلت: "سلامٌ عليك" و"ويلٌ له" بالرفع، كان معناه كمعناه منصوبًا، وإذا كان منصوبًا، كان منزلًا منزلة الفعل، فقولُك: "سلامًا عليك"، و"ويلًا لك" بمنزلةِ: "سَلَّمَ الله عليك"، و"عَذَّبَكَ الله"، فلمّا كان المعنى فيه ينزع إلى معنى الفعل، لم يُغيرَّ عن حاله، لأنّ مرتبة الفعل أن يكون مقدَّمًا. وأمّا قوله: "وفي قولهم: "أَيْنَ زيدٌ"، و"كَيْفَ عمرٌو"، و"متى القتالُ"، فيريد أنّه قد التُزم هاهنا تقديم الخبر أيضًا، وإنّما قُدّم الخبر في هذه المواضع لتضمُّنه همزة الاستفهام، وذلك أنك إذا قلت: "أَيْنَ زيدٌ"، فأصله: أزيدٌ عندك، فحذفوا الظرفَ، وأتوا بـ "أيْنَ" مشتمِلةً على الأمكنة كلَّها، وضمّنوها معنى همزة الاستفهام، فقدّموها لتضمُّنها الاستفهام، لا لكونها خبرًا. وكذلك إذا قلت: "كَيْفَ زيدٌ" معناه: على أيِّ حالٍ زيدٌ.
فصل [حذف المبتدأ أو الخبر]
وإذا قلت: "متى القتالُ"، فمعناه: القتالُ غدًا، ونحوه، فعمِل فيه ما عمِل بـ "أَيْنَ"، وسَتوضَح أحوالُ هذه الظروف المستفهم بها في أماكِنها إن شاء الله تعالى. فصل [حذف المبتدأ أو الخبر] قال صاحب الكتاب: "ويجوز حذف أحدهما, فمن حذف المبتدأ قول المستهل: "الهلال والله"، وقولك وقد شممت ريحًا: "المسك والله"، أو رأيت شخصاً فقلت: "عبد الله وربي", ومنه قول المرقّش: [من السريع]: 134 - [لا يبعد الله التلبب والـ ... غارات] إذ قال الخميس نعم ومن حذف الخبر قولهم: "خرجت فإذا السبع"، وقول ذي الرمة: [من الطويل] 135 - فيا ظبية الوعساء بين جُلاجِلٍ ... وبين النَّقا آأنت أم أُمُّ سالم؟! ¬
وقوله تعالى: {فصبرٌ جميلٌ} (¬1) يحتمل الأمرين. أي فأمري صبرٌ جميلٌ أو فصبرٌ جميلٌ أجملُ". * * * قال الشارح: اعلم أن المبتدأ والخبر جملةٌ مفيدةٌ تحصل الفائدةُ بمجموعهما، فالمبتدأ معتمَدُ الفائدة، والخبرُ محلُّ الفائدة، فلا بدّ منهما، إلَّا اْنّه قد تُوجَد قَرِينةٌ لفظيةٌ، أو حاليّةً تُغْنِي عن النُّطْق بأحدهما، فيُحْذَف لدلالتها عليه، لأنّ الألفاظ إنّما جيءَ بها للدلالة على المعنى، فإذا فُهم المعنى بدون اللفظ، جاز أن لا تأتي به، ويكون مرادًا حُكْمًا وتقديرًا. وقد جاء ذلك مَجِيئًا صالحًا، فحذفوا المبتدأ مُرَّةً، والخبرَ أخرى، فممّا حُذف فيه المبتدا قولُ المستهِلّ: "الهِلالُ وَاللهِ" أي: هذا الهلالُ والله، والمستهلُّ طالبُ الهلال كما يقال لطالبِ الفَهْم: مستفهِمٌ، ولطالبِ العِلْم: مستعلِمٌ. ومثله إذا شممتَ رِيحًا طَيبةً قلت: "المِسْكُ والله" أي: هو المسكُ والله، أو هذا المسكُ، وكذلك لو رأيت صورةَ شخص فصار آية لك على معرفةِ ذلك الشخص، فإذا رأيتَه بعدُ قلت: "عبدُ الله ورَبّي"، كانّك قلت: "ذاك عبدُ الله"، أو"هذا عبدُ الله"، وكذلك لو حُدِّثْتَّ عن شمائل رجلٍ، ووُصف بصفاتٍ مثلَ "مررت برجلٍ راحمِ المَساكين بارٍّ بوالدَيْه" فعُرّف بتلك الأوصاف، فقلت: "زيدٌ واللهِ"، أي: هو زيدٌ، أو المذكور زيدٌ؛ وأمّا بيتُ المُرَقَّش الأكبر [من السريع]: لا يُبْعِدِ الله التلَبُّبَ والغاراتِ ... إذ قال الخَمِيسُ نَعَمْ فالتلبُّب: لُبْسُ السلاح، والخميسُ: الجَيشُ، والنَّعَمُ: الإبلُ، قال الفرّاء: هو ذَكَرٌ ¬
لا يؤنَّث. يقال: "هذا نَعَمٌ واردٌ". والمعنى أنه يتأسّف على الغِيَر، ولا سيّما في أوقاتِ إقبالهم على الغنائم، فيقول الجيش: "نَعَمٌ"، أي: هذا نَعَمٌ فاطْلُبوه، إلا أنّه حُذف للعلم به، وقد حذف الخبر أيضًا كما حذف المبتدأ، وأكثر ذلك في الجوابات. يقول القائلُ: "من عندك؟ " فتقول: "زيدٌ"، والمعنى: زيدٌ عندي، إلَّا أنّك تركته للعلم به، إذ السُّؤالُ إنّما كان عنه. ومن ذلك قولهم: "خرجتُ فإذا السَّبُعُ". اعلم أن "إذا" تكون على ضربَيْن: زمانًا، وفيها معنى الشرط، وتضاف إلى الجملة الفعليّة، وإذا وقع بعدها اسمٌ كان ثمَّ فعلٌ مقدَّرٌ، نحو: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (¬1)، {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} (¬2)، والتقديرُ: إذا انشقّت السماءُ انشقّت، وإذا مدّت الأرضُ مدّت، كأنّ ذلك لتضمُّنه معنى الشرط، والشرط يقتضي الفعلَ. وتكون بمعنى المُفاجَأة، وهي في ذلك على ضَرْبين: تكون اسمًا، وتكون حرفًا. وإذا كانت اسمًا، كانت ظرفًا من ظروفِ الأمْكِنة، وإذا كانت حرفًا، كانت من حروف المعاني الدالةِ على المفاجأة، كما أن "إنْ" حرفٌ دالّ على معنى المجازاة. والهمزة حرفٌ دالّ على معنى الاستفهام، فإذا قلت: "خرجتُ فإذا السَّبُعُ" وأردتَ به الظرفيّةَ، لم يكن ثمَ حذفٌ، وكان "السبعُ" مبتدأ، و"إذا" الخبر قد تقدّم، كما تقول: "عندي زيدٌ" ويتعلّق الظرفُ باستقرارٍ محذوفٍ. فإن ذكرت اسمًا آخر، كان منصوبًا على الحال، نحو: "خرجتُ فإذا السبعُ واقِفًا، أو عادِيًا"، والعاملُ في الحال الظرفُ، وإن شئت رفعتَه على الخبر، وجعلت الظرفَ من صِلته، فإن جعلتها حرفًا، كان الخبرِ محذوفًا لا محالة، والتقدير: خرجت فإذا السبعُ حاضرٌ أو موجودٌ, لأنّ المبتدأ لا بدّ له من خبر، ولا خبرَ لها هاهنا ظاهرًا، فوجب أن يكون مقدَّرًا، وأمّا قول ذي الرُمّة [من الطويل]: فيا ظبيةَ الوَعْساء ... إلخ فالخبرُ محذوفٌ فيه، والتقدير: آانْتِ الظَّبْيَةُ أم أُمُّ سالم، والمرادُ: إنّكما التبسْتما عليّ لشدة تشابُهكما، فلم أعرف إحداكما من الأخرى. والوعْساءُ: الأرض اللَّيّنة ذاتُ الزَّمْل. وجُلاجِلُ: موضعٌ, ويُروى بالحاء غيرِ المعجمة. والنَّقا: الكَثِيبُ من الرمل. وقوله تعالى: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (¬3) احتمل الأمرين، وذلك أن يكون "صبرٌ" مبتدأ والخبر محذوف، والمعنى: فصبرٌ جميلٌ أجملُ من غيره، أو فعندي صبرٌ جميلٌ. وجاز الابتداءُ بقوله: صبرٌ جميلٌ، وهو نكرةٌ, لأنها قد وُصفت، والنكرةُ إذا وُصفت جاز الابتداءُ بها، وقد تقدّم بيانُ ذلك، ويجوز أن يكون "صبرٌ جميلٌ" خبرًا، والمبتدأ محذوفٌ، والتقديرُ: فأمري صبرٌ جميلٌ، أو صَنْعي صبرٌ جميلٌ. ¬
قال صاحب الكتاب: "وقد التزم حذف الخبر في قولهم: "لولا زيد لكان كذا" لسد الجواب مسدة. ومما حذف فيه الخبر لسد غيره مسدَّه قولهم: "أقائمٌ الزيدان"، و"ضربي زيداً قائماً"، و"أكثر شربي السويق ملتوتاً"، و"أخطب ما يكون الأمير قائماً" وقولهم: "كل رجل وضيعته"". * * * قال الشارح: اعلم أنّ "لَوْلَا" حرف يدخل على جملتَيْن: إحداهما مبتدأ وخبر، والأخرى فعلٌ وفاعلٌ، فتُعلِّق إحداهما بالأخرى، وتربطها بها كما يدخل حرفُ الشرط على جملتَيْن فعليتَيْن. فيربط إحداهما بالأخرى، فتصيران كالجملة الواحدة، فتقول: "قام زيدٌ، خرج محمّدٌ"، فهاتان جملتان متبايِنتان، لا تَعَلُّقَ لإحداهما بالأخرى، فإذا أتيتَ بـ "إِن" الشرطيّة، فقلت: "إن قام زيدٌ خرج محمّدٌ"، ارتبطتِ الجملتان، وتعلقت إحداهما بالأخرى، حتى لو ذكرت إحدى الجملتَيْن منفردةً لم تُفِدْ، ولم تكن كلامًا. وكذلك "لَوْلَا"، تقول: "زيدٌ قائمٌ، خرج محمّدٌ"، فهاتان جملتان متبايِنتان، إحداهما مبتدأ وخبر، والأخرى فعلٌ وفاعلٌ، فإذا أتيتَ بـ "لَوْلا" وقلت: "لولا زيدٌ قائمٌ لخرج محمَّدٌ"، ارتبطت الجملةُ الثانية بالجملة الأُولى، فصارتا كالجملة الواحدة، إلَّا أنّه حذف خبرُ المبتدأ من الجملة الأوُلى لكثرةِ الاستعمال حتى رُفض ظهوره، ولم يجز استعماله. فإذا قلت: "لولا زيدٌ لخرج محمدٌ"، كان تقديره: لولا زيدٌ حاضرٌ أو مانعٌ، ومعناه أن الثاني امتنع لوجودِ الأوّل، وليست الجملةُ الثانيةُ خبرًا عن المبتدأ, لأنه لا عائد منها إلى زيدٌ، والجملةُ إذا وقعت خبرًا، فلا بدّ فيها من عائد إلى المبتدأ. وإنما اللامُ وما بعدها كلامٌ يتعلّق بـ "لَوْلَا" وجوابٌ لها، وقد شَبَّهَ سيبويه ما حُذف من خبرِ المبتدأ بعد "لَوْلا" بقولهم: "إمَّا لا"، ومعناه أن رجلاً أُمر بأشياء يفعلها وقد شُبِّهت عليه، فوقف في فَعْلها، فقيل له: "افْعَلْ كذا، وكذا إن كنت لا تفعل الجميعَ". وزادوا على "إنْ ما"، وحذفوا الفعلَ وما يتّصل به، وكثر حتّى صار الأصل مهجورًا، وربمّا وقع بعد "لَوْلا" هذه الفعلُ والفاعلُ لاشتراكهما في معنى الآخر، ألا ترى أنّه لا فَرْقَ من جهةِ المعنى بين "زيدٌ قائمٌ " و"قام زيدٌ". قال الجَمُوح [من البسيط]: 136 - قالت أُمامَةُ لمّا جئتُ زائرَها ... هَلَّا رَمَيْتَ ببَعْضِ الأَسْهُمِ السُّودِ ¬
لا دَرَّ دَرُّكَ إني قد رَمَيْتُهُمُ ... لولا حُدِدْتُ ولا عُذْرَى لِمَحْدودِ والمراد: لولا الحَدُّ. وقال الكوفيون (¬1): الاسمُ الواقعُ بعد "لولا" يرتفع بـ "لولا" نفسِها لنِيابتها عن الفعل، والتقديرُ: لولا يمنع زيدٌ. وهذا ضعيفٌ لوجوهٍ: منها: أنَّه لو كان الأمرُ على ما ادّعوه لَجاز وُقوعُ "أحَدٍ" بعدها, لأن "أحدًا" يعمل فيها النفيُ، ولم يُسْمَع عنهم مثلُ ذلك. الوجه الثاني: إنَّه لو كان معناه النفيَ على ما ادّعوه، لجاز أن تعطِف عليه بـ "الواو"و"لَا" لتأكيدِ النفي، فتقولَ: "لولا زيدٌ ولا خالدٌ لأكرمتُك"، نحوَ قوله تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ} (¬2). فلما لم يجز ذلك ولم يُستعمل، دلّ على أن الجُحود قد زَايَلَها. ¬
الوجه الثالث: أن الحرف إنّما يعمل إذا اختصّ بالمعمول، نحوَ حروفِ الجرّ، فإنّها مختصّةٌ بالأسماء، ونحوَ حروف الجزم اختصّت بالدخول على الأفعال و"لَوْلَا" هذه غيرُ مختصّة، بل تدخل على الأسماء، نحوَ: "لولا زيدٌ لأكرمتُك"، وتدخل على الأفعال في نحوِ ما أنشدناه من البيتَيْن، فاعرفه. * * * قال: "ومن ذلك قولهم: أقائمٌ الزيدان" يعني أنّه حُذف الخبر لِسَدّ لفاعل مَسَدَّه، واعلمْ أن قولهم: "أقائمٌ الزيدان" إنّما أفاد نَظرًا إلى المعنى، إذ المعنى: أيقوم الزيدان؟ فتَمَّ الكلامُ, لأنّه فعلٌ وفاعلٌ، و"قائمٌ" هنا اسمٌ من جهةِ اللفظ وفعلٌ من جهةِ المعنى، فلمّا كان الكلام تامًّا من جهة المعنى، أرادوا إصلاحَ اللفظ، فقالوا: "أقائمٌ" مبتدأٌ و"الزيدان" مرتفعٌ به، وقد سد مسدَّ الخبر من حيثُ إن الكلام تَمَّ به، ولم يكن ثَمَّ خبرٌ محذوفٌ على الحقيقة. ولو قلت: "قائم الزيدان" من غيرِ استفهام، لم يجز عند الأكثر، وقد أجازه ابنُ السرَّاج، وهو مذهبُ سيبويه لتضمُّنه معنَى الفعل، وإن كان فيه قُبْحٌ, لأنّ اسم الفاعل لا يعمل عملَ الفعل حتّى يعتمد على كلام قبله من مبتدأ، نحوِ: "زيدٌ ضاربٌ أبوه"، أو موصوفٍ، نحوِ: "مررتُ برجلٍ ضارب أبوه"، أو ذي حالٍ، نحوِ: "هذا زيدٌ ضاربًا أبوه"، أو على استفهام، أو نفي بخِلافِ الفعل، فإنّه يعمل معتمِدًا وغيرَ معتمد، وسنذكُر أحكامَه مستقصّى في فصلِ اسم الفاعل. وأمّا قولهم: "ضَرْبِي زيدًا قائمًا"، فهي مسألة فيها أدْنَى إشكال يحتاج إلى كَشْف، وذلك أن المعنى: ضربتُ زيدًا قائمًا، أو أضْربُ زيدًا قائمًا، فالكلامُ تامُّ باعتبارِ المعنى، إلَّا أنّه لا بدّ مني النَّظَر في اللفظ، وإصلاحِه لكونِ المبتدأ فيه بلا خبر، وذلك أنّ قولك: "ضَرْبِي"، مبتدأٌ، وهو مصدر مضافٌ إلى الفاعل، و"زيدًا" مفعول به و"قائمًا" حالٌ، وقد سدّ مسدَّ خبرِ المبتدأ، ولا يصِحّ أن يكون خبرًا فيرتفعَ, لأنّ الخبر إذا كان مفردًا يكون هو الأوّلَ، والمصدرُ الذي هو الضربُ ليسَ القائمَ، ولا يصحّ أن يكون حالًا من "زيد" هذا؛ لأنه لو كان حالًا منه، لَكان العاملُ فيه المصدرَ الذي هو ضربي؛ لأن العامل في الحال والعاملُ في ذي الحال. ولو كان المصدرُ عاملًا فيه، لكان من صلته، وإذا كان من صلته، لم يصِحّ أن يسدّ مسدَّ الخبر, لأنّ السادَّ مسدَّ الخبر يكون حكمُه حكمَ الخبر، فكما أنّ الخبر كان جزءًا غيرَ الأوّل، فكذلك ما سدّ مسدَّه ينبغي أن يكون غيرَ الأولّ. وإذا كان الأمرُ كذلك، كان العاملُ فيه فعلًا مقدَّرًا فيه ضميرُ فاعل، يعود إلى زيد، وهو صاحبُ الحال، والخبرُ ظرفُ زمان مقدَّرٌ مضافٌ إلى ذلك الفعل والفاعلِ، والتقديرُ: ضَرْبِي زيدًا إذا كان قائمًا، فـ "إذًا" هي الخبرُ. والحَقُّ أنّها في موضع نصب متعلقةٌ باستقرار محذوف تقديرُه: استقرّ أو مستقرٌّ، ثُمَّ حُذف العامل لدلالةِ الظرف عليَه على ما تقدّم، ونُقل الضمير من الفعل إلى الظرفُ وصار الظرف. وما ارتفع به في موضع
مرفوع، لأنّه خبرُ مبتدأ، فالظرفُ وحدَه في موضع نصب. يدلُّ على ذلك أنَّه يظهر النصب فيما كان معرَبًا، نحوَ: "القتالُ اليومَ وعِنْدَك"، ونحو ذلك، والظرفُ مع الضمير في موضعِ خبرِ المبتدأ. فإذا أُريد المُضِيُّ قُدّر بـ "إذْ". وإذا أُريد المستقبلُ، قُدّر بـ "إذَا". والظرفُ الذي هو"إذَا"و"إذْ" يضاف إلى الفعل والفاعلِ الذي هو"كَانَ"، والضميرُ الذي فيه، و"كَانَ" هذه المقدَّرةُ هي التامّةُ، وليسِت الناقصةَ، فحُذف الفعل، وأُقيم الظرف مُقامَه. ثمّّ حُذف الفعل لدلالةِ الظرف عليه. فإن قيل: ولِمَ قُدّر الخبر بـ "إِذَا" أو"إذْ" دون غيرهما من ظروفِ المكان، قيل: لأنّهما ظرفَا زمان، وظروفُ الزمان يكثر الإخبارُ بها عن الأحداث، والإخبارُ بها مختصٌّ بالحَدَث، فكان تقديرهُ بها (¬1) أوْلى، وكانت "إذْ" و"إذَا" أوْلى من غيرهما من ظروفِ الزمان لشُمُولهما. فـ "إِذْ" تشمَل جميعَ ما مضى، و"إذَا" تشمل جميعَ المستقبل. فلمّا أُريد تقديرُ جُزْء من الزمان، كان أوْلى بذلك لِما ذكرناه. فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن "كَانَ" المقدَّرةَ هي التامَّةُ دونَ أن تكون الناقصةَ، قيل: لوكانت "كَانَ" المقدَّرةُ الناقصةَ، لكان "قائمًا" من قولك: "ضَرْبِي زيدًا قائمًا" الخبرَ، ولو كان خبرًا لجاز أن يقع معرفة, لأنّ أخبارَ "كَانَ" تكون معرفة ونكرة، فالمعرفةُ نحوُ قولك: "كان زيدٌ أخاك"، و"كان محمَّدٌ القائم"، ومثالُ النكرة "كان زيدٌ قائمًا". فلمًا اقتُصر ههنا على النكرة، ولم تقع المعرفةُ فيه ألبتّة، دلّ ذلك على أنَّه حالٌ وليس بخبرٍ. وأمّا المسألة الثانية: وهي "أكثرُ شُرْبي السَّوِيقَ ملتوتًا" فالكلامُ عليها كالكلام على المسألة قبلها في تقدير الخبر والعاملِ فيه، إلَّا أن قوله: "أكثرُ شربي" ليس بمصدر، وإنمّا لمّا أُضيفت "أكثرُ" إلى "شربي" الذي هو المصدرُ، صار حكمُه حكمَ المصدر, لأنّ "أفْعَلَ" بعضُ ما يُضاف إليه. تقول: "زيدٌ أفْضَلُ القوم"، فيكون بعضَ القوم، و"الياقُوتُ أفضلُ الحِجارة" لأنّه بعضُ الحجارة، ولو قلت: "الياقوتُ أفضل الزُّجاج" لم يجز, لأنّه ليس من الزجاج، فكذلك إذا قلت: "صُمْتُ أحسنَ الصّيامِ" تنصب "أحْسَنَ" على المصدر, لأنه لما أضفتَه إلى المصدر، صار مصدرًا، فكذلك لمّا أضفت "أكثرُ" إلى "الشرب" الذي هو مصدرٌ، صار مصدرًا، وجاز أن يُخْبَر عنه بالزمان كما يخبر عن سائر المصادر. وأمّا المسألة الثالثة: وهي "أخطبُ ما يكون الأميرُ قائمًا"، فهي في تقديرِ حذفِ الخبر كالمسألة الأُولى، إلَّا أنّ فيها اتساعًا أكثرَ من الأوُلى، وذلك أنّ فيها وجهَيْن من التقدير: أحدُهما نحوُ المسألة قبلها. فقولُك: "أخطبُ ما يكون الأميرُ" بمعنَى"أخطبُ ¬
كَوْنِ الأمير" لأنّ "مَا" مع الفعل بتأويلِ المصدر، نحو قول الشاعر [من الوافر]: 137 - يَسُرُّ المَرْءَ ما ذَهَبَ الليالِي ... [وكان ذهابُهن له ذهابا] وكذلك مَا يَكُونُ بمعنَى الكون، والمرادُ بكونه وجودُه، والتقديرُ: أخْطَبُ وجودِ الأمير إذا كان قائمًا، جُعل وجودُه خطيبًا مبالغة، ويكون "إذَا" الخبرَ، وهو في موضع نصبٍ بالاستقرار على ما تقدَّم، يدلّ على ذلك أنّه قد حُكي عن بعضِ العرب: "أخطبُ ما يكون الأميرُ يومَ الجمعة" بنصبِ "يوم"، فدلّ ذلك على أنّ "إذا" في موضعِ نصب، كما تقول: "زيد عندك" وفيه ضميرٌ، والظرفُ والضميرُ في موضعِ رفع لأنّه الخبرُ. الوجه الثاني أن يكون قولُه: "أخطب ما يكون" بمعنى الزمان، لأن "مَا" تكون بمعنى الزمان، لأنّها في تأويل المصدر، والمصدرُ يُستعار للزمان على تقديرِ حذفِ مضاف، كأئه قال: "أخطبُ أوْقاتِ كونِ الأميرِ"، كما يُقال: "مَقْدَمَ الحاجّ"، و"خُفُوقَ النجْم"، أي: زمنَ مقدمِ الحاج، وزمنَ خفوقِ النجم. ويكون الخبرُ "إذا كان قائمًا" على ما تقدّم، إلَّا أن "إذَا" على هذا في موضع رفع خبرًا عن الأوّل، كما تقول: "وقتُ القِتال يومُ الجُمْعة". فكأنّه قال: "أخطبُ الأوْقات الَتي يكون الأميرُ فيها خطيبًا إذا كان قائمًا"، ومثلُه على سَعَةِ الكلامِ {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (¬1)، وهما لا يمكُران، لكنْ لمّا كان فيهما جَعَلَه لهما، ومثله {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} (¬2) والنهارُ لا يُبْصِر إنّما ¬
فصل [مجيء المبتدأ والخبر معرفتين]
يُبْصَر فيه، والذي أحْوَجَ إلى تقديرِ المصدر بالزمان ههنا أنّه قد نُقل عنهم: "أخطبُ ما يكون الأميرُ يومُ الجمعة" بالرفع، فكذلك قُدّر الأوّلُ بالزمان، وقُضي على "إذَا" التي هي الخبرُ بالرفع فاعرفه. وأمّا قولهم: "كلُّ رجل وضَيْعَتَهُ" فالمرادُ كلُّ رجل وضيعتُه مقرونان، إلَّا أنّك حذفت الخبرَ واكتفيتَ بالمعطوف, لأنّ معنى الواو هنا كمعنّى "مَعَ"، فقولُك: "كل رجل وضيعته" بمعنَى: مع ضيعته، وهذا كلامٌ مكتفٍ فالواوُ ههنا كالواو في قولك: "استوى الماءُ والخَشَبَةَ"، إلَّا أنّ قولنا: "استوى الماء والخشبة" أوّلُه فعلٌ يعمل فيه. وليس ههنا فعلٌ، وإنّما هو اسم عُطف على اسم بالواو التي معناها معنَى "مَعَ"، فعُطفتْ لفظًا، والمعنى معنى الملابَسة. واعلمْ أن الواو التي بمعنَى "مَعَ" لا بدّ فيها من معنَى الملابسة، والواوُ التي لمُطْلَقِ العطفِ قد تخلو من ذلك، ألا ترى أنّك إذا قلت: "ما صنعتَ وأباك" المعنى: ما صنعت مع أبيك، وما صنع أبوك معك. وكذلك إذا قلت: "كلّ رجلٍ وضيعتَه" لأنّ معناه مع ضيعته، ولو قلت: "زيدٌ وعمرٌو خارجان" لم يجز حذفُ الخبر، لأنّه ليس في اللفظ ما يدلّ عليه، وليس كذلك "كل رجلُّ وضيعته", لأنّ معناه: مع ضيعته، و"مَعَ" تدلّ على المقارَنة فاعرفه. فصل [مجيء المبتدأ والخبر معرفتين] قال صاحب الكتاب: "وقد يقع المبتدأ والخبر معرفتَين معًا كقولك: "زيدٌ المنطلقُ"، و"الله إلهُنَا"، و"محمَّد نَبِينا"، ومنه قولُك؛ "أنتَ أنتَ"، وقولُ أبي النَّجْم [من الرجز]: 138 - أنا أبو النَّجْم وشِعْرِي شِعْرِي ¬
ولا يجوز تقديمُ الخبر هنا، بل أيهما قدّمتَ فهو المبتدأُ". * * * قال الشارح: قد تقدّم من قولنا أن حَقَّ المبتدأ أن يكون معرفة، وحقَّ الخبر أن يكون نكرة بما أغنى عن إعادته. وقد يكون المبتدأ والخبرُ معًا معرفتَيْن، نحوَ: "زيدٌ أخوك"، و"عمرٌو المنطلقُ"، و"الله إلهُنا"، و"محمَّدٌ نَبِيُّنا". فإذا قلت: "زيدٌ أخوك"، وأنت تريد أُخُوَّةَ النَّسَب، فإنّما يجوز مثلُ هذا، إذا كان المخاطَبُ يعرف زيدًا على انفراده، ولا يعلم أنه أخوه لفُرْقة كانت بينهما، أو لسَبَب آخرَ، أو يعلم أنّ له أخًا، ولا يدري أنّه زيدٌ هذا، فتقول: "زيدٌ أخوك" أي: هذا الذي عرفتَه هو أخوك الذي كنت علمتَه، فتكون الفائدةُ في اجتماعهما، وذلك الذي استفاده المخاطَبُ. فمتى كان الخبرُ عن المعرفة معرفة، كانت الفائدةُ في مجموعهما. فإن كان يعرفهما مجتمعَيْن، لم يكن في الإخبار فائدةٌ. وكذلك إذا قلت: "زيدٌ المنطلقُ" فالمخاطَبُ يعرف زيدًا، ويعرف أنّ شخصًا انطلق، ولا يعلم أنه زيدٌ المنطلقُ، فزيدٌ معروفٌ بهذا الاسم منفردًا، والمنطلقُ معروفٌ بهذا الاسم منفردًا، غيرَ أنّ الذي عرفهما بهذَيْن الاسمَين منفردَيْن قد يجوز أن يجهل أنّ أحدَهما هو الآخرُ، ألا ترى أنّك لو سمعتَ يزيد، وشُهر أمرُه عندك من غيرِ أن تراه، لكنتَ عارفًا به ذِكْرًا وشُهْرَة، ولو رأيت شخصًا، لكنت عارفًا به عَيْنًا، غيرَ أنك لا تُركِّب هذا الاسمَ الذي سمعتَه على الشخص الذي رأيته إلَّا بمعرفة أُخرى بأن يُقال لك: "هذا زيدٌ فاعرفه". فأمّا قولهم: "اللهُ رَبُّنا"، و"محمّدٌ نَبِيُّنا" فإِنمَّا يُقال ذلك رَدًا على المخالِف والكافرِ، أو يُقال على سبيلِ الإقرار والاعترافِ لطَلَب الثَّواب بقوله. وأمّا قولهم: "أنتَ أنتَ"، فظاهرُ اللفظ فاسدٌ, لأنّه قد أَخبر بما هو معَلومٌ، وأنّه قد اتحد الخبرُ والمخبَرُ عنه لفظًا ومعنًى. وحكمُ الخبر أن يكون فيه من الفائدة ماليس في المبتدأ، وإنّما جاز ههنا, لأنّ المراد من التكرير بقوله: "أنت أنت" أي: أنت على ما عرفتُه من الوَتِيرَة والمنزلةِ، لم تتغيّر معنى. وتكريرُ الاسم بمنزلةِ "أنت" على ما عرفتُه، وهذا مُفيدٌ يتضمّن ما ليس في الجزء الأول، وعليه قول أبي النجم [من الرجز]: أنا أبو النجم وشِعْري شِعْري معناه: وشعري شعري المعروفُ الموصوفُ كما بُلِّغْتَ، وعُرِّفْتَ، وعلى هذا قياسُ الباب، وإذا كان الخبر معرفة كالمبتدأ، لم يجز تقديم الخبر, لأنه ممّا يُشْكِل ويلتبس، إذ كل واحد منهما يجوز أن يكون خبرًا ومخبرًا عنه، فأيَّهما قدمتَ كان المبتدأ، ونظيرُ ذلك ¬
الفاعلُ والمفعول إذا كانا ممّا لا يظهر فيهما الإعرابُ، فإنَّه لا يجوز تقديمُ المفعول، وذلك نحوُ: "ضَرَبَ عِيسَى مُوسَى"، اللَّهُمَّ إلَّا أن يكون في اللفظ دليلٌ على المبتدأ منهما، نحوُ قوله [من الطويل]: 139 - لُعابُ الأفاعِي القاتِلاتِ لُعابُهُ وقولِه [من الطويل]: 140 - بَنُونَا بَنُو أبْنائنا وبَناتُنا ... بَنُوهنّ أبْناءُ الرِّجال الأباعِدِ ألا ترى أنه لا يحسُن أن يكون "بنونا" هو المبتدأ، لأنه يلزَم منه أن لا يكون له بنون إلا بَنِي أبنائه، وليس المعنى على ذلك، فجاز تقديمُ الخبر هنا مع كونه معرفة لظهورِ المعنى وأمْنِ اللَّبْس، وصار هذا لجوازِ تقديم المفعول على الفاعل إذا كان عليه دليلْ، نحوُ: "أكَلَ كُمَّثْرَى مُوسَى"، و"أبْرَأ المَرْضَى عِيسَى". ¬
فصل [تعدد الخبر]
فصل [تعدّد الخبر] قال صاحب الكتاب: "وقد يجيء للمبتدأ خبران فصاعِدَا، منه قولُك: هذا حُلْوٌ حامِض"، وقولُه عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (¬1) ". * * * قال الشارح: يجوز أن يكون للمبتدأ الواحدِ خبران وأكثرُ من ذلك؛ كما قد يكون له أوصافٌ متعدّدةٌ، فتقول: "هذا حُلْوٌ حامِضٌ" تريد أنّه قد جمع بين الطعْمَيْن، كأنّك قلت: "هذا مُرٌّ"، فالخبرُ وإن كان متعدّدًا من جهة اللفظ، فهو غيرُ متعدّد من جهة المعنى, لأن المراد أنه جامع للطعمَيْن، وهو خبرٌ واحدٌ، وتقول: "هذا قائم قاعدٌ" على معنَى: راكعٍ، قال الشاعر [من الرجز]: 141 - مَنْ يَكُ ذَا بَت فهذا بَتِّي ... مُقَيِّظٌ مُصَيَّفٌ مُشَتِّي تَخِذْتُهُ مِن نَعَجاتٍ سِتّ ... سُودٍ جِعادٍ من نِعاجِ الدَّشْتِ ¬
فصل [دخول الفاء على الخبر]
ومثلُه قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (¬1). واعلمْ أنك إذا أخبرتَ بخبرَيْن فصاعدًا، كان العائدُ على المخبَر عنه راجعًا من مجموع الجزءَيْن، والمرادُ العائدُ المستقِلُّ به جميعُ الخبر، وذلك إنّما يعود من مجموعِ الاسمَيْن؛ فأمّا كلّ واحد منهما على الانفراد، ففيه ضميرٌ يعود إليه لا محالةَ من حيث كان راجعًا إلى معنى الفعل، فيعود من كل واحد منهما ضميرٌ عَوْدَ الضمير من الصفة إلى الموصوف، والظرفِ إلى المظروف؛ فأمّا عَوْدُ الضمير من الخبر المستقلِّ به إلى المبتدأ، فإنّما يكون من المجموع سواءٌ كان الخبران ضِدَّيْن أم لم يكونا. فصل [دخول الفاء على الخبر] قال صاحب الكتاب: "إذا تضمّن المبتدأُ معنى الشرط، جاز دخولُ الفاء على خبره، وذلك على نوعَيْن: الاسمُ الموصولُ، والنكرةُ الموصوفةُ إذا كانت الصلةُ أو الصفةُ فعلاً أو ظرفًا، كقول الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (¬2)، وقولهِ: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬3) وكقولك: "كلُّ رجل يأتيني، أو في الدار فله درهمٌ"، فإذا دخلتْ "لَيْتَ" أو "لَعَلَّ"، لم تدخل الفاءُ بالإجماع. وفي دخولِ "إنَّ" خلافٌ بين الأخفش وصاحبِ الكتاب". * * * قال الشارح: اعلم أنَّ الأسماء على ضربَيْن: منها ما هو عارٍ من معنى الشرط والجزاءِ، وضربٌ يتضمّن معنى الشرط والجزاء، فالأوّلُ نحوُ: "زيد" و"عمرو" وشِبْهِهما، فما كان من هذا القَبِيل لم يدخل الفاءُ في خبره. تقول: "زيدٌ منطلق" ولو قلت: "زيدٌ فمنطلقٌ" لم يجز، وكان أبو الحسن الأخفشُ يُجيز ذلك على زيادةِ الفاء، وذكر أن ذلك ورد عنهم كثيرًا، حَكَى: "أخوك فوُجد" على معنَى "أخوك وُجد" والفاءُ زائدة وأنشد [من الطويل]: 142 - وَقَائِلَةٍ خَوْلانُ فانْكِحْ فَتاتَهم ... وأُكْرُومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هِيَا ¬
والمراد: وقائلةٍ خولانُ انْكِحْ فتاتَهم، وسيبويه لا يرى زيادتَها ويتأوّل ما وَرَدَ من ذلك على أنّها عاطفةٌ (¬1)، وأنّه من قبيلِ عطفِ جملةٍ فعليّةٍ على جملة اسميّة. وما كان متضمّنًا معنى الشرط، فالأسماءُ الموصولةُ، والنكراتُ الموصوفةُ. فالأسماء الموصولة نحوُ: "الذي"، و"التي"، وأخواتِهما، فهذه الأسماءُ لا تتِمّ إلَّا بصلاتٍ وعائدٍ، وصلاتُها تكون جملة خَبَريّةَ محتمِلة للصِّدْق والكِذْب، وهي الجُمَلُ التي تقع أخبارًا للمبتدأ، فالموصولُ لا يُخْبَر عنه حتّى يتمّ بصلته، فإذا اَستَوْفَى صلتَه، صار بمنزلةِ الاسم الواحد، فقولُك: "الذي أبوه قائمٌ"، أو"الذي قام أبوه" بمنزلةِ "زيد" أو "عمرو" ويفتقر إلى جزءٍ آخرَ يكون خبرًا حتى يتمّ كلامًا، كما يفتقر "زيدٌ" و"عمرٌو"، فتقول: "الذي أبوه قائمٌ منطلقٌ"، فيكون "الذي أبوه قائم" بمنزلةِ "زيد"، ثمّ أخبرتَ عنه بـ "منطلقٌ"، كما تقول: "زيدٌ منطلقٌ". فإذا كان الموصول شائعًا لا لشخصٍ بعينه، وكانت صلتُه جملةً من فعلٍ وفاعلٍ أو ظرفٍ أو جار ومجرورٍ، وأخبرت عنه، جاز دخولُ الفاء في خبره لتضمُّنه معنى الجزاء. وذلك قولُك: "الذي يأتيني فله درهمٌ، والذي عندي فمُكْرَمٌ". قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} (¬2) إلخ. وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬3)، وقوله: {الَّذِينَ} ¬
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} (¬1) كلُّه من صلةِ "الذين" وهو في موضع اسم مرفوع بالابتداء، وقولُه: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} (¬2) في موضعِ الخبر، وكذلك قولُه: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬3)، فقولُه: {فَمِنَ اللَّهِ} الخبر. وإنّما اشترطنا لدخولِ الفاء أن يكون شائعًا غيرَ مخصوص، وأن تكون صلتُه فعلاً أو جارًّا ومجرورًا, لأنّه إذا كان كذلك، كان فيه معنى الشرط والجزاءِ، فدخلتْ فيه الفاءُ كما تدخل في الشرط المَحْضِ، وذلك أنه إذا كان شائعًا، كان مُبْهَمًا غيرَ مخصوص، وبابُ الشرط مبنيٌّ على الإبهام، فإن جعلتَه لواحد مخصوص، نحوَ: "زيدٌ الذي أتاني فله درهمٌ"، لم يجز دخولُ الفاء في خبره لبُعْده عن الشرط والجزاءِ، ألا ترى أنّك تقول: "من يخرجْ فله درهمٌ"، فيكون مُبْهَمًا غرِ مخصوص، فكذلك إذا قلت: "الذي يأتيني فله درهم" لا بد أن يكون شائعًا لا لمخصوص. فإن قيل: فأنتَ تقول: "إن أتاني زيدٌ فله درهمٌ"، فيكون الأوّلُ مخصوصًا، فهلّا جاز ذلك في "الَّذِي" إذا أردتَ به مخصوصًا. فالجوابُ أن الشرط لا بدَّ فيه من إبهام. فأنت إذا قلت: "من يأتِني فله درهم"، فالإبهامُ واقعٌ في الفعل والفاعلِ معًا، ألَّا ترى أنّ الفعل مبهمٌ يحتمل أن يوجَد، وأن لا يوجَد، والفاعلُ مبهم يعود إلى "مَنْ". وإذا قلت: "إن أتاني زيدٌ فله كذا" فالفاعلُ، وإن كان مخصوصًا، فالفعلُ مبهمٌ، وأنت إذا قلت: "الذي يأتيني" وأردتَ به مخصوصًا، لم يكن فيه إبهامٌ ألبتّةَ, لأنّ الموصول مخصوصٌ، والفعلَ مبنىٌّ على تيقُّنِ وجوده، فخَلَا من إبهام ألبتة، ففَارَقَ الشرطَ. وإنما اشتُرط وَصْله بالفعل, لأنّ الشرط لا يكون إلا بالفعل ألبتّةَ. فلو قلت: "الذي أبوه قائمٌ له درهم" لم يجز دخولُ الفاء في الخبر ها هنا لعدمِ مشابَهةِ الشرط. وأمّا إذا وُصل الموصول بظرفٍ أو جارٍّ ومجرورٍ، فإنّه- وإن لم تكن صلتُه فعلاً ملفوظًا- به فإنّه مقدَّرٌ حُكْمًا. فإذا قلت: "الذي في الدار، أو عندك" فكأنك قلت: "الذي استقرّ، أو وُجد" أو نحوَ ذلك، فإذا وُجدت هذه الشرائطُ في الموصول، جاز دخولُ الفاء في خبره. فإن قيل: فما الفرقُ بين الخبر عن الموصول إذا كان فيه الفاءُ، وبينه إذا لم يكن؟ قيل: إذا كان الخبرُ عن الموصول بالفاء آذن ذلك بأنّ الخبر مستحَقٌّ بالفعل الأوّلِ، ألا ترى أنك إذا قلت: "الذي يأتيني فله درهم" آذن ذلك بأنّ الدرهم مستحقٌّ له بإتْيانه، لأنّ الفاء للتعقيب، والمسبَّبُ يُوجَد عقيَب السبب، وإذا قلت: "الذي يأتيني له درهم" يدلّ على استحقاقِ الدرهم من غيرِ أن يدلّ على أنّه بالإتيان. ¬
وكذلك النكرة الموصوفة بالفعل أو الظرفِ أو الجارِّ والمجرورِ، نحو: "كلُّ رجل يأتيني، أو في الدار فله درهم" حكمُه حكم الموصول في دخولِ الفاء في خبرها لشَبَهها بالشرط والجزاء كالموصول, لأن النكرة في إبهامها كالموصول إذا لم يُرَد به مخصوصٌ. والصفةُ كالصلة، فإذا كانت بالفعل، أو ما هو في تقدير الفعل من جارّ ومجرور، كانت الموصول في شَبَهِ الشرط والجزاء، فدخلت الفاءُ في خبرها كدخولها في خبرِ الموصول. فإن وقع في الصلة شرطٌ وجزاءٌ، لم تدخل الفاءُ في آخِرِ الكلام. وذلك قولُك: "الذي إن يَزُرْني أزُرْهُ له درهمٌ"، ولو قلت هنا: "فَلَهُ" لم يجز, لأنّ الشرط لا يُجاب دفعتَيْن وكذلك "كلُّ رجل إنْ يَزُرْني أُكْرِمْه له درهمٌ"، ولا يجوز "فله درهم", لأن الصفة قد تضمَّنت الجوابَ، ولم يُحْتَجْ إلى إعادته، ولو قلت: "الذي أبوه أبوك فزيدٌ"، لم يجز، لأنّه لم يتقدّم في الصلة ما يصِح به الشرطُ، وكذلك لو قلت: "كلُّ إنسان فله درهمٌ"، لم يجز؛ لأنّه لم تتقدّم صفةٌ يُسْتفاد منها معنى الشرط، فجرى هذان في الامتناع مجرى "زيدٌ فقائمٌ"، و"عمرٌو فمنطلقٌ". فإن دخلتْ على هذا الموصولِ، أو النكرةِ الموصوفةِ الحروفُ الناصبةُ للمبتدأ الرافعةُ للخبر، وهي: "إنَّ"، و"أنَّ"، و"كَأنَّ"، و"لَيْتَ"، وَ "لَعَلَّ" و"لكِنَّ"، فذ هب سيبويه إلى أنّ "كَأنَّ" و"لَيْتَ" و"لَعَل" و"لكِنَّ" تمنع من دخولِ الفاء في الخبر, لأنها عواملُ تُغيِّر اللفظَ والمعنى، فهي جاريةٌ مجرَى الأفعال العاملةِ، فلمّا عملتْ في هذه الموصولاتِ والنكرةِ الموصوفةِ، بُعدتْ عن الشرط والجزاء، فلم تدخل الفاءُ في خبرها كدخولها في خبرِ الموصولات إذا لم يكن فيها أدواتُ الشرط، ولا يعمل فيها ما قبلها من الأفعال وغيرِها. وأمّا "إِنَّ" فذهب سيبويه إلى جوازِ دخول الفاء في خبرها مع هذه الأشياء لأنها، وإن كانت عاملةً، فإنها غيرُ مُغيِّرة معنى الابتداء والخبرِ، ولذلك جاز العطفُ عليها بالرفع على معنى الابتداء. وقال الأخفش: لا يجوز دخول الفاء مع "إنَّ" عاملة كأخواتها. والأوّلُ أقرب إلى الصحّة. وقد ورد به التنزيلُ قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1)، وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} (¬2) إلى أن قال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬3)، وقال: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (¬4)، فأدخل الفاءَ في الخبر. فالأخفشُ يحمل الفاءَ في ذلك كلِّه على الزيادة، والأوّل أظهرُ لأن الزيادة على خِلافُ الأصل، وسيُوضَح ذلك في حروف العطف إن شاء الله تعالى. ¬
خبر "إن" وأخواتها
خبرُ "إنَّ" وأخواتِها فصل قال صاحب الكتاب: "هو المرفوع في نحوِ قولك: "إنّ زيدًا أخوك"، و"لَعَلَّ بِشْرًا صاحبُك"، وارتفاعُه عند أصحابنا (¬1) بالحرف، لأنه أشبهَ الفعلَ في لُزومه الأسماءَ، والماضِيَ منه في بِنائه على الفتح، فأُلحق منصوبُه بالمفعول ومرفوعُه بالفاعل، ونُزّل قولك: "إنّ زيدًا أخوك" منزلةَ "ضَرَبَ زيدًا أخوك"، و"كأنّ عمرًا الأسدُ" منزلةَ "فَرَسَ عمرَا الأسدُ"، وعند الكوفيين (¬2) هو مرتفعٌ بما كان مرتفعًا به في قولك: "زيدٌ أخوك"، ولا عَمَلَ للحرف فيه". * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذه الحروِف، وهي "إنَّ" وأخواتُها وهي ستّةٌ: "إنَّ"، و"أنَّ"، و"لَكِنَّ"، و"لَيْتَ"، و"لَعَلَّ"، و"كَأَنَّ" من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر، فتنصِب ما كان مبتدأَ وترفع ما كان خبرًا، وإنما عمِلتْ لشَبَهها بالأفعال، وذلك من وُجوهٍ: منها اختصاصُها بالأسماء كاختصاصِ الأفعال بالأسماء، الثاني أنّها على لفظِ الأفعال، إذ كانت على أكثرَ من حرفَيْن كالأفعال، الثالُث أنها مبنيةٌ على الفتح كالأفعال الماضيةِ، الرابعُ أنها يتصل بها المضمرُ المنصوبُ، ويتعلّق بها كتعلُّقه بالفعل من نحوِ "ضَرَبِكَ" و"ضَرَبَهُ" وَ"ضَرَبَنِي"، فلمّا كانت بينها وبين الأفعال ما ذكرنا من المشابهة، كانت داخلةً على المبتدأ والخبر. وهي مقتضيةٌ لهما جميعًا، ألا ترى أنّ "إنَّ" لتأكيدِ الجملة، و"لَكِن" للاستدراك، فلا بدّ من الخبر لأنّه المستدركُ، ولا بدّ من المبتدأ ليُعْلَم خبرُ مَنْ قد استدرك. و"لَيْتَ" في قولك: "ليت زيدًا قادمٌ" تَمن لقُدومِ زيد. و"لَعَلَّ" تَرَجِّ، و"كَأَنَّ" تقتضي مشبهًا ومشبَّهًا به، فلمّا اقتضتْهما جميعًا، جرت مجرَى الفعل المتعدي، فلذلك نصبتِ الاسمَ، ورفعتِ الخبرَ، وشُبّهت من الأفعال بما قُدّم مفعولُه على فاعله. فقولُك: "إنّ زيدًا قائمٌ" بمنزلةِ "ضرَبَ زيدًا رجل". وإنّما قُدّم المنصوب فيها على المرفوع فَرْقَا بينها وبين الفعل، فالفعلُ من حيثُ كان الأصلَ في العمل جرى على سَنَنٍ ¬
فصل
قياسه في تقديمِ المرفوع على المنصوب، إذ كان رُتْبَةُ الفاعل مقدّمةً على المفعول. وهذه الحروفُ لما كانت في العمل فُروعًا على الأفعال ومحمولة عليها، جُعلتْ دونها بأنّ قُدّم المنصوب فيها على المرفوع حَطّا لها عن درجةِ الأفعال، إذ تقديمُ المفعول على الفاعل فرعٌ، وتقديمُ الفاعل أصلٌ على ما ذُكر. وذهب الكوفيون إلى أن هذه الحروف لم تعمل في الخبر الرفعَ، وإنّما تعمل في الاسم النصبَ لا غيرَ، وإنما الخبرُ مرفوعٌ على حاله كما كان مع المبتدأ. وهو فاسدٌ، وذلك من قِبَل أن الابتداء قد زال، وبه وبالمبتدأ كان يرتفع الخبرُ، فلمّا زال العاملُ، بطل أن يكون هذا معمولًا فيه، ومع ذلك فإنّا وجدنا كلَّ ما عمِل في المبتدأ عمِل في خبره، نحوَ: "ظننتُ" وأخواتِها، لمّا عملتْ في المبتدأ عملت في الخبر، وكذلك "كَانَ" وأخواتُها لمّا عملت في المبتدأ عملت في الخبر، وليس فيه تَسْوِيَةٌ بين الأصل والفرع، لأنه قد حصلت المخالفةُ بتقديمِ المنصوب على المرفوع فاعرفه. فصل قال صاحب الكتاب: "وجميِعُ ما ذُكر في خبرِ المبتدأ من أصنافه وأحوالِه وشرائطِه قائمٌ فيه ما خَلَا جَوازَ تقديمه، إلَّا إذا وقع ظرفًا كقولك: "إنّ في الدار زيدًا"، و"لعل عندك عمرًا"، وفي التنزيل {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} (¬1) ". * * * قال الشارح: يعني أنّ هذه الحروف داخلةٌ على المبتدأ والخبر، وكل ما جاز في المبتدأ والخبر جاز في هذه الحروف، لا فَرْق، فالمرادُ بأصنافه كونُه مفردًا وجملةً، وبأحواله كونُه معرفة ونكرة، وبشرائطه افتقارُه إلى عائدٍ من الخبر إِذا كان جملة. وقوله: "من أصنافه" يعني أنَّ خبرَ المبتدأ كما يكون مفردًا، أو جملة، أو ظرفًا، كذلك في هذه الحروف، تقول في المفرد: "إن زيدًا قائمٌ" كما تقول في المبتدأ: "زيدٌ قائمٌ"، وفي الجملة: "إنّ زيدًا أبوه قائمٌ"، كما تقول: "زيدٌ أبوه قائمٌ"، و"إنّ زيدًا قام أبوه" كما تقول: "زيدٌ قام أبوه"، وتقول في الظرف: "إن زيدًا عندك" و"إنّ محمّدًا في الدار" فموضعُ الظرف رفعٌ، لأنّه خبرُ "إن" كما كان خبر المبتدأ قبل دخول هذه الحروف، فإن كان اسمُ "إنَّ" جُثة، وأخبرتَ عنه بالظرف، لم يكن ذلك الظرفُ إلَّا ظرفَ مكان، ولا تُخْبِر عنه بالزَمان، فتقول: "إنّ زيدًا عندك". ولو قلت: "إن زيدًا اليومَ" لم يجز, لأنّ هذه الأخبار في الحقيقة إنّما هي أخبارُ أسماءِ هذه الحروف؛ وأمّا: قولهم: خبرُ إنَّ، وخبرُ كَانَ، فتقريبٌ, لأنّ الحروف، والأفعال لا يُخْبَر عنها. وقوله: "وأحواله" يعني أن أحوالَ أخبارِ هذه الحروف كأحوالِ أخبارِ المبتدأ من ¬
حيث إنّه يكون الخبرُ نكرة ومعرفة كما يكون كذلك في المبتدأ والخبر، فتقول: "إنّ زيدًا قائمٌ"، و"إن زيدًا أخوك" كما تقول ذلك في المبتدأ. وأمّا شرائطه فإنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ، فالاسم هو المعرفةُ، والخبرُ هو النكرةُ، كما كان كذلك في المبتدأ والخبر، وإذا كان جملةٌ، فلا بدّ فيها من عائدٍ إلى المبتدأ، كما كان كذلك في المبتدأ والخبر، فكل ما جاز في المبتدأ والخبر جاز مع "إن" وأخواتِها، لا فرقَ بينهما، إلَّا أن الذي كان مبتدأَ مرفوعًا ينتصب ههنا بـ"إنّ" وأخواتِها. ولا يجوز تقديمُ خبرها ولا اسمِها عليها، ولا تقديمُ الخبر فيها على الاسم. ويجوز ذلك في المبتدأ، وذلك لعدمِ تصرُّفِ هذه الحروف، وكَوْنِها فُرُوعًا على الأفعال في العمل، فانحطتْ عن درجةِ الأفعال، فجاز التقديمُ في الأفعال، نحوُ: "قائمًا كان زيدٌ"، و"كان قائمًا زيدٌ"، ولم يجز ذلك في هذه الحروف. اللَّهُمَّ إلَّا أن يكون الخبرُ ظرفًا أو جارًّا ومجرورًا، فلا يجوز أن تقول: "إن منطلقٌ زيدًا"، ويجوز أن تقول: "إن في الدار زيدًا"، وذلك أنّهم قد تَوسَّعوا في الظروف وخصّموها بذلك لكثرتها في الاستعمال، ألا ترى أنّهم قد فصلوا بها بين المضاف والمضاف إليه في نحوِ قوله [من السريع]: 143 - [لمّا رأَتْ ساتيدَما استَعْبَرَتْ] ... لِلَّهِ دَرُّ اليَوْمَ مَن لَامَهَا ¬
والمعنى: لله درُّ من لامها اليومَ، ومثلُه [من البسيط]: 144 - كأنّ أصْواتَ مِن إيغالِهن بِنَا ... أواخِرِ المَيْس أصواتُ الفَرارِيجِ والمراد: أصواتَ أواخرِ الميس من إيغالهنّ بنا، ومنه [من الوافر]: 145 - كما خُط الكتابُ بكَف يَوْمًا ... يَهُودِيِّ يُقارِبُ أو يُزِيل ¬
فصل [حذف خبر "إن"]
والمراد: بكفّ يهوديّ يومًا. وإذا جاز الفصلُ به بين المضاف والمضاف إليه، وهما كالشىء الواحد، كان جَوازُه في "إنَّ" واسمِه أسهلَ، إذ هما شيئان منفصلان، وممّا سَوَّغَ الفصلَ بالظرف هو كونُ هذه الحروف ليست ممّا يعمل في الظروف، وإنّما العاملُ الاستقرارُ المحذوفُ فاعرفه. فصل [حذف خبر "إنّ"] قال صاحب الكتاب: "وقد حذف في نحو قولهم إن مالاً وإن ولدًا وإن عددًا أي إن لهم مالاً, ويقول الرجل للرجل هل لكم أحد من الناس عليكم فيقول: إن زيدًا, وإن عمرًا أي: إن لنا, وقال الأعشي [من المنسرح]: 146 - إن محلًا وإنّ مُرتحلا ... وإن في السفر إذ مضوا مهلا ¬
وتقول: "إنّ غيرها إبِلاً وشاءً"، أي: إنّ لنا، وقال [من الرجز]: 147 - يا ليت أيام الصبا رواجعا أي: أي ياليت لنا. ومنه قول عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لقرشي مت إليه بقرابة: فإن ذاك, ثم ذكر حاجته, فقال: "لعل ذاك" أي: فإن ذاك مصدقٌ, ولعل مطلوبك حاصلٌ, وقد التزم حذفه في قولهم: "ليت شعري"". * * * قال الشارح: اعلم أن أخبارَ هذه الحروف إذا كانت ظرفًا أو جارًا ومجرورًا، فإنّه قد يجوز حذفُها، والسُّكوت على أسمائها دونها، وذلك لكثرةِ استعمالها والاتّساع فيها على ما ذكرناه، ودَلالةِ قَرائنِ الأحوال عليها. وذلك قولهم: "إنّ مالًا"، و"إن ولدًا"، و"إنّ عددًا" كأنّ ذلك وقع في جواب "هل لهم مالٌ؟ "، و"هل ولدٌ"، و"هل عددٌ؟ "، فقيل في جوابه: "إنَّ مالًا، وإن ولَدًا وإن عددًا"، أي: إن لهم مالًا، وإن لهم ولدًا، وإن لهم عددًا، ولم يُحْتَج إلى إظهاره لتقدُّمِ السؤال عنه. ولم يأتِ ذلك إلَّا فيما كان الخبرُ ظرفًا أو جارًا ومجرورًا. قال: "ويقول الرجل للرجل: هل لكم أحدٌ، إنّ الناس عليكم، أي: أَلْبٌ، فيقول: "إنّ زيدًا، وإن عمرًا" المعنى: إن لنا زيدًا، وإن لنا عمرًا، واستغنى عن ذكره لتقدُّمه في السؤال، قال الأعشى [من المنسرح]: إن محلّا ...... إلخ ويُروى: "وإنّ للسَّفْر إذ مضوا مهلَا"، ومعناه: إنّ لنا محلّا، يعني في الدنيا ¬
إذا عِشْنَا، وإن لنا مرتحلًا إلى الآخرة، وأراد بالسفر المسافرين من الدنيا إلى الآخرة، فيقول: في رحيلِ مَن رَحَل ومَضَى مَهَلٌ، أي لا يرجِع، وقيل: إن في السفر يريد: مَن قَدَّمَ لآخِرته فَازَ وظَفِرَ. والمَهَلُ: السَّبْقُ. فهذا كله عند سيبويه على حذفِ الخبر كنَحْوِ ما تقدّم تقديرهُ. ولا يرى الكوفيون حذفَ الخبر إلَّا مع النكرة، والبصريون يرونه مع المعرفة والنكرة. وكان الفرّاءُ يذهب إلى أنّه إنّما يُحْذَف مثلُ هذا إذا كُرّرتْ "إنَّ"، لِيُعْلَم أنّ أحدهما مخالفٌ للآخَر عند من يظُنَّه غيرَ مخالف، وحُكي أن أعرابيًّا قيل له: "الزّبابةُ الفَأْرَةُ"، قال: "إنّ الزبابةَ، وإنّ الفأرةَ"، ومعناه: إن هذه مخالفةٌ لهذه. والخِلافُ الذي بين الاسمَيْن يدل على الخبر، والفائدة أن "المحلّ" خلافُ "المرتحل"، وهو قول غيرُ مَرْضي عند أصحابنا، فإنّه قد ورد في الواحد الذي لا مُخالِفَ معه. قال الأخْطَل [من الطويل]: 148 - خَلَا أن حَيًّا من قُرَيْشٍ تَفضَلوا ... على الناس أو أن الأكارِمَ نَهْشَلَا وقالوا: "إنّ غيرَها إبِلًا وشاءً". فقولهم: "غيرها" اسمُ "إنَّ" والخبرُ مضمرٌ على النَّحْو الذي ذكرناه، كأنّه قال: إن لنا غيرَها، أو عندنا غيرها، وانتصب "إبلًا" و"شاءً" على التمييز. ويجوز أن يكون، "إبلًا" و"شاءً" اسمَ "إنَّ" و"غَيْرَهَا" حالًا. وقد نَصَّ سيبويه (¬1) على أن الإبل والشاء انتصابُهما انتصابُ "الفارس" إذا قلت: "ما في الناس مثلُه فارسًا" كأنه يقّدره بالمشتق أي ماشية، ولا يحسن أن يكون عطفَ بَيانٍ, لأن عطفَ البيان لا يكون إلا في المَعارف، ومنه قولُ رؤْبَةَ [من الرجز]: يا ليت أيّامَ الصِّبا رَواجِعا ¬
على تقديرِ: يا ليت لنا أيّامَ الصبا رواجعا، فيكون "أيام الصِّبا" اسمَ "لَيْتَ" والخبرُ الجارُّ والمجرورُ المقدَّرُ، و"رواجعا" حالٌ، وتنوينُه ضرورةً. وقيل: تقديرُه: أقبلتْ رواجعا، فيكون "أقبلت" الخبرَ، و"رواجعا" أيضًا حالٌ. وكان بعضُهم ينصب الاسمَ والخبرَ بعد "لَيْتَ" تشبيهًا لها بـ"ودِدْتُ" و"تَمَنَّيْتُ", لأنّها في معناهما، وهي لغةُ بني تَمِيم. يقولون: "ليت زيدًا قائمًا" كما يقولون: "ظننتُ زيدًا قائمًا". وعليه الكوفيون. والأوّلُ أقْيسُ، وعليه الاعتمادُ، وهو رأيُ البصريين. فأمّا ما حُكي عن عمر بن عبد العزيز، فالخبرُ محذوفٌ، أي: فإنّ ذاك مصدَّقٌ، ولعل مطلوبَك حاصلٌ، فإنّما ساغ حذفُ الخبر ههنا، وإن لم يكن ظرفًا لدليلِ الحال عليه كما يُحْذَف خبرُ المبتدأ عند الدلالة عليه، نحوَ قولك: "مَن القائمُ؟ " فيقال: "زيدٌ"، أي: زيدٌ القائمُ، والجيّدُ أن يقدر المحذوفُ ظرفًا، نحوَ: "إنّ لك ذاك" أي: حَق القَرابة، و"لعلّ لك ذاك"، فالمعنى واحدٌ إلَّا أنه من جهةِ اللفظ جارٍ على منهاجِ القياس. * * * وقوله: "متّ عليه بقرابة" المَتُّ: المَدُّ، والمراد تَدلَّى إليه بقَرابةٍ، والمَواتُّ الوَسائلُ. قال: وقَدُ التُزم حذفُه في قولهم: "لَيْتَ شِعْرِي". يجوز في "قَدُِ" الكسرُ والضمُّ. فالكسرُ أجْودُ لأنه الأصلُ في التقاء الساكنَيْن، والضمُ للإتباع لثِقَلٍ الخُروج مِن كسر إلى ضمّ من نحوِ: {وَعَذَابٍ ارْكُضْ} (¬1)، {وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا} (¬2)، والمراد: قد التُزم حذفُ الخبر، وذلك أن "شِعْرِي" مصدرُ "شَعَرْتُ أشْعُرُ شِعْرًا وشِعْرَة" إذا فطن وعلِم، ولذلك سُمّي الشاعر شاعرًا, لأنه فطن لِما خَفِيَ على غيره، وهو مضافٌ إلى الفاعل. فقولُك: "ليت شعري" بمعنَى: ليت عِلْمي. والمعنى لَيْتَنِي أشْعُرُ. فَـ"أَشْعُرُ" هو الخبرُ، وناب "شعري" الذي هو المصدر عن "أَشْعُرُ". ونابت الياءُ في "شعري" عن اسم "لَيتَ" الذي في قولك: "لَيتَنِي". و"أشْعُرُ" من الأفعال المتعدّية، وقد يُعلَّق عن العمل، فيقال: "ليت شعري أزيدٌ قام أم عمرٌو" ومعنَى التعليق إبطالُ عَمَله في اللفظ وإعمالُه في الموضع، فيكون موضعُ الاستفهام وما بعده نصبًا بالمصدر، فهو داخلٌ في صلته. وقيل: الخبرُ محذوفٌ، وقد ناب معمولُ المصدر عن الخبر، فلم يُظْهِروا خبرَ "ليت" ههنا لسَدّ معمولِ المصدر مَسَدّه, وصار ذلك كقولهم: "لولا زيد لأكرمتُك" في حذفِ الخبر لسَدّ جوابِ "لولا" مسدّه. وقالوا: "ليت شعري زيدٌ عندك أم عند عمرو". رفعوا "زيدًا"، ولم يُعْمِلوا فيه ألمصدَر لأنّه داخلٌ في الاستفهام، وقيل: إنّ الجملة بعد "شعري" في موضع الخبر. والأوّلُ أقْيسُ لعدمِ العائد من الجملة، فاعرفه. ¬
خبر "لا" التي لنفي الجنس
خبر "لا" التي لنفي الجنس فصل قال صاحب الكتاب: "هو في قول أهل الحجاز: "لا رجلَ أفضلُ منك"، و"لا أحدَ خيرٌ منك"، وقولُ حاتم [من البسيط]: 149 - [إذا اللّقاحُ غدتْ مُلْقى أصرَّتُها] ... ولا كَرِيمَ من الوِلْدانِ مصبوحُ يحتمل أمرَيْن: أحدهما أن يترُك فيه طائيّتَه إلى اللغة الحِجازية، والثاني أن لا يجعل "مصبوحًا" خبرًا، ولكن صفة محمولةً على مَحَل "لا" مع المنفيّ، وارتفاعُه بالحرف أيضًا لأن "لا" مَحْذُوّ بها حَذْوَ "إنّ" من حيث إنها نَقِيضتُها ولازمةٌ للأسماء لُزومَها". ¬
قال الشارح: إنّما خصّ أهل الحِجاز دون غيرهم, لأنّ أهلَ الحجاز يُظْهِرون الخبرَ فيظهَر فيه العملُ، وبنو تَمِيم لا يُظْهِرونه ألبتةَ فلا يظهَر فيه عملُ "لَا". واعلم أنّ "لا" النافيةَ على ضربَيْن: عاملةٌ وغيرُ عاملة. فالعاملةُ التي تنفي على جهةِ استغراقِ الجنس, لأنها جوابُ "ما كان" على طريقةِ "هل من رجلٍ في الدار"؟ فدُخولُ "مِنْ" في هذا لاستغراق الجنس، ولذلك تختصّ بالنكرات لشُمولها. ألا ترى أنه لا يجوز "هل من زيدٍ في الدار؟ " كما يجوز "هل زيدٌ في الدار؟ " فهذه التي لاستغراقِ الجنس عاملةٌ النصبَ فيما بعدها من النكرات المفردةِ، ومبنيةٌ معها بناء "خمسةَ عشرَ"، وإنّما استحقّت أن تكون عاملةَ لشَبَهها بـ "إِنَّ" الناصبة للأسماء. ووَجْهُ الشَّبَه بينهما أنها داخلةٌ على المبتدأ والخبر كما أن "إنّ" كذلك، وأنّها نَقِيضةُ "إنَّ" لأن "لا" للنفي و"إنَّ" للإيجاب، وحَقّ النقيض أن يُخْرَج على حَد نقيضه من الإعراب، نحو: "ضربتُ زيدًا"، و"ما ضربتُ زيدًا"، فقولك: "ضربت زيدًا" فعل وفاعلٌ ومفعولٌ، وقولك: "ما ضربت زيدًا" نفىٌ لذلك، ومع ذلك فقد أعربتَه إعرابه من حيث كان نقيضَه يُشْعِر بمعنى الرفع له. فلمّا أشبهت "لا" "إنَّ" وكانت "إنَّ" عاملة في المبتدأ والخبر؛ كانت "لا" كذلك عاملة في المبتدأ والخبر، لأنها تقتضيهما جميعًا كما تقتضيهما "إنَّ". ولمّا نصبوا بها, لم تعمل إلَّا في نكرة على سبيلِ حرفِ الخفض الذي في المسألة، لائها كالنائبة عنها، إلا أن "لا" بُنيت مع النكرة؟ لأتها لمّا وقعت في جواب "هل من رجلٍ عندك؟ " على سبيلِ الاستغراق، وجب أن يكون الجوابُ أيضًا بحرفِ الاستغراق الذي هو "مِنْ"، ليكون الجوابُ مطابقًا للسؤال فكان قياسُه "لا من رجلٍ في الدار"، ليكون النفيُ عامًّا كما كان السؤالُ عامًّا، ثم حُذفتْ "مِنْ" من اللفظ تخفيفًا، وتَضمَّن الكلامُ معناها. فوجب أن يُبْنَى لتضمّنه معنى الحرف كما بُني "خمسةَ عشرَ" حين تَضمَّن معنى حرفِ العَطْف. فإن قيل: أيكون الحرفُ مع الاسم اسمًا واحدًا؟ قيل: هذا موجودٌ في كلامهم، ألا ترى أَنَّك تقول: "قد علمتُ أن زيدًا منطلقٌ"، فـ"أنَّ" حرف، وهو مع ما عمِل فيه اسمٌ واحدٌ، والمعنى: علمتُ انطلاقَ زيد، وكذلك "أن" الخفيفةُ مع الفعل المضارع إذا قلت: "أُرِيدُ أن تقومَ"، والمعنى: أريد قِيامَك. فكذلك "لا" والاسمُ المنكرُ بعدها بمنزلة اسم واحد. ونظيره قولك: "يا ابنَ أُمِّ، فالاسمُ الثاني في موضع خفض بالإضافة وجُعلا اسمًا واحدًا، وكذلك "لا رجلَ في الدار" فـ "رَجُلَ" في موضع منصوب منوَّنٍ، لكنّه جُعل مع "لا" اسمًا واحدًا. ولذلك حُذف منه التنوينُ، وبُني على حركةٍ، لأن له حالة تمكُّن قبل البناء، فمُيّز بالحركة عمّا بُني من الأسماء، ولم يكن له حالةُ تمكُّن، نحو: "منْ" و"كَمْ". وخُصّ بالفتحة لأنّها أخفُّ الحركات، وليس الغرضُ إلَّا تحريكَه، فلم يكن بنا حاجة إلى تكلُّف ما هو أثقلُ منها، فلذلك نقول: "لا رجلَ عندك، ولا غلامَ لك"، تريد
النفيَ العامّ. قال الله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (¬1). وقال: {لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} (¬2)، وموضع "لا" وما عملت فيه مبتدأ, لأنها جوابُ ما حالُه كذلك، ألا ترى أنّ قولك: "هل من رجل في الدار؟ " في موضع رفع بالابتداء؟ كذلك "لا رجل". فإن قدّرت دخولَها على كلام قد عمل غيرُها فيه، لم تعمل فيه شيئًا، وكان الكلامُ على ما كان عليه مُوجبًا، وذلك قولُك: "أزيدٌ في الدار أم عمرو؟ " فتقول: "لا زيدٌ في الدار ولا عمرٌو". وكذلك تقول: "أرجلٌ في الدار أم امرأةٌ؟ " والجوابُ: لا رجلٌ في الدار ولا امرأةٌ. وكذلك إنْ جعلتها جوابًا، كقولك: "هل رجلٌ في الدار"؟ قلت: "لا رجلٌ في الدار". وهذا قليلٌ إذ كان التكريرُ والبناءُ أغلب عليها، وكان هذا في مواضع "لَا" و"نَعَمْ". واعلم أنّه قد ذهب الكوفيون (¬3) وأبو إسحاق الزجّاجُ وجماعةٌ من البصريين إلى أنّ حركة "لا رجلَ"، و"لا غلامَ" حركةُ إعراب، واحتجّوا لذلك بقولهم: "لا رجلَ وغلامًا عندك"، بالعطف على اللفظ، فلولا أنّه معربٌ، لم يجز العطفُ عليها لأن حركة البناء لا يُعْطَف عليها؛ لأنّه إنما يُعْطَف للاشتراك في العامل. والقول هو الأوّل لحذف التنوين منه، إِذ لو كان معربًا لثبت فيه التنوين كما ثبت في قولك: "لا خيرًا منك في الدار"، ونحو ذلك من الموصوفات. وأمَّا قولهم: إنه جاز العطفُ على اللفظ، نحو: "لا رجل وغلامًا"، فتقول: إنّما جاز كما جاز فيه الوصف على اللفظ، نحو: "لا رجلَ ظريفًا" بالتنوين، وذلك من قِبَل أنها، وإن كانت حركة بناء، فهي مشبَّهةٌ بحركة الإعراب، وذلك لاطرادها في كل نكرةٍ منفيةٍ بـ"لا" من غير اختصاص باسم بعَيْنه، فجرتْ لذلك مجرى العامل الذي يعمل في كل اسم يباشِره ويلاقِيه. ومثله الضمّةُ في الاسم المفرد المنادَى العَلَمِ، نحو: "يا حَكَمُ"، لاطرادها في كلّ منادى مفردٍ علمٍ. واعلم أن أصحابنا قد اختلفوا في رفع خبر "لا" فذهب بعضهم إلى أنها لا تعمل في الخبر لضُعْفها عن العمل في شيئين بخلاف "إنَّ" فإنّها مشبَّهةٌ بالفعل، فنصبت، ورفعت كالفعل، و"لا" هذه لا تُشْبِه الفعلَ، وإنّما تُشْبِه "إنَّ" المشدَّدة، فجرت مجرى الحروف الناصبة للفعل، نحو: "أن" و"لَنْ"، وهي لا ترفع شيئًا كذلك هذه. وذهب أبو الحسن ومن يتبعه إلى أنّ "لا" هذه ترفع الخبرَ، وذلك لأنها داخلة على المبتدأ والخبر، فهي تقتضيهما جميعًا. وما اقتضى شيئين وعمل في أحدهما، عمل في الآخر. وليس كذلك نواصبُ الأفعال، لأنّها لا تقتضي إلا شيئًا واحدًا وهو المختارُ. وأمّا الكوفيون فالخبرُ عندهم مرفوعٌ بالمبتدأ على ما كان، وهي قاعدتهم في "إنَّ" وأخواتها (¬4). ¬
فصل [حذف خبر "لا" النافية للجنس]
فصل [حذف خبر "لا" النافية للجنس] قال صاحب الكتاب: "ويحذفه الحجازيون كثيراً, فيقولون: "لا أهل، ولا مال"، و"لا بأس"، و"لا فتى إلا عليّ", و"لا سيف إلا ذو الفقار". ومنه كلمة الشهادة, ومعناها لا إله في الوجود إلا الله, وبنو تميم لا يثبتونه في كلامهم أصلاً". * * * قال الشارح: اعلم أنّهم يحذفون خبر "لا" من "لا رجلَ ولا غلامَ"، و"لا حَوْلَ ولا قوّة" وفي كلمة الشهادة؛ نحو: "لا إله إلا اللهُ"، والمعنى: لا رجلَ ولا غلامَ لنا، ولا حول ولا قوّة لنا، وكذلك لا إله في الوجود إلّا الله، ولا أهلَ لك، ولا مالَ لك، ولا بَأْسَ عليك، ولا فَتَى في الوجود إلا علىٌّ، ولا سيفَ في الوجود إلَّا ذو الفَقار. فالخبرُ الجارُّ مع المجرور، وهو محذوفٌ، ولا يصحّ أن يكون الخبر "اللهُ" في قولك: "لا إله إلا الله". وذلك لأمرين: أحدهما أنَّه معرفةٌ و"لا" لا تعمل في معرفة. الثاني أنّ اسم "لا" هنا عامٌ؛ وقولك: "إلا الله" خاصُّ، والخاصُّ لا يكون خبرًا عن العامّ. ونظيره: "الحَيَوانُ إنسانٌ"، فإنّه ممتنعٌ, لأن في الحيوان ما ليس بإنسان، وقولك: "الإنسانُ حَيَوانٌ" جائزٌ لأنّ الإنسان حيوانٌ حقيقةً، وليس في الإنسان ما ليس بحيوان، ويجوز إظهارُ الخبر، نحو: "لا رجلَ أفضلُ منك"، و"لا أحد خيرٌ منك"، هذا مذهبُ أهل الحجاز. وأمّا بنو تميم فلا يجيزون ظهورَ خبرِ "لا" ألبتّة، ويقولون هو من الأصول المرفوضة، ويتأوّلون ما ورد من ذلك، فيقولون في قولهم: "لا رجل أفضلُ منك": إِنَّ "أفضلُ" نعتٌ لـ "رجل" على الموضع. وكذلك "خيرٌ منك" نعتٌ لـ "أحَدَ" على الموضع. وكان أبو العبّاس المبرَّد يُجوِّز أن يكون "أفضلُ منك" مرفوعًا بـ"لا" على الخبر، ويجوز أن يكون رفعًا بخبرِ الابتداء إذ كانت "لا" وما بعدها في موضع ابتداء على ما تقدّم، وأمّا النبي الذي هو [من البسيط]: ولا كريمَ من الوِلْدان مصبوحُ فأنشده لحاتم الطائيّ، وما أظُنُّه له. قال الجَرْميّ: هو لأبي ذُؤَيْب الهُذَليّ وقبله: هلّا سَأَلْتِ هَداكِ الله ما حَسَبِي ... عند الشِّتاء إذا ما هَبّتِ الرِّيحُ وَردَّ جازِرُهم حَرْفًا مصرَّمة ... ولاكريمَ من الوِلْدان مصبوحُ المصبوح: الذي سُقيَ اللَّبَنَ صَباحًا. وصف سنةً شديدة الجَدْب، قد ذهبت بالمرتفق، فاللبنُ عندهم متعذرٌ، لا يسقاه الوليدُ الكريمُ فضلًا عن غيره لعدمه، فجازرهم يرّد عليهم من المَرْعَى ما ينحَرونه للضَّيْف، إذ لا لَبَنَ عندهم. والحَرْف: الناقة المُسِنّة.
ومصبوح: يجوز أن يكون صفةً للمنفيّ على الموضع ويُضْمَر الخبر، وعليه بنو تميم، ويجوز أن يكون خبرًا كما قال أهلُ الحجاز، واختاره الجَرْميُّ. فإن قيل لِمَ جاز اطرادُه في المنفيّ، نحو: "لا رجلَ، ولا غلامَ، ولا مَلْجَأ"، ولم يطرِد في الإثبات، نحو: "إنّ مالاً، وإنّ إبلًا؟ " فالجوابُ: إنّ عُمومَ النفي ينِّبىء عن معنى الخبر، وليس للإثبات عمومٌ كعمومِ النفي، فإن أردت خبرًا خاصًّا لم يكن بُدٌّ من ذِكْره، نحو: "لا رجل في الدار", لأن عموم النفي لا يدلّ على الخبر الخاصّ، فإن وقع النفيُ في جواب "هل من رجل في الدار؟ " مصرَّحًا به، فقلتَ في جوابه: "لا رجلَ"، ومعناه: في الدار، جاز، وإن لم تذكره لتقدُّمِ ذكره ودلالةِ ما سبق عليه.
اسم "لا" و"ما" المشبهتين بـ "ليس"
اسم "لا" و"ما" المشبَّهتين بـ "ليس" فصل قال صاحب الكتاب: "هو في قولك: ما زيدٌ منطلقًا, ولا رجل أفضل منك, وشبههما بـ "ليس" في النفي, والدخول على المبتدأ والخبر, إلا أن "ما" أوغل في الشبه بها لاختصاصها بنفي الحال. ولذلك كانت داخلة على المعرفة والنكرة جميعًا فقيل ما زيد منطلقاً، وما أحد أفضل منك. ولم تدخل "لا" إلا على النكرة, فقيل: "لا رجلٌ أفضل منك"، وامتنع "لا زيدٌ منطلقًا", واستعمال "لا" بمعنى "ليس" قليلٌ ومنه بيت الكتاب [من مجزوء الكامل]: 150 - من صدَّ عن نيرانها ... فأنا ابن قيس لا براح ¬
قال الشارح: اعلم أنّ "ما" حرفُ نفي يدخل على الأسماء والأفعال. وقياسه أن لا يعمل شيئًا، وذلك لأن عوامل الأسماء لا تدخل على الأفعال، وعوامل الأفعال لا تدخل على الأسماء على حدِّ همزة الاستفهام، و"هل". ألا ترى أنك لمّا قلت: "هل قام زيدٌ؟ " و"هل زيدٌ قائمٌ؟ " فولِيَه الفعلُ والفاعل، والمبتدأ والخبرُ، لم يجز إعمالها في شيء من الأسماء والأفعال لعدم اختصاصها؟ فهذا هو القياسُ في "ما"؛ لأنّك تقول: "ما قام زيدٌ" كما تقول: "ما زيدٌ قائمٌ"، فيَلِيها الاسمُ والفعلُ، غير أنّ أهل الحجاز يشبهونها بـ"لَيْسَ" ويرفعون بها الاسم، وينصبون بها الخبر كما يُفْعَل بـ "لَيْسَ". كذلك تقول: "ما زيدٌ منطلقًا"، و"ما أخوك خارجًا"، فاللغة الأولى أقيسُ، والثانيةُ أفصحُ، وبها ورد الكتابُ العزيزُ قال الله تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا} (¬1)، وقال: {مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} (¬2). ويُرْوَى عن الأصمعي أنّه قال ما سمعته في شيء من أشعار العرب، يعني نصبَ خبر "ما" المشبَّهة بـ "لَيْسَ"، و"ما" هذه، وإن كانت مشبَّهةً بـ "ليس" وتعمل عَمَلَها، فهي أضعفُ عملًا منها, لأنّ "لَيْسَ" فعلٌ و"ما" حرفٌ، ولذلك من الضُّعْف إذا تقدّم خبرُها على اسمها أو دخل حرفُ الاستثناء بين الاسم والخبر؛ بطل عملُها، وارتفع ما بعدها بالابتداء والخبر، نحو قولك: "ما قائمٌ زيدٌ"، و"ما مُسِيءٌ من أعْتَبَ"، و"ما زيدٌ إلَّا قائمٌ". قال الله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ} (¬3)؛ وأمّا "لَيْسَ" فإنّها تعمل على كلّ حال. تقول: "ليس زيدٌ قائمًا"، و"ليس قائمًا زيدٌ"، و"ليس زيدٌ إلَّا قائمًا"، ووجه الشبه بين "لَيْسَ" و"ما" أنّهما جميعًا لنفي ما في الحال، وأنّ "لَيْسَ" مختصّةٌ بالمبتدأ والخبر، فإذا دخلت "ما" على المبتدأ والخبر، أشبهتها من جهة النفي ومن جهة الدخول على المبتدأ والخبر، وكذلك إذا قلتَ: "ما زيدٌ إلَّا قائمٌ"، لم يكن لها عملٌ لانتقاض النفي بدخولِ "إلَّا"، وكذلك إذا تقدّم الخبرُ، نحوَ: "ما قائمٌ زيدٌ", لأن نَضْدَ الابتداء والخبرِ قد غُيِّرَ. وذهب الكوفيون (¬4) إلى أن خبرَ "ما" في قولك: "ما زيدٌ قائمًا" ليس منتصبًا بـ "ما"، وإنّما هو منصوبٌ بإسقاط الخافض، وهو الباء كأنّ أصله: "ما زيدٌ بقائم". فلمّا سقطت الباء انتصب الاسمُ. وهذا غير مرضيّ, لأنّ الخافض إذا سقط إنّما ينتصب الاسمُ بعده إذا كان الجارُّ والمجرورُ في موضع نصب، فإذا سقط الخافض، وصل الفعل أو ما هو في معناه إلى المجرور، فنَصَبَه. فالنصبُ إنّما هو بالفعل المذكور لا بسقوط الخافض. ألا ترى أنك تقول: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬5)، فيكون ¬
الاسمُ مجرورًا بالباء، فإذا سقطت الباءُ كان الاسم مرفوعًا، نحو: "كفى الله"؛ لأنّه لم يكن موضعهما نصبًا بل رفعًا. وكذلك تقول: "بحَسْبك زيدٌ"، فإذا سقط الخافضُ، قلت: "حَسْبُك زيدٌ" بالرفع؛ لأنه كان في موضع مبتدأ. وكذلك تقول: "ما جاءني من أحدٍ". وتقول: "ما جاءني أحدٌ" فترفع, لأنّ موضعه كان مرفوعًا، فبان بما ذكرته أنّ خبر "ما" ليس منصوبًا بما ذكروه من سقوطِ الباء، وإنّما هو بنفس الحرف الذي هو بنفس الحرف الذي هو "ما" للشَّبَه الذي ذكرناه. وأمّا بنو تميم فإنّهم لا يُعْمِلونها ويجرون فيها على القياس ويجعلونها بمنزلةِ "هَلْ" والهمزة، ونحوهما ممّا لا عملَ له لعدمِ الاختصاص على ما تقدّم. وأمّا "لَا" المشبّهة بـ "ليس" فحُكْمُها حكمُ "ما" في الشَّبَه والإعمال. ولها شرائطُ ثلاثٌ: أحدها أن تدخل على نكرة، والثاني أن يكون الاسمُ مقدَّمًا على الخبر. والثالث أن لا يُفْصَل بينها وبين الاسم بغيره، فتقول: "لا رجلٌ منطلقًا" كما تقول: "ليس زيدٌ منطلقًا"، ويجوز أن تدخل الباء في خبرها لتأكيد النفي كما تدخل في خبر "لَيْسَ" و"ما"، تقول: "لا رجلٌ بقائم" كما تقول: "ليس زيدٌ بقائم". وبجوز حذف الخبر منه. قال سَعْدُ بن مالك: مَن صَدَّ عن نِيرانها ... إلخ وصف نفسه بالشجاعة والثبات في الحرب. إذا فَرَّ الأقرانُ، والهاء في "نيرانها" تعود إلى الحرب، جعل "لا" بمنزلةِ "ليس"، ورَفَعَ "براح" بها، والخبرُ محذوف، وتقديره: لا بَراحٌ لي. ويجوز أن يكون رفع "براح" بالابتداء وحذف الخبرَ، وهو رأيُ أبي العَبَّاس المبرَّد (¬1) والأوّل أجود, لأنّه كان يلزم تكريرُ "لا"، كقوله تعالى: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ} (¬2). هذا رأيُ سيبويه (¬3). ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (¬4) هي لا هذه دخلت عليها التاء لتأنيث الكلمة, لأنّ "لا" كلمةٌ، ومثلها تاء "ثُمَّت". وقيل: دخلت للمبالغة في النفي كما قالوا: "علّامةٌ" و"نَسَّابةٌ". والتقدير: ولات حينٌ نحن فيه حينَ مناص، فالاسمُ محذوف إلَّا أنَّ عملها مختصٌ بـ"الحين" فَلِـ"لَاتَ" حالٌ مع "الحين"، ليست لها مع غيره، كما كان لـ"لَدُنْ" مع "غدْوَةٍ" حين نَصَبَها، نحو: "لدن غدوةً". ولا يكون اسمها إلَّا مضمرًا، وقد شبّهها سيبويه بـ"لَيْسَ"، ولا يَكُون في الاستثناء من حيث إِنَّ اسمها لا يكون إلَّا مضمرًا، من نحو: "أتاني القوم ليس زيدًا، ولا يكون زيدًا"، والتقدير: ليس بعضهم زيدًا، ولا يكون بعضهم زيدًا، وكذلك "لَاتَ" مع "الحين"، وقد ¬
قالوا: "لات حينُ مناص" بالرفع على أنَّه الاسم، والخبرُ محذوف. وهو قليل والأوّلُ أكثر. و"ما" أقعدُ وأوغلُ في شَبَه "ليس" لأن "ما" لنفي ما في الحال لا غير، و"لا" قد يكون لنفي الماضي، نحو قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (¬1)، أي: لم يُصدق ولم يُصَلِّ. ومنه قول الشاعر [من الرجز]: 151 - وأيُّ أَمْرِ سَيِّىءٍ لا فَعَلَهْ أي: لم يفعله، فلمَّا كانت "ما" أَلْزَمَ لنفي ما في الحال، كانت أوغلَ في الشَّبَه بـ "ليس" من "لا"، فلذلك قَلَّ استعمالُ "لا" بمعنى "ليس"، وكثر استعمالُ "ما". فكانت لذلك أعمَّ تصرُّفًا، فعمِلت في المعرفة والنكرة، نحو: "ما زيدٌ قائمًا"، و"ما أحدٌ مثلك"، و"لا" ليس لها عملٌ إلَّا في النكرة، نحو: "لا رجلٌ أفضل منك". وقال أبو الحسن الأخفش: "لا" و"لَاتَ" لا يعملان شيئًا, لأنّهما حرفان، وليسا فعلَيْن. فإِذا وقع بعدهما مرفوع، فبالابتداء، والخبر محذوف، وإذا وقع بعدهما منصوب، فبإِضمار فعل. فإذا قال: "ولات حين مَناص"، كان التَقدير: ولا أرى حين مناص. ونحو قول جَرِير [من الوافر]: 152 - فلا حَسَبا فَخَرْتَ به لتَيْمٍ ... ولاجَدًّا إذا ازْدَحَمَ الجُدُودُ ¬
على تقدير: فلا ذكرتُ حسبًا. كذلك في "لاتَ". ¬
ذكر المنصوبات
ذكر المنصوبات المفعول المطلق فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: "هو المصدر, سمي بذلك لأن الفعل يصدر عنه, ويسميه سيبويه الحدث والحدثان (¬1) , وربما سماه الفعل, وينقسم إلى مبهم, نحو: "ضربت ضربًا", وإلى موقَّت, نحو: "ضربتُ ضربةً وضربتين"". * * * قال الشارح: اعلم أنّ المصدر هو المفعول الحقيقي لأن الفاعل يُحْدِثه ويُخْرِجه من العَدَم إلى الوجود، وصِيغَة الفعل تدلّ عليه، والأفعال كلها متعدّيةٌ إليه سواء كان يتعدّى الفاعل أو لم يتعدَّه، نحو: "ضربتُ زيدًا ضَرْبًا"، و"قام زيدٌ قِيامًا". وليس كذلك غيرُه من المفعولين، ألا ترى أنَّ زيدًا من قولك: "ضربتُ زيدًا" ليس مفعولًا لك على الحقيقة، وإنّما هو مفعولٌ لله سُبحانَه، وإنّما قيل له: مفعولٌ على معنى أن فعْلك وقع به، وإنما سُمْي مصدرًا لأنّ الفعل صدر عنه، وأُخذ منه، ولهذا قيل للمكان الذي يصدُر عنه الإبل بعد الريّ: مصدرٌ، كما قيل: مَوْرِدٌ لمكان الورود، ويسمّيه سيبويه الحَدَث والحدَثَان، وذلك لأنّها أحداثُ الأسماء التي تُحْدِثها، والمراد بالأسماء: أصحابُ الأسماء، وهم الفاعلون، وربّما سمّاه الفِعْلَ من حيثُ كان حركة الفاعل. واعلم أنّ الأفعال مشتقّةٌ من المصادر كما أن أسماء الفاعلين والمفعولين مشتقَّةٌ منها، ولذلك قال: لأن الفعل صدر عنه، وإنّما قلنا ذلك لأنّ المصادر تختلف كما يختلف سائرُ أسماء الأجناس، ألا تراك تقول: "ضربتُ ضَرْبًا"، و"ذهبتُ ذَهابًا"، و"قعدتُ قُعُودًا"، و"كذبتُ كِذابًا"، ولم تأتِ على منهاج واحد، ولو كانت مشتقَّةً من الأفعال، لَجَرَتْ على سنن واحد في القياس، ولم تختلف كما لم تختلف أسماء الفاعلين والمفعولين؟ ألا ترى أن الفاعل من الثُّلاثيّ يأتي على "فاعلٍ" لا يختلف، نحو: ضَرَبَ فهو ضارِبٌ، وقتل فهو قاتلٌ، ومن ¬
الرُّباعيّ على "مُفْعِل"، نحو: أَخْرَجَ فهو مُخْرِجٌ، وأكرم فهو مُكرِمٌ، ومن "فَاعَلَ" على "مُفاعِلٍ"، نحوَ: ضَارَبَ فهو مُضارِبٌ، وقاتَلَ فهو مُقاتِل، فلمّا اختلفت المصادرُ كاختلاف أسماء الأجناس، نحو: "رَجُل" و"فَرَسٍ" و"غُلَامٍ"، ولم تكن على منهاج واحد كأسماء الفاعلين، والمفعولين دلّ على أنّها الأصل. وممّا يدلّ على أن المصادر أصلٌ وأنّ الأفعال مشتقةٌ منها أنّ الفعل يدلّ على الحَدَث والزمان، ولو كانت المصادر مشتقَّةً من الأفعال، لَدَلَّتْ على ما في الأفعال من الحدث والزمان، وعلى معنى ثالثٍ كما دلّت أسماءُ الفاعلين والمفعولين على الحدث وذاتِ الفاعل والمفعول، وكذلك كلُّ مشتقّ يكون فيه الأصلُ وزيادةُ المعنى الذي اشتُقّ له، فلمّا لم تكن المصادرُ كذلك، عُلم أنها ليست مشتقّة من الأفعال، وذهب الكوفيون (¬1) إلى أنّ الأفعال هي الأصلُ، والمصادر مشتقّةٌ منها، واحتجّوا في ذلك بأنّ المصادر تعتلّ باعتلال الأفعال وتصِحّ بصحّتها، ألا ترى أنّك تقول: "قام قيامًا"، فيعتل المصدرُ اعتلال ألفه باعتلال عين الفعل تقلبها ألفًا، وتقول: "لَاوَذَ لِواذًا" فيصحّ المصدرُ وإن كان على زِنته لصحة فِعْله، وهو "لَاوَذَ". وقالوا أيضًا: رأينا الفعلَ عاملًا في المصدر، ورتبةُ العامل أن يكون قبل المعمول، ومقدَّمًا عليه. وهذا الذي ذكروه لا حجّة لهم فيه؛ أمّا قولهم إنّه يعتلّ باعتلالِ الفعل، ويصحّ بصحّته فلا يدل على أنّ المصدر فرعٌ، لأنّه يجوز أن يعتلّ الفرعُ باعتلالِ الأصل لما بينهما من الملابَسة طَلَبًا للتشاكُل، ولا يدل على أنّه أصلٌ، ألا ترى أنّ بعض الأفعال قد تعتل باعتلالِ الآخر، ولا يدلّ ذلك على أن بعضها أصلٌ لبعض؟ ألا ترى أنّك قلت: "أَقَامَ "، و"أقَالَ"، فأعللتَهما بقلبِ عينهما ألفا بالحمل على "قَامَ" و"قَال" حين اعتلّا لتَجْرِيَ الأفعال على سنن واحد ومنهاح واحد في الاعتلال والصحّةِ؟ وكذلك قالوا: "أَغْزَيْتُ"، و"ادَّعَيْتُ"، فقلبوا الواو ياءً حملًا على "يُغزِي" و"يَدَّعِي"، فقد رأيتَ كيف اعتلّ كل واحد من الأفعال لاعتلال الآخر، ولا يدلّ على أنّ بعضها فرعٌ على بعض. وأمّا قولهم: إِنَّ الأفعال تكون عاملة في المصادر، فنقول يجوز أن تكون عاملة فيها، ولا تكون أصلًا لها، وذلك لأنّا قد أجمعنا على أنّ الأفعال والحروف عاملةٌ في الأسماء، ولم يقل أحدٌ: إِنها أصلٌ لها. كذلك ههنا. وأمّا قوله: وينقسم إلى مُبْهَم، نحو: "ضربتُ ضَرْبًا"، وإلى موقَّت، نحو: "ضربتُ ضَرْبَةً وضربتَيْن"، فالمعنى به أنّ المصدر يُذْكَر لتأكيد الفعل، نحو: "قُمْتُ قِيامًا"، و"جلستُ جُلُوسًا"، فليس في ذكر هذه المصادر زيادة على ما دل عليه الفعلُ أكثرُ من أنك أكدت فعلَك. ألا ترى أنّك إذا قلت: "ضربتُ" دلّ على جنسِ الضرب مُبْهَمًا من ¬
فصل [ما يأتي مفعولا مطلقا]
غيرِ دلالة على كَمْيّته، أو كَيْفيّته؟ فإذا قلت: "ضربتُ ضَرْبًا"، كان كذلك، فصار بمنزلة "جاءني القومُ كلُّهم" من حيثُ لم يكن في "كلّهم" زيادةٌ على ما في القوم. ويُذْكَر لزيادة فائدة على ما في الفعل، نحو قولك: "ضربتُ ضَرْبة وضربتَيْن"، فالمصدرُ ههنا قد دلّ على الكَمّيّة, لأن بِذْكره عرفت عددَ الضَّرَبات، ولم يكن ذلك معلومًا من الفعل، ومثله في زيادة الفائدة: "ضربتُه ضربًا شديدًا"، و"قمتُ قِيامًا طويلًا" أفدتَ أنّ الضرب شديدٌ، والقيامَ طويلٌ. وقوله: "موقَّت" يعني أن له مقدارًا معيَّنًا، وإن لم يتعيّن هو في نفسه كما تقول في الأَزْمِنة: "سِرْتُ يومًا وليلةً"، فيكون لها مقدارٌ معيَّنٌ، وإن لم يتعيّن اليومُ والليلةُ، ومثله في الأمكِنة: "سرتُ فَرْسَخًا ومِيلًا"، فهو موقَّتٌ لأنّ له مقدارًا معيَّنًا، وإن لم يتعيِّنا في أنفسهما، فاعرفه. فصل [ما يأتي مفعولاً مطلقًا] قال صاحب الكتاب: "وقد يقرن بالفعل غير مصدره مما هو بمعناه, وذلك على نوعين: مصدر وغير المصدر. فالمصدر على نوعين؛ ما يلاقي الفعل في اشتقاقه كقوله تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتاً} (¬1)، وقوله تعالى: {وتبتل إليه تبتيلاً} (¬2). وما لا يلاقيه فيه, كقولك: "قعدت جلوسًا"، و"حبست منعًا". وغير المصدر نحو قولك: "ضربته أنواعًا من الضرب، وأيَّ ضرب"، ومنه "رجع القهقري"، و"اشتمل الصماء"، و"قعد القرفصاء"، لأنها أنواعٌ من الرجوع والاشتمال والقعود, ومنه "ضربته سوطًا"". * * * قال الشارح: قد تقدّم أنّ المصدر أحدُ المفعولات، ودلالة الفعل عليه كدلالته على الزمان؛ لأنّ الفعل يتضمّن كل واحد منهما. والفعلُ إنما ينصب ما كان فيه دلالةٌ عليه، فالفعلُ يعمل في مصدره بلا خلاف، نحو: "قمتُ قيامًا"، و"ضربتُ ضربًا" لقُوّة دلالته عليه إذ كانت دلالته عليه لفظيّةً. وكذلك يعمل فيما كان في معناه وإن لم يكن جاريًا عليه. وهو على ضربين: أحدهما أن يكون من لفظ الفعل وحروفه، وهذا معنى قوله: "ما يلاقي الفعلَ في اشتقاقه"، يريد أنّ فيه حروف الفعل. والثاني ما لا يكون فيه لفظُ الفعل، ولا فيه حروفه. فالأولُ نحو قولك: "اجْتَوَرُوا تَجاوُرًا" و"تَجاوَرُوا اجْتِوارًا", لأنّ معنى "اجتوروا" و"تَجَاوَروا" واحدٌ، ومثله قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} (¬3). ألا ترى أنّ "التبتيل" ليس بمصدر "تَبَتَّلَ"، وإنّما هو مصدر "بَتَّلَ"، فهو فَعَّلَ مثل "كَسَّرَ". ومصدره ¬
الجاري عليه "التَّكْسِيرُ" و"تَبَتلَ" تَفَعَّلَ مثل "تكسّر" و"تجرّع". ومصدره إنّما هو"التبَتُّلُ" مثل "التجرُّع"، فجرى "التبتيلُ" على "تَبَتَلَ" وليس له في الحقيقة؛ لأن معناهما يؤول إلى شيء واحد، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (¬1)، فـ"نباتٌ" في الحقيقة مصدر "نَبَت"، وقد جرى على "أَنْبَتَ"، وفي قراءة ابن مَسْعُود {وأنْزَلَ تَنْزِيلًا} (¬2) إذ معنى "أَنْزَلَ" و"نَزَّلَ" واحدٌ، ومنه بيت الكتاب [من الوافر]: 153 - وخَيْرُ الأَمْرِ ما استقبلتَ منه ... وليس بأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّباعًا فإنه أكد قوله: "تتّبعه" بقوله: "اتّباعًا". و"اتِّباعٌ" افتعالٌ، وهو في الحقيقة مصدر. وقياسه أن يقول: "تَتَبُّعًا"، ولكن لمّا كان معنى "تَتَبّعَ"، و"اتَّبَعَ" واحدًا، أكَّدَ كلَّ واحد منهما بمصدر صاحبه، وقال رُؤْبَة [من الرجز]: 154 - وقد تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الحِضْبِ ¬
الحِضْب بالحاء غير المعجمة والضاد المعجمة: الحَيَّةُ. لأنّ "تَطَوَّيتُ" و"انْطَوَيتُ" في المعنى واحدٌ. وهكذا كل مصدرَيْن يرجعان إلى معنى واحد، فهذه المصادر أكثر النحويّين يُعْمِل فيها الفعلَ المذكورَ لاتّفاقهما في المعنى، وهو رأيُ أبي العَبّاس المبرَّد والسِّيرافيّ. وبعضهم يُضْمِر لها فعلًا من لفظها فيقول: التقدير: اجتوروا فتجاوروا تجاوُرًا، وتجاوروا فاجتوروا اجتوارًا. وكذلك قوله تعالى: {أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} (¬1) أي: أنبتَكم فنَبَتُّم نَباتًا. فتكون هذه المصادر منصوبة بفعل محذوف دلّ عليه الظاهر، وهو مذهبُ سيبويه (¬2). وأمّا الضرب الثاني، وهو ما لا يلاقي الفعل في الاشتقاق بأن يكون من غير لفظه وإن كان معناهما متقارِبًا، نحو قولك: "شَنِئْتُه بُغْضَا"، و"أبغضتُه كَراهَةً"، و"قعدتُ جُلوسًا"، و"حبستُ مَنْعًا"، فأكثرُ النحويين يُجيز أن يعمل الفعلُ في مصدر الآخر، وإن لم يكن من لفظه لاتِّفاقهما في المعنى، نحو: "أعْجبَني الشيء حُبًّا", لأنه إذا أعجبَك فقد أحببتَه. قال الشاعر [من الرجز]: 155 - يُعْجِبُه السَّخُونُ والبُرودُ ... والتَّمْرُ حُبًّا ما له مَزِيدُ ¬
فصل [المصادر المنصوبة بأفعال مضمرة]
وقالوا: "رُضْتُه إذْلالًا". وذهب الآخرون إلى أنّ الفعل لا يعمل في شيء من المصادر إلَّا أن يكون من لفظه، نحو: "قمتُ قيامًا", لأنّ لفظه يدلُّ عليه إذ كان مشتقًّا منه. وما كان ممّا تقدّم ذكره، نحو: "قعدتُ جلوسًا"، و"حبستُ منعًا"، فهو منصوبٌ بفعل مقدَّر دلّ عليه الظاهرُ، فكأنّك قلت: "قعدتُ، فجلستُ جلوسًا"، و"حبست، فمنعت منعًا". وكذلك كلُّ ما كان من هذا الباب، وهو رأيُ سيبويه (¬1)؛ لأنّ مذهبه أنّه إذا جاء المصدر منصوبًا بعد فعلٍ ليس من حروفه كان انتصابه بإضمار فعل من لفظِ ذلك المصدر؛ فأمّا: قولهم: "ضربتُه أنواعًا من الضرب، وأيَّ ضربٍ، وأيَّما ضربٍ" فهذه تعمل فيها الأفعالُ التي قبلها بلا خلاف، وانتصابُها على المصدر. والحق فيها أنهاَ صفاتٌ قد حُذفت موصوفاتُها، فكأنّه إذا قال: "ضربتُه أنواعًا من الضرب" فقد قال: "ضربتُه ضربًا متنوِّعًا"، أي: مختلفًا. وإذا قال: "أيَّ ضرب، أيَّما ضربٍ"، فقد قال: "ضربتُه ضربًا. أيَّ ضرب وأيّما ضربٍ" على الصفة، ثمّ حُذفَ الموصوف، وأُقيم الصفة مقامه. وأمّا "رجع القَهْقَرى"، و"اشتمل الصَّمّاء"، و"قعد القُرْفَصاءَ" فقال قال سيبويه (¬2): إِنَّها مصادر وهي منصوبة بالفعل قبلها، لأنّ القهقرى نوعٌ من الرُّجوع، فإذا تعدَّى إلى المصدر الذي هو جنسٌ عامٌ كان متعدِّيًا إلى النوع، إذ كان داخلًا تحته، وكذلك "القرفصاءُ" نوعٌ من القُعود، وهي قِعْدَةُ المحتبِي. والصَّمّاءُ: أن يُلْقِيَ طَرَفَ رِدائه الأيْمَنَ على عاتِقه الأيْسر. وقال أبو العباس: هذه حُلَى وتَلْقِيباتٌ وصفت بها المصادرُ، ثمّ حُذفت موصوفاتُها، فإذا قال: "رجع القهقرى"، فكأنّه قال: الرِّجْعَة القهقرى وإذا "اشتمل الصمّاء"، فكأنّه قال: "الاشتمالة الصمّاء"، وإذا قال: "قعد القرفصاء"، فكأنه قال: القِعْدَةَ القرفصاء. والفرق بين انتصابه إذا كان صفة وبين انتصابه إذا كان مصدرًا وإن كان العاملُ الفعلَ في كِلَا الحالين، أنّ العامل فيه إذا كان مصدرًا عمِل بمباشَرةٍ من غيرِ واسِطة، وإذا كان صفة عمِل فيه بواسطة الموصوف المقدَّرِ؛ وأمّا "ضربتُه سَوْطًا" فهو منصوبٌ على المصدر، وليس مصدرًا في الحقيقة، وإنّما هو آلةٌ للضرب، فكأنّ التقدير: ضربتُه ضرْبَةً بالسوط، فموضعُ قولك: "بالسوط" نصبُ صفةٍ لضرْبَةٍ، ثمّ حذفتَ الموصوفَ، وأقمتَ الصفة مُقامَه، ثمّ حُذف الجرّ، فتَعَدَّى الفعلُ فنَصَبَ، وأفاد العَدْوُ الدلالة على الآلة فاعرفه. فصل [المصادر المنصوبة بأفعال مُضمرة] قال صاحب الكتاب: "والمصادر المنصوبة بأفعال مضمرة على ثلاثة أنواع: ما ¬
يُستعمل إظهار فعله وإضماره، وما لا يستعمل إظهار فعله، وما لا فعل له أصلاً. وثلاثتها تكون دعاء وغير دعاء, فالنوع الأول قولك للقادم من سفره: "خير مقدم", ولمن يقرمط في عداته: "مواعيد عرقوب" (¬1) , وللغضبان: "غضب الخيل على اللجم" (¬2) , ومنه قولهم: "أو فرقًا خيرًا من حُبّ" (¬3) بمعني "أو أفرقك خيرًا من حبّ"". * * * قال الشارح: قد تقدّم من قولنا أنّ المصدر ينتصب بالفعل، وهو أحدُ المفعولات. وقد يُحْذفَ فعله لدليلِ الحال عليه. وهو في قولك على ثلاثة أضرب: منها ضربٌ يُحْذَف فعله ويجوز ظهوره، فأنتَ فيه بالخيار، إن شئتَ أظهرتَه وإن شئت أضمرتَه. وضربٌ لا يجوز استعمال فعله، ولا إظهارُه. وضربٌ ليس له فعلٌ ألبتّة. فالضرب الأوّل، نحو قولك لمن لَقِيتَه وعليه وَعْثاء السَّفَر، ومعه آلتُه، فعلمتَ أنّه آئبٌ من سفره، فقلت: "خيرَ مَقْدَم"، أي: قدِمتَ خير مقدم، فـ "خيرَ" منصوبٌ على المصدر لأنّه أَفْعَلُ، وإنَّما حُذفت ألفه تخفيفًا، و"أفعل" بعضُ ما يضاف إليه، فلمّا أضفته إلى مصدر صار مصدرًا، ومن ذلك إذا رأيتَ رجلًا يَعِدُ ولا يَفِي قلت: "مَواعِيدَ عُرْقُوب"، أي: وعدتَني مواعيدَ عرقوب، فهو مصدرٌ منصوبٌ بـ"وَعَدْتَنِي"، ولكنه تُرِك لفظه استغناء عنه بما فيه من ذكرِ الخُلْف، واكتفاء بعلم المخاطب بالمراد. قال الشَّمّاخ [من الطويل]: وواعَدْتني ما لا أُحاوِلُ نَفْعَهُ ... مَواعِيدَ عُرْقُوبٍ أخاهُ بيَترَبِ ويُروى للأشجَعيّ: 156 - وعدتِ وكان الخُلْفُ منكِ سَجِيَّةً ... مَواعِيدَ عرقوبٍ أخاه بيَترَبِ ¬
وهذا عرقوبٌ وعد وَعْدًا، فأخلفَ، فضُربَ به المَثَلُ، وذلك أنّه أتاه أخٌ له يسأله شيئًا، فقال عرقوبٌ: "إذا أَطْلَعَ نَخْلي". فلمّا أطلع قال: "إذا أَبْلَحَ". فلمّا أبلح قال: "إذا ازْهَى". فلمّا أزهى قال: "إذا أَرْطَبَ". فلمّا أرطب، قال: "إذا صار تَمْرًا". فلمّا صار تمرًا أخذه من الليل ولم يُعْطِه شيئًا. أنكرَ أبو عُبَيْد "يثرب" لأنّ عرقوبًا رجلٌ من العَمالِيق، وكانوا بالبُعْد من "يثرب" مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وإنّما هي يَتْرَبُ بتاءٍ مُعْجَمة ثِنْتَيْن من فوقها، وراءٍ مفتوحة، وهي موضعٌ قريبٌ من اليَمامة. ومن ذلك قولهم: "غَضَبَ الخَيْلِ على اللُّجُم" وذلك مَثَلٌ يُضْرَب لِمَن يغضَب على من لا يُرْضِيه. والمراد: غضِبتَ غَضَبَ الخيل على اللجم. ويجوز أن يكون المرادُ شِدّة الغضب، فنُصب المصدر بالفعل المحذوف، ومن العرب من يرفع هذا كلَّه، فيقول للقادم من سَفَره: "خيرُ مَقْدَمٍ"، أي: قُدومُك خير مقدم، فيكون "خيرُ مقدم" خبرَ مبتدأ محذوف، وكذلك "مواعيدُ عرقوب" أي: عِداتُك مواعيدُ عرقوب. ومثله "غضبُ الخيل على اللجم"، أي: غضبُك غضبُ الخيل على اللجم؛ وأمّا قولهم: "أَوَ فَرَقًا خيرًا من حُبّ" فتكلَّم بذلك رجلٌ عند الحجّاج، وذلك أنّه كان قد صنع عملًا، فاستجاده، فقال الحجّاج: "أكُلُّ هذا حُبًّا"؟ فقال الرجلُ مُجِيبًا: "أوفرقًا خيرًا من حبّ"؟ أي فعلتُ هذا لأنّي أَفْرَقُك فَرَقًا خيرًا من حبّ، فهو أنبلُ لك، وأجلُّ. ولو رفع لجاز، كأنّه قال: أَوَ أَمْرِي فَرَقٌ خيرٌ من حبّ. فهذا النوع أنتَ مخيَّر فيه بين إظهار العامل وحذفه، فإن أظهرتَه فزِيادةٌ في البيان، وإن حذفتَه فثِقَةَ بدليل الحال عليه. قال صاحب الكتاب: "والنوع الثاني قولك: "سقيًا ورعيًا, وخيبة, وجدعًا, ¬
وعقرًا, وبؤسًا, وبعدًا, وسحقًا, وحمدًا, وشكرًا لا كفرًا, وعجبًا, وافعل ذلك وكرامة, ومسرَّة, ونعم, ونُعمةَ عينٍ, ونعام عينٍ, ولا أفعل ذلك ولا كيدًا ولا همًّا, ولا فعلن ذلك ورغمًا وهوانًا". * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذه المصادر قد وردت منصوبة بإضمار فعل، وذلك الفعلُ لم يظهر مع هذه المصادر، وذلك قولك في الدُّعاء للإنسان: "سَقيًا ورَعْيًا"، والمراد: سقاك الله سقيًا ورعاك اللهُ رعيًا، فانتصبا بالفعل المضمر، وجعلوا المصدر بَدَلًا من اللفظ بذلك الفعل. وذلك أنّهم قد استغنوا بذكرِ المصدر عن ذكرِ الفعل، كما قالوا: "الحَذَرَ"، والمعنى احْذَرِ الحَذَرَ، ولم يذكروا "احْذَرْ"، فلمّا استغنوا بذكر هذه المصادر عن ذكرِ الفعل، صار قولُك: "سَقْيًا ورَعْيًا" كقولك "سَقاك الله، ورعاك اللهُ"، فلو أظهرتَ الفعلَ صار كتَكْرارِ الفعل، ومن ذلك قولك للمَدْعُوّ عليه: "خَيْبَة، وجَدْعًا، وعَقْرًا، وبُؤْسًا، وبُعْدًا، وسُحْقًا". فقولك: "خيبة" بَدَلٌ عن "خَيَّبَك اللهُ"، وهو مصدرٌ منصوبٌ به، وكذلك "جَدْعًا" معناه: جَدَعَكَ اللهُ. ومثله "عقرًا، وبؤسًا، وبعدًا، وسحقًا" أي: عَقَرَهُ الله عقرًا، وأَبْأَسَهُ اللهُ بُؤْسًا، وأبعدَه اللهُ بعدًا، وأسحقَه اللهُ سحقًا، على حذفِ الزوائد، وكلُّ هذه المصادر دُعاءٌ عليه أو له، وهي منصوبةٌ بفعل مضمر متروكٍ إظهاره، لأنّها صارت بدلًا من الفعل، وبعضهم يُظهِر الفعلَ تأكيدًا، فيقول "سقاك الله سَقْيًا، ورَعاك الله رَعْيًا" وليس بالكثير، ومنهم من يرفع فيقول: "سَقْىٌ لك، ورَعْيً"، والمعنى مفهومٌ كما يقال: "سلامٌ عليكم"، وإِنما يُخْرِجه مُخرَجَ ما قد ثَبَتَ. قال الشاعر [من الطويل]: 157 - أَقامَ وأَقْوَى ذاتَ يَوْمٍ وخَيْبَةٌ ... لأوّلِ من يَلْقَى وشَرُّ مُيَسَّرُ ¬
يصف أَسَدًا؛ وأمّا قولهم: "حَمْدًا وشُكرًا" إلخ، فهذه المصادر ليست من المصادر اقي قبلها من وجهٍ، وهي منها من وجهٍ آخر. وذلك أنّ هذه المصادر أفعالُها الناصبةُ لها المضمرةُ أخبارٌ يُخْبِر بها المتكلّمُ عن نفسه، وليست بدُعاء لأحدٍ، أو عليه، فلم تكن منها من هذا الوجه. ومن جهة أنّ الفعل المضمر مستقبلٌ أشبهت الدعاء لاستقباله، فمعناهما: أَحْمَدُ الله حمدًا، وأشكُره شكرًا، وأعْجَبُ عَجَبًا، وأُكْرِمُك كَرامةً، وأَسُرُّك مَسَرَّةً؛ وأمّا قولهم: "لا كَيْدًا، ولا همًا" فمعناه؛ لا أكادُ كَيْدًا أن أفعلَ، وهو من "كِدْتُ أكادُ" من أفعالِ المقارَبة، وليس من الكَيْد الذي هو المَكْر، ولا "أَهْمُّ به همًّا" من الهِمّة لا من الهَمّ الذي هو الحُزْن، كأنّه يُؤكد ما ينقي أن يفعل. وقوله: "لأفعلنّ ورَغْمًا وهوانًا" أي: أُرْغِمُك بفعله رَغْمًا وأُهِينُك به هوانًا، وأصلُ الرَّغْم لُصوقُ الأَنْف بالتُّراب، وهو كنايةٌ عن الذُلّ، وقد جاء بعضُ هذه المصادر مرفوعًا بأنّه خبرُ مبتدأ محذوف. قال رُؤْبَةُ [من الكامل]: 158 - عَجَبٌ لِتِلْكَ قَضِيَّةَ وإقامتِي ... فيكم على تلك القضيَّةِ أَعْجَبُ ¬
حكاه يُونُسُ مرفوعًا، كأنِّه قال: "أمري عجبٌ". قال سيبويه (¬1): وسمعنا من العرب الموثوقِ بعَرَبيّتهم مَن يقال له: "كيف أصبحتَ"، فيقول: "حمدُ الله، وثَناءٌ عليه" بالرفع، كأنّه قال: "أمري، وشأني حمدُ الله وثناءٌ عليه"، والنصب هو الوجه على الفعل المتروكِ إظهارهُ. * * * قال صاحب الكتاب: "ومنه إنما أنت سيراً سيراً, وما أنت إلا قتلاً قتلاً, وإلا سير البريد, وإلا ضرب الناس, وإلا شرب الإبل",ومنه قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬2) , ومنه مررت فإذا له صوت صوت حمار، وإذا له صراخ صراخ الثكلى، وإذا له دقٌ دقك بالمنحاز حب القلقل" (¬3). * * * قال الشارح: إنّما يُقال هذا لِمن يكثُر منه ذلك الفعلُ، ويُواصِله، فاستغنى بدلالةِ الصدر عن إظهاره، وليس ذلك ممَّا يختصّ بالمخاطَب، بل تستعمله في الإخبار عن الغائب، كما تستعمله في المخاطب، فتقول: "زيدٌ سَيْرًا سَيْرًا" إذا أخبرتَ عنه بمثلِ ذلك المعنى. وتقول: "أنتَ الدَّهْرَ سَيْرًا سَيْرًا"، و"أنتَ هذا اليومَ سيرًا سيرًا"، و"كان عبدُ الله سيرًا سيرًا" إذا أخبرتَ بشيء متّصِلٍ بعضُه ببعضٍ. وإن رفعتَ، وقلت: "ما أنت إلا سيرٌ سيرٌ" على معنَى "ما أنت إلَّا صاحبُ سير"، وحذفتَ الصاحب، وأقمتَ السير مُقامَه، لم يدل على كثرةِ ومواصلةٍ كما دلّ النصبُ، إنّما أخبرتَ أنّه صاحبُ سير لا غير. واعلم أنّك إذا رفعتَ كان على وجهَيْن: أحدُهما: أن يكون على حذفِ مضاف، وهو صاحبٌ، على ما تقدّم. والثاني: أن تجعله نفسَ السير والقتلِ، لمّا كثُر ذلك منه توسُّعًا ومَجازًا، كما يُقال: "رجلٌ عَدْلٌ ورِضَى" إذا كثُر عدلُه والرضى عنه، كما يُقال [من البسيط]: 159 - تَرْتَعُ ما غَفَلَتْ حتى إذا اذَّكَرَتْ ... فإنّما هي إقبالٌ وإدبارُ ¬
جعلها نفسَ الإقبال والإدبار مبالغةً وتوسّعًا، فالرفع في ذلك كلِّه على ما ذكرتُ لك، والنصبُ على تقديرِ فعل مضمر لا يظهَر، إذ قد صار المصدرُ بَدَلًا منه، فقولُك: "إنّما أنت سيرًا سيرًا، وما أنت إلَّا قتلًا قتلًا" معناه: تسِير سيرًا سيرًا، وتقتل فتلًا قتلًا. وقوله: "إلَّا سيرَ البَرِيد، وإلَّا ضربَ الناس، وإلَّا شُرْبَ الإبِل" معناه ما أنت إلا تسِير سيرًا مثلَ سيرِ البريد، وما أنت إلَّا تشرَب شُرْبًا مثلَ شُرْب الإبل، ثمّ حذف الموصوفَ، وأقام الصفةَ مقامَه، ثمّ حذف المضافَ، وهو "مِثْلَ" وأقامَ المضافَ إليه مقامَه على حدِّ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬1)، وهذا الحذفُ، والإضمارُ، وإن كثُر، فهو فاشٍ في كلام العرب مطّرِدٌ؛ وأمّا "ضَرْبَ الناس"؛ فتقديرهُ: ما أنت إلَّا تضرِب الناسَ ضربًا. ويجوز في هذا وحدَه التنوينُ، ونصبُ "الناس" لأنّه مصدرٌ مضافٌ إلى مفعول ولا يكون مضافًا إلى الفاعل لأنّه يصير معناه: يضربه مثل ضربِ الناس، وهو من الناس إلَّا أن يريد أن يضربه الضربَ المعهودَ المتعارَفَ، فحينئذ يكون من قبيلِ "شُرْبِ الإبل" و"سيرِ البريد". وأمّا قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬2) فالمعنى: فإمّا أن تَمُنُّوا مَنَّا، وإمّا أن تُفادوا فِداء، فهما مصدران منصوبان بفعل مضمر. وأمّا قولهم: "مررتُ فإذَا له صوتٌ صوتَ حمارٍ" إلخ، فهو منصوبٌ، وفي نصْبه وجهان: ¬
أحدُهما: أن يكون منصوبًا بالمصدر المذكورِ، إذ كان في معنى الفعل، وذلك أنّ قولنا: "له صوتٌ" في معنَى "يُصَوِّتُ"، فالمصدرُ نائبٌ عن الفعل، وانتصابُ "صوتَ حمار" على هذا إمّا على المصدر، وإمّا على الحال. وعلى كِلا الوجهَيْن في "صوتَ حمار" معنى التشبيه، فإذا نصبتَه على المصدر، فتقديرُه: فإذا هو يُصوِّت تصويتًا مثلَ صوتِ حمار، ثمّ حذفتَ على ما ذكرنا متقدِّمًا. وإذا كان حالًا، فتقديرُه: فإذا هو مُشْبِهًا صوتَ حمار، أو مُمثلًا صوتَ حمار. والوجه الثاني: أن يكون نصبه بإضمار فعل يجوز أن يكون الفعلُ من لفظِ الصوت، ويجوز أن يكون من غير لفظه، فإذا كان من لفظه، فتقديرُه: فإذا له صوتٌ يَصوت صوتَ حمار، ويكون نصبُ "صوتَ حمار" على المصدر، أو على الحال نحوَ ما تقدّم. وإذا قدّرتَ الفعلَ العاملَ من غيرِ لفظِ الأول، لم يكن نصبُ "صوت حمار" إلَّا على الحال لا غيرُ، كأنّك قلت: "له صوتٌ يُخْرِجه صوتَ حمار، أو يُمثِّله صوتَ حمار". ومثله: "له صُراخٌ صُراخَ الثَّكْلَى"، و"له دَقٌّ دَقَّك بالمِنْحاز حَبّ القِلْقِل"، والمنحاز: الهاوُونُ، والقِلقِلُ بالكسر وقافَيْن: حَبٌّ أسودُ، وهو أصلُ ما يكون من الحبُوب، والعامّةُ تقول فُلْفُلٌ بالضمّ والفاءِ، وهو تصحيفٌ منهم. والكلامُ عليها كالكلام في المسألة المتقدِّمة، والنُّكْتَة في ذلك أنّه يريد: مررتُ به وهِو يُصوِّت، ولم يُرِدْ أن يصِفه بذلك أو يُبْدِله منه فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "ومنه ما يكون توكيداً؛ إما لغيره كقولك: "هذا عبد الله حقاً، والحق لا الباطل"، و"هذا زيدٌ غير ما تقول"، و"هذا القول لا قولك"، و"أجدَّك لا تفعل كذا"؛ أو لنفسه كقولك: "له عليَّ ألف درهم عُرفاً، وقول الأحوص [من الكامل]: 160 - إني لأمنحك الصُّدود وإنني ... قسماً إليك مع الصدود لأميل ¬
وقوله تعالي: {صنع الله} (¬1)، و {وعد الله} (¬2)، و {كتاب الله عليكم} (¬3)، و {صبغة الله} (¬4)، وقولهم: "الله أكبر دعوة الحق"". * * * قال الشارح: اعلم أنّ "حَقًّا" و"الحَقَّ" ونحوَهما مصادرُ، والناصبُ لها فعلٌ مقدَّرٌ قبلها دلّ عليه معنى الجملة، فتُؤكِّد الجملةَ، وذلك الفعل أحُقُّ، وما جرى مجراه، وذلك أنَّك إذا قلت: "هذا عبدُ الله" جاز أن يكون إخبارُك عن يَقِين منك وتحقيقٍ، وجاز أن يكون على شَكّ، فأكّدتَه بقولك: "حَقًّا"، كأنّك قلت: "أحُقُّ ذلك حقًّا". وهذه المصادر يجوز أن تكون نكرةً، نحوَ: "حقًّا"، ويجوز أن تكون معرفة، نحوَ: "الحق لا الباطلَ"، وذلك لأنّ انتصابها انتصابُ المصدر المؤكِّد لا على الحال التي لا يجوز أن تكون إلَّا نكرةٌ، وإذا قلت: "هذا عبدُ الله الحقُّ، لا الباطلَ"، فـ"الحقَّ" منصوبٌ على المصدر المؤكِّد لِما قبله، والباطلَ عطفٌ عليه بـ"لَا"، كما يُقال: "رأيتُ زيدًا لا عمرًا". وإذا قال "هذا عبدُ الله غيرَ ما تقول" فـ"غيرَ" منصوب على المصدر، وتحقيقُه: هذا عبدُ الله حقًّا غيرَ ما تقول، أي: غيرَ قولك، فحذفتَ الموصوفَ، وأقمتَ الصفةَ مقامَه، والمفهوم من هذا الكلام أنّ المتكلّم قد اعتقد أنّ قولَ المخاطَب باطلٌ. وتلخيصُ معناه: هذا عبد الله حقًّا لا باطلًا. وإذا قال: "هذا القولُ لا قولَك"، فكأنّه قال: "هذا القولُ لا أقول قولَك"، أي: مثلَ قولك، يعني أنني أقول الحقَّ، ولا أقول باطلًا مثلَ قولك. ولو أسقطتَ الإضافةَ، وقلت: "هذا القولُ لا قولًا"، و"هذا القولُ غيرَ قولٍ"، لم يحسُن الحذفُ لسُقوطِ الفائدة؛ لأنّه لم يكن فيما بقي ما يدل على البُطْلان، فلو وصفتَه بما يدل على البطلان، نحوَ: "هذا القولُ لا قولًا ¬
كذِبًا"، أو "غيرَ قِيلٍ ضعيفٍ"، ونحوِ ذلك، ممّا يدلّ على ضِدّه أو صحّتِهِ. لَجاز لحُصولِ الفائدة والتوكيدِ، وهذا هو المطلوبُ من هذا الفصل. وقال الزَّجّاج إذا قلت: "هذا زيدٌ حقًّا"، و"هذا زيدٌ غيرَ قِيل باطل"، لم يجز تقديمُ "حقًّا". لا تقول: "حقًّا هذا زيدٌ" فإن ذكرتَ بعضَ هذا الكلامِ، فوسّطتَه، وقلت: "زيدٌ حقًّا أخوك"، جاز. وأمَّا سيبويه فلم يمنع من جَوازِ تقديمِ "حقًّا"، بل قال في الاستفهام: "أجِدَّكَ لا تفعلُ كذا وكذا"، كأنّه قال: "أحَقًّا لا تفعل كذا وكذا". ففي ذلك إشارةٌ إلى جَوازه. واعلم أنّ قولهم في الاستفهام: "أجدّك لا تفعل كذا" أصلُه من الجِدَّ الذي هو نقيضُ الهَزْل، كأنه قال: أنُجِدُّ ذلك جِدًّا" غيرَ أنّه لا يُستعمل إلَّا مضافًا حتى يُعْلَم مَن صاحبُ الجِدّ، ولا يجوز تركُ الإضافة، نحوَ: "لَبَّيْكَ"، و"مَعاذَ الله" على ما سيأتي. قال الشاعر [من الطويل]: 161 - [خليلىَّ هُبّا طالما قَدْ رَقدْتُما] ... أجِدَّكما لا تَقْضِيانِ كَراكُمَا وأمّا ما يكون تأكيدًا لنفسه، فنحوُ قولهم: "له عليّ ألفُ درهم عُرْفًا"، ومثلُه قوله: إني لأمنحُك الصدودَ .......... ¬
وذلك أنَّه لمّا قال: "له عليّ ألف درهم"، فقد أقَرَّ واعترف، فإذا قال: "عُرْفًا" بمعنَى: "اعتراف"، فلم يزد بذكره عمّا تقدّم من الكلام، فكان تأكيدًا، نحوَ: "ضربتُ ضَرْبًا". والفرق بين هذا والذي قبله حتّى جُعل هذا تأكيدًا لغيره، وجُعل هذا تأكيدًا لنفسه، أنّك إذا قلت: "هذا عبدُ الله حقًّا" فقولُك من قَبْلِ أن تذكر "حقًّا" يجوز أن يُظَنّ أنّ ما قلتَه حقٌّ، وأن يظُن أن ما قلتَه باطلٌ، فتأتي بـ"حَقَّا"، فتجعل الجملةَ مقصورة على أحد الوجهَيْن الجائزَيْن عند السامع. وقولُه: "له عليّ ألفُ درهم" هو اعترافٌ حقًّا كان، أو باطلًا، فصار هذا توكيدًا لنفسه إذ كان الذي ظهر هو الاعترافَ. وأمّا قوله في البيت: "قَسَمًا"، فهو مصدرٌ مؤكّدٌ، وذلك أن قوله: "وإنّني إليك مع الصدود لأمْيَلُ" يُفْهَم منه القَسَمُ؛ فإذا قال: "قسمًا"، كان تأكيدًا لنفسه. وأمّا قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ} (¬1)، فهو مصدرٌ من هذا القبيل، وذلك أن قبله {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (¬2) فـ "صُنْعَ الله" منصوبٌ على المصدر المؤكّد لأنّ ما قبله صُنْعُ الله في الحقيقة. وكذلك {وَعْدَ اللَّهِ} (¬3) لأن قبله: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ} (¬4) نصب "وعدَ الله" لأنّ ما قبله وعدٌ من الله، فكان تأكيدًا لذلك. وأمّا قوله: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (¬5) فقد اختلف النحويون فيه (¬6)، وذهب أصحابُنا والفرّاءُ من الكوفيين إلى أنّه نصب على المصدر المؤكّد، وذلك أنّه لمّا تقدّم من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ} (¬7) إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} (¬8). فقولُه: "كتابَ الله عليكم" بمنزلةِ "فَرْضَ الله عليكم"، و"تحريمَ الله عليكم"؛ لأنّ الابتداء تحريمُ المذكورات من النساء إلَّا مَن سُبي وأُخرج من دارِ الحرب، فإنّها تَحِلُّ لمَن ملكها، وإن كان لها زَوْجٌ لأنّه تقع الفرقةُ بينها وبين زوجها، فهذه شريعةٌ شَرَعَها اللهُ، وكتابٌ كَتَبَه عليكم، فانتصب المصدرُ بما دلّ عليه سِياقُ الآية، كأنّه فعلٌ تقديُره: كَتَبَ اللهُ عليكم، فأُضيف المصدرِ إلى الفاعل. وقال الكسائيّ: "كتابَ الله" منصوبٌ بـ"عَلَيْكُمْ" على الإغراء، كأنّه قال: ¬
"عليكم كتاب الله"، فقدّم المنصوبَ، قال: وذلك جائزٌ، قد ورد به السَّماعُ وهو القياسُ، فالسماعُ قولُ الراجز: 162 - يَا أَيّهَا المائحُ دَلْوِي دُونَكَا ... إنّي رأيتُ الناسَ يَحْمَدونكا والمراد: دونك دلوي. وأمّا القياس فإنّ الظرف نائبٌ عن الفعل تقديرُه: الْزَمُوا كتابَ الله، ولو ظهر الفعلُ، لَجاز تقديمُ معموله عليه، فكذلك ما ناب عنه، والحقّ المذهب الأوّل, لأنّ هذه الظروف ليست أفعالًا، وإنّما هي نائبةٌ عن الفعل، وفي معناه، فهي فروعٌ في العمل على الأفعال، والفروعُ أبَدًا منحطّةٌ عن دَرَجاتِ الأُصول، فإعمالُها فيما تقدّم عليها تَسْوِيَةٌ بين الأصل والفرع، وذلك لا يجوز. وأما ما أنشده من البيت فلا حُجةَ فيه، لأنّا نقول "دلوي" رفعٌ بابتداء، والظرفُ الخبر كما تقول: دلوي عندك. وأمّا القياس الذي ذكروه فليس بصحيح لأنّه يؤدّي إلى التسوية بين الأصل والفرع. وقد أجاز بعضُ النحويّين أن يكون "دلوي" منصوبًا بإضمار فعل، كأنّه قال: امْلأْ دلوي، ويؤيِّد ذلك أنه لو قال: يا أيها المائح دلوي، ولم يَزِد عليه، جاز لدليلِ الحال عليه. ومن ذلك قولهم: "الله أكبرُ دَعْوَةَ الحَقِّ", لأن قولك: "الله أكبر"، إنّما هو ¬
دُعاءٌ إلى الحقّ، وأن يَثْنِيَ السامعُ إلى جملةِ القائلين بالتَّوْحِيد، وإلى مَن شِعارُهم قولُ: "الله أكبرُ"، فيكون دعوةً يتداعون بها، كأنّه قال: دعوا دُعاءَ الحقّ، ومثله قوله [من الرجز]: 163 - إنّ نِزارًا أصبحتْ نِزارَا ... دَعْوَةَ أبْرارٍ دَعَوْا أبْرارَا نصب "دعوة" على المصدر, لأنّ معنَى "أصبحتْ نزارًا"، أي: يتداعون نزارًا، وذلك أنّ نزارًا، وهو أبو رَبِيعَةَ ومُضَرَ، لمّا وقع بين ربيعةَ ومضرَ تبايُنٌ وحروبٌ بالبصرة، وصارت ربيعةُ مع الأزْد في قِتالِ مضرَ، وكان رَئِيسُهم مسعودَ بن عمرو الأزديَّ، ثمَّ إنّ ربيعةَ صالحتْ مضرَ، فصار كأنّ نزارًا تفرّقتْ، ثم اجتمعتْ، فقال: أصبحتْ نزارًا، أي: أصبحت مجتمِعةَ الأولاد إذ دعا بعضُهم بعضًا. وفي حالِ التبايُن كان يقول: المُضَرِيّ بالمضر، ويقول الرَّبِيعيُّ بالربيعة, لأنّ أحدَ الفريقَيْن ما كان ينصُر الآخرَ، فقوله: "أصبحت نزارًا" بمنزلةِ قوله: "دعا بعضُهم بعضًا بهذا اللفظ"، ثمّ جاء بالمصدر، وهو "دعوةَ أبرار"، وأضافه إلى الفاعل, لأنه أبْينُ، إذ لو قال: تَمُرُّ مَرَّ السَّحَاب صُنْعًا، أو كِتَابًا، لم يكن فيه من البيان ما فيه مع الإضافة، وفي الجملة هذا الفصَلُ الذي فيه المصدرُ المؤكّدُ لغيره، نحوُ: "هذا زيدٌ حقًّا". وما أكّد نفسَه، نحوُ: "له عليّ ألفُ درهم عُرْفًا" ينتصب على إضمار فعلٍ غيرُ كلامك الاْوّلِ, لأنه ليس بحالٍ، ولا مفعولٍ لَهُ، كأنّه قال: أحُقُّ حقًّا، وأتَجِدُّ جِدًّا، ولا أقول قولَك، وكَتَبَ اللهُ عليكم كتابًا. ولا يظهر الفعلُ كما لم يظهر في بابِ "سَقْيًا لك وحَمْدًا"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "ومنه ما جاء مثنى, وهو "حنانيك", و"لبيك" و"سعديك", ¬
و"دواليك", و"هذاذيك", ومنه ما لا يتصرف نحو: سبحان الله, ومعاذ الله, وعمرك الله وقعدك الله"". * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذه المصادر التي وردت بلفظ التثنية الغرضُ من التثنية فيها التكثيرُ، وأنّه شيءٌ يعود مرّةً بعد مرّة، وليس المرادُ منها الاثنَيْن فقط، كما تقول: "ادْخُلُوا الاْوّلُ فالأوّلُ"، والغرضُ أن يدخل الجميعُ، وجئتَ بـ"الأوّلُ الأوّلُ" حتّى يعْلَم أنّه شيءٌ بعد شيء. ومنه يُقال: جاءني القومُ رجلًا فرجلًا، على هذا المعنى. ولا يُحْتاج إلى أكثرَ من تكريره مرةً واحدةً، وانتصابه على المصدر الموضوع موضعَ الفعل، والتقديرُ: تَحَنَّنْ علينا تحنُّنًا، وثَنّى مبالغةً وتكثيرًا، أي: تحنُّنًا بعدَ تحنُّنٍ، ولم يُقْصَد بها قصدُ التثنية خاصّةً، وإنّما يُراد بها التكثيرُ، فجُعلت التثنيةُ عَلَمًا لذلك لأنّها أوّلُ تضعيفِ العَدَد وتكثيرِه، وهذا المثنّى لا يتصرّف، ومعنَى عَدَمِ التصرُّف أنّه لا يكون إلَّا مصدرًا منصوبًا، ولا يكون مُثَنًّى إلَّا في حال الإضافة، كما لم يكن "سُبْحانَ اللهِ"، و"مَعاذَ اللهِ" إلَّا مضافَين. وإنّما لم يتمكّن إذا ثنّيتَ؛ لأنّه دخله بالتثنية لفظًا معنى التكثير، فدخل هذا اللفظَ هذا المعنى في موضع المصدر فقط، فلذلك لم يتصرّفوا فيه، وربّما وحّدوا "حَنانًا". قال الله تعالى: {وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا} (¬1). وقال الشاعر [من الطويل]: 164 - فقالتْ حَنانٌ ما أتَى بك ههُنَا ... أذُو نَسَبٍ أم أنتَ بالحَيِّ عارِفُ ¬
فرفع لمّا أفْرَدَ, لأنّه لم يدخله معنًى غيرُ الذي يوجِبه اللفظُ كما كان ذلك في حالِ التثنية، فإذا قلت: "حَنانَيْكَ"، فهو منصوبٌ بفعل مضمر تقديرُه: تَحَنَّنْ تحنُّنًا بعد تحنُّن، لكنّهم حذفوا الفعلَ, لأنّ المصدر صار بدلًا منه كما كان ذلك في "سَقْيًا لك ورَعْيًا". قال الشاعر [من الطويل]: 165 - أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فاسْتَبْقِ بَعْضَنا ... حَنانَيْك بَعْضُ الشَّرّ أَهْوَنُ مِن بعضِ والتحنُّن: الرحْمةُ والخيرُ، فمعنَى قول القائل: "حنانَيْك": تحنُّنًا بعد تحنُّنٍ، أي كلَّما كنتَ في رحمة وخير، فلا تقطعنّ ذلك، وَلْيكنْ موصولًا بآخَرَ من رحمتك. وأمّا "لَبَّيْكَ" و"سَعْدَيْكَ"، فهما مثنَّيان، ولا يُفْرَد منهما شيءٌ، ولا يُستعملان إلَّا مضافَيْن لِما ذكرتُه لك من إرادةِ معنى التكثير، فلمّا تَضمَّن لفظُ التثنية ما ليس له في الأصل من معنى التكثير، لزم طريقةً واحدةٌ ليُنِّبىء عن ذلك المعنى، فـ"لَبَّيْكَ" مأخوذٌ من قولهم: ألَبَّ بالمكان إذا أقام به، وألبَّ على كذا إذا أقام عليه، ولم يُفارِقه. ¬
و"سَعْدَيْكَ" مأخوذ من المساعدة والمتابعة، وإذا قال الإنسانُ: "لَبَّيْك"، فكأنّه قال: دَوامًا على طاعتك، وإقامةً عليها مرّةً بعد مرّة. وكذلك "سَعْدَيْك" أي: مساعدةً بعد مساعدة، ومتابعةً بعد متابعة، فهما اسمان مثنَّيان، وهما منصوبان على المصدر بفعل مضمر تقديرُه من غير لفظه، بل من معناه، كأنّك قلت في "لبّيك": داومتُ وأقمتُ، وفي "سعديك": تابعتُ، وطاوعتُ، وليسا من قبيل "سَقْيًا لك ورَعْيًا"، تقديرُه: سقاك اللهُ، ورعاك اللهُ، إذ لا يحسن أن يُقال: ألُبُّ لَبَّيْك، وأسْعَدُ سَعْدَيْك، إذ ليس لهذه المصادر أفعالٌ مستعملةٌ تنصبهما، إذ كانت غيرَ متصرِّفة، ولا هي مصادرُ معروفةٌ كـ"سَقْيًا" وَ"رَعْيًا". وأمّا قولهم: "لَبَّى يُلَبِّي"، فهو فعلٌ مشتقٌّ من لفظِ "لَبَّيْك"، كما قالوا: "سَبْحَلَ" وَ "حَمْدَلَ" مِن "سُبْحانَ اللهِ" و"الحمدُ للهِ". وقد ذهب يُونُس (¬1) إلى أنّ "لبَّيك" اسمٌ مفردٌ غيرُ مثنَّى، وأنّ الياء فيه كالياء التي في "عَلَيْك " وَ "لَدَيْك"، وأصلَه "لَبَّبٌ" "فَعْلَلٌ"، ولا يكون "فَعَّلًا" لقلّةِ "فَعَّلٍ" في الكلام، وكثرِة "فَعْلَل"، فقُلبت الباء التي هي لامٌ من "لَبَّبٍ" ياءً هَرَبًا من التضعيف، فصارت لَبَّيٌ، ثمَّ أُبدلت الياء ألفًا لتحرُّكها، وانفتاحِ ما قبلها، فصارت "لَبًّا"، ثمّ لمَّا أُضيفت إلى الكاف في "لَبَّيْك"، قُلبت الألف ياءً كما قُلبت الألف في "إلَى" و"لَدَى" إذا وصلتَهما بالضمير، فقلتَ: "إليك"، و"عليك"، و"لديك". ووجهُ الشَبَه بينهما أنّ "لبّيك" اسمٌ ليس له تصرُّفُ غيره من الأسماء، لأنّه لا يكون إلَّا مضافًا كما أنّ "إليك" و"عليك" و"لديك" لا تكون إلَّا منصوبةَ المواضع ملازِمةَ الإضافة، فقلبوا ألفَه ياءً، فقالوا: "لبّيك" كما قالوا "لديك"، و"عليك". واحتجّ سيبويه على يونس فقال (¬2): لو كانت الياءُ في "لبّيك" بمنزلةِ ياءِ "لديك" و"إليك" لَوجب أنّك متى أضفتَها إلى ظاهرٍ، أقررتَ ألفَها بحالها كما أنّك إذا أضفت "لَدَى" و"عَلَى" و"إلَى" إلى الظاهر، أقررتَ ألفَها، وكنتَ تقول: هذا لَبَّى زيدٍ، ولَبَّى جعفرٍ، كما تقول: لدى زيد، وإلى عمرو، وأنشد [من المتقارب]: 166 - دَعَوْتُ لِمَا نَابَنِي مِسْوَرًا ... فَلَبَّى فلَبَّيْ يَدَيْ مِسْوَرِ ¬
فجَعْلُ "لبّي يدي مسور" بالياء، وإن كان مضافًا إلى الظاهر الذي هو "يَدَيْ" دليلٌ على أنّه تثنيةٌ، ولو كان مفردًا من قبيلِ "لَدَى" وَ "كِلا" لكان بالألف، وبعضُ العرب يقول: "لَبِّ لَبِّ" مبنيّةً على الكسر، ويجعله صَوْتًا معرفة مثلَ "غاقِ" كأنّه على صوتِ المُلبِّي، فاعرفه. ومن ذلك قولهم: "دَوَالَيْكَ" كأنّه مأخوذ من المداوَلة وهىِ المناوَبةُ، فـ "دواليك" تثنيةُ "دَوالٍ"، كما أنّ "حَوَالَيْك" تثنيةُ "حَوَالٍ"، وَ "دَوالٌ" وقع موقعَ "مداوَلةٍ"، والمرادُ الكثرةُ، لا نفسُ التثنية، قال الشاعر عبدُ بني الحَسْحاس [من الطويل]: 167 - إذا شُقَّ بُرْدٌ شُقَّ بالبُرْد مِثْلُهُ ... دَوَالَيْكَ حتّى ليس للبُرْد لابِسُ ¬
فـ "دواليك" في البيت في موضع الحال، ومعناه: إذا شُقّ بردٌ شُقَّ بالبُرد مثلُه دواليك، أي: متداوِلَيْن. وذلك أنّ من عادةِ العرب كانت إذا أرادت عقدَ تأكيدِ المَوَدَّة بين الرجل والمرأة لبِس كلُّ واحد منهما بُرْدَ الآخَر، ثمّ تَدَاوَلَا على تخريقه هذا مرّة، وهذه مرة، فهو يصف تداوُلَهما على شَقِّ البرد حتّى لا يبقى فيه مَلْبَسٌ. وقالوا: "هَذاذَيْكَ"، والكلام عليه على ما تقدّم، وهو مأخوذ من "هَذَّ يَهُذُّ" إذا أسرع في القِراءة والضَّرْبِ. قال العَجّاج [من الرجز]: 168 - ضَرْبًا هذاذَيْك وطَعْنًا وَخْضَا كأنّه يقول: هذًّا بعد هَذٍّ من كلِّ جهة، فـ"ضَرْبًا" منصوبٌ على المصدر، أي: يضرب ضربًا، و"هذاذَيْك" نصبٌ على المصدر، وهو بدلٌ من الأوّل، وثُنّي للتكثير، كأنّه يقطع الأعناقَ بضَرْبه، ويبلُغ الأجوافَ بطَعْنه. والوَخْض: الطَّعْنُ الجائف. وأمّا قولهم: "سُبْحانَ اللهِ"، فهو مصدرٌ منصوبٌ غيرُ متصرِّفٍ، ولا منصرِفٍ؛ وأمّا كونُه غيرَ متصرّف فإنّه لم يُستعمل إلَّا منصوبًا، ولا يدخله رفعٌ ولا جَرٌّ ولا ألفٌ ولامٌ، كما تدخل على غيره من المصادر، نحوِ "السَّقْي" و"الرعْي". وهو من المصادر، التي لا تُستعمل أفعالُها، كأنّه قال: "سَبَحَ سُبْحانًا" بتخفيف الباء، كقولك: "كَفَرَ كُفْرانًا"، و"شَكَرَ ¬
شُكْرانًا". ومعناه التنْزِيهُ والبَراءةُ، وقد استُعمل مضافًا، وغيرَ مضاف، وإذا لم يُضَف، تُرك صرفُه، فقيل: "سبحانَ من زيدٍ"، كأنّه جُعل عَلَمًا على معنَى البراءة، وفيه الألِف والنونُ زائدتان، نحو قول الأعشى [من السريع]: أقولُ لمّا جاءني فَخْرُه ... سُبْحانَ من عَلْقَمَةَ الفاخِرِ (¬1) وهو مثلُ "عُثْمانَ" في منعِ الصرف للعَلَميّة وزيادةِ الألف والنون، فأمّا "سَبَّحَ يُسبِّح" فهو فعلٌ ورد على "سبحان" بعد أن ذُكر وعُرف معناه، فاشتقّوا منه فعلًا. قالوا: "سَبَّحَ زيدٌ"، أي: قال: "سبحانَ اللهِ"، كما تقول: "بَسْمَلَ" إذا قال: "بسم الله"، وقد يجيء "سبحان" منوَّنًا في الشعر. قال الشاعر [من البسيط]: سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحانًا نَعُوذُ به ... وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ (¬2) وفي تنوينه وجهان: أحدُهما: أن يكون نكرةً. والثاني: أن يكون معرفةً إلَّا أنّه نوّنه ضرورةً، ويُروى: "نَعُودُ به" بالدال غيرِ المعجمة، أي: نُعاوِده مرّةً بعد مرّة. وقالوا: "مَعاذَ الله"، و"عِياذَ الله" وكِلاهما منصوبٌ على المصدر. تقول: "أعُوذُ بالله" أي: ألْجَأُ إلى الله عَوْذًا وعِياذًا، فهذان مصدران متصرِّفان، تقول: العَوْذُ بالله، والعِياذُ بالله، وأمّا "مَعاذَ الله" فلا يكون إلَّا منصوبًا، ولا يدخله الألفُ واللامُ، ولا الرفعُ والجرُّ. وأمّا قولهم: "عَمْرَكَ الله" فهو مصدرٌ لم يُستعمل إلَّا في معنى القَسَم، ونصبُه على تقدير فعلٍ، وفي تقديرِ ذلك الفعل وجهان: منهم من يُقدِّر: أسْألُك بعَمْرِك الله، وبتَعْمِيرِك الله، أي: وَصْفِك الله بالبَقاء والعَمْرِ. والعَمْرُ: البقاءُ. تقول: "بعَمْرِ الله". كأنّك تحلِف ببقاء الله. قال [من الوافر]: 169 - إذا رَضِيَتْ عَلَىَّ بنو قِشَيْرٍ ... بعَمْرِاللهِ أعْجَبَني رِضاها ¬
ومنهم من يقدّر: أنْشُدُك بعَمْرِ الله، فيكون الناصبُ "أنشدك"، وهم يستعملون "أنشدك" في هذا المعنى كثيرًا، ثمّ حُذف الباء، فوصل الفعلُ، فنصب "عمرك"، ثمّ حُذف الفعل، فبقي "عمرك الله"، و"الله" منصوبٌ بالمصدر الذي هو "عمرك"، كأنّه قال: بوَصْفك الله بالبقاء، وقد أجاز الأخفشُ الرفعَ في "الله" بالمصدر كأنّه: قال بذِكْرٍ اللهُ إيّاك بالبقاء. وقالوا: "قِعْدَكَ الله" بمعنَى: عمرك الله، وفيه لغتان: قِعدك الله، وقَعْدك الله، ومعناه: أسألُك بقعدك أي بوَصْفك الله بالثبات والدوامِ، مأخوذٌ من قَواعِدِ البيت، وهي أُصولُه. والأصل في ذلك القُعودُ الذي هو ضِدُّ القيام لثُبوته، وعدمِ الحركة معه، ولا يُستعمل "عمرك الله" و"قعدك الله" إلَّا في القَسَم. * * * قال صاحب الكتاب: "والنوع الثالث نحو دفرًا وبهرًا وأُفَّةً وتُفَّةً وويحك وويسك وويلك وويبك". * * * قال الشارح: وأمّا القِسْم الثالث وهو، نحوُ: "دَفْرًا" وَ "بَهْرًا" و"اُفَّةً" و"تُقَّةً"، فهذه أيضًا من قبيلِ ما قبلها من المصادر من حيثُ إِنَّها غيرُ متصرِّفة بأن تكون مرفوعةً، أو مجرورةً، أو بالألف واللام، وأنّها منصوبةٌ بأفعالٍ غيرِ مستعمَلة، إلَّا أنّ الفرق بينهما أنّ ما قبلها لها أفعالٌ، ولم تُستعمل. وهذه لا يُؤْخذ منها فعلٌ ألبتّةَ، فإذا سُئِلتَ عنها مثّلتَ بقولك: "نَتْنًا" لقُرْبِ معناهما. وليس مِن "أُفَّةً" و"تُقَّةً" و"بَهْرًا" و"دَفْرًا" فعلٌ، وإنّما تَرُدّها ¬
إلى "نتنًا", لأنّه مصدرٌ لفعل معروف، وهو "نَتَنَ نَتْنًا"، وقد قالوا: "بَهَرَ القَمرُ الكواكبَ" إذا غطّاها، ومنه قولُ ذي الرُّمّة [من البسيط]: 170 - حتى بَهَرْتَ فما تَخْفَى على أحدٍ ... إلَّا على أحدٍ لايَعْرِفُ القَمَرَا ويُقال: "بَهْرًا" في معنَى "عَجَبًا". ومنه قولُ عمر بن أبي رَبِيعَةَ [من الخفيف]: 171 - ثُمَّ قالوا تُحِبُّها قلتُ بَهْرًا ... عَدَدَ الرَّمْلِ والحَصَى والتُّرابِ ¬
ويُقال: "بَهْرًا لفُلان" إذا دُعي عليه بسُوءٍ، كأنّه قال: "تَعْسًا له". ولا أعلمُ أحدًا تَعرَّض لتفسيرِ ذلك إلَّا سيبويه (¬1). وتفسيرُ "دفرًا" "نتنًا" أيضًا. والدَّفْرُ: النَّتْنُ، ولذلك سُميت الدُّنْيا "أُمَّ دَفارِ"، ولم يُستعمل منه فعلٌ. وأمّا قولهم: "وَيْحَك"، و"وَيْسَك"، وَ "وَيْلَك"، وَ "وَيْبَك"، فهي من المصادر التي لا أفعالَ لها، كأنّهم كرِهوا أن يبنوا منها فعلًا لاعتلالِ عينها وفائها، لِما يلزَم من الثِّقَل في تصريِف فعلها لو استُعمل، فاطُّرح لذلك، وأجروها مُجْرَى المصادر المفردة المدعوِّ بها، وجعلوا الإضافةَ فيها بمنزلةِ اللام في قولهم: "سَقْيًا لك"؛ لانّه لولا اللامُ في "سقيًا لك"، لَمَا عُلم مَن يُعْنَى. وكذلك لولا الإضافةُ في هذه المصادر، لم يعلم المكلَّمُ مَن يُعنَى، والإضافةُ فيها مسموعةٌ، ولا يجوز القياسُ عليها، فلا يجوز أن تقول: "سَقْيَكَ" قياسًا على "وَيْحَكَ", لأنّ العرب لم تَدْعُ به، وإنّما وجب اتّباعُ العرب فيما استعملوه ههنا، ولم يُجاوِزوه, لأنّها أشياءُ قد حُذف منها الفعلُ، وجُعلتْ بدلًا من اللفظ به على مذهب أرادوه من الدّعاء، فلا يجوز تجاوُزُه, لأن الإضمار والحذف اللازمَ، وإقامةَ المصادر مُقامَ الأفعال حتّى لا تظهر الأفعالُ معها، ليس بقياسٍ مستمِرِّ، فتُجاوِزَ فيه الموضعَ الذي لزِموه، فقد شَبَّهَ سيبويه (¬2) هذا الموضعَ بقولهم: "عددتُك"، و"عددتُ لك"، و"وزنتُك"، و"وزنتُ لك"، و"كِلْتُك"، و"كِلْتُ لك". لا تُتجاوز هذه الأفعالُ، فلا يُقال: "وهبتُك" في معنَى "وهبتُ لك". واعلم أن مذهبَ سيبويه والبصريين أجمعين أنّ أصلها "وَيْحٌ"، و"وَيْلٌ" و"وَيْسٌ"، و"وَيْبٌ"، دخلتْ عليها كافُ الخِطاب. وقال الفرّاء: أصلُها كلُّها "وَيْ"، فأمّا "ويلك" فهىِ "وَيْ" عنده زيدت عليها لامُ الجرّ، فإذا كان بعدها مضمرٌ كانت اللامُ مفتوحةً، كقولك: "وَيْلَكَ"، وَ "وَيْلَهُ" وإن كان بعدها ظاهرٌ، جاز فتحُ اللام وكسرُها، ففتحُ اللام مع الظاهر لغةٌ، وهو الأصلح فيها، والكسرُ على قياس الاستعمال. وأنشد [من الكامل]: 172 - يا زِبْرِقانُ أخَا بَنِي خَلَفٍ ... ما أنتَ وَيْلِ أبِيك والفَخْرُ ¬
وأنشده بفتح اللام وكسرِها، فالذين كسروا اللامَ تركوها على أصلها، والذين فتحوها خلطوها بـ"وَيْ"، كما قالت العربُ: "يَالَ تَيْم"، ثمَّ أُفردت هذه اللام فخُلطت بيائها كأنّها منها، ثمّ كثُر استعمالُها، فأدخلوا عليها لامًا أخرى، فقالوا: "وَيْلٌ لك". وأمّا "وَيْحٌ" وَ "وَيْسٌ" وَ "وَيْبٌ" فكناياتٌ عن الوَيْل، فـ"وَيْلٌ" كلمةٌ تُقال عند الشَّتْم والتوبيخ معروفةٌ، وكثُرت حتّى صارت للتعجّب. يقولها أحدُهم لِمن يُحِبّ ولِمن يُبْغِض، وكنّوا بـ"الوَيْس" عنها، ولذلك قال بعضُ العُلماء: "وَيْسٌ" ترحُّمٌ، كما كنوا عن غيرها، فقالوا: "قَاتَلَهُ الله! " ثمّ استعظموا ذلك، فقالوا: "قَاتَعَهُ اللهُ، وكَاتَعَهُ"، وله نظائرِ، والقول ما قاله سيبويه، ولو كان الأمرُ على ما قال الفرّاءُ، لَمَا قيل: "ويلٌ لزيدٍ" بضمّ اللام والتنوين. واعلم أنّ هذه المصادر إذا أُضيفت لم تَتصرَّف ولم تكن إلَّا منصوبةً لِما ذكرناه، ولأنّك لو رفعتَها بالابتداء لم يكن لها خبرٌ، فإن أفردتَها، وجئتَ باللام جاز الرفعُ، فتقول: "وَيْلٌ لك، وَوَيْحٌ له"، فيكون الجارّ والمجرور الخبرَ، ويجوز النصب مع اللام فتقول: "ويحًا له، وويلًا له" قال جَرِير [من الطويل]: 173 - كَسَا اللُؤْمُ تَيْمًا خُضْرَةً في جُلودها ... فَوَيْلًا لتَيْمٍ من سَرابِيلها الخُضْرِ ¬
فصل [الأسماء المنصوبة بأفعال مضمرة]
والفرق بين النصب والرفع أنّك إذا رفعتَها فكأنّك ابتدأتَ شيئًا قد ثَبَتَ عندك واستقرّ، وفيها ذلك المعنى، أعني الدعاءَ، كما أنّ "حَسْبُكَ" فيه معنى النَّهْي، وإذا نصبتَ كنتَ تَرّجَّاه في حالِ حديثك، وتعمل في إثباته، فاعرفه. فصل [الأسماء المنصوبة بأفعال مُضمرة] قال صاحب الكتاب: "وقد تجري اسماء غير مصادر ذلك المجرى, وهي على ضربين: جواهر, نحو قولهم: تربًا وجندلاً, وفاهًا لفيك. وصفاتٌ, نحو قولهم: هنيئًا مريئًا, وعائذًا بك, وأقائمًا وقد قعد الناس, وأقاعدًا وقد سار الرَّكْبُ". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الأسماء على ضربَيْن؛ جواهرُ ومعانٍ. والمرادُ بالجواهر في عُرْفِ النحويّين الشُّخُوصُ, والأجسامُ المتشخِّصةُ، والمعانى هي المصادرُ كالعِلْم والقُدْرَة. فكما نصبوا أشياء من المصادر بفعل متروكٍ إظهارُه نحوَ ما تقدّم من نحوِ "سَقْيًا"، و"رَعْيًا"، و"حَنانَيْكَ"، و"لَبَّيْكَ"، وَ "وَيْلَهُ"، وَ "وَيْحَهُ" وما أشبهَ ذلك ممّا دُعي به من المصادر، فكذلك أجروا أشياء من الجواهر غيرِ المصادر مُجْراها، فنصبوها نَصْبَها على سبيلِ الدُّعاء. وذلك نحوْ قولهم: "تُرْبًا لك، وجَنْدَلًا"، ومعناه: ألْزَمَك اللهُ أو أطْعَمَك اللهُ تُربًا، أي: تُرابًا، وجندلًا، أي: صَخْرًا. واختُزل الفعل ههنا, لأنّهم جعلوه بدلًا من قولك: "تَرِبَتْ يَداك وجُنْدِلَتْ"، فإن أدخلتَ "لَكَ" ههنا، وقلت: "تربًا لك وجندلًا لك" كان ¬
دخولُها كدخولها في "سَقْيًا لك" لبيانِ مَن تَعْنِي بالدعاء. فإن علِم الداعي أنَّه قد عُلم من يعني، جاز أن لا يأتي به لظُهوره، ورُبَّما جاء به مع العلم تأكيدًا، وإن لم يُعْلَم المعنى بالدعاء؛ فلا بدّ من الإتيان به، ورُبَّما رفعتِ العربُ هذا فقالوا: "تُرْبٌ له"، فَرفعُه بالابتداء، قال الشاعر [من الطويل]: 174 - لقد ألَّبَ الواشُون ألْبًا لِبَيْنِهم ... فتُرْبٌ لأفْواهِ الوُشاة وجَنْدَلُ و"تُرْبٌ" مبتدأٌ، والخبرُ "لأفْواهِ الوُشاة"، وفيه معنى المنصوب في الدعاء كما كان في قولك: "سلامٌ عليك" معنى الدعاء. وأمّا قولهم: "فاهَا لِفِيكَ"، فقد حكى أبو زيد: "فاها لفيك" بمعنَى "الخَيْبَةُ لك". وأنشد لرجلٍ من بَلْهجَيْم، وهو أبو سِدْرَةَ الأسَديُّ [من الطويل]: 175 - [تحسَّبَ هوّاسٌ وأيْقَنَ أَنَّني ... بها مُفْتدٍ من واحدٍ لا أُغامِرُه] فقلتُ لَه: فَاهًا لِفِيكَ فإِنَّها ... قَلُوصُ امْرِىء قارِيكَ ما أنتَ حاذِرُهْ ¬
وإنّما يعنون به فَم الداهِيَة، فالضميرُ يعود إلى الداهية، يدلّ على ذلك قولُه [من المتقارب]: 176 - وداهِيَةٍ من دَواهِي المَنُو ... نِ يَحْسَبُها الناسُ لا فَا لها ¬
و"فاها" منصوبٌ بمنزلةِ "تُرْبًا" و"جندلاً"، كأنّك قلت: "تربًا لِفِيك". وإنّما يخُصّون الفَمَ بذلك, لأنّ أكثرَ المَتالِف فيما يأكُله الإنسانُ ويشرَبه. وصار "فاها" بدلاً من اللفظ بقولك: "دَهاك اللهُ". وإنّما قلنا بدلاً من هذا اللفظ تقريبًا, لأنّه فَم الداهية في التقدير، فقُدّر الفعلُ المتصرِّفُ من الداهية، وليس القصدُ إلَّا تقديرَ فعلٍ ناصبٍ، ليس شيئًا معيَّناً لا يُتجاوز، وإنّما يُقْصَد ما يُلائم المعنى، ويُقارِب اللفظَ. وقالوا: "هَنِيئًا مَرِيئًا"، وهما صفتان. تقول: "هذا شيءٌ هنيءٌ مريءٌ"، كما تقول: "هذا رجلٌ جَمِيلٌ صَبِيحٌ"، ونحوَهما ممّا هو على فَعِيل من الصفات. ولم يأتِ من الصفات ما يُدْعَى به إلَّا هذان الحرفان، وليسا بمصدرَيْن، إنّما هما من أسماءِ الجواهر كالتراب والجندل وانتصابُهما بفعل مقدَّر تقديرُه: ثَبَتَ لك ذلك هنيئًا مريئًا، فتكون حقيقةُ نَصْبه على الحال، وذلك تقوله لشيء تراه عنده ممّا يأكل أو يستمتِع به على سبيلِ الدُّعاء بلفظِ الخبر، كما تقول: "رَحِمَهُ اللهُ"، ثمّ حُذف الفعل وجُعل بدلاً من اللفظ بقولهم: "يَهْنَأُكَ"، يدلّ على ذلك أنّه يظهر "يهنأك" في الشعر على سبيلِ الدعاء، قال الأخْطَل [من البسيط]: 177 - إلى إمامٍ تُغادِينا فَواضِلُه ... أظْفَرَهُ الله فَلْيَهْنِىءْ له الظَّفَرُ ¬
دعاء له يَهْنِىءُ، و"الظفَرُ" فاعلُه، فصار "يهنىء له الظفرُ" بمنزلةِ "هنيئًا له الظفَرُ"، وصار اختزالُ الفعل وحذفُه في "هنيئًا له" كحَذفه في قولهم: "الحَذَرَ"، وتقديرُه: احْذَرِ الحَذَرَ. وقالوا: "عائذًا بك". قال الشاعر [من البسيط]: 178 - ألْحِقْ عَذابَك بالقوم الذين طَغَوْا ... وعائذًا بك أنْ يَعْلُوا فيُطغْونِى وقالوا: "أقائمًا وقد قعد الناسُ؟ " و"أقاعدًا وقد سار الرَّكْبُ؟ " فإنّ هذه أسماءُ فاعلين، وهي منصوبةٌ على الحال. وقد قدّر سيبويه (¬1) العاملَ فيها بأفعالٍ من ألفاظها على حدّ قولك: "أقِيامًا والناسُ قُعُودٌ". و [من الرجز]: 179 - أطَرَبًا وأنتَ قِنَّسْرِيُّ ... [والدهرُ بالإنسانِ دوّاريُّ] ¬
فكأنّه قال: "أعُوذُ عائذًا بك"، و"أتقوم قائمًا، وأتقعُد قاعدًا". وحَذَفَه استغناءً، وقد أنكره بعضُ النحويّين، وقال: الفعلُ لا يعمل في اسم الفاعل إذا كان حالاً من لفظِ الفعل لعَدَمِ الفائدة، إذ قد علم أنّه لا يقوم إلَّا قائمًا، ولاَ يقعد إلَّا قاعدًا, لأنّ الفعل قد دلّ عليه، وإذا ورد شيءٌ من ذلك فتأوُّلُه بالمصدر، فيكون تقديرُ "عائذًا"، و"قائمًا" و"قاعدًا" إذا جعلتَ العاملَ "أعوذُ"، و"تقومُ"، و"تقعدُ" بتقديرِ "عِياذٍ" و"قِيام" و"قُعُودٍ"، وهو رأيُ أبي العبّاس. والذي قدّره سيبويه لا يمتنع لأنّ الحال قد يرِدُ مؤكِّدًا كما يرد المصدرُ مؤكِّدًا، وإن كان الفعلُ قد دلّ على ما دلّ عليه اسمُ الفاعل. قال الله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا} (¬1)، فذكر "رسولاً" وإن كان الفعلُ قد دلّ عليه على سبيلِ التوكيد. واعلمْ أنّه لا يجوز إضمارُ الفعل الدالِّ على الحال إلَّا أن تكون الحالُ مشاهَدة تدلّ عليه. لو قلتَ مبتدِئًا من غيرِ حال تدلّ عليه: "قائمًا"، أو "قاعدًا" كما تقول في المصدر: "قِيامًا يا زيدُ" لم يجز, لأنّ المصدر مأخوذٌ من لفظِ الفعل، فهو دالُّ على فعل معيَّن، وليس كذلك الحالُ لأنّه لا يدلّ على فعلٍ مخصوصٍ, لأنّه يجوز أن تقول: "ثَبَتَ قائمًا"، أو "جاءَ قائمًا"، أو "ضَحِكَ قائمًا". وإنّما جاز أن تقول: "أقائمًا وقد قعد الناسُ" لِما شُوهد منه من أماراتِ القيام، والتأهُّبِ له، حتّى صار بمنزلةِ الذي رآه في حال قيام وقعودِ، وكذلك "عائذًا بك" كأنّه رأى شيئًا يُتّقى، فصار عند نفسه في حالِ استعاذته، فقال: "عائذًا بك"، كأنّه قال: "أعوذُ عائذًا بك". وإذا ذكرتَ شيئًا من هذا ¬
فصل [إضمار المصدر]
الباب، فالفعلُ متّصِل في حالِ ذِكْرك إياه، فأنتَ تعمل في تَثْبِيته، فاعرفه. فصل [إضمار المصدر] قال صاحب الكتاب: "ومن إضمارِ المصدر قولُك: "عبدُ الله أظُنُّه منطلقٌ" تجعل الهاءَ ضميرَ الظن، كأنك قلت: "عبدُ الله أظُنُّ ظَنِّي منطلقٌ"، وما جاء في الدَّعْوة المرفوعة "وَاجْعَلْهُ الوارِثَ مِنَّا" (¬1) محتملٌ عندي أن يُوَجَّه على هذا". * * * قال الشارح: قوله: "من إضمارِ المصدر" يُوهِّم أنّه قد تقدّم إضمارُ مصدر حتّى عُطف عليه، والذي تقدّم إضمارُ فعلٍ عاملٍ في المصدر. وقوله: "عبدُ الله أظُنُّه منطلقٌ" فـ "عبد الله"، مبتدأٌ، و"منطلقٌ" الخبرُ، و"الظَّنُّ" مُلْغَى، والهاءُ ضميرُ المصدرِ أُضْمِرَ لتقدُّمِ ذِكْرِ الفعل. والفعلُ دالٌ على مصدره إذ كان من لفظه، ومشتقًّا منه، فصار تقدُّمه كتقدُّمِ المصدر. فكما يُكْنَى عن المصدر إذا تقدّم، فكذلك يُكْنَى عنه إذا تقدّم الفعلُ، وذلك قولُهم: "مَن كَذَبَ كان شَرًّا له"، أي: كان الكِذْبُ شرًّا له، فكذلك تقول: "عبدُ الله ظننتُه منطلقٌ"، فتكون الهاءُ عائدةً إلى "الظَّنَّ". قال الشاعر العَبْدي [من الطويل]: 180 - فجَالَ على وَحْشِيِّهِ وتَخالُه ... على ظَهْره سِبَّا جَدِيدًا يَمانِيَا فالهاء في "تخاله" عائدةٌ على المصدر، كأنّه قال: "فتَخالُ الخالَ"، ألا ترى أنه أتى بمفعولِ "تَخَالُ"، وهو الجارُّ والمجرورُ الذي هو"عَلَى ظَهْرِهِ" و"سِبّا"، فاستَوْفَى الفعلُ ما ¬
يقتضيه، فلم يَبْقَ إلَّا أن يكون ضميرَ المصدر. واعلمْ أنّك إذا أتيتَ بضميرِ المصدر، نحوَ "عبدُ الله ظننتُه منطلقٌ"، قبُح إلغاءُ الفعل، لأنّ الإتيان بضميرِ المصدر كالإتيان به إذ كان كِناية عنه، والمصدرُ مؤكِّدٌ للفعل، وقبُح إلغاؤه بعد تأكيده. وأقبحُ من ذلك أن تُصرّح بالمصدر، ثمّ تُلْغِيه، نحوَ: "عبدُ الله ظننتُ ظنًّا منطلقٌ"، لأنّ التصريح بالمصدر كتكريرِ الفعل، فلذلك كان أقبحَ، ولو قلت: "ظننتُه عبدَ الله منطلقًا" لم يجز الإلغاءُ ألبتةَ، لأنّك إذا قدّمتَ الفعلَ على مفعولَيْه، لم يجز الإلغاءُ، فإذا أُكّد بالمصدر مع ذلك، كان إلغاؤه أجدرَ بالامتناع. قال: وما جاء في الدعوة المرفوعة "وَاجْعَلْهُ الوارِثَ منّا"، يجوز أن تكون الهاءُ عائدة إلى ما تقدَّم، لأنّ من جملةِ الدعاء "وأمْتِعْنَا اللَّهُمَّ بأسماعِنا، وأبصارِنا ما أحْيَيْتَنَا"، فيجوز أن تكون الهاءُ عائدةَ إلى المذكور، كأنّه قال: واجعلِ الإمتاعَ الوارِثَ منّا، قال: ويُمْكِن أن يُوَجَّه على إضمارِ المصدر، كأنّه قال: واجعلِ الوارثَ منّا، أي: أعْضاءَنا، إشارةً إلى السَّمْع والبَصَرِ جَعْلاَ، ثمّ كَنَى عن الجَعْل.
المفعول به
المفعول به فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: "هو الذي يقع عليه فعلُ الفاعل في مثلِ قولك: "ضَرَبَ زيدٌ عمرًا" و"بلغتُ البَلَدَ". وهو الفارقُ بين المتعدّي من الأفعال، وغيرِ المتعدّي. ويكون واحدًا فصاعدًا إلى الثلاثة، على ما سيأتيك بَيانُه في مكانه إن شاء الله. ويجيء منصوبًا بعاملٍ مضمرٍ مستعمَلٍ إظهارُه، أو لازمٍ إضمارُه". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إنّ المصدر هو المفعول في الحقيقة، فإذا قلتَ: "قام زيدٌ"، و"فَعَلَ زيدٌ قِيامًا"، كانا في المعنى سَواءً، ألا ترى أنّ القائل إذا قال: "مَن فعل هذا القيامَ؟ " فتقول: "زيدٌ فَعَلَه"، والمفعول به ليس كذلك، ألا ترى أنّك إذا قلت: "ضربتُ زيدًا"، لم يصح تعبيرُه بأن تقول: "فعلتُ زيدًا"؛ لأن "زيدًا" ليس ممّا تفعله أنتَ، وإنّما أحللتَ الضربَ به، وهو المصدرُ. وهذا معنى قوله: "هو الذي يقع عليه فعلُ الفاعل". يريد يقع عليه المصدرُ, لأن المصدر فعلُ الفاعل، وذلك؛ نحو: "ضَرَبَ زيدٌ عمرًا"، و"أكرمَ محمّدٌ خالدًا". وقوله: هو الفارق بين المتعدّي من الأفعال وغيرِ المتعدّي، يعني أنّ اعتبارَ المتعدّي إنّما هو بالمفعول به، لأنّ جميعَ الأفعال لازمَها ومتعدِّيها يتعدّى إلى المصدر، والظرفِ من الزمان، والظرفِ من المكان؛ وأمّا المفعول به فلا يَصِل إليه إلَّا ما كان متعدّيًا. ومعنى التعدّي أنّ المصدر الذي هو مدلولُ الفعل، وهو فعلُ الفاعل، على ضربَيْن: ضرب منهما يُلاقي شيئًا، ويُؤثر فيه، فيُسَمَّى متعدّيًا، وضربٌ منهما لا يلاقي شيئاً، فيسمّى غيرَ متعدّ. فكلُّ حركة للجِسْم كانت ملاقِيَةً لغيره سُمّيت متعدّيةً، وكلُّ حركة له لم تكن ملاقية لغيره كانت لازمةً، أي: هي لازمةٌ للفاعل، لا تتجاوزه نحو "قَامَ"، و"قَعَدَ"، وسيُوضَح ذلك في قِسْم الأفعال. ويكون واحداً فصاعدًا إلى الثلاثة، يعني أن الفعل قد يتعدّى إلى مفعول واحد، نحو: "ضرب زيدٌ عمرًا"، وقد يتعدّى إلى مفعولَيْن، نحوَ: "أَعْطَى"،
"وظَنَّ"، وقد يتعدّى إلى ثلاثة، نحوَ: "أَعْلَمَ"، و"أَرَى" وسيوضَح أمرُ ذلك في فصلِ الأفعال. وقد يُحْذَف العامل في المفعول، وذلك على ضربَيْن: أحدُهما: ما يجوز إظهارُه وحذفُه. والثاني: ما لا يجوز ظهورُه، ولا يُستعمل إلَّا محذوفَ العامل، وسيوضَح ذلك في فصلٍ عقيبَ هذا الفصل، فاعرفه.
المنصوب بالمستعمل إظهاره
المنصوب بالمستعمَلِ إظهارُه فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: "هو قولك لِمَن أخذ يضرب القومَ، أو قال: "أضْرِبُ شرَّ الناس": "زيدًا"، بإضمارِ "اضْرِبْ"؛ ولِمَن قطع حديثَه: "حديثَك"؛ ولمن صدرتْ عنه أفاعِيلُ البُخَلاء: "أكُلَّ هذا بُخْلاً"، بإضمارِ "هاتِ" و"تَفْعَلُ"". * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا إنّ قرائنَ الأحوال قد تغْنِي عن اللفظ، وذلك أن المراد من اللفظ الدلالةُ على المعنى، فإذا ظهر المعنى بقرينةٍ حاليّةٍ، أو غيرها، لم يُحْتَج إلى اللفظ المطابِق، فإن أُتي باللفظ المطابق، جاز، وكان كالتأكيد، وإن لم يُؤْتَ به فللاستغناء عنه، فلذلك يجوز حذفُ العامل. وهو في ذلك على ثلاثة أضربٍ: ضربٌ لا يجوز حذفُ العامل، وضربٌ يجوز حذفُه وإثباتُه، وضربٌ يُحْذَف، ولا يجوز إثباتُه. فالأوّل: أن تقول: "زَيْدًا" مَثَلاً، وتريد: اضْرِبْ زيدًا، وليس ثمَّ قرينةٌ تدلّ عليه. فهذا لا يجوز، لاحتمالِ أن يكون المرادُ: اضربْ زيدًا، أو أَكْرِمْ زيداً، أو اشْتِمْ زيدًا، أو غيرَ ذلك، ممّا لا يُحْصَى، فهذا يكون إلباسّا، فلذلك لا يجوز مثلُه. والضرب الثاني: وهو ما يجوز استعمالُه وحذفُه وأنتَ مخيَّرٌ فيه، فهو أن ترى رجلاً يضرب، أو يشتم، فتقول: "زيداً"، تريد: اضربْ زيدًا، ويجوز إظهارُه فتقول: "اضربْ زيداً"، وقال: "أضربُ شرَّ الناس"، فقال بعضُ السامعين: "زيدًا"، أي: اضربْ زيدًا، فإنّه شرُّ الناس. وكذلك إذا كان رجلٌ في حديثٍ، ثمّ حَضَرَ مَن قطع الحديثَ من أجلِه، فتقول: "حديثَك"، معناه: هاتِ حديثَك، أو أَتِمّ حديثَك. وكذلك إذا صدرت من إنسانٍ أفاعيلُ البُخَلاء مثلَ أن يُطْلَب منه ما جَرَتِ العادةُ أن لا يَرِد من مثله، أو يُخْبَرَ عنه بمثلِ ذلك، فتقول: "أكُلَّ هذا بُخْلاً"، معناه: أتفعلُ كل هذا بُخْلاً. وهذه الأشياءُ كلُّها منصوبةٌ بالعامل المحذوف للدلالة عليه، ولو ظَهَرَ لَجاز.
فصل
فصل قال صاحب الكتاب: "ومنه قولك لِمَن زكنت أنّه يُريد مَكَّةَ: "مكة وَرَبِّ الكَعْبَةِ"، ولِمَن سدّد سَهْمًا: "القِرْطاسَ وَاللهِ"، وللمستهِلّين إذا كبّروا: "الهِلالَ واللهِ" تُضْمِر "يريد"، "ويُصيب"، "وأَبْصَروا"، ولرائِي الرُّؤْيَا: "خيرًا وما سَرَّ"، و"خيرًا لنا وشَرَّا لعَدُوّنا" أي: رأيتَ خيرًا، ولمَن يذكر رجلاً: "أَهْلَ ذاك وأهْلَهُ"، أي: ذكرتَ أهلَه، ومنه قوله [من الخفيف]: 181 - لَنْ تراها ولو تأمّلتَ إلا ... وَلَهَا في مَفارِقِ الرّأْسِ طِيبَا أي: وترى لها. ومنه قولهم: "كاليَوْم رجلاً" بإضمار "لم أَرَ". قال أَوْسٌ [من الكامل]: 182 - [حتى إذا الكلّابُ قال لها] ... كاليوم مطلوبًا ولا طَلَبَا" * * * ¬
قال الشارح: قوله: "ومنه" يريد ممّا حُذف منه الفعلُ، ويجوز إظهارُه، فإن حذفتَه فللاستغناء عنه، وإن أظهرته فلتأكيد البَيان. فمن ذلك إذا رأيتَ رجلاً متوجِّهًا وَجْهَ الحاجّ قاصدًا في هَيْئةِ الحاجّ، قلتَ: "مَكَّةَ وَاللهِ"، كأنّك قلت: "يريد مكّةَ واللهِ". وإن شئتَ أضمرتَ لفظَ الماضي، كأنّك قلت: "أراد مكةَ"، كأنّك أخبرتَ بهذه الصيغة أنّه كان فيها أَمْسِ، ولو أظهرتَ ما أضمرتَ لجاز. وكذلك إذا رأيتَ أن رجلاً قد سدّد سَهْمًا قِبَلَ القِرْطاس، فقلت: "القرطاس واللهِ"، أي: يُصيب القرطاسَ، كأنّك لمّا شاهدت إجادة التسديد، فحدستَ الإصابة. وكذلك لو سمعت وَقْعَ السهم في القرطاس، قلت: "القرطاسَ واللهِ"، أي: أصاب القرطاسَ. ومن ذلك لو رأيتَ ناساً يرقُبون الهِلالَ، وأنتَ متباعدٌ منهم، فكبّروا، لقلت: "الهلالَ واللهِ"، أي: أبصروا الهلالَ واللهِ. ومن ذلك إذا قصَّ إنسانٌ عليك رُؤْيا رآها، فعبّرتها له، قلت: "خيرًا لنا وما سرَّ"، و"خيرًا لنا وشرَّا لعدُوّنا" تقول ذلك على سبيلِ التفاؤُل، كأنّك قلت: "رأيتَ خيرًا، وأبصرتَ خيرًا، ورأيت ما سرَّ"، أي الذي سرّ، ورأيتَ خيرًا، لنا وشرًّا لعدوّنا، وما أشبهَ ذلك. ومن ذلك إذا ذُكر رجلٌ، فأُثْنِيَ عليه خيرٌ، أو شرٌّ، فقلت: "أَهْلَ ذاك"، أو "أَهْلَهُ" معناه ذكرتَ أهلَ ذاك، أو أهلَه، والهاءُ تعود إلى الذكْر أو الثناء، كأنّك قلت: "ذكرتَ أهلاً لذلك الذكر، أو الثناءِ"، لأنّه في ذكره، فحَمْلُه على المعنى. وأمّا قول الشاعر [من الخفيف]: لن تراها ... إلخ فقد ذهب سيبويه (¬1) إلى أنّه منصوبٌ على المعنى، لأنْه لما قال "لن تراها إلَّا ولها ¬
فصل [شواهد على حذف العامل]
في مَفارِق الرأس طيبًا"، دلّ على أنّ الطيب داخلٌ في الرؤية، فَنَصَبَه على هذا التأويل، ومثلُه قوله [من السريع]: 183 - تَذَكرَتْ أَرْضًا بها أَهْلَهَا ... أَخْوَالَها فيها وأعمامَها لأنّ الأخوال، والأعمامَ قد دخلوا في التذكُّر، وقد رَدَّ هذا وأشباهَه أبو العباس المبرَّدُ، وذكر أنّ مثل هذا لا يجوز، لأنّه لا يُحْمَل على المعنى إلّا بعد تَمامِ الكلام الأولِ, لأنّه حملٌ على التأويل، ولا يصح تأويل الكلام إلّا بعد تَمامه. وأما التقديرُ: لن تراها -وإن تأمّلتَ- إلّا رأيتَ لها في مفارقِ الرأس طيبًا، فهو منصوبٌ بإضمار فعلٍ، وإليه ذهب صاحبُ هذا الكتاب. فصل [شواهد على حذف العامل] قال صاحب الكتاب: قال سيبويه (¬1): وهذه حُجَجٌ سُمعت من العرب، يقولون: "اللَّهُمَّ ضَبُعًا، وذِئْبًا" (¬2)، وإذا سألتَهم ما تعنون؟ قالوا: اللهمّ اجْمَعْ فيها ضبعًا وذئبًا، وسمع أبو الخطّاب بعضَ العرب، وقيل له: لِمَ أفسدتم مكانَكم؟ فقال: "الصِّبْيانَ بأَبِي"، أي: لُمِ الصبيانَ. وقيل لبعضهم: أمَا بمكانِ كذا وَجْذٌ؟ فقال: "بَلَى وِجاذًا"، أي: أَعرِفُ به وجاذًا". * * * قال الشارح: قوله: "وهذه حُجَجٌ سُمعت من العرب" يعني شَواهِدَ من كلام العرب ¬
على جَوازِ حذف الفعل العاملِ، وذلك قولُهم في مَثَلٍ من أَمْثالهم: "اللهمّ ضَبُعًا، وذِئبًا"، كأَنَّ قائله يدعو على غَنَمِ غيره، فإذا قيل: "ما تعنون"؟ قالوا: "اللهمّ اجْمَعْ فيها ضبعًا وذئبًا"، فأُضْمر العامل. قال سيبويه (¬1): كلّهم يُفسِّر ما يَنْوِي، يعني يُقدِّر المحذوفَ على هذا الوجه. قال أبو العبّاس: سمعنا أن هذا دعاءٌ لها، دعاءٌ عليها، لأنّ الضبع والذئب إذا اجتمعا تَقاتَلَا، فأَفْلَتَتِ الغنمُ. ومن ذلك ما حكاه سيبويه (¬2) عن أبي الخطّاب الأخفش -وكان من مَشايخ سيبويه- أنّه سمع بعضَ العرب، وقد قيل له: "لِمَ أفسدتم مكانَكم؟ " فقال: "الصِّبْيانَ بأبِي"، كأنّه خاف أن يُلامَ، فقال: "لُمِ الصبيانَ"، فأضمرَ ما ينصب. ومن ذلك ما حكاه سيبويه (¬3) قال: "وحدَّثَني مَن يُوثَق به أنّه قيل لبعضهم: "أمَا بمكانِ كذا وَجْذٌ"؟، بالجيم المعجمة والذال المعجمة -وهو نُقْرَةٌ في الجبل تُمسِك الماءَ - فقال: بَلَى وِجاذًا، أي: أعرِفُ به وجاذًا، فأضمر العاملَ. ¬
المنصوب باللازم إضماره
المنصوب باللازم إضمارُه المُنادَى فصل قال صاحب الكتاب: منه المُنادَى, لأنّك إذا قلت: "يا عبدَ الله"، فكأنّك قلت: "يا أُرِيدُ، أو أَعْنِي عبدَ الله"، ولكنّه حُذف لكثرةِ الاستعمال، وصار "يَا" بَدَلًا منه. ولا يخلو من أن ينتصبَ لفظًا، أو مَحَلاً. فانتصابُه لفظًا إذا كان مضافًا كـ "عبدِ الله"، أو مضارعًا له كقولك: "يا خيرًا من زيد"، و"يا ضاربًا زيدًا"، و"يا مضروبًا غلامُه"، و"يا حَسَنًا وَجْهَ الأخ"، و"يا ثلاثة وثلاثين"؛ أو نكرة كقوله [من الطويل]: 184 - فَيَا رَاكِبًا إما عرضتَ فبَلّغَنْ" ... [ندامايَ من نَجْرانَ ألّا تلاقيا] * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ المنادَى عند البصريين أحدُ المفعولات، والأصلُ في كلّ منادى أن يكون منصوبًا، وإنّما بنوا المفردَ المعرفةَ على الضّم لعلّةٍ نذكرها، والذي يدلّ على أنّ الأصل في كل منادى النصبُ قولُ العرب: "يا إيّاك" لما كان المنادى منصوبًا، وكنُّوا عنه؛ أتوا بضمير المنصوب، هذا استدلالُ سيبويه. وقد قالوا: "يا أَنْتَ" أيضًا، فكنوا عنه بضمير المرفوع نَظرًا إلى اللفظ، كما قالوا: "يا زيدُ الظريفُ". فأتبعوا النعتَ على اللفظ. قال الشاعر [من الرجز]: 185 - يا مُرَّ يا ابنَ واقع يا أَنتَا ... أنْتَ الّذي طلّقتَ عامَ جُعْتَا فإذا قلت: "يا إيّاك"، كان تقديرُه: يا إيّاك أعني. ومن قال: إنّ "إيّاك" مضافٌ على ما يشرح في موضعه، قال: لم ينصب "أنت" لأنه مفرد، ونصب "إِياك" لأنه مضاف. وممّا يدلّ على أنّ أصلَ المنادى النصبُ؛ نَصبُهم المضافَ في قولهم: "يا عبدَ الله"، والمشابِهَ له من نحو "يا خيرًا من زيد"، والمنكورَ من نحو "يا رجلاً"، و"يا راكبًا". والناصبُ له فعلٌ مضمرٌ تقديرُه: أُنادِي زيدًا، أو أُريد، أو أَدْعو، أو نحو ذلك. ولا يجوز إظهارُ ذلك، ولا اللفظ به, لأن "يا" قد نابت عنه؛ ولأنّك إذا صرّحتَ بالفعل، وقلتَ: "أُنادي"، أو"أريد"، كان إخبارًا عن نفسك، والنداءُ ¬
ليس بإخبار، وإنّما هو نفسُ التصويت بالمنادى، ثمّ يقع الإخبارُ عنه فيما بعدُ، فتقول: "نادَيْتُ زيدًا". وكان أبو العبّاس المبرّدُ يقول الناصبُ نفسُ "يا" لنيابتها عن الفعل، قال: "ولذلك جازت إمالتُها". وكان أبو عليّ يذهب في بعض كلامه إلى أنّ "يا" ليس بحرف، وإنما هو اسمٌ من أسماء الفعل. والمذهبُ الأول، فالمنصوب في اللفظ على ثلاثة أضرب: مضافٌ، ومشابةٌ للمضاف، ونكرةٌ؛ فأمّا المضاف فهو منصوبٌ على أصلِ النداء الذي يجب فيه النصبُ كما بَيَّنَّا، المعرفةُ والنكرةُ في ذلك سواءٌ، فتقول في المعرفة: "يا عبدَ الله أقْبِلْ، ويا غلامَ زيد افْعَلْ"، وتقول في النكرة "يا عبدَ امرْأةٍ تَعالَ، ويا رجلَ سَوْءٍ تُبْ". وأمّا المضارع للمضاف، فحكمُه النصبُ أيضًا كما كان المضافُ كذلك، وذلك قولُك: "يا خيرًا من زيد"، و"يا ضاربًا زيدًا"، و"يا مضروبًا غلامُه"، و"يا حَسَنًا وَجْهَ الأخ"، و"يا ثلاثةً وثلاثين" كلُّه منصوبٌ لما ذكرناه من شَبَهِ المضاف، ووجهُ الشبه بينهما من ثلاثةِ أَوْجُه: أحدُها: أن الأوّل عاملٌ في الثاني، كما كان المضافُ عاملاً في المضاف إليه. فإن قيل: المضافُ عاملٌ في المضاف إليه الجرَّ، وهذا عاملٌ نَصْبًا، أو رَفْعًا، فقد اختلفا؛ قيل: الشيءُ إذا أشبهَ الشيءَ من جهةٍ، فلا بد أن يُفارِقه من جهاتٍ أخرى، ولولا تلك المفارقةُ، لكان إياه، فلم تكن المفارقةُ قادِحة في الشَّبَه. الوجه الثاني: من المشابهة أنّ الاسم الأول مختصٌّ بالثاني، كما أنّ المضاف يتخصص بالمضاف إليه، ألا ترى أنّ قولنا: "يا ضاربًا رجلًا" أخصُّ من قولنا: "يا ضاربًا". الثالث: أنّ الاسم الثاني من تَمامِ الأوّل، كما أنّ المضاف إليه من تمام المضاف، ألا ترى أن الجارّ والمجرور في قولك: "يا خيرًا من زيد" من صلةِ "خير"، وإذا كان من صلته ومتعلِّقًا به، كان من تمامه. وكذلك "يا ضاربًا زيدًا" فـ "زيدٌ" منصوبٌ بـ "ضاربٍ"، فهو من تمامه، وكذلك "يا مضروبًا غلامُه"، فالغلامُ مرتفعٌ باسم المفعول الذي هو"مضروبٌ". وكذلك "يا حسنًا وجهَ الأخ" نصبتَ "الوجه" على الشَّبَه بالمفعول، ولا يحسن رفعُه لأنّه يفتقر إلى عائدٍ. فهذه كلُّها منصوبةٌ، سَواء جعلتَها أعلامًا، أو لم تجعلها. فإن جعلتها أعلامًا، نصبتها لشَبَهها بالمضاف، وإن جعلتها معرفةً بالقصد فهي منصوبةٌ لذلك، وإن كانت نكرةً، كانت منصوبةً كسائر النكرات. والتنوين في جميع ذلك كحرفٍ من وسط الاسم، إذ كان ما بعده من تَمامه،
وصلتِه، فصارت "الراءُ" من "خير" و"الباءُ" من "ضارب" بمنزلة "الياء" من "الذي". وأمّا قوله: "يا ثلاثةً وثلاثين" فإن سمّيت بهما وجعلتَهما عَلَمًا، نصبتَهما كما لو سمّيتَ بـ "زيد" و"عمرو"، لأنّك جعلتهما بإزاءِ حقيقة واحدة، فكان الثاني من تمام الأوّل، وتابعًا له في إعرابه بإشراكِ الواو، فصار كأن الأوّل عاملٌ في الثاني، فانتصب كما ينتصب "يا خيرًا من زيد" فحرفُ النداء نَصَبَ الاسمَ الأوّلَ، والثاني يتبعه في الإعراب لزومًا لطريقته التي كان عليها قبل التسمية، وهي متابعَةُ المعطوف المعطوفَ عليه في الإعراب. فإن ناديتَ جماعةً، هذه عدّتُهم، قلت: "يا ثلاثةُ وثلاثون، وإن شئتَ نصبتَ الثانيَ، فقلتَ: "يا ثلاثةُ وثلاثين"، كما تقول: "يا زيدُ والحارثُ، والحارثَ"، فالرفعُ عطفٌ على اللفظ، والنصبُ عطفٌ على المحل، لأنّهما اسمان متغايران، كلّ واحد منهما بإزاءِ حقيقةٍ غير الأخرى، وليس كذلك إذا سمّيتَ بهما، وجعلتَهما عبارةَ عن حقيقة واحدة. الثالث: النكرة وهي منصوبةٌ أيضًا في النداء، وذلك قولك: "يا رجلاً"، و"يا غلامًا" فـ "غلامٌ"، و"رجلٌ" في هذا الموضع يُراد به الشائعُ؛ لأنّه لم يُوَجَّه الخطابُ نحوَهما مختصًّا بالنداء. ومثالُ ذلك الأَعْمَى يقول: "يا رجلاً خُذْ بيدي"، و"يا غلامًا أَجرني"، فلا يقصِد بذلك غلامًا بعينه، ولا رجلاً بعينه، فالنصبُ في هذه الأقسام الثلاثةِ من جهة واحدة، وأمّا قول الشاعر، وهو عبدُ يَغُوثَ [من الطويل]: فَيَا رَاكبًا إمّا عرضتَ فبَلِّغَنْ ... نَدامايَ من نَجْرانَ أنَ لا تَلاقِيَا (¬1) فالشاهد فيه نصبُ "راكب" لأنه منادى منكورٌ، إذ لم يقصِد قصدَ راكب بعينه، إنّما أراد راكبًا من الرُّكْبان، يُبلِّغ خبرَه، ولو أراد راكبًا بعينه لَبَناه على الضمّ، وإنّما قال هذا لأنّه كان أَسيرًا. * * * قال صاحب الكتاب: "وانتصابه محلاًّ إذا كان مفردًا معرفةً، كقولك: "يا زيدُ"، و"يا غلامُ"، و"يا أَيُّهَا الرجلُ" أو داخلة عليه لامُ الاستغاثة أو التعجبِ كقوله [من الخفيف]: 186 - يا لَعَطافِنا ويا لَرِياحِ ... [وأَبي الحَشْرَج الفَتَ النّفّاحِ] ¬
وقولِهم: "يا للماء"، و"يا للدَّواهي" أو مندوبًا، كقولك: "يا زيدَاه"". * * * قال الشارح: وأمّا انتصابه محلاًّ فإذا كان المنادَى مفردًا معرفةً؛ فإئه يُبْنَى على الضمّ، ويكون موضعُه نصبًا، وذلك على ضربَيْن: أحدُهما ما كان معرفةً قبل النداء، والثاني ما كان متعرِّفًا في النداء، ولم يكن قبلُ كذلك، وذلك، نحو "يا زيدُ" و"يا رجلٌ"، فـ "رجلٌ" نكرةٌ في الأصل، وإنّما صار معرفةً في النداء. وذلك أنّك لما قصدتَ قَصْدَه، وأقبلتَ عليه، صار معرفةً، باختصاصك إيّاه بالخطاب دون غيره. قال الأعشى [من البسيط]: 187 - قالت هُرَيْرَةُ لما جئتُ زائرَها ... وَيْلِي عليك ووَيْلي منك يارَجُلُ لمّا أرادتْ رجلاً بعينه. بناه على الضمّ؛ وأمّا "يا زيدُ"، و"يا حَكَمُ"، فهي معارفُ أيضًا. فإن قيل: هل التعريف الذي في "يا زيدُ" و"يا حكمُ" في النداء تعريفُ العَلَميّة بقي على حاله بعد النداء كما كان قبلَ النداء، أم تعريفٌ حَدَثَ فيه غيرُ تعرِيف ¬
العلمية (¬1)؟ فالجوابُ أنّ المعارف كلها إذا نُوديتْ تنكّرتْ، ثمّ تكون معارفَ بالنداء. هذا قولُ أبي العباس المبرّد. وقد خالَفَه أبو بكر بنُ السرّاج، أي: خِلافَ الصَّواب، وزعم أنّ قول أبي العبّاس فاسدٌ، قال: وذلك أنَّه قد وقع في الأسماء المفردةِ ما لا يشارِكه فيه غيرُه، نحو: "فَرَزْدَقٍ"، وزعم أنّ معنى تنكيرٍ اللفظ أن تجعله من أُمَّةٍ كلُّ واحد منهم له مثلُ اسمه. والقول ما قاله أبو العبّاس، وما أورده أبو بكر فغيرُ لازم, لأنّه ليس ممتنعًا أن يسمّي الرجلُ ابنَه، أو عبدَه الساعةَ فرزدقًا، فتحصل الشركةُ بالقُوّة والاستعدادِ. ونظيرُ ذلك أن الشمس والقمر من أسماء الأجناس، فتعرُّفُهما بالألف واللام، وإذا نزعناهما منهما، صارا نكرتَيْن، وإن لم يكن لهما شريكٌ في الوجود، فإنّما ذلك بالاستعداد, لأنه ليس مستحيلاً أن يخلُق اللهُ مثلهما. وإذا جاز ذلك في أسماء الأجناس، كان في الأعلام أَسْوَغَ، فصحَّ بما ذكرناه أنّك إذا ناديتَ العَلَمَ، تَنكَّر، ثمّ جُعل فيه تعريفٌ آخرُ قَصْديٌّ غيرُ التعريف الذي كان فيه، وصار ذلك كإضافة الأعلام، ومن المعلوم أنّك لمّا أضفتَها؛ فقد ابتززتَها تعريفَها، وحصل فيها تعريفُ الإضافة، وذلك نحو "زيدكم"، و"عمركم"، فكذلك ها هنا في النداء. وإن قيل إذا قلت: "يا زيدُ" و"يا خالدُ" أمبنىٌّ هو أم معربٌ (¬2)؟ وهل الضمّةُ فيه حركةُ بناء أو حركةُ إعراب؟ فالجوابُ أنّه مبنيٌّ على الضمّ، والذي يدلّ على ذلك حذفُهم التنوينَ منه، ولو كان معربًا لَمَا حُذف التنوين منه، كما لم يُحْذَف من النكرة، نحوَ [من الطويل]: فيا راكبًا إمّا عرضتَ (¬3) وممّا يدلّ أنّه غيرُ معرب أن موضعه نصبٌ، ألا ترى أنّ المضاف إذا وقع موقعَه، يكون منصوبًا، نحوَ: "يا عبدَ الله"، وأنّ نَعْتَ المفرد والمعطوفَ يجوز فيهما (¬4) الرفعُ على اللفظ والنصبُ، نحو: "يا زيدُ الظريفُ، والظريفَ"، و"يا زيدُ، والحارثُ، والحارثَ". قال الشاعر [من الوافر]: 188 - ألا يا قَيْسُ والضَّحّاكُ سِيرَا ... فقَدْ (¬5) جاوزتُما خَمَرَ الطريقِ ¬
يُروى برفع "الضحّاك" ونصبه، ولولا أنّ موضعه نصبٌ، لَمَا جاز النصبُ في نَعْته وما عُطف عليه. وذلك أنّ العامل إذا عمِل من رفعٍ، أو نصب، أو جرٍّ، لم يكن لذلك الاسم موضعٌ سِوَى ما ظهر، ألا ترى أنّ المضاف لمّا لم يكَن له موضعٌ سوى ما هو عليه، لم يجز في نعته غيرُ النصب، فبَانَ بذلك أنّه مبنيٌّ مضمومٌ. وقد ذهب قومٌ إلى أنّه بين المعرب والمبني، والمذهبُ الأوّلُ، إلا أنّ حركتَه، وإن كانت حركةَ بناء، إلّا أنها مشبَّهةٌ بحركةِ الإعراب من أجلِ أنّ كلّ اسم متمكِّن يقع في هذا الموضع يُضَمّ، فأشبه من أجلِ ذلك المرفوعَ بـ "قَامَ" ونحوِه من الأفعال، لأنّ كلَّ اسم متمكِّن يُسْنَد إليه الفعلُ، فهو مرفوعٌ، ولذلك حسن أن يتبعه النعتُ على اللفظ، فتقولَ: "يا زيدُ الطويلُ"، كما تقول: "قام زيدٌ الطويلُ". فإن قيل: فلِمَ بُني وحقُّ الأسماء أن تكون معربةً؟ فالجوابُ أنّه إنّما بُني لوقوعه موقعَ غير المتمكِّن، ألا ترى أنّه وقع موقعَ المضمر، والمتمكّنةُ من الأسماء إنّما جُعلت للغَيْبة، فلا تقول: "قام زيدٌ" وأنتَ تُحدِّثه عن نفسه، إنّما إذا أردتَ أن تُحدِّثه عن نفسه فتأتي بضميره، فتقول: "قُمْتَ". والنداءُ حالُ خِطابٍ، والمنادَى مخاطَبٌ، فالقياسُ في قولك: "يا زيدُ" أن تقول: "يا أنتَ" والدليلُ على ذلك أن من العرب من ينادِي صاحبَه إذا كان مُقْبِلاً عليه، وممّا لا يلتبِس نداؤه بالمكْني فيُناديه بالمكني على الأصل، فيقول: "يا أنت". قال الشاعر [من الرجز]: يا مُرَّ ابنَ واقعٍ يا أَنْتَا ... أنتَ الذي طلّقتَ عامَ جُعْتَا (¬1) ¬
غيرَ أنّ المنادى قد يكون بعيدًا منك، أو غافلاً، فإذا ناديتَه بـ "أنتَ" أو "إياك"، لم يعلم أنّك تخاطِبه، أو تخاطب غيرَه، فجئتَ بالاسم الذي يُخصّه دون غيره، وهو "زيدٌ"، فوقع ذلك الاسم موقعَ المكني، فتبنيه لِما صار إليه من مشاركةِ المكني الذي يجب بناؤه. فإن قيل: فالمنادى المنكور والمضافُ قد وقعا الموقعَ الذي ذكرتَه من حيثُ أنّهما مخاطَبان، فالجوابُ عنه من وجهَيْن: أحدُهما: أنّ المنادى المفرد المعرفةَ إنّما بُني مع وُقوعه الموقع الذي وصفناه، لأنّه في التقدير بمنزلةِ "أنتَ"، و"أنتَ" لا يكون إلّا معرفةً غيرَ مضاف، فخرج المنكورُ، إذ كان مخالِفًا لـ "أنتَ" من جهةِ التنكير، والمضافُ, لأنّ "أنتَ" غير مضاف، فلم يُبْنَ لذلك مع تمكُّنه بالإضافة. والوجه الثاني: أنّ المفرد يُؤثِّر فيه النداءُ ما لم يؤثر في المضاف والنكرةِ، فالمضافُ معرفةٌ بالمضاف إليه، كما كان قبل النداء، والنكرةُ في حال النداء كما كانت قبل ذلك و"زيدٌ"، وما أشبَهه في حال النداء معرفة بالإشارة، والإقبالِ عليه منتقلٌ عنه ما كان فيه قبل ذلك من التعريف، فلمّا لم يؤثر النداءُ في معناه لم يؤثّر في بنائه. فإن قيل: فلِمَ بُني على حركة؟ ولِمَ كانت حركتُه ضمّةً؟ فالجوابُ: أمّا تحريكُه، فلأنّ له أصلاً في التمكن، فوجب أنّ يُميز عن ما بُني، ولا أصلَ له في التمكّن، فبُني على حركةٍ تمييزًا له عن مثلِ "مَنْ" و"كَمْ" وغيرهما ممّا لم يكن له سابِقةُ إعراب، وخُصّ بضمّ لوجهَيْن: أحدُهما: شبَهُه بالغايات، نحو: "قَبْلُ"، "وبَعْدُ"، ووجهُ الشَبَه بينهما أنّ المنادى إذا أضيف، أو نُكّر، أُعرب؛ وإذا أُفرد بُني كما أنّ "قبل"، و"بعد" تُعْرَبان مضافتَيْن ومنكورتَيْن، وتُبْنَيان في غيرِ ذلك فكما بُني "قبل" و"بعد" على الضمّ كذلك المنادى المفرد يُبْنَى على الضمّ. والثاني: أنّ المنادى إذا كان مضافًا إلى مُنادِيه، كان الاختيارُ حذفَ ياء الإضافة والاكتفاءَ بالكسر منها، وإذا كان مضافًا إلى غائب، كان منصوبًا، وكذلك إذا كان منكورًا. فلمّا كان الفتحُ والكسرُ في غير حال البناء، وبُني، جُعل له في حال البناء من الحركات ما لم يكن له في غير حال بنائه، وهو الضمُّ، فذلك علّةُ بنائه على الضمّ. وانتصابه محلاًّ قولُهم: "يا أيُّها الرجلُ" فـ "أي" منادى مبهمٌ مبنيٌّ على الضمّ لكونه مقصودًا مشارًا إليه بمنزلةِ "يا رجلُ"، و"هَا" تنبيهٌ، و"الرجلُ" نَعْتٌ. والغرضُ نداءُ الرجل، وإنّما كرِهوا إيلاء أداةِ النداء ما فيه الألفُ واللامُ، فأتوا بـ "أي" وُصْلةً إلى نداء ما فيه الألفُ واللامُ، فصار "أيُّ" و"هَا" وصفتُه بمنزلةِ اسم واحد، ولذلك كانت صفةً لازمةً.
وكان الأخفش يذهب إلى أنّ "أَيًّا" من قولك: "يا أيها الرجل" موصولةٌ، وأنّ "الرجل" بعدها صلتُها، قال: لأنّ "أَيًّا" لا تكون اسمًا في غير الاستفهام والجزاءِ إلّا بِصِلةٍ، وهو قولٌ فاسدٌ، لأنه لو كان الأمرُ على ما ذكر؛ لَمَا جاز ضمُّه؛ لأنَّه لا يُبْنَى في النداء ما كان موصولاً، ألا ترى أنّه لا يقال: "يا خيرُ من زيد" بالضمّ، إنّما تقول: "يا خيرًا من زيد" بالنصب, لأن "من زيد" من تمامِ "خير"، فكذلك "الرجلُ" من تمامِ "أَيّ". واعلم أنّ حقيقةَ هذا النعت، وما كان مثلَه في نحو: "هذا الرجلُ" إنّما هو عطفُ بيان، وقولُ النحويين إِنه نعتٌ تقريبٌ، وذلك لأن النعت تَحْلِيَةُ الموصوف بمعنى فيه، أو في شيء من سَبَبه، وهذه أجناسٌ، فهي شرحٌ، وبيانٌ للأوّل كالبَدَل، والتأكيدِ، فلذلك كان عطفَ بيان، ولم يكن نعتًا. وممّا هو منصوبٌ في التقدير والموضعِ، وإن لم يكن لفظُه منصوبًا، ما دخل عليه لامُ الاستغاثة، نحو: "يا لزيدٍ"، إذا استغثتَ به لغيره، ودعوتَه لنُصْرته، وحقٌّ هذه اللام أنّ تكون مكسورةً لأنّها لامُ الإضافة، ولامُ الإضافة تكون مكسورةً مع الظاهر، نحوَ قولك: "المالُ لزيد"، غيرَ أنّه وقعت هذه اللامُ لمعنيَيْن: أحدُهما المستغاثُ به، والآخرُ المستغاثُ من أجله، فلم يكن بُدٌّ من التفْرِقة بينهما، ففُتحت لامُ المستغاث به، وتُركت لامُ المستغاث من أجله مكسورةً بحالها للفرق، فإذا قلت: "يا لَزيد" بالفتح، عُلم أنّه مستغاثٌ به، وإذا قلت: "يا لِزيد" بالكسر، عُلم أنه مستغاثٌ من أجله. قال الشاعر [من الوافر]: 189 - تَكَنَّفَنِي الوُشاةُ فأَزْعَجُوني ... فَيَا لَلنَّاسِ لِلواشِي المُطاعِ ¬
فتح اللامَ الأوُلى من "الناس"، لأنّهم مستغاث بهم، وكسر الثانية لأنّه مستغاثٌ من أجله. ومنه ما يُرْوَى أنّ عمر بن الخطّاب، رضي الله عنه، لمّا ضربه العَلْجُ قال: "يا لَلَّهِ لِلمسلمين". وموضعُ هذه اللام المفتوحة نصبٌ، والعاملُ فيها العاملُ في المنادَى المضافِ النصبَ، وهو ما ينوب عنه حرفُ النداء من الفعل، فإذا قال: "يا لِزيد"، فكأنّه قال: أدعوكم لِزيد، وكانت (¬1) اللامُ المكسورةُ مفعولاً ثانيًا، وأمّا قوله [من الخفيف]: يا لَعَطّافِنا ويا لَرِياحِ فهو إشارةٌ إلى قول الشاعر، وهما من أبيات الكتاب: يا لَقَوْمِي مَنْ لِلعُلا والمَساعِي ... يا لَقَوْمي مَن للنَّدَى والسَّماح يا لَعَطافِنا ويا لَرِياحِ ... وأبي الحَشْرَجِ الفَتَى النَفّاحِ (¬2) يَرْثِي رجالاً من قومه، هذه أسماؤُهم، يقول لم يَبْقَ: للعُلا والمساعي مَن يقوم بهما بعدَهم. والنَّفّاح: الكثيرُ العَطاءِ، ويُروى الوَضاح من الوَضَح، وهو البَياض، كأنّه أبيضُ الوجهِ لكَرَمِه. وأمّا دخول اللام للتعجّب، فنحو قولهم: "يا لَلماء"، كأنّهم رأوا عَجَبًا وماء كثيرًا، فقالوا: "تَعالَ يا عجبُ ويا ماءٌ فإنّه من إبّانك ووَقْتِك". وقالوا: "يا لَلدواهِي"، أي: تَعالَيْنَ، فإنّه لا يُستنكر لكُن لأنّه من أحْيانِكنّ، وكلُّ قولهم هذا في معنَى التعجّب والاستغاثةِ، ومثلُه قول الشاعر [من الطويل]: 190 - لَخُطّابُ لَيْلَى يا لَبُرْثُنَ مِنْكُمُ ... أَدَلُّ وأَمْضَى من سُلَيْكِ المَقانِبِ ¬
كأنّه رأى عجبًا من كثرةِ خُطّاب لَيْلَى، وإفسادها عليه، فقال: "يا لبرثن" على سبيلِ التعجّب، أي: مثلُكم من يُدْعَى للعظَيم. وقال الخليل (¬1): هذه اللامُ بدلٌ من الزيادة اللاحِقةِ في النُّدْبة آخِرَ الاسم من نحوِ "يا زيدَاهْ"، ولذلك تتعاقبان، فلا تدخل اللامُ مع ألفِ النُّدْبة، ومَجْراهما واحدٌ، لأنّك لا تدعو أحدًا منهما ليستجيبَ في الحال كما في النداء. وقال الفراء: أصلُ "يا لفلانٍ": "يا آلَ فلانٍ"، وإنّما خُفّف بالحذف، وهو ضعيفٌ، لأن "الآل" و"الأَهْلَ" واحدٌ، فلو كان الأصلُ ما ذكره، لجاز أن يقع موقعه الأهلُ في بعضِ الاستعمال، ولم يَرِدْ ذلك، فاعرفه. ومن ذلك قولهم في الندبة: "وَا زيداهْ"، و"وَا عمراهْ" موضعُه نصبٌ، وهو في تقدير مضموم حيث كان معرفةً مفردًا. وإنّما فُتح آخِره لمجاورة ألف الندبة كما يُكْسَر لمجاورةِ ياء الإضافة في قولكم: "يا زيدِي"، وسيوضَح ذلك في موضعه. ¬
توابع المنادى
توابعُ المنادى فصل قال صاحب الكتاب: "توابعُ المنادى المضومِ غيرِ المُبْهَم إذا أُفْردتْ حُملتْ على لفظه ومحلِّهِ، كقولك: "يا زيدُ الطويلُ، والطويلَ"، و"يا تَمِيمُ أجمعون، وأجمعين"، و"يا غلامُ بشْرٌ وبشرًا"، و"يا عمرُو والحارثُ، والحارثَ"، وقُرىء {وَالطَّيْرَ} (¬1) رفعًا ونصبًا، إلّا البَدَلَ، ونحوَ "زيد"، و"عمرو" من المعطوفات، فإن حُكْمَهما حكمُ المنادى بعينه، تقول: "يا زيدُ زيدُ"، و"يا زيدُ وعمرُو" بالضمّ لا غيرُ، وكذلك: "يا زيدُ أو عمرُو"، و"يا زيدُ لا عمرُو". * * * قال الشارح: اعلم أنّ لك أنّ تَصِفَ المنادى المفردَ إذا كان معرفةً، وتؤكِّدَه وتُبْدِلَ منه، وتعطِفَ عليه بحرفِ العطفِ وعطفِ البيان. وأمّا الوصف، فقدلك: "يا زيدُ الطويلُ"، لك أنّ ترفع الصفةَ حملاً على اللفظ، وتنصبَه حملاً على الموضع. فإن قيل: فهذا المضموم في موضع منصوبٍ، فلِمَ لا يكون بمنزلةِ "أَمسِ" في أنّه لا يجوز حملُ الصفة على اللفظ قلت: "رأيتُ زيدًا أَمْسِ الدابرِ" بالخفض على النعت، لم يجز، وكذلك قولُك: "مررتُ بعُثْمَان الظريفِ" لم تنصب الصفةَ على اللفظ؟ قيل: الفصلُ بينهما أنّ ضمّةَ النداء في "يا زيدُ" ضمّةُ بناء مشابهةٌ لحركة الإعراب. وذلك لأنّه لما اطرد البناءُ في كل اسم منادّى مفردٍ، صار كالعِلّة لرَفْعه، وليس كذلك "أمْسِ"، فإنّ حركته متوغِّلةٌ في البناء، ألا ترى أنّ كل اسم مفرد معرفة يقع منادّى، فإنه يكون مضمومًا، وليس كل ظرف يقع موقعَ "أمس" يكون مكسورًا، ألا تراك تقول: "فعلتُ ذلك اليومَ" و"أضربُ عمرًا غدًا"، فلم يجب فيه من البناء ما وجب في "أمس". ¬
وكذلك "عثمان"، فإنّه غيرُ منصرف، وليس كلُّ اسم ممنوعًا من الصرف، ومنه قوله [من الرجز]: 191 - يا حَكَمُ الوارثُ عن عَبْدِ المَلِكْ فرفع الصفةَ على اللفظ، وهو الأكثرُ في الكلام. وتقول في التأكيد بالمفرد: "يا تميمُ أجمعون، وأجمعين"، إن شئتَ رفعتَ على اللفظ، وإن شئت نصبت على الموضع. فحكمُ التأكيد كحكمِ الصفة، إلّا أنّ الصفة يجوز فيها النصبُ على إضمارِ "أَعْنِي"، ولا يجوز مثلُ ذلك في "أجمعين". وأمّا عطفُ البيان، فإنّه يكون بالأسماء الجامدة كالأعلام تكون كالشرح له، والبيانُ كالتأكيد والبدلِ، فتقول: "يا غلامُ بِشْرٌ وبشرًا"، الأوّلُ محمولٌ على اللفظ، والثاني محمولٌ على الموضع، وقد أنشدوا بيتَ رُؤْبَة [من الرجز]: 192 - إنّي وأَسطارِ سُطِرْنَ سَطْرًا ... لَقائلٌ يا نَصْرُ نَصْرٌ نَصْرَا ¬
فـ "نصرٌ" الثاني محمول على لفظِ الأول، والثالثُ محمول على الموضع، كما تقول: "يا زيدُ العاقلُ، والعاقلَ", لأنّ مجرَى عطفِ البيان والنعتِ واحدٌ. وقد أنشدوا البيتَ على ثلاثةِ أَوْجه: "يا نصرُ نصرٌ نصرًا"، وهو اختيارُ أبي عمرو، و"يا نصرُ نصرا نصرًا"، لجَرْي المنصوبَيْن مجرَى صفتَيْن منصوبتَيْن بمنزلةِ "يا زيدُ العاقلَ اللَبِيب". وكان المازنيُّ يقول: "يا نصرُ نصرًا نصرَا" ينصبهما على الإغراء, لأنّ هذا نصرٌ حاجبُ نصرِ بن سيّارٍ كان حَجَبَ رؤبةَ ومنعه من الدخول، فقال: اضْرِبْ نصرًا أو لُمْهُ". ويُروى: "يا نصرُ نصرُ نصرا" بجعلِ الثاني بدلاً من الأوّل، ولذلك لم يُنَوِّنْه، والثالثُ منصوبٌ على المصدر، كأنّه قال: انْصُرْني نصرًا، وسيوضَح أمرُ البدل وعطفِ البيان في موضعهما من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى. وأمّا العطف بحرفٍ، فنحو: "يا عمرُو والحارثُ والحارثَ"، إذا عطفتَ اسمًا فيه الألفُ واللامُ على مفردٍ، جاز فيه وجهان: الرفعُ والنصبُ. تقول في الرفع: "يا زيدُ والحارثُ"، وهو اختيارُ الخليل وسيبويه والمازني (¬1)، وقرأ الأَعْرَجُ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} (¬2). وتقول في النصب: "يا زيدُ والحارثَ"، وهو اختيارُ أبي عمرو ويُونُسَ، وعيسَى بن عمر، وأبي عمر الجَرمّي، وقراءةُ العامّة: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} بالنصب. وكان أبو العبّاس المبرّد يرى أنّك إذا قلت: "يا زيدُ والحارثُ"، فالرفعُ هو الاختيارُ عنده، وإذا قلت: "يا زيدُ، والرجلَ"، فالنصبُ هو المختارُ، وذلك أنّ "الحارث"، ¬
و"حارثًا" عَلَمان، وليس في الألف واللام معنى سِوَى ما كان قبلَ دخولهما، والألفُ واللامُ في "الرجل" قد أفادتا معنى، وهو معاقَبةُ الإضافة، فلمّا كان الواجبُ في الإضافة النصبَ، كان المختارُ، والوجهُ مع الألف واللام النصبَ أيضًا، لأنّهما بمنزلة الإضافة. فإن عطفتَ اسمًا مفردًا عَلَمًا على مثله، نحو: "يا زيدُ وعمرُو"، لم يكن فيه إلّا البناء, لأنّ العلّة المُوجِبَة لبناء الاسم الأوّل موجودةٌ في الثاني، لأنّ حرفَ العطف أَشْرَكَ الثاني في حكم الأوّل. ولذلك لو أبدلتَ الثاني من الأوّل، وهو مفردٌ، لم يكن فيه إلّا البناءُ والضمُّ، نحو: "يا زيدُ زيدُ"، و"يا أخانا خالدُ", لأنّ عِبْرَةَ البدل أنّ يحُلَّ مَحَل الأوّل، ولو أحللتَه مَحَلَّ الأوّل، لم يكن فيه إلّا البناء، ولذلك استثناه، فقال: إلّا البدل. وقوله: "ونحوَ زيد وعمرو" يعني في العطف بالحرف، ويُمثِّله بقوله: "يا زيدُ وعمرُو" و"يا زيدُ أو عمرُو"، و"يا زيدُ لا عمرُو" يُشير إلى أنّ جميعَ حروف العطف في ذلك سَواة، وإن اختلفت معانيها. وإن كان المنادى مُبْهَمًا كان حكمُه كحكم غيرِ إلّا أنّه يوصَف بالرجل، وما أشبهَه من الأجناس، فتقول: "يا أيهَا الرجلُ أقْبِلْ"، فيكون "أيُّ"، و"الرجلُ" كاسمٍ واحدٍ، فـ "أيُّ" مدعوٌّ، والرجلُ نعتُه، ولا يجوز أنّ يُفارِقه النعتُ، لأنّ "أيًّا" اسمٌ مبهمٌ لم يُستعمل، إلّا بصلة، إلا في الاستفهام، والجزاءٍ، فلما لم يُوصَل، أُلْزِمَ الصفةَ لتَبْيينه كما تُبيّنه الصلةُ، وقد أجاز المازني نصبَ ذلك حَمْلاً على الموضع قياسًا على غيرِ المبهم، والصوابُ ما ذكرنا للمانع المذكور. * * * قال صاحب الكتاب: "وإذا أُضيفت فالنصب, كقولك: يا "زيد ذا الجُمّةِ", وقوله [من الطويل]: 193 - أريد أخا ورقاء [إن كنت ثائرًا ... فقد عرضت أحناءُ حقّ فخاصم] ¬
و"يا خالد نفسه", و"يا تميم كلكم, أو كلهم", و"يا بشر صاحب عمرو", و"يا غلام أبا عبد الله", و"يا زيد وعبد الله"". * * * قال الشارح: وإن كان التابعُ مضافًا، لم يكن فيه إلَّا النصبُ، صفةً كان أو غيرَ صفة، مثالُ الصفة: "يا زيدُ ذا الجمّةِ"، و"يا زيدُ أخانا". قال الشاعر [من الطويل]: أزيدُ أخَا وَرْقاءَ إنْ كنتَ ثائرًا ... فقد عرضتْ أحْناءُ حَقٍّ فخاصِمِ الشاهد فيه نصبُ الصفة لأنهّا مضافة. ورقاء: حَيٌّ من قَيْس. والثائرُ: طالبُ الدم. يقول: إن كنتَ طالبًا لثَأْرك، فقد أمْكَنَك ذلك فاطْلُبْه، وخاصِمْ فيه. والأحناءُ: الجوانبُ، وهي جمعُ حِنْوٍ. ولا يجوز رفعُ هذه الصفة بحالٍ, لأنّ المنادى إذا وُصف بالمضاف لم يكن فيه إلّا النصبُ، وذلك من قِبَلِ أنّ الصفة من تَمامِ الموصوف، لأنها مخصِّصةٌ للموصوف موضِحةٌ له، كتخصيصِ الألف واللام في نحوِ: "الرجل"، و"الغلام". ولذلك لا يجوز تقديمُها عليه. ويؤيِّد عندك أنّ الصفة والموصوف كالشيء الواحد قولُه تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (¬1). فدخولُ الفاء في خبرِ "الموت" دليلٌ على اتحادِ الصفة والموصوف، ألا ترى أنّك لو قلت: "إن الرجل فإنّه مُلاقيك" لم يجز، وإنّما جاز في الآية, لأنّك وصفتَه بقولك: "الذي تفزون منه". والفاءُ تدخل في خبرِ الموصول بالفعل، فلمّا وصفوا "الموتَ" بما يجوز دخولُ الفاء في خبره، جاز دخولُها في خبرِ موصوفه. وإذ كانت منزلتُها من الموصوف هذه المنزلةَ، جاز أنّ يُعتبر فيها من الحكم ما يُعتبر فيه، فكما لم يكن في المنادى إذا كان مضافًا إلا النصبُ، نحو: "يا غلامَ زيد"، كذلك لا يكون في صفةِ المنادى إذا كانت مضافةً غيرُه، كقولك: "يا زيدُ أخانا". ولم يجز أنّ تقول: "يا زيدُ أخبرنا"، و"يا بكرُ صاحبُ بِشْرٍ"، فترفعَ حملاً على اللفظ، كما فعلتَ في المفرد حيثُ قلت: "يا زيدُ العاقلُ". ¬
فصل [حكم "ابن" و"ابنة" إذا وقعا وصفين للمنادي المفرد العلم]
وكذلك إن أكدتَ، فقلت: "يا زيدُ نفسَه"، و"يا تميمُ كُلَّكم"، و"يا قيس كلَّكم"، فتنصب, لأن مجرَى التأكيد مجرَى النعت، فلذلك استويا في الحكم، وجاز أنّ تقول: "كلَّكم" بلفظ الخطاب, لأنّ المنادى مخاطَبٌ. وجاز أنّ تقول: "كلَّهم" بلفظ الغَيْبة لأنّ المنادى، وإن كان مخاطبًا، إلّا أنّ لفظ الاسم الظاهر موضوعٌ للغيبة. ألا تراك تقول: "زيدٌ فَعَلَ" ولا تقول: "فعلتَ"، وإن كنتَ تخاطِب زيدًا المذكورَ. وتقول: "يا بشرُ صاحبَ عمرو"، و"يا غلامُ أبا عبدِ الله" تنصب الثانيَ لا غير، سوَاء جعلتَه عطفَ بيان، أو بدلاً, لأنّ عطفَ البيان حكمُه الصفة، والصفةُ، إذا كانت بمضافٍ، لم يكن إلَّا منصوبًا، فكذلك عطف البيان. والبدل عِبْرتُه أنّ يُحلَّ مَحلَّ الأوّل، وأنتَ لو أحللتَه محلَّ الأوّل، وأوْلَيْتَه حرفَ النداء، وهو مضافٌ، لم يكن إلّا نصبًا، وكذلك إذا عطفتَ على المنادى المفرد مضافًا، لم يكن إلّا نصبًا، نحوَ: "يا زيدُ، وعبدَ الله", لأنّ المعطوف شريكُ المعطوف عليه. فكما أنّ الأوّل إذا كان مضافًا لم يكن إلا منصوبًا، فكذلك الثاني, لأنّه شريكه في العامل. فصل [حكم "ابن" و"ابنة" إذا وقعا وصفين للمنادي المفرد العلم] * * * قال صاحب الكتاب: "والوصف بابن وابنة كالوصف بغيرهما إذا لم يقعا بين علمين, فإن وقعا, أُتبعت حركة الأول حركة الثاني كما فعلوا في "ابنمٍ" و"امرئٍ", تقول: "يا زيد ابن أخينا", و"يا هند ابنة عاصم"". * * * قال الشارح: إذ وُصف الاسم المنادى المفردُ العَلَمُ بِـ "ابن" أو"ابنةٍ" كان حكمُهما كحكم غيرهما من الأسماء المضافة إذا وُصف بها من استحقاقِ الإعراب بالنصب، نحوِ: "يا زيدُ ابنَ أخينا" بضمِّ الأوّل, لأنه منادّى مفردٌ عَلَمٌ، وبنصبِ الصفة، لأنها مضافةٌ، كما قلتَ: "يا زيدُ ذا الجُمّة". وإن وصفتَ بهما عَلَمًا مضافَيْن إلى علم أو كُنيةٍ أو لقبٍ، نحوَ: "يا زيدَ بنَ عمرو"، و"يا جعفرَ بنَ أبي خالد"، و"يا زيدَ بن بَطَّةَ"، كانت الصفة منصوبةً على كل حال، وجاز في المنادى وجهان: أحدُهما: الإتباعُ، وهو أنّ تقول "يا زيدَ بنَ عمرو"، فتُتْبع حركةَ الدال فتحةَ النون، وحَقها الضمُّ، وهو غريبٌ, لأن حق الصفة أن تتبع الموصوفَ في الإعراب، وها هنا قد تبع الموصوفُ الصفةَ. والعلّة في ذلك أنّك جعلتَهما لكثرةِ الاستعمال كالاسم الواحد، إذ كلُّ إنسان مَعْزُوٌّ إلى أبيه عَلَمًا كان أو كنية أو لقبًا، فيوصَف بذلك، فجُعلا كالاسمَيْن اللذَيْن رُكّب أحدُهما مع الآخر. قال الشاعر [من الرجز]:
194 - يا حَكَمَ بنَ المُنْذِرِ بنِ الجارُودْ ... [سرادِقُ المجْدِ عليكَ ممدودْ] ففتح ميمَ "حَكَم" مع أنّه منادى مفردٌ معرفةٌ، وذلك لأنّهم جعلوهما كالاسم الواحد. فلمّا فتحوا نونَ "ابن" من حيث كان مضافًا، فتحوا أيضًا ميمَ "حكم", لأنّهم لمّا أضافوا "ابْنًا" كأنهم قد أضافوا ما قبله، ولذلك من شدّةِ انعقادهما شبه سيبويه (¬1) حركةَ الدال من "زيد" بحركة الراء من "امْرئٍ" وحركةِ النون من "ابْنِمٍ". فكما أنّ الراء من "امرئ" تابعةٌ للهمزة، والنونَ في "ابنم" تابعةٌ للميم، كذلك أتبعوا الدالَ من "يا زيدَ بنَ عمرو" النونَ من "ابن"؛ لأنّ الصفة والموصوف كالصلة والموصول، وانضاف إلى ذلك كثرةُ الاستعمال، فقُوّي الاتّحاد، ولذلك لا يحسن الوقفُ على الاسم الأوّل، ويُبتدأ بالثاني، فيقال: "ابْنُ فلان". والوجه الثاني: أنّ تقول: "يا زيدُ بنَ عمرو" بضمّ الدال من "زيد" على الأصل، لا تُتْبِعها فتحةَ النون من "ابن عمرو"، وهي لغةٌ فاشيةٌ، فعلى هذا يكون الألفُ من "عِيسَى" في قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ} (¬2) على القول الأوّل، في تقديرِ مفتوح، وعلى القول الثاني، في تقديرِ مضموم، فاعرفه. * * * ¬
["ابن" و "ابنة" في غير النداء]
[" ابن" و "ابنة" في غير النداء] قال صاحب الكتاب: وقالوا في غير النداء أيضًا إذا وصفوا: "هذا زيدٌ بن أخينا, وهندٌ ابنة عمنا"، وهذا زيد ابن عمرو، وهند ابنة عاصم، وكذلك النصب والجر, فإذا لم يصفوا فالتنوين لا غير وقد جوزوا في الوصف التنوين في ضرورة الشعر كقوله [من الرجز]: 195 - جاريةٌ من قيسٍ بن ثعلبة" * * * قال الشارح: قد جروا على هذه القاعدة في غير النداء أيضًا، لا فَرْقَ بين النداء وغيرِ النداء في هذا الحكم. وذلك أنّه لما كثُر إجراءُ "ابن" صفة على ما قبله من الأعلام، إذا كان مضافًا إلى عَلَم أو ما يجري مجرَى الأعلام من الكُنَى والألقاب، نحوِ: "زيدِ بنِ عمرو"، و"أبي بكرِ بنِ قاسم"، و "سعيدِ بنِ بَطَّةَ"، و"عبدِ الله بنِ الدُّمَينة". فلمّا كان "ابنٌ" لا ينفكّ من أنّ يكون مضافًا إلى "أبٍ" أو "أُمٍّ" وكثُر استعمالُه، استجازوا فيه من التخفيف ما لم يستجيزوه مع غيره، فحذفوا ألفَ الوصل من "ابن", لأنه لا يقوى فصلُه ممّا قبلَه، إذ كانت الصفةُ والموصوفُ عندهم كالشيء الواحد، وهي مضارِعةٌ للصلة والموصول من وُجوهٍ تُذكَر في موضعها. وحذفوا تنوينَ الموصوف أيضًا، كأنّهم جعلوا الاسمَيْن اسمًا واحدًا لكثرةِ الاستعمال، وأتبعوا حركةَ الاسم الأوّل حركةَ الاسم الثاني. ولذلك شبّهه سيبويه بِـ "امْرِىءٍ" و"ابْنِمٍ" في كونِ حركة الراء تابعةً لحركة الهمزة وحركةِ النون في "ابنم" متابعة لحركة الميم على ما تقدم. فإذا قلت: "هذا زيدُ بنُ عمرو، وهندُ ابنةُ عاصم" فـ "هذَا" مبتدأٌ و"زيدٌ" الخبرُ، وما بعده نعتُه، وضمّةُ "زيد" ضمّةُ إتباع، لا ضمّةُ إعراب؛ لأنَّك عقدتَ الصفةَ والموصوفَ وجعلتَهما اسمًا واحدًا، وصارت المعاملة مع الصفة، والموصوفُ كالصدر له. ولذلك لا يجوز السكوتُ على الأوّل. وكذلك النصبُ، تقول: "رأيتُ زيدَ بنَ عمرو"، فتفتح الدال إتباعًا لفتحة النون. وتقول في الجرِّ: "مررتُ بزيدِ بنِ عمرو"، فتكسر الدالَ من "زيد" ¬
إتباعًا لكسرة النون من "ابن عمرو". وقد ذهب بعضُهم إلى أنّ التنوين إنّما سقط لالتقاء الساكنَيْن: سُكونِه، وسكونِ الباء بعده. وهو قولٌ فاسدٌ، لأنه قد جاء عنهم: "هذه هندُ بِنْتُ عمرو"، فيُحْذف التنوين، وإن لم يَلْقَه ساكن بعده، فعُلم بذلك أنّ حَذْفَ التنوين إنّما كان لكثرةِ استعمالِ "ابن". فإن لم تُضِف "ابنًا" إلى عَلَم، نحوَ: "هذا زيدٌ ابنُ أخينا، وهذه هندٌ ابنةُ عَمنا"، لم تحذف التنوين، وأثبتَّ الهمزةَ خطًّا, لأنه لم يكثُر استعمالُه كثرةَ إضافته إلى العلم. وكذلك إذا لم يصفوا به وجعلوه خبرًا، لم يُحْذَف التنوين، وأُثبتت همزةُ الوصل خطًّا، فتقول: "زيد ابنُ عمرو"، فيكون "زيدٌ" مبتدأ، و"ابنُ عمرو" الخبرَ، ومثله "إنّ بكرًا بنُ جعفر"، و"ظننتُ محمّدًا بنَ عليّ"، وكذلك إن ثنّيتَ، فقلتَ: "ضربتُ الزيدَيْن ابنَيْ جعفر". أثبتَّ الألفَ والنونَ لوجهَيْن: أحدُهما: أنّه لم يكثر ذلك في التثنية كثرتَه في الإفراد. والثاني: أنّه لم يَبْقَ بالتثنية عَلَمًا، وصار تعريفُه بالألف واللام، نحوُ: الرجل، والغلام، فأمّا قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (¬1)، فقد قُرىء بالتنوين وبغير التنوين (¬2) فمن نَوَّنَ جعله مبتدأ و"ابنُ الله" الخبرَ حكايةً عن مَقالِ اليهود، ومَن حذف التنوينَ منه جعله وصفًا، وقدر مبتدأً محذوفًا، تقديرُه: هو عزيرُ بنُ الله، فيكون "هُوَ" مبتدأَ، و"عزيز" الخبرَ، و"ابنُ الله" صفتَه. وهذا فيه ضعفٌ, لأن "عزيزًا" لم يتقدّم له ذكرٌ فيُكْنَى عنه. والأشبهُ أنّ يكون أيضًا خبرًا إلّا أنّه حُذف منه التنوين لالتقاء الساكنَيْن من قبيل الضرورة، وله نظائرُ، نحوُ قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ} (¬3) بحَذْفِ التنوين من "أحد"، ومنه ما رَواه أبو العبْاس عن عُمارةَ بن عَقِيل أنّه قرأ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} (¬4) بنصب "النهارَ" على إرادةِ التنوين، ومنه قول الشاعر [من المتقارب]: 196 - فألْفَيْتَه غيرَ مستعتبٍ ... ولا ذاكِرِ اللهَ إلَّا قَليِلا ¬
أراد: ولا ذاكرٍ الله إلَّا قليلاً، بالتنوين، ولذلك نصب إلَّا أنّه حذف التنوينَ لالتقاء الساكنَيْن. وقوله: "وقد جوّزوا في الوصف التنوينَ في ضرورة الشعر" بمعنَى أنّهم قد أجازوا فيما حذفوا منه التنوينَ، وذلك إذا وقع "ابنٌ" وصفًا بين عَلَمَيْن نحوَ قول الشاعر [من الرجز]: جَارِيَةٌ من قَيْسٍ ابْنِ ثَعْلَبَهْ ... كأنّها حِلْيَةُ سَيْفٍ مُذْهَبَهْ (¬1) البيت للأغْلَب العِجْليّ، وقيسُ بنُ ثعلبة بن عُكابَةَ: قبيلةٌ عظيمةٌ معروفةٌ، وقال الحُطيْئة [من الطويل]: 197 - فإن لا يكن مالٌ يُثابُ فإنّه ... سَيأتِي ثَنائِي زيدًا اِبْنَ مُهَلْهِلِ ¬
ومَن فعل ذلك لزِمه إثباتُ الألف في الخَطّ، والجيّدُ في البيتَيْن أن يكون أراد البدلَ لا الوصفَ، ليخرج عن عُهدَةِ الضرورة. ¬
المنادي المبهم
المنادي المبهم فصل قال صاحب الكتاب: "والمنادي المبهم شيئان: "أي" و"اسم الإشارة", فـ "أي" يوصف بشيئين: بما فيه الألف واللام مقحمة بينهما كلمة التنبيه، وباسم الإشارة، كقولك: "يا أيها الرجل"، و"يا أيهذا". قال ذو الرمة [من الطويل]: 198 - ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه ... [لشيء نحته عن يديه المقادر] واسم الإشارة لا يوصف إلا بما فيه الألف واللام كقولك يا هذا الرجل ويا هؤلاء الرجال. وأنشد سيبويه لخزز بن لوذان [من الكامل]: 199 - يا صاح يا ذا الضامر العنس ... [والرَّحل ذي الأنساع والحلس] ¬
ولعبيد [من الكامل]: 200 - يا ذا المخوفنا بمقتل شيخه ... [حجرٍ تمني صاحب الأحلام] " * * * قال الشارح: المُبْهَم في النداء شيئان: أحدُهما "أي"، والثاني: اسمُ الإشارة. فأمّا ¬
"أيّ" فنحوُ قولك: "يا أيهَا الرجلُ"، وهي أشَدُّ إبهامًا من أسماء الإشارة، ألا ترى أنّها لا تُثنَّى، ولا تُجْمَع، فتقول: "يا أيها الرجلُ" و"يا أيُّها الرجلان". و"يا أيها الرجالُ". ولذلك لزِمها النعتُ، فـ "يَا" أداةُ النداء، و"أي" المنادَى، و"هَا" تَنْبيهٌ، و"الرجلُ" نعتُه، والأصل فيه أنّهم أرادوا نداءَ الرجل، وهو قريبٌ من المنادِي، وفيه الأَلفُ واللام، فلمّا لم يُمْكِن نداؤُه والحالةُ هذه، كرهوا نَزْعَهما، وتغيير اللفظ عند النداء، إذ الغرضُ إنّما هو نداءُ ذلك الاسم، فجاؤوا بـ "أيُّ" وُصْلةَ إلى نداء "الرجل"، وهو على لفظه، وجعلوه الاسمَ المنادَى، وجعلوا "الرجل" نعتَه، ولزِم النعتُ حيث كان هو المقصودَ، وأدخلوا عليه هاءَ التنبيه لازمةً لِتكون دلالةً على خروجها عمّا كانت عليه وعِوَضًا ممّا حُذف منها، والذي حُذف منها الإضافةُ في قولك: "أيُّ الرجلَيْنَ"، و"أيُّ الغلامَيْن"، والصلةُ في نظيرتها، وهي "مَنْ". ألا ترى أنّك إذا ناديتَ "مَنْ"، قلتَ: "يا مَن أبوه قائمٌ"، و"يا مَن في الدار". وتوصَف "أيُّ" في النداء بشيئَيْن: أحدُهما الألف واللام وقد ذُكر، والثاني: اسمُ الإشارة، نحوُ: "يا أيّهذا الرجلُ". فـ "ذَا" صفةٌ لـ "أيّ" كما وُصفتْ بما فيه الألفُ واللامُ. وجاز الوصفُ به لأنه مبهمٌ مثلُه كما تصِف ما فيه الألفُ واللام بما فيه الألف واللام. والنُّكْتة في ذلك أنّ "ذَا" يوصَف بما يوصف به "أيّ" من الجنس، نحوِ "الرجل"، و"الغلام"، فوصفوا به "أيّا" في النداء تأكيدًا لمعنى الإشارة، إذ النداءُ حالُ إشارة، والغرضُ نعتُه. ألا ترى أنّ المقصود بالنداء من قولك: "يا أيّهذا الرجلُ" إنّما هو الرجلُ، و"ذَا" وُصلة "أيِّ"، قال الشاعر [من الطويل]: 201 - ألا أيُّهذا المَنْزِلُ الدارِسُ الذي ... كأنّك لم يَعْهَدْ بك الحَيَّ عاهِدُ ¬
وقال الآخر [من الطويل]: 202 - ألا أيُّهذا اللائمِي أحْضُرَ الوَغَى ... وأنْ أشْهَدَ اللَّذَّاتِ هل أنتَ مُخْلِدِي وقال ذو الرُمَّة [من الطويل]: ألا أيُّهذا الباخعُ الوَجْدُ نَفْسَه ... لِشيءٍ نَحَتْه عن يَدَيْهِ المَقادِرُ (¬1) وقد يستغنون باسم الإشارة عن "أيٍّ"، فيوقِعونها موقعَها، فيقولون: "يا ذا الرجلُ"، و"يا هذا الرجلُ"، فيكون "ذَا" وُصلة كما كانت "أيٌّ". وتلزَمها الصفةُ كما تلزم "أيًّا". ولا يجوز في صفتها إلا الرفعُ كما كانت "أيٌّ" كذلك, لأنّه لا يتِم بـ "يَا" ذا النداءُ ها هنا؛ لأنّه في معنَى "يَا أيّها"، ولا بدّ من "الرجل"، إذ هو المنادَى في الحُكْم والتقديرِ. ولا يلزَمها هاءُ التنبيه كما لزم "أيًّا"، لأنّه لم يُحْذَف من اسمِ المشار إليه شيءٌ كما حُذف ¬
من "أيّ"، فأمّا "هَذَا" فلها مذهبان: أحدُهما أنّ تكون وصلةً لنداءِ "الرجل"، فيكون حكمُها حكم "يا أيها الرجلُ". والآخرُ أن تكون مكتفِيَة، لأنّه يجوز أنّ تقول: "يا هذا أقْبِلْ"، ولا تصفَ، فعلى هذا المذهب يجوز أنّ تقول: "يا هذا الرجلُ، والرجلَ" بالرفع والنصب، و"يا هذا الظريفُ، والظريفَ"، وأجاز المازني: "يا أيها الرجلُ، والرجلَ" بالرفع والنصب، وقد تقدّم الكلامُ عليه، فأما ما أنشده من قول الشاعر [من الكامل]: يَا صاحِ يَا ذا الضامرُ العَنْسِ ... والرَّحْلِ والأقْتابِ والحِلْسِ (¬1) فالشاهد فيه وصفُ "ذا" إنما فيه الألفُ واللام و"الضامرُ" رفيع وإن كان مضافًا إلى "العنس", لأن إضافته غيرُ مَحْضة، إذ التقدير: يا ذا الذي ضمرتْ عَنْسُه. والعنس: الناقة الشديدة. وأصلُ العنس: الصَّخْرةُ في الماء، قيل لها ذلك لصَلابتها. ومثله: "يا ذا الحَسَنُ الوَجْهِ"، تقديرُه: يا هذا الحسنُ وَجْهُه. وذهب الكوفيون إلى أنّ الرواية: يا صاحِ يا ذا ضامرِ العنسِ، بخفضِ "الضامر"، ويُضيفون "ذَا" إلى "الضامر"، ويجعلونه مثلَ "يا ذا الجُمَّةِ"، وتكون "ذُو" بمعنَى صاحب، وهي التي تتغيّر فتكون في الرفع بالواو، وفي النصب بالألف، وفي الجرّ بالياء. قالوا: ألا ترى أنّه عُطف عليه، و"الرحلِ"، و"الأقتاب"، و"الحلسِ" بالخفض. ولو كان "الضامرُ" مرفوعًا على ما أنشده سيبويه، لكان "الرَحل" مخفوضًا بالعطف على "العنس"، فيصير التقديرُ: يا الذي ضمرتْ عنسُه، ورحلُه، وهذا فاسدٌ، وسيبويه يحمل ذلك على مثلِ قول الآخر [من الرجز]: 203 - عَلَفْتُها تِبْنًا وماءً باردًا ¬
فصل [نداء ما فيه "أل"]
فيكون التقديرُ: يا ذا الضامرُ العنسِ، والمتغيِّرُ الرحلِ, لأنّ الضُّمور يدلّ على تغيُّر. * * * قال صاحب الكتاب: "وتقول في غير الصفة يا هذا زيدٌ وزيدًا", و"يا هذان زيدٌ وعمرٌو, وزيدًا وعمرًا", وتقول: "يا هذا ذا الجمة على البدل". * * * قال الشارح: قوله: "في غير الصفة" يعني عطفَ البيان والبدلَ؛ فأمّا عطفُ البيان فنحوُ: "يا هذا زيدٌ، وزيدًا"، ترفع على اللفظ، وتنصب على الموضع، فهو كالنعت يعمل فيه العاملُ، وهو "يَا"، لا على تقديرِ مباشرةِ حرف النداء بخلافِ البدل، فإنّ العامل يعمل فيه على تقديرِ أن يحُل محلَّ الأوّل، ويباشِرَ حرفَ النداء، فلذلك تقول: "يا هذا زيدُ" بالضمّ لا غيرُ, لأنّ تقديره: يا زيدُ. وتقول في المضاف: "يا هذا ذا الجُمّةِ" تنصب لا غيرُ في البدل وغيرِه، فاعرفه. * * * فصل [نداء ما فيه "أل"] قال صاحب الكتاب: "ولا ينادي ما فيه الألف واللام إلا الله وحده لأنهما لا تفارقانه كما لا تفارقان النجم مع أنهما خلفٌ عن همزة "إله". وقال [من الوافر]: 204 - من اجلك يا التي تيمت قلبي ... وأنت بخيلةٌ بالوصل عني شبهه بـ "يا الله" وهو شاذّ". * * * ¬
قال الشارح: قد تقدَّم قولنا: إنّ حروف النداء لا تجامِع ما فيه الألف واللام، وإذا أُريد ذلك، تُوُصّلَ إليه بـ "أيٍّ" و"هذَا"، والعلّةُ في ذلك أمران: أحدُهما: أن الألف واللام تفيدان التعريفَ، والنداءُ يُفيد تخصيصًا، وإذا قصدتَ واحدًا بعينه، صار معرفة كأنّك أشرفَ إليه، والتخصيصُ يُفيد من التعريف، فلم يُجْمَع بينهما لذلك, لأن أحدهما كافٍ، وصار حرفُ النداء بدلاً من الألف واللام في المنادى، فاستُغني به عنهما، وصارت كالأسماء التي هي للإشارة نحوِ "هذَا" وشِبْهِه. الثاني: أن الألف واللام تفيدان تعريفَ العَهْد، وهو معنى الغَيْبة، وذلك أنّ العهد يكون بين اثنَيْن في ثالثٍ غائبٍ، والنداءُ خطابٌ لحاضرٍ، فلم يُجْمَع بينهما لتَنافي التعريفَيْن. فإن قيل فأنتم تقولون: "يا هذا"، و"هذَا" معرفةٌ بالإشارة وقد جمعتم بينه وبين النداء، فلِمَ جاز ها هنا ولم يجز مع الألف واللام؟ وما الفرقُ بين الموضعَيْن؟ فالجوابُ عنه من وجهَيْن: أحدُهما: أنّ تعريفَ الإشارة إيماءٌ، وقصدٌ إلى حاضرٍ لِتُعَرِّفَه لحاسّةِ النَّظَر، وتعريفَ النداء خطابٌ لحاضر، وقصدٌ لواحد بعينه، فلتقارُبِ معنى التعريفَيْن صارا كالتحريف الواحد، ولذلك شبّه الخليلُ تعريفَ النداء بالإشارة في نحوِ "هذا" وشِبْهِ, لأنّه في الموضعَيْن قصدٌ وإيماءٌ إلى حاضر. والوجه الثاني: وهو قولُ المازني أنّ أصلَ "هذا" أن يُشير به الواحدُ إلى واحد، فلمّا دعوتَه، نزعتَ منه الإشارةَ التي كانت فيه، وألزمتَه إشارةَ النداء، فصارت "يَا" عِوَضًا من نَزْعِ الإشارة. ومن أجلِ ذلك لا يُقال: هذا أقْبِلْ بإسقاطِ حرف النداء، فأمّا قولهم: "يا أللهُ" فإنّما جاز نداؤُه، وإن كان فيه الألف واللام، من قِبَل أنّه تلزَمه الألفُ واللامُ، ولا تُفارِقانه، وتنزِلان منه بمنزلةِ حرف من نفس الاسم، وأصلُ اسم الله تعالى- واللهُ أعلمُ- "إلهٌ"، ثم دخلت عليه الألفُ واللامُ، فصار "الإله"، ثم تُخفَّف الهمزة التخفيفَ ¬
الصناعيَّ بأن تُليَّن، وتُلْقَى حركتُها على الساكن قبلهما، وهو لامُ التعريف، فصار تقديرُه ألِلَاهُ بكسر اللام الأُولى، وفتحِ الثانية، فادّغموا اللامَ الأوُلى في الثانية بعد إسكانها، وفخّموها تعظيمًا. وقال بعضهم: حذفوا الهمزةَ حذفًا على غير وجهِ التلْيين، ثمّ خلفتْها الألفُ واللامُ. ومثلُ ذلك "أُناسٌ" حذفوا الهمزةَ، وصارت الألف واللام في "الناس" عوضا منها, ولذلك لا تجتمعان. فأمّا قولهم [من مجزوء الكامل]: 205 - إن المنَايا يَطَّلِعْـ ... ـن على الأنُاس الآمِنِينَا فمردودٌ لا يُعْرَف قائله، ويجوز أن يكون جمعًا بين العوض والمعوَّض منه ضرورةً، فلمّا كثُر استعمالُ اسم "الله" تعالى، وكانت الألفُ واللامُ فيه عوضًا من المحذوف، صارتا كحرفٍ من حروفه، وجاز نداؤُه وإن كانتا فيه. وتشبيهُه لزومَ الألف واللام في اسم الله تعالى بلزومهما "النجمَ"، فذلك أنّك إذا قلت: "نَجْمٌ" كان لواحد من النجوم، فإذا عنيتَ نجمًا بعينه أدخلتَ الألفَ واللامَ، وقد غلب النجمُ على "الثُّرَيا" حتى إذا أُطلق لا ينصرف إلى غيره، وصار عَلَمَا بالغَلَبة كـ "الدَّبَران" و"العَيُّوق". ولا يجوز نزعُ الألف واللام منها, لأنها هي المعرِّفةُ في الحقيقة، فهما سِيّان من جهةِ اللزوم والغَلَبةِ، إلا أنّ الفرق بينهما أنّه إذا نزعتَ الألفَ واللامَ من "النجم"، تَنكَّر، والتنكيرُ في اسم "الله" تعالى مُحالٌ، وأمّا بيتُ الكتاب [من الوافر]: من أجلك ... إلخ فشاذٌّ قياسًا واستعمالاً، فأمّا القياس فلِما في نداءِ ما فيه الألفُ واللامُ على ما ذُكر، وأمّا الاستعمال فظاهرٌ لم يأتِ منه إلا ما ذُكر، وهو حرفٌ، أو حرفان. ووجهُ تشبيهه ¬
فصل [تكرير المنادي في حال الإضافة]
بـ "يَا أللهُ" من جهةِ لُزومِ الألف واللام، وإن لم يكن مثلَه، والفرقُ بينهما أن "الَّذِي"، و"الَّتِي" صفتان يمكن أن ينادَى موصوفُهما، ويُنْوَى بهما صفتَان، كقولك: "يا زيدُ الذي في الدار"، و"يا هندُ التي أكرمتِني"، ويقع صفة لـ "أيُّهَا"، نحوُ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1) {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} (¬2) وليستا اسمَيْن، ولا يكون ذلك في اسم "الله" تعالى لأنّه اسمٌ غالبٌ جرى مجرَى الأعلام كـ "زيد" و"عمرو"، وأقبحُ من ذلك قوله فيما أنشده أبو العَلاء [من الرجز]: 206 - فيَا الغُلامانِ اللَّذان فَرَّا ... إيّاكُما أنْ تَكْسِبانا شَرًّا وكان الذي حسّنه قليلاً وصفُه بـ "اللذان"، والصفةُ والموصوفُ كالشيء الواحد، فصار حرفُ النداء كأنه بَاشَرَ "اللذان"، ومثله قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (¬3)، فعَامَلَ موصوفَ "الَّذِي" معاملةَ "الَّذِي" في دخول الفاء في الخبر، وقد تقدّم بيانُ ذلك فاعرفه. * * * فصل [تكرير المنادي في حال الإضافة] قال صاحب الكتاب: "وإذا كرر المنادي في حال الإضافة ففيه وجهان: ¬
أحدهما أن ينصب الإسمان معاً كقول جرير [من الجرير]: 207 - يا تيم تيم عدي أبا لكم ... [لا يلقينكم في سوأةٍ عمر] وقول بعض ولده [من الرجز]: 208 - يا زيد زيد اليعملات الذبل ... [تطاول الليل هديت فأنزل] والثاني أن يضم الأول". * * * ¬
قال الشارح: إذا كان المنادى مضافًا، وكُرّر المضاف دون المضاف إليه، وذلك، نحو "يا زيدُ زيدَ عمرٍو"، فإنه يجوز فيه وجهان: أحدهما نصبُ الأوّل والثاني. والوجهُ الآخرُ ضمُّ الأوّل ونصبُ الثاني، قال الخليل ويونس (¬1): هما سَواءٌ في المعنى، وهما لغةُ العرب. فإذا نصبتَهما جميعًا، فسيبويه (¬2) يزعم أنّ الأوّل هو المضافُ إلى عمرو والثاني تكرُّرٌ لضرب من التأكيد، ولا تأثيرَ له في خفضِ المضاف إليه. قال: لأنّا قد علِمنا أنّك لو لم تُكرِّر الاسمَ الثاني لم يكن إلّا منصوبًا، فلمّا كرّرتَه بقي على حاله. وذهب أبو العبّاس محمّد بن يزيد إلى أنّ الأوّل مضافٌ إلى اسم محذوف، وأنّ الثاني هو المضافُ إلى الظاهر المذكورِ. وتقديرُه عنده: يا زيدَ عمرو زيدَ عمرو، وحُذف "عمرو" الأوّلُ اكتفاء بالثاني. وقد شبّه الخليلُ (¬3) "يا تيمٍ تيمَ عَدِي" بقولهم: "لا أبَا لك". وذلك أنّ "الأب" مضافٌ إلى "الكاف" غيرَ ذي شَك بدليلِ نصب "الأب" بالألف. و"الأبُ" لا يكون إعرابُه بالحروف إلّا في حال إضافته إلى غير متكلّمَ، فلمّا نُصِبَ بالألف دلّ على إِضافته، ثم أُقحمت اللام، فلم يكن لها تأثيرٌ في خفضِ الكاف إلّا تأكيد معنى الإضافة، ومثله [من مجزوء الكامل]: 209 - يا بُؤْسَ للحَرْب [التي ... وضَعَتْ أراهِطَ فاسْتَراحوا] ¬
"البؤس" مضاف إلى "الحرب"، وأُقحمت اللام، فلم يكن لها تأثيرٌ. والوجه الثاني: أن يُضَمّ الأوّل ويُنْصَب الثاني، وهو القياس, لأنّ الأوّل منادى مفردٌ معرفةٌ بُيِّنَ باسم مضافٍ، إمّا بدلاً، وإمّا عطفَ بيان. وأمّا البيتان اللذان أنشدهما، فالأوّلُ لجَرِير وهو [من البسيط]: ياتَيْمُ تَيمَ عَدِيٍّ لا أبَا لَكُمُ ... لا يُلْقِيَنكُمُ في سوْءَةٍ عُمَرُ فقد رُوي على الوجهَين المذكورَين، يريد تَيْم بن عبد مَناةَ، وهو من قومِ عمر بن لَجَأ، وعَدِيٌّ أخوهم. يقول تَنَبَّهُوا حتى لا يُلْقِيَكم عمرُ في مكروهٍ، أي: يُوقِعَكم في هِجاءٍ فاحشٍ من أجل تعرُّضه، كأنّه ينهاهم عن أذاهُ، ويأمرهم بالإقرار لفَضْله. وأمّا البيت الآخر وهو [من الرجز]: يا زيدُ زيدَ اليَعْمَلاتِ الذُبَّلِ ... تَطاوَلَ الليلُ هُدِيتَ فانْزِلِ فالبيت لبعضِ وَلَدِ جَرِيرٍ، وهو من أبياتِ الكتاب، والقولُ في إعرابه كالقول في البيت الأوّل، وهو زيدُ بن أرْقَمَ، وأضافه إلى "اليعملات", لأنّه كان يَحْدُو بها، ولهذا قال: "تطاول الليلُ فانزل"، أي: انزلْ عن ظَهْرها، واحْدُ بها، فقد تطاول الليلُ، فاعرفه. ¬
نداء المضاف إلي ياء المتكلم
نداء المضاف إلي ياء المتكلّم فصل قال صاحب الكتاب: "وقالوا في المضاف إلى ياء المتكلم يا غلامي ويا غلام ويا غلاما وفي التنزيل {يا عباد فاتقون} (¬1) وقرئ {يا عبادي} (¬2). ويقال "يا رباً تجاوز عني", وفي الوقف: "يا رباه", و"غلاماه", والتاء في "يا أبت" و"يا أمت" تاء تأنيث عوضت عن الياء, ألا تراهم يبدلونها هاء في الوقف". * * * قال الشارح: متى أضافوا المنادى إلى ياء النفس، ففيه لغات أجودُها حذفُ الياء، والاكتفاءُ منها بالكسرة، وذلك نحوُ: "يا قومِ لا بَأْسَ"، و"يا غلامِ أقْبلْ". وقال تعالى: {يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} (¬3) لم يُثْبِتوا الياءَ ها هنا كما لم يثبتوا التنوينَ في المفرد، نحو: "يا زيدُ"، لأنها بمنزلته إذ كانت بدلاً منه، وذلك أن الاسم مضافٌ إلى الياء، والياءُ لا معنَى لها، ولا تقوم بنفسها إلَّا أن تكون في الاسم المضاف إليها، كما أن التنوين لا يقوم بنفسه يكون في اسم. فلمّا كانت الياءُ كالتنوين، وبدلاً منه، حذفوها في الموضع الذي يُحْذَف فيه التنوين تخفيفًا لكثرةِ الاستعمال، والنداءِ، ولم يُخِلّ حذفُها بالمقصود، إذ كان في اللفظ ما يدلّ عليها، وهو الكسرةُ قبلها. ألا ترى أنّه لو لم يكن قبلها كسرةٌ لم تُحْذَف، نحوَ: "مُصْطَفَى"، و"مُعَلّى" إذا أضفتَهما قلت: "مصطفايَ" و"مُعَلايَ"، فلا يجوز إسقاطُ الياء منهما, لأنّه لا دليلَ عليها بعد حذفها. وإذا كانوا قد حذفوا الياءَ اجتزاء بالكسرة قبلها في غير النداء، كان جَوازُه في النداء الذي هو بابُ حذفٍ وتغيُّرٍ أوْلى وأجدرَ بالجواز، ألا ترى أنك تحذف منه التنوينَ، نحوَ: "يا زيدُ"، وتُسوِّغ فيه الترخيمَ، نحوَ: "يا حارِ"، فاعرفه. اللغة الثانية إثباتُ الياء، نحوُ: "يا غلامِي"، وكان أبو عمرو يقرأ: {يَا عبادي فاتَّقون} (¬4). وقال عبدُ الله بن عبدِ الأعْلَى القُرَشي [من الرجز]: ¬
210 - وكنتَ إذ كنتَ إلهِي وَحْدَكَا ... لم يَكُ شىءٌ يا إلهِي قَبْلَكَا فأثبت الياءَ لأنها اسمٌ بمنزلةِ "زيد" إذا أضفتَ إليه، فكما لا تحذف "زيدًا" في النداء، كذلك لا تحذف الياءَ، وليس إثباتُها بالمختار. اللغة الثالثة أن تقول: "يا غلامِيَ" بفتح الياء، وهو الأصل فيها من حيث كانت نظيرةَ الكاف في "أخوكَ"، و"أبوكَ"، والإسكانُ فيها ضربٌ من التخفيف. اللغة الرابعة أن تبْدِل من الياء ألفًا، لأنها أخفُّ، وذلك أنهم استثقلوا الياءَ وقبلها كسرةٌ فيما كثُر استعمالُه، وهو النداءُ، فأبدلوا من الكسرة فتحةً، وكانت الياء متحرِّكةً، فانقلبت الياءُ ألفًا لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، فقالوا: "يا غلامًا"، و"يا زيدًا" في "يا غلامِي"، و"يا زيدِي". وإذا وقفوا ألحقوه الهاءَ للسَّكْت، فقالوا: "يا غلاماه" و"يا زيداهْ" لخَفاء الألف. ومن يقول: "يا غلاماهُ" و"يا زيداهُ" قليل لأن الألف بدلٌ من الياء، وليس الاختيار "يا غلامِيَ" حتى تُبْدَل منها الألفُ، على أن في لغةِ طَيّىءٍ يُبْدِلون من الياء الواقعةِ بعد الكسرة ألفًا فيقولون في "فَنِيَ": فَنَا، وفي "بَقِىَ": بَقَا، قال الشاعر [من الوافر]: 211 - وما الدُّنْيَا بباقاةٍ علينا ... [ولاحَى على الدنيا بباقِ] ¬
يريد: بباقِيَةٍ، وفي "جارِيَةِ": جاراةٌ، وهو كثير، وإذا ساغ ذلك في غير النداء، ففي النداء أوْلى لكثرة استعماله. ومنهم من يقول: "يا رَب" و"يا قومُ" بالضمّ، يريدون: "يا رَبِّ" و"يا قوم"، وإنّما يفعلون ذلك في الأسماء الغالب عليها الإضافةُ, لأنهم إذا لم يضيفوها إلى ظَاهر أو إلى مضمر غير المتكلّم، عُلم أنّها مضافةٌ إلى المتكلّم، والمتكلّمُ أوْلى بذلك, لأنّ ضميره الذي هو الياء قد يُحذف، فاعرفه. فأمّا التاء في "يا أبَتِ"، و"يا أمَّتِ" فتاءُ التأنيث بمنزلة التاء في "قائمة"، و"امرأة". قال سيبويه (¬1): سألتُ الخليلَ عن التاء في "يا أبَتِ لا تفعلْ"، و"يا أُمَّتِ"، فقال: هذه التاءُ بمنزلة الهاء في "خالةٍ"، و"عَمّةٍ"، يعني أنها للتانيث. والذي يدلّ على أنها للتأنيث أنك تقول في الوقف "يا أبَهْ"، و"يا أُمَّه"، فتُبْدِلها هاءً في الوقف كـ "قاعِدْ" و"قاعِدهْ" على حد "خالْ"، و"خالهْ"، و"عَمْ"، و"عَمَّهْ". ودخلت هذه التاءُ كالعوض من ياء الإضافة. والأصلُ "يا أبي"، و"يا أُمّي"، فحُذفت الياء اجتزاءً بالكسرة قبلها، ثمّ دخلت التاءُ عوضًا منها، ولذلك لا تجتمعان، فلا تقول: "يا أبَتِي"، ولا "يا أُمَّتِي" لئلّا يُجْمَع بين العوض والمعوَّض منه. ولا تدخل هذه التاءُ عوضًا فيما كان له مؤئثٌ من لفظه، ولو قلت في "يا خالي"، و"يا عمّي"، "يا خالتِ" و"يا عمّتِ" لم يجز، لأنّه كان يلتبِس بالمؤئث، فأقا دخولُ التاء على "الأُم" فلا إشكالَ فيه، لأنها مؤنثةٌ، وأمّا دخولها على "الأب" فلمعنَى المبالغة من نحوِ "راوِيَةِ"، و"عَلامَةٍ". وفيه لغاث قالوا: "يا أبَتِ" بالكسر، و"يا أبَتَ" بالفتح، و"يا أبَتَا" بالاْلف، وإذا وقفتَ قلت: "يا أبَتاهْ "، و"يا أُفَتاهْ ". وحكى يونسُ (¬2) عن العرب: "يا أبَ"، و"يا أُمَّ "، فمن قال: "يا أبَتِ" بالكسر، فإنّه أراد: "يا أبتِي" بالإضافة إلى ياءِ النفس، ثم حذف الياءَ، وأبقى الكسرةَ دليلاً عليها مؤذِنةً بأنّها مُرادةٌ، ومن قال: "يا أبَتَ" بالفتح فيحتمل أمرَيْن: أحدُهما: أن يكون مثلَ: "يا طَلْحَةَ أقبِلْ"، ووجهُه أن أكثرَ ما يُدْعَى هذا النحوُ ممّا ¬
فيه تاءُ التأنيث مرخمَّا، فلمّا كان كذلك، ورُدَّ المحذوف، تُرك الآخِرُ يجري على ما كان يجري عليه في الترخيم من الفتح، ولم يُعتدّ بالهاء، وأقحموها، كما أنّه لمّا كان أكثرُ ما يقول العربُ: "اجتمعتِ اليَمامةُ"، وهم يريدون أهلَ اليمامة فإذا ردوا "الأهلَ" جروا على ما كانوا عليه من التأنيث، فقالوا: "اجتمعتْ أهلُ اليمامة"، ولم يعتدّوا بـ "الأهل"، وجعلوه من قبيلِ المُقْحَم على حد قوله [من الطويل]: 212 - كِلِينِي لِهَمٍّ يا أُمَيمَةَ ناصِبِ ... [وليلٍ أقاسِيهِ بَطِيء الكَواكبِ] والوجه الثاني: أن يكون أراد: "يا أبَتَا"، فحذف الألفَ تخفيفًا. وساغ ذلك لأنّها بدلٌ من الياء، فحذفوها كما تُحذف الياء، وبقيت الفتحةُ قبلها تدلّ على الألف، كما أنّ الكسرة تبقى دليلاً على الياء. وأمّا من قال: "يا أبَتَا"، و"يا أمَّتَا"، فإثه أراد الياءَ إلا أنّه استثقلها. فأبدلَ من الكسرة فتحةً، ثمّ قلبها ألفًا، لأنّها متحرّكةٌ مفتوحٌ ما قبلها. قال الشاعر [من الرجز]: 213 - [تقولُ بنتي قَدْ أنَى أَنَاكا] ... يا أبَتَا عَلَّكَ أو عَساكَا ¬
وقال [من الرجز]: 214 - يا أبَتَا وَيا أبَهْ ... حَسَّنْتَ إلّا الرَّقَبهْ ¬
وقد كثر إبدالُ هذه الياء ألفًا. قال الشاعر [من الطويل]: 215 - وقد زَعَمُوا أنّي جَزِعْتُ عليهما ... وهل جَزَعٌ أن قلتُ وَا بِأبَاهُمَا وقال رُؤبَةُ [من الرجز]: 216 - فهي تُرَثِّي بِأبَا وابْنِيمَا وكثرةُ ما جاء من ذلك تزيد قولَ من قال: "يا أبَتَ" بالفتح أنّه أراد: "يا أبَتَا" بالألف قوّةً. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: "وقالوا: "يا ابن أمي", و"يا ابن عمي", و"يا ابن أم", و"يا ابن عم", و"يا ابن أم", و"يا ابن عم", وقال أبو النجم [من الرجز]: 217 - يا بنت عمَّا لا تلومي واهجعي ... [ألم يكن يبيض لو لم يصلع] جعلوا الأسمين كاسم واحد". * * * قال الشارح: إذا قلت: "يا ابن أخي"، و"يا غُلامَ غلامِي"، فالقياسُ في هذه الياءات أن لا تُحذف, لأنّ النداء لم يقع على "الأخ" ولا على "الغلام" الثاني، فهما بمنزلةِ غيرهما في غير النداء، ألا تراك تقول في الخبر: "جاء غلامُ أخي"؟ فكما أنّ "الأخ" ليس له حَظٌّ في المجيء، فكذلك إذا قلت: "يا غلامَ أخي" ليس للأخ حظٌّ في النداء، والياءُ إنّما تُحذف إذا وقعتْ موقعًا يُحذف فيه التنوين، وهو أن تتّصل بالاسم المنادى. هذا هو القياس، إلَّا أنّه قد ورد عنهم في قولهم: "يا ابنَ أُمّي"، و"يا ابنَ عَمّي"، على الخُصوص أربعةُ أوجهٍ مسموعةٍ من العرب حكاها الخليلُ ويونسُ (¬1). ¬
فالوجهُ الأوَّل: "يا ابنَ أُمّي"، و"يا ابنَ عَمّي" بإثبات الياء، قال الشاعر [من الخفيف]: 218 - يا ابنَ أُمِّي ويا شُقَيِّقَ نَفْسِي ... أنتَ خلَّفتَني لدَهْرٍ شَدِيدِ ولذلك وجهان من المعنى: أحدُهما أن تكون أثبتَّها كما أثبتها في "يا غلامي". وإذا ساغ ثبوتُها في المنادى، كان ثبوتُها في المضاف إلى المنادى أسوغَ. والثاني، وهو أجودُهما، أن تُثْبِتها كما أثبتَها في "يا ابنَ أخي"، وفي "يا غلامَ غلامي". والوجه الثاني: من الأوجه الأربعة أن تقول: "يا ابنَ أُمَّ" و"يا ابنَ عَمَّ" بالفتح. وقد قرأ به ابنُ كَثِير، ونافعٌ، وأبو عمرو. ويحتمل ذلك أمرَيْن: أحدُهما أن يكون الأصلُ: "يا ابنَ أُمَّا" بالألف، ثمّ حُذفت الألف تخفيفًا. وساغ ذلك لأنهّا بدلٌ من الياء، فحُذفت كما تُحذف الياء في "يا غلامي" في قولك "يا غلامِ". وحُذفت الياء من المضاف إليه، وإن كانت لا تُحذف من المضاف إليه إذا قلت: "يا غلامَ غلامِي" كما تُحذف من المضاف إذا قلت: "يا غلامِ", لأنّ هذا الاسم أعنِي "يا ابنَ أُمِّ"، و"يا ابنَ عَمِّ" قد كثُر استعمالُه، فجاز فيه ما لم يجز في نظائره. والفتحة في "ابنَ" على هذا فتحةُ إعراب كما أنها في "يا غلامَ غلامي" كذلك. والثاني أن تجعل "ابنًا" و"أُمًّا" جميعًا بمنزلةِ اسم واحد فتبني الاسمَ الآخِرَ على الفتح، وتبني الاسمَ الذي هو الصدرُ لأنّه كالبعض للثاني. فالفتحةُ في الأوّل ليست نصبةً كما كانت في الوجه الأوّل وإنّما هي بمنزلةِ الفتحة من "خمسةَ عشرَ"، وهما في موضعِ ¬
مضموم من حيث كانا بمنزلةِ اسم واحد كـ"خمسةَ عشرَ"، وهو مقصود، ويجوز أن يكون فتح الثاني إتباعًا لفتحةِ النون في "ابن"، وموضغ "أُمَّ"، و"عَمَّ" خفضٌ بالإضافة. والوجه الثالث: الكسر، فتقول: "يا ابنَ أُمِّ"، و"يا ابنَ عمِّ" وقرأ ابنُ عامر، وحمزةُ، والكسائى: {قَالَ (¬1) ابْنَ أُمِّ} (¬2) بالكسر. ويحتمل أمرَيْن: أحدُهما أن يكون أضاف "ابنَا" إلى "أُمّ"، وحذف من الثاني، وكان الوجهُ إثباتَها مثلَ "يا غلامَ غلامي". والوجه الثاني أنّهما لما جُعلا كاسم واحد، وأضافهما إلى نفسه، حذف الياءَ، وبقيت الكسرةُ دليلاً كما يُفْعَل بالاسم الواحد، نحو: "يا غلام" و"يا قوم"، ومثلُه "يا أحدَ عشرِ أقبلوا". الوجه الرابع: أن تقول: "يا ابنَ أمَّا" و"يا ابنَ عمَّا"، فتجعل مكانَ الياء ألفًا كما قال [من الرجز]: يا بِنْتَ عَمَّا لا تَلُومِي واهْجَعِي (¬3) كما تقول: "يا غلامَا"، فتفتح ما قبل الياء تخفيفًا وهي متحرّكةٌ، فتنقلِب ألفًا، فاعرفه. ¬
المندوب
المندوب فصل قال صاحب الكتاب: "ولا بد لك في المندوب من أن تلحق قبله "يا" أو "وا", وأنت في إلحاق الألف في آخره مخيرٌ, فتقول: "وا زيداه". أو "وا زيدُ". والهاء اللاحقة بعد الألف للوقف خاصة دون الدرج. ويلحق ذلك المضاف إليه, فيقال: "وا أمير المؤمنيناه", ولا يلحق الصفة عند الخليل (¬1) ,فلا يقال "وازيد الظريفاه", ويلحقها عند يونس (¬2). ولا يندب إلا الاسم المعروف, فلا يقال: "وارجلاه", ولم يستقبح: وامن حفر بئر زمزماه", لأنه بمنزلة "وا (¬3) عبد المطلباه"". * * * قال الشارح: اعلم أن المندوب مدعوٌّ، ولذلك ذُكر مع فُصول النداء، لكنّه على سبيل التفجّع، فأنتَ تدعوه، وإن كنتَ تعلم أنّه لا يستجيب كما تدعوالمستغاثَ به وإن كان بحَيْثُ لا يسمع، كأنّه تعُدّه حاضرًا. وأكثرُ ما يقع في كلام النساء لضُعْفِ احتمالهنّ، وقلةِ صَبْرهنّ. ولمّا كان مدعوًّا بحيث لا يسمع أتوا في أوّله بـ "يَا" أو "وَا" لمَدِّ الصوت، ولمّا كان يُسْلَك في الندبة والنوْحِ مذهبُ التطريب، زادوا الألفَ آخِرًا للترنّم؛ كما يأتون بها في القَوافي المطلَقةِ. وخصّوها بالألف دون الواو والياء، لأنّ المَدّ فيها أمكنُ من أُخْتَيْها. واعلم أنّ الألف تفتح كلَّ حركة قبلها ضمةً كانت أو كسرةً, لأنّ الألف لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحًا، اللَّهُمَّ إلا أن يُخاف لَبْسٌ، فحينئذ لا تُغيَّر الحركة، فتقول: "وا زيدَا". وإذا وقفتَ على الألف، ألحقتَ الهاءَ في الوقف محافظة عليها لخَفائها، فتقول: "وا زيداهْ"، و"يا عمراهْ". فإن وصلتَ، أسقطتَ الهاءَ؛ لأن خَفاءَ الألف قد زال بما اتّصل بها، فتقول: "وا زيدًا، وعمراهْ"، تُسْقِط الهاءَ من الأوّل لاتّصاله بالثاني، وتُثْبِتها في الثاني لأنّك وقفتَ عليه، ويجوز أن لا تأتي بألف الندبة، وتُجْرِيَ لفظَه مُجْرَى لفظ المنادي، نحوِ: "وا زيدُ"، و"يا عمرُو"، ولا يُلْبِس بالمنادى، إذ قرينةُ الحال تدل عليه. ¬
وتلحَق علامةُ الندبة المضافَ إليه، فيقال: "وا أميرَ المؤمنيناهْ"، و"وا غلامَ زيداهْ"؛ لأنّ المضاف والمضاف إليه كالاسم الواحد من حيث كان ينزِل منزلةَ التنوين من المضاف، فإن كان المضافُ إليه اسمًا ظاهرًا، فتحتَ آخِرَه لأجلِ ألف الندبة، وتحذف التنوينَ من المضاف إليه في الندبة، لأنه لا يجتمع ساكنان: التنوينُ والألفُ، ولم تُحرِّك التنوينَ لأن أداةَ الندبة زيادةٌ غيرُ منفصلة كما أن التنوين كذلك، فلم يجتمع في آخِرِ الاسم زيادتان على هذه القضيّة، فعاقبوا بينهما لذلك. هذا إذا كان المضافُ إليه ظاهرًا، فإن كان مضمرًا؛ فإن كان المضمرُ متكلمًا، فلا تخلو ياؤُه من أن تكون محذوفةً وقد اجتُزىء بالكسرة منها، نحوَ: "يا غلامِ"، أو تكون ثابتة، وفيها لغتان السكونُ والحركةُ. فإن كانت الأوُلى، فإنّك تُبْدِل من الكسرة فتحةً لأجلِ الألف بعدها، وتقول: "وا غلاماهْ"، وإن كانت ثابتةً، وهي ساكنةٌ، كان لك فيها وجهان: أحدهما: حذفُ الياء لسكونها وسكونِ الألف بعدها، ويستوي في ذلك لغةُ مَن أثبتَها ومَن حذفها. والوجهُ الثاني: أن لا تحذفها، بل تفتحها لأجل الألف بعدها، وإذا كانوا قد فتحوا ما ليس أصلُه الفتحَ، كان فتحُ ما أصلُه الفتحُ أجدرَ وأوْلى. وإن كانت الياء مفتوحةً، نحوَ: "وا غلامِيَ"، فليس فيه إلّا وجهٌ واحدٌ. وهو إثباتُها وتحريكُها. وإن كان المضاف إليه مضمرًا غيرَ ياءِ النفس، أثبتَّه بالألف، وفتحتَ ما قبلها إذا لم يلتبِس، نحوَ قولك في المضاف إلى المخاطب: "وا غلامَكاهْ". فإن كان ممّا يلتبِس، قلبتَ الألفَ إلى جنسِ الحركة قبلها، نحوَ: "يا غلامَكِيهْ"، إذا كان المخاطبُ مؤنّثًا، إذ لو قلت: "وا غلامكاهْ"، التبس بالمذكّر. وكذلك تقول: "وا غلامَهُوهْ" إذا كان المضمر غائبًا، إذ لو قلت: "وا غلامَهَاهْ" التبس بالمؤنّث، وعلى هذا فقِسْ كلَّ ما يأتي منه. ولا تلحَق ألفُ الندبة الصفةَ، لا تقول: "وا زيدُ الظريفاهْ" عند سيبويه والخليلِ (¬1)؛ لأن الصفة ليست المقصودَ بالندبة، وإنّما المندوبُ الموصوفُ، وذهب الكوفيون، ويونسُ من البصريين إلى جَوازه (¬2). وقالوا: إن الصفة والموصوف كالشيء الواحد. والمذهبُ الأوّلُ، إذ ليست الصفةُ كالمضاف إليه، لأنّ المضاف إليه داخلٌ في المضاف، ولذلك يلزَمه، وأنتَ في الصفة بالخِيار، إن شئتَ تصف، وإن شئت لا تصف. واعلم أنّ الندبة لما كانت بُكاءً ونَوْحًا بتَعْدادِ مَآثِرِ المندوب وفضائِله، وإظهارُ ذلك ¬
ضَعْفٌ وخَوَرٌ، ولذلك كانت في الأكثر من كلام النِّسْوان لضَعفهنّ عن الاحتمال، وقلّةِ صَبْرهنّ، وجب أن لا يُنْدَب إلّا بأشْهَرِ أسماء المَندوب وأعْرَفِها، لكَيْ يعرفَه السامعون، فيكونَ عُذْرًا له عندهم، ويُعْلَمَ أنّه قد وقع في أمر عظيم، لا يُمْلَك التصبرُ عند مثله. فلهذا المعنى لا تُنْدَب نكرةٌ (¬1)، ولا مبهمٌ، فلا يُقال: "وا رجلاهْ"، ولا "وا هذاهْ" لإبهامهما. ويستقبحون "وا مَن في الداراهْ" لعدمِ وُضوحه وإبهامِه، ولا يستقبحون: "وا مَن حَفَرَ بئْرَ زَمْزَماهْ", لأنه مَنْقَبَةٌ وفَضِيلةٌ صار ذلك عَلَمًا عليه، يُعْرَف به بعينِهِ، فجرى مَجْرَى الأَعلام، نحوِ: "وا عبدَ المُطَّلِباهْ". وذلك أنّ عبد المطلب هو الذي أظهرَ زَمْزَمَ بعدَ دُثورها من عَهْدِ إسماعيلَ عليه السَّلام، بأنْ أُتِيَ في المَنام، فأمر بحَفْرِ زمزمَ، فقال: وما زمزمُ؟ قال: لا تُنْزَف، ولا تُهْدَم، وتَسْقي الحَجِيجَ الأعظم، وهي بين الفَرْث والدم. فغدا عبدُ المطّلب، ومعه الحارثُ ابنه ليس له يومئذٍ ولدٌ غيرُه، ووجد الغُرابَ ينقُر بين إسافٍ ونائلةَ، فحَفَرَ، فلمّا بدا الطَّوِيُّ كَبَّرَ، وقِصَّتُه معروفةٌ. فالندبة نوعٌ من النداء، فكلُّ مندوب منادى، وليس كلُّ منادى مندوبًا، إذ ليس كل ما ينادَى يجوز ندبتُه، لأنّه يجوز أن ينادَى المنكورُ، والمبهمُ ولا يجوز ذلك في الندبة، فاعرفه. ¬
حذف حرف النداء
حذف حرف النداء فصل قال صاحب الكتاب: "ويجوز حذف حرف النداء عما لا يوصف به "أيّ". قال الله تعالى: {يوسف أعرض عن هذا} (¬1) , وقال: {رب أرني أنظر إليك} (¬2). وتقول: "أيها الرجل", و"أيتها المرأة" و"من لا يزال محسنًا إليّ", ولا يحذف عما يوصف به "أيّ", فلا يقال: "رجل" ولا "هذا"". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول إن الغرض بالنداء التصويتُ بالمنادى ليُقْبِلَ. والغرضُ من حروف النداء امتدادُ الصوت وتنبيهُ المدعوّ، فإذا كان المنادَى متراخِيًا عن المنادِي، أو مُعْرِضًا عنه لا يُقْبِل إلّا بعد اجتهادٍ، أو نائمًا قد استثقل في نَوْمه، استعملوا فيه جميعَ حروف النداء ما خلا الهمزةَ، وهي "يَا" و"أيَا"، و"هَيَا"، و"أيّ" يمتدّ الصوتُ بها ويرتفع، فإن كان قريبًا، نادوه بالهمزة، نحوَ قول الشاعر [من الطويل]: أزيدُ أخا وَرْقاءَ إن كنتَ ثائرًا (¬3) لأنّها تُفيد تنبيهَ المدعوّ، ولم يُرَد منها امتدادُ الصوت لقُرب المدعوّ، ولا يجوز نداءُ البعيد بالهمزة لعدمِ المَدّ فيها، ويجوز نداءُ القريب بسائرِ حروف النداء توكيدًا. وقد يجوز حذفُ حرف النداء من القريب، نحو قوله [من البسيط]: 219 - حارِ بنَ كَعْبٍ ألا أحْلامَ تَزْجُرُكم ... [عَني وأنتمْ من الجُوفِ الجماخيرِ] ¬
ونحوُ قوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} (¬1). وقد كثُر حذفُ حرف النداء في المضاف، نحو قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} (¬2). وقال تعالى: {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬3)، وقال: {رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} (¬4)، وقال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} (¬5). وهو كثيرٌ في الكتاب العزيز. وفي الجملة حذفُ الحروف ممّا يَأْباه القياسُ, لأن الحروف إنّما جيء بها اختصارًا ونائبةٌ عن الأفعال، فَـ "ما" النافيةُ نائبة عن "أنْفِي"، وهمزةُ الاستفهام نائبةٌ عن "استفهِمُ"، وحروفُ العطف عن "أعْطِفُ"، وحروفُ النداء نائبة عن "أُنادِي"، فإذا أخذتَ تحذفها كان اختصارَ المختصَر، وهو إجحافٌ، إلاَّ أنّه قد ورد فإما ذكرناه لقوَّة الدلالة على المحذوف، فصار القرائنُ الدالّةُ كالتلفّظ به. وقوله: "يجوز حذفُ حرف النداء ممّا لا يوصَف به "أيٌّ"، جعل ذلك شرطًا في جوازِ حذفه لا علّةً. ومنهم من جعل ذلك علّة؛ وإنّما هو اعتبارٌ وتعريفٌ للموضع الذي يُحذف منه حرف النداء، فقالوا: كلُّ ما يجوز أن يكون وصفًا لـ "أيٍّ" ودعوتَه، فإنّه لا يجوز حذفُ حرف النداء منه؛ لأنّه لا يُجمع عليه حذفُ الموصوف وحذفُ حرف النداء منه، فيكونَ إجحافًا، فلذلك لا تقول: "رجلُ أقبلْ"، و"لا غلامُ تعالَ"، و"لا هذَا هَلُمَّ"، وأنت تريد النداءَ حتى يظهر حرفُ النداء, لأنّ هذه الأشياء يجوز أن تكون نُعوتًا لـ "أيّ"، نحوَ: "يا أيّها الرجلُ"، و"يا أيّها الغلامُ"، و"يا أيّهذا", لأنّ "أيًّا" مبهمٌ، والمبهمُ يُنْعَت بما فيه الألف ¬
واللام، أو بما كان مبهمًا مثلَه. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} (¬1). قال الشاعر [من الكامل]: 220 - يَا أيُّهَا الرجلُ المُعلِّمُ غيرَه ... هَلَّا لنفسك كان ذا التعليمُ وقال الآخر [من الطويل]: ألا أيّهذا الباخعُ الوَجْدُ نفسَه ... [لشَيْء نَمَتْه عن يديه المقادِرُ] (¬2) فوصف "أيا" باسم الإشارة كما وصفه بما فيه الألف واللام، إذ كان مبهمًا مثلَه، كما يوصَف ما فيه الألف واللام بما فيه الألف واللام. واحتجّ سيبويه بأنّ أصلَ هذا أن يُستعمل بالألف واللام، فتقول: "يا أيّها الرجلُ"، فلم يجز حذفُ ما كان يتعرّف به وتبقيتُه على التعريف إلّا بِعوَض، وكذلك المبهم يكون وصفًا على ما تقدّم لـ "أيّ"، فإذا حذفتَ "أيًّا"، صار "يَا" بدلاً في "هذَا"، كما صار بدلاً في "رجل". وقال المازنيّ في نحوِ، "هذَا أقبلْ": إنّ "هذَا" اسمٌ تُشِير به إلى غير المخاطب، فلمّا ناديتَه، ذهبتْ منه تلك الإشارةُ، فعُوّض منها التنبيه بحرف النداء. وقد أجاز قومٌ من الكوفيين: "هذا أقبلْ" على إرادةِ النداء، وتَعلَّقوا له بقوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} (¬3). قالوا: والمراد "يا هؤلاء"، وقد عمِل به المتَنَبِّي في قوله [من الكامل]: 221 - هذِي بَرَزْتِ لنا فهِجْتِ رَسِيسَا ... [ثمَّ انثنيتِ وماشَفيتِ نسيسا] ¬
وكان يَمِيل كثيرًا إلى مذهب الكوفيين. ولا حجّةَ في الآية لاحتمالِ أن يكون "هؤلاء" منصوبًا بإضمارِ "أعْنِي" بمعنى الاختصاص ويكون "أنتم" مبتدأ، و"تقتلون" الخبرَ. وقيل: "أنتم" مبتدأ، والخبرُ "هؤلاء" و"تقتلون أنفسكم" من صلةِ "هؤلاء". وقد يكون اسمُ الإشارة موصولاً، نحوَ قوله [من الطويل]: 222 - عَدَسْ ما لعَبّادٍ عليكِ إمارةٌ ... أمِنْتِ وهذا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ ¬
أي: والذي تحملينه طليقٌ. ويُحمل قول المتنبّي على أن يكون إشارة إلى المصدر، أي: هذه البَرْزَة، أو إلى الظرف على إرادةِ المَرَّّة، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: " وقد شذ قولهم: "أصبح ليل" (¬1) , و"افتد مخنوق" (¬2). و"أطرق كرا" (¬3).و [من الرجز]: 223 - جاري لا تستنكري عذيري ... [سيري وإشفاقي علي بعيري] ¬
ولا عن المستغاث والمندوب, وقد التزم حذفه في "اللهم" لوقوع الميم خلفًا عنه". * * * قال الشارح: قد جاء عنهم حذفُ حرف النداء من النكرة المقصودة، قالوا: "أصْبحْ ليلُ"، و"افْتَدِ مخنوقُ"، و"أطْرِقْ كَرَا" يريد ترخيمَ "كَرَوانٍ" على قولِ من قال: "يا حارُ" بالضمّ. وذلك أن هذه أمثالٌ معروفةٌ، فجرت مجرى العَلَم في حذفِ حرف النداء منها. وقال أبو العبّاس المبرّد: الأمثالُ يُستجاز فيها ما يستجاز في الشعر لكثرة الاستعمال لها. فأمّا قول العَجَّاج [من الرجز]: جارِيَ لا تستنكري عذيري فإنّه يريد: يا جاريةُ، فإنّما رَخَّمَ، فحذف تاءَ التأنيث، وحذف أداةَ النداء ضرورةً. ولا يجوز حذفُ حرف النداء من المستغاث به، فلا تقول: "لَزَيْدٍ"، وأنت تريد: يا لَزيدٍ, لأن المستغِيث يبالغ في رفعِ صوته وامتداده لتوهُّمه في المستغاث به الغَفْلَةَ والتراخِيَ. وكذلك المندوب، قال سيبويه (¬1): لا يجوز حذفُ حرف النداء منه لأنّهم يختلِطون، ويدعون ما قد فات وبعُد عنهم. والاختلاطُ الاجتهادُ في الغَضَب، ولأنّهم يريدون به مذهبَ الترنّم ومَدَّ الصوتِ، ولذلك زادوا الألفَ أخيرًا مبالغةً في الترنّم. فأمّا قولهم: "اللَّهُمَّ"، فهو نداءٌ، والضمةُ فيه بناءٌ بمنزلتها في "يا زيدُ"، والميمُ فيه عِوَضٌ من حرف النداء، ولذلك لا يجتمع "يَا" مع الميم إلّّا في شعرٍ أنشده الكوفيون (¬2)، لا يُعْرَف قائله ويكون ضرورةً، وذلك قوله [من الرجز]: 224 - إنّي إذا ما حَدَثٌ ألَمَّا ... دَعَوْتُ يا اللَّهُمَّ يا اللهمّا ¬
فجمع لضرورة بين "يا" و"الميم". وذهب الفرّاء من الكوفيين إلى أنّ أصله "يا اللهُ أُمَّنَا بخَيْرٍ"، إلاَّ أنّه لمّا كثُر في كلامهم، واشتهر في ألسِنتهم، حذفوا بعضَ الكلام تخفيفًا كما قالوا: "هَلُمَّ". والأصلُ: هَا الْمُمْ، فحذفوا الهمزةَ تخفيفًا، وادّغموا الميم في الميم، كما قالوا: وَيْلُمِّهِ. والأصل: وَيْلٌ لأمّه، وإنما حذفوا، وخفّفوا. وهو قولٌ واهٍ جدًّا لوجوهِ: منها أنّه لو كان الأمر كما ذكروا، لَمَا حسُن أن يُقال: "اللَّهُمَّ أُمَّنَا بخير"، لأنّه يكون تكرارًا، فلمّا حسُن من غير قُبْحٍ دل على فَسادِ ما ذهب إليه. وأيضًا فإنّه لو كان الأمر على ما ظنّ، لَمَا جاز استعمالُه في المَكارِه، نحو: "اللَّهُمَّ أهْلِكْهم، ولا تُهْلِكْنا، لأنه يكون تَناقُضًا. قال الله تعالى: {اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (¬1)، مع أنَّه لو كانت الميمُ أصلاً من الفعل، لمٍ يحتج الشرطُ إلى جوابٍ في الآية، ولَسدّت مَسَد الجواب. فلمّا افتقرت إلى جواب، وأجيبت بالفاء، دلّتْ على أنّها زائدةٌ، وليست من الفعل. واعلم أن سيبويه (¬2) لا يرى نَعْتَ "اللَّهُمَّ" لأنه لفظٌ لا يقع إلاَّ في النداء، فهو في منزلةِ "يا هَناهْ"، و"يا مَلْكَعانُ" و"فُلُ"، وليس شيءٌ من هذا يُنْعَتُ (¬3). وخالَفَه أبو العبّاس في ذلك، وقال: إذا كانت ¬
الميم عوضًا من "يَا" فكما تقول "يا الله الكريمُ"، كذلك تقول: "اللَّهُمَّ الكريمُ"، واستدلّ بقوله تعالى: {اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} (¬1)، فسيبويه (¬2) يحمل {فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ} على أنّه نداءٌ ثانٍ، لا أنّه نعتٌ. ¬
الاختصاص
الاختصاص فصل قال صاحب الكتاب: "وفي كلامهم ما هو على طريقةِ النداء، ويُقصد به الاختصاصُ، لا النداءُ، وذلك قولهم: "أمّا أنا فأفعلُ كذا أيُّها الرجلُ"، و"نحن نفعل كذا أيُّها القومُ"، و"اللَّهُمَّ اغْفِرْ لنا أيتُها العِصابةُ". جعلوا "أيّا" مع صفته دليلاً على الاختصاص والتوضيح، ولم يعنوا بالرجل، والقوم، والعصابةِ إلاَّ أنفسَهم وما كنوا عنه بـ"أنَا" و"نحن" والضميرِ في "لَنَا"، كأنّه قيل: أمّا أنا فأفعلُ متخصّصًا بذلك من بينِ الرجال، ونحن نفعل متخصِّصين من بين الأقوام، واغفرْ لنا مخصوصين من بين العصائب". * * * قال الشارح: اعلم أنّ كلَّ منادى مختصٌّ، تختصُّه فتُناديه من بينِ مَن بحَضْرتك لأمْرك، ونَهْيك، أو خبرِك. ومعنَى اختصاصك إياه أن تقصِده، وتختصّه بذلك دونَ غيره. وقد أجرتِ العرب أشياءَ اختصّوها على طريقة النداء لاشتراكهما في الاختصاص، فاسْتعير لفظُ أحدهما للآخر من حيث شارَكَه في الاختصاص، كما أجروا التسْويةَ مُجْرَى الاستفهام، إذ كانت التسوية موجودةً في الاستفهام. وذلك قولك: "أزيدٌ عندك أم عمرٌو؟ "، و"أزيدٌ أفضلُ أم خالدٌ؟ " فالشيئان اللذان تسأل عنهما قد استوى عِلْمُك فيهما، ثمّ تقول: "ما أُبالي أقمتَ أم قعدتَ" و {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} (¬1). فأنت غيرُ مستفهم، وإن كان بلفظ الاستفهام لتشارُكهما في معنى التسوية، لأنّ معنى قولك: "لا أُبالي أفعلتَ أم لم تفعل"، أي: هما مستوِيان في عِلْمىِ. فكما جاءت التسويةُ بلفظ الاستفهام لاشتراكهما في معنى التسوية، كذلك جاء الاختصاصُ بلفظ النداء لاشتراكهما في معنى الاختصاص، وإن لم يكن منادى. والذي يدلّ على أنّه غير منادى أنّه لا يجوز دخولُ حرف النداء عليه، لا تقول: "أنا أفعلُ كذا يا أيُّهذا الرجلُ" إذا عنيتَ نفسك، ولا "نحن نفعل كذا يا أيُّها القومْ" إذا عنيتم أنفسَكم، لأنّك لا تُنبِّه غيرَك. وهذا الاختصاص يقع للمتكلّم، نحوِ: "نحن نفعل أيُّها العِصابةُ"، وتعني بالعصابة أنفسَكم، وللمخاطب، نحوِ: "أنتم تفعلون أيّها القومُ"، ولا يجوز للغائب، لا تقول: "إنهم كذا أيّتُها العصابةُ". ¬
وقولهم: "أنا أفعل كذا أيّها الرجل"، و"نحن نفعل كذا أيّتها العصابة"، فـ "أيُّ" وصفتُها مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ، أو خبرٌ محذوفُ المبتدأ. فإذا كان مبتدأ، فكأنّه قال: الرجلُ المذكور أو العصابةُ المذكورة مَن أُريد. وإذا كان خبرًا، فكأنّه قال: من أُريد الرجلُ المذكور أو العصابةُ المذكورة، إذ لا يقدَّر فيها حرفُ النداء، بل هي جملةٌ في موضع الحال, لأنّ الكلام قبلها تامٌّ. ولذلك مثَّلهَا صاحبُ الكتاب بقوله: "أنا أفعل كذا متخصِّصًا من بين الرجال" و"نحن نفعل متخصِّصين من بين الأقوام". وذكرُ "أيّ" هنا وصفتِه توضيحًا وتأكيدًا إذ الاختصاص حاصلٌ من "أنا"، و"نحن"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وممّا يجرى هذا المجرى قولُهم: "إنَا مَعشرَ العرب نفعل كذا"، و"نحن آلَ فلان كُرَماءُ"، و"إنَا معشرَ الصَّعالِيكِ لا قوَّةَ بنا على المُرُوّة"، إلّا أنّهم سوّغوا دخولَ اللام ههنا، فقالوا: "نحن العربَ أقَرَى الناس للضيف"، و"بك اللهَ نرجو الفَضْلَ"، و"سُبْحانَك الله العظيمَ". ومنه قولهم: "الحَمْدُ لله الحميدَ"، و"المُلْكُ لله أهلَ المُلْك"، و"أتاني زيدٌ الفاسقَ الخبيثَ"، وقُرىء {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (¬1)، و"مررتُ به المِسْكِينَ والبائسَ"، وقد جاء نكرة في قول الهُذَليّ [من المتقارب]: 225 - وَيأْوِي إلى نِسْوةٍ عُطَّلٍ ... وشُعْثا مَراصيعَ مِثْلَ السَّعالِي ¬
وهذا الذي يُقال فيه نصبٌ على المَدْح والشتْم والترحُّم". * * * قال الشارح: اعلم أن هذا النحو من الاختصاص يجري على مذهب النداء من النصب بفعل مضمر غيرِ مستعمل إِظهارُه، وليس بنداء على الحقيقة، بدليلِ أنّ الاسم المفرد الذي يقع فيه لا يُبنى على الضمّ، كما يُبنى الاسم المفرد في النداء على الضمّ في نحوِ: "يا زْيدُ"، و"يا بكرُ". ولم يقولوا في [من الرجز]: 226 - بِنَا تَمِيمًا يُكشَفُ الضَّبابُ "بنا تميمُ" بالضمّ، كما فعلوا في النداء، ولأنّه أيضًا يدخل عليه الألف واللام، نحوَ: "نحن العربَ أقرى الناس للضيف"، وما فيه الألف واللام لا يباشره حرفُ النداء، وإذا أرادوا ذلك، تَوَصَّلوا إليه بـ "أي" ونحوِها، كقولك: "يا أيها الرجلُ". فلمّا قلت ها هنا: "نحن العربَ" من غير وُصْلةٍ، دلّ أنّه غيرُ منادى. وقوله: "ممّا يجري هذا المجرى"، يريد مجرى الأوّل في الاختصاص، وإنّما فصله من الأوّل، وإن كانا جميعًا اختصاصًا لأنّهما مختلفان من جهة اللفظ، وذلك أنّ الفصل الأوّل مرفوعٌ، نحوُ "نحن نفعل كذا أيّتها العصابةُ"، و"أنا أفعل كذا أيّها الرجلُ"، وهذا الفصلُ منصوبٌ، نحوُ قوله [من البسيط]: 227 - إنّا بني مِنْقَرٍ [قومٌ ذوو حَسَبٍ ... فينا سَراةُ بني سَعْدٍ وناديها] ¬
وقولِ الآخر [من الرجز]: بِنَا تميمًا يُكشَف الضبابُ وذلك الفصل مختصٌّ بـ "أيّ" دون غيرها من الأسماء. وهذا الفصلُ يكون بسائر الأسماء نحوِ: بني فلان، وآلِ فلان، وغيرِها من الأسماء. واعلم أنّ هذا الضرب من الاختصاص ليس نداء على الحقيقة، وإن كان جاريًا مجراه، وذلك من قِبَل أنه منصوبٌ بفعل مضمر غيرِ مستعمل إظهارُه، ولا يكون إلّا للمتكلّم والمخاطَب، وهما حاضران، ولا يكون لغائب كما أن النداء كذلك. والذي يدلّ على أنّه ليس بنداءَ أن الاسم المفرد الذي يقع فيه لا يُبنى على الضمّ كما يُبنى الاسم المفرد في النداء على الضمّ، نحوُ: "يا زيدُ"، و"يا حَكَمُ". ولم يقولوا في قول الشاعر: "بنا تميمُ" بالضمّ كما فعلوا في النداء، ولأنّه أيضًا يدخل عليه الألفُ واللام، نحوَ قولهم: "نحن العربَ أقرى الناس للضَّيْف". ولا يجوز ذلك في النداء. والفرق بين هذا الاختصاص واختصاصِ النداء أنك في النداء تختصّ واحدًا من جَماعةٍ ليعطِف عليك عند توهُّمِ غَفْلةٍ عنك. وفي هذا الباب تختصّه بفعلٍ يعمل فيه النصبَ، تَقصِد به الاختصاص على سبيلَ الافتخار والتفضيل له. والاسم المنصوب في هذا الباب لا بدّ أن يتقدّم ذكرُه، ويكونَ من أسماء المتكلّم والمخاطَب، نحوَ قوله [من الطويل]: 228 - أبَى الله إلّا أنّنا آلَ خِنْدِفٍ ... بنا يَسْمَعُ الصَّوْتَ الأنامُ ويُبْصِرُ ¬
فآل خندف هم النون والألف في "أنّنا". وكذلك قولهم: "نحن العربَ أقرى الناس للضيف" فالعربُ هم "نحن". ونصبُ هذه الأسماء كنَصْبِ ما ينتصب على التعظيم والشتْم بإضمارِ "أُريد" أو"أعنِي" أو"أختصّ". فالاختصاصُ نوعٌ من التعظيم والشتم، فهو أخصُّ منهما، لأنّه يكون للحاضر، نحو: المتكلّم، والمخاطب، وسائرُ التعظيم والشتم يكون للحاضر، والغائب. وهذا الضربُ من الاختصاص يُراد به تخصيصُ المذكور بالفعل، وتخليصُه من غيره على سبيل الفَخْر، والتعظيم. وسائر التعظيم والشتمِ ليس المرادُ منه التخصيصَ والتخليصَ من موصوف آخَر، وإنما المرادُ المدح أو الذمّ. فمن ذلك: "الحمد لله الحميدَ"، و"المُلْكُ لله أهْلَ المُلْك"، وكلُّ ذلك نصبٌ على المدح، ولم تُرِد أن تفصِله من غيره، وتقول: "أتاني زيدٌ الخبيثَ الفاسقَ". ومنه قِراءةُ من قرأ {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} (¬1) بالنصب على الذمّ والشتم. ومن ذلك "مررت به البائسَ المسكينَ" فيجوز خفضُ "البائس"، و"المسكين" على البدل، ولا يجوز أن يكون نَعْتًا، لأنّ المضمرات لا تُنْعَت، ويجوز نصبُه على الترحّم بإضمارِ "أعنِي"، وهو من قبيل المدح والذمّ، فاعرفه. ¬
الترخيم
الترخيم فصل [شرائطه] قال صاحب الكتاب: "ومن خصائصِ النداء الترخيمُ إلّا إذا اضطرّ الشاعر، فرخَّم في غير النداء. وله شرائطُ: إحداها أن يكون الاسمُ عَلَمًا. والثانيةُ أن يكون غيرَ مضاف. والثالثة أن لا يكون مندوبًا ولا مستغاثًا. والرابعةُ أن تزيد عِدّتُه على ثلاثةِ أحرف إلّا ما كان في آخره تاءُ تأنيث، فإنّ العَلَمية، والزيادةَ على الثلاثة فيه غيرُ مشروطتَيْن، يقولون: "يا عاذِلَ"، و"يا جارِيَ لا تستنكِرِي"، و"يا ثُبَ أقْبِلِي" و"يا شَا ارْجُنِي"، وأما قولهم: "يا صاحِ" و"أطْرِقْ كَرَا" فمن الشواذّ". * * * قال الشارح: إنّما قال: "ومن خصائص النداء الترخيم"، لأنّ الترخيم المطّرِد إنّما يكون في النداء، وفي غير النداء إنّما يكون على سبيل الندْرة، وهو من قبيل الضرورة على ما سيأتي بيانُه. ولذلك قال: إلّا إذا اضطُرّ الشاعر، فرخّم في غير النداء، جعله خاصّةً للنداء، والترخيم مأخوذ من قولهم: "صوتٌ رخيمٌ" إذا كان ليّنا ضعيفًا، والترخيمُ ضُعْفٌ في الاسم، ونَقْصٌ له عن تَمام الصوت. قال الشاعر [من الطويل]: لها بَشَر مِثْلُ الحَرِير ومَنْطِقٌ ... رخيمُ الحَواشِي لاهُراءٌ ولانَزْرُ (¬1) يصف امرأة بعُذوبةِ المنطق ولِينِ الكلام، وذلك مستحَبّ في النساء. والترخيم له شروطٌ: منها أن يكون منادى، وذلك لكثرة النداء في كلامهم، وسعةِ استعماله. والكلمةُ إذا كثُر استعمالُها، جاز فيها من التخفيف ما لم يجز في غيرها، فلذلك رخّموا المنادى، وحذفوا آخِرَه، كما حذفوا منه التنوينَ، وكما حذفوا الياء في "يا قومِ" على ما سبق. ومنها أن يكون عَلَمًا، لأنّ الأعلام يدخلها من التغيير ما لم يوجَد في غيرها، ألا ترى أنّهم قالوا: "حَيْوَةُ"، والقياس: حَيَّةُ. وقالوا: "مَزْيَدٌ"، و"مَوْهَبٌ"، و"مَحْبَبٌ"، وقد تقدّم عِلّةُ ذلك في فصل الأعلام. ¬
ومنها أن يكون مفردًا غير مضاف، لأنّ الاسم المفرد قد أثّر فيه النداءُ، وأوجب له البناءَ بعدَ أن كان معربًا. والمضافُ، والمضاف إليه لم يؤثّر فيه النداءُ، بل حالُهما بعد النداء في الإعراب كحالهما قبل النداء. فلمّا كان حكمُ المفرد في النداء مخالِفَ حكمِه في غير النداء، وكان الترخيمُ إنّما يُسوِّغه النداءُ، جاز. ولمّا كان المضافُ والمضاف إليه جارِيَيْن على الإعراب في النداء كجَرْيهما في غير النداء، وكان غيرُ النداء لا يجوز فيه الترخيمُ، لم يجز فيهما هذا مع عدم السَّماع. والذي ورد من الترخيم عن العرب إنّما هو في المفرد، نحو: "يا حارِ"، و"يا عامِ". وذهب الكِسائيّ والفَرّاء إلى جواز الترخيم في المضاف، ويوقِعون الحذفَ على آخِرِ الاسم الثاني، فيقولون: "يا أبا عُرْو"، و"يا آلَ عِكْرِمَ" وأنشدوا بيتًا لم يُعرف قائله [من الطويل]: 229 - أبَا عُرْوَ لا تُبْعِدْ فكُل ابنِ حُرَّةٍ ... سَيَدْعُوه داعِي مِيتَةٍ فيُجِيبُ وقال زُهَيْرٌ [من الطويل]: 230 - خُذُوا حِذْرَكم يا آلَ عِكْرِمَ واذْكُروا ... أواصِرنَا والرَّحْمُ بالغَيْب يُذْكَرُ ¬
فرخّم المضاف إليه فيهما، وهذا محمولٌ عندنا على الضرورة، وحالُه حالُ ما رُخّم في غير النداء للضرورة، لأن المضاف إليه غيرُ منادى. ومنها أن تكون عِدّتُه زائدة على ثلاثةِ أحرف، وذلك لأنّ أقلَّ الأُصول ما كان على ثلاثهٍ، فإذا حذفتَ من الخمسة حرفاً، ألحقتَه بالأربعة، وقرَّبتَه من الثلاثة تخفيفًا له بقُرْبه من الثلاثة الذي هو أقلُّ الأبنية، وإذا حذفتَ من الأربعة بلغتَ الثلاثةَ، وإذا بلغت الثلاثةَ، لم يجز أن تحذف منه شيئًا، لأنّه لم يكن دونها شيءٌ من الأُصول، فتَبْلُغَه لأنّها هي الغايةُ. فأمّا ما كان فيه هاءُ التأنيث، فيجوز ترخيمُه، وإن كان على ثلاثة أحرف، لأنّه بمنزلةِ اسم ضُمَّ إلى اسم كَـ "حَضْرَمَوْتَ" و"رَامَهُرْمُزَ"، فجازحذفُ الثاني منه كما جاز في "حضرموت"، وبقي عَلى حرفَيْن معتلاً "يَدٍ" و"دَمٍ"، لأنّه كان كذلك، والهاءُ فيه، إذ الهاءُ بمنزلةِ المنفصلة، ولا يُشترط فيما كان فيه هاءُ التأنيث العَلَميةُ، بل يجوز في الشائع كما يجوز في الخاص. وإنّما ساغ الترخيمُ فيما كان فيه تاءُ التأنيث، وإن لم يكن عَلَمًا، نحوِ: "يا ثُب"، و"يا عِضَ"، في "ثُبَةٍ" و"عِضَةٍ" لكثرةِ ترخيمِ ما فيه هاءُ التأنيث، فإنّه لم يكثر في شيء ¬
ككثرته لِما تقدّم من أنّه كاسمٍ ضُمَّ إلى اسم، ولأنّ تاءَ التأنيث تُبْدَل هاءً في الوقف أبدًا مطّرِدًا، ودخولُها الكلامَ أكثرُ من دخولِ ألفَي التأنيث، لأنّها قد تدخل في الأفعال الماضية للتأنيث، نحوِ: "قامتْ هندُ". وتدخل المذكرَ توكيدًا، ومبالغةً نحوَ: "عَلامةٍ"، و"نَسّابةٍ". فلمّا كانت الهاء كذلك، ساغ حذفُها، وكان أوْلى لِما يحصُل بذلك من الخفّة مع عدم الإخلالِ ببنيةِ الكلمة، لأن التغيير اللازم لها من نَقْلها من التاء إلى الهاء يُسهّل تغييرَها بالحذف، لأنّ التغيير مُؤنسٌ بالتغيير. فإذا كانت في الكلمة لم يحذفوا غيرَها، قلّت حروفُها أو كثُرت، شائعًا كان، أو خاصًّا. تقول في الخاص: "يا سَلَمَ أقبلْ"، وفي "مَرْجانَةَ": "يا مرجانَ أقبلي"، وفي النكرة قالوا: "يا عاذِلَ أقبلىِ"، يريدون: عاذلةُ، وقالوا: "يا جاريَ"، يريدون "يا جارِيةُ"، قال العَجَّاج [من الرجز]: جارِيَ لا تستنكري عَذِيري (¬1) أراد: يا جاريةُ. وقالوا: "يا ثبَ" في "يا ثُبَةُ"، وهي الجماعةُ. وقالوا: "يا شَا ارْجُنِي"، وهو زَجْرٌ لها عن السرْح والانبعاثِ، ومعناه: أقيمي في البيت. وقولهم هُنَا "يا شَا" إنّما هو على لغةِ من قال "يا حارِ" بالكسر، فأمّا من قال: "يا حارُ" بالضم، فقياسُه "يا شاهُ"، برَدّ الهاء التي هي لامٌ بعد حذفِ تاء التأنيث، لئلا يبقى الاسمُ على حرفَين، الثاني منهما حرفُ مَدّ، وهو عديمُ النظير. واعلم أنّهم قد قالوا "يا صاح"، وهم يريدون: "يا صاحبا". وقالوا: "أطْرِقْ كَرَا"، وهم يريدون: "كَرَوانًا"، فرُخّم على لغةِ من قال: "يا حارُ" بالضمّ، كأنه حذف الألفَ والنونَ، وبقيت الواوُ، وحقُّها الضمّ، فقُلبت ألفّا لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها. ولو كان على لغةِ من قال: "يا حارِ" بالكسر لَقال: "يا كَرَوَ" بفتح الواو، لأنّ المحذوف مرادٌ، وفي الجملة ترخيمُ هذَيْن الاسمَيْن شاذٌّ قياسًا واستعمالاً. فالقياسُ لِما ذكرناه من أنّ الترخيم بابُه الأعلامُ، وأمّا الاستعمال فظاهرٌ لقلّةِ المستعملين له، ففي قولهم: "يا صاح" شذوذٌ واحدٌ، وهو ترخيمُ النكرة، وليس فيها تاءُ التأنيث. وفي قولهم: "أطرقْ كَرًا" شَذوذٌ من جهتَيْن: أحدُهما: حذفُ حرف النداء منه، وهو ممّا يجوز أن يكون وصفًا لـ "أيّ"، نحوَ: يا أيها الكروانُ. والوجهُ الثاني: أنّه رخّمه وهو نكرةٌ ليس فيه تاءُ تأنيث، وذلك معدومٌ، فاعرفه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: "والترخيم حذف في آخر الاسم على سبيل الاعتباط, ثم إما أن يكون المحذوف كالثابت في التقدير, وهو الكثير، أو يجعل ما بقي كأنه اسم برأسه, فيعامل بما يُعامل به سائر الأسماء, فيقال على الأول: "يا حار"، و"يا هرق"، و"يا ثمو"، و"يا بنو" في المسمى بـ "بنون", وعلى الثاني:"يا حار"، و"يا هرق", و"يا ثمى"، و"يا بني"". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الترخيم في كلام العرب على ضربَيْن: ترخيمٌ يكون في باب التحقير، وهو حذفُ زوائدِ الاسم إن كانت فيه، نحوُ قولك في "أسْوَدَ": "سُوَيْدٌ"، وفي "أزْهَرَ": "زُهَيْرٌ"، وفي "كِتاب": "كُتَيْبٌ"، وفي "حَمْراءَ"، و"صَحْراءَ": "حُمَيْرٌ" و"صُحَيْرٌ"، وهذا يوضَّح في فصله من هذا الكتاب. وترخيمٌ يختصّ بابَ النداء، وهو ما نحن بصَدَدِ فسرِه وشرحِه، وهو حذفُ آخِرِ الاسم المفرد المعرفةِ في النداء. وقوله: "على سبيل الاعتباط" يعني من غير علّةٍ موجِبةٍ، وإنّما ذلك لنوع من التخفيف، من قولهم: "اعتُبط البعيرُ" إذا مات من غير علّةٍ. قال أُمَيَّةُ [من المنسرح]: 231 - مَن لم يَمُتْ عَبْطَة يَمُتْ هَرَمًا ... للمَوْت كأْسٌ والمَرْءُ ذائقُها يقول: من لم يمت شابًّا طَرِيًّا يمت لعلّةِ الكبر والهَرَمِ، لا بد من ذلك. ¬
ثمّ هذا الترخيم على وجهَيْن: أحدهما: وهو الأكثر، أن يحذف آخِرُ الاسم، ويكون المحذوفُ مرادًا في الحكم كالثابت المنطوقِ به، تَدَعُ ما قبله على حاله، في حركته وسكونه، إيذانًا وإشعارًا بإرادته. والثاني: أن يُحذف ما يُحذف من آخِره، ويبقى الاسمُ كأنّه قائمٌ برأسه غيرُ منقوص منه، فيعامَل معامَلةَ الأسماء التامةِ من البناء على الضمّ، فيقال على الوجه الأوّل في "حارِثٍ": "يا حارِ"، وفي "أُمامَةَ": "يا أُمامَ"، وفي "بُرْثُنَ": "يا بُرْثُ"، وفي "هِرَقْلَ": "يا هِرَقْ"، وفي "ثَمُودَ": "يا ثَمُو"، وفي "بَنُونَ" اسمَ رجل: "يا بَنُو"، لا يُغيَّر الاسم بعد الحذف. وقد خالَفَ الفرّاءُ في الاسم الذي قبل آخرِه ساكنٌ، فزعم أنّ ترخيمَ نحوِ "هرقلَ"، و"سِبَطْرٍ" وما كان مثلَهما بحَذْفِ حرفَيْن، نحوَ: "يا هِرَ"، و"يَا سِبَ". قال: وإنّما كان كذلك لئلاّ يُشْبِه الأدواتِ يعني الحروفَ، نحوَ "نَعَمْ" و"أجَلْ"، والأسماءَ غيرَ المتمكَّنة نحوَ "كَمْ" و"مَنْ". وهو قول واهٍ، لأنّا اتّفقنا على أن المرخَّم الذي قبل آخِره متحرِّكٌ تبقى حركتُه على ما هي عليه من ضمٍّ وفتحٍ وكسرٍ. وإنّما فعلنا ذلك، لأنّا قدّرنا ثبوتَ المحذوف، وكمالَ الاسم، فصارت هذه الحركاتُ كأنَّها حَشْوٌ. وضمّةُ البناء التي يُحْدِثها النداءُ مقدّرةٌ على حرفِ الإعراب المحذوفِ، وما قبل المحذوف فليس بحرِف إعراب، فلذلك بقي على حاله من الحركة، كما أنّ الزاي من "زيد"، والباء من "بَكْر" على حال واحدة، منصوبًا كان الاسمُ، أو مرفوعًا، أو مجرورًا، كذلك هنا. ولولا ذلك، لحُرّك المرخَّم بحركة واحدة كلُّه، وإذا كان ذلك كذلك، فينبغي أن يبقى السكونُ أيضًا كما لو كان المحذوف باقيًا، لأن الثابت حُكمًا كالثابت لفطًا، ولو اعتُبر إلباسه بالأدوات في حالِ سكونه، لَوجب أن يُعتبر إلباسُه بالمضاف في حالِ كسره، وهذا واضحٌ. ويُقال على الوجه الثاني في "حارثٍ": "يا حارُ"، وفي "أُمامَةَ": "يا أُمامُ"، وفي "بُرْثُنَ": "يا بُرْثُ"، كلُّه بالضمّ، إلّا أنّ الضمّة في "بُرْثُ" غيرُ الضمّة الأصليّة إنّما هي ضمّةُ النداء. وقد انحذفت الضمّةُ الأصليّةُ كما حذفتَ الكسرة من "يا حارِثُ" وأتيتَ بالضمّة. وتقول في ترخيم "ثَمُودَ"، و"بَنُونَ" عَلَمًا: "يا ثَمِي"، و"يا بَنِي"، لئلاّ يبقى الاسم آخِرُه واوٌ قبلها ضمّةٌ، وذلَك معدومٌ في الأسماء المتمكّنةِ، فأُبدل من الضمّة كسرةٌ ومن الواو ياءٌ، كما فُعل بـ "أدْلٍ"، و"أجْرٍ" جمعِ "دَلْوٍ"، و"جِرْوٍ". وحجّةُ هذا الوجه أنّك لمّا رخّمته وحذفتَ آخِرَه، صارت المعاملةُ مع ما بقي، وصار ما قبل المحذوف حرفَ إعراب، كما كان ذلك في "يَدٍ"، و"دَمٍ"، فضُمّ كسائر الأسماء المناداة المفردة، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "ولا يخلو المرخم من أن يكون مفرداً أو مركباً فإن كان
مفرداً, فهو على وجهين: أحدهما أن يحذف منه حرف واحد كما ذكرت. والثاني أن يحذف منه حرفان, وهما على نوعين إما زيادتان في حكم زيادة واحدة كاللتين في أعجاز "أسماء" و"مروان", و"عثمان" و"طائفي". وإما حرف صحيح ومدة قبله. وذلك في نحو منصور وعمار ومسكين. وإن كان مركباً حذف آخر الأسمين بكماله فقيل يا بخت ويا عمرو ويا سيب ويا خمسة في بخت نصر وعمرويه وسيبويه، والمسمى بـ "خمسة عشر"؛ وأما نحو تأبط شراً وبرق نحره فلا يرخم. * * * قال الشارح: اعلم أنّ المرخّم يكون مفردًا، أو مركبًا. والمفردُ على ضربَيْن: أحدُهما: مالا يُحذف منه في النداء إلّا حرفٌ واحدٌ، نحوُ قولك في "عامرٍ"، و"حارثٍ"، وشِبْههما: "يا عامِ "، و"يا حارِ". ويجوز فيه الضمُّ والكسرُ قال مُهَلْهِلٌ [من الكامل]: 232 - يا حارُِ لا تَجْهَلْ على أشْياخِنا ... إنّا ذَوُوالسَّوْراتِ والأحْلامِ وقال زُهَيْرٌ [من البسيط]: 233 - يا حارُِ لا أُرْمَيَنْ منكم بِداهِيَةٍ ... لم يَلْقَها سُوقَةٌ قَبْلي ولامَلِكُ ¬
يُنْشَدان بكسر الراء وضمِّها. وسمع بعضهم قارئًا يقرأ: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} (¬1) فقال: ما أشغل أهلَ النار عن الترخيم!! فقال: ذلك لأنّهم لا يقدِرون على التلفّظ بتَمامِ الكلمة، لضُعْفِ قُواهم. والثاني: ما يُحذف منه في الترخيم حرفان، وذلك شيئان: أحدُهما ما كان في آخِره زائدتان زيدا معًا، فمن ذلك ما كان في آخره ألفٌ ونونٌ، نحو: "مَرْوانَ"، و"سَعْدانَ"، ورجل سمّيتَه "مُسْلِمانَ"، وكذلك ما كان في آخره ألفا التأنيث، نحوُ "حَمْراءَ"، و"صَحْراءَ" إذا سمّيتَ بهما، و"أسْماءَ" اسمَ امرأةٍ، وكذلك حكمُ يائي النسَب، نحوِ "بَصْريّ"، و"طائفيّ" إذا سمّيت بهما. وتقول في ترخيمِ ما في آخره ألفٌ ونونٌ: "يا مَرْوَ"، و"يا سَعْدَ"، و"يا مُسْلِمَ" قال الشاعر [من الكامل]: 234 - يا مَرْوَ إن مَطِيَّتِي محبوسةٌ ... تَرْجُو الحِباءَ ورَبُّها لم يَيأَسِ ¬
وتقول فيما كان في آخره ألفا التأنيث: "يا حَمْرَ أقْبِلي"، و"يا صَحْرَ" في "حَمْراءَ"، و"صحراء" عَلَمَيْن، و"يا أسْمَ" في "أسماءَ" اسمَ امرأة. قال الشاعر [من الطويل]: 235 - قِفِي فانْظُري يا أسْمَ هل تَعْرِفينه ... أهذا المُغيريُّ الذي كان يُذْكَرُ فـ "أَسْماءُ" اسمُ امرأة يحتمل أن يكون من باب "حمراء"، و"صحراء" ويكون وزنُه فَعْلاء، وأصلُه وَسْماء من الوَسامة، وهي المَلاحةُ، فقلبوا الواوَ المفتوحة همزةً على حدّ قولهم: "أَحَدٌ"، وأصلُه "وَحَدٌ"، و"امرأةٌ أَناةٌ"، وهي "وَناةٌ". ويحتمل أن يكون من قبيل "منصورٍ" و"عمّارٍ"، وهو أَفْعالٌ جمعُ "اسم"، وأصلُه "أَسْماوٌ"، فقُلبت الواو الأخيرة همزةً بعد قَلْبها ألفًا على حد "كِساءٍ"، و"شَقاءٍ". وسُمّي به مؤنَّثًا فامتنع من الصرف للتأنيث والتعريف، ورُخّم، فُحذف الحرف الأخير الذي هو أصلٌ، وما قبله من حرف المدّ كما فُعل في "منصور"، و"عمّار" إذا رُخّما. ¬
وتقول فيما كان في آخره ياءَا النسبة: "يا طائِفِ"، و"يا بَصْرِ"، ترخيمَ "طائفيّ"، و"بصريّ" عَلَمَيْن. تحذف الحرفَيْن معًا، لأنّهما زائدان زَيْدًا معًا، لمعنًى واحد، فنزلا منزلةَ الزيادة الواحدة، فلمّا زِيدَا معًا حُذفَا معًا. وأمّا الثاني: ممّا يُحذف منه حرفان في الترخيم، وذلك ما كان آخِرُ الاسم منه حرفًا أصليًّا، وقبله حرفُ مَدٍّ زائدٌ، فإنّك تحذف الأصل، وما قبله من الزائد معًا، وتُجريهما معًا مُجْرَى الزائدَيْن، إذا بقي بعد حَذْفهما ثلاثةُ أحرف، نحوَ "عَمّار"، و"منصور"، و"مسْكِين"، وتقول: "يا مَنْصُ"، و"يا عَمَّ"، و"يا مِسْكِ". وذلك لأنّهما جريا مجرَى الزائدَيْن. وذلك من حيثُ أن الأصل يُحذف للترخيم، لأنّه طَرَفٌ كما يُحذف الزائد الثاني من "مروان" ونحوه، وقبلَه حرفُ مدّ كما كان قبل النون في "مروان" كذلك، فقد سَاوَى الأصلُ والزائدُ قبله الزائدَيْن من الجهة المذكورة، فجريا في الحذف مجراهما. ولو كان قبل الحرف الأصليّ زائدٌ غيرُ مَدّة، لم يُحذف لمفارقته الزائدَ الأوّلَ في "مَروانَ"، و"حَمْراء". وذلك لو سمّيت بـ "سِنوْرٍ"، و"بِرْذَوْنٍ"، لقلت فيمن قال: "يا حارِ" بالكسر: "يا سِنَّوْ أقبلْ" و"يا بِرْذَوْ أقبلْ" وعلى قولِ من قال: "يا حارُ" بالضمّ: "يا سِنا"، و"يا بِرْذَا"، فقلبتَ الواوَ ألفًا لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلها. وأمّا المركّب فأمرُه في الترخيم كأمرِ تاء التأنيث: تحذف الكلمة التي ضُمّت إلى الصدر رأسًا، كما تحذف تاءَ التأنيث، فتقول في "بُخْتَ نَصَّرَ" اسمِ رجل: "يا بُخْتَ"، بحذفِ الاسم الأخير لا غيرُ، كما تقول في "مَرْجانَةَ" اسمِ امرأة: يا "مَرْجانَ"، فلا تزيد على حذفِ التاء، وفي "حَضْرَمَوْتَ": "يا حَضْرَ"، وفي "مَار سَرْجِسَ": "يا مارَ"، وفي "عَمْرَوَيْهِ": "يا عَمْرَ"، وفي "سِيبَوَيْهِ": "يا سِيبَ"، وفي المسمّى بـ "خَمْسَةَ عَشَرَ": "يا خمسةَ". جعلوا الاسمَ الآخِرَ بمنزلة الهاء في نحوِ "تَمْرَةٍ"، إذ كان حكمُ الاسم الآخر كحكم الهاء في كثير من كلامهم. ومن ذلك التصغير، فإنّه إذا جُعل الاسمان اسمًا واحداً، ولحقه التصغيرُ، فإنّه إنّما يصغَّر الصدر منهما، ثمّ يُؤْتَى بالاسم الثاني بعد تصغير الصدر كما يصغَّر ما قبل هاء التأنيث، فتقول: "حُضَيْرَمَوْتُ"، و"بُعَيْلَبَكُّ"، و"عُمَيْرَوَيْهِ" كما تقول "تُمَيْرَة" و"طُرَيْقَةٌ". ومن ذلك النسَبُ، فإنّك تقول في النسب إلى "حضرموت": "حَضْرِيٌّ"، وإلى "مَعْدِيكَرِبَ": "مَعْديّ"، كما تقول في النسب إلى "البَصْرَة": "بَصْريّ"، وإلى "مَكَّةَ": "مَكىٌّ"، فيقع النسبُ إلى الصدر لا غيرُ، كما يكون كذلك فيما فيه الهاء. وممّا يؤيد عندك ما ذكرناه أنّ هاءَ التأنيث لا تُلْحِق بناتِ الثلاثة بالأربعة، ولا بناتِ ¬
الأربعة بالخمسة، كما أنّ الاسم الثاني لا يُلْحِق الاسم الأوّل بشيء من الأبنية. وأيضًا فإنّ الاسم الثاني إذا دخل على الأول، ورُكب معه، لم يُغيّرِ بنيتَه، كما أنّ التاء كذلك: إذا دخلتِ الاسمَ المؤنّثَ، لم تُغيِّر بناءَه كـ "تَمْرٍ"، و"تَمْرَةٍ"، و"قائمٍ"، و"قائمةٍ". فلمّا كان بينهما من التقاربُ ما ذكرناه، حذفوا الآخِرَ من المركّب في الترخيم كما يحذفون منه تاءَ التأنيث. وكان الحذفُ في الترخيمِ أجدرَ، إذ كان يُحذف في الترخيم ما لا يُحذف في الإضافة. ألا ترى أنّك تقول في "جَعْفَرٍ": "يا جَعْفَ"، فتحذف الراء في الترخيم، وتقول في النسب: "جَعْفَريّ"، فتُثْبِتها، وإذا ساغ حذفُ ما يثبُت في الإضافة في الترخيم، كان حذفُ ما لا يثبت فيها أَوْلى. ولو رخمتَ "اثْنَا عشَرَ" عَلَمًا، لقلت: "يا اثْنَ"، فتفتح النونَ على قولِ من يقول: "يا حارِ" بالكسر. ومن يقول: "يا حارُ" بالضمّ قال: "يا اثنُ"، لأنّ "عشر" ها هنا بمنزلة النون من "اثنين"، وأنت لو رخّمت "اثنان" لقلت: "يا اثنُ". وأمّا ما يُحكى من نحو"تأبّط شرَّا"، و"بَرَقَ نَخرُه"، ونحوِهما، فإنّه لا يرخَّم، لأنّ النداء لم يؤثًر فيه، وإنّما هي جُمَلٌ مَحكيّةٌ، والترخيمُ إنّما يكون فيما أثر فيه النداءُ بناءَ على ما قال سيبويه، ولو رخمتَ هذا، لرخمت رجلاً يسمَّى "يقول عَنْتَرَةُ يا دارَ عَبْلَةَ بالجِواء تَكَلَّمِي" (¬1) ومع ذلك فإنّه لا يجوز, لأنّها جُمَلٌ محكيّةُ الإعراب، لا حَظَّ للبناء فيها، فاعرفه. ¬
حذف المنادي
حذف المنادي فصل قال صاحب الكتاب: "وقد يحذف المنادي فيقال: "يا بؤسٌ لزيدٍ" بمعنى: "يا قوم بؤسٌ لزيد". ومن أبيات الكتاب [من البسيط]: 236 - يا لعنة الله والأقوام كلهم ... والصالحون على سمعان من جار وفي التنزيل {ألا يا اسجدوا} (¬1) ". * * * قال الشارح: اعلم أنّهم كما حذفوا حرفَ النداء لدلالة المنادى عليه، كذلك أيضًا ¬
قد يحذفون المنادى لدلالةِ حرف النداء عليه. فمن ذلك قولُهم: "يا بؤسٌ لزيد"، والمراد: يا قوم بؤسٌ لزيد. فـ "بؤسٌ" رفعٌ بالابتداء، والجارُّ والمجرورُ بعده خبرُه. وساغ الابتداءُ به وهو نكرةٌ، لأنّه دعاءٌ. ومثلُه قولهم: "يا وَيْلٌ لزيد"، و"يا وَيْحٌ لك" فيما حكاه أبو عمرو، وكأنّه نبّه إنسانًا، ثمّ جعل الويلَ له، وليس كقوله: "يا بُؤْسَ للحرب" لأنه هناك مدعوٌّ، ولذلك نصبه إذ كان مضافًا. والمراد: يا بؤسَ الحرب، واللامُ دخلتْ زائدة مؤكِّدة لمعنَى الإضافة على حدِّ زيادتها في "لا أَبَا لك". ولا تُزاد هذه اللام إلّا في هذَيْن الموضعَين. ويجوز أن يكون "يَا" هنا تنبيهًا لا للنداء، فلا يكون ثمّ مدعوٌّ محذوفٌ، وما بعدها كلامٌ مبتدأٌ، كأنك قلت: "بؤسٌ لزيد"، و"ويلٌ له ووَيْحٌ". وأمّا بيت الكتاب الذي أنشده، فيحتمل الوجهَيْن المذكورَيْن؛ وهو أن يكون ثمّ منادّى محذوفٌ، والمراد: يا قومُ، أو يا هؤلاء لعنةُ الله على سِمْعانَ. والآخرُ أن يكون "يَا" لمجرَّدِ التنبيه كأنّه نبّه الحاضرين على سبيل الاستعطاف لاستماع دُعائه، و"اللعنةُ" رفعٌ بالابتداء، و"على سمعان" الخبرُ. ولو كانت "اللعنةُ" مناداةً لنَصبها, لأنَها مضافة. قال سيبويه: فـ "يَا" لغير اللعنة (¬1)، يُشير إلى أن المنادى محذوفٌ، وهو غيرُ اللعنة. ويُروى: "والصالحون"، و"الصالحين"، مرفوعًا، ومخفوضًا. فالخفضُ أمره ظاهرٌ، وهو العطف على لفظِ اسم "الله"، فخُفض المعطوف الثاني كما خُفض المعطوف الأوّل، ومَن رفع فعلى وجهَيْن: أحدُهما: أن يكون محمولًا على معنّى اسمِ "الله" تعالى، إذ كان فاعلًا في المعنى، والفاعلُ مرفوعٌ، ومثله قوله [من الكامل]: 237 - [حتّى تَهَجَّرَ في الرواحِ وهاجَها] ... طَلَبَ المُعَقِّبِ حَقَّهُ المظلومُ ¬
برفع "المظلوم" على الصفة لـ "المعقّب" على المعنى. والوجه الآخر: أن يكون معطوفًا على المبتدأ الذي هو"لعنةُ الله"، أي: ولعنةُ الصالحين، ثمّ حذف المضاف، وأعرب المضاف إليه بإعرابه على حدّ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬1) أي: أهلَ القرية. و"سِمْعَانُ" هذا قد روى بكسر السين، وفتحها، والفتحُ أكثرُ. وكلاهما قياسٌ، فَمن كسر كان كـ "عِمْرانَ"، و"حِطّانَ"، ومَن فتح كان كـ "قَحْطانَ"، و"مَرْوان". وقوله تعالى: {ألاَ يَا اسْجُدُوا} (¬2) فقد قرأها الكسائي "أَلاَ" خفيفةٌ، وقرأها الباقون بالتشديد. فمَن خفّف جعلها تنبيهًا، و"يَا" نداءً. والتقديرُ: ألا يا هؤلاء اسجدوا له. ويجوز أن يكون "يَا" تنبيهًا، ولا منادَى هناك، وجَمَعَ بين تنبيهَيْن تأكيدًا، لأن الأمر قد يحتاج إلى استطعافِ المأمور واستدعاءِ إقباله على الأمر. ومثلُه قوله الشاعر [من الطويل]: 238 - ألا يا اسْلَمِي يا هِنْدُ هِنْدَ بني بَدْر ... وإن كان حَيُّ قاعدًا آخِرَ الدهْرِ ¬
وأمّا قراءة الجماعة، فعلى أن "أَنِ" الناصبةَ للفعل دخلت عليها "لا" النافيةُ، والفعلُ المضارعُ بعدها منصوبٌ، وحذفُ النون علامةُ النصب، فالفعلُ هنا معربٌ، وفي تلك القراءة مبنيّ، فاعرفه. ¬
التحذير
التحذير قال صاحب الكتاب: "ومن المنصوب باللازم إضماره قولك في التحذير: "إياك والأسد"، أي إتق نفسك أن تتعرض للأسد, والأسد أن يهلكك, ونحوه: "رأسك والحائط"، و"ماز رأسك والسيف". ويقال "إياي والشر"، و"إياي وأن يحذف أحدكم الأرنب" (¬1)، أي: نحني عن الشر، ونحّ الشر عني، ونحني عن مشاهدة حذف الأرنب، ونح حذفها عن حضرتي ومشاهدتي، والمعنى النهي عن حذف الأرنب". * * * قال الشارح: قد اشتمل هذا الفصلُ على ضروب من الأمر والتحذير. تقول إذا كنت تُحذِّر: "إيَّاكَ". ومثلُه أن تقول: "نفسَك"، وهو منصوب بفعل مضمر، كأنك قلت: إياك باعِدْ، وِإياك نحّ واتق نفسك، فحذف الفعل، واكتفى بـ "إِياك" عنه. وكذلك "نفسَك" لدلالة الحال عليه، وظهورِ معناه. وكثُر ذلك محذوفًا حتى لزم الحذفُ، وصار ظهورُ العامل فيه من الأصول المرفوضة. فمن ذلك قولهم: "إياك والأسدَ"، فـ "إيّاك" اسمٌ مضمر منصوبُ الموضع، والناصبُ له فعلٌ مضمرٌ، وتقديره: إياك باعِدْ وإيّاك نَحّ، وما أشبهَ ذلك، و"الأسدَ" معطوف على "إياك" كما تقول: "زيدًا اضرب وعمرًا". فإن قيل: كيف جاز أن يكون "الأسد" معطوفًا على "إيّاك" والعطفُ بالواو يقتضي الشركة في الفعل والمعنى؟ ألا تراك تقول: "ضربتُ زيدًا وعمرًا" فالضربُ واقعٌ بهما جميعًا، وأنتَ ها هنا لا تأمُر بمباعَدةِ الأسد على سبيل التحذير كما أمرتَه بمباعدة نفسه على سبيل التحذير، فيكون المخاطَبُ محذورًا مخوفًا كما كان الأسدُ محذورًا مخوفًا؟ فالجوابُ أنّ البُعد والقُرب بالإضافة، فقد يكون الشيء بعيدًا بالإضافة إلى شيء، وقريبًا بالإضافة إلى شيء آخر غيرِه، وههنا إذا تَباعدَ عن الأسد، فقد تباعد الأسدُ عنه. فاشتركا في البُعد. وأمّا اختلافُ معنيَيْهما، فلا يمنع من عطفِ الأسد عليه، لأنّ العامل قد يعمل في المفعولَيْن، وإن اختلف معناهما، ألا تراك تقول: "أعطيتُ زيدًا درهمًا"، فيتعدّى الفعلُ ¬
إليهما تعدَّيًا واحدًا، وإن كان زيد آخذًا، والدرهم مأخوذًا، فهما مختلفان من جهة المعنى. فكذلك ها هنا، إذا عطفتَ "الأسد" على "إيَّاك"، شَارَكَه في عمل الفعل المحذوف، وإن اختلف معناهما. فالمخاطبُ حَذِرٌ خائفٌ، والأسدُ محذورٌ منه مخوفٌ، وإن كان الفعل قد تعدَّى إليهما، إلّا أنّ تعدِّيه إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرفٍ. فإن قيل: هل يجوز حذفُ الواو من "الأسد"، فتقولَ: "إيّاك الأسدَ"؟ قيل: لا يجوز ذلك لأن الفعل المقدَر لا يتعدّى إلى مفعولَيْن، ملم يكن بدٌّ من حرف العطف، أو حرفِ الجرّ، نحو: "إيّاك والأسدَ"، و"إياك من الأسد"، فتكون قد عدّيتَه إلى الأوّل بنفسه، ثمّ عدّيته إلى الثاني بحرفِ جرّ. فإن قيل: فهلاّ جاز حذفُ حرف الجرّ، فقلتَ: "إيّاك الأسدَ"؟ قيل: ليس ذلك بالسهْل، ولا يقدم عليه السماعُ من العرب، وربّما جاء مثل ذلك بغير واو في ضرورة الشعر، نحو قوله [من الطويل]: 239 - فإيّاك إيّاك المِراءَ فإنّه ... إلى الشَرّ دَعّاءٌ وللشَّرّ جالِبُ والمراد: والمِراءَ بحرف العطف، أو مِن المراء، بحذف حرف الجرّ، وسيبويه (¬1) ينصب "المراء" بفعلٍ غيرِ الفعل الذي نصب "إيّاك" كأنّه لمّا قال: "إيّاكَ إيّاكَ"، اكتفى، ثمّ قال: "اتَّقِ المراءَ"، أو"جانِبِ المراءَ". ¬
وقوله: "أي اتّقِ نفسَك أن تتعرّض للأسد، والأسدَ أن يُهْلِككَ"، فهو تفسيرُ المعنى، والإعراب على ما ذكرتُه. ومن ذلك قولهم: "رأسَك والحائطَ"، فينتصب "الرأس" هاهنا بفعل مضمر، و"الحائطَ" مفعول معه، والتقدير: دَعْ رأسَك والحائطَ، أي: مع الحائط، كقولك: "استوى الماءُ والخَشَبَة". ويجوز أن يكون التقدير: اتّقِ رأسَك والحائطَ، وهو تحذير، كأنّه على تقديرَيْن: أي اتّق رأسَك أن يدُقّ الحائطَ، واتّق الحائطَ أن يُصيب رأسَك، فينتصب كلُّ واحد منهما بفعل مقدَّر. فإذا كُرّرت هذه الأسماء، ازداد إظهارُ الفعل قُبْحًا، لأن أحد الاسمَيْن كالعوض من الفعل، فلم يُجمع بينهما. ومن ذلك قولهم: "مازِ رأسَك والسيفَ"، فهذا كقولهم: "رأسَك والحائطَ"، وهو تحذير. والمرادُ بقوله: "مازِ": "مازنُ"، ثمّ رخّم، ولم يكن اسمُ الذي خُوطِبَ بهذا "مازنًا"، ولكنّه من بني مازن بن العَنْبَر بن عمرو بن تميم، وكان اسمُه كِرامًا أسَرَ بُجَيْرًا القُشَيْريَّ، فجاءه قَعْنَبٌ اليَرْبُوعيُّ ليقتلَه، فمَنَعَه المازنيّ منه، فقال للمازني: "مازِ رأسَك والسيفَ"، سمّاه مازنًا إذ كان من بني مازن. ويحتمل أن يكون أراد: مازنيُّ، ولمّا غلبت عليه هذه النسبةُ صارت كاللَّقَب، فرخّم بحذف ياءَي النسبة كما تقول: "يا طائِفِ" في "يا طائفيُّ"، فبقي "مازن"، ثمّ رخمه ثانيًا. ومثلُه في الترخيم كثير. وقالوا: "إيايَ والشرَّ"، وليس الخطابُ لنفسه، ولا يأمرها، وإنّما يخاطب رجلًا، يقول له: "إيايَ باعِدْ عن الشرّ"، ويوقِع الفعلَ المقدّرَ عليه، فيجيء بالواو ليجمَع بينهما في عمل الفعل، إذ كان الفعل عاملًا في الأوّل. ومثله: "إيايَ وأن يحذف أحدُكم الأرنبَ" يعني يَرْمِيَه بسيف، أو ما أشبهَه، فـ "أَنْ" في موضع نصب، كأنّه قال: "إيايَ وحَذْفَ أحدِكم الأرنبَ". وقال الزجّاج: إِنّ معناه: إيايَ وإيّاكم، ودلّ عليه قوله: "وأن يحذف أحدكم الأرنب". ولو حُذف الواو هنا، لجاز مع "أَنْ"، فيقال: "أن يحذف أحدكم الأرنب". ولو صرّح بالمصدر، لم يجز حذفُ الواو ولا "مِنْ". والفرقُ بينهما أن "أَنْ" وما بعدها من الفعل وما يعمل فيه مصدرٌ، فلمّا طال جوّزوا فيه من الحذف ما لم يجز في المصدر الصريح، فاعرفْه.
ونفسه" أي: دعه مع نفسه, و"أهلك والليل" (¬1)، أي بادرهم قبل الليل. ومنه "عذيرك" أي: أحضر عذرك أو عاذرك, ومنه: "هذا ولا زعماتك"أي: ولا أتوهم زعامتك, وقولهم: "كليهما وتمرًا" (¬2) , أي إعطني, و"كل شيء ولا شتيمة حر" (¬3) ,أي: إيت كل شيء, ولا ترتكب شيتمة حر". * * * قال الشارح: اعلم أن قولهم: "شأنَك والحَجَّ" هو بمنزلةِ "رأسَك والحائطَ" في تقدير العامل، أي: خَلّ رأسَك مع الحائط، ودَعْ شأنَك مع الحج. وكذلك "امرَأ ونفسَه" كأنّك قلت: "دعْ امرأ ونفسَه"، فيكون انتصابُه انتصابَ المفعول معه على حَد "ما صنعتَ وزيدًا؟ " وأمّا قولهم: "أهلَك والليلَ"، فمعناه: بادِرْ أهلَك قبل الليل؛ وأمّا تقديرُ الإعراب، فكأنّه قال: "بادِرْ أهلَك، وسابِق الليلَ"، فيكون كل واحد من الاسمَيْن منصوبًا بفعل مقدّر، وقد عطف جملةً على جملةٍ. ويجوز أن يكون التقدير: بادِرْ أهلَك والليلَ، فيكون الليلُ معطوفًا على الأهل عطفَ مفرد على مفرد وجعلهما مبادَرَيْن، لأن معنى المبادَرة مسابَقتُك الشيءَ إلى الشيء، فكأنه أمر المخاطَبَ أن يسابقَ الليلَ إلى أهله ليكون عندهم قبل الليل، ومعناه تحذيرُه أن يُدْرِكه كتحذيره من الأسد. وأمّا قولهم: "عذيرَك"، فهو مصدرٌ كـ "العُذْر"، يقال لمن جَنَى جِنايةً واحتُملت منه: "عذيرَك من فلان"، قال الشاعر [من الوافر]: 240 - أُرِيدُ حِباءَه وُيرِيدُ قَتْلِي ... عَذِيرُكَ من خَلِيلكَ من مُرادِ ¬
وهو مصدرٌ بمعنى "العُذْر" وقد ورد منصوبًا ومرفوعًا، فالنصبُ بفعل مقدّر، كأنه قال: "هاتِ عذيرَك، أو أَحْضِرْه" ونحوَ ذلك، وُوضع موضعَ الفعل، فصار كالعوض من اللفظ به، ولذلك قُبح إظهارُ الفعل، لأنّه أُقيم مُقامَ الفعل، ودخولُ فعل على فعل محالٌ. والرفع بالابتداء، والخبرُ ما في الجارّ والمجرور بعده، ومعناه مَن يعذرني في احتمالي إيّاه. وقال بعضهم: ليس العذير مصدرًا، وإنّما هو بمعنَى عاذرٍ، يقال: عاذرٌ، وعذيرٌ كـ "شاهد"، و"شهيد"، و"قادر"، و"قدير". وضعُف أن يكون مصدرًا بمعنى العُذْر، قال: لأن "فَعِيلًا" لم يأت في المصادر إلّا في الأصوات، نحو: "الصهِيل"، و"الصرير". فإذا قال: "عذيرَك" على معنَى "عاذَرك"، فكأنّه قال: "هاتِ عاذرَك، أو أحضِرْ عاذَرك". وهو مذهب سيبويه، وهو الصواب، لأنّه وُضع موضعَ الفعل، والمصدرُ يطّرِد وضعُه موضعَ الفعل، نحو: "رُوَيْدَكَ"، و"حَذَرَكَ"، ولا يطّرِد ذلك في اسم الفاعل، على أنّهم قد قالوا: "وَجَبَ القَلْبُ وَجِيبًا"، فجاء المصدرُ على "فَعِيلٍ" في غير الأصوات، فجاز أن يكون هذا منه. وأمّا قولهم: "هذا ولا زَعَماتِك" قال ذو الرُّمَّة [من الطويل]: 241 - لَقَدْ خَط رُومِىٌّ ولا زَعَماتِه ... لعُتْبَةَ خَطَّا لم تُطَبُّقْ مَفاصِلُهْ ¬
فهذا مَثَلٌ، يقال لمن يزعم زَعَماتٍ، ويصحّ غيرُها، فلمّا صحّ خِلافُ قوله قيل: "هذا ولا زعماتِك" أي: هذا هو الحقُّ، ولا أتوهّمُ زعماتِك، أي: ما زعمتَه. والزعْمُ قولٌ عن اعتقاد، ولا يجوز ظهورُ هذا العامل الذي هو"أتوهّم" وشِبْهُه، لأنّه جرى مَثَلًا، والأمثالُ لا تُغيَّر، وظهورُ عامله ضربٌ من التغيير. وقالوا: "كِلَيْهما وتَمْرًا"، ويُروى: كلاهما وتمرًا، وكثُر ذلك في كلامهم حتى جرى مَثَلًا، وأصله أنّ إنسانَا خُيّر بين شيئَيْن، فطَلَبَهما المخيَّرُ جميعًا وزيادةً عليهما. فمَن نصب فبإضمارِ فعل، كأنّه قال: "أعطني كليهما وتمرًا" ومَن رفع كليهما فبالابتداء، والخبرُ محذوف كأنّه قال: "كلاهما لي ثابتٌ وزِدْني تمرًا" والنصبُ أكثر. وقالوا في مَثَل: "كل شيء ولا شَتِيمَةَ حُرّ"، ويُروى بنصبهما جميعًا، وبرفعِ الأول ونصب الثاني. فَمن نصبهما فبإضمارِ فعلَيْن، كأنّه قال: "إِيتِ كلَّ شيء، ولا ترتكِبْ شتيمة حرّ". ومَن رفع الأولَ فبالابتداء، كأنّه قال: "كلُّ شيء أَمَمٌ، ولا تَشْتِمَنْ حُرًّا"، أي: كلُّ شيء محتَملٌ، ولا تشتمن حرًّا، ومثلُه "كلَّ شيء ولا هذا"، أي: إِيتِ كلَّ شيء ولا هذا. ولم تظهر الأفعالُ في هذه الأشياء كلها لأنّها أمثال. * * * قال صاحب الكتاب: "ومنه قولهم انته أمراً قاصداً لأنه لما قال انته علم أنه محمول على أمر يخالف المنهي عنه قال الله تعالى: {انتهوا خيراً لكم} (¬1). ويقولون حسبك خيراً لك، و"وراءك أوسع لك" (¬2) , ومنه "من أنت زيدًا"؟ أي: تذكر زيدًا, أو ذاكرًا زيدًا"؟ * * * قال الشارح: أمّا قولهم: "انتهِ أمرًا قاصدًا"، فإنّ "أمرًا" منصوبٌ بفعل مضمر تقديرُه: انته، وائْتِ أمرًا قاصدًا. فلمّا قال: "انته"، عُلم أنّه محمولٌ على أمر يخالف المنهي عنه, لأن النهْي عن الشيء أمرٌ بضِدّه، إلّا أنّه ها هنا يجوز لك إظهارُ الفعل العامل، لأنّه لم يكثُر استعمالُه كثرةَ الأول. ¬
فأمّا قوله تعالى: {انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ} (¬1)، وما كان مثلَه، نحو قوله تعالى: {فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ} (¬2)، فإنّه يجوز فيه ثلاثةُ أوجه: أحدُها: أن يكون كالمسألة التي قبلها، فيكون التقديرُ- والله أعلمُ- انتهوا، وائْتُوا خيرًا لكم. وآمِنوا وائتوا خيرًا لكم، هذا مذهبُ سيبويه، والخليلِ. قال سيبويه (¬3): لأنّك حين قلت: "انته" فأنتَ تريد أن تُخْرِجه من أمر، وتُدْخِله في أمر آخر، فكأنّه أمرٌ أن يكُفّ عن الشرّ والباطلِ ويأتي الخيرَ. الثاني: وهو مذهبُ الكسائي، أنّه منصوبٌ، لأنه خبرُ "كان" محذوفة، والتقدير: انتهوا يكن الانتهاءُ خيرًا لكم. الثالث: وهو مذهبُ الفرّاء، أن يكون "خَيْرًا" متّصِلًا بالأول ومن جملته، ويكون صفة لمصدر محذوف، كأنّه قال: "انتهوا انتهاءً خيرًا لكم، وآمنوا إيمانًا خيرًا لكم". ومن ذلك "حَسْبُك خيرًا لك"، و"وراءَك أوسعَ لك"، فهذان المثلان من قبيل الأوّل، فقولُك: "حسبك" أمرٌ، كأنّك قلت: "اكْفُفْ عن هذا الأمر، واقْطَعْ، وائتِ خيرًا لك". وقولُهم: "وراءك أوسعَ لك" معناه: خَلِّ هذا المكانَ الذي هو وراءك، وائْتِ مكانًا أوسعَ لك. فالأوّل منهيٌّ عنه والثاني مأمورٌ به، إلاّ أنّ أفعالَ هذه الأشياء لا تظهر، لأنّه كثُر استعمالها، وعلِم المخاطَبُ أنّه محمول على أمرِ غيرِ ما كان فيه، فصارت هذه الأسماءُ عِوَضًا من اللفظ بالفعل. وممّا جاء منصوبًا بإضمار فعل لم يُستعمل إظهارُه قولُهم: "من أنتَ زيدًا"؟ وأصلُه: أنّ رجلًا غيرَ معروف بفضل تسمَّى بـ "زيد"، وكان زيدٌ مشهورًا بالفضل والشجاعة، فلمّا تسمَّى الرجل المجهول باسم ذي الفضل، دُفع عن ذلك، فقيل له: "من أنت زيدًا"؟ على جهةِ الإنكار، كأنّه قال: "من أنت تذكر زيدًا، أو ذاكرًا"، لكنه لا يظهر ذلك الناصبُ, لأنّه كثُر في كلامهم حتى صار مَثَلاَ، ولأنّه قد عُلم أنّ "زيدًا" ليس خبرًا، فلم يكن بُدٌّ من حَمْله على فعلٍ، ولا يقال ذلك إلّا جَوابًا، كأنّه لما قال: "أنا زيدٌ" قيل: "من أنت تذكر زيدًا، أو ذاكرًا زيدًا؟ ". وبعضُ العرب يرفع ذلك، فيقول: "من أنت زيدٌ"؟ فيكون خبرًا عن مصدر محذوف، كأنّه قال: "من أنت، كلامُك زيدٌ؟ " فإن قيل: كيف يجوز أن يكون خبرَ المصدر، والخبرُ إذا كان مفردًا يكون هو المبتدأَ في المعنى، وليس الخبرُ ها هنا المبتدأَ؟ قيل: ثمّ مضافٌ محذوفُ، والتقديرُ: من أنت كلامُك كلامُ زيد، أو ذكرُك ذكرُ زيد، ثمّ حُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مُقامَه توسُّعًا على حدِّ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬4). ¬
والنصب أجودُ، لأنه أقل إضمارًا، وتجوُّزا, لأنّك تُضْمِر فعلًا لا غيرُ، وفي الرفع تضمر مبتدأً، وتحذف مضافًا، فكان مرجوحًا لذلك. ويجوز أن تقول: "من أنت زيدًا"؟ لِمن ليس اسمُه زيدًا على سبيل المَثَل، أي: أنت بمنزلةِ الذي يقال له ذلك، كما قالوا: "أَطِرِّي فإنّكِ ناعِلةٌ" (¬1)، و"الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ " (¬2)، فتخاطِب الرجلَ بهذا، وإن كان اللفظُ للمؤنّث، وإنّما يقال للرجل ذلك على معنَى: أنتَ عندي بمنزلةِ التي قيل لها هذا. وربّما صُرّح باسمه، فقيل: من أنت عمرًا؟ على التشبيه بالمَثَلَ. * * * قال صاحب الكتاب: "ومنه مرحباً وأهلاً وسهلاً، أي أصبت رحباً ضيقاً، وأتيت أهلاً لا أجانب، ووطئت سهلاً من البلاد لا حزناً. وأن تأتني فأهل الليل وأهل النهار أي فإنك تأتي أهلاً لك بالليل والنهار. * * * قال الشارح: وقالوا: "مرحبًا وأهلًا وسهلًا" فانتصابُ هذه الأسماء بأفعال مقدّرةٌ. فقدّرها سيبويه (¬3)، فقال: تقديرُها: رحُبتْ بلادُك وأُهِلَتْ. وإنّما قدّرها بالفعل، لأنّ الدعاء إنّما يكون بفعل، فرَدَّه إلى فعل من لفظ المدعوّ به، كما يقدّرون "تُرْبًا وجَنْدَلًا" بـ "تَرِبَت يداك وجُنْدِلَتْ". وإنّما الناصب له "أصبتَ تربًا وجندلًا" على حسبِ المعنى المقصود، وهذا إنّما يُستعمل فيما لا يُستعمل الفعل فيه، ولا يحسن إلا في موضع الدعاء به. ألا ترى أنّ الإنسان الزائر إذا قال له المزورُ: "مرحبًا وأهلًا"، فليس يريد رحبتْ بلادُك، وأهلتْ، وإنّما يريد أصبتَ رُحْبًا، وسَعَةً، وأُنْسًا عندنا، لأنّ الإنسان إنّما يأنَس بأهله. وإذا قال: "سهلًا" كأنّه قال: أصبتَ سهلًا: أي: مكانًا سهلًا لا حَزْنًا وخُشُونَةً. ونظير ذلك أنّك إذا رأيت رجلًا يُسدد سَهْمًا، فتقول: "القِرطاسَ واللهِ"، أي: ¬
أصبتَ القرطاسَ على طريق التفاؤُل والحَدْسِ لصحّةِ التسديد. فكذلك إذا رأيت رجلًا قاصدًا مكانًا وطالبًا أمرًا، قلت: "مرحبًا وأهلًا وسهلًا"، أي: أدركتَ ذلك، وأصبتَه، فحذفوا الفعل لكثرة الاستعمال، ودلالةِ الحال عليه. ويقول الرادّ: "وبِكَ وأهلًا وسهلًا"، فإذا قال: "وبك وأهلًا وسهلًا"، فكأنّه لَفَظَ بـ "مرحبًا بك وأهلًا وسهلًا"، ولذلك عطف. وإذا قال: "وبك أهلًا"، فإنّما اقتصر في الدعاء على الأهل فقط من غيرِ أن يعطِفه على شيء قبله، كأنَّ الرُّحْب والسَّعة قد استقّرا استقرارًا يغْنِيه عن الدعاء. فإذا رددتَ، فإنّما تعني أنّك لو جئتني لكنتَ بمنزلةِ من يقال له هذا، إذ لا يحسن أن يقول الزائر للمزور: "أهلًا"، لأن الحال لا تقتضي من الزائر أن يصادِف عنده المزورُ ذلك، وإنّما جئتَ بـ "بك" في قولك: "وبك وأهلًا" لِيتبيّن أنّه المعنيُّ بالدعاء لا لأنّه متّصل بالفعل المقدّر كما كان في قولك: "سَقْيًا لك" كذلك، وتقديرُه: سقاك اللهُ سَقْيًا ولَكَ، كأنّه قال: "هذا الدعاءُ لك"، فيجيء "لَكَ" على تقدير آخَر لا على تقديرِ: سقاك الله. ومن العرب من يرفع، فيقول: "مرحبٌ وأهلٌ"، أي: هذا مرحبٌ، فيكون "هَذَا" مبتدأً محذوفًا، و"مرحب" الخبرَ. قال طُفَيْلٌ الغَنَويّ [من الطويل]: 242 - وبالسَّهْب مَيْمُونُ النقِيبَةِ قولُه ... لمُلْتَمِسِ المعروفِ أَهْلٌ ومَرْحَبُ قال سيبويه (¬1): ومنهم من يرفع، فيجعل ما يُضْمَر هو ما يُظْهَر. يريد أنّه إذا رفع أضمر مبتدأً، فيكون ذلك المبتدأ هو الخبرَ المظهَر في المعنى بخلافِ ما إذا نصبتَ، لأنّك في حال النصب تُضْمِر فعلًا، والفعلُ ليس بالاسم الظاهر. وقالوا: "إن تأتِني فأهلَ الليل، وأهلَ النهار" على معنَى "فإنّك تأتي أهلَ ¬
فصل
الليل، وأهلَ النهار"، أي: تأتي من يكون لك كالأهل بالليل والنهار، فاعرفه. فصل قال صاحب الكتاب: "ويقولون الأسد الأسد والجدار الجدار والصبي الصبي, إذا حذروه الأسد والجدار المتداعي, وإبطاء الصبي. ومنه أخاك أخاك أي: الزمه، والطريق الطريق أي: خله, وهذا إذ ثني لزم إضمار عامله, وإذا أفرد لم يلزم". * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذا الضرب ممّا ينتصب على إضمارِ الفعل المتروكِ إظهاره، وذلك قولك في التحذير: "الأسدَ الأسدَ"، و"الجِدارَ الجدارَ"، و"الصبيَّ الصبيَّ" و"الطريقَ الطريقَ"، إذا كنتَ تُحذَّره من الأسد أن يُصادِفه، ومن الجدار المتداعِي أن يقرُب منه لئلا يقع عليه، أو ينالَه، ومن الصبيّ أن يَطَأَه إذا كان في طريقه وهو غافلٌ عنه، ومن الطريق المخوف أن يمُرّ فيه. وكذلك قالوا في الإغراء: "أخاك أخاك"، وانتصابُ هذه الأسماء بفعل مضمر تقديرُه: اتَّقِ الأسدَ أن يصادفك، واتّقِ الجدارَ أن ينالك، وجانِبِ الصبيَّ لئلاّ تطأَه، وخَلِّ الطريقَ، والْزَمْ أخاك. فحُذفت هذه الأفعال لكثرتها في كلامهم ودلالةِ الحال، وما جرى من الذكر عليها. فإذا كرّروا هذه الأسماءَ، لم يجز ظهورُ هذه الأفعال العوامِل فيها، لأنّ المفعول الأول لمّا كُرّر شُبّه بالفعل فأَغنى عنه، وصار بمنزلةِ "إيّاك" النائب عن الفعل، كما كانت المصادرُ كذلك في قولهم: "الحَذَرَ الحذَرَ"، و"النَّجاءَ النجاءَ". جعلوا الأولَ بمنزلةِ "الْزَمْ" و"عَلَيْكَ" ونحوِه من تقدير الفعل، ويقبحُ دخولُ فعل على فعل. فلو أفردتَ جاز ظهورُ العامل، فإذا قلت: "الأسدَ الأسدَ" لم يجز أن تقول: "اتّقِ الأسدَ الأسدَ"، أو"جانِبْ". ولو أفردتَ، فقلت: "الأسدَ" جاز ظهورُ الفعل، فتقول: "حاذِرِ الأسدَ" أو "اتّقِ الأسدَ". وكذلك إذا قالوا "الصبيَّ الصبيَّ"، لم يجز أن تقول: "باعِدِ الصبيَّ الصبيَّ"، أو"جانِبِ الصبيَّ الصبيَّ". وإذا أفردتَ جاز أن تقول ذلك، ولا تقول: "خَلِّ الطريقَ الطريقَ"، وإذا قلتَه مفردًا، حسُن أن تقول: "خلّ الطريقَ". قال الشاعر [من البسيط]: 243 - خَلّ الطريقَ لِمَن يَبْنِي المَنارَ به ... وابْرُزْ ببَرْزَةَ حَيْثُ اضطَّرَّكَ القَدَرُ ¬
واعلم أنّ هذه الأسماء المنصوبة على إضمار الفعل إن كان الفعل فيها ممّا يجوز أن يظهر؛ كان الاسمُ خاليًا من الضمير، وكان خالِصَ الإفراد. وإن كان ممّا لا يجوز أن يظهر عاملُه؛ كان فيه ضميرٌ، وكان فيه شائبةٌ لِنيابته عن الفعل، وتضمُّنه ضميرَه، الذي كان فيه. وكان أبو الحسن يذهب إلى أنّ في نحو"سَقْيًا"، و"رَعْيًا"، وشِبْهِهما ضميرَيْن، لأنّهما في معنَى "سقاك اللهُ سقيًا"، و"رعاك الله رعيًا". وهو وإن كان كذلك، فهو على كل حال مفردٌ، وليس كـ "صَهْ"، و"مَهْ" و"دَراكِ" و"تَراكِ"؛ لأن هذه الأشياء تجري مجرى الجُمَل لاستقلالها بما فيها من الضمير، وهي مع ذلك مبنيَّةٌ، و"سقيًا" و"رعيًا" معربةٌ مُبقاةٌ على ما كانت عليه من الإعراب، فاعرفْ ذلك وقِسْ عليه ما كان مثله في قولك: "الليلَ الليلَ"، وَ "اللهَ اللهَ في أمري" ونحوِ ذلك، تُصِبْ إن شاء الله. ¬
ما أضمر عامله على شريطة التفسير
ما أُضمِرَ عامله على شريطة التفسير فصل قال صاحب الكتاب: "ومن المنصوب باللازم إضماره ما أُضمر عامله على شريطة التفسير في قولك: "زيدًا ضربته"، كأنك قلت "ضربت زيداً ضربته". إلا أنك لا تبرزه استغناء عنه بتفسيره. قال ذو الرمة [من الطويل]: 244 - إذا ابن أبي موسى بلالاً بلغته ... فقام بفأسٍ بين وصليك جازر ¬
ومنه زيداً مررت به، وعمراً لقيت أخاه، وبشراً ضربت غلامه، بإضمار جعلت على طريقي ولا بست وأهنت قال سيبويه (¬1): النصب عربي كثير والرفع أجود". * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذا الضرب يتجاذبُه الابتداءُ والخبر والفعلُ والفاعل، فإذا قلت: "زيدًا ضربتُه"، فإنّه يجوز في "زيد" وما كان مثلَه أبدًا وجهان: الرفعُ والنصبُ. فالرفع بالابتداء، والجملةُ بعده الخبرُ. وجاز رفعُه لاشتغال الفعل عنه بضميره، وهو الهاء في "ضربتُه"، ولولا الهاءُ لم يجز رفعُه لوقوع الفعل عليه. فإن حذفتَ الهاء وأنت تريدها، فقلت: "زيدٌ ضربتُ" جاز عند البصريين على ضُعْفٍ، لأن الهاء، وإن كانت محذوفة، فهي في حكم المنطوق بها. قال الشاعر [من الرجز]: 245 - قد أصبحتْ أمُّ الخِيار تَدَّعِي ... عليَّ ذَنْبًاكلُّه لم أَصْنَعِ والنصب بإضمارِ فعل تفسيرُه هذا الظاهرُ، وتقديرُه: ضربتُ زيدًا ضربتُه، وذلك أنَّ هذا الاسم، وإن كان الفعل بعده واقعًا عليه من جهة المعنى، فإنّه لا يجوز أن يعمل فيه من جهة اللفظ من قِبَل أنّه قد اشتغل عنه بضميره، فاستوفى ما يقتضيه من التعدّي، فلم يجز أن يتعدّى إلى "زيد"؛ لأن هذا الفعل إنّما يتعدّى إلى مفعول واحد لا إلى مفعولَيْن. ولمّا لم يجز أن يعمل فيه، أُضمر له فعلٌ من جنسه، وجُعل هذا الظاهر تفسيرًا له. ولا يجوز ظهورُ ذلك الفعل العامِل، لأنّه قد فسّره هذا الظاهرُ، فلم يجز أن يُجْمَع ¬
بينهما، لأن أحدهما كافٍ. فلذلك لزم إضمارُ عامله، وصار ذلك بمنزلة قولك: "نِعْمَ زيدٌ". أُضمر "الرجل" في "نِعْمَ" وجُعلت النكرةِ، تفسيرًا له، ولم يجز إظهارُ ذلك المضمر اكتفاءً بالتفسير بالنكرة، فكذلك ها هنا. وذهب الكوفيون (¬1) إلى أنّه منصوب بالفعل الظاهر، وإن كان قد اشتغل بضميره، لأنّ ضميره ليس غيرَه، وإذا تعدّى إلى ضميره كان متعدّيًا إليه. وهو قول فاسد، لأنّ ما ذكروه، وإن كان من جهة المعنى صحيحًا، فإنّه فاسدٌ من جهة اللفظ. وكما تجِب مُراعاةُ المعنى كذلك تلزَم مراعاةُ اللفظ. وذلك أنّ الظاهر والمضمر ها هنا غيران من جهة اللفظ، وهذه صِناعةٌ لفظيةٌ، وفي اللفظ قد استوفى مفعولَه بتعدّيه إلى ضميره، واشتغالِه به، فلم يجز أن يتعدّى إلى آخَرَ. والذي يدلّ أنَّه منصوبٌ بفعل مضمر غيرِ هذا الظاهر أنّك قد تقول: "زيدًا مررتُ به"، فتنصب "زيدًا"، ولو لم يكن ثمَّ فعلٌ مضمرٌ يعمل فيه النصبَ، لمَا جاز نصبه بهذا الفعل, لأن مررت لا يتعدّى إلّا بحرفِ جرّ، فأما قوله [من الطويل]: إذا ابنَ أبي موسى بلالًا ... إلخ فالبيت لذي الرُّمّة وقبله [من الطويل]: أقولُ لها إذ شَمَّرَ اللّيلُ واستوتْ ... بها البِيدُ واشتدّتْ عليها الحَرائرُ وبلالٌ هذا ابنُ أبي بُرْدَةَ قاضي البصرة، وأبو موسى جَدُّه، واسمُ أبي بردة عامرٌ، واسمُ أبي موسى عبدُ الله بن قيس الأَشْعَريّ. والشاهد فيه نصبُ "ابن أبي موسى" بفعل مضمر تفسيرُه: بلغتِه، كأنّه قال: "إذا بلغتِ ابنَ أبي موسى بلالًا بلغتِه". وربّما رُفع على تقديرِ فعل ما لم يسمَّ فاعلُه، كأنّه قال: "إذا بُلغ ابنُ أبي موسى" لأنّ "إِذَا" فيها معنى الشرط، فلا يَلِيها إلّا فعلٌ هذا هو الوجه. والمعنى أنّه يخاطب ناقتَه، يقول: إذا أوصلتِني إلى بلال استغنيتُ عنك، لأنّي أستغنى به عن الرحِيل إلى غيره. وقوله: "فقام بفأس بين وصليك جازرُ" دعاءٌ، ولولا ذلك لم يجز دخولُ الفاء. ألا ترى أنك تقول: "إن أتاني زيدٌ أتيتُه" ولا يجوز: "فأتيتُه"؟ وتقول: "إن أتاني زيد فأَحْسَنَ اللهُ جَزاءَه" لأنّ فيه دعاءً. والوِصْل بالكسر: واحدُ الأوَصال، وقد عيبَ عليه ذلك. قالوا كان سبيلُه إذا أوصلْته إلى مقصوده ومطلوبه أن يُعامِلها بالحُسْنَى، وينظُرَ إليها، لا أن ينحَرها، فهو إِذًا ¬
إلى الهِجاء أقربُ. والحقُّ أنّه مَدِيحٌ، والمراد ما ذكرناه من أنّه تقع الغُنْيَةُ عنكِ، ومثله قولُ الشَّمّاخ [من الوافر]: 246 - إذا بلّغتِني وحملتِ رَحْلِي ... عَرابَةَ فاشْرَقِي بدَمِ الوَتِينِ وليس ذلك بهجاء، ألا ترى أنّه يقول في أثناء القصيدة [من الوافر]: إذا ما رَايَةٌ رُفعتْ لمَجْدٍ ... تَلَقّاها عَرابةُ باليَمِين فأمّا قولهم: "زيدًا مررتُ به"، فهو منصوبٌ بفعل مضمر يفسّره هذا الظاهرُ، إلّا أنّ النصب ها هنا أضعفُ منه في قولك: "زيدًا ضربتُه"؛ لأنّك إذا قلت: "زيدًا مررت به"، أضمرتَ فعلًا على غير لفظِ الأول، كأنّك قلت: "لَقِيت زيدًا" أو"جُزْتُ زيدًا"، أو "جعلتُ زيدًا على طريقي"؛ لأنّك إذا جزتَه وجعلتَه على طريقك، فقد مررتَ به. وإذا قلت: "زيدًا ضربتُه" أضمرتَ فعلاً من لفظه، فكأنّك قلت: "ضربتُ زيدًا ضربتُه"، فيكون الظاهرُ دالآ على مثلِ لفظه ومعناه. وفي قولك: "زيدًا مررت به" يكون الظاهر دالآ على مثلِ معناه. دون لفظه، وما اجتمع فيه اللفظُ والمعنى كان أقوى في الدلالة، وإذا ضعُف النصبُ قوِي الرفعُ. ومثله قولك: "عمرًا لقيتُ أخاه"، و"بشرًا ضربتُ غلامَه" في جَوازِ النصب، لأنّ الفعل إذا وقع بشيء من سَبَبه، فكأنّه قد وقع به. والدليلُ على ذلك أن الرجل يقول: ¬
فصل
"أَهَنتَ زيدًا" بإهانتك أخاه، و"أكرمت عمرًا" إذا أوصلتَ الإكرامَ إلى غيره بسَبَبه. فإذا قلت: "زيدًا ضربتُ أخاه"، فنصبت "الأخ"، جاز أن تضمر فعلاً ينصب "زيدًا"، تقديره: "لابستُ زيدًا ضربتُ أخاه"، أو "أهنتُ زيدًا ضربتُ أخاه"، ولا تُضْمِر "ضربت" لأنّ "ضربت" الثاني ليس واقعًا على ضميره، وإنّما هو واقع على "الأخ". والنصبُ ها هنا أضعفُ منه في "مررت بزيد". وإذا ضعُف النصب قوِي الرفعُ، فإذًا الرفعُ في "زيدٌ لقيتُ أخاه" أقوى من الرفع في قولك "زيدٌ مورتُ به" والرفعُ في قولك: "زيد مررت به" أقوى من الرفع في قولك: "زيد ضربته". قال سيبويه (¬1): النصبُ عَرَبىٌّ جيّدٌ، والرفعُ أجودُ منه. يعني أنّ النصب في "زيدًا ضربته" عربيّ فصيح في كلام العرب، والرفع أجود لأنّ الرفع لا يفتقر إلى إضمارٍ، ولا تقدير محذوف، والنصبُ يفتقر إلى إضمارِ فعلٍ، وفاعلٍ، فاعرفه. فصل قال صاحب الكتاب: "ثم إنك ترى النصب مختاراً ولازماً. فالمختار في موضعين: أحدهما أن تعطف هذه الجملة على جملةٍ فعلية, كقولك: "لقيت القوم حتى عبد الله لقيته"، و"رأيت عبد الله وزيداً مررت به". وفي التنزيل: {يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذاباً أليماً} (¬2). ومثله: {فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة} (¬3) ". * * * قال الشارح: يريد أنّ المسائل التي تقدّمت، وهي "زيدٌ ضربته"، و"عمرٌو مررت به"، و"زيدٌ ضربت أخاه"، المختارُ فيها الرفعُ، ثم يعرِض في هذا الباب أمورٌ يصير النصبُ بها مختارًا ولازمًا لا يجوز غيره. قال: فالمختار في موضعين: أحدهما أن تعطف هذه الجملة على جملة فعليّة الخ، وذلك لأن العرب تختار مطابَقةَ الألفاظ ما لم تُفْسِد عليهم المعاني، فإذا جئت بجملةٍ صدّرتَها بفعل، ثمّ جئت بجملة أُخرى معطوفةٍ على الجملة الأولى، وفيها فعلٌ، كان الاختيارُ تقدير الفعل في الجملة الثانية، وبناءَ الاسم عليه، سواءَ ذكرتَ في الجملة الأولى منصوبًا أو لم تذكره، نحو: "قام زيدٌ وعمرًا كلَّمتُه"، إذ الغرضُ توافُق الجُمَل وتطابُقُها لا تختلف، وليس الغرضُ أن يكون فيها منصوبٌ. قال الله تعالى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} (¬4)، فرفع "القمر" ها هنا؛ لأن قبلة {وَآيَةٌ ¬
لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} (¬1)، وهو مرفوع بالابتداء، وقال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (¬2)، فنصب "كلاَّ", لأنّ قبله فعلاً وهو {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ} (¬3)، وأضمر له فعلاً نَصَبَه به، ثمّ عطفها على الأولى لتشاكُلهما في الفعلية. وإذا كان النصبُ من غير تقدُّم فعلٍ جائزًا، كان مع تقدُّمه مختارًا، إذ فيه تشاكُلُ الجملتَيْن من غير نقضٍ للمعنى. قال الله تعالى {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} (¬4). لمّا كان قد تقدّم {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} (¬5). نصب "الظالمين" بإضمار "يُعذِّب الظالمين" أو "يُهِين". وقال تعالى: {فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ} (¬6). نصب "فريقًا"، لأنّ قبله "فريقًا هدى". ونظائرُه في القرآن كثيرة. ويجوز الرفع في الجملة الثانية، وإن كان قبلها جملةٌ فعليّةٌ، فتكون الجملةُ الثانيةُ كجملةٍ مبتدأةٍ، وليس قبلها فعلٌ، وذلك قولك: "لقيتُ زيدًا، ومحمّدٌ أكرمتُه" لم تحتفِل بتقدُّم الفعل الذي هو"لقيت زيدًا" إذ كانت جملة قائمة بنفسها، فصار كأنك قلت: "محمَّد أكرمته" ابتداءً، فعطفت جملة على جملة، كقولك: "قام زيدٌ، ومحمّدٌ أفضلُ منه"، فهذا لا يجوز فيه إلّا الرفعُ. * * * قال صاحب الكتاب: "فأما إذا قلت: "زيدٌ لقيت أباه, وعمرًا مررت به", فذهب التفاضل بين رفع "عمرو" ونصبه, لأن الجملة الأولى ذات وجهين". * * * قال الشارح: قد تقدّم من قولنا أنّه إذا كان الكلام مبتدأً وخبرًا، وعطفتَ عليه جملةً، في أوّلها اسمٌ، وبعده فعل واقعٌ على ضميره، كان الاختيارُ رفعَ الاسم الثاني بالابتداء، نحوَ قولك: "زيدٌ أخوك، وعمرٌو كلّمتُه"، لأنّه لم يتقدّم الجملةَ الثانيةَ ما يصرفه إلى النصب، فجرى كحاله لو لم تتقدّمه جملةٌ أصلًا. فأمّا إذا كان الكلام مصدَّرًا بفعلٍ، كان الاختيارُ في الاسم الذي في الجملة الثانية النصبَ على إضمار فعل على ما أصّلناه. فإذا قلت: "زيدٌ لقيتُه"، ففيه جملتان: إحداهما اسميّةٌ، وهي الجملة الكبْرَى التي هي المبتدأ والخبر، وهي "زيدٌ لقيته" بكمالها. والثانيةُ فعليّةٌ، وهي الخبر الذي هو "لقيته" وهي الجملة الصُّغْرَى. فالجملةُ الأوُلى لا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع المفرد. والجملة الثانية لها موضع من الإعراب لأنها وقعت موقع المفرد الذي هو الخبر في "زيدٌ قائمٌ" وشِبْهِه. وإذ قد تقرَّر ذلك، فأنت إذا ¬
قلت: "زيدٌ لقيتُه، وعمرٌو كلّمتُه"، كنتَ في "عمرو" بالخِيار، إن شئت رفعتَه، وإن شئت نصبتَه، لأنّه قد تقدّمه جملتان: إحداهما اسميةٌ، وهي قولك: "زيد لقيته". بكمالها، والثانيةُ قولك: "لقيته". فإن عطفتَ على الجملة الاسمية، رفعتَ "عمرًا", لأنّ صَدْرَ الجملة اسمٌ، وإن عطفت على الجملة التي هي "لقيته"، نصبتَ لأنّ صدرَ الجملة فعلٌ. وليس إحداهما أَوْلى من الأخرى. فهذا معنى قوله: "ذهب التفاضُل بين رفعِ عمرو ونصبه"، يعني ليس النصب أَوْلى من الرفع، ولا الرفعُ أولى من النصب. قال: "لأن الجملة الأولى ذاتُ وجهَيْن" يعني أنّها مشتمِلةٌ على جملة اسمية وجملة فعلية، فهي ذات وجهين لذلك. وهذا فيه إشكالٌ، وذلك أنّك إذا قلت: "زيد لقيته، وعمرو كلّمته"، لم يجز حَمْلُ "عمرو كلّمته" على "لقيته"، وذلك، لأنّ "لقيته" جملةٌ لها موضعٌ من الإعراب، ألا ترى أنك تقول: "زيد قائمٌ"، فيقع موقعها اسمٌ واحدٌ، وهو خبرُ "زيد"، فكلُّ شيء عُطف عليها صار في حكمها خبرًا لـ "زيد". وأنت لو جعلت "عمرًا ضربته" خبرًا عن "زيد"، لم يجز لخُلُوّه من العائد إلى "زيد"، إذ الهاء في "ضربته" إنّما تعود إلى "عمرو". فإن جئت بعائد فيها فقلت: "زيدٌ عمرًا ضربتُه عنده"، جازت المسألةُ، فالهاءُ في "ضربته" تعود إلى "عمرو"، والهاءُ في "عنده" تعود إلى "زيد"، ولا شك أنه إنّما لم يذكر ذلك لأنّه معلوم، فلم يحتج إلى التعرّض له، فأجاز الوجهين بشرطِ وُجودِ شرائطه من الضمير وغيرِه، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "فإن اعترض بعد الواوما يصرف الكلام إلى الإبتداء, كقولك: "لقيت زيدًا, وأما عمرٌو فقد مررت به"، و"لقيت زيدًا, وإذا عبد الله يضربه عمرٌو"، وعادت الحال الأولى جذعة. وفي التنزيل: {وأما ثمود فهديناهم} (¬1). وقرئ بالنصب (¬2) ". * * * قال الشارح: يعني بعد وجودِ ما يُختار معه النصب نحو تقدُّم جملة فعليّة، أو غيرِ ذلك، إذا وُجد في الجملة المعطوفة ما يصرف الكلامَ إلى الابتداء، صار الاختيار فيه الرفعَ، ويصير المعترِضُ من قبيل المانع. وذلك قولك: "لقيت زيدًا، وأمّا عمرو فقد مررت به"، و"رأيتُ زيدًا، وإذَا عبدُ الله يشتِمه عمرٌو". فالرفعُ ها هنا هو الوجه المختار، وإن كان قد تقدّمت جملة فعليةٌ، لأنّ "أمَّا"، و"إذَا" ليسا من حروف العطف كالفاء والواو فتحمِلَ بهما ¬
الثاني على الأوّل، وإنّما هما حرفا ابتداءٍ يقطعان ما بعدهما عمّا قبلهما، فيكون ما بعدهما بمنزلة جملةٍ ليس قبلها شيءٌ، فكما أنّك إذا قلت: "زيدٌ ضربتُه" ابتداءً، وليس قبله كلامٌ، كان المختارُ الرفع. فكذلك بعد "أما"، و"إذَا" التي للمفاجأة؛ لأنّهما بمنزلةِ كلام مبتدإ. ومن قال: "زيدًا ضربتُه"، وإن لم يتقدّمه كلامٌ، فينصِب، وإن كان المختار الرفع، قال ها هنا: "لقيتُ زيدًا، وأمّا عمرًا فأكرمتُه" فينصب، وليس بالاختيار. وهذا معنى قوله: "عادت الحال الأولى جذعة"، أي: شابَّةً طَرِيّة، كأن لم يتقدّمها كلامٌ. فأمّا قوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} (¬1)، فالقراءة بالرفع على الابتداء وإن كان قبله {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} (¬2) لِما ذكرناه من حالِ "إِمَّا". وقد قرأ بعضُهم: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} (¬3) بالنصب. وليس ذلك على حدِّ "زيدًا ضربته", لأن ذلك ليس بالمختار، والكتابُ العزيزُ يُختار له. والذي حسّنه عند هذا القارئ ما في "أَمَّا" من معنى الشرط، والشرطُ يقتضي الفعلَ، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "والثاني أن يقع موقعًا هو بالفعل أولى, وذلك أن يقع بعد حرف الإستفهام, كقولك: "أعبد الله ضربته"، ومثله: "السوط ضرب به زيدٌ؟ "، و"الخوان أُكل عليه اللحم؟ " و"أزيدًا أنت محبوس عليه؟ "، و"أزيدًا أنت مكابرٌ عليه؟ "، و"أزيدًا سميت به؟ "". * * * قال الشارح: والموضع الآخر الذي يختار فيه النصب وليس الاسم فيه معطوفًا على فعل، وذلك إذا وَلِيَ الاسمُ حرفًا (¬4) هو بالفعل أَوْلى، وجاء بعده فعلٌ واقعٌ على ضميره، فالاختيارُ نصبُ الاسم بإضمار فعلٍ. وذلك إذا وقع بعد حرف الاستفهام، نحو قولك: "أعبدَ الله ضربتَه؟ "، و"أعمرًا مررتَ به؟ "، و"أزيدًا ضربتَ أخاه؟ "، النصبُ في ذلك كلّه هو الوجه المختار، والرفعُ جائزٌ. فالنصبُ بإضمار فعل يكون الظاهرُ تفسيره، وتقديرُه: أضربتَ عبدَ الله ضربتَه، وألقَيتَ زيدًا مررتَ به، وأَهَنْتَ زيدًا ضربتَ أخاه، فالنصبُ مع الاستفهام بالعامل الذي يقدَّر بعد الاستفهام، وهو في الاستفهام مختارٌ كما كان الرفع مع الابتداء مختارًا. وأمّا الرفع مع الاستفهام، فجائرٌ بالابتداء، وما بعده الخبرُ، إلّا أنّه مرجوحٌ. وإنّما كان النصبُ هو المختارَ من قِبَل أن الاستفهام في الحقيقة إنّما هو عن الفعل لا عن ¬
الاسم. لأنّ السؤال إنّما يكون عمّا وقع الشكُّ فيه، وأنتَ إنّما تشُكّ في الفعل لا في الاسم، ألا ترى أنّك إذا قلت: "أزيدًا ضربتَه"، فإنّما تشكّك في الضرب الواقع بزِيد، ولستَ تشك في ذاته، فلمّا كان حرفُ الاستفهام إنّما دخل الفعلَ لا الاسمَ، كان الأوْلى أن يَلِيه الفعلُ الذي دخل من أجله. وإنّما دخل على الاسم، ورُفع الاسم بعده بالابتداء، لأنّ المبتدأ والخبر قبل دخول الاستفهام يُوجِب فائدةً، فإذا استفهمتَ، فإنّما تستفهِم عن تلك الفائدة، فاعرفه. وأمّا "السوطَ ضُرب به زيدٌ؟ "، و"الخِوانَ أُكل عليه اللحمُ؟ "، و"أزيدًا سُمّيت به؟ "، فإنّ الاختيار في "السوط" و"الخوان" و"أزيدًا" النصبُ، وذلك أنّك إذا قلت: "ضُرب زيد بالسوط"، و"أكل اللحم على الخِوان"، و"سُمّيت بزيدٍ"، فهذه الحروفُ الجارّةُ مع ما يَلِيها من المجرورات في موضع نصب. وذلك أنّك أقمتَ الاسم مقامَ الفاعل، فصار الجارُّ والمجرور في موضع نصب، وحلَّ محلّ قولك: "مَرَّ زيدٌ بعمرٍو"، و"نزل زيدٌ على خالدٍ". فلمّا اتّصلت حروفُ الجرّ بكناياتِ هذه الأسماء، وقد تقدّمتِ الأسماءُ، وجب أن تنصبها، لأن الحروف التي اتّصلت بكناياتها في موضع نصب، فصار بمنزلةِ "أزيدًا مررتَ به". والذي يدلّ على أن موضع هذه الحروف نصبٌ أنّك لو حذفتها، وكان الفعلُ ممّا يتعدّى بنفسه، لم تكن الأسماءُ الأوُلى إلّا منصوبةً، وذلك نحو"السوطَ ضُرب؟ "، و"الخوانَ أُكل؟ "، و"أزيدًا سُمّيتَ؟ " لو كان يُتكلّم به، لم يكن إلّا كذلك؛ لأنّ الفعل الواحد لا يرفع اسمَين، فإذا رفعتَ أحدَهما، فلا بدّ من نصب الآخر. وأمّا قولهم: "أزيدًا أنتَ محبوسٌ عليه؟ "، و"أزيدًا أنت مكابرٌ عليه؟ " فيختار فيهما النصب لمكانِ همزة الاستفهام. وذلك لمّا كان اسمُ الفاعل واسمُ المفعول يجريان مجرى الفعل في عَمَله، فقولُك: "أزيدًا أنت ضاربُه؟ " بمنزلة قولك: "أزيدًا أنت تضربه؟ "، و"أزيدًا أنت مضروبٌ به؟ " بمنزلةِ "أزيدًا أنت تُضْرَب به؟ "، فكما تفسِّر قولك: "أزيدًا أنت تضربه؟ " بالفعل الناصب، فكذلك تفسّر باسم الفاعل في قولك: "أزيدًا أنت ضاربُه؟ ", لأنه في معناه. والنيّةُ التنوين والانفصال، فالضميرُ، وإن كان مجرورًا في اللفظ، فهو منصوب في الحكم كما كان "أزيدًا مررت به؟ ". كذلك "كيف" وأبو الحسن يذهب إلى أن الضمير في موضع منصوب ألبتّة. وكذلك إذا قلت: "أزيدًا أنت محبوسٌ عليه؟ "، و"أزيدًا أنت مكابرٌ عليه؟ "، فـ "محبوسٌ"، و"مكابرٌ" من أسماء المفعولين الجارية مجرى الفعل. فـ "محبوسٌ" في معنى "تُحْبَس"، و"مكابرٌ" في معنى "تُكابَر"، فلذلك جاز نصبُ "زيد" فيهما بفعلٍ يفسِّره "محبوس"، و"مكابر". كأنّك قلت: " أتنتظِر زيدًا أنت محبوسٌ عليه؟ "، و"أشَكَيْتَ زيدًا
أنت مكابَرٌ عليه؟ ". واختير النصبُ لمكانِ حرف الاستفهام، وفي كلّ واحد من "محبوس"، و"مكابر" ضميرٌ مستترٌ يرجع إلى "أنتَ"، يقوم مقامَ الفاعل، إذ كان في معنَى "تكابَر"، و"تُحبَس". فإن لم يَجْرِ الفاعل واسمُ المفعول مجرى الفعل، كانا كـ "غُلام" و"أخَ"، ووجب رفعُ الاسم نحو"أزيدٌ أنت ضارِبُه؟ "، و"أزيدٌ أنت محبوسٌ به؟ " و"أزيدٌ أنت مكابَرٌ عليه؟ " كأنّك قلت: "أزيدٌ أخوه، أو غلامُه" وما أشبههما من الأسماء. * * * قال صاحب الكتاب: "ومنه أزيدًا ضربت عمرًا وأخاه؟ "، و"أزيدًا ضربت رجلاً يحبه؟ ", لأن الآخر ملتبسٌ بالأول بالعطف, أو بالصفة". * * * قال الشارح: ومن ذلك: "أزيدًا ضربتَ عمرًا وأخاه؟ "، و"أزيدًا ضربتَ رجلًا يحبّه؟ "، فيختار فيه النصبُ أيضًا، لأنّ الفعل واقعٌ على ما هو من سَبَبه، وقد وَلِيَه حرفُ الاستفهام، فكان كقولك: "أزيدًا ضربتَ أخاه؟ " وذلك أنّ الجملة، إذا كان فيها ضميرُ اسم قد تقدّم ذكرُه، فهي من سبب ذلك الاسم، وإن كان في الجملة اسمٌ ليس فيه ضميرٌ، ولا تُبالِي في أيِّ موقع من الجملة وقع ذلك الضميرُ. فإذا قلت: "أزيدًا ضربتَ عمرًا وأخاه؟ " فـ "عمرٌو" و"الأخُ" منصوبان متّصِلان به داخلان في الجملة، فصار بمنزلةِ "أزيدًا ضرب أخاه" لاتحادِ المعطوف والمعطوف عليه. وكذلك لو قلت: "أعمرًا ضربتَ زيدًا في داره؟ "، لكان الوجه أيضًا النصبَ، لأنّ قولك: "في داره" ظرفٌ وقع فيه الضربُ، فهو من جملةِ "ضربتَ". وكذلك لو قلت: "أزيدًا ضربتَ رجلًا يُحبه؟ " فـ "يُحِبّه" نَعْتٌ لـ "رجل"، والنعتُ والمنعوتُ يتسلّط عليهما العاملُ تسلُّطًا واحدًا، فكان "يحبّه" من جملةِ "ضربت"، فصار الاسمُ المنصوبُ بـ "ضربت" من سببِ الاسم الأوّل، إذ كان في جملته عائدٌ إليه. ولو كان الذي يَلِي الاسم جملةً ليس فيها ذكرٌ، ثم جئتَ بجملة أخرى، فعطفتَها على الجملة الأولى، وفيها ذكر للاسم، لم يجز، وذلك قولك: "أزيدًا ضربتَ عمرًا، وضربتَ أباه؟ " لأنّ قولك: "وضربت أباه" جملةٌ أخرى قائمةٌ بنفسها، والجملةُ الأولى قد مضت بلا ذكرٍ، فلم تلتبِس بها. * * * قال صاحب الكتاب: "فإن قلت: "أزيدٌ ذهب به" فليس إلا بالرفع". * * * قال الشارح: وأمّا قوله: "أزيدٌ ذُهب به فليس فيه إلّا الرفع", لأنّك إذا قلت:
"ذُهب يزيد"، فالباءُ وما عمِلت فيه في موضع رفع اسم ما لم يُسمَّ فاعله, لأنّه لا بدّ للفعل من فاعل، أو ما يقوم مقامَ الفاعل، وليس معك ما يقوم مقامَ الفاعل إلّا الباءُ وما اتّصلت به، فأُقيمت مُقامَ الفاعل، فكانت في موضع رفع لذلك، فوجب أن يكون الاسم مرفوعًا، لأنّ الذي اتّصلت به كنايتُه مرفوعٌ، وصار بمنزلةِ "أزيدٌ ذهب أخوه" لأنّ كنايته قد اتّصلت بمرفوع، وهو الأخ. وارتفاعُ "زيد" في قولك "أزيدٌ ذُهب به" على وجهَيْن: أحدُهما بالابتداء، والآخرُ بأنّه فاعلُ فعلٍ محذوفٍ. وإن أسندتَ الفعل في قولك: "أزيدٌ ذُهب به" إلى مصدره، كان الجارّ والمجرور في محلِّ منصوب، وتقديرُه "ذُهب الذهابُ به". وجاز نصبُ الاسم الذي هو "زيدٌ"، وكان مختارًا، لأن ضميره في محلِّ نصب، وهذا لاختلافٍ فيه بين أصحابنا. * * * قال صاحب الكتاب: "وأن يقع بعد "إذا", كقولك: "إذا عبد الله تلقاه فأكرمه", و"حيث زيدًا تجده فأكرمه"". * * * قال صاحب الكتاب: ومن ذلك "إِذَا" الزمانيةُ و"حيْثُ" إذا وقع بعدهما اسمٌ، وبعده فعلٌ واقعٌ على ضميره، فيختار فيه النصب، وذلك نحو قولك: "إذا زيدًا تلقاه فأكرمه"، و"حيث زيدًا تجده فأعْطِه" لأنّ فيهما معنى المجازاة. والمجازاةُ إنّما تكون بالفعل، فلمّا كان الموضعُ موضعَ فعل، اختير نصبُ الاسم بعدهما بإضمارِ فعل يفسّره الظاهرُ. فإذا قلت: "إذا زيدًا تلقاه"، فتقديرُه: إذا تلقى زيدًا تلقاه، وكذلك "حَيْثُ" تقول: "حيث زيدًا تجدُه فأكرمه"، وتقديرُه: حيث تجد زيدًا تجده فأكرمه، لِما ذكرناه من أنّ فيهما معنى المجازاة. وذلك لأن قولنا: "إذا عبدَ الله تلقاه" يوجِب الأوقاتَ المستقبلةَ كلَّها، ولا يخُصّ وقتًا من وقت، فهي بمنزلةِ "مَتَى"، و"حَيْثُ" توجب الأماكنَ كلَّها، ولا تخصّ مكانًا دون مكان، فهي بمنزلةِ "أَيْنَ"، غيرَ أنّ "متى" و"أين" تجزِمان، و"إذا" و"حيث" لا تجزمان عند البصريين إلّا في ضرورة الشعر. وقد أجاز سيبويه رفعَ الاسم بعدهما بالابتداء (¬1). والذي أراه أنّ ذلك جائزٌ في "حيث" لأنّها قد تخرج من معنى الجزاء إلى أن يكون بعدها المبتدأُ والخبرُ، تقول: "لقيتُه حيثُ زيدٌ جالسٌ"، فتكون نظيرةَ "إذْ" في الزمان في وقوعِ الابتداء والخبر بعدها، نحو قولك: "لقيتُه إذ زيدٌ جالسٌ". وأمّا "إِذَا"، فلا تنفكّ من معنى المجازاة، لأنّها لا تقع إلّا للمستقبل، فإذا وَلِيَها الاسمُ، ¬
فلا بدّ من أن يكون الفعلُ بعدها مقدّرًا مرفوعًا كان أو منصوبًا. تقول: "إذا زيدٌ جلسَ أجلس" تقديرُه: إذا جلس زيد جلس. ويدلّ على ذلك أنّه لا بدّ من وقوعِ فعل بعد ذلك الاسم. ألا تراك لو قلت: "أجلس إذا زيدٌ جالسٌ " لم يجز، ويجوز ذلك مع "حيث". * * * قال صاحب الكتاب: وبعد حرف النفي, كقولك: "ما زيدًا ضربته". وقال جرير [من الوافر]: فلا حسبًا فخرت به لتيمٍ ... ولا جدًّا إذا ازدحم الجدود (¬1) * * * قال الشارح: ومن ذلك النفيُ إذا وقع الاسمُ بعد حرف نفي، وكان بعده فعلٌ واقعٌ على ضميره، أو على ما هو متّصِلٌ بضميره، فالاختيارُ فيه النصبُ، نحو: "ما زيدًا لقيتُه، ولا زيدًا قتلتُه"، و"ما زيدًا لقيت أباه، ولا عمرًا مررت به". وإنّما صار النصبُ هنا مختارًا لشبه حروف النفي بحروف الاستفهام، وحروفِ الجزاء، وحروفِ الأمر والنهي. ووجهُ الشبه أن ما بعد النفي غيرُ واجب كما أن ما بعد كل واحد من هذه الأشياء كذلك. فالحال بين النصب والرفع متقارِبٌ، فقولُك: "ما زيدًا ضربتُه" أقوى من قولك: "ما زيدٌ ضربته" بالرفع. والنصبُ فيه أضعفُ من النصب بعد حروف الاستفهام، وحروفِ الجزاء. والرفعُ فيه أقوى من الرفع في قولك: "أزيدٌ ضربتَه؟ " لشَبَهِ النفي بالابتداء، ولذلك كان فَرْعًا ومحمولًا على غيره في النصب. وشَبَهُه بالابتداء أنّه نقيضُ المبتدأ ونفيٌ له. والنفيُ يجري مجرى الإيجاب، ألا ترى أنّك إذا قلت: "قام زيدٌ" فنفيُ هذا أن تقول: "ما قام زيدٌ" فترُدّ الكلامَ على لفظه، فشَبَهُه بالمبتدأ أنّك ترُدّ فيه لفظَ المبتدأ؟ قال الشاعر [من الوافر]: فلا حسبًا فخرت به ................................... إلخ فنَصَبَه بإضمارِ فعل تقديرُه: فلا ذكرتُ حسبًا فخرتَ به. وأجاز يونسُ أن تكون الفتحةُ في قوله: "فلا حسبًا" فتحة بناءٍ بمنزلةِ "لا رجلَ في الدار"، ونَوَّنَه للضرورة. البيت لجَرِير يهجو عمر بن لَجأٍ، وهو من تَيْمِ عَدِيّ، يقول: لم تكتسِب لهم حَسَبًا يفخَرون به، ولا لك جَدٌّ تُعوَّل عليه عند ازدحام الناس للمفاخرة، أي: ليس لك قديمٌ ولا حديثٌ. ومثلُه [من الطويل]: 247 - فلا ذا جَلالٍ هِبْنَه لجَلالِه ... ولا ذا ضَياعٍ هُنَّ يَتْرُكْنَ للفَقْر ¬
نصب "ذا جلال" بفعل محذوف دلّ عليه "هبنه" فكأنّه قال: "فلا هِبنَ ذا جلال هبنه". * * * قال صاحب الكتاب: "وأن تقع في الأمر والنهي, كقولك: "زيداً أضربه"، و"خالداً أضرب أباه"، و"بشراً لا تشتم أخاه"، و"زيداً ليضربه عمرٌو، و"بشراً ليقتل أباه عمرٌو". ومثله: "أما زيداً فاقتله، وأما خالداً فلا تشتم أباه". * * * قال الشارح: ومن ذلك إذا كان بعد الاسم فعلُ أمرٍ، أو نهي واقعٌ على ضميره، أو ما اتّصل بضميره، فإنّه مختارٌ فيه النصبُ، نحو قولك: "زيدًا اضربه"، و"خالدًا اضربْ أباه"، و"زيدًا ليضربْه عمرٌو"، و"بشرًا ليضربْ أخاه جعفرٌ"، و"زيدًا لا تشْتمْه"، و"خالدًا لا تضرب أباه". النصبُ في ذلك كلّه الوجهُ المختارُ، والرفع جائزٌ، وإنّما كان النصبُ مختارًا لأجلِ الأمر والنهي، إذ الأمرُ والنهيُ لا يكونان إلّا بالأفعال، لأنّك إنّما تأمره بإيقاع فعل وتَنْهاه عن إيقاعِ فعل. وذلك أنّك حين تأمره فأنت تطلب منه إيقاعَ ما ليس بموجودٍ، وإذا نَهَيْتَه، فأنت تمنَعه من الإتيان به. فأمّا الذوات، فإنّها موجودةٌ ثابتةٌ لا يصحّ الأمرُ بها، ولا النهيُ عنها. وإذا كان ¬
الأمرُ كذلك، ثم أتيتَ باسم قد وقع الفعلُ الذي بعده على ضميره، نصبتَه بإضمارِ فعل على نحوِ ما ذكرناه في الاستفهام، وكان النصبُ في الأمر والنهي أقوى منه في الاستفهام، من قِبَل أن الأمر والنهي لا يكونان إلّا بالأفعال، وقد يكون الاستفهامُ بغيرِ فعل، نحو قولك: "أزيدٌ أخوك؟ "، و"أعبدُ الله عندك؟ " وإنّما قال في التمثيل: "زيدًا اضربْه"، و"زيدًا ليضربْه عمرٌو" ليُرِيك أنَّه لا فَرْق في ذلك بين الأمر للحاضر والأمرِ للغائب، فقولُه: "زيدًا اضربْه"، أمرٌ للحاضر، و"زيدًا ليضربْه عمرٌو" أمرٌ للغائب، فمَثَّلَ بهما. والرفع جائزٌ على الابتداء، والجملةُ بعده سدّتْ مسدَّ الخبر. وإنّما قلنا: سدّت مسدّ الخبر؛ ولم نقل: الخبرُ؛ لأن حقيقةَ الخبر ما احتمل الصدْقَ والكذْبَ، وذلك معدوم في الأمر والنهي. ومثله "أَمَّا" في قولك: "أَمّا زيدًا فاقتله"، و"أمّا خالدًا فلا تشتِمْ أباه" في اختيار النصب. وذلك من قِبَل أنّ "أمّا" تقطع ما بعدها عما قبلها، ويصير ما بعدها كالكلام المستأنَف، فنُصب لِما ذكرناه في الأمر والنهي، غيرَ أنّك لا تقدِّر الفعلَ بعد "أمّا"؛ لأنّ "أمّا" لا يَلِيها فعلٌ لتضمُّنها معنى الفعل، ولكن تقدّر الفعلَ بعد الاسم بلا ضمير، وتُعدّيه إلى الاسم، ثمّ تحذفه، ثمّ تأتي بالفعل المفسَّر، وتقديرُه: أمّا زيدًا فاقتلْ، فاقتلْه، وأمّا خالدًا فلا تُهِنْ فلا تشتمْ أباه". ولا بدّ من الفاء بعد "أمّا"؛ لأنّها جواب لِما تضمَّنته من معنى الشرط. * * * قال صاحب الكتاب: "والدعاء بمنزلة الأمر والنهي، تقول: "اللهم زيداً اغفر له ذنبه"، و"زيداً أمر الله عليه العيش". قال أبو الأسود [من الطويل]: 248 - [أميران كانا صاحبيَّ كلاهما] ... فكلا جزاه الله عني بما فعل ¬
و"أما زيداً فجدعا له، وأما عمراً فسقياً له". * * * قال الشارح: والدعاء بمنزلة الأمر والنهي في اختيار النصب، لأنّ سبيله سبيلُ الأمر والنهي في الإعراب من كلّ وجهٍ، وهو في المعنى مثلُ الأمر، وكذلك أن الداعي ملتمِسٌ من المدعوّ إيقاعَ ما يدعوه به، إلّا أنّ الجُمْهُور لا يسمّون مسألةَ من هو فوقَك أمرًا، وربّما سماه بعضُهم أمرًا، واحتجّ عليه بقول الشاعر [من الطويل]: 249 - أمرْتُك أَمْرًا جازِمًا فَعَصَيْتَني ... وكان من التَّوْفِيق قَتْلُ ابنِ هاشِمِ البيت لعمرو بن العاص يخاطب مُعاوِيَةَ، وكان فوقه. والأعمُّ الأكثرُ ما قدّمناه، ويجوز أن يكون عمرٌو رأى نفسَه من طريقِ المَشْوَرَةِ والرأي وحاجةِ معاوية إليه فوقه، فسمّى سؤالَه أمرًا لذلك، وقال أبو الأسْوَد [من الطويل]: أمِيرانِ كانا صاحِبَيَّ كِلاهما ... فكُلا جَزاه اللهُ عنّي بما فَعَلْ ¬
فإنّ نَصْبَ "كُلاَّ" بإضمارِ فعل لِما بعده من الدعاء، والتقديرُ: فجَزَا اللهُ كلاَّ جزاه اللهُ. ومن الدعاء: "أمّا زيدًا فجَدْعًا له، وأمّا عمرًا فسَقْيًا له"، فالاختيارُ النصب، لأنّك تريد: جَدَعَهُ الله جَدْعَا، وسَقاه الله سَقْيًا. ولو كان الدعاء بغير فعلٍ، ولا في تقدير فعلٍ؛ لم يُنصَب الاسم الأول، نحوَ: "أمّا زيدٌ فسلامٌ عليه، وأمّا الكافرُ فوَيْلٌ له"، لعدم ما يفسِّر الفعلُ. * * * قال صاحب الكتاب: "واللازم أن تقع الجملة بعد حرف لا يليه إلا الفعل, كقولك: "إن زيدًا تره تضربه". قال [من الكامل]: لا تجزعي أن منفساً أهلكته ... [وإذا هلكت فعند ذلك فاجزعي] (¬1) وهلا وألاً ولولا ولوما بمنزلة "إن", لأنهن يطلبن الفعل ولا تُبتدأ بعدها الأسماء. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الاسم إذا وقع بعد حرف الجزاء، وكان بعده فعلٌ واقعٌ على ضميره، نصبتَه بإضمار فعل يفسِّره الظاهرُ، كما قلنا في الاستفهام؛ إلّا أنّ النصب ههنا يقع لازمًا، وفي الاستفهام مختارًا، وذلك لأن الشرط لا يكون إلّا فعلًا ولا يَلِيه مبتدأُ وخبرٌ. فلا تقول: "إنْ زيدٌ قائمٌ أَقُمْ"، وقد يجوز في الاستفهام أن تقول: "أزيدٌ قائمٌ". فقد علمتَ أن حروف الجزاء أَلْزَمُ للفعل من حروف الاستفهام. ولذلك كان نصبُ الاسم في الاستفهام، إذا وقع الفعلُ على ضميره، مختارًا مع جَوازِ الرفع على الابتداء، وكان نصبُه مع حروف الجزاء لازمًا، ولا يجوز رفعُه على الابتداء لِما ذكرنا من أنّ الشرط لا يكون إلّا فعلًا. فإذا قلتَ: "إنْ زيدًا تَرَه تضربْه"، نصبتَ "زيدًا" بإضمار فعلٍ، لأنّك شغلتَ الفعلَ الذي بعده بضميره، وتقديرُه "إن تَرَ زيدًا تَرَه". ومنه قول الشاعر [من الكامل]: لا تَجْزَعِي إِنْ مُنْفِسًا أهلكتُه ... وإذا هلكتُ فعِنْدَ ذلك فاجْزَعِي البيت للنمر بن تَوْلَب، والشاهدُ فيه نصبُ منفسًا بفعل مقدَّر محذوف، وتقديرُه: لا تجزعي إن أهلكتُ منفسًا أهلكتُه، ولو رفع على تقدير إن هَلَكَ منفسٌ لَجاز، لأنّه إذا أهلكَه فقد هلك، كأنّه يصف نفسَه بالكَرَم، وأنه لا يُصْغِي إلى من يلومه في ذلك، فهو يقول: إنّ امرأته لامته على إتلاف ماله جَزَعًا من الفَقْر، فقال لها: لا تجزعي لإتلافي نفِيسَ المال، فإني قادرٌ على إخلافه، وإنّما إذا هلكتُ فاجْزعي، فإنّه لا خَلَفَ لك عنّي. ¬
ولو قدمتَ الاسم على حرف الجزاء، فقلت: "زيدًا إن تره تضربه"، لم يجز؛ لأنّ الشرط والجزاء لا يعملان فيما قبل حرف الجزاء، وإذا لم يعملا فيه، لم يجز أن يُفسِّراه. ومن ذلك "هَلاَّ" و"لَوْلَا" و"ألَّا"، و"لَوْمَا" إذا وقع الاسمُ بعدها وكان بعدها فعلٌ واقعٌ على ضميره، لم يكن بُدٌّ من نصبِ ذلك الاسم بفعل مضمر يفسّره الظاهرُ، فحكمُها حكمُ "إِن" الشرطيّةِ. وذلك من قِبَل أن معاني هذه الحروف التحضيضُ والتوبيخُ. إذا وَلِيَها المستقبَلُ كنّ تحضيضًا، وإذا وليها الماضي كنّ توبيخًا. وهذه المعاني واقعةٌ على الأفعال، لا حظَّ للأسماء فيها، فلذلك لا يقع بعدها المبتدأُ والخبرُ، فإذا وقع بعدها اسمٌ، فلا يكون إلّا على تقديرِ فعل. قال جَرِيرٌ [من الطويل]: 250 - تَعُدُّونَ عَقْرَ النُيبِ أفضلَ مَجْدِكُم ... بَنِي ضَوْطَرَى لولا الكَمِيَّ المقنَّعا ¬
فمعناه: لولا تعدّون الكميَّ المقنَّعَا، فنصب الكميَّ المقنّعَا بإضمارِ فعل لدلالةِ ما تقدّم من قوله: "تعدّون عقر النيب" عليه. وجملةُ الأمر أنّ الحروف حين كانت لمعانٍ في الأسماء والأفعال، وليس لها في أنفسها معنًى، فمنها ما يختصّ بالاسم، ولا يدخل الفعلَ نحو "إِنَّ" وأخواتِها، وحروفِ الجرّ وغيرِها، ومنها ما يختصّ بالفعل، ولا يَلِي الاسمَ نحو حروفِ الجزاء، وحروفِ الجزم وغيرِها، ومنها ما يدخل على القبيلَيْن الاسمِ والفعلِ، نحو حروفِ النفي، وحروفِ الاستفهام. فأمّا ما يختصّ بالفعل، وهو ما نحن بصَدَده، فذلك ضربان: ضربٌ يحسُن أن يُحذف الفعل منه، ويَلِيه الاسمُ في الظاهر نحو ما ذكرناه من حرف الجزاء، وهو"إِنْ" وحروفِ التحضيض المذكورةِ، وهي "هَلَّا" وأخواتُها، وضربٌ لا يحسن حذفُ الفعل منه، وإيلاءُه الاسمَ، وذلك نحو قولك: "قَدْ"، والسينِ وسَوْفَ، فهذه لا يحسن حذفُ أفعالها، ولا الفصلُ بينها وبين أفعالها بمعمولها، فلا تقول: "سوف زيدًا أضربه"، ولا "سوف زيدًا أضرب". وذلك لأنّ هذه الحروف تتنزّل منزلةَ الجُزْء من الفعل، فهي من الفعل بمنزلة الألف واللام من الاسم، وذلك لأنّ السين وسوف تقصِران الفعلَ لوقتٍ بعينه، وهو المستقبلُ، بعد أن كان شائعًا في الاستقبال والحالِ، كما تقصر الألفُ واللام الاسمَ على واحد بعينه بعد شِياعه. وكذلك "قَدْ" تُقرِّب الماضي من الحال، وهو نوعُ تخصيص. ولهذا المعنى لم تكن عاملةً في الفعل، وإنّما جارّ إضمارُ الفعل بعد "لَوْلَا" وأخواتِها. والفصلُ بينها وبين الفعل الواقِع بعدها بمعموله من قِبَل أنّ معانيها الحَضَّ في المستقبل وهو استدعاءٌ، واللَّوْمَ والتوبيخَ في الماضي، أشبهتِ الأفعالَ، فجاز أن يليها الاسمُ كما يلي الفعلُ.
حذف المفعول به
حذف المفعول به فصل قال صاحب الكتاب: "وحذف المفعول به به كثير, وهو في ذلك على نوعين: أحدهما أن يحذف لفظاً ويراد معنى وتقديراً. والثاني أن يجعل بعد الحذف نسياً منسياً كأن فعله من جنس الأفعال غير المتعدية كما ينسى الفاعل عند بناء الفعل به. فمن الأول قوله تعالي: {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} (¬1) , وقوله تعالى: {لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم} (¬2)؛ لأنه لا بد لهذا الموصول من أن يرجع إليه من صلته مثل ما ترى في قوله تعالى: {الذي يتخبطه الشيطان} (¬3). وقرئ قوله تعالى: {وما عملته أيديهم} (¬4) وما عملت" (¬5). من الثاني قولهم: "فلان يعطي ويمنع ويصل ويقطع". ومنه قوله عز وجل: {وأصلح لي في ذريتي} (¬6). وقول ذي الرمة [من الطويل]: 251 - وأن تعتذر بالمحل من ذي ضُروعها ... إلى الضيف يجرح في عراقيبها نصلي" * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن المفعول لمّا كان فضلةً تستقلّ الجملةُ دونه، وينعقِد الكلامُ من الفعل، والفاعل بلا مفعول، جاز حذفُه وسقوطُه، وإن كان الفعلُ يقتضيه، وحذفُه على ضربين: أحدهما: أن يُحذف وهو مرادٌ ملحوظٌ، فيكون سقوطُه لضرب من التخفيف، وهو في حكم المنطوق به. والثاني: أن تحذفه مُعرِضًا عنه ألبتّةَ، وذلك أن يكون الغرضُ الإخبارَ بوقوع الفعل من الفاعل من غير تعرُّضِ لمن وقع به الفعلُ، فيصير من قبيلِ الأفعال اللازمة، نحو: ظَرُفَ، وشَرِقَ، وقَامَ، وقَعَدَ. فالأوّل نحو قوله تعالى: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} (¬1)، وقوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬2)، ومنه قوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (¬3)، {وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ} (¬4)، و {أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} (¬5). فكلُّ هذا على إرادة الهاء، وحذفُها تخفيفًا لطُول الكلام بالصلة. ألا ترى أنَّه لولا إرادةُ الهاء، بقي الموصولُ بلا عائد، فكان في حكم المنطوق به، لأنّ الدلالة عليه من جهتَيْن: من جهةِ اقتضاء الفعل له، ومن جهةِ اقتضاءِ الصلة إذ كان العائدَ. ومنه قوله تعالى: {وما عملتْ أيديهم} (¬6) قرأ عاصمٌ في رواية أبي بَكْر، وحَمْزَةُ، ¬
والكسائي (¬1)؛ {وما عملت} بغير هاءٍ، وقرأ الباقون: "وما عملته" بالهاء، فمن أثبتها فهو الأصلُ، ومَن حذفها فلطُولِ الأمر بالصلة حُذفت الهاء تخفيفًا، ويكون التقديرُ: {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} (¬2) " فـ "ما" في موضع خفضٍ بالعطف على ثمره، ويجوز أن تكون "ما" نافيةً، ويكون المعنى: ليأكلوا من ثمره، ولم تعمله أيديهم، فيكون أبلغَ في الامتنان. ويقوِّي ذلك قولهُ تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} (¬3). وإذا قدّرتَه هذا التقديرَ، لم تكن الهاءُ مرادةً كإرادتها لو كانت موصولةً. والثاني: قولهم: "فلان يُعطِي ويمنع، ويضُرّ وينفَع، ويصِل ويقطع"، والمراد: يعطي ذَوِي الاستحقاق، ويمنع غيرَ ذَوِي الاستحقاق، وينفع الأَودّاءَ، ويضرّ الأعداءَ، إلّا أنّه حُذف، ولم يكن ثمَّ موصولٌ يقتضى راجعًا، ولم يكن المرادُ إلّا الإخبارَ بوقوعِ الفعل من الفاعل لا غيرُ، فصار كالفعل اللازم في الإخبار بوقوع الفعل من الفاعل. وشَبَهُه بالفعل، إذا بُني للمفعول من حيث لم يكن الغرضُ الإخبارَ عن الفاعل، وإنّما كان الغرضُ بَيانَ مَن وقع به الفعلُ، فصار الفاعلُ نِسْيًا مَنْسِيًا، واشتغل الفعلُ بالمفعول، وارتفع، وتمَّ الكلامُ به من غير تشوُّفٍ إلى سِواه. فكذلك قد يكون الغرض الإخبار عن الفاعل لا غيرُ من غير تعرُّضٍ لذِكْر المفعول. فأما قول ذي الرمّة [من الطويل]: وإنْ تعتذرْ بالمحل ................................... الخ فالشاهد فيه قوله: "يَجْرَحْ"، والمراد: يجرحْها، فحذف المفعول لِما ذكرنا. يصف نفسَه بالكَرمَ وقِرَى الضيْف، والتاءُ للتأنيث، والضميرُ يعود إلى النُّوق، يقول: إن اعتذرتِ النُّوقُ بقلّةِ اللَّبَن لأجلِ المَحْل، عقرتُها للأضياف. والمرادُ بذي ضروعها اللَّبَنُ، كما يقال: ذو بُطونها، والمراد الوَلَدُ. * * * قال صاحب الكتاب: "ومن حذف المفعول به حذف المنادي, وقد تقدم الكلام عليه". * * * قال الشارح: اعلم أنّ المنادى، وإن كان مفعولًا في الحقيقة، فإنّ حذفه لا يحسُن كما حسُن حذفُ المفعول فيما تقدّم. وذلك لأنّ الفعل العامل فيه وفاعلَه قد حُذفا، وناب حرفُ النداء عنهما، وبقي المنادى من الجملة المحذوفة، يدلّ أنّه هو المدعوُّ، فإذا حذفتَه، لم يبقَ من الجملة المحذوفة شيءٌ، ولا يُعْرَف المدعوّ، إذ حرفُ النداء إنّما يدلّ ¬
على مدعوٍّ مخصوصٍ, لأنّ حرفَ النداء إنّما ناب مَنابَ الفعل، والفاعِل، نحو: أَدْعُو، وأُنادِي، ولم يَنُبْ عن المفعول. فإن وقع بعد حرفِ النداء جملةٌ، أو أمرٌ يدلّ على المدعوّ؛ ساغ حذفُه، ومن ذلك قولهم: "يا بُؤْسٌ لزيدٍ"، والمراد: يا قومُ بؤسٌ لزيد، ومنه بيتُ الكتاب [من البسيط]: يا لَعْنَةُ الله والأَقْوَامُ كُلُّهُم ... والصالحين على سِمْعانَ مِن جارِ (¬1) ويُروى: و"الصالحون". وكذلك قوله تعالى: {ألا يا اسجدوا لله} (¬2). وقد تقدّم الكلام على ذلك بما أغْنَى عن إعادته. ¬
المفعول فيه
المفعول فيه فصل قال صاحب الكتاب: "هو ظرفا الزمان والمكان. وكلاهما منقسمٌ إلى مبهمٍ وموقت، ومستعمل إسمًا وظرفًا، ومستعمل ظرفًا لا غير. فالمبهم نحو: الحين والوقت والجهات الست. والموقت نحو اليوم والليلة والسوق والدار. والمستعمل إسمًا وظرفًا ما جاز ان تعتقب عليه العوامل. والمستعمل ظرفًا لا غير ما لزم النصب, نحو قولك: وسرنا ذات مرةٍ, وبكرة, وسحر, وسحيرًا, وضحى, وعشاء, وعشية, وعتمة, ومساء إذا أردت سحرًا بعينه, وضحى يومك, وعشيته, وعشاءه, وعتمة ليلتك, ومساءها, ومثله عند, وسوى, وسواء. ومما يختار فيه أن يلزم الظرفية صفة الأحيان، تقول سير عليه طويلًا, وكثيرًا, وقليلًا, وقديمًا, وحديثًا". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الظرف ما كان وِعاءً لشيء، وتُسمَّى الأواني ظروفًا، لأنّها أَوْعِيَةٌ لِما يُجعل فيها، وقيل للأزمِنة والأمكنةِ: ظروفٌ، لأن الأفعال توجَد فيها، فصارت كالأوعية لها، والظرف على ضربَيْن: زمان ومكان. فالزمانُ عبارةٌ عن الليالي والأيّام. قال الشاعر [من الطويل]: 252 - هَلِ الدَهْرُ إلا ليلةٌ ونَهارُها ... وإلا طُلوعُ الشمْسِ ثُمَّ غِيارُها ¬
وذلك نحو: قمتُ يومًا، وساعةً، وليلةً، وعِشاءً، ومساءً، وما أشبهَ ذلك من أسماء الزمان، نحو: السنَة، والشهْر، والدهْر. واعلم أنّ الظرف في عُرْفِ أهلِ هذه الصِّناعة ليس كلَّ اسم من أسماء الزمان والمكان على الإطلاق، بل الظرفُ منها ما كان منتصبًا على تقديرِ "في" واعتبارُه بجَوازِ ظهورها معه، فتقول: "قمتُ اليومَ"، و"قمت في اليوم". فـ "في" مرادةٌ، وإن لم تذكرها. والذي يدلّ على ذلك أنّك إذا قلت: "اكْنِ عن اليومَ"، قيل: "قمت فيه". وكذلك سائرُ الظروف، وليس الظرفُ متضمِّنًا معنى "في" فيَجِبَ بناءُه لذلك، كما وجب بناءُ نحو"مَنْ"، و"كَمْ" في الاستفهام. وإنّما "في" محذوفةٌ من اللفظ لضرب من التخفيف، فهي في حكم المنطوق به. ألا ترى أنّه يجوز ظهورُ "في" معه، ولا يجوز ظهورُ الهمزة مع "مَنْ" و"كَمْ" في الاستفهام، فلا يقال: "أَمَنْ"، ولا: "أَكَمْ" وذلك من قِبَل أن "مَن" و"كَم"؟ لمّا تَضمَّنا معنى الهمزة، صارا كالمشتمِلَيْن عليها، فظُهورُ الهمزة حينئذ كالتكرار، وليس كذلك الظرفُ، فإن الظرفيّة مفهومةٌ من تقدير "في"، ولذلك يصحّ ظهورُها، فاعرِف الفرقَ بين المتضمّنِ للحرف، وغير المتضمِّن له بما ذكرتُه. والظرف ينقسم إلى مبهَم وموقَّت، والمراد بالمبهم النكرةُ التي لا تدّل على وقت بعينه، نحو: حينٍ، ووَقْتٍ، وزَمانٍ، ونحو ذلك. والمرادُ بالموقّت ما دلّ على زمانٍ بعينه مخصوصٍ، نحو: اليوم، والليلة، ويومِ الجُمْعة، وشهرِ رَمَضانَ، وشهرِ المحرَّم. وهو ينقسم قسمَيْن: قسمٌ يُستعمل اسمًا وظرفًا، وقسمٌ لا يُستعمل إلّا ظرفًا لا غيرُ. فالأوّلُ كلُّ متمكِّن من الظروف من أسماءِ السنين، والشهورِ، والأيامِ، والليالي ممّا يتعاقب عليه الألفُ واللام، والإضافةُ من نحو: سَنَة، وشَهْر، ويوم، وليلة. فهذا يجوز أن تستعمِله اسمًا غيرَ ظرف، فترفعَه، وتَجُرَّه، ولا تقدِّرَ معه "في"، نحوَ: "اليومُ طَيبٌ" و"السنةُ مباركَةٌ"، و"أَعْجبني اليومُ"، و"عجبتُ من يومِك"، فتُجريها مُجرى سائرِ الأسماء ويجوز أن تنصبها على الظرف، فتقول: "صُمْتُ اليومَ" و"قدِمتُ السنةَ". فهذا مقدَّرٌ بـ "فِي"، والتقديرُ: "صمتُ في اليوم"، و"قدمتُ في السنة"، فكلُّ اسم من أسماء الزمان لك أن تجعله اسمًا وظرفًا، إلّا ما خَصَّتْه العربُ بالظرفية، ولم تستعمله مجرورًا، ولا مرفوعًا، وذلك يؤخَذ سَماعًا عنهم. والقسم الثاني هو ما لا يُستعمل إلّا ظرفًا، وذلك ما لزم النصبَ لخُروجه عن التمكّن بتضمُّنه ما ليس له في الأصل، فمن ذلك "سَحَرَ"، و"سُحَيرًا" إذا أردت به سحرَ يومك، فإنّه غيرُ متصرِّفٍ، ولا منصرفٍ، والذي مَنَعَه من الصرف أنّه معدولٌ عن الألف والسلام معرفةً. ومعنى ذلك أنّه إذا أردت به سحر يومك الذي أنت فيه، فتَزِيد فيه الألف واللام للتعريف، ثمّ غُيّر عن لفظِ ما فيه الألفُ واللام مع إرادةِ معناهما، كما عُدل
"جُمَعُ" في قولك: "جاءت النسْوَةُ جُمَعُ"، وهو معرفةٌ، فاجتمع فيه العدلُ والتعريفُ، فلم ينصرف لذلك. فإن قيل: العدل إنّما هو أن تلفِظ ببناءٍ، وأنت تريد بناءً آخَرَ لضربٍ من التوسّع في اللغة، كعَدْلِ "عُمَرَ" عن "عامرٍ" و"جُمَعَ" عن "جُمْع" ساكنَ الحَشْو، وأنت تدّعِي أن "سَحَرَ" معدولٌ عن "السَّحَرَ"، والصورتان واحدةٌ قبلَ العدل، وبعده، فالجوابُ: أن "سَحَرَ" وإن كان "فَعَلًا" كما أنّ السَّحَرَ كذلك، فإنّه لما اتّصلت به لامُ التعريف، صارت لامتزاجِها بما عرّفته، كأنّها منه، فجَرَتِ اللامُ في "السحر" مجرَى همزةِ "أَحْمَرَ"، و"إِجْفِيلٍ" (¬1)، و"إِخْرِيطٍ" (¬2) وتاءِ "تِجْفافٍ" (¬3)، وياء "يَرْمَعٍ" (¬4). فلمّا عدلتَ "سَحَرَ" كأنّك عدلتَ مثلًا من هذه الأمثلة إلى "فَعَلٍ"، فإن نُكر انصرف، نحو قوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ} (¬5) لأنّه قد زال السبَبان معًا بالتنكير، لأنّه كان معدولًا في حال التعريف. وكذلك إذا أدخلتَه الألف واللامَ، صرفتَه، نحو: "السَّحَرِ", لأنّك قد رددتَه إلى الأصل، فزال العدلُ. ومعنى قولنا: "غير متصرّف" أنّه لا يدخله رفعٌ ولا جرٌّ، ولا يكون إلّا منصوبًا على الظرف، وكذلك كلُّ ظرف غيرِ متصرّف. والذي منع "سَحَرَ" من التصرّف أنّه يعرَّف من غيرِ جهة التعريف، لأنّ وُجوهَ التعريف خمسةٌ: تعريفُ الإضمار، وتعريفُ العَلَميّة، وتعريفُ الإشارة، وتعريفُ الألف واللام، وتعريفُ الإضافة إلى واحدة من هذه المعارف، وليس التعريف في "سَحَرَ" واحدًا منها، فلمّا تَعرَّف من غير جهة التعريف المعهودِ، خرج عن نظائره، فمُنع التصرّف لذلك. فإن صغّرته، وأنت تريد "سَحَرَ" يوم بعينه، انصرف، ودخله التنوينُ، ولم يتصرّف، فلا يدخله الرفعُ والجرُّ، ولا يكون منصوبًا، أمّا التنوينُ فلتِنكُره بزَوالِ العدل، وذلك أنّهم لم يضَعوا المصغَّرَ مكانَ ما فيه الألفُ واللامُ، فيكونَ معرفة معدولًا. وإنّما هو نكرةٌ كـ "ضَحْوَةً"، و"غُدْوَةَ"، و"عَتَمَةً"، و"عِشاءٌ" إلّا أنّه فُهم منه ما يُفهَم من المعارف، فلم يتمكّن، وكذلك "ضُحَى"، و"ضَحْوَةَ" و"عِشاءَ" و"عَشِيَّةَ" و"مَساءَ" إذا أردت ذلك من يومك، لم تكن إلّا ظروفًا، وذلك أنّك إذا قلت: "أنا أتيتُك عشاء" لم يذهب الوَهْمُ إلّا إلى عشاء يومك. وكذلك "عَتَمَة"، فلمّا كان يُفهَم بها ما يفهم بالمعارف من حَصْرِ وقت ¬
بعينه، لم تَتمكَّن عندهم، فتُرْفَعَ، وتُجَرَّ، لا تقول: "غَداءُ ضُحَى"، ولا "مَوْعِدُك مساءٌ". ومن ذلك "ذاتَ مرَّةٍ" تقول: "سِيرَ عليه ذاتَ مرّةِ"، فتُقيم الجارّ والمجرورَ مُقامَ الفاعل، ولا تُقيم الظرفَ، لأنّه غيرُ متصرّف، فلا يكون إلّا نصبًا. وإنّما امتنع من التصرّف لأنّها قد استُعملت في ظرف الزمان، وليست من أسماء الدهر، ولا من أسماء ساعاته، وإنّما المرّةُ في الأصل مصدرٌ. ألا ترى أنّك تقول: "ضربتُ مَرَّةً ومرّتَيْن، والمرادُ بذلك ضَرْبَة، وضربتَيْن؟ فلمّا استُعمل في الدهر ما لسِ من أسمائِه ضعُف، ولم يتمكّن في الزمان تَمَكُّنَ أسمائه، نحو: اليوم، والليلة. فإن قيل: فأنتم تقولون: "سير عليه مَقْدَمُ الحاجّ، وخُفوقُ النجْم"، فترفعونه، وهي مصادرُ استُعيرت للزمان، فما الفرقُ بينها وبين "ذاتَ مرّة"؟ قيل: إنّ "مقدمَ الحاجّ"، و"خُفوق النجم"، و"خِلافةَ فلان" وما أشبهَها استُعيرت للزمان على تقدير حذفِ مضاف، كأنّه قال: "وقتُ خفوقِ النجم"، و"وقتُ خلافةِ فلان"، ثمّ حذف المضافَ، وهو مرادٌ، فتَصرَّفتْ بالرفع والجرّ حَسْبَ تصرُّف المضاف المحذوف. وليس كذلك "ذات مرّةٍ"، استُعير للزمان لا على تقديرِ حذف مضاف، بل كأنّه اسمٌ من أسماء الزمان. ألا ترى أنّه لا يجوز إظهارُ الوقت معه، فلا تقول: "وقت ذات مرّةٍ"، ولا "وقتَ مرّةٍ"؟، فافترقا. ومثله في منع التصرّف "ذاتَ يوم"، و"ذاتَ ليلة". لا تقول: "سِيَر عليه ذاتُ يوم"، أو "ذاتُ ليلة" بالرفع، بل هو نصبٌ على الظرف لا غيرُ، لأن نفسَ ذات ليست من أسماء الزمان، فجرى مجرى "ذاتَ مرّةٍ". ومن ذلك "بُعَيْداتِ بَيْنٍ" فهو جمعُ "بَعْدَ" مصغَّرًا، و"بَعْدَ" و"قَبْلَ" لا يتمكّنان، فلا يجوز أن يقال: "سير عليه قَبْلُكَ"، ولا "بَعْدُكَ" بالرفع. والذي منعهما من التصرّف والتمكنِ أنّهما ليسا اسمَيْن لشيء من الأوقات كالليل، والنهار، والساعة، والظُّهْر، والعَصْر، وإنّما استُعملا في الوقت للدلالة على التقدّم والتأخّر، فلم يتمكّنا تمكُّنَ أسماء الزمان. وأمّا قولهم: "فعلتُ ذلك بَكَرَةَ" فهو كـ "ضَحْوَةَ"، و"عَتَمَةَ" إذا أردتَهما من يومٍ بعينه، فلا يتصرّف لأنّه نكرةٌ، فُهم منها ما يُفهم من المعارف، فخرج عن أصله، فلم يتمكّن. وقد تقدّم شرحُ ذلك. وممّا يُختار فيه الظرفيّةُ، ولا يتمكّن تمكُّنَ أسماء الزمان صفاتُ الأحيان، نحو: طويل، وقليل، وحديث، تقول: "سِيَر عليه طويلًا"، و"سير عليه حديثًا"، و"سير عليه قليلًا"، فلا يحسُن ها هنا إلّا النصب على الظرف، وهو المختار، وذلك لأنّك إذا جئت بالنعت، ولم تَجِىء بالمنعوت، ضعف، وكان الاختيارُ فيه أن لا تخرج عن الظرفيّة، لأنّك إذا قلت: "سير عليه طويلًا"، فـ "الطويلُ" يقع على كلّ شيء طَالَ من زمان، وغيره، فإذا أردتَ به الزمان، فكأنّك استعملتَ غير لفظ الزمان، فصار بمنزلة قولك:
"ذات مرّةٍ"، و"بُعَيْداتِ بَيْنٍ"، فلم يقع موقعَ الأسماء، واختير نصبُها على الظرف إلا أن يتقدّمها موصوفٌ، فحينئذٍ تقول: "سير عليه زمنٌ طويلٌ"، و"سير عليه وقتٌ حديثٌ". ويؤيِّد عندك ضُعْفَ الصفة أنّه لا يحسُن أن تقول: "أتيتُك بجَيدٍ"، وأنت تريد: "بدرهمٍ جيِّدٍ". وتقول: "أتيتُك به جيّدًا"، لما لم تَقْوَ الصفةُ إلّا أن يتقدّم الموصوفُ، جعلوه حالًا. واعلم اْنّ جميع الأفعال يتعدّى إلى كل ضرب من الأزمنة مُبْهَمًا كان أو مُخْتَصًّا، كما يتعدّى إلى كلّ ضرب من ضروب المصادر، لأنّ دلالته عليهما واحدةٌ، وهي دلالةُ مطابقة، ودلالتُه على كلّ واحد منهما تضمُّنٌ, لأنّ الأفعال صِيغت من المصادر بأقسامِ الزمان، فلمّا استويا في دلالة الفعل عليهما، استويا في تعدّيه إليهما، فتقول: "قمتُ اليومَ"، و"قمت يومًا"، كما تقول: "ضربت ضربًا"، و"ضربت الضربَ الذي تَعْلَمُ". وأمّا المكان، فكل ما تُصرّف عليه، واستُقرّ فيه من أسماء الأرضين، وهي على ضربَيْن: مُبْهَمٌ، ومُختَصٌّ. فالمبهمُ ما لم يكن له نِهايةٌ، ولا أقطارٌ تحصره، نحو: الجهات الستّ، كخَلْفٍ، وقُدّام، وفَوْقٍ، وتَحْتٍ، ويَمْنَةٍ، ويَسْرَةٍ، ووَراءٍ، ومكانٍ، ونحو ذلك. والمختصُّ ما كان له حَدٌّ، ونِهايةٌ، نحو: الدار، والمَسْجِد، والجامع، والسوق، ونحو ذلك. وليست الأمكنةُ كالأزمنة التي يُعمَل فيها كل فعل، فتُنصبَ نصبَ الظروف، وذلك لأنّ الفعل يدلّ على زمان مخصوص، إمّا ماضٍ، وإمّا حاضرٍ، وإمّا مستقبَلٍ. وإذا دلّ على الخاصّ كان دالآ على المبهم العامّ، لأنّ الخاصّ يدلّ على العامّ وزيادة، إذ العامُّ داخل في الخاص، فكلُّ يوم جُمْعَةٍ زمانٌ، وليس كلُّ زمان يوم جمعة. والفعلُ إنّما يتعدّى بما فيه من الدلالة، فلذلك يتعدّى كل فعل إلى كل زمان مبهمًا كان أو مختصًا، وليست الأمكنةُ كذلك، لأنّ دلالة الفعل على المكان ليست لفظيّةً، وإنّما هي التزامُ ضرورة أنّ الحَدَثَ لا يكون إلّا في مكان، ولا يدل على أن ذلك المكان الجامعُ، أو مَكةُ، أو السوقُ، ولذلك يتعدّى إلى ما كان مبهمًا منه لدلالته عليه. تقول: "جلستُ مجلِسًا، ومكانًا حسنًا"، و "وقفتُ قُدّامَك، ووَراءك"، فتنصب ذلك كلَّه على الظرف. فإن قيل: فأنت تزعم أنّ الفعل يعمل بحَسْبِ دلالته، وليس في الفعل دلالةٌ على مكان حسن، ولا على قُدّامِ زيد، ولا على وَرائه، فالجوابُ أنّ الفعل غيرَ المتعدّي إنّما يتعدّى إلى المكان المبهمَ. وقد ذكرنا أنّ المبهم ما ليس له نِهايةٌ ولا أقطارٌ تحصُره. وأنت إذا قلت: "قمتُ مكانًا حسنًا"، لم ينحصر بالنهاية والحدودِ. وكذلك إذا قلت: "قمت خَلْفَ زيد"، لم يكن لذلك الخلف نهايةٌ تَقِفُ عليها. وكذلك إذا قلت: "قُدّامَ زيد" لم يكن لذلك حَدٌّ ينتهي إليه، فكان مبهمًا من هذه الجهة، فانتصب على الظرف بلا خلاف. وقال أبو العباس: إذا قلتَ: "جلستُ مكانًا حسنًا"، و"قمت خلفَ زيد"، فالفعلُ إنّما تعدى إلى مكان مبهم، وإنّما نَعَتَّهُ بعد أن عمل فيه الفعلُ. وكذلك "جلست خلفَك"، و"وراءَك" لأن "خلفًا" لا ينفكّ منه شيءٌ أن يكون خلفَ واحد، وإنّما أضافه بعد أن كان
مُطْلقًا وعمِل فيه الفعلُ، فإن كان المكانُ مخصوصًا، لم يتعدّ إليه إلّا كما يتعدّى إلى "زيد" و"عمرو". فكما أنّ الفعل اللازم لا يتعدّى إلى مفعول يه إلّا بحرف جرّ، كذلك لا يتعدّى إلى ظرفٍ من الأمكنة مخصوصٍ إلّا بحرف جرّ، نحو و"قفتُ في الدار"، و"قمتُ في المسجد"، و"جلستُ في مكة"، لأنّ الفعل لا يدلّ على أنّه في الدار. والمسجد أو مكّة، فلم يجز أن يتعدّى إليه بنفسه. فأمّا قولهم: "دخلتُ البيتَ"، و"ذهبتُ الشّامَ" فهو شاذٌّ، وجوازه على إرادة حرف الجرّ نحو قوله [من البسيط]: 253 - أمرتُك الخْيْرَ فافَعَلْ ما أُمِرْتَ به ... [فقَدْ تركْتُكَ ذا مالٍ وذا نَشَبِ] والمراد: أمرتُك بالخير، إلّا أن "دَخَلْتُ" مختلَفٌ في كونه متعدّيًا بنفسه أو غيرَ متعدّ، فقال قَوْمٌ هو غيرُ متعدّ لأُمور، منها أنّ مصدره على "فُعُولٍ" نحو"الدُّخول". و"فُعُولٌ" غالبٌ في الأفعال غير المتعدّية، نحو: "الخُروج"، و"القُعود"، ولأن نظيره ¬
ونقيضَه كذلك، فنظير "دخلتُ": "عَبَرْتُ"، ونقيضُه "خرجت"، وكِلاهما لازمٌ غيرُ متعدّ، فحُكم عليه باللُّزوم، لذلك قالوا: وإنّما قيل: "دخلت البيت" على تقدير حرف الجرّ، ثمّ حذف لكثرة الاستعمال. وقال أبو العباس: هو من الأفعال التي تتعدّى تارةً بأنفسها، وتارةً بحرف الجرّ، نحو: "نصحتُ زيدًا"، و"نصحت لزيد"، و"شكرتُه"، و"شكرت له". فكذلك قلتَ: "دخلتُ الدارَ"، و"دَخَلْتُ فيها" وهو الصواب، لأنّه لو كان على تقدير حرف الجرّ لاختصّ مكانًا واحدًا كثُر استعمالُه فيه، كما كان "ذهبتُ" مقصورةً على الشام، فلمّا كان "دخلت" شائعًا في سائر الأمكِنة، دلّ على صحةِ مذهبِ أبي العبّاس، وأمّا "ذهبت" فمتّفَقٌ على كونه غيرَ متعدّ بنفسه، وقد حُذف منه حرفُ الجرّ. واعلم أنّ ظرف المكان على ضربَيْن أيضًا: متصرِّفٌ، وغيرُ متصرّف، فالمتصرّفُ منه ما جاز رفعُه وخفضُه، ودخلته الألفُ واللام، نحو: خَلْفٍ، وقُدّامٍ، وفَوْقٍ، وتَحْتٍ، ومكانٍ، وموضع، فهذه كلُّها متصرّفةٌ. تقول: "قدّامُك فضاءٌ"، و"خَلْفُك واسعٌ"، قال الشاعر [من الكامل]: 254 - فَغَدَتْ كِلا الفَرْجَيْن تَحْسَبُ أنّه ... مَوْلَى المَخافَةِ خَلْفُها وأَمامُها ¬
فرفع "خَلْفُها"، و"أمامُها" لأنّه بَدَلٌ من مولى المخافة. وغيرُ المتصرّف نحو: "عِنْدَ"، و"سِوَى" إذا كان بمعنى "غَيْرَ"، فهذه لا تدخلها لامُ المعرفة، ولا يجوز رفعُها، فأمّا "عِنْدَ" فلا يدخلها من حروف الجرّ سوى "مِنْ" وحدها، وذلك لكثرة دَوْرِ "مِنْ"، وسَعَةِ مواضعها، وعُمومِ تصرُّفها. فتقول: "جئتُ من عِنْدِه"، ولا تقول "جئتُ إلى عنده" لعَدَمِ تصرُّفِ "إلى". وأمّا "سِوَى" فلا يجوز فيها إلّا النصبُ على الظرف، والذي يدلّ على أنّها ظرفٌ أنّها تقع صلةً للموصول، فتقول: "جاءني مَنْ سِواك"، ولا يحسن: "جاءني من غيرك"، وأيضًا فإنّ العامل قد يتخطّاها ويعمل فيما بعدها، نحو قوله [من مجزوء الكامل]: 255 - [وابذلْ سوامَ المال] إنْـ ... نَ سِواءَها دُهْمًا وجُونا وهذا المعنى لا يكون إلّا في الظرف، وقد دخلها حرفُ الجرُ شاذًّا. قال [من الطويل]: 256 - [تجانَفُ عن جَوِّ اليمامةِ ناقتي] ... وما قَصَدْت من أَهْلِها لسوائكَا ¬
فصل [مجيء الظرف مصدرا]
كأنّه حملها للضرورة على "غَيْرٍ"، ومعناها المكانُ، فاعرفه. فصل [مجيء الظرف مصدرًا] قال صاحب الكتاب: "وقد يجعل المصدر حيناً لسعة الكلام, فيقال: "كان ذلك مقدم الحاج، وخفوق النجم، وخلافة فلان، وصلاة العصر", ومنه "سير عليه ترويحتين"، و"انتظر به نحر جزورين"، وقوله تعالى: {وإدبار النجوم} (¬1). * * * قال الشارح: اعلم أنّهم قد جعلوا المصادر أحيانًا أوقاتًا توسُّعًا، وذلك نحو: "خُفوقَ النجم"، بمعنى مَغِيبه، و"خلافةَ فلان"، و"صلاة العصر". فالخلافةُ، والصلاةُ مصدران في الحقيقة، جُعلا حينًا توسُّعًا وإيجازًا. فالتوسُّعُ بجَعْلِ المصدر حينًا، وليس من أسماء الزمان، والإيجازُ الاختصارُ بحذفِ المضاف، إذ التقدير في قولك: "فعلتُه خُفوقَ النجم، وصلاة العصر": وقتَ خفوق النجم، ووقتَ صلاة العصر، فحُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مُقامَه، واختصّ هذا التوسّعُ بالأحداث، لأنّها منقضِيةٌ كالأزمنة، وليست ثابتةً كالأعيان. فجاز جعلُ وُجودها وانقضائها أوقاتًا للأفعال، وظروفًا لها كأسماء الزمان. قال سيبويه (¬2): وليس ذلك بأبْعَدَ من قولهم: "وُلد له سِتّون عامًا". يعني أنّ حذفَ الوقت من "مقدم الحاجّ" و"خفوق النجم"، وإقامةَ المضاف إليه مقامَه ليس بأبعد من قولهم: "وُلد له سِتّون عامًا"، إذ التقديرُ: وُلد له الأوْلادُ في ستّين عامًا، فحُذفت "الأولاد"، و"في"، فالمحذوفُ شيئان. والمحذوفُ في قولك: "خفوق النجم" شيءٌ واحدٌ، وهو زمانٌ أو وَقْتٌ، إلّا أنّ الصيغة تقتضي في "وُلد له ستّون عامًا" أن يكون التقدير: وُلد له أولادُ ستّين عامًا، ثمّ حُذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه، وجُعل "الأولاد" للأَعْوام مجازًا، إذ كانت فيها، كما يقال: "لَيْلٌ نائمٌ، ونهارٌ صائمٌ" لأنّ النَّوْمَ في الليل، والصَّوْم في النهار. ومن ذلك: "سِيَر عليه تَرْوِيحتَيْن"، و"انْتُظر به نَحْرَ جَزُورَيْن"، يريد زَمَنَ ¬
فصل [خروج الظرف عن الظرفية]
ترويحتَيْن، و"زمنَ نحرِ جزوَرْين"، والمرادُ مُدَّةَ هذا الزمنِ. و"الترويحتين": تثنيةُ "الترويحة" واحدة التراوِيح في الصلاة. يقال: "صلى ترويحتَيْن"، و"صلّى خَمْسَ ترويحاتٍ"، وهي أزمنةٌ مُوَقَّتةٌ تقع في جوابِ "مَتَى" من حيثُ هي موقَّتة، فيقال: "متى سِيَر عليه"؟ فيقال: "خفوقَ النجم، ومقدم الحاجّ، وصلاة العصر". وتقع في جواب "كَمْ" من حيث كانت مُدَّة معلومةً، فإذا قيل كم سير عليه"؟ جاز أن يكون جوابه: مقدمُ الحاجّ، وخلافةُ فلان، إن شئت رفعتَه بفعل ما لم يسمَّ فاعله، وإن شئت نصبته على الظرف. كلُّ ذلك عربىٌّ جيّدٌ، وقد تقدّم علّةُ ذلك. فأمّا قوله تعالى: {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} (¬1) قُرىء بكسر الهمزة وفتحِها (¬2)، فمن كسر كانت مصدرًا، جُعل حينًا توسُّعًا، فهو من باب "خفوق النجم"، و"مقدمَ الحاجّ"، ومَن فتح الهمزة كان جمعَ "دُبْرٍ" على حدّ "قُفلٍ"، و"أقْفالٍ"، أو"دُبُرٍ" على حدّ "طُنُبٍ"، و"أَطْنابٍ"، وقد استُعمل ذلك ظرفًا، كقولك: "جئتُك في دُبْرِ كل صلاةٍ، وفي أدْبارِ الصلوات". قال الشاعر [من الطويل]: 257 - على دُبُرِ الشَّهْرِ الحَرَامِ بأَرْضِنَا ... وما حَوْلَها جَدَّتْ سِنُونَ تُلَمِّعُ فقراءةُ مَن كسر الهمزةَ أدْخلُ في الظرفيّة من قراءةِ مَن فتح. ولذلك يَقِلّ ظهورُ "في" مع المكسورة بخِلافِ مَن فتح. فصل [خروج الظرف عن الظرفية] قال صاحب الكتاب: "وقد يذهب بالظرف عن أن يقدر فيه معنى "في" اتساعاً، ¬
فيجرى لذلك مجرى المفعول به، فيقال: "الذي سرته يوم الجمعة", وقال [من الطويل]: 258 - ويومٍ شهدناه سليماً وعامراً ... [قليلٍ سوى الطعن النهال نوافله] ويضاف إليه كقولك [من الرجز]: 259 - يا سارق الليلة أهل الدار وقوله تعالى: {بل مكر الليل والنهار} (¬1). ولولا الإتساع, لقيل: سرت فيه وشهدنا فيه". * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا: إنَّ الظرف ما كان منتصِبًا على تقديرِ "في"، وذلك لأنّ ¬
الظرفية معنّى زائدٌ على الاسم، فعُلم أنّ ثمَّ حرفًا أفادَه، وليس ثمَّ حرفٌ هذا معناه سوى "في"، فلذلك قيل: إنّها مقدَّرةٌ مرادةٌ. فإذا قلت: "صُمْتُ اليومَ"، و"جلستُ خَلْفَك"، جاز أن يكون انتصابُه على الظرف على تقدير "في"، وجاز أن يكون مفعولًا على السِّعَة. فإذا جعلتَه ظرفًا على تقديرِ "صُمْتُ في اليوم"، و"جلستُ في خَلْفِك"، فتقديرُ وصول الفعل إلى الاسم بتوسُّط الحرف الذي هو "في"، فأنت تَنْوِيها وإن لم تلفظ بها. وإذا جعلته مفعولًا به على السعة، فأنت غيرُ ناوٍ لـ "في"، بل تقدِّر الفعلَ وقع باليوم، كما يقع "ضربتُ" بـ "زيد"، إذا قلت: "ضربت زيدًا" وهو مجازٌ, لأنّ الصوم لا يُؤثّر في اليوم كما يؤثّر الضربُ في زيد. فاللفظُ على "ضربتُ زيدًا" والمعنى إنّما هو "في اليوم"، و"في خَلْفك". ولا يخرج عن معنى الظرفيّة، ولذلك يتعدّى إليه الفعلُ اللازمُ، نحو: "قام زيدٌ اليومَ"، والمُنْتَهِي في التعدّي، نحو: "ضربتُ زيدًا اليومَ"، و"أعطيتُ زيدًا درهمًا الساعة". ألا ترى أنّ "ضربتُ" إنما يتعدّى إلى مفعول واحد، و"أعطيتُ" يتعدّى إلى مفعولَيْن لا غيرُ، فلولا بقاء معنى الظرفيّة ما جاز تعدّي اللازم، والمنتهي في التعدّي، لأنّ المنتهي كاللازم. ولا يكون هذا الاتّساع إلّا في الظروف المتمكِّنة، وهي ما جاز رفعُها، نحو: اليوم، والليلة، ونحوهما من الأزمنة، وخَلْفٍ، وقُدّامٍ وشِبْهِهما من الأمكنة؛ فأمّا غيرُ المتمكّنة نحو "سَحَرَ"، و"بُكْرَةَ" إذا أُريد بهما من يومٍ بعينه، و"عِنْدَ"، و"سِوَى"، ونحوهما ممّا تقدّم وصفُه، فإنّه لا يجوز فيها الاتّساعُ، فإذا قلتَ: "قمتُ سَحَرَ"، و"صلّيتُ عندَ محمّدٍ" لم يكن في نصبهما إلّا وجهٌ واحدٌ، وهو الظرفيّةُ. وفائدةُ هذا الاتّساع تظهر في موضعَيْن: أحدهما أنّك إذا كَنَيْت عنه، وهو ظرفٌ، لم يكن بُدٌّ من ظهورِ "في" مع مضمره، تقول: "اليوم قمتُ فيه"، لأنّ الإضمار يرُدّ الأشياء إلى أُصولها، وإن اعتقدت أنّه مفعولٌ به على السعة، لم تظهر "في" معه، لأنّها لم تكن مَنْوِيّةً مع الظاهر، فتقول: "اليومُ قُمْتُهُ"، و"الذي سِرْتُهُ يومُ الجُمْعة". فأمّا قول الشاعر - وهو رجلٌ من بني عامرٍ [من الطويل]: وَيوْمٍ شَهِدْناهُ سُلَيْمًا وعامِرًا ... قَلِيلٍ سِوَى الطَّعْنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ فالشاهد فيه أنّه لم يُظْهِر "في" حينَ أضْمَرَهُ، لأنّه جَعَلَهُ مفعولًا به مجازًا، ولو جعله ظرفًا على أصله، لقال: "شهدنا فيه". وسُلَيْمٌ، وعامِرٌ: قبيلتان من قَيْس بن عَيْلانَ. والنوافلُ هنا: الغنائمُ. يقول: لم نَغْنَمْ إلّا النفوسَ بما أوليناهم من كثرةِ الطَّعْن. والنِّهالُ: المُرْتَوِيَةُ بالدم. وأصلُ النَّهَل: أوّلُ الشُّرْب. والثاني أنّك إذا جعلته مفعولًا به على السعة جازت الإضافةُ إليه من ذلك قولهم [من الرجز]: يا سارِقَ الليلةِ أهلَ الدار
أضافوا اسم الفاعل إلى الليلة كما تقول: "يا ضاربَ زيدٍ" فإذا أضفت لا يكون إلّا مفعولًا على السعة، وإذا قلت: "سَرَقَ عبدُ الله الليلةَ أهلَ الدار" جاز أن يكون ظرفًا، وجاز أن يكون مفعولًا على السعة. ومنه قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬1)، فـ "يوم الدين" ظرفٌ جُعل مفعولًا على السعة، ولذلك أُضيف إليه. ومثله قول الشاعر [من الرجز]: 260 - رُبَّ ابنِ عَمّ لسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ ... طَبّاخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ جعله مفعولًا به حين أضاف إليه، ورُبّما نصبوا هنا الظرفَ وخفضوا الزاد، ويفصِلون بين المضاف، والمضاف إليه بالظرف على حدّ قوله [من السريع]: لِلَّهِ دَرُّ اليومَ مَن لامَها (¬2) وهذا الفصل إنّما يحسُن في الشعر، وهو قبيحٌ في الكلام - وأمّا قوله تعالى: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} (¬3)، فإنّه أضاف المصدر إليهما، ويحتمِل ذلك أمرَيْن: أحدُهما أن يكون على إضافة المصدر إلى المفعول على حدّ قوله تعالى: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} (¬4). والمعنى: بسُؤاله نعجتك، فيكون التقدير: بل مكركم الليلَ والنهار، جعلهما مفعولَيْن على السعة، ثمّ أضاف إليهما. والأمر الثاني أن يكون جَعَلَ المكرَ لهما، لأنّه يكون فيهما كما يقال: "لَيْلٌ نائمٌ، ونهارٌ صائمٌ". جُعل ذلك لهما لحدوثه فيهما، فيكون ¬
فصل [حذف عامله]
حينئذٍ من قبيلِ إضافةِ المصدر إلى الفاعل، نحو قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} (¬1) ونحو قوله [من الكامل]: طَلَبَ المعقِّب حَقَّهُ المَظْلومُ (¬2) وإنّما امتنعت الإضافةُ إلى الظرف، لأنّ معنى الظرف ما كانت فيه "في" مقدَّرةٌ محذوفةً، فإذا صرّحنا بـ "فِي"، أو بغيرها من حروف الجرّ، فقد زال عن ذلك المنهاج. وإذا أضفنا إليه، فقد صارت الإضافة بمنزلةِ حروف الجرّ، فخرج من أن يكون ظرفًا فاعرفه. فصل [حذف عامله] قال صاحب الكتاب: "وينصب بعامل مضمر, كقولك في جواب من يقول لك: "متى سرت": "يوم الجمعة", وفي المثل السائر: "أسائر اليوم وقد زال الظهر" (¬3). ومنه قولهم لمن ذكر أمراً قد تقادم زمانه: "حينئذٍ الآن"، أي كان ذلك حينئذٍ, واسمع الآن. ويضمر عامله على شريطة التفسير كما صنع في المفعول به, تقول: "اليوم سرت فيه", و"أيوم الجمعة ينطلق فيه عبد الله" مقدراً: "سرت اليوم", و"أينطلق يوم الجمعة"". * * * قال الشارح: لمّا كان الظرف أحد المفعولات كان حُكْمُه حكمَ المفعول، فكما أنّ المفعول به ينتصب بعامل مضمر لدلالة قَرِينة حاليّةٍ، أو لفظيّةٍ على ما مضى شَرْحُه، فكذلك الظرفُ قد يُضمَر عامله إذا دلّ الدليلُ عليه. فمن ذلك قولك في جوابِ من قال لك: "متى سِرْتَ "؟ فتقول: "يومَ الجمعة"، وذلك أنّ "مَتَى" ظرفٌ في موضع نصب بـ "سِرْتَ"، فوَجَبَ أن يكون الجوابُ منصوبًا إذا اختِير أن يكون الجوابُ على حدّ السؤال. ولا يكون منصوبًا بـ "سِرْتُ" هذه الظاهرةِ، لأنّها قد اشتغلت بـ "مَتَى"، ولا يكون للفعل الواحد ظَرْفَا زمان، فوجب أن يكون منصوبًا بـ "سِرْتَ" أُخرى مَنْويّةٍ دلّ عليها هذا الظاهر. والتقديرُ: سرتُ يومَ الجمعة. ولو أُظهر لكان عربيًّا جيّدًا، وحذفه حسنٌ لِما في اللفظ من الدليل عليه، وصار بمنزلة قولك: "من عندك؟ " فإن شئتَ قلت: "زيدٌ"، ولم تأتِ بالخبر لدليلِ ما في السُّؤال عليه، وإن شئت أتيت به، وقلت: "زيدٌ عندي". فكذلك ها هنا، ومن ذلك قولُهم في المَثَل السائر: "أسائرَ اليومِ وقد زال الظُهُرْ". ¬
هذا المثل يُضرب لمن يَرْجُو نَجاحَ طَلبَتِه، وتَبيَّن له اليَأْسُ منها. والمرادُ أنّك تَسير سائرَ اليومِ، أي باقِي اليوم، مأخوذٌ من "السُّؤْر"، وهو البَقِيّةُ، ومنه الحديث: "إذا شرِبتم، فأسْئروا" (¬1)، أي: اتركُوا في الإناء بقيّةً، هكذا ذكره الفارابيُّ. ومن ذلك قولُهم: "حينئذٍ الآن"، فـ "حِين" ظرفٌ أُضيف إلى "إذ". وفيه لغتان: منهم من يَبْنِيه على الفتح، لإضافته إلى غيرِ متمكّن. ومنهم من يُعْربُه على الأصل، والتنوينُ فيه تنوينُ عِوَضٍ من الجملة التي حَقُّ "إذ" أن تُضاف إليها. و"الآن" ظرفٌ أيضًا، ولا بدّ لكلّ واحد منهما من عاملٍ، ولا عامِلَ في اللفظ، فكانا مقدَّرَيْن في النيّة. والتقديرُ: كان هذا حينئذٍ، واسْمَعِ الآنَ إليّ، كأنّ رجلاً سمِع آخَرَ يذكُر شيئًا في زمنٍ ماضٍ، لا يُهِمُّ، ولا يَعْنِي، فأراد أن يصرِفه عن ذلك، ويخاطِبه على ما يَعْنِيه، فقال: "حينئذٍ الآن"، كأنّه قال: "الذي تذكُر كان حينئذ، واسْمَعْ إليّ الآنَ". فـ "كان" تامّةٌ، وهي عاملة في "حينئذ"، و"اسمعْ" عاملٌ في "الآن"، ولا تكون "كان" عاملةً فيهما، لأن الفعل الواحد لا يكون له ظرفا زمانٍ. وقد شَبَّهَه سيبويه (¬2) بقولهم: "تَاللَّهِ رجلًا"، والمراد: ما رأيتُ رجلًا كرجلٍ أراه اليومَ، فأضافوا "الرجلَ" المرئيَّ إلى اليوم، فصار لفظُه كرجل اليوم، ثم حذفوا المضاف، وأقاموا المضاف إليه مُقامه وممّا حُذف فيه عاملُ الظرف إذا شغلتَ الفعل عنه بضميره، نحو قولهم: "اليومَ سِرْتُ فيه"، و"أيومَ الجمعةِ ينطلق فيه عبدُ الله". والتقدير: سرتُ اليومَ سرتُ فيه، وأينطلق عبدُ الله يومَ الجمعة ينطلق فيه، لمّا شغلتَ الفعل عنه بضميره؛ لم يَصِل إلى هذا الظاهر، فأضمرتَ ناصبًا، صار هذا الفعلُ تفسيرًا له كما تقول: "زيدًا ضربتُه". فإذا كان الظرف متمكّنًا - وقد تقدّم وصفُ المتمكن- كان لك في نصبه وجهان على ما تقدّم: أحدهما أن تنصبه من طريق الظرف، وتنوي "في" مقدَّرة، والآخرُ أن تنصبه ولا تنوي "في". وهذا هو المفعول على سَعَة الكلام. وإذا شغلت الفعل عنه وقد قدّرته تقدير الظرف، قلت: "يومَ الجمعة قمتُ فيه". وإن كان بتقدير المفعول قلت: "قُمْتُهُ" من غيرِ "في". ومنه قول الشاعر [من الطويل]: ويَوْمٍ شَهِدْناهُ (¬3) والرفع جائزٌ، نحو "يومُ الجمعة القِتالُ فيه"، و"اليومُ سرتُ فيه"، واختِيرَ الرفع، والنصب هنا كاختياره في "زيدٌ ضربتُه". فكلُّ موضع يختار فيه الرفعُ هناك يختار فيه الرفع ها هنا. وكلُّ موضع يختار فيه النصب هناك يختار فيه النصب ها هنا، فاعرفه. ¬
المفعول معه
المفعول معه فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: "وهو المنصوب بعد الواو الكائنة بمعنى "مع". وإنما ينتصب إذا تضمن الكلام فعلاً ,نحو قولك: "ما صنعت وأباك"، و"ما زلت أسير والنيل" ومن أبيات الكتاب [من الوافر]: 261 - فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكُليتين من الطحال ومنه قوله عزّ وجلّ "فأجمعوا أمركم وشركاءكم" (¬1)؛ أو ما هو بمعناه نحو قولك: "ما لك وزيداً"، و"ما شأنك وعمراً"، لأن المعنى ما تصنع وما تلابس, وكذلك "حسبك ¬
وزيداً درهمٌ" و"قطك", و"كفيك" مثله, لأنها بمعنى "كفاك". قال [من الوافر]: 262 - فما لك والتلدد حول نجدٍ ... [وقد غصَّت تهامة بالرجال] وقال [من الطويل]: 263 - إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا] ... فحسبك والضحاك سيف مهند * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ المفعول معه لا يكون إلّا بعد الواو، ولا يكون إلّا بعد فعلٍ لازم، أو مُنْتَهٍ في التعدّي، نحو قولك: "ما صنعت وأباك"، و"ما زلتُ أسيرُ والنيلَ"، و"لو تُرِكَتِ الناقةُ وفَصِيلَها لرضَعَها"، وإنّما افتقرتَ إلى الواو لضُعْف الأفعال قبل الواو عن وُصولها إلى ما بعدها، كما ضعُفت قبل حروف الجرّ عن مباشرتها الأسماء، ونصبِها إيّاها، فكما جاؤوا بحروف الجرّ تَقْوِيَةً لِما قبلها من الأفعال لضُعْفها عن مباشرةِ الأسماء بأنفسها عُرْفًا واستعمالًا، فكذلك جاؤوا بالواو تقويةً لِما قبلها من الفعل، فإذا قلت: "اسْتَوَى الماءُ والخَشَبَةَ"، و"جاء البَرْدُ والطَيالِسَةَ"، فالأصلُ: استوى الماءُ مع الخشبةِ، وجاء البردُ مع الطيالسة، وكانت الواوُ، و"مَعَ" يتقارب مَعْنياهما. وذلك أنّ معنى "مَعَ" الاجتماعُ والانضمامُ. والواوُ تجمَع ما قبلها مع ما بعدها، وتضُمّه إليه، فأقاموا الواو مُقامَ "مَعَ" لأنّها أخَفُّ لفظًا، وتُعطي معناها. ولم تكن الواو اسمًا يعمل فيه الفعلُ كما عمِل في "مَعَ" النصبَ، فانتقل العملُ إلى ما بعد الواو كما صنعتَ في الاستثناء. ألا ترى أنّك إذا استثنيتَ باسمٍ أثَّرَ فيه الفعل، نحو: "قامَ القَوْمُ غيرَ زيدٍ"، نصبتَ "غيرًا" بالفعل قبله، لأنّه اسمٌ يعمل فيه العامل. فإذا جئت بـ "إلّا"، وقلت: "قام القومُ إلّا، زيدًا" انتقل العملُ إلى ما بعدَ "إلّا" لأنّ "إلّا" حرفٌ لا يعمل فيه العاملُ. فإن قيل: هلّا خفضتم ما بعد الواو، إذ الدليلُ يقتضي ذلك لوجهَيْن: أحدهما أنّها مُوصِلةٌ للفعل قبلها إلى الاسم الذي بعدها كإيصال حروف الجرّ، الثاني أنّها نائبةٌ عن "مَعَ"، و"مَعَ" خافضةٌ، فكان ينبغي أن تكون خافضةً أيضًا. فالجوابُ أنّ الواو هنا تُفارِق ما ذكرتم. وذلك أنّ الواو في المفعول معه من نحو "قمت وزيدًا" جاريةٌ هنا مجرَى حروف العطف، والذي يدلّ على ذلك أنّ العرب لم تستعملها قطّ بمعنى "مَعَ" إلّا في الموضع الذي لو استُعملتْ فيه عاطفةً لجاز. ألا ترى أنّك إذا قلت: "قمتُ وزيدًا"، لم يمتنع أن تقول: "قمت وزيدٌ"، فتعطفَه على ضمير الفاعل. وكذلك إذا قلت: "لو تُركت الناقةُ وفصيلَها لَرضعها". لو رفعتَ "الفصيل" بالعطف على "الناقة" لجاز. ولو قلت: "انتظرتُك، وطُلوعَ الشمس" أي: مع طلوع الشمس، لم يجز عند أحد من النحويين والعرب. وإنّما لم يجز ذلك عندهم، لأنّك لو رُمْتَ أن تجعلها عاطفةً على التاء لم يجز، لأنّ الشمس لا يسوغ فيها انتظارُ أحد، كما يسوغ "في قمتُ وزيدًا": "قمتُ وزيدٌ"، فتعطف "زيدًا"، على التاء، لأنه يجوز من زيد القيامُ كما يجوز من المتكلّم. ¬
ويؤيّد عندك كَوْنَ الواو في مذهب العاطفة، وإن كانت بمعنى "مَعَ"، أنّه لا يجوز تقديمُ المفعول معه على الفعل، كما يجوز في غيره من المفعولين، وفي "مَعَ" إذا أتيتَ بها. وإذا كانت في مذهبِ العاطفة لم يجز أن تعمل جرًّا، ولا غيرَه، لأنّ حروف العطف لا اختصاصَ لها بالأسماء دون الأفعال، بل تُباشِر الأفعالَ مباشرتَها الأسماء. والحروف التي تباشر الأسماء، والأفعال لم يجز أن تكون عاملةً، إذ العامل لا يكون إلّا مختصًّا بما يعمل فيه. وإذا لم يجز أن تعمل الواو شيئًا، كان ما بعدها منصوبًا بالفعل الذي قبلها، هذا مذهبُ سيبويه (¬1). وكان أبو الحسن الأخفش يذهب في المفعول معه إلى أنّه منصوبٌ انتصابَ الظرف، قال: وذلك أنّ الواو في قولك: "قمت وزيدًا" واقعةٌ موقعَ "مَعَ"، فكأنّك قلت: "قمت مع زيد"، فلمّا حذفتَ "مَعَ" وقد كانت منصوبةً على الظرف، ثمّ أقمت الواوَ مُقامَها، انتصب "زيدٌ" بعدها على حدِّ انتصابِ "مَعَ" الواقعةِ الواوُ موقعَها، وقد كانت "مَعَ" منصوبة بنفسِ "قُمْتُ" بلا واسطةٍ، فكذلك يكون انتصابُ زيد بعد الواو جاريًا مجرَى انتصاب الظروف. والظروفُ ممّا تَتناولها الأفعالُ بلا وساطةِ حرف، لأنّها مقدَّرةٌ بحرف الجرّ، فإذا الواو ليست مُوصِلةً للفعل إلى زيد على مذهبه كما يقول سيبويه وأصحابُنا (¬2)، وإنّما هي مُصْلِحةٌ لزيد أن يُنصب على الظرف بتوسُّطها، وكان الزجّاج يقول: إنّك إذا قلت: "ما صنعتَ وزيدًا" إنّما تنصب "زيدًا" بإضمارِ فعل كأنّه قال: "ما صنعتَ ولابستَ زيدًا" قال: وذلك من أجلِ أنّه لا يعمل الفعلُ في مفعولٍ، وبينهما الواوُ. وذهب الكوفيون (¬3) في المفعول معه إلى أنّه منصوبٌ على الخلاف، قالوا: وذلك أنّا إذا قلنا: "استوى الماء والخَشَبَة" لا يحسن تكريرُ الفعل، فيقال: "استوى الماءُ واستوتِ الخشبةُ"، لأنّ الخشبة لا تكون مُعْوَجَّة، فتستوِيَ. فلمّا خالَفَهُ ولم يُشارِكه في الفعل، نُصب على الخلاف، قالوا: وهذه قاعدتُنا في الظرف، نحو قولك: "زيدٌ عندك". والصواب ما ذهب إليه سيبويه من أنّ العامل الفعلُ الأوّلُ، لأنّه وإن لم يكن متعدّيًا، فقد قُوّيَ بالواو النائبة عن "مَعَ"، فتَعدَّى كما تعدّى الفعلُ المقوَّى بحرف الجرّ، نحو: "مررتُ بزيد"، إلّا أنّ الواو لا تعمل لِما ذكرناه من أنّها في مذهب العطف، وذلك لأنّها في الأصل عاطفةٌ، والعاطفةُ فيها معنيان: العطفُ، والجمعُ. فلمّا وُضعتْ موضعَ "مَعَ"، خُلعتْ عنها دلالةُ العطف، وبقيت دلالة الجمع فيها، كما أنّ فاء العطف فيها معنى العطف والإتباع، فهذا وقعت في جواب الشرط، خُلع عنها دلالة العطف، وبقي معنى الإتباع. ¬
وأمّا ما ذهب إليه أبو الحسن من أنّ ما بعد الواو منتصبٌ على الظرف، فضعيفٌ، لأنّ قولك: "استوى الماءُ والخشبةَ"، و"سرتُ والنيلَ"، و"كنتُ وزيدًا كالأخَوَيْن" ليست الأسماء فيها ظروفًا، فلا تنتصب انتصابَها. وأمّا ما ذهب إليه الزجّاجُ من أنّه منصوبٌ بإضمار فعل، فهو ضعيفٌ، لا يُحمَل عليه ما وُجد عنه مندوحةٌ. وقوله: الفعل لا يعمل في مفعولٍ، وبينهما الواو، فهو فاسدٌ لأنّ الفعل يعمل في المفعول على الوجه الذي يتعلّق به. فإن كان يفتقر إلى توسُّط حرف عمِل مع وجوده. وإن كان لا يفتقر إلى ذلك، عمل مع عدمه. وقد بَيَّنَّا أن المفعول معه قد تَعلَّق بالفعل من جهة المعنى بتوسُّط الواو، فينبغي أن يعمل مع وجودها. ألا ترى أنّك تقول: "ضربتُ زيدًا وعمرًا" فيعمل الفعل في "عمرو" بتوسُّط الواو لما اقتضاه المعنى؟ كذلك ها هنا. وأمّا ما ذهب إليه الكوفيون فضعيفٌ جدًّا؛ لأنّه لو جاز نصبُ الثاني، لأنّه مخالفٌ للأوّل، لجاز نصبُ الأوّل أيضًا لأنّه مخالفٌ؛ لأنّ الثاني إذا خالَفَ الأوّلَ؛ فقد خالف الأوّلُ الثانيَ. فليس نصبُ الثاني للمخالفة أوْلى من نصب الأوّل. ثمّ هو باطلٌ بالعطف الذي يخالف فيه الثاني الأوّل، نحو قولك: "قام زيدٌ لا عمروٌ" ونظائرِ ذلك، فلو كان ما ذكروه من المخالفة لازمًا، لم يكن ما بعد "لَا" في العطف إلّا منصوبًا. فإن قيل: نحن متى عطفنا اسمًا على اسم بالواو، دخل الثاني في حكم الأوّل، واشتركا في المعنى، فكانت الواوُ بمعنى "مَعَ"، فلِمَ اختصصتم هذا البابَ بمعنى "مَعَ"، قيل: الفرق بين العطف بالواو وهذا الباب أنّ الواو التي للعطف تُوجِب الاشتراكَ في الفعل، وليس كذلك الواوُ التي بمعنى "مَعَ"؛ لأنّها توجب المصاحبةَ. فإذا عطفتَ بالواو شيئًا على شيء، دخل في معناه، ولا تُوجِبُ بين المعطوف والمعطوف إليه ملابسةً ومقارنةً، كقولك: "قام زيدٌ وعمرٌو"، فليس أحدُهما مُلابِسًا للآخر، ولا مُصاحِبًا له. وإذا قلت: "ما صنعتَ وأباك"، فإنّما تريد: ما صنعت مع أبيك، وأَيْنَ بلغتَ فيما فعلتَه، وفَعَلَ بك. وإذا قلت: "استوى الماء والخشبة"، و"ما زِلتُ أسيرُ والنيلَ"، يُفهَم منه المصاحبةُ والمقارنةُ، فأمّا قول الشاعر [من الوافر]: وكُونوا أنتمُ وبني أبيكم ... إلخ (¬1) البيتُ من أبيات الكتاب، والشاهدُ فيه نصبُ "بني أبيكم" بالفعل الذي قبلَه، وهو "فكونوا" بوساطةِ الواو، والمرادُ أنّه يحُثّهم على الائتلاف، والتقارب في المَذْهب. وضرب لهم المثلَ بقُرْب الكُلْيَتَيْن من الطحال، أي: لِتكنْ نِسبتكُم إلى بني أبيكم، ونسبةُ بني أبيكم إليكم نسبةَ الكليتين إلى الطحال. وأمّا قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} (¬2)، فإن القُرّاء السبعة أجْمَعوا على قطعِ ¬
الهمزة، وكسرِ الميم. يقال: أَجْمَعْتُ على الأَمْر، وأجمعتُه. فذهب قومٌ إلى أنّه من هذا الباب مفعولٌ معه، وذلك لأنّه لا يجوز أن يُعطَف على ما قبله, لأنّه لا يقال: "أجْمعتُ شُركائي". إنّما يقال: "جمعتُ شركائي"، و"أجمعتُ أمري". فلمّا لم يجز في الواو العطفُ، جعلوها بمنزلةِ "مَعَ"، مثلَ "جاءَ البَرْدُ والطَيالِسةَ"، ويجوز أن تُضمِر للشركاء فعلًا يصِحّ أن يُحمَل عليه الشركاءُ، ويكون تقديرُه: فأَجمِعوا أمركم، واجْمَعوا شركاءكم، كما قال [من مجزوء الكامل]: 264 - يا لَيْتَ زَوْجَكِ قد غَدَا ... متقلِّدًا سَيْفًا ورُمْحَا يريد متقلِّدًا سيفًا، ومعتقِلًا رمْحًا، حَمْله على ما قبله، لأنّه لا يقال: تقلّدتُ الرمحَ كما لا يقال: أجمعتُ الشركاء. وروى الأصمعيُّ عن نافع {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} (¬1) بوَصْل الهمزة، وفتح الميم، فعلى هذه القِراءة يجوز أن يكون "الشركاء" معطوفًا على ما قبله، وأن يكون مفعولًا معه. وأمّا قولهم: "ما لك وزيدًا"، و"ما شأنكُ وعمرًا"، فهو نصبٌ أيضًا. وإنّما نصبوا ها هنا، لأنّه شريكُ الكاف في المعنى، ولا يصِحّ عطفُه عليها، لأنّ الكاف ضميرٌ مخفوضٌ، والعطفُ على الضمير المخفوض لا يصحّ إلّا بإعادة الخافض. ولم يجز رفعُه بالعطف على الشأن، لأنّه ليس شريكًا للشأن، لأنّه لم يُرَد أن يُجمَع بينهما. وإنّما المراد: ما شأنُك، وشأنُ عمرو؟ وقال سيبويه (¬2): فإن أراد ذلك كان مُلْغِزًا، يعني: إن أراد: وما شأنُ عمرو، كان خِلافَ المفهوم من اللفظ، فيكون المتكلّم به مُلْغِزًا. فلمّا لم يجز خفضُه، ولا رفعُه، حُمل الكلام على المعنى، وجُعل: "ما ¬
شأنُك"، و"ما لك" بمنزِلة "ما تصنع"، فصار كأنّك قلت: "ما صنعتَ وزيد". ولزم النصبُ ها هنا، لأنّه قد كان فيما يُمْكِن فيه العطفُ جائزًا، نحو قولك: "ما شأنُ عبدِ الله وزيدًا"، و"ما لزيدٍ وأخاه"، فصار هنا لازمًا، وهو من قبيلِ أَحْسَنِ القَبِيحَيْن، لأنّ الإضمار والحَمْلَ على المعنى فيه ضُعْفٌ مع جوازه، والعطفُ على المضمر المخفوضِ ممتنعٌ، فصار هذا كما لو تقدّمتْ صفةُ النكرة عليها من نحو [من مجزوء الوافر]: 265 - لِمَيَّةَ مُوحِشًا طَلَلٌ ... [يلوحُ كأنَّه خِلَلُ] لأنّ الحال من النكرة ضعيفٌ، وتقديمُ الصفة على الموصوف ممتنعٌ، فحُمل على الجائز، وإن كان ضعيفًا كذلك ها هنا، وأمّا قول الشاعر [من الوافر]: فَمَا لك والتلدُّدَ حَوْلَ نَجْدٍ ... وقد غَصَّتْ تِهامَةُ بالرِجال (¬1) البيت لمِسْكِينٍ الدارِميّ، والشاهدُ فيه نصبُ "التلدّد" بإضمارِ فعل تقديرُه: ما تصنع وتُلابِس التلدّدَ. والمعنى: ما لك تُقِيم بنجدٍ تتردّد فيه مع جَدْبها، وتترُك تُهامةَ مع لَحاقِ الناس بها لخُصْبها. والتلدّد: الذَّهابُ والمَجِيءُ حَيْرَةٌ. ومنه قولهم: "حسبُك وزيدًا درهمٌ"، و"كَفْيُك" و"قَطْك" في معنَى "حَسْبُك"، كلُّه منصوبٌ، لأنّه يقبحُ حملُه على الكاف، لأنّها ضميرٌ مجرورٌ، فحُمل على المعنى، إذ ¬
فصل
المعنى: كَفَاكَ، فكأنّه قال: "كفاك وزيدًا درهمٌ"، و"يُحْسِبُك وزيدًا درهمٌ". قال الشاعر [من الطويل]: إذا كانتِ الهَيْجاءُ وانشَقَّتِ العَصَا ... فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ (¬1) فنصب "الضحّاك" لامتناعِ حَمْله على الضمير المخفوض، وكان معناه: يَكْفيك، ويكفي الضحّاكَ. فصل قال صاحب الكتاب: "وليس لك أن تجره حملاً على المكنى, فإذا جئت بالظاهر كان الجر الاختيار, كقولك: "ما شأن عبد الله وأخيه يشتمه" و"ما شأن قيسٍ والبر تسرقه"، والنصب جائز". * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا: إِنّ الجرّ لا يجوز حملًا على المضمر المجرور، نحوَ قولك: "ما لك وزيدٍ"، و"ما شأنُك وعمرٍو"؛ لأنّ العطف على المضمر المجرور لا يجوز إلّا بإعادة الخافض. ولذلك استضعفوا قِراءةَ حَمْزَة {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (¬2). فحملها قومٌ على إضمار الجارٌ، كأنّه قال: وبالأرحام، ثمّ حذف الباءَ، وهو يريدها على حَدِّ ما رُوي عن رُؤْبَةَ أنّه قيل له: كيف أصبحتَ؟ فقال: "خَيْرٍ عافاك اللَّهُ"، يريد: بخير. وحملها قومٌ على القَسَم، كأنّه أقْسَمَ بالأرحام، لأنّهم كانوا يُعظِّمونها. كل ذلك لتعذُّرِ الحمل على المضمر المجرور، فإن جئتَ باسم ظاهر نحوِ قولك: "ما شأْنُ عبد الله وزيدٍ" و"ما لمحمّدٍ وعمرٍو" جاز الجرُّ والنصبُ، والجرُّ أجْودُ، لأنّه حملٌ على الظاهر، وليس فيه تكلُّفُ إِضمارٍ، ولا عُدولٌ عن الظاهر إلى غيره. والنصب جائزٌ وإن كان مرجوحًا, لأنّ المعنى يُعْطيه، وليس ثَمَّ مانعٌ منه، فاعرفْه مُوَفَّقًا. فصل قال صاحب الكتاب: "وأما في قولك: "ما أنت وعبد الله", و"كيف أنت وقصعةٌ من ثريدٍ"، فالرفع. قال [من الكامل]: [يا زبرقان أخا بني خلفٍ] ... ما أنت ويب أبيك والفخر (¬3) ¬
وقال [من الوافر]: 266 - [وكنت هناك أنت كريم قيسٍ] ... وما القيسيُّ بعدك والفخار إلا عند ناس من العرب ينصبونه على تأويل "ما كنت أنت وعبد الله"، و"كيف تكون أنت وقصعةً من ثريد؟ ". قال سيبويه (¬1): لأن "كنت", و"تكون" تقعان ههنا كثيراً, وهو قليلٌ, ومنه [من المتقارب]: 267 - فما أنا والسير في متلفٍ ... [يُبرح بالذكر الضابط] ¬
وهذا الباب قياس عند بعضهم, وعند الآخرين مقصور على السماع". * * * قال الشارح: أمّا قولك: "ما أنت وزيدٌ" و"كيف أنت وقصعةٌ من ثريدٍ" فالرفعُ ها هنا هو الوجهُ، لأنّه ليس معك فعلٌ ينصِب. ولا يمتنع عطفُه على ما قبله، لأنّ الذي قبله ضميرٌ مرفوعٌ منفصلٌ، والضميرُ المنفصلُ يجري مجرَى الظاهر، فيجوز العطف عليه، فلذلك كان الوجه الرفعَ. ومنه قولُه [من الكامل]: يا زِبْرَقانُ أخَا بَنِي خَلَفِ ... ما أنت وَيْبَ أبيك والفَخْرُ البيت للمُخَبَّل السَّعْدىّ، وبعدَه [من الكامل]: هل أنت إلَّا في بني خَلَفٍ ... كالإسْكَتَيْن عَلاهما البَظْرُ والشاهد فيه رفعُ "الفخر" بالعطف على "أنت" مع ما في الواو من معنَى "مَعَ"، وامتناع النصب منه، إذ ليس قبله فعلٌ يتعدّى إليه، فينصبَه كما كان في الذي قَبْلَه. ومعنَى "وَيْبَ أبيك" التصغيرُ له، والتحقيرِ. وبنو خلف: رَهْطُ الزبرقان بنِ بَدْر، والأذَى إليه من تميم. ويقول: مَن ساد مثلَ قومك، فلا فَخْرَ له في سيادتهم. وشبّههم إذا اجتمعوا حولَه بالبَظْر بين الإسكتين، والإسكتان بكسر الهمزة: جانِبَا الفَرْج، وهما قُذَّتاه. وقول الآخر [من الوافر]: وكنتَ هناك أنت كريمَ قَيْسٍ ... فما القَيْسيُّ بعدَك والفِخارُ الشاهد فيه رفعُ "الفخار" بالعطف على "القيسيّ". يرثي رجلًا من ساداتِ قيس. يقول: كنتَ كريمَها، ومعتمَدَ فَخْرها، فلم يبقَ بعدك فخرٌ. وحكى سيبويه (¬1) في هذَيْن الحرفَيْن النصبَ بإضمارِ "كُنْتَ" و"تَكُونُ"، فيكون التقديرُ: كيف تكون أنت وقصعةً من ثريد؟ وما كنت أنت وزيدًا؟ وحسُن تقديرُ الفعل هنا، لأنّه موضعٌ قد كثُر استعمالُ الفعل فيه. فنظيرُ ذلك قولُ زُهَيْرٍ [من الطويل]: 268 - بَدَا لِيَ أنّي لَسْتُ مُدْرِكَ ما مَضَى ... ولا سابقٍ شَيْئًا إذا كان جاثيَا ¬
وقولُ الأحْوص [من الطويل]: 269 - مَشائيمُ لَيْسُوا مُصلِحين عَشِيرَةً ... ولا ناعِبٍ إلَّا ببَيْنٍ غُرابُها ¬
لمّا كثُر استعمالُ الباء في خبرِ "ليس"، تُوُهّم وجودُها فخفض بالعطف على تقديرِ وجودها، وإن لم تكن موجودة. وإذا جاز إضمارُ حرف الجرّ مع ضُعْفه، فإضمارُ الفعل أوْلى لقُوّته، وكثرةِ استعماله فيه. والرفعُ أجودُ، لأنّه لا إضمارَ فيه. قال: وهو قليلٌ، يعني أنّ النصب قليلٌ لتقديرك وجودَ ما ليس في اللفظ. ومنه قولُ الهُذَليّ [من المتقارب]: فما أنا والسَّيْرَ في مَتْلَفٍ ... يُبَرِّحُ بالذَّكَرِالضابِطِ (¬1) الشاهد فيه نصبُ "السير" بإضمار فعل، كأنّه قال: "فما كنتُ أنا والسيرَ"، أو "فما أكونُ أنا والسيرَ". ولو رفع لكان أجودَ، يقول: ما لي أتجشّمُ المَشاقَّ بالسير في الفَلَوات المُتْلِفة. وأراد بالذكر جَمَلًا، لأنّ الذكر أقوى من الناقة. والضابطُ: القويُّ. والتبريحُ: المَشَقَّةُ. قال أبو الحسن الأخفشُ: قومٌ من النحويين يَقِيسون هذا في كلّ شيء لكثرةِ ما جاء منه، وهو مذهبُ أبي الحسن، ورأيُ أبي عليّ، وقومٌ يقصرونه على السَّماع، لأنّه شيءٌ وقع موقعَ غيره، فلا يُصار إليه إلَّا بسماعٍ من العرب، ويُوقَف عنده. ¬
المفعول له
المفعول له فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: "هو علة الإقدام على الفعل, وهو جواب لـ "مه" (¬1). وذلك قولك: "فعلت كذا مخافة الشر", و"إدخار فلان"، و"ضربته تأديباً"، و"قعدت في الحرب جُبناً"، و"فعلت ذلك أجل كذا". وفي التنزيل {حذر الموت} (¬2) ". * * * قال الشارح: اعلم أن المفعول له لا يكون إلّا مصدرًا، ويكون العاملُ فيه من غير لفظه، وهو الفعلُ الذي قبله، وإنّما يُذكَر عِلّةً وعُذْرًا لوُقوعِ الفعل، وأصلُه أن يكون باللام، وإنّما وجب أن يكون مصدرًا، لأنّه علّةٌ وسببٌ لوقوع الفعل، وداعِ له. والداعي إنّما يكون حَدَثًا لا عَيْنًا، وذلك من قِبَل أنّ الفعل، إمّا أن يجتذِب به فعلٌ آخرُ، كقولك: "احتملتُك لاستدامةِ مَودَّتك"، و"زُرْتُك لابتغاءِ معروفك". فَـ "استدامةُ المودّة" معنًى يُجذَب بالاحتمال، و"ابتغاءُ الرزق" معنًى يُجذَب بالزيارة. وإمّا أن يُدفَع بالفعل الأوّلِ معنًى حاصلٌ، كقولك: "فعلتُ هذا حَذَرَ شَرِّك". فالحذرُ معنًى حاصلٌ يُتوصّل بما قبله من الفعل إلى دَفْعه. والمصادرُ معانٍ تحدُث وتنقضي، فلذلك كانت علّةً بخلافِ العين الثابتة. وإنّما وجب أن يكون العامل فيه من غير لفظه، نحو قولك: "زُرْتُك طَمَعًا في بِرّك"، و"قصدتُك رَجاءً خيرَك". فالطمعُ ليس من لفظِ "زرتك"، والرجاءُ ليس من لفظِ "قصدتك". ولا تقول: "قصدتُك للقصد"، ولا "زرتك للزيارة"، لأنّ المفعول له عِلّةٌ لوجودِ الفعل. والشيءُ لا يكون علّة لنفسه، إنّما يُتوصّل به إلى غيره. وإنّما قلنا: إنّه علّةٌ وعُذْرٌ لوقوع الفعل، لأنّه يقع في جوابِ "لِمَ فعلتَ"، كما يقع الحال في جوابِ "كَيْفَ فعلتَ". وإنّما كان أصله أن يكون باللام، لأنّ اللام معناها العلّةُ، والغَرَضُ، نحوُ: "جئتُك لتُكْرِمَني"، و"سِرْتُ لأدْخُلَ المدينةَ"، أي: الغَرَضُ من مَجِيئِي الإكرامُ، والغرض بالسير دُخولُ المدينة. والمفعولُ له عِلّةُ الفعل، والغرضُ به. والفعلُ يكون لازمًا أو مُنتَهِيًا في التعدّي باللام، وقد تُحذف هذه اللام، فيُقال: "فعلتُ ذاك حِذارَ الشرّ" و"أتيتُك مخافةَ فلانٍ"، وأصلُه: لحذار الشرّ، ولمخافةِ فلان. ¬
فلمّا حُذفت اللام، وكان موضعها نصبًا، تعدّى الفعلُ بنفسه، فنَصَبَ، كما يُقال: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} (¬1)، و"استغفرتُ اللَّهَ ذَنْبًا". فاللام هنا بخلافِ واوِ المفعول معه، فإنّه لا يسوغ حذفُها. لا تقول: "استوى الماءُ الخشبةَ"، وذلك لأنّ دلالةَ الفعل على المفعول له أقوى من دلالته على المفعول معه. وذلك لأنّه لا بدّ لكلّ فعل من مفعولٍ له سواءً ذكرتَه أو لم تذكره، إذ العاقلُ لا يفعل فعلًا إلّا لغرضٍ وعلَّةٍ. وليس كلُّ مَن فعل شيئًا يلزمَه أن يكون له شريكٌ، أو مصاحِبٌ. وقد يُحذف المصدر، ويُكتفى بدلالة اللام على العلّة، فيُقال: "زرتُك لزيدٍ" و"قصدتُك لعمرٍو"، ولا يجوز حذف اللام والمصدرِ معًا، فتقولَ في "قصدتُك لإكرامِ زيد": "قصدتك زيدًا"، وأنت تريد: لزيد، لزَوالِ معنَى العلَّة. وربّما أوْقَعَ في بعض الأماكن لَبْسًا بالمفعول به. ألا ترى أنّك إذا قلت: "جئتُ زيدًا"، وأنت تريد لزيد، التبس بالمفعول به؟ وقوله تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (¬2) فـ "حذرَ الموت" نصبٌ لأنّه مفعولٌ له، وكذلك موضعُ "من الصواعق" نصبٌ على المفعول له، أي: من خوف الصواعق, لأنّ "مِنْ" قد تدخل بمعنى اللام، فتقول: "خرجت من أجْلِ زيدٍ"، "ومن أجْلِ ابتغاءِ الخير"، و"احتملتُ من خوف الشَّرّ". قال الشاعر [من البسيط]: 270 - يُغْضِي حَيَاءً ويُغْضَى من مَهابَتِه ... فلا يُكَلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ ¬
فصل [شروط المفعول له]
فقوله: "مهابته" في موضعِ المفعول له، واسمُ ما لم يُسمَّ فاعله المصدرُ المقدَّرُ، ولا يكون "من مهابته" في موضع اسمِ ما لم يسمّ فاعله, لأنّ المفعول له لا يُقام مُقامَ الفاعل، لئلّا تزول الدلالُة على العلّة فاعرفه. فصل [شروط المفعول له] قال صاحب الكتاب: "وفيه ثلاث شرائط: أن يكون مصدراً، وفعلاً لفاعل الفعل المعلل، ومقارناً له في الوجود. فإن فقد شيءٌ منها فاللام, كقولك: "جئتك للسمن واللبن, ولإكرامك الزائر"، وخرجت اليوم لمخاصمتك زيداً أمس"". * * * قال الشارح: اعلم أنّه لا بدّ لكلّ مفعول له من إجتماع هذه الشرائط الثلاث: أمّا كَوْنُه مصدرًا، فقد تقدّم الكلام عليه لِمَ كان مصدرًا. وأمّا اشتراطُ كونه فعلاً لفاعلِ الفعل المعلَّل، فلأنَّه علّةٌ وعُذْرٌ لوجود الفعل، والعلّةُ معنًى يتضمّنه ذلك الفعلُ، وإِذا كان متضمِّنًا له، صار كالجُزْء منه، يقتضي وجودُه وجودَه. فإذا كان ذلك كذلك، فإذا فَعَلَ الفاعلُ هذا، فقد فَعَلَ ذاكَ، نحوَ: "ضربتُه تقويمًا له، وتأديبًا"، فكما أنّ الضرب لك، فكذلك التقويمُ والتأديبُ لك، إذ هو معنًى داخلٌ تحته. ولو جاز أن يكون المفعولُ له لغيرِ فاعل الفعل، لَخَلَا الفعلُ عن علّةٍ، وذلك لا يجوز، لأنّ العاقل لا يفعل فعلاً إلّا لِعلّةٍ، ما لم يكن ساهِيًا أو ناسِيًا. وأمّا اشتراطُ كونه مقارنًا له في الوجود، فلأنّه علّةُ الفعل، فلم يجز أن يخالِفه في الزمان، فلو قلت: "جئتُك إكرامَك الزائرَ أمْسِ" كان مُحالًا, لأنّ فعلك لا يتضمّن فعلَ غيرك. وإذا قلت: "ضربتُه تأديبًا له"، و"قصدتُه ابتغاءً معروفَه"، فقد جُمع هذه الشرائطُ الثلاثُ. فإن فُقد شيءٌ من هذه الشرائط، لم يحسن انتصابُه، ولم يكن بُدٌّ من اللام، فلا تقول: "جئتُك زيدًا"، ولا "إكرامَك الزائرَ"، ولا "خرجتَ اليومَ مخاصَمتَك زيدًا أمسِ". ¬
فصل [جواز تعريفه وتنكيره]
وإنّما تقول: "جئتُك لزيد، ولإكرامك الزائرَ، ولمخاصَمتك زيدًا أمس". وإنّما وجب النصبُ فيما اجتمع الشرائطُ الثلاثُ المذكورةُ، وامتنع فيما خرج عنه من قِبَل أنّ الفعل لمّا تضمّن المفعولَ له، ودلّ عليه، وكان موجودًا بوجُوده، أشبهَ المصدرَ الذي يكون من لفظ الفعل، نحوَ: "ضربتُ ضَرْبَةً، وضَرْبًا"، فكما نصبتَ "ضربةً" و"ضربًا" بـ "ضربتُ" من حيث إن الفعل كان متضمِّنًا ضروبَ المصادر ودالاً عليها، فكذلك نصبتَ المفعول له إذا اجتمع فيه الشرائطُ المذكورةُ، نحوَ: "ضربتُه تأديبًا"، وصار في حكمِ "أدّبتُه تأديبًا" وجرى مجرَى ما ينتصب به من المصادر، إذ كان نَوْعًا من الأوّل، وإن لم يكن من لفظه، نحوَ: "رَجَعَ القَهْقَرَى"، و"عَدَا الجَمَزَى". فأمّا إذا فُقد منه شرطٌ من هذه الشروط، خرج عن شَبَهِ المصدر، وجرى مجرَى سائر الأسماء الأجْنَبيّةِ، فلم يتعدَّ إليه الفعلُ اللازمُ والمنتهِي في التعدّي إلَّا بحرف جرّ، وخُصَّ باللام، لأنّها تدلّ على الغرض والعلّةِ، فاعرفه. فصل [جواز تعريفه وتنكيره] قال صاحب الكتاب: "ويكون معرفة ونكرة. وقد جمعهما العجاج في قوله [من الرجز]: 271 - يركب كل عاقر جمهور ... مخافة وزعل المحبور والهول من تهول الهبور" * * * ¬
قال الشارح: إنّما قال ذلك رَدًّا على مَن زعم أنّ هذه المصادر التي هي المفعولُ له، نحوَ: "ضربتُه تأديبًا له" من قبيلِ المصادر التي تكون حالاً، نحوِ: "قتلتُه صَبْرًا"، و"أتيتُه رَكْضًا"، أي: صابرًا، وراكضًا، حكى ذلك ابنُ السَرّاج وغيرُه. وهو مذهبُ أبي عمر الجَرْمىِّ والرِّيْاشىِّ، فهو عندهم نكرةٌ، و"مخافةَ الشرّ"، ونحوُها ممّا هو مضافٌ من قبيلِ "مِثْلك" و"غيرك" و"ضاربُ زيدٍ غدًا" في نيّةِ الانفصال، قال أبو العبّاس: أخْطأ الرياشىُّ أقبحَ الخَطَأ، لأنّ بابَنا هذا يكون معرفةً ونكرةً، قال سيبويه (¬1): وحسُن في ذلك الألفُ واللام، لأنه ليس بحالٍ، فيكونَ في موضع فاعلٍ، فَمِمَّا جاء فيه نكرةً قولُ النابغة [من الطويل]: 272 - وحلَّتْ بُيْوتِي في يَفاعٍ مُمَنَّعٍ ... تَخالُ به راعِي الحَمُولَةِ طائرَا حِذارًا على أنْ لا تُصابَ مَقَادَتِي ... ولا نِسْوَتِى حتّى يَمُتْنَ حَرائرَا ¬
وقال الحارثُ بن هِشام [من الكامل]: 273 - فصددتُ عنهم والأحِبَّةُ فيهمِ ... طَمَعًا لَهُمْ بعِقابِ يَوْمٍ مُفْسِدِ وممّا جاء فيه معرفةً قولُه تعالى: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ} (¬1)، فقوله: {حَذَرَ الْمَوْتِ} منصوبٌ لأنّه مفعولٌ له، وهو معرفةٌ بالإضافة. ومثلُه قولُ حاتم [من الطويل]: 274 - وأغْفِرُ عَوْراءَ الكريمِ ادِّخارَهُ ... وأُعْرِضُ عن شَتْمِ اللَئِيمِ تَكَرُّمَا فأتى بالمعرفة والنكرةِ في بيت واحد. ¬
فأمّا قول العجّاج الذي أنشده، فشاهدٌ لصحّةِ ما ادّعاه من أنّ المفعول له يكون معرفةٌ ونكرة. فالنكرةُ قولُه: "مخافة"، والمعرفةُ قولُه: وَ"زَعَل المحبورِ" تُعرَّف بالإضافة. و"الهولَ" معطوفٌ على "كلَّ عاقر"، ولذلك نُصب. يصِف ثَوْرًا وَحْشيًّا. يقول: يركب كلَّ عاقر لنَشاطه. والعاقرُ من الرَّمْل: الذي لا يُنْبِت. وذلك لخَوْفه من الصائد، أو من سَبُع، أو لزَعَله وسُرورِه. والزَّعِلُ: المسرورُ المحبورُ. والهُبُور: جمعُ هَبْر، وهو المُطْمَئِنُّ من الأرض، لأنّها مَكْمَنُ الصائد. فهو يخافها، فيعدِل عنها إلى كلّ عاقرٍ. ويجوز أن يكون "الهولَ" أيضًا مفعولاً له، أي: يركب ذلك لهولٍ يَهُوله كَهْولِ القَبْر على مَن رَوَى: القُبُورِ.
شَرحُ المفَصَّلِ للزمَخشَريّ تأليف موفّق الدّين أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش الموصلي المتوفىّ سنة 643 هـ قدم له ووضع هوامشه وفهارسه الدكتور إميل بَديع يعقوب الجزء الثاني منشورات محمد على بيضون لنِشر كُتبِ السُّنّةِ والجمَاعَةِ دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
دار الكتب العلمية جميع الحقوق محفوظة ـــــــــــــ جميع حقوق الملكية الادبية والفنيه محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت- لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملاً أو مجزأ أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على اسطوانات ضوئية إلا بموافقه الناشر خطياً. ـــــــــــــ الطّبعَة الأوْلى 1422هـ - 2001م ـــــــــــــ دار الكتب العلمية بيروت - لبنان رمل الظريف. شارع البحتري، بناية ملكارت هاتف وفاكس: 364398 - 366135 - 378542 (9611) صندوق بريد:9424 - 11 بيروت - لبنان
الحال
بِسمِ اللَّهِ الرَّحمَنِ الرَّحِيمِ الحال قال صاحب الكتاب: "شبه الحال بالمفعول من حيث أنها فضلة مثله, جاءت بعد مضي الجملة. ولها بالظرف شبه خاصٌّ من حيث أنها مفعولٌ فيها, ومجيئها لبيان هيئة الفاعل, أو المفعول, وذلك قولك: "ضربت زيدًا قائمًا تجعله حالًا من أيهما شئت وقد تكون منهما ضربةً على الجمع والتفريق كقولك: "لقيته راكبين". قال عنترة [من الوافر]: 275 - متى ما تلقني فردين ترجف ... روانف أليتيك وتُستطارا و"لقيته مصعدًا ومنحدرًا"". * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ الحال وَصْفُ هَيْئةِ الفاعل أو المفعولِ، وذلك نحوُ: "جاء زيدٌ ضاحِكًا"، و"أقبل محمّدٌ مُسْرِعًا"، و"ضربتُ عبدَ اللَّه باكيًا"، و"لقيتُ الأميرَ عادلًا". والمعنى: جاء عبدُ اللَّه في هذه الحال، ولقيتُ الأمير في هذه الحال. واعتبارُه بأن يقع في جوابِ "كَيْفَ". فإذا قلتَ: "أقبل عبدُ الله ضاحكًا"، فكأَنّ سائلًا سأل: "كيف أقبل"؟ فقلتَ: "أَقبل ضاحكًا"، كما يقع المفعولُ له في جوابِ "لِمَ فعلتَ". وإنّما سُمّي حالًا لأنّه لا يجوز أن يكون اسمُ الفاعل فيها إلَّا لِمَا أنت فيه، تَطاولَ الوقتُ أم قَصرَ. ولا يجوز أن يكون لِما مضى وانقطع، ولا لِما لم يأتِ من الأفعال. إذ الحالُ إنّما هي هيئةُ الفاعل أو المفعولِ وصفتُه في وقتِ ذلك الفعل. والحال تُشْبِه المفعولَ، وليست به. ألا ترى أنّه يعمل فيها الفعلُ اللازمُ غيرُ المتعدّي، نحوُ: "جاءَ زيدٌ راكبًا"، و"أقبل عبدُ الله مُسْرِعًا؟ " فـ "أقْبَلَ" و"جَاءَ" فعلان لازمان غيرُ متعدِّيَيْن، وقد عمِلا في الحال، فدلّ ذلك أنّها ليست مفعولةً كـ "ضَرَبَ زيدٌ عمرًا". وممّا يدلّ أنّها ليست مفعولةً أنّها هي الفاعلُ في المعنى، وليست غيرَه، فـ "الراكبُ" في "جاء زيدٌ راكبًا" هو زيدٌ. وليس المفعولُ كذلك بل لا يكون إلَّا غيرَ الفاعل أو في حُكْمه، نحوَ "ضرب زيدٌ عمرًا". ولذلك امتنع "ضربتُني" و"ضربتَك" لاتّحادِ الفاعل والمفعول. فأمّا قولهم: "ضربتُ نفسي" فـ "النفسُ" في حكمِ الأجّنَبيّ، ولذلك يُخاطِبها رَبُّها، فيقول: "يا نفسي أقْلِعِي" مُخاطَبةَ الأجنبيّ. ولو كانت الحالُ مفعولةٌ، لجاز أن تكون معرفةً. ونكرةً كسائر المفعولين. فلمّا اختصّت بالنكرة، دلّ على أنّها ليست مفعولةً. وإذ قد ثبت أنّها ليست مفعولة، فهي تُشْبِه المفعولَ من حيث إنّها تجيء بعد تَمامِ الكلام، واستغناءِ الفعل بفاعله، وأنّ في الفعل دليلًا عليها كما كان فيه دليلٌ على المفعول، ألا ترى أنّك إذا قلت: "قمتُ"، فلا بدّ أن تكون قد قمتَ في حالٍ من الأحوال، فأشْبَهَ قولُك: "جاء عبدُ الله راكبًا" قولَك: "ضَرَبَ عبدُ الله رجلاً"، ولأجلِ هذا الشَّبَه استحقّت أن تكون منصوبةً. وقوله: "ولها بالظرف شَبَهٌ خاصٌّ" يعني أنّ الحال تُشْبِه المفعولَ على سبيلِ العُموم من الجهات التي ذكرناها، ولا تخُصّ مفعولًا دون مفعول، ولها شَبَهٌ خاصٌّ بالمفعول فيه، وخُصوصًا ظرفِ الزمان. وذلك لأنّها تُقدَّر بـ "في". كما يُقدَّر الظرفُ بـ "فِي" فإذا قلت: "جاء زيدٌ راكبًا"، كان تقديرُه: في حالِ الركوب، كما أنّك إذا قلت: "جاء زيدٌ اليوم"، كان تقديرُه: جاء زيدٌ في اليوم، وخصّ الشَّبَهُ بظرف الزمان، لأنّ الحال لا تبقَى، بل تنتقِل إلى حالٍ أُخْرَى، كما أنّ الزمان مُنْقَضٍ لا يبقى، ويخلُفُه غيره. ولذلك لا يجوز ¬
أن تكون الحالُ خِلْقَةً، فلا يجوز "جاءني زيدٌ أحْمَرَ، ولا أحْوَلَ ولا طويلًا"، فإذا قلت: "متحاوِلًا، أو متطاوِلًا" جاز, لأنّ ذلك شيءٌ يفعله، وليس بخُلْقَةٍ، فيجوز انتقالُه. والحال تكون بَيانًا لهَيْئة الفاعلِ، أو المفعولِ، فتقول: "جاء زيدٌ قائمًا"، فتكون بيانًا لهيئةِ الفاعل الذي هو زيد، وتقول: "ضربتُ زيدًا قائمًا" إن شئتَ جعلتَه حالًا من الفاعل الذي هو التاءُ، وإن شئت جعلتَه حالًا من المفعول الذي هو زيد، وهذا فيه تسمُّحٌ، وذلك أنّك إذا جعلتَ الحال من التاء، وجب أن تُلاصِقه، فتقول: "ضربتُ قائمًا زيدًا". فإذا أزلتَ الحالَ عن صاحبها، فلم تلاصقه، لم يجز ذلك، لِما فيه من اللَّبْس، إلَّا أن يكون السامعُ يعلَمه كما تعلمُه، فإن كان غيرَ معلوم، لم يجز، وكان إطلاقُه فاسدًا. وقد تكون الحال منهما معًا، فإن كانتا متّفِقتَيْن، نحوَ: "قائمٍ" و"قائمٍ"، أو "ضاحكٍ" و"ضاحكٍ" فأنت مخيَّرٌ إن شئت فرّقتَ بينهما، فقلت: "ضربتُ زيدًا قائمًا قائمًا" تجعل أحدَهما للفاعل والآخَرَ للمفعول ولا تُبالي أيَّهما جعلتَ للفاعل، لأنّه لا لَبْسَ في ذلك، وإن شئت جمعتَ بينهما، فقلت: "ضربتُ زيدًا قائميْن"، لأنّ الاشتراك قد وقع في الحال، والعاملُ واحدٌ، وصار كأنّك قلت: "ضربتُ قائمًا زيدًا قائمًا"، واستغنيتَ بالتثنية عن التفريق، قال الشاعر [من الوافر]: مَتى مَا تَلْقَني فَرْدَيْنِ ... إلخ البيتُ لَعَنْتَرَةَ، وقبله: [من الوافر] أحَوْلِي تَنْفُضُ اسْتُكَ مِذْرَوَيْهَا ... لِتَقْتُلَنِي فَهَا أنَا ذَا عُمّارًا والشاهد فيه قوله: فردَيْن، وهو حالٌ من الفاعل والمفعولِ، أي: أنَا فَرْدٌ، وأنت فردٌ. والروانفُ: جمعُ رانِفَةٍ، والرانِفةُ أسْفَلُ الألْيَةِ، وطَرَفُها ممّا يَلِي الأرضَ من الإنسان إذا كان قائمًا. وأمّا قوله: و"تُسْتَطارَا"، فيحتمل وُجوهًا: أحدُها: أن يكون مجزومًا بحذف النون، والأصلُ "تُسْتَطَارَانِ" فالضميرُ للروانف، وعاد إليها الضميرُ بلفظ التثنية، وإن كان جمعًا لأنّها تثنيةٌ في المعنى، لأنّ كلٌّ ألْيَة لها رانِفةٌ، فهو من قبيلِ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬1). والثاني: أن يكون عائدًا إلى الأليتَيْن. والثالثُ: أنّ يكون الضميرُ مفردًا عائدًا إلى المخاطَب، والألفُ بَدَلٌ من نونِ التأكيد، والأصلُ "تستطارَنْ"، فأبْدَلَ من النون ألفًا كما في قوله [من الطويل]: 276 - [وذا النصبَ المنصوبَ لا تنسكنَّه] ... ولا تَعْبُدِ الشّيْطانَ واللَّهَ فاعْبُدَا يُخاطِب قَرِينَه ويصف نفسَه بالشهامة. ¬
فصل [عامل الحال]
وأمّا قولهم: "رأيتُ زيدًا مُصْعِدًا منحدِرًا"، و"رأيتُ زيدًا ماشيًا راكبًا" إذا كان أحدُهما مصعدًا والآخر، راكبًا، فالمراد أن تكون أنت المصعدَ، وزيدٌ المنحدرَ، فيكون "مصعدًا" حالًا للتاء، و"منحدرًا" حالًا لزيد، وكيف قدّرتَ بعد أن يعلم المخاطَبُ المصعدَ من المنحدر، فإنّه لا بأسَ عليك بتقدُّمِ أيِّ الحالَيْن شئتَ. واعلم أنّه قد يكون للإنسان الواحدِ حالان فصاعدًا، لأنّ الحال خبرٌ، والمبتدأُ قد يكون له خبران فصاعدًا، فتقول: "هذا زيدٌ واقفًا ضاحكًا متحدِّثًا". ولا يجوز ذلك إن تَضادَّت الأحوالُ، نحوَ: "هذا زيدٌ قائمًا قاعدًا"، كما لا يجوز مثلُ "هذا زيدٌ قائمٌ قاعدٌ". فإن أردتَ أن تسبِك من الحالَيْن حالًا واحدةً، جاز، كما يجوز أن تسبك من الخبرَيْن خبرًا واحدًا، فتقول: "هذا الطَّعامُ حُلْوًا حامِضًا"، كأنّك أردتَ: هذا الطعامُ مُزَّا، فسبكتَ من الحالَيْن معنًى، كما تقول في الخبر: "هذا حُلْوٌ حامضٌ". فصل [عامل الحال] قال صاحب الكتاب: "والعامل فيها إما فعل وشبهه من الصفات, أو معنى فعل, ¬
كقولك: "فيها زيد مقيماً"، وهذا عمرو منطلقاً، وما شأنك قائماً، وما لك واقفاً. وفي التنزيل: {وهذا بعلي شيخاً} (¬1)،و {فما لهم عن التذكرة معرضين} (¬2). و"ليت", و"لعل", و"كأن" ينصبنها أيضًا, لما فيهن من معنى الفعل، فالأول يعمل فيها متقدمًا ومتأخراً ولا يعمل فيها الثاني إلا متقدماً, وقد منعوا في مررت راكباً بزيد أن يجعل الراكب حالاً من المجرور". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الحال لا بدّ لها من عامل إذ كانت مُعرَبةً، والمعربُ لا بدّ له من عامل. ولا يكون العاملُ فيها إلَّا فعلًا، أو ما هو جارٍ مجرى الفعل من الأسماء، أو شيئًا في معنى الفعل، لأنّها كالمفعول فيها. فمثال العامل إذا كان فعلًا قولُك: "جاء زيدٌ ضاحكًا"، فـ "زيدٌ" مرتفعٌ بأنّه فاعلٌ، و"ضاحكًا" حالٌ منه، والعاملُ فيهما الفعلُ المذكورُ الذي هو "جَاءَ"، لأنّ الحال صفةٌ من جهة المعنى. ولذلك اشتُرط فيها ما يُشترط في الصفات من الاشتقاق، نحوِ: ضاربٍ، ومضروبٍ، وشِبْهِهما. فكما أنّ الصفة يعمل فيها عاملُ الموصوف، فكذلك الحالُ يعمل فيها العاملُ في صاحب الحال، إلَّا أنّ عمَله في الحال على سبيلِ الفَضْلة، لأنّها جاريةٌ مجرى المفعول، وعمَلَه في الصفة على سبيل الحاجة إليها، إذ كانت مُبيِّنةً للموصوف، فجرتْ مجرَى حرف التعريف. وهذا أحد الفُروق بين الصفة والحال. وذلك أنّ الصفة تفرُق بين اسمَيْن مشترِكَين في اللفظ، والحالَ زيادةٌ في الفائدة والخبرِ، وإن لم يكن الاسمُ مشاركًا في لفظه. ألا ترى أنّك إذا قلت "مررتُ بزيدٍ القائمِ"، فأنت لا تقول ذلك إلَّا وفي الناس رجلٌ آخَرُ اسمُه زيدٌ، وهو غيرُ قائم، ففصلتَ بالقاَئم بينه وبين مَن له هذا الاسمُ، وليس بقائمٍ؟ وتقول: "مررت بالفَرَزْدَق قائمًا"، وإن لم يكن أحدٌ اسمُه الفرزدقُ غيرُه، فضممتَ إلى الإخبار بالمُرور خبرًا آخرَ متّصِلًا به مُفيدًا، إلَّا أنّ الخبر بالمرور على سبيل اللزوم، لأنّه به انعقدتِ الجملةُ، والإخبار بالقيام زيادةٌ، يجوز الاستغناءُ عنها. ومثالُ ما كان جاريًا مجرى الفعل من الأسماء اسمُ الفاعل، واسمُ المفعول، والصفةُ المشبَّهةُ باسم الفاعل، نحوُ قولك: "زيدٌ ضاربٌ عمرًا قائمًا". فـ "قائمٌ" حال من "عمرٍو"، والعاملُ فيه اسمُ الفاعل. وتقول: "زيدٌ مضروبٌ قائمًا"، فتكون الحالُ من المضمر في اسم المفعول، وهو العاملُ. وتقول: "زيدٌ حسنٌ قائمًا"، فتكون الحالُ من المضمر في الصفة، وهي العاملةُ في الحال، لأنّها مشبَّهةٌ باسم الفاعل على ما سيأتي بَيانُه. ومثالُ العامل فيها إذا كان معنَى فعلٍ قولُك: "زيدٌ في الدار قائمًا"، فـ "قائمًا" حالٌ ¬
من المضمر في الجارّ والمجرور، وهو العاملُ فيها لنِيابَته عن الاستقرار، فهذا العاملُ معنَى فعل، لأنّ لفظ الفعل ليس موجودًا، هذا إذا جعلتَه ظرفا لزيدٍ، ومستقَرًّا له. فإن جعلتَه ظرفًا للقائم، قلت: "زيدٌ في الدار قائمٌ"، فترفع "قائمًا" بالخبر، ويكون الظرفُ صلةً له. واعلم أنّه إذا كان العاملُ فيها فعلًا جاز تقديمُ الحال عليه، فتقول: "جاء زيدٌ قائمًا"، و"جاء قائمًا زيدٌ"، و"قائمًا جاء زيدٌ". كلُّ ذلك جائزٌ لتصرُّفِ الفعل. وكذلك ما أشْبَهَه من الصفات يجوز تقديمُ الحال عليه إذا كان عاملًا فيها، فتقول: "زيدٌ ضاربٌ عمرًا قائمًا"، و"قائمًا زيدٌ ضاربٌ عمرًا"، وكذلك اسمُ المفعول والصفةُ المشبَّهةُ باسم الفاعل. حُكْمُ الجميع شيءٌ واحدٌ. فإن كان العاملُ في الحال معنَى فعل، لم يجز تقديمُها على العامل. تقول: "فيها زيدٌ مُقِيمًا"، و"عندك عمرٌو جالِسًا"، فـ "زيدٌ" مرتفِعٌ بالابتداء، "وفِيهَا"، الخبرُ قد تقدّم، و"مقيمًا" حالٌ من المضمر في "فِيهَا" والعاملُ فيها الجارُّ والمجرورُ لِنيابَته عن الفعل الذي هو اسْتَقَرَّ، فقولُك: "عندك" ظرفٌ منصوبٌ بِـ "استقرّ" العاملِ المقدَّرِ. وكذلك "فِيهَا" في محلِّ نصب بِـ "استقر" المقدَّرِ، وهذا الظرفُ والضميرُ الذي فيه في محلّ مرفوع على الخبر. وليس الظرفُ خبرًا في الحقيقة إذا كان مفردًا، وليس الأوّلَ، وإنّما هو موضعٌ له ومكانٌ. وإذا كان كذلك، فالعاملُ إذا معنَى الفعل، لا لفظُه. ألا ترى أنّ الفعل ليس موجودًا في اللفظ، ولذلك لا تقول: "مُقيمًا فيها زيدٌ": فتُقدَّمَ الحالَ هنا، إذ كان العاملُ معنًى. هذا مذهبُ سيبويه (¬1) في أنّ الاسمَ يُرفَع بالابتداء. وقال الكوفيون (¬2): إذا تقدّم الظرفُ ارتفع الاسمُ به، وإذا تأخّرَ ارتفع الاسم بضمير مرفوع في الظرف، وحُجَّةُ سيبويه أنّا رأيناهم إذا أدخلوا على الظرف "إنَّ" وَنَحْوَها من عوامل الابتداءِ، انتصب الاسمُ بعد الظرف بها، كقولك: "إنّ في الدار زيدًا". فلو كان "في الدَارِ" يرفع "زيدًا" قبلَ دخولِ "إنَّ"، لَمَا غيّرتْها "إنَّ" عن العمل، كما أنا لو قلنا: "أنْ يقومَ زيدٌ". لم يجز أن يبطُل عملُ: "يَقُومَ" في "زيدٍ"، بل يُقال: "أن يقومَ زيدٌ". كذلك "إنَّ في الدار زيدًا". وممّا يدلّ على بُطْلانِ ما قالوه إجماعُهم على جوازِ "في داره زيدٌ". فلو كان ارتفاعُ "زيد" بالظرف، لم تجز المسألةُ؛ لأنّ فيها إضمارًا قبل الذِّكْر، إذ الظرفُ قد وقع في مَرْتَبته، فلم يجز أن يُنْوَى به التأخيرُ، وإنّما يُجِيز سيبويه وأصحابُه: "في داره زيدٌ" لأنّه خبرٌ قُدّم اتّساعًا، فجاز أن يُنوَى به التأخير إلى موضعه، فاعرفه. فعلى هذا يكون الظرف ¬
لـ "زيدٍ" ويَتعلّق بِاستقرارٍ محذوفٍ على ما شرحنا. ويجوز أن ترفع "قائمًا" على الخبر، ويكون الظرفُ له. ويتعلّق به لا بمحذوف. ومن ذلك "هذا عمرٌو منطلقًا" فـ "هذا" مبتدأٌ، و"عمرٌو" الخبرُ، و"منطلقًا" نصبٌ على الحال، والعاملُ فيه أحدُ شيئَيْن: إمّا التَّنْبِيهُ، وإمّا الإشارةُ. فالتنبيُه بـ "هَا"، والإشارةُ بـ "ذَا". فإذا أعملتَ التنبيهَ، فالتقديرُ: انْظُرْ إليه منطلقًا، أو انْتَبِهْ له منطلقًا. وإذا أعملتَ الإشارةَ، فالتقديرُ: أُشِيرُ إليه منطلقًا، والغَرَضُ أنّك أردتَ أن تُنبِّه المخاطَبَ لعمرٍو في حالِ انطلاقه، ولا بدّ من ذِكْرِ "منطلقًا"، لأَنَّ الفائدة به منعقِدةٌ، ولم تُرد أن تُعرّفه إيّاه، وأنت تُقدِّر أنّه يجهَله. كما تقول: "هذا عبدُ الله" إذا أردتَ هذا المعنى، ولا يُستبعد لُزومُ الحال ها هنا، فإنّه قد يتّصِل بالاسم والخبرِ ما ليس باسمٍ ولا خبرٍ، ولا يتِمّ الكلامُ إلَّا به، نحوُ قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬1)، فإنّه ليس باسمٍ ولا خبرٍ، ولو حُذف لَفسد الكلامُ، لأنّه معطوفٌ على الخبر، وهو جملةٌ، فلا بدّ من عائدٍ، والعائدُ "لَهُ"، ولو حُذف، لَبقيتِ الجملةُ الخبريّةُ بلا عائدٍ، ونظائرُ ذلك كثيرةٌ. فإن قيل: فأنتم قد قررتم أنّ العامل في الحال يكون العاملَ في ذي الحال، والحالُ ها هنا في قولك: "هذا زيدٌ منطلقًا" من "زيد"، والعاملُ فيه الابتداءُ من حيثُ هو خبرٌ، والابتداءُ لا يعمل نصبًا. فالجوابُ أنّ هذا كلامٌ محمولٌ على معناه دون لفظه، والتقديرُ: أُشِيرُ إليه أو انْتَبِهْ له على ما تقدّم في قولنا، فهو مفعولٌ من جهة المعنى. وصل الفعلُ إليه بحرف الجرّ، فيكون من قبيلِ "مررتُ بزيدٍ قائمًا" فاعرفه. ويجوز الرفعُ في قولك: "منطلقًا" من قولك: "هذا عبدُ الله منطلقًا". قال سيبويه (¬2): هو عربيٌّ جيّدٌ، حكاه يُونُسُ وأبو الخَطّاب عن مَن يوثَق به من العرب. وارتفاعُه من وجوهٍ: منها: أنّك حين قلت: "هذا عبدُ الله منطلقٌ" أضمرتَ "هَذَا" أو "هُوَ"، كأنّك قلت: "هذا منطلقٌ"، أو "هو منطلقٌ". والوجه الآخَر: أن تجعلهما جميعًا خبرًا لهَذَا كقولك: "هذا حُلْوٌ حامِضٌ" لا تُريد أنّ تَنْقُض الحَلاوةَ، ولكن تزعُم أنّه قد جمع الطَّعْمَيْن، ونحوُه قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} (¬3). والوجه الثالث: أن تجعل "عبد الله" معطوفًا على "هَذَا" عَطْفَ بيان كالوَصْف، فيصير كأنّه قال: "عبدُ الله منطلقٌ". ووجه رابع: أن تجعل "منطلقٌ" بَدَلًا من "عبد الله"، كأنّك قلت: "هذا عبدُ الله ¬
فصل [وقوع المصدر حالا]
رجلٌ منطلقٌ"، فيكون "رجلٌ" بدلاً من "عبد الله" بَدَلَ النكرة من المعرفة، ثمّ حُذف الموصوف وأُقيم الصفة مُقامَه. وأمّا قولهم: "ما شأنُك قائمًا؟ "، و"ما لك واقِفًا؟ "، فَـ "ما" استفهامٌ، وهو في موضعِ رفع بالابتداء، و"شأنُك" الخبرُ، أو يكون "شأنُك" مبتدأً، و"مَا" الخبرَ قد تقدّم، و"قائمًا" حالًا، والناصبُ لـ "قائمًا" "شأنُك"، لأنّه في معنَى "ما تَصْنَعُ"، أو "ما تُلابِسُ في هذه الحال". وكأنّه شيءٌ عَرَفَه المتكلّمُ من المسؤُول الذي هو الكافُ في "شأنُك"، فسَألَه عن شأنه في هذه الحال، وقد يكون فيه إنكارٌ لقِيامه، ويسأله عن السبب الذي أدّى إليه، فكأنّه قال: "لِمَ قمت". وعلى هذا المعنى يجوز أن يكون قولُه تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} (¬1)، كأنّه أنكر إعراضَهم، فوَبَّخهم على السبب الذي أدّاهم إلى الإعراض، فأخرجه مُخْرَجَ الاستفهام في اللفظ، وتأويلُ "ما لك قائمًا"، تأويلُ "ما شأنُك قائمًا" كأنّه قال: "ما تصنع". فأمّا قولهم: "مررتُ بزيدٍ راكبًا" على أن تكون الحالُ من "زيد"، فإنّ ذلك جائزٌ؛ لأنّ الحال قد تكون من المجرور كما تكون من المنصوب، إذا كان العاملُ في الموضع فعلًا، لا خِلافَ في جوازِ ذلك، فإن قدّمتَ الحالَ من المجرور على الجارّ والمجرور، نحوَ قولك: "مررتُ راكبًا بزيدٍ"، وأنت تجعل "راكبًا" لزيد، فإنّ سيبويه (¬2) وأبا بَكْرِ بنَ السرّاج، ومَن تبِعهما مَنَعَا من جوازِ ذلك، لأنّ العامل، وإن كان الفعلَ، لكنّه لمّا لم يصل إلى ذي الحال الذي هو "زيدٌ" إلَّا بواسِطةِ حرف الجرّ، لم يجز أن يعمل في حاله قبل ذِكْرِ ذلك الحرف، وكما لا يجوز تقديمُ صاحب الحال على حرف الجرّ، كذلك لا يجوز تقديمُ الحال عليه. وقد أجازه ابنُ كَيْسانَ قياسًا، إذ كان العاملُ فيه الفعلَ في الحقيقة. فصل [وقوع المصدر حالًا] قال صاحب الكتاب: "وقد يقع المصدر حالاً كما تقع الصفة مصدراً في قولهم: "قم قائماً"، وفي وقوله [من الطويل]: 277 - [ألم ترني عاهدت ربي وإنني ... لبين رتاجٍ قائمًا ومقامِ ¬
علي حلفةٍ لا أشتم الدهر مسلمًا] ... ولا خارجا من فيَّ زور كلام وذلك قتلته صبراً، ولقيته فجاءه وعياناً كفاحاً، وكلمته مشافهة، وأتيته ركضاً وعدواً ومشياً، وأخذت عنه سمعاً، أي مصبوراً ومفاجئاً ومعايناً, وكذلك البواقي وليس عند سيبويه (¬1) بقياسٍ. وأنكر "أتانا رجلة وسرعة". وأجازه المبرد في كل ما دل عليه الفعل". * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ المصدر قد يقع في موضع الحال، فيقال: "أتيتُه رَكْضًا"، و"قتلتْه صَبْرًا"، و"لقيتُه فُجاءةً وعِيانًا" و"كلّمتُه مُشافَهةً". والتقدير: أتيتُه راكِضًا، وقتلتُه مصبورًا، إذا كان الحالُ من الهاء، فإن كان من التاء فتقديرُه: قتلتُه صابرًا، ولقيتُه مُفاجِئًا ومُعايِنًا، وكلّمتُه مُشافِها. فهذه المصادرُ وشبْهُها وقعتْ موقعَ الصفة، وانتصبتْ على الحال كما قد تقع الصفةُ في موقع المصدر المؤكِّدِ، نحوَ: "قُمْ قائمًا"، والأصلُ: قُم قِيامًا. ألا ترى أنّه لا يحسن أن يُحمَل على ظاهره، فيقالَ: إِنّه حالٌ، لأنّك لا تأمر بفعلٍ مَن هو فيه؟ ومثلُه قوله [من الطويل]: على حِلْفَةٍ لا أشْتِمُ الدَّهْرَ مُسْلِمًا ... ولا خارِجًا مِن فِيَّ زُورُ كَلامِ البيت للفَرَزْدَق وقبله: ألَمْ تَرَنِي عاهَدْتُ رَبِّي وإنِّنِي ... لَبَيْنَ رِتاجٍ قائمًا ومَقامِ الشاهد فيه نصبُ "خارجًا من فيّ زورُ كلام". ونَصَبَه لوُقوعه موقع المصدر الموضوع موضعَ الفعل. والتقديرُ: عاهدتُ رَبّي لا يخرُج من فيَّ زورُ كلام خُروجًا. ويجوز أن يكون قوله: "ولا خارجًا" حالًا، والمراد: عاهدتُ ربّي غيرَ شاتمٍ، ولا خارجٍ، أي: عاهدتُه صادقًا. وهو رأيُ عيسى بن عمرو، والمعنى أنّه تابَ عن الهِجاء، وقَذْفِ المُحصَنات، وعاهَدَ اللَّهَ على ذلك بين رِتاجِ الكَعْبة، وهو بابُها ومقامِ إبراهيمَ، صلواتُ الله عليه. والأوّلُ مذهبُ سيبويه، وليس ذلك بقياس مُطّرِد وإنّما يُستعمل فيما استعملته العربُ، لأنّه شيءٌ وضع موضعَ غيره، كما أنّ باب "سَقيًا ورَعْيًا" و"حَمْدًا" لا يطّرِد فيه القياس، فيقال فيه: "طَعامًا وشَرابًا". وكان أبو العَبّاس يُجِيز هذا في كلّ شيء يدلّ عليه الفعلُ، فأجاز أن تقول: "أتانا رُجْلَةً"، و"أتانا سُرْعَةً"، ولا يقال: "أتانا ضَرْبًا"، ولا "أتانا ضِحْكًا"، لأنّ الضرب والضحكَ ليسا من ضروب الإتيان، لأنّ الآتِيَ ينقسِم إتيانُه إلى سُرْعةٍ، وإبْطاءٍ، وتوسُّطٍ، وينقسم إلى رُجْلَةٍ ورُكوبٍ، ولا ينقسم إلى الضرب، والضحكِ. وكان يقول: إنّ نصبَ "مَشْيًا" وشِبْهِه إنّما هو بالفعل المقدَّر، كأنّه قال: أتانا يَمْشِي مَشْيًا. والصحيح مذهبُ سيبويه، وعليه الزجّاجِ، لأنّ قولَ القائل: "أتانا زيدٌ مشيًا" يصِحّ أنّ يكون جوابًا لقائلٍ قال: "كيف أتاكم زيدٌ؟ " وممّا يدلّ على صحّةِ مذهب سيبويه أنّه لا يجوز أنّ تقول: "أتانا زيدٌ المَشْيَ" مُعَرَّفًا. وعلى قياس قول أبي العبّاس يلزَم أن يجوز ذلك، لأنّه يكون تقديرُه: أتانا زيد يمشي المشيَ، كما قالوا: "أرْسَلَهَا العِراكَ". والتقديرُ: أرسلها تعترِكُ العراكَ. وقد ذهب السيرافيُّ إلى جوازِ أنّ يكون قولك: "أتانا زيدٌ مَشْيًا" مصدرًا مؤكِّدًا، والعاملُ فيه أتانا، لأنّ المَشْيَ نَوْعٌ من الإتيان، ويكون من المصادر التي ليست من لفظ الفعل، نحو: "أَعْجَبَنِي حُبًّا"، و"كَرِهْتُه بُغْضًا"، و"تَبسّمَتْ
فصل [وقوع الأسماء أحوالا]
وَمِيضَ البَرْقِ". وهو قولٌ، إلاّ أنّ كَوْنه لم يَرِد إلّا نكرةً يدلّ على ضُعْفه، إذ لو كان مصدرًا على ما ادّعاه، لم يمتنِع من وقوع المعرفة فيه، فاعرفه. فصل [وقوع الأسماء أحوالًا] قال صاحب الكتاب: "والاسم غير الصفة والمصدر بمنزلتها في هذا الباب. تقول: "هذا بسراً أطيب منه رطباً"، وجاء البر قفيزين وصاعين"، و"كلمته فاه إلى فيَّ"، و"بايعته يداً بيد"، و"بعت الشاء شاة ودرهمًا"، و"بينت له حسابه بابًا بابًا"". * * * قال صاحب الكتاب: اعلم أنّ هذا الفصل قد اشتمل على مسائل من أبواب متعدِّدةٍ، لكنّه جَمَعَها كلّها كونُها أسماء غير صفات، وقعت أحوالًا. فمن ذلك قولُهم: "هذا بُسْرًا أطْيَبُ منه تَمْرًا"، فـ "هذا" مبتدأ، و"بسرًا" حالٌ، و"أطيب منه" خبرُ المبتدأ، و"بُسرًا" و"تمرًا": حالان من المشار إليه، لكن في زمنَيْن، لأنّ فيه تفضيل الشيء في زمانٍ من أزمانه على نفسه في زمن آخر. ويجوز أن يكون الزمانُ الذي يفضُل فيه ماضيًا، ويجوز أن يكون مستقبلًا. ولا بدّ من إضمار ما يدلّ على المُضِيّ فيه أو على الاستقبال على حَسْبِ ما يراد، فإن كان زمانًا ماضيًا، أضمرتَ "إذ"، وإن كان زمانًا مستقبلًا، أضمرتَ "إذا"، وكانت الإشارةُ إليه في حالِ ما هو بَلَحٌ. والعامل في الحال "كَانَ " المضمرةُ، وفيها ضميرٌ من المبتدأ. وهذه "كَانَ" التامّةُ وليست الناقصةَ، إذ لو كانت الناقصةَ، لوَقع معها المعرفةُ، وكنتَ تقول: "هذا البسر أطيبُ منه التمرَ"، لأنّ "كان" تعمل في المعرفة عَمَلَها في النكرة. فلمّا اختصّ الموضعُ بالنكرة، عُلم أنّها التامّةُ، وأنّ انتصابَ الاسمَيْن على الحال، لا على الخبر. والعامل في الظرفَيْن ما تَضمّنَه معنى "أَفْعَلَ". وجاز أن تعمل في الظرفَيْن، لأنّها تضمّنتْ شيئين: معنى فعلٍ ومصدرٍ، ألا ترى أنّك إذا قلت: "زيدٌ أفضلُ من عمرو"، فمعناه: يزيد فَضْلُه عليه. وكلُّ واحد من الفعل والمصدر يجوز أن يعمل. وذهب أبو عليّ إلى أنّ العامل في الحال الأوّل ما في هذَا من معنى الإشارة والتنبيه، والعامل في الحال الثاني "أفْعَلَ". قال: وذلك أنّه لا يخلو العاملُ في قولهم: "بُسْرًا" من أن يكون "هذا"، أو "أطْيَبُ"، أو مضمرًا، وهو "إذْ كان"، أو "إذا كان"، فلا يجوز أن يكون العاملُ فيه "أطيب" وقد تقدّم عليه، لأنّ "أفعل" هذا لا يَقْوَى قوَّةَ الفعل فيعملَ فيما قبلَه، ألا ترى أنّك لا تُجيز: "أنت مِمَّن أفْضلُ"، ولا "ممّن أنت أفضلُ"، فتُقدِّم الجارَّ والمجرورَ عليه لضُعْفه أن يعمل فيما تقدّم عليه؟ وإذا لم يعمل فيما كان متعلّقًا بحرف جرّ إذا تقدّم، مع أنّ حرف الجرّ يعمل فيه ما لا يعمل في غيره، نحو: "هذا مارٌّ بزيدٍ"، و"هذا مُعْطٍ لزيدٍ
أمسِ درهمًا"، فلأن لا يعمل فيما لا يتعلّق بحرف الجرّ ممّا شأنُه المفعولُ به أولى، فأمّا قولُ الفَرَزْدَق [من الطويل]: 278 - فقالت لَنَا: أَهْلًا وسَهْلًا، وزَوَّدَتْ ... جَنَى النَّحْلِ أو ما زَوَّدَتْ منه أَطْيَبُ فضرورةً، وإذا كان كذا، لم يعمل "أطيب" في "بسرًا" لتقدُّمه عليه، وإذا لم يجز أن يكون العاملُ "أفْعَلَ" كان إمّا هذا، وإمّا المضمر، فإن أعملتَ فيه المضمرَ الذي هو "إذ كَانَ"، لَزم أن يكون العاملُ في "إذ" المضمرةِ "هَذَا"، أو ما فيه معنى الفعل غيره. فإذا كان العاملُ كذلك، ولم يكن بدٌّ من إعمال عاملٍ في الظرف، أعملتَ "هذا" في نفس الحال، واستغنيتَ عن إعمال ذلك المضمر، وإذا كان ذلك كذلك، كان ما قال الناسُ أنّه منصوبٌ على إضمار إذ كان على إرادتهم معنى هذا الكلام، لا حقيقة لفظه، وأمّا قولهم: "تَمْرًا"، فالعاملُ فيه "أطيب"، ولا يمتنِع أن يعمل فيه وإن لم يعمل في "بسرًا"؛ لأنّ ما تأخّرَ عنه لا يمتنع أن يعمل فيه كما عمِل في الظرف في قول أوْسٍ [من الطويل]: 279 - فإنَّا وَجَدْنَا العِرْضَ أَحْوَجَ ساعةً ... إلى الصَّوْن من رَيْطٍ مُلاءٍ مُسَهَّمِ ¬
ألا ترى أنّ "ساعةً" معمولُ "أحوج"، فكما عمل في الظرف كذلك يعمل في الحال، إذا تأخّر عنه، وهذا إنّما يكون فيما يتحوّل من نوع إلى نوع آخر، نحو: "هذا عِنَبًا أطيبُ منه زَبِيبًا"، لأنّ العنب يتحوّل زبيبًا، ولو قلت: "هذا عنبًا أطيب منه تَمْرًا" لم يجز؛ لأنّ العنب لا يتحوّل تمرًا. وإذا كان كذلك، لم يجز فيه إلاّ الرفعُ، فتقول: "هذا عنبٌ أطيبُ منه تمرٌ"، فيكون "هذا" مبتدأ، و"عنبٌ"، الخبر، و"أطيبُ منه" مبتدأ آخر، و"تمرٌ" الخبرَ، والجملةُ الثانيةُ في موضع صفة لـ "عنبِ" فاعرفه. وأمّا قولهم: "جاء البُرُّ قَفِيزَيْن وصاعَيْن"، فالمراد: جاء البرُّ قفيزَيْن بدرهمٍ، وصاعَيْن بدرهم، فقولُهم: "قفيزين" حالٌ من البرّ، وكذلك "صاعَيْن"، فهما حالان وقعا موقع المشتقّ، فكأنّه قال: جاء البرُّ مسعَّرًا، أو رَخِيصًا، والكلامُ جملة واحدة، ويجوز رفعُه، فتقول: "جاء البرُّ قفيزان بدرهم"، فيكون "قفيزان" مبتدأ، و"بدرهم" الخبرَ، والجملة في موضع الحال، والكلامُ حينئذ جملتان. وربّما قالوا: "جاء البَرُّ قفيزَيْن وصاعَيْن"، ولا يُذكَر الدرهم، فيحذِفون الثمَنَ، لأنّه قد عُرف ممّا جرى من عادة استعمالهم في ذلك، لأنّهم إذا اعتادوا ابتياعَ شيء بثمنٍ بعينه من درهم، أو دينارٍ، تركوا ذِكْرَه، لِما في نفوسهم من معرفته، كقولك: "البُرُّ الكُرُّ بستّين"، تريد "بستّين درهمًا" و"الخُبْزُ عشرةُ أرطال"، تريد: "بدرهمٍ"، فتركوا ذكرَه لغَلَبَةِ المعاملة فيه. وأمّا قولهم: "كلّمتُه فاهُ إلى فيَّ" فقولهم "فاه" نصبٌ على الحال، وجعلوه نائبًا عن "مشافَهةً"، ومعناه: مشافِهًا، فهو اسمٌ نائبٌ عن مصدر في معنى اسم الفاعل، والناصبُ للحال الفعل المذكور الذي هو "كلّمتُه"، وتقديره: كلّمتُه مشافِهًا. وليس ثمَّ إضمارُ عاملٍ آخر، فيكون من الشاذّ، لأنّه معرفةٌ بمنزلة "الجَمّاء الغَفِيرَ"، و"رَجَعَ عَوْدَه على بَدْئه". هذا مذهبُ أكثرِ أصحابنا البصريين، والكوفيون ينصبون "فاه إلى فيَّ" بإضمارِ "جاعِلًا"، ¬
أو "مُلاصِقًا" كائه قال: كلّمتُه جاعلًا فاهُ إلى فيّ، أو ملاصقًا فاه إلى في. والمذهب الأوّل، وهو رأيُ سيبويه (¬1)، إذ لو كان بإضمار "جاعلًا"، لَما كان من الشاذّ الذي لا يُقاس عليه غيرُه، ولَجاز أنّ تقول: "كلّمتُه وَجْهَه إلى وَجْهي"، و"عَينَه إلى عيني"، وأشباهَ ذلك. وفي امتناعه دليلٌ على ما قلناه. وبعضُ العرب تقول: "كلّمتُه فُوهُ إلى فيَّ"، فيرفعونه بالابتداء والخبرِ، والجملةُ في موضع الحال، كأنّك قلت: "وفُوهُ إلى فيّ"، إلاّ أنّك استغنيتَ بإضمار العائد إليه عن الواو، ولولا الضميرُ المضاف إليه، لم يكن بدٌّ من الواو. وأمّا "بايَعْتُه يَدًا بِيَدٍ" فهو أيضًا من بابِ "كلّمتُه فاه إلى فيَّ"، لأنّه اسمٌ نائبٌ عن مصدر في معنى الصفة، كأنّه قال: "بايعتُه مناَقدَةً"، أي: ناقِدًا، إلاّ أنّ معناهما مختلِفٌ، ولذلك لا يجوز في "بايعتُه يَدًا بِيَدٍ" أن تقول: "بايعتُه يَدُه بِيَدٍ" بالرفع. ولا يجوز فيه غيرُ النصب بخِلافِ "كلّمتُه فُوه إلى فيَّ"، لأنّ المراد من قولك: "بايعتُه يدًا بِيَدٍ" التعجيلُ، والنَّقْدُ، وإن لم يكن بينهما قُرْبٌ في المكان. والمرادُ بقولك: "كلّمتُه فاهُ إلى فيَّ" القربُ في المكان، وأنّه ليس بينهما واسِطةٌ، فمعناهما مختلفٌ وإن كان طريقهما في تقدير الإعراب واحدًا. وأمّا قولهم: "بِعْتُ الشاء شاةً ودرهمًا"، فـ "شاةً" نصبٌ على الحال، وصاحبُ الحال "الشاءُ"، والعاملُ الفعل الذي هو "بِعْتُ"، والشاةُ وإن كان اسمًا جامدًا، فهو نائبٌ عن الصفة، لأنّه وقع موقعَ "مسعِّرًا"، فإذا قلتَ: "بعتُ الشاءَ شاةً ودرهمًا"، فمعناه "بعتُ الشاء مسعِّرًا على شاة بدرهمٍ". وجُعلت الواو في معنى الباء، فبطل الخفضُ وجُعل معطوفًا على "شاةً"، فاقترن الدرهمُ والشاةُ، فالشاةُ مُثمَّنٌ، والدرهمُ ثَمَنُه. وأجاز الخليلُ (¬2): "بعتُ الشاء شاةٌ ودرهمٌ" بالرفع، والمرادُ: بدرهمٍ. فـ "شاةٌ بدرهم" ابتداء وخبر، والجملة في موضع الحال، فأما إذا قال: "شاة ودرهم"، فتقديره: شاة ودرهم مقرونان، فالخبر محذوفٌ، كما تقول: "كلُّ رجل وضَيْعَتَه" بمعنى: مع ضيعته، لأنّ في الواو معنى "مَعَ"، فصحّ معنى الكلام بذلك، وكذلك "بعتُ الشاء شاةٌ ودرهمٌ" لمّا رفع الدرهم، وعطفه على الشاة، قدّر خبرًا لا يخرج عن معنى "مع"، وهو مقرونان. ومثله "بيّنتُ له حِسابَه بابًا بابًا" فـ "بابًا" نصبٌ على الحال، لأنّه في معنى "مُصنَّفًا"، و"مُرتَّبًا". وهذه الأسماء التي في هذا الباب لا ينفرد منها شيءٌ، ولا بد من إتباعه بما بعده، فلا يجوز "كلمته فاه" حتى تقول: "إلى فيَّ" لأنك تريد إِنما تريد: مشافَهةً. والمشافهةُ لا تكون إلّا من اثنَيْن (¬3). وكذلك لا يجوز: "بايعتُه يَدًا" حتى تقول ¬
فصل [تنكير الحال وتعريفها]
"بِيَدٍ", لأنّ المراد: أخَذَ منّي، وأعطاني، فهما من اثنين أيضًا، وكذلك: "بيّنتُ له حِسابَه بابًا بابًا"، لو قلت: "بابًا" من غيرِ تكرير، لَتُوُهّم أنّه رتّبه بابًا واحدًا، وليس المعنى عليه، وإنّما المرادُ به جعلُه أصنافًا، فاعرفه. فصل [تنكير الحال وتعريفها] قال صاحب الكتاب: "ومن حقها أن تكون نكرة، وذو الحال معرفة, وأما "أرسلها العراك"، و"مررت به وحده"، و"جاؤا قضهم بقضيضهم"، و"فعلته جهدك, وطاقتك"، فمصادر قد تكلم بها على نية وضعها في موضع مالا تعريف فيه، كما وضع "فاه إلى فيّ" موضع "شفاهًا"، وعُنى معتركة، منفرداً وقاطبة وجاهداً. ومن الأسماء المحذوِّ بها حذو هذه المصادر قولهم: "مررت بهم الجماء الغفير" (¬1) , وتنكير ذي الحال قبيحٌ, إلا إذا قدمت عليه ,كقوله [من الوافر]: 280 - لعزة موحشًا طللٌ قديم ... [عفاهُ كلُّ أسحم مستديم] * * * قال الشارح: إنّما استحقّت الحالُ أن تكون نكرةً، لأنّها في المعنى خبرٌ ثانٍ، ألا ترى أنّ قولك: "جاء زيدٌ راكبًا" قد تضمّنَ الإخبارَ بمَجيءِ زيد ورُكوبِه في حالِ مجيئه، وأصلُ الخبر أن يكون نكرةً، لأنّها مستفادةٌ، وأيضًا فإنّها تُشْبِه التمييزَ في الباب، فكانت نكرةً مثلَه، وإنّها تقع في جواب "كيف جاء". و"كَيْفَ" سؤالٌ عن نكرة. وإنّما لزم أن يكون صاحبُها معرفةً لما ذكرناه من أنّها خبرٌ ثانٍ، والخبرُ عن النكرة غيرُ جائز، ولأنّه إذا كان نكرةً، أمكن أن تجري الحالُ صفةً، ولا حاجةَ إلى مخالَفتها إيّاه في الإعراب، إذ لا ¬
فَرْقَ بين الحال في النكرة، والصفةِ في المعنى. وقد جاءت مصادرُ في موضع الحال، لفظُها معرفةٌ، وهي في تأويل النكرات. فمنها ما فيه الألفُ واللام، ومنها ما هو مضافٌ، فأمّا ما كان بالألف واللام، فنحو قولهم: "أرسلها العِراكَ". قال لَبِيدٌ [من الوافر]: 281 - فأرْسَلَهَا العِراكَ ولم يَذُدْهَا ... ولم يُشْفِقْ على نَغَصِ الدِّخالِ فنصب "العِراكَ" على الحال، وهو مصدرُ "عَارَكَ يُعَارِكُ مُعارَكةً، وعِراكًا"، وجعل "العِراكَ" في موضع الحال، وهو معرفةٌ، إذ كان في تأويل مُعْتَرِكَةٌ. وذلك شاذٌّ لا يُقاس عليه، وإنّما جاز هذا الاتّساعُ في المصادر، لأنّ لفظها ليس بلفظ الحال، إذ حقيقةُ الحال أن تكون بالصفات، ولو صرّحت بالصفة، لم يجز دخولُ الألف واللام، لم تقل العربُ: "أرسلها المعترِكة"، و"لا جاء زيدٌ القائمَ"، لوُجودِ لفظ الحال. والتحقيقُ أنّ هذا نائبٌ عن الحال، وليس بها، وإنّما التقديرُ: أرسلها معترِكةً، ثم جُعل الفعل موضع اسم الفاعل لمشابَهته له، فصار "تعترِكُ". ثمّ جُعل المصدر موضع الفعل لدلالته عليه، يقال: "أَوْرَدَ إبله العِراكَ" إذا أوْردها جميعًا الماء، من قولهم: "اعترك القومُ"، أي: ازدحموا في المُعْتَرَك. وأمّا ما جاء مضافًا، فنحو قولك: "مررتُ به وَحْدَه"، و"مررتُ بهم وَحْدَهم"، فـ "وحده" مصدرٌ في موضع الحال، كأنّه في معنى "إيحادٍ"، جاء على حذف الزوائد، كأنّك قلت: "أوحدتُه بمُروري إيحادًا"، أو "إيحادٌ" في معنى مُوحَدٍ، أي: مُنْفَرِدٍ، فإذا ¬
قلت: "مررتُ به وَحْدَه"، فكأنّك قلت: "مررتُ به منفرِدًا"، ويحتمل عند سيبويه (¬1) أن يكون للفاعل وللمفعول. وكان الزَجّاج يذهب إلى أنّ "وحده" مصدرٌ، وهو للفاعل دون المفعول، فإذا قلت: "مررتُ به منفردًا"، فكأنّك قلت: "أفردتُه بمُروري إفرادًا". وقال يُونُس: إذا قلت: "مررتُ به وحدَه" فهو بمنزلةِ "مُوحَدًا"، أو "منفرِدًا"، وتجعله للمرور به. وليونسَ (¬2) فيه قولٌ آخر: أنّ "وحدَه" معناه: على حِياله، و"على حياله" في موضع الظرف، وإذا كان الظرفُ صفةً أو حالًا، قُدّر فيه مستقِرٌّ ناصبٌ للظرف، ومستقرٌّ هو الأوّلُ. واعلم أنّ "وحدَه" لم يُستعمل إلاّ منصوبًا، إلاّ ما ورد شاذًّا، قالوا: "هو نَسِيجُ وَحْده" (¬3)، و"عُيَيْرُ وحده" (¬4)، و"جُحَيْشُ وحدِه" (¬5). وأمّا "نسيجُ وحده"، فهو مَدْحٌ، وأصلُه أنّ الثوْب إذا كان رَفِيعًا، فلا يُنسَج على مِنْواله معه غيرُه. فكأنّه قال: نسيجُ إفراده. يقال هذا للرجل إذا أُفْرِدَ بالفضل. و"أمّا عُيَيْرُ وحده"، و"جُحَيْشُ وحده"، فهو تصغيرُ "عَيْرٍ"، وهو الحِمارُ، يقال للوَحْشيّ والأهْليّ، و"جُحَيشُ وحده"، وهو وَلَدُ الحمار فهو ذَمٌّ، يقال للرجل المُعْجَبِ برَأْيه، لا يُخالِط أحدًا في رأي، ولا يدخل في مَعُونةِ أحد. ومعناه أنّه ينفرِد بخِدْمةِ نفسه، وأما قولهم: "جاؤوا قَضَّهم بقَضيِضهم"، أي: جميعًا، ولمّا كان معناه التنكيرَ جاز أن يقع حالًا. قال الشمّاخ [من الطويل]: 282 - أَتَتْنِي سُلَيْمٌ قَضَّهَا بقَضِيضِها ... تُمَسِّحُ حَوْلِي بالبَقِيع سِبالَها ¬
فـ "قَضَّها" منصوبٌ على الحال، وقد استُعمل على ضربَيْن: منهم مَن ينصبه على كلّ حال، فيكون بمنزلةِ المصدر المضاف المجعولِ في موضع الحال، كقولك: "مررتُ به وَحْدَه". ومنهم من يجعل "قَضَّهَا" تابعًا مُؤكِّدًا لما قبله، فيُجرِيه مُجْرَى "كُلّهِم"، فيقول: "أتتني سليمٌ قَضُّها بقضيضها"، و"رأيتُ سليمًا قَضَّها بقضيضها"، و"مررتُ بسليمٍ قضِّها بقضيضها"، ومعناه أَجْمَعِينَ. وهو مأخوذٌ من القَضّ، وهو الكَسْرُ، وقد يُستعمل في موضع الوقوع على الشيء بسُرْعَةٍ، كما يقال: "عُقابٌ كاسرٌ"؛ فكأنّ قضّهم وَقَعَ بعضُهم على بعض، وأمّا قولهم: "فعلتَه جَهْدَك، وطاقَتَك" فهو مصدرٌ في موضع الحال. فهو وإن كان معرفةً، فمعناه على التنكير، كانّه قال: "فعلتَه مجتهِدًا". وأمّا قولهم: "مررتُ بهم الجَمّاءَ الغَفِيرَ"، فهما من الأسماء التي تجيء بها مَجِيءَ المصادر. فالجمّاءُ اسمٌ، والغفيرُ نعتٌ له، وهو في المعنى بمنزلة قولك: "الجَمَّ الكثيرَ"، لأنّه يراد به الكثرةُ. والغفيرُ يراد به أنّهم قد غطّوا الأرض من كثرتهم من قولنا: "غفرتُ الشيء"، إذا غطّيته. ومنه المِغْفَرُ الذي يوضَع على الرأس، لأنّه يُغطّيه. ونصبُه على الحال لأنّهما قد جُعلا في موضع المصدر كالعِراك، كأنّك قلت: "الجُمومَ الغفيرَ" على معنى "مررتُ بهم جامِّين غافِرين". وذهب يونسُ (¬1) إلى أنّ "الجَمّاء الغفيرَ" اسمٌ لا في موضع مصدر، وأنّ الألف واللام في نِيَّةِ الطرْح. وهذا غيرُ سديد إذ لو جاز مثلُ هذا، لَجاز "مررت به القائمَ". فتنصِبه على الحال، وتَنْوِي بالألف واللام الطرْحَ، وذلك غيرُ جائز. وتنكيرُ ذي الحال قبيحٌ. وهو جائزٌ مع قُبحه، لو قلت: "جاء رجلٌ ضاحكًا" لَقبُح مع جوازه، وجعلُه وصفًا لما قبله هو الوجهُ. فإن قدّمتَ صفةَ النكرة. نصبتَها على الحال، وذلك لامتناعِ جوازِ تقديمِ الصفة على الموصوف، لأنّ الصفة تجري مجرَى الصلة في الإيضاح، فلا يجوز تقديمُها على الموصوف، كما لا يجوز تقديمُ الصلة على الموصول. وإذا لم يجز تقديمُها صفةً، عُدل إلى الحال، وحُمل النصب على جوازِ "جاء رجلٌ ضاحكًا"، وصار، حينَ قُدّم، وَجْهَ الكلام، ويُسمِّيه النحويّون أحسنَ القبيحَيْن، وذلك أنّ الحال من النكرة قبيحٌ، وتقديمَ الصفة على الموصوف أقبحُ، قال الشاعر [من الطويل]: ¬
فصل [الحال المؤكدة]
283 - وتَحْتَ العَوالِي بالقَنَا مستظِلَّةً ... ظِباءٌ أَعارَتْها العُيُونَ الجَآذِرُ أراد: ظباءٌ مستظلّةٌ، فلمّا قدّم الصفةَ، نصبها على الحال. وشرطُ ذلك أن تكون النكرةُ لها صفةٌ تجري عليها. ويجوز نصب الصفة على الحال والعاملُ في الحال شيءٌ متقدِّمٌ، ثمّ تُقدَّم الصفة لغرضٍ يعرِض، فحينئذٍ تُنصب على الحال. ويجِب ذلك لامتناعِ بَقائه صفةً مع التقدّم، وأمّا ما أنشده من قول الشاعر [من الوافر]: لِعَزَّةَ مُوحِشًا طَلَلٌ قَدِيمُ فالبيتُ لكُثَيِّرٍ، وعَجُزُه: عَفاهُ كلُّ أَسْحَمَ مُسْتَدِيمِ والشاهد فيه تقديمُ موحش على الطلل، ونصبه على الحال، يصِف آثارَ الدِّيار، واندراسَها، وتَعْفِيَةَ السُّحُب إيّاها، فاعرفه. فصل [الحال المؤكدة] قال صاحب الكتاب: "والحال المؤكدة هي التي تجيء على إثر جملة, عقدها من اسمين لا عمل لهما, لتوكيد خبرها وتقرير مؤداه, ونفي الشك عنه، وذلك قولك: "زيد أبوك عطوفاً"، و"هو زيد معروفاً"، وهو الحق بيناً، ألا تراك حققت بالعطوف الأبوة، وبالمعروف والبين أن الرجل زيدٌ, وأن الأمر حق، وفي التنزيل: {وهو الحق مصدقاً لما بين يديه} (¬1). وكذلك "أنا عبد الله آكلاً كما يأكل العبيد" فيه تقرير للعبودية, وتحقيق لها. ¬
وتقول أنا فلان بطلاً شجاعاً وكريماً جواداً, فتحقق ما أنت متسم به, وما هو ثابتٌ لك في نفسك، ولو قلت: زيد أبوك منطلقاً أو أخوك" أحلت, إلا إذا أردت التبني, والصداقة, والعامل فيها أثبته وأحقه مضمراً. * * * قال الشارح: الحال على ضربَيْن: فالضرب الأوّل ما كان منتقِلًا، كقولك: "جاء زيدٌ راكبًا"، فـ "راكبًا" حالٌ، وليس الركوبُ بصفةٍ لازمةٍ ثابتةٍ، إنّما هي صفةٌ له في حالِ مَجِيئه. وقد ينتقِل عنها إلى غيرها، وليس في ذِكْرها تأكيدٌ لما أخبر به، وإنّما ذُكرتْ زيادةً في الفائدة وفضلةً، ألا ترى أنّ قولك: "جاء زيدٌ راكبًا" فيه إخبارٌ بالمجيء والركوبِ، إلاّ أنّ الركوب وقع على سبيل الفضلة، وأنّ الاسم قبلَه قد استوفى ما يقتضيه من الخبر بالفعل. وأمّا الضربُ الثاني، فهو ما كان ثابتًا غيرَ منتقِل، يُذكَر توكيدًا لمعنى الخبر، وتوضيحًا له، وذلك قولُك: "زيدٌ أبوك عَطُوفًا" و"هو الحقُّ بَيِّنًا"، و"أنا زيدٌ معروفًا". فقولك: "عطوفًا" حالٌ، وهي صفةٌ لازمةٌ للأُبُوَّةِ، فلذلك أكّدتَ بها معنى الأُبوّة، وكذلك قولُه: "وهو الحقُّ بيّنًا" أكّد به الحقَّ، لأنّ ذلك ممّا يؤكَّد به الحقُّ، إذ الحقُّ لا يزال واضحًا بَيِّنًا. وكذلك قوله: "أنا زيدٌ معروفًا"، فـ "معروفًا" حالٌ أكّدتَ به كَوْنَه زيدًا, لأنّ معنى مَعْرُوفًا: لا شَكَّ فيه، فإذا قلت: "أنا زيدٌ لا شكّ فيه"، كان ذلك تأكيدًا لِما أخبرتَ به، قال الله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا}، فـ "مصدّقًا" حالٌ مؤكِّدةٌ، إذ الحقُّ لا ينفَكُّ مصدّقًا. ومثله قولُ ابن دارَةَ [من البسيط]: 284 - أَنَا ابنُ دارَةَ مَعْروفًا بها نَسَبِي ... وهَلْ بدارةَ يا لَلنّاسِ مِن عارِ ¬
فصل [وقوع الحال جملة]
ولا يجوز أن يقع في هذا الموضع إلّا ما أَشْبَهَ المعروفَ ممّا يُعرِّف، ويُؤكِّد، لو قلتَ: "هو زيدٌ منطلقًا" لم يجز، لأنّه لو صحّ انطلاقُه لم يكن فيه دلالةٌ على صِدْقه فيما قاله، كما أوْجَبَ قولهُ: "معروفًا بها نَسَبي" أنّه ابنُهما. ولو قلت: "أنا عبدُ الله كريمًا جَوادًا"، أو "هو زيدٌ بَطَلًا شُجاعًا" لجَاز، لأنّ هذه الصفاتِ وما شاكَلَها ممّا يكون مَدْحًا في الإنسان يُعرَف بها، فجاز أن تجيء مُؤكِّدةً للخبر، لأنّها أشياءٌ يُعرَف بها، فذكرُها مؤكِّدةً لذاته. وتقول: "إنّي عبدُ الله" إذا صغّرتَ نفسَك لرَبّك، ثمّ تُفسِّر حالَ العَبِيد بقولك: "آكِلًا كما يأكُل العَبِيدُ". فقولك: "آكلًا كما يأكل العبيد" قد حقّق أنّك عبدُ الله، فعلى هذا المعنى ونحوه يصحّ، ويفسُد. فكلُّ ما صحّ به المعنى، فهو جيّدٌ، وكلُّ ما فسد به المعنى، فهو مردودٌ. وقوله: "تجيء على إثْرِ جملةٍ، عَقْدُها من اسمَيْن لا عَمَلَ لهما"، يعني أنّ الحال مؤكِّدةَ تأتِي بعد جملةٍ ابتدائيَّةٍ، الخبرُ فيها اسمٌ صريحٌ، ولا يكون فعلًا، ولا راجعًا إلى معنى فعل، لأنّ الحال ها هنا تكون تأكيدًا للخبر بذِكْرِ وَصْف من أوْصافه الثابتة له، والفعلُ لا ثَباتَ له، ولا يُوصَف. وقوله: "ولو قلت: زيدٌ أبوك منطلقًا، أو أخوك أَحَلْتَ"، يعني أنّه لا يكون أخاه أو أباه في حالٍ دون حالٍ، أو وقتٍ دون وقتٍ، فإن أردتَ أنّه أخوه من حيثُ الصَّداقةُ، أو أبوه من حيثُ أنّه تبنّى به، جاز، لأنّ ذلك ممّا ينتقِل، فيجوز أن يكون في وقت دون وقت. وأمّا العامل في هذه الحال، فهو عند سيبويه (¬1) فعلٌ مضمرٌ تقديره: أعْرِفُ ذلك، أو أَحُقُّه، ونحو ذلك ممّا دلّت عليه الحالُ، فيكون فيها توكيدُ الخبر بـ "أُحَقَّ"، و"أُعْرَفُ" كتوكيده باليَمِين. فإذا قلت: "أنا عبدُ الله معروفًا"، فكأنّك قلت: "لا شَكَّ فيه"، أو "أعرفُه"، أو "أحقُّه". وجرى ذلك في التأكيد بالجملة مجرَى قولك: "أنا عبد الله والله". وذهب أبو إسحاق الزجّاجُ إلى أنّ العامل في الحال الخبرُ لنِيابَته عن مُسَمًّى، أو مَدْعُوٍّ، ويُجعل فيه ذكْرٌ من الأوّل. والمذهبُ الأوّل. فصل [وقوع الحال جملةً] قال صاحب الكتاب: "والجملة تقع حالاً, ولا تخلو من أن تكون اسمية, أو ¬
فعلية, فإن كانت اسمية فالواو إلا ما شذ من قولهم كلمته فوه إلى فيَّ، وما عسى أن يعثر عليه في الندرة؛ وأما "لقيته عليه جبة وشي"، فمعناه مستقرة عليه جبة وشي. وإن كانت فعلية لم تخل من أن يكون فعلها مضارعاً أو ماضياً. فإن كان مضارعاً لم يخل من أن يكون مثبتاً أو منفياً. فالمثبت بغير واو: وقد جاء في المنفي الأمران. وكذلك في الماضي. ولا بدّ معه من قد ظاهرة أو مقدرة". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الجملة قد تقع في موضع الحال، ولا تخلو الجملةُ من أن تكون اسميّةً، أو فعليّةً، فمِثالُ الاسميّة قولك: "مررتُ بزيدٍ على يَدِه بازٌ"، و"جاء زيدٌ وسيفه على كَتفِه"، أي: جاء وهذه حالُه. ولا يقع بعد هذه الواو إلاّ جملةٌ مركَّبةٌ من مبتدأ وخبر. وإذا وقعت هذه الجملةُ بعد هذه الواو حالًا، كنتَ في تضمينها ضميرَ صاحب الحال، وتَرْكِ ذلك، مخيَّرًا. فالتضمين كقولك: "أقبل محمّدٌ وَيَدُهُ على رأسه"، و"جاء أخوك وثَوْبُه نظيفٌ"، وتركُ التضمين كقولك: "جاء زيدٌ وعمرٌو ضاحكٌ"، و"أقبل بكرٌ وخالدٌ يقرأ"، وإنّما جاز استغناء هذه الجملة عن ضمير يعود منها إلى صاحب الحال من قِبَل أنّ الواو أغْنَتْ عن ذلك برَبْطها ما بعدها بما قبلها، فلم تَحْتَجْ إلى ضمير مع وجودها، فإن جئتَ بالضمير معها، فجيّدٌ، لأنّ في ذلك تأكيد رَبْطِ الجملة بما قبلها، وأمّا إذا لم تذكُر هناك واوًا، فلا بدّ من ضمير. وذلك نحو قولك: "أقبل محمّدٌ على رأسه قَلَنْسُوَةٌ". ولو قلت: "أقبل محمّدٌ على عبد الله قلنسوةٌ". وأنت تريد الحال لم يجز، لأنّك لم تأتِ برابطٍ يربِط الجملةَ بأوّلِ الكلام، لا واوٍ، ولا ضميرٍ يعود من آخِر الكلام إلى أوّله، فيدل على أنّه معقود بأوّله. قال الشاعر [من الكامل]: 285 - نَصَفَ النَّهارَ الماءُ غامِرُهُ ... ورَفِيقُهُ بالغَيْبِ لا يَدْرِي ¬
يصف غائضا غاصَ في الماء حتى انتصف النهار، ورفيقُه على شاطئ الماء لا يَدْرِي ما كان منه، فيقول: انتصف النهارُ على الغائص، وهذه حالُه. والهاءُ في "غامِرُه" ربطتِ الجملة بما قبلها حتى جرت حالًا، ومن ذلك قوله تعالى: {يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} (¬1)، والمعنى - واللَّهُ أعلمُ- يغشى طائفةً منكم في هذه الحال، وأمّا قول امرئ القيس [من الطويل]: 286 - وَقَدْ أَغْتَدِي والطَّيْرُ في وُكُناتِها ... بِمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوَابِدِ هَيْكَلِ فموضعُ الشاهد أنّه جعل الجملةَ التي هي: "والطيرُ في وكناتها" حالًا مع خُلُوِّها من عائدٍ إلى صاحب الحال اكتفاء برَبْط الواو. فهذه الواو، وما بعدها في موضع نصب على الحال بما قبلها من العوامل التي يجوز بها نصبُ الحال، وإذا قلت: "جاء زيدٌ وثوبُه نظيفٌ" [كانت] (¬2) في موضع "جاء زيدٌ نظيفًا ثوبُه"، فكما أنّ "نظيفًا" نُصب بما قبله من الفعل، فكذلك الجملةُ الواقعةُ موقعَه في موضعِ منصوب، والعاملُ فيها ذلك الفعلُ. ¬
فأمّا قوله: "فإن كانت الجملة اسميّةً فالواوُ"، فإشارةٌ إلى أنّه إذا وقعت الجملةُ الاسميّة حالًا، فيلزم الإتيانُ بالواو فيها، وليس الأمرُ كذلك، إنّما يلزم أن تأتيَ بما يُعلِّق الجملة الثانية بالأوُلى، لأنّ الجملة كلامٌ مستقِلٌّ بنفسه مُفيدٌ لمعناه، فإذا وقعت الجملةُ حالًا، فلا بدّ فيها ممّا يُعلِّقها بما قبلها، ويربِطها به، لئلّا يُتوهّم أنّها مستأنَفةٌ. وذلك يكون بأحدِ أمرَيْن: إمّا الواو، وإمّا ضمير يعود منها إلى ما قبلها على ما تقدّم. فمثالُ الواو: "جاء زيدٌ والأمير راكبٌ"، وقولُنا: "والأميرُ راكبٌ" جملةٌ في موضع الحال، ومثالُ الضمير "أقبل محمّدٌ يَدُه على رأسه". فقولُه: "يده على رأسه" جملةٌ في موضع الحال. فأمّا قوله: "إلاّ ما شَذَّ من قولهم: "كلّمته فُوه إلى فيَّ""، فإن أراد أنّه شاذّ من جهة القياس، فليس بصحيح لما ذكرناه من وُجودِ الرابط في الجملة الحاليّة، وهو الضميرُ في "فوه". وإِن أراد أنّه قليلٌ من جهة الاستعمال، فقريبٌ، لأنّ استعمال الواو في هذا الكلام أكثر، لأنّها أَدَلُّ على الغرض، وأظهرُ في تعليق ما بعدها بما قبلها. فأمّا "لقيتُه عليه جُبَّةُ وشْيٍ" فيحتمل الجارُّ والمجرورُ فيه أمرَيْن: أحدُهما أن يكون في موضع نصب على الحال، ويتعلّق حينئذٍ بمحذوفٍ، ويكون ارتفاعُ "جبّةُ وشي" بالجار والمجرور ارتفاعَ الفاعل. وهذا لا خلاف في جوازه ها هنا لاعتماده على ذي الحال. والأمرُ الثاني أن يكون "جبّةُ وشي" مبتدأ، والجارُّ والمجرور الخبرَ، وقد تقدّم عليه، وهو شاهدٌ على جوازِ خُلُوِّ الجملة الاسميّة من الواو. وصاحبُ الكتاب خرّجه على الوجه الأوّلِ، لأنّه لا يَرَى خُلُوَّ الجملة الاسميّة من الواو، إذا وقعتْ حالًا. وقد يقع الفعلُ موقعَ الحال، إذا كان في معناه، وكان المرادُ به الحال المصاحِبةَ للفعل. تقول: "جاء زيدٌ يَضْحَكُ"، أي: ضاحكًا، و"ضربتُ زيدًا يَرْكَبُ"، أي: راكبًا. قال الله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} (¬1)، أي: ماشِيَةً. وقال الشاعر [من الطويل]: 287 - مَتَى تَأْتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءٍ نارِه ... تَجِدْ خَيْرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِدِ ¬
والمراد: عاشِيًا، ولا حاجة إلى الواوِ لما بين الفعل المضارع واسم الفاعل من المناسبَة. فأمّا الفعل المستقبَل فلا يقع موقعَ الحال، لأنّه لا يدلّ على الحالَ. لا تقول: "جاء زيدٌ سَيركَب"، ولا "أقبل محمّدٌ سَوْفَ يضحَك". وكذلك الفعلُ الماضي لا يجوز أن يقع حالًا لعدمِ دَلالته عليها، لا تقول: "جاء زيد ضَحِكَ" في معنى "ضاحكًا"، فإن جئتَ معه بـ "قَدْ"، جاز أن يقع حالًا، لأنّ "قَدْ" تُقرِّبه من الحال. ألا تراك تقول: "قد قامت الصلاةُ" قبل حالِ قيامِها؟ ولهذا يجوز أن يقترِن به "الآنَ" أو "الساعة" فيقال: "قد قام الآن أو الساعة"، فتقول: "جاء زيدٌ قد ضحِك"، و"أقبل محمّدٌ وقد عَلاهُ الشَّيْبُ"، ونحوه قال الشاعر [من الطويل]: 288 - ذكرتُكِ والخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... وقد نَهِلَتْ مِنَّا المُثَقَّفَةُ السُّمْرُ ¬
فموضعُ "قد نهلت" نصبٌ على الحال، والتقديرُ: "ناهِلةٌ". وربّما حذفوا منه "وَقَدْ" وهم يريدونها، فتكون مقدَّرةَ الوجود، وإن لم تكن في اللفظ. قال الشاعر [من الهزج]: 289 - وَطَعْنٍ كَفَمِ الزِّقِّ ... غَذَا والزِّقُّ مَلآنُ والمراد: قد غذا. وقد تَأَوّلوا قوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (¬1) على تقدير: "قد حصرت". ويؤيِّد ذلك قِراءةُ من قرأ: "حَصِرَةً" (¬2) بالنصب. وذهب الكوفيون (¬3) إلى جوازِ وقوعِ الفعل الماضي حالًا سواءً كان معه "قَد"، أو لم تكن. وإليه ذهب أبو الحسن الأخفشُ من البصريين، واحتجّوا لذلك بما تقدّم من النصوص. والمعني بالنصوص قوله تعالى: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} (¬4) وقول الشاعر: وطعنٍ كفم الزقّ ... إلخ ونحو قول الآخر [من الطويل]: 290 - وإنّي لتَعْرُوني لذِكّراكِ نُفْضَةٌ ... كما انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ ¬
وقوله: "حَصِرَتْ" من الآية حالٌ، وتؤيِّده قِراءةُ من قرأ: "حَصِرَةً" (¬1) على ما تقدّم. وكذلك "غَذَا" من قوله: "غذا والزقُّ ملآن". وكذلك قوله: "بلّله القطرُ" في موضعِ حال. وأمَّا المعنى فإنّ الفعل الماضي يقع صفةً للنكرة، وكلُّ ما جاز أن يكون صفةً، فإنّه يجوز أن يكون حالًا، ألا ترى أنّك تقول: "جاء زيدٌ يضحك" كما تقول: "جاء زيدٌ ضاحكًا"، لأنّك تقول: "جاء رجلٌ يضحك" كما تقول: "جاء رجلٌ ضاحكٌ"، فيكون صفةً للنكرة. وقد تقدّم الجوابُ عن النصوص بأنّ "قَدْ" مرادةٌ فيها، ولذلك حسُن الحالُ بالماضي، وأمّا ما ذكروه من المعنى، ففاسدٌ، والأمرُ فيه بالعَكْس، فإنّ كلَّ ما يجوز أنّ يكون حالًا يجوز أن يكون صفة للنكرة، وليس كلُّ ما يجوز أن يكون صفة للنكرة يجوز أن يكون حالًا، ألا ترى أن الفعل المستقبَل يجوز أن يكون صفة للنكرة، نحوَ: "هذا رجلٌ سَيَكْتُبُ أو سَيَضْرِبُ"، ولا يجوز أن يقع حالًا. فـ "ضاحِكٌ" ونحوُه إنّما وقع ¬
حالًا، لأنّه اسمُ فاعل، واسمُ الفاعل قد يكون للحال. وليس كذلك الفعلُ الماضي، ولا الفعلُ المستقبَل، فلا يكون كلُّ واحد منهما حالًا. واعلم أنّ الفعل الماضي إذا اقترن به "قَدْ"، والفعلَ المضارعَ إذا دخل عليه نافٍ، ووقع كلُّ واحد منهما حالًا، كنتَ مخيَّرًا في الإتيان بواو الحال، وتَرْكِها. تقول: "جاء زيدٌ قد علاه الشَّيْبُ"، وإن شئت قلت: "وقد علاه الشيبُ". ومثله قوله [من الطويل]: وقد نَهِلَتْ منّا المُثَقَّفَةُ السُّمْرُ (¬1) وذلك أنّ "قَدْ" تُقرِّب الماضيَ من الحال، وتُلحقه بحُكْمه، وهذه واوُ الحال، ولأنّه بدُخولِ "قَدْ" أشبهَ الجملةَ الاسميّةَ من حيث إِنَّ الجُزْءَ الأوّلَ من الجملة ليس فعلًا. وكذلك الفعلُ المضارعُ إذا دخل عليه النافي، جاز دخولُ الواو عليه وتَرْكُها، لِما ذكرناه من شَبَهها بالجملة الاسميّة من حيث صار أوّلُ جُزْء منها غيرَ فعل. قال الله تعالى في قراءة ابن عامرٍ: {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬2) بتخفيف النون وكسرِها. فقوله: "لا تتّبعان" في موضع الحال، فهو مرفوعٌ، والنونُ علامةُ الرفع، وليس بنَهْيٍ لثُبوتِ النون فيه، ولا تكون نونَ التأكيد، لأنّ نونَ التأكيد الخفيفةَ لا تدخل فِعْلَ الاثنَيْن عندنا، والتقديرُ: فاسْتَقِيمَا غيرَ مُتَّبِعَيْنِ. ومثله قول الشاعر [من الطويل]: 291 - بِأَيْدِي رِجالٍ لم يَشِيمُوا سُيُوفَهم ... ولم يَكْثُرِ القَتْلَى بها حينَ سُلَّتِ ¬
فصل [الجملة الحالية والعائد]
وقال الله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} (¬1). فقوله: "لا تخاف دركًا ولا تخشى" في موضع الحال، فأتَى بالواو في موضع، ولم يأت بها في موضع. فإذا أُتي بها فِلشَبَهِ الجملة الفعليّة بالاسميّة لمكان حرف النفي، ومن لم يأت بها، فلأنّه فعلٌ مضارعٌ. فصل [الجملة الحالية والعائد] قال صاحب الكتاب: "ويجوز إخلاء هذه الجملة عن الراجع إلى ذي الحال إجراء لها مجرى الظرف لانعقاد الشبه بين الحال وبينه، تقول: "أتيتك وزيد قائم"، ولقيتك الجيش قادم، وقال [من الطويل]: وقد أغتدي والطير وكناتها" (¬2) * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِنّ الغرض من الضمير في الجملة الحاليّة رَبْطُها بما قبلها، فإذا وُجد إمّا الواو، وإمّا الضميرُ، وُجد ما حصل به الغرض. وقوله: "إجراءً لها مُجْرَى الظرف"، فيعني بالظرف "إذْ"، وقد شبّه سيبويه واوَ الحال بـ "إذْ" وقدّرها بها. وذلك من حيث كانت "إذْ" منتصِبةَ الموضع، كما أنّ الواو منتصبةُ الموضع، وأنّ ما بعد "إذ" لا يكون إلاّ جملةً كما أنّ الواو كذلك. وكلُّ واحد من الظرف والحال يقدَّر بحرف الجر، فإذا قلت: "جاء زيدٌ وسيفه على عاتقه"، كأنّك قلت: "جاء زيد في هذه الحال"، والحالُ مفعولٌ فيها كما أنّ الظرف كذلك. فكما أنّ الجملة بعد "إذْ" لا تفتقر إلى ضمير يعود إلى ما قبلها، فكذلك ما بعد الواو، وهذا معنى قوله: "لانعقاد الشَّبَه بينهما". فصل [حذف عامل الحال] قال صاحب الكتاب: "ومن انتصاب الحال بعامل مضرم قولهم للمرتحل: "راشداً مهدياً ومصاحباً معاناً بإضمار إذهب وللقادم: مأجوراً مبروراً", أي رجعت, ¬
وإن أنشدت شعراً أو حدثت حديثاً قلت صادقاً، بإضمار قال. وإذا رأيت من يتعرض لآمر قلت متعرضاً لعنن لم يعنه، أي دنا منه متعرضاً. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الحال قد يُحذف عاملُه إذا كان فعلًا وفي الكلام دلالةً عليه، إمّا قرينةُ حالٍ، أو مَقالٍ. فمن ذلك أن ترى رجلًا قد أزمعَ سَفَرًا، أو أراد حَجًّا، فتقول: "راشِدًا مَهْدِيًّا"، وتقديره: "اذْهَبْ راشدًا مهديًّا". ومثله أن تقول لِمن خرج إلى سَفَر: "مُصاحَبًا مُعانًا". وتقديره "اذهبْ، أو سافِرْ مصاحبًا معانًا". فدلّت قرينةُ الحال على الفعل، وأغنتْ عن اللفظ به. ولو رفعتَ هذه الأشياء، وقلت: "راشدٌ مهديٌّ"، و"مصاحَبٌ مُعانٌ"، لكان جيْدًا عربيًّا على معنى: "أنت راشدٌ مهديٌّ"، و"مصاحبٌ معانٌ". فالرفع بإضمار مبتدأ هو الظاهر في المعنى، والنصبُ بإضمار فعل، وكذلك لو رأيت رجلًا قد قدم من سفرٍ، أو حَجٍّ، أو زيارةٍ، لقلت: "مأجورًا مبرورًا". والمعنى: قدمت مأجورًا مبرورًا، أو رجعتَ مأجورًا مبرورًا. ومن ذلك إن حَدَّثَ فلانٌ بكذا وكذا، قلتَ: "صادقًا والله"، أو أنشد شعرًا، فتقول: "صادقًا والله"، أي: قاله صادقًا، لأنه إذا أنشد، فكأنه قد قال: قال كذا، فقلتَ: "قال صادِقًا". فالرفعُ جائزٌ على إضمار مبتدأ، كما جاز في "راشدٌ مهديٌّ"، و"مصاحبٌ مُعانٌ"، ومن ذلك أن ترى رجلًا قد أَوْقَعَ أمرًا، أو تَعرّضَ له، فتقول: "متعرِّضًا لعَنَنٍ لم يَعْنِهِ"، كأنّه قال: "فَعَلَ هذا متعرِّضًا"، أو "دَنَا من هذا الأمر متعرِّضًا"، والعَنَن: ما عَنَّ لك، أي: عرض لك، والمعنى أنّه دخل في شيء لا يَعْنِيه. * * * قال صاحب الكتاب: "ومنه أخذته بدرهم فصاعداً أو بدرهم فزائداً، أي فذهب الثمن صاعداً أو زائداً. ومنه أتميميا مرة وقيسياً أخرى؟ كأنك قلت أتحول. ومنه قوله تعالى: {بلى قادرين} (¬1) أي نجمعها قادرين. * * * قال الشارح: أمّا قولهم: "أخذتُه بدرهم فصاعدًا"، و"بدرهم فزائدًا"، فـ "صاعدًا" و"زائدًا" نصبٌ على الحال، وقد حُذف صاحبُ الحال والعاملُ فيه تخفيفًا لكثرةِ الاستعمال. والتقديرُ: أخذتُه بدرهم، فذهب الثمنُ صاعدًا. فالثمنُ صاحبُ الحال، والفعلُ الذي هو "ذَهَبَ" العاملُ في الحال. وكذلك: أخذتُه بدرهمٍ فزائدًا، تقديرُه: أخذته بدرهم، فذهب الثمنُ زائدًا، كأنّه ابتاع مَتاعًا بأثمانٍ مختلفةٍ، فأخبر بأَدْنَى الأثمان، ثمّ جعل بعضَها يَتْلُو بعضًا في الزيادة والصعودِ، وصار بعضُها مَثَلًا بدرهمٍ وقِيراطٍ، وبعضُها بدرهمٍ ودانِقٍ، وحسُن حذفُ الفعل لأَمْنِ اللبْس. ¬
ولا يحسن عطفُه على الباء في قولك: "بدرهمٍ" لوُجوهٍ: منها أنّ "صاعدًا" و"زائدًا" صفةٌ، ولا يحسن عطفه على الدرهم الموصوفِ. والوجه الثاني: أنّ الثمن لا يُعطف بعضُه على بعض بالفاء، لأنّه لا يتقدّم بعضُه على بعض، إنّما يقع دفعة واحدة، فلا تقول: "اشترَيْتُ الثوبَ بدرهمٍ فدانقٍ" إنّما ذلك بالواو؛ لأنّها للجمع بين الشيئَيْن من غيرِ ترتيب. والوجه الثالث: أنّ "صاعدًا" صفةٌ، فلا يحسن أن تجعل "ثمنًا" في موضع الاسم الموصوف، ولا يقع في هذا الموضع من حروف العطف، إلّا الفاءُ، وثمَّ. لو قلت: "أخذتُه بدرهم وصاعدًا" لم يجز؛ لأنّ الأثمان يتلو بعضُها بعضًا، والفاءُ وثُمَّ تَدُلّان على ذلك لإفادتهما الترتيبَ، والواوُ لا تدلّ على ترتيب الفعل، فلذلك لم يجز إلّا الفاءُ وثُمَّ. والفاء أكثرُ في كلام العرب لاتّصالها بما قبلها. وأمّا قولهم: "أَتَمِيمِيًّا مرّةً وقَيْسِيًّا أُخرى؟ " فإنّه منصوبٌ على الحال، وإن كان اسمًا جامدًا غيرَ مشتقّ من حيثُ كان منسوبًا، والنَّسَبُ يُخرِجه من حيِّز الجُمود إلى حُكم المشتقّات حتى يصير وَصْفًا. والعاملُ فيه فعلٌ محذوفٌ تقديره: أَتحَوَّلُ تميميًّا مرّةٌ وقيسيًّا أُخرى، أو تتنقّلُ، كأنّه رأى رجلاً في حالٍ يكون، ويتحوّل من حال إلى حال لا يَثبت على شيء، فقال: "أتميميًّا مرّةً وقيسيًّا أُخرى؟ ". والمعنى: أتتخلّقُ مرّةً بأخلاق تميمٍ، وتارةً بأخلاق قيسٍ، ولا تعتمِد على خُلْقٍ واحدٍ منهما. كأنّه يُثْبِت له هذه الحال ويُوَبِّخه عليها، وليس يسترشِدُه عمّا يجهله، وإن كان بلفظ الاستفهام. وحكى سيبويه (¬1) أنّ رجلاً من بني أَسَدٍ قال يومَ جَبَلَةَ - وهو يومٌ لبني تميمٍ وعامرٍ علي بني أسد وذُبْيانَ، وقد استقبله بعِيرٌ أَعْوَرُ، فنظر الأسديُّ إلى قَوْمه، فقال: "يا بني أسد، أَأَعْوَرَ وذا نابٍ" أَتَى بلفظ الاستفهام ولم يُرِد أن يسترشِدهم ليُخْبِروه عن عَوَره، لكنّه حقّق ذلك حَذَرَهُ، وانهزموا، فقَتل منهم. والفعلُ الناصبُ لـ "أعْوَرَ وذا نابٍ" محذوفٌ تقديره: أتستقبَلون، ودلّ عليه الحالُ المشاهَدةُ. وهذه المسألة من قبيلِ قولهم: "أقائمًا وقد قعد الناسُ؟ " إلّا أنّ الاسم المنصوب هنا لم يكن مأخوذًا من فعلٍ، فاحْتِيجَ إلى تقدير فعلٍ من غير لفظه، وقياسُه لو قُدّر من لفظه: "أَتَتَمَّمُ تميميًّا مرّةً، وتَتقّيسُ قيسيًّا أُخرى؟ " كما قلت في قولك: "أقائمًا وقد قعد الناس؟ " ويجوز الرفعُ في قولك: "أتميميًّا مرّةً، وقيسيًّا أُخرى؟ " فتقول: "أتميمىٌّ مرّةً، وقيسىٌّ أُخرى؟ " على معنى: "أَأَنت تميميٌّ مرّةَ، وقيسيٌّ أُخرى؟ " فيكون مبتدأً وخبرًا، وجاز الرفعُ بتقديرِ المبتدأ، كما ترفعهُ لو ظهر ذلك المبتدأُ المقدَّرُ. ¬
فأمّا قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} (¬1) فانتصابُ "قادرين" عند سيبويه (¬2) بفعل مقدَّر تقديرُه "نَجْمَعُهَا قادرين". ودلّ على ذلك الفعل قولُه تعالى: {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ}، وتَسْويَةُ البَنانِ ضمُ بعضها إلى بعض. وذهب الفرّاءُ إلى أن انتصابه بإضمارِ فعل دلّ عليه الفعلُ المذكورُ أوّلًا، وهو قولُه: "أيحسب الإنسانُ". وتقديرُه: "بلى فَلْيحسبْنا قادرين على أن نسوّي بنانَه". فهذا لجَعْله مفعولًا ثانيًا، ومفعولا "حسبتُ" وأخواتِها لا يجوز ذِكْرُ أحدِهما دون الآخر. وذهب بعضُهم إلى أن تقديره: "بلى نَقْدِرُ قادرين"، وهو ضعيفٌ أيضًا, لأنّ اسم الفاعل إذا وقع حالًا لم يجز أن يعمل فيه فعلُ من لفظه. لا تقول: "قمتُ قائمًا"، وأنت تريد الحالَ؛ لأنّ الحال لا بدّ فيها من فائدةٍ إذ كانت فضلةّ في الخبر، وليس في ذلك فائدة؛ لأنّك لا تقوم إلَّا قائمًا، والوجهُ هو الأوَّل، وهو مذهبُ سيبويه. ¬
التمييز
التمييز قال صاحب الكتاب: "ويقال له: التبيين، والتفسير، وهو رفعُ الإبهام في جملة، أو مفرد، بالنصّ على أحدِ محتملاته، فمِثالُه في الجملة: "طابَ زيدٌ نفسًا"، و"تَصبّبَ عَرَقًا، وتَفقّأَ شَحْمّا" و [من المتقارب]: 292 - [تقولُ ابْنَتى حينَ جَدَّ الرَّحيلُ ... فَأَبْرَحْتَ رَبَّا] وأبْرَحْتَ جارَا و"امتلأ الإناءُ ماءَ" وفي التنزيل: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (¬1) {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا} (¬2) {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا} (¬3)، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} (¬4) ومثالُه في المفرد "عندي راقودٌ (¬5) خَلاًّ ورَطلُ زَيْتًا، ومَنَوان عَسلًا، وقَفِيزان بُرًّا، وعشرون درهمًا، وئلاثون ثَوْبًا، ومِلْءُ الإناء عَسَلاَ، و"على التَّمْرة مِثْلُها زُبْدًا"، و"ما في السماء موضعُ كَفَّ سَحابًا". ¬
وشبه المميز بالمفعول أن موقعه في هذه الأمثلة كموقعه في ضرب زيد عمراً , وفي ضارب زيداً , وضاربان زيداً وضاربون زيداً وضرب زيدٍ عمراً. * * * قال الشارح: اعلم أنّ التمييز، والتفسير، والتبيين، واحدٌ، والمراد به رفعُ الإبهام، وإزالةُ اللَّبْس، وذلك نحو أن تُخْبِر بخَبَرٍ، أو تذكُر لفظًا يحتمل وُجوهّا، فيتردّدُ المخاطَبُ فيها، فتُنبِّهه على المراد بالنصّ على أحدِ محتملاته تبيينًا للغرض، ولذلك سُمّي تمييزًا وتفسيرّا. وهذا الإبهام يكون في جملة ومفرد، فالجملةُ قولك: "طاب زيدٌ نفسًا، وتصبّب عَرقًا، وتفقّأ شَحْمًا" ألا ترى أنّ الطيبة في قولك: "طاب زيدٌ" مسنَدةٌ إليه، والمرادُ شيءٌ من أشيائه، ويحتمل ذلك أشياء كثيرةً كلِسانه وقَلْبه ومَنْزله وغيرِ ذلك، وكذلك التصبّبُ، والتفقّؤُ يكون من أشياءَ كثيرة، فجرت لذلك مجرَى "عِشْرينَ" في احتماله أشياء كثيرة. فكما أنّ إبانةَ "العشرين" بنكرةٍ جنسٍ، كذلك إبانةُ هذه الجمل بنكرة جنس. وأمّا المفرد، فنحو قولك: "عندي راقودٌ خَلاّ، ورَطْلٌ زَيْتًا، ومَنَوان سَمْنًا" فالتمييز في هذه الأشياء لم يأت لرفع إبهام في الجملة، وإنما لبيانِ نوعِ الراقود، إذ الإبهامُ وقع فيه وحدَه لاحتماله أشياءَ كثيرة كالخَلّ والخَمْر والعَسَل، وغيرِ ذلك، ممّا نوعيٌّ، والراقودُ وِعاءٌ كالحُبّ. وكذلك قولك: "عندي رطلٌ زيتًا". التمييزُ فيه لإبهامِ "الرطل"، إذ "الرطلُ" مقدارٌ يُوزَن به، ويحتمل أشياء كثيرة من المَوْزُونات، كالزيت والعسل والسمن، ويقال فيه: رِطْلٌ، ورَطْلٌ بكسر الراء، وفتحِها، فالكسرُ أقيْسُ، والفتح أفصحُ. وكذلك "المنوان" تثنيةُ "مَنا"، وهو مقدارٌ يوزن به، وكذلك باقِي الأمثلة. وهذا معنى قوله: "رفعُ الإبهام في جملة، أو مفرد، بالنصّ على أحدِ محتملاته". وشرطُ التمييز أن يكون نكرةً جِنْسًا مقدَّرًا بـ "مِنْ"، وإنّما كان نكرةً لأنّه واحدٌ في معنى الجمع، ألا تراك إذا قلت: "عندي عشرون درهمًا"، معناه. "عشرون من الدراهم"، فقد دَخَلَه بهذا المعنى الاشتراكُ، فهو نكرةٌ. ووجةٌ ثانٍ: أنّ التمييز يُشبِه الحالَ، وذلك أنّ كل واحد منهما يُذكر للبيان، ورفع الإبهام، ألا ترى أنّك إذا قلت: "عندي عشرون" احتمل أنواعًا من المعدودات، فإذا قلت: "درهمًا"، أو"دينارًا"، فقد أزلتَ ذلك الإبهامَ، واتّضح بذِكْره ما كان متردَّدًا مُبْهَمًا، كما أنَّك إذا قلت: "جاء زيدٌ"، احتمل أن يكون على صفاتٍ، فلّما قلت: "راكبّا" فقد أَوْضحتَ، وأزلتَ ذلك الإبهامَ، فلمّا استويا في الإيضاح والبيانِ، استويا في لفظ التنكير.
ووجة ثالثٌ: أن المراد ما بيّن النوعَ، فبُيّن بالنكرة, لأنّها أخفُّ الأسماء، كما تُختار الفتحة إذا أُريد تحريكُ حرفٍ لمعنًى, لأنّ الفتحة أخفُّ الحركات، إلَّا أن يعرِض ما يوجِب العُدولَ عنها إلى غيرها، وكانت جنسًا, لأنّ الغرض تخليصُ الأجناس بعضِها من بعضٍ، وقُدّرت بِـ "من" لأنّها لبيانِ الجنس، فأُتي بها لذلك، وحُذفت تخفيفًا، وهي مرادةٌ. واعلم أنّ المميّز يكون واحدًا، ويكون جمعًا، فإذا وقع بعد عددٍ، نحو: "عشرين"، و"ثلاثين"، ونحوهما، لم يكن المميّزُ إلَّا واحدًا، نحو قولك: "عندي عشرون ثَوْبًا، وثلاثون عِمامةً", لانّ العدد قد دلّ على الكَمّيّة، ولم يبق بنا حاجةٌ إلَّا إلى بيانِ نوعِ ذلك المَبْلَغ، وكان ذلك ممّا يحصُل بالواحد، وهو أخفُ. وأمّا إذا وقع مُفسّرًا لغيرِ عدد، نحو: "هذا أفرهُ منك عبدًا وخيرٌ منك عَمَلاً"، جاز الإفرادُ والجمعُ لاحتمالِ أن يكون له عبدٌ واحدٌ وعبيدٌ، فإذا قلت: "هو أفرهُ منك عبيدًا"، أو"خيرٌ منك أعمالاً"، دللتَ بلفظ الجمع على معنيَيْن: النوع، وأنّهم جماعةٌ. قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (¬1) فُهم من ذلك النوع، وأنّه كان من جهاتٍ شتَّى، لا من جهة واحدة، وإذا أَفردتَ، فُهم منه النوع لا غير. وقوله: "وشَبَهُ التمييز بالمفعول" يعني أنّ موقعه في هذه الأمثلة كموقعه، يعني أنّ التمييز يُشبِه المفعولَ من حيثُ إنّ موقعه آخِراً، نحوَ: "طاب زيدٌ نفسًا"، و"هذا راقودٌ خَلاًّ"، كما أن المفعول كذلك، فإنّه يأتي فضلةً بعد تمامِ الكلام. ونعني بقولنا: "فضلةً" أنه يأتي بعد استقلالِ الفعل بفاعله، كما أنّ المفعول كذلك، ولذلك وجب أن يكون منصوبًا كما أنّ المفعول كذلك. فإن قيل: لِمَ زعمتَ أن التمييز مشبَّةٌ بالمفعول، ولم تقل: إِنّه مفعولٌ في الحقيقة؟ قيل: أمّا ما كان من نحوِ "عشرين درهمًا"، و"راقودٌ خلاًّ"، وشِبْهِه، فإنّ العامل فيه معنًى، والمعاني لا تعمل في المفعول به؛ وأمّا ما كان من نحوِ: "طاب زيدٌ نفسًا، وتصبّب عرقًا، وتفقّأ شحمًا"، فإنّه وإن كان العاملُ فيه فعلًا، فإنّ الفعل فيه غيرُ متعدّ، فـ "طَابَ" فعلٌ غيرُ متعدّ, لأنّه إذا طاب في نفسه لا يفعل بغيره شيئًا. وأمّا "تصبّب" و"تفقأ" ففعلان لازمان، لأنّهما للمطاوَعة، فالتاءُ ههنا بمنزلة النون، يقال: "صببتُه، فتَصبّبَ "، و"فقأتُه، فتَفقّأَ"، كما تقول: "صببتُه، فانصبَّ"، و"فَقَأْتُه فانفقأَ"، ولذلك لا تقول: "تصبّبتُه"، ولا "تفقّأتُه"، ويثبُت بذلك أنَّه مشبَّةٌ بالمفعول، وليس مفعولًا، فقولُك: "طاب زيدٌ نفسًا" بمنزلةِ "ضَرَبَ زيدٌ عمرًا" في وُقوعه طَرَفًا بعد التَّمام، كوقوعِ ¬
فصل [شرط نصب التمييز]
المفعول، و"رَطْلٌ زيتًا"، ونحوُه بمنزلةِ "ضاربٌ زيدًا"، ونحوِه من أسماء الفاعلين. وذلك من حيثُ إنّه مفردٌ. فإذا نوّنتَه، نصبتَ ما بعده. وإذا أزلتَ التنوينَ، خفضتَ ما بعده، وهو يقتضي ما بعده من النوع المميّزِ، كما أنّ اسم الفاعل إذا نوّنتَه، نصبتَ به، نحوَ: "ضاربٌ زيدًا". وإذا حذفتَ التنوينَ، خفضتَ، نحوَ: "ضاربُ زيدٍ". وهو يقتضي ما بعده من المفعول، فلذلك وجب أنّ يعمل "الراقودُ"، و"الرطلُ"، وإن كانا من الأسماء الجامدة. و"منوان"، و"قفيزان" بمنزلةِ "ضاربان" من الجهة المذكورة، و"عشرون"، و"ثلاثون" ونحوُهما بمنزلةِ "ضاربون" من حيثُ إنه مجموعٌ بالواو والنونِ، كما أنّ "ضاربون" كذلك. وتسقُط نونُه للإضافة، ويقتضي المفسّرَ بعدها على ما تقدّم. وقولك: "مِلءُ الإناء ماءً"، و"مِثلُها زُبْدًا"، و"موضعُ كَفّ سحابًا" بمنزلةِ المصدر المضاف إلى الفاعل، نحو: "أعجبني ضربُ زيدٍ عمرًا"، فالمضافُ إليه حَالَ بينه وبين المميّزِ، فامتنع من الإضافة، كما حَالَ التنوينُ في "رطلٌ زيتًا"، والنونُ في "عشرون درهمًا"، فاعرفه. فصل [شرط نصب التمييز] قال صاحب الكتاب: "ولا ينتصب المميز عن مفرد إلا عن تامّ. والذي يتم به أربعة أشياء: التنوين ,ونون التثنية ونون الجمع, والإضافة. وذلك على ضربين: زائلٌ, ولازمٌ, فالزائل التمام بالتنوين, ونون التثنية, لأنك تقول: "عندي رطل زيتٍ، ومنوا سمنٍ". واللازم التمام بنون الجمع, والإضافة, لأنك لا تقول: "ملأ عسلٍ ولا مثل زبدٍ ولا عشرو درهمٍ". * * * قال الشارح: يريد أنّ المميّز إذا كان بعد مفردٍ، فلا بدّ أنّ يستوفِيَ ذلك المفردُ جميعَ ما يتمّ به، ويُؤذِن بانفصاله ممّا بعده، بحيث لا تصحّ إضافته إلى ما بعده، إذ المضافُ والمضافُ إليه كالشيء الواحد، فإذا لم يكن هناك ما يمنع الإضافةَ، كان في حكمِ الناقص الذي لا يتمّ معناه إلَّا بما بعده من المضاف إليه. والذي يتمّ به الاسم أربعةُ أشياء: التنوين، ونون التثنية، ونون الجمع، والإضافة، لأن هذه الأشياء تفصِل ما تدخل عليه عمّا بعده، وتُؤذِن بانتهائه. وجملةُ الأمر أنّك إذا قلت: "عندي راقودٌ خلاًّ، ورطلٌ زيتًا"، فلا يحسن أن يجرِيَ وصفًا على ما قبله، فتقولَ: "راقودٌ خلٌّ، ورطلٌ زيتٌ"؛ لأنه اسمٌ جامدٌ غيرُ مشتقّ من فعلٍ، فلا يكون وصفًا كالمشتقّات. وكانت الإضافةُ غيرَ ممتنِعة بحكمِ الاسميّة، فقلتَ:
"عندي راقودُ خلّ، ورطلُ زيتٍ"، وتكون إضافتُه من قبيلِ إضافةِ النوع إلى الجنس، والبعضِ إلى الكلّ، نحوِ: "هذا ثوبُ خَز، وجُبَّةُ صُوفٍ"، والمعنى: مِن خزّ، ومِن صوف. فإذا دخل التنوينُ الاسمَ المميَّزَ، نحو: "رطلٌ" و"راقودٌ"، أو نونُ التثنية، نحو قولك: "رطلان"، و"مَنَوان"، أو نونُ الجمع، نحو: "عشرين"، و"ثلاثين"، ونحوِهما من الأعداد، آذَنَ ذلك باكتفاءِ الاسم وتمامِه، وحَالَ بينه وبين الإضافة. وكذلك الإضافةُ في نحوِ: "ملءُ الإناء عَسَلًا"، و"مثلُها زُبْدًا"، و"موضعُ كَفٍّ سَحابَا"، حالت بين المميَّز والمميِّزِ، ومنعتْه من الإضافة مَنْعَ التنوين والنونِ، فنُصب على الفضلة تشبيهًا بالمفعول، وتنزيلاً للاسم الجامد منزلةَ اسم الفاعل من الجهة التي ذكرناها، فعمِل النصبَ، وانحطّ عن درجةِ اسم الفاعل، فاختصّ عملُه في النكرة دون المعرفة، كما انحطّ اسمُ الفاعل عندنا عن درجة الفعل، حتى إذا جرى على غيرِ مَن هو له، وجب إبرازُ ضميره، نحو قولك: "زيدٌ هندٌ ضَارِبُها هو". وأمّا قوله: و"ذلك على ضربين: زائلٌ، ولازمٌ"، يريد أنّ هذه الأشياء التي يتمّ بها الاسمُ المميَّزُ حتى يُنصَب ما بعده، منها ما يزول، وأنت فيه مخيَّرٌ، إن شئتَ أثبتَّه، ونصبتَ ما بعده، وإن شئت حذفته، وخفضتَ ما بعده، وذلك التنوينُ ونونُ التثنية، تقول: "هذا راقودٌ خلاًّ، ورطلٌ سمنًا، وأُوقِيَّةٌ ذهبًا" تُثبِت التنوينَ، وتنصب المميّز. وإن شئت، حذفتَ التنوين، وخفضتَ، فقلت: "راقودُ خلّ، ورطلُ سمنٍ، وأوقيّةُ ذهبٍ"؛ لأن التنوين معاقِبٌ للإضافة. وكذلك نونُ التثنية، أنت في حذفها وإثباتها مخيَّرٌ. تقول: "عندي منوانِ سمنًا، ورطلان عسلاً"، تنصب "سمنًا"، و"عسلًا" بعد النون، ولك حذفُها والخفضُ، نحو: "منوا سمنٍ"، و"رطلا عسلٍ". وأمّا اللازم، فنحو نونِ الجمع في نحو"عشرين"، و"ثلاثين" إلى "التسعين"، النونُ فيه لازمةٌ، والتمييزُ بعدها منصوبٌ. ولا يجوز حذفُ النون منه، وإضافتُه إلى المميِّزِ، لأنّ نَصْبَه ما بعده بالحمل، والشَّبَهِ باسم الفاعل والصفةِ المشبَّهة باسم الفاعل، نحوِ قولك: "ضاربون"، و"حَسَنون". ولم يَقْوَ قُوَّتَهما فيتصرّفَ تصرُّفَهما، وإنّما لضُعْفِ شَبَهه، أُلزم طريقةً واحدةً في التفسير والبيانِ، فإن أضفته إلى مالكٍ، نحوَ: "عِشروكَ"، و"عشرو زيدٍ"، جاز حذفُ النون، كما جاز إضافةُ المركَّب، وإن كان مبنيًّا، نحو قولك: "ثَلَاثَةَ عَشَرَك"، و"خَمْسَةَ عشرك". وكذلك التمييز بعد الإضافة يقع لازمًا، نحو: "ملءُ الإناء عسلاً"، و"على التَّمْرة مثلُها زُبْدًا" لأن المضاف والمضاف إليه معًا هو المِقْدارُ المُبْهَمُ الذي وقع التفسيرُ له، فلم يجز أنّ تقول: "ملءُ عسلٍ"، "ولا مثلُ زبدٍ"، فاعرفه.
فصل [تمييز المفرد]
فصل [تمييز المفرد] قال صاحب الكتاب: "وتمييز المفرد أكثره فيما كان مقداراً: كيلاً كـ "قفيزان", أو وزناً كـ "منوان", أو مساحةً كـ "موضع كف", أو عددًا كـ "عشرون" أو مقياساً كـ "ملؤه" و"مثلها". وقد يقع فيما ليس إياها, نحو قولهم: "ويحه رجلاً"، و"لله دره فارساً", و"حسبك به ناصراً"". * * * قال الشارح: تمييزُ المفرد أكثرُ ما يجيءُ بعد المقادير. والمِقدارُ هو المقابِل للشيء، يعدِلُه من غيرِ زيادة ولا نُقْصانٍ. والمقاديرُ أربعةُ أضرب: مَكِيلٌ، وموزونٌ، وممسوحٌ، ومعدودٌ، فالمكيلُ نحو قولك: "مَكُّوكان دَقِيقًا"، و"قَفِيزان بُرًّا". والموزونُ: "مَنَوان سَمْنًا"، و"رَطْلان عَسَلاً"، والممسوحُ: "بلغتْ أرضُنا خمسين جَرِيبًا"، و"ما في السماء موضعُ كفّ سَحابًا". والمعدودُ نحو: "عشرين درهمًا". وكلُّها محتاجةٌ إلى إبانتها بالأنواع؛ لأنّها تقع على أشياء كثيرةٍ، فإذا قلت: "مكّوكان"، احتمل أنّ يكون حِنْطة، أو شَعِيرًا، أو غيرَهما ممّا يكال. وإذا قلت: "منوان"، أحتمل أشياء كثيرةً مما يوزَن نحوَ "السمن"، و"العسل". وإذا قلت: "بلغتْ أرضُنا"، وأردتَ المِساحةَ، احتمل أشياء من المقادير المتماسَح بها، نحو: " الجَرِيب"، و"الذراع"، و"المُدي"، ونحو ذلك. وكذلك إذا قلت: "عندىِ عشرون"، احتمل دنانيرَ، ودراهمَ، وثِيابًا، وعَبِيدًا، وغيرَها من المعدودات، فوَجَبَ لذلك إبانتُها بالنوع. وحقٌّ النوع المفسِّر أن يكون جمعًا معرَّفًا بالألف واللام، نحو"عشرين من الدراهم"؛ أمّا كونُه جمعًا، فلأنّه واقعٌ على كلّ واحد من ذلك النوع، فكان واقعًا على جماعةٍ، وأمّا كونُه معرَّفًا باللام فلتعريفِ الجنس، فإذا قلت: "عشرون من الدراهم"، كنتَ قد أتيتَ بالكلام على وَجْهه، ومقتضَى القياس فيه، وإن أردتَ التخفيفَ، قلت: "عشرون درهمًا"، فتحذِف لفظَ الجمع، وحرفَ التعريف، واكتفيتَ بواحد من ذلك منكورٍ, لأن الواحد المنكور شائعٌ في الجنس، فلشياعه جرى مجرى الجمع. وأمّا قوله: "أو مقياسًا، فالمقياسُ: المقدارُ. يقال: "قِسْتُ الشيءَ بالشيء" إذا قدّرتَه به، وقولُه: "مِلْؤُه ومثلُها"، فإشارةٌ إلى قولهم: "مِلءُ الإناء عسلًا"، و"على التمرة مثلُها زبدًا"، والفرق بين المقياس وغيره من المقادير المذكورة أنّ تلك المقادير المذكورة أشياءُ محقَّقةٌ محدودةٌ، والمقياسُ مقدارٌ على سبيلِ التقريب، لا التحديدِ. ألا ترى أنّ مِلءَ الإناء، ومثلَ التمرة ليسا بكَيْلٍ معروفٍ، ولا ميزانٍ، ولا مساحةٍ، وإنّما هو تقريبٌ لمقداره.
فصل [تقدم التمييز علي عامله]
وأمّا قوله: "وقد يقع فيما ليس إيّاها"، فيريد أنّ التمييز قد يأتي بعد مفرد ليس مقدارًا من المقادير المذكورة، نحوَ قولهم: "وَيْحَهُ رجلًا"، "ولله دَرُّه فارسًا"، و"حَسْبُك به ناصرًا"، فـ "ويحه" من المصادر التي لم يُنطَق لها بفعل، ومعناه الترحْمُ، و"لله درُّه فارسًا" جملةٌ اسميةٌ، ومعناها المَدْحُ، والمراد: لله عَمَلُه. ومثلُه "حسبُك به ناصرًا". فهذه الأشياءُ مبهَمةٌ, لأنّه لم يُعلَم المدحُ من أىّ جهة، فالنكرةُ فيها منصوبةٌ على التمييز، وهي الممدوحةُ في المعنى، ونحوهُ: "هو أشجعُ الناس فارسًا" إذا أردتَ أنّه هو الممدوح بالشَّجاعة، والمضافُ إليه المجرورُ ههنا بمنزلة النون في "عشرين"، والتنوينِ في "رطل" في مَنْعه الإضافةَ إلى المميّزِ، كما منعت النونُ في "عشرين"، والتنوينُ في "رطل" من ذلك، والتقديرُ: وَيْحَه من رجلٍ، ولله درُّه من فارسٍ، وحسبُك به من ناصرٍ. فإن قيل: "كيف جاز دخولُ "منْ" ههنا على النكرة المنصوبةِ مع بقائها على إفرادها، فقلت: "من رجلٍ"، و"من فارسٍ"، و"من ناصرٍ"، وحسُن ذلك، وأنت لا تقول: "هو أَفْرَهُ منك من عبدٍ"، ولا "عندي عشرون من درهم"، بل تَرُدّه عند ظهورِ "مِنْ" إلى الجمع، نحوَ: "من العَبِيد"، و"من الدراهم"؟ فالجوابُ أنّ هذا الموضع ربّما التبس فيه التمييزُ بالحال، فأتوا بـ "منْ" لتخلصه للتمييز، ألا ترى أنّك إذا قلت: "ويحه رجلًا"، و"لله درُّه فارسًا"، و"حسبُك به ناصرًا" جاز أنّ تَعْنِيَ في هذه الحالَ؛ فلمّا كان قد يقع فيه لبسُ مشتبِهَيْن، فُصل بينهما بدخول "مِن". فصل [تقدُّم التمييز علي عامله] قال صاحب الكتاب: " ولقد أبى سيبويه (¬1) تقدم المميز على عامله. وفرق أبو العباس بين النوعين فأجاز نفساً طاب زيد، ولم يجز لي سمناً منوان, وزعم أنه رأي المازني, وأنشد قول الشاعر: 293 - [أتهجر ليلي بالفراق حبيبها] ... وما كان نفساً بالفراق تطيب" * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ سيبويه لا يرى تقدُّمَ المميَّزِ على عامله فعلًا كان العاملُ، أو معنًى، لا يُجَوّز أن تقول: "عَرَقًا تَصبّبَ زيدٌ"، ولا "نفسًا طِبْتُ"، وكذلك لا يُجوِّز "سمنًا عندي منوان"، ولا "بُرًّا عندي قفيزان" على تقديرِ: عندي منوان سمنًا، وقفيزان برًّا. أمّا إذا كان العاملُ معنى غيرَ فعل، فأمرُ امتناع تقديمِ معموله عليه ظاهرٌ، لضُعْفِ عامله، وكذلك يمتنع تقديمُ الحال على العامل المعنوَىِّ، فلا تقول: "قائمًا في الدار زيدٌ" على إرادةِ: في الدار زيدٌ قائمًا. وأما إذا كان العاملُ فعلاً متصرِّفًا، فقَضِيَّةُ الدليل جوازُ تقديم منصوبه عليه لتصرفِ عامله، إلَّا أنّه منع من ذلك مانعٌ، وهو كونُ المنصوب فيه مرفوعًا في المعنى من حيث كان الفعلُ مسنَدًا إليه في المعنى والحقيقة، ألا ترى أنّ التصبّب في قولك: "تصبّب زيدٌ عرقًا، وتفقّأ شحمًا" في الحقيقة للعرق والتفقّؤ للشحم، والتقديرُ: تصبّب عرقُ زيدٍ، وتفقّأ شحمُه، فلو قدّمناهما، لأوْقعناهما موقعًا لا يقع فيه الفاعلُ, لأنّ الفاعل إذا قدّمناه، خرج عن أن يكون فاعلاً، وكذلك إذا قدّمناه، لا يصحّ أن يكون في تقدير فاعلٍ، نُقل عنه الفعل، إذ كان هذا موضعًا لا يقع فيه الفاعلُ. فإن قيل: فأنت إذا قلت: "جاء زيدٌ راكبًا" نصبتَ "راكبًا" على الحال، وجاز لك تقديمُه، فتقول: "راكبًا جاء زيدٌ"، والمنصوبُ هنا هو المرفوعُ في المعنى، فما الفرقُ بينهما؟ قيل: نحن إذا قلنا: "جاء زيدٌ راكبًا"، فقد استوفى الفعلُ فاعلَه لفظًا ومعنًى، وبقي المنصوب فضلةً، فجاز تقديمُه، وأمّا إذا قلنا: "طاب زيدٌ نفسًا"، فقد استوفى الفعلُ فاعلَه لفظًا, ولم يستوفِه من جهة المعنى، فلذلك لم يجز تقديمُ المنصوب، كما لم يجز تقديمُ المرفوع. وقد ذهب أبو عثمان المازني، وأبو العبّاس المبرّدُ، وجماعةٌ من الكوفيين (¬1) إلى جوازه، واحتجّوا لذلك ببيتٍ أنشدوه، وهو [من الطويل]: أَتَهْجُرُ سَلْمَى بالفِراق حَبِيبَها ... وماكَادَ نفسا بالفِراق تَطِيبُ ¬
[أصل التمييز]
أراد: وما كاد تطيب نفسًا بالفراق، ولا حجّةَ في ذلك لقلَّته، وشُذوذِه مع أنّ الرواية: وما كاد نفسي بالفراق تطيب، هكذا قال أبو إسحاق الزجّاجُ. * * * [أصل التمييز] قال صاحب الكتاب: "واعلم أن هذه المميزات عن آخرها أشياء مزالةٌ عن أصلها, ألا تراها, إذا رجعت إلى المعنى, متصفةً بما هي منتصبة عنه, ومنادية على أن الأصل: عندي زيت رطل، وسمن منوان، ودراهم عشرون، وعسل ملء الإناء، وزبد مثل التمرة، وسحاب موضع كف. وكذلك الأصل وصف النفس بالطيب، والعرق بالتصبب، والشيب بالإشتعال، وأن يقال: طابت نفسه، وتصبب عرقه، واشتعل شيب رأسي لأن الفعل في الحقيقة وصف في الفاعل. السبب في هذه الإزالة قصدهم إلى ضرب من المبالغة والتأكيد". * * * قال الشارح: اعلم أنّك إذا أردت أنّ تُخبِر أنّ عندك جنسًا من الأجناس، وله مقدارٌ معلومٌ: إما كَيْلٌ، وإِمّا وزنٌ، وِإمّا غيرُهما من المقادير، جعلتَ المقدار وصفًا لذلك الجنس لتُوضِحه، وتُبيَّن كَمَّيَّتَه, لأنّ الأوصاف تُوضِح الموصوفين، وتُزِيل إبهامَها، فتقول: "عندي خَلٌّ راقودٌ"، و"ثوبٌ ذِراعٌ"، و"دَراهِمُ عشرون"، ومن ذلك قولُ العرب: "أَخَذَ بنو فلانٍ من بني فلان إبلا مائة". قال الأعشى [من الطويل]: 294 - لَئِنْ كنتَ في جُبٍّ ثمانينَ قامَة ... ورُقِّيتَ أَسْبابَ السَّماءِ بسُلَّمِ ¬
وساغ ذلك, لأنّ المقادير إذا انفردتْ، كانت نَعْتًا لِما قبلها لِما تَضمّنَ لَفْظُها من الطُّول والقَصْرِ، والقِلّةِ والكثرةِ، فإذا قال: "رأيت ثوبًا ذِراعًا"، فكأنّه قال: "قصيرًا"، وإذا قال: "رأيتُ ثوبًا خمسين ذراعًا"، فكأنّه قال: "طويلًا". وإذا قال: "مررتُ بإبلٍ مائةٍ"، فكأنّه قال: "كثيرةٍ". وكذلك تقول: "مررتُ ببُرٍّ قَفيزٍ"، و"بعَسَل رَطْلٍ"، فيكون جميعُ ما مررتَ به من البرّ قفيزًا واحدًا، وجميعُ ما مررت به من العسل رطلًا واحدًا، إلَّا انّهم قد يُقدِّمون الوصفَ الذي هو المقدارُ لضربٍ من المبالغة وتأكيدِ العِناية به، فيقولون: "عندي راقودٌ خلاًّ، ورطلٌ عسلًا"، ولم يحسن أنّ يُجعل وصفًا لِما قبله من المقدار، إذ كان جَوْهرًا ليس فيه معنى فعلٍ، وكانت إضافةُ الأوّل إليه سائغةً، إذ كان منه، فتقول: "راقودُ خلٍّ، ورطلُ عسلٍ"، والمعنى: مِن خلٍّ، ومِن عسل، كما تقول: "ثوبُ خزٍّ، وخاتمُ ذهبٍ"، والمرادُ: ثوبٌ من خزّ، وخاتمٌ من ذهب. وإن شئت نوّنت، ونصبت على التمييز على ما تقدّم، وإذا قلت: "عندي عسل رطلٌ، وخلٌّ راقودٌ"، فقد أتيتَ به على الأصل، وإذا قدّمتَ، وقلت: "عندي رطلٌ عسلًا، وراقودٌ خلّا"، فقد غيّرتَهما عن أصلهما لِما ذكرناه من إرادةِ المبالغة والتأكيدِ في الإخبار عن مقدارِ ذلك النوع، فهذا المرادُ من قوله: ألا تراها إذا رجعتَ إلى المعنى متّصفة بما هي منتصبةٌ عنه، يريد أنّها منتصبةٌ بالمقادير التي قبلها, لشَبَهها بأسماء الفاعلين على ما تقدّم، وهذه المقاديرُ الناصبةُ لها أوصافٌ في الحقيقة على ما بيّنّا أنّ الأصل في قولك: "عندي راقودٌ خلًا ورطلٌ زيتًا": عندي خلٌّ راقودٌ، وزيتٌ رطلٌ. وقوله: "ومناديةٌ على أنّ الأصل كذا"، يريد أنّه مفهومٌ منها معنى الوصفيّة، وإن لم يكن اللفظُ على ذلك، وكذلك القولُ في قولك: "طاب زيدٌ نفسًا"، و"تصبّب عرقًا، وتفقّأ شحمًا" المعنى على وصف النفس بالطّيب، والعَرَقِ بالتصبّب، والشحمِ بالتفقؤ، والشَّيبِ بالاشتعال، فإذا قلت: "طاب زيدٌ نفسًا"، فتقديرهُ: طابتْ نفسُ زيد، وإذا قلت: "تصبّب عرقًا"، فتقديرُه: تصبّب عرقُه، وإذا قلت: "تفقّأ شحمًا زيدٌ"، فتقديرُه: تفقّأ شحمُ زيد، وإنّما غُيرت بأن يُنقَل الفعل عن الثاني إلى الأوّل، فارتفع بالفعل المنقول إليه، وصار فاعلاً في اللفظ، واستغنى الفعلُ به، فانتصب ما كان فاعلاً على التشبيه بالمفعول، إذ كان له به تعلُّقٌ، والفعلُ ينصِب كلَّ ما تَعلّق به بعد رفع الفاعل. وقوله: "لأنّ الفعل في الحقيقة وصفٌ في الفاعل"، يريد الفعلَ الحقيقىَّ، وهو الحَدَثُ، وذلك وصفٌ في الفاعل، فإذا أخبرتَ عن فاعلٍ بفعل لا يصح منه، كان ¬
مُحالًا، نحوَ قولك: "تكلّم الحجر"، و"طار الفرسُ"، فالحجرُ لا يوصَف بالكلام، ولا الفرسُ بالطيَران إلَّا أن تريد المَجَاز. كذلك قولُك: "طاب زيدٌ، وتصبّب، وتفقّأ"، لا يوصَف زيدٌ بالطّيب، والتصبّبِ، والتفقّؤ، فعُلم بذلك أنّ المراد المجازُ، وذلك أنّه في الحقيقة لشيء من سَبَبه، وإنّما أُسند إليه مبالغةً وتأكيدًا، ومعنى المبالغة أنّ الفعل كان مسندًا إلى جُزْءٍ منه، فصار مسندًا إلى الجميع، وهو أبلغُ في المعنى. والتأكيد أنّه لمّا كان يُفهَم منه الإسناد إلى ما هو منتصِبٌ به، ثمّ أُسند في اللفظ إلى زيد، تمكَّن المعنى، ثمّ لمّا احتمل أشياء كثيرةً، وهو أنّ تَطِيب نفسُه بأن تنبسِط، ولا تنقبِضَ، وأن يطيب لسانُه بأن يَعْذُب كلامُه، وأن يطيب قَلْبُه بأن يَصْفُوَ انجلاؤُه، تَبيّنَ المرادُ من ذلك بالنكرة التي هي فاعلٌ في المعنى، فقيل: "طاب زيدٌ نفسًا"، وكذلك الباقي، فهذا معنى قوله: "والسببُ في هذه الإزالة قَصْدُهم إلى ضربٍ من المبالغة والتأكيد"، فاعرفه.
المنصوب علي الاستثناء
المنصوب علي الاستثناء فصل [المستثني المنصوب] قال صاحب الكتاب: "المستثنى في إعرابه على خمسة أضرب: أحدها منصوب أبداً, وهو على ثلاثة أوجه: ما استثني بـ "إلا" من كلام موجب, وذلك "جاءني القوم إلا زيداً"". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الاستثناء استفعالٌ، من ثَنَاهُ عن الأمر يَثْنِيهِ إذا صرفه عنه، فالاستثناء صرفُ اللفظ عن عُمومه بإخراجِ المستثنى من أنّ يتناوله الأوّلُ، وحقيقتُه تخصيصُ صفةٍ عامّةٍ، فكلُّ استثناء تخصيصٌ، وليس كلٌ تخصيص استثناءً، فإذا قلت: "قام القومُ إلَّا زيدًا"، تُبين بقولك: "إلَّا زيدًا" أنّه لم يكن داخلًا تحت الصَّدْر، إنّما ذكرتَ الكلَّ، وأنت تريد بعضَ مدلوله مجازًا، وهذا معنَى قول النحويّين: "الاستثناءُ إخراجُ بعضٍ من كلّ"، أي: إخراجُه من أنّ يتناوله الصدرُ، فـ "إلَّا" تُخْرج الثاني ممّا دخل في الأوّل، فهي شِبْهُ حرف النفي، فقولُنا: "قام القومُ إلَّا زيدًا" بمنزلةِ "قام القومُ لا زيدُ"، إلَّا أنّ الفرق بين الاستثناء والعطف أنّ الاستثناء لا يكون إلّا بعضًا من كلّ، والمعطوف يكون غيرَ الأوّل، ويجوز أن يُعطَف على واحد، نحوَ قولك: "قام زيدٌ لا عمرٌو"، ولا يجوز في الاستثناء أنّ تقول: "قام زيد إلَّا عمرًا". والمستثنَى منه والمستثنَى جملةٌ واحدةٌ، وهما بمنزلةِ اسم مضافٍ، فإذا قلت: "جاءني قومُك إلَّا قليلاً منهم"، فهو بمنزلة قولك: "جاءني أكثرُ قومك"، فكأنّه اسمٌ مضافٌ، لا يتِمّ إلّا بالإضافة. وأصلُ المستثنى أنّ يكون منصوبًا، لأنّه كالمفعول، وإنّما يُعْدَل عنه لغَرَض يُذكَر بعدُ، وَلْنُقَدم الكلامَ على العامل في المستثنى، ثمّ على أقسامه. وفي العامل في المستثنى أقوالُ (¬1) منها قولُ سيبويه: إنّ العامل فيه الفعلُ المقدَّمُ، أو معنى الفعل بواسطةِ "إلَّا". فإن قيل: الفعل المتقدّم لازمٌ غيرُ متعدّ، فكيف يجوز أن يعمل في المستثنى النصبَ؟ قيل: لما دخلت عليه "إلَّا"، قَوَّتْه، وذلك أنّها أحدثتْ فيه معنى الاستثناء، كما يُقَوَّى بحرف الجرّ في "مررتُ بزيدٍ". ¬
فإن قيل: فهلّا أعملوا "إلّا" فيما بعدها كما أعملوا حروفَ الجرّ لمّا أَوْصلتِ الفعلَ إلى ما بعدها، فالجوابُ أنّ "إلّا" إنّما لم تعمل جرّا, ولا غيرَه من قبل أنّها لم تخلُص للأسماء دون الأفعال والحروفِ، ألا تراك تقول: "ما جاءني زيدٌ قطُّ إلّا يَقْرَأُ"، و"لا مررتُ بمحمَّد قطّ إلّا يُصَلّي"، و"لا لقيتُ بكرًا إلّا في المسجد"، و"لا رأيتُ خالدًا إلّا على الفرس"، فلمّا لم تخلُص للأسماء، بل باشرتَ بها الأفعالَ والحروفَ كما باشرتَ بها الأسماءَ، لم يجز لها أنّ تعمل جرًّا, ولا غيره، وذلك لأنّ العامل ينبغي أنّ يكون له اختصاصٌ بما يعمل فيه، فلمّا لم يكن لـ "إِلَّا" اختصاصٌ بالاسم، لم يجز لها أنّ تعمل فيه. وإذا قلت: "قام القومُ"، اقتضى ذلك كلَّ من يدخل تحت عُموم اللفظ، فإذا أتيتَ بالاستثناء بيّنْتَ أنّ مدلولَ الأوّلِ وعُمومَه ليس مرادًا، فاقتضى البيانَ، فنُصب المستثنى لاقتضائه إيّاه على حدِّ اقتضاء "العشرين" ما بعدها إذا قلتَ: "عندي عشرون درهمًا". وذهب أبو العبّاس المبرّدُ، وأبو إسحاق الزجّاجُ، وطائفةٌ من الكوفيين (¬1) إلى أنّ الناصب للمستثنى "إلّا" نِيابةً عن "أَسْتَثْنِي"، فإذا قال: "أتاني القومُ إلّا زيدًا"، فكأنّه قال: "أتاني القومُ أستثني زيدًا". وهو ضعيفٌ، لأنّك تقول: "أتاني القومُ غيرَ زيدٍ" فتنصب "غيرًا". ولا يجوز أنّ تُقدّر بـ "أستثني غيرَ زيد"؛ لأنه يُفسِد المعنى، وليس قبلَ "غَيْرَ" حرفٌ تُقيمه مُقامَ الناصب، ولأنّ فيه إعمالَ معنى الحرف، وإعمالُ معاني الحروف لا يجوز، ألا ترى أنّك لا تقول: "ما زيدًا قائمًا" على معنَى "نَفَيْتُ زيدًا قائمًا". وإنّما لم يجز ذلك, لأنهم إنّما أتوا بالحروف نائباتٍ عن الأفعال إيجازًا واختصارًا، فإذا أخذتَ تُعْمِل معاني هذه الحروف كان فيه تطلُّعٌ إلى الأفعال، وفيه نَقْصٌ للغرض، وتراجُعٌ عمّا اعتزموه، فلم يجز ذلك، كما لم يجز الإدغامُ في مثلِ "جَلْبَبَ"، و"مَهْدَدَ", لأنّ فيه إبطالَ غرضهم، وهو الإلحاقُ. وذهب الفرّاءُ - وهو المشهورُ من مذهب الكوفيين (¬2) - إلى أنّ "إلّا" مركَّبةٌ من حرفَيْن: "إِنَّ" التي تنصب الأسماءَ، وترفع الأخبارَ، و"لا" التي للعطف، فصار "إِنَّ لَا" فخُفقّت النون، وادُّغِمتْ في اللام، فأعملوها فيما بعدها عَمَلَيْن، فنصبوا بها في الإيجاب اعتبارًا بـ "إِنَّ"، وعطفوا بها في النفي اعتبارًا بـ "لا". فإذا رفعوا في النفي، فقد أعملوها عَمَلَ "لَا"، فجعلوها عاطفةً، وإذا نصبوا بها في الإيجاب، فقد أعملوها عملَ "إِنَّ"، و"زيدًا" اسمُها، وقد كَفَتْ "لا" من الخبر، والتأويلُ: إِنَّ زيدًا لم يقم. وهو قولٌ فاسدٌ أيضًا، لأنّا نقول: "ما أتاني إلّا زيدٌ" فنرفع "زيدًا" وليس قبله مرفوعٌ يُعطَف عليه، ولم يجز فيه النصبُ، فيبطُلُ تأثيرُ الحرفَيْن معًا. ¬
وحُكي عن الكِسائيّ أنّه قال: إنّما نصبنا المستثنى, لأنّ تأويله: قام القومُ إلّا أنّ زيدًا لم يقم. وقد رَدَّه الفرّاءُ بأن قال: لو كان هذا النصبُ بأنّه لم يفعل، لكان مع "لا" في قولك: "قام زيدٌ لا عمرٌو" كذلك. وقيل: قولُ الكسائيّ يرجِع إلى قول سيبويه، وإنّما هذا القولُ لتقريرِ معنى الاستثناء، لا لتحقيقِ نفس العامل. فأمّا قولُ صاحب الكتاب: "المستثنى في إعرابه على خمسةِ أضرب: أحدُها منصوبٌ أبدًا، وهو على ثلاثةِ أوجه: ما استُثني بـ "إِلَّا" من كلام موجَب، وذلك "جاءني القومُ إِلّا زيداً""، فإنّه على ما ذكر. وذلك أنّ المستثنى في إعرابه على خمسة أضرب، منها ما هو منصوبٌ أبداً، فلا يجوز غيرُه من الإعراب، وهو ثلاثةُ أشياءَ: أحدُها ما استُثني بـ "إِلَّا" من كلام موجَب. و"إِلَّا" أُمُّ حروف الاستثناء وهي المستولِيَةُ على هذا الباب. وقوله: "من كلام موجب"، فالموجَبُ من الكلام ما ليس معه حرفُ نفي، والمُثْبَتُ من الأفعال ما وقع وحدث، فقولُك: "قام زيدٌ" مُوجَبٌ مُثْبَتٌ، موجبٌ لأنّه ليس بمنفيّ، ولا جارٍ مجرَى المنفيّ بأن يكون معه حرفُ نفي، أو استفهامِ، ومثبتٌ من حيثُ إنّه قد وقع وكان، فكلُّ مثبت موجبٌ، وليس كل موجب مثبتًا. فقولُك: "يقوم زيدٌ" موجبٌ لعدمِ النافي، أو ما يجري مجراه، وليس بمثبتٍ، والعِبْرةُ في الاستثناء بالموجب سواءً كان مثبتًا، أو غيرَ مثبت. فالمستثنى من الموجب منصوبٌ أبداً، نحو قولك: "أتاني القومُ إلّا زيداً"، و"رأيتُ القومَ إلّا زيدًا"، و"مررتُ بالقوم إلّا زيدًا"، ليس فيه إلّا النصبُ، وإنّما كان منصوبًا لشَبَهه بالمفعول، ووجهُ الشبه بينهما أنّه يأتي بعد الكلام التامَّ فضلة، وموقعُه من الجملة الآخِرُ كموقعه، وإنّما قلنا: إِنّه مشبَّهٌ بالمفعول، ولم نقل إنّه مفعولٌ، لأنّ المستثنى أبدًا بعضُ المستثنى منه، والمفعولُ غيرُ الفاعل، وكذلك قلنا في خبرِ "كان": إِنه مشبَّهٌ بالمفعول. ويُؤيِّد ما قلناه أنّه يعمل في المستثنى المعاني، نحوَ قولك: "القومُ في الدار إلّا زيدًا". والمفعولُ الحقيقيُّ لا يعمل فيه إلّا لفظُ الفعل، إمّا ظاهرًا، وإمّا مضمَرًا، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "وبـ "عدا" و"خلا" بعد كل كلام, وبعضهم يجر بـ "خلا", وقيل: بهما، ولم يورد هذا القول سيبويه, ولا المبرد". * * * قال الشارح: ومن ذلك المستثنى بـ "خَلاَ"، و"عَدَا". فإنّ المستثنى بهما لا يكون إلّا نصبًا، سواء كان الاستثناءُ من موجَبٍ، أو منفىّ. تقول: "قام القوم خلا زيدًا، وعدا عمرًا"، و"ما قام أحدٌ خلا زيدًا، وعدا عمرًا"، وما
بعدهما مُخْرَجٌ مما قبلهما، فهو بعد الموجَب منفىٌّ، وبعد المنفيّ موجبٌ مُثْبَتٌ. وإنّما كان المستثنى بهما منصوبًا، لأنّهما فعلان ماضيان، وفاعلُهما مضمرٌ مستتِرٌ فيهما، لا يظهَر في تثنيةٍ, ولا جمع، فتقول: "قام القومُ خلا زيدًا"، و"خلا الزيدَيْن"، و"خلا الزيدِين"، وكذلك "عَدَا" والتقديرُ: خلا بعضُهم زيدًا، وعدا بعضُهم زيدًا، وخلا بعضهم الزيدَين، وعدا بعضهم الزيدَيْن، وكذلك في الجمع. والفاعلُ المضمرُ المقدَّرُ بالبعض مُوَحَّدٌ أبدًا، وإن كان المستثنَى منه مُثَنَّى، أو مجموعًا, لأنّ البعض يقع على الاثنين والجمعِ على حَسْبِ المستثنى منه، فانتصابُ ما بعدهما بأنّه مفعولٌ، فأمّا "خَلَا" فإنّه فعلٌ لازمٌ في أصله لاَ يتعدّى إلّا في الاستثناء خاصّةً، وأمّا "عَدَا" فهو متعدٍّ في أصله مِن "عَدَاهُ الأمرُ، يَعْدُوهُ" إذا جَاوَزَه، وإنّما استُثني بهما - وإن لم يكن لفظُهما جَحْدًا - لِما فيهما من معنَى المجاوَزة، والخروج عن الشيء، فَجَرَيَا في هذا المكان مجرَى "لَيْسَ" و"لا يَكُونُ"، وصار لذلك منصوبُهما هو المرفوعَ في التقدير، كما كان كذلك في "ليس"، و"لا يكون". وبعضُ العرب يجعل "خلا" حرفَ خفضٍ، فيخفِض المستثنى على كلّ حال، كما أنّ "حَاشى" كذلك، فيكون لفظُها مشتركًا بين الحرف والفعل، فإن اعتقدتَ فيها الحرفيّةَ، جررتَ ما بعدها، وإن اعتقدتَ فيها الفعليّةَ، نصبت بها، وصارت كلفظِ "على" مشترَكةً بين الحرف والفعل، وهذا لا خِلافَ فيه؛ وأمّا "عَدَا" فهي فعلٌ، ولم يَحْكِ سيبويه، ولا أبو العبّاس المبرّدُ فيها الحرفيّةَ، وإنّما حكاها أبو الحسن الأخفشُ، فعَدَّها مع "خَلَا" ممّا يجُرّ. * * * قال صاحب الكتاب: "فأما "ما عدا", و"ما خلا" فالنصب ليس إلا, وكذلك "ليس", ولا يكون, وذلك: "جاءني القوم, أو ما جاؤوني عدا زيداً, وخلا زيداً, وما عدا زيداً, وما خلا زيداً". قال لبيد [من الطويل]: 295 - ألا كل شيء ما خلا الله باطل ... [وكل نعيمٍ لا محالة زائلُ] ¬
و"ليس زيداً", و"لا يكون زيداً" وهذه أفعالٌ مضمر فاعلوها". * * * قال الشارح: أمّا "مَا خَلاَ" و"مَا عَدَا"، فلا يقع بعدهما إلّا منصوبٌ, لأنّ "مَا" فيهما مصدريّةٌ، فلا تكون صلتُها إلّا فعلاً، وفاعلُها مضمرٌ مقدَّرٌ بالبَعْض على ما تقدّم، ومَا بعدهما في موضع مصدرٍ منصوبٍ، فإذا قلت: "قام القومُ ما خلا زيدًا"، "ما عدا بكرًا"، كأنّك قلت: "خُلُوَّ زيدٍ"، و"عَدْوَ بكرٍ"، كأنّك قلت: "قام القوم مجاوَزتَهم زيدًا"، وذلك المصدرُ في موضع الحال كما قالوا: "رَجَعَ عَوْدَهُ على بَدْئِهِ"، ونظائرُه كثيرةٌ، فأمّا قولُ لَبِيد [من الطويل]: ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطِلُ ... وكلٌّ نَعِيمٍ لا مَحَالَةَ زائلُ الشاهد فيه نصبُ اسم الله تعالى بقوله: "ما خلا" علَى ما قدّمناه. ومعنى البيتِ ظاهرٌ. وكذلك الاستثناءُ بـ "لَيْسَ"، و"لَا يَكُونُ"، لا يكون المستثنى بهما إلَّا منصوبًا، مَنْفيًّا كان المستثنى منه أو موجبًا، وذلك قولُك في الموجب: "قام القوم ليس زيدًا"، و"لا يكون زيدًا". وتقول في المنفيّ: "ما قام القوم ليس زيدًا, ولا يكون زيداً"، وانتصابُ المستثنى هنا بأنّه خبرُ "لَيْسَ" و"لا يَكُونُ"، واسمُهما مضمَرٌ، والتقديرُ: ليس بعضُهم زيدًا, ولا يكون بعضُهم زيدًا. ¬
ولا يظهَر هذا الاسمُ المقدَّرُ على ما تقدّم في "خلَا"، و"عَدَا"؛ لأنّ هذه الأفعال أُنيبتْ في الاستثناء عن "إلّا"، فكما لا يكون بعد "إلّا" في الاستثناء إلّا اسمٌ واحدٌ، فكذلك لا يكون بعد هذه الأفعال إلّا اسمٌ واحدٌ, لأنّها في معناها. والكوفيون يقولون التقديرُ: لا يكون فَعْلُهم فَعْلَ زيد، أضمرتَ الفَعْل، وهو المضمر المجهول، ووضعتَ الاسم المنصوب موضعَ الفَعْل. وما ذهب إليه البصريون أمثلُ, لأنه أقلُّ إضمارًا، فكان أوْلى، وقد يكون "لَيْسَ"، و"لَا يَكُونُ" وصفَيْن لِما قبلهما من النكرات، تقول: "أتتْني امرأةٌ لا تكون هندًا"، فموضعُ "لَا تَكُونُ" رفعٌ بأنّه وصفٌ لامرأةٍ، وكذلك تقول في النصب، والجرّ: "رأيتُ امرأةً ليست هندًا, ولا تكون هندًا"، و"مررتُ بامرأةٍ ليست هندًا, ولا تكون هندًا"، ولا يوصَف بـ "خَلَا" و"عَدَا"، كما وُصف بـ "لَيْسَ"، و"لَا يَكُونُ". لا تقول: "أتتني امرأةٌ خلتْ هندًا، وعدتْ جُمْلاً"، وذلك أنّ "لَيْسَ"، و"لَا يَكُونُ" لفظُهما جَحْدٌ، فخالَفَ ما بعدهما ما قبلهما، فجريا في ذلك مجرى "غَيْرِ"، فوُصف بهما كما يوصَف بـ "غَيْرٍ"، وأمّا "خَلَا"، و"عَدَا"، فليس كذلك، وإنّما يُستثنى بهما على التأويل، لا لأنّهما جحدٌ، ولمّا كان معناهما المجاوَزةَ، والخروجَ عن الشيء، فُهم منهما مفارَقةُ الأوّل، فاستُثني بهما لهذا المعنى، ولم يوصَف بهما, لأنّ لفظهما ليس جحدًا، فيجرِيا مجرى "غيْرٍ". فإن قيل: فما موضعُ "ليس"، و"لا يكون" من الإعراب في الاستثناء؟ قيل: يحتمل وجهَيْن: أحدُهما: أنّ لا يكون لواحد منهما موضعٌ من الإعراب، بل يكون كلامًا مستأنَفًا، خُصّص به ذلك العامُ، كما يقول القائلُ: "جاءني الناسُ، وما جاءني زيدٌ" عقيبَ كلامه بجملةٍ من غير الكلام الأوّل بَيَّنَ بها خصوصَ الجملة الأوُلى، ومثلُه قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ} (¬1)، ثمّ قال: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} (¬2)، فجرى ذلك مجرَى "إلّا أنّ يكون له إخوةٌ". والوجه الثاني: أنّ يكونا في موضع الحال، فإذا قلت: "جاءني القومُ ليس زيدًا، ولا يكون زيدًا"، فتقديرُه: جاءني القوم وليس بعضُهم زيدًا, ولا يكون بعضُهم زيدًا، كما تقول: "جاءني زيدٌ وليس معه عمرٌو". ويجوز إسقاطُ الواو، فتقول: "جاءني زيدٌ ليس معه عمرٌو"، فيلزَم إسقاطُ الواو في الاستثناء؛ لأنّ "لَيْسَ"، و"لا يَكُونُ" نائبان عن "إلّا"، ولا يكون مع "إلَّا" الواوُ، فكذلك في "لَيْسَ"، و"لا يَكُونُ" ويكون التقديرُ: جاءني القوم خالِينَ من زيدٍ، وعادِينَ عن زيد، وتكون الجملتان كلامًا واحداً، فاعرفه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: "وما قدم من المستثنى, كقولك: "ما جاءني إلا أخاك أحدٌ". قال [من الطويل]: 296 - وما لي إلا آل أحمد شيعةٌ ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب" * * * قال الشارح: هذا هو الوجهُ الثاني من الوجوه الثلاثة التي لا يكون المستثنى فيها إلّا منصوبًا، وذلك المستثنى إذا تقدّم على المستثنى منه. نحوَ قولك: "ما جاءني إلّا زيدًا أحدٌ"، و"ما رأيتُ إلّا زيدًا أحدا"، و"ما مررت إلّا زيدًا بأحدٍ"، وإنّما لزم النصبُ في المستثنى إذا تقدّم، لأنّه قبل تقدُّمِ المستثنى كان فيه وجهان: البَدَل والنصبُ، فالبدلُ هو الوجهُ المختارُ على ما سيُذكَر بعدُ، والنصبُ جائزٌ على أصلِ الباب؛ فلمّا قدّمتَه , امتنع البدلُ الذي هو الوجهُ الراجح, لأنّ البدل لا يتقدّم المُبْدَلَ منه من حيث كان من التوابع، كالنعْت، والتأكيدِ، وليس قبله ما يكون بدلاً منه، فتَعيّنَ النصبُ الذي هو المرجوحُ للضرورة، ومن النحويّين من يسمّيه أحسنَ القبيحَيْن. ونظيرُ هذه المسألة صفةُ النكرة إذا تقدّمتْ، نحو: "فيها قائمًا رجلٌ"، لا يجوز في "قائم" إلّا النصبُ، لأنّك إذا أخّرتَه، فقلت: "فيها رجلٌ قائمٌ"، جاز في "قائم" وجهان: الرفع على النعت والنصبُ على الحال، إلّا أنّ الحال ضعيفٌ, لأنّ نعتَ النكرة أجودُ من الحال منها، فإذا قُدَّم بطل النعتُ، وإذا بطل النعت، تَعيّنَ النصبُ على الحال ضرورة، فصار ما كان جائزًا مرجوحًا، مختارًا. ¬
فأمّا قول الشاعر الذي أنشده، فإنّ البيت للكُمَيْت. ومَشْعَبُ الحقّ: طريقُه. والشَّيعَة: الأعوانُ، والأحزابُ، والأصلُ: فما لي شيعةٌ إلّا آلُ أحمد، وما لي مشعبٌ إلّا مشعبُ الحقّ، وقال الآخرُ، وهو كَعْبُ بن مالك [من البسيط]: 297 - والناسُ ألْبٌ علينا فيك ليس لنا ... إلا السُيُوفَ وأطرافَ القَنَا وَزرُ يخاطب النبي - صلى الله عليه وسلم -. والألْبُ. المتألّبون المجتمِعون. والوَزَرُ: المَلْجَأُ، وأصلُه: الجَبَلُ. * * * قال صاحب الكتاب: "وما كان استثناؤه منقطعاً ,كقولك: "ما جاءني أحدٌ إلا حماراً" وهي اللغة الحجازية, ومنه قوله عز وجل: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (¬1)، وقولهم: "ما زاد إلا ما نقص", و"ما نفع إلا ما ضر"". * * * قال الشارح: هذا هو الوجه الثالث ممّا لا يكون المستثنى فيه إلّا منصوبًا، وهو ما كان المستثنى فيه من غيرِ نوعِ الأوّل. ويسمّى المنقطِعَ لانقطاعه منه، إذ كان من غير نوعه، وهذا النوعُ من الاستثناء ليس على سبيلِ استثناءِ الشيء ممّا هو من جنسه, لأنّ استثناء الشيء من جنسه إخراجُ بعضٍ ما لولاه لَتَناولَه الأوَّلُ، ولذلك كان تخصيصًا على ما سبق، فأمّا إذا كان من غير الجنس، فلا يتناوله اللفظُ، وإذا لم يتناوله اللفظُ، فلا يحتاج إلى ما يُخْرِجه منه، إذ اللفظُ، إذا ¬
كان موضوعًا بإزاءِ شيء، وأُطلق، فلا يتناول ما خالَفَه. وإذا كان كذلك، فإنّما يصحّ بطريق المجاز، والحملِ على "لكِنْ" في الاستدراك، ولذلك قّدرها سيبويه بـ "لكِنْ" (¬1). وذلك من قِبَل أنّ "لكن" لا يكون ما بعدها إلّا مخالفًا لِما قبلها، كما أنّ "إلّا" في الاستثناء كذلك، إلَّا أنَّ "لكِنّ" لا يُشترط أنّ يكون ما بعدها بعضًا لِما قبلها بخلافِ "إلّا"، فإنَّه لا يُستثنى بها إلّا بعضٌ من كلّ. فعلى هذا تقول: "ما جاءني أحدٌ إلّا حمارًا"، و"ما بالدار أحدٌ إلّا وَتَدًا". فهذا المستثنى، وما كان مثلَه منصوبٌ أبدًا، وذلك لتعذُّرِ البَدَل، إذ لا يُبْدَل في الاستثناء إلّا ما كان بعضًا للأوّل، وإذا امتنع البدلُ، تَعيَّن النصبُ على ما ذكرنا في الاستثناء المقدَّم. وهذا الاستثناء على ضربَيْن: أحدُهما ما النصبُ فيه مختارٌ، والآخرُ واجبٌ، فالأوّلُ نحوُ قولك: "ما جاءني أحدٌ إلّا حمارًا"، و"ما بالدار أحدٌ إلَّا دابَّةً"، فهذا وشِبْهُهُ فيه مذهبان: مذهبُ أهل الحِجاز، وهي اللغة الفُصْحَى، وذلك نصبُ المستثنى على كل حال لِما ذكرناه من الاعتلال، ومذهبُ بني تميم، وهو أن يُجيزوا فيه البدلَ والنصبَ، فالنصبُ على أصل الباب، والبدلُ على تأويلَيْن: أحدُهما أنّك إذا قلت: "ما جاءني أحدٌ إلّا حمارٌ"، فكأنّك قلت: "ما جاءني إلَّا حمارٌ"، ثمّ ذكرتَ "أحدًا" توكيدًا، فيكون الاستثناءُ من القَدْر الذي وقعتِ الشرْكَةُ فيه بين الأحَدِين، والحمارِ، وهي الحَيَوانِيّةُ، مَثَلًا، أو الشَّيْئيّةُ، ويكون تقديرُه: ما جاءني حَيَوانٌ، أو شيءٌ أحدٌ، أو غيرُه إلّا حمارٌ. الثاني من التأويلَيْن أنّ تجعل الحمارَ يقوم مقامَ مَن جاءك من الرِّجال على التمثيل، كما يُقال: "عِتابُك السيفُ"، و"تَحِيَّتُك الضرْبُ"، كما قال [من الوافر]: 298 - وخَيْلٍ قد دلفتُ لها بخيلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهم ضَرْبٌ وَجِيعُ ¬
وقال الآخر [من الخفيف]: 299 - لَيْسَ بَيْنِي وبَيْنَ قَيْسٍ عِتابٌ ... غيرُ (¬1) طَعْنِ الكُلَى وضَرْبِ الرقابِ أي: هذا الذي أقامه مُقامَ التحية والعتابِ، ومن الاستثناء المنقطع قولُه تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (¬2) وقولُه تعالى: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} (¬3) وبنو تميم يقرؤونها بالرفع، يجعلون "اتّباعَ الظنّ" عِلْمَهم، و"ابتغاءَ وجهه" سبحانه نعمة لهم عنده، ومنه قول الشاعر [من الرجز]: 300 - وَبَلْدَةٍ ليس لها أنِيسُ ... إلَّا اليَعافِيرُ وإلَّا العِيسُ ¬
جعل "اليعافيرَ" أنيسَ ذلك المكان، ومثلُه قول النابِغة [من البسيط]: 301 - وَقَفْتُ فيها أُصَيْلانًا أسائِلُها ... عَيَّتْ جَوابًا وما بالرَبْعِ مِن أحدِ إلا الأوارِىّ لأيا ما أبَيَّنُها ... والنُّؤْيُ كالحَوْضِ بالمظلومةِ الجَلَدِ ¬
يُنشد برفع "الأواريّ" ونصبِها، فَمن رفع، جعلها من أحَدِي ذلك المكان، والوجهُ النصبُ، وعليه أكثرُ الناس. وأمّا الضربُ الثاني: وهو ما لا يجوز فيه إلّا النصبُ فقط، وذلك نحوُ قوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} (¬1)، فـ "من" في موضعِ نصب, لأنّه من غير الجنس؛ لأنّ "عاصمَ" فاعلٌ، و"مَن رحم" معصومٌ، أي: مَن رحمه اللهُ، والفاعلُ ليس من جنس المفعول، ومنهم من يجعله استثناء متّصِلًا، فيكون "عاصمَ" فاعلًا بمعنَى مفعول، أي: ذو عِصْمَةٍ، نحوَ قوله تعالى: {مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} (¬2)، أي: مدفوقٍ، وقولهِ تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (¬3) أي: مرضيّةٍ، ومنه قولُ الشاعر [من الطويل]: 302 - [لقدْ عيَّل الأيتامَ طعنةُ ناشرَه] ... أنَاشِرَ لا زالتْ يَمِينُك آشِرَهْ بمعنَى "مأشورة" أي: مقطوعة، وهو ضعيف لأنّه خلافُ الظاهر، وإنّما يُصار إلى ¬
[المستثني الذي يجوز فيه النصب والبدل]
مثله ما لم يُوجَد عنه مندوحةٌ، ويجوز أنّ يكون متّصلًا من وجهٍ آخر، وذلك أن يكون "مَن رَحِمَ" هو اللهَ تعالى, لأنه هو الراحم، والمعنى: لا يعصِم من أمر الله إلّا اللهُ. ومن ذلك ما حكاه سيبويه (¬1) عن أبي الخَطّاب: "ما زاد إلَّا ما نقص، وما نفع إِلا ما ضرّ"، فَـ "ما" الأوُلى نافيةٌ، و"مَا" الثانية مع الفعل بعدها في موضع مصدرٍ منصوبٍ، وفي"زَادَ" ضميرٌ يعود إلى مذكورٍ, وكذلك في "نَفَعَ". والمعنى ما زاد النَّهْرُ إلّا النُقْصانَ، وما نفع زيدٌ إلا الضُّرَّ، أقام النقصانَ مُقامَ الزيادة، والضرَّ مقامَ النفع، كما يُقال: "الجُوعُ زادُ مَن لا زادَ له". فهذا وأشباهُه لا يجوز في المستثنى فيه إلَّا النصبُ على لغةِ بني تميم وغيرِهم، لتعذّر البدل، إذ لا يمكن فمه تقديرُ حذفِ الاسم الأوّل، وإيقاعُ المستثنى موقعَه، كما أمكن ذلك إذا قلت: "ما فيها أحدٌ إلّا حمارٌ"، فلا يُقال: "لا اليومَ مِن أمر الله إلّا مَن رحم"، وكذلك إذا رددتَ المحذوفَ الذي هو خبرُ "عاصم" لم يجز أيضًا. لو قُلْت: في "لا عاصم لهم اليومَ من أمر الله إلّا من رحم": "لا لهم اليومَ من أمر الله إلّا من رحم"، لم يجز البدلُ، وذلك لأنّه يبقى الجارُّ والمجرور الذي هو الخبر بلا مخبَرٍ عنه، وذلك لا يجوز، ولا معنَى لذلك، والنكْتَة فيه أنّ الاستثناء من الجنس تخصيصٌ، وفي هذا الباب استدراكٌ، فاعرفه. * * * [المستثني الذي يجوز فيه النصب والبدل] قال صاحب الكتاب: "والثاني جائز فيه النصب والبدل وهو المستثنى من كلام تام غير موجب كقولك: "ما جاءني أحد إلا زيداً وإلا زيد", وكذلك إذا كان المستثنى منه منصوباً أو مجروراً, والاختيار البدل قال الله تعالى: {ما فعلوه إلا قليل} (¬2) , وأما قوله عز وجل: {إلا أمرأتك} (¬3) فيمن قرأ بالنصب فمستثنى من قوله تعالى: {فأسر بأهلك} " (¬4). * * * قال الشارح: قوله: "الثاني"، يريد النوعَ الثانِيَ من القِسْمة الأولى، وهي الأنواعُ الخمسةُ. وهذا المستثنى من كلّ كلام غيرِ موجب تامّ. وغيرُ الموجب ما كان فيه حرفٌ نافٍ، أو استفهامٌ، أو نهىٌ، نحوُ قولك: "ما جاءني من أحدٍ إلّا زيدًا"، و"لا يقمْ أحدٌ إلّا زيدٌ"، فهذا يجوز في المستثنى فيه النصبُ والبدلُ. أمّا النصبُ فعلى أصل الاستثناء على ما تقدّم، وأمّا البدلُ - وهو الوجهُ - فعلى أنّ تجعل "زيدًا" بدلًا من "أحد"، فيصير ¬
التقديرُ: "ما جاءني إلّا زيدٌ", لأنّ البدل يحُلّ محلَّ المُبْدَل منه، ألا ترى أنّ قولك: "مررتُ بأخيك زيدٍ" إنّما هو بمنزلةِ "مررت بزيدٍ" لأنّك لمّا نحّيتَ الأخَ، قام زيدٌ مقامَه، فعلى هذا تقول: "ما جاءني أحدٌ إلّا زيدٌ"، و"ما رأيت أحدًا إلّا زيدًا". و"ما مررت بأحدٍ إلّا زيدٍ". وإنّما كان البدل هو الوجهَ, لأن البدل والنصبَ في الاستثناء من حيثُ هو إخراجٌ واحدٌ في المعنى، وفي البدل فضلُ مشاكَلةِ ما بعدَ "إلّا" لما قبلها، فكان أوْلى. وكان الكِسائيّ والفرّاء يجعلان ما جعله سيبويه ههنا بدلًا من قبيل العطف، وقال أبو العبّاس ثَعْلَبٌ: كيف يكون بدلاً، و"أحدٌ"، منفيٌّ، وما بعد "إلّا" موجَبٌ؟ والجوابُ أنّه بدلٌ منه في عملِ العامل فيه، وذلك أنّا إذا قلنا: "ما جاءني أحدٌ"، فالرافعُ لـ"أحدٍ" هو"جاءني"، وإذا لم نذكر "أحدًا"، وقلنا: "ما جاءني إلّا زيدٌ"، فالرافعُ لـ "زيد" هو "جاءني" أيضًا، فكل واحد من "أحدٍ"، و"زيدٍ" يرتفع بـ "جاءني" إذا أفردتَه، فإذا جمعنا بينهما، فلا بدّ من رفعِ الأوّل منهما بالفعل, لأنه يتّصِل به، ويكون الثاني تابعًا له، كما يتبعُه إذا قلت: "جاءني أخوك زيدٌ"، إذ الفعلُ لا يكون له فاعلان. وأمّا اختلافُهما في النفي والإيجابِ، فلا يُخْرِجهما عن البدل, لأنّه ليس من شرط البدل أنّ يُعَدّ في موضعِ الأوّل إذا قُدّر زوالُه، بل من شرط البدل أنّ يعمل فيه ما يعمل في الأوّل في موضعه الذي رُتب فيه. وقد يقع في العطف، والصفةِ نحوُ ذلك، وهو أنّ يكون الأوّلُ موجَبًا، والثاني منفيًّا، فالعطفُ نحوُ: "جاءني زيدٌ لا عمرٌو"، و"مررت بزيدٍ لا عمرو"، و"رأيت زيدًا لا عمرًا". فالثاني معطوفٌ على الأوّل، وهما مختلِفان في المعنى من حيثُ النفيُ والإثباتُ. وكذلك تقول في الصفة: "مررت برجلٍ لا كريمٍ ولا عالمٍ" فـ "كريمٌ" مخفوضٌ, لأنّه نعتٌ لـ"رجلٍ"، وأحدُهما موجَبٌ، والآخرُ منفيٌّ. وإذا جار ذلك في العطف والنعتِ، جاز مثلُه في البدل, لأنّه مثلهما من حيثُ هو تابعٌ. فإن قيل: فلِمَ لا جاز البدلُ في الإيجاب كما جاز في النفي، فقلت: "جاءني القومُ إلّا زيدٌ" كما قلت في طَرَفِ النفي، وإلَّا فما الفرقُ بينهما؟ قيل: لأنّ عِبْرةَ البدل أنّ يحُلّ محلَّ المبدَل منه، وفي المنفيّ يصحّ حذفُ الاسم المبدَلِ منه قبل "إلّا"، ولا يصحّ ذلك في الموجب، لا يُقال: "أتاني إلّا زيدٌ"، وإنّما كان كذلك من قِبَل أنّ النفي الذي قبلَ "إلّا" قد وقع على ما لا يجوز إثباتُه من الأشياء المتضادّةِ، ألا ترى أنّا إذا قلنا: "ما أتاني أحدٌ"، كنّا قد نَفَيْنا إتيانَ كلّ واحد على سبيل الاجتماع والافتراقِ؟ ولو أخذنا نُثْبِت إتيانَهم على هذا الحدّ لكانَ مُحالاً, لأنّك توجِب لهم الإتيانَ على هذه الأحوال المتضادّةِ. والذي يُؤيِّد عندك ذلك أنّك تقول: "ما زيدٌ إلّا قائمٌ". نفيتَ عنه القعودَ والاضطجاعَ، وأثبت له القيامَ، ولا تقول: "زيدٌ إلّا قائمٌ"،
[المستثني المجرور]
فتوجِب له كلَّ حال إلّا القيامَ، إذ من المُحال اجتماعُ القعود والاضطجاع، فلذلك ساغ البدلُ في المنفيّ، ولم يسُغ في الموجب. فأمّا قوله تعالى: {مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ} (¬1)، فشاهدٌ على اختيار البدل في النفي، وذلك لإجماعِ القُرّاء على رفعِ "قَلِيل" إلّا أهلَ الشام (¬2)، فإنّهم نصبوه على أصل الباب. وأمّا قوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} (¬3) فإنّ الجماعة قرؤوا بالنصب إلّا أبا عمرو، وابنَ كَثِير، فإنّهما قَرَآ: "امرأتُك" بالرفع، وإنّما كان الأكثرُ النصبَ ها هنا, لأنّه استثناءٌ من موجب وهو قولُه: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} (¬4). ولم يجعلوه مِن "أحَدٌ"؛ لأنّها لم يكن مُباحًا لها الالتفاتُ. ولو كانت مستثناةَ من المنهيّ، لم تكن داخلة في جملةِ مَن نُهى عن الالتفات، ويدلّ على أنّه لم يكن مباحًا لها الالتفاتُ قولُه تعالى: {مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} (¬5)، فلمّا كان حالُها في العَذاب كحالهم؛ دلّ على أنّها كانت داخلة تحت النهي دخولهم. وأمّا مَن قرأ بالرفع، فقِراءةٌ ضعيفةٌ، وقد أنكرها أبو عُبَيْد، وذلك لِما ذكرناه من المعنى. ومجازُها على أنّ يكون اللفظُ نَهْيًا، والمعنى على الخبر، كما جاء الأمرُ بمعنى الخبر كقوله تعالى: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا} (¬6). ألا ترى أنه لا معنَى للأمر ههنا، وإنما المرادُ: مَدَّهُ الرَّحمنُ مَدَّا، ومنه {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (¬7)، وهو كثيرٌ في كلامهم. * * * [المستثني المجرور] قال صاحب الكتاب: "والثالث مجرور أبداً , وهو ما استثنى بـ "غيرٍ", و"حاشا" و"سوى", و"سواءٍ", والمبرد يجيز النصب بـ "حاشا"". * * * قال الشارح: أصلُ الاستثناء أنّ يكون بـ "إلَّا"، وإنّما كانت "إلّا" هي الأصلَ، لأنّها حرفٌ، وإنّما يُنقَل الكلام من حَدّ إلى حدّ بالحروف، كما نقلت "ما" في قولك: "ما قام زيدٌ" من الإيجاب إلى النفي، وكذلك حرفُ الاستفهام ينقُل من الخبر إلى الاستخبار في قولك: "أقام زيدٌ؟ " وكذلك حرفُ التعريف ينقل من النكرة إلى المعرفة. فعلى هذا تكون "إلّا" هي الأصلَ؛ لأنّها تنقل الكلامَ من العمُوم إلى الخصوص، وتكتفي ¬
من ذِكْرِ المستثنى منه إذا قلت: "ما قام إلّا زيدٌ"، وما عداها ممّا يُستثنى به، فموضوعٌ موضعَها، ومحمولٌ عليها لمشابهةٍ بينهما، فمن ذلك "غَيْرٌ" و"سوًى" و"حَاشَا". فأمّا "غيرٌ" فمحمولةٌ على "إلَّا"، ومشبَّهةٌ بها, لأنّ "غيرًا" يلزَمها أنّ يكون ما بعدها على خلافِ ما قبلها في النفي والإثباتِ، ألا ترى أنّك إذا قلت: "مررتُ بغيرِ زيد"، فالذي وقع به المرُورُ ليس "زيدًا"، و"زيدٌ" لم يقع به المرورُ، ولو قيل: "ما مررت بغيرِ زيد"، لكان الذي نُفي عنه المرورُ ليس بـ "زيد"، ولم يُنفَ المرور عن زيد، فلمّا كان في "غَيْرٍ" من مخالفةِ الاسم الذي بعدها مثلُ مخالفةِ ما قبلَ "إلَّا" لِما بعدها، حُملت عليها، وجُعلت هي وما أُضيفت إليه بمنزلةِ "إلَّا" وما بعدها. إلّا أنّ ما بعد "غيرٍ" لا يكون إلا مخفوضًا, لأنّها تلزم الإضافةَ لَفْرطِ إبهامها، وأمّا "سوى"، فظرفٌ من ظروف الأمكِنة، ومعناه إذا أُضيف كمعنَى "مَكَانَكَ". فإذا قلت: "جاءني رجلٌ سِواك"، فكأنّك قلت: رجلٌ مكانَك، أي: في موضعك، وبَدَلٌ منك، فتنصب "سواك" على كلِّ حال، لأنّه ظرفٌ. وفي سوى ثلاثُ لغات: فتحُ السين، وكسرُها، وضمّها. فإذا فتحتَ مددتَ، وإذا ضممت قصرت، وإذا كسرت جاز فيه الأمران، وإذا مددتَ تَبيَّن فيه الإعرابُ، وظهر النصبُ. وإذا قصرت، كان النصبُ مَنْويًّا كما يكون في "عَصًا"، وَ "رحًى". والذي يدلّ على ظَرْفيّتها أنّها تقع صِلةً، فتقول: "جاءني الذي سواك"، و"رأيت الذي سواك"، و"مررت بالذي سواك"، كما تقول: "جاءني الذي عندك". وممّا يدلّ على ظرفيّتها أنّ العامل يتخطّاها، ويعمل فيما بعدها, ولا يكون ذلك في شيء من الأسماء إلّا ما كان ظرفًا. قال لَبِيدٌ [من مجزوء الكامل]: وابْذُلْ سَوامَ المالِ إنْـ ... نَ سِواءَها دُهْمًا وَجُونَا (¬1) فنصب "سواءها" على الظرف، و"دهمًا وجونًا" اسمُ "إنَّ"، وتخطّاه العاملُ إلى ما بعده، كما تقول: "إنّ عندك زيدًا"، قال الله تعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا} (¬2) إلّا أنّ فيه معنى الاستثناء كما كان في "غَيْر". ألا ترى أنّ الذي هو مكانَه، وبدلٌ منه غيرُه، وليس إيّاه، فلذلك تقول: "مررتُ بالقوم سواك"، و"جاؤوني سواك"، و"رأيتهم سواك". فما بعدَ "سوى" مجرورٌ، وليس داخلًا فيما قبلها كما كان في "غَيْر" كذلك، إلّا أنّ بين "غَيْر"، و"سوَى" فَرْقًا، وذلك أنّ "سوى" لا تُضاف إلى معرفِة، وهي باقيةٌ على تنكيرها كما كانت "غيرٌ" كذلك, لأنّ "سوى" ظرفٌ، فإضافتُه كإضافةِ "خَلْفَكَ"، و"قُدَّامَكَ"، فوجب لذلك أنّ يكون معرفة. فإن قيل: فأنتم تصِفون النكرةَ بـ "سوى"، كما تصفونها بـ "غير"، فتقولون: "مررت ¬
برجل سواك"، كما تقولون: "بغيرك"، فما بالُكم فرّقتم بينهما؟ قيل: الوصفُ بـ "سوى" لا على حدّ الوصف بـ "غير", لأنّه لا يجري عليه في إعرابه، إنّما هو منصوبٌ على الظرف، والعاملُ فيه الاستقرارُ، وذلك الاستقرارُ هو الصفةُ، كما تقول: "مررت برجل عندي". وذهب الكوفيون (¬1) إلى أنّها إذا استُثني بها خرجتْ عن حكم الظرفيّة إلى حكم الاسميّة، فصارت بمنزلةِ "غير" في الاستثناء، واستدلّوا على ذلك بجَوَازِ دخولِ حروف الجرّ عليها، كما تدخل على "غير"، نحوَ قول الشاعر [من الطويل]: تَجانَفُ عن جَوّ اليَمامَة ناقَتِي ... وماقصدتْ من أهْلِها لِسِوائكا (¬2) وقال أبو دُؤادٍ [من البسيط]: 303 - وكلُّ مَن ظَنَّ أنّ المَوْتَ مُخْطِئُهُ ... مُعَلّلٌ بسواءِ الحَق مَكْذُوبُ ولا دليلَ في ذلك، لقِلّته وشُذوذه، وامتناعِه من سَعَةِ الكلام وحالِ الاختيار، فهو من قبيل الضرورة. وأمّا "حَاشَا" فهو حرفُ جرّ عند سيبويه (¬3)، يجرّ ما بعده، وهو وما بعده في موضعِ نصب بما قبله، وفيه معنَى الاستثناء كما أنّ "حَتَّى" حرفٌ يجرّ ما بعده، وفيه معنى الانتهاء، تقول: "أتاني القومُ حاشا زيدٍ"، و"ما أتاني القومُ حاشا زيدٍ"، والمعنى: سوَى زيدِ، قال الشاعر [من الكامل]: 304 - حَاشَا أبِي ثَوبانَ إنّ به ... ضنّا عن المَلْحاةِ والشَّتْمِ ¬
وزعم الفرّاء أنّ "حاشا" فعلٌ، ولا فاعلَ له، وأنّ الأصل في قولك: "حاشا زيدٍ": "حاشا لزيدٍ" فحُذفت اللام لكثرة الاستعمال، وخفضوا بها، وهذا فاسدٌ, لأنّ الفعل لا يخلو من فاعلٍ. وذهب أبو العبّاس المبرّدُ إلى أنها تكون حرفَ جرّ كما ذكر سيبويه، وتكون فعلًا ينصب ما بعده، واحتجّ لذلك بأشياءَ، منها أنّه يتصرّف، فتقول: "حَاشَيْتُ، أُحَاشِي"، قال النابغة [من البسيط]: 305 - ولا أرَى فاعِلًا في الناس يُشْبِهُةُ ... ولا أُحَاشِي من الأقْوام من أحدِ ¬
[المستثني الذي يجوز فيه الجر والرفع]
والتصرّف من خصائِص الأفعال، ومنها أنّه يدخل على لام الجرّ، فتقول: "حَاشَا لزيد". قال الله تعالى: {حَاشَ لِلَّهِ} (¬1). ولو كان حرفَ جرّ لم يدخل على مثله، ومنها أنّه يدخله الحذفُ، نحوُ: "حَاشَ لزيدٍ"، وقد قرأت القُرّاءُ إلّا أبا عمرو: {حَاشَ لِلَّهِ}. وليس القياسُ في الحروف الحذفَ، إنما ذلك في الأسماء، نحوِ: "أخٍ"، و"يَدٍ"، وفي الأفعال، نحوِ: "لم يَكُ"، و"لا أدْرِ"، وهو قولٌ مَتِينٌ، يُؤيّده أيضًا ما حكاَه أبو عمرو الشَّيْبانيُّ وغيرُه أنّ العرب تخفِض بها وتنصب. وحكى أبو عثمان المازنيُّ عن أبي زيد قال: سمعت أعرابيًّا يقول: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ولِمن سَمِعَ حَاشَا الشيطانَ، وابنَ الأصْبَغ"، فنصب بـ "حاشا"، فإذا يكون حالُها كحالِ "خَلَا". وقال أبو إسحاق: {حَاشَ لِلَّهِ} في معنَى "بَرَاءَةَ اللهِ"، مأخوذٌ من قولهم: "كنتُ في حَشَا فلانٍ"، أي: في ناحِيَته، من قول الشاعر [من الطويل]: 306 - [يقولُ الذي يُمْسي إلى الحَزْنِ أهْلُهُ] ... بأي الحَشَا أمْسَى الخَلِيطُ المُبايِنُ فإذا قال: "حاشا لزيدٍ"، فمعناه: تَباعَد فعلُهم، وصار في حَشَا منه، أي في ناحِيَته، كما أنّك إذا قلت: "قد تَنحّى" معناه: قد صار في ناحيةٍ منه، فاعرفه. * * * [المستثني الذي يجوز فيه الجرّ والرفع] قال صاحب الكتاب: "والرابع جائز فيه الجر والرفع, وهو ما استثني بـ "لا سيما" وقول امرئ القيس [من الطويل]: 307 - [ألا رُب يومٍ لك منهنّ صالحٍ] ... ولا سيما يوم بدارة جلجل ¬
يروى مجروراً ومرفوعاً وقد روي فيه النصب". * * * قال الشارح: "لا سِيَّمَا" كلمةٌ يُستثنى بها، وقع بعدها المرفوعُ والمخفوضُ، فَمن خفض جعل "ما" زائدةً مؤكّدةً، وخفض ما بعدها بإضافةِ الـ"سيّ" إليه، كأنّه قال: "ولا سِىّ زيدٍ"، أي: ولا مثلَ زيدٍ. ومَن رفع جعل "مَا" بمعنَى "الَّذِي"، ورفع ما بعدها على أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، والمعنى: سِىَّ الذي هو زيدٌ، و"هو" العائدُ إلى "الذي". ومثلُه قوله تعالى: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} (¬1) برفع "أحسن" على تقدير: الذي هو أحسنُ، وكقِراءةِ مَن قرأ {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (¬2)، وهو قَبيحٌ جدَّا لحَذفٍ ما ليس بفضلةٍ، و"السَّيٌّ" منصوبْ بـ "لاَ"، وليس بمبنى لأنّه مضافٌ إلى ما بعده، ولا يُبْنَى ما هو مضافٌ, لأنّ المبنيّ مشابِةٌ للحروف، ولا يصحّ إضافةُ الحروف، مع أنّ فيه جَعْلَ ثلاثةِ أشياءَ بمنزلةِ شيء واحد، وذلك إجحافٌ، والسَّيُّ: المِثْلُ. قال الحُطَيْئَةُ [من الوافر]: 308 - فإيّاكم وحَيَّةَ بَطْنِ وادٍ ... هَمُوزَ النابِ ليس لكم بسِيّ ¬
والتثنيةُ: سِيّانِ. قال أبو ذُؤَيْبٍ [من البسيط]: 309 - وكان سِيّانِ أن لا يَسْرَحُوا نَعَمًا ... أو يسرحوه بها واغبَرَّت السُّوحُ ¬
[المستثني الجاري علي وإعرابه قبل دخول كلمة الاستثناء]
ولا يستثنى بـ "سيَّما" إلا ومعه جحد، لو قلت: "جاءني القوم سيَّما زيدٌ"، لم يجز حتى تأتي بـ "لا". ولا يستثنى بـ "لا سيما" إِلّا فيما يراد تعظيمه، فأما بيت امرئ القيس [من الطويل]: ألا ربَّ يومٍ لك منهن صالحٍ ... ولا سِيُّمَا يومٌ بدارَةِ جُلْجُلِ فإنّه رُوي بجرّ "يوم" ورفعِه على ما ذكرناه، وقد رُوي منصوبًا على الظرف، وهو قليلٌ شاذّ. * * * [المستثني الجاري علي وإعرابه قبل دخول كلمة الاستثناء] قال صاحب الكتاب: "والخامس جار على إعرابه قبل دخول كلمة الإستثناء, وذلك "ما جاءني إلا زيدٌ"، و"ما رأيت إلا زيداً", و"ما مررت إلا بزيدٍ"". * * * قال الشارح: إذا استثنيتَ بـ "إلّا" من كلام منفىّ غيرِ تامّ، وذلك بأن يكون ما قبل "إلّا" محتاجًا إلى ما بعدها. ومثالُ ذلك "ما جاءني إلَّا زيدٌ"، و"ما رأيتُ إلا زيدًا"، و"ما مررت إلّا بزيدٍ"، و"ما ذهب إلّا عمرٌو" فهذا لا يكون فيه إلَّا الرفعُ؛ لأن للفعل المُفرَّغِ لِما بعد "إلَّا" أن يعمل فيه، والأصلُ أن تقول: "ما جاءني أحدٌ"، و"ما ذهب أحدٌ، أو شيءٌ"، ليصحّ معنى الاستثناء, لأنّ الاستثناء تخصيصُ صفةٍ عامّةٍ على ما ذكرنا، إلّا أنّك حذفت الفاعلَ استغناءً عنه لعُمُوم النفي، وأنت تريده. ولَسْنَا نعني أنّه مضمرٌ، وأن المذكور بعد "إلّا" بدلٌ منه، وإنّما نعني أنَّ المعنى على ذلك، ولمّا حذف ما كان يجب أنّ يُشْغَل به الفعلُ المنفيُّ، لم يجز تركُ الفعل بلا فاعلٍ، أو ما ينوب عن الفاعل، فلم يكن بدّ من إسنادِ هذا الحديث إلى مُحَدَّثٍ عنه، وشَغْلِ هذا الفعل بشيءٍ، يرتفع به كما لم يكن بدٌّ من شغلِ الفعل بالمفعول، إذا لم يسمّ الفاعلُ، فرفعتَ به ما بعد "إلَّا"، وأقمتَه مقامَ الفاعل، وشغلتَ الفعلَ به لفظًا دلّ الاستثناءُ على المحذوف من جهة المعنى، كما دلّ تغييرُ بِنْيَةِ الفعل فيما لم يسمّ فاعلُه بعد إقامةِ المفعول مقام الفاعل، على أنّ ثَمَّ فاعلًا لهذا الفعل غيرَ المذكور. والذي يدلّ على أنّ الفعل عاملٌ فيما بعد "إلّا" ومسندٌ إليه أمران: أحدهما أنّ هنا فعلًا لا بدّ له من فاعلٍ، وليس هنا فاعلٌ سوى الموجود، ولا يُقال الفاعلُ محذوفٌ، إذ ¬
الفاعلُ لا يجوز حذفُه. والثاني أنّه قد يُؤنَّث الفعل لتأنيثِ المستثنى، فيقال: "ما قامت إلَّا هندٌ". قال ذو الرُمَّة [من الطويل]: 310 - بَرَى النَّحْزُ والأجْرازُ ما في غُروضها ... فما بَقِيَتْ إلَّا الصُّدورُ الجَراشِعُ ومن ذلك قِراءةُ الحسن، وجماعةٍ من القُرّاء غير السَّبْعَة: {فأصْبَحُوا لاَ تُرَى إلّا مَسَاكِنُهُمْ} (¬1) فأنَّت، وإن كان القياسُ التذكيرَ, لأنّه من مواضع العُمُوم والتذكيرِ، إذ التقديرُ: فما بقي شيءٌ ولا يُرَى شيءٌ. فإذا قلت: "ما قام إلَّا زيدٌ"، و"ما رأيت إلّا زيدًا"، و"ما مررت إلّا بزيد"، فهو بمنزلةِ "قام زيدٌ"، و"رأيت زيدًا"، و"مررت بزيد" في أنّ الفعل عاملٌ في الفاعل والمفعولِ بعد "إلّا" كما يعمل إذا لم يكن "إلّا"، مذكورًا. وهذا معنى قوله: "جارٍ على إعرابه قبل دخولِ كلمةِ الاستثناء". وفائدةُ الاستثناء في قولك: "ما قام إلّا زيدٌ" إثباتُ القيام له، ونَفْيُه عمّن سِواه، ولو قلت: "قام زيدٌ لا غيرُ"، لم يكن فيه دلالةٌ على نَفْيه عن غيره، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "والمشبه بالمفعول منها هو الأول, والثاني في أحد وجهيه. وشبهه به لمجيئه فضلةً, وله شبهٌ خاصّ بالمفعول معه, لأن العامل فيه بتوسط حرف". * * * ¬
[حكم غير]
قال الشارح: قوله: "والمشبَّه بالمفعول منها هو الأوّل"، يريد المستثنى من الموجَب، نحوَ قولك: "قام القومُ إلّا زيدًا", لأنّ الاستثناء جاء بعدما تَمَّ الكلامُ بالفاعل، كما يأتي المفعولُ كذلك، نحوَ قولك: "ضرب زيدٌ عمرًا". قوله: "والثاني في أحدِ وجهَيْه"، يريد به ما يجوز من النصب والبدل في المستثنى من المنفيّ التامّ، نحوَ قولك: "ما جاءني أحدٌ إلّا زيدٌ"، فإنّه يجوز فيه النصب على أصل الباب، وهو المشبَّهُ بالمفعول والبدلُ، والفرق بين البدل والنصب في قولك: "ما قام أحد إلّا زيد" أنّك إذا نصبت، جعلت معتمَدَ الكلام النفيَ، وصار المستثنى فضلةً، فتنصبه كما تنصب المفعول به، وإذا أبدلتَه منه، كان معتمدُ الكلام إيجابَ القيام لزيد، وكان ذكرُ الأوّل كالتَّوْطئة، كما ترفع الخبرَ, لأنّه معتمدُ الكلام، وتنصب الحالَ لأنّه تَبِيعٌ للمعتمد في نحوِ: "زيدٌ في الدار قائمًا". وقوله: "وله شَبَهٌ خاصٌّ بالمفعول معه"، يريد أنّ الفعل كما لم يتعدّ إلى المفعول معه إلّا بواسطةِ الواو، وتقوِيَتِه، كذلك "إلّا" تقويةٌ للفعل قبلها, لا يتعدّى إلى المستثنى إلّا بواسطتها, وليس واحدٌ منهما عاملًا فيما دخلا عليه فاعرفه. * * * [حكم غير] قال صاحب الكتاب: "وحكم "غير" حكم الأسم الواقع بعد "إلا": تنصبه في الموجب, والمنقطع, وعند التقديم, وتُجيز فيه البدل والنصب في غير الموجب, وقالوا: إنما عمل فيه غير المتعدي لشبهه بالظرف لإبهامه". * * * قال الشارح: لمّا كانت "إلّا" حرفًا لا يعمل شيئًا، ولا يعمل فيه عاملٌ، وكان ما قبلها مقتضِيًا لِما بعدها، تَخَطَّى عملُ ما قبلها إلى ما بعدها، فعمِل فيه، كقولنا: "ما قام إلّا زيدٌ"، و"ما رأيت إلّا زيدًا"، و"ما مررت إلّا بزيد". و"غَيْرٌ" اسمٌ تعمل فيه العواملُ، وما بعدها لا يعمل فيه سِواها, لأنّ إضافتها إليه لازمةٌ، فصار الإعرابُ الواجبِ للاسم الواقع بعد "إلَّا" حاصلًا في نفس "غَيْرٍ"، فإذا استثنيتَ بها من موجَبٍ، نصبتَ، نحوَ قولك: "قام القومُ غيرَ زيدٍ"، كما نصبت ما بعد "إلّا"، نحوَ: "قام القوَمُ إلّا زيدًا"، وكذلك إذا كان الثاني منقطعًا ليس من جنسِ الأوّل، كقولك: "جاءني القومُ غيرَ حمارٍ"، كما تقول: "إلّا حمارًا". وكذلك إذا قدّمتَه على المستثنى منه، نحوَ قولك: "ما جاءني غيرَ زيدٍ أحدٌ"، كما قلت: "ما جاءني إلّا زيدًا أحدٌ". وتقول: "ما جاءني أحد غيرُ زيدٍ"، فيجوز في "غير" الرفعُ والنصبُ، كما كان ذلك جائزًا مع "إلّا".
فصل [شبه "غير" بـ "إلا"]
فإن قيل: كيف جاز أن تقول: "قام القومُ غيرَ زيد"، فتنصب "غيرًا" بالفعل قبله، وهو لازمٌ غيرُ متعدّ؟ فالجوابُ أنّ "غيرًا" ههنا لمّا كانت مُشابِهةً لـ"سِوى" بما فيها من الإبهام، ألا ترى أنّك إذا قلت: "مررت برجلٍ غيرِك"، فهو غيرُ متميِّزٍ كما أنّ "سوى" كذلك فكما يتعدّى الفعلُ اللازمُ إلى "سوى" بنفسه، كذلك يتعدّى إلى "غير", لأنّه في معناه. وهذا معنى قوله: "وقالوا: إنّما عمل فيه الفعلُ غيرُ المتعدّي لشَبَهه بالظرف"، يريد سِوى. فصل [شبه "غير" بـ "إلّا"] قال صاحب الكتاب: "واعلم أن "إلا" و"غيراً" يتقارضان ما لكل واحد منهما, فالذي لـ "غير" في أصله أن يكون وصفاً, يمسه إعراب ما قبله، ومعناه المغايرة, وخلاف المماثلة, ودلالته عليها من جهتين: من جهة الذات, ومن جهة الصفة, تقول: "مررت برجلٍ غير زيد" قاصداً إلى أن مرورك كان بإنسان آخر, أو بمن ليست صفته صفته، وفي قوله عز وجل: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} (¬1) الرفع صفة للقاعدون, والجر صفة للمؤمنين والنصب على الإستثناء. ثم دخل على "إلا" في الإستثناء". * * * قال الشارح: قوله: "يتقارضان ما لكلّ واحد منهما"، يعني أنّ كلّ واحد منهما يستعِير من الآخر حكمًا، هو أخصٌّ به، فحكمُ "غيرٍ" الذي هو مختصٌّ به الوصفيّةُ أن يكون جاريًا على ما قبله تَحْلِيَة له بالمغايَرة، فأصلُ "غيرٍ" أنّ يكون وصفًا، والاستثناءُ فيه عارضٌ مُعارٌ مِن "إلّا". ويوضِح ذلك، ويُؤكّده أنّ كل موضع يكون فيه "غيرٌ" استثناءً، يجوز أنّ يكون صفةً فيه، وليس كل موضع يكون فيه صفةً يجوز أنّ يكون استثناءً، وذلك نحوُ قولك: "عندي مائةٌ غيرَ درهمٍ": إذا نصبتَ كانت استثناء، وكنتَ مُخبِرًا أنّ عندك تسعةً وتسعين درهمًا، وإذا رفعت كنت قد وصفتَه بأنّه مغايِر لها. وكذلك إذا قلت: "عندي درهمٌ غيرَ دانِقٍ، وغيرُ دانقٍ": إذا استثنيتَ نصبتَ، وإذا وصفت رفعت. وتقول: "عندي درهمٌ غيرُ زائفٍ، ورجلٌ غيرُ عاقلٍ"، فهذا لا يكون فيه "غيرٌ" إلّا وصفًا، لا غيرُ، لأنّ الزائف ليس بعضًا للدرهم، ولا العاقل بعضَ الرجل. وحقيقةُ الاستثناء إخراجُ بعضٍ من كل، والفرقُ بين "غير" إذا كانت صفة، وبينها إذا كانت استثناءً، أنّها إذا كانت صفة لم تُوجِب للاسم الذي وصفتَه بها شيئًا، ولم تَنْفِ ¬
عنه شيئًا, لأنه مذكورٌ على سبيل التعريف، فإذا قلت: "جاءني رجلٌ غيرُ زيد"، فقد وصفتَه بالمغايَرة له، وعدمِ المماثَلة، ولم تَنْفِ عن زيد المَجيءَ، وإنّما هو بمنزلة قولك: "جاءني رجلٌ ليس بزيدٍ". وأمّا إذا كانت استثناءً، فإنّه إذا كان قبلها إيجابٌ، فما بعدها نفىٌ، وإذا كان قبلها نفىٌ، فما بعدها إيجابٌ, لأنّها ههنا محمولةٌ على "إلّا"، فكان حكُمها كحكمه. وقوله: "يَمَسُّه إعرابُ ما قبله"، يُشير إلى أنَّه وصفٌ يتبع ما قبله في إعرابه كما تتبع سائرُ الصفات، فتقول: "هذا رجلٌ غيرُك"، فترفعُه لأنّ موصوفه مرفوعٌ، وتقول: "رأيت رجلًا غيرَك"، و"مررت برجلٍ غيرك" كما تقول: "هذا رجلٌ عالمٌ"، و"رأيت رجلًا عالمًا"، و"مررت برجلٍ عالمٍ"، فيكون إعرابُ "عالمٍ" كإعراب "الرجل". من حيث هو نعتٌ له. وقوله: "ودلالته عليها من وجهَيْن: من جهةِ الذات، ومن جهة الصفة"، يريد أنّه قد دلّ على شيئين: على الذات الموصوفة، وهو الإنسان مَثَلًا، وعلى الوصف الذي استحقّ به أن يكون "غيرًا"، وهو المغايرةُ، كما أنّك إذا قلت: "أسْوَدُ" فقد دلّ على شيئين: على الذات، والسواد الذي استحقّ به أن يكون أسودَ. فهما شيئان: حاملٌ، ومحمولٌ. فالحاملُ الذاتُ، والمحمولُ السوادُ، وكذلك "ضاربٌ" دلّ على الضَّرْب وذاتَ الضارب. فأمّا قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} (¬1) إلخ، فقد قرئ بالرفع والجرّ والنصب (¬2)، فالرفع على النعت لـ "القاعدون"، ولا يكون ارتفاعهُ على البدل في الاستثناء, لأنّه يصير التقديرُ فيه: لا يستوي إلّا أُولُو الضرر، وليس المعنى على ذلك، إنّما المعنى لا يستوي القاعدون الأصحّاءُ والمجاهدون، والجرُّ على النعت لِـ"المؤمنين"، والمعنى لا يستوي القاعدون من المؤمنين الأصحّاء والمجاهدون، والمعنى فيهما واحدٌ، والنصبُ على الاستثناء وقوله: "ثمّ دخل على "إلّا" في الاستثناء"، يريد أنّ أصل "غيرٍ" أنّ يكون صفةً لِما ذكرناه، ثمّ دخل على "إلّا" لمضارعة بينهما، فاستُثني به كما يستثنى بـ "إلَّا". * * * قال صاحب الكتاب: "وقد دخل عليه "إلا" في الوصفية. وفي التنزيل ¬
{لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (¬1) , أي: غيرُ الله. ومنه قوله [من الوافر]: 311 - وكل أُخٍ مفارقة أخوه ... لعمر أبيك إلا الفرقدان ولا يجوز اجراؤه مجرى "غير" إلا تابعاً، لو قلت: "لو كان فيهما إلا الله",كما تقول: "لو كان فيهما غير الله" لم يجز, وشبهه سيبويه (¬2) بـ "أجمعون"". * * * قال الشارح: وقد حملوا "إلّا" على "غير" في الوصفيّة، فوصفوا بها، وجعلوها وما بعدها تَحْليَةً للمذكور بالمغايرة، وأنه ليس إيّاه، أو مَن صفتُه كصفته، ولا يراد به إخراجُ الثاني ممّا دخل في الأوّل، فتقول: "جاءني القوم إلّا زيدًا"، فيجوز نصبُه على الاستثناء، ورفعُه على الصفة للقوم. وإذا قلت: "ما أتاني أحدٌ إلّا زيدًا"، جاز أنّ يكون "إلّا" وما بعدها بدلًا من "أحد"، وجاز أنّ يكون صفة بمعنى "غيرٍ". قال الله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا ¬
آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬1). والمراد: غيرُ الله، فهذا لا يكون إلّا وصفًا, ولا يجوز أنّ يكون بدلًا يراد به الاستثناء, لأنّه يصير في تقديره: لو كان فيهما إلّا الله لفسدتا. وذلك فاسدٌ لأنّ "لَوْ" شرطٌ فيما مضى، فهي بمنزِلة "إن" في المستقبل. وأنت لو قلت: "إن أتاني زيدٌ"، لم يصحّ, لأن الشرط في حكم الموجَب. فكما لا يصح "أتاني إلّا زيدٌ"، كذلك لا يصحّ "إن أتاني إلاّ زيد". فلو نصبتَ على الاستثناء، فقلت: "لو كان فيهما آلهةٌ إلّا الله"، لجازَ، ومن ذلك قول الشاعر عمرو بن مَعْدِ يكَرِبَ [من الوافر]: وكلّ أخ مفارقه أخوه ... إلخ فـ "إلّا" وما بعدها بمعنى "غيرٍ" صفةٌ لـ"كلّ"، ولو جعله وصفًا لـ"أخ" لَخفض. وقال: "إلّا الفرقدين" لأنّ ما بعد "إلّا" في الوصف يكون إعرابُه تابعًا لإعراب ما قبلها. والمرادُ: كل أخٍ مُفارِقُه أخوه غيرُ الفرقدَيْن، فإنّهما لا يفترِقان في الدنيا كافتراقِ الأخوَيْن. واعلم أنّه لا يجوز أن تكون "إلّا" صفة إلّا في الموضع الذي يجوز أنّ تكون فيه استثناء. وذلك أنّ تكون بعد جمع، أو واحدٍ في معنى الجمع، إمّا نكرةٍ منفيةٍ، وإمّا فيه الألف واللامُ لتعريف الجنس, لأنّ هذا هو الموضعُ الذي تجتمِع فيه هي و"غَيْرٌ" فتقارضَا. ولم تكن بمنزلتها في غير هذا الموضع، لأنّهما لم تجتمعا فيه. لو قلت: "مررتُ برجل إلّا زيدٍ" على معنى "غير زيدٍ"، لم يجز, لأنّ "إلّا" موضوعةٌ لأن يكون ما بعدها بعضًا لما قبلها, وليس "زيدٌ" بعضًا لـ"رجل"، فامتنع لذلك. وقوله: "لا يجوز إجراؤه مجرى غير إلّا تابعًا"، يريد أنّ "إلّا" وما بعدها، إنّما تكون صفة إذا كان قبلها اسم مذكورٌ، ولا يجوز حذفُ الموصوف فيه، وإقامةُ الصفة مقامَه، كما جاز ذلك مع "غيرٍ"، لأنّ "غيرًا" اسمٌ متمكِّنٌ، تعمل فيه العواملُ، فيجوز أنّ يُقام مُقامَ الموصوف. فإذا قلت: "مررت بمثلك"، وإن كان تقديرُه: برجل مثلِك، فليس خفضُه هنا بحكم التَّبَعِيّة، بل بالحرف الخافض. وكذلك إذا قلت: "قام غيرُك"، فارتفاعُه بالفعل قبله، كما كان ارتفاعُ الموصوف لو ذَكَرَه. وكذلك النصبُ في قولك: "رأيتُ غيرَك"، هو منصوبٌ بوقوع الفعل عليه، لا بحكمِ أنّه صفةٌ تابعٌ. فـ "إِلَا" إنّما وُصف بها حَمْلًا على "غيرٍ". وإذا كانت "غيرٌ" نفسُها، إذا حذف موصوفُها لا تبقى نعتًا، إذ النعت يقتضي منعوتًا متقدِّمًا عليه، كان ما حُمل عليه، وهو حرفٌ، لا يعمل فيه عاملٌ، لا رافعٌ، ولا ناصبٌ، ولا خافضُ، أشدَّ امتناعًا، فلم يجز لذلك حذفُ الموصوف وإقامتُه مُقامَه، فلا تقول: "ما قام إلّا زيدٌ"، وأنت تريد الصفةَ، كما جاز "ما قام غيرُ زيد". وقد شبّهه سيبويه بـ "أجمعون" في التأكيد من حيثُ إنّه لا يكون إلّا تأكيدًا ¬
فصل [حمل البدل علي محل الجار والمجرور لا علي اللفظ]
كالنعت، ولا يجوز حذفُ المؤكَّد، وإقامتُه مقامَ المؤكَّد، فلا يكون إلّا بعد مذكورٍ، كما أنّ "إلّا" في الصفة كذلك. فصل [حمل البدل علي محلّ الجارّ والمجرور لا علي اللفظ] قال صاحب الكتاب: "وتقول: ما جاءني من أحد إلا عبد الله وما رأيت من أحد إلا زيداً, ولا أحد فيها إلا عمرو, فتحمل البدل على محل الجار والمجرور لا على اللفظ، وتقول ليس زيد بشيء إلا شيئاً لا يعبأ به. قال طرفة [من الكامل]: 312 - أبني لبينى لستم بيدٍ ... إلا يداً ليست لها عضد وما زيد بشيءٍ لا يعبأ به, بالرفع لا غير. * * * قال الشارح: اعلم أنّ من الحروف ما قد تُزاد في الكلام لضرب من التأكيد، وتختصّ زيادتُها بموضع دون موضع. فمن ذلك "مِنْ". قد تُزاد مؤكدةً، وتختصّ بالنفي، والدخولِ على النكرة لاستغراق الجنس، فتارةً تُفِيد الاستغراقَ بعد أن لم يكن، وتارة تُؤكِّده. فمثالُ الأوّل قولُك: "ما جاءني من رجلٍ"، فـ "مِنْ" أفادتِ العمومَ، واستغراقَ الجنس، لأنّك لو قلت: "ما جاءني رجلٌ"، جاز أنّ يكون نافيًا لمَجِيء رجل واحد، وقد جاءك أكثرُ. ومثالُ الثاني قولك: "ما أتاني من أحدٍ"، ¬
والمعنى: "ماأتاني أحد", لأنّ "أحدًا" عامٌّ من غير دخولِ "مِنْ" كـ "طُورِيّ"، و"عَرِيبٍ"، وإنما أكّدت. فإذا قلت: "ما أتاني من أحدٍ إلّا زيدٌ"، جاز في إعراب "زيد" وجهان: النصبُ على الاستثناء، والرفع على البدل من الموضع، لأنّ موضعه، لو لم يكن الخافضُ، رفعٌ, لأنّ "مِنْ"، لو لم تدخل، لَقلت: "ما أتاني أحدٌ إلّا زيدٌ". ولا يجوز خفضُ "زيد" على البدل من اللفظ, لأنّ خَفْضَه بـ "مِنْ"، ولا يجوز دخولُ "مِنْ" هذه على موجَبٍ، وما بعد "إلّا" هاهنا موجبٌ لأنّه استثناءٌ من منفىِّ، والمستثنى من المنفيّ موجبٌ، فامتنع البدلُ من اللفظ هاهنا لذلك. ولو قلت:"ما أخذتُ من أحدٍ إلّا زيدٍ"، لجاز الخفضُ فيما بعد "إلّا" على البدل من المخفوض, لأنّ "من" هذه من صِلة "أحدٍ"، فهي تدخل على المنفيّ والموجب بخلاف الأولى. وتقول: "لا أحدَ فيها إلّا زيدٌ"، و"لا إلهَ إلّا الله" بالرفع على البدل من موضع "لا أحد", لأنّه في موضع اسمٍ مبتدأ. ولا يجوز حملُ ما بعد "إلّا" على النصب الذي تُوجِبه "لَا" النافيةُ, لأنّ "لا" إنّما تعمل في منفىّ، وما بعد "إلّا" هنا موجبٌ، ولأنّ المنفىّ هاهنا مقدَّرٌ بـ "منْ"، والمعنى: لا من أحدٍ. ولذلك وجب بناؤُه، فلم يصحّ البدلُ منه، لأنّه لا يصحّ تقديرُ "مِنْ" هذه بعد "إلّا". ومن ذلك قولك: "ليس زيدٌ بشيءٍ إلّا شيئًا لا يُعْبَأ به"، ولا يجوز فيه إلّا النصبُ على البدل من المَحَلّ، لانّ مَحَلّه نصبٌ، والتقديرُ: ليس زيدٌ شيئًا إلّا شيئًا لا يُعْبَأ به. ولا يجوز الخفضُ على البدل من اللفظ, لأنّ خَفضه بتقدير الباء، وهذه الباء تأتي زائدةً لتأكيدِ النفي، ولا تكون مع الموجَب، وما بعد "إلّا" هنا موجبٌ، فلذلك لم يجز الخفضُ، قال الشاعر [من الكامل]: أَبَنِي لُبَيْنَى ... إلخ البيت لطَرَفَةَ بن العبد، والشاهدُ أنّه نصب "يدا" الثانيةَ، لوقوعها بعد "إلّا" بدلًا من محلِّ الجارّ والمجرور، لتعذُر حَمْله على لفظ المخفوض, لأنّ ما بعد "إلّا" موجبٌ، والباء مؤكّدةٌ للنفي. ويُروى: مَخْبُولَةَ العضُدِ. والخَبْلُ: الفَسادُ. والمعنى: أنتم في الضُّعْف، وقلّةِ الانتفاع كيَدٍ لا عَضُدَ لها. وتقول: "ما أنت بشيء إلّا شيءٌ لا يُعْبَأ به" بالرفع لا غيرُ، وذلك لأنّ الجارّ والمجرور عند بني تميم في موضع رفع, لأنّهم لا يُعمِلون "مَا" لعدم اختصاصها. وإذا كان في موضع رفعٍ، تَعذرَ حملُه على اللفظ الذي هو الجرّ لِما ذكرناه من أنّ هذه الباء لا تُزاد مع الموجب، وما بعد "إلّا" هنا موجبٌ، فحُمِل على الموضع، وهو الرفعُ. وعند أهل الحِجاز أنّ الجارّ والمجرور في موضع نصبٍ, لأنهم يحملون "ما" على
فصل [تقديم المستثني علي صفة المستثني منه]
"لَيْسَ" لشَبَهها بها من جهة النفي. فإذا دخلت "إلّا"، بطل عملُها لانتقاضِ النفي، وصاروا إلى أقْيَسِ اللُغَتَين، وهي لغةُ بني تميم، فلذلك رفعت. ومثله: "ما كان زيدٌ بغلام إلّا غلامًا صالحًا"، بنصب "الغلام"، لأنّه بدل من محلَّ الغلام الأوّل، ومحلُّه نصبٌ بأنّه خبرُ "كَانَ". ويدل علىَ ذلك أنّك لو حذفتَ الاسم المستثنى منه، لقلت: "ما أنت إلّا شيءٌ لا يُعْبَأ به" بالرفع، و"ما كان زيدٌ إلّا غلامًا صالحًا" بالنصب، وقد أجاز الكوفيون فيما بعد "إلّا" الخفضَ، إذا كان نكرة، ولا يجوز في المعرفة، فتقول على هذا: "ما أتاني من أحدٍ إلّا رجل"، و"ما أنت بشيءٍ إلّا شيءٍ لا يُعْبَأ به". ولو قلت: "إلّا زيدٍ، وما أنت بشيءٍ إلّا الشيءِ التافِهِ"، لم يجز. والصوابُ المذهب الأوّل، وهو رأيُ سيبويه لما ذكرناه من أنّ حرف الخفض في هذا الموضع إنّما دخل لتأكيد النفي، ولا يتعلّق بموجبٍ، وما بعد "إلّا" موجبٌ، فاعرفه. فصل [تقديم المستثني علي صفة المستثني منه] قال صاحب الكتاب: "وإن قدمت المستثنى على صفة المستثنى منه ففيه طريقان: أحدهما وهو اختيار سيبويه (¬1) أن لا تكترث للصفة, وتحمله على البدل. والثاني أن تنزل تقديمه على الصفة منزلة تقديمه على الموصوف، وذلك قولك: "ما أتاني أحد إلا أبوك خير من زيد" و"ما مررت بأحد إلا عمرو خيرٍ من زيد", أو تقول: إلا أباك وإلا عمرًا"". * * * قال الشرح: إذا تقدّم المستثنى على صفة المستثنى منه، ففيه مذهبان: أحدهما مذهبُ سيبويه، وهو اختيارُ أبي العبّاس المبرّد، أنّ تُبْدِله ممّا قبلَه, لأنّ الاعتبار بتقديم المُبْدَل منه، وهو الاسم، ولا تكترِث للصفة, لأنّها فضلةٌ. والثاني أنّ تنصبه على الاستثناء، وهو اختيارُ أبي عثمانَ المازِنيّ. وذلك أنّ الصفة والموصوف كالشيء الواحد، وإذا كانا كالشيء الواحد، كان تقديمُه على الصفة بمنزلةِ تقديمه على الموصوف. فكما يلزم النصبُ بتقديمه على المستثنى منه، كذلك يلزم النصبُ بتقديمه على الصفة. وممّا يدلّ أنّ الصفة والموصوف كالشيء الواحد قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} (¬2). ألا ترى أنّه أُدخل الفاء في الخبر هاهنا لوَصْفك إيّاه بـ "الَّذِي"، كما تدخل إذا كان المخبَرُ عنه الَّذِي، وكان موصولًا بالفعل، أو ما يجري مجرى الفعل من ظرفٍ، أو جارّ ومجرورٍ. مثال ذلك قولك: "ما أتاني أحدٌ إلّا أبوك خيرٌ من زيدٍ". ¬
فصل [تثنية المستثني]
فقولك: "خيرٌ من زيدٍ"، وصفٌ لـ"أحدٍ"، المستثنى منه، و"الأبُ" هو المستثنى، وقد تقدّم على الصفة، وأبدلته منه. وإن شئت نصبت، وقلت: "إلّا أباك". وتقول: "ما مررتُ بأحدٍ إلّا عمرٍو خيرٍ من زيد". فقولك: "خيرٍ من زيد"، نعتُ "أحدٍ"، و"عمرٌو" مخفوضٌ لأنّه بدلٌ منه، وإن شئت نصبت على الاستثناء. فصل [تثنية المستثني] قال صاحب الكتاب: "وتقول في تثنية المستثنى: ما أتاني إلا زيداً إلا عمراً, وإلا زيداً إلا عمرو, ترفع الذي أسندت إليه, وتنصب الآخر, وليس لك أن ترفعه, لأنك لا تقول: تركوني إلا عمرو. وتقول ما أتاني إلا عمراً إلا بشراً أحد، منصوبين, لأن التقدير: ما أتاني إلا عمراً أحد إلا بشر، على إبدال بشر من أحد, فلما قدمته نصبته. * * * قال الشارح: إذا قلت:"ما أتاني إلّا زيدٌ إلّا عمرًا، أو إلّا زيدًا إلّا عمرٌو"، فلا بدّ من رفع أحدهما ونصب الآخر. ولا يجوز رفعُهما جميعًا , ولا نصبُهما، وذلك نظرًا إلى إصلاح اللفظ وتَوْفِيَة ما يستحِقّه، وذلك أنّ المستثنى منه محذوفٌ، والتقديرُ: ما أتاني أحدٌ إلّا زيدًا إلّا عمرًا، لكن لمّا حُذف المستثنى منه، بقي الفعلُ مفرَّغًا بلا فاعل. ولا يجوز إخلاءُ الفعل من فاعلِ في اللفظ، فرُفع أحدهما بأنّه فاعلٌ. ولمّا رفعت أحدهما بأنّه فاعلٌ، لم يجز رفعُ الآخر, لأنّ المرفوع بعد "إلّا" إنّما يُرفَع على أحدِ وجهَيْن: إمّا أنّ يُرفَع بالفعل الذي قبله إذا فُرّغ الفعل، وإمّا أن يُرفَع لأنّه بدلٌ من مرفوع قبله. ولا يسوغ هاهنا وجةٌ من الوجهَيْن المذكورَيْن, لأنّ أحدهما قد ارتفع بالفعل لمّا فُرّع له، ولا يكون بدلًا, لأنّ الثاني ليس الأوّل، ولا بعضًا له، ولا مشتمِلًا عليه مع أنّه ليس المراد أنّ يُثبَت للثاني ما نُفي من الأوّل، فيُبْدَلَ منه، وإنّما المعنى على أنّهما لم يدخلا في نفي الإتيان. وقوله: "لأنّك لا تقول: "تركوني إلّا عمرٌو" إشارةٌ إلى أنّ الثاني مستثنًى من الأوّل، والأوّلُ موجَبٌ، والمستثنى من الموجب لا يكون مرفوعًا. فإن قيل: كيف استثنيتَه منه، وليس بعضًا له؟ قيل لأنّ زيدًا بعضُ القوم، فجاز الاستثناءُ منه من حيثُ هو بعضٌ، والبعضُ يقع على القليل والكثير، ولم يجز نصبُهما جميعًا؛ لأنّ الفعل لا ينصب مفعولَيْن من غير فاعلٍ، فلمّا امتنع رفعهما معًا ونصبُهما معًا، تَعيَّن رفعُ أحدهما، ونصبُ الآخر. والاسمان جميعًا مستثنيان، فمعناهما في ذلك واحدٌ، وإن اختلف إعرابُهما، وممّا يدلّ على أنهما مستثنيان أنّك لو لم تحذِف المستثنى منه، وقدّمتَهما عليه، لكنت
فصل [حكم الجملة الاستثنائية]
تنصبهما، نحو قولك: "ما أتاني إلّا زيدًا إلّا عمرًا أحدٌ". والذي يوضِح ذلك قولُ الكُمَيت [من الطويل]: 313 - فَمَا لِيَ إلّا الله لا رَبَّ غيرَه ... ومالِيَ إلّا الله غيرَك ناصِرُ نفى كلَّ ناصرٍ سِوَى اللهِ، وسوى المخاطَب، وهذا واضحٌ. فصل [حكم الجملة الاستثنائية] قال صاحب الكتاب: "وإذا قلت ما مررت بأحد إلا زيد خير منه, كان ما بعد "إلا" جملة ابتدائية واقعة صفة لـ "أحد"، و"إلا" لغو في اللفظ, معطية في المعنى فائدتها, جاعلة "زيداً" خيراً من جميع من مررت بهم. * * * قال الشارح: اعلم أنّ "إلّا" تدخل بين المبتدأ وخبره، وبين الصفة وموصوفها، وبين الحال وصاحبه، فمثالُ دخولها بين المبتدأ وخبره قولك: "ما زيدٌ إلّا قائمٌ"، فـ "قائمٌ" خبرُ "زيد"، فكأنّك قلت: "زيدٌ قائمٌ"، لكن فائدةُ دخولِ "إلّا" إثباتُ الخبر للأوّل، ونفي خبرِ غيرِه عنه، والمستثنى منه كأنّه مقدَّرٌ. والتقديرٌ: ما زيدٌ شيءُ إلّا قائمٌ. فـ "شيءٌ" هنا في معنى جماعةٍ, لأن المعنى: ما زيدٌ شيءٌ من الأشياء إلّا قائمٌ. ومثالُ دخولها بين الصفة والموصوف قولك: "ما مررتُ بأحدٍ إلّا كريمٍ"، و"ما رأيتُ فيها أحدًا إلّا عالمًا"، أفدتَ بـ "إلّا" إثباتَ مُرورك بقومٍ كِرامٍ، وانتفاءَ المرور بغيرِ من هذه صفتُهم. وكذلك أثبتَّ رؤيةَ قوم عُلماءَ، ونفيتَ رؤيةً غيرهم. وتقول في الحال: "ما جاء زيدٌ إلّا ضاحكًا"، فتنفي مَجِيئَه إَلا على هذه الصفة. ¬
فصل [وقوع الفعل محل الاسم المستثني]
وقد تقع الجُمَلُ موقعَ هذه الأشياء بعد "إلّا" كما تقع موقعَها في غير الاستثناء، فتقول: "ما زيدٌ إلّا أبوه منطلقٌ"، فـ "أبوه منطلقٌ" جملةٌ من مبتدأ وخبر في موضع خبر المبتدأ الأوّلِ الذي هو "زيدٌ". وتقول في الصفة: "ما مررت بأحدٍ إلّا زيدٌ خيرٌ منه". فقولك: "زيدٌ خيرٌ منه" جملة من مبتدأ وخبر في موضع مخفوضٍ، نعتٍ لـ "أحدٍ"، كأنّك قلت: "مررت بقوم زيدٌ خيرٌ منهمِ". وأفادت "إلّا" انتفاءَ مُرورك بغيرِ مَن هذه صفتُهم. وتقول في الجملة إذا وقعت حالًا: "ما مررتُ بزيدٍ إلّا أبوه قائمٌ"، و"ما مررت بالقوم إلّا زيد خيرٌ منهم"، فالجملةُ في موضع الحال لوقوعها بعد معرفةٍ. وقد يجوز في قولك: "ما مررت بأحدٍ إلّا زيدٌ خيرٌ منه" أنّ تكون الجملةُ في موضع الحال أيضًا, لأنّ الحال من النكرة جائزٌ، وإن كان ضعيفًا. ويجوز أنّ تدخل عليه الواوُ، فتقول: مامررت بأحدٍ وزيدٌ خيرٌ منه"، و"ما كلّمتُ أحدًا إلّا وزيدٌ حاضرٌ"، فـ "زيد حاضر" في موضح الحال. ولا يجوز حذفُ الواو من هاهنا كما جاز حذفُها من الأوّل، لخُلُوَّ الجملة من العائد الرابِط. وإنّما الواوُ هي الرابطةُ، وليس الأوّلُ كذلك, لأن فيه ضميرًا رابطًا. فإن أتيت بالواو، كان تأكيدًا للارتباط، وإن لم تأتِ بها فالضميرُ كافٍ. ولا تقع الجملةِ في هذه المواضع إلّا أنّ تكون اسميّة من مبتدأ وخبر، ولا تكون فعليّة, لأنّ "إلَّا" موضوعة لإخراج بعض من كل، فإذا تقدّم "إلّا" الاسمُ، فلا يكون بعدها إلّا الاسمُ لانّهما جنسٌ واحدٌ، فيصحُّ أنّ يكون بعضًا له. فلو قلت: "ما زيدٌ إلّا قَامَ" على أنّ تجعل "قام" خبرًا، و"ما أتاني أحدٌ إلّا قام أخوه " ونحو ذلك، لم يجز لما ذكرتُ لك، ولو قلت: "ما زيدٌ إلّا يقوم"، أو"ما أتاني أحدٌ إلّا يضحَك"، لكان جيّدًا، لأنّ الفعل المضارع مشابةٌ للاسم، فكان له حكمُه. وقوله: و"إلّا" لَغْوٌ في اللفظ، مُعْطِيةٌ في المعنى فائدتَها، جاعلةٌ "زيدًا" خيرًا من جميعِ من مررتَ بهم، يعني أنّه ليس في اللفظ مستثنى منه، وإنّما معك في "ما زيدٌ إلّا قائمٌ " مبتدأٌ وخبرٌ. وفي قولك: "ما مررت بأحدٍ إلّا زيدٌ خيرٌ منه" صفةٌ وموصوفٌ، أو حالٌ وذو حالٍ، فجرى مجرى العامل المفرَّغِ للعمل من نحو: "ما قام إلّا زيدٌ"، و"ما ضربتُ إلّا زيدًا" من حيثُ إنّ ما قبل "إلّا" يقتضي ما بعدها اقتضاءً لا يتِمّ المعنى إلّا به، إلّا أنها من جهةِ المعنى تُفيد الاستثناء من حيثُ جعلتَ "زيدًا" خيرًا من جميعِ ما مررت به في قولك: "ما مررت بأحدٍ إلّا زيدٌ خيرٌ منه"، ونفيتَ "زيدًا" أنّ يكون شيئًا إلّا قائمًا في قولك: "ما زيدٌ إلا قائمٌ". فصل [وقوع الفعل محل الاسم المستثني] قال صاحب الكتاب: "وقد أوقع الفعل موقع الاسم المستثنى في قولهم: "نشدتك بالله إلا فعلت". والمعنى: ما أطلب منك إلا فعلك. وكذلك "أقسمت عليك إلا فعلت".
وعن ابن عباس: "بالإيواء والنصر إلا جلستم", وفي حديث عمر: "عزمت عليك لما ضربت كاتبك سوطاً" بمعنى "إلا ضربت"". * * * قال الشارح: قد أُوقع الفعل موقع المصدر المستثنى، لدلالة الفعل على المصدر، فقالوا: "نشدتُك اللهَ إلّا فعلتَ"، والمراد: فَعْلَك. وذلك أنّ "نَشَدَ" فعلٌ قد استُعمل على وجهَيْن: أحدهما أنّ يكون متعدّيًا إلى مفعول واحد، والآخرُ أن يكون متعدّيًا إلى مفعولَيْن، فالمتعدّي إلى مفعول واحد قولهم: "نشدتُ الضالةَ" إذا طلبتَها، وأنشدوا لنُصَيْب [من الطويل]: 314 - ظَلِلْتُ بذِي دَوْرانَ أَنْشُدُ ناقَتي ... ومالي عليها من قَلُوصٍ ولا بَكرِ والناشد: الطالبُ، وأنشد إلأصمعيّ عن أبي عمرو [من السريع]: 315 - يُصِيخُ للنَّبْأَةِ أَسْماعه ... إصاخةَ الناشِدِ للمُنْشِدِ (¬1) ¬
الإصاخة: الاستماعُ، والناشدُ: الطالبُ، والمُنْشِدُ: المُعَرِّفُ. الضرب الآخر أن يتعدّى إلى مفعولَيْن من بابِ "نشدتُ". وذلك قولُهم: "نشدتُك اللهُ إلّا فعلتَ"، هكذا حكاه سيبويه (¬1)، وهو كلامٌ محمول على المعنى، كأنّه قال: "ما أَنْشُدُ إلّا فَعْلَك" أي: ما أسألُك إلّا فَعْلَك، ومثلُ ذلك "شَرّ أهَرَّ ذا نابٍ" (¬2) "وشيءٌ ما جاء بك"، وجاز وقوعُ "فعلتَ" هاهنا بعد "إلّا" من حيثُ كان دالآ على مصدره، كأنّهم قالوا: "ما أسألك إلّا فَعْلَك". ونحوه ما أنشده أبو زيدٍ [من الوافر]: 316 - فقالوا ما تَشاءُ فقلتُ أَلْهُو ... إلى الإصباح آثِرَ ذي أَثِيرِ فأوقع الفعلَ على مصدره لدلالته عليه، فكأنّه قال فى الذي جواب "ما تشاءُ اللَّهْوَ"، وإذا ساغ أنّ تحمل "شرٌّ أهَرَّ ذا نابٍ" على معنى المنفيّ، كان معنى النفي في "نشدتُك الله إلّا فعلتَ" أظهرَ، لقُوّةِ الدلالة على النفي بدخول (¬3) "إلّا" لدلالتها عليه. ألا ترى أنّهم قالوا: "ليس الطيبُ إلّا المِسْكَ"، فجاز دخولُ "إلّا" في قول أبي الحسن بين المبتدأ والخبر، وإن لم يجز "زيدٌ إلّا منطلقٌ" لمّا كان عاريًا من معنى النفي. ومثله من الحمل على المعنى قولُ الآخر [من الطويل]: 317 - [أنا الذائدُ الحامي الذمارَ] وإنّما ... يُدافِعُ عن أَعْراضِهم أَنَا أو مِثْلِي ¬
والمراد: ما يدافع عن أعراضهم إلّا أنا, ولذلك فَصَلَ الضميرَ حيثُ كان المعنى: ما يدافع إلّا أنا. ولولا هذا المعنى لم يستقِمْ, لأنّك لا تقول: "يقوم أنا". فكما جاز "يدافع أنا", لأنّه في معنى "ما يدافع إلّا أنا"، كذلك جاز "أسألُك إلّا فعلتَ" لأنّه في معنى "لا أسألُك إلّا فعْلَكَ". وأمّا "أقسمتُ عليك إلّا فعلتَ"، فقياسُه، لو أُجْرِيَ على ظاهره، أنّ يقال: "لَتَفْعَلَنَّ", لأنه جواب القَسَم في طَرَفِ الإيجاب بالفعل، فتلزمه اللامُ والنونُ، لكنّهم حملوه على "نشدتُك الله إلّا فعلتَ", لأن المعنى فيهما واحدٌ. قال سيبويه (¬1) سألتُ الخليلَ عن قولهم: "أقسمت عليك لمَّا فعلتَ وإلاّ فعلتَ "، لِمَ جاز هذا، وإنّما "أقسمتُ" هاهنا كقولك "واللهِ"؟ فقال: وجهُ الكلام: "لتفعلنّ"، ولكنّهم أجازوا هذا, لأنّهم شبّهوه بقولهم: "نشدتُك الله إلّا فعلتَ"، إذ كان المعنى فيهما الطّلَبَ. وأمّا قولُ ابن عَبّاسٍ: "بالإيواء والنَّصْرِ إلا جلستم"، فهو حديثٌ مشهور، ذكره التَّوْحِيدِيُ في كتابِ البَصائر، وذلك أنّ ابن عبّاس دخل على بعض الأنصار في وَلِيمَةٍ، فقاموا، فقال: "بالإيواء والنصر إلّا جلستم"، وأراد بـ "الإيواء والنصر" قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا} (¬2)، فاستعطفهم بما ورد فيهم، وما هو من خصائصهم. وأمّا حديث عمر: "عزمتُ عليك لَمَّا ضربتَ كاتِبَك سَوْطًا"، ففي هذا الحديث رِوايةٌ أخرى عن يَحْيَى ¬
فصل [حذف المستثني]
ابن أبي كثير أنّ كاتِبًا لأبي موسى كتب: "إلى عمر بن الخَطّاب مِنْ أبُو مُوسَى"، فكتب إليه عمرُ: إذا أتاك كِتابي هذا فاضْرِبْه سَوْطًا، واعْزِلْه عن عَمَلك، فقوله: "لمّا ضربتَ كاتِبَك" بمعنى "إلّا ضربتَ"، أي: لا أطلُبُ إلّا ضَرْبَه، وقولُه: "عزمتُ عليك" من قَسَم الملوك، وكانوا يُعَظّمون عَزائمَ الأمُراء. فصل [حذف المستثني] قال صاحب الكتاب: "والمستثنى يحذف وذلك قولهم: "ليس إلا" و"ليس غير"". * * * قال الشارح: قد حذفوا المستثنى بعد "إلّا"، و"غَيْر"، وذلك مع "لَيْسَ" خاصّةٌ دون غيرها ممّا يُستثنى به من ألفاظ الجَحْد، لعِلْم المخاطَب بمُرادِ المتكلّم، وذلك قولك: "ليس غيرُ" و"ليس إلّا". والمراد: "ليس إلّا ذاك" و"ليس غير ذاك". ولو قلت بدلَ "لَيْسَ": "لا يكون إلّا" أو "لم يكن غيرُ"، لم يجز. فإِذا قالوا: "ليس إلّا" و"ليس غيرُ"، فإنّهم حذفوا المستثنى منه اكتفاء بمعرفةِ المخاطب، نحوَ: "ما جاءني إلّا زيدٌ"، والمرادُ: ما جاء أحدٌ إلّا زيدٌ. ومثلُ ذلك: "ما منهم إلّا قد قال ذاك"، يريد: ما منهم أحدٌ إلّا قد قال ذاك. وإذا قلت: "ليس غيرُ"، فاسمُ "ليس" مستتِرٌ فيها على ما تقدّم، و"غَيْرُ" الخبرُ، وهي منتصبةٌ، وإنّما لمّا حُذف منها ما أُضيفت إليه، وقُطعت عن الإضافة، بُنيت على الضمّ تشبيهًا بالغايات، وقال أبو الحسن الأخفشُ: إذا أضفتَ "غيرًا"، فقلت: "غيرك"، أو"غير ذاك"، جاز فيه وجهان: الرفعُ، والنصبُ. تقول: "جاءني زيدٌ ليس غيرُه وليس غيرَه"، فإذا رفع، فعلى أنَّه اسمُ "ليس" وأضمر الخبرَ، كأنّه قال "ليس غيرُه صحيحًا". وإذا نصب، فعلى أنّه الخبرُ، وأضمر الاسمَ كأنَّه قال: "ليس الجائي، أو ليس الأمرُ غيرَه". وإذا لم يُضِفْها، أجاز في "غير" الفتحَ، والضمَّ، وشبَّهها بباب "تَيْمَ تَيْمَ عَدِيّ"، وزعم أنّ "تيم" الأوّل قد حُذف منه المضاف إليه، وبقي على لفظِ ماَ هو مضافٌ من غيرِ تنوين إذ كانت الإضافةُ منويّة فيه. وقد أجاز بعضُهم تنوينَ "غير"، إذا حذفتَ منها المضاف إليه، نَظَرًا إلى اللفظ كما يُنوَّن "كُلٌّ" و"بعضٌ" إذا لم يُضافا، وإن كانت الإضافةُ فيهما منويّة مرادة من نحو قوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (¬1)، ونحو ذلك. ¬
الخبر والاسم في بابي "كان" و"إن"
الخبر والاسم في بابي "كان" و"إنّ" فصل قال صاحب الكتاب: "لما شبه العامل في البابين بالفعل المتعدي؛ شبه ما عمل فيه بالفاعل والمفعول". * * * قال الشارح: لمّا حضّر المنصوبات، وجب عليه أن يُعيد ذِكْرَ "كَانَ" وأخواتِها، و"إنَّ" وأخواتِها هاهنا, لأن لكلّ واحد منهما منصوبًا، كما أنّ له مرفوعًا، فخبرُ "كان" وأخواتها، واسمُ "إنَّ" وأخواتِها من المنصوبات على التشبيه بالمفعول، وذلك أنّه شُبّه كلُّ واحد من "كان"، و"إنّ" بالفعل المتعدّي، لاقتضاء كل واحد منهما اسمَيْن بعده. وقد تقدّم بيانُ مشابهةِ "إنَّ" الفعلَ في المرفوعات، بما أغنى عن إعادته، وأمّا "كَانَ" وأخواتُها؛ فهي من أفعالِ العِبارة، واللفظِ، لأنّه تدخلها علاماتُ الأفعال من نحو"قَدْ"، و"السينِ" و"سَوْفَ"، وتتصرّفُ تصرُّفَ الأفعال، نحو: "كَانَ يَكُونُ، فهو كائنٌ وكُنْ ولاَ تَكُنْ"، وليست أفعالًا حقيقةً, لأنّ الفعل في الحقيقة ما دلّ على حَدَثٍ وزمانِ ذلك الحدث، و"كَانَ" وأخواتُها موضوعةٌ للدلالة على زمان وُجودِ خبرها، فهي بمنزلة اسمٍ من أسماء الزمان، يُؤْتَى به مع الجملة للدلالة على زمن وجودِ ذلك الخبر. فقولُك: "كان زيدٌ قائمًا" بمنزلة قولك: "زيدٌ قائمٌ أمْسِ" وقولُك: "يكون زيدٌ قائمًا" بمنزلةِ "زيدٌ قائمٌ غدًا". فثَبَتَ بما قلناه أنّها ليست أفعالًا حقيقةً، إذ ليس فيها دلالةٌ على الفعل الحقيقيَ الذي هو المصدرُ، وإنّما هي مشبَّهةٌ بالأفعال لفظًا. وإذا كانت أفعالًا من جهة اللفظ، كان مرفوعُها كالفاعل، ومنصوبُها كالمفعول، ويُؤيِّد عندك أنّ مرفوعها ليس بفاعلٍ، وأنّ منصوبها ليس مفعولًا على الحقيقة أنّ الفاعل والمفعول قد يتغايَران، نحو: "ضربَ زيدٌ عمرًا"، فـ "زيدٌ" غيرُ "عمرو"، والمرفوعُ في بابِ "كَانَ" لا يكون إلّا المنصوبَ في المعنى، نحو: "كان زيدٌ قائمًا"، فـ "القائمُ" ليس غير زيد فاعرفه. فصل [إضمار العامل في خبر "كان"] قال صاحب الكتاب: "ويضمر العامل في خبر "كان" في مثل قولهم: "الناس
مَجْزِيّون بأعمالهم إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ" (¬1)، و"المَرْءُ مقتولٌ بما قَتَلَ به إن خَنْجَرَا فخنجرٌ، وإن سَيفًا فسيفٌ" أي: إن كان عَمَلُه خيرًا فجَزاؤُه خيرٌ، إن كان شرًّا فجزاؤه شرٌّ. ومنهم من ينصبهما، أي: إن كان خيرًا كان خيرًا، والرفعُ أحْسَنُ في الآخِر. ومنهم من يرفعهما، ويُضمِر الرافعَ، أي: إن كان معه خنجرٌ. فالذي يُقتَل به خنجرٌ قال النّعْمان بن المُنْذر [من البسيط]: 318 - قد قِيلَ ذلك إن حَقًّا وإن كَذِبًا ... [وما اعْتِذارُكَ من شيء إذا قيلا] " * * * قال الشارح: اعلم أنّ "كَانَ" قد تُحذَف كثيرًا، وهي مرادة، وذلك لكثرتها في الكلام. فمن ذلك قولُهم: "الناسُ مَجْزيون بأعمالهم إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشرٌ"، فلَكَ في هذه المسألة أربعةُ أوجه من الإعراب: أن تنصبهما جميعًا، وأن ترفعهما جميعًا، وأن تنصب الأوّلَ وترفع الثانِيَ، وأن ترفع الأوّلَ وتنصب الثاني. فإذا نصبتَهما جميعًا قلت: الناسُ مجزيون باْعمالهم إن خيرَا فخيرًا". وانتصابُهما بفعلَيْن مضمرَيْن أحدهما شرطٌ، والآخرُ جزاءٌ, خُذفا لدلالة "إن" عليهما، إذ لا يقع بعدها إلّا فعل. والتقدير: إن كان عمله خيرًا، فيكون جزاؤه خيرًا، أو فهو يُجْزَى خيرًا. فالأوّل خبرُ "كَانَ" المحذوفةِ، والثاني خبرُ "كَانَ" الثانية، إن قدّرتَ "كَانَ"، أو مفعولٌ ثانٍ إن قدّرت "يُجْزَى". ¬
وإذا رفعتَهما، وقلت: "إن خيرٌ فخير، وإن شر فشرٌّ"، فالأوّل مرفوعٌ بفعل محذوف، والتقديرُ: إن كان في عمله خيرٌ فجزاؤه خيرٌ. ولا يرتفع إلّا على هذا التقدير لوُقوعه بعد "إن" الشرطيّة. وحرفُ الشرط لا يقع بعده مبتدأ, لأنّ الشرط لا يكون بالأسماء، فيكون ارتفاعُ "خير" الأوّلِ على أنّه اسمُ "كَانَ"، والخبرُ محذوفٌ، وهو الجارُ والمجرور، وهو عربيٌّ جيّدٌ. ويجوز أنّ يكون المضمر، "كَانَ" التامّةَ، فلا يحتاج إلى خبر، وأمّا "خير" الثاني، فمرتفعٌ، لأنّه خبرُ مبتدأ محذوفٍ, لأنّ الجزاء قد يكون بالجُمَل الاسميّةِ إذا كان معها الفاءُ، نحو قولك: "إن أتاني زيدٌ فله درهمٌ". وإذا نصبت الأوّل، ورفعت الثانِيَ، وقلت: "إن خيرًا فخيرٌ"، وهو الوجه المختارُ، فيكون انتصابُ الأوّل بتقديرِ فعل، كأنّك قلت: "إن كان عملُه خيرًا" على ما ذكرنا في الوجة الأوّل. ويكون ارتفاعُ "خير" الثاني على أنّه خبرُ مبتدأ، وتقديره: "فجزاؤه خيرٌ" على ما ذكرنا في الوجه الثاني. وإنّما كان هذا الوجه المختارَ, لأنّ "إنْ" من حيثُ هي شرطٌ تقتضي الفعلَ، لأنّ الشرط بالاسم لا يصحّ، فلم يكن بدٌّ من تقديرِ فعل, إمّا "كَانَ" أو نحوها، فإذا نصبنا، كنّا قد أضمرنا "كَانَ"، والفعلُ لا بدّ له من فاعلٍ، وهما كالشيء الواحد، وإذا رفعنا، أضمرنا "كَانَ" وخبرًا لها أو شيئًا في موضع الخبر، والخبرُ بمنزلةِ المفعول، والمفعولُ منفصِلٌ من الفعل أجْنَبِىٌّ منه، فهما شيئان. وكُلَّما كثُر الإضمارُ، كان أضعفَ. واختير رفعُ الثاني لدُخول الفاء في الجواب، والفاء إنّما أُتي بها في الجواب، إذا كان مبتدأً وخبرًا، فأمّا إذا كان فعلًا؛ لم يحتج إلى الفاء، نحو قولك: "إن أكرمتني أكرمتُك"، و"إنْ تُكْرِمْني أكْرِمْك". ولو قلت: "إن أكرمتَني لك درهمٌ"، أو "إن أتيتَني زيدٌ مُقِيمٌ عندي"، لم يجز حتّى تأتي بالفاء، فتقول: "إن أكرمتَني فلك درهم"، و"إن أتيتني فزيدٌ مقيم عندي". وإذا رفعت الأوّل، ونصبت الثاني، فقلت: "إن خيرٌ فخيرًا، وإن شرٌّ فشرًّا"، فترفع الأوّل بأنّه اسمُ "كَانَ" على ما تقدّم، وتنصب الثاني على ما ذكرنا، ويكون التقدير: فهو يُجْزَى خيرًا. واعلم أنّ هذا الحذف والإضمار، لا يسوغ مع كلّ حرف لا يقع بعده إلّا الفعلُ، وإنّما ذلك مسموعٌ منهم، تُضْمِر حيث أضمروا، وتُظْهِر حيث أظهروا. تَقِفُ في ذلك حيث وقفوا؛ فأمّا قوله [من البسيط]: قد قِيَل ذلك إنّ حَقًّا وإنْ كَذِبًا ... وما اعْتِذارُك من شيءٍ إذا قِيلَا فإنّه يجوز فيه الوجوهُ الأربعةُ: فالنصبُ على ما ذكرناه أوّلاً، والرفعُ على تقدير: "إن وقع حَقٌّ، وإن وقع كذبٌ" أو على "إن كان فيه حقٌّ، وإن كان فيه كذبٌ"، والبيت للنُّعْمان بن المُنْذِر قاله للرَّبِيع بن زِيادٍ العَبْسِيّ حين دخل عليه لَبِيدُ بن رَبِيعَةَ، والربيعُ يُؤاكِله، فقال [من الرجز]: مَهْلًا أَبَيْتَ اللَعْنَ لا تَأْكُلْ مَعَهْ ... إنّ اسْتَهُ من بَرَصٍ مُلَمَّعَهْ
فصل
فأمسك النعمانُ عن الأكل، فقال الربيع- أَبَيتَ اللعنَ-: إن لبيدًا كاذِبٌ، فقال النعمان [من البسيط]: قد قيل ذلك إنْ حَقًّا وإن كذبا البيت، فقال قومٌ: هو له، وقيل: هو لغيره، وإنّما تَمثَّل به. فصل قال صاحب الكتاب: "ومنه: "ألا طعامَ ولو تَمْرًا"، و"ايتني بدابةٍ ولو حِمارًا". وإن شئتَ رفعتَه بمعنى و"لو يكون تمرٌ وحمارٌ"، و"ادْفَعِ الشرَّ ولو إصْبَعًا"، ومنه "أما أنت منطلقًا انطلقتُ"، والمعنى: "لِأن كنتَ منطلقًا"، و"ما" مَزيدةٌ معوّضةٌ من الفعل المضمَر. ومنه قولُ الهُذَلي [من البسيط]: 319 - أبا خُراشةَ أَمَّا أنتَ ذا نَفَرٍ ... [فَإن قومي لمْ تأكُلْهُمُ الضبُعُ] ¬
ورُوي قوله [من البسيط]: 320 - إما أَقَمْتَ وأَمّا أنت مُرتَحِلاً ... فاللهُ يَكْلأُ ما تَأْتِي وما تَذَرُ بكسر الأول وفتح الثاني". * * * قال الشارح: قوله: "ومنه"، أي: ومن المنصوب بإضمار فعل، وقوله: "ولو تمرًا" يريد: "ولو كان تمرًا"، فـ "تمْرًا" منصوبٌ لأنّه خبرُ "كان"، واسمُها مضمرٌ فيها. ¬
والتقديرُ: "ولو كان الطعامُ تمرًا"، لكن حذفتَ الفعل للعلم بموضعه، إذ كانت "لو" لا يقع بعدها إلّا فعلٌ, لأنّها شرطٌ فيما مضى، كما أنّ "إنْ" شرطٌ فيما يستقبل، فلا يقع بعدها إلّا فعلٌ، ولو رفعتَ "التمر"، فقلت: "ولو تمرٌ"، لجاز أيضًا على تقدير فعلٍ رافعٍ، كأنّك قلت: "ولو كان عندنا"، أو"ولو سقط إلينا تمرٌ". ومثله "ايتني بدابّةٍ ولو حمارًا" على ذلك، أي: ولو كان حمارًا. ولو رفعتَ وقلت: "ولو حمارٌ"، لكان جائزًا حسنًا على تقدير: "ولو وقع حمارٌ". ولو خفضتَ "الحمار" لجاز أيضًا على تقدير الباء، كأنّك قلت: "ولو أتيتني بحمارٍ". وهو ضعيفٌ, لأنّك تُضْمِر فعلًا والباء. وكلَّما كثُر الإضمارُ كان أضعف. ومثله "ادْفَع الشرّ، ولو إصْبَعًا"، نصبتَ "إصبعًا" على معنى: ولو كان الدَّفْعُ إصبعًا، أي: قَدْرَ إصبع، يعني يسيرًا. وأمّا قولهم: "أمَّا أنت منطلقًا انطلقتُ معك" فـ "منطلق" منصوبٌ بفعل مضمر. وأصلُ "أمَّا" هاهنا "أنّ" وهي المصدريةُ، ضُمّت إليها "ما" زائدة مُؤكّدةً. ولزمت الزيادةُ هاهنا عوضًا من الفعل المحذوف. والمعنى: لأن كنتَ منطلقًا انطلقتُ معك، أي: لانطلاقك في الماضي، انطلقتُ معك. وإنّما قدّرناها في الماضي, لأنّك أوليتها الماضي، ولو أَوْليتها المستقبلَ، لقدّرتَها بالمستقبل، وحسُن حذفُ الفعل لإحاطة العلم بأنّ هذه الخفيفةَ لا يقع بعدها الاسمُ مبتدَأ، وصار لذلك بمنزلةِ "إن" الشرطيّةِ في دلالتها على الفعل. و"أَنْتَ" مرتفعٌ بالفعل الذي صار "ما" عوضًا عنه، وهو"كَانَ" و"أنْ" من "أمَّا" في موضع نصب بـ "انطلقتُ"، والمعنى: انطلقتُ لأن كنت منطلقًا، فلمّا أُسقطت اللام، وصل الفعلُ، فَنَصَبَ. وليست "أمَّا" هذه جزاءً. قال سيبويه (¬1): وسألتُه - يعني الخليل: "أمّا أنت منطلِقًا أنطلِقُ معك" فَرَفَعَ، وهو قولُ أبي عمرو ويونسَ، ولو كان جزاءً لجزمه. والكوفيون يذهبون إلى أنّ "أنّ" المفتوحة هنا في معنى الشرط، و"ما" زائدةٌ، والفعلُ الناصبُ محذوفٌ على ما ذكرنا، حكى ذلك أبو عمر الجَرْميُّ عن الأصمعيّ. ويحملون قوله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} (¬2) على ذلك، وتُؤيِّده قراءة حَمْزَةَ (¬3) {إنْ تضلّ إحداهما} بكسر الهمزة، المعنى عندهم واحدٌ، وأمّا قوله [من البسيط]: أَبَا خُراشَةَ أَمَّا أنتَ ذا نَفرٍ ... فإنّ قَوْمِيَ لم تَأْكُلْهُمُ الضَّبُعُ فإنَّ البيت لعَبّاس بن مِرْداسٍ، والشاهدُ فيه نصبُ "ذا نفر" على "أن كان ذا نفر". فحُذفت "كَانَ"، وجُعلت زيادةُ "مَا" لازمة عوضًا من الفعل المحذوف. ولأجلِ أنّ الثاني ¬
مستحَقٌّ بالأوّل، دخلت الفاءُ في الجواب. والضَّبُع ههنا: السَّنَةُ. أي: لِأنْ كنتَ كثيرَ القوم عزيزًا، فإن قومي مَوفورون، لم تُهْلِكهم السنون. فأمّا "أنْ" في البيت، فموضعُها نصبٌ بفعل يدلّ عليه قولُه: "لم تأكلهم الضبعُ". تقديرُه: بَقِيتَ، أو سَلِمْتَ، ونحوُهما ممّا يدل عليه قولُه: "لم تأكلهم الضبعُ". ولا يكون منصوبًا بنفسِ "لم تأكلهم الضبع"، لأنّه في خبرِ "إنَّ"، وما بعد "إنَّ" لا يعمل فيما قبلها. واعلم أنّ البيت يُقوِّي مذهبَ الجزاء في "أمَّا", لأنه ليس معك ما يتعلّق به "أن"، كما كان معك في قولهم: "أمّا أنت منطلقًا انطلقتُ معك"، ولا يجوز إظهارُ الفعل بعد "أمَّا" هنا لِما ذكرناه من كونِ "مَا" نائبةً عنه. وإن أظهرتَ الفعلَ، لم تكن "إمّا" إلّا مكسورة، نحوَ قولك: "إمّا كنت منطلقًا انطلقتُ معك"، فيكون شرطًا مَحْضًا, ولا يجوز حذفُ الفعل بعد "إمّا" المكسورةِ، كما لم يجز إظهارُه بعد "أمَّا" المفتوحةِ، وذلك أنّ "أمَّا" المفتوحَة كثُر استعمالُها حتى صارت كالمَثَل الذي لا يجوز تغييرُه، فأمّا قولُ الشاعر [من البسيط]: إمّا أقمتَ وأمّا أنت مرتحلًا ... إلخ فالشاهد فيه: "إمَّا أقمت" بكسر الهمزة. وقد رُوي في "إمَّا أقمت وأمّا أنت مرتحلًا": "وإمّا كُنْتَ". فَمن رواه "كُنْتَ"، كَسَرَ "إمّا" في الأول والثاني لظهور الفعل معهما. ومَن رواه: "وأمّا أنتَ"، كَسَرَ "إمّا" الأولى لظهور الفعل معها، وفتح الثانيةَ لحذف الفعل. ولا يمتنع عند المبرِّد وغيرِه إذا حذفتَ "مَا"، وأتيتَ بالفعل أنّ تفتح، وتكسر. والأولُ أجودُ.
المنصوب بـ "لا" التى لنفى الجنس
المنصوب بـ "لا" التى لنفى الجنس فصل [أحكامها] قال صاحب الكتاب: "هي كما ذكرتُ محمولة على "إن"، فلذلك نُصب بها الاسمُ ورُفع الخبر. وذلك إذا كان المنفي مضافًا، كقولك: "لا غلامَ رجل أفضلُ منه"، و"لا صاحبَ صِدْقٍ موجودٌ"؛ أو مُضارعًا له، كقولك: "لا خيرًا منه قائمٌ هنا"، و"لا حافظًا للقُرْآن عندك"، و"لا ضاربًا زيدًا في الدار", و"لا عشرين درهمًا لك"". * * * قال الشارح: اعلم أنّ "لا" من الحروف الداخلة على الأسماء والأفعالِ، فحكمُها أنّ لا تعمل في واحد منهما، غيرَ أنّها عملتْ في النكرات خاصّةً لعلّةٍ عارضةٍ، وهي مضارعتُها "إنَّ"، كما أُعملتْ "مَا" في لغةِ أهل الحجاز لمضارعتها "لَيْسَ". والأصلُ أنّ لا تعمل، وقد تقدّم الكلامُ عليها، وبيانُ مضارعتها لـ "أَنَّ"، وذكرنا أنَّ حكمَ النكرة المفردة بعد "لا" البناءُ على الفتح، نحوَ: "لا رجلَ عندك، ولا غلامَ لك"، وهي حركةُ بناءٍ نائبةٌ عن حركةِ الإعراب، وأوْضحنا الخلافَ فيه في فصل المرفوعات بما أغنى عن إعادته. فإن كانت النكرةُ بعد "لا" مضافةً، أو مشابِهةٌ للمضاف، تَبيّنَ النصبُ، فظهر الإعرابُ، فالنكرةُ المضافةُ قولك: "لا غلامَ رجلٍ لك"، و"لا صاحبَ صِدْقٍ موجودٌ" من قِبَل أنّ الإضافة تُبْطِل البناءَ، لانّك لو بنيتَ نحوَ "لا غلام رجل"، لَجعلتَ ثلاثةَ أشياءَ بمنزلةِ شيء واحد. وذلك مُجْحِفٌ معدومٌ، ألا ترى أنّك لا تجِد اسمَيْن جُعِلا اسمًا واحدًا، وأحدُهما مضافٌ. إنما يكونان مفردَيْن، كـ "حَضْرَمَوْت"، و"خمسةَ عشرَ"، و"بَيْتَ بَيْتَ"، فهما كالشيء الواحد، ألا ترى أنّ قولهم: "يا ابنَ أُمَّ" لمّا جُعل "أُمِّ" مع "ابن" اسمًا واحدًا، حُذفت ياءُ الإضافة. والنكرة المشابِهة للمضاف قولُك: "لا خيرًا من زيدٍ"، و"لا ضاربًا زيدًا"، و"لا حافظًا للقرآن" و"لا عشرين درهمًا"، فهذه الأسماء مشابهةٌ للمضاف، وجاريةٌ مجراه، لأنّها عاملةٌ فيما بعدها كما أنّ المضاف عاملٌ فيما بعده. والمعمولُ من تَمام المضاف، فقولُك "من زيدٍ" من تمامِ "خير", لأنّه موصولٌ به، و"زيدًا" من تمامِ "ضاربًا"؛ لأنه مفعوله، و"للقرآن" في موضع مفعول "حافظًا"، و"درهمًا" من تمام "عشرين" لأنّه
منتصِبٌ به. فانتصابُ النكرة المضافة بعد "لا" انتصابٌ صريحٌ، كانتصابها بعد "إنَّ". ويدلّ على ذلك قولُهم: "لا خيرًا من زيدٍ". فكما انتصب "خيرٌ"، وثبت فيه التنوينُ ثَباتَه في المُعْرَب، كذلك تكون الفتحةُ في "لا غلامَ رجلٍ" فتحةَ إعراب لا فتحةَ بناء، لامتناعِ بناءِ المضاف مع غيره، وجَعْلِهما كالشيء الواحد. فعلى هذا تقول: "لا مُرُورَ بزيد" إن جعلتَ الجارّ والمجرور خبرًا، وعلّقتَه بمحذوفٍ، كان المرورُ مبنيّا مع "لا"، ولا يجوز تنوينُه، وكان تقديرُه: لا مرورَ ثابتٌ أو واقعٌ بزيدٍ. وإن علّقتَ الجارّ والمجرور بنفسِ المرور، كان من صلته، وكان منصوبًا معرَبًا، ووجب تنوينُه، وأضمرتَ الخبرَ، ويكون تقديره: لا مرورًا بزيدٍ واقعٌ، أو موجودٌ. وإن شئت أظهرتَه، وقوله تعالى: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} (¬1) من قبيل: "لا رجل في الدار"، فالجار والمجرور الذي هو"من أمر الله" في موضع رفع بأنّه الخبرُ، ويتعلّق بمحذوفٍ، والظرفُ يتعلق به، وقد تقدّم عليه. وتقديرُه: لاَ عاصمَ كائنٌ من أمر الله اليومَ، ومثله قوله تعالى: {لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ} (¬2). فقوله: {عَلَيْكُمُ} في موضع الخبر، وتعلُّقُه بمحذوفٍ، و"اليومَ" متعلّقٌ بالجارّ والمجرور. وأمّا قوله: {لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} (¬3)، فيحتمل أن يكون من قبيلِ "لا رجلَ في الدار"، ويكون الظرفُ متعلِّقًا بالجارّ والمجرور، وقد تقدّم عليه، والجارُّ والمجرور في موضع الخبر، ويكون "بُشْرَى" مبنيًّا مع "لا". ويحتمل أنّ يكون من قبيلِ "لا خيرًا من زيد"، ويكون الظرفُ متعلّقًا بـ "بُشْرى"، منصوبًا في تقدير المنوَّن، إلّا أنّه لا ينصرِف لمكانِ ألفِ التأنيث المقصورة فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "فإذا كان مفرَدًا، فهو مفتوحٌ، وخبرُه مرفوغعٌ كقولك: "لا رجلَ أفضلُ منك" و "لا أحدَ خيرٌ منك". ويقول المستفتِحُ: "ولا إلهَ غيرُك"". * * * قال الشارح: إذا قلت: لا رجلَ أفضلُ منك"، و"لا أحدَ خيرٌ منك"، و"لا إلهَ غيرُك"، كان مبنيًّا مفتوحًا لوجُودِ علّةِ البناء، وهو تضمُّنُه معنى الحرف الذي هو"مِنْ" على ما تقدّم، إذ المرادُ العمومُ واستغراقُ الجنس، ولم يُوجَد ما يمنع من البناء، فأمّا المضاف والمشابِهُ له نحو: "لا غلامَ رجل عندك"، و"لا خيرًا من زيدٍ في الدار"، فإنّه، وإن كانت العلّةُ المقتضِيةُ للبناء موجودةً، وهي تضمُّنُه معنَى "مِنْ"، فإنّه وُجد مانعٌ من البناء، وهو الإضافةُ، وطُولُ الاسم، فعَدَمُ البناء فيهما لم يكن لعدمِ تمكُّنه، بل لوجود مانعٍ منه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: "وأمّا قوله [من السريع]: 321 - لا نَسَبَ اليَوْمَ ولا خُلّة ... [اتَّسَعَ الخَرْقُ على الراقعِ] فعلى إضمارِ فعلٍ كأنه قال: ولا أرَى خلّة، كما قال الخليل في قوله [من الوافر]: 322 - ألا رَجُلاً جَزاهُ الله خَيرًا ... [يَدُل على مُحَصِّلَةٍ تبيتُ] ¬
كأنّه قال: ألا تُرُونَني رجلاَ. وزعم يُونُس أنّه نَوَّنَ مُضطرًا". * * * قال الشارح: أمّا قوله [من السريع]: لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلَّةً ... اتَّسَعَ الخَرْقُ على الراقِعِ (¬1) البيت لأنَسِ بن العَبَّاس، والكلامُ في نصب "الخلّة" وتنوينِها يحتمل أمرَيْن: أحدُهما: أن تكون "لا" مَزيدةً لتأكيدِ النفي، دخولُها كخروجها، فنصبتَ الثانيَ، ونوّنتَه بالعطف على الأوّل بالواو وحدَها، واعتُمد بـ "لَا" الأولى على النفىِ، وجُعل الثانية مؤكّدة للجَحْد، كما يكون كذلك في "لَيْسَ" إذا قلت: "ليس لك غلامٌ، ولا جاريةٌ"، فيكون في الحكم كقوله [من الطويل]: 323 - ولا أبَ وابنّا مِثْلُ مَرْوانَ وابنِه ... إذا هو بالمَجْد ارْتَدَى وتَأزَّرَا ¬
الثاني: أن تكون نافيةً عاملةً كالأولى، كأنّه استأنف بها النفيَ فيكون حينئذ في تنوينِ "الخلّة" إشكالٌ. فذهب سيبويه والخليلُ (¬1) إلى أنها معربةٌ منتصِبةٌ بإضمارِ فعل محذوف، كأنّه قال: "لا نَسَبَ اليومَ ولا أرَى خُلَّةً"، ومثلُه قوله [من الوافر]: ألَا رَجُلًا جَزاهُ اللَّهُ خَيْرًا ... يَدُلّ على مُحَصَّلَةٍ تُبِيتُ وانتصابه في قول الخليل (¬2) بفعل محذوف تقديرُه: ألا تُرونني رجلًا. وذهب يونُس (¬3) إلى أنّ انتصابه من قبيل الضرورة. والذي دعاه إلى ذلك أن ألف الاستفهام إذا دخلت على "لا"، فلها معنيان: أحدهما الاستفهامُ، والآخرُ التَّمَنِّي. وإذا كانت استفهامًا، فحالُها كحالها قبلَ أن تلحَقها ألفُ الاستفهام، فتقول: "ألا رجلَ في الدار، وألا غلامَ أفضلُ منك"، كما كنت تقول: "لا رجلَ في الدار"، و"لا غلامَ أفضل منك" تفتح الاسمَ المنكورَ بعدها، وترفع الخبرَ، لا فَرْقَ بينهما في ذلك. قال الشاعر [من البسيط]: حارِ بنَ كَعْبٍ ألَا أحْلام تَزْجُرُكُمْ ... [عنّي وأَنْتُمْ من الجُوفِ الجماخيرِ] (¬4) ¬
فصل [تنكير اسمها]
وإذا كانت تَمَنّيًا، فلا خلافَ في الاسم أنّه مبنى مع "لا" كما كان، إنّما الخلافُ في الخبر. فأكثرُ النحويّين لا يُجيزون رفعَ الخبر وهو رأيُ سيبويه، والخليلِ، والجَرْميّ، وإنّما ينصبونه لأنّه قد دخله معنى التمنّي (¬1)، وصار مستغنِيًا كما استغنى "اللَّهُمَّ غُلامًا"، ومعناه "اللَّهُمَّ هَبْ لي غلامًا"، ولا يُحتاج إلى خبرٍ ومعناه معنى المفعول. وذهب أبو عُثْمانَ المازنيُّ إلى أنّه يبقى على حاله من نصب الاسم، ورفع الخبر، ويكون على مذهب الخبر، وإن كان معناه التمنّيَ، كماَ أنّ قولك: "غَفَرَ اللَّهُ له"، "ورَحَمهُ اللَّهُ" اللفظُ خبرٌ، ومعناه الدعاءُ. وإذا كان ما بعد "ألَا" في كِلا وجهَيْها لا يكون إلّا مبنيًّا على الفتح، أشْكَلَ الأمرُ في قول الشاعر [من الوافر]: ألَا رجلًا جزاه اللَّهُ خيرًا فحمله الخليلُ على تقديرِ فعل، كأنّه قال: "أرُوني رجلًا" (¬2)، جَعَلَه من قبيلِ "هلّا خيرًا من زيد"، و [من الطويل]: [تعدّونَ عقرَ النّيبِ أفضَلَ مجدِكُمْ ... بني ضَوطَرى] لَوْلَا الكَمِيَّ المُقَنَّعَا (¬3) وحمله يونسُ على أن تنوينه ضرورةً (¬4). وهو مذهبٌ ضعيفٌ, لأنّه لا ضرورةَ ههنا. فصل [تنكير اسمها] قال صاحب الكتاب: "وحقُّه أن يكون نكرةً. قال سيبويه (¬5): واعلمْ أنّ كلَّ شيء حسُن لك أن تُعمِل فيه "رُبَّ" حسُن لك أن تُعمِل فيه "لا"؛ وأمّا قول الشاعر [من الرجز]: 324 - لا هَيْثَمَ الليلةَ للمَطِيِّ ¬
وقولُ ابنِ الزّبِير الأسدِيَّ [من الوافر]: 325 - أرَى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْب ... نَكِدْنَ ولا أُمَيّةَ بالبِلادِ وقولهم: "لا بَصْرَةَ لَكم"، و"قَضِيّةٌ وَلا أبَا حَسَنٍ لها"، فعلى تقديرِ التنكير، وأمّا "لا سِيَّمَا زيدٍ"، فمثلُ "لا مِثْلَ زيدٍ"". * * * قال الشارح: وقوله: وحقّه أن يكون نكرةً، يعني الاسمَ الذي تعمل فيه "لا"، فإنّه لا يكون إلَّا نكرة من حيثُ كانت تنفي نفيًا عامًّا مستغرِقًا، فلا يكون بعدها معيَّنٌ، فـ "لا" في هذا المعنى نظيرةُ "رُبَّ" و"كَمْ" في الاختصاص بالنكرة, لأنّ "رُبَّ" للتقليل، و"كَمْ" للتكثير، وهذا الإبهامُ أوْلى بها. وقد جاءت أسماءٌ قليلةٌ ظاهرُها التعريفُ، والمراد بها التنكيرُ فمن ذلك قول الشاعر [من الرجز]: لا هَيْثَمَ الليلةَ للمَطِيّ أنشده سيبويه (¬1)، والشاهدُ فيه نصبُ "هيثم" بـ "لا"، وهو اسمٌ عَلَمٌ. وهي لا تعمل إلَّا في نكرةٍ. وجاز ذلك، لأنّه أراد: أمثالَ هيثم مِمَّن يقوم ¬
مقامَه في جُودَةِ الحِداء للمَطِيّ. ونحوُه قولُ ذي الرُمّة [من الطويل]: 326 - هي الدارُ إذْ مَيٌّ لأهْلِكَ جِيرةٌ ... لَيالِيَ لا أمْثالَهُنَّ لَيالِيَا فلمّا قُدّر بِـ "مثْلٍ"، تَنكّرَ، لأنّ "مثلاً" نكرةٌ، وإن أُضيفت إلى معرفة. وقد يُطْلَق "مثلٌ" ويكون المرادُ به ما أُضيف إليه، كما يقول القائل لِمَن يخاطِبه: "مثلُك لا يتكلّم بهذا"، و"مثلُك لا يفعل القبيحَ"، وعليه قولُه تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} (¬1) في قِراءة الجماعة غيرِ أهل الكوفة (¬2)، بخفضِ "مثلٍ" والإضافةِ. ألا ترى أنّه إنّما يَلزمه جزاءُ المقتول، لا جزاءُ مثله. وأما قوله: "ولا أُمَيَّةَ في البلاد"، فهو لعبد الله بن زَبِير بن فُضالةَ بن شريك الوالي من أسَدِ بن خُزَيْمَةَ، والزَّبيرُ بفتح الزاي، وكسر الباء. والشاهدُ فيه نصبُ "أُميّةَ" بـ "لَا"، وهو عَلَمٌ، على إرادةِ: ولا أمثالَ أُميّةَ كالذي قَبْلَه. يقول هذا لعبد الله بن الزُّبَيْر حين أتاه مستمنِحًا، فلمّا مَثَلَ بين يَدَيْه، قال له: "إنّه نفِدتْ نَفَقَتِي، ونقِبتْ راحِلتي"، فقال: "أحْضِرْها"، فأحضرها. فقال: "أقْبِلْ بها"، فأقبل. ثمّ قال: لا أدْبِرْ بها" فأدبر. فقال: "ارْقَعْها بسِبْبٍ، واخْصِفْها بهُلْبٍ، وأنْجِدْ بها يَبْرُدْ خُفُّها". السِّبْتُ: جُلودُ البَقَر تُدْبَغ بالقَرَظ، تُحْذَى منه النعال، والهُلْبُ: شَعْرُ الخِنزير الذي يُخْرَز به. فقال له ابنُ فضالة: ¬
فصل [أحكام اسمها إذا كان بعده لازم الإضافة]
إنّني أتيتُك مستحمِلاً، لا مستوصِفًا، فلَعَنَ الله ناقةً حملتْني إليك. فقال ابنُ الزُّبَيْر: "إنَّ وراكِبَها"، وانصرف عنه، وكان مُبخَّلاً، فذَمَّه، ومدح بني أُميّة، فقال [من الوافر]: أقُولُ لغِلْمَتِي شُدُّوا رِكابي ... أُجاوِزُ بَطْنَ مَكَّةَ في سَوادِ فَمَا لي حِينَ أقْطَعُ ذاتَ عِرْقٍ ... إلى ابن الكاهِليّة من مَعادِ أرَى الحاجاتِ عند أبي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ ولا أُمَيَّةَ في البِلادِ قوله: "ابن الكاهليّة" يعني أُمَّه، وكانت من كاهِل، وهو حَيٌّ من هُذَيْل. ولمّا بلغ عبدَ الله هذا الشعرُ، قال: عَلِمَ أنّها شَرُّ أُمّهاتي، فعَيَّرَني بها، وهي خير عَمّاته. وأبو خُبَيْب عبدُ الله بن الزبير، وخبيبٌ ابنُه، وهو أكبرُ أولاده، وكان يُكْنَى به، قال الراعِي [من الكامل]: ما إنْ أتَيْتِ أبَا خُبَيْبٍ وافِدًا ... إلَّا أُريدُ لَبَيْعَتِي تَبْدِيلَا وقوله: نكدن، أي: ضِقْنَ، وَبَعُدْنَ. والنَّكَدُ: ضَيْقُ العَيْش. وأراد بالبلاد ما كان من بلادِ عبد الله، وفي طاعته زمنَ خِلافته. وأمّا قوله: "لا بَصْرَةَ لكم"، فالمراد: لا مثلَ بصرةَ لكم، والبصرةُ هنا أحدُ العِراقَيْن. وقولهم: "قَضيّةٌ ولا أبا حسنٍ لها"، المراد عليُّ بن أبي طالِبٍ، رِضوانُ الله عليه، أي: مثلَ أبي الحسن. كأنّه نفي منكورِين كلُّهم في صفةِ عليّ، أي: لا فاضلَ، ولا قاضِيَ مثلَ أبي الحسن. فالمرادُ بالنفي هنا العمومُ، والتنكيرُ، لا نفيُ هؤلاء المعرَّفين، وعَلِمَ المخاطَبُ أنّه قد دخل هؤلاء في جملةِ المنكورين. وليس المعنى على نفي كلِّ مَن اسمه هَيْثَمٌ، أو أُمَيَّةُ، أو عليٌّ، وإنّما المراد نفيُ منكورين كلُّهم في صفةِ هؤلاء. فالعَلَمُ إذا اشتهر بمعنًى من المعاني، ينزَّل منزلةَ الجنس الدالِّ على ذلك المعنى، فالمعنى الذي يُقال هذا الكلامُ عنده هو الذي يسوِّغ التنكيرَ، وذلك أنَّه إنّما يُقال لإنسانٍ يقوم بأمْرٍ من الأمُور له فيه كِفايةٌ، ثمّ يحضُر ذلك الأمرُ، ولم يحضر ذلك الإنسانُ، ولا مَن كَفَى فيه كفايتَه، فاعرفه. وأمّا "لا سِيَّمَا زيدٍ"، فـ "السِّيُّ": المثلُ، فكأنّه لا مِثْلَ زيدٍ، فهو نكرةٌ من جهة المعنى. فصل [أحكام اسمها إذا كان بعده لازم الإضافة] قال صاحب الكتاب: "وتقول: "لا أبَ لك". قال نَهارُ بن تَوْسِعةَ اليَشْكُرِيُّ [من الوافر]: 327 - أبي الإسْلامُ لا أبَ لي سِواهُ ... إذا افْتَخَروا بقَيسٍ أو تَمِيمِ ¬
و"لا غلامَينِ لك"، و"لا ناصرِينَ لك"، وأمّا قولهم: "لا أبَا لك"، و"لا غلامَي لك"، و"لا ناصرِي لك"، فمشبة في الشُذوذ بالمَلامِح، والمَذاكير، و"لَدُن غُذوَة". وقَصْدُهم فيه إلى الإضافة وإثباتُ الألف وحذتُ النون لذلك. وإتما أُقحمَت اللام المضيفة توكيدًا للإضافة، ألا تراهم لا يقولون: "لا أبا فيها"، و"لا رَقِيبَي عليها"، و"لا مُجِيرِي منها"، وقَضاء من حق المنفي في التنكير بما يظهَر بها من صورةِ الانفصال". * * * قال الشارح: إذا كان بعد الاسم المنفيّ لامُ الإضافة، نحوَ: "لا غلامَ لك"، و"لا ناصرَ لزيدٍ"، فلك في الاسم المنفيّ وجهان: أحدُهما: أن يُبنَى مع "لا"، ويكون حذفُ التنوين معه كحَذْفه مع "خمسةَ عشرَ" وبابِه، وتكون اللامُ في موضع الخبر أو في موضع الصفة للاسم، ويكون الخبرُ محذوفًا، وهذا الوجهُ هو الأصلُ والقياسُ. والوجه الثاني: أن يكون مضافًا إلى ما بعد اللام، وتكون اللامُ زائدةً مُقْحَمَةً، ويكون حذفُ التنوين منه كحذفه من قولك: "لا غلامَ رجلٍ عندك"، ويكون المنفيُّ معرَبًا غيرَ مبنيّ منفصلاً من "لا" النافي، وليسا كالشيء الواحد. فعلى هذا تقول: "لا أبَ لك"، و"لا أخَ لعمرو"، فيكون الاسمُ المنفيّ مبْنيًّا مع النافي، ويكون الجارُّ والمجرور في موضع الخبر، أو في موضع الصفة، والخبرُ محذوفٌ، فإذا كان صفة، جاز أن يكون محلُّه نصبًا على اللفظ، وجاز أن يكون محلّه ¬
رفعًا على الموضع، ويجوز أن يكون الجارُّ والمجرور بيانًا، لا صفة، ولا خبرًا على تقديرِ: أعْنِي. قال الشاعر [من الوافر]: أبي الإِسلامُ لا أبَ لي سِواه ... إلخ الشاهد فيه قولُه: "لا أبَ" على البناء، وتركيبِ النافي والمنفيّ وجَعْلِهما شيئًا واحدًا. ومعناه ظاهرٌ، يقول: إنّني لا أفتخِرُ بآبائِي وانتمائِي إلى قبائلِ العرب من قيس وتميم ونحوِهما، كما يفعل غيري، وإنّما افتخاري بالإِسلام، وكَفَى به فَخْرًا. ويجوز أن تقول: "لا أبَا لزيدٍ"، و"لا أخَا لعمرٍو"، قال الشاعر [من البسيط]: يا تَيْمَ تَيْمَ عَدِيٍّ لا أبَا لَكُمُ ... لا يُلْقِيَنَّكُمُ في سَوْءَةٍ عُمَرُ (¬1) فيكون لفظُ الاسم بعد "لا" كلفظِ الاسم المضاف، و"لا" عاملةٌ فيه غيرُ مبنيّةٍ معه، كأنّك أضفتَ الاسمَ المنفيَّ إلى المجرور، فقلت: "لا أباك"، و"لا أخاك"، وهذا تمثيلٌ، ولا يُتكلّم به، وربّما جاء في الشعر. قال الشاعر [من الطويل]: 328 - وقد ماتَ شَمّاخٌ وماتَ مُزَرِّدٌ ... وأيُّ كَرِيمٍ لا أباك مُخَلَّدُ وقال الآخر [من الوافر]: 329 - أبِالْمَوْتِ الذي لا بُدَّ أنَّي ... مُلاقٍ لا أباكِ تُخوَّفيني ¬
ثمّ دخلت اللامُ لتأكيدِ الإضافة، كما كانت كذلك في قوله [من مجزوء الكامل]: يا بُؤْسَ للحَرْب (¬1) إلَّا أنّ النِّيّة في هذه الإضافة التنوينُ، والانفصالُ. ولا يَتعرَّف المنفيّ بالإضافة، كما كان كذلك في قولك: "لا مثلَ زيدٍ عندك"، و"كلُّ شاةٍ وسَخْلَتِها بدرهمٍ"، ولذلك عملتْ "لا" فيه. وتقول: "لا غلامَيْن لك"، و"لا ناصرِين لزيدٍ"، فالاسم المنفيّ مبنيُّ مع "لا" بناءَ "خمسةَ عشرَ"، كما كان كذلك في قولك: "لا أبَ لك", لأنّ الموضع موضعُ بناءٍ، لا مانعَ من ذلك. وتثبُت النونُ فيه كما تثبُت مع الألف واللام، وتثنيةِ ما لا ينصرف، نحوِ قولك: "هذان أحمران"، و"هذان المسلمان". والتنوينُ لا يثبت في واحدٍ من الموضعَيْن، وذلك لقُوّة النون مع الحركة. هذا مذهبُ الخليل وسيبويه (¬2)، وذهب أبو العبّاس المبّردُ إلى أنّهما معربان، وليسا مبنيَّيْن مع "لَا". قال: لأنّ الأسماء المثنّاة، والمجموعة بالواو والنون، لا تكون مع ما قبلها اسمًا واحدًا، فلم يجز ذلك، كما لم يوجَد ¬
وَلا الموصولُ مع ما قبله بمنزلة اسم واحدٍ. وهذا إشارةٌ إلى عدمِ النظير، وإذا قام الدليلُ، فلا عِبْرَةَ بعدم النظير، أمّا إذا وجد، فلا شَكَّ أنّه يكون مُؤْنِسًا، وأمَّا أن يتوقّف ثبوتُ الحكم على وجوده فلا. ومن قال: "لا أبا لك"، فجعل المنفى مضافًا، وجعل اللامَ مقحَمةً، قال: "لا غلامَيْ لزيد"، و"لا ناصرِي لك"، بحذف النون, لأنّه أراد الإضافةَ، ثمّ أقحمَ اللامَ لتأكيد الإضافة. وقوله: "فمشبَّهٌ بالمَلامِح، والمَذاكِير، ولَدُنْ غُدْوَةً"، يريد أنّ هذا الإقحام ورد شاذًّا على غيرِ قياس، كما أنّ الملامح والمذاكير كذلك، ألا ترى أنّ الواحد من الملامح لَمْحَةٌ، والواحدَ من المذاكير ذَكَرٌ، ولا يُجْمَع واحدٌ من هذَيْن البناءَيْن على "مَفاعِلَ"، و"مَفاعِيلَ"، وإنّما جاء في هذَيْن الاسمَيْن شاذًّا كأنّه جمعُ "مَلْمَحَةٍ"، وجمعُ "مِذْكَارٍ". جاء الجمعُ على ما لم يُستعمل، كما جاء "لا أبا لك" و"لا غلامَيْ لك" على إِرادةِ الإضافة، وإن لم يكن الإضافةُ مستعمَلةً إلَّا على نَدْرةٍ وضرورةٍ. وكذلك "لَدُنْ غُدْوَةً" نصبتْ "غدوة" بـ "لدن" على التشبيه باسم الفاعل، شُبّهت نُونُها بتنوينِ اسم الفاعل، والحركةُ قبلها بحركة الإعراب، واختصّ هذا الشَّبَهُ، والنصبُ بـ "غدْوَةٍ"، فلا يُنصَب غيرها. وقوله: "وقَصْدُهم إلى الإضافة، وإثبات الألف، وحذفُ النون لذلك"، يريد أنّ الغرض بقولهم: "لا أبَا لك"، و"لا غلامَيْ لزيدٍ": الإضافةُ وأنّ التقدير: لا أباك، ولا غلامَيْك، وإن كانت اللامُ فاصلةً في اللفظ. يدل على ذلك ثبوتُ الألف في "الأب" في قولك: "لا أبَا لك"، وحذفُ النون في التثنية من قولك: "لا غلامَيْ لك"، ولو كان "الأب" منفصلًا غيرَ مضاف، لكان ناقصًا محذوفَ اللام، كما تقول: "هذا أبٌ"، و"رأيتُ أبا" و"مررت بأبٍ"، ولا يُستَعمل تامًّا إلَّا في حال الإضافة، نحو قولك "هذا أبوك"، و"رأيت أباك"، و"مررت بأبيك"، وكذلك النون في التثنية لا تسقُط في حالِ الإفراد إنّما تسقط للإضافة، فحذفُها هنا دليلٌ على إرادةِ الإضافة لفظًا. وقوله: وإنّما أقحمت اللامُ المضيفةُ لتأكيد الإضافة، يريد إنّما خُصَّتْ هذه اللام بالإقحام دون غيرها من حروف الإضافة، لما فيها من تأكيدِ الإضافة، إذ الإضافةُ هنا بمعنى اللام، وإن لم تكن موجودةً. فإذا قلت: "أبو زيدٍ"، فتقديرُه: "أب لزيدٍ"، فإذا أتيتَ بها كانت مؤكِّدةً لذلك المعنى، غيرَ مُغيِّرةٍ له، ألا ترى أنَّ معنى المِلْك، والاختصاص مفهومٌ منها في حال عدم اللام، كما يُفهَم عند وجودها، فلا فرقَ بين قولك: "غلامُ زيدٍ"، و"غلامٌ لزيدٍ". فلذلك لم يقولوا: "لا أبَا فيها"، و"لا مُجِيرِي منها"، و"لا رَقِيبَيْ عليها"، ولم يُقْحِموا غيرَ اللام، لأنّها لا تؤكّد الإضافة كما تؤكدها اللامُ. وقوله: و"قضاءً من حقّ المنفيّ في التنكير"، يريد أنّ زيادةَ اللام في "لا أبَا لك" أفادت أمرين: أحدُهما تأكيدُ الإضافة، والآخرُ: لفظ التنكير، لفَصْلها بين المضاف
والمضاف إليه. فاللامُ مقحمةٌ غير معتَدّ بها من جهةِ ثَباتِ الألف في "الأب", ومن جهةِ تَهْيِئَة الاسم لعملِ "لا" فيه يُعْتَدّ بها، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "وقد شُبّهت في أنه مزيدةٌ ومؤكدةٌ بـ "تيم" الثاني في [من البسيط]: ياتَيمَ تَيمَ عَدِيٍّ [لا أبا لكمُ ... لا يُلقِينكُمْ في سَؤءَة عُمَر] (¬1) والفَرْقُ بين المنفي فى هذه اللغة، وبينه في الأوُلى أنّه فى هذه معرَبٌ وفي تلك مبنيٌّ. وإذا فصلتَ، فقلتَ: "لا يدَيْن بها لك"، و"لا أبَ فيها لك"، امتنِع الحذف، والإثباتُ عند سيبويه (¬2)، وأجازهما يونس (¬3). وإذا قلتَ: "لا غلامَين ظريفين لك" لم يكن بُدٌّ من إثباتِ النون في الصفة والموصوف". * * * قال الشارح: قد شُبّهت اللام هنا في أنّها مَزيدةٌ بـ "تيم" الثاني من قوله: يا تَيْمَ تَيمَ عَدِيِّ فـ "عديٌّ" مخفوضٌ بإضافةِ "تيم" الأوّلِ إليه، و"تيمٌ" الثاني مقحَمٌ زائدٌ للتأكيد، ومثلُه إقحامُ التاء في قولهم: "يا طَلْحَةَ أقْبِلْ" بفتح التاء. قال الشاعر [من الطويل]: كِلِينِي لهَمٍّ يا أُمَيْمَةَ ناصِبِ ... وَلَيْلٍ أُقاسِيهِ بَطِيءِ الكَواكبِ (¬4) ووجهُ الشاهد فيه أنّه أراد الترخيمَ بحذف التاء، ثمّ أقحمها، وهو لا يعتدّ بها، فَفَتَحَها كما يفتح ما قبل التاء في الترخيم. قال: والفرق بين المنفيّ في هذه اللغة، وبينه في الأُولى أنّه في هذه معربٌ، وفي تلك مبنىٌّ، يعني أنك إذا قلت: "لا أبَ لك" من غيرِ ألف، كان "الأب" مبنيًّا مع "لا". ويكون الجارُّ والمجرور في موضع الصفة، والخبرُ محذوفٌ، أو يكون في موضع الخبر. وإذا قلت: "لا أبَا لك" كان معربًا منصوبًا, لأنّه مضافٌ إلى ما بعد اللام، فالاسمُ بعد اللام مخفوضٌ بإضافةِ المنفى إليه، لا باللام، ولا يتعلق اللامُ ههنا بشيء، وفي الأوّل تتعلق بمحذوفٍ. فإن فصلتَ بين المنفيّ وما أضيف إليه بظرفٍ، أو جارٍّ ومجرور مع اللام المقحمةِ، قبُح عند الخليل وسيبويه (¬5) , لأن اللام بمنزلةِ ما لم يُذكَر، فالاسمُ بمنزلة اسم ليس بينه وبين المضاف إليه حاجزٌ، نحوِ: "لا مثلَ زيدٍ". فكما يقبُح "لا مثلَ بها لك زَيدٍ"، قبُح "لا أبَا فيها لك". ألا ترى أنّك إذا فصلت بين "كَمْ" ومفسِّرها في الخبر بشيء، فقلت: ¬
فصل [حكم صفة اسمها وإعرابه]
"كم بها رجلًا مصابًا"، عُدل إلى لغةِ مَن ينصب، وإن كان لُغة مَن يخفِض بها مع غير الفصل أكثرَ، لقُبْحِ الفصل بين المضاف والمضاف إليه بالجار والمجرور، وهو مع قُبْحه جائزٌ في الشعر، نحوِ قوله [من السريع]: [لمّا رأتْ ساتيدَما استَعْبَرَتْ] ... للَّه دَرُّ اليومَ مَن لَامَهَا (¬1) وقوله [من البسيط]: كأنَّ أصْواتَ مِن إيغالهِنّ بِنَا ... أواخرِ المَيْسِ أصواتُ الفَرارِيجِ (¬2) وإذا قُبح الفصلُ مع اعتقادِ الإضافة، كان الأختيارُ الوجهَ الأوّلَ، وهو البناءُ، وإثباتُ النون في التثنية، وحذفُ الألف من الأب. فتقول: "لا يدَيْن بها لك"، و"لا أبَ فيها لك". وهذا معنى قوله: "امتنع الحذفُ والإثباتُ عند سيبويه"، يريد حذفَ النون من التثنية، وإثباتَ الألف في "الأب"، فلا تقول: "لا يدَيْ بها لك"، و"لا أبَا فيها لك", لأنّ حذفَ النون من التثنية، وإثباتَ الألف في "الأب" يؤذِنان بالإضافةْ، والفصلُ يُبْطِل ذلك. وكان يونسُ يذهب إلى جوازِ الفصل بالظرف، أو ما جرى مجراه من جارٍّ ومجرور من غيرِ قُبْح، إذا كان الظرفُ ناقصًا لا يتِمّ به الكلامُ، نحوَ: "لا يَدَيْ بها لك"، ومعناه: لا طاقةَ بها لك، فهذا جائزٌ عنده, لأنّ "بِهَا" في هذا المكان لا يتمّ به الكلامُ، لأنّه ليس خبرًا. وعند سيبويه الفصلُ بين المضاف والمضاف إليه قبيحٌ سَواءً كان ممّا يتِمّ به الكلامُ أو لا. فإن وصفت المنفيَّ، فقلت: "لا غلامَيْن ظريفَيْن لك"، لم يجز حذفُ النون من المنفيّ، ولا من صفته. أمّا امتناعُ الحذف من المنفيّ؛ فلأنّك وصفته، وأنتَ تنوي إضافتَه إلى ما بعد اللام، والمضافُ إليه من تمام المضاف، ينزل منه منزلةَ التنوين من الاسم، ولا يصح وصفُ الاسم إلَّا بعد تمامه، ولأنّ الفصل في الشعر إنّما جاز بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، أو الجارّ والمجرور، لا بغيره. ولا يجوز إسقاطُ النون من الصفة, لأنّ ذلك إنّما جاء في المنفيّ، لا في صفته. فصل [حكم صفة اسمها وإعرابه] قال صاحب الكتاب: "وفي صفةِ المفرد وجهان: أحدُهما: أن تُبْنَى معه على الفتح كقولك: "لا رجلَ ظريفَ فيها". والثاني: أن تُعْرَب محمولة على لفظه، أو محلّه كقولك: "لا رجلَ ظريفًا فيها، أو ظريفٌ"، فإن فصلتَ بينهما أعربتَ، وليس في الصفة الزائدة عليها إلا الإعرابُ. فإن ¬
كرّرتَ المنفيَّ، جاز في الثاني الإِعراب والبناءُ، وذلك قولك: "لا ماءَ ماءً بارِدًا"، وإن شئتَ لم تُنوِّنْ". * * * قال الشارح: إنّما قال: "المُفْرَد" تحرُّزًا من المضاف، نحوِ: "لا غلامَ رجلٍ"، فإن وصفتَ المضاف، لم يجز فيه البناءُ ألبتّةَ. فإذا وصفت المنفي المفرد، جاز لك في الصفة وجهان: أحدُهما: أن تبني الصفةَ والموصوفَ، وتجعلهما اسمًا واحدًا على "خمسةَ عشرَ"، وذلك لأنّ الموضع موضعُ بناءٍ وتركيبٍ، وتركيبُ الاسم مع الاسم أكثرُ من تركيب الحرف مع الاسم، نحوُ: "خمسةَ عشرَ"، وبابِه، وهو "جاري بَيْتَ بَيتَ"، ونحوِه، فكأنّ الثاني دخل عليهما بعد تركيبهما, ولم يجز تركيبُه معهما أيضًا, لأنّه ليس من العَدْل جعلُ ثلاثةِ أشياءَ شيئًا واحدًا. والوجه الثاني: أن تُعرِبه، ولك في إعرابه وجهان: أحدهما أن تُتْبِعه اللفظَ، فتنصبه، وتُنوَّنه، فتقول: "لا رجلَ ظريفًا عندك". فإن قلت كيف جاز حملُ الصفة على اللفظ، والأوّلُ مبنيٌّ، والثاني معربٌ؟ قيل: لمّا اطّرد البناءُ ههنا في كلّ نكرة تقع هذا الموقعَ، أشبهتْ حركتُه حركةَ المعرب، فجاز أن يوصَف على لفظه، ويُعْطَف عليه، وإن كان مبنيًّا. ومثلُه الحمل على حركةِ البناء في المنادَى العَلَم، نحوُ قولك: "يا زيدُ الظريفُ" بالرفع حملًا على اللفظ، وإن كان مبنيًّا, وليس لك حركةُ بَناء تُشْبِه حركةَ الإعراب مشابهةً تامّةً إلا الفتحةُ في قولك: "لا رجلَ في الدار"، والضمّةُ في المنادى نحوِ قولك: "يا زيدُ". ويجوز في نصب الصفة وجهٌ آخرُ، وهو أن يكون محمولًا على محلّ المنفيّ, لأنّ محلّه نصبٌ بالنافي الذي هو "لا"، لمضارَعتها "إنَّ" على ما تقدّم. وإنّما بُني للتركيب مع "لا" فالفتحةُ فيه فتحةُ بناء نائبةٌ عن فتحةِ إعراب. ويجوز في الصفة أيضًا الرفعُ حملًا على موضع النافي والمنفيّ, لأنّ "لَا" وما عملتْ فيه بمعنى اسم واحدٍ مرفوعٍ بالابتداء، يدلّ على ذَلك أنّا إذا قلنا: "لا فيها رجلٌ"، ففصلنا بين "لا" واسمِها بَظرف، أو جارٍّ ومجرور، بطل عملُها، وارتفع اسمُها بالابتداء مع صحّةِ الجَحْد بها، وبَقاءِ معنى المنصوب. ومنه قوله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ} (¬1). فلذلك جاز في النعت فيما بعد "لا" والعطفِ عليه الرفعُ على موضعِ "لاَ" مع الاسم، والنصبُ على الاسم الذي بعد "لاَ" وقد شبّهه سيبويه (¬2) بقوله [من الوافر]: 330 - [معاويَ إنَّنا بَشَرٌ فأسْجِحْ] ... فلَسْنَا بالجِبال ولا الحَدِيدَا ¬
في إجرائه على موضع الباء، إذ كان موضعُها نصبًا على خبرِ "لَيْسَ"، ولو أجراه على اللفظ، لقال: و"لا الحديدِ". واعلمْ أنّه إذا فصل بين المنفيّ، وصفته بظرف، أو جارّ ومجرور، نحوَ: "لا رجلَ اليومَ ظريفًا"، و"لا رجلَ فيك راغبًا"، امتنع البناءُ, لأنّه لا يجوز لك أن تجعل الاسمَ والصفةَ بمنزلةِ اسم واحد، وقد فصلتَ بينهما، كما لا يجوز لك أن تفصِل بين "عشرَ"، و"خمسةَ" في "خمسةَ عشرَ". ووجهُ الإعراب والتنوينِ إمّا بالنصب، وإمْا بالرفع، نحوُ قولك: "لا رجلَ ظريفًا عندك"، و"لا رجلَ ظريفٌ عندك" فالنصبُ على اللفظ، والرفعُ على المحلّ. فإن أتيتَ بصفةٍ زائدةٍ، نحوَ: "لا غلامَ ظريفَ عاقلًا عندك"، كنتَ في الوصف الأوّل بالخِيار: إن شئت بنيتَه، ومنعتَه التنوينَ، وإن شئت أعربتَه ونوَّنتَه. ولا يكون الثاني إلَّا منوّنا معربًا، إمّا بالنصب، وإما بالرفع. ولا يجوز فيه البناءُ, لأنّك لا تجعل ثلاثةَ أشياءَ شيئًا واحدًا. فإن كرَّرتَ الاسم المنفيَّ، نحوَ قولك: "لا ماءَ ماءً باردًا"، فأنتَ في الاسم الثاني بالخيار، إن شئت نوّنتَه، وإن شئت لم تُنوِّنْه، لأنّك جعلتَه وصفًا، كما قالوا: "مررتُ ¬
فصل [حكم المعطوف علي اسمها]
بحائطٍ آجُرّ، وببابٍ ساجٍ"، فكما وصفوا بـ "آجُرٍّ"، و"ساجٍ"، وهما اسمان جامدان غيره مشتقَّين، فكذلك وُصف بالاسم الثاني، وإن كان اسمًا غيرَ مشتقّ، فقالوا: "لا ماءَ ماءً باردًا". فإذا نوّنتَ، جاز رفعُه ونصبه، كما قلت: "لا رجلَ ظريفًا، وظريفٌ". وإذا لم تنوّن بنيتَ، وركّبتَ الأوّلَ والثاني، وجعلتَهما اسمًا واحدًا، وأمّا "باردًا" فلا يكون فيه إلَّا الإعرابُ والتنوينُ, لأنّه وصفٌ ثانٍ، وقد تقدّم علّتُه. فصل [حكم المعطوف علي اسمها] قال صاحب الكتاب: "وحكم المعطوف حكم الصفة إلا في البناء. قال [من الطويل]: فلا (¬1) أبَ وانبًا مِثْل مَروانَ وابنِهِ ... [إذا هو بالمَجدِ ارتدى وتَأَزرا] (¬2) وقال [من الكامل]: 331 - [هذا لعَمْرُكمُ الصَّغارُ بعَينِهِ] ... لا أُم لى إن كان ذاك ولا أبُ ¬
وإن تعرفَ، فالحملُ على المحل لا غيرُ، كقولك: "لا غلامَ لك ولا العَباسُ"". * * * قال الشارح: حكمُ المعطوف كحكم الصفة, لأنّهما من التوابع، إلَّا في البناء، فإنّه لا يجوز بناءُ المعطوف، وجعلُه مع ما عُطف عليه شيئًا واحدًا, لأنّه قد تَخلَّل بينهما حرفُ العطف، فمنع ذلك من البناء والتركيب، كما منع الفصلُ بين الصفة والموصوف، إذا قلت: "لا رجلَ عندك ظريفًا"، ولأنّه يؤدّي إلى جعلِ ثلاثةِ أشياءَ: الاسمِ المعطوفِ، والمعطوفِ عليه، وحرِف العطف شيئًا واحدًا، وذلك إجحافٌ، وما عدا البناءَ ممّا كان جائزًا في الصفة، فهو جائزٌ ههنا من الإعراب والتنوينِ. وهما شيئان: النصبُ والرفعُ، فالنصبُ بالحمل على لفظ المنفيّ, لأن الفتحة مشبَّهةٌ بحركة الإعراب على ما ذكرنا، والثاني بالحمل على موضع المنفيّ, لأن موضعه نصبٌ بـ "لا"، ولولا البناءُ كان منوّنًا، والأمر الثاني الرفعُ بالحملَ على موضع المنفيّ، والنافي، وموضعُهما رفعٌ على ما ذُكر في الصفة، ومثله قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬1) جُزمتْ "أكُنْ" حملًا على موضعِ "فأصّدّق", لأنّ موضعه جزمٌ، كأنّك قلت: "أصَّدَّقْ وأكُنْ من الصالحين". وأمّا قول الشاعر [من الطويل]: فلا أبَ وابْنًا مِثلَ مَرْوانَ وابْنِهِ ... إذا هو بالمَجْد ارْتَدَى وتَأزَّرا فالشاهد فيه أنّه عطف "ابنًا" على المنصوب بـ "لَا"، ونوّنه لتعذّرِ البناء على ما ذكرنا، ونَصَبَ مثلًا على أنّه وصفٌ للمنفيّ، وما عُطف عليه، و"مِثْلَ" يكون وصفًا للاثنَيْن، والجمعِ، وإن كان لفظُها مفردًا لِما فيها من الإبهام. قال الله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} (¬2)، والخبر محذوفٌ. وقد رُوي رفعُ "الابن" ههنا بالعطف على الموضع، ورفعُ ¬
فصل [جواز رفع اسمها إذا كرر]
"مِثْل" على النعت، أو الخبرِ. يمدَحُ مَرْوانَ بن الحَكَم وابنَه عبدَ المَلِك. وأمّا قول الآخر [من الكامل]: لا أُمَّ لي إن كان ذاك ولا أبُ وقبله: هَلْ في القَضِيَّةِ أنْ إذا استغنَيْتُمُو ... وأمِنْتُمُ فأنَا البَعِيدُ الأجْنَبُ وإذا تكون كَرِيهَةٌ أُدْعَى لها ... وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدْعَى جُنْدَبُ هذا لَعَمْرُكُمُ الصَغارُ بعَينه ... البيت فالشعر لرجل من مذحج، والشاهدُ فيه عطفُ "الأب" على موضعِ النافي والمنفي، على ما تقدّم وصفُه. فإن كان المعطوف معرفة، نحوَ: "لا غلامَ لك وزيدٌ"، و"لا غلامَ لك والعبّاسُ"، لم يجز نصبُه بالحمل على عمل "لا", لأنّ "لا" لا تعمل إلَّا في النكرة، وإنّما ترفعُه على موضعِ "لا" وما علمتْ فيه, لأنّ موضعهما ابتداءٌ، وقد تقدّم بيانُه. * * * فصل [جواز رفع اسمها إذا كُرِّر] قال صاحب الكتاب: "ويجوز رفعه إذا كرر قال تعالى: {فلا رفث ولا فسوق} (¬1)، وقال: {لا بيع فيه ولا خلة} (¬2) , فإن جاء مفصولاً بينه وبين "لا" أو معرفة, وجب الرفع والتكرير, كقولك: "لا فيها رجلٌ ولا امرأة"، و"لا زيد فيها ولا عمرو"" * * * قال الشارح: قد تقدّم القول أنّ "لا" تعمل في النكرة النصبَ، وتُبْنَى معها على الفتح بناء "خمسةَ عشرَ"، وذلك نحو: "لا رجلَ في الدار"، فـ "رجل" ها هنا في موضع منصوبٍ منوَّنٍ، وإنما حُذف منه التنوين للبناء والتركيبِ، وهو في تقديرِ جواب "هَلْ مِن رجلٍ" فإن كرّرتَها وأردتَ إعمالها على هذا الوجه، جاز، فقلت: "لا رَجلَ، ولا امرأةً"، ويكون جوابَ "هل من رجلٍ، ومن امرأةٍ". فإن كرّرت "لا" على أنها جوابُ ¬
كلام قد عمِل بعضُه في بعضٍ من المبتدأ والخبر، وتكرَّر، جاء الجوابُ على التكرير الذي في السؤال، وذلك قولك: "لا غلامٌ عندك ولا جارية"، كان السؤال: "أغلامٌ عندكَ أو جاريةٌ"، وهذا سؤالُ مَنْ قد علم أنّ أحدهما عنده، ولا يعرفه نفسَه، فسأل ليعرف عينَه، فإن كان عند المسؤول واحدٌ منهما، قال: "غلامٌ" إن كان غلامًا، أو "امرأةٌ" إن كان امرأةٌ. فإن لم يكن عنده واحدٌ منهما، قال: "لا غلامٌ عندي، ولا امرأةٌ". ولا يحسن أن يقول: "لا غلامٌ عندي" من غيرِ تكريرِ "لا" من قِبَل أن هذا جوابُ من قال: "أغلامٌ عندك؟ ". وجوابُ مثل هذا أن يقول المسؤول: "نَعَمْ"، إن كان عنده، أو: "لا" إن لم يكن عنده، ولا يزيد على "لا" شيئًا كما لا يزيد على "نَعَمْ" شيئًا. فلذلك خالَفَ حالُ التكرير حال الإفراد، ولم يجز الرفع في الإفراد، وجاز مع التكرير. وقوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ} (¬1)، وقوله تعالى: {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} (¬2) شاهدٌ لجواز الرفع مع التكرير. ومثله قوله الراعي [من البسيط]: 332 - وما هَجَرْتُكِ حتّى قلتِ مُعْلِنَةً ... لا ناقَةٌ لِيَ في هذا ولا جَمَلُ ¬
فإن فصلت بين المنفيّ والنافي، نحو: "لا لك غلامٌ، ولا في بيتك جاريةٌ"، لم يجز أن تجعلهما معًا اسمًا واحدًا, لأنّ الاسم لا يُفصَل بين بعضه، وبين بعضٍ، ولا يجوز أن يُنصب بها مع الفصل، لأنّ "لا" لا تعمل لضُعْفها، إلَّا فيما يَلِيها، وإذا لم يجز إعمالُها مع الفصل، تَعيَّن أن يُرفع ما بعدها بالابتداء والخبر، ولزم تكريرُها لما ذكرناه. قال الله تعالى: {لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} (¬1)، وكذلك إذا كان المنفي معرفةً، لم يجز فيه إلَّا الرفعُ, لأنّ "لا" لا تعمل في معرفةٍ، فلزم التكريرُ، نحو قولك: "لا زيدٌ عندي"، و"لا عمرٌو"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: "وقولهم: "لا نولك أن تفعل كذا ",كلام موضوع موضع "لا ينبغي لك أن تفعل", كذا وقوله [من الطويل]: 333 - [وأنت امرؤٌ منا خلقت لغيرنا] ... حياتك لا نفعٌ [وموتك فاجع] ¬
وقوله [من الطويل]: 334 - قضت وطراً واسترجعت ثم آذنت] ... ركائبها] أن لا إلينا رجوعها ضعيف لا يجيء إلا في الشعر, وقد أجاز المبرد في السعة أن يقال: "لا رجل في الدار", ولا زيد عندنا"". * * * قال الشارح: لمّا قرّر أنّ المنفيّ إذا كان معرفة، لم يجز فيه إلَّا الرفعُ، ويلزمه التكريرُ، أوْرد هذه الألفاظ التي وردت ناقضةً للقاعدة. وذلك أنّها معارفُ مرفوعةٌ، ولم تُكرَّر، وخَرَّجَها. فأمّا قولهم: "لا نَوْلُك أن تفعل كذا"، فهي كلمةٌ تقال في معنى: "لا ينبغي لك". وهي معرفةٌ مرفوعةٌ بالابتداء، وما بعدها الخبرُ، ولم يُكرِّروا "لا" من حيث إنّها جرت مجرى الفعل، إذ كانت بمعناه، والفعلُ إذا دخل عليه "لا"، لم يلزم فيه التكرير. فأجروا "لا نولُك" مُجْرَى "لا ينبغي لك"، لأنّه في معناه، كما قالوا: "لا سلامٌ عليك"، فلم يكرّروا, لأنّه في معنى "لا سلّم الله عليك"، كما أجروا "يَذَرُ" مجرَى "يَدَعُ" في حذفِ الواو التي هي فاءٌ، لأنّها مثلُها في المعنى، وإن لم يكن في "يذر" حرفٌ حَلْقيٌّ، فأمّا قول الشاعر [من الطويل]: وأَنْتَ امْرُؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لِغَيْرِنَا ... حَياتُك لا نَفْعٌ ومَوْتُك فاجِعُ ¬
فصل [حكمها إذا كررت]
البيت لرجل من بني سَلُولٍ، والشاهدُ فيه رفعُ ما بعد "لا" من غيرِ تكرير. وقد تقدّم قُبْحُه، والذي سوّغه أنّ ما بعده يقوم مقام التكرير في المعنى, لأنّ قوله: "حياتُك لا نفعٌ، وموتُك فاجعُ" بمعنى: "لا نَفْعٌ ولا ضَرَرٌ". يقول: إِنّه مِنَّا في النَّسَب، إلَّا أنّ نَفْعَه لغيرنا، فحياتُه لا ينفعُنا وموتُه يحزنُنا، وأمّا قول الآخر [من الطويل]: قَضَتْ وَطَرًا واسترجعت ثُمَّ آذَنَتْ ... رَكائِبَها أنْ لا إلَينَا رُجوعُها فالشاهد فيه الرفع بـ "لا" من غيرِ تكرير ضرورةٌ، وسوّغه شَبَهُ "لا" بـ "لَيْسَ" من حيثُ النفيُ، وصف أنّها فارقتْه، فبَكَتْ، واسترجعتْ. ومعنى آذنتْ: أَشْعَرَتْ. والركائبُ: جمعُ رَكُوبَةٍ، وهي الراحِلةُ تُرْكَب. وهو عند سيبويه ضعيفٌ (¬1) من قبيلِ الضرورة, لأنّه لم يُكرَّر "لا" على ما تقدّم من لزوم تكريرها إذا رُفع ما بعدها. وكان أبو العباس محمّدُ بن يزيد المبردُ لا يرى بَأْسًا أن تقول: "لا رجلٌ في الدار" في حال الاختيار، وسعةِ الكلام، ويجعله جوابَ قوله: "هل رجلٌ في الدار"، ويجوز أن يكون لرجل واحد، ويجوز أن يكون في موضع جمع، كما كان في قولك: "هل رجلٌ في الدار". وكذلك يُجيز "لا زيدٌ في الدار" على تقديرِ: "هَلْ زيدٌ في الدار؟ " وإن كان الأوّلُ أكثر، فاعرفه. فصل [حكمها إذا كُرِّرت] قال صاحب الكتاب:"وفي "لا حول ولا قوة إلا بالله" ستة أوجهٍ: أن تفتحهما، وأن تنصب الثاني، وأن ترفعه، وأن ترفعهما، وأن ترفع الأول على أن "لا" بمعنى "ليس"، أو على مذهب أبي العباس, وتفتح الثاني، وأن تعكس هذا". * * * قال الشارح: لك في "لا حَوْلَ ولا قُوّةَ إلَّا بالله" وما أشبهَه أن تبنِيَهما على الفتح، وتكون "لا" الثانيةُ نافيةً كالأُولى، كأنّك استأنفتَ النفيَ بها، فيكون كلُّ واحد منهما جملةً قائمةً بنفسها. فـ "لا" الأولى واسمُها في موضع مبتدأ، و"لا" الثانيةُ واسمُها في موضع مبتدأ ثانٍ. ويقدَّر لكل واحد منهما خبرٌ مرفوعٌ. ولك أن تفتح الأول، وتنصب الثاني نصبًا صريحَا بالتنوين، فتقول: "لا حولَ ولا قوّة إلَّا بالله"، فتعطف المنصوبَ المنوّنَ على المركَّب، إمّا على فتحة البناء لشَبَهها بحركة الإعراب، وإمّا على عَمَلِ "لا" في المنفيّ. وحَقُّه أن يكون منوّنًا، إلاّ أنّ البناء مَنَعَه من ذلك كما تقول: "مررت بعثمان وزيدٍ"، فموضعُ "عثمان" خفضٌ إلَّا أنّه لا ينصرف، فجرى مجرى المعطوف على ¬
فصل [حذف اسمها]
موضعه، كذلك ها هنا. ويكون الاعتمادُ في النفي على "لا" الأوُلى، وتكون "لا" الثانيةُ زائدة مؤكّدة للنفي. قال الشاعر [من السريع]: لا نَسَبَ اليومَ ولا خُلَّةً ... اتَّسعَ الخَرْقُ على الراقِعِ (¬1) ولك أن تفتح الأوّل وترفع الثاني، فتقول: "لا حول ولا قوّة إلَّا بالله". فتعطف الثاني على موضع "لا" واسمِها, لأنّهما في موضع رفع بالابتداء. ونظيرُ ذلك "كلّ رجلٍ ظريفٌ في الدار"، إن شئت خفضتَ "ظريفًا" على النعت لِـ "رجلٍ"، وإن شئت رفعتَه على النعت لِـ "كلّ". فكذلك "لا رجلَ، ولا غلامَ لك"، إن شئت حملتَ على المنفيّ، وإن شئت حملت على موضع النافي والمنفيّ، فيكون الثاني أيضًا مبتدأً, لأنّ ما عُطف على المبتدأ مبتدأٌ، وجاز أن يكون الخبرُ عنهما واحدًا، لأنّه ظرفٌ، وتكون "لا" الثانيةُ زائدة للتأكيد، والاعتمادُ في النفي على "لا" الأوُلى. ويجوز أن تجعل "لا" الثانيةَ بمعنى "لَيْسَ" وتُقدّر لها خبرًا منصوبًا, ولك أن ترفعهما جميعًا، فتقول: "لا حولٌ، ولا قوّةٌ إلَّا بالله". وقد قُرىء {لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ} (¬2). قال الشاعر [من البسيط]: وما هجرتُكِ حتّى قلتِ مُعْلِنَةً ... لا ناقةٌ لِيَ في هذا ولا جَمَلُ (¬3) فيجوز أن يكون "لَا"، في هذا الوجه بمعنى "ليس" ترفع الاسم وتنصب الخبرَ، ويكون الظرفُ في موضع خبر منصوبٍ. ويجوز أن تكون نافيةً، وما بعدها مبتدأٌ، ويكون الظرفُ في موضعِ خبر مرفوع، ولكَ أن ترفع الأوّل، وتفتح الثاني, فتقول: "لا حولٌ، ولا قوَّة إلَّا باللهِ"، ويكون رفعُ الأوّل على أن تكون "لا" بمعني "ليس" ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ويجوز أن تكون "لا" النافية، وما بعدها مبتدأٌ. وجاز ذلك غير مكرَّر على رأي أبي العبّاس، وهو المذهبُ الضعيفُ عند سيبويه. وحسّن ذلك وقوعُ "لا" الثانيةِ بعدها، وإن كان المرادُ بها الاستئنافَ، ولا الثانيةُ المشبَّهةُ بـ "إنَّ"، ولذلك ركّبتَ معها، وبنيتَ، فهذه خمسةُ أوجهٍ من جهةِ اللفظ، وهي ستّةُ أوجه من حيثُ التقديرُ، وجَعْلُ "لا" بمعنى "ليس". فاعرفه. فصل [حذف اسمها] قال صاحب الكتاب: "وقد حذف المنفي في قولهم: "لا عليك", أي: لا بأس عليك". * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّهم قد حذفوا اسمَ "لا" النافيةِ، كما حذفوا الخبرَ، فقالوا: "لا عليك"، والمرادُ: "لا بأسَ عليك"، أي: لا سيّىء عليك، وإنّما حذفوا الاسم لكثرةِ الاستعمال تخفيفًا. وقالوا: "لا كالعَشِيَّةِ عشيّةٌ" والمراد: لا عشيّةَ كالعشيّة الليلةَ، ومثلُه "لا كزيدٍ رجلٌ"، والمراد: لا أحد كزيدٍ رجلٌ، فالاسمُ محذوفٌ، والجارُّ والمجرور في موضع الخبر و"عشيّةٌ" مرفوعٌ, لأنّه عطفُ بيان على الموضع. وكذلك "رجلٌ" من قوله: "لا كزيد رجلٌ"، ويجوز النصبُ على اللفظ، أو التمييز على حد النعت في قوله [من الطويل]: 335 - [لنا مِرْفَدٌ سبعونَ ألفَ مُدَجَّجٍ] ... فَهَلْ في مَعَدّ دون ذلك مرفَدا (¬1) وممّا حُذف اسمُ "لا" فيه قولُ امرئ القيس [من البسيط]: 336 - وَيلُمّهَا في هَواءِ الجَو طالِبَةً ... ولا كهذا الذي في الأرض مَطْلُوبُ ¬
كأنّه قال: لا شيء له كهذا الذي في الأرض. فأمّا قولُ جَرِيرٍ [من الكامل]: 337 - [يا صاحبَيَّ دنا الرَّواحُ مَسيرا] ... لا كالعَشِيَّةِ زائرًا ومَزُورَا فلا يكون منصوبًا إلَّا بفعل مقدَّرٍ, لأنّه قد عُلم أنّ الزائر والمزور غيرُ العشيّة، فلا يكون بيانًا لها، فعُلم أنْ المراد: لا أرى كالعشيّة زائرًا ومزورًا، ونحو ذلك ممّا يُلائم معناه من الأفعال. ¬
خبر "ما" و"لا" المشبهتين بـ "ليس"
خبر "ما" و"لا" المشبهتين بـ "ليس" فصل قال صاحب الكتاب: "هذا التشبيهُ لغة أهل الحجاز, وأما بنو تميم, فيرفعون ما بعدهما على الإبتداء، ويقرؤن: {ما هذا بشر} (¬1)، إلا من درى كيف هي في المصحف, فإذا انتقض النفي بـ"إلا" أتقدم الخبر بطل العمل, فقيل: "ما زيدٌ إلا منطلقٌ"، و"لا رجلٌ إلا أفضل منك"، و"ما منطلقٌ زيدٌ"، و"لا أفضل منك رجلٌ"". * * * قال الشارح: هذا الفصل بيّنٌ من كلامِ صاحب الكتاب، وقد تقدّم شرحُه في المرفوعات بما أغنى عن إعادته. فصل [دخول الباء علي خبر "ما"] قال صاحب الكتاب: "ودخول الباء في الخبر, نحو قولك: "ما زيد بمنطلق", إنما يصح على لغة أهل الحجاز, لأنك لا تقول "زيدٌ بمنطلق"". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الباء قد زيدت في خبرِ "ليس" لتأكيد النفي. ومعنى قولنا: "زيدت"، أنّها لم تُحْدِث معنًى لم يكن قبلَ دخولها، وذلك قولُك: "ليس زيدٌ بقائم". والمعنى: "ليس زيدٌ قائمًا". قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} (¬2). وتقديره: كافِيًا عبدَه. وقال تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} (¬3)، أي: ألستُ رَبَّكم. و"ما" مشبَّهةٌ بـ "ليس" على ما تقدّم، فأدخلوا الباء في خبرها على حدِّ دخولها في خبر "ليس"، نحو قولك: "ما زيدٌ بقائمٍ". قال الله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (¬4)، أي: ¬
مؤمنًا، و {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، أي: طاردَ المؤمنين. وقد زيدت الباءُ في غير المنفيّ، زادوها مع المفعول، وهو الغالبُ عليها. قال الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬2). والمراد - واللَّهُ أعلمُ - أَيْدِيَكم. قال: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (¬3) أي: أنّ اللَّهَ يرى، وقد حمل بعضُهم قوله تعالى: {تُنبِتُ بالدهن} (¬4) على زيادة الباء، والمرادُ: تنبت الدهن. ومثله قول الشاعر [من الكامل]: 338 - شَرِبَتْ بِماءِ الدُّحْرُضَيْنِ فأصبحتْ ... زَوْراءَ تَنْفِرُ عن حِياضِ الدَّيْلَمِ أي ماءَ الدحرضين. وقد زيدت مع الفاعل، نحو: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬5) و {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬6). إنّما هو كفى اللَّهُ، وكَفَيْنَا، يدلّ على ذلك قولُ سُحَيْمٍ [من الطويل]: 339 - [عميرةَ ودِّعْ إنْ تَجَهَّزّت غاديا] ... كَفَى الشَّيْبُ والإِسلامُ للمَرْءِ ناهِيَا ¬
وقد زادوها مع المبتدأ، فقالوا: "بِحَسْبك زيدٌ". قال الشاعر [من المتقارب]: 340 - بِحَسْبِكَ في القوم أن يَعْلَموا ... بِأنّك فيهم غَنِيٌّ مُضِرْ ¬
والمراد حسبُك قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1). وزادوها مع خبر المبتدأ. قال الله تعالى: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} (¬2). قال أبو الحسن: الباء زائدةٌ، وتقديره: وجزاءُ سيّئةٍ مثلها، دلّ على ذلك قوله تعالى في موضع آخر: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬3). والأصل في زيادة الباء في المنفيّ مع "لَيْسَ" لأنّه فضلةٌ. والمعنيُّ بالفضلة المفعولُ، وفيه مُعْظَمُ زيادةِ الباء. وحُملت "ما" الحجازيّةُ على "لَيْسَ" إذ كان خبرُها منصوبًا كخبرِ "ليس". قال أبو سَعِيد: إنّما دخلت الباء في خبر "ليس", لأنّها غيرُ متصرَّفة، فتَنزّلتْ بذلك منزلةَ فعل لا يتعدّى إلَّا بحرف جرّ، فعُدّيت إلى منصوبها بالحرف الذي هو الباء، وحُملتْ "ما" على "ليس" في ذلك. وذهب قومٌ إلى أنّ أصل دخولِ الباء إنّما هو مع "ما" لضربٍ من التقابُل. وذلك أنّ القائل يقول: "إنّ زيدًا قائمٌ"، فيقول النافي لذلك الخبر: "ما زيدٌ قائمًا"، فيدخل "ما" بإزاء "إنَّ". فإذا قال: "إنّ زيدًا لقائمٌ"، قال النافي: "ما زيدٌ بقائمٍ". فيأتي بالباء لتأكيد النفي، كما أتى باللام لتأكيد الإيجاب، فصار الحرفان بإزاء الحرفَيْن. ثمّ دخلت على خبرِ "ليس" لأنّهما يقعان لنفي ما في الحال، والكوفيون يقولون: إنّما دخلت الباء للتمييز بين المذهبَيْن، يريدون أنّ الذي يرتفع بعد "ما" إنّما ارتفاعُه على المبتدأ والخبرِ، والباء لا تقع في خبرِ المبتدأ، فلا يقال: "ما زيدٌ بقائمٍ"، وأنت تريد "قائمٌ"، كما لا تقول: "زيدٌ بقائم". وإنما يستعمل الباء من ينصب الخبر. وهو فاسدٌ، لأنّ الإعراب يفصِل بينهما. وقوله: "لا يصحّ دخولُ الباء إلَّا على لغة أهل الحجاز لأنّك لا تقول: "زيدٌ بقائم""، يريد أنّ ما بعد "ما" التَّمِيميّةِ مبتدأ وخبرٌ، والباء لا تدخل في خبر المبتدأ. وهذا فيه إشارةٌ إلى مذهب الكوفيين. وليس بسديد، وذلك لأنّ الباء إن كان أصلُ دخولها على "لَيْسَ"، و"ما" محمولةً عليها لاشتراكهما في النفي، فلا فَرْقَ بين الحجازية والتميميّة في ذلك. وإن كانت دخلت في خبرِ "ما" بإزاء اللام في خبر "إنَّ"، فالتميميّةُ والحجازيّةُ في ذلك سَواءٌ. ويدلّ على ذلك مسألةُ الكتاب (¬4)، وهو قولهم: "ما أنت بشيء إلَّا شيءٌ لا يُعْبَأ به" برَفْعِ "شيء" على البدل من موضع الباء لتعذُّرِ الخفض والنصبِ. وقد تقدّم الكلام على هذه المسألة. وقالوا: "ليس زيدٌ أبوه بقائم"، فأدخلوا الباء في خبر المبتدأ، إذ كان في خبر النفي؛ أمّا إذا كان خبرُ المبتدأ موجبًا، لم يصحّ دخولُ هذه الباء عليه كما ذُكر. وقالوا: "ما كان زيدٌ بغلام، إلَّا غلامًا صالحًا"، أدخلوا الباء في خبرِ "كَانَ" هنا حيث كان في خبر المنفيّ، فاعرفه. ¬
فصل ["لات"]
فصل ["لات"] قال صاحب الكتاب: و"لا" التي يكسعونها بالتاء وهي المشبهة بـ "ليس" بعينها, ولكنهم أبوا إلا أن يكون المنصوب بها حيناً. قال الله تعالى: {ولات حين مناص} (¬1) أي: "ليس الحين حين مناص". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إنّ "لا" تُشبَّه بـ "لَيْسَ"، وتعمل عملها، كما شُبّهت بها "ما" في لغةِ أهل الحجاز، فرفعوا بها الاسمَ، ونصبوا الخبر، فقالوا: "لا رجلٌ أفضل منك"، و"لا أحد خيرًا منك". وربّما أدخلوا في خبرها الباء تشبيهًا بـ "ما"، فقالوا: "لا رجل بأفضلَ منك"، و"لا أحدٌ بخيرٍ منك"، إلَّا أن "ما" أقعدُ من "لا" في الشَّبَه بـ "لَيْسَ"، ولذلك كانت أعمَّ تصرُّفًا وأكثر استعمالًا، والكثير في "لا" أن تنصب النكرة حملًا على "إنَّ". ولمّا جوّزوا فيها رفعَ الاسم، ونصبَ الخبر، لم يخرجوا عن حكمها في أقوى حالها، وهو نصبُ الاسم، ورفعُ الخبر، فلم يُفصَل بينها، وبين ما عملت فيه، ولم تعمل إلَّا في نكرة. فأمّا إذا لحِقها تاء التأنيث، وقيل: "لاَتَ"، فالقياسُ أن تكون المشبَّهة بـ "لَيْسَ"، لأنّها في معنى ما تدخله تاء التأنيث. وليست كذلك الناصبةُ, لأنّها في معنى "إنَّ". وليست "إنَّ" ممّا تدخله تاءُ التأنيث، ولأنّه وقع بعدها المرفوعُ من غير تكرير، فعُلم أنّها بمعنى "ليس"، إذ لو لم تكن بمعنى "ليس"، لزم تكريرُها. وقوله: "يكسعونها"، أي: يُتْبعونها في آخِرِ الكلمة، يقال: كَسَعَهُ، أي: ضربه من خَلْفُ، وهذه استعارةٌ لزيادة التاءَ آخرًا, ولا تعمل هذه إلَّا في الأحيان خاصّةً سواءً نَصَبَتْ، أو رفعتْ. والعِلّةُ في ذلك أنها في المَرْتَبة الثالثة، فـ "لَيْسَ" أقوى, لأنّها الأصل، ثمّ "مَا"، ثمّ "لَاتَ". فأمّا قوله تعالى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (1)، فإنّه قد قُرىء: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} بالرفع. والنصبُ أكثر، فالنصبُ على أنّه الخبرُ، والاسمُ محذوفٌ، والتقديرُ. ولات حينٌ نحنُ فيه حينَ مناص. ولا يقدَّر الاسم المحذوف إلَّا نكرةً؛ لأنّ "لا" إذا كانت رافعةً لا تعمل إلاّ في نكرة كما إذا كانت ناصبة، وقد تقدّم الكلام على ذلك في المرفوعات، فاعرفه. ¬
ذكر المجرورات
ذكر المجرورات فصل قال صاحب الكتاب: "لا يكون الاسم مجروراً إلا بالإضافة, وهي المقتضية للجر، كما أن الفاعلية والمفعولية هما المقتضيان للرفع والنصب, والعامل هنا غير المقتضي كما ثم، وهو حرف الجر, أو معناه في نحو قولك: "مررت بزيد"، و"زيد في الدار"، و"غلام زيد"، و"خاتم فضة"". * * * قال الشارح: لمّا فرغ من الكلام على المرفوعات والمنصوبات، أخذ في الكلام على المجرورات: والجرُّ من عبارات البصريين، والخَفْضُ من عبارات الكوفيين. فالجرُّ إنما يكون بالإضافة، وليست الإضافةُ هي العاملة للجرّ، وإنّما هي المقتضيةُ له. والمعني بالمقتضِي ها هنا أنّ القياس يقتضي هذا النوعَ من الإعراب، لتقع المخالَفةُ بينه وبين إعرابِ الفاعل والمفعول، فيتميّزَ عنهما، إذ الإعرابُ إنّما وُضع للفرق بين المعاني. والعامل هو حرفُ الجرّ، أو تقديره، فحرفُ الجرّ نحو "مِنْ" و"إِلَى"، و"عَنْ"، و"عَلَى"، ونحوِها من حروف الإضافة، وستُذكَر في موضعها مفصَّلةً. وإنّما قيل لها: حروفُ الإضافة, لأنّها تُضيف معنى الفعل الذي هي صلتُه إلى الاسم المجرور بها. ومعنى إضافتها معنى الفعل إيصالُه إلى الاسم. فالإضافةُ معنى، وحروفُ الجرّ لفظٌ، وهي الأداةُ المُحصَّلةُ له، كما كانت الفاعليّةُ والمفعوليةُ معنيَين يستدعيان الرفعَ والنصبَ في الفاعل والمفعولِ، والفعل أداةٌ مُحصَّلةٌ لهما، فالمقتضِي غيرُ العامل. والمراد من قوله: "فالعامل حرفُ الجرّ، أو معناه" أنّ الجرّ يكون بحرف الجرّ، أو تقديره. فحرفُ الجرّ، نحو: "مررتُ بزيدٍ"، و"زيدٌ في الدار". فالعامل في "زيد" هو الباءُ، والعامل في الدار "في"؛ وأمّا المقدَّرُ فنحوُ: "غلامُ زيدٍ"، و"خاتمُ فِضَّةٍ"، فالعامل هنا حرفُ الجرّ المقدَّرُ، والتأثيرُ له. وتقديرُه: غلامٌ لزيدٍ، وخاتمٌ من فضّةٍ، لا ينفكّ كلُّ إضافةٍ حقيقيّةٍ من تقديرِ أحد هذَيْن الحرفَيْن. ولولا تقديرُ وجودِ الحرف المذكور؛ لَمَا ساغ الجرُّ. ألا ترى أنّ كلّ واحد من المضاف والمضاف إليه اسمٌ ليس له أن يعمل في الآخر, لأنّه ليس عملُه في أحدهما بأَوْلى من العَكْس، وإنما الخفضُ في المضاف إليه بالحرف المقدَّر الذي هو اللامُ، أو "مِنْ". وحسُن حذفُه لنِيابةِ المضاف إليه عنه،
وصَيْرُورَتِه عِوَضًا عنه في اللفظ، وليس بمنزلته في العمل، ونظيرُ ذلك واوُ "رُبَّ" من قوله [من الرجز]: وبَلْدَةٍ ليس لها أَنِيسُ (¬1) ونحو قوله [من الرجز]: 341 - وَبَلَدٍ عامِيَةٍ أَعْمَاؤُهُ ونحو قوله [من الرجز]: 342 - وقاتم الأعماقِ خاوِي المُخْتَرَقْ وتقديره: ورُبَّ كذا. فالخَفضُ في الحقيقة ليس بالواو، بل بتقديرِ "رُبَّ"، لأنّ الواو حرفُ عطفٍ، وحرفُ العطف لا يختص، وإنّما يدخل على كل واحد من الاسم والفعلِ. والعاملُ ينبغي أن يكون له اختصاصٌ بما يعمل فيه. وممّا يدلّ أنّ الواو للعطف، والجرَّ بـ "رُبَّ" المرادةِ أنّه قد أُنيب عنها غيرُ الواو من حروف العطف، نحو قوله [من الوافر]: 343 - فَحُورٍ قد لَهَوْتُ بِهِنَّ عِينٍ ... نَواعِمَ في المُروط وفي الرَّياطَ ¬
فصل [الإضافة المعنوية والإضافة اللفظية]
وقول الآخر [من الرجز]: 344 - بَلْ جَوْزِ تَيْهاءَ كظَهْرِ الحَجَفَتْ فكما أنّ الفاء و"بَلْ"، وإن كانتا بدلاً من "رُبَّ"، حرفا عطفٍ لا محالةَ؛ فكذلك الواوُ نائبةٌ في اللفظ عن "رُبَّ"، وإن لم يكن لها أثرٌ في العمل، فكذلك العاملُ في المضاف إليه حرفُ الجرّ المرادُ، لا معناه. وقوله: "أو معناه" تسامُحٌ, لأنّ المعاني لا تعمل جرًّا فاعرفه. فصل [الإضافة المعنوية والإضافة اللفظية] قال صاحب الكتاب: "وإضافة الاسم إلي الاسم على ضربين: معنوية ولفظية, ¬
فالمعنوية ما أفاد تعريفاً ,كقولك:"دار عمرو"، أو تخصيصاً ,كقولك: "غلام رجل". ولا تخلو في الأمر العام من أن تكون بمعنى اللام ,كقولك: "مال زيد" و"أرضه", و"أبوه" و"ابنه" و"سيده" و"عبده"، أو بمعنى "من" ,كقولك: "خاتم فضة", و"سوار ذهب" و"باب ساج"". * * * قال الشارح: اعلم أنّ إضافة الاسم إلى الاسم إيصالُه إليه من غيرِ فَصْل، وجَعْلُ الثاني من تَمامِ الأوّل يتنزّل منه منزلةَ التنوين. وهذه الإضافةُ على ضربَيْن: إضافةُ لفظٍ ومعنًى، وإضافةُ لفظٍ فقط. فالإضافة اللفظيّة ستُذكَر بعدُ، وأمّا الإضافة المعنويّة؛ فأنْ تجمع في الاسم مع الإضافة اللفظيّةِ إضافةً معنويّةً. وذلك بأن يكون ثمَّ حرفُ إضافة مقدَّرٌ يوصِل معنى ما قبله إلى ما بعده. وهذه الإضافةُ هي التي تُفيد التعريفَ والتخصيص، وتُسمّى المَحْضَةَ، أي: الخالصةَ بكونِ المعنى فيها موافِقًا للّفظ. وإذا أضفتَه إلى معرفةٍ، تَعرَّف، وذلك نحو قولك: "غلامُ زيدٍ"، فـ "غلامٌ" نكرةٌ، ولمّا أضفتَه إلى "زيد" اكتسب منه تعريفًا، وصار معرفةً بالإضافة. وإذا أضفتَه إلى نكرةٍ، اكتسب تخصيصًا، وخرج بالإضافة عن إطلاقه, لأنّ "غلامًا" يكون أَعَمَّ من "غلامِ رجل"، ألا ترى أنّ كلَّ غلامِ رجل غلامٌ، وليس كلُّ غلامٍ غلامَ رجل؟ وهذه الإضافة المعنويّةُ تكون على معنى أحدِ حرفَيْن من حروف الجرّ، وهما اللامُ، و"مِنْ". فإذا كانت الإضافةُ بمعنى اللام، كان معناها المِلْكَ والاختصاصَ، وذلك قولُك: "مالُ زيدٍ"، و"أرضُه". أي: مالٌ له، وأرضٌ له، أي: يملِكُها، و"أَبُوه"، و"ابْنُه"، و"سَيَّدُه" والمراد: أبٌ له، وابنٌ له، وسيّدٌ له، أي: كلُّ واحد مستحقٌّ مختصٌّ بذلك، والغالبُ الاختصاص, لأنّ كل مِلْك اختصاصٌ، وإذا كانت الإضافة بمعنى "مِنْ"، كان معناها بيانَ النوع، نحو قولك: "هذا ثوبُ خَزّ، وخاتَمُ حديدٍ، وسِوارُ ذهبٍ"، أي: ثوبٌ من خزّ، وخاتمٌ من حديد، وسوارٌ من ذهب, لأنّ الخاتم قد يكون من الحديد وغيره، والثوب يكون من الخزّ وغيره، والسوار يكون من الذهب وغيره، فبيّن نوعَه بقوله: "من خزّ"، و"من حديد"، و"من ذهب". والذي يُفصَل به بين هذا الضرب والذي قبلَه، أنّ المضاف إليه ها هنا كالجنس للمضاف، يصدُق عليه اسمُه. ألا ترى أنّ الباب من الساج ساجٌ، والثوبَ من الخزّ خزٌّ، كما أنّ الإنسان من الحَيَوان حيوانٌ، وليس غلامُ زيد بزيدٍ؟ فعلى هذا، إذا قلت: "عينُ زيد"، و"يَدُ عمرو"؛ كان مقدَّرًا باللام، والمعنى: عينٌ له، ويَدٌ له؛ لأنّه وإن كان الأوّل بعضًا للثاني؛ فإنّه لا يقع عليه اسمُ الثاني. فعينُ زيد ليست زيدًا، ويَدُ عمرو ليست عمرًا، فاعْرِفِ الفرقَ بينهما. وقوله: "في الأمر العامّ"، يريد أنّ الغالب في الإضافة الحقيقيّة ما قدّمناه. وربّما
جاء منه شيءٌ على غيرِ هذَيْن الوجهَيْن. قالوا: "فلانٌ ثَبْتُ الغَدَرِ" بفتح الغين، والدال، أي: ثابِتُ القَدَم في الحرب والكلام. يقال ذلك للرجل إذا كان لِسانُه يثبُت في موضع الزَّلَل والخُصومةِ. قال ابن الِسكيت: يقال: "ما أَثْبَتَ غَدَرَهُ! " يعني الفَرَسَ، أي: ما أثبته في الغدر! وهي الحِجارةُ واللَّخاقِيقُ، أي: خُروقُ الأرض وشُقوقُها. وعندي أنّ إضافةَ اسم الفاعل إذا كان ماضيًا من ذلك، ليس مقدَّرًا بحرفِ جرّ، مع أنّ إضافته مَحْضَةٌ. * * * قال صاحب الكتاب: "واللفظية أن تضاف الصفة إلى مفعولها, كقولك: "هو ضارب زيد"، وراكب فرس، بمعنى ضارب زيداً وراكب فرساً؛ وإلى فاعلها كقولك زيد حسن الوجه ومعمور الدار، وهند جاثلة الوشاح، بمعنى حسن وجهه ومعمورة داره وجائل وشاحهها. ولا تفيد إلا تخفيفاً في اللفظ والمعنى كما هو قبل الإضافة. ولا ستواء الحالين وصف النكرة بهذه الصفة مضافة كما وصف بها مفصولة في قولك: "مررت برجل حسن الوجه, وبرجل ضارب أخيه"". * * * قال الشارح: الإضافة اللفظيّة أن تضيف اسمًا إلى اسم لفظًا، والمعنى على غير ذلك. ويقال لها: غيرُ مَحْضَةٍ، إنّما يُحصَّل ثَمَّ اتّصالٌ وإسنادٌ من جهة اللفظ لا غيرُ، وذلك ضربان: أحدهما: اسمُ الفاعل إذا أضفتَه، وأنت تريد التنوينَ، وذلك قولُك: "هذا ضاربُ زيدٍ غدًا" إذا أردت الاستقبالَ، وكذلك الحالُ. وأصلُه التنوينُ، والنصبُ لِما بعده، نحو: "هذا ضاربٌ زيدًا"، وجائزٌ أن يكون في الحال وأن تُوقِعه فيما يُستقبل. ولك أن تحذِف التنوينَ لضرب من التخفيف، وتخفِضَ ما بعده، وأنت تريد معنى التنوين، كأنّك تُشبَّهه بالإضافة المحضةِ بحُكْمِ أنّه اسمٌ. والنصبُ به إنّما هو عارضٌ لشَبَهِ الفعل، فالاسمُ الأوّلُ نكرةٌ، وإن كان مضافًا إلى معرفةٍ؛ لأنّ المعنى على الانفصال بإرادة التنوين، ولذلك تقول: "هذا رجلٌ ضاربُ زيدٍ غدًا"، كما تقول: "هذا رجلٌ ضاربٌ زيدًا غدًا", لأنّ التنوين المقدَّرَ حُكْمًا كالموجود لفظًا, ولولا تقديرُ الانفصال؛ لَمَا جرى وصفًا على النكرة. قال الله تعالى: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (¬1)، والمعنى: ممطرٌ لنا، من قِبَل أنّه وصف به "عارضًا"، وهو نكرة، والنكرةُ لا تُنْعَت بالمعرفة، ومثلُه قول الشاعر [من الكامل]: 345 - سَلّ الهُمُومَ بكُلّ مُعْطِي رَأْسِه ... نَاجٍ مُخالِطِ صُهْبةٍ مُتَعَيَّسِ ¬
والتقدير: مُعْطٍ رأسَه, لأنّ "كُلاًّ" لا يقع بعدها الواحد إلَّا نكرة، لأنّها تقع على واحدٍ في معنى الجمع. وقوله: "أن تُضاف الصفة إلى مفعولها"، يريد بالصفة اسم الفاعل، نحو: "ضاربٍ"، و"قاتلٍ"، وشِبْهِهما، فإنّه لا يضاف إلَّا إلى مفعوله, لأنّه غيرُه، ولذلك لا يضافَ إلى الفاعل, لأنّه هو في المعنى، والشيءُ لا يُضاف إلى نفسه، فلا يقال: "هذا ضاربُ زيدٍ عمرًا" على معنى "يضربُ عمرًا", لأنّ الضارب هو زيدٌ. الثاني الصفة الجاري إعرابُها على ما قبلها، وهي في المعنى لِما أُضيفت إليه, وذلك نحو: "مررتُ برجلٍ حسن الوجهِ، ومعمورِ الدارِ، وامرأةٍ جائلةِ الوِشاحِ"، فالتقدير في هذه الأشياء كلّها الانفصال, لأنّ الأصل: حسنٍ وجهُه، ومعمورةٍ دارُه، وجائلٍ وِشاحُها. ترفع الوجهَ بقولك: "حَسَنٍ", لأنّ الحُسْن له في المعنى، وكذلك قولك: "مررتُ برجلٍ معمورِ الدارِ"، إذ المعنى: معمورةٍ دارُه، وامرأةٍ جائلةِ الوشاح، أي: جائلٍ وُشاحُها، فالعِمارةُ للدار، والجَوَلانُ للوشاح، والوِشاحُ: الإزارُ. فإن قلت: إذا كان الحُسْنُ للوجه، والوجه هو الفاعلُ، فكيف جاز إضافتُه إليه، وقد زعمتم أنّ الشيء لا يضاف إلى نفسه؟ فالجوابُ أنّك لم تصِفه إلَّا بعدَ أن نقلتَ الصفةَ عنه، وجعلتها للرجل دون الوجه في اللفظ، وصار فيه ضميرُ "الرجل"، فإذا قلت: "حَسَنُ الوجهِ"؛ كان الحُسْنُ شائعًا في جُمْلَته، كأنّه وصفه بأنّه حَسَن القامةِ بعد أن كان الحُسْنُ مقصورًا على الوجه دون سائره. فلمّا أُريد بيانُ موضعِ الحُسْن، أُضيف إليه بعد ¬
فصل [حكم الإضافة المعنوية]
أن صار أَجْنبيًّا، ألا تراك تنصبُه على التمييز، فتقول مررت بالرجل الحَسَنِ وَجْهًا، والتمييزُ فضلةٌ. وقوله: "يضاف إلى فاعله" يريد أنّه فاعلٌ من جهة المعنى، لا من جهة اللفظ، فإنّه من جهة اللفظ فضلةٌ؛ والذي يدل على ذلك قولُهم: "هذه امرأةٌ حسنةُ الوجهِ"، فتأنيثُهم الصفةَ إذ قد جرت على مؤنّثٍ دليلٌ على ما قلناه, لأنّ الفعل إنّما تلحَقُه علامةُ التأنيث إذا أُسْند إلى ضمير مؤنّثٍ، فتأنيثُ الصفة ها هنا دليلٌ على أنّها مُسْنَدةٌ إلى ضميرِ الموصوف المؤنّثِ. ولو كان على أصله قبل الإضافة، لوَجَبَ التذكيرُ، ولم يجز التأنيثُ, لأنّ "الوَجْهَ" مذكَّرٌ. وهذا القبيل من المضاف لا يتعرّف بالإضافة, لأنّ النيّة فيه الانفصالُ على ما بَيَّنَّا. ويدلّ على ذلك أنّك تصِف به النكرةَ، وإن أضفتَه إلى معرفةٍ، نحو قولك: "مررت برجلٍ حسنِ الوجهِ". فلولا تقديرُ الانفصال، وإرادةُ التنوين، لَمَا جاز أن تصف به النكرةَ. وهذا معنى قوله: "ولاستواء الحالَيْن وُصف النكرة بهذه الصفة مضافةً كما وُصفتْ بها مفصولةً"، يعني أنّ حالَيْها قبل الإضافة وبعدها، في التنكير وعدمِ التعريف سَواءٌ. فلذلك تقع صفةً للنكرة مفصولة ومضافةً، لاستوائها في كِلَا الحالَيْن، فتقول: "مررت برجلٍ حسنِ الوجهِ"، كما تقول: "مررت برجلٍ حسنٍ وجهُه". ويدلّ على التنكير جوازُ دخولِ الألف واللام عليه مع إضافته، فتقول: "مررت بالرجل الحسنِ الوجهِ". ولو كانت الإضافةُ صحيحةً، لَمَا جاز أن تجتمع الإضافةُ مع الألف واللام. فصل [حكم الإضافة المعنوية] قال صاحب الكتاب: "قضية الإضافة المعنوية ان يجرد لها المضاف من التعريف, وما تقبله الكوفيون من قولهم: "الثلاثة الأثواب" و"الخمسة الدراهم", فبمعزل عند أصحابنا عن القياس واستعمال الفصحاء. قال الفرزدق [من الكامل]: 346 - [ما زال مُذ عقدت يداه إزاره] ... فسما وأدرك خمسة الأشبار ¬
وقال ذو الرمة [من الطويل]: 347 - [وهل يرجع التسليم أو يكشف العمي] ... ثلاث الأثافي والديار البلاقع" * * * قال الشارح: اعلم أنّك لا تضيف إلَّا نكرةً، نحو قولك: "غلامُ زيدٍ"، و"صاحبُ عمرو" لأنّ الإضافة يُبتغى بها التعريفُ، أو التخصيصُ, لأنّ المضاف يكتسي من المضاف إليه تعريفَه، إن كان معرفةً، وتخصيصًا إن كان نكرةً. فإذا قلت: "غلامُ زيد"، فالغلامُ كان نكرةً شاملًا كلَّ غلام، فلمّا أضفتَه إلى زيد، صار معرفةً، وخَصَّ واحدًا بعينه. فإذا قلت: "غلامُ رجل"، فإنّ المضاف إليه - وإن كان نكرةً - إلَّا أنّه حصل للمضاف بإضافته إليه نوعُ تخصيص، ألا ترى أنّه خرج عن شِياعه، ويُميَّز عن أن يكون غلامَ امرأة؟ فعلى هذا لا يجوز إضافةُ المعرفة مع بَقاءِ تعريفها فيها، فإذا أُريد إضافةُ المعرفة، سُلب تعريفُها عنها حتّى تصير شائعة في التقدير، كـ "رجلٍ" و"فرسٍ"، ثمّ تكتسي تعريفًا إضافيًّا غير التعريف الذي كان فيها. ولذلك لا يُجمَع بين الألف واللام والإضافة, لأنّ ما فيه الألفُ ¬
واللام لا يكون إلاّ معرفةً، ولم يُمْكِن اعتقادُ التنكير مع وُجودهما. فأمّا "الخمسةُ الأثوابِ" و"الأربعةُ الغِلْمانِ"، فهو شيءٌ صار إلى جَوازه الكوفيون، فأمّا على أصل أصحابنا، فإذا قلت: "ثلاثةُ دراهمَ"، وأردتَ تعريفَ الأوّل منهما؛ عرّفتَ الثاني, لأنّ الأوّل يكون معرفةٌ بما أضفتَه إليه. ألا ترى أنّك تقول: "هذا غلامُ رجلٍ" فيكون نكرةً، فإذا أردتَ تعريفَه، قلت: "هذا غلامُ الرجل، وصاحبُ المال"؟ وكذلك "هذه ثلاثةُ الدراهمِ، وخمسةُ الأثوابِ"، فأمّا قول الشاعر [من الكامل]: ما زَالَ مُذْ عَقَدَتْ يَداهُ إزارَهُ ... فَسَمَا وأَدْرَكَ خمسةَ الأشْبارِ فالبيت للفَرَزْدَق، وبعدَه: يُدْنِي خَوافِقَ مِن خوافقَ تَلْتَقِي ... في ظِلِّ مُعْتَبَطِ الغُبارِ مُثارِ والشاهد فيه تعريفُ الثاني بالألف واللام، والاكتفاءُ بذلك عن تعريف الأوّل. يمدَحُ بذلك يزيدَ بن المُهلَّب، أي: ما زال مُذ كان صغيرًا إلى أن مات يقود الجُيوشَ، ويحضُر الحُروب. وعَنَى بالخوافق الراياتِ. ومُعْتَبَطُ الغُبارِ: مكانُه، فكأنّه لم يُقاتَل فيه قبلُ، ولا أثار غيرُه غبارَه، من قولهم: "مات فلانٌ عَبْطَةٌ"، أي: شابًّا. وقوله: "مذ عقدت يداه إزارَه" إشارةٌ إلى حالِ الصّغَر، وأوائلِ العَقْل، وعَنَى بخمسة الأشبار القَبْرَ، أي: ما زال أميرًا مذ عَقَلَ إلى أن مات، وأمّا قول الآخر [من الطويل]: وهَلْ يَرْجِعُ التَّسْلِيمَ أو يَكْشِفُ العَمَى ... ثلاثُ الأَثافِي والرُّسومُ البَلاقِعُ البيت لذي الرُّمّة، والشاهدُ فيه تعريفُ "الأثافي" حين أراد تعريفَ ما أُضيف إليه، وهو "الثلاثُ". ولم يحتج مع ذلك إلى الألف واللام. والأَثافِي للقِدْر أن توضَع ثلاثةُ أحجارٍ، ثمّ يوضَع القدرُ عليها عند الاطّباخ. والبَلاقِع: جمعُ بَلْقَع، وهو الخَرابُ. وأصله الأرضُ التي لا شيء فيها. والرُّسوم: جمعُ رَسْمٍ، وهو ما بقي من آثار الدّيار. يقول: إِنّ الأثافي، ورسومَ الدار لا تردّ سلامًا, ولا تُنبَّىء عن خبرٍ إذا استُخبرت، وهو معنى قوله: "أو يكشف العَمَى". فأمّا ما تَعلَّق الكوفيون من إجازته، وتشبيهِه بـ "الحَسَن الوَجْهِ"؛ فليس بصحيح، لأنّ المضاف في "الحسن الوجهِ" صفةٌ، والمضافُ إليه يكون منصوبًا ومجرورًا. وإنّما ذلك شيءٌ رواه الكِسائيُّ، وقد روى أبو زيد، فيما حكى عنه أبو عمر الجَرْميُّ، أنّ قومًا من العرب يقولونه غيرَ فُصحاءَ، ولم يقولوا: "النصْفُ الدرهمِ"، ولا "الثُّلْثُ الدرهم" وامتناعُه من الاطّراد في أجزاء الدرهم يدلّ على ضُعْفه في القياس. * * *
قال صاحب الكتاب: "وتقول في اللفظية مررت بزيد الحسن الوجه، وبهند الجائلة الوشاح، وهم الضاربا زيد. قال الله تعالى: {والمقيمي الصلاة} (¬1). ولا تقول الضارب زيد، لأنك لا تفيد فيه خفة بالإضافة كما أفدتها في المثنى والمجموع، وقد أجازه الفراء؛ وأما الضارب الرجل فمشبه بـ "الحسن الوجه"". * * * قال الشارح: وقد جاءت الألفُ واللام فيما إضافتُه لفظيّةٌ، قالوا: "مررتُ بزيدٍ الحسنِ الوجهِ، وهندٍ الجائلةِ الوِشاح"، وساغ ذلك من قِبَل أنَّ الإضافة لا تكسوهما تعريفًا من حيثُ كان النّيّةُ فيها الانفصال، إذ التنوينُ مرادٌ، والمضافُ إليه في نيّةِ المرفوع، إذ كان فاعلًا في المعنى. فلمّا كانت الإضافةُ لا تكسوهما تعريفًا, ولا تخصيصًا؛ لم يمتنع دخولُ الألف واللام إذا احتيج إلى التعريف، كما لا يمتنع دخولُهما على النكرة غيرِ المضافة. وقالوا: "هذان الضاربا زيدٍ، والضاربو زيدٍ" قال الله تعالى: {وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ} (¬2)، لمّا كانت الإضافةُ منفصلةً، والنيّةُ ثُبوتَ النون والنصبَ؛ لم يتعرّف بما أُضيف إليه، وكان سِيّانِ إضافتَه وإثباتَ النون، وفَصْلَه ممّا بعده من حيثُ التنكيرُ. فلمّا لم يقع التعريفُ بالإضافة كما يقع في "غلامِ زيدٍ"، وأُريد تعريفُه؛ أدخلوا ما يقع به التعريفُ من الألف واللام. وأفادت الإضافةُ ههنا ضربًا من التخفيف بحذفِ التنوين والنون في "هذا ضاربُ زيدٍ غدًا"، و"الضارِبا زيدٍ"، و"الضارِبو زيدٍ"؛ فأمّا "الضاربُ زيدٍ" فإنّه لا يجوز, لأنّ الألف واللام إذا لحِقتِ اسمَ الفاعل؛ كانت بمعنَى "الَّذِي"، وكان اسمُ الفاعل في حكم الفعل من حيثُ هو صلةٌ له، فيلزمُ إعمالُه فيما بعده، ولا فَرْقَ بين الماضي في ذلكَ وغيره، إذ كان التقديرُ، في "الضارب": الَّذِي ضَرَبَ، فلذلك عمِل عَمَلَه. وإنّما جازت الإضافةُ في قولك: "هما الضاربا زيدٍ"، والضاربو زيدٍ" لما يحصُل بالإضافة من التخفيف بحذفِ النون؛ فأمّا إذا قلت: "الضاربُ زيدٍ"، فهو تغييرٌ له عن مقتضاه من الإعمال من غيرِ فائدة, لأنّه لم يحصُل بالإضافة تخفيفٌ، لأنّه لم يكن فيه تنوينٌ ولا نونٌ، فيسقُطا بالإضافة. فأمّا الفرّاءُ، فإنّه أجاز ذلك نَظَرًا إلى الاسميّة، وأنّ الإضافة لفظيّةٌ لم يحصل بها تعريفٌ، فيكونَ مانعًا من الإضافة. والقياسُ ما ذكرناه. فأمّا قولهم: "الضاربُ الرجلِ"، فإنّما ساغت إضافتُه، وإن لم تستفِد بالإضافة تعريفًا ولا خِفَّةً؛ أمّا التعريف، فلأنّ إضافته لفظيّةٌ لا تكسِب المضافَ تعريفًا؛ وأمّا ¬
[الإضافة إلي الضمير]
الخفّة، فلم يكن فيه تنوينٌ، ولا نونٌ، فيسقُطا بالإضافة. فقضيّة الدليل أن لا تصحّ إضافتُه، كما لا تقول: "الضاربُ زيد". وذلك من قِبَل أنّه محمولٌ على "الحَسَنِ الوجه"، ومشبَّهٌ به من جهةِ أنّ "الضارب" صفةٌ، كما أنّ "الحسن" صفةٌ، وما بعده يكون مجرورًا أو منصوبًا، فتقول: "هذا ضاربٌ زيدًا، وضاربُ زيدٍ"، كما تقول: "مررتُ برجلٍ حسنٍ وَجْهًا، وحسنِ الوجهِ". فلمّا أشبهَه، جاز إدخالُ الألف واللام عليه مع أنّه مضافٌ، إذا أُريد تعريفُه، كما كان كذلك في "الحسن الوجهِ"، وإن لم يكن مثلَه من كلِّ وجه. ألا ترى أنّ المضاف إليه في "الضارب زيدٍ" مفعول منصوبٌ في المعنى، والمضاف إليه في "الحسن الوجه" فاعلٌ مرفوعٌ؟ * * * [الإضافة إلي الضمير] قال صاحب الكتاب: "وإذا كان المضاف إليه ضميراً متصلاً, جاء ما فيه تنوين أو نون وما عدم واحداً منهما شرعاً في صحة الإضافة, لأنهم لما رفضوا يوجد فيه التنوين أو النون أن يجمعوا بينه وبين الضمير المتصل جعلوا ما لا يوجد فيه له تبعاً فقالوا: "الضاربك" و"الضارباتك", و"الضاربي" ,"الضارباني، كما قالوا "ضارباك" و"الضارباك" و"الضاربوك" و"الضاربي", قال عبد الرحمن بن حسان [من الخفيف]: 348 - أيها الشاتمي لتحسب مثلي ... إنما أنت في الضلال تهيم ¬
وقوله [من الطويل]: 349 - هم الآمرون الخير والفاعلونه ... [إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما] مما لا يعمل عليه". * * * قال الشارح: قد فُرق بين إضافةِ اسم الفاعل إلى الظاهر وبين إضافته إلى المضمر، فإضافتُه إلى المضمر تقع كالضرورة. وذلك أنّ ما فيه تنوينٌ، أو نونٌ يلزم إضافتُه، لأنّه لا سبيل إلى النصب؛ لأنّ النصب يكون بثُبوتِ التنوين، أو النونِ، نحوَ قولك: "ضاربٌ زيدًا"، و"ضاربان زيدًا"، ومع المضمر لا يثبُت التنوينُ ولا النونُ, لأنّ بينهما معاقَبةً، فلا يجتمِع التنوينُ، أو النونُ مع المضمر، فلمّا لم يجتمعا معه؛ أُضيف اسمُ الفاعل إلى المضمر، ثمّ حُمل ما لم يكن فيه تنوينٌ أو نونٌ في الإضافة على ما هما فيه، ليكون البابُ على مِنهاج واحد، ولا يختلِف. وقوله: "جاء ما فيه تنوينٌ أو نونٌ، وما عَدِمَ واحدًا منهما شَرْعًا في صحّةِ الإضافة"، أي: صار ما فيه تنوينٌ أو نونٌ، وما ليس فيه واحدٌ منهما، يعني التنوينَ والنونَ. وقوله: "شَرْعًا"، أي: سَواءً. يقال: "القومُ في هذا الأمر شَرْعٌ سَواءٌ"، يُحرَّك، ويُسكَّن، ويستوِي فيه الواحدُ والتثنيةُ والجمعُ، والمذكَّرُ والمؤنَّثُ. والمراد أنّه يَتساوَى ما فيه تنوين أو نونٌ، وما ليس فيه واحدٌ منهما في صحةِ الإضافة، وذلك نحو: ¬
"الضاربُك"، و"الضارباتُك"، أضفتَ "الضاربَ"، و"الضارباتِ" إلى ضمير المخاطَب، وليس فيهما تنوينٌ ولا نونٌ. وكذلك تقول: "الضارِبِي"، و"الضارباتِي"، فتُضيفهما إلى ضمَير النفس كما أضفتَ ما فيه تنوينٌ أو نونٌ، نحو قولك: "ضاربُك"، و"الضارِباك"، و"الضارِبوك"، و"الضارِبَيَّ". فحُذف من "ضاربُك" التنوينُ, لأنّه قبل الإضافة "ضاربٌ" منوَّنٌ، و"الضارباك" تثنيةٌ، و"الضاربوك" جمعٌ، وقد حُذف منهما النونُ للإضافة. و"الضارِبَيَّ" تثنيةٌ، وأصلُه "ضارِبَيْن" حُذفتْ نونه للإضافة، ثمّ ادّغمت ياءُ التثنية في ياءُ النفس. ولو كان مرفوعًا، لقيل: "ضاربايَ" بالألف. و"الضارِبِيَّ": جمعٌ. وأصلُه: الضاربون، فلمّا أُضيف إلى ياء النفس حُذفت النون للإضافة، فاجتمعت الواوُ والياءُ، وسبق الأوّلُ منهما بالسكون، فقُلبت الواو ياءً، وادُّغمت الياءُ المنقلِبةُ في ياء الإضافة على حدّ "طَوَيْتُه طَيًّا"، و"شَوَيْتُه شَيًّا". وكذلك تقول في الجرّ والنصبِ، نحوَ: "مررت بالضارِبِيَّ"، و"رأيت الضارِبِيَّ"، وأصلُه "الضارِبينَ" سقطت النونُ لَلإضافة، وادّغمت الياء في الياء. فحاصلُ كلامه أنّه لا يتّصِل باسم الفاعل ضميرٌ إلَّا مجرورٌ، ولا أعرِفُ هذا المذهبَ. وقيل: إنّه رأيَ لسيبويه، وقد حكاه الرُّمّانيُّ في "شرحِ الأصول"، والمشهورُ من مذهبه ما حكاه السِّيرافيُّ في الشرح أنّ سيبويه يعتبِر المضمرَ بالمظهَر في هذا الباب، فيقول: الكافُ في "ضاربوك" في موضعِ مجرور، لا غيرُ. لأنّك تقول: "ضاربو زيدٍ" بالخفض، لا غيرُ، والكافُ في "الضارباك"، "والضاربوك" يجوز أن تكون في موضع جرّ، وهو الاختيارُ، وأن تكون في موضع نصب، لأنّك قد تقول: "الضاربو زيدًا" على مَنْ قال: "الحافِظو عَوْرَةَ العَشِيرَةِ" (¬1) بالنَصب، وهو الاختيارُ. وإذا قلت: "الضاربُك" كانت في موضعِ نصب لا غيرُ، لأنّك لو وضعتَ مكانَه ظاهرًا، لم يكن إلَّا نصبًا، نحو: "الضاربُ زيدًا". وكان أبو الحسن الأخفش، فيما حكاه أبو عثمان الزِّياديّ، يجعل المضمرَ، إذا اتّصل باسم الفاعل، في موضع نصب على كلِّ حال، ويقول: إنّ اتّصالَ الكناية قد عاقبتِ النونَ والتنوينَ، فلا تقول: "ضارِبُنْكَ" بالتنوين، ولا "هما ضاربانك"، ولا "هم ضارِبُونَك"، كما تقول: "هو ضاربٌ زيدًا"، و"هما ضاربان زيدًا"، و"هم ضاربون زيدًا". فلمّا امتنع التنوينُ، والنونُ لاتّصالِ الكناية، صار بمنزلةِ ما لا ينصرف. وهو يعمل من غيرِ تنوين، نحوَ قولك للنساء: "هنّ ضَوارِبُ زيدًا". والجامعُ بينهما أنّ التنوين من ¬
"ضوراب" حُذف لمَنْعِ الصرف، لا للإضافة، وحُذف من "ضاربُك" لاتّصالِ الكناية، لا للإضافة. فهذان المذهبان. فأمّا ما ذكره صاحبُ الكتاب، فمذهبٌ ثالثٌ لا أعرِفُه، وإنّما لزم حذفُ التنوين والنونِ مع علامةِ المضمر المتّصِل, لأنّ علامةَ المضمر غيرُ منفصِلة من الاسم الذي اتّصلت به، ولا يُتكلّم بها وحدَها، وهي زائدةٌ، ومحلُّها آخِرُ الكلمة، كما أنّ النون والتنوين كذلك. فلمّا كان بينهما هذه المُقارَبةُ، تَعاقَبا، فلم يُجمَع بينهما لذلك. فأمّا البيت الذي أنشده وهو [من الخفيف]: أَيُّهَا الشاتِمِي ... إلخ البيت لعبد الرَّحمن بن حَسّان، أنشده شاهدًا على ما ادَّعاه، وزعم أنّ الياء في موضعِ جرّ، والصوابُ أنها في موضعِ نصب، وذلك على رأى سيبويه، وأبي الحسن جميعًا، فأمّا قوله [من الطويل]: هُمُ الآمِرون الخَيْرَ والفاعِلونه ... إذا ما خَشَوْا من مُحْدَثِ الأمر مُعْظِمَا فإنّه أنشده سيبويه، وزعم أنّه مصنوعٌ (¬1)، وموضعُ الشاهد الجمعُ بين النون والضمير في قوله: "الفاعلونه". وحكمُ المضمر أن يُعاقِب النونَ والتنوينَ, لأنّه بمنزلتهما في الاتّصال والضُعْفِ، ومثلُه قول الآخر [من الطويل]: 350 - ولم يَرْتَفِقْ والناسُ مُحْتَضِرُونَهُ ... جَمِيعًا وأَيْدِي المُعْتَفينَ رَواهِقُهْ ¬
فصل [إضافة الأسماء المبهمة]
أنشده سيبويه (¬1)، والشاهدُ فيه أيضًا الجمعُ بين النون والمضمرِ. والوجه: الفاعلوه، ومحتضروه. يصفُه بالبَذْل والعَطاء. يقول غَشِيَه المعتفون - وهم السائلون - واحتضره الناسُ للعَطاء، وجلس لهم جُلوسَ مبتذِلٍ غيرِ متودِّع. فسيبويه يجعل الهاءَ في "الفاعلونه"، و"محتضرونه" كنايةً، ويزعمُ أنّ ذلك من ضرورة الشعر. وكان أبو العبّاس المبرَّدُ يذهَب إلى أنّها هاءُ السَّكْت، وكان حقُّها أن تسقُط في الوصل، فاضطُّرّ الشاعر، فأجراها في الوصل مُجْراها في الوقف، وحرّكها؛ لأنّها لمّا ثبتت في الوصل، أشبهت هاءَ الإضمار، نحوَ: "غُلامه". وكِلاهما ضعيفٌ، والأوّلُ أمثلُ, لأنّ فيه ضرورةً واحدةً. وفي هذا ضرورتان، فاعرفه. فصل [إضافة الأسماء المبهمة] قال صاحب الكتاب: "وكل اسم معرفة يتعرف به ما أضيف إليه إضافة معنوية، إلا أسماء توغلت في إبهامها, فهي نكرات, وإن أضيفت إلى المعارف. وهي نحو: "غير", و"مثل" و"شبه". ولذلك وصفت بها النكرات, فقيل: "مررت برجل غيرك, ومثلك, وشبهك". ودخل عليها "رُبَّ". قال [من الكامل]: 351 - يا رُبَّ مثلك في النِّساء غريرةٍ ... [بيضاء قد متعتها بطلاقِ] ¬
اللهم إلا إذا شهر المضاف بمغايرة المضاف إليه, كقوله تعالي: {غير المغضوب عليهم} (¬1)، أو بمماثلته". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِنّ المضاف يكتسِي من المضاف إليه تعريفَه، إن كان معرفةً, إذا كانت الإضافةُ محضة، نحوَ: "غلامُ زيدٍ"، و"مالُ عمرِو"، وقد جاءت أسماءٌ أُضيفت إلى المعارف، ولم تتعرّف بذلك للإبهام الذي فيها، وأنّها لا تختصّ واحدًا بعينه، وذلك "غَيْرٌ"، و"مِثْلٌ"، و"شِبهٌ". فهذه نكراتٌ، وإن كنّ مضافاتٍ إلى معرفةٍ. وإنّما نَكَّرَهنّ مَعانيهنّ، وذلك لأنّ هذه الأسماء، لمّا لم تنحصِر مغايرَتُها ومماثَلتُها؛ لم تتعرّف. ألا ترى أنّ كلَّ مَن عَداه فهو "غيرٌ"؟ وجهةُ المماثلة والمشابهةِ غيرُ منحصِرة، فإذا قلت: "مِثْلُك"، جاز أن يكون مثلَك في طُولك، وفي لَوْنك، وفي عِلْمك. ولن يُحاطَ بالأشياء التي يكون بها الشيءُ مثلَ الشيء. فلذلك من الإبهام كانت نكراتٍ. فلذلك هذه الأشياءُ كانت مضافات بمعنَى اسم الفاعل في موضعِ "مُغاير"، و"مُماثِل"، و"مُشابِه". كأنّ المماثلة في قولك: "مررت برجلٍ مثْلَكَ" موجودةٌ في وقتِ مُرورك به، فهو للحال، فكان نكرةً كاسم الفاعل إذا أضيف، وهو للحال. ويدل على تنكيره أنّك تصفُ به النكرةَ، فتقول: "مررت برجلٍ غيرِك". فأمّا قوله [من الكامل]: يا رُبَّ مِثْلِكِ في النِّساء غَرِيرَةٍ ... بَيْضاءَ قد مَتَّعْتُهَا بطلاقِ فالبيت لأبي مِحْجَن الثَّقَفيّ، أنشده سيبويه (¬2). والشاهدُ دخولُ "رُبَّ" على "مثلك". و"رُبَّ" لا تدخل إلَّا على نكرة. وغريرةٌ أي: مُغتَرّةٌ بِلينِ العَيْش، غافلةٌ عن صُروفِ الدَّهْر. ومتّعتُها بطَلاقٍ، أي: أعطيتُها شيئًا تستمتِع به عند طلاقها، كأنّه يُهدِّد زوجتَه بذلك. تقول: "مررت برجلٍ مثلك"، أي: صورتُه مشبَّهةً بصورتك، و"مررت برجلٍ غيرِك"، أي: ليس بك، وإنّه لم يمُرّ باثنَيْن، ألا ترى أنّه إذا قال: "مررت بغيرك" بإسقاط المنعوت، جاز أن يكون مرّ بأكثرَ من واحد، فإذا قال: "مررت برجل غيرك"، عُلم أنّه مرّ بواحد لا أكثرَ من ذلك؟ ¬
فصل [نوعا الإضافة المفتوحة]
وقد يكون لهذه الأشياءُ مَعارفَ إذا شُهر المضاف بمُغايرة المضاف إليه، أو بمُماثَلته، فيكون اللفظُ بحالِه، والتقديرُ: مختلِفٌ. فإذا قال القائلُ: "مررت برجلٍ مثلِك، أو شِبْهِك" وأراد النكرةَ، فمعناه: بمُشابِهك، أو مُماثِلك في ضربٍ من ضروب المماثَلة والمشابَهةِ. وهي كثيرةٌ غيرُ محصورة. وإذا أراد المعرفةَ، قال: "مررتُ بعبد الله مثلِك"، فكان معناه: المعروف بشَبَهك، أي: الغالب عليه ذلك. ونحوه قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (¬1) لأنّ المراد بالذين أنعمت عليهم المؤمنون، والمغضوبُ عليهم الكُفّارُ، فهما مختلفان، ونحوُه: "مررت بالمتحرِّك غيرِ الساكن، والقائِم غيرِ القاعد". وأمّا "شَبِيهُكَ" فمعرفةٌ بما أُضيف إليه، وذلك لأنّه علي بناء فَعِيلٍ. و"فَعِيلٌ" بناءٌ موضوعٌ للمبالغة، فكأنّك قلت: "بالرجل الذي يُشْبِهك من جميعِ الجهات". فصل [نوعا الإضافة المفتوحة] قال صاحب الكتاب: "والأسماء المضافة إضافة معنوية على ضربين: لازمة للإضافة, وغير لازمة لها, فاللازمة على ضربين: ظروفٌ وغير ظروف, فالظروف نحو "فوق", و"تحت" و"أمام" و"قدام" و"خلف", و"وراء", و"تلقاء", و"تجاه" و"حذاء",و"حذة", و"عند" و"لدن" و"لدى" و"بين" و"وسط", و"سوى", و"مع", و"دون"". * * * قال الشارح: قد تقدّم أنّ الإضافة على ضربَيْن: لفظيّةٌ ومعنويّةٌ، فالمعنويّةٌ ما كان اللفظُ على الإضافة، والمعنى كذلك، نحو: "غلامُ زيد"، و"ثوبُ خَزّ"، واللفظيّةُ ما كان اللفظُ على الإضافة، والمعنى بخلافها، نحو "ضاربُ زيد غدًا"، فهذه إضافةٌ لفظيّةٌ لا غيرُ, لأنّ المعنى: "ضاربٌ زيدًا غدًا"، فما كان من الإضافة كذلك، فإنّها لا تقع لازمةً ألبتّةَ، لأنّها إنّما تضاف لضربٍ من التخفيف، والنيّةُ غيرُ الإضافة. وما كان منها معنويًّا، فهو على ضربَيْن: يكون لازمًا، وغيرَ لازمٍ، وذلك أنّ من الأسماء ما يلزم الإضافةَ، ويغلِب عليها, ولا يكاد يُستعمل مُفرَدًا وذلك ظروفٌ وغير ظروف، فمن الظروف الجِهاتُ الستُّ، وهي "فَوْقَ"، و"تَحْتَ"، و"أَمَامَ"، و"قُدّامَ"، و"خَلْفَ"، و"وراءَ"، و"تِلْقاءَ"، و"تِجاهَ"، و"حِذاءَ"، و"حِذةَ". فهذه الظروفُ تلزم الإضافةَ، وإنّما لزمت الإضافةُ هذه الأشياءَ, لأنّها أُمورٌ نِسْبيّةٌ، فإنّ "فَوْقًا" يكون بالنسْبة إلى شيءٍ فَوْقًا، و"تحتًا" بالنسبة إلى شيءٍ آخرَ، وكذلك "أَمام" وسائرُها، فلزمتها الإضافة للتعريف وتحقيقِ الجهة. ¬
وقال أبو العبّاس المبرّدُ: إنّما لزمت هذه الظروفُ الإضافةَ لعدمِ إفادتها مفردةً، ألا ترى أنّك إذا قلت: "جلستُ خلفًا"، فالمخاطبُ يعلم أنّ كلَّ مكان لا بدّ أن يكون خلفًا لشيء، فإذا أضفتَه، عُرف، وحصل منه فائدةٌ. وقال الكوفيون إنّما لزمَتِ الإضافةَ لأنّها تكون أخبارًا عن الاسم، كما يكون الفعلُ خبرًا عن الاسم إذا قلت: "زيدٌ يذهَب، ويركَب"، فلمّا كان الفعلُ يحتاج إلى فاعلٍ، وقد يتّصِل به أشياءُ يقتضيها من المصدر، والمكانِ، والزمانِ، والمفعول، ألزموا الظرفَ الإضافةَ، ليسُدّ المضافُ إليه مَسَدَّ ما يطلُبه الفعلُ، ويدلّ عليه. فإذا أُفردت، وقيل: "قام زيدٌ خَلْفًا"، و"ذهب عمرٌو قُدّاما"، فهو عند البصريين نصبٌ على الظرف، كما يكون مضافًا، نحوَ "قام قُدّامَك" و"ذهب خَلْفَك"، إلَّا أنّه مبهمٌ منكورٌ، كأنّك قلت: "قام خَلْفَ غيرِه"، و"ذهب قدّامَ شيءٍ". ومنع الكوفيون من ذلك، وقالوا لا تكون ظروفًا إلَّا مضافةً، وإذا أُفردت، صارت أسماءً، وكانت في تقديرِ الحال، كأنّه قال: "قام متأخَّرًا وذهب متقدمًا". وفائدة الخلاف تظهر في الخبر، فعند البصريين تقول: "زيدٌ خَلْفًا، وعمرو قدامًا"، فيكون خبرًا، كما يكون مضافًا. والكوفيون يرفعون، ويقولون: زيدٌ خَلْفٌ، أي: متأخر، وقُدّامٌ أي متقدِّمٌ. ويكون الخبرُ مفردًا هو الأوّلَ كما تقول: "زيدٌ قائمٌ". ومن ذلك "عِنْدَ" و"لَدُنْ" و"لَدَى"، وهي ظروفٌ، معناها القُرْبُ والحَضْرَةُ، ولذلك لزمتِ الإضافةَ للبَيان، إذ كانت مبهمةً، لأنّها لا تختصّ مكانًا معيَّنًا, لأنّ القرب والمُجاوَرَة أمرٌ إضافيٌّ، إذ الشيءُ يكون قريبًا من شخصٍ، بعيدًا من آخرَ. وهي لابتداءِ الغاية في الزمان والمكان، وذلك قولك: "من لَدُنْ صَلاة العَصْر إلى وقتِ كذا". و"من لدن الحائط إلى مكانِ كذا" فهي مشترِكةٌ في البابَيْن، وليست كـ "مُنْذُ" الذي هو ابتداءُ غايةِ الزمان، ولا كـ "مِنْ" الذي هو ابتداءُ غايةِ المكان. وفي "عند" لغتان: "عَنْدَ"، و"عِنْدَ"، بفتح العين، وكسرها، و"لَدُنْ" في معنى "عند"، إلاّ أنّ "عند" معربةٌ، و"لدن" مبنيّةٌ. وفي "لدن" ثَماني لغاتٍ، يقال: "لَدُنْ" و"لَدَى"، و"لَدَنْ" و"لَدُ" بفتح الفاء وضمِّ العين، و"لُدُ" بضمّهما، و"لَدْنِ" بفتح الفاء وسكونِ العين وكسرِ النون، و"لَدْنَ" بفتح النون، و"لَدْ" بفتح الفاء وسكون العين. فأمّا "لَدُنْ" بفتح الفاء، وضمّ العين؛ فهو الأصلُ، لكثرته ووُرودِ التنزيلِ به، ومن قال: "لَدَنْ"، فوَجْهُه أنّه أَسكن العينَ في "لَدُنْ"، كما أسكنها في "عَضُدٍ" و"عَجُزٍ"، فالتقى بعد الحذف ساكنان: الدالُ والنونُ، فحُرّك الأوّل بالفتح كما حُرّك الأوّل منهما بالفتح، في قولهم: "اضْرِبَنْ"، إذا دخلت النونُ الخفيفةُ في "اضْرِبْ". وأمّا "لَدَى"، فلغةٌ قائمةٌ بنفسها ليست من لفظِ "لَدُنْ"، والقياسُ في ألفها أن لا
تكون أصلاً. فأمّا انقلابها مع المضمر ياء؛ فعلى التشبيه بألفِ "عَلَى" و"إِلَى" على ما سيُوضَح أمره إن شاء الله تعالى. وأمّا "لَدُ" بالضمّ؛ فمحذوفةٌ من "لَدُنْ". قال الراجز: 352 - يَسْتَوعِبُ البَوْعَيْن مِن جَرِيره ... مِن لَدُ لَحْيَيْهِ إلى حُنْجُوره والذي يدلّ أنّها منتقِصةٌ منها أنّها لو كانت أصلاً على حِيالها, ولم تكن مخفَّفةً من "لَدُنْ"، لكانت ساكنةً على أصل البناء، ومثلُه قولهم: "رُبَ"، و"رُبَّ" مخفَّفةً، ومشدَّدةً، أبقوا حركتَها بعد الحذف، ليكون ذلك دلالةً على أنّها منتقصةٌ من غيرها, وليست أصلاً قائمًا بنفسه. ومن قال "لُدُ" بضمّ الفاء، والعين فإنّه أتبع الضمَّ الضمَّ بعد حذفِ اللام. ومن قال "لَدْنِ" بفتح الفاء، وسكون العين، وكسر النون؛ فإنّه كسر النونَ لالتقاء الساكنَيْن بعد حذفِ حركةِ العين، وذلك على أصلِ التقاء الساكنَيْن. ومَن فتح النونَ؛ فهو لالتقاء الساكنَيْن، وقَصْدِ التخفيف، كـ "أَيْنَ" و"كَيْفَ". وأمّا من قال: "لَدْ" بسكون الدال، وفتح الفاء، فإنّه بناءٌ على السكون بعد الحذف، جعلها قائمةً بنفسها. فإن قيل: ولِمَ بُنيتْ "لَدُنْ"، ولم تكن معربةً كـ "عِنْدَ"؟ قيل: لمّا لم يتجاوزوا بـ "لَدُنْ" حَضْرَةَ الشيء، والقُرْبَ منه، ولم يتصرّفوا فيه بأكثرَ من ذلك، جرتْ مجرَى الحرف الموضوع بإزاءِ معنى، لا يتجاوزُه، فبُنيت لذلك كبِنائه. وأمّا "عِنْدَ" فتَوسّعوا ¬
فيها، وأوقعوها على ما بحضرتك، وما يبعُد، وإن كان أصلُها الحاضرَ، فقالوا: "عندي مالٌ"، وإن كان غائبًا في بَلَدٍ آخرَ. فلمّا دخلها من التمكُّن والتصرُّفِ ما ذكرناه، فارَقَتِ الحروفَ، فأعربت لذلك. ومن الظروف "بَيْنَ"، و"وَسْطَ" و"سِوَى" و"مَعَ" و"دُونَ"، كلُّها تلزمها الإضافةُ. فأمّا "بَيْنَ" فهو ظرفٌ من ظروفِ الأمكنةِ بمعنَى "وَسْطَ"، ولذلك يقع خبرًا عن الجُثَّة، نحو قولك: "الدارُ بينَ زيدٍ وعمرٍو"، و"المالُ بين القوم". وهي تُوجِب الاشتراكَ من حيثُ كان معناها "وَسْطَ"، والشركةُ لا تكون من واحد، وإنّما تكون بين اثنين فصاعدًا، نحوَ: "المالُ بين الزيدَيْن"، و"الدارُ بين القوم". فإن أضفتها إلى واحد، وعطفتَ عليه بالواو جاز نحوَ "المالُ بين زيد وعمرو", لأنّ الواو لا تُوجِب ترتيبًا, ولو أتيتَ بالفاء، فقلت: "المالُ بين زيد فعمرٍو"، لم يحسُن, لأنّ الفاء توجب الترتيبَ، وفَصْلَ الثاني من الأوّل. فأمّا قول امرىء القيس [من الطويل]: 353 - [قفا نَبكِ من ذكرى حبيبٍ ومَنْزِلِ ... بِسَقْطِ اللِّوى] بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ ¬
فقد عابه الأصمعيُّ، ورواه بالواو. وحُجَّةُ مَن رواه بالفاء أنّ "الدَّخُول"، و"حَوْمَلَ" موضعان يشتمِل كلُّ واحد منهما على أماكِنَ كالشَام والعِراق. فلو قلت: "عبدُ الله بين الدخول" تريد: بين مواضعِ الدخول لَتَمَّ الكلامُ وصَلَحَ، كما تقول: "سِرْنا بين الشام"، والمراد بين مواضع الشام، فعلى هذا قال: "بين الدخول"، أي: بين مواضع الدخول، ثمّ عطف بالفاء فقال: "فَحَوْمَلِ". وأمّا "وَسْطَ"، فيكون اسمًا وظرفًا. فإذا أردتَ الظرفَ أسكنتَ السينَ، وإذا أردتَ الاسمَ، فتحتَ، فتقول: "وَسْطَ رأسِك دُهْنٌ"، إذا أخبرت أنّه استقرّ في ذلك الموضع؛ أسكنتَ السين، ونصبتَ، لأنّه ظرفٌ، وتقول: "وَسَطُ رأسِك صُلْبٌ" فتحتَ السين ورفعت, لأنّه اسمٌ غيرُ ظرف، وتقول: "حفرتُ وسْطَ الدار بئْرًا" بسكونِ السين، كأنّ البئر في بعضِ الوَسَط. وتقول: "ضربتُ وَسَطَهُ" لأنّه مفعولٌ به. وأمّا "سِوَى"، و"سَوَاء" مقصورًا وممدودًا، فبمعنى واحدٍ. وذلك أنّك إذا قلت: "عندي رجلٌ سِوَى زيدٍ"، فمعناه: "عندي رجلٌ مكانَ زيد"، أي: يسُدّ مَسَدَّهُ، ولزم الإضافةَ, لأنّ معناه معنَى "غَيْرٍ"، وقد تقدّم الكلام عليهما. وأمّا "مَعَ"، فهو ظرفٌ من ظروفِ الأمكِنة، ومعناه المُصاحَبةُ. والذي يدلّ على أنّه اسمٌ أنّه إذا أُفرد نُوّن، فيقال: "جاءَا مَعًا". و"أَقْبَلَا مَعًا"، وربّما أدخلوا عليه حرفَ الجرّ، قالوا: "جئتُ مِن مَعِهِ"، أي: من عِنْدِهِ. ولو كان أداةً، لكانت ساكنةَ الآخِر على حدِّ "هَلْ"، و"قَدْ"، و"بَلْ"، إذ لا عِلَّةَ تُوجِب الفتح، وربّما ذُهب بها مذهبَ الحرف، فسُكّن آخِرُها. قال الشاعر [من الوافر]: 354 - فَرِيشِي مِنْكُمُ وهَوايَ مَعْكُمْ ... وإن كانت زِيارَتُكُمْ لِمامَا ¬
لمّا اعتقد فيها الحرفيّة سكّنها. والقياسُ فيها أن تكون مبنيّة لفَرْطِ إبهامها، كـ "لَدُنْ"، و"حَيْثُ". وإنّما أُعربت ونُصبت على الظرفيّة، لأنّهم تَصرَّفوا فيها على حدّ تصرُّفهم في "عِنْدَ"، فيقولون: "مَعِي مالٌ"، أي: هو في مِلْكِي، وإن كان غائبًا، كما يُقال: "عِنْدِي مالٌ". وأمّا "دُونَ"، فلها معنيان: أحدهما الظرفيّةُ في معنى المكان تشبيهًا بالمكان، فيقال: "زيدٌ دونَ عمرٍو في الشَّرَف، والعِلمِ، وفي الخَيْر ونحو ذلك". جُعل هذه الأشياءُ مَنازِلَ يَعْلُو بعضُها بعضًا، كالأماكن التي بعضُها أعْلَى من بعض، وجُعل بعضُ الناس في موضعٍ من الشرف أو من العلم، وهذه لا تكون إلَّا ظروفًا منصوبةً. والموضع الآخر: لـ "دُونَ" أن تكون اسمًا صفةً بمعنَى حَقِيرٍ ومسترذَلٍ، فتقول: "ثَوْبٌ دُونٌ"، أي: رَدِيٌّ. ويقال: "هذا دونُك"، أي: حقيرُك، ومستر ذَلُك. ويُمكِن أن يكون هذا القِسْمُ هو الأوّل، واستُعمل اسمًا توسُّعًا لضربٍ من التأويل، لأنّك إذا جعلتَه في مكانٍ أسفلَ من مكانك، صار بمنزلةِ "أسفلَ"، و"تحتٍ"، و"أسفلُ" و"تحتٌ" قد يجوز رفعُهما في الشعر. قال لَبِيدٌ [من الكامل]: فَغَدَتْ كِلَا الفَرْجَينِ تَحْسَبُ أنّه ... مَوْلَى المَخافَةِ خَلْفُها وأَمامُها (¬1) على أنّ "أسفل" إذا كان نقيضَ "أَعْلَى"، كان متمكِّنًا، تقول: "هذا أسفلُ الحائط"، و"هذا أعلاهُ"، كما تقول: "هذا رأسُه"، و"هذا آخِرُه". * * * قال صاحب الكتاب: "وغير الظروف نحو: "مثل", و"شبه", و"بيدٍ", و"قيد", و"قداً", و"قاب", و"قيسٍ", و"أي", و"بعض", و"كل" و"كلا", و"ذو" ومؤنثه, ومثناه, و"مجموعه, و"أولو",و"أولات", و"قد" و"قط", و"حسب". وغير اللازمة, نحو: "ثوب", و"فرس" و"دار", وغيرها مما يضاف في حال دون حال. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ من الأسماء أسماءً غيرَ ظروف، تضاف إلى ما بعدها، وهي على ضربَيْن: لازمةٌ للإضافة، وغيرُ لازمة. فاللازمةُ نحو: "مِثْلٍ"، و"شِبْهٍ"، و"نَحْوٍ"، و"غَيْرٍ"، ونحوِها ممّا ذكرها صاحبُ الكتاب. وأمّا "مِثْلٌ" و"شِبْهٌ" فبمعنًى واحدِ، و"غيرٌ" و"بَيْدٌ" بمعنى واحد، و"قِيد" و"قِدًا" و"قابٌ" و"قِيسٌ" بمعنَى مقدارِ الشيء. يقال: "بيني وبينه قيدُ رُمْحٍ، وقابُ رمح، وقيسُ رمح". قال الله تعالى: {قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} (¬1). و"قيسُ رمح" بمعنَى: قَدْرِ رمح. والقَدَرُ والقَدْرُ بالفتح والسكون واحدٌ، وهو مَبْلَغُ الشيء. فهذه الأسماءُ كلُّها تلزم الإضافةَ، ولا تُفارِقها. وإذا أُفردتْ كان معناها على الإضافة، ولذلك لا يحسُن دخولُ الألف واللام عليها، فلا يقال "المِثلُ"، ولا "الشِّبْهُ"، ولا "الكُلُّ"، ولا "البَعْضُ", لأنّ ذلك كالجمع بين الألف واللام، ومعنى الإضافة من جهةِ تضمُّنها معنى الإضافة. فصارت الإضافةُ فها كالملفوظ بها، وذلك من قِبَل أنّ "مِثْلًا" يقتضي مُماثِلًا، و"شِبْهًا" يقتضي مُشبَّهًا به، وكذلك سائرُهما من نحو "قيد"، و"قدًا"، و"قاب"، و"قيس" كلُّها مَقاديرُ لا تُذكَر إلاّ مع المقدَّر به. وكذلك "أَيٌّ"، و"بعضٌ"، و"كلٌّ"، و"كِلًا"، الإضافة فيها لازمةٌ؛ أمّا "أَيٌّ"، فإنّها اسمٌ مبهمٌ يقع على كلّ شيء ممّن يعقِل، وما لا يعقل من حَيَوان، وغيرِه، فافتقر إلى الإضافة للإيضاح، كافتقارِ الموصول إلى الصلة، وهي بعضُ ما أُضيفت إليه. فإذا قلت: "أيُّ القوم"، كانت من القوم، وإذا قلت: "أَيُّ الثِّياب" فهي من الثياب. فلُزومُها الإضافةَ لذلك. و"بَعْضٌ" يُفيد البعضيّةَ، فهو يقتضي الشيءَ المبعَّضَ. و"كُلٌّ" اسمٌ لأَجْزاءِ الشيء، فهو يقتضي المجزَّأَ، و"كِلا" اسمٌ مفردٌ عندنا معناه التثنيةُ، ولا يدلّ بلفظه على جنسِ ذلك المثنَّى، فلزمت إضافتُه إلى جنسه، ليُعْلَمَ، نحوَ: "جاءني كِلَا أَخَوَيْك"، و"رأيت كلا أخوَيْك"، و"مررت بكلا أخويك"، ويكون تأكيدًا للمثنّى، نحو: "جاءني الرجلان كِلاهما"، و"رأيت الرجلَيْن كِلَيْهما"، و"مررت بالرجلَيْن كِلَيْهما"، فتلزم إضافتُها إلى ضميرِ المؤكَّد ليُعلَم أنّها تأكيدٌ له، وليست اسمًا شائعًا، بخلافِ "أَجْمَعَ"، و"أجْمَعِينَ"، ونحوِهما، فإنّها لا تَلِي العواملَ، ولا تكون إلَّا تأكيدًا، فاستغنتْ عن الإضافة. ومنها "ذُو" التي بمعنَى صاحبٍ، فإنّك تقول: "هذا رجلٌ ذو مالٍ"، و"رأيت رجلًا ذَا مال"، و"مررت برجلٍ ذي مال"، أي: صاحب مال. وتقول في التثنية: "هذان رجلان ذَوَا مال"، وأصلُه "ذَوَانِ"، وإنّما حُذفت نونُه للإضافة، وفي النصب والجرّ، نحوَ: "رأيت رجلَيْن ذَوَيْ مال"، و"مررتُ برجلَيْن ذَوَيْ مال". وتقول في الجمع: "هؤلاء رِجالٌ ذَوُو مال"، و"رأيت رجالًا ذَوِي مال"، و"مررت برجالٍ ذَوِي مال". وأصلُه "ذَوُونَ"، و"ذَوِينَ", لأنّه جمعُ سَلامة. وإنّما حُذفت نونُه للإضافة، وإنّما جُمع جمعَ السلامة, لأنّه ¬
وُصف به من يعقِل، فجرى مجرَى "مُسلمين"، و"صالحين". وتقول في المؤنّث "ذاتٌ"، نحُو: "هذه امرأةٌ ذاتُ جَمالٍ ومالٍ". والتثنيةُ: "ذَوَاتَا". قال الله تعالى: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} (¬1). والجمعُ "ذَوَاتٌ" و"أُولُو" أيضًا جمعَ سلامة، والواحدُ "ذُو". قال الله تعالى: {نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ} (¬2). وقال الله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} (¬3). والمؤنّثُ "أُولاتُ". وقال تعالى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} (¬4). جاء الجمعُ ههنا على غيرِ واحده المستعملِ. وقياسُ واحده "أُلٌ" مثلُ "عَم"، و"شَجٍ"، فهي في السلامة بمنزلةِ "المَذاكير" و"المَلامحِ" في التكسير، جاء على ما لم يُستعمل. وإنّما لزمتْه الإضافةُ, لأنّ المضاف إليه هنا هو المقصودُ. وذلك أنّهم أرادوا وَصْفَ الأسماء بالأجناس، نحوَ: "هذا رجلٌ مالٌ"، فلم يَسُغ ذلك، فأتوا بـ "ذِي" التي بمعنى صاحب، وأُضيفت إلى اسم الجنس، وجعلوها وُصْلَةً إلى وصفِ الأسماء بالأجناس، كما كانت "أَيٌّ" وصلةً إلى نداءِ ما فيه الألفُ واللام. وكانت الإضافةُ لازمةً، كما كان النعتُ لازمًا، لـ "أيِّ" في النداء، نحوِ: "يا أَيُّهَا الرجلُ"، و"يا أَيُّهَا الغلامُ". ومن ذلك "قَدْ"، و"قَطْ"، و"حَسْبُ" كلُّها بمعنى واحد إلَّا أن "قَدْ" و"قَطْ" مبنيّان على السكون، و"حَسْبُ" معربةٌ. وذلك من قِبَل أنّ "قد"، و"قط" وقعا موقعَ فِعْلٍ الأمر في أوّل أحوالهما، فبُنِيَا كبِنائه. تقول: "قَدْكَ درهمان"، و"قَطْكَ ديناران"، أي: اكتَفِ بذلك، واقْطعْ. و"حَسْبُ" اسمٌ متمكِّنٌ أُريد به معنى الفعل بعدَ أن وقع منصرِفًا, ولم يُوقَع موقعَ الفعل في أوّلِ أحواله. ألا ترى أنّك تقول: "أَحْسَبَني الشيءُ إحسابًا" أي: كَفاني، ويقال: "هذا لك حِسابٌ" أي: كافٍ؟ قال الله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} (¬5)، فانصرف "حَسْبُ" ولم يُبْنَ كِبناءِ "قَدْ"، و"قَطْ". واشتقاقُ "قَدْ" من "قَدَدْتُ الشيء". واشتقاقُ "قَطْ" من "قططتُ الشيءَ" إذا قطعتَه، فأصلُهما لذلك التثقيلُ، وإنّما خُفّفتا بحذفِ لامَيْهما، وغلب عليهما التخفيفُ لكثرةِ استعمالهما. وإنّما لزمت هذه الأسماءُ الإضافةَ، لأنّها واقعةٌ موقعَ فعلِ الأمرِ. وفعلُ الأمر لا بد له من فاعل، ولم تكن هذه الأسماء ممّا يَرْفَع، فأُضيفت إلى الفاعل. فإذا قلت: "قَدْكَ"، و"قَطْكَ"، فكأنّك قلت: "اكْتَفِ"، و"اقْطَعْ"، فالفاعلُ مضمرٌ. وإذا قلت: "قَدْ زيدٍ"، أو "قَطْ عمرِو"، فكأنّك قلت: "لِيَكْتَفِ زيدٌ، أو عمرٌو بذلك". وقد يدخل "قَدْ"، و"قَطْ" نونُ الوِقاية، فيقال: "قَدْنِي"، و"قَطْني" مُحافَظةً ¬
على سكونهما، وصِيانَةً لآخِرهما عن الكسر، كما قالوا: "مِنِّي"، و"عَنِّي"، فأتوا فيهما بنون الوقاية. قال الشاعر [من الرجز]: 355 - امْتَلأَ الحَوْضُ وقال قَطْنِي ... مَهْلاً رُوَيدًا قد مَلأْتَ بَطْنِي وقال الآخر [من الرجز]: 356 - قَدْنِيَ من نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِي ... [ليسَ الإمامُ بالشَّحيحِ الملحِدِ] ¬
["أي" المضافة]
فأتى بنون الوقاية، وتَرْكِها. وربّما استعملوا "قَطْ" و"حَسْبُ" مفردَيْن من غير إضافة، فقالوا: "رأيتُه مرَّةً واحدةً فَقَطْ"، و"أعطاني دينارًا فحَسْبُ"، أي: اكْتَفِ بذلك، واقْطَعْ. والإضافةُ أكثرُ، وأغلبُ، فاعرفه. وأمّا الإضافة غيرُ اللازمة، ففي أكثرِ الأسماء، نحو: "ثَوْبٍ"، و"دارٍ" وغيرِهما من الأسماء المنكورة ممّا يضاف في حال دون حال. وذلك على حسبِ إرادةِ المتكلّمِ، فإذا قال: "رأيت ثَوْبًا"، فقد أخبرَ عن واحد من الثِياب غيرِ معيَّن، وكذلك "رأيت دارًا". وإذا قال: "رأيت ثوبَ خَزٍّ"، فقد أخبر عن ثوب من هذا الجنس دون غيره، فهو أخصُّ من الأوّل. وإذا قال: "ملكتُ دارَ زيدٍ"، فقد أخبر عن واحدةٍ بعينها معرفةٍ فاعرفه. * * * [" أيّ" المضافة] قال صاحب الكتاب: "و"أيٌّ" إضافته إلى اثنين فصاعدًا, إذا أضيف إلى المعرفة كقولك: أي الرجلين وأي الرجال. عندك، وأيهما وأيهم, وأي من رأيت أفضل، وأي الذين لقيت أكرم. وأما قولهم أيي وايك كان شرًا فأخزاه الله، فكقولك اخزي الله الكاذب مني ومنك وهو بين وبينك، والمعنى أينا ومنا وبيننا. قال العباس بن مرداس [من الوافر]: 357 - فأيي ما وأيك كان شراً ... فقيد إلى المقامة لا يراها ¬
واذا أضيف إلى النكرة أضيف إلى الواحد والاثنين والجماعة كقولك: أي رجل وأي رجلين وأي رجال، ولا تقول: أيا ضربت وبأي مررت إلا حيث جرى ذكر ما هو بعض منه كقوله عز وجل: {أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} (¬1) ,ولا ستيجابه الإضافة عوضوا منها توسيط المقحم بينه وبين صفته في النداء". * * * قال الشارح: اعلم أنّ "أَيًّا" إنّما تقع على شيءٍ هي بعضُه، وذلك قولك: "أَيُّ أَخَوَيْك زيدٌ"، فقد علمتَ أنّ زيدًا أحدُهما, ولم تَدْرِ أَيُّهما هو. وهي في الكلام على ثلاثةِ أضرب: الاستفهامُ، والجزاء، وبمعنَى "الَّذِي"، فإذا كانت استفهامًا أو جزاءً، كانت تامّةً، ولم تحتجّ إلى صلةٍ، إنّما تحتاج إلى الصلة إذا كانت موصولةً لا غيرُ، كما تحتاج "الذِي" و"مَنْ" و"مَا" إذا كانت موصولةً، وهي موضوعةٌ على الإضافة، لأنّها في الأحوال الثلاثة بعضُ ما أضيفت إليه، فلا تُفيد إلَّا بذكرِ المضاف إليه، وهذا المعنى يوجِب أن لا يكون المضافُ إليه إلَّا ممّا يتبعّضُ. ولا تقتضي جوابًا، إلَّا إذا كانت استفهامًا، وجوابُها التعيينُ, لأنّها في الاستفهام مفسَّرةٌ بالهمزة، و"أَمْ". فإذا قلت: "أَيُّ الرجلَيْن عندك؟ " فمعناه "أزيدٌ عندك أم عمرٌو؟ " فكما يلزم الجوابُ في الهمزة و"أَمْ" إذا قلت: "أزيد عندك أم عمرو؟ " والتعيينُ، فتقول: "زيدٌ أو عمرٌو" ولا يكفِي "لَا" أو "نَعَمْ"، كذلك يلزم في "أَيّ", لأنّ المعنى واحدٌ. ولو قلت: "هل زيدٌ منطلقٌ أم عمرٌو" أو نحوَهما من أَدَواتِ الاستفهام، لم يكن لـ "أيّ" ههنا مَدْخَلٌ، فلذلك كانت "أَيٌّ" واقعةً على كل جملة إذا كانت بعضًا لها. فعلى هذا يجوز إضافتُها إلى المعرفة والنكرة، فإذا أضيفت إلى المعرفة؛ وجب أن ¬
تكون تلك المعرفةُ ممّا يتبعّضُ، وذلك بأن تكون المعرفة: إمّا تثنيةً، أو جمعًا، نحوَ قولك: "أيُّ الرجلَيْن عندك"، و"أيُّ الرّجال"، و"أيَّهما رأيتَ"، و"أيُّهم مررتَ به". وتقول: "أيُّ مَن رأيتَ أفضلُ", لأنّ "مَنْ" قد تعنى بها الكثرةَ، وإن كان لفظُها واحدًا. قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (¬1)، وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} (¬2)، فحُمل مرّةً على اللفظ، ومرّةً على المعنى. ومنه قولُ الشاعر [من الطويل]: 358 - تَعَشَّ فإِنْ عاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَن يا ذِئْبُ يَصْطَحِبانِ ثَنَّى العائدَ حين عَنَى اثنين، ولا يكون "مَنْ" في قولك: "أَيُّ مَن رأيتَ أفضلُ" إلَّا موصولةً لا غيرُ، والعائدُ محذوفٌ، والتقديرُ: رأيتَه، كقوله سُبحانَه: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬3)، والمعنى: بَعَثَهُ، ولا يكون "مَن" استفهامًا هنا, ولا جزاءً, لأنّ "أيًّا" لا يضاف إلى الجُمَل. فأمّا تمثيلُه بـ "أيُّ الذي لقيتَ أَكرمُ"، ففيه نَظَرٌ. والصوابُ: "أيُّ اللذَيْن أو الذين" بلفظ التثنية، أو الجمع. وإن صحّت الروايةُ عنه بلفظِ الواحد، فمُجازُه أنّ "الّذِي" قد يراد ¬
بها الكثرةُ، نحو قوله تعالى: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} (¬1)، فعاد الضميرُ إلى "الذي" مرّةً مفردًا، ومرّةً مجموعًا، كما كان في "مَنْ" كذلك، وهو قليلٌ في "الذي". ولو قلت: "أَيُّ زيدٍ أحسنُ"، فمُجازُه من وجهَيْن: أحدُهما أن يريد النكرةَ لمُشارِكٍ له في اسمه، فأجراه مُجرى الأنواع، نحوِ: "رجلٍ"، و"فرسٍ"، كما أجراه كذلك وأدخل عليه الألفَ واللام في قوله [من الرجز]: بَاعَدَ أُمَّ العَمْرِو مِن أَسِيرها ... حُرّاسُ أَبْوابٍ على قُصُورها (¬2) والوجه الثاني: أن يريد: أيُّ شيءٍ من أعضائه أحسنُ: أَعَينُه، أم أَنْفُه، أم حاجِبُه، ونحو ذلك. فأمّا قولهم: "أَيّى وأَيُّكَ كان شَرًّا، فأخزاه اللَّهُ"، فأضاف "أيًّا" إلى المضمر الذي هو ضميرُ النفس، وهو معرفةٌ، فإنما سوّغ ذلك أنّه عطف عليه ضميرَ المخاطَب بإعادةِ الخافض بالواو. الواوُ لا تدلّ على الترتيب، وإنمّا تجمع بين الشيئيْن، أو الأشياءِ فقط، وصار ذلك بمنزلةِ التثنية والجمع، كأنّك قلت: "أَيُّنَا". فهو كقولك: "أخزى اللَّهُ الكاذبَ منّي ومنك"، والمراد: منّا. وكقولك: "هو بَيْني وبينك"، والمراد: بيننا. والفرقُ بينهما أنّك إذا قلت: "أَيُّنَا"، فقد اشتركا في "أيٍّ". وإذا قلت: "أَيِّي وأَيُّكَ"، فقد أخلصتَه لكلٍّ واحد منهما. فهو أبلغُ. فأمّا بيتُ العَبّاس بن مِرْداسٍ [من الوافر]: فأَيّى ما وأَيُّكَ كان شَرًّا ... إلخ. وبعده: ولا وَلَدَتْ لهم أبَدًا حَصانٌ ... وخالَفَ ما يُرِيدُ إذا بَغَاها فالشاهد فيه إفرادُ "أَيٍّ" لكل واحد من الاسمَيْن، وإخلاصُه له توكيدًا، والمستعمَلُ إضافتُه إليهما معًا، فيقال "أَيُّنَا"، والمرادُ: أيّنا كان شرًّا من صاحبه، فقِيدَ إلى المقامة لا يَراها. أي: أعماه اللَّهُ. والمَقامةُ: جماعةُ الناس. وقولُه: "لا يراها" أي: يَعْمَى عن رُؤْيَتهم. ويروى: إلى المَنِيَّة، أي: جاءته المنيّةُ، ويدعو عليهم في البيت الثاني بانقطاعِ النَّسْل، ومثلُه قولُ جُمَيْحٍ [من الطويل]: 359 - وقد عَلِمَ الأقْوامُ أيَّي وأَيُّكُم ... بَنِي عامِرٍ أَوْفَى وَفاءً وأَكْرَمُ ¬
وقولُ خِداشِ بن زُهَيُر [من الكامل]: 360 - ولَقَدْ عَلِمْت إذا الرجالُ تَناهَزُوا ... أَيّي وأَيُّكُم أَعَزُّ وأَمْنَعُ المراد أَيُّنَا، وهو كثيرٌ. وإذا أضيف إلى النكرة، أضيف إلى الواحد والتثنية والجمع، فتقول: "أَيُّ رجلٍ" و"أيُّ رجلَيْن"، و"أَيُّ رجالٍ". وإنّما جاز إضافتُه إلى الواحد المنكورِ ههنا من حيثُ كان نوعًا يعُمّ أشخاصَ ذلك النوعِ، فهو يشمَل كلَّ من يقع عليه ذلك الاسمُ، فلذلك جازت إضافتُه إليه. وقد يُفرَد "أَيٌّ" إذا تقدّم ذكرُ ما هو بعضٌ منه، نحوَ قوله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ¬
فصل [حكم ما يضاف إليه "كلا"]
ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1). أفردَ "أَيًّا" ههنا, لأنّه أحدُ الاسمَيْن المذكورَيْن. ومعناه: أَيَّ الاسمَيْن دعوتم اللَّهَ، فله الأسماءُ الحسنى. ولو قلت: "أيًّا ضربتَ"، أو "بأَيِّ مررتَ"، لم يجز, لأنّه لم يتقدّم ما يُسدّ مسدَّ المضاف إليه. ولغَلَبةِ الإضافة عليه لمّا جاؤوا بـ "أَيّ" وُصْلةً إلى نداءِ ما فيه الألفُ واللام غيرَ مضافة؛ عوّضوه من الإضافة هاءَ التنبيه بعده قبلَ صفته، نحوَ: "يا أَيُّهَا الناسُ"، و"يا أيّها الرجلُ". وقوله: "ولاستِيجابه الإضافةَ" يريد لُوجوبها له. فالاستيجابُ مصدرٌ بمعنى الُوجوب، كالاستقرار بمعنى القَرار، وفعلُه اسْتَوْجَبَ، كقولكم: "اسْتَوْهَبَ اسْتِيهَابًا"، و"اسْتَوْعَبَ اسْتِيعَابًا". وقوله: "توسيط المُقْحَم" يعني بالمقحم هاءَ التنبيه. "بينه"، أي: بين "أَيٍّ"، وصفتِه، فـ "ها" تنبيهٌ، وهي عِوَضٌ من لفظِ الإضافة، ولُزومُ الصفة عوضٌ من معناها، فاعرفه. فصل [حكم ما يضاف إليه "كلا"] قال صاحب الكتاب: وحق ما يضاف إليه "كلا" أن يكون معرفة ومثنى, أو ما هو في معنى المثنى، كقوله [من الوافر]: 361 - فإن الله يعلمني ووهبًا ... ويعلم أن سيلقاه كلانا ¬
وقوله [من الرمل]: 362 - إن للخير وللشر مدى ... وكلا ذلك وجه وقبل ونظيره {عوان بين ذلك} (¬1). ويجوز التفريق في الشعر, كقولك: "كلا زيد وعمرو". وحكمه إذا أضيف إلى الظاهر أن يجري مجرى "عصا", و"رحي". تقول: "جاءني كلا الرجلين"، و"رأيت كلا الرجلين"، و"مررت بكلا الرجلين"؛ وإذا أضيف إلى المضمر, أن يجري مجرى المثنى على ما ذكر, وفي العرب من يقر آخره على الألف في الوجهين. * * * قال الشارح: قد تقدّم الكلام على "كِلا" وأحكامِها، وأنّها مفردةٌ معناها التثنيةُ، وهي موضوعةٌ لتأكيدِ التثنية، كما أنّ "كُلاًّ"، و"أَجْمَعَ" لتأكيدِ الجمع، وهي من الألفاظ المضافة، التي: يُؤكَّد بها المعارفُ. وكلُّ لفظ مضاف يُؤكَّد به المعنى، يكون مضافًا إلى ضميرِ ذلك المؤكَّدِ، نحوَ: "جاءني زيدٌ نفسُه وعينُه"، و"أكلتُ الرَّغِيفَ كلَّه". وإنّما كان كذلك ليُعلَم أنّه له، ومُمكّنٌ لمعناه. فلذلك وجب أن تكون "كِلا" مضافةً إلى معرفةٍ ومثنَّى, لأنّه لا يؤكَّد بها إلَّا ما هذه سبيلُه، وإن خرج عن سَنَن التأكيد بأن يكون مبتدأ، نحوَ: "كِلاَ أخوَيْك جاءني"، أو فاعلًا، نحوَ: "جاءني كلا أَخوَيْك"، فلن يخرجَ عن حكم التأكيد ومعناه. ومُجازُ ذلك على إقامةِ التأكيد مُقامَ المؤكَّد، كما تُقام الصفة مقامَ الموصَوف، فإذا قال: "جاءني كِلاَ أخوَيْك"، فأصلُه: "جاءني أخواك كلاهما"، إلا أنّك وضعتَ التأكيد موضعَ المؤكَّد مبالغةً، ثمّ أضفتَه إلى لفظِ المؤكَّد للبَيان، فلذلك لزم أن يضاف إلى المثنّى، ولا يضاف إلَّا إلى معرفةٍ, لأنّه لا يكون تأكيدًا إلَّا لمعرفة. ¬
وحكمُ "كِلْتَا" حكمُ "كِلا"، إلّا أنّ "كلتا" للمؤنَّث، و"كلا" للمذكَّر؛ فأمّا قوله [من الوافر]: فإنّ الله يعلمني إلخ فالبيت للنَّمِر بن تَوْلَبٍ، والشاهدُ فيه إضافتُه إلى "نَا"، وهو ضميرُ جمع، و"كِلا" إنّما يضاف إلى تثنيةٍ. وذلك لأنّ الاثنين والجمعَ في الكناية عن المتكلِّم واحدٌ، وإن شئتَ أن تقول: هو للجمع، ولكنّه حمل الكلامَ على المعنى, لأنّه عَنَى نفسه ووَهْبًا. وإليه أشار صاحبُ الكتاب، وهو أجودُ, لأنّه قد يقع لفظُ الجمع على التثنية، نحوَ قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬1)، وقوله: {تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} (¬2)، ثمّ قال: خَصْمَان، ويُروى: سيلقاه بالياء، وسنلقاه بالنون، فمَن رواه بالياء جعل "كلانا" فاعلَه، ومن رواه بالنون، جعل "كلانا" تأكيدًا لضميرِ المتكلِّمين. وأمّا قولُ ابن الزَّبَعْرى في يوم أُحُدٍ [من الرمل]: يا غُرابَ البَيْنِ أَنْعَمْتَ فَقِلْ ... إِنّما تَنْطِقُ شيئًا قد فُعِلْ إنّ للخَيْر وللشَّرِّ مَدًى ... وكِلَا ذلك وَجْهٌ وقِبَلْ والعَطيّاتُ خِساسٌ بَيْنَهم ... وسَواءٌ قَبْرُ مُثْرٍ ومُقِلْ كلُّ عَيْشٍ ونَعِيمٍ زائلٌ ... وبَناتُ الدَهْرِ يَلْعَبْنَ بكُلْ فالشاهد فيه إضافةُ "كِلا" إلى مفردٍ يراد به التثنيةُ، كما أُضيف في الذي قبلَه إلى لفظ الجمع، إذ كان المراد به التثنية. ومثلُ ذلك في أنّ المراد به التثنيةُ قولُه تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} (¬3)، أي: بين الفُروض والبَكارة، فجاز إضافةُ "كلا" إليه كما جاز إضافةُ "بَيْنَ" إليه، إلَّا أنّ "بَيْنَ" يضاف إلى اثنين فصاعدًا، و"كلا" يضاف إلى اثنين فقط. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (¬4). أُضيف "كلٌّ" إليه حيث كان المراد به الكثرة. وقوله: "ويجوز التفريقُ في الشعر"، يريد أنّك تُضيفه إلى اسم واحد، ثمّ تعطِف عليه اسمًا آخرَ، نحوَ: "كِلَا زيدٍ وعمرٍو"؛ لأنّ العطف بالواو نظيرُ التثنية، إذ كانت الواوُ لا تُرتِّب كالتثنية، فحُمل الكلام في الشعر على المعنى، نحو قوله [من الطويل]: 363 - كِلَا السَّيْفِ والساقِ الذي ضُرِبَتْ به ... على دَهَشٍ ألْقاهُ بَاثنَيْن صاحِبُه ¬
فصل [إضافة أفعل التفضيل]
وصار ذلك كقولك: "زيدُ وعمرو قَامَا"، كما تقول: "الزيدان قاما"، ولا يجوز مثلُه في حالِ الاختيار والسعةِ، ألا ترى أنك لا تقول: "كِلا أخِيك وأبِيك ذاهبٌ"، كما لم يجز: "كلُّ عبدِ الله وأخِيه وأبِيه ذاهِبون". ولو قلت: "كِلا زيدٍ فعمرو جاءني"، لم يجز في الشعر، ولا غيرِه؛ لأنك كنت تضيف "كلا" إلى مفردٍ مخصوص، وإنما يضاف إلى اثنين، أو إلى مفرد في معنى التثنية، أو إلى لفط مشترك بين التثنية والجمع، فاعرفه. وقوله: "وحكمُه إذا أضيف إلى الظاهر أن يُجْرَى مُجْرَى عَصا ورَحى" يريد أنّ آخِره يكون بالألف إذا أضيف إلى ظاهرٍ في حالِ الرفع والنصب والجر. وهو القياسُ، لأنه عندنا اسمٌ مفردٌ ومقصورٌ كـ "عصا" و"رحى"، ولا إشكالَ في ذلك على أصلنا، إنما الإشكالُ على أصلِ الكوفيين؛ لأتها عندهم تثنية صحيحة. وقوله: "وإذا أضيف إلى المضمر أن يُجرى مَجْرَى المثنّى"، يعني أن ألفه تنقلِب ياء في حالِ النصب والجرّ، كما تنقلب في التثنية، فتقول: "جاءني أخواك كِلاهما"، و"رأيت أخويكَ كليهما"، و "مررت بأخويك كليهما". تثبت الألف في حال الرفع، وتنقلب ياء في حال النصب والجر. كما أن التثنية كذلك، إلَّا أن انقلابها في التثنية للإعراب، واختلافِ العامل، وانقلابَها في "كلا" و"كلتا" لا للإعراب، بل للحمل على "لَدَى" و"عَلَى"، على ما تقدم. ومن العرب من يجري في "كلا" و"كلتا" على القياس، فيُقر الألفَ بحالها، ولا يقلِبها لا مع ظاهر، ولا مضمر، فاعرفه. فصل [إضافة أفعل التفضيل] قال صاحب الكتاب: وأفعل التفضيل يضاف إلى نحو ما يضاف إليه "أي". تقول: "هو أفضل الرجلين, وأفضل القوم". وتقول: "هو أفضل رجل"، و"هما أفضل رجلين"، و"هم أفضل رجال". والمعنى في هذا إثبات الفضل على الرجال إذا فضلوا رجلاً رجلاً, واثنين اثنين, وجماعة جماعة. * * * ¬
قال الشارح: و"أفْعَلُ" الذي يراد به التفضيلُ يضاف إلى ما بعده، وحكمُه في الإضافة حكمُ "أَيٍّ"، لا يضاف إلّا إلى ما هو بعضُه، نحوَ قولك: "زيدٌ أفضلُ الناس، وأفضلُ القومُ"، أضفتَه إليهم، لأنه واحدٌ منهم. وتقول: "حِمارُك أفْرَهُ الحَمِير"، و"عبدُك خيرُ العَبِيد". فإضافةُ "أفعل" إلى ما بعده إضافةُ البعض إلى الكل، والواحد إلى الجنس، ولو قلت: "عبدُك أحسنُ الأحرار"، و"حمارُك أفرهُ البِغال" لم يجز، لأئك لم تُضِفْه إلى ما هو بعضٌ له. وإنّما وجبت إضافتُه إلى ما هو بعضٌ له، لأنك إذا أردت تفضيلَ الشيء على جنسه، فلم يكن بدٌّ من أن تُضيفه إلى الذي تُفضِّله عليه، ليُعلَم أنّه قد فضل أمثالَه من ذلك الجنس. ولو أردتَ تفضيلَه على غيرِ جنسه، لأَتَيْتَ بِ "منْ " فاصلةَ له عن الإضافة، ويكون الأوّل في حكم المنوَّن، فقلت: "عبدُك أحسنُ من الأحرار"، و"حمارُك أفرهُ من البغال". والذي يدل على أن الأول في حكم المنوّن، إلَّا أنّه لا ينصرف لوزن الفعل والصفةِ أته إذا نقص عن وزن الفعل، يدخله التَنوينُ، نحوَ قولك: "عبدُك خيرٌ من الأحرار"، و"بَغْلُك شرٌّ من الحَمِير"، لمّا حذفت الهمزة تخفيفًا، نقص الاسمُ عن لفظ الفعل، فانصرف، والذي يدل على أن ما لا ينصرف في حكم المنؤن، وإن لم يكن فيه تنوينٌ قولُك: "هؤلاء حَواجُّ بيتَ الله، وضوارِبُ زيدًا". واعلمْ أن إضافةَ " أفعلَ" هذه التي يراد بها التفضيلُ من الإضافات المنفصِلة غير المحضة، فلا تفيد تعريفًا, لأن النُيَّة فيها التنوينُ والانفصالُ، لتقديرك فيها "مِنْ". وإنما كانت "مِنْ" فيها مقدرةً، لأن المراد منها التفضيلُ. فإذا قلت: "زيدٌ أفضلُ من عمرو"، فقد زعمتَ أن فَضْلَ زيد ابتدأ من فضلِ عمرو راقِيًا صاعدًا في مَراتِبِ الزيادة، فعُلم بهذا أته أفضلُ من كل مَنْ كان مقدارُ فضله كفضلِ عمرو، وأنه علا من هذا الابتداء، ولم يُعلَم موضعُ الانتهاء، كما تقول: "سار زيدُ من بغدادَ " فعلِم المخاطَبُ ابتداءِ مَسِيره، ولم يعلم أَيْنَ انتهى. فلفا كان معنى الباب الدَلالةَ على ابتداءِ التفضيل على مقدارِ المفضَّل عليه وكل مَن كان في منزلته؛ لم يكن بد من الدلالة على هذا المعنى. وقد تُحذف "مِنْ" من اللفظ تخفيفًا، ويضاف الاسم الأول إلى الثاني، وهي مرادةٌ مقدَّرةٌ، وإذا كانت "مِنْ" مقدَّرةً، فصلته مما قبله، فلذلك كانت إضافتُه منفصلة، ولا يضاف إلَّا إلى ما هو بعضُه، نحوَ قولك: "زيدٌ أفضلُ الرجال", لأنه واحدُ منهم. وتقول: "هو أفضلُ رجلٍ"، وأصله: أفضلُ الرجال، إلَّا أنك خففتَ فنزعتَ الألفَ واللام، وغيرتَ بناءَ الجمع إلى الواحد الشائع دالًّا على النوع مُغْنًى عن لفظ الجمع الدالِّ على ذلك المعنى. وإن أتيتَ بالألف واللام والجمع، فقد حقّقتَ، وجئت بالأصل، وأعطيتَ الكلامَ حقه، وإن آثرتَ التخفيف والاختصارَ، اكتفيتَ بالواحد المنكورِ, لأنه يدل على الجنس، فكان كقولك: "أفضلُ الرجال"، إذ المرادُ بالرجال الجنسُ، لا رجالٌ معهودون، فهو كقولهم: "أهْلَكَ الناسَ الدرهمُ والدينارُ"، أي: حسن الدراهم والدنانيرِ.
ومثلُ ذلك في تركِ الألف واللام، والاستغناء عن الجمع بالواحد المنكورِ، قولُك: "كل رجلٍ"، والمرادُ الرجال، ومثلُه قولهم: "عشرون درهمًا"، والمرادُ: من الدراهم. وتقول: " هما أفضلُ رجلَيْن"، و"هم أفضلُ رجالٍ"، والمعنى أنّهما يفضُلان هذا الجنسَ إذا مُيزوا رجلَيْن رجلَيْن، ويفضلونه إذا مُيّزوا جماعة جماعة فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وله معنيان: أحدهما أن يراد أنه زائد على المضاف إليهم في الخصلة هو, وهم فيها شركاء. والثاني أن يؤخذ مطلقاً له الزيادة فيها إطلاقاً, ثم يضاف لا للتفضيل على المضاف إليهم, لكن لمجرد التخصيص، كما يضاف ما لا تفضيل فيه وذلك نحو قولك الناقص والأشج أعدلا بني مروان، كأنك قلت عادلا بني مروان, فأنت على الأول يجوز لك توحيده في التثنية والجمع وأن لا تؤنثه قال الله تعالى: {ولتجدنهم أحرص الناس} (¬1)، وعلى الثاني ليس لك إلا أن تثنيه وتجمعه تؤنثه. * * * قال الشارح: اعلم أنّ "أَفْعَل" على ضربَيْن: أحدُهما أن يكون مضافًا إلى جماعة هو بعضُهم، تزيد صفتُه على صفتهم، وجميعُهم مشترِكون في الصفة، فتقول: "عبدُ الله أفضلُ القوم"، فهو أحدُ القوم، وهم شُركاءُ في الفضل المذكور، يزيدُ فضلُه على فضلهم. والذي قضى بذلك كلمةُ " أَفْعَلَ" من حيث كانت مقدرة بالفعل والمصدرِ. فإذا قلت: "زيد أَفضلُ القوم"، فالتقديرُ أنه يزيد فضلُه عليهم، أو يرجَح فضلُه، والرجَحانُ إئما يكون بعد التساوي، وكذلك لفظُ الزيادة يقتضي مَزيدًا عليه، فلذلك من المعنى اشترطوا الشرْكَةَ في الصفة. وقد ذهب بعضُهِم إلى أنّ اشتراطَ الاشتراك في الصفة لا يلزمُه، واستدل على ذلك بقولهم: "ابنُ العَمّ أحَقُّ بالمِيراث من ابن الخال"، وإن كان لا حق لابن الخال الذي الميراث، ومثلُه قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} (¬2)، وإن كان لا خيرَ في مستقر أهلِ النار، ولا حُسْنَ في مقيلهم. وهذا لا حُجةَ لهم فيه, لأنّ ذلك جاء على زَعْمهم واعتقادِهم، وذلك أنهم كانوا يعتقِدون أن مُطْلَقَ القَرابةِ يوجِب الميراثَ، سواء كانوا من ذوي الأرحامِ أو العَصَباتِ، فقيل: "ابنُ العم أحق بالميراث من ابن الخال"، لأنه أقربُ، وكذلك قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا} جاء على زَعْمهم واعتقادِهم أنّ مقيلهم في الآخرة حسنٌ، ومستقَرهم جميل، فقال: إن نزلنا معكم نُزولَ نَظَرٍ، فاصحابُ الجنة يومئذٍ خيرٌ مستقرًّا وأحسنُ مقيلًا. ¬
والثاني: أن تُؤْخَذ الزيادة مُطْلَقًا من غيرِ تعرُّض إلى ابتدائها، ولا انتهائِها، وتصير من صفاتِ الذات بمنزلةِ الفاضل، إلَّا أن في الأفضل مبالغةً ليست في الفاضل، وتُضيفه إلى ما بعده، لا لتَفْضيله عليهم، وتقديرِ "مِنْ" على ما كان في الأول، لكن للتخصيص، كما تكون إضافةُ ما لا تفضيلَ فيه، فتقول: "أَفْضَلُكم" كما تقول: "فاضِلُكم"، أىِ: الفاضلُ المختصُّ بكم. ومنه قولهم: "الناقِصُ والأشَجُّ أَعْدَلَا بني مَرْوانَ"، فقولهم: "أعدلا" ها هنا بمعنَى العادلين منهم، ألا ترى أنّه ثنّاه، ولو كان المرادُ التفضيلَ لكان موحَّدًا على كلّ حال. والأشَج ههنا عمرُ بن عبد العزيز بن مَرْوانَ، وكان يقال له: "أَشَجُّ بني أُمَيَّة" من أجلِ شَجَّةِ حافِرِ دابةٍ، كانت بجَبْهته، وكان أعدلَ أهلِ زمانه، وأُمُّه أمُّ عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه. وكان يقول عمر بن الخطاب: "إنّ من وُلدِيَ رجلًا بوَجْهه أَثَرُ يَمْلأُ الأرضَ عَدْلًا كما مُلِئتْ جَوْرًا". ولما نَفَحَه حمار برِجْله، فأصاب جَبْهَتَه، وأثرَ فيها، قيل: "هذا أشجُّ بني أُميَّةَ، يملِك ويملأ الأرضَ عدلًا"، فملك بعد سليمانَ بنِ عبد المَلِك سنةَ ست وتسعين، وكانت وِلايتُه سنتَيْن وتسعةَ أشْهُر. والناقِص هو يزيدُ بن الوَلِيد بن يزيد بن عبد المَلِك بن مروان، وَلِيَ الخلافةَ ستةَ أشهر، أو أقَل، وَلِيَ سنةَ ست وعشرين ومائةٍ، وكان عادلًا، مُتكِرًا للمُنْكَر، وهو الذي قتل ابنَ عمّه الوليدَ، إذ كان مُسْرِفًا على نفسه، وكان يقال له: "الناقِصُ", لأنه نقص من أرْزاقِ الجُنْد، وحط منها. يقال: "نقصتُه فأَنَا ناقِصُهُ، ونَقَصَ الشيءُ فهو ناقِصٌ". يكون متعدّيًا وغيرَ متعدّ. فالنوع الأول: منهما لا يُثنَّى، ولا يُجمع، ولا يُؤنث؛ لأنّه مقدر بالفعل والمصدر، فإذا قلت: "زيدُ أفضلُ القوم"، كان معناه يزيد فضلُه عليهم، فكل واحد من الفعل والمصدرِ لا يصح تثنيتُه، ولا جمعُه، ولا تأنيثُه، فكذلك ما كان في معناهما، ولذلك لا يدخله ألف ولامُ، قال الله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} (¬1) فوحّد، وإن كانوا جماعةَ. وقال بعضهم: إنما لم يُثَن "أفعلُ" ولم يُجمع، ولم يؤنث؛ لأنه مضارعٌ لـ "بَعْض" الذي يقع للتذكير، والتأنيثِ، والواحدِ، والاثنين، والجمع، إذ كان بعضًا لِما أضيف إليه، ولا يكون إلَّا نكرة، كما أن الفعل كذلك، إذ حل محلَّهَ. وقال الكوفيون: إذا أضيف على معنَى "مِنْ"، فهو نكرة، وهو رأيُ أبي علي، وإذا أضيف على معنى اللام، فهو معرفة. وقال البصريون هو معرفة بالإضافة على كلّ حال إلَّا أن يضاف إلى نكرة. ¬
وأما النوع الثانيِ: فإنّك تُثنيه، وتجمعه، وتؤنّثه، وتُدخِل فيه الألفَ واللام، فتقول: "زيدٌ الأفضلُ أبًا، والأكرمُ خالًا". وتقول في التثنية: "هما الأفضلان"، وفي الجمع: "هم الأفضلون، والأفاضِل". قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (¬1)، ويكون بناء المؤنث على غيرِ بناءِ المذكر، فتقول: "هندٌ الفُضْلَى"، وفي التثنية: "الفُضْلَيان"، وفي الجمع: "الفُضْلَياتُ"، و"الفُضَلُ"، كما تقول: "الفاضلُ", و"الفاضلة"، و"الفاضلان"، ولا يصحّ دخولُ "مِنْ" فيه، لا تقول: "الأفضلُ منك"؛ لأن "مِنْ" إنما يُؤْتَى بها إذا كان "أفضل" بمعنَى الفضل، فتدخل لابتداءِ الغاية التي منها ابتداء الفضل، فإذا نقلتَه إلى الذات، بطل ذلك المعنى. فأمّا قوله [من السريع]: 364 - ولستَ بالأكثَرِ منهم حصَى ... وإنما العِزةُ للكاثِر فإن "مِنهُم" لا يتعلق بـ "الأكثر" الملفوظِ بها، ويحتمِل أمرَيْن: أحدُهما: أن يتعلق بـ "أكثر" محذوفة، دل عليها قوله: "بالأكثر" كأنه قال: "ولست بالأكثر بأَكْثَر منهم" لأنه إذا جاز أن تقول: "زيدٌ الأفضلُ أَبًا"، جاز أن تقول: "زيدٌ أفضلُ أبًا" لأن كل واحد يدل على الآخر. ¬
والثاني: أن يكون معناه التبيين، فيتعلق بمحذوفٍ، كأنه قال: "أعني منهم"، ويكون المعنى: ولست بالأكثر من قبيلتك، أي: فيهم من هو أكثر منك. * * * قال صاحب الكتاب: وقد اجتمع الوجهان في قوله عليه السلام:"ألا أخبركم بأحبكم إليَّ, وأقربكم مني مجالس يوم القيامة, أحاسنكم أخلاقًا الموطؤون أكنافاً الذين يألفون, ويؤلفون, ألا أخبركم بأبغضكم إليّ, وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة, أساوئكم أخلاقاً الثرثارون المتفيهقون" (¬1). * * * قال الشارح: هذا الحَدِيث عن أبي هُرَيْرةَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، يحُثّ فيه على حُسْنِ الخُلُق، ولِينِ الجانب، فالمُوَطؤُونَ: الليّنونَ، من قولهم: "وَطَّاْتُ الفِراشَ" أي: لينتُه، ومَهْدتُه. والأكناف: جمعُ كَنَفٍ، وهو الجانِبُ، ومنه كَنَفَا الطائر: جَناحاه، وقوله: "الذين يَألَفون ويُؤْلَفون" أي: يصحَبون الناس بالمعروف، فيُرغَب في صُحْبَتهم للِينهم، ورِفْقِهم، من قوله: "المؤمنون هَينون ليّنون" أي منقادون. وقوله: "الثرْثارون المُتَفَيهِقُون" يريد الذين يُكثِرون الكلامَ، ويتكلفون فيه، فيخرِجون عن القصد والحق. يقال: "رجلٌ ثَرثارٌ"، وهو المِكثار في الكلام، ومنه "عَينٌ ثرَّةٌ، وثَرْثارَة" إذا كانت واسعةَ الماء، ويقال: "الثرثارُ: نهرٌ بعينه"، كأنّه سُمي بذلك لكثرةِ مائه، وليس الثرثارُ من لفظِ الثرّة، إنّما هو من معناه، وان وافَقَه في بعضِ حروفه، إنّما هو كسَبط وسِبَطْر، ودَمِث ودِمَثْرٍ، فـ "ثَرَّة"، من باب "حَبّ"، و"دَرّ"، و"ثَرْثارَة": من بابِ "زَلزَل"، و"قَلْقلَ"، والمُتَفْيهِق: هو الذي يتوسع في كلامه ويُفْهِق به فَمَه. وقد جاء تفسير للحديث فيه: قيل: ما المُتفَيهِقون؟ قال: المتكثرون، وكأنّه يؤُول إلى الأول، لأنه يكون من التكثير. والشاهد فيه أنه وحد "أَحَبَّكُم"، و"أقربَكم" لأنه أراد المعنى الأولَ، وهو و"أفعلُ" الذي بمعنى التفضيل، لأنه يكون في جميع الأحوال بلفظ واحد، لا يُثنى، ولا يُجمع، ولا يؤنث. وجَمَعَ "أحاسنكم" وهو جمعُ "أحسَنَ" لأنه لم يُرِد به التفضيلَ، وإنّما المرادُ به الذاتُ نحو"الحَسَنُ". وكذلك "أبغضكم" و"أقربكم" وحّدهما، لأنّ المراد بهما التفضيلُ، وجَمَعَ "أساوِئكم" وهو جمعُ "أَسوَأَ" لأنه بمعنى السَّيئ. * * * قال صاحب الكتاب: وعلى الوجه الأول لا يجوز أن تقول: "يوسف أحسن ¬
أخوته"؛ لأنك لما أضفت "الإخوة" إلى ضميره, فقد أخرجته من جملتهم من قبل أن المضاف حقه أن يكون غير المضاف إليه، ألا ترى أنك إذا قلت: "هؤلاء إخوة زيد",لم يكن "زيدٌ" في عداد المضافين إليه، وإذا خرج من جملتهم, لم يجز إضافة "أفعل" الذي هو هو إليهم، لأن من شرطه إضافته إلى جملة هو بعضها. وعلى الوجه الثاني لا يمتنع. ومنه قول من قال لنصيب: "أنت أشعر أهل جلدتك", كأنه قال: أنت شاعرهم: * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا: إن أفعل على ضربَيْن، أحدُهما: أن يكون بمعنى الفعل، نحوَ: "زيدٌ أفضلُ القوم"، أي: يفضُلهم. والثاني: أن يكون من صفاتِ الذات بمعنَى الفاضل فيهم، فإذا قلت: "زيدُ أفضلُ القوم"، وأردتَ تفضيلَه عليهم، فلا بدّ من تقديرك "مِنْ" فيه، وإن لم تكن ملفوظًا بها, لأن التفضيل لا بد أنْ يُذَكَر فيه ابتداء الغاية التي منها بَدْءُ الفضل راقيًا، وذلك إنّما يكون بِـ "منْ"، فإن أظهرتَها، فهو حقُّ الكلام، وإن حذفتَها، فلعِلْمِ المخاطَب أن التفضيل لا يقع إلَّا بها، إلّا أنّك إذا أظهرتَها، فقد فضلتَه على غيره، وإذا أضفتَه، ولم تأتِ بِـ "منْ"، كنت قد فضلتَه على جنسه الذي هو بعضُه، وإذ قد عُلم أن "أفعل" إنما يضاف إلى ما هو بعضُه، فَلْيُعْلَمْ أنَّه لا يجوز أن تقول: "يوسف أحسنُ إخْوَتِه" وذلك أنك إذا أضفت "الإخوة" إلى "ضميره" خرج من جملتهم، وإذا كان خارجًا منهم؛ صار غيرَهم، وإذا صار غيرَهم، لم يجز أن تقول: "يوسف أحسن إخوته" كما لا يجوز أن تقول: "الياقُوتُ أفضلُ الزَّجاج"؛ لأنّه ليس من الزجاج، فحينئذٍ يلزم من المسألة أحدُ أمرَين، كل واحد منهما ممتنعٌ، أحدُهما ما ذكرناه من إضافةِ "أفعل" إلى غيره، إذ إخوةُ زيدٍ غيرُ زيد، والأمرُ الثاني إضافةُ الشيء إلى نفسه، وذلك أنّا إذا قلنا: إن زيدًا من جملةِ الأخوة نَظَرًا إلى مقتضَى إضافةِ "أفعلَ"، ثم أضفتَ "الأخوةَ" إلى ضميرِ "زيد"، وهو من جملتهم، كنت قد أضفتَه إلى نفسه بإضافتك إياه إلى ضميره، وذلك فاسدٌ. فأمّا على النوع الثاني، وهو أن يكون "أفعلُ" فيه للذات بمعنَى "فاعلٍ"، فإنه يجوز أن تقول: "يوسف أحسنُ إخوتِه"، ولا يمتنع فيه كامتناعه من القسم الأول، إذ المرادُ أنّه فاضلٌ فيهم، لأنه لا يلزم في هذا النوع أن يكون "أفعلُ" بعضَ ما أضيف إليه، وعليه جاء قولهم لنُصَيْبٍ: "أنتَ أشعرُ أهلِ جِلْدتِك"؛ لأن أهلَ جلدته غيرُه، وإذا كانوا غيره، لم تسغ إضافةُ "أفعلَ" إذا كان هو إيّاه إليهم، لِما ذكرتُه. ويجوز على الوجه الثاني، لأنه بمعنَى الشاعر فيهم، أو شاعرهم فاعرفه.
[إضافة الاسم إلي غيره بأدني مناسبة]
[إضافة الاسم إلي غيره بأدني مناسبة] قال صاحب الكتاب: ويضاف الشيء إلى غيره بأدنى ملابسة بينهما ,كقول أحد حاملي الخشبة لصاحبه: "خذ طرفك", وقال [من الطويل]: 365 - إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرةٍ ... [سهيلٌ أذاعت غزلها في القرائب] أضاف "الكوكب" إليهم لجدِّها في عملها إذا طلع, وقال [من الطويل]: 366 - إذا قال قدني قال بالله حلفة ... لتغني عني ذا إنائك أجمعا لملابستة له في شربه, وهو لساقي اللبن. * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم قولنا: إن الإضافة المحضة على ضربين: إضافةُ اسم إلى اسم هو بعضُه لبيان جنس المضاف لا لتعريف شخصه، ويقذر لذلك بـ "مِنْ" نحوَ قولك: "ثوبُ خزّ وبابُ ساج"، والثاني: إضافة اسم إلى اسم غيرِه بمعنى اللام، لتعريف شخصِ المضاف وتخصيصِه بالتعريف، نحو: "غلامُ زيد"، عرّفتَ "الغلامَ" بإضافتك إياه إلى معرفة، والتخصيصُ نحو قولك: "راكبُ فرس" فإضافتُه ههنا إلى نكرةٍ، لا تفيد التعريفَ، وإنّما تفيد ضربًا من التخصيص، وإخراج المضاف من نوع إلى نوع أخَص منه. ألا ترى أن "راكب فرس" أخص من "راكب". فالمراد بالإضافة الأُولى التبعيضُ، وأن الثاني أعم من الأول، وأنّ له اسمَه. والمرادُ بالإضافة الثانية المِلْكُ، أو الاختصاص، فالملكُ نحو: "غلامُ زيد"، ومعناه أنه يملِكه، والاختصاصُ نحو: "سيدُ الغلام"، أي: يختص به بما بينهما من المُلابَسة والاختلاطِ. ومنه "جُلّ الدابَّة"، و"سَرج الفَرَس". ويضاف الشيء إلى الشيء بأدنَى مُلابسة، نحو قولك: "لَقِيتُه في طريقي"، أضفتَ "الطريقَ" إليك لمُجردِ مُرورِك فيه، ومثلُه قولُ أحدِ حامِلَي، الخَشَبَةِ: "خُذ طَرَفَك"، أضاف "الطرفَ" إليه، لملابسته إياه في حالِ الحَمل، فأما قول الشاعر [من الطويل]: إذا كَوكَبُ الخَرقاءِ لاحَ بسُحرَةٍ ... سُهَيل أَذاعَت غَزلَها في القَرائبِ ¬
فصل [موانع الإضافة]
فالشاهد فيه أنه أضاف "الكوكبَ" إليها لجدِّها في عَمَلهاعند طُلوعه، وذلك أن الكَيّسة من النساء تستعِدّ صَيْفًا، فتنامُ وقتَ طلوعِ سُهَيْل، وهو وقتُ البَرد، والخرقاءُ ذاتُ الغَفْلة تكسَل عن الاستعداد، فهذا طلع سهيل، وبردتْ تَجِد في العمل، وتفرق قُطنَها في قَبِيلتها تستَعِين بهت، فخصّصها لذلك. وكذلك قولُ الآخر [من الطويل]: إذا قال فَدني ... إلخ كذا أنشده أبو الحسن باللام للقَسم، وفتحِ آخِرِ الفعل على إرادةِ نونِ التأكيد، وحَذْفِها ضرورة، وأنشد أحمدُ بن يَحْيَى: "لَتُغْنن عنّي" بنون التأكيد الشديدة. والبيت الشاهدُ فيه أنه أضاف "الإناءَ" إلى المخاطَب لمُلابَسته إياه وقتَ أَكله منه، أو شُرْبِه ما فيه من لَبَنٍ، أو مأكولٍ. والعربُ تقول: "أَغنِ عني وَجهَك"، أي: اجعله بحيثُ يكون غنيًّا عني، لا يحتاج إلى رُؤيَتي. يقول له الضيفُ: "قَدنِي"، أي: حَسبِي ما أكلتُ، أو شرِبتُ، فيقول المُضِيفُ: "لَتُغنين عني جميعَ ما في الإناء، ولا تَرُده على بل اشرَبه كله". يصفُ رجلًا مِضيافًا. فصل [موانع الإضافة] قال صاحب الكتاب: والذي أبوه من إضافة الشيء إلى نفسه أن تأخذ الاسمين المعلقين على عين أو معنى واحد كالليث والأسد وزيد وأبي عبد الله والحبس والمنع ونظائرهن فتضيف أحدهما إلى الآخر فذلك بمكان من الإحالة. فأما نحو قولك جميع القوم وكل الدراهم وعين الشيء ونفسه فليس من ذلك. * * * قال الشارح: إضافةُ الشيء إلى نفسه ممّا لا يصح، وذلك من قِبَل أن الغرض من الإضافة التعريفُ، والتخصيصُ، والشيءُ لا يُعرف بنفسه, لأنه إن كان معرفة، كان مستغنيًا عن الإضافة بما فيه من التعريف, لأن نفسه موجودة، غيرُ مفقودةٍ، وليس في الإضافة إلَّا ما فيه، وإن كان عاريًا منه، كان أذهبَ في الإحالة، والامتناع, لأن الاسمَيْن المترادِفين على حقيقةٍ واحده لا يصيران غَيرَين بإضافةَ أحدهما إلى الآخر، ويَخدُثَ بذلك تخصيص، كما يحدُث من إضافةِ الأسماء المتباينةِ، نحو: "غلامُ زيد"، و"راكبُ فرس"، مع أن التضايُف إنما يقع بين شيئَين، كل واحد منهما غيرُ الآخر، كما أن التفْرِقَة تكون أيضًا فيما كان كذلك؛ فلذلك لا تضيف اسمًا إلى اسم آخرَ مُرادِفٍ له على حقيقته، ولا إلى كُنيَته سواءً كان ذلك الاسمُ معلَّقًا على عين، أو معنى، فالعينُ نحو قولك: "اللَّيثُ والأَسَدُ"، لا تقول: "ليثُ
الأسدِ"، ولا "أسامَةُ أبي الحارِث"، ولا "زيدُ أبي عبدِ الله"، وأبو عبد الله زيد. والمعنى نحو: "الحَبس"، و"المَنع"، فلا تقول: "حَبْسُ مَنْع" إذ الحبس والمنع واحد. فأما إضافةُ الاسم إلى اللقب نحو: "سَعِيدُ كُرز"، و"قَيسُ بَطةَ"، فذلك جائز غيرُ ممتنعِ، وإن كانا لعَينٍ واحدةٍ، وذلك من قِبَلِ أنه لمّا اشتهر باللقب، حتى صار هو الأعرفَ، وصار الاسمُ مجهولًا، كأنّه غيرُ المسمّى بانفراده؛ اعتُقد فيه التنكيرُ، وأضيف إلى اللقب للتعريف، وجعلوا الاسمَ مع اللقب بمنزلةِ ما أضيف، ثم سُمّي به، نحوَ: "عبد الله، و"عبد الدار"، وكان اللقبُ أَوْلى أن يضاف إليه, لأنّه صار أعرفَ. فأقا قولهم: "جَميعُ القَوْم"، و"كل الدراهِم"، و"عَيْنُ الشيء"، و"نَفْسُهُ"؛ فعلى تنزيل الأول من الثاني منزلةَ الأجنَبي، وإضافتُه راجعة إلى معنى اللام و"مِنْ"، فـ "جميع" و"كل" اسمان لأجزاءِ الشيء، و"نَفْسُهُ" و"عَينُهُ" منزّلان عندهم منزلةَ الأجنبيّ بمعنَى خالِصِ الشيء وحقيقتِه، فيقولون: "نفسُ الشيء"، و"عينُه"، فتكون منزلتُه من الشيء منزلةَ البعض من الكل، والثاني منه ليس بالأول، ألا ترى أنه يقال: "لَهُ نَفْسٌ، وله حقيقةٌ" كما يقال. "له عِلْمٌ، وله مال" ونحوهما، ولذلك يُخاطِبون انْفُسَهم ويُراجِعونها مُراجَعَةَ الأجنبيّ، فيقال: "يا نفسُ لا تَفعَلِي"، كذا قال الشاعر [من الوافر]: 367 - ولي نَفْسٌ أقولُ لها إذا مَا ... تُنازِعُني لَعَلّي أو عَسانِي ¬
فصل [ما لا يجوز إضافته]
وقال الآخر [من البسيط]: 368 - أقولُ للنفس تَأساءً وتَعْزِيَة ... إحْدَى يَدَيَّ أَصابَتْنِي ولم تُرِد ويُؤيِّد ذلك أنك لا تقول: "ضربتُنِي" بضتم التاء، ولا "ضربتَك" بفتحها، لاتحادِ الفاعل والمفعول، وتقول: "ضربتُ نفسي" كما تقول: "ضربتُ غلامي"، فاعرفه. فصل [ما لا يجوز إضافته] قال صاحب الكتاب: ولا يجوز إضافة الموصوف إلى صفته ولا الصفة إلى موصوفها وقالوا دار الآخرة وصلاة الأولى ومسجد الجامع وجانب الغربي وبقلة الحمقاء على تأويل دار الحياة الآخرة وصلاة الساعة الأولى ومسجد الوقت الجامع وجانب المكان الغربي وبقلة الحبة الحمقاء. وقالوا عليه سحق عمامة وجرد قطيفة وأخلاق ثياب وهل عندك جائبة خبر ومغربة خبر على الذهاب بهذه الأوصاف مذهب خاتم وسوار وباب ومائة لكونها ومحتملة مثلها ليلخص أمرها بالإضافة كفعل النابغة في إجراء الطير على العائذات بياناً وتلخيصاً لا تقديماً للصفة على الموصوف حيث قال [من البسيط]: 369 - والمؤمن العائذات الطير [تمسحها ... ركبان مكة بين الغيل والسند] * * * ¬
قال الشارح: الصفة والموصوف شيءٌ واحدٌ، لأنهما لعَين واحدة، فهذا قلت: "جاءني زيدٌ العاقلُ"، فـ "العاقلُ" هو زيدٌ، و"زيدٌ" هو العاقلُ، ألا ترى أنك إذا سُئلتَ عن كل واحد منهما، جاز أن تُفسره بالآخر، فتقول في جوابِ "مَن العاقلُ": "زيدٌ"، وفي جوابِ "مَن زيدُ": "العاقلُ". فإذا كانت الصفةُ والموصوفُ شيئًا واحدًا، لم يجز إضافةُ أحدهما إلى الآخر، فلا تقول: "هذا زيدُ العاقِل"، و"هذا عاقلُ زيدٍ" بالإضافة، وأحدُهما هو الآخرُ. وقد ورد عنهم ألفاط، ظاهرُها من إضافةِ الموصوف إلى صفته، والصفةِ إلى موصوفها، والتأويلُ فيها على غيرِ ذلك. فمن ذلك قولهم: "صلاةُ الأُولى"، و"مَسْجدُ الجامِعِ"، و"جانبُ الغَرْبى"، و"بَقلَةُ الحَمقاءِ"، فهذه الأشياءُ حقها أن تكون صفة للأول، إذ الصلاة هي الأُولى، والمسجد هو الجامعُ، وإنما أُزيل عن الصفة، وأُضيف الاسمُ إليه على تأويلِ أنه صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، والتقديرُ: صلاة الساعةِ الأُولى، يعني من الزوال، ومسجدُ الوَقْت الجامع، أو اليوم الجامع، وجانبُ المكان الغَرْبي، وبَقْلَةُ الحَبة الحَمقاءِ، سُقيت حمقاءَ لأنها تنبُت في مجارِي السَّيْل، فتجرُفُها السُّيُولُ. فإن قلت: "الصلاةُ الأُولى"، و"المسجدُ الجامِعُ"، فأجريتَه وصفًا له، فهو الجيدُ والأكثرُ، وإن أضفتَ، فوَجهُه ما ذكرناه. وهو قبيحٌ لإقامتك فيه الصفةَ مُقامَ الموصوف، وليس ذلك بالسهل. ¬
ومثله "دارُ الآخرة"، و"حقُّ اليقين" و"حَبُّ الحَصيد"، وتأويلُه: دارُ الساعة الآخرةِ، ولذلك تُسمى القيامةُ الساعةَ، وحق الأمر اليقينِ، وحبُّ النبت الحَصيد، وكذلك كل ما جاء منه. وقالوا: "عليه سَحقُ عمامةٍ، وجَرْدُ قَطِيفَةٍ، وأَخلاقُ ثِياب، وهل عندك جائبَةُ خَبَرٍ، ومُغَرِّبَةُ خَبَرٍ"، فهذا ظاهرُه عَكسُ ما تقدّم, لأن ما تقدّم فيه إضافة الموصوف إلى صفته، وهذا فيه إضافةُ الصفة إلى موصوفها، ألا ترى أن المعنى: عليه عمامةٌ سَحْقٌ، وهي الباليةُ، وقطيفةٌ جَرْدٌ، وهي الخَلَقُ، وثيابٌ أخلاق، أي: باليةُ، فقدم هذه الصفاتِ، وأزالها عن الوصفية، وأضافها إلى الاسم إضافةَ البعض إلى الكل على مذهب "خاتَمُ ذَهَبٍ"، والمرادُ: من ذهب، و"سوارُ فِضة"، أي: من فضة، كأنه سَحْقٌ من عمامة، جَعَل السحق بعضَ العمامة. وكذلك "جَرْدُ قطيفة" أي: من قطيفة، وأَخْلاقٌ من ثياب. ومنه قولهم: "جائبَةُ خَبَر"، ومعناه خبرٌ يجوبُ الأرضَ من بَلَد إلى بلد، أي: يقطَعُها. يقال: جُبْتُ البِلادَ أجُوبُها، إذا قطعتَها، فلما قدمها، وأزالها عن الوصفية، احتملت أشياء، وتردّدت فيها، فأضافها إلى الخَبَر إضافةَ بيان، كقولك: "مائةُ درهمٍ" لما احتملت "المائةُ" معدوداتٍ، أضافها إلى نوع منها للبيان. ومثله "مُغرِّبةُ خبرٍ". يقال: "هل جاءَكم مُغرِّبةُ خبرٍ" يعني خبرًا طَرَأَ عليهم من بَلَد سوى بَلَدكم، فهو لذلك غريبٌ، فلمّا قدمها، احتملت الخَبَرَ، وغيرَه، فأضافها إلى الخبر على ما تقدّم لتلخيصِ أمرها، وتَبْيينه. والهاءُ في "جائبة"، و"مغربة" للمُبالَغة كـ "علامة" و"نَسابَهٍ"؛ فأمّا قوله [من البسيط]: والمُؤمِنِ العائذاتِ الطيرِ تَمسَحُها ... رُكبانُ مَكة بينَ الغَيلِ والسنَد (¬1) فالبيت للنابغة، والشاهدُ فيه إضافةُ "العائذات" إلى "الطير"، فهو من قبيلِ "سَحْقُ عِمامةٍ"؛ لأن "العائذاتِ" من صفةِ الطير. وجملةُ الأمر أن "المؤمن" اسمُ فاعل من "آمَنَ"، كما قال الله تعالى: {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} (¬2)، فالمؤمنُ، هو الله تعالى، أي: آمنهم من الخَوف لكونهم في الحَرَم، وحُلولِهم فيه. و"العائذات" يحتمل أمرين: أن يكون مجرورًا، وأن يكون منصوبًا، فمَن جعله مجرورًا؛ كانت الكسرةُ عنده علامة الجر على حد "الحَسَنُ الوجهِ"، و"الضارب الرجلِ"، وجَرّ "الطير" بإضافةِ "العائذات" إليه على حد "هذا الضاربُ الرجل"، و"الحسنُ الوجهِ". وذلك أنك لما أَوْقعتَ اسمَ الفاعل الذي هو المؤمنُ على العائذات، وأَضفتَه إليه تخفيفًا على إقامةِ الصفة مقامَ الموصوف؛ احتمل أشياءَ من أَناسى، وغيرِهم، فبَيَّنَ ذلك بإضافته إلى الطير. ¬
فصل [إضافة المسمي إلي اسمه]
ومَن نصبه، كانت الكسرةُ عنده علامةَ النصب على حدّ قولك: "الضارب الرجلَ" بالنصب، ويجوز مع ذلك خفضُ "الطير"، ونصبُه. فالخفضُ على الإضافة على ما سبق على حدّ "رأيتُ الضاربَ الرجلِ". ومَن نصبه، فعلى البدل من "العائذات"، أو عطفِ البيان، أو على التشبيه بالمفعول. فصل [إضافة المسمي إلي اسمه] قال صاحب الكتاب: وقد أضيف المسمى إلى اسمه في نحو قولهم لقيته ذات مرة وذات ليلة ومررت به ذات يوم وداره ذات اليمين وذات الشمال وسرنا ذا صباح قال أنس بن مدركة الخثعمي [من الوافر]: 370 - عزمت على إقامة ذي صباح ... لأمر ما يسود من يسود وقال الكميت [من الطويل]: إليكم ذوي آل النبي تطلّعت ... نوازع من قلبي ظماء وألبب (¬1) * * * قال الشارح: اعلم أنهم قد أضافوا المسمى إلى الاسم مبالغة في البيان؛ لأن الجمع بينهما آكَدُ من إفرادِ أحدهما بالذكر، وفي ذلك دليلٌ من جهةِ النحو أنّ الاسم عندهم غيرُ ¬
المسمى، إذ لو كان إيّاه لَمَا جاز إضافتُه إليه، وكان من إضافةِ الشيء إلى نفسه، فالاسمُ هو اللفظُ المعلَّقُ على الحقيقة، عينًا كانت تلك الحقيقةُ أو معنى، تمييزًا لها باللقب ممن يُشاركها في النوع، والمسمى تلك الحقيقةُ، وهي ذاتُ ذلك اللقب، أي: صاحبُه. فمن ذلك قولُهم: "لقيتُه ذاتَ مرة"، والمراد الزمنُ المسمّى بهذا الاسم الذي هو مرة. ومثلُه "ذاتَ لَيْلَة"، و"مررتُ به ذاتَ يوم"، و"داره ذاتَ الشمال"، و"سِرْنا ذا صباح". كل هذا معناه وتقديرُه: دارُه شمالًا، وسرنا صباحًا بالطريق التي ذكرناها، إلّا أن في قولنا: "ذا صباحٍ"، و"ذاتَ مرة" تفخيمًا للأمر. ومن ذلك قول الشاعر [من الوافر]: عَزَمْتُ على إقامةِ ذهب صَباح ... إلخ المراد: على إقامةِ صاحبِ هذا الاسم، وصاحبُه هو صباحٌ، فكأنه قال: على إقامةِ صباح. و"مَا" مجرورةُ الموضع؛ لأنها وصف لأمر، أي: عَتِيدٍ ومُؤَثّر، يسوّد من يسود. ومثله قول الكُمَيت [من الطويل]: إِلَيْكُمْ ذَوِي آل النبِيّ ... إلخ المراد إليكم يا آل النبي، أي: يا أصحابَ هذا الاسم الذي هو آل النبي. ولو قال: "يا آل النبي"، لم يكن فيه ما في قوله: "يا ذَوِي آل النبيّ"، من المَدْح، والتعظيمِ. وفائدةُ هذا الأسلُوب ظاهرةٌ, لأنه لما قال: "يا ذوي آلِ النبي"، فقد جعلهم أصحابَ هذا الاسم، وهو آل النبي، ومن كان صاحبَ هذا الاسم؛ كان ممدوحًا معظمًا لا محالةَ. وكان قياسُ البيت "ألبُّ" بالادّغام، وإنّما فكه لضرورةِ الشعر على حد قوله [من البسيط]: 371 - [مهلا أَعادِل قَدْ جَربتِ مِنْ خُلُقي] ... أَنّي أجُودُ لأقوامٍ وإنْ ضَنِنُوا ¬
ومنه قول الأَعْشَى [من البسيط]: 372 - فكَذْبُوها بما قالت فصَبّحَهم ... ذو آلِ حَسّان يُزْجِي الموتَ والشرَعَا أي: صبّحهم الجيشُ الذي يقال له: "آلُ حَسانَ"، ومثلُه قول الآخر [من الوافر]: 373 - إذا ما كنتُ مثلَ ذَوَي عَدِيّ ... ودِينارٍ فقَامَ عَلىّ ناعِي ¬
فصل [إقحام المضاف]
أي: مثلَ كل واحد من الرجلَين المسميَيْن: عَدِيًا، ودينارًا، وعليه قراءةُ ابن مَسْعُودٍ: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (¬1)، أي: وفوق كل شخص يُسمى عالمًا عليمٌ. ويحتمل أن يكون "العالمُ" هنًا مصدرًا، بمعنى العِلْم، كالفالج، والباطل، فيكون كقراءةِ الجماعة، أي: وفوق كل ذي عِلْم عليمٌ. وحُكي عن العرب: "هذا ذو زيدٍ"، ومعناه هذا صاحبُ هذا الاسم. وقد كثُر ذلك عندهم. وربّما لطُف هذا المعنى على قوم، فحملوه على زيادة "ذِي" و"ذات"، والصوابُ ما ذكرناه. فصل [إقحام المضاف] قال صاحب الكتاب: وقالوا في نحو قول لبيد [من الطويل]: 374 - إلى الحول ثم اسم السلام عليكما ... [ومن يبك حولاً كاملاً فقد اعتذر] ¬
وفي قولِ ذي الرُمّة [من البسيط]: 375 - [لا يَنعَشُ الطرف إلا ما تَخَوَّنَهُ] ... داعٍ يُنادِيهِ بِاسْمِ الماءِ مَبْغُومُ و [من الطويل]: 376 - تَداعَيْن باسمِ الشيبِ في مُتَثلمٍ ... [جوانبُهُ من بَصْرَة وسِلامِ] ¬
إن المضاف، يَعْنون الاسمَ، مُقْحَم: خروجُه ودخولُه سواء وحَكَوْا: "هذا حَيُّ زيد"، و"أتيتُك وَحيُّ فلان قائمٌ، وحي فُلانةَ شاهِدٌ"، وأنشدوا [من الكامل]: 377 - يا قُرّ إن أباكَ حَيَّ خُوَيْلِدِ ... قد كُنْتُ خائفَهُ على الإخماقِ وعن الأخْفَش أنه سمِع أَعْرابيًا يقول في أبيات:"قالهن حيُّ رَباح" بإقحامِ "حيِّ" والمعنى: هذا زيدٌ، وإن أباك خويلدًا، وقالهن رباح. ومنه قولُ الشمّاخ [من الوافر]: 378 - [ذعَرْتُ به القطا] ونَفَيتُ عنهُ ... مقام الذِئْبِ [كالرَّجُل اللعينِ] أي: الذئب. * * * ¬
قال الشارح: هذا الفصل يُخالِف ما قبلَه؛ لأن هذا فيه إضافةُ الاسم إلى المسمى، والذي قبله فيه إضافةُ المسمى إلى الاسم، فقولُ لبِيد [من الطويل]: إلى الحَوْل ثُم اسمُ السلامِ علَيكُما ... ومَن يَبكِ حَوْلًا كامِلًا فَقَدِ اعْتَذَر فإنّ المراد: ثم اسمُ معنى السلام عليكما، فحذف المضافَ. واسمُ معنى السلام هو السلامُ، فكأنه قال: ثم السلامُ عليكَما، فكذا قولُنا: "بِاسْم اللهِ" المرادُ باسم معنى الله، أو اسم معناه الله، فكأنه قال: "باللهِ" ومثلُه قول ذي الرُمة [من البسيط]: لا يَنْعَشُ الطرف إلا ما تَخَوَّنَهُ ... داع يُنادِيهِ باسمِ الماءِ مَبُغُومُ المراد: باسمِ معني الماء، فحذف المضافَ، واسمُ معنى الماء هو الماء. و"ماء" حكايةُ صوت الشاة. قال الشاعر [من الطويل]: 379 - ونادَى بها ماءٍ إذا ثَارَ ثَوْرَة ... أُصَيبِحُ نَوّامٌ إذا قام يَخرَقُ ¬
وإذا كان أصلُ الصوت ماء، فالألفُ واللام فيه زائدة, لأنها لا تلحَق بهذا القبيل، ألا ترى أنهم لم يُلحِقوا بها "غَاقِ"، و"صَهْ" ونحوَه من "قَب"، و"طَقْ". قال سيبويه في "لَوْ" و"لَيْتَ" إذا جُعِلا اسمَين، جعلوه بمنزلةِ "ابن عِرْسٍ"، وقال في الحاء والجِيم جعلوه بمنزلةِ "العباس". ويجوز أن يُشبه أحدهما بالآخر، فيدخلَ عليه الألفُ واللام؛ لأنه كثُر دخولُها فيه. ومنه قولُ الآخر [من الرجز]: 380 - يَدعُونَنِي بالماءِ ماءً أسوَدَا يعني: بدعونني الغَنَمُ بالماء، أي: يَقُلْن لي بهذا الصوت الذي هو ماء: "أَصبْتَ مَاءً أَسْوَدَ"، وأما قول ذي الرمة [من الطويل]: تَداعَينَ باسم الشيبِ في مُتثلِّم ... جوانِبُهُ من بَصْرَةٍ وسِلامِ (¬1) فإن "شِيبِ" حَكايةُ صوت جَذبها الماءَ، ورَشفِها عند الشُرب، قال الشاعر [من الطويل]: 381 - فلما دَعَت شِيبًا بجَنبي عُنَيزةٍ ... مشافِرُها في ماء مُزنٍ وباقِلِ ¬
وأبو عُبَيدَةَ يحمِل المضافَ في ذلك كلّه على الزيادة في هذا الفصل والذي قبلَه، فالمرادُ عنده بقوله: ثُم اسمُ السلام عليكما أي: السلامُ عليكما، فالمضافُ الذي هو "اسْمٌ" زائدٌ مُقْحَمٌ، وكذلك "اسْمٌ"، من "باسْم اللهِ"، المرادُ: بالله، وكذلك قوله: "إليكم ذَوِي آلِ النبي" (¬1)، المراد: آل النبي، و"ذُو" زائدةٌ عنده. ولَعَمْرِي أن المعنى على ما ذكر، إلَّا أن الطريقَيْن مختلفان، فهو يعتقِد في اللفظ زيادةَ مضاف، ونحن نعتقِد فيه حذفَ مضاف على ما تقدّم، وصاحبُ الكتاب، قد اعتقد زيادة المضاف الذي هو اسم هنا، ولم يعتقده في الذي قبله، فكأنه مذهبٌ ثالثٌ، والحقُّ ما ذكرناه. وأمّا قولهم: "حَيُّ زيدٍ" و"أتيتُك وحَى فلانٍ قائمٌ، وحَيُّ فُلانةَ شاهِدٌ"، فهو من قبيل إضافةِ المسمى إلى الاسم كالفصل المتقدّم، فالحي هنا ليس بالقبيلة من قولك: "حَيُّ تميم"، و"قبيلةُ كَلْب"، إنما هو من قولك: "هذا رجل حَى، وامرأة حَيَّة". وتلخيصُه: الشخص الحي اَلذي اسمُه زيدٌ، وأتيتُك والشخص الحي الذي اسمُه فلان قائم، ومنه قول الشاعر: يا قُر إن أبَاكَ حَن خُوَيْلِد ... إلخ كأنه قال: أباك الشخصَ الحَى خويلدًا من أمْره كذا وكذا، ومثلُه قولُ الآخر [من الوافر]: 382 - ألا قَبَحَ الإلهُ بني زِيادٍ ... وحَى أَبِيهِمِ قَبْحَ الحِمارِ ¬
فصل [إضافة أسماء الزمان]
يريد: وأباهم الشخصَ الحَى. وأبو عُبَيْدة يحمِل ذلك كله على الزيادة والإقحامِ، فاعرفه. فصل [إضافة أسماء الزمان] قال صاحب الكتاب: وتضاف أسماءُ الزمان إلى الفعل، قال الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} (¬1). وتقول: "جئتُك إذ جاء زيدٌ"، و "آتِيك إذا احْمَرَّ البُسْرُ"، و"ما رأيتُك مُنْذُ دَخَلَ الشتاء, ومُذْ قَدِمَ فلانٌ". وقال [من الكامل]: 383 - حَنّتْ نَوار ولاتَ هَنا حَنتِ ... [وبدا الذي كانت نُوارُ أَجَنَّتِ] وتضاف إلى الجملة الابتدائيةِ أيضًا، كقولك: "أتيتك زَمانَ الحَجاجُ أَمِيرٌ، وإذ الخَليفةُ عبدُ المَلِك". وقد أضيف المكانُ إليهما في قولهم: "اِجْلِسْ حيثُ جلس زيدٌ وحيثُ زيدٌ جالسٌ". * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم القولُ: إن الإضافة إلى الأفعال ممّا لا يصحّ؛ لأن الإضافة ينبغي بها تعريفُ المضاف، وإخراجُه من إبهام إلى تخصيص على حسب خصوصِ المضاف إليه في نفسه، والأفعالُ لا تكون إلا نكراتٍ، ولا يكون شيءٌ منهاَ أخصَّ من شيء، فامتنعت الإضافةُ إليها لعدمِ جَدْواها، إلا أنهم قد أضافوا أسماء الزمان إلى الأفعال، فقالوا: "هذا يومُ يقومُ زيدٌ"، و"ساعةُ يذهَبُ عمرُو"، وقال الله تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} (¬1). وقال: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} (¬2). وقال الشاعر [من الطويل]: على حِينِ عاتَبتُ المَشِيبَ على الصِّبا ... وقُلتُ ألَمّا أَصحُ والشيبُ وازعُ (¬3) فأضاف "الحِينَ" إلى الفعل الماضي، فقال قومٌ: الإضافة إئما وقعت إلى الفعل نفسِه تنزيلًا له منزلةَ الفعل المسمى مصدرًا. وقد يقع الفعلُ موقعَ المصدر في مواضعَ، نحو قولهم: "تَسمَعُ بالمُعَيدِي خَيرٌ من أن تَراهُ" (¬4)، وكقوله تعالى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} (¬5) والمراد: الإنذارُ وعدمُ الإنذار، ومنه قول الشاعر [من الوافر]: فقالوا ما تَشاءُ فقلتُ أَلْهو ... [إلي الإصْباح آثِرَ ذي أَثيرِ] (¬6) قالوا: واختص الزمانُ بذلك من بين سائرِ الأسماء لمُلابَسة بين الفعل وبينه، وذلك أن الزمان حَرَكَة الفَلَك، والفعلَ حركةُ الفاعل، ولاقتران الزمان بالحَدَث، فلما كان بينهما هذه المُنَاسَبةُ؛ اختص بالإضافة، ولقا كان الفعلُ لا ينفك من الفاعل؛ صارت الإضافةُ في اللفظ إلى الجملة، والمرادُ الفعل نفسه. وقال قوم: إنما أضيف الزمان إلى الفعل, لأن الفعل يدل على الحدث والزمانِ، فالزمانُ أحدُ مدلولي الفعل، فساغت الأضافةُ إليه كإضافةِ البعض إلى الكل. وذهب قومٌ إلى أن الإضافة إنّما إلى الجملة نفسِها، لا إلى الفعل وحدَه، فأضافوا الزمانَ إلى الجملة من الفعل والفاعل، كما أضافوه إلى الجملة من المبتدأ والخبر، فقالوا: "هذا يوم يقومُ زيدٌ"، كما قالوا: "رأيتُ يومَ زيدٌ أميرٌ، وزمنَ أبوك غائبٌ". وتكون الإضافةُ في اللفظ إلى الجملة، والمرادُ المصدرُ. فهذا قلت: "هذا يومُ يقوم زيدٌ، أو يومُ زيدٌ قائمٌ"، ¬
فإنما تريد: يومُ قيام زيدٍ، فكأنه أضاف إلى مدلولاتِ الجمل، ومدلولاتُها معانٍ، وإن كانت تتركبُ من الأعيان والمعاني. والأزمنةُ تكون ظروفًا للمعاني دون الأعيان، نحو قولك: "القتالُ اليومَ"، ولو قلت "زيدٌ اليومَ"، لم يصح، فالمُلابسةُ إذا بين الزمان والمعنى ظاهرةٌ. والإضافة تصحّ بأدنى مُلابسة، فهذا قلت: "أتيتُك زمن الحَجاجُ أميرٌ، وعبدُ الملك خليفةٌ"، والمعنى: زمنا كان ظرفًا لإمارة الحجّاج، وخِلافة عبد الملك، فالإضافةُ في الحقيقة إنما هي إلى الحدث الدال عليه الجملةُ، لا إلى الجملة، إذ الإضافةُ لا تجوز إِلا إلى ما تجوز إضافتُه. وقد ردّ ابنُ دُرُسْتوَيْه القول الأول، وقال: الزمنُ إنما أضيف إلى الجملة نفسِها، لا إلى الفعل وحدَه، ويدل على ذلك أنّ موضعَ الجملة خفضٌ بلا خلافٍ، ولو كانت الإضافة إلى الفعل؛ لكان مخفوضًا، أو كان مفتوحًا في موضع الخفض، فالإضافةُ إلى الجملة، والمرادُ مدلولُها الذي هو الحدث. فأما قول صاحب الكتاب: "وتضاف أسماءُ الزمان إلى الفعل"، فالمراد إلى الجملة من الفعل والفاعل، ولم يذكر الفاعل للعِلْم بأن الفعل لا بد له من فاعل، لا أنه أراد أن الزمان مضافٌ إلى الفعل مفردًا من الفاعل، والذي يدل على ذلك قوله فيما بعدُ: وتضاف إلى الجملة الابتدائية أيضًا، فقدله: " أيضًا" دليل على ما قلناه. فأما: "إذْ" و"إذا"، فظرفان من ظروف الزمان أيضًا، ويضافان إلى الجُمل كسائرِ أسماء الزمان، إلا أن غيرهما من أسماء الزمان، البابُ فيه إضافته إلى المفرد، نحو: "صُمتُ يوم الجُمْعة"، و"صليتُ يومَ الخَميس". وإضافتُها إلى الجملة على طريقِ الجواز والتأويل، و "إذ" و"إذا" لا تضافان إلا إلى الجمل، فـ "إذا" لا تضاف إلى الجملتَين الفعلية والاسمية، نحو: "جئتُك إذ زيدٌ قائمُ، وإذ قام زيدٌ". و"إذا" لا تضاف إلَّا إلى جملة فعلية، نحو: "آتِيك إذا احَمَرَّ البُسرُ، وإذا طلعت الشمسُ". وسيأتي الكلامُ عليهما مستقصى إن شاء الله تعالى. فأما "مُنْذُ" فهي في نفسها لا تضاف البتةَ، لأتها تكون على ضربَيْن: حرفٌ، واسمٌ، فهذا كانت حرفًا كانت بمعنى الحاضر، وكانت الإضافةُ فيها أَبعَدَ، وكان ما بعدها مخفوضًا بمعنَى "في"، نحو قولك: "ما رأيتُه مُنذُ الليلةِ"، أي: في الليلة. وإذا كانت اسمًا، كانت بمعنى "الأمَد"، وكانت مرفوعة بالابتداء، وما بعدها خبرُها. فهي لا تكون مضافة البتّة، فإذا قلت: "ما رأيتُك مُذْ دَخَلَ الشِتاءُ، ومُنْذُ قام زيدٌ"، فالتقدير: ما رأيتك مُنْذُ زمنُ قام زيدٌ، أو وقتُ قام زيدٌ. فالزمنُ والوقتُ مضافٌ إلى الفعل، ثم حُذف المضاف للعلم بمكانه. فمثّل به لأنّه موضعٌ يضاف فيه الزمانُ إلى الفعل، لا أن "منذ" في نفسها هي المضافةُ. فالزمن والوقت
مضافٌ إلى الفعل. فأمّا قولُ سيبويه (¬1) في باب الإضافة إلى الفعل (¬2) ومما أضيف إلى الفعل قولهم: "مُذْ كان كذا"؛ فليس يريد أن "مذ" مضافة إلى الفعل، وإنّما المرادُ أنّ المضاف إلى الفعل الزمنُ المحذوفُ. والذي يقع بعد "مُذْ" خبرْ للمبتدأ، وذلك أنّك إذا قلت: "ما رأيتُه مد كان كذا وكذا"، فتقديرُه: مذ زمنُ كان كذا وكذا، فحُذف الزمن، وأُقيم الفعل مُقامَه. فالفعلُ في موضع خبرِ المبتدأ، ولا يجوز أن تكون "مُذْ" نفسُها مضافة، لأنّه كان يلزم، لو أضفتَها إلى الفعل، أن تكون ظرفًا، و"مُذْ" لا تُستعمل إلا مبتدأة، ولذلك منعوا جوازَ الإخبار عنها. وأما قوله [من الكامل]: ... ولَاتَ هَنَّاَ حنَّتِ فالشاهد فيه أنَّه أضاف "هَنَّا" إلى "حنت". و"هَنَّا" أصلُها المكان، وفيها ثلاثُ لغات: "هَنَّا"، و"هِنَّا"، و"هُنَّا"، وقد أُجْرِيَت مُجرَى الزمان مَجازًا، قال الأعشَى [من الخفيف]: 384 - لاتَ هَنا ذِكْرَى جُبَيْرةَ أو مَن ... جاءَ منها بطائفِ الأهوالِ أي: ليس هذا أَوانَ ذِكْرَى جبيرةَ، وهي امرأةٌ، وكذلك قوله [من الرجز]: حَنَّتْ نَوارُ ولَاتَ هَنَّا حَنَّتِ ¬
[مما يضاف إلي الفعل]
أي: ليس هذا أوانَ حَنِينٍ. و"نَوارُ" اسمُ امرأة. وقد أضيف "حَيْثُ" من الأمكِنة إلى الجملة، وذلك على التشبيه بـ "إذْ" و"إذا" في الزمان من جهة إبهامها. وذلك أن "حَيْثُ" ظرفٌ من ظروفِ الأمكنة، يقع على الجهات الست، وغيرِها من الأمكنة، فناسَبَ "إذْ" و "إذَا" في وُقوعهما على جميعِ الزمان الماضي والمستقبلِ. فأمّا "إذْ" فمُبْهَمَةٌ في جميع الزمان الماضي، لا اختصاصَ لها بزمان منه دون آخر، بل هي مبهمة في الجميع. و"إذا" كذلك مبهمة في جميع الأزمِنة المستقبلة كلِّها، فاحتاجت إلى جمله بعدها تُوضحها وتُبَينها، كما كانت "إذْ" و"إذا" كذلك. وسيأتي الكلامُ عليها مستقصى في موضعها من الظروف المبهمة. * * * [مما يُضاف إلي الفعل] قال صاحب الكتاب: وممّا يضاف إلى الفعل "آيَة" لقُرْب معناها من معنى الوَقْت. قال [من الوافر]: 385 - بآيَةِ يُقْدِمون الخَيلَ شُعْثًا ... كأنّ على سَنابِكِها مُدامَا وقال [من الوافر]: 386 - ألاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي تَمِيمَا ... بآيَةِ ما يُحِبون الطَعامَا ¬
و"ذو" في قولهم: "اذهب بذِي تَسلَمُ"، و"اذهبَا بذِي تَسلَمان"، و"اذهَبُوا بذِي تسلمونَ" أي: بذِي سَلامتِك، والمعنى: بالأمر الذي يُسلِّمك. * * * قال الشارح: قد أضيف إلى الفعل غيرُ الزمان ممّا هو جارٍ مجراه، ومُشْبِة له. قالوا: "أتيتَني بآيَةِ قام زيدٌ"، فأضافوا "آيَة" إلى الجملة من الفعل والفاعل؛ لأنها بمنزلةِ الوقت. وذلك أن "الآية" العلامةُ، والأوقاتُ علاماتٌ لمعْرفة الحوادث، وترتيبِها في كونها ما يتقدم منها وما يتأخر، وما يقترِن وجودُه بوجودِ غيره، والمِقدار الذي بين وجودِ المتقدّم منها والمتأخرِ، فصار ذكرُ الوفت عَلَمًا له. ألا ترى أثها تكون علامات لحلولِ الدُيون وغيرِها؟ فصح إضافةُ "الآية" إلى الفعل كما تُضيف الوقتَ؛ لأنهما في التحصيل يَؤُولان إلى شيء واحد، فأمّا قول الشاعر [من الوافر]: بآيَةِ يُقْدِمون الخَيلَ شُعْثًا ... إلخ فالشاهد فيه إضافةُ "الآية" إلى الفعل الذي هو"يقدمون". يقول: أبلغهم كذا بعَلامةِ إقدامهم الخَيل شُعثًا متغيرة من الجَهْد، وشَبْهَ ما يتصبّبُ من عرَقها ودَمِها بالمُدام لحُمرته. والسنابك: جمعُ سُنبُك، وهو مُقَدمُ الحَوافِر، يريد أنه لمّا صار ذلك عادة لهم، وأمرًا لازمًا؛ صار علامة، وكذلك قال الآخر [من الوافر]: ألا مَن مُبلِغ ... إلخ البيت ليزيد (¬1) بن عمرو بن الصَّعِق، والشاهدُ فيه أيضًا إضافةُ "الآية" إلى "يُحِبون". والمعنى: إذا رأيتَ تميمًا، فبَلغْهم عني الرسالة. فكأن قائلًا قال: "بأي علامةٍ تُعْرَف تميمٌ؟ " فقال: "بعلامةِ ما يُحِبون الطعامَ." وإنما ذكر حُب تميم الطعامَ، وجعل ¬
فصل [الفصل بين المضاف والمضاف اليه]
ذلك آية لهم يُعرفون بها، لما كان من أمرهم في تحريق عمرو بن هندٍ لهم، ووُفودِ البُرجُمي عليه، ثم شَمّ رائحةَ المُحْرَقين فظَنهم طعامًا يُصنع، فقُذف به إلى النار. والبَراجمُ حَىٌّ من تميم، وخبرُهم مشهور، وذلك أن عمرو بن هندٍ كان نَذرَ أن يُحرق مائةَ رجل من بني دارِم، بسَببِ قَتلهم أخا له، فأحرق تسعة وتسعين رجلًا من بني دارم، وأراد أن يُكمّل مائة، فلم يَجِد، فوَفدَ عليه رجل، فقال له عمرو: ما جاء بك؟ فقال: حُبُّ الطعام، قد أقويتُ الآنَ ثلاثًا، لم أَذُقْ طعامًا، ولما سطع الدُّخانُ ظننتُها نارَ طعام. فقال له عمرو: مِمن أنت؟ فقال: من البَراجِم. فقال [من الرجز]: إن الشقِى وافِدُ البَراجِمِ (¬1) فذهبتْ مَثَلًا، ورُمي به إلى النار. قال أبو عُبَيدَةَ: خمسة من أولادِ حَنظلَةَ بن مالك بن عمرو بن تميبم يقال لهم: البَراجِمُ، ودارِمٌ من أولادِ حنظلةَ. وأما قولهم: "اذهَب بذِي تَسلَمُ"، فمعناه: بذي سلامتِك، فهو من إضافةِ المسمى إلى الاسم، فكأنه قال: "اذهب بسلامتك"، فنزل الفعل منزلة المصدر على حد قوله [من الوافر]: فقالوا ما تَشاءُ فقلتُ ألهُو ... [إلي الإصْباحِ آثِرَ ذي أثيرِ] (¬2) وتد ذكر بعضُ العلماء أن "ذي" هنا بمعنى "الذي"، كأنه قال: "اذهب بالذي تَسْلَمُ"، والهاء محذوفةٌ، وهو مصدرٌ، كأنّه قال: بالسلامة الذي تَسلَمُه، وذَكر لأنه أراد السلامَ، وإن لم يَستعمِل فاعرفه. فصل [الفصل بين المضاف والمضاف اليه] قال صاحب الكتاب: ويجوز الفَصْل ببن المضاف والمضاف إليه بالظرف في الشعر، من ذلك قول عمرو بن قَمِيئة [من السريع]: [لما رأت ساتيدَما استَعبَرَت] ... للهِ دَرُّ اليَومَ مَن لامَها (¬3) وقول دُرنَا [من الطويل]: 387 - هُما أَخَوا في الحَرب مَن لا أَخَا لَهُ ... [إذا خافَ يومًا نبوَةً فدعاهما] ¬
وأما قولُ الفَرَزدَق [من المنسرح]: 388 - [يا مَن رأى عارضًا أسَرُّ به] ... بَينَ ذِراعَي وجَبْهَةِ الأَسَدِ ¬
وقول الأعشي [من مجزوء الكلام]: 389 - إلا علالة أو بدا ... هةَ سابح [نهد الجزاره] فعلى حذف المضاف إليه من الأول استغناء عنه بالثاني وما يقع في بعض بنسخ الكتاب من قوله [من مجزوء الكامل]: 390 - فزججتها بمزجةٍ ... زج القلوص أبي مزاده فسيبويه برئٌ من عهدته. * * * ¬
قال الشارح: الفصل بين المضاف والمضاف إليه قبيح، لأنّهما كالشيء الواحد. فالمضافُ إليه من تمامِ المضاف، يقوم مقامَ التنوين، ويُعاقِبُه، فكما لا يحسُن الفصلُ بين التنوين والمنوَّنِ، كذلك لا يحسن الفصل بينهما. وقد فُصل بينهما بالظرف في الشعر ضرورةَ، فمِما جاء في الشعر من ذلك قولُ عمرو بن قمِيئَةَ [من السريع]: لمّا رَأَت سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَت ... لِلهِ دَرُ اليَوْمَ مَنْ لَامَهَا (¬1) سَاتِيدَمَا: جَبَلٌ بعَينه، قيل: لا يَمُرُّ عليه يوم من الزمان، لا يُسفَك فيه دَمُ، فسُمّي: ساتيدما. يصف امرأة أنها مرّت بهذا الجبلِ، فذكرتْ بِلادَها لقُرْبه من بلادها، فبَكَتْ، فقال: "لله درُ اليومَ مَن لامها على بُكائها وشَوْقِها". فـ "مَنْ" في موضعِ خَفْض بإضافةِ "دَرُّ" إليه، و"اليوم" نصبُ على الظرف، وقد فُصل به بينهما، ولا يجوز إضافةُ "دَرّ" إلى "اليومَ" على سبيلِ الاتساع في الظروف، وجَعْلُه مفعولًا به، لأنك لو خفضتَ "اليوم" بالإضافة، لم يكن لـ "مَن" ما يعمل فيه، بخلاف قول الآخر [من الرجز]: رُبّ ابنِ عَم لِسُلَيْمَى مُشمَعِلْ ... طَباخِ ساعاتِ الكَرَى زادَ الكَسِلْ (¬2) فهذا يُنشد بنصبِ "الزاد"، وإضافةِ "طباخ" إلى "ساعات". وساغ ذلك لأنه لما أضفتَ "طباخ" إلى "ساعات"، صار بمنزلةِ المنوَّن، وكان ممّا يَنصِب لِما فيه من معنى الفعل، فنَصَبَ "الزادَ". وليس كذلك "دَرّ"من قوله: "لله دَرُّ اليوم من لامها"؛ لأنك لو نوّنت "دَرًّا"، لم يكن له أن ينْصِب، فلذلك لزم نصبُ "اليوم" على الظرف، والحكمُ على "مَن" بالخفض. ويجوز في "طَباخ ساعات الكرى" خفضُ "الزاد"، ويكون "ساعات الكرى" منصوبًا على الظرف، وقد فصلتَ به مُضطرًّا. ¬
ومما جاء الفصلُ فيه أيضًا قولُ دُرْنَا بنتِ عَبْعَبَةَ، من بني قيْسٍ بن ثَعْلَبَةَ [من الطويل]: هما أَخَوَا في الحَرْب من لا أَخَا له ... إذا خافَ يومًا نَبوَة فَدعَاهما الشاهد فيه إضافةُ "الأخوَين" إلى "مَن" مع الفصل بالجارّ والمجرور، وهو كالذي تقدّم تَرْثِي أخَوَيْها. تقول: كانا لمَن لا أخَ له في الحرب، ولا ناصرَ كالأخوَين ينصُرانه. وأمّا قول الفَرزدَق [من المنسرح]: يا مَن رَأَى عارِضًا أَرِقْتُ له ... بَينَ ذِراعَيْ وجَبْهَةِ الأَسَدِ فأنشده سيبويه (¬1) على أنّه فصل بين المضاف والمضاف إليه، وأن المعنى بين ذراعَي الأسدِ، والجَبهَةُ مُقْحَمةٌ على نية التأخير. وقد رد ذلك عليه محمدُ بن يزيدَ (¬2)، وقال: لو كان كما ظن؛ لقال: "وجبهَتِه"، لكنه من بابِ العطف، والتقديرُ: بين ذراعَي الأسدِ، وجبهةِ الأسدِ. ومثلُه في حذفِ المضاف إليه من الأوّل لدلالةِ الثاني عليه قوله [من البسيط]: يا تَيمَ تَيمَ عَدِي [لا أبالكُمُ ... لا يُلْقيَنكُمْ في سَوْأه عُمَرُ] (¬3) والمراد: يا تيم عدي تيم عديّ، فهو من قبيلِ "مررتُ بخيرِ وأفضلِ من ثم". والمرادُ: بخيرِ مَن ثم، وأفضل مَن ثم، وقد اختار صاحبُ هذا الكتاب هذا الوجه، وهذا لا يقدَح فيما ذهب إليه سيبويه؛ لأنه يجوز أن يكون المراد ما ذكره، ويكون الفصلُ صحيحًا بالجبهة، ويجوز أن يكون كما ذكره أبو العباس، ولا يخرج عن الفصل، وإن كان المضافُ إليه مقدرًا؛ لأن المضاف إليه، لما حُذف من اللفظ؛ وَلِيَ المضافُ شيئًا غيرَ المضاف إليه. وهذه صورةُ الفصل بين المضاف والمضاف إليه، ألا ترى أنّه استُقبح "علمتُ أن يقومُ زيدٌ"، وإن كانت الهاءُ مقدّرة، لأنها لم تخرج إلى اللفظ؛ وَلِيَ الحرفُ الفعلَ، فقبح عندهم، حتى تَعرضوا السينَ، أو"سَوْفَ"، أو"قَدْ". فكما أن هذا المحذوف لمّا لم يخرج إلى اللفظ؛ لم يُعتدّ به، كذلك المضافُ إليه إذا حُذف، لم يقع به اعتدادٌ، فحصل الفصل بين المضاف، والمضاف إليه. وأما قوله: كان يلزم أن يقول (¬4): "وجبهته"؛ فتقول: وعلى ما ذهب إليه أبو العباس يلزمه أن يقول: "وجبهته" أيضًا، فعُذرُه عن ذلك عُذرُ سيبويه. وأما معنى البيت؛ فإنه وصفُ عارضِ سَحاب، اعترض بين نَوْءِ الذراع، ونَوءِ الجبهة، وهما من أنواء الأسد. وأنواؤه من أحمد الأنواء، وذَكَرَ الذراعَيْن، والنوْء للذراع المقبوضةِ منهما، لاشتراكهما في أعضاء الأسد والتسمية، ونظيره قوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا ¬
[حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه]
اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} (¬1)، يريد: من البحرَيْن، وإنّما يخرج اللؤلؤُ والمرجان من أحدهما، وأما قول الأعشى [من الكامل]: ولا نُقاتِلُ بالعِصِيْ ... يـ ولا نُرامِي بِالحجارَهْ إلا عُلالَةَ أو بُدا ... هة سابِح نَهْدِ الجُزارَهْ (¬2) فالشاهد فيه الفصلُ بين المضاف والمضاف إليه، مثل الذي قبلَه، والخلافُ فيه كالذي قبله. والتقديرُ فيه: إلَّا عُلالَةَ سابح، أو بُداهتَه. فأما الفصل بغير الظرف؛ فلم يَرِد به بيتٌ، والقياسُ يَدْفَعُه، فأما قوله [من مجزوء الكامل]: فَزَجَجتُها بمِزَجَّةِ ... إلخ فإنّه أنشده الأخفشُ في هذا الباب، والشاهدُ فيه أنه أضاف المصدرَ إلى الفاعل، وفصل بينهما بالمفعول. وذلك ضعيف جدًّا، لم يصح نَقْلُه عن سيبويه، على أن ابن كَيسانَ قد نقل عن بعض النحويين أنه يجوز أن يُفرَق بين المضاف والمضاف إليه، إذا جاز أن يُسكَت على الأول منهما، لأنه يصير ما فرق بينهما كالسكْتَة التي تقع بينهما، وقد قرأ ابنُ عامرٍ: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} (¬3) بنصبِ "الأولا"، وخَفْضِ "الشركاء"، فهذا فصل بين المضاف والمضاف إليه بالمفعول. وحكى الكِسائيُّ: "أخذتُه بأدَّى ألْفِ درهم". وهذا أفحشُ ممّا تقدّم, لأنه أدخلَ حرفَ الجرّ على الفعل، وفصل به بين الجارّ والمجرور. ولا يُقاس على شيءِ من ذلك. وإنّما جاز بالظرف, لأن الأحداث وغيرَها لا تكون إلَّا في زمانِ أو مكان، فكانت كالموجودة، وإن لم تُذكَر، فكأن ذِكرَها وعدمَها سِيان، فلذلك جاز إقحامُها فاعرفه. فصل [حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه] قال صاحب الكتاب: وإذا أمنوا الإلباس, حذفوا المضاف, وأقاموا المضاف إليه مقامه وأعربوه بإعرابه. والعلم فيه قوله تعالى: {واسأل القرية} (¬4)؛ لأنه لا يلبس أن المسؤول أهلها لا هي, ولا يقال: "رأيت هنداً", يعنون رأيت غلام هندٍ. وقد جاء الملبس في الشعر قال ذو الرمة [من الطويل]: 391 - عشية فر الحارثيون بعد ما ... قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر ¬
وقال [من الطويل]: 392 - [فَهَلْ لكُمُ فيها إلَي فإنني ... بَصيرٌ] بمَا أَعْيَا النطاسِي حِذْيَمَا أي: ابنُ هَوْبَرٍ وابنَ حِذْيَمِ. * * * ¬________ = العرب 5/ 248 (هبر)؛ وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 1327، والمقرب 1/ 214، 2/ 205؛ وهمع الهوامع 2/ 51. اللغة: قضى نحبه: مات. ملتقى القوم: مكان التقائهم. هوبر: يزيد بن هوبر الحارثي. الإعراب: "عشية": مفعول فيه ظرف زمان منصوب بالفتحة الظاهرة، متعلق ببيت سابق." فرّ": فعل ماض مبني على الفتح الظاهر. "الحارثيون": فاعل مرفوع بالواو لأنه جمع مذكر سالم. "بعدما": "بعد" مفعول فيه ظرف زمان منصوب بالفتحة الظاهرة، متعلق بالفعل "فرّ"، و"ما": مصدرية. "قضى": فعل ماض مبني على الفتح المقدر على الألف للتعذر. والمصدر المؤول من "ما" والفعل "قضى" في محل جرّ بالإضافة."نحبه": مفعول به منصوب بالفتحة الظاهرة، والهاء: ضمر متصل مبني في محل جر بالإضافة. "في": حرف جر. "ملتقى": اسم مجرور بالكسرة المقدرة على الألف للتعذر، وهو مضاف. والجار والمجرور متعلقان بـ "قضى" "القوم": مضاف إليه مجرور بالكسرة الظاهرة. "هوبر": فاعل مرفوع بالضمة الظاهرة. وجملة "فرّ الحارثيّون": في محل جر بالإضافة. والشاهد فيه: حذف المضاف "ابن" وإقامة المضاف إليه "هوبر" مقامه. وهذا من الملبس؛ لأنه عن المحتمل أن السامع لا يعرف ابن هوبر هذا، وليس هناك قرينة تشير إلى ذلك. 392 - التخريج: البيت لأوس بن حجر في ديوانه ص 111؛ وخزانة الأدب 4/ 370، 372، 373، 376؛ وشرح شواهد الشافية ص 116، 117؛ ولسان العرب 6/ 232 (نطس)، 12/ 119 (حذم)، 15/ 436 (إلى)؛ وبلا نسبة في جمهرة اللغة ص 838، 1327؛ والخصائص 2/ 453. اللغة والمعنى: حِذْيَم: المراد به ابن حذيم، وهو رجل من تَيم الرباب كان أَطَبّ العرب. النطاسي: الخبير. الضمير في "فيها" لمعزى الشاعر التي كان قد غنمها من بني الحارث بن سدوس بن شيبان الذين يطالبهم الشاعر بردها مهددًا إياهم بمقدرته على أن ينتقم منهم، وعلى رَد معزاه. الإعراب: "فهل": الفاء: استئنافية، و"هل": حرف استفهام. "لكم": جار ومجرور متعلقان بخبر محذوف لمبتدأ محذوف، والتقدير: "هل لكم رغبة في رَدّ المعزى إليّ". "فيها": جار ومجرور متعلقان بالمصدر "رغبة" وهو المبتدأ المقدر المحذوف، وفي "فيها" حذف وإقامة المضاف إليه مقام المضاف والتقدير: "هل لكم رغبة في رَدها إلي" فحذف المضاف "رَد" وأبقى المضاف إليه، وهو "ها". "إلي": جار ومجرور متعلقان بالمصدر "رَد" المحذوف والمقدر. "فإنني": الفاء: استئنافية، و"إنني": حرف مشبه بالفعل، والنون: للوقاية، وياء المتكلم: اسم "إن" محله النصب. "بصير": خبر"إنّ" مرفوع. "بما": الباء: حرف جر، و"ما": اسم موصول مبني على السكون في محل جر بحرف الجر، والجار والمجرور متعلقان بالصفة المشبهة "بصير". "أعيا": فعل ماضٍ مبني على الفتح المقدر على الألف، والفاعل ضمر مستتر تقديره: هو، يعود على "ما". "النطاسيَّ": مفعول به منصوب."حذيما": بدل من "النطاسي" منصوب مثله. وجملة "هل لكم فيها إلي": استئنافية لا محل لها من الإعراب، وكذلك جملة "إنني بصير".=
قال الشارح: اعلم أن المضاف قد حُذف كثيرًا من الكلام، وهو سائغُ في سعةِ الكلام، وحالِ الاختيار، إذا لم يُشكِل. وإنّما سوّغ ذلك الثقَةُ بعلم المخاطَب، إذ الغرضُ من اللفظ الدلالةُ على المعنى، فإذا حصل المعنى بقرينةِ حالٍ، أوَ لفظٍ آخرَ، استُغنى عن اللفظ الموضوع بإزائه اختصارًا. وإذا حُذف المضاف، أقيم المضافُ إليه مُقامَه، وأعرب بإعرابه، والشَاهد المشهور في ذلك قوله تعالى {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} (¬1). والمراد: أَهْلَ القريةِ؛ لأنه قد عُلم أن القرية من حيثُ هي مَدَرٌ وحَجَر، لا تُسأَل؛ لأن الغرض من السؤال رَدُّ الجواب، وليس الحجرُ والمدرُ مما يُجِيب واحدٌ منهما. وقوله: و"العَلَمُ فيه" يريد أنّ الآية قد اشتهر أمرُها بذلك، حتى صارت عَلَما على جوازِ حذفِ المضاف، إذ الأمرُ واضح فيها من جهة المعنى. ومن ذلك قوله تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} (¬2)، وقوله: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} (¬3). تقديره: برُّ مَن، وإن شئت؛ كان تقديرُه: ولكن ذا البر من اتقى، فلا بد من حذفِ المضاف؛ لأن البر حَدَثٌ، و"من اتقى" جُثَّةٌ، فلا يصح أن يكون خبرًا عنه؛ لأنّ الخبر إذا كان مفردًا، كان هو الأول، أو منزَّلًا منزلته؛ فلذلك حُمل على حذفِ المضاف. والأول أشبهُ, لأن حذفَ المضاف ضربٌ من الاتساع، والخبرُ أَوْلى بالاتساع من المبتدأ؛ لأن الاتساع بالأعجاز أَوْلى منه بالصُّدور، ومن ذلك قولهم: "الليلةُ الهِلال"، لا بد من حذفِ المضاف، رفعتَ "الليلة" أو نصبتَها، فإن رفعتَ، كان التقديرُ: الليلةُ ليلةُ الهلال، وإن نصبتَ، كان التقديرُ: الليلةَ حُدوثُ الهلال، أو طلوعُه، ومن ذلك قول الشاعر [من البسيط]: 393 - المالُ يُزْرِي بأقوامٍ ذَوِي حَسَبٍ ... وقد يُسَوَّدُ غير السَيدِ المالُ ¬
أي: فَقْدُ المال يُزْرِي. وهو كثير واسع، وكان أبو الحسن، مع كثرته، لا يَقِيسه، بل يَقصره على المسموع منه. فأمّا ما يُلبِس فلا يجوز لنا استعمالُه، ولا القياسُ عليه. لو قلت: "رأيتُ هِنْدًا"، وأنتَ تريد غلامَ هند، لم يجز؛ لأنّ الُرؤية يجوز أن تقع على هند، كما تقع على الغلام. وقد جاء من ذلك شيءٌ يسيرٌ للثقة بدلالةِ الحال عليه، وإخبار القائل أو معرفةِ المخاطب، قال الشاعر [من الطويل]: عَشِيَّةَ فرَّ الحارِثِيونَ ... إلخ قال ابن الكَلْبي: الهَوْبَرُ هو يزيد بن هوبر، كان قُتل في المَعْرَكَة، فحذف المضافَ, لأن المخاطب مُشاهِد لذلك في الحرب، فلا يُشْكِل عليه المقتولُ. يُؤيد صحّةَ ما قلناه قولُ عمر بن لَجَأ [من الطويل]: 394 - ونَحْنُ ضَرَبْنَا بالكُلَاب ابنَ هَوْبَر ... وجَمْعَ بني الديان حتّى تَبَددُوا فصرّح بابن هوبر. ومثله قوله [من الطويل]: كَمَا أَعْيَا النِطاسِي حِذْيَمَا هكذا يقع في نُسَخِ المفضل: "كَمَا" بالكاف، وإنما هو بالباء. وصَدْرُه: فَهَلْ لَكُمُ فيما إلي فإنّني ... بَصيرٌ بما أَعْيَا النطاسِي حِذْيَمَا ¬
والنطاسِي: الطبيب، يقال: "نِطيس"، مثلُ فِسّيق، ونِطاسى، بكسر النون. وقال أبو عُبَيْدَةَ: هو بفتح النون. والمرادُ: ابنُ حِذْيَمٍ، فحذف المضافَ. ومن ذلك قولُ كُثَير [من الخفيف]: 395 - حُرْيَتْ لي بحَزْمِ فَيْدَةَ تُحْدَى ... كاليَهُودِيّ من نَطاةَ الرّقالِ فَيدَةُ: موضعُ. ونَطاةُ: قَصَبَةُ خَيْبَرَ. والمرادُ: كنَخْلِ اليهوديّ. والرقْلُ: طِوالُ النخل. وحُزِيَت: قُدرَتْ. يقال: "حَزَيْتُ النخلَ أَحْزِيها"، إذا قدرتَ ما عليها. وقد جاء من ذلك في الشعر أبياتٌ مع ما فيه من الإلباس، كأنّ ذلك لثقةِ الشاعر بعِلْم المخاطب، أو نَظَرًا إلى كثرةِ حذفِ المضاف الذي لا لَبْسَ فيه، فلم يَعْبَأْ بالإلباس، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وكما أعطوا هذا الثابت حق المحذوف في الإعراب؛ فقد أعطوه حقه في غيره قال حسان [من الطويل]: 396 - يسقون من ورد البريص عليهم ... بردى يصفق بالرحيق السلسل ¬
فذكر الضمير في "يصفق" حيث أراد ماء بردي وقد جاء قوله عز وجل: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا بياتاً أو هم قائلون} (¬1). على ما للثابت والمحذوف جميعًا. * * * قال الشارح: قد أعربوا المضافَ إليه بإعراب المضاف؛ لوُقوعه موقعَه، ومُباشَرتِه العاملَ، نحو قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} (¬2). فاَلأصلُ: فاسألْ أهلَ القرية، "فالقريةُ" مخفوضةٌ، كما ترى، بإضافة "الأهل" إليها. فلمّا حُذف المضاف، أقيم المضاف إليه مُقامَه، فباشَرَه العاملُ، فانتصب انتصابَ المفعول به، وإن لم يكن إياه في الحقيقة. كذلك أعطوه حُكْمَه في غير الإعراب من التأنيث والتذكيرِ، فمن ذلك قولُ حَسّانَ بن ثابت [من الكامل]: يَسْقُونَ مَن وَرَدَ البَرِيصَ ... إلخ الشاهد فيه تذكيرُ الضمير الراجع إلى "بَرَدَى"، وهو مؤنّثٌ. ألا ترى أن ألفه كألفِ "حَمْراءَ"، و"بَشَكَى" (¬3). وهذا البناءُ لا تكون ألفُه إلَّا للتأنيث، هذا ظاهرُ اللفظ، ويجوز أن يكون المضمرُ عائدًا إلى المحذوف، وهو الماء، فيكون المحذوف مُرادًا من وَجْهٍ، وغيرَ مراد من وجه. فمن جهةِ عَوْدِ الضمير إليه كان ملحوظًا مرادًا، ومن جهةِ الإعراب غيرَ مراد. والبَرِيصُ هاهنا: موضعْ بِدِمَشْقَ بالصاد المهملة. وبَرَدَى: نهرٌ بها. وتصفيق الشراب: تحويلُه من إناء إلى إناء. والرحيقُ: صَفْوَةُ الخمر. والسلْسَلُ الطيبُ. يقال: "ماءٌ سَلْسَلٌ"، أي: سَهْلُ المَشْرَب عَذْبٌ. وأما قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (¬4) فالمراد: وكم من أهلِ قرية، ثم حُذف المضاف، وعاد الضميرُ على الأمرَيْن، فأُنث في قوله: "فجاءها بأسُنا" ¬
فصل [حذف المضاف , وترك المضاف إليه علي إعرابه]
نظرًا إلى التأنيث في اللفظ، وهو القريةُ، وذُكر في قوله: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} مُلاحَظةَ للمحذوف فصل [حذف المضاف , وترك المضاف إليه علي إعرابه] قال صاحب الكتاب: وقد حذف المضاف وترك المضاف إليه علي إعرابه في قولهم ما كل سوداء تمرة ولا بيضاء شحمةً (¬1). قال سيبويه: "كأنك أظهرت "كل", فقلت: و"لا كل بيضاء" (¬2) قال أبو دؤاد [من المتقارب]: 397 - أكل امريءٍ تحسبين امرأ ... ونارٍ توقد بالليل نارا ويقولون ما مثل عبد الله يقول ذلك ولا أخيه. ومثله ما مثل أخيك ولا أبيك يقولان ذاك. وهو في الشذوذ إضمار الجار. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن حذفَ المضاف وإبقاء عَمَله ضعيفٌ في القياس، قليلُ في الاستعمال. أمّا ضُعْفه في القياس؛ فلوجهَيْن: أحدهما: أن المضاف نائبٌ عن حرفِ الجرّ، وخَلَفٌ عنه، فإذا قلت: "غلامُ زيدٍ"، فأصلُه: غلامٌ لزيدٍ. وإذا قلتَ: "ثَوْبُ خَز"، فأصله: ثوبُ من خز، فحذفت حرفَ الجرّ، وبقي المضافُ نائبًا عنه، ودليلًا عليه. فإذا أخذتَ تحذفه؛ فقد أجحفتَ بحذفِ النائب، والمنوب عنه، وليس كذلك في الفصل قبلَه، نحو: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}؛ لأنّك أقمتَ المضافَ إليَه مُقامَه، وأعربتَه بإعرابه، فصار المضافُ المحذوفُ كالمطرَح المَنْسىّ، وصارت المعاملةُ مع التأنيث الملفوظِ به. والوجه الثاني: أن المضاف عاملٌ في المضاف إليه الجرَّ، ولا يحسُن حذفُ الجارّ، وتَبْقِيَةُ عَمَله. فمن ذلك قولُهم في المَثَل "ما كل سَوْداءَ تَمْرَة، ولا بَيْضاء شَحْمَة". موضعُ الشاهد أن ترفع "كُلاًّ" بـ "ما" وتخفِض "سوداء" بالإضافة. والفتحةُ علامةُ الخفض, لأنه لا ينصرف. و"تَمْرَةُ" منصوبٌ؛ لأنه خبرُ "ما"، و"بيضاء" مخفوضٌ أيضًا على تقديرِ "كُلّ"، كأئك لفظتَ بها، فقلت: و"لا كلُّ بيضاءَ". و"شَحْمَة" منصوبْ عَطفًا على "تمرة". وكان أبو الحسن الأخفشُ، وجماعةٌ من البصريين يحمِلون ذلك وما كان مثلَه على العطف على عاملَيْن، وهو رأيُ الكوفيين (¬1). وذلك أن "بيضاءَ" جر عطفًا على "سوداء"، والعامل فيها "وَمَا كُلُّ". وقوله: "شَحْمَة" منصوبٌ عطفًا على خبرِ "ما". ومثلُه عندهم "ما زيدٌ بقائم، ولا قاعدٍ عمرٌو". وتخفِضُ "قاعدًا" بالعطف على "قائم" المخفوضِ بالباء، وترفع "عمرًا" بالعطف على اسمِ "ما"، فهمَا عاملان: الباء، وما، كما كان في المَثَل عاملان: "كُلٌّ"، و"مَا". قالوا: وقد عطفتَ شيئَيْن على شيئَيْن، والعامل فيهما شيئان مختلفان. وسيبويه والخليل لا يَرَيان ذلك، ولا يُجيزانه. والحجّةُ لهما في ذلك أن حرفَ العطف خَلَفُ عن العامل، ونائبٌ عنه، وما قام مقامَ غيره، فهو أضعفُ منه في سائرِ أبواب العربيةِ، فلا يجوز أن يتسلّط على عَمَلِ الإعراب بما لا يتسلط ما أقيم مُقامَه. فإذا أقيم مَقامَ الفعل؛ لم يجز أن يتسلّط على عَمَلِ الجرّ، فلهذه العِلة، لم يجز العطفُ عندهما على عاملَيْن، فلذلك حملوه على حذفِ المضاف. فإن قيل: حذف المضاف وإبقاءُ عمله على خلافِ الأصل، وهو ضعيفٌ، والعطفُ على عاملَيْن ضعيف أيضًا، فلِمَ كان حَمْلُه على الجارّ أوْلى من حَمْله على العطف على عاملَيْن؟ قيل: لأن حذف الجارّ قد جاء في كلامهم، وله وَجْهٌ من القياس، فأما مَجِيئُه، فنحوُ قوله [من الرجز]: وبَلْدَةٍ ليس لها أَنِيسُ (¬2) ¬
والمراد: ورُبَّ بلدة. وقولهم في القَسَم: "اللهِ لأَفعَلَنَّ"، ويُحكى عن رُؤْبَةَ أنّه كان يقال له: "كيف أصبحتَ؟ " فيقول: "خَير عافاكَ الله"، يريد: بِخَيْر. وقد حمل أصحابُنا قِراءةَ حَمْزَةَ في قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (¬1) على حذف الجارّ، وأن التقدير فيه: وبالأرحام، والأمر فيها ليس بالبعيد ذلك البُعدَ، فقد ثَبَتَ بهذا جوازُ حذفِ الجارّ في الاستعمال، وان كان قليلًا، ولم يثبُت في الاستعمال العطفُ على عاملَين، فكان حملُه على ما له نظيرُ أوْلى. وهو من قبيلِ أحسنِ القبيحَيْن. وأما من جهةِ القياس؛ فلأنّ الفعل لما كان يكثُر فيه الحذف، وشَارَكَهُ الحرفُ في كَوْنه عاملًا جاز فيه ما جاز في الفعل على سبيل النَّدْرة، وقد كثُر التقلُّبُ بهذا المَثَل, وأجازوا فيه وجوهًا من الإعراب. وجُملَتُها خمسةُ أوجه: أحدُها ما تقدّم. والآخرُ أن تقول: ما كل سوداءَ تمرةٌ، ولا بيضاء شَحْمَة، ترفع، ولا تُعْمِل "ما"، وتعطِف جملة على جملة. الثالث: "ما كل سوداء تمرة، ولا بيضاءُ شحمة" تنصِب الأول على إعمال "ما" وترفع "بيضاءَ"، و"شحمة " على الاستئناف، كأنك عطفت جملة على جملة. الرابع: "ما كلُّ سوداء تمرةٌ ولا بيضاءَ شحمةٌ"، لا تُعمِل "ما" ولكن تحذِف "كُلاَّ"، وتُبقِي أثَرَها" الخامس: "ما كلُّ سوداءَ تمرة، ولا بيضاءُ شحمةً"، وهو أحسنُها؛ لأنه لا حذفَ فيه. فأما قول أبي دُؤَادٍ [من المتقارب]: أَكُل امرِىءٍ تحسِبِينَ امرَأ ... إلخ فسيبويه (¬2) يحمِله على حذفِ مضاف، تقديره: و"كل نار"، إلاَّ أنه حُذف، ويُقدرها: موجودة. وأبو الحسن يحمله على العطف على عاملَيْن، فيخفِض "نارًا" بالعطف على "امرئ" المخفوض بـ "كل"، وينصب "نارًا" بالعطف على الخبر. وهذا البيت مِن أَوْكَدِ ما استشهد به أبو الحسن. وأما قولهم: "ما مثلُ عبد الله يقول ذاك، ولا أخيه"، فهذا يجوز أن يكون المراد: ولا مثلُ أخيه، ويجوز أن لا يقدر "مثلٌ"، بل يكون "الأخُ" معطوفًا على "عبد الله" والعاملُ فيهما "مثلٌ" الأوّل، ودل على معنى خبره خبرُ الأوّل فاستغنى عنه. فلو أظهرَ خبر الثاني، وقال: "ما مثلُ عبد الله يقول ذاك، ولا أخيه يكرَهُه"، لم يكن بد من تقديرِ "مِثْل" أو العطفِ على عاملَيْن، إذ كادْ "الأخُ" مجرورًا بعامل، و"يكرهه" في موضع نصب بعامل آخرَ، واذ كان لا بد فيه من أحد الوجهَيْن، وأحدهما لا يصحّ، وَجَبَ حملُه ¬
على الوجه الآخر، وهو على تقدير مضافٍ محذوفٍ، وهو"مِثْلٌ". وكان أبو العباس يمنَع جوازَ هذه المسألةِ ونظائرِها؛ لأنه كان لا يرى حذفَ الجارّ، ولا يرى العطفَ على عاملَيْن، ولا مَحْمِلَ لها سوى هذَين الوجهَيْن. فأما قولك: "ما مثلُ أخيك، ولا أبيك يقولان ذاك"، فهذا لا بد فيه من تقدير "مِثْل" أيضًا، وليس من جهةِ العطف على عاملَيْن، لكن من جهةِ أخرى، وذلك أنّك إذا عطفتَ "الأب" على "الأخ"؛ لم يجز تثنيةُ الخبر لوجهَيْن: أحدهما: أنّه يلزم من ذلك أن يعمل في الخبر عاملان، وهو"مثلٌ"، و"مَا" النافيةُ الحجازيةُ، إذا جعلتَ موضعَ "يَقُولاَنِ" نصبَا؛ لأن العامل في الخبر هو العامل في المُخْبَر عنه. وإن لم تُعْمِلها، كان العاملُ في الخبر أيضًا شيئين: الابتداءُ، و"مثلٌ"،وذلك لا يجوز. والوجه الثاني: أن "ما" لا تعمل في خبرِ ما لا تعمل فيه، ولا عَمَل لـ "ما" في "الأبَ"، فلم يجز أن تعمل في خبره، فلذلك وجب تقديرُك "مِثْلُ" مع "الأب"، وساغ حذفُها لتقدُّمِ ذِكْرها. ويكون التقديرُ: ما مثلُ أخيك، ولا مثلُ أبيك يقولان ذاك. لأن "مَا" قد عملت في "مثلٍ" الأولِ و"مثلٍ" الثاني, لأن حرف العطف يُشْرِك بين المعطوف عليه والمعطوف في عَمَلِ العامل، وقوله: "وهو في الشذوذ نظيرُ إضمار الجارّ" يعني حذف المضاف، وإبقاءَ عَمَله، نحو قوله [من الخفيف]: 398 - رَسْمِ دارِ وقفتُ في طَلَلِهْ ... كِدْتُ أَقضِي الحَيَاةَ مِن جَلَلِة ¬
فصل [حذف المضاف إليه وحذف المضاف والمضاف إليه معا]
ونحو قولِ رُؤْبَةَ: "خَير عافاكَ الله" يريد: بِخَيْرٍ. وكلاهما قليلٌ في الاستعمال والقياس معًا، والجامعُ بينهما أَنهما جميعًا من عواملِ الخفض. فصل [حذفُ المضاف إليه وحذفُ المضاف والمضاف إليه معاً] قال صاحب الكتاب: وقد حُذف المضاف إليه في قولهم: "كان ذلك إذ وحِينَئِذٍ"، و"مررتُ بكُل قائمًا". قال الله تعالى: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} (¬1). وقال: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} (¬2). وقال: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (¬3)، و"فعلته أوَّل" يريدون: إذ كان كذا، وكلَّهم، وبعضهم، وقبل كل شيء، وبعده، وأول كل شيء. وقد جاءا محذوفَين معًا في قول أبي دُؤَادٍ بصفُ البَرْقَ [من الطويل]: 399 - [أيا مَنْ رأى لي رأَيَ بَرْقٍ شريقِ] ... أسالَ البِحارَ فانْتَحَى للعَقِيقِ ¬
وقولِ الأسَوَد [من الطويل]: 400 - [فأَدْرك إبقاءَ العرادَةِ ظَلعُها] ... وقَد جَعَلَتْني من حَزِيمةَ إصْبَعَا قال الفَسَوِيُّ: أي: أسالَ سُقْيَا سَحابِه، وذا مَسافةِ إصْبَع. * * * قال الشارح: اعلم أنه قد جاء عنهم حذف المضاف إليه، وهو أَقَل من حذفِ المضاف، وأبعدُ قياسًا. وذلك لأن الغرض من المضاف إليه التعريفُ، والتخصيصُ، وإذا كان الغرضُ منه ذلك وحُذف، كان نَقضًا للغرض، وتراجُعًا عن المقصود. فمن ذلك قولُهم: "إذِ"، و"حِينَئِذٍ". وأصله أنّ "إذْ" تكون مضافةً إلى جملةٍ، إما ابتدائيةِ، وإما فعليةِ، نحو: "جئتُك إذ الحَجّاجُ أميرٌ، واذ قام زيدٌ". و"إذ" كانت إنما تضاف إلى جملةٍ لتُوضِحها، وتُزيل إبهامَها، فإذا تقدمتْها جملةٌ، إما فعليةٌ، وأما اسميةٌ، ربما حذفوا الجملةَ المضاف إليها "إذ" لدلالةِ الجملة المتقدمة عليها، فجاؤوا بالتنوين بعد "إذْ" عِوَضًا من المحذوف، وذلك نحوُ قولهم: "إذٍ" من قول الشاعر [من الوافر]: 401 - نَهَيْتُكَ عن طِلابك أُم عمرٍو ... بعاقِبَةٍ وأنتَ إذٍ صَحِيحُ ¬
وأصله: وأنتَ إذ نهيتُك، فحذف الجملة، وعوّض منها التنوين. ومثله "حِينَئِذٍ"، و"ساعَتَئِذٍ" و"يَؤمَئِذٍ"، والمراد: حِينَ إذ كان كذا وكذا، وساعةَ إذ كان كذا وكذا، ويومَ إذ كان كذا كذا. قال الله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (¬1)، والتقدير: يَومَ إذ تَزَنزَلَت الأرض، وإذا أخرجتِ الأرضُ أثقالَها، وإذ قال الإنسان. فحُذفت هذه الجُمَلُ بأَسْرها لدلالةِ ما تقدّم من الجمل، وعُوّض منها التنوينُ، فدخل وهو ساكن، وكانت الذالُ قبله ساكنةً، فكُسرت الذال لالتقاء الساكنَين، فقيل: "يَوْمَئذٍ". وليست الكسرةُ في الذال بإعراب، وإن كانت "إذ" ها هنا في موضع جَر بإضافة ما قبلها إليها، والذي يدل أن الكسرة لالتقاء الساكنَين، لا للإعراب قوله: "وأنْتَ إذٍ صحيحٌ". ألا ترى أن "إذٍ" في هذا البيت ليس قبلها شيءٌ مضافٌ إليها، فتكونَ مجرورة به، فثبت بما ذكرناه أنها حركةُ بناء، لا إعراب. على أنه قد حُكي عن أبي الحسن أن "إذ" ها هنا مجرورةٌ بمضاف محذوف، كأنه أراد: حينئذٍ، ثم حذف "حِينَ" وهو يريدها، فهي مجرورةٌ بالمضاف المقدرِ على حد قوله [من المتقارب]: ونارٍ تَوَقَّدُ باللَيْل نارَا (¬2) وما أبعدَ اعتقادَ مثلِ هذا من فَضلِ ذاك السيد، ومَحمِلُه إن صحّ على التقريب، أو أنه يريد مجرورةَ الموضع، لا اللفظِ، ألا ترى أن "إذ" مبنيّةٌ في حال إضافتها إلى الجملة، ¬
نحو قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى} (¬1)، ونحو: {إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ} (¬2)، فـ "إذْ" هذه مبنية على السكون، وموضعُها نصبٌ بفعل مقدر تقديرُه: واذكروا إذ قلتم، ونحوه. وإذا كانت مبنية في حال الإضافة؛ فهي إذا لم تُضف بالبناء أجدرُ, لأن حذفَ المضاف إليه اقتطاعُ جُزْء من الاسم. فإن قيل: فلِمَ كانت النونُ أَوْلى بالعوض من غيرها؟ قيل: كان الأولى أن يكون حرفًا من حروف المَد واللينِ لخِفتها، وكئرةِ زيادتها، لكنّهم لما كانت معتَلة لا تثبُت على حالي؛ لم تُزَدْ أخيرًا، إذ الذالُ قبلها ساكنٌ. وإذا زيد حرفُ المدّ، وكان ساكنًا؛ وجب تحريكُ الذال لالتقاء الساكنَيْن، فإن كُسرت الذال، وكان حرفُ المدَّ ألفًا، أو واوًا؛ انقلبتْ ياء، وإن كانت ياة من أوّلِ مرة؛ لم يُؤْمَن حذفُها إذا لَقِيَها ساكنٌ بعدها، فلمّا كان زيادةُ حرف المدَّ تُؤدِّي إلى تغييره، أو حذفِه؛ تأبوا زيادتَه، وعدلوا إلى النون, لأنه يُجامِع حروفَ اللين في الزيادة، ويُناسِبها من حيثُ إنه غُنَّةُ تَمتدْ في الخَيْشُوم، فكان كالألف التي تمتد في الحَلْق، ولا مُعتمَدَ لها فيه مع أنها قد جاءت عوضًا من الحركة في "يَفْعلانِ"، و"تَقعلانِ"، و"يَفْعلونَ"، و"تَفْعَلونَ"، و"تَفْعلين". وزادوها في التثنية والجمع عوضًا من الحركة، والتنوينِ، نحو قولك: "جاءني الزيدان، والزيدون"، و"رأيت الزيدَيْن، والزيدِينَ"، و"مررت بالزيدَيْن، والزيدِين". فالنونُ هنا عوضٌ من الحركة والتنوين، فلمّا كانت النونُ قد زيدت عوضًا فيما ذكرناه، واحتيج إلى حرفٍ يكون عوضًا في "يومئذٍ، و"حينئذٍ"، كانت النون أَوْلى؛ لأنّها مأنوس بزيادتها عوضًا. وأمّا "كُلٌّ"، و"بَعْضٌ"، فمحذوفٌ منهما المضافُ إليه، وهو مرادٌ. يدل على ذلك أنّهما معرفتان، ولولا إرادةُ المضاف إليه فيهما؛ لكانا نكرتَيْن، نحو قولك: "غلامُ زيدٍ" إذا أردتَ المعرفةَ، و"غلامٌ" إذا أردت النكرةَ. والذي يدل على تعريفهما وقوعُ الحال منهما، نحو قولك: "مررت بكُلّ قائمًا، وببعض جالسًا"، والحالُ إنما تكون من المعرفة، ولا تكون الحالُ من النكرة إلا على ضُعْفٍ وضرورةٍ. وإنما يُحذف المضاف إليه إذا جرى ذكرُ قوم، فتقول: "مررت بكُلٍّ"، أي: بكلّهم، و"مررت ببعضٍ"، أي: ببعضهم، وتستغني بما جرى من الكلام، ومعرفةِ المخاطب عن إظهار الضمير المضاف إليه. فذهب بعضُهم إلى أن التنوين عوضٌ من المضاف إليه كالذي في "يومئذٍ"، و"حينئذٍ". قال: وإنّما قلنا ذلك؛ لأن هذا لا يدخله تنوينُ التمكين من حيثُ كان في نيةِ الإضافة، كما لا يدخله الألفُ واللام. فلما نُوّن مع إرادة الإضافة؛ عُلم أن التنوين عوضٌ من المحذوف. وأمّا مذهبُ الجماعة، فإنه التنوين الذي كان يستحِقه الاسم قبل الإضافة، والإضافةُ كانت المانعةَ من إدخالِ التنوين. فلمّا زال المانعُ، وهو الإضافةُ؛ عاد إليه ما ¬
كان له من التنوين. وتقديرُ الإضافة لا يمنع من إدخال التنوين؛ لأن المُعامَلة مع اللفظ، وأما امتناعُ الألف واللام من الدخول عليه؛ فإنما كان لأجْلِ أنّه معرفة، والألفُ واللام لا يدخلان المعارفَ، هذا هو الأصلُ، وامتناعُ الألف واللام من الإضافة غيرِ المَحْضَة إنما كان بالحَمْل على المحضة المُعرَّفةِ، وليس كذلك التنوينُ، فإنّه يكون مع المعرفة، نحو: "زيدٍ" و"عمرو"، ونحوِهما. وأمّا "قَبْلُ" و"بَعْدُ" ونحوُهما من الظروف؛ فمحذوفٌ منها المضافُ إليه، فإذا قلت: "جئتُ قَبْلُ، وبَعدُ"، فالمرادُ: قبل كذا، وبعدَ كذا، مما قد عَرَفَه المخاطب. قال الله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (¬1)، والمراد- واللهُ أعلمُ- من قبلِ الأشياء، ومن بَعْدِها، فحُذف ذلك، وهو مرادٌ، فذهب لفظُه، وبقي حُكْمُه، وهو التعريفُ، وبُني الاسم؛ لانّ المضاف إليه من تمام المضاف. فإذا قُطع عنه، فكأنه قد بقي بعضُ الاسم، وبعضُه لا يستحِق الإعرابَ، فقام البناءُ فيه مقامَ العوض، إذ لو عوّضوا النونَ كما في "يومئذٍ"، و"حينئذٍ" ونظائرِهما؛ لم يُؤمَن التباسُه بالمنكور المعرِب، وسنَستقصي الكلامَ عليه في موضعه إن شاء الله. وقوله: "وقد حُذفا معًا" يريد المضافَ والمضافَ إليه، وذلك إذا تكرّرت الإضافةُ، فمن ذلك مسألةُ الكتاب (¬2): "أنتَ منّي فَرْسَخان"، والمرادُ "ذُو مَسافَةِ فرسخَيْن" فحُذف المضاف، والمضاف إليه، وأقيم المضافُ إليه الثاني مُقام المضاف للعِلم به. ومن ذلك قوله تعالى: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ} (¬3)، أي: من تُرابِ أثرِ حافرِ فَرَسِ الرسول. ومنه قولُ أبي دُؤاد [من الطويل]: أَيَا مَن رَأَى لي رَأْيَ بَرْقٍ شَرِيقِ ... أسالَ البِحارَ فانتَحَى للعَقِيقِ (¬4) يصف بَرْقًا، والمرادُ: سُقيَا سَحابِه، أي: سحاب البرق. والضميرُ، إذا كان مفردًا منصوبًا، أو مجرورًا؛ فإته يكون بارزًا، وإذا كان مرفوعًا، يكون مستتِرا، فـ "سُقيَا" فاعلُ "أسالَ" لا "البرقُ"، فإن البرق لا يُسِيل. فلما حُذف المضاف والمضاف إليه معًا، أقيم الضمير المجرور مُقامَ المضاف، وصار مرفوعًا، فاستكن في الفعل حين أُسند إليه الفعل. والبِحارُ: جمعُ بَحرٍ، وهو المكان المتسع، ومنه سُمّي البَحْر بَحْرًا لاتّساعه، وأمّا قول الأسوَد بن يَغفُرَ [من الطويل]: فأَدْرَكَ إبْقاءَ العَرادةِ ظَلْعُهَا ... وقد جَعَلَتْني مِن حَزِيمَةَ إصْبَعَا (¬5) فالمراد: ذا مَسافةِ إصْبَع، فحذف المضافَ والمضافَ إليه لمّا تَكرّر، وأقام ¬
فصل [حكم ما أضيف إلى ياء المتكلم]
المضافَ إليه الثاني مُقام المضاف الأول، وأعربَه بإعرابه، وهو النصب. وحزيمةُ هذه بالزاي المعجمة: بَطنٌ من باهِلَةَ بن عمرو بن ثَعْلَبَة، ويقال الحَزِيمَتان، والزبِينَتان، وهما حَزِيمَةُ وزَبِينَةُ. فصل [حكمُ ما أُضيفَ إلى ياء المتكلّم] قال صاحب الكتاب: وما أضيف إلى ياء المتكلم فحكمه الكسر نحو قولك في الصحيح والجاري مجراه "غلامي", و"دلوي"، إلا إذا كان آخره ألفاً أو ياء متحركاً ما قبلها, أو واواً. أما الألف, فلا تتغير إلا في لغة هذيل في نحو قوله [من الكامل]: 402 - سبقوا هوي وأعنقوا لهواهم ... [فتخرموا ولكل جنبٍ مضرع] ¬
وفي حديث طلحة رضي الله عنه: فوضعوا اللج على قفي، يجعلونها إذا لم يكن للتثنية ياء، ويدغمونها. وقالوا جميعًا "لدي" و"لديه" و "لديك", كما قالوا: "عليَّ", و"عليه", و"عليك". وياء الإضافة مفتوحة إلا ماجاء عن نافعٍ {محياي ومماتي} (¬1) وهو غريب. * * * قال الشارح: اعلم أن ياء المتكلم حكمُها أن يُكسَر ما قبلها نحو قولك: "غُلاَمِي"، و"صاحِبِي" و"دَلْوِي". وإنّما وجب كسرُ ما قبل ياء المتكلّم، لِيسلَم الياءُ من التغيير والانقلاب، وذلك أن ياء المتكلم تكون ساكنة، ومفتوحة. فلو لم يكن يُكسَر ما قبلها، لكانت تنَقلب في الرفع واوًا في لغة من أسكنَها، وكان اللفظُ في الرفع: "هذا غُلامُو"، فيذهَب صيغة الإضافة، وكانت تنقلب في النصب ألفًا في لغةِ من فتحها، فكنت تقول: "رأيتُ غُلامَا". فلمّا كان إعرابُ ما قبلها يُؤدّي إلى تغييرها وانقلابِها إلى لفظِ غيرها، رفضوا ذلك، وعدلوا إلى كسرِ ما قبلها البتةَ. فإن قيل: فأنتم قد قلبتموها ألفًا في النداء، نحو: "يا غُلَامَا"، قيل: ذلك شيء اختص به النداء، كما اختص بالعَدْل، نحو: "يا غَدارِ"، و"يا فَساقِ"، و"يا غُدَرُ"، و"يا فُسَقُ"، و "ياهَنَاهْ". ولا يُستعمل ذلك في غير النداء، وليس كسرُ ما قبلها لثِقَلِ الضمّة، ألا ترى أن الفتحة أخفُّ الحركات، ومع ذلك كسرتَ، فعُلم أنّ الكسرة فيها لغيرِ الاستثقال، فتقول: "هذا غلامي، وصاحبي"، ونحوهما من الصحيح اللام، أو ما جرى مجرى الصحيح. فالصحيحُ ما لم يكن حرفُ إعرابه ألفًا، ولا واوًا، وَلا ياءً، نحو: رجل، وفرس. والبخاري مجرَى الصحيح ما كان آخرُه ياء، أو واوًا قبلهما ساكنٌ، نحو: ظَبْي، ودَلْو؛ لأنه إذا سكن ما قبلهما، بَعُدَتَا عن شَبَهِ الألف، وجرتَا مجرى الصحيح في تحَمُّلِ حركاتِ الإعراب، فلذلك تقول: "هذا دَلْوِي، وظَبْيِي"، فتكسِر ما قبل ياء الإضافة، كما تكسر ما قبلها من الصحيح. واعلم أنهم قد اختلفوا في هذه الكسرة، فذهب قوم إلى أنها حركةُ بناء، وليست إعرابًا؛ لأتها لم تحدُث بعامل، وإنّما حدوثُها عن علةِ، وهو وقوعُ ياءِ النفس بعدها، ولذلك لا تختلِف باختلافِ العوامل. ألا تراك تقول: "جاء غلامي"، و"رأيت غلامي" و"مررت بغلامي"، فتختلف العواملُ في أوّله، ولا تختلف حركةُ حرفِ الإعراب، بل يلزم الكسرَ البتّةَ مع إمكانِ تحرُكه. إلّا أن هذه الكسرة، وإن كانت بناءً، فهي عارضةٌ في الاسم، لوقوعِ الياء بعدها، ¬
وليست الحركةُ فيها كالحركة في المبني بمُشابَهةِ الحروف، أو تضمُّنِ معناها، أو التي تحدث في الاسم بعد وجوب بناءه، وتلزمُ كالتي في "أَمْسِ"، و"هؤلاءِ". ألا ترى أن البناء فيهما وجب لتضمُّنِ الحرَف، ثمّ عرض التحريكُ، لالتقاء الساكنَيْن. والساكنان من كلمة واحدة لا ينفصِل أحدهما من الآخر، فصار مما يُثْبِت الكلمةَ على الحركة، فحركةُ الآخر كحركةِ أوّلها، وما هو حَشْوٌ فيها من جهةِ اللزوم والثَباتِ. وإذا كانت عارضة، لم تَصِرِ الكلمةُ بها مبنيّة. ونظيرُ ذلك حركةُ التقاء الساكنَين، نحو "لم يَقُم الرجلُ" و"لم تَذْهَب الجاريةُ"، فهذه الكسرةُ ليست إعرابًا، ألا ترى أنّ "لَمْ" لا تعمل الكسرةَ، وإنما عملُهاَ الجزمُ الذي هو سكونٌ مع أن الحركة لالتقاء الساكنَئن بناءٌ. فالكلمةُ باقيةُ على إعرابها لكونها عارضةً، تزول عند زَوالِ الساكن. فالكسرةُ هنا كالضمة في نحو: "لم يضربوا"، والفتحةِ في نحو "لم يضربا" في كونهما عارضتَين للواو والألِف. وقد ذهب قومٌ إلى أن هذه الحركة لها حكمٌ بين حكمَيْن، وليست إعرابًا ولا بناءً. أما كونُها غيرَ إعراب، فلأنّ الاسم يكون مرفوعًا، ومنصوبًا، وهي فيه، فدلّ على أنها غيرُ إعراب، وأما كونُها غيرَ بناء، فلأن الكلمة لم يُوجَدْ فيها شيءٌ من أسبابِ البناء. وأسبابُ البناء مُشابَهة الحرف، نحو: "الذِي و"التِي" أو تضمُّنُ معنى الحرف، نحو: "أَيْنَ"، و"كَيْفَ"، أو وقوعه موقعَ الفعل المبني نحو "نَزَالِ"، و"تَرَاكِ". فلما لم يُوجَد فيها شيءٌ من ذلك، دل على أنها معربةُ متمكِّنةٌ، إذ لم يعرِض فيها ما يُخْرِجها عن التمكن، ألا ترى أنه لا فَرْقَ بين قولك: "غلامِي"، وقولك: "غلامُكَ" و"غلامُهُ" في التمكن، واستحقاقِ الإعراب. فكما أن "غلامه"، و"غلامك" معربان، فكذلك "غلامي" معربٌ. والأولُ أقيسُ. فإن كان الاسمُ المضاف معتَلا، فما كان آخِرُه ألفًا، فإنك إذا أضفتَه إلى ياء المتكلم أثبث الألف، وفتحتَ الياء، وذلك نحو قولك: "عَصَايَ"، و"هُدَايَ"، و"بُشرَايَ". وإنّما فتحتَ الياء لسكونِ الألف قبلها، فلمّا وجب تحريكُها؛ كان تحريكُها بحركتها الأصلية أَوْلى من اجتلابِ حركة غريبة. ومن العرب من يقلِب هذه الألفَ ياءً في الإضافة إلى ياء المتكلّم، فيقول: "هَوَيَّ"، و"عَصَىَّ"، و"هُدَيَّ". وله وجهٌ صالحٌ في القياس، وذلك أنه لما كانت ياء المتكلم أبدًا بكسر الحرف الذي قبلها إذا كان حرفًا صحيحًا، نحو: "هذا غلامي"، و"رأيت غلامي"، و"مررت بغلامي"، وكانت الياء وَسِيلَةَ الكسرة في نحو: "أخيك"، و"أبيك"، وفي المتثنية والجمع من نحو: "الزيدَيْن"، و"الزيدِين"؛ وجب أن لا يقولوا: "رأيت عَصَايَ"، بإثبات الألف، كما لم يقولوا: "رأيت غُلامَيَ" بفتح الميم، فأبدلوا من
الألف ياء، كما أبدلوا من الفتحة كسرة، فقالوا: "هذه عَصَييَّ، وهُدَيَّ، كما قالوا: "صاحبِي"، و"غلامِي"، وهو كثير. قال أبو ذُؤَيب الهُذَلِي [من الكامل]: سَبَقُوا هَوَيَّ وأَعنَقُوا لِهَوَاهُمُ ... فتُخُرمُوا ولكُل جَنب مَصْرَعُ والشاهد فيه "هَوَيَّ"، والمرادُ: هَوايَ، فأبدل من الألف ياء، لوقوعها موقعَ كسرة، ولا يُمكِن الكسرةُ فيها. يَرْثِي أَولادَه، وكان له عشرةُ أولادٍ، فماتوا، فقال: كنتُ أَهْوَى حياتَهم، فسبقوا هَوَيَّ، أي: انقرضوا كلُّهم. ومن ذلك حديث طَلْحَةَ، رضي الله عنه، يومَ الجَمَل، حين قال له عَلِيٌّ كرم الله وجهَه: "عرفتَني بالحجاز، وأنكرتَني بالعِراق، فما عَدا مِمَّا (¬1) بَدَا؟ " فقال طلحةُ: بايَعْتُ واللُجُّ على قَفَى، أي مُكرَهًا. واللُجّ: السيفُ. يُشبه السيفَ لكثرةِ مائه وبَصِيصِه باللُجّ، وهو الماء الكثيرُ. ويُحكى عن يُونُسَ النحوِيّ أنّه قال: "لئن مَكنَنِي الله من ثلاثة يومَ القيامةِ؛ لأحُجنهم، منهم آدَمُ، أقول: أنتَ خَلَقَك الله من تُراب، وأسكَنَك الجَنةَ بغيرِ عَمَل، ومَكنَك ممّا فيها من ثِمارٍ ونَعِيمٍ، ونَهَاك عن شجرة، فلِمَ خالفتَ، حتّى أوقعتَ بَنِيك في هذا العَناء والتعَب؟ والثاني يوسفُ الصديقُ، أقول: أنتَ فارقتَ أباك مُدَّة، وأنت بمِصْرَ، وهو بأرضِ كَنعانَ، بَينَكما مَسافة يَسِيرة، هَلاَّ كتبتَ إليه: إنني في عافِيَةٍ، وخقفتَ ما به. والآخِرُ طَلْحَةُ والزبَيرُ، أقول لهما: أنْتُمَا بايَعْتما عَلِيًّا بالمَدِينة، وخَلَعْتماه بالكوفة، أي شيء أحدث لكما؟ وقد قُرىء {يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ} (¬2). ويروي قُطْرُبٌ [من الوافر]: 403 - يُطَوَّفُ بي عِكَبٌّ في مَعَدٍّ ... ويَطْعُنُ بالصُّمُلةِ في قَفَيا فإن لم تَثْأراني من عِكَبٍّ ... فلا رَوَّيتُمَا أَبَدًا صَدَيَّا ¬
الضمُلَّة: العَصَا. والضمْلُ الضربُ بالعصا. ومن قال هذا، لم يقل: "هذان غُلامَى"، فيقلِبَ ألفَ التثنية في الرفع ياء، كما قلبها في "عَصَيَّ" و"هُدَيَّ"، لئلّا يذهب الدلالة على الرفع. فإن قيل: فأنتم تقولون في الصحيح: "هذا غلامِي"، و"رأيت غلامِي"، و"مررت بغلامِي"، فيزول عَلَم الإعراب، فهَلَّا أَجَزتم ذلك في التثنية. قيل: الدليلُ يقتضي ثبوتَ الإعراب في الجميع للبيان، وإنّما خالفناه في الصحيح خَوْفًا على لفظةِ ياء الإضافة وانقلابِها. ومع ألِف التثنية فقد أَمِنَّا تغييرَ الياء وانقلابَها، فكان لنا عن تغيير ألف التثنية وانقلابِها مَنْدُوحَةٌ. قال: "وقالوا جميعًا: لَدَيَّ، ولَدَيْهِ، ولَدَيْكَ". يعني العربَ، وذلك أن الذي يقلِب ألفَ "عَصًا"، و"رَحًى" إِنما هو بعضُ العرب، لا كلهم. وكلُّ العرب تقلب ألفَ "لَدَى" إذا اتصل بالمضمر، سواءً كان المضمرُ متكلِّمًا، أو مخاطبًا، أو غائبًا، نحو: "لَدَيَّ"، و"لَدَيكَ" و"لَدَيه". فعلوا ذلك تشبيهَا لها بالأدَوات، نحو: "عَلَى"، و"إلَى"، فكما قالوا: "عَلَىَّ"، و "إليَّ"، و"عَلَيْكَ"، و"إلَيْكَ" و"عَلَيْهِ"، و"إلَيْهِ"، كذلك قالوا: "لَدَيَّ"، و"لَدَيْكَ"، و"لَدَيهِ". وإنّما قلبوا ألفَ "عَلَى" و"إلَى" تشبيهًا لها بالأفعال من جهةِ لزومها الأسماء، وعَمَلِها فيها. فكما كانت الأفعال تنقلَب ألفاتِها عند اتصالِ ضميرِ الفاعل بها من نحو: "رَمَيْت" و"سَعَيت"، كذلك قلبوا ألفَ "على"، و"إلى"، فقالوا: "عليه"، و"إليه"؛ لأن المجرور يتنزل من الجارّ منزلةَ الفاعل من الفعل من جهةِ لزومِه له وافتقارِه إليه. وخُصت ألفُ الأدوات بالياء دون الواو لوجهَيْن: أحدهما أنّ الياء أخف من الواو، والغرضُ انقلابُ الألف إلى أحدهما بحُكْمِ الشَّبَه، فكان قَلْبها إلى الأخف أوْلى. الثاني: ¬
أن الغالب على الألف، إذا كانت لامًا، الياءُ، والغالبَ عليها، إذا كانت عينًا، الواوُ، فلذلك قُلبت إلى الياء. وربما جاءت هذه الألفُ مع المضمر غيرَ منقلبةٍ على حدِّ مَجيئها مع الظاهر. أنشد أبو زيد [من الرجز]: 404 - طَارُوا عَلاهُنَّ، فَطِرْ عَلَاهَا ... واشدُدْ بِمَثْنَى حَقَبٍ حَقْوَاهَا قال الجُرْجاني: إئما قلبوها مع الضمير ياء ساكنة، لِيدلوا بذلك على أنها أصلٌ، وليست منقلبة عن غيرها مما أصلُه الحركة، نحو الأفعال، مثل: "غَزَا" و"سَعَى"، فاعرفه. قال: "وياء الإضافة مفتوحة". يعني مع الألف لِما ذكرناه من التقاء الساكنَيْن. فأما قِراءةُ نافع: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي} (¬1) بسكون الياء، فهو غريب لخروجه عن القياس، وما عليه الجُمهورُ. ووجهُ هذه القراءة اعتقادُ الوَقْف، فإنه في الوقف يجوز أن يُجمَع بين ساكنَيْن، فيكون الوقفُ كالساد مَسَدَّ الحركة؛ لأنّ الوقف على الحرف يَزيد في صوته مع أنه استغنى بأحد الشرطَيْن، وهو المدُّ الذي في الألف، والشرطان المَرْعِيان في الجمع بين ساكنَين، أن يكون الساكنُ الأوَّل حرفَ مدّ ولِين، والثاني مُدغَمًا، كـ "الدابة" و"شَابه"، فاعرفه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: وأما الياء فلا تخلو من أن ينفتح ما قبلها كياء التثنية وياء "الأشقين" و"المصطفين" و"المرامين" و"المعلين" أو ينكسر كياء الجمع. والواو لا تخلو من أن ينفتح ما قبلها, كـ"الأشقون" وأخواته أو ينضم كـ"المسلمون" و"المصطفون". فما انفتح ما قبله من ذلك فمدغم في ياء المتكلم ياء ساكنة بين مفتوحين، وما انكسر ما قبله من ذلك أو انضم؛ فمدغم فيها ياء ساكنة بين مكسور ومفتوح. * * * قال الشارح: إذا كان آخِرُ الاسم ياء قبلها مفتوحُ، كياء التثنية، نحو: "غُلاَمَيْنِ"، و"مُسْلِمَيْنِ"، ونحو ياء جمع المقصورِ، كـ "الأشقَيْنَ" و"المُصْطَفَينَ"، و"المُرامَيْنَ"، و"المُعَليْنَ". فالأَشْقَيْنَ: جمع الأشقَى، والمصطفَيْنَ: جمعُ المصطفَى، والمرامَيْنَ: جمعُ المرامَى، والمُعَليْنَ: جمعُ المُعَلى. فما كان من ذلك، وأضيف إلى ياء النفس، فإن نونه تُحذف للإضافة، ثم يُدغَم في ياء الإضافة، فتقول: "رأيتُ غلامي، وصاحبَى"، وتقول: "هؤلاء مصطفَى، وأَشْقَى"، فتحصُل الياء بين فتحتَيْن: فتحة ما قبل الياء، وفتحةِ ياء النفس. فإن كان الآخِرُ من المضاف ياء مكسورًا ما قبلها بأن يكون الاسم منقوصًا، نحو: "قاضٍ"، و"داع"، أو ياء جمع السلامة، نحو: "مسلمِينَ" و"صالِحينَ"، فإنّ المنقوص تُدْغم ياؤه في ياء الإضافة مفتوحة، نحو: "قاضِى"، و"داعِى". تُشدَّد الياء لأجل الادّغام، وتُفتح ياء النفس لسكونِ الياء المدّغمة، فتحصُل الياء المدغمةُ بين كسرةِ ما قبل الياء، وفتحةِ ياء النفس. فإن كان المضاف جمعًا؛ فإن ياء الجمع تُدغم في ياء النفس بعد حذف النون، ولا تكون ياء الإضافة إلّا مفتوحة، نحو: "رأيتُ مسلمِى وصالِحى". فإن كان آخِرُ الاسم المضافِ واوًا، فإنك تقلِب الواو ياء، وتَدغِمها في ياء الإضافة، سواءَ كان ما قبلها مفتوحًا، كـ "الأشقَوْنَ" وأخواته ممّا هو جمعُ سلامةِ المقصورِ، نحو "المُعَلونَ"، و"الأعلَوْنَ"، أو مضموما، نحو: "المسلمُونَ"، و"المُصْطَفُونَ" في جمع "مُصْطَفٍ"، وهو اسمُ فاعل من "اصْطَفَى يَصْطَفِي" فالفاعلُ مُصْطَفٍ، وجمعُه مُصْطَفُونَ، بضم الفاء. والأصلُ: مُصْطَفِيُونَ، استُثقلت الضمة على الياء المكسورِ ما قبلها، فحُذفت ثمّ حُذفت الياء لسكونها، وسكونِ واو الجمع بعدها، ثم ضَمُّوا الفاء لِتصحّ الواوُ، كما قالوا: "غَازُونَ"، و"قَاضونَ". وتقول في الإضافة: "هؤلاء أَشْقَى، ومُعَلى، ومصطفَىَّ"، فتقلِب الواوَ ياء، وتَدغِمها في ياء النفس، فتصير الياء المنقلِبةُ عن الواو بين فتحتَيْن. وكذلك تقول في الواو المضموم ما قبلها: "هؤلاء مسلمِى، ومصطفِى". وأصلُه: مسلمُويَ ومصطفويَ، فخذفت النون لَلإضافة، وقُلبت الواو ياء لاجتماعها مع ياء النفس ساكنة على حَد "شَوَيْتُ
فصل [إضافة الأسماء الستة]
شَيّا، ولَوَيْتُ لَيًّا"، وأُدغمتْ في ياء الإضافة، فحصلت الياء المنقلبةُ هنا بين الكسرة المُبدَلة من الضمة، وفتحة ياء النفس. وإنّما أبدل من الضمة هنا كسرةٌ، لأنّ الواو هنا جُعلت مَدّةَ حركةِ ما قبلها من جنسها، وكان القياس في ياء التثنية أن تكون كذلك، إِلأ أنهم فتحوا ما قبلها للفَرْق بينها وبين ياء الجمع. فلما وجب قلبُ الواو ياء؛ أُبدل أيضًا من الضمّة كسرة، لتُناسِبَها، ولئلا يُخرَج عن المَد. وإن شئت أن تقول: إِنّ الواو هنا في موضع كسرة لمكانِ ياء النفس بعدها، إذ ياء النفس لا يكون ما قبلها إلّا مكسورًا، والياء وَسِيلةُ الكسرة على ما تقدّم، فقُلبت الواو ياء، كما تُقلب الضقة كسرةً في "هذا غلامي". فإن قيل: يلزم من ذلك قلبُ الألف ياءً في التثنية، إذا أضفتها إلى ياء النفس، ولا مُبالاة بالإعراب كما أبدلتم من الواو ياء، ولم تُبالوا بالإعراب في قولك: "هذان غلامَايَ"؛ لأنها في موضع كسرة. قيل: الواوُ أقربُ إلى الياء من الألف إلى الياء، ألا ترى أنهما تَتفِقان في الرِّدْف، وتنفرِد الألفُ بالتأسيس، فلقُرْب ما بين الواو والياء اجتذبتْها الياء مع كونها في موضع كسرة، ولبُعْدِ ما بين الألف والياء، لم يَقوَ السببُ على قَلبها مع وجود المانع، وهو زَوال الدلالة على الإِعراب. فإن قيل: إذا زعمتم أن ياء الجمع، أو واو الجمع، إذا أضيف إلى ياء النفس، فإن الياء لا تكون إلّا مفتوحة، فما وجهُ القراءة في قوله تعالى: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} (¬1)، قيل: هذه قراءة حَمْزَةَ والأعْمَشِ (¬2)، وهي قليلةُ النظير جدًّا، على أنها ليست في البُعد من القياس بالمكان الذي تُعْزَى إليه، وذلك أن الإسكان في ياء النفس لما كثُر، صار كالأصل. فلمّا تقدّم ساكنٌ؛ حرّكوها بالكسرة لالتقاء الساكنَين، لِيدلّوا بذلك أن الحركة لالتقاء الساكنين، لا للبناء، فلم يُراعوا أصلَ حرفِ اللين فاعرفه. فصل [إضافة الأسماء الستّة] قال صاحب الكتاب: والأسماء الستة متى أضيفت إلى ظاهر أو مضمر، ما خلا الياء، فحكمها ما ذكرنا. فأما إذا أضيفت إلى الياء فحكمها حكمها غير مضافة، أي تحذف الأواخر، إلا ذو فإنه لا يضاف إلا إلى أسماء الأجناس الظاهرة وفي شعر كعب [من الوافر]: صبحنا الخزرجية مرهفات ... أبار ذوي أرومتها ذووها (¬3) ¬
وهو شاذ, ولـ"الفم" مجريان: أحدهما مجرى اخواته وهو أن يقال فمي والفصيح "فيّ" في الأحوال الثلاث. وقد أجاز المبرد أبي وأخي وأنشد [من الكامل]: 405 - [قدَرٌ أحلّك ذا المجاز وقد أرى] ... وأبي مالك ذو المجاز بدار وصِحةُ مَحْمِله على الجمع في قوله [من المتقارب]: 406 - [فلمّا تبَيّن أَصواتَنا ... بكَينَ] وفَدّيْنَنا بالأَبينا تدفع ذلك. * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم في أوّل هذا الكتاب الكلامُ على أحكامِ هذه الأسماء الستّةِ إذا أضيفت إلى ظاهرِ، أو مضمرِ ليس بمتكلّم، بما أغنى عن إعادته. والذي يختصّ بهذا المكان بيانُ حُكمها إذا أضيفت إلى ياء النفس. وحكمُها إذا أضيفت إلى ياء النفس أن لا يعاد المحذوفُ، بل تُبقَى على حالها محذوفةَ اللام كما لو لم تُضِفْها، فتقول: "هذا أخِي، وأبِي، وحَمِي"، و"رأيت أخي، وأبي، وحمي"، و"مررت بأخي، وأبي، وحِمي"، كما تقول: "هذا أَخٌ، وأَبٌ، وحَمٌ"، و"رأيت أَخًا، وأَبًا، وحَمًا" و"مررت بأخ، وأبِ، وحَم". تحذف لاماتها في الإضافة إلى ياء النفس كما تحذفها في الإفراد. وإنما لم تُعِدْ لاماتِها في الإضافة إلى ياء النفس، كما تُعيدها إذا أضفتَها إلى غير ياء النفس في قولك: "أَخو زيدٍ" و"أَخُوكَ"؛ لأن حذفَ لاماتِ هذه الأسماء في حالِ الإفراد، إنّما كان لضرب من التخفيف على غير قياس، وإنّما أُعِيدَتْ حين أريد إعرابُها بالحروف للمعنى الذي ذكرناه، فكان إعادةُ ما هو منها أَوْلى من اجتلابِ حرفٍ غريبٍ أجنبىّ. وأما إذا أضيفت إلى ياء النفس، فلا يظهَر فيها الإعرابُ, لأنه موضعٌ يلزمُه الإعلالُ بالقلب، وقد استمر فيه الحذف، فأمضي ذلك فيه، ولم يُردّ إليه ما كان يلزمُه من الإعلال. وقد أجاز المبرد رَد اللام إذا أضيفت إلى ياء النفس، كإعادتها إذا أضيفت إلى غيرها، فيقول: "هذا أخِى، وأَبِن"، وأنشد [من الكامل]: قَدَرُ أَحَلَّكَ ذَا المَجازِ وقد أَرَى ... وأَبِيَّ مالَكَ ذو المجَازِ بِدارِ والشاهد فيه قولُه: "وأَبِيَّ" بياءِ مدّغَمة على إعادة اللام المحذوفةِ. ولا حُجةَ في ذلك لاحتمالِ أن يكون أراد جمعَ السلامة؛ لأنهم يقولون: "أَبٌ"، و"أَبُونَ"، و"أخٌ"، ¬
و"أَخُونَ"، كما قال [من المتقارب]: فلَما تَبَيَّن أَصْوَاتَنَا ... بَكَيْنَ وفَديْنَنَا بالأَبِينَا وقال الآخر [من الوافر]: 407 - [يَدَعْنَ نِسَاءَكُمْ في الدارِ نُوحًا] ... يُدَفن البُعُولةَ والأبَينَا ثمّ أضاف هذا الجمع الذي هو أَبِينَ، فقال: "أَبِى"، كما تقول "مسلمِي"، و"عِشْرِي". ومثله قوله [من الوافر]: 408 - وقد شُنِئَتْ بها الأَقْوامُ قَبلِي ... فَمَا شُنِئَتْ أَبِي ولا شُنِيتُ (¬1) فعلى هذا تكون الياءُ المدغَمةُ ياءَ الجمع دونَ أن تكون منقلِبة عن الواو التي هي ¬
لامُ في قولك "أبَوَانِ"؛ لأن هذا الموضع، لما كان يلزمُه الإعلال بالقلب، واستمرّ فيه الحذف، أُمضي ذلك فيه، ولم يُرَدَ فيه ما كان يُلْزِمه الإعلالُ له. وذو المَجازِ موضعٌ بمِنى كان به سُوقٌ في الجاهلية، قال الحارث بن حِلزَةَ [من الخفيف]: 409 - واذكرُوا حِلفَ ذِي المَجازِ وقَدْ قُدْ ... دِمَ فيه العُهودُ والكُفَلاءُ فاعرفه. وأمّا "ذو" فإنّها لا تضاف إلى مضمرٍ، ولا تضاف إلّا إلى اسمِ جنس وقد تقدّم ذلك، فأما قول الكُمَيت وقيل لكَعب [من الوافر]: صبحنا الخَزرجيةَ ... إلخ فهو غريبٌ، وحسنه قليلًا عَوْدُ الضمير إلى المرهفات، وهي، وإن كانت في الأصل صفة؛ فالمرادُ بها هنا الموصوفُ، وهو السيوف، والسيوف جنسٌ، ولا يقاس عليه، ومثلُه [من مجزوء الرمل]: إنما يَعْرِفُ ذا الفَضـ ... ـلِ مِنَ الناسِ ذَوُوهُ (¬1) وهو في هذا البيت أسهلُ أمرًا لعَوْدِ الضمير إلى الفضل، وهو اسمُ جنس. وأما "الفَمُ" إذا أضيف إلى ياء النفس، ففيه وجهان: أحدهما أن تُجْرِيَه على لفظِ إفراده، كما فعلتَ في أخواته، فتقول: "هذا فَمِي" و"فتحتُ فَمِي"، و"وضعتُه في فَمِي"، كما تقول: "أَخِي"، و "أَبِي". والوجه الثاني أن تَرُدَّ المحذوفَ، فتقول: "هذا فيَّ"، و"فتحتُ فِيَّ"، و"وضعتُه في فيَّ"، فيكون في الأحوال الثلاث بلفطٍ واحد، وهي الياء المشددةُ. وإنما كان كذلك؛ لأنّك تقول: "هذا فُوكَ"، و"رأيت فَاكَ"، و"مررت بفِيكَ"، ¬
فتكون حركةُ الفاء تابعةً لحركةِ ما بعدها من الحروف. فإن كان واوًا، كان مضمومًا؛ وإن كان ألفًا، كان مفتوحاً؛ وإن كان ياء، كان مكسورًا. وقد تقدّم أن هذه الحروف وَسِيلةُ الحركات، وجاريةٌ مجراها، فكما يلزم أن يكون ما قبل ياء الإضافة مكسوراٌ في قولك: "غلامِي"، كذلك يجب أن تأتيَ بالياء هنا. وإذا جاءت الياءُ، لزم أن تكسِر الفاء, لأنّ حركة الفاء تابعةٌ لما بعدها، نحو قولك: "ابْنُمْ"، و"امْرُؤٌ"، ثم تُدغم في ياء النفس، فصار اللفظُ في الأحوال الثلاث واحدًا، وهذا الوجه هو القياسي الأكثرُ، والأوّلُ قليل. فإن قيل: لِمَ قلبتم الألفَ هنا ياء مع أنها دالةٌ على الإعراب، وامتنعتم مِن قلب ألفِ التثنية؟ وما الفرقُ بينهما؟ فالجوابُ أن في ألف التثنية وُجد سببٌ واحدٌ يقتضي قلبَهَا ياء، وعَارَضَه الإخلالُ بالإعراب، وهاهنا وُجد سببان لقَلْبها ياء، وهو وقوعُها موقع مكسورٍ، وانكسارُ ما قبلها في التقدير من حيث إن الفاء في قولك: "هذا فُوكَ"، و"رأيت فَاكَ"، و"مررت بفِيكَ" يكون تابعًا لما بعده، فقَوِيَ سببُ قَلْبه، ولم يُعْتَدّ بالمُعارِض فاعرفه.
ذكر التوابع
ذكر التوابع فصل [تعريفها] قال صاحب الكتاب: هي الأسماء التي لا يمسُّها الإعراب إلا على سبيلِ التَّبَع لغيرها، وهي خمسةُ أضرب: تأكيدٌ، وصِفةٌ، وبَدَلٌ، وعَطفُ بيان، وعطفٌ بحَرْف. * * * قال الشارح: التَّوابع هي الثواني المُساوِيَةُ للأوّل في الإعراب بمُشارَكتها له في العوامل، ومعنَى قولنا: ثَوانٍ، أي: فُروعٌ في استحقاق الإعراب، لأنّهم لم تكن المقصودَ، وإنَّما هي من لَوازمِ الأول كالتَّتِمَّة له، وذلك نحو قولك: "قام زيدٌ العاقلُ"، فـ "زيدٌ" ارتفع بما قبله من الفعل المسنَد إليه. و"العاقلُ" ارتفع بما قبله أيضًا من حيثُ كان تابعًا لزيد كالتَّكْمِلَة له، إذ الإسنادُ إنّما كان إلى الاسم في حالِ وصفه، فكانا لذلك اسمًا واحدًا في الحكم، ألا ترى أنّ الوصف، لو كان مقصودًا، لكان الفعلُ مسندًا إلى اسمَين، وذلك مُحالٌ. ونظيرُ ذلك أن الرجل ذا العَبِيد والأَتْباعِ يُدْعَى إلى وَلِيمَةٍ، فيَنالُ العبيدَ من الكَرامة مثلُ ما نال السيدَ، لكن ذلك بحُكمِ التَّبَعِية. والمقصودُ بذلك السيّد، كأنّهم ليسوا غيرَه، لأنّهم من لَوازِمه، كذلك ها هنا الإعرابُ يدخل التابعَ والمتبوعَ، لكنِ المتبوعَ بحُكْمِ أنه أصلٌ ومقصودٌ، والتابع بحكم الفَرْعِيّة وأنّه تَكْمِلَةُ الأول. والتوابع خمسةٌ: تأكيدٌ، وصفة، وعطفُ بَيانٍ، وبَدَلٌ، وعطفٌ بحرفٍ. وإنَّما رتّبناها هذا الترتيبَ، فقُدّم التأكيد, لأنّ التأكيد هو الأوّل في معناه، والنَّعْتُ هو الأوَّل على خِلافِ معناه, لأن النعت يتضمّن حقيقة الأول، وحالًا من أحواله، والتأكيدُ يتضمّن حقيقتَه لا غيرُ، فكان مُخالِفًا له في الدلالة. وقد يكون النعتُ بالجملة، وليسِ كذلك التأكيدُ. وقُدّم النعْت على عطف البيان, لأن عطف البيان ضربٌ من النعت، وقُدّم عطف البيان على البدل, لأن البدل قد يكون غيرَ الأول، وأُخِّر العطف بالحرف, لأنّه يتبَع بواسطة، وما قبله يتبع بلا واسطة. التأكيد قال صاحب الكتاب: هو على وجهَين: تكريرٌ صريحٌ، وغيرُ صريح، فالصريحُ
نحو قولك: "رأيتُ زيدًا زيدًا"، وقال أَعْشَى هَمدانَ [من الخفيف]: 410 - مُرَّ إني قَد امتَدَحْتكَ مُرَّا ... واثِقًا أَنْ تُثِيبَنِي وتَسُرَّا مُرَّ يا مرَّ مرة بْنَ تليد ... ما وجدناك في الحوادث غرَّا وغيرُ الصريح، نحو قولك: "فعَلَ زيدٌ نفسه، وعينه، والقوم أنفسهم، وأعيانهم، والرجلان كلاهما" و"لقيتُ قومَكَ كلهم، والرجال أجمعين، والنساء جُمَع". * * * قال الشارحِ: اعلم أنه يقال: تَأكِيدٌ وتَوكِيدٌ بالهمزة والواوِ الخالصةِ، وهما لغتان، وليس أحدُ الحرفيْن بَدَلًا من الآخر, لأنَّهما يَتصرّفان تصرّفًا واحدًا، ألا تراك تقول: "أَكَّدَ يُؤَكدُ تأكيدًا"، و"وَكّدَ يوَكدُ تَوْكِيدًا"، ولم يكن أحدُ الاستعمالَيْن أغلبَ، فيجعَل أصلًا، فلذلك قلنا: إِنّهما لغتان. والتأكيد على ضربَين: لفظىٌ ومَعْنويٌ، فاللفظيُّ يكون بتكريرِ اللفظ، وذلك نحو قولك: ¬
"ضربت زيدًا زيدًا"، فهذا تأكيدٌ لـ"زيدٍ" وحدَه بإعادةِ لفظه , و"ضربتُ زيدًا ضربت زيدًا"، فهذا تأكيدُ الجملة بأسّرها, كما أكدتَ المفردَ. ومنه قول الشاعر [من الطويل]: 411 - أَلا يا اسْلَمِي ثمَّ اَسلمي ثُمَّت اسْلَمِي ... ثَلاثَ تَحِيات وإن لم تَكَلَّمِي أَكُّدَ الجملةَ الأَمْريةَ بتكريرها. ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فهي خِداجٌ فهي خِداجٌ" (¬1)، فأمّا قوله [من الخفيف]: مُرَّ إِنِّي قَدِ امْتَدَحْتُكَ مُرَّا البيتَين، الشعرُ لأَعشَى هَمْدانَ يمدَح مُرَّة بن تُلَيْدٍ، والشاهدُ فيه تأكيدُ "مرَّةَ" بتكرير لفظى، وهو مرخَّمٌ بإسقاط التأنيث. وأمّا التأكيد المعنويّ، فيكون بتكريرِ المعنى دون لفظه، نحو قولك: "رأيت زيدًا نفسَه"، و"رأيتُكم أنفُسَكم"، و"مررتُ بكم كلّكم". وجملةُ الألفاظ التي يؤكَّد بها في المعنى تسعةُ ألفاظٍ: "نَفْسُهُ"، "عَيْنُهُ"، "أَجْمَعُ"، "أَجمَعُونَ"، "جَمعَاءُ"، "جُمَعُ"، "كُلُّهُم"، "كِلَاهُمَا"، "كِلْتَاهُما". فأمّا "أَكتَعُونَ أَبصَعونَ"، "كَتْعاءُ بَصعاء"، "كُتَعُ بُصَعُ"، فكلها توابع لأَجْمعَ، لا تُستعمل إلا بعده، ولا تُستعمل منفرِدةً، فهي شَبِيهةٌ بقولهم. "شَيطانٌ لَيطانٌ"، وقيل: إِن معناها كمعنَى "أجمعين"، وهو الإحاطةُ والعُموْمُ، فـ "أجمعون" من معنى الجَمْع ولفظِه، و"أكتعون" من قولهم: "أتى عليه حَولٌ كتيعٌ"، أي: تامٌّ، ومنه قولُهم: "ما بالدار كتيعٌ"، أي: أحدٌ. ¬
فصل [فائدة التوكيد]
و"أبصعون" من البَصْع، وهو الجَمْع، وبعضُهم يقول: "أبضعون" بالضاد المعجمة، وليست بالفاشِيَة، كأنه من "تَبَضعَ العَرَقُ"، إذا سالَ، إلّا أن "أجمع" أظهرُ في التأكيد، فلذلك كانت مقدَّمة. وأمّا "نفسه" و"عينه"، فيؤكَّد بهما ما تُثْبَت حقيقتُه. و "كُلّ"، و"أَجْمَعُ" فمعناهما الإحاطةُ والعُمومُ، فلا يؤكَّد بهما إلّا ما يتبعّضُ ويتجزأُ. وتقول: "قام زيدٌ نفسُه"، و"ذهب عمرٌو عينُه"، فالعينُ هنا بمعنَى نفسِ الشيء. فأمّا قول صاحب الكتاب: "فَعَلَ زيدٌ نفسُه، وعينُه، والقومُ أنفُسُهم وأعيانُهم"، فالمراد أن هذه الأشياء من ألفاظِ التأكيد، وتُؤكد بأيها شئتَ، لا أنّك تجمع بينهما بحرف العطف, لأنّ أسماءَ التأكيد لا يُعطَف بعضُها على بعض، وتقول: "جاءني القومُ كلُهم أجمعون"، فتُفيد بذلك استيفاءَ عدّةِ القوم. ولو قلت: "جاءني زيدٌ كلُّه، أو أجمعُ"، لم يجز؛ لأن "زيدًا" ليس ممّا يتجزأُ ويتبعّضُ، فإن أردتَ أنَّه جاء سالِمَ الأعضاء والأجزاءَ، جاز. وتقول: "أكلتُ الرَّغِيفَ كله"؛ لأنّ الرغيف ممّا يتجزأ، فيجوز أن يكون أُكل الأكثر منه. فـ "نفسُه" و"عينُه" يؤكد بهما ما يتبعض وما لا يتبعض؛ لأنّهما لإثباتِ حقيقةِ الشيء. و"كلٌّ" و"أجمعُ" لا يؤكد بهما إلّا ما يتبعض، فاعرفه. فصل [فائدة التوكيد] قال صاحب الكتاب: وجَدْوَى التأكيدِ أنك إذا كرّرتَ؛ فقد قررتَ المؤكَّدَ، وما عُلق به في نفسِ السامع، ومكّنتَه في قلبه، وأمطتَ شُبْهةً، رُبَّما خالجته، أو توهمتَ غَفْلةٌ وذَهابًا عمّا أنت بصَدده، فأزلتَه. وكذلك إذا جئتَ بـ "النَّفْس" و "العَين"، فإنّ لظانّ أن يظُنّ حينَ قلتَ: "فعل زيدٌ" أن إسنادَ الفعل إليه تجوُّزٌ، أو سَهْوٌ، أو نِسْيانٌ. و"كُلٌّ" و"أَجْمَعُونَ" يُجدِيان الشُمولَ والإحاطة. * * * قال الشارح: فائدةُ التأكيد تمكينُ المعنى في نفس المخاطب، وإزالةُ الغَلَط في التأويل، وذلك من قِبَل أن المجازَ في كلامهم كثيرٌ شائعٌ، يُعبَّرون بأكثرِ الشيء عن جميعه، وبالمسبَّب عن السبب. ويقولون: "قام زيدٌ"، وجاز أن يكون الفاعلُ غلامَه، أو ولدَه، و"قام القومُ" ويكون القائمُ أكثرهم، ونحوَهم ممّن ينطلِق عليه اسمُ القوم. وإذا كان كذلك، وقلتَ: "جاء زيدٌ"، ربما تتوهمُ من السامع غفلةً عن اسمِ المُخْبَر عنه، أو ذَهابًا عن مُراده، فيحمِلُه على المجاز، فيُزال ذلك الوَهْمُ بتكريرِ الاسم، فيقال: "جاءني زيدٌ زيدٌ"، وكذلك "النفسُ"، و"العينُ" إذا قلت: "جاءني زيدٌ نفسُه أو عينُه"، فيُزيل التأكيدُ ظَنَّ المخاطَب من إرادةِ المَجاز، ويُؤْمِن غفلةَ المخاطب. و"كُلٌّ"، و"أجمعُ" يُجْدِيان الشُّمول، والعُمومَ، والتأكيدُ بهما لإفادةِ ذلك، فإذا
فصل [التأكيد بصريح التكرير]
قلت: "جاءني القومُ كلُّهم أجمعون"؛ جئتَ بالتأكيد لئلّا يُفهَم غيرُ المراد، ولَكَ أن تأتي بـ "كُلّ" وحدَها، وبـ "أجْمَعَ" وحدَها, لأنّ معناهما واحدٌ في التأكيد من جهةِ الإحاطة والعموم، فإن جمعتَ بينهما، فللمُبالغة في التأكيد. واعلمْ أنّه قد ذهب قومٌ إلى أن في "أجمع" فائدةً ليست في "كُل"، وذلك أنّك إذا قلت: "جاءني القومُ كلُّهم"، جاز أن يجيئوك مجتمعِين، ومفترِقين، فإذا قلت: "أجمعون"؛ صارت حالُ القوم الاجتماعَ، لا غيرُ، وذلك ليس بسديدٍ. والصوابُ أنّ معناهما واحدٌ من قِبَل أن أصلَ التأكيد إعادةُ اللفظ، وتَكْرارُه، وإنّما كرِهوا تَواليهما بلفظ واحد، فأبدلوا من الثاني لفظًا يدل على معناه، فجاؤوابـ "كُلّ" و"أَجْمَعَ"، لِيدلّوا بهما على معنَى الأول، ولو كان في الثاني زيادةُ فائدة، لم يكن تاكيدًا؛ لأنّ التأكيد تمكينُ معنَى المؤكَّد. ألا تراك إذا قلت: "ضربتُ ضَرْبًا"، كان المصدرُ تأكيدًا, ولو قلت: "ضربتُ ضربًا شديدًا، أو الضربَ المعروفَ"، لم يكن تأكيدًا، لأنّه قد دل على ما لم يدل عليه الفعلُ، فكذلك لو دل "أجمع" على ما لم يدل عليه الأوّل، لم يكن تأكيدًا. ومع هذا لو أريد بـ "أجمع" معنَى الاجتماع، لوَجَبَ نصبُه, لأنّه يكون حالًا, لأنّ التقدير: فَعَلَ ذلك في هذِه الحال. فصل [التأكيد بصريح التكرير] قال صاحب الكتاب: والتأكيد بصريح التكرير جارٍ في كل شيء في الاسم، والفعل، والحرف، والجملة، والمُظْهَر، والمُضْمَر، تقول: "ضربتُ زيدًا زيدًا"، و"ضربتُ ضربتُ زيدًا"، و"إنّ إنّ زيدًا منطلقٌ"، و"جاءني زيدٌ جاءني زيدٌ"، و"ما أكرمني إلّا أنت أنت". * * * قال الشارح: التأكيد بتكرير اللفظ ليس عليه بابٌ يحصُره, لأنّه يكون في الأسماء، والأفعال، والحروف، والجُمَل، وكلّ كلام تريد تأكيدَه. تقول في الاسم: "رأيت زيدًا زيدًا"، و"هذا زيدٌ زيدٌ"، و"مررت بزيدٍ زيدٍ"، وفي الفعل "قَامَ قَامَ"، و"قُمْ قُمْ". قال الشاعر [من الطويل]: ألا يا اسلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ثُمَّتَ اسْلَمِي ... [ثلاثَ تَحِياتٍ وإنْ لمْ تكَلَّمي] (¬1) وتقول: "ضربتُ زيدًا، ضربتُ زيدًا"، و"جاءني محمدٌ، جاءني محمّدٌ"، وَ"الله أَكْبَرُ، اللهُ أكبرُ"، فتُؤكّد الجملةَ من الفعل والفاعل، والمبتدأ والخبر. وكذلك كلُّ كلام ¬
فصل [تأكيد الاسم الظاهر والضمير]
تريد تأكيدَه، نحو: "إنّ إنّ زيدًا منطلقٌ"، فتُؤكَّد الحرفَ المؤكّدَ، وتقول: "زيدٌ قائمٌ في الدار قائمٌ فيها"، فتُعيد فِيهَا توكيدًا، قال الله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا} (¬1)، إلاّ أنّ الحرف إنّما يُكرَّر مع ما يتّصِل به لا سيما إذا كان عاملًا. وتقول: "ما أكرمَني إلّا أنت أنت"، فتُؤكّد الاسمَ المضمَر, لأنّ التأكيد بصريحٍ يرجع إلى لفظِ المؤكَّد كائنًا ما كان. فصل [تأكيد الاسم الظاهر والضمير] قال صاحب الكتاب: ويؤكد المُظْهَرُ بمثله، لا بالمُضْمَر، والمُضْمَرُ بمثله وبالمظهر جميعًا. ولا يخلو المُضْمَران من أن يكونا منفصِلَين، كقولك: "ما ضربني إلّا هو هو"، أو متصلًا أحدُهما، والآخَرُ منفصِلًا، كقولك: "زيدٌ قام هو"، و"انطلقتَ أنتَ"، وكذلك "مررتُ بك أنت، وبه هو، وبنا نحن"، و"رأيتَي أنا"، و"رأيتَنا نحن". ولا يخلو المُضْمَر، إذا أُكّد بالمظهر، أن يكون مرفوعًا، أو منصوبًا، أو مجرورًا، فالمرفوعُ لا يؤكَّد بالمظهر إلّا بعدَ أن يؤكدَ بالمضمر، وذلك قولك: "زيدٌ ذهب هو نفسُه، وعينُه"، و"القومُ حضروا هم أنفسُهم، وأعيانُهم"، و"النّساءُ حضرْن هنّ أنفسُهنّ، وأعيانُهنّ"، سَواءٌ في ذلك المستكِنُّ، والبارزُ. وأمّا المنصوب والمجرور، فيؤكدان بغيرِ شريطةٍ، تقول: "رأيتُه نفسَه"، و "مررتُ به نفسه". * * * قال الشارح: الاسم على ضربَيْن مُظْهَرٌ، - صلى الله عليه وسلم - مُضْمَرٌ، فالمُظْهَرُ لا يؤكَّد إلا بظاهرٍ مثلِه، ولا يؤكد بمضمرٍ، فلا تقول: "جاءني زيدٌ هو"، ولا "مررت بزيدٍ هو". وذلك من قِبَل أنّ التأكيد بـ "النفس" و"العين" من التواكيد الظاهرةِ جارٍ مجرَى النعت في الإيضاح والبيانِ، ولذلك اشتركا في اشتراكِ الموصوف والمؤكدِ في الإعراب والتعرِيف، فلمّا كان بين التوكيد والصفة من المُناسَبة والمقارَنةِ ما ذُكر، وكان من شرِط النعت أن لا يكون أَعْرَفَ من المنعوت، امتنع ذلك من التوكيد أيضًا. والمضمرُ أعرفُ من المظهر، فلم يجز أن يكون توكيدًا له؛ لأنّ التوكيد كالصفة من الجهة المذكورةِ، وأيضًا فإنّ الغرض من التوكيد الإيضاحُ والبيانُ، وإزالةُ اللَّبْس، والمضمرُ أَخْفَى من الظاهر، فلا يصلُح أن يكون مُبينًا له. وأمّا المضمرُ، فيؤكَّد بالظاهر، وبمثله من المضمرات أيضًا، فأمّا تأكيدُه بالظاهر؛ فيكون بـ"النفس" و"العين" و"كُلّ"، و"أَجْمَعَ"، وتَوابِعهما، وذلك لأنّ المظهر أَبْيَنُ من المضمر، فيصلُح أن يكون تأكيدًا له ومُبيّنًا. ¬
ولا يخلو المضمر من أن يكون مرفوعًا، أو منصوبًا، أو مجرورًا. فإن أكّدتَ المضمرَ المرفوعَ بالنفس، والعينِ، لم يحسُن حتى تؤكّده أوّلًا بالمضمر، ثمّ تأتي بالنفس، أو العينِ، فتقول: "قمتَ أنتَ نفسُك". ولو قلت: "قمتَ نفسُك، أو عينُك"؛ لكان ضعيفًا غيرَ حسن، لأنّ النفس والعين يَلِيان العواملَ. ومعنى قولنا: "يليان العواملَ" أن العوامل تعمل فيهما لا بحُكْم التَّبَعيّة، بل يكونان فاعلَيْن، ومفعولَيْن، ومضافَيْن، وذلك أَنَّها لم يَتمكّنا في التأكيد، بل الغالبُ عليهما الاسميّةُ. ألا تراك تقول: "طابتْ نفسُه"، و"صحّتُ عينُه"، و"نزلتُ بنفسِ الجَبَل"، و"أخرجَ الله نفسَه"؟ فلمّا لم يكن التأكيدُ فيهما ظاهرًا، فكان الغالبُ عليهما الاسميّةَ، لم يحسن تأكيدُ المضمر المرفوعِ بهما, لأنّه يصير لعدمِ ظهورِ التأكيد فيهما كالنعت، وعطفِ البيان، فقبُح لذلك، كما قبُح العطفُ عليه من غيرِ تأكيد. فأمّا "كُلّ"، وإن كانت تلي العواملَ، فتقول: "جاءني كلُّ القوم"، و"رأيت كلَّ القوم"، و"مررت بكلّ القوم"، فإنّ التأكيد غالبٌ عليها لِما فيها من معنَى الإحاطة والعموم، فكانت مشابِهةٌ لـ"أجمعين"، قلذلك جاز تأكيدُ المضمر المرفوع بها من غيرِ تقدُّم تأكَيدٍ آخرَ بضمير. ووجهٌ ثانٍ أَنّ التأكيد بالنفس والعينِ من غيرِ تقدم تأكيد آخرَ ربّما أوْقعَ لَبْسًا في كثيرٍ من الأمر، ألا ترى أنك لو قلت: "هندٌ ضربتْ نفسُها"، لم يُعلَم: أَرَفَعْتَ نفسُها بالفعل وأخليتَ الفعلَ من الضمير، أم جعلتَ في الفعل ضميرًا لهِنْد، وأكدتَه بالنفس، فإذا قلت: "هندٌ ضربَتْ هي نفسُها" حسُن من غيرِ قُبْح؛ لأنّك لمّا جئت بالمضمر المنفصِل؛ عُلم أنّ الفعل غيرُ خالٍ من المضمر, لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون هُوَ الفاعلَ، أو تأكيدًا، فلا يجوز أن يكون فاعلًا، لأنّك لا تأتي بالمنفصل مع القُدْرَة على المتّصِل. ألا ترى أنّك لا تقول: "ضربتُ أَنَا"؛ لأنّك قادرٌ على أن تقول: "ضربتُ". وإذا لم يجز أن يكون فاعلاً، تَعيّنَ أن يكون تأكيدًا، وإذا كان في الفعل ضميرٌ مؤكَّدٌ بالضمير المنفصل، أمِنَ اللبسَ، وجاز توكيدُه بالنفس والعين، فاعرفه. فأمّا إذا كان الضميرُ المؤكد منصوبًا، أو مجرورًا؛ جاز تأكيدُه بالنفس والعين، من غيرِ حاجة إلى تقدمِ تأكيدٍ بمضمر، فتقول: "ضربتُك نفسَك"، و"مررت بك نفسِك", لأنّه لم يوجَد من اللبس هنا ما وُجد في المرفوع، فإن أكدتَه بالضمير، ثمّ جئتَ بالنفس، فقلت: "ضربتُك أنتَ نفسَك"، و"مررت بك أنت نفسِك"؛ كان أبلغَ في التأكيد، وإن لم تأتِ به، فعَنْهُ مندوحةٌ، ومنه بُدٌّ. وأمّا تأكيدُ المضمر بمثله من المضمرات، فنحو قولك: "قمتَ أنتَ"، و"رأيتُك أنتَ"، و"مررت بك أنتَ"، فيكون تأكيدُ المرفوع والمنصوب والمجرور، بلفظ واحد، وهو ضميرُ المرفوع، وإنّما كان كذلك من قِبَل أنّ أصلَ الضمير أن يكون على صيغة واحدة في الرفع والنصب والجرّ، كما كانت الأسماءُ الظاهرةُ على صيغة واحدة، والإعرابُ في آخرِها يُبيّن
[اختصاص "النفس" و"العين" بالتفصلة بين الضمير المرفوع وصاحبيه]
أحوالَها، وكما كانت الأسماءُ المُبْهَمة المبنية على صيغة واحدة، وعواملُها تدل على إعرابها ومواضعها، نحوَ: "جاءني هذا"، و"رأيت هذا"، و"مررت بهذا". وقد فصلوا بين ضميرِ المرفوع، والمنصوبِ، والمجرورِ في بعضِ المواضع، فقالوا: "ضربتَ زيدًا"، و"ضَرَبَك زيدٌ"، و"مررتُ بغلامي". فالتاءُ ضميرُ المرفوع، والكافُ ضميرُ المنصوب، والياء ضميرُ المجرور. ولفظُ كلّ واحد منها غيرُ لفظ الآخر، وقد ساوَوْا بين المرفوع، والمنصوب، والمجرور في بعضِ المواضعِ. وذلك نحو: "قمْنَا"، و"ذَهَبْنَا"، النونُ والألف في موضعِ رفع، و"أكْرَمَنَا زيدٌ"، و"أعْطَانَا عمروٌ"، النونُ والألف في موضع نصب، ولذلك وقع الظاهرُ بعده مرفوعًا بحق الفاعل، وتقول: "نَزَلَ علينا"، و"غْلامُنا"، فيكون النونُ والألف في موضعِ جرّ. وأصلُ الضمير المنفصل المرفوعُ؛ لأنّ أوّلَ أحواله الابتداءُ، وعاملُ الابتداء ليس بلفظٍ، فإذا أُضمر، فلا بدّ أن يكون ضميرُه منفصلًا، والمنصوبُ والمجروو عاملُهما لا يكون إلّا لفظًا، فإذا أُضْمر، اتّصلا به، فصار المرفوعُ مختصًّا بالانفصال، فإذا أُكّد المضمر لتحقيقِ الفعل له دون من يقوم مقامَه، احتجنا إلى ضمير منفصل. وأصلُ الضمير المنفصل المرفوعُ. ولم يكن للمجرور ضميرٌ منفصلٌ، وكان المجرورُ والمنصوبُ من وادٍ واحدٍ، فحُملا عليه مع أنهم أرادوا الفرقَ بين البَدَل والتأكيدِ، فإذا قالوا: "رأيتُك إيّاك"، كان بدلًا، وإذا قالوا: "رأيتُك أنت"، كان تأكيدًا. فلذلك استُعمل ضميرُ المرفوع في المنصوب والمجرورِ، واشترك الجميعُ فيه، كما اشتركن في "نَا". وجروا في ذلك على قياسِ اشتراكها كلّها في لفظ واحد كما ذكرنا، فإذا قلت: "قمْتَ أنت"، فـ "أَنْتَ" في موضع رفع؛ لأنّه تأكيدٌ لمرفوع، والتأكيدُ تابعٌ للمؤكَّد. يدل على ذلك أنّك لو أتيتَ بالنفس والعينِ؛ لكان مرفوعًا، نحوَ قولك: "قمتَ أنت نفسُك"، وإذا قلت: "رأيتُك أنت"، فـ "أَنتَ" في موضعِ نصب, لأنه تأكيدٌ لمنصوبٍ، وإذا قلت: "مررتُ بك أنت"، فـ "أَنْتَ" في موضعِ مجرور. فإن قيل: فهل هذا التأكيدُ من قبيلِ التأكيد اللفظيّ، أو من قبيلِ التأكيد المعنويّ؟ قيل: لا بل هو بالتأكيد اللفظي أشبهُ؛ لأنّ التأكيد المعنويّ له ألفاظٌ مخصوصةٌ وشروطٌ، وسيُوضَح أمرها بعد، فاعرفه. * * * [اختصاص "النفس" و"العين" بالتفصلة بين الضمير المرفوع وصاحبيه] قال صاحب الكتاب: " النفس والعين مختصان بهذه التفصلة بين الضمير المرفوع وصاحبيه (¬1)، وفيما سواهما لا فصل في الجواز بين ثلاثتها, تقول "الكتاب قرئ كله"، و"جاؤوني كلهم"، و"خرجوا أجمعون". * * * ¬
فصل [التأكيد بـ "كل" و "أجمع"]
قال الشارح: قد تقدّم قولنا: إِنّ تأكيدَ المضمر المرفوع بالنفس والعين من غيرِ تقدّمِ تأكيدِ مضمرٍ منفصلٍ قبيحٌ، وهو جائزٌ مع قُبْحه. وهو مع بعضِ المضمرات أقبحُ، فقولُك: "زيدٌ جاء نفسُه" أقبحُ من قولك: "جئتُ نفسي"؛ لأنّه في المسألة الأُولى ربّما أوقع لَبْسًا. وقولُك: "قمتُ نفسي" أقبحُ من قولك "قُمْنَا أنفسُنا"؛ لأنّ في هذه المسألة الضميرَ بارزٌ، وهو على حرفَيْن كالأسماء الظاهرة من نحوِ "يَدٍ"، و"أَبٍ"، وفي المسألة الأوُلى على حرف واحد، فكان بعيدًا من المتمكّنة. وأمّا الضميرُ المنصوب والمجرور، فيجوز تأكيدُهما بالنفس والعين، وإن لم يتقدّمهما تأكيدٌ, لأنّه لا لَبْسَ فيهما, وليسا من الفعل كالجُزْء منه، كما كان ضميرُ الفاعل. فالتأكيد بالنفس والعين مختصّ بهذه التفْصلة، أي بين تأكيدِ ضميرِ المرفوع بالنفس والعين، وبين تأكيد ضميرِ المنصوب والمجرورِ بهما، للفرق الذي ذكرناه. وليس بين تأكيدهنّ بغيرِ النفس والعين فصلٌ، بل ذلك سائغٌ جائزٌ، فلذلك قال: "وفيما سِواهما" يعني: النفسَ، والعينَ، لا فَضلَ في جوازِ ثلاثتها، فلذلك تقول: "الكتابُ قُرىء كلُّه"، فتُؤكّد الضميرَ المستكِنَّ من غيرِ تقدُّمِ تأكيدِ مضمر؛ لما ذكرناه من غَلَبَةِ التأكيد على "كُلّ"، فكانت كـ"أجمعين" فاعرفه. فصل [التأكيد بـ "كل" و "أجمع"] ثال صاحب الكتاب: ومتى أكدت بـ"كل" و"أجمع" غير جمع, فلا مذهب لصحته حتى تقصد أجزاءه، كقولك قرأت الكتاب، وسرت النهار كله وأجمع" و"تبحرت الأرض وسرت الليلة كلها وجمعاء". * * * قال الشارح: قد تقدُّم قولنا: إِنّ "كُلاًّ" و"أجمع" معناهما الإحاطةُ والعمومُ، فلا يؤكَّد بهما إلاّ ما يتبعّضُ، ويصحّ تَجْزِئَتُه، فتقول: "قرأتُ الكتابَ كلَّه"؛ لأنّه يُمكِن قِراءةُ بعضه، و"سرتُ النهارَ أجمعَ"، لإمكانِ سَيْرِ جُزْءٍ منه، و"تبحرتُ الأرضَ"، أي: توسّعتُ فيها، و"سرتُ الليلةَ جَمْعاءَ". كلُّ هذه الأشياء يجوز تأكيدُها بـ"كل" و"أجمع"؛ لإمكانِ تجزئتها وتبعُّضِها. وقوله: "لا مذهبَ لصحّته حتّى تقصِد أجزاءَه"، يريد: إذا كان العاملُ ممّا يقبَل التجزئةَ، نحوَ: "رأيتُ زيدًا"، و"ضربتُ عمرًا"، لأنّ الرؤية والضربَ يجوز أن يقعا ببَعْضه، وأن يقعا بكُلّه، فجاز تأكيدُه بـ"كل"، و"أجمع"، إذا أريد جميعُ أجزائه. ولو قلت: "جاء زيدٌ أو أقبلَ محمّدٌ كلُّه أو أجمعُ"، لم يصحّ؛ لأن المَجيء والإقبالَ لا يصحّ من أجزائهما، فإن أردتَ أنّه جاء سالم الأعضاء لم يُفقَد منها شيءٌ نحو اليَدَيْن والرّجْلَيْن، لم يبعُد جوازُه.
فصل [تأكيد النكرة بـ"كل" و "أجمعون"]
فصل [تأكيد النكرة بـ"كلّ" و "أجمعون"] قال صاحب الكتاب: ولا يقع كل وأجمعون تأكيدين للنكرات, لا تقول: رأيت قوماً كلهم, ولا أجمعين وقد أجاز ذلك الكوفيون (¬1) فيما كان محدوداً كقوله [من الرجز]: 412 - قد صرت البكرة يوماً أجمعاً * * * قال الشارح: اعلم أنّ النكراتِ لا تُؤكَّد بالتأكيد المعنويّ، وإنّما تؤكد بالتأكيد اللفظيّ لا غيرُ، لو قلت: "أكلتُ رغيفًا كلَّه"، أو"قرأتُ كتابًا أجمعَ"، لم يجز، وإنَّما تقول: "أكلت رغيفًا رغيفًا"، أو"قرأت كتابًا كتابًا". وإنَّما لم تؤكَّد النكرات بالتأكيد المعنويّ؛ لأنّ النكرة لم يثبُت لها حقيقةٌ، والتأكيدُ المعنوي إنّما هو لتمكينِ معنَى الاسم، وتقريرِ حقيقته. وتمكينُ ما لم يثبت في النفس مُحالٌ. فأمّا التوكيدُ اللفظي، فهو أمرٌ راجعٌ إلى اللفظ، وتمكينِه من ذِهْنِ المخاطب، وسَمْعِه خَوْفًا من توهُّمِ المجاز، أو توهُّمِ غَفْلَة عن استماعه. فاللفظُ هو المقصود في التأكيد اللفظيّ، فأمّا المعنوي، فإنّما المرادُ منه الحقيقةُ، ولذلك أُعيد المعنى في غيرِ ذلك اللفظ. وأمرٌ آخرُ أنّ الألفاظ التي يُؤكَّد بها في المعنى مَعارفُ، فلا تتبَع النكراتِ توكيدًا لها؛ لأنّ التوكيد كالصفة. وذهب الكوفيون إلى جوازِ تأكيدِ النكرة بالتأكيد المعنويّ إذا كانت النكرة محدودةٌ، أي: معلومةَ المِقدار، نحوَ: "يوم"، و"شَهْر" و"فَرْسَخ" و"مِيل" و"ضَرْبَة" ¬
و"أَكلَة"، ونحوِ ذلك، واستدلّوا على جوازه بقوله [من البسيط]: 413 - [لكنّه شاقه أن قيل ذا رجب] ... يا لَيتَ عِدَّةَ حَولٍ كُلّه رَجَبُ فجَرَّ "كُلَّه" على التأكيد لـ"حَوْل"، وهو نكرةٌ. وأنشدوا أيضًا [من الرجز]: 414 - إذا القَعُودُ كَرَّ فيها حَفَدًا ... يَوْمًا جَدِيدًا كُلَّه مُطردَا ¬
وقال الآخر [من الرجز]: قد صَرَّتِ البَكْرَةُ يومًا أجمعا (¬1) فأكّد "يومًا" وهو نكرةً. ولا حجّةَ في هذه الأبيات لقِلّتها وشُذوذِها في القياس، مع أنّ الرواية [من البسيط]: يا ليت عدّةَ حولِ كلَّه رجبُ بالإضافة، وإذا أضيف كان معرفةً، والرواية في قوله [من الرجز]: يومًا جديدًا كلُّه مطَّردا برفعِ "كُلّ" على تأكيدِ المضمر في "جديد"، والمضمراتُ كلُها معارفُ. وأما قوله [من الرجز]: قد صرّت البكرة يومًا أجمعا فلا يُعرَف قائله مع شُذوذه. فإن قيل: "ومن أينَ زعمتم أنّ هذه الأسماء التي يؤكد بها معارفُ؟ فالجوابُ: أمّا ما أضيف منها إلى المضمر، فلا إشكالَ في تعريفه، نحو قوله: "كُلُّهُ"، و"نفسُه"، و"عينُه". وأمّا "أجمع"، و"أجمعون"، وتوابعُهما، فقد اختلف الناسُ في تعريفها، من أيّ وجه وقع لها التعريفُ، فذهب قومٌ إلى أنّها في معنَى المضاف إلى المضمر؛ لأنّك إذا قلت: "رأيت الجَيْشَ أجمعَ"، كان في تقديرِ: "رأيت الجيشَ جَمِيعَه"، وكذلك إذا قلت: "رأيت القومَ أجمعين"، كان في تقديرِ "رأيت القومَ جميعَهم"، وكان يجب أن تقول: "جاءني القومُ كلُهم، أَجْمَعُهم، أَكْتَعُهم، أَبْصَعُهم"، فحذفوا المضاف إليه، وعوّضوا من ذلك الجمعَ بالواو والنون، فصارت الكلمةُ بذلك الجمعِ يراد بها المضافُ، والمضافُ إليه، ولهذا لم يَجْرِين على نكرةٍ، وصار ذلك كجَمْعهم "أَرْضٌ" على "أَرضينَ" عوضًا من تاءِ التأنيث. فإن قيل: إِنّ تاء التأنيث تتنزّلُ من الاسم منزلةَ جُزْء منه، ولذلك كانت حرفَ الإعراب منه، فقالوا: "قائمةٌ"، و"قاعدةٌ"، عوّضوا منها كما عوّضوا ممّا حُذف من نفسِ ¬
فصل [التأكيد بـ "أكتعون" و "أبتعون" و "أبصعون"]
الكلمة، نحوِ: "مِائةِ" و"مِئين"، و"قُلَةٍ" و"قُلِين"، و"ثبَةٍ" و"ثُبِين"، والمضافُ إليه كلمةٌ قائمةٌ بنفسها، وحرفُ الإعراب ما قبلَها، فالجوابُ أنّ المضاف إليه أيضًا يتنزّلُ من المضاف منزلةَ ما هو من نفسِ الاسم، ولذلك لا يُفصَل بينهما. وإذا صغّرتَ نحوَ "عبد الله" و"امرؤ القَيْس"، ونحوهما من الأعلام المضافةِ، إنّما تُصغِّر الاسمَ المضافَ دون المضاف إليه، فتقول: "هذا عُبَيْدُ الله"، و"مُرَيْءُ القيس"، كما تفعل ذلك في عَلَمِ التأنيث، ألا ترى أنّك تقول في تصغيرِ "طَلْحَةَ" ونحوه: "طُلَيْحَةُ"، وفي تصغير "حَمْراءَ": "حُمَيْراء"، فتُصغِّر الصدرَ، وتُبْقِي علمَ التأنيث بحاله، فلمّا تنزّل المضافُ إليه من المضاف منزلةَ الجزء من الكلمة؛ جاز أن يُعوَّض منه إذا حُذف، وأريد معناه. وذهب قومٌ من المُحقّقين إلى أنّ تعريفَ هذه الأسماء بالوَضْع، وهو من قبيلِ تعريفِ الأعلام، نحو: "زيد"، و"عمرو". ويدلّ على صحّةِ ذلك أن "أجمعَ"، و"جُمَعَ" لا ينصرفان، فأمَّا "أجمع"، فلا ينصرف للتعريف ووزن الفعل، وأمّا "جُمَعُ" فلا ينصرف للتعريف والعَدْلِ، فذهب قومٌ إلى أنّه معدولٌ عن "جُمْع" لأنّ "فَعْلاء" ممّا مُذكَّرُه على "أَفْعَلَ" تُجمع على "فُعْل" نحوَ "حَمْراءَ" و"حُمْرٍ"، و"صَفْراءَ" و"صُفْير"، وهو رأيُ أبي عثمانَ المازِنيّ، وكان يعتقِد في التأكيد أنّه ضربٌ من الصفة. وذهب آخرون إلى أنّه معدولٌ عن "جَمَاعَى" لأنّ "فَعْلاء" إنما تُجمع على "فُعْل" إذا كانت صفةَ، نحوَ: "حَمْراءَ وحُمْرٍ"، و"صَفراءَ وصُفْر"، وأمّا إذا كانت اسمًا، فبابُها أن تُجمع على "فَعَالَى"، نحوَ: "صَحْراءَ وصَحَارَى"، و"أجمَعَ، وجُمَعُ" اسمان غيرُ صفتَيْن. ويُنقَل عن صاحب هذا الكتاب أنه كان يذهب إلى أن "أجمع" و"أجمعين"، وما بعدهما معارفُ لأنّها معدولة عن الألف واللام، والمرادُ "الأجمعُ"، و"الأجمعون"، كما أن "أَمْسِ" معدولٌ عن "الأمْسِ"، وقد تكرّر العدلُ في "جُمَعَ" كأنّه معدول عن شيئَيْن: الألفِ واللام، وعن "جَماعَى" كـ"صَحارَى"، فاعرفه. فصل [التأكيد بـ "أكتعون" و "أبتعون" و "أبصعون"] قال صاحب الكتاب: و"أكتعون وأبتعون وأبصعون إتباعات لـ "أجمعون" لا يجئن إلا على أثره, وعن ابن كيسان تبدأ بأيتهن شئت بعدها. وسمع أجمع أبصع وجمع كتع وجمع بتع وعن بعضهم جاءني القوم أكتعون. * * * قال الشارح: الأسماءُ التي يُؤكَّد بها مُرتَبةٌ، فبعضُها مقدَّمٌ، فـ "نفسه" و"عينه"، مقدَّمان على "كُلّ"؛ لأنّهما أشدُّ تمكُنًا في الاسميّة من "كلّ" على ما تقدّم، و"كلٌّ" مقدَّمةٌ على "أجمعَ"؛ لأنّ "كلاًّ" تكون تأكيدًا وغيرَ تأكيد، و"أجمعُ" لا تكون إلاّ تأكيدًا، تقول:
"إنّ القوم كلُّهم في الدار"، فيجوز رفعُ "كُلّ" ونصبُها، فالنصبُ على التأكيد، والجارُّ والمجرور الخبرُ، وأمّا الرفع، فعلى الابتداء، وخبرُه الجارُّ والمجرور بعده، والجملةُ من الابتداء والخبرِ خبرُ "إِنَّ". قال الله تعالى: {إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ} (¬1)، رُوي بنصبِ "كلّ" ورفعها، فالنصبُ على التأكيد، والرفعُ على الابتداء. وأمّا ما بعدَ "أجمع"، فتَوابعُ لا تقع إلّا بعدها، فـ "أكْتَعُ" تابعٌ لـ"أجمع"، يقع بعده كقولنا: "حَسَنٌ بَسَنٌ"، و"أبصعُ" تابعٌ لـ"أكتعَ" يقع بعده هذا ترتيبها. وحكى ابن كَيسانَ أنّك تبدأ بأيّتهنٌ شئت بعد "أجمع"، كأنّه يجعل هذه الألفاظ إتِباعاتٍ لـ"أجمع"، فلا يُقَدَّمْنَ عليها بل لك أن تأتي بأيّتهنّ شئت بعد "أجمع"، وتُؤخّر الباقي. وقد جاء عن العرب: "أجمعُ أبصعُ"، و"جُمَعُ كُتَعُ"، و"جُمَعُ بُتَعُ"، فيُقدّمون "أجمع"، ثمّ يُتْبِعونها ما شاؤوا من هذه التوابع على ما ذكرناه. وأجاز بعضُهم: "جاء القوم أكتعون"، فيجعلونها كـ "أجمعين"، وليست تابعةً، وقد تقدّم أنّ بعضهم يجعل هذه الأشياءَ كلَّها تَواكيدَ، ومعناها كمعنَى "أجمع"، فأَيّها شئت قدّمتَ، وبأيّها شئت أكّدتَ، فاعرفه. ¬
الصفة
الصفة فصل [تعريفها] قال صاحب الكتاب: هي الاسم الدال على بعض أحوال الذات وذلك نحو طويل وقصير وعاقل وأحمق وقائم وقاعد وسقيم وصحيح وفقير وغني وشريف ووضيع ومكرم ومهان, والذي تساق له الصفة هو التفرقة بين المشتركين في الاسم, ويقال إنها للتخصيص في النكرات وللتوضيح في المعارف. * * * قال الشارح: الصفة والنَّعْت واحدٌ، وقد ذهب بعضُهم إلى أنّ النعت يكون بالحِلْية، نحو: "طويل"، و"قصير"، والصفةَ تكون بالأفعال، نحو: "ضارب" و"خارج". فعلى هذا يقال للبارىء سُبحانَه: موصوفٌ، ولا يقال له منعوتٌ، وعلى الأوّل هو موصوفٌ ومنعوتٌ. والصفةُ لفظٌ يتبع الموصوفَ في إعرابه تَحْلِيَةً وتخصيصًا له بذِكْرِ معنًى في الموصوف، أو في شيء من سَبَبه، وذلك المعنى عَرَضٌ للذات لازمٌ له. وقوله: "الاسم الدالّ على بعضِ أحوالِ الذات" فتَقْرِيبٌ، وليس بحَدّ على الحقيقة، لأنّ الاسم ليس بجِنْس لها، ألا ترى أنّ الصفة قد تكون بالجملة والظرفِ، نحوِ "مررت برجل قام"، و"مررت برجلٍ أبوه قائمٌ، وبرجل في الدار، ومن الكِرام". فقولُنا: "لَفْظٌ" أسدّ؛ لأنّه يشمَل الاسمَ والجملةَ والظرفَ. وقوله: "الدال على بعضِ أحوالِ الذات"، لا يكفِي فَصْلاً. ألا ترى أنّ الخبر دالٌّ على بعض أحوال الذات نحوَ "زيدٌ قائمٌ"، و"إنّ زيدًا قائمٌّ"، و"كان زيدٌ قائمًا". فإن أضاف إلى ذلك الجَارِي عليه في إعرابه، أو التَّابعَ له في إعرابه، استقام حَدًّا، وفَصَلَه من الخبر، إذ الخبرُ لا يتبَع المُخْبَر عنه في إعرابه. والغرض بالنعت تخصيصُ نكرة، أو إزالةُ اشتراك عارضٍ في معرفة، فمثال صفةِ النكرة قولُك: "هذا رجلٌ عالمٌ"، و"رأيت رجلًا عالمًا"، و"مررت برجلٍ عالمٍ، أو من بني تَمِيمٍ"، فـ "رجلٌ عالمٌ" أو"من بني تميم" أخصُّ من "رجلٍ". ومثال صفة المعرفة قولُك: "جاءني زيدٌ العاقلُ"، و"رأيت زيدًا العاقلَ"، و"مررت بزيدٍ العاقلِ". فالصفةُ ههنا
فصلته من زيد آخَر ليس بعاقلٍ، وأزالت عنه هذه الشركَة العارضَة، أي أنّها اتّفقت من غيرِ قصد من الواضع، إذ الأصلُ في الأعلام أن يكون كلُّ اسم بإزاءِ مسمّى، فينفصِلُ المسمَّيات بالألقاب، إلّا أنّه ربّما ازدحمتِ المسمّياتُ بكَثْرتها، فحصل ثم اشتراكٌ عارضٌ، فأُتي بالصفة لإزالةِ تلك الشركة، ونَفْي اللَّبْس. فصفةُ المعرفة للتوضيح والبيان، وصفةُ النكرة للتخصيص، وهو إخراجُ الاسم من نوع إلى نوع أخصَّ منه. وقوله: "الذي تُساق له الصفة هو التَّفْرِقة بين المشتركَيْن في الاسم"، يريد: أنّ الصفة تُزيل الاشتراكَ الجِنْسيَّ، نحوَ: "رجل"، و"فرس"، والاشتراكَ العارضَ في المعارف، وقيل: إِنّها للتخصيص في النكرات، وللتوضيح في المعارف على ما ذكرناه. ولمّا كان الغرضُ بالنعت ما ذكرناه من تخصيصِ النكرة وإزالةِ الاشتراك العارض في المعرفة، وجب أن يُجعَل للمنعوت حالٌ تَعرَّى منها مُشارِكُه في الاسم، ليتميّزَ به، وذلك يكون على وجوهٍ: إمّا بخلْقه، نحو: "طويل"، و"قصير"، و"أبيضَ"، و"أسودَ"، ونحوِها من صفاتِ الحِلْية، وإمّا بفعل اشتهر به، وصار لازمًا له. وذلك على ضربَيْن: آليّ، وهو ما كان عِلاجًا، نحوَ: "قائمٍ"، و"قاعد"، و"ضارب" و"آكل" ونحوِها، ونَفْسانىٌّ، نحو: "عاقل"، و"أحمقَ"، و"سَقِيم"، و"صَحيح"، و"فَقير"، و"غَنِيّ"، و"شريف"، و"ظريف"، و"وضيع"، و"مُكرَم"، و"مُهان" إذا اشتهر بوقوعِ ذلك به. وإذا بحِرفَةٍ، أو أمرٍ مُكْتَسبٍ، نحو"بَزاز"، و"عَطار"، و"كاتِب"، ونحو ذلك. وإِمّا بنَسَب إلى بَلَد، أو أب، نحوِ: "قُرَشي"، و"بَغْداديّ"، و"عَرَبيّ"، و"عَجَميّ"، ونحوِ ذلك من الخاضة التي لا تُوجَد في مُشارِكه فاعرفه. قال صاحب الكتاب: وقد تجيء مسوقة لمجرد الثناء والتعظيم كالأوصاف الجارية على القديم سبحانه, أو لما يضاد ذلك من الذم والتحقير، كقولك فعل فلان الفاعل الصانع كذا, وللتأكيد كقولهم أمس الدابر وكقوله تعالى: {نفخة واحدة} (¬1). * * * قال الشارح: وقد يجيء النعتُ لمجرَّد الثناء والمَدْح، لا يراد به إزالةُ اشتراك، ولا تخصيصُ نكرة، بل لمجرّد الثناء والمَدْح، أو ضِدَّهما من ذَمِّ أو تحقيرٍ، وتعريفِ المخاطب من أمرِ الموصوف ما لم يكن يعرفُه، وذلك نحو قولك: "جاءني زيدٌ العاقلُ الكريمُ الفاضلُ"، تريد بذلك تَنْوِيهَ الموصوف والثناءَ عليه بما فيه من الخِصال الحميدة. ومن ذلك صفاتُ البارىء سبحانه، نحو: "الحَيّ العالم، القادر" لا تريد بذلك فَصْلَه من شريكِ الله، تعالى عن ذلك، وإنَّما المرادُ الثناء عليه بما فيه سبحانه على جهةِ الإخبار عن نفسه بما فيه، لمعرفةِ ذلك والندْبِ إليه. ¬
فصل [مجيء الصفة اسما مشتقا]
وتقول في الذمّ: "رأيتُ زيدًا الجاهلَ الخبيثَ" ذممتَه بذلك، لا أنّك أردت أن تفصِله من شريكٍ له في اسمه ليس متّصِفاٍ بهذه الأوصاف، وقد تجيء الصفة للتأكيد، نحو قولهم: "أمْسِ الدابِرُ"، و"أمس" لا يكون إلّا دابرًا، و"الميتُ العابرُ"، والميتُ لا يكون إلّا عابرًا، ونحو قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬1)، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (¬2). ومعنَى التأكيد هنا أنّ مدلولَ الصفة استُفيد ممّا في الموصوف، فصار ذكرُه في الصفة كالتكرار، إذ ليس فيه زيادةُ معنّى بخِلاف قولك: "رجلٌ ظريفٌ"، ألا ترى أنّ الظَّرْف لم يُفهَم من قولك: "رجلٌ"، فافْهَمْ. فصل [مجيء الصفة اسمًا مشتقًّا] قال صاحب الكتاب: وهي في الأمر العام إما أن تكون اسم فاعل أو اسم مفعول أو صفة مشبهة, وقولهم تميمي وبصري على تأويل منسوب ومعزو, وذو مال وذات سوار متأول بمتمول ومتسورة أو بصاحب مال وصاحبة سوار, وتقول: "مررت برجل أي رجل وأيما رجل" على معنى كامل في الرجولية. وكذلك أنت الرجل كل الرجل، وهذا العالم وحق العالم يراد به البليغ الكامل في شأنه ومررت برجل رجل صدق وبرجل رجل سوءٍ. كأنك قلت: "صالح وفاسد"، والصدق ههنا بمعنى الصلاح والجودة، والسوء بمعنى الفساد والرداءة. وقد استضعف سيبويه (¬3) أن يقال مررت برجل أسد على تأويل جرئ. * * * قال الشارح: ولا تكون الصفة إلّا مأخوذةً من فعلٍ، أو راجعًا إلى معنى الفعل، وذلك كاسم الفاعل، نحو: "ضارب" و"آكل"، و"شارب"، و"مُكْرِم" و"مُحْسِن"، وكاسم المفعول، نحو: "مَضْروب"، و"مَأكول"، و"مَشْروب"، و"مُكْرَم"، و"مُحْسَن إليه"، أو صفة مشبِّهةٍ باسم الفاعل، نحو: "حَسَن"، و"شديد"، و"بَطَل"، و"أبيضَ"، و"أسودَ". وذلك ليدلّ باشتقاقه على الحال التي اشتُقّ منها ممّا لا يُوجَد في مُشاركه في الاسم، فيتميزَ بذلك. وقد وصفوا بأسماء غير مشتقّة ترجع إلى معنى المشتقّ، قالوا "رجلٌ تميميٌّ، وبصريٌّ"، ونحوهما من النسَب، فهذا ونحوه ليس بمشتقّ؛ لأنّه لم يُؤخَذ من فعلٍ، كما أُخذ "ضاربٌ" من "ضَرَبَ"، وإنَّما هو متأوَّلٌ بـ "منسوبٍ" و"مَعْزُوّ"، فهو في معنى اسم ¬
المفعول، إذ "منسوبٌ"، و"معزوٌّ" من أسماء المفعولين. تقول: "نسبتُه فهو منسوبٌ"، و""عزوتُه فهو معزوٌّ". وقالوا: "هذا رجلٌ ذو مالٍ"، و"امرأة ذاتُ مال"، فهذا أيضًا ليس مأخوذًا من فعلٍ، وإنْما هو واقع موقع اسم الفاعل، وفي معناه؛ لأن قولك: "ذو مال " بمعنَى: صاحب مال، أو مُتَمَوَّلٍ؛ لأنّه إذا كان ذا مال كان متموّلًا. "وذاتُ سِوارٍ" بمعنى صاحبة سوار، أو مُتَسَوَّرَة، فهو في تأويل اسم الفاعل، كما كان الذي قبله في تأويل اسم المفعول. وقالوا: "مررتُ برجلٍ أيّ رجلٍ، وأيِّما رجلٍ، وبرجلَيْن أيَّ رجلَيْن وأيِّما رجلَيْن، وبرجالٍ أيّ رجالٍ وأيِّما رجالٍ"، أرادوا بذلك المبالغةَ، فـ "أيٌّ" هنا ليس بمشتق من معنى يُعرَف، وإنّما يضاف إلى الاسم للمبالغة في مَدْحه، ممّا يُوجِبه ذلك الاسم، فكأنّك قلت: "كاملٌ في الرجُوليّة". وقالوا: "أنت الرجلُ كُلُّ الرجل"، و"هذا العالمُ جِدُّ العالم، وحَقُّ العالم" جاؤوا بهذه الألفاظ في صفاتِ المَدْح والذمِّ، والمراد بها المبالغةُ فيما تضمَّنه لفظُ الموصوف، فإذا قالوا: "الرجلُ كُلُّ الرجلِ"، فمعناه: الكاملُ في الرجال. قال الشاعر [من السريع]: 415 - هو الفَتَى كُلُّ الفَتَى فاعْلَمُوا ... لايُفْسِدُ اللَّحْمَ لَدَيْهِ الصُّلُولْ أي: هو الكاملُ في الفِتْيان، وإذا قالوا: "هو العالمُ جِدُّ العالم، وحَقُّ العالم"، فمعناه: البالغ الكاملُ في العلم. وكذلك لو قال: "اللَّئيمُ جِدُّ اللئيم، أو حقُّ اللئيم"، لكان معناه المبالغةَ في اللُّؤْم والجِدُّ. والحقُّ هنا واحدٌ. يقال: "جَادَّهُ في الأمر" أي: حاقَّهُ، ولا يحسن: "هذا عبدُ الله كلُّ الرجلِ"؛ لأنّه ليس في لفظِ "عبد الله" معنى يكون ¬
فصل [الوصف بالمصدر]
"كُلُّ الرجل" مبالغةً فيه. وهو، مع قُبْحه، جائزٌ؛ لأنه لو لم يذكُر عبد الله، وقال: "هذا كلُّ الرجل"، جاز ودل على معنى المبالغة والكَمالِ، ولأنّ "عبد الله" رجلٌ، فكأنّك قلت: "هذا الرجلُ المدعوُّ عبد الله كلُّ الرجل". ولا فرق بين المعرفة والنكرة في صفاتِ المدح، تقول: "مررت برجلٍ كُلّ رجل"، و"هذا عالمٌ حَقٌّ عالم"، كما لا فرق بين أن تقول: "مررت بالعالم الكامل في عِلْمه"، وبين "مررت برجلٍ كاملٍ في علمه". وتقول: "مررت برجلٍ رجلِ صِدْقٍ، وبرجلٍ رجلِ سَوْءٍ"، كأنّك قلت: "مررت برجلٍ صالح"، و"مررت برجلٍ فاسدٍ"؛ لأنّ الصدق صَلاحٌ، والسوْءَ فَسادٌ، وليس الصدقُ هاهنا صدقَ اللسان. ألا تراك تقول: "ثَوْبُ صِدْقٍ"، و"حمارُ صِدْقٍ"؟ إنَّما الصدقُ في معنى الجَوْدة والصَّلاحِ، فكأنّك قلت: "مررت برجلٍ ذي صلاح". وكذلك السَّؤءُ ليس من "ساءني يَسُوءني"، إنَّما السَّؤء ها هنا بمعنى الفساد، فكأنّه قال "برجلٍ صاحب فسادٍ، وبحمارٍ ذي رداءةٍ". وقولهم: "مررت برجلٍ أسَدٍ" ضعيفٌ عند سيبويه أن يكون نَعْتًا؛ لأنّ الأسد اسمُ جنس جَوْهَرٌ، ولا يُوصَف بالجواهر. لو قلت: "هذا خاتَمٌ حديدٌ، أو فِضّةٌ"، لم يحسن. إنّما طريقُ الوصف التَّحْلِيَةُ بالفعل، نحو: "آكِلٌ"، و"شاربٌ"، ونحوهما. ومُجازُه على حذفِ مضاف، تقديره: مِثْلِ أسد. و"مثلٌ" بمعنى "مُماثِل"، فهو مأخوذٌ من الفعل، وإنّه واقعٌ موقعَ "جَرِيءٍ"، أو"شديدٍ". وقد أجاز أن يكون حالًا، فتقول: "هذا زيدٌ أسَدَ شِدَّةٍ" من غير قُبْح. واحتجّ بأنّ الحال مجراها مجرى الخبر، وقد يكون خبرًا ما لا يكون صفةً. ألا تراك تقول: "هذا مالُك درهمًا"، و"هذا خاتَمُك حديدًا"؟ ولا يحسن أن يكون وصفًا. وفي الفرق بينهما نَظَرٌ، وذلك أنّه ليس المرادُ من الأسد شخصَه، وإنَّما المرادُ أنّه في الشدّة مثله. والصفةُ والحالُ في ذلك سواءٌ، وليس كذلك الحديدُ والدرهمُ، فإنّ المراد جَوْهَرُهما، فاعرفه. فصل [الوصف بالمصدر] قال صاحب الكتاب: ويوصف بالمصادر كقولهم رجل عدل وصوم وفطر وزور ورضي، وضرب هبر، وطعن نثر، ورمي سعر، ومررت برجل حسبك وشرعك وهدك وكفيك وهمك ونحوك، بمعنى محسبك وكافيك ومهمك ومثلك. * * * قال الشارح: قد يوصَف بالمصادر كما يوصف بالمشتقات، فيقال: "رجلٌ فَضْلٌ"؟، و"رجلٌ عَدْلٌ"، كما يقال: "رجلٌ فاضلٌ وعادلٌ". وذلك على ضربَيْن: مفردٌ، ومضافٌ.
فالمفردُ، نحو: "عَدْل"، و"صَوْم"، و"فِطْر"، و"زَوْر" بمعنى الزيرة، ولا يكون هنا جمعَ "زائر"، كصاحِب وصَحْبٍ، وشارب وشَرْبٍ؛ لأنّ الجمع لا يوصف به الواحدُ، وإذ كان مصدرًا، وُصف به الواحد والجمع. وقالوا: "رجلٌ رِضَى"، إذا كثُر الرضى عنه. وقالوا: "ضربٌ هَبْرٌ"، وهو القَطعُ، يقال: "هبرتُ اللحْمَ" أي: قطعتُه، والهَبْرَةُ: القِطْعَةُ منه. وقالوا: "طَعْنْ نَتْرٌ"، وهو كالخَلْس، يقال: "طَعَنَه فأنْتَرَه"، أي: أَزْعَفه بمعنى قَتَلَه سريعًا. وقالوا: "رَمْىٌ سَعْرٌ"، أي: مُمِضٌّ مُحْرِقٌ، من قولهم: "سعرتُ النارَ والحَرْبَ": أي: ألهبتها. فهذه المصادرُ كلُّها ممّا وُصف بها للمبالغة، كأنّهم جعلوا الموصوف ذلك المعنى لكثرةِ حُصوله منه. وقالوا: "رجلٌ عَدْلٌ، ورِضى، وفَضْلٌ"، كأنّه لكثرةِ عَدْله، والر ضى عنه، وفَضْلِه، جعلوه نفسَ العدل، والرضى، والفضلِ. ويجوز أن يكونوا وضعوا المصدَر موضع اسم الفاعل اتّساعًا، فعَدْلٌ بمعنى عادلٍ، وماءٌ غَوْرٌ بمعنى غائرٍ، ورجلٌ صَوْمٌ وفِطْرٌ بمعنى صائم ومُفطِرٍ، كما وضعوا اسم الفاعل موضعَ المصدر في قولهم: "قُمْ قائمًا"، أي: قيامًا، و"اقْعُدْ قاعدًا"، أي: قُعودًا. وأمّا المصادر التي يُنعَت بها، وهي مضافةٌ، فقولهم: "مررت برجلٍ حَسْبِك من رجلٍ، وبرجلٍ شَرْعِك من رجل، وبرجلٍ هَدّك من رجل، وبرجلٍ كَفْيِك من رجلٍ، وبرجلٍ هَمِّك من رجل، ونَحْوِك من رجل". فهذه كلُّها على معنى واحد، فـ "حَسْبُكَ" مصدرٌ في موضع "مُحْسِبٍ"، يقال: "أَحْسَبَني الشيء"، أي: كفاني. و"همّك"، و"شَرْعك"، و"هَدّك" في معنى ذلك. فقولهم: "همّك من رجلٍ" بمعنى: حَسْبك، وهو الهِمَّة واحدة الهِمَم، أي: هو ممن يُهِمُّك طَلَبُه. وكذلك "شَرْعُك" بمعنى "حسبك"، من "شرعتُ في الأمر" إذا خُضتَ فيه، أي: هو من الأمر الذي تشرَع فيه وتطلُبه، وفي المَثَل: "شَرْعُك ما بلَّغَك المَحَل" (¬1)، يضرب في التبلُّغ باليسير. وأمّا "هَدُّك"، فهو من معنى القُوَّة، يقال: "فلانٌ يُهَدّ" على ما لم يُسمَّ فاعله، إذا نُسب إلى الجَلادة والكِفاية، فالهَدُّ بالفتح للرجل القويّ، وإذا أريد الذَمُّ والوصفُ بالضُعْف، كُسر، وقيل: هِدُّك. وقال الأزهريّ (¬2): وأمّا نَحْوُك، فهو من "نَحَوْت" أي: قصدتُ، أي: هو ممّن يُقصَد ويُطلَب. فهذه وما قبلها من المصادر المفردةِ جاريةٌ على ما قبلها جَرْيَ الصفة. والأصلُ أنها مصادرُ لا تُثنَّى، ولا تُجمع، ولا تُؤنَّث، وإن جرت على مُثنّى، أو مجموع، ¬
أو مؤنَّث. تقول: "هذا رجلٌ عدلٌ"، و"رأيت رجلًا عدلًا"، و"مررت برجل عدل، وبامرأةٍ عدلٍ"، و"هذان رجلان عدلٌ"، و"رأيت رجلَيْن عدلًا"، و"مررت برجلين عدلٍ". وتقول: "هذا رجلٌ حسبُك من رجلٍ، وهَدُّك من رجل"، و"هذان رجلان حسبُك بهما من رجلَين"، و"هؤلاء رجالٌ حسبُك من رجال"، فيكون موحَّدًا على كلّ حال؛ لأنّ المصدر موحَّدٌ لا يُثنَّى، ولا يُجمع؛ لأنّه جنسٌ يدلّ بلفظه على القليل والكثير، فاستُغني عن تثنيته وجمعه، إلّا أن يكثُر الوصفُ بالمصدر، فيصير من حَيِّز الصفات، لغَلَبَةِ الوصف به، فيسوغ حينئذٍ تثنيتُه وجمعُه، نحو قوله [من الطويل]: شُهُودِي على لَيْلَى عُدُولٌ مَقانِعُ (¬1) فإن قيل: فهذه مصادرُ مضافةٌ إلى معارفَ، وإضافةُ المصدر صحيحةٌ تُعرِّف، فما بالُكم وصفتم بها النكرةَ، فقلتم: "مررت برجلٍ حسبِك من رجل، وشَرْعِك من رجل، وهَدِّك"، وكذلك سائرُها؟ قيل: هذه، وإن كانت مصادرَ، فهي في معنى أسماء الفاعلين بمعنى الحال، وإضافةُ أسماء الفاعلين إذا كانت للحال أو الاستقبال، لا تُفيد التعريفَ، نحو: "هذا رجلٌ ضاربُك الآنَ أو غدًا". قال الله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (¬2)، فوصف "عارضًا"، وهو نكرةٌ، بـ "ممطرنا" مع أنّه مضافٌ , فلو لم يكن نكرةً، لَمَا جاز ذلك منه، ومثله قول الشاعر [من البسيط]: 416 - يا رُبَّ غابِطِنَا لو كان يَطْلُبُكم ... [لاقى مُباعَدَةً منْكمْ وحِرمانا] ¬
ألا ترى كيف أدخل "رُبَّ"، وهي من خَواصّ النكرات، على قوله: "غابطنا"، وهو مضافٌ إلى معرفةٍ، وهو كثيرٌ. وكذلك هذه المصادرُ، لمّا كانت في معنى اسم الفاعل، لم تَتعرَّف بالإضافة. ونحوه قول امرئ القيس [من الطويل]: وقد أَغتَدِي والطَّيرُ في وُكُناتِها ... بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابِدِ هَيْكَلِ (¬1) ألا ترى كيف وصف "منجردًا" بـ "قَيْد الأوابد"، وهو مضافٌ إلى معرفة، إذ المرادُ: مُقَيِّدٍ الأوابدَ. والأوابدُ: الوَحْشيُّ. أي: يُدْرِكها لشدّةِ جَرْيه، فيمنَعُها من الانبعاث، فكأنّه قيدُّ لها. وربّما جاء من ذلك شيءٌ بلفظ الفعل الماضي، قالوا "مررت برجلٍ هَدَّك من رجلٍ". قال القَتالُ الكِلابيُّ [من الطويل]: 417 - ولي صاحبٌ في الغار هَدُّك صاحبًا ... أخو الجَوْنِ إلّا أنه لا يُعَلَّلُ ¬
فصل [الوصف بالجملة]
يُروى برفع "هدّك" ونصبِه، فمن رفع جعله مصدرًا نُعِت به , ومن فتح، جعله فعلًا ماضيًا فيه ضميرٌ. فعلى هذا تقول: "مررت برجلَيْن هَدَّاك من رجلَيْن، وبرجالٍ هَدُّوك من رجال، وبامرأةٍ هَدَّتْك من امرأة، وبامرأتَيْن هَدَّتَاك من امرأتَيْن، وبنِسْوةٍ هَدَدْنَك من نِساء". وكذلك تقول: "مررت برجلٍ كَفَاك من رجل، وبرجلَيْن كَفَيَاك من رجلَيْن، وبرجالٍ كَفَوْك من رجال، وبامرأةٍ كَفَتْك من امرأةٍ، وبامرأتَيْن كَفَتَاك من امرأتَيْن، وبنسوةٍ كَفَيْنَك من نسوةٍ". فما كان منها مصدرًا معربًا، يتبع الموصوفَ في إعرابه: إن كان الموصوفُ مرفوعًا، فالمصدرُ الذي هو نعتُه مرفوعٌ. وإن كان منصوبًا، فهو منصوبٌ. وإن كان مجرورًا، فهو مجرورٌ. وإن كان فعلًا، فهو بلفظِ الفعل الماضي، لا يدخله شيءٌ من الإعراب، فاعرفه. فصل [الوصف بالجملة] قال صاحب الكتاب: ويوصف بالجمل التي يدخلها الصدق والكذب, وما قوله [من الرجز]: 418 - [حتي إذا جنَّ الظلام واختلط] ... جاؤوا بمذقٍ هل رأيت الذئب قط ¬
فبمعنى: مقول عنده هذا القول لورقته؛ لأنه سمارٌ. ونظيره قول أبي الدرداء: رضي الله تعالى عنه: "وجدت الناس اخبر تقله" (¬1)، أي: وجدتهم مقولاً فيهم هذا المقال, ولا يوصف بالجمل إلا النكرات. * * * قال الشارح: وقد تقع الجُمَلُ صفاتٍ للنكراتِ، وتلك الجملُ هي الخَبَريّةُ المحتمِلةُ للصدْق والكذْبِ، وهي التي تكون أخبارًا للمبتدأ، وصلاتٍ للموصولات. وهي أربعةُ أضرب: الأوَّل أن تكون جملةً مركّبةً من فعلٍ وفاعلٍ. والثاني أن تكون مركّبةٌ من مبتدأ وخبر. والثالث أن تكون شرطًا، وجَزاءٍ. والرابعُ أن تكون ظرفًا. فالأولُ قولُك: "هذا رجلٌ قام، وقام أبوه"، فـ"هذا" مبتدأٌ، و"رجلٌ" الخبرُ، و"قَامَ" في موضع رفع بأنّه صفةٌ. قال الله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} (¬2). فقوله: "أنزلناه" في موضعِ رفع على الصفة لـ"كتاب". يدلّ على ذلك رفعُ "مبارك" بعده، وفيه ذكرُ مرتفع بأنّه الفاعلُ. وهذا الذكرُ يعود إلى الموصوف الذي هو"رجلٌ"، ولولا هذا الذكرُ، لَمَا جاز أن تكون هذه الجملة صفة، لأنّ الصفة كالخبر، فكما لا بدّ من عائدٍ إلى المبتدأ إذا وقعت خبرًا، كذلك لا بدّ منه في الجملة إذا وقعتْ صفة. والثاني كقولك: "هذا رجلٌ أبوه منطلقٌ"، فـ "أبوه" مبتدأٌ، و"منطلقٌ" خبرُه، والجملةُ من المبتدأ والخبر في موضع رفع بأنّها صفةُ رجلٍ. والهاءُ في "أبوه" عائدةٌ إلى الموصوف. والثالث أن تكون الجملة الصفةُ جملةً من شرط وجزاء. وذلك نحو: "مررت برجلٍ إنْ تُكْرِمْهُ يُكْرِمْكَ"، فقولك: "إن تكرمه يكرمك" في موضع الصفة لِـ"رجلٍ"، وقد عاد الذكرُ منهما إلى الموصوف، ولو عاد من أحدهما، لكان كافيًا، نحو: "مررت برجلٍ إنْ تَضْربْهُ تُكْرِمْ خالدًا". فالذكرُ ها هنا إنّما عاد من الشرط وحدَه، ولو قلت: "مررت برجلٍ ¬
إن تضربْ زيدًا يضربك"، لجاز أيضًا؛ لأنّه قد عاد الذكرُ إلى الموصوف من الجزاء، وإن عاد منهما، فأجْودُ شيءٍ. والرابع الظرفُ ونحوه من الجارّ والمجرور، فهذا في حكم الجملة من حيثُ كان الأصلُ في الجارّ والمجرور أن يتعلّق بفعلٍ؛ لأنّ حرف الجرّ إنّما دخل لإيصال معنى الفعل إلى الاسم، ويدلّ على أنّه في حكمِ الجملة أنّه يقع صلة، نحو: "جاءني الذي في الدار، ومن الكِرام"، والصلةُ لا تكون إلّا جملةً. وممّا يدلّ على ذلك أن الظرف إذا وقع صلةً، أو صفةً لنكرةٍ، جاز دخولُ الفاء في الخبر، نحو: "الذي في الدار فلَهُ درهمٌ"، و"كلُّ رجل في الدار فمُكْرَمٌ"، كما تقول: "الذي يأتيني فله درهمٌ"، و"كلُّ رجل يأتيني فله درهمٌ". ولو قلت: "كلُّ رجلٍ قائمٍ فله درهمٌ" لم يجز. واعلم أن الظرف إذا وقع صفةً، كان حكمُه كحُكْمه، إذا وقع خبرًا إن كان الموصوفُ شخصًا لم تصفه إلّا بالمكان، نحو: "هذا رجلٌ عندك"، ولا تصفه بالزمان. لا تقول: "هذا رجلٌ اليومَ، ولا غدًا"؛ لأنّ الغرض من الوصف تَحْلِيَةُ الموصوف بحالٍ تختصّ به دون مُشارِكه في اسمه ليُفْصَل منه، والزمانُ لا يختصّ بشخص دون شخص، فلا يحصُل به فصلٌ. وشَرَطْنا في الجملة التي تقع صفةً أن تكون محتمِلةً للصدق والكذب تحرُّزًا من الأمر، والنهْي، والاستفهام، نحو: "قُمْ"، و"اقْعُدْ"، و"لَا تَقُمْ"، و"لَا تَقْعُدْ"، و"هل يقوم زيدٌ؟ " فإنّ هذه الجُمَل لاَ تقع صفاتٍ للنكرات كما لا تقع أخبارًا, ولا صلاتٍ؛ لأنّ الغرض من الصفة الإيضاح والبيانُ بذكرِ حالٍ ثابتةٍ للموصوف يعرفُها المخاطبُ له، ليست لمشارِكه في اسمه. والأمرُ، والنهي، والاستفهام ليست بأحوالٍ ثابتةٍ للمذكور يختصّ بها، إنّما هو طَلَبٌ واستعلامٌ، لا اختصاصَ له بشخص دون شخص. فأمّا قول الشاعر، أنسْده الأصمعيُّ [من الرجز]: حَتَّى إذا جنَّ الظَّلامُ واخْتَلَطْ ... جاؤوا بمَذْقٍ هَلْ رأيتَ الذِّئبَ قَطْ ويُروى: "بضَيْحٍ"، و"الضيحُ" بالفتح: اللَّبَنُ الرقيقُ الممزوجُ، يقال: "ضَيَّحْتُ اللبنَ"، أي: مزجتُه والمَذْقُ والمَذِيقُ مثله. وإنَّما وُصف به، وهو استفهامٌ على الحكاية، وإضمار القَوْل، كأنّه قال: "جاؤوا بمذقٍ مَقُولٍ فيه ذلك". شَبَّهَ لَوْنَه بلونِ الذئب لوُرْقَته، والورقةُ لونٌ كلونِ الرَّماد، ولذلك قال: "لأنّه سَمارٌ"، والسمارُ: اللبنُ الرقيقُ. ومثله قول أبي الدَّرداءِ: "وجدتُ الناسَ اخبُرْ تَقْلَهْ". وذلك أنّ "وجدتُ" كـ"عَلِمْتُ" يدخل على المبتدأ والخبر، فينصبهما، والمفعولُ الثاني خبرٌ لا يقع فيه من الجُمَل إلّا الخبريّةُ. وقوله: "اُخبُرْ تَقْلِهْ" أَمْرٌ لا يقع خبرًا للمبتدأ، وكذلك لا يقع مفعولًا ثانيًا لـ"وَجَدْتُ". وإنّما ذلك على معنى "وجدتُ الناسَ مَقُولًا فيهم ذلك".
فصل [الوصف السببي]
وُيروى: تَقْلَهْ، وتَقْلِهْ، بفتح اللام، وكسرِها؛ لأنّه يقال: "قَلَى، يَقْلَى وَيقْلِي". فمن قال: "يَقْلِي" بالكسر، قال: "تَقْلِهْ" مكسورًا، والأصلُ: تَقْلِيهِ، فلمّا جُزم بالأمر، حُذفت الياء للجزم، ثغ دخلت هاء السَّكْت، فقلت: "تَقْلِهْ" بكسر اللام، وسكون الهاء. ومن فتح، وقال: "يَقْلَى"، وهو قليلٌ، جزم بحذف اللام، وبقي ما قبلها مفتوحًا، ثمّ دخلت هاء السكت. واعلم أنّ كلَّ جملة وقعتْ صفةً، فهي واقعةٌ موقعَ المفرد، ولها موضعُ ذلك المفرِد من الإعراب، فإذا قلت: "مررت برجلٍ يضربُ"، فقولُك: "يضربُ" في موضع "ضارب"، فأبدًا تُقدِّر ما أصبتَ مكانَه فعلاً باسم فاعلٍ إن كان المنعوتُ كذلك، وباسمِ مفعول، إن كان المنعوتُ كذلك. وكذلك الجارُّ والمجرور، وتقديره بما يُلائم معناه، تقول في قولك: "هذا رجلٌ من بني تميمٍ"، تقديره: تميميُّ، و"تميميُّ" بمعنى منسوبٍ، وفي قولك: "هذا رجلٌ من الكِرام"، تقديره: كريمٌ، فاعرف ذلك. فإن قيل: فلِمَ زعمتم أنّ المفرد أصلٌ، والجملة واقعةٌ موقعَه، فالجوابُ أنّ البسيط أوّلٌ، والمركّبَ ثانٍ، فإذا استقَلّ المعنى بالاسم المفرد، ثمّ وقع موقعَه الجملةُ، فالاسمُ المفردُ هو الأصلُ، والجملةُ فرعٌ عليه. ونظيرُ ذلك في الشَّرِيعة شَهادةُ المرأتَيْن فرعٌ على شهادةِ الرجل. واعلم أنَّه لا يُنعَت بالجملة معرفة، لو قلت: "هذا زيدٌ أبوه قائمٌ" على أن تجعله صفةً، لم يجز، فإن جعلتَه حالًا، جاز. وإنّما لم توصَف المعرفة بالجملة؛ لأنّ الجملة نكرةٌ، فلا تقع صفةً للمعرفة؛ لأنّها حديثٌ. ألا ترى أنّها تقع خبرًا، نحو: "زيدٌ أبوه قائمٌ"، و"محمّدٌ قام أخوه". وإنَّما تُحدَّث بما لا يُعرَف، فتُفيد السامعَ ما لم يكن عنده. فإن أردتَ وصفَ المعرفة بجلمةٍ، أتيتَ بـ "الذي"، وجعلت الجملة في صلته، فقلتَ: "مررت بزيدٍ الذي أبوه منطلقٌ"، فتوصّلت بـ "الّذي" إلى وصف المعرفة بالجملة، كما توصّلتَ بـ "أيُّ" إلى نداء ما فيه الألفُ واللام، نحو: "يا أَيُّها الرجلُ". فصل [الوصف السببيِّ] قال صاحب الكتاب: وقد نزلوا نعت الشيء بحال ما هو سببه منزلة نعته بحاله هو، نحو قولك: "مررت برجلٍ كثيرٍ عدوه, وقليل من لا سبب بينه وبينه". * * * قال الشارح: اعلم أنهم يصفون الاسمَ بفعلٍ ما هو من سَبَبه كما يصفونه بفِعْله، والغرضُ بالسبب ها هنا الاتّصالُ، أي: بفعلٍ ما له به اتّصالٌ. وذلك نحو قولك: "هذا رجلٌ ضاربٌ أخُوه زيدًا، وشاكرٌ أبوه عمرًا". لمّا وصفتَه بـ "ضارب"، ورفعتَ به "الأخَ"، وأضفتَه إلى ضميرِ الموصوف، صار من سببه، وحصل بذلك مَن الإيضاح والبيان ما يحصُل بفعله. ألا ترى أنّك إذا قلت: "مررت برجلٍ قائمٍ أبوه، أو غلامُه"، فقد تَخصَّص
فصل [مطابقة الصفة للموصوف]
وتَميَّز من رجلٍ ليس بهذه الصفة، كما إذا قلت: "مررت برجلٍ قائم؟ " ولو قلت: "مررت برجلٍ قائمٍ عمرٌو أو ضاربٍ زيدٌ"، لم يحصل بذلك تخصيصٌ، ولا تَميَّز به من غيره، إذ ذلك ليس شيئًا يَخُصّه. فإذا قلت: "مررت برجلٍ كثير عدوُّه"، فقد اتّصل المضمرُ بالفاعل، وإذا قلت: "قليل مَنْ لا سَبَبَ بينه وبينه"، فقد اتّصل الضميرُ بالفاعل. وإذا قلت: "مررت برجلٍ ضاربٍ أخاه"، فقد اتّصل الضمير بالمفعول، فكان من سببه، لذلك فاعرفه. فصل [مطابقة الصفة للموصوف] قال صاحب الكتاب: وكما كانت الصفة وفق الموصوف في إعرابه فهي وفقه في الأفراد والتثنية والجمع والتعريف والتنكير والتذكير والتأنيث، إلا إذا كانت فعل ما هو من سببه فإنها توافقه في الإعراب والتعريف والتنكير دون سواهما، أو كانت صفة يستوي فيها المذكر والمؤنث نحو فعول وفعيل بمعنى مفعول أو مؤنثة تجري على المذكر نحو علامة وهلباجةٍ وربعة ويفعةٍ. * * * قال الشارح: قد تقدّم قولُنا: إنّ الصفة تابعةٌ للموصوف في أحواله. وجملتُها عشرةُ أشياءَ: رفعُه، ونصبه، وخفضه، وإفراده، وتثنيته، وجمعه، وتنكيره، وتعريفه، وتذكيره، وتأنيثه. إن كان الاسمُ الأوَّلُ الموصوف مرفوعًا، فنعتُه مرفوعٌ. وإن كان منصوبًا، فنعتُه منصوبٌ. وإن كان مخفوضًا، فنعتُه مخفوضٌ. وكذلك سائرُ الأحوال. تقول: "هذا رجلٌ عاقلٌ"، و"رأيت رجلًا عاقلًا"، و"مررت برجلٍ عاقلٍ". فقد ترى كيف تبعتِ الصفةُ الموصوف في إعرابه، وإفراده، وتذكيره، وتنكيره. ولو قلت: "هذا رجلٌ الظريف"، أو "هذا زيدٌ ظريفٌ" على أن تجعل "ظريفًا" نعتًا لِمَا قبله؛ لم يجز، لمخالَفته إيّاه في التعريف، فإن جعلتَه بَدَلًا، جاز. وإنَّما وجب للنعت أن يكون تابعًا للمنعوت فيما ذكرناه من قِبَل أنّ النعت والمنعوت كالشيء الواحد، فصار ما يلحَق الاسم يلحق النعتَ. وإنَّما قلنا: إِنّهما كالشيء الواحد من قِبَل أنّ النعت يُخْرِج المنعوتَ من نوع إلى نوع أخصَّ منه، فالنعتُ والمنعوت بمنزلةِ نوع أخصَّ من نوع المنعوت وحده، فالنعتُ والمنعوت بمنزلة إنسان، والمنعوتُ وحدَه بمنزلةٍ حَيَوان، فكما أنّ إنسانًا أخصَّ من حيوان، كذلك النعتُ والمنعوت أخصُّ من المنعوت وحده، ألا ترى أنّك إذا قلت: "مررت برجلٍ"، فهو من الرجال الذين كلُّ واحد منهم رجلٌ، وإذا قلت: "مررت برجل ظريف"، فهو من الرجال الظُّرفاء الذين كلُّ واحد منهم رجلٌ ظريفٌ، فالرجالُ الظرفاء جملةٌ لرجل ظريف، كما أن الرجال جملةٌ
لرجل، فرجلٌ ظريفٌ جُزءٌ للرجال الظرفاء، وهو أخصُّ من رجل، ألا ترى أنّ كلَّ رجل ظريف رجلٌ، وليس كلُّ رجل رجلًا ظريفًا. وقد تقدّم الكلام على شدّةِ اتّصالِ الصفة بالموصوف في مواضع من هذا الكتاب. وقوله: "إلّا إذا كان فِعْلَ ما هو من سَبَبه" يعني أنّ الصفة إذا رفعتِ الظاهر، وكان الظاهرُ، من سببِ الموصوف؛ فإنّ الصفة تكون موحَّدة على كلِّ حال، وإن كان موصوفُها مثنَّى أوَ مجموعًا، نحو قولك: "هذا رجلٌ قائمٌ أخوه"، و"رجلان قائمٌ أخوهما، ورجالٌ قائمٌ أخوهم"؛ لأنّها هنا جاريةٌ مجرى الفعل إذا تقدّم، نحو قولك: "قام زيدٌ"، و"قام الزيدان". و"قام الزيدون". لمّا رفع الظاهرَ، خلا من الضمير. والتثنيةُ إنّما هي للضمير، لا للفعل نفسِه، فكذلك اسمُ الفاعل واسمُ المفعول إنما يُثنَّى كلُّ واحد منهما، ويُجمع، إذا كان فيهما ضميرٌ؛ وأمّا إذا خَلَوا من الضمير، فيكونان موحّدَيْن، وكذلك لا يُؤنَّثان إلّا أن يكون المرفوعُ بهما مؤنّثًا، نحو: "مررت بامرأةٍ ضاربةِ جاريتُها"، فإن كان الفاعل مذكرًا، ذكَّرتَ الفعل، نحو قولك: "هذه امرأةٌ ضاربٌ غلامُها", لأنّ الفعل للغلام، لا لامرأة، والفعلُ إنّما يتأنّثُ بتأنيث فاعله. فأمّا الصفة التي يَستوي فيها المذكَّرُ والمؤنَّثُ، وذلك على ضربَيْن: منه ما يستوي فيه المذكّر والمؤنّث في سقوط علامةِ التأنيث، ومنه ما يستوي فيه المذكّر والمؤنّث في لزوم تاء التأنيث. فالأوّل، نحو: "فَعُولٍ" بمعنى "فاعلٍ"، نحو رجلٌ صَبُورٌ، وشَكُورٌ، وضروب، وامرأةٌ صَبور، وشكورٌ، وضروبٌ بمعنى صابرٍ، وصابرةٍ، وشاكرٍ، وشاكرةٍ، وضاربٍ، وضاربةٍ. كأنّهم أرادوا بسقوطِ التاء من المؤنّث هاهنا الفرقَ بين "فعولٍ" بمعنى "فاعل"، وبينه إذا كان بمعنى "مَفْعولٍ"، نحو: حَلُوبَةٍ، وحَمُولَةٍ. قال الشاعر [من الكامل]: 419 - فيها اثنتان وأَرْبَعُونَ حَلُوبَةً ... سُودًا كخافِيَةِ الغُرابِ الأَسْحَمِ ¬
فصل [ما يوصف ويوصف به]
أثبتَ التاء لأنّها بمعنى محلوبة، ومثل ذلك "فَعِيلٌ" إذا كان بمعنى مفعولٍ، نحو: "كَفٌّ خَضِيب"، و"لِحْيَة دَهِين"، المراد: مخضوبةٌ ومدهونةٌ، حُذفت منه التاء للفرق بينه وبين ما كان بمعنى "فاعِلٍ"، نحو: "عَلِيم"، و"سَمِيع". وذلك إنّما يكون فيهما عند ذكر الموصوف، وفَهْم المعنى بذكره، أو ما يقوم مقامَ ذكرهِ، فأمّا مع حذف الموصوف، فلا. لو قلت: "رأيت خضيبًا"، وأنت تريد "كَفًّا"، لم يجز للالتباس. وأمّا الثاني، فقولهم: "عَلاَّمة"، و"نَسّابَةٌ"، لمن يكثُر علمُه، ومعرفتُه بالنَّسَب، وقالوا: "هِلباجَةٌ" للأحْمق، وقالوا "رَبْعَةٌ" للمتوسِّط في الطُّول، ليس طويلًا ولا قصيرًا، وقالوا: "غلامٌ يَفَعَةٌ" بمعنى اليافِع، وهو المرتفِعُ، يقال: "غلامٌ، وغِلْمانٌ يفعةٌ"، فهذا ونحوه لا يتبَع الموصوفَ في تذكيره، بل يثبُت فيه التاء، وإن كان الموصوفُ مذكَّرًا؛ لأنّ التاء فيه للمبالغة في ذلك الوصف. ولا تدخل هذه التاء في صفات الله تعالى، وإن كان معناها المبالغةَ لوجودِ لفظ التأنيث، ولا يحسُن إطلاقه على البارئ؛ لأنّها مبالغةٌ بعلامة نَقْص. فصل [ما يُوصف ويوصَف به] قال صاحب الكتاب: والمضمر لا يقع موصوفاً ولا صفة، والعلم مثله في أنه لا يوصف به، ويوصف بثلاثة بالمعرف باللام وبالمضاف إلى المعرفة وبالمبهم, كقولك مررت بزيد الكريم وبزيد صاحب عمرو وصديقك وراكب الأدهم وبزيد هذا. والمضاف إلى المعرفة مثل العلم يوصف بما يوصف به. والمعرَّف باللام يوصف بمثله وبالمضاف إلى مثله كقولك مررت بالرجل الكريم صاحب القوم, والمبهم يوصف بالمعرَّف باللام إسمًا أو صفة. واتصافه باسم الجنس ما هو مستبد به عن سائر الأسماء وذلك مثل قولك أبصر ذاك الرجل وأولئك القوم ويا أيها الرجل ويا هذا الرجل. * * * قال الشارح: اعلم أنّ المعارف خمسٌ: المضمراتُ، نحو: أنا، وأنتَ، وهُوَ، ونحو ذلك ممّا سيأتي وصفُه. والأعلام، نحو: زيد، وعمرو، وقد تقدُّم بيانُها. والمبهماتُ، وهي أسماء الإشارة، نحو: هذا، وذلك، وذاك، وهؤلاء، ونحوها ممّا سيأتي بيانُها. وما عُرّف بالألف واللام، نحو: الرجل، والغلام، وما أضيف إلى واحد منها، نحو: غلامك، وغلامُ زيد، وصاحبُ هذا، وبابُ الدار، ونحو ذلك. واعلم أنّ المعارف مرتَّبةٌ في التعريف والترتيب المذكور. فأعرفُها وأخصُّها ¬
المضمراتُ، وذلك لأنّك لا تُضْمِر الاسم إلَّا بعد تقدُّم ذكره، ومعرفة المخاطب على من يعود، ومَن يُعْنَى، أو تفسيرٍ يقوم مقامَ الذكر، ولذلك استغنى عن الوصف، ثم العَلَمُ، ثمّ المبهمُ، وما أضيف إلى معرفةٍ من المعارف، فحكمُه حكمُ ذلك المضاف إليه في التعريف؛ لأنّه يسرِي إليه ما فيه من التعريف. ثمّ ما فيه الألفُ واللام. هذا مذهبُ سيبويه (¬1). وذهب قومٌ إلى أنّ المبهم أعرفُ المعارف؛ لأنّه يتعرّف بالقَلْب والعين، وغيرُه يتعرّف بالقلب لا غيرُ، فكان ما يتعرّف بشيئَيْن أعرفَ ممّا يتعرّف بشيء واحد، ثمّ العَلَمُ، ثمّ المضمرُ، ثمّ ما فيه الألفُ واللام، وهو قولُ أبي بكر بن السَّرّاج. وذهب آخرون إلى أنّ أعرف المعارف العلم, لأنّه في أوّلِ وضعه لا يكون له مشاركٍ، إذ كان علامة تُوضَع على المسمّى يُعرَف بها دون غيره، ويُميَّز من سائرِ الأشخاص، ثمّ المضمرُ، ثمّ المبهمُ، ثمّ ما عُرّف بالألف واللام، وهو قول أبي سَعِيد السِّيرافيّ. فأمّا ما عُرّف بالإضافة، فتعريفُه على حسب ما يضاف إليه من المضمر، والعلم، والمبهمِ، وما فيه الألف واللام على اختلافِ الأقوال. فأمّا المضمرات فلا توصفَ، وذلك لوُضوحِ معناها، ومعرفة المخاطب بالمقصود بها، إذ كنت لا تُضْمِر الاسمَ إلَّا وقد عرف المخاطبُ إلى مَن يعود، ومَن تَعْنِي، فاستغنى لذلك عن الوصف، ولا يوصَف بها, لأن الصفة تَحْلِيَةٌ بحالِ من أحوالِ الموصوف، والمضمراتُ لا اشتقاقَ لها، فلا تكون تحليةً. وأمّا العَلَم الخالصُ، فلا يوصَف به؛ لعدم الاشتقاق فيه. وذلك أنّه لم يُسمَّ به لمعنّى استحقّ به ذلك الاسم دون غيره، ويوصَف لِما ذكرناه من إزالة الاشتراك في اللفظ. ووصفُه بثلاثةِ أشياء: بما فيه الألفُ واللام، نحو: "جاءني زيدٌ العاقلُ، والفاضلُ، والعالمُ"، ونحوها ممّا فيه الألفُ واللام، وبما أضيف إلى معرفه من المعارف الأربع، نحو: "غلامك"، و"غلامُ هذا"، و"غلامُ زيد"، و"غلامُ الرجل". تقول: "جاءني زيدٌ غلامُك" فـ "زيدٌ" مرفوعٌ بأنّه فاعلٌ، و"غلامُك" نعتٌ له. وتقول: "جاءني محمّدٌ عبدُ خالدٍ، وغلامُ هذا، وصاحبُ الأمير" وما أشبهَ ذلك. وربّما وقع في عبارة بعض النحويّين في وصف العلم أنّه يوصَف بكذا، وبالمضاف إلى مثله، وهي من عبارات سيبويه (¬2). والمراد: إلى مثله في التعريف، لا في العَلَميّة. ويوصَف بالمبهم، نحو: مررت بزيدٍ هذا, لأن اسم الإشارة، وإن لم يكن مشتقًّا، فهو في تأويل المشتقّ، والتقديرُ: يزيد المشار إليه، أو القريب. هذا مذهبُ سيبويه، فإنَّه كان يرى أنَّ العلم أخصُّ من المبهم. وشرطُ الصفة أن تكون أعمَّ من الموصوف، ومن قال: إنّ اسم الإشارة أعرفُ من ¬
العلم، لم يجز عنده أن يكون نعتًا له، إنّما يكون بَدَلًا، أو عطفَ بيانٍ. وأمّا أسماء الإشارة، فتوصَف ويوصف بها، فتوصف لِما فيها من الإبهام. ألا ترى أنّك إذا قلت: "هَذَا"، وأشرتَ إلى حاضرٍ، وكان هناك أنواعٌ من الأشخاص التي يجوز أن تقع الإشارةُ إلى كل واحد منها، فيُبهِم على المخاطب إلى أيّ الأنواع وقعتِ الإشارةُ، فتفتقِر حينئذٍ إلى الصفة للبيان. ويوصف بها؛ لأنّها في مذهب ما يوصف به من المشتقّات، نحو: الحاضر، والشاهد، والقريب، والبعيدِ، فإذا قلت: "ذَاكَ"، فتقديره: البعيدُ، أو المُتَنَحِّي، ونحو ذلك، ولا توصَف إلَّا باسمِ جنس؛ لأن الغرض من وَصْفها بيانُ نوع المشار إليه لا فصلُ المشار إليه من مشارِكٍ له بحالٍ من أحواله؛ لأنّ اسم الإشارة ثابتٌ لما وقع عليه، ثمّ شَارَكَه في ذلك الاسم غيرُه، فاحتاج إلى فصلٍ بينهما بالصفة. وإنّما أُتي به وُصْلَةً إلى نَقْلِ الاسم من تعريفِ العَهْد إلى تعريف الحضور والإشارةِ. مثالُ ذلك أن يكون بحَضْرتك شخصان، فتُريد الإخبارَ عن أحدهما, ولا بدّ من تعريفه، وليس بينك وبين المخاطب فيه عَهْدٌ، فيدخل فيه الألف واللام، فَأُتِيَ باسم الإشارة وُصلةٌ إلى تعريفه ونَقْلِه من تعريف العهد إلى تعريف الحضور، فتقول: "هذا الرجلُ فَعَلَ، أو يفعلُ". ونظيرُه دخولُ "أيّ" في النداء وصلةً إلى نداء ما فيه الألفُ واللام، ويجوز أن تتوصّل بـ "هذا" إلى نداء ما فيه الألفُ واللام، فتقول: "يا هذا الرجلُ"، كما تقول: "يا أيها الرجلُ". وقد يجوز أن لا تجعله وصلةً، فتقول: "يا هَذَا". فإذا جعلتَه وصلةً، لزمته الصفةُ. وإذا لم تجعله وصلةً، لم تلزمْه؛ فلذلك تقول: "هذا الرجلُ، والغلامُ"، ولا تقول: "الظريفُ"، ولا "العالمُ" إلَّا على إرادةِ حذفِ الموصوف، وإقامة الصفة مُقامَه، فيكون المرادُ الاسم لا الصفةَ. ولا يجوز أن يُنعت المبهم بمضافٍ، لأنّك إذا قلت: "هذا الرجلُ"؛ فالرجلُ وما قبله اسمٌ واحدٌ للزومِ الصفة له؛ لأنّك إذا أَوْمَأْتَ إلى شيء، لزِمك البيانُ عن نوعِ الذي تقصِده، فالبيانُ كاللازم له. فلمّا كانت "هي" لا تضاف لأنَّها معرفةٌ بالإشارة، والمضافُ يُقدَّر بالنكرة، والمبهمُ ممّا لا يصحّ تنكيرُه, لأنّّ تعريفَ الإشارة لا يُفارِقه، فكما لا يصحّ إضافةُ الأوّل كذلك لا يصحّ إضافة الثاني؛ لأنّهما اسمٌ واحدٌ، ولذلك من المعنى لا يصحّ أن تفرُق الصفةَ، وتجمع الموصوفَ، فتقولَ: "مررت بهذَيْن الرجلِ والفرسِ"؛ لفَصْلك بين الصفة والموصوف بحرفِ عطف، بخلافِ غيره من الصفات، فإنّك تقول: "مررت برجلَيْن كريم، وفاضلٍ". ولا بدّ فيه من أن يكون على عدّةِ المجموع. فأمّا ما عُرّف بالألف واللام، فيوصَف بشيئين: بمثله ممّا فيه الألفُ واللام، وبالمضاف إلى ما فيه الألفُ واللام، نحو قولك: "مررت بالرجل العاقِل"، و"هذا الرجلُ
فصل [حكم الموصوف بالنسبة إلي الصفة في الخصوصية]
الفاضلُ". وتقول في الصفة بالمضاف: "هذا الرجلُ صاحبُ المال"، و"رأيت الأميرَ ذا العَدْلِ"، و"مررت بالغلام ذي الفضل". ولا يوصَف ما فيه الألفُ واللام بغير ذَيْنك؛ لأنّه أقربُ إلى الإبهام من سائرِ المعارف. ألا تراك تصفُه بما تصف به النكراتِ، فتقول: "مررت بالرجل مثلِك"، و"إني لأمرُّ بالغلام غيرِك، فيُكْرِمُني؟ " فأمّا المضاف إلى المعرفة، فإنّه يوصف بالمضاف إلى مثله في التعريف، وبالمضاف إلى ما هو أبهمُ منه على حسب الفائدة المذكورةِ، وبما فيه الألفُ واللام، وبالأسماء المبهمةِ، نحو: "مررت بصاحبكَ أخي زيدٍ، وصاحبِ هذا، والكريمِ". ولا تقول: "مررت بغلامِ زيدٌ أخيك"؛ لأنه أخصُّ من الموصوف، فاعرفه. فصل [حكم الموصوف بالنسبة إلي الصفة في الخصوصية] قال صاحب الكتاب: ومن حق الموصوف أن يكون أخص من الصفة أو مساوياً لها ولذلك امتنع وصف المعرف باللام بالمبهم وبالمضاف إلى ما ليس معرفاً باللام لكونا أخص منه. * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا: إنّ الصفة ينبغي أن تكون وَفْقَ الموصوف، فإن كان الموصوف نكرةً، فصفتُه نكرةٌ. وإن كان معرفةً، فصفتُه معرفةٌ. ولا تكون الصفة أخصَّ من الموصوف، إنّما يوصَف الاسمُ بما هو دونه في التعريف، أو بما يُساوِيه. وذلك لوجهَيْن: أحدهما أنّ الصفة تَتِمَّةٌ للموصوف، وزيادة في بيانه. والزيادةُ تكون دون المَزيد عليه، وأمّا أن تَفُوقه، فلا، فإذًا وجه الكلام أن تبدأ بالأعرف، فإن كَفَى، وإلا أتبعتَه ما يزيده بيانًا. وأمّا الوجه الثاني، فإنّ الصفة خبرٌ في الحقيقة، ألا ترى أنّه يحسُن أن يقال لمن قال: "جاءني زيدٌ الفاضلُ": كذبتَ فيما وصفتَه به، أو صدقتَ، كما يحسن ذلك في الخبر، وإذا كانت خبرًا، فكما أنّ الخبر لا يكون إلَّا أعمَّ من المُخبَر عنه، أو مساوِيًا له، فالأوّلُ نحو: "زيدٌ قائمٌ"، والثاني نحو: "الإنسانُ بَشَرٌ"، إلا أن الفرق بينهما أنّك في الصفة تذكُر حالًا من أحوالِ الموصوف لمن يعرِفها تعريفًا له عند توهُّمِ الجَهالة بالموصوف، وعدم الاكتفاء بمعرفته، وفي الخبر إنّما تُذكَر لمن يجهَلها، فتكون هي محلَّ الفائدة، فلذلك تقول: "مررت بزيدٍ الطويلٍ"، والطويلُ نعتٌ لزيد، وهو أعمُّ منه وحدَه، إذ الأشياء الطِّوالُ كثيرةٌ، وزيدٌ أخصُّ من الطويل وحدَه. فإن قيل: فكيف تكون الصفةُ بيانًا للموصوف، وهي أعمُّ منه؟ قيل: البيانُ منه إنّما حصل من مجموع الصفة والموصوفِ؛ لأنّ مجموعهما أخصُّ من كلّ واحد منهما منفردًا، فـ "زيدٌ الطويلُ" أخصُّ من "زيد" وحدَه، ومن "الطويل" وحده، ولذلك كانت
فصل [حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامة]
الصفةُ والموصوف كالشيء الواحد. فعلى هذا تقول: "مررت بزيدٍ هذا"، فيكون "هذا" نعتًا لزيد. هذا على مذهبِ من يرى أن "هذا" أنقصُ من العَلَم، ومَن جعل "هذا" أخصَّ من العلم جعله بَدَلًا، لا نعتًا، وتقول: "جاءني هذا الرجلُ"، فتصفُ "هذا" بما فيه الألفُ واللام؛ لأنّ ما فيه الألفُ واللام أنقصُ تعريفًا من أسماء الإشارة. ولو قلت: "مررت بالرجل هذا"، فتصف ما فيه الألفُ واللام باسم الإشارة، لم يجز؛ لأنّ الاسم لا يوصَف بما هو أَتَمُّ تعريفًا منه، فإن جعلتَه بدلاً أو عطفَ بيانٍ، جاز، فاعرفه. فصل [حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامة] قال صاحب الكتاب: وحق الصفة ان تصحب الوصوف إلا إذ ظهر أمره ظهورًا يُستغنى معه عن ذكره, فحينئذ يجوز تركه, وإقامة الصفة مقامه كقوله [من الكامل]: 420 - وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تُبع وقوله [من البسيط]: 421 - رباء شماء لا يأوي لقلتها ... إلا السحاب وإلا الأوب والسبل ¬
وقوله تعالى: {وعندهم قاصرات الطرف عين} (¬1) وهذا باب واسع ومنه قول النابغة [من الوافر]: كأنك من جمال بني أقيشٍ ... يُقعقع خلف رجليه بشن (¬2) أي جملٌ من جمالهم. وقال [من الرجز]: 422 - لو قلت ما في قومها لم تيثم ... يفضلُها في حسبٍ وميسم ¬
أي ما في قومها أحدٌ. ومنه [من الوافر]: أنا ابنُ جَلاَ [وطلاع الثّنايا ... متى أَضَعِ العمامَةَ تعرفوني] (¬1) أي: رَجُلٍ جلا، وقوله [من الرجز]: 423 - [جادت] بكَفي كانَ مِن أَرْمَى البَشَرْ أي: بكفَّي رَجُلٍ. وسمع سببويه (¬2) بعضَ العرب الموثوقِ بهم يقول: "ما منهما ¬
مات حتى رأيته في حال كذا وكذا، يريد: ما منهما واحدٌ مات. وقد يبلغ من الظهور أنهم يطرحونه رأساً كقولهم: "الأجرع, والأبطح, والفارس, والصاحب, والراكب, والأورق, والأطلس". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الصفة والموصوف لمّا كانا كالشيء الواحد من حيثُ كان البيانُ والإيضاحُ إنّما يحصل من مجموعهما، كان القياس أن لا يُحذف واحدٌ منهما؛ لأنّ حذفَ أحدهما نقضٌ للغرض، وتراجُعٌ عمّا اعتزموه. فالموصوفُ القياسُ يأبَى حذفَه؛ لِما ذكرناه، ولأنّه ربّما وقع بحذفه لبسٌ. ألا ترى أنّك إذا قلت: "مررت بطويل"، لم يُعلم من ظاهرِ اللفظ أنّ الممرور به إنسانٌ، أو رُمْحٌ، أو ثَوْبٌ، ونحوُ ذلك ممّا قد يوصَف بالطُول؟ إلَّا أنّهم قد حذفوه إذا ظهر أمرهُ، وقَويَتِ الدلالةُ عليه، إمّا بحالٍ، أو لفظٍ. وأكثرُ ما جاء في الشعر، لأنّه موضعُ ضرورة. وكلما استبهم، كان حذفُه أبعدَ في القياس، فمن ذلك قولُ أبي ذُؤَيْب [من الكامل]: وعليها مسرودتان ... إلخ الشاهد فيه قولُه: مسرودتان، والمرادُ: دِرْعان مسرودتان. وكذلك السَّوابغُ، المراد: الدُّروع السوابغ. ومن ذلك قولُ المُتَنَخل الهُذَليّ، وهو مالكُ بن عُوَيْمِر، والمتنخّل لقبٌ [من البسيط]: رَبّاءُ شَمَّاءَ ... إلخ الشاهد فيه قوله: "ربَّاء شمّاء"، والمرادُ: رَجُلٌ رَبَّاءُ رَبْوَةٍ، أو رابِيَةٍ شَمَّاءَ، فهو فَعّالٌ من قولك: "رَبَوْتَ الرابِيَةً" إذا عَلَوْتَها. وضعّف العينَ للتكثير، والهمزةُ في آخِره بدلٌ من الواو التي هي لامُ الكلمة، كهمزِة "كِساءٍ"، و"غِطاءٍ". ولم يُنَوّنْه لأنّه مضافٌ إلى "شمَّاء". وشمَّاءُ من الشَّمَم، وهو الارتفاعُ، يُقال: "جبلٌ أشَمُّ، ورابِيَةٌ شَمّاءُ"، أي: مرتفعةٌ، ومنه الشَّمَمُ في الأنْف، وهو ارتفاعُ قَصَبَته. وهو مخفوضٌ بإضافةِ "رَبّاء" إليه، والفتحةُ علامةُ الخفض, لأنّه لا ينصرف، وهمزتُه للتأنيث. ومن ذلك قوله تعالى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48)} (¬1)، والمراد: حُورٌ قاصراتُ الطرف. قال: "وهذا بابٌ واسعٌ"، يعني حذفَ الموصوف إذا كانت الصفةُ مفردةً متمكَّنة في بابها غيرَ مُلْبِسة، نحوَ قولك: "مررت بظريفٍ"، و"مررت بعاقلٍ"، وشِبْهِهما من الأسماء الجاريةِ على الفعل. فأمّا إذا كانت الصفةُ غيرَ جارية على الفعل، نحوَ: "مررت برجل أيّ ¬
رجلٍ، وأيّمَا رجلٍ"، فإنّه يمتنِع حذفُ الموصوف، وإقامةُ الصفة مُقامَه, لأنّ معناه كاملٌ، وليس لفظُه من الفعل. وكذلك لو كانت الصفة جملةً، نحوَ "مررت برجلٍ قام أخوه"، ولقيتُ غلامًا وَجْهُه حسنٌ"، لم يجز حذفُ الموصوف فيه أيضًا؛ لأنّه لا يحسُن إقامةُ الصفة مقام الموصوف فيه. ألا تراك لو قلت: "مررت بقَامَ أخوه"، أو"لقيتُ وَجْهُه حسنٌ"، لم يحسن؟ وربّما جاء شيءٌ من ذلك، وما أقَلَّه! فمن ذلك قولُ النابغة [من الوافر]: كأنّك من جمالِ بني أُقَيْش ... إلخ وقبله: أتَخْذُلُ ناصِرِي وتُعِزُّ عَبْسًا ... أيَرْبُوعَ بنَ غَيْظٍ لِلمِعَنَّ أراد جَمَلًا من جمال بني أقيش، فحذف الموصوفَ، وأقام الصفة مقامه. وإنّما قال: "من جمال بني أقيش"، لأنَّها وَحْشيةٌ مشهورةٌ بالنُّفور. والشَّنُّ: القِرْبَةُ اليابسةُ. وإذا فُعل بها هذا، كان أشدَّ لنُفورها. وسببُ هذا الشعر أنّ بني عَبْس قتلوا رجلًا من بني أسد، فقتلت بنو أسدٍ رجلَيْن من عَبْس، فأراد عُيَيْنَةُ بن حِصْنٍ الفَزاريُّ أن يُعِين بني عبس، وينقُض الحلْفَ الذي بين بني ذُبْيانَ وبني أسد، وبينهم حلفٌ وتناصُرٌ، فقال: كأنّك من جمال بني أقيش، أي: سريعُ الغَضَب تنفِر ممّا لا ينبغي لعاقلٍ أن ينفر منه. والذي حسّن حذفَ الموصوف ههنا كونُه خبرًا، والخبرُ يكون جملةً، وجارًّا ومجرورًا، نحوَ قولك: "إن زيدًا أبوه قائمٌ"، و"إن زيدًا من الكِرام"، فـ "أبوه قائمٌ" في موضع الخبر، وكذلك الجارُّ والمجرور. ومنه قول أبي الأسْوَد الحِمّانيّ [من الرجز]: لو قلت ما في قومها ... إلخ والمراد: إنسانٌ يفضُلها، فحذف الموصوفَ الذي هو المبتدأُ، وأقام الجملة مقامه، يصف امرأةً. فالحَسَبُ: المَآثِرُ، والميسم: الجَمالُ، وهو من الواو، وإنَّما قلبوها ياءً للكسرة قبلها، كأنّه من قولهم: "فلانٌ وَسِيمٌ"، أي: حسنُ الوجه. وقوله: "لم تِيثَم" يريد: تَأْثَم، وإنّما لمّا كسر التاءَ، وجب قلبُ الهمزة ياءً. وإنّما كسروا التاءَ على مذهبِ مَن يرى كسرَ حروفِ المضارعة ما عدا الياءَ. وذلك إذا كان الفعل على "فَعِلَ"، نحوِ "تِعْلَمُ"، و"تِسْلَمُ". ومثله في حذفِ الموصوف قوله تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} (¬1)، أي: قومٌ دون ذلك، أو ناسٌ. وقد حمل ناسٌ قوله تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} (¬2) على هذا قالوا: تقديرُه: ومن الذين قالوا: إنّا نصارى قومٌ أخذنا ميثاقهم. ومثله: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} (¬3)، والمراد: إنسانٌ له مقامٌ معلومٌ، وقولُه: ¬
{مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ} (¬1)، أي: قومٌ يحرّفون. والكوفيون يُضْمِرون موصولًا، وتقديرُه عندهم: إلَّا مَن له مقامٌ معلومٌ. والأوّلُ أسهلُ؛ لأنّ حذفَ الموصول أبعدُ من حذف الموصوف. ومنه ما حكاه سيبويه عن بعض العرب الموثوقِ بهم: "ما منهما مَاتَ حتّى رأيتُه في حالِ كذا وكذا"، والمراد: ما منهما أحدٌ مات، فحذف "أحدًا"، وهو الموصوفُ. وهذا الحذفُ في المبتدأ أسهلُ منه مع الفاعل، لو قلت: "جاءني قام أخوه" على إرادةِ: "جاءني رجلٌ قام أخوه"، لم يحسُن حُسْنَه في المبتدأ؛ لأنّ المبتدأ قد لا يكون اسمًا مَحْضًا، نحوَ "تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيّ خيرٌ مِن أن تَراه" (¬2)، والمراد: سَماعُك بالمعيديّ خيرٌ من رُؤْيَته، وليس كذلك الفاعلُ. وأمّا قوله: "أنا ابنُ جَلَا" من قول سُحَيْمِ بن وَثِيلٍ الرِّياحيّ [من الوافر]: أنّا ابنُ جَلَا وطَلاّعُ الثَّنايَا ... مَتَى أضَعِ العِمامَةَ تَعْرِفُونِي فقيل: إِنّه من هذا القبيل، والمرادُ: أنا ابنُ رجل جَلَا، ثمّ حذف الموصوفَ، أي: جلا أمرُه ووضح، أو كشف الشدائدَ. وقيل: إِنّه اسمٌ عَلَمٌ. واحتجّ به عيسى بن عمر شاهدًا في منعِ صرف كلّ اسم على وزن الفعل سواءٌ كان ذلك البناءُ ممّا يغِلب وجودُه في الأفعال، أو لا يغلب. وأصحابُ سيبويه يتأوّلونه على أنّه سُمّي به وفيه ضميرٌ، فهو جملةٌ، والاسمُ المنقول من الجملة يُحكَى، ولا يُعرَب، فيكون من قبيلِ: "بني شَابَ قَرْنَاهَا"، وقد تقدّم شرحُ ذلك في ما لا ينصرف. وقد قيل في قولِ الآخر [من الرجز]: 424 - وَاللَّهِ ما لَيْلِي بِنَامَ صاحِبُه ... ولا مُخالِطِ اللَّيَانِ جانِبُهْ ¬
إنَّه عَلَمٌ اسمُ رجل، وقيل: إِنّه على حذفِ الموصوف، كأنّه أراد: ما ليلي برجلٍ نام صاحبُه، ثمّ حذف الموصوفَ. ومن ذلك قوله [من الرجز]: جادَتْ بكَفَّيْ كَانَ مِن أرْمَى البَشَرْ وقبله: ما لَكَ عندي غيرُ سَهْمٍ وحَجَرْ ... وغيرُ كَبْداءَ شديدةِ الوَتَرْ الشاهد فيه حذفُ الموصوف، وإقامةُ الصفة التي هي الجملةُ مقامه، والتقديرُ: بكَفَّيْ رجلٍ كان من أرمى البشرِ، وقد رُوي: "بكفّي كان مَن أرمى البشر"، بفتح ميمِ "مَنْ"، أي: بكفّي مَن هو أرمى البشرِ، و"كَانَ" زائدةٌ. وكَبِدُ القَوْس: مَقْبِضُها. وقوسٌ كبداءُ: غليظهُ المَقْبِضِ تملأُ الكفَّ. وجادتْ من الجُودة لا من الجُود. ولو صحّت الروايةُ الأُولى، لم يجز القياسُ عليه لقلّته وشُذوذه في القياس. وربّما ظهر أمرُ الموصوف، وعُرف موضعه، فيُستغنى عن ذكره ألبتّهَ، وتقع المُعامَلةُ مع الصفة، وتصير الصفةُ كاسم الجنس الدالّ على معنَى الموصوف، وذلك نحوُ قولهم: "الأجْرَعُ"و"الأبْطَحُ"، فالأجرعُ: مكانٌ سَهْلٌ مُسْتَوٍ لا يُنْبِت، يُقال: "مكانٌ أجرعُ"، و"رَمْلَةٌ جَرْعاءُ"، ثمُّ اشتهر المكانُ بذلك، فعُلم مكانه، دمان لم يُذكَر، فقيل: "الأجرعُ"، إذ لا يوصَف بذلك إلَّا المكانُ. وأمّا الأبْطَحُ فالمكان المتَّسِع، ومثلُه البَطْحاءُ، وأصلُه أن يُقال مكانٌ أبطحُ، ثمّ غلبت الصفةُ، وصارت كاسم الجنس. ومثله الفارسُ، والصاحبُ، والراكبُ، أصلُ ذلك كلّه الصفةُ، وإنّما، غلبتْ، فصارت كاسم الجنس، ولذلك يُجمَع جَمْعَه، فيقال: "فارسٌ وفَوارِسُ، وصاحبٌ وصَواحِبُ، وراكبٌ ورواكبُ"، كما يُقال: "كاهِلٌ، وكَواهِلُ"، فالفارسُ راكبُ الفرس خاصّةً، والراكبُ راكبُ الجَمل خاصّةً، لا يُقال لغيره، والصاحبُ معروفٌ. ومثلُ ذلك الأوْرَقُ، والأطلسُ، فالأورقُ: المُغْبَرُّ اللَّوْن، كلَوْنِ الرماد، والحَمامةُ ¬
وَرْقاءُ للونها، والأطلسُ: أن يَضْرِب إلى الغُبْرة، والذئبُ أطلسُ لَلْونه، فأصلُهما الصفةُ. ثمّ ظهر أمرُهما، فصار الموصوفُ نِسْيًا منسيًّا، فصارا كالجنس. وأمّا الصفةُ، فلا يحسن حذفُها أيضًا لِما ذكرناه، ولأنّ الغرض من الصفة، إمّا التخصيصُ، وإمّا الثَّناءُ والمدحُ، وكلاهما من مَقاماتِ الإطناب والإسهابِ، والحذفُ من باب الإيجاز والاختصارِ، فلا يجتمعان لتدافُعهما. وقد حُذفت الصفة عَلى قِلَّةٍ ونَدْرَةٍ، وذلَك عند قوّةِ دلالةِ الحال عليها، وذلك فيما حكاه سيبويه من قولهم: "سِيرَ عليه ليلٌ" (¬1)، وهم يريدون: "ليلٌ طويلٌ". وكأنّ هذا إنّما حُذف فيه الصفةُ لِما دلّ من الحال على موضعها، وذلك بأن يوجَد في كلامِ القائل من التفخيم والتعظيم ما يقوم مقامَ قوله: "طويلٌ". وذلك إذا كنتَ في مدْح إنسان والثناءِ عليه، فتقول: "كان واللهِ رجلاً"، وتَزيد في قوّةِ اللفظ بالله، وتمطيطِ اللام، وإطالةِ الصوت بها، فيُفهَم من ذلك أنّك أردتَ كريمًا، أو شُجاعًا، أو كاملًا. وكذلك في طَرَفِ الذَّمّ إذا قلت: "سألتُ فلانًا، فرأيتهُ رجلًا"، وتَزْوِي وجهَك وتُقطَّبه، فتَغْنَى عن "بخيلًا" أو"لَئِيمًا". ومنه الحديث "لا صلاة لجارِ المَسْجِد إلَّا في المسجد" (¬2)، والمرادُ: لا صلاة كاملةً، أو تامّةً، ونحوُ ذلك. فإن عَرِيَتِ الحالُ من الدلالة، لم يجز الحذفُ، فاعرفه. ¬
البدل
البَدل فصل [أنواعة] قال صاحب الكتاب: هو على أربعة أضرب: بدل الكل من الكل كقوله تعالى: {إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم} (¬1). وبدل البعض من الكل, كقولك: "رأيت قومك أكثرهم وثلثيهم, وناساً منهم، و"صرفت وجوهها أولها". وبدل الاشتمال كقولك سلب زيد ثوبه، وأعجبني عمرو حسنه، وأدبه وعلمه، مما هو منه أو بمنزلته في التلبس به. وبدل الغلط, كقولك: "مررت برجل حمار"، أردت أن تقول: بـ "حمار"، فسبقك لسانك إلى "رجل"، ثم تداركته, وهذا لا يكون إلا في بداية الكلام وما لا يصدر عن روية وفطانة. * * * قال الشارح: البدل ثانٍ يقدَّر في موضعِ الأوّل، نحوَ قولك: "مررت بأخيك زيدٍ"، فـ "زيدٌ" ثانٍ من حيث كان تابعًا للأوّل في إعرابه. واعتبارُه بأن يقدَّر في موضعِ الأوّل، حتى كأنّك قلت: "مررت بزيدٍ"، فيعمل فيه العاملُ، كأنّه خالٍ من الأوّل. والغرضُ من ذلك البيانُ، وذلك بأن يكون للشخص اسمان، أو أسماءٌ، ويشتهِر ببعضها عند قومٍ، وببعضها عند آخَرين، فإذا ذكر أحدَ الاسمَيْن، خاف أن لا يكون ذلك الاسمُ مشتهِرًا عند المخاطب، ويذكر ذلك الاسمَ الآخرَ على سبيلِ بدلِ أحدهما من الآخر للبيان، وإزالةِ ذلك التوهُّمِ. فإذا قلت: "مررت بعبد الله زيدٍ"، فقد يجوز أن يكون المخاطبُ يعرف عبدَ الله، ولا يعلم أنّه زيدٌ، وقد يجوز أن يكون عارفًا بزيدٍ، ولا يعلم أنّه عبدُ الله، فتأتي بالاسمَيْن جميعًا لمعرفةِ المخاطب. وكان الأصل أن يكونا خبرَيْن، أي: جملتَيْن، مثلَ: "مررت بعبد الله، مررت بزيد"، أو يدخلَ عليه واوُ العطف، لكنّهم لو فعلوا ذلك، لالتَبس، ألا ترى أنّك لو قلت: "مررت بعبد الله مررت بزيد"، أو قلت: "مررت بعبد الله وزيدٍ"، ربّما تَوهّم المخاطبُ أنّ الثاني غيرُ الأوّل، فجاؤوا بالبدل فِرارًا من اللبْس، وطَلَبًا للإيجاز. ¬
والبدل إمّا أن يكون الأوّلَ في المعنى، أو بعضَه، أو مشتمَلًا عليه، أو يكون على وجهِ الغَلَط. فالأوّلُ: نحوُ قولك: "مررت بأخيك زيدٍ"، و"مررت برجلٍ صالحٍ زيدٍ"، فـ "زيدٌ" هو الأوّل، وقد أبْدَلَه منه للبيان. وذلك لجَوازِ أن يكون قد عرف أنّ له أخا, ولا يعرف أنَّه زيدٌ، أو يعرف زيدًا، ولا يعلم أنّه أخوه. وكذلك يجوز أن يكون يعرف زيدًا، ولا يعلم أنّه رجلٌ صالحٌ، أو يعرف أنّه رجل صالح، ولا يعرف أنّه زيدٌ، فجمع بينهما للبيان. ومثله قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬1)، فالصراط الثاني بدلٌ من الأول، وهو هو؛ لأن الصراط المستقيم هو صراطُ المُنْعَم عليهم. وأمّا الثاني: وهو بدلُ الشيءَ من الشيء، وهو بعضُه، كقولك: "رأيت زيدًا وجهَه"، و"رأيت قومَك أكثرَهم، وثُلُثَيْهِم، وناسًا منهم"، و"صرفتُ وُجوهَها أولِها". فالثاني من هذه الأشياء بعضُ الأوّل، وأبدلتَه منه لُيعلَم ما قصدتَ له، ولِيَتنبّهَ السامعُ، فتثْبِت بقولك: "رأيت زيدًا وجهَه" موضعَ الرؤية منه، فصار كقولك: "رأيت وجه زيدٍ". وكذلك قولُك: "رأيت قومَك أكثرَهم، وثُلُثَيْهِم، وناسًا منهم"، بيَّنتَ مَن رأيتَ منهم. فـ "أكثرهم"، و"ثلثاهم" بعضُهم، وكذلك "ناسًا منهم". قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬2) فَـ "مَنْ" في موضعِ خفض؛ لأن المعنى "على من استطاع منهم". وتقول: "بِعْتُ طَعامَك بَعْضَه مَكِيلًا، وبعضَه مَوْزونًا". ويجوز أن ترفع، فتقول: "بعضُه مكيلٌ، وبعضه موزونٌ". والفرقُ بينهما أنّك إذا نصبتَ، فقد أوقعتَ الفعلَ على البعض منفصِلًا من الآخر، فكأنّك قلت: "هذا البعضُ أسلفتُه بكذا كَيْلًا، وهذا البعضُ أسلفتُه بكذا وَزنًا". وإذا رفعتَ، فإنّما أوقعتَ الفعلَ على جملةِ الطعام الذي من صفته أنّ بعضَه مكيلٌ، وبعضَه موزونٌ. قال الله تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} (¬3)، فهذا شاهدٌ في الرفع، ومن كلام العرب: "خَلَقَ الله الزَّرافَةَ يَدَيْها أطْوَل من رِجْلَيْها"، فهذا شاهدٌ في النصب، ولو قال: "يداها أطولُ من رجليها"، لجاز. ولا بد فيه من ضميرٍ يُعلّقه بالأول. فأمّا قولهم: "ضربتُ زيدًا اليَدَ والرَّجْلَ"، فالمرادُ: اليدَ والرجل منه، فحُذف الضمير للعلم به. وأمّا الثالث: فهو بدل الاشتمال، نحوُ قولك: "سُلب زيدٌ ثوبُه"، و"أعجبني عمروٌ ¬
علْمُه، وحسنُه، وأدبُه"، ونحوُها من المعاني. فالثاني بدلٌ من الأول، وليس إيّاه، ولا بعضَه، وإنَّما هو شيءٌ اشتمَل عليه. والمرادُ بالاشتمال أن يتضمّن الأوّلُ الثانيَ، فيُفهَم من فَحْوَى الكلام أنّ المراد غيرُ المُبْدَل منه. وذلك أنّك لمّا قلت: "أعجبني زيدٌ"، فُهم أنّ المُعجِب ليس زيدًا من حيث هو لَحْمٌ ودَمٌ، وإنّما ذلك معنى فيه. وعِبْرةُ الاشتمال أن تصحّ العِبارةُ بلفظه عن ذلك الشيء، فيجوز أن تقول: "سُلب زيدٌ"، وأنت تريد ثوبَه، و"أعجبني زيدٌ"، وأنت تريد عِلْمَه وأدبَه ونحوَهما من المعاني. قال الله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} (¬1)، فـ "النارُ" بدلٌ لأنّ الأُخدود مشتملٌ عليها. ومثله قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} (¬2)، فـ "القتالُ" بدلٌ من "الشهر الحرامِ"، وهو معنًى اشتمل عليه الشهرُ، وسُؤالُهم عن الشهر إنّما كان لأجلِ القتال فيه. ومن ذلك قول عَبْدَةَ بن الطبيب [من الطويل]: 425 - فما كان قَيْسٌ هُلْكُه هُلْكُ واحدٍ ... ولكنَّه بُنْيانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا فهذا يُنشَد على وجهَيْن: بالرفع في "هلك واحد"، والنصبِ. فأمّا الرفعُ فعلى أن تكون الجملةُ خبرًا لـ"كَانَ". وأمّا النصبُ فعلى أن يكون المفردُ خبرًا لـ"كَانَ"، ويكون "هُلْكُه" بدلًا من اسمِ "كان". فأمَّا قول الآخر [من الوافر]: 426 - ذَرِينِي إن أمْرَكِ لَنْ يُطاعا ... وما ألفَيْتِنِي حِلْمِي مُضاعا ¬
فهذا لا يكون إلَّا على البدل لأجلِ القافية. ولا بدّ في بدل الاشتمال من عائدٍ أيضًا يربِطه بالأوّل، فأمَّا قوله [من الطويل]: 427 - لَقَدْ كان في حَوْلٍ ثَواءٍ ثَوَيتُه ... تَقَضِّي لُباناتٍ ويَسْأمُ سائمُ ¬
فصل [فائدته]
فالمراد "ثواء فيه"، إلَّا أنّه حُذف للعلم به. والثواءُ: الإقامةُ، والمرادُ في ثواءِ حَوْلٍ. وأمّا الرابع: وهو بدلُ الغَلَط والنسْيانِ، ومثلُ ذلك لا يكون في القرآن، ولا في شعرٍ. أمّا القرآن، فهو مُنزَّهٌ عن الغلط، وكذلك الشعرُ الفصيحُ, لأنّ الظاهر من حال الشاعر مُعاوَدةُ ما نَظَمَه، فإذا وجد غلطًا أصلحَه. وإنّما يكون مثلُه في بَدْأةِ الكلام، وما يجيء على سبيلِ سَبْقِ اللسان إلى ما لا يريده، فيُلْغِيه، حتى كأنّه لم يذكُره، وذلك نحوُ: "مررت برجلٍ حِمارٍ"، كأنّك أردت أن تقول: "مررت بحمارٍ"، فسبق لسانُك إلى ذكرِ "الرجل"، فتَداركتَ، وأبدلتَ منه ما تريده. والأولى أن تأتي بـ "بل" للإضراب عن الأوّل. فصل [فائدته] قال صاحب الكتاب: وهو الذي يعتمد بالحديث, وإنما يذكر لنحو من التوطئة, وليفاد بمجموعهما فضل تأكيدٍ وتبيين, لا يكون في الإفراد. قال سيبويه (¬1) عقيب ذكره أمثلة البدل: "أراد: رأيت أكثر قومك وثلثي قومك", و"صرفت وجوه أولها", ولكنه ثنى الاسم توكيدًا". وقولهم: "إنه في حكم تنحية الأول" إيذانٌ منهم باستقلاله بنفسه, ومفارقته التأكيد والصفة في كونهما تتمتين لما يتبعانه, لا أن يعنوا إهدار الأول واطراحه. ألا تراك تقول: "زيدٌ رأيت غلامه رجلاً صالحًا", فلو ذهبت تهدر الأول, لم يسد كلامك. * * * قال الشارح: الذي عليه الاعتماد من الاسمَيْن أعني البدلَ والمُبْدَلَ منه هو الاسمُ الثاني، وذكرُ الأول تَوْطِئَةً لبيانِ الثاني. يدلّ على ذلك ظهورُ هذا المعنى في بدلِ البعض، وبدلِ الاشتمال. ألا ترى أنّك إذا قلت: "ضربتُ زيدًا رأسَه"، فالضرب إنّما وقع برأسه دون سائره، وكذلك قولُك: "سُرق زيدٌ مالُه"، إنّما المسروقُ المالُ دون زيدٍ. ولذلك قدّر سيبويه هذا المعنى بقوله عَقِيبَ ذِكْره أمثلةَ البدلِ: "أراد رأيت أكثرَ قومِك، وثُلُثَيْ قومِك، وصرفت وجوهَ أولِها"، كأنّه أراد أنّ المعنى متعلِّقٌ بالثاني حتّى لو تركتَه، ولم تذكره، لألبسَ. ألا ترى أنّك لو قلت: "ضربتُ زيدًا"، وسَكَتَّ، لَظَنَّ المخاطبُ أنّ الضرب وقع بجُمْلته، ولم يختص عُضْوًا منه؟ فعلمتَ بذلك أنّ المعتمَد بالحديث هو الاسمُ الثاني، والأوّلُ بيانٌ، فالبيانُ في البدل مقدَّمٌ، وفي النعت والتأكيدِ مؤخَّرٌ. واعلم أنّه قد اجتمع في البدل ما افترق في الصفة والتأكيدِ, لأن فيه إيضاحًا ¬
فصل [الدلالة علي استقلاليته]
للمُبدَل، ورَفْعَ لبسٍ كما كان ذلك في الصفة. وفيه رفعُ المَجاز، وإبطالُ التوسّع الذي كان يجوز في المبدل منه، ألا ترى أنّك إذا قلت جاءني أخوك، جاز أن تريد كِتابَه، أو رَسُولَه، فإذا قلت: "زَيْدٌ"، زال ذلك الاحتمالُ، كما لو قلت: "نفسُه"، أو"عينُه"؟ فلذلك قال صاحبُ الكتاب: "ولِيُفاد بمجموعهما فضلُ تأكيدٍ وتبيينٍ، لا يكون في الإفراد"، يعني أنّه حصل باجتماعِ البدل والمبدل منه من التأكيد ما يحصلُ بالنفس، والعين، ومن البيان ما يحصل بالنعَت. ولو انفرد كل واحد من البدل، والمبدل منه، لم يحصل ما حصل باجتماعهما، كما لو انفرد التأكيدُ والمؤكَّدُ، أو النعتُ والمنعوتُ، لم يحصل ما حصل باجتماعهما. وقول النحويّين: إِنّه في حكمِ تَنْحِيَةِ الأوّل الذي هو المبدلُ منه ووَضْعِ البدل مكانَه، ليس ذلك على معنَى إلغائه، وإزالةِ فائدته، بل على معنى أنّ البدل قائمٌ بنفسه، وأنّه معتمَدُ الحديث، وليس مُبيّنًا للمبدَل منه كتَبْيينِ النعت الذي هو من تمام المنعوت. والدليلُ على أنّ المبدل منه ليس بمُلْغىً، ولا مطّرَحًا، أنّك تقول: "زيدٌ رأيتُ أباه عمرًا"، فتجعل "عمرًا" بدلًا من "أباه". فلو كان المبدلُ مطّرحًا، لكان تقديرُ الكلام: "زيد رأيتُ عمرًا"، فتبقى الجملةُ التي هي خبرٌ بلا عائدٍ، وذلك ممتنِعٌ. وممّا يدلّ أيضًا على أنه ليس مُلْغى قولُ الشاعر [من الكامل]: 428 - فكأنّه لَهِقُ السَّراةِ كأنّه ... ما حاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بسَوادِ فصل [الدلالة علي استقلاليته] قال صاحب الكتاب: والذي يدل على كون مستقلاً بنفسه أنه في حكم تكرير العامل, بدليل مجيء ذلك صريحاً في قوله عز وجل: {الذين استضعفوا لمن آمن ¬
منهم} (¬1) , وقوله: {لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفاً من فضة} (¬2). وهذا من بدل الإشتمال. * * * قال الشارح: وقد أكّد صاحبُ الكتاب كونَ البدل مستقِلاًّ بنفسه، وأنّه ليس من تَتِمَّةِ الأوّل كالنعت، بكونه في حكمِ تكريرِ العامل. وذلك أنّك إذا قلت: "مررت بأخيك زيدٍ"، تقديرهُ: مررت بأخيك بزيدٍ. وإذا قلت: رأيتُ أخاك زيدًا"، فتقديرهُ: رأيتُ أخاك رأيتُ زيدًا. فذلك المقدَّرُ هو العاملُ في البدل، إلَّا أنّه حُذف لدلالةِ الأوّل عليه، فالبدلُ من غيرِ جملةِ المبدل منه - هذا مذهبُ أبي الحسن الأخفش وجماعةٍ من مُحقِّقي المتأخّرين، كأبي علي، والرُّمانيّ، وغيرِهم. والحُجَّةُ لهم في ذلك أنّه قد ظهر في بعضِ المواضع، فمن ذلك قوله تعالى: و {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} (¬3)، فقوله: "لمن آمن منهم" بدلٌ من "الذين استضعفوا"، وهو بدلُ البعض؛ لأنّ المؤمنين بعضُ المستضعفين. ومن ذلك قوله تعالى: {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ} (¬4)، فقوله: "لبيوتهم" بدلٌ مِن "لِمَنْ يكفر بالرَّحمن"، وهو بدلُ الاشتمال، وقد أظهر العاملَ. قالوا: فلو كان العاملُ في البدل هو العاملَ في المبدل منه، لأدَّى ذلك إِلى مُحال، وهو أن يكون قد عمل في الاسم عاملان، وهما اللامُ الأُولى، واللامُ الثانية، إذ حروفُ الخفض لا تُعلَّق عن العمل. وقيل لأبي عليّ: كيف يكون البدلُ إيضاحًا للمبدل منه، وهو من غيرِ جملته؟ فقال: لمّا لم يظهَر العاملُ في البدل، وإنّما دلَّ عليه العاملُ في المبدل منه، واتصل البدلُ بالمبدل منه في اللفظ , جاز أن يوضِحه. وذهب سيبويه، وأبو العباس محمّدُ بن يزيد، والسِّيرافيُّ من المتأخّرين إلى أنّ العامل في البدل هو العاملُ في المبدل منه، كالنعت، والتأكيدِ، وذلك لتعلُّقهما به من طريق واحد؛ وأمّا ظهورُ العامل في بعض المواضع، فقد يكون توكيدًا كما يتكرّر العاملُ في الشيء الواحد، كقوله [من البسيط]: 429 - [قالتْ بنو عامرٍ: خالوا بني أسدٍ] ... يا بُؤْسَ للجَهْل ضَرّارًا لأقوامِ ¬
فصل [عدم اشتراط المطابقة بين البدل والمبدل منه في التعريف والتنكير]
فاللام زائدةٌ مؤكّدةٌ للإضافة. ولولا إرادةُ الإضافة، لكان "يا بؤسًا" منوَّنًا. ومن تَكرارِ العامل للتأكيد قولُه تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} (¬1)، فموضعُ "أنَّ" الثانيةِ موضعُ "أنَّ" الأُولى، وإنّما كرَّرت للتأكيد. وقولُه: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} (¬2)، فـ "أنَّ" الثانيةُ مُكرَّرة تأكيدًا، فكذلك ههنا يجوز أن يكون تكريرُ الحرف تأكيدًا, ولو كان العاملُ مقدَّرًا، لَكثُر ظهورُه، وفَشَا استعمالُه. وفي عدمِ ذلك دليلٌ على ما ذكرناه. والمذهب الأوّل، وعليه الأكثرُ، ويُؤيِّده قولُك: "يا أخانا زيدُ" بالضمّ لا غيرُ. ولو (¬3) كان العاملُ الأوّلَ، لوجب نصبُه كالنعت، وعطفِ البيان، فاعرفه. فصل [عدم اشتراط المطابقة بين البدل والمبدل منه في التعريف والتنكير] قال صاحب الكتاب: وليس بمشروط أن يتطابق البدل والمبدل منه تعريفاً وتنكيراً, بل لك أن تبدل أي النوعين شئت من الآخر. قال الله عز وجل: {إلى صراط مستقيم صراط الله} (¬4) وقال: {بالناصية ناصية كاذبة} (¬5)، خلا أنه لا يحسن إبدال النكرة من المعرفة إلا موصوفة كـ "ناصية". * * * قال الشارح: ليس الأمرُ في البدل والمبدل منه كالنعت والمنعوت, فيلزمَ تطابُقُهما ¬
في التعريف والتنكير، كما كان ذلك في النعت؛ لأنّ النعت من تمامِ المنعوت، وتَحْليةٌ له، والبدلُ منقطِعٌ من المبدل منه، يقدَّر في موضعِ الأوّل على ما ذكرنا. فلذلك يجوز بدلُ المعرفة من المعرفة، والنكرةِ من المعرفة، والنكرِة من النكرة، والمعرفةِ من النكرة. فمثالُ الأول: - وهو بدل المعرفة من المعرفة - قولك: "مررت بأخيك زيدٍ"، فـ "زيدٌ" بدل من "الأخ"، وكلاهما معرفةٌ. ومثلُه قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} (¬1)، فالصراطُ الأوّلْ معرفةٌ باللام، والثاني معرفةٌ بالإضافة، وقد أُبدل منه لتأكيد البيان. ومثالُ الثاني: -وهو بدلُ النكرة من المعرفة - قولُك: "مررت بأخيك رجلٍ صالحٍ"، فـ "رجلٌ صالحٌ" نكرةٌ، وهو بدلٌ من "الأخ". قال الله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} (¬2)، فـ "ناصيةٌ" نكرةٌ، وقد أُبدلت من الناصية الأُولى، وهي معرفةٌ. ولا يحسن بدلُ النكرة من المعرفة حتّى توصَف، نحوَ الآية, لأنّ البيان مرتبِطٌ بهما جميعًا. ومثالُ الثالث: - وهو بدلُ النكرة من النكرة - قولة تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} (¬3)، فقولُه: "مفازًا" نكرةٌ، وقد أبدل من النكرة وهو"حدائق"، ومثله قول الشاعر [من الطويل]: 430 - وكُنْتُ كذِي رِجْلَيْن رِجْل صَحِيحَةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى فيها الزَّمانُ فشَلَّتِ ¬
فصل [إبدال الاسم الظاهر من الضمير]
فأبدل قولَه: "رجلٍ صحيحةٍ" من قوله: "رجلَيْن"، وكلاهما نكرةٌ. ومثالُ الرابع: - وهو بدلُ المعرفة من النكرة - قولُك: "مررت برجلٍ زيدٍ". قال الله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ} (¬1)، فالثاني معرفةٌ بالإضافة، وقد أبدله من الأوّل، وهو نكرةٌ فاعرفه. فصل [إبدال الاسم الظاهر من الضمير] قال صاحب الكتاب: ويبدل المظهر من المضمر الغائب دون المتكلم والمخاطب, تقول: "رأيته زيداً"، و"مررت به زيدٍ" و"صفت وجوهها أولها": ولا تقول: "بي المسكين كان الأمر", ولا "عليك الكريم المعول". والمضمر من المظهر, نحو قولك: "رأيت زيداً إياه", و"مررت بزيد به", والمضمر من المضمر, كقولك: "رأيتك إياك", و"مررت بك بك". * * * قال الشارح: اعلم أنّ البدل يتجاذبُه شَبَهان: شبهٌ بالنعت ,وشبهٌ بالتأكيد، فكما أنّ المضمرات تؤكَّد، فكذلك يُبدَل منها، فهو في ذلك كالمظهر، وليس الأمرُ فيه كالنعت على ما تقدّم. وهو في ذلك على ثلاثةِ أضرب: بدلُ مُظْهَرٍ من مضمر، ومضمرٍ من مظهر، ومضمرٍ من مضمر. فمثالُ الأوّل: - وهو بدل المظهر من المضمر- قولك: "رأيتُه زيدًا". وإذا جرى ذكرُ قومٍ، قلت: "أكرموني إخْوَتُك". ومثلُه قوله تعالى: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} (¬2) في أحدِ الوجوه (¬3). ومثلُه قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ} (¬4)، فـ "الّذِين ظلموا" بدلٌ من المضمر، وكذلك "كَثِيرٌ". وهذا من بدل الشيء من الشيء، وهما لعَيْنٍ واحدةٍ. ¬
وتقول: "صرفتُ وجوهَها أوّلِها"، فـ "أوّلها" بدلٌ من المضمر المجرور الذي أضفتَ "الوجوه" إليه، وهذا من بدلِ البعض من الكلّ؛ لأنّ الأوّل بعضُ وجوهِ الإبل. وممّا جاء في التنزيل من ذلك: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} (¬1)، أي: ذِكْرَهُ، وهو بدلٌ من الهاء في "أنسانيه". والمعنى: وما أنساني ذِكْرَه إلَّا الشيطانُ. ومن ذلك قول الشاعر [من الطويل]: 431 - على حالَةٍ لو أنَّ في القَوْم حاتِمًا ... على جُودِه لَضَنَّ بالماء حاتِمٍ جرّ "حاتمًا" لمّا جعله بدلًا من الهاء في "جوده". وأمّا الثاني، وهو بدلُ المضمر من المظهر، فقولك: "رأيت زيدًا إيّاه"، فـ "إياه" مضمر "زيد" ظاهرٌ، وقد أُبدل منه للبيان. ومن ذلك "مررت بزيدٍ به"، الهاءُ ضميرٌ مجرورٌ، وقد أبدله من "زيد" وأعاد الجارَّ، لأنّه لا منفصِلَ للمجرور، والمتّصلُ لا يقوم بنفسه. وأمّا الثالث، وهو بدلُ المضمر من المضمر، فنحوُ ذلك: "رأيتُه إيّاه"، فـ "إيّاه" ضميرٌ منفصلٌ، وهو بدلٌ من الهاء في "رأيتهُ"، وهو ضميرٌ متّصلٌ. وساغ ذلك, لأنّ الضمير المنفصل يجري عندهم مجرَى الأجنبيّ، ألا ترى أنّهم لا يُجيزون "ضربتُني"، ويجيزون "ما ضربتُ إلَّا إيّايَ"، و"إيَّايَ ضربتُ"؟ وتقول: "مررت به به"، فالضمير الثاني بدلٌ من الأوّل، وأعدتَ حرفَ الجرّ، لِما ذكرنا من أنّ المجرور لا منفصلَ له. والأقربُ في هذا أن يكون تأكيدًا، لا بدلًا، لأنّك إذا أبدلتَ اسمًا من اسمٍ، وهما لعينٍ واحدةٍ، كان الثاني مُرادِفًا للأوّل، لِيعلم السامعُ بمَجْموعهما. فأما إعادة اللفظ بعينه، فمن قبيل التأكيد. ¬
واعلمْ أنّ المضمراتِ كلَّها لك أن تُبدِل منها إلَّا ضميرَ المتكلَّم والمخاطب، فلا يحسن البدلُ من كلِّ واحد منهما عند أكثرِ النحويين، لو قلت: "مررتُ بك زيدٍ"، أو "مررتَ بي زيدٍ" أو"بي المِسكينِ"، كان الأمرُ لم يجز شيءٌ من ذلك؛ لأنّ الغرض من البدل البيانُ، وضميرُ المخاطب والمتكلّم في غايةِ الوضوح، فلم يحتج إلى بيان. وقد أجاز ذلك أبو الحسن الأخفشُ، واحتجّ بقوله تعالى: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} (¬1)، فقولُه "الذين خسروا أنفسهم" عنده بدلٌ من الكاف والميمِ، وهو ضميرُ المخاطبين. ولا دليلَ قاطعَ في ذلك, لأنّه يحتمِل أن يكون "الذين خسروا أنفسهم" مبتدأً مستأنَفًا, وخبرُه "فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ"، وقد أجمعوا في جوازِ ذلك في بدل الاشتمال، نحوِ قول الشاعر [من الوافر]: ذَرِينِي إنّ أمْرَكِ لن يُطاعا ... وما ألْفَيْتِنِي حِلْمِي مُضاعا (¬2) وربّما جاء أيضًا في بدل البعض، نحوِ قوله [من الرجز]: 432 - أوْعَدَنِي بالسِّجن والأداهِمِ ... رِجلِي فرِجلِي شَثْنَةُ المَناسِمِ ¬
فقوله: "حِلْمِي" بدلٌ من الياء في "ألفيتني"، وهو منصوبٌ من قبيلِ بدل الاشتمال، وكذلك "رِجلِي" بدلٌ من "الياء" في "أوعدني"، والضميران للمتكلّم. وساغ ذلك هنا لأنّ فيه إيضاحًا، إذ كان الثاني ممّا يشتمِل عليه الأوّلُ، أو بعضًا منه، وهو المرادُ بالكلام، ولا تعلمُ كلَّ واحد منهما إلَّا ببيانٍ. فأمّا تمثيلُه بقوله: "رأيتُك أيّاك"، و"مررت بك بك"، فمن قبيلِ إبدالِ الشيء من الشيء، وهو هو، إلَّا أنّه أعاد حرفَ الجرّ؛ لأنّ المجرور لا منفصلَ له، فاعرفه.
عطف البيان
عطفُ البَيان فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: هو اسمٌ غير صفة يكشف عن المراد كشفها، وينزل من المتبوع منزلة الكلمة المستعملة من الغريبة إذا تُرجمت بها. وذلك نحو قوله [من الرجز]: 433 - أقسم بالله أبو حفصٍ عمر ... [ما إن بها من نقبٍ ولا دبر] أراد عمر بن الخطاب رضي الله عنه, فهو كما ترى جارٍ مجرى الترجمة حيث كشف عن الكنية, لقيامه بالشهرة دونها. * * * قال الشارح: عطفُ البيان مجراه مجرَى النعت، يُؤْتَى به لإيضاحِ ما يجري عليه، ¬
وإزالةِ الاشتراك الكائنِ فيه، فهو من تَمامه كما أنّ النعت من تمام المنعوت، نحوَ قولك: "مررت بأخيك زيدٍ"، بيّنتَ "الأخ" بقولك "زيدٍ"، وفصلتَه من أخٍ آخرَ ليس بزيد، كما تفعل الصفةُ في قولك: "مررت بأخيك الطويلِ"، تفصِله من أخ آخر ليس بطويل. ولذلك قالوا: إن كان له إخوَةٌ، فهو عطفُ بيان، وإن لم يكن له أخٌ غيرُه، فهو بدلٌ. وهو جارٍ على ما قبله في إعرابه كالنعت: إن كان مرفوعًا، رفعت، وإن كان منصوبًا، نصبتَ، وإن كان مجرورًا، خفضتَ، إلا أنّ النعت إنّما يكون بما هو مأخوذٌ من فعلٍ، أو حِلْيةٌ، نحوُ: "ضارب" و"مضروب",و"عالمِ"، و"معلوم"، و"طويل"، و"قصير"، ونحوِها من الصفات. وعطفُ البيان يكون بالأسماء الصريحةِ غيرِ المأخوذة من الفعل كالكُنَى والأعلامِ، نحوِ قولك: "ضربتُ أبا محمّد زيدًا"، و"أكرمْتُ خالدًا أبا الوليد"، بيّنتَ الكنية بالعَلَم، والعلمَ بالكنية، قال الراجز: أقْسَمَ بِاللَّه أبو حَفْصٍ عُمَرْ البيت لرُؤبَةَ وبعده: ما إن بها من نَقَبٍ ولا دَبَرْ ... اِغْفِرْ له اللهُمَّ إنْ كان فَجَرْ يريد عمرَ بن الخَطّاب، رضي الله عنه. والشاهدُ أنّه بَيَّنَ الكنية حين تَوهّم فيها الاشتراكَ بقوله: "عُمَرْ"، إذ كان العَلَمُ فيه أشهرَ من الكنية. وهذا معنى قوله: "لقِيامه بالشُّهْرة دونها"، يريد: لقِيام الثاني إن عَلَمًا وإِن كنية، فالصفة تتضمّن حالًا من أحوال الموصوف يتميّز بها، وعطفُ البيان ليس كذلك، إنّما هو تفسيرُ الأوّل باسم آخر مُرادِفٍ له، يكون أشهرَ منه في العُرْف والاستعمالِ، من غيرِ أن يتضمّن شيئًا من أحوالِ الذات. وهذا معنى قوله: "ينزل من المتبوع منزلةَ الكلمة المستعمَلة من الغريبة إذا تُرْجمتْ بها"، أي: إذا فُسرت بها. وجملةُ الأمر أنّ عطف البيان يُشْبِه الصفةَ من أربعةِ أوجهٍ: أحدُها: أنّ فيه بيانًا للاسم المتبوع كما في الصفة. الثاني: أن العامل فيه هو العاملُ في الأوّل المتبوع، بدليلِ قولك: "يا زيدُ زيدٌ وزيدًا" بالرفع على اللفظ، والنصبِ على الموضع، كما تقول: "يا زيدُ الظريفُ، والظريفَ"، و"يا عبدَ الله زيدًا" بالنصبَ، كما تقول: "يا عبدَ الله الظريفَ". الثالثُ: أنّه جارٍ عليه في تعريفه كالصفة. الرابعُ: امتناعُه أن يجري على المضمر كما يمتنِع من الصفة. ويُفارِقها من أربعةِ أوجهٍ: أحدُها: أنّ النعت بالمشتقّ أو ما ينزِل منزلةَ المشتقّ على ما تقدّم، ولا يلزم ذلك في عطف البيان؛ لأنّه يكون بالجَوامِد.
فصل [الفرق بين عطف البيان والبدل]
الثاني: أنّ عطف البيان لا يكون إلَّا في المعارف، والصفةُ تكون في المعرفة والنكرة. الثالثُ: أن النعت حكمُه أن يكون أعمَّ من المنعوت، ولا يكون أخصّ منه، ولا يلزم ذلك في عطف البيان. ألا ترى أنّك تقول: "مررتُ بأخيك زيدٍ" و"زيدٌ" أخصُّ من أخيك؟ الرابعُ: أن النعت يجوز فيه القطعُ، فينتصبُ بإضمار فعلٍ، أو يرتفع بإضمار مبتدأ، ولا يجوز ذلك في عطف البيان، فاعرفه. فصل [الفرق بين عطف البيان والبدل] قال صاحب الكتاب: والذي يفصله لك من البدل شيئان أحدهما قول المرار [من الوافر]: 434 - أنا ابن التارك البكري بشرٍ ... عليه الطير ترقبه وقوعا لأن بشرًا لو جعل بدلًا من "البكري" والبدل في حكم تكرير العامل, لكان "التارك" في التقدير داخلا على "بشر". والثاني أن الأول ههنا هو ما يعتمد بالحديث، وورود الثاني من أجل أن يوضح أمره, والبدل على خلاف ذلك, إذ هو كما ذكرت المعتمد بالحديث, والأول كالبساط لذكره. * * * ¬
قال الشارح: عطفُ البيان له شَبَه ببدلِ الشيء من الشيء، وهو هو من حيث أنّ كلّ واحد منهما تابعٌ، وأنّ الثاني هو الأوّل في الحقيقة. فلذلك تَعرّضَ للفصل بينهما. وجملةُ الأمر أنّ عطف البيان يُشْبه البدل من أربعة أوجهٍ: أحدها: أن فيه بيانًا كما في البدل. الثاني: أنّه يكون بالأسماء الجوامِد كالبدل. الثالثُ .... الرابعُ: أن يكون لفظُه لفظ الاسم الأوّل على جهةِ التأكيد كما كان في البدل كذلك، كقولك: "يا زيدُ زيدٌ زيدًا"، كما تقول "يا زيدُ زيدُ". وعلى ذلك قول رُؤْبَة [من الرجز]: إنّي وأسّطارٍ سُطِرْنَ سَطرَا ... لَقائلٌ يا نَصرُ نصرٌ نصرَا (¬1) ويُفارِقه من أربعةِ أوجهٍ: أحدها: أنّ عطف البيان في التقدير من جملة واحدة بدليل قولهم: "يا أخانا زيدًا"، والبدلُ في التقدير من جملةٍ أخرى على الصحيح بدليل قولهم: "يا أخانا زيدُ". الثاني: أنّ عطف البيان يجري على ما قبله في تعريفه، وليس كذلك البدلُ, لأنّه يجوز أن تُبدَل النكرة من المعرفة، والمعرفةُ من النكرة، ولا يجوز ذلك في عطف البيان. الثالثُ: أنّ البدل يكون بالمظهر والمضمر، وكذلك المبدل منه، ولا يجوز ذلك في عطف البيان. الرابعُ: أنّ البدل قد يكون غيرَ الأوّل، كقولك: "سلب زيدٌ ثَوْبُه"، وعطفُ البيان لا يكون غيرَ الأوّل. وتَبيَّن الفرقُ بينهما بيانًا شافيًا في موضعَيْن: أحدُهما: النداء، نحو قولك: "يا أخانا زيدًا"، ولو كان بدلًا، لقلت "يا أخانا زيدُ" بالضمّ، ولم يجز نصبُه، ولا تنوينُه؛ لأنّه من جملةٍ أخرى غيرُ الأوّل، كأنّك قلت: "يا أخانا يا زيدُ"، فالعاملُ الذي هو"يا" في حكم التكرير. وكذلك تَبيّن الفرقُ بينهما في، قولك: "أنا الضارب الرجلِ زيدٍ"، إن جعلتَ "زيدًا" عطفَ بيانٍ، جازت المسألةُ، وإن جعلته بدلًا، لم تجز؛ لأن حَدّ عطف البيان أن تجرى الأسماء الصريحةُ مجرى الصفات، فيعمل فيه العاملُ، وهو في موضعه، بواسطةِ المتبوع، والبدلُ يعمل فيه العاملُ على تقديرِ تَنْحِيَةِ الأوّل، ووَضْعِه موضعَه مباشِرًا للعامل. فأمَّا قولُ المَرّار الأسَديّ [من الوافر]: أنا ابن التارِكِ البَكْرِيِّ بِشْرٍ ... إلخ ¬
فإنّ الشاهد فيه أنّه أضاف "التارك" إلى "البكريّ" على حدّ "الضارب الرجلِ"، تشبيهًا بـ "الحسن الوجهِ"، وخَفَضَ "بشرًا" عطفَ بيانٍ على "البكريّ"، وأجراه عليه جَرْيَ الصفة على الموصوف. هذا مذهبُ سيبويه (¬1)، ولو كان بدلًا، لم يجز "التاركِ بشرٍ"؛ لأنّ حكمَ البدل أن يُقدَّر في موضعِ الأوْل. وقد أنكر أبو العبّاس محمّد بن يزيد جوازَ الجر في "بشرٍ" عطفَ بيان كان، أو بدلًا، وكان يُنشِد البيتَ: أنا ابنُ التاركِ البكريّ بشرا بالنصب. والقولُ ما قاله سيبويه، للسَّماع والقياس. فأمّا السماعُ، فإنّ سيبويه رواه مجرورًا. قال: سمعناه ممّن يُوثَق به عن العرب (¬2). ولا سبيلَ إلى رَدّ روايةِ الثقة. وأمّا القياس، فإنّ عطف البيان تابعٌ كالنعت، وقد يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع، ألا ترى أنّك تقول: "يا أيُّها الرجلُ ذو الجُمَّة"، فتجعل "ذو الجُمّة نعتًا" للرجل، ولا يجوز أن يقع موقعَه؟ وكذلك تقول: "يا زيدُ الطويلُّ"، ولا يجوز: "يا الطويلُّ". وأمّا معنى البيت، فإنّه وصف أباه بأنّه صرع رجلًا من بَكْرٍ، فوقعتْ عليه الطّيْرُ، وبه رَمَقٌ، فجعلتْ ترقُب موتَه لِتتناولَ منه. و"الوقوعُ" جمعُ "واقعٍ" كـ"جالِسٍ"، و"جُلُوسٍ"، وهو ضِدُّ الطائر. ونصبُه على الحال، إمّا من المضمر المَستكِنّ في "عَلَيْهِ"، وإمّا من المضمر المرفوع في "ترقبه". ومن الفصل بين البدل وعطف البيان أن المقصود بالحديث في عطف البيان هو الأوّلُ، والثاني بيانٌ كالنعت المستغنى عنه، والمقصودُ بالحديث في البدل: هو الثاني؛ لأنّ البدل والمبدل منه اسمان بإزاء مسمَّى مترادِفان عليه. والثاني منهما أشهر عند المخاطب، فوقع الاعتمادُ عليه، وصار الأوّلُ كالتَّوْطِئَة والبِساطِ لذكرِ الثاني، وعلى هذا لو قلت: "زوّجتُك بِنْتِي فاطمةَ"، وكانت عائشَةَ، فإن أردتَ عطفَ البيان، صحّ النكاحُ؛ لأن الغَلَط وقع في البيان، وهو الثاني، وإن أردت البدلَ لم يصح النكاحُ؛ لأنّ الغلط وقع فيما هو معتمَدُ الحديث، وهو الثاني فاعرفه. ¬
العطف بالحرف
العطف بالحرف فصل قال صاحب الكتاب: هو نحو قولك: "جاءني زيدٌ وعمرو", وكذلك إذا نصبت, أو جررت. يتوسط الحرف بين الاسمين, فيشركهما في إعراب واحد, والحروف العاطفة تذكر في مكانها ان شاء الله. * * * قال الشارح: هذا الضرب هو الخامسُ من التوابع، ويُسمَّى عطفًا بحرفٍ, ويسمّى نَسَقًا، فالعطفُ من عباراتِ البصريين، والنسقُ من عبارات الكوفيين. ومعنى العطف الاشتراكُ في تأثيرِ العامل. وأصلُه المَيْلُ، كأنّه أُميل به إلى حَيّزِ الأوّل، وقيل له نسقٌ لمُساواته الأوّل في الإعراب. يقال: ثَغرٌ نَسَقٌ، إذا تَسَاوت أسنانُه، وكلامٌ نسقٌ، إذا كان على نظام واحد. ولا يتبع هذا الضربُ إلَّا بوسيطةِ حرف، نحو: "جاءني زيدٌ وعمروٌ"، فعمروٌ تابعٌ لزيد في الإعراب بواسِطَة حرف العطف الذي هو الواوُ. وكذلك النصب والجرّ، نحو قولك: "رأيت زيدًا وعمرًا"، و"مررت يزيد وعمرو"، وإنَّما كان هذا الضربُ من التوابع لا يتبع إلَّا بتوسُّطِ حرف من قِبَل أنّ الثاني فيه غيرُ الأوّل، فلم يتّصِل إلّا بحرف، إذ كان يأتي بعدَ أن يستوفِيَ العاملُ عملَه، وهو غيرُ الأوّل، فلم يتّصل إلّا بحرف. وأمّا ما كان الثاني فيه الأول، فيتصل بغيرِ حرف كالنعت، وعطف البيان، والتأكيد، والبدلِ، وإن كان يأتي في البدل ما الثاني فيه ليس الأولَ، إلّا أنّه بعضُه، أو معنًى يشتمل عليه، وهو ضميرٌ يُعلَّقه بالأوّل، فلذلك لم يحتج إلى حرف، فأمّا الغلطُ، فليس بقياسٍ مع أنّ البدل مستقِلٌّ بالحديث، ليس في حكم التَّبَع، وإن كان ظاهرُ لفظه يُشعِر بالتَّبَعية. فأمّا أدوات العطف، فتُذكَر في قِسْم الحروف وفاءً بترتيبِ الكتاب، فاعرفه. فصل [عطفُ الضمير والعطف عليه] قال صاحب الكتاب: والمضمر منفصله بمنزلة المظهر: يُعطف ويعطف عليه، تقول جاءني زيد وأنت، ودعوت عمراً وإياك، وما جاءني إلا أنت وزيد، وما رأيت إلا إياك وعمراً. وأما متصله فلا يتأتى أن يعطف ويعطف عليه، خلا أنه يشرط
في مرفوعه أن يؤكد بالمنفصل. تقول ذهبت أنت وزيد، وذهبوا هم وقومك، وخرجنا نحن وبنو تميم. وقال تعالى: {فاذهب أنت وربك} (¬1) وقول عمر بن أبي ربيعة [من الخفيف]: 435 - قُلْتُ إذْ أَقْبَلَتْ وزُهرْ تَهادَى ... [كنِعاجِ الفلا تَعَسَّفْنَ رَمْلا] من ضرورات الشعر، وتقول في المنصوب: "ضربتُك وزيدًا" ولا يقال: "مررتُ به وزيدٍ", ولِكن يُعِاد الجار، وقِراءةُ حَمزَةَ: {والأرحَامِ} (¬2) ليست بتلك القَوِيةِ. * * * قال الشارح: الأسماء في عطفها والعطفِ عليها على أربعةِ أضربٍ: عطفُ ظاهرٍ على ظاهرٍ مثله، وعطفُ ظاهر على مضمر، وعطفُ مضمر على مضمر، وعطفُ مضمر على ظاهر. فأمّا عطف الظاهر على الظاهر، فعلى ضربَيْن: أحدهما: أن تعطِف مفردًا على مفرد، نحو: "جاءني زيدٌ وعمرٌو"، و"رأيت زيدًا وعمرًا"، و"مررت بزيد وعمرو". عطفتَ "عمرًا" على "زيد"، وكلاهما مفردٌ. والغرضُ من ذلك اختصارُ العامل، واشتراكُ ¬
الثاني في تأثيرِ العامل الأوّل. فإذا قلت: "قام زيدٌ وعمرٌو"، فأصله: قام زيدٌ قام عمرٌو، فحذفت "قام" الثانية لدلالة الأُولى عليها، وصار الفعل الأوّلُ عاملًا في المعطوف والمعطوف عليه. هذا مذهبُ سيبويه وجماعةٍ من المحققين، وكان غيره يزعم أنّ العامل في الاسم المعطوف عليه العاملُ المذكورُ. والعاملُ في المعطوف حرفُ العطف بحُكْمِ نِيَابَته عن المحذوف، وهو رأيُ أبي عليّ. فإذا قلت: "قام زيدٌ وعمرٌو"، فالعامل في "زيد" العامل الأوّلُ، والعاملُ في "عمرو" حرفُ العطف. وقال آخرون: العاملُ في المعطوف المحذوفُ، فإذا قلت: "ضربتُ زيدًا وعمرًا"، فالمراد: وضربتُ عمرًا، فحذفت الثانية لدلالةِ الأوُلى عليه، وبقي عملُه في "عمرًا" على ما كان، كما قلت: "زيدٌ عندك" وأصلُه: استقرَّ عندك، ثم حُذفت "استقرّ" لدلالةِ الظرف عليه، وبقي عملُه فيه على ما كان، كذلك ههنا. والآخر عطفُ جملة على جملة، نحو: "قام زيدٌ، وقعد عمرٌو"، و"زيدٌ منطلقٌ، وبكرٌ قائمٌ"، ونحوها من الجُمَل. والغرضُ من عطف الجمل رَبْطُ بعضها ببعضٍ، واتصالُها، والإيذانُ بأنّ المتكلم لم يُرِد قَطْعَ الجملة الثانية من الأُولى، والأَخْذَ في جملةٍ أخرى ليست من الأُولى في شيءٍ. وذلك إذا كانت الجملةُ الثانيةُ أجنبِيّةٌ من الأولى غير ملتبِسة بها، وأُريد اتّصالُها بها، فلم يكن بدٌّ من الواو لرَبْطها بها؛ فأمّا إذا كانت ملتبسةٌ بالأَولى بأن تكون صفة، نحو: "مررت برجل يقوم"، أوَ حالًا، نحو: "مررت بزيدٍ يكتُب"، ونحوها, لم تحتج إلى الواو، فاعرفه. وأمّا المضمر فعلى ضربَيّن: منفصلٌ ومتّصلٌ. فالمنفصلُ بمنزلةِ الظاهر. والمراد بالمنفصل عدمُ اتّصاله بالعامل فيه، نحو: "أنَا"، و"أنْتَ"، و"هُوَ"، وستُذكَر في موضعها، وإنما كانت بمنزلةِ الظاهر لعدمِ اتّصالها بما يعمل فيها، واستقلالِها بأنفسها كما كانت الظاهرةُ كذلك. والذي يُؤيِّد عندك ذلك أنّك تقول: "إيّاك ضربتَ"، و"إيايَ ضربتُ"، كما تقول: "ضربتَ نفسَك"، و"ضربتُ نفسي"، ولا تقول: "ضربتُني"، ولا "ضربتَك" لاتّحادِ الفاعل والمفعول بالكُلّية، وإذ كان الضميرُ المنفصلُ عندهم جاريًا مجرى الظاهر، ومتنزِّلًا منزلتَه، كان حكمُه كحُكْمه، فلذلك تعطِفه، وتعطف عليه كما تفعل بالأسماء الظاهرة، فتقول في عطفِ الظاهر على المضمر: "أنت وزيدٌ قائمان"، و"إيّاك أكرمتُ وعمرًا"، وتقول في عطف المضمر على الظاهر: "زيدٌ وأنت قائمان"، و"ضربتُ زيدًا وإيّاك". قال الشاعر [من البسيط]: 436 - مُبَرَّأٌ من عُيُوبِ الناس كُلِّهِمِ ... فاللهُ يَرْعَى أبا حَرْبٍ وإيّانا ¬
عطف "إيّانا" على الظاهر الذي هو "أبا حرب". وتقول في عطف المضمر على المضمر "أنتَ وهو قائمان"، و"إيَّاك وإيّاه ضربتُ". قال الشاعر [من مجزوء الرمل]: 437 - لَيتَ هذا الليلَ شَهْرٌ ... لا نَرَى فيه عَرِيبَا ليس إيّايَ وإيّاكِ ... ولا نَخشَى رَقِيبَا وأمّا المضمر المتصل، فلا يصح عطفُه؛ لاتّصاله بما يعمل فيه. والعطفُ إنّما هو اشتراكٌ في تأثيرِ العامل، ومحالٌ أن يعمل في اسم واحد عاملان في وقت واحد. ¬
وأمّا العطفُ عليه، فإنّه لا يخلو من أن يكون مرفوعَ الموضع، أو منصوبَ الموضع، أو مجرورَ الموضع. فإن كان مرفوع الموضع، لم يجز العطفُ عليه إلَّا بعد تأكيده، نحو: "زيدٌ قام هو وعمرٌو"، و"قمتُ أنا وزيد". قال الله تعالى: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (¬1)، لما أراد العطفَ على الضمير في "اسكن"؛ أكّد بالضمير المنفصل، ثمّ أتى بالمعطوف. ومثله قوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} (¬2). أكد الضميرَ المرفوعَ في "يراكم"، ثم عطف عليه. ولو قلت: "زيدٌ قام وعمرٌو" بعطفِ "عمرو" على المضمر المستكِنّ في الفعل، لم يجز، ولكان قبيحًا، إلَّا أن يطول الكلامُ، ويقع فصلٌ، فيحنئذٍ يجوز العطفُ، ويكون طُولُ الكلام، والفاصلُ سادًّا مَسَدَّ التأكيد، نحو قوله تعالى: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ} (¬3) بالرفع في قِراءةِ بعضهم، فإنه عطف "الشركاء" على المضمر المرفوع في "أجمعوا" حين طال الكلامُ بالمفعول. ونحوه قوله: {مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} (¬4)، عطف "الآباء" على المضمر المرفوع حين وقع فصلٌ بين حرف العطف، والمعطوف بحرف النفي وهو "لا"؛ فأما قوله [من الخفيف]: قلتُ إذْ أقبَلَتْ وزُهْرٌ تَهادَى ... كنِعاجِ المَلا تَعَسَّفْنَ رَمْلَا قد تَنَقَّبنَ بالحَرِيرِ وأَبْدَيْنَ ... عُيُونًا حُورَ المَدامِعَ نُجْلَا فإن الشعر لعمر بن أبي رَبيعَةَ، والشاهدُ فيه عطفُ "زُهْرٍ" على المضمر المستكِنّ في الفعل ضرورة. وكان الوجهُ أن يقول: "إذ أقبلت هي وزُهْرٌ"، فيُؤكِّد الضمير المستكنَّ لِيقوَى، ثمّ يعطِف عليه. والزُّهْرُ: جمعُ زَهْراءَ، وهي البيضاء المُشْرِقة. وتَهادَى أي يَمْشِين مَشْيًا رُوَيْدًا بسكونٍ. والنِّعاجُ: بَقَرُ الوَحْش، شبّه النساء بها في سكون المَشْي فيه. وتعسّفن: ركبن. وإذا مشت في الرمل كان أسكنَ لمَشيها لصُعوبة المشي فيه. والمَلا: الفَلاةُ الواسعةُ. ومع ذلك فإنّه يتفاوَتُ قُبْحُه، فقولُك: "زيدٌ ذهب وعمرٌو"، أو" قُمْ وعمرٌو" أقبحُ من قولك: "قمتُ وعمرٌو"؛ لأن الضمير في "قمتُ" له صورةٌ، ولفظٌ، وليس له في قولك: "قُمْ وعمرٌو" صورةٌ. وقولُك: "قمتُ وزيدٌ" أقبحُ من قولك: "قُمْنَا وزيدٌ"؛ لأنّ الضمير في"قمتُ" على حرف واحد، فهو بعيدٌ من لفظِ الأسماء، والضميرُ في"قُمْنَا" على حرفَين، فهو أقربُ إلى الأسماء. وعلى هذا، كلَّما قوِي لفظُ الضمير، وطال، كان العطفُ عليه أقلَّ قُبحًا. ¬
فإن قيل: ولِمَ كان العطفُ على الضمير المرفوع من غير تأكيد قبيحًا؟ قيل: لأنّ هذا الضمير فاعلٌ، وهو متصلٌ بالفعل، فصار كحرفٍ من حروف الفعل؛ لأنّ الفاعل لازمٌ للفعل، لا بدّ له منه، ولذلك تُغيَّر له الفعل، فتقول: "ضربْتُ وضربْنَا"، فتُسكِّن الباء، وقد كانت مفتوحةً. وكونُه متّصلًا غيرَ مستقِل بنفسه يُؤكِّد ما ذكرنا من شدّةِ اتصاله بالفعل. وربّما كان مستتِرًا مستكِنًّا في الفعل، نحو: "قُمْ"، و"اضْرِبْ" و"زيدٌ قام، وضرب"، ونحو ذلك. وإذ كان بمنزلةِ جزء منه وحرفٍ من حروفه، قبُح العطفُ عليه؛ لأنّه يصير كالعطف على لفظ الفعل. وعطفُ الاسم على الفعل ممتنِعٌ. وإنّما كان ممتنعًا من قِبَل أنّ المراد من العطف الاشتراكُ في تأثيرِ العامل، وعواملُ الأفعال لا تعمل في الأسماء، لا بل ربّما كان الفعلُ مبنيًّا إمّا ماضيًا، وإمّا أمرًا، فلا يكون له عاملٌ، فلذلك قبُح أن تقول: "قمتُ وزيدٌ" حتى تقول: "قمتُ أنا وزيدٌ"، فتُؤكِّده، فيكون التأكيدُ مُنبِّهًا على الاسم، ويصير العطفُ كأنه على لفظِ الاسم المؤكِّد، وإن لم يكن في الحقيقة معطوفًا عليه. إذ لو كان معطوفًا عليه، لكان تأكيدًا مثله. وليس الأمر كذلك، لأن المراد إشراكُه في عملِ الفعل، لا في التأكيد. وإن كان المضمر المتّصل منصوبَ الموضع، نحو الهاء في "ضربتُه"، والكاف في "ضَرَبَك"، جاز العطفُ عليه من غير تأكيد. فإن أكّدتَه كان أحسنَ شيء. فإن لم تُؤكِّده، لم يمتنِع العطفُ عليه، فتقول: "ضربتُه وزيدًا"، و"أكرمتُه وعمرًا". قال الشاعر [من الوافر]: فإنّ اللهَ يَعْلَمُنِي ووَهْبًا ... [وَيعلَمُ أنْ سَيَلْقاهُ كِلانا] (¬1) عطف "وهبًا" على الياء في "يعلمني" من غيرِ تأكيد، وذلك من قِبَل أنّ الضمير المنصوب فَضْلةٌ في الكلام يقع كالمستغنَى عنه، ولذلك يجوز حذفُه وإسقاطُه، نحو قولك: "ضربتُ"، و"قتلتُ"، ولا تذكر مفعولًا، وإنّما اتّصل بالفعل من جهةِ اللفظ. والتقديرُ فيه الانفصالُ، ولذلك لا تُغيِّر له الفعلَ من جهةِ اللفظ، فتقول: "ضَرَبَكَ"، وَ"ضَرَبَهُ"، فيكون آخِرُ الفعل مفتوحًا، كما كان قبل اتّصالِ الضمير به. وأمّا إذا كان الضميرُ مخفوضًا، لم يجز العطفُ عليه إلّا بإعادة الخافض، لو قلت: "مررت بك وزيد"، "أو به وخالدٍ" لم يجز حتّى تُعِيدَ الخافضَ، فتقول "مررت بك وبزيدٍ، وبه وبخالدٍ"؛ من قِبَل أنّ الضمير صار عِوَضًا من التنوين. والدليلُ على استوائهما قولُهم: "يا غلامِ"، فيحذفون الياء التي هي ضميرٌ كما يحذفون التنوينَ. وإنّما استويَا؛ لأنّهما يجتمِعان في أنّهما على حرف واحد، وأنّهما يُكمِّلان الاسم الأوّل، ولا يُفصَل بينهما, ولا يصحّ الوقفُ على ما اتّصلا به دونهما. وليس كذلك الظاهرُ المجرورُ, لأنّه قد يُفصَل بالظرف بينهما، نحو قوله [من السريع]: لَمَّا رَأَتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ ... للهِ دَرُّ اليومَ مَن لَامَهَا (¬2) ¬
والمراد: لله درُّ من لامها اليوم، ومثله قول الآخر [من البسيط]: كأن أصْوَاتَ مِن إيغالِهِنَّ بنا ... أواخِرِ المَيْسِ أصْواتُ الفَرارِيجِ (¬1) والمراد: أصواتَ أواخرِ الميس، ففصل بينهما بالجارّ والمجرور ضرورة، ولو كان مكانَ الياء ظاهرٌ في نحو: "يا عِبادِ"، لَمَا حُذف. وقال أبو عثمان: لما صحّ "مرّ زيدٌ وأنتَ"، صحّ "مررتَ أنتَ وزيدٌ"، ولمّا صحّ "كلّمتُ زيدًا وإيّاك"، صحّ "كلّمتُك وزيدًا". ولمّا امتنع "مررتُ بزيدٍ وَكَ"؛ امتنع "مررت بك وزيدٍ"؛ لأنّ المعطوف والمعطوف عليه شَرِيكان، لا يصح في أحدهما إلَّا ما صحّ في الآخر. فلمّا لم يكن للمخفوض ضميرٌ منفصلٌ يصح عطفُه على الظاهر، لم يصح عطفُ الظاهر عليه، فلمّا لم يصحّ، وأُريد ذلك، أُعيد الخافض، وصار من قبيل عطف الجملة على الجملة، إذ كان عاملًا ومعمولًا، ولم يجز ذلك إلا في ضرورة الشعر، نحو قوله [من البسيط]: 438 - فاليوم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتِمُنَا ... فاذْهَبْ فما بك والأيّامِ من عَجَبِ عطف"الأيّام" على المضمر المتّصل بالباء. وذلك قبيحٌ، إنما يجوز في ضرورة الشعر دون حالِ الاختيار، وسَعَةِ الكلام. ¬
وأمّا قولُه تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (¬1) بجرّ "الأرحام" في قراءة حَمْزَةَ، فإن أكثرَ النحويين قد ضَعَّفَ هذه القراءة نَظَرًا إلىَ العطف على المضمر المخفوض. وقد ردّ أبو العبّاس محمّدُ بن يزيد هذه القراءة، وقال: لا تَحِلُّ القراءةُ بها. وهذا القول غيرُ مَرْضيّ من أبي العباس, لأنّه قد رواها إمامٌ ثِقَةٌ، ولا سبيلَ إلى رَدِّ نَقْلِ الثقة مع أنّه قد قرأتْها جماعةٌ من غيرِ السبْعة كابن مسعود، وابن عبّاسٍ، والقاسم، وإبراهيمَ النخعي، والأَعْمَش، والحسن البصري، وقَتادَةَ، ومُجاهِدٍ. وإذا صحّت الروايةُ، لم يكن سبيلٌ إلى رَدّها. ويحتمِل وجهَيْن آخَرَيْنَ غيرَ العطف على المكنيّ المخفوضِ. أحدهما: أن تكون الواو واو قَسَم، وهم يُقْسِمون بالأرحام ويُعظِّمونها، وجاء التنزيلُ على مقتضَى استعمالهم، ويكون قولُه: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (¬2) جواب القسم. والوجهُ الثاني: أن يكون اعتقد أن قبله باءً ثانية حتى كأنّه قال: "وبالأرحام"، ثم حذف الباء, لتقدُّمِ ذكرها كما حذفت في نحو قولك: "بِمَن تَمُرُّ أَمُرُّ"، و"على من تنزِلُ أنزِل"، ولم تقل: "أمرّ به"، و"لا أنزلُ عليه"؛ لأنّها مثلُها في موضعِ نصب، وقد كثُر عنهم حذفُ حرف الجرّ، وأُنشد [من الخفيف]: رَسْمِ دارٍ وقفتُ في طَلَلِهْ ... كِدْتُ أَقْضِي الحياةَ مِن جَلَلِهْ (¬3) والمراد: ربُ رسم دار وقفتُ في طلله. وكان رُؤْبَةُ إذا قيل له: كيف أصبحتَ؟ يقول: "خَير عافاك الله"، أي: بخير فيحذف الباء لدلالةِ الحال عليه. وحذفُ حرف الجرّ ههنا، وتَبْقيةُ عمله من قبيلِ حذف المضاف في قوله [من المتقارب]: أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسِبِينَ امْرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدَ بالليلِ نارَا (¬4) والمراد: وكلَّ نار، إلَّا أنّه حذف "كُلاًّ" الثانيةَ لتقدُّم ذكرها، وبقى عملها. ومثلُه قول الآخر [من الطويل]: 439 - تُعلَّق في مِثْلِ السَّوارِي سُيُوفُنا وما بَيْنَهَا والكَعْبِ غُوطٌ نَفانِفُ ¬
والمراد: وما بينها وبين الكعب، إلّا أنّه حذف الظرفَ لتقدُّمِ ذكره، وبقى عملَه. إلَّا أنّ حذفَ المضاف أسهلُ أمرًا، وأقربُ متناوَلًا؛ لأن حرف الجرّ يتنزّل منزلةَ الجُزْء ممّا جَرَّه، ولا يجوز الفصل بينهما بظرفٍ، ولا غيرِه، ويُحكَم عليهما بإعرابٍ واحدٍ. وليس كذلك المضافُ والمضاف إليه. ونظيرُ الآية قولُ الشاعر، أنشده المُبَرِّدُ في الكامل [من البسيط]: فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتِمُنَا ... فاذْهَبْ فما بك والأيّامِ من عَجَبِ (¬1) والقول فيه كالآية فاعرفه إن شاء الله تعالى. ¬
المبني
ومن أصناف الاسم المبني فصل [تعريفه وسبب بنائه] قال صاحب الكتاب: وهو الذي سكونُ آخرِهِ وحركتُه لا بعاملٍ. وسببُ بِنائه مُناسَبتُه ما لا تمكُّنَ له بوجهٍ قريب أو بعيدٍ، بتضمُّنِ معناه، نحو: "أَيْنَ"، و"أَمْسِ"؛ أو شَبَهِه كالمُبهَمات؛ أو وُقوعِه موقعَه كـ "نَزالِ"؛ أو مُشاكَلتِه للواقع موقعَه كـ "فَجارِ"، و"فَساقِ"؛ أو وقوعِه موقعَ ما أَشبَهَه، كالمُنادَى المضموم؛ أو إضافته إليه، كقوله عزّ وعلا: {مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ} (¬1) و {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} (¬2) فيمَن قرأهما بالفتح. وقول أبي قَيْسِ بن رِفاعةَ [من البسيَط]: 440 - لم يَمْنَعِ الشّرْبَ منها غَيرَ أن نَطَقَتْ ... حَمامةٌ في غُصون ذاتِ أَوْ قالِ ¬
وقول النابغة [من الطويل]: على حِينَ عاتَبتُ المَشِيبَ على الصِّبا ... [وقلتُ: أَلمّا أَصْحُ والشَّيبُ وَازعُ] (¬1) * * * قال الشارح: البناء يُخالِف الإعرابَ, ويُضادّه من حيث كان البناء لزومَ آخر الكلمة ضربًا واحدًا من السكون، أو الحركةِ، لا لشيءٍ أحدثَ ذلك من العوامل، فحركةُ آخِره كحركةِ أوّله في اللزوم والثَّباتِ بخلافِ الإعراب. وإنّما سُمي بناءً؛ لأنّه لمّا لزِم ضربًا واحدًا, ولم يتغير تغيُّرَ الإعراب. سُمّي بناءً. مأخوذٌ من بناء الطين والآجُرِّ؛ لأنّ البناء من الطين والآجرّ لازمٌ موضعَه، لا يزول من مكان إلى غيره. وليس كذلك ما ليس ببناء من نحو الخَيْمة، وبيتِ الشّعْر، فإنّها أشياءُ منقولةٌ من مكان إلى مكان. والقياس في الأسماء أن تكون معرَبةً كلُّها من قِبَل أنها سِماتٌ على مسمَّيات، وتلك المسمّياتُ قد يُسنَد إليها فعلٌ، فتكون فاعلةٌ، وقد يقع بها فعلٌ، فتكون مفعولةٌ، وقد يضاف إليها غيرُها على سبيلِ التعريف، فاستحقّتِ الإعرابَ للدلالة على هذه المعاني المختلِفة. وما بُني منها، فبالحَمْل على ما لا تمكُّنَ له من الحروف والأفعالِ، لضرب من المناسَبة. فالمبنىُّ من الأسماء هو الخارجُ من التمكّن إلى شَبَهِ الحروف، أو الأفعالِ. والمرادُ بالتمكّن في الأسماء تعاقُبُ التعريف والتنكير بالعَلامة عليه، وأمّا ما لا تمكُّنَ له، فلا يتعرّف نكرتُه، ولا يتنكر معرفتُه. فـ "رَجَلٌ"، و"فَرَسٌ" متمكِّنان لتعاقُبِ التنكير والتعريفِ عليهما، نحو قولك: "رجلٌ، وفرسٌ، والرجل، والفرس"؛ وأمّا "زيدٌ" و"عمرٌو" ونحوهما من الأعلام، فمتمكِّنان، لأنّهما قد يتنكّران، إذا ثُنيا، فيقال: "الزيدان"، و"العمران" إذا أُريد تعريفُهما، وأمّا "هذا" ونحوه، فإنّه غيرُ متمكِّن؛ لأنّك لا تقول: "الهذان"؛ وأمّا "كَمْ"، و"كَيْفَ"، ونحوهما، فإنّهما غيرُ متمكِّنَيْن؛ لأنهما نكرتان لا تتعرّفان. والأسباب المُوجِبة لبناءِ الاسم ثلاثةٌ: تضمُّنُ معنى الحرف، ومشابَهةُ الحرف، والوقوعُ موقعَ الفعل المبنيّ، فكل مبنيّ من الأسماء فإنّما سببُ بنائه ما ذُكر، أو راجعٌ إلى ما ذُكر، فـ "أَيْنَ" و"كَيْفَ" ونظائرُهما بُنيا لتضمُّنهما معنى الحرف. والأسماء المضمرة، والموصولةُ، ونظائرُها مبنية لمضارعة الحرف. والفرقُ بين ما تَضمَّن معنى الحرف، وما ضارَعَه أن مضارَعَة الحرف إنّما هي مشابَهةٌ بينهما في خاصّة من خَواصّ ¬
الحرف. والمرادُ بالحرف جنسُ الحروف، لا حرفٌ مخصوصٌ على ما سيُذكر في موضعه. وتضمُّنُه معنى الحرف أن يُنوَى مع الكلمة حرفٌ مخصوصٌ، فيُفيد ذلك الاسمُ فائدةَ ذلك الحرف المنويِّ حتّى كأنّه موجود فيه، وكأنّ الاسمَ وعاءٌ لذلك الحرف. ولذلك قيل: تَضمَّن معناه، إذ كل شيء اشتمل على شيء، فقد صار متضمِّنًا له. ألا ترى أن "أَيْنَ"، و"كَيْفَ" يُفيدان الاستفهامَ، كما تفيده الهمزةُ في قولك: "أفي الدار زيدٌ"؟ و"نَزالِ"، "وتَراكِ"، ونحوهما من أسماء الأفعال بُنيا لأنهما وقعا موقعَ "انْزِلْ"، و"اتْرُكْ". فهذه أصولُ عِلَلِ البناء. فقوله: و"سببُ بنائه مناسَبتُه ما لا تمكُنَ له بوجهٍ قريبٍ، أو بعيدٍ" يريد مناسبةَ الحرف، أو فعلِ الأمر، فإنّه لا تمكُّنَ لهما بوجهٍ، بخلاف الأسمَاء المبنيّة، فإنّ لها تمكُّنًا في الأصل. وبعضُها أقربُ إلى المتمكِّنة من بعضٍ. فأقربُها من المتمكِّنة ما كان مبنيًا على حركة، نحو: "يا زيدُ"، و"يا حَكَمُ". وأبعدُها منها ما كان مبنيًا على السكون، إذ الأسماء المتمكنةُ متحرِّكة متصرِّفةٌ، فأراد أنّها في البناء محمولةٌ على ما لا حظَّ له في التمكّن بوجه قريب، نحو الأسماء المبنيّة على حركة، ولا بوجه بعيد، نحو الأسماء المبنيّة على السكون، وما عدا ذلك فمحمولٌ عليها، أو راجعٌ إليها، نحو: "فَجارِ"، و"فَساقِ، فإنهما، وإن لم يكونا واقعَيْن موقعَ الفعل، فإنّهما مضارِعان لِما وقع موقعَه، وهو "نَزالِ"، و"تراكِ"، فبُنيا كبنائه، ونحو المنادَى في "يا زيدُ"، ونحوه ممّا هو مفردٌ، فإنّه، وإن لم يكن مشابِهًا للحرف، فهو واقعٌ موقعَ "أَنْتَ" من حيث كان مخاطبًا. وأسماء الخطاب مبنيّةٌ، وستُذكَر مستوفًى. فأمّا "يومَئذٍ"، و"حينَئذٍ"، و"ساعتَئذٍ"، ففيه وجهان: البناء والإعرابُ. فالإعرابُ على الأصل، والبناء لأنّه ظرفٌ مبهمٌ أضيف إلى غير متمكِّن من الأسماء، فاكتسى منه البناء؛ لأنّ المضاف يكتسي من المضاف إليه كثيرًا من أحكامه، وقد أجروا "غيرًا"، و"مِثْلًا" مُجرى الظرف في ذلك؛ لإبهامهما، نحو قوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (¬1)، فإن "مثلًا" مبنيةٌ لإضافتها إلى غير متمكّن، وهو أمثل وُجوهها. فأمّا قوله [من البسيط]: لم يمنع الشِّرْبَ منها غيرَ أن نطقتْ ... إلخ فالبيت لأبي قَيْسِ بن رِفاعةَ، وقيل: لرجلٍ من كِنانَةَ. والشاهدُ فيه أنّه بنى"غيرًا" على الفتح؛ لإضافتها إلى غير متمكّن، وإن كان في موضع رفع. فإن قيل: فـ "أَنْ" والفعلُ في تأويلِ المصدر، وكذلك "أنَّ" المشدَّدةُ مع ما بعدها، والمصدرُ اسمٌ متمكّنٌ، فحينئذ "غَيْرٌ"، و"مثْلٌ" قد أضيفتا إلى متمكّنٍ، فلِمَ وجب البناء؟ ¬
[علامة البناء]
قيل: كونُ "أنْ" مع الفعل في تقدير المصدر شيءٌ تقديريٌّ، والاسمُ غير ملفوظٍ به، وإنّما الملفوظُ به فعلٌ وحرفٌ، فلمّا أضيفتا إلى ما ذكرنا، مع لزومهما الإضافةَ، بُنيتا معها؛ لأنّ الإضافة بابُها أن تقع على الأسماء المفردةِ. فلمّا خرجتْ ها هنا عن بابها، بُني الاسم، وسيوضح بأكثرَ من ذلك. يقول: لم يمنعْنا من التعريج على الماء إلَّا صوتُ حمامةٍ ذكّرتْنا من نُحِبُ، فَهَيَّجَنا، وحَثَّنا على السَّيْر. والأَوْقال: الأعالِي، ومنه التَّوَقُّلُ وهو الصُّعود فيه. ونحو ذلك قول النابغة [من الطويل]: على حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبا ... وقلتُ: أَلمَّا أَصْحُ والشَّيْبُ وازعُ (¬1) الشاهد فيه إضافةُ "حِينَ" إلى الفعل الماضي، وبناؤه لذلك على الفتح، والإعرابُ جائزٌ على الأصل، غيرَ أنّ البناء ههنا أوجهُ منه في قوله: "غيرَ أن نطقتْ"؛ لأنّ الظرف ههنا مضافٌ إلى فعل محضٍ، وفي قوله: "غيرَ أن نطقت" مضافٌ إلى اسم متأوَّلٍ، فكان الإعرابُ فيه أظهرَ. وصف أنّه بَكَى على الديار زمنَ مَشِيبه، ومُعاتَبتِه لنفسه على صِباه وطَرَبِه. والوازعُ: الناهي. وأوقعَ الفعلَ على المشيب اتّساعًا. والمعنى: عاتبتُ نفسي على الصِّبا لمكانِ شَيْبي، فاعرفه. [علامة البناء] قال صاحب الكتاب: والبناءُ على السكون هو القياسُ، والعدول عنه إلى الحركة، لأحدِ ثلاثةِ أسباب: للهَرَب من التقاءِ الساكنَين في نحو "هؤُلاءِ"، ولئلاّ يُبتدأ بساكن لفظًا، أو حُكْمًا كالكافَيْن: التي بمعنَى "مِثْلٍ"، والتي هي ضميرٌ، ولعُروضِ البناء، وذلك في نحو"يا حَكَمُ" و"لا رجلَ في الدار"، و {مِن قَبْلُ ومن بَعْدُ} و {خمسةَ عَشَرَ} (¬2). * * * قال الشارح: القياس في كلِّ مبنيّ أن يكون ساكنًا، وما حُرّك من ذلك، فلعِلّةٍ. فإذا وجدتَ مبنيًّا ساكنًا، فليس لك أن تسأل عن سبب سُكونه؛ لأنّ ذلك مقتضَى القياس فيه. فإن كان متحرِّكًا، ذلك أن تسأل عن سبب الحركة، وسبب اختصاصه بتلك الحركة دون غيرها من الحركات. وإنّما كان القياس في كلّ مبني السكونَ لوجهَيْن: أحدهما أنّ البناء ضدُّ الإعراب، وأصلُ الإعراب أن يكون بالحركات المختلِفةِ للدلالةِ على المعاني المختلفة، فوجب أن يكون البناءُ الذي هو ضدُّه بالسكون. والوجه الثاني أن الحركة زيادةٌ مستثقَلةٌ بالنسبة إلى السكون، فلا يُؤتَى بها إلّا لضرورةٍ تدعو إلى ذلك. والأسباب المُوجِبة لتحريكِ المبنيّ أحدُ ثلاثةِ أشياء: الفِرارُ من التقاء الساكنَيْن، والبَداءَةُ بالحرف الساكن لفظًا أو حكمًا، وأن يكون المبنيُّ له حالةُ تمكُّنٍ. فالأوّلُ نحو ¬
"أَيْنَ"، و"هؤُلَاءِ"، و"حَيْثُ". أصلُ حركةِ التقاء الساكنين الكسرة، وإنّما يُعدَل عنها لضربٍ من الاستحسان من قِبَلِ أنّا رأينا الكسرةَ لا تكون إعرابًا إلَّا باقترانِ التنوين بها، أو ما يقوم مقامَه، وقد تكون الضمّةُ والفتحةُ إعرابَيْن من غيرِ تنوين يصحَبُهما, ولا شيء يقوم مقامَ التنوين، نحو ما لا ينصرِف، والأفعالِ المضارِعة، فإذا اضطُررنا إلى تحريكِ الساكن، حرّكناه بحركةٍ لا تُوهم فيه الإعرابَ، وهي الكسرةُ. وأمّا تحريكُ الحرف لئلاّ يُبتدأ بساكنٍ، فنحو همزة الاستفهام، وواوِ العطف، وفائِه. والقياسُ في هذه الحروف أن تكون سَواكِنَ، وإنّما الحركةُ فيها لأجلِ وقوعها أوّلًا. وهذا حكمُ كلِّ حرف في أوّلِ كل كلمة يُبتدأ بها من اسمٍ، أو فعلٍ، أو حرفٍ لا يكون إلّا متحرِّكًا. وقولهه: "لفظًا أو حكمًا"، فالمراد باللفظ ما ذكرناه من نحو: واو العطف، وألِف الاستفهام، وكافِ التشبيه في نحو: "زيدٌ كالأسد"، فهذه الحروف ونظائرُها لا تكون أبدًا إلَّا مفتوحةً؛ لوُقوعها أوْلًا لفظًا. وأمّا كونُها أولًا في الحكم، فنحو كاف ضميرِ المفعول من نحو"ضَرَبَكَ"، و"أَكْرَمَك" فهذه الكافُ منفصِلةٌ في الحكم، يُبْدَأُ بها في التقدير. والمفعولُ فضلةٌ غيرُ لازم للفعل، ولذلك لا تُسكِّن له الفعل إذا اتَّصل بضميره، كما سكّنتَه للفاعل. واعلم أنّ أصحابنا يقولون إنّ الابتداء بالساكن لا يكون في كلام العرب. وقد أحالَه بعضهم ومنع من تصوُّره، ولا شُبْهَةَ في الإمكان. ألا ترى أنّه يجوز الابتداءُ بالساكن إذا كان مدّغَمًا، نحو: "ثّاقَلْتُمْ"، "تَّخَذْتُمْ"، في "تَثاقَلْتُمْ"، و"اتَخَذْتُمْ"؟ ويُؤيِّد ذلك وأنّه من لغة العرب أنّهم لم يُخفِّفوا الهمزة إذا وقعتْ أوّلاً بأيِّ حركةٍ تَحرّكتْ، نحو: "أَحْمَدَ" و"إبراهيمَ"، ونحو قوله [من البسيط]: 441 - أَأَنْ رَأَتْ رجلاً أَعْشَى [أضَرَّ به ... رَيْبُ المنون ودهرٌ مُفْنِدٌ خَبِلُ] ¬
لأنّ في تخفيفها تضعيفًا للصوت، وتقريبًا له من الساكن، فامتناعُهم من تخفيف الهمزة مع إمكانِ تخفيفها والنطْقِ بها دليلٌ على أنّ ذلك من لغة العرب. وذلك من قِبَل أنّ المبتدىء بالنطق مستجِمٌّ مستريحٌ، فيُعظِّم صوتَه، والواقفُ تَعِبٌ حَسِرٌ يقِف للاستراحة، فيُضعِّف صوتَه. وأمّا عُروضُ البناء، فإنّ المبنيّ من الأسماء يكون على ضربَيْن: ضربٌ له حالةٌ يكون مُعرَبًا فيها، وإنّما يعرض له البناء في بعضِ الأحوال، نحو: "يا زيدُ" في النداء. وما كان مثله، فإنّه يكون في غير النداء معربًا، وإنّما عرض البناء في النداء، ومثلُه: "لا رجلَ" في النفي، فإنّ البناء عرض له في حالِ النفي، وفي غير النفي يكون معربًا، نحو: "هذا رجلٌ"، و "رأيت رجلًا"، و"مررت برجلٍ". وكذلك {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (¬1) ونحوهما من الغايات، وكالأعداد المركَّبةِ من نحو"خمسةَ عشرَ" إلى "تسعة عشرَ"، فإنّه قبل التركيب كان معربًا. وضربٌ آخرُ لم يكن له حالةُ تمكن البتّةَ، بل لا يكون قط إلَّا مبنيًا، فجُعل لكلِّ واحد منهما مَرْتبةٌ غيرُ مرتبةِ الآخر. ولمّا كان السكونُ أنقصَ من الحركة، بَنَيْنَا عليه ما لم يكن له حَظ في التمكّن، وبنينا على حركةٍ ما كان له حظٌّ في التمكّن، ليكونَ له بذلك فضيلةٌ على المبنيّ الآخر فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وسكون البناء يسمَّى وَقْفًا، وحركاتُه ضَمًّا وفَتْحًا وكَسْرًا، وأنا أسوقُ إليك عامّةَ ما بَنَتْه العربُ من الأسماء، إلَّا ما عَسَى يشِذّ منها، أو قد ذكرناه في هذه المقدمة، في سبعةِ أبواب، وهي: المُضْمَراتُ، وأسماء الإشارة، والمَوْصولاتُ، وأسماءُ الأفعال، والأصْواتُ، وبعضُ الظُروف، والمُرَكَباتُ، والكِناياتُ. * * * قال الشارح: اعلم أنّ سيبويه وجماعةٌ من البصريين قد فصلوا بين ألقابِ حركاتِ الإعراب وسكونِه، وبين ألقاب حركاتِ البناء وسكونِه، وإن كانت في الصورة واللفظ شيئًا واحدًا، فجعلوا الفتحَ المَطلقَ لقبًا للمبنيّ على الفتح، والضمَّ لقبًا للمبنيّ على الضمّ، وكذلك الكسر، والوقفَ. وجعلوا النصبَ لقبًا للمفتوح بعامل، وكذلك الرفعَ والجرَّ والجزمَ. ولا يقال لشيء من ذلك مضمومٌ مطلقًا. لا بدَّ من تقييدٍ لئلا يدخل في ¬
حيّزِ المبنيّات، أرادوا بالمخالفة بين ألقابها إبانةَ الفرق بينهما، فإذا قال: هذا الاسمُ مرفوعٌ، عُلم أنّه بعامل يجوز زَوالُه، وحُدوثُ عامل آخرَ يُحْدِث خِلافَ عَمَله، فكان في ذلك فائدةٌ وإيجازٌ؛ لأنّ قولنا: "مرفوعٌ" يكفي عن أنّ يقال له: مضمومُ ضمّةٍ تزولُ أو ضمّةٍ بعاملٍ. وربّما خالَفَ في ذلك بعضُ الكوفيين، وسمّى ضمّةَ البناء رفعًا، وكذلك الفتح، والكسرَ، والوقفَ. والوجهُ الأوّلُ لِمَا ذكرناه من القياس، ووجهِ الحِكْمة. وتنحصِر المبنياتُ في سبعةِ أبواب: اسم كُني به عن اسم وهو المضمرُ، نحو: "أَنَا"، و"أَنْتَ"، و"هُوَ" ونحوها؛ واسم أُشير به إلى مسمّى وفيه معنى فعلِ نحو "هذا"، و"هذان"، و"هؤلاء"؛ واسمِ قام مقامَ حرفٍ، وهو الموصولُ نحو"الّذي"، و"الّتي"، ونحوهما؛ واسم سُمّي به فَعلٌ، نحو: "صَهْ"، و"مَهْ" وشِبْهِهما؛ والأصواتِ المَحْكيّةِ؛ والظروفِ لم تتمكّن؛ واسمٍ رُكب مع اسمٍ مثلِه. وستَرِدُ عليك مُفصَّلةً إن شاء الله تعالى.
فصل [أنواع الضمير]
فصل [أنواع الضمير] قال صاحب الكتاب: وهي على ضربين متصل ومنفصل. فالمتصل ما لا ينفك عن اتصاله بكلمة، كقولك: أخوك, وضربك, ومر بك. وهو على ضربين بارزٌ, ومستترٌ. فالبارز ما لفظ به, بالكاف في "أخوك". والمستتر ما نوي كالذي في "زيدٌ ضرب". والمنفصل ما جرى مجرى المظهر في استبداده, كقولك: "هو", و"أنت". * * * قال الشارح: لا فَرْقَ بين المضمر والمَكنيّ عند الكوفيين، فهما من قبيلِ الأسماء المترادِفةِ، فمعناهما واحدٌ، وإن اختلفا من جهةِ اللفظ. وأمّا البصريون، فيقولون: المضمراتُ نوعٌ من المكنيّات، فكلُّ مضمر مَكنىٌّ، وليس كلُّ مكنيّ مضمرًا. فالكِنايةُ إقامةُ اسم مُقامَ اسم تَوْرِيَةً وإيجازًا، وقد يكون ذلك بالأسماء الظاهرةِ، نحو: "فُلان"، و"الفُلان"، و"كَيْتَ، وكَيْتَ"، "وكَذَا، وكَذَا". فَفُلان كناية عن أعلام الأناسيّ، والفلان كناية عن أعلام البَهائم، و"كَيْتَ وكَيْتَ" كناية عن الحديث المُدْمَجِ. و"كَذَا وكَذَا" كنايةٌ عن العدد المبهَم. وإذ كانت الكنايةُ قد تكون بالأسماء الظاهرةِ كما تكون بالمضمرة، كانت المضمراتُ نوعًا من الكنايات. وإنّما أُتي بالمضمرات كلَّها لضربٍ من الإيجاز، واحترازًا من الإلباس. فأمّا الإيجاز فظاهرٌ، لأنّك تستغني بالحرف الواحد عن الاسم بكَماله، فيكون ذلك الحرفُ كجُزْءٍ من الاسم، وأمّا الإلباس فلأنّ الأسماء الظاهرة كثيرةُ الاشتراك، فإذا قلت: "زيدٌ فعل زيدٌ"، جاز أنّ يُتوهّم في "زيدٍ" الثاني أنّه غيرُ الأول. وليس للأسماء الظاهرة أحوالٌ تفترِق بها إذا التبست. وإنّما يُزيل الالتباسَ منها في كثيرٍ من أحوالها الصفاتُ، كقولك: "مررت بزيدٍ الطويلِ، والرجلِ البَزّازِ". والمضمراتُ لا لَبْسَ فيها، فاستغنتْ عن الصفات؛ لأنّ الأحوال المقترِنة بها قد تغني عن الصفات. والأحوالُ المقترِنةُ بها حضورُ المتكلّم والمخاطبِ، والمشاهَدةُ لهما، وتقدُّمُ ذكرِ الغائب الذي يصير به بمنزلةِ الحاضر المشاهَد في الحكمَ. فأعرفُ المضمرات المتكلِّمُ؛ لأنّه لا يُوَهِّمك غيره، ثمّ المخاطبُ، والمخاطبُ تِلْوُ المتكلّم في الحضور والمشاهَدةِ. وأضعفُها
تعريفًا كنايةُ الغائب, لأنّه يكون كناية عن معرفةٍ ونكرةٍ حتّى قال بعضُ النحويّين: كنايةُ النكرة نكرةٌ. والمضمرات كلُّها مبنية، وإنّما بُنيت لوجهَيْن: أحدهما: شَبَهُها بالحروف، ووجهُ الشَّبَه أنها لا تستبِدّ بأنفسها، وتفتقِر إلى تقدُّمِ ظاهرٍ ترجِع إليه، فصارت كالحروف التي لا تستبِدّ بنفسها, ولا تُفيد معنى إلّا في غيرها، فبُنيت كبِنائها. والوجهُ الثاني: أنّ المضمر كالجزء من الاسم المظهر، إذ كان قولُك: "زيد ضربته" إنّما أتيتَ بالهاء لتكون كالجزء من اسمه دالاًّ عليه، إلا أنّك ذكرتَ الهاء، ولم تذكر الجزء من اسمه لتكون في كلِّ ما تريد أنّ تُضمِره ممّا تقدّم ذكرُه، فكان لذلك كجزء من الاسم، وجزء الاسم لا يستحقّ الإعرابَ. والمضمر على ضربَيْن: متّصلٌ ومنفصلٌ. فالمتْصلُ: ما كان متّصلًا بعامله. وإنّما قال: "ما لا ينفك عن اتصاله بكلمةٍ"، ولم يقل: بعامل، تحرُّزا من المضاف في نحو: "أخوك" و"شَبِيهك"، فإنّه على رأي جماعةٍ من المحقِّقين العاملُ فيه حرفُ الجرّ المقدَّرُ، لا نفسُ الاسم المضافِ، فلذلك لمَ يُقيِّد اتصاله بالعامل فيه. والمنفصل: ما لم يتصل بالعامل فيه، وذلك بأن يكون مُعَرَّى من عامل لفظيّ، أو مقدَّمًا على عامله، أو مفصولًا بينه وبينه بحرفِ الاستثناء، أو حرف عطف، أو شيء يفصِل بينهما فصلًا لازمًا. فإنّ قيل: ولِمَ كانت المضمراتُ متّصلة ومنفصلةَ، وهلّا كانت كلُّها متّصلةً، أو منفصلةً؟ قيل: القياسُ فيها أنّ تكون كلها متّصلةً؛ لأنّها أَوْجَزُ لفظًا، وأبلغُ في التعريف. وإنّما أُتي بالمنفصل لاختلافِ مواقعِ الأسماء التي تُضمَر، فبعضُها يكون مبتدأْ، نحو: "زيدٌ قائمٌ". فإذا كنيتَ عنه، قلتَ: "هو قائمٌ"، أو"أنت قائمٌ"، إن كان مخاطبًا؛ لأنّ الابتداء ليس له لفظٌ يتصل به الضميرُ، فلذلك وجب أنّ يكون ضميرُه منفصلًا. وبعضُها يتقدّم على عامله، نحو: "زيدًا ضربتُ". فإذا كنيتَ عنه مع تقديمه، لم يكن إلا منفصلًا، لتعذر الإتيان به متّصلًا مع تقديمه، فلذلك تقول: "إيّاه ضربتُ"، أو "إيّاك". قال الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬1)، أتى بالضمير المنفصل لمّا كان المفعولُ مقدَّمًا. وقد يُفصَل بين المعمول وعامله، فإذا كُني عنه لا يكون ضميرُه إلَّا مفصولًا، نحو: "ما ضَرَبَ زيدًا إلَّا أنتَ"، و"ما ضربتُ إلَّا إيّاك"، و"علّمتُ زيدًا إيّاه"، فلذلك كانت متّصلةٌ ومنفصلةٌ، والذي يُؤيِّد عندك ذلك أنّ الاسم المجرور، لمّا كان عاملُه لفظيًا, ولا يجوز تقديمُه عليه، ولا فصلُه عنه، لم يكن له ضميرٌ إلَّا متصلٌ، والمتّصل أَوْغَلُ في شَبَهِ ¬
فصل [تصريف الضمائر]
الحرف لعدم استبداده بنفسه، وأعرفُ من المنفصل على ما ذكرنا، والمنفصلُ جارٍ مجرى الأسماء الظاَهرةِ في استبداده بنفسه، وعدمِ افتقاره إلى ما يتّصل به، فاعرفه. فصل [تصريف الضمائر] قال صاحب الكتاب: ولكل من المتكلم والمخاطب والغائب مذكره ومؤنثه ومفرده مثناه ومجموعه ضمير متصل ومنفصل في أحوال الإعراب، ما خلا حال الجر فإنه لا منفصل لها. تقول في مرفوع المتصل "ضربت ضربنا وضربت", إلى "ضربتن"، وزيد ضرب إلى ضربن. وفي منصوبه "ضربني ضربنا وضربك" إلى "ضربكن" وضربه إلى "ضربهن". وفي مجروره: "غلامي وغلامنا وغلامك" إلى "غلامكن و"غلامه" إلى "غلامهن", وتقول في مرفوع المنفصل: "أنا, نحن, وأنت", إلى "أنتن", و"هو" إلى "هن", وفي منصوبه: "إياي, إيانا, وإياك", إلى "إياكن", و"إياه" إلى "إياهن". * * * قال الشارح: المضمرات ثلاثةُ أقسام: متكلِّمٌ، ومخاطَبٌ، وغائبٌ. وتختلِف ألفاظُها بحسبٍ اختلافِ محلّها من الإعراب، فضميرُ المرفوع غيرُ ضمير المنصوب والمجرور. فإنّ قيل: كيف اختلفتْ صِيَغُ المضمرات، والأسماءُ لا تختلف صيغُها؟ قيل: لمّا كانت الأسماءُ المضمرةُ واقعة موقعَ الأسماء الظاهرة المعربةِ، وليس فيها إعرابٌ يدل على المعاني المختلفة فيها، جعلوا تغيُّرَ صيغها عوضًا من الإعراب، إذ كانت مبنيّة. ولكل واحد من المضمرات ضميران: متّصلٌ، ومنفصلٌ، ما خلا حالَ الجرّ، فإنّه لا منفصلَ له، فلا يكون إلَّا متّصلًا. فتقول في ضمير المرفوع المتّصلِ: "ضربت"، إذا كان المتكلّمُ وحدَه بتاء مضمومة يستوي فيه المذكَّرُ والمؤنَّثُ؛ لأنّ الفصل بين المذكر والمؤنّث إنّما يُحتاج إليه لئلاّ يُتوهّم غيرُ المقصود في موضع المقصود. والمتكلّمُ لا يُشارِكه غيرُه في لفظه، وعبارته عن نفسه وغيرِه، إذ لا يجوز أنَ يكون كلامُ واحد من متكلّمين. فإنّ قيل: ولِمَ كانت هذه التاءُ متحرِّكةً؟ وهلاّ كانت ساكنةً، ولِمَ خُصّتْ حيث حُرّكتْ بهذه الحركة التي هي الضمُّ دون غيره؟ فالجوابُ: أمّا تحريكُها؛ فلأنّ التاء هنا اسمٌ قد بلغ الغايةَ في القلّة، فلم يكن بدٌّ من تقوِيَته بالبناء على حركةٍ، لتكون الحركةُ فيه كحرف ثانٍ. والذي يدلّ أنّ التاء اسمٌ ههنا أنّك تُؤكِّدها كما تُؤكِّد الأسماء، فتقول: "فعلتُ أنا نفسي". ولو كانت حرفًا كالتاء في "فَعَلَتْ" إذا أريد المؤنّث، لم يجز تأكيدُها كما لم يجز تأكيدُ تاء التأنيث في نحو"قائمةٍ"، و"قاعدةٍ". وإنّما خُصّ بالضمّ دون غيرهِ لأمرَيْن: أحدهما: أنّ المتكلّم أوّلٌ قبل غيره، فأُعطي أوّل الحركات، وهي الضمّةُ. والأمرُ الآخر: انّهم أرادوا الفرقَ بين ضميرَي المتكلّم
والمخاطَبِ، فنزّلوا المتكلّمَ منزلةَ الفاعل، ونزّلوا المخاطَبَ منزلةَ المفعول من حيث كان هذا مخاطبًا، وذاك مخاطِبًا، فضمّوا تاء المتكلّم لتكون حركتُها مُجانِسة لحركة الفاعل، وفتحوا تاء المخاطَب، لتكون حركتُها من جنسٍ حركة المفعول. فإذا ثنيتَ، أو جمعتَ المتكلّم، كان ضميرُه "نَا"، ويستوي في علامته الاثنان والجماعةُ، تقول: "ذَهَبْنَا"، و"تَحَدَّثْنَا" ومعك واحدٌ، و"ذهبْنا"، و"تحدّثْنا"، ومعك اثنان فصاعدًا، وإنّما استوى في الضمير لفظُ الاثنين والجمع؛ لأنّ تثنيةَ ضمير المتكلّم، وجمعَه ليس على منهاجِ تثنيةِ الأسماء الظاهرةِ وجمعِها؛ لأنّ التثنية ضمُّ شيء إلى مثله كزيد وزيد، ورجل ورجل، تقول فيهما: "الزيدان"، و"الرجلان". والجمعُ ضمُّ شيء إلى أكثرَ منه من لفظه، كرجل ورجل ورجل، وزيد وزيد وزيد، ونحو ذلك فتقول إذا جمعتَ: "الزيدون"، و"رجالٌ". وليس الأمرُ في هذا المضمر كذلك؛ لأنّ المتكلّم لا يُشارِكه متكلّمٌ آخرُ في خطابٍ واحدٍ، فيكونَ اللفظُ لهما، لكنّه قد يتكلّم الإنسانُ عن نفسه وحدَه، ويتكلّم عن نفسه، وعن غيره، فيجعل اللفظَ المعبَّرَ به عن نفسه وعن غيره مخالِفًا للفظِ المعبّر به عن نفسه وحدَه، واستوى أنّ يكون المضمومُ إليه واحدًا أو أكثرَ، فلذلك تقول: "قُمْنَا ضاحكَيْن"، و"قمنا ضاحكِينَ". فإنّ كان مخاطبًا، فصلتَ بين لفظِ مذكّره، ومؤنّثه، ومثنّاه، ومجموعه، فتقول في المذكر: "ضربتَ"، وفي المؤنّث "ضربتِ"، فتفتح التاء مع المذكّر، وتكسِرها مع المؤنّث للفرق بينهما. وخصّوا المؤنّث بالكسر؛ لأنّ الكسرة من الياء، والياء ممّا تُؤنَّث بها في نحو"تَفْعَلِينَ" وفي "ذي". ولمّا اختصّت الضمّةُ بالمتكلّم لِمَا ذكرناه، والكسرةُ بالمؤنّث المخاطَبِ، لم يبق إلّا الفتحةُ، فخُصّ بها المخاطَبُ المذكّرُ. وإنّما احتيج إلى الفصل بين المذكر، والمؤنّث، والتثنيةِ، والجمع في المخاطب؛ لانّه قد يكون بحضرةِ المتكلم اثنان: مذكر، ومؤنث، وهو مُقْبِلٌ عليهما، فيخاطب أحدهما، فلا يُعرَف حتى يُبيِّنه بعلامةٍ، فلذلك من المعنى ثَنَّى، وجمع خَوْفًا من انصرافِ الخطاب إلى بعضِ الجماعة دون بعضٍ، فلذلك تقول: إذا خاطبتَ مذكّرًا: "ضربتَ"، و"فعلتَ"، وفي التثنية: "ضربتِما" و"فعلتما"، وفي الجمع: "ضربتم"، و"فعلتم"، وفي المؤنّث: "ضربتِ"، وفي التثنية "ضربتما"، وفي الجمع: "ضربتُنَّ". يستوي المذكّرُ والمؤنّثُ في التثنية، ويفترقان في الجمع. وذلك لأنّ التثنية ضربٌ واحدٌ لا يختلِف، فلا تكون تثنيةٌ أكثرَ من تثنيةٍ، فلمّا اتّفق معناهما، اتفق لفظُهما. ويختلف الجمعُ في لفظه كما اختلف معناه. وأصلُ "ضربتم" في جمعِ المذكّر: "ضربتُمُوا" بواوٍ بعد الميم، كما كانت التثنيةُ بألفٍ بعد الميم. فالميمُ في الجمع لمُجاوزة الواحد، والواوُ للجمع، كما كانت الميمُ في التثنية لمجاوزة الواحد، والألفُ للتثنية. وقد يُحذف الواو من الجمع لأمنِ اللبس، إذ الواحد لا ميمَ فيه، والتثنيةُ يلزمها
الميمُ والألف، فلا يُلْبِس بواحدٍ، ولا تثنيةٍ؛ لأنّ الواحد لا ميَم فيه، والتثنيةَ يلزم فيها الألفُ. وإذا حذفتَ الواو، سكنتَ الميم؛ لأنّه أبلغُ في التخفيف، ومع ذلك، فالحركة قبل حرف اللين لمّا لم يكن بدّ منها، كانت من لَوازِمه وأعْراضِه، كالصَّفير لحروفِ الصفير, والتكريرِ للراء. فكما إذا حُذفت هذه الحروفُ، زالت هذه الأعراضُ معهما؛ كذلك إذا حُذف حرفُ اللين، زالت الحركةُ معه، إذ كانت من لوازمه، وقلت في جمعِ المؤنّث: "ضربْتُنَّ" بتشديد النون، لتكون نونان بإزاءِ الميم والواو في المذكّرِين. وذلك أنّ ضمير المؤنّث على حسبِ ضمير المذكّر، فإنّ كانت علامةُ المذكّر حرفًا واحدًا، فعلامةُ المؤنّث حرفٌ واحدٌ، وإن كانت علامةُ المذكّر حرفَيْن، كانت علامةُ المؤنّث حرفَين، فقلت: "الهِنْداتُ ضَرَبْنَ"، بنون واحدة حيث قلت: "الزيدون قاموا"، وقلت: "ضربتُنَّ" بنونَيْن حيث قالوا: "قُمْتُمُوا"، و"ضربْتُمُوا" ليكون الزيادتان بإزاء الميم والواو في جمع المذكّر. وتقول في ضمير الغائب المذكّر: "زيدٌ ضَرَبَ"، وفي التثنية: "الزيدان ضَرَبَا"، وفي الجمع: "الزيدون ضربوا"، فيكون ضميرُ الواحد بلا لفظٍ، والتثنيةُ والجمعُ بعلامةٍ ولفظٍ. فالألفُ في "قَامَا" علامةُ التثنية، وضميرِ الفاعل. والواوُ علامةُ الجمع، وضميرِ الفاعل. وإنّما كان الواحدُ بلا علامةٍ، والتثنيةُ والجمعُ بعلامةٍ، من قِبَل أنّه قد استقّر، وعُلم أنّ الفعل لا بدّ له من فاعلِ كالكتابة التي لا بدّ لها من كاتب، والبِناءِ الذي لا بدّ له من بانٍ، ولا يحدُث شيءٌ من تِلّقاءِ نفسه، فالفاعلُ معلومٌ، لا محالةَ، إذ لا يخلو منه فعلٌ، وقد يخلو من الاثنين والجماعةِ، فلمّا كان الفاعل معلومًا لاستحالةِ فعلٍ بلا فاعلٍ، لم يُحتج له إلى علامةٍ تدُل عليه. ولمّا جاز أنّ يخلو من الاثنَيْن والجماعةِ احتيج لهما إلى علامة. وقد اختلف العلماء في هذه الألف والواو، فذهب سيبويه إلى أنّهما قد تكونان تارةً اسمَيْن للمضمرَيْن، ومرّةَ تكونان حرفَيْن دالَّيْن على التثنية والجمع، فإذا قلت: "الزيدان قامَا" فالألفُ اسمٌ، وهي ضميرُ الزيدَيْن، وإذا قلت: "الزيدون قاموا"، فالواوُ اسمٌ، وهو ضميرُ "الزيدين". وإذا قلت: "قاما الزيدان"، فالألف حرفٌ مُؤذِنٌ بأنّ الفعل لاثنين، وكذلك إذا قلت: "قاموا الزيدون" فالواو حرف مؤذن بأن الفعل لجماعةٍ. وهي لغةٌ فاشيةٌ لبعض العرب، كثيرةٌ في كلام العرب وأشعارهم، وعليه جاء قولُهم: "أَكَلُونِي البَراغِيثُ" في أحدِ الوجوه، ومنه قول الشاعر [من المتقارب]: 442 - يَلُومُونَنِي في اشْتِراءِ الننَخيلِ ... أَهْلِي فكلُّهم يَعْذُلُ ¬
وقولُ الآخر [من السريع]: 443 - أُلْفِيَتَا عَيْناكَ عند القَفَا ... أَوْلَى فأَوْلَى لك ذا واعِيَهْ وذهب أبو عثمان المازنيُّ، وغيره من النحويّين إلى أنّ الألف في "قاما"، والواو في "قاموا" حرفان يدلاّن على الفاعلَيْن، والفاعلين المضمرين، والفاعلُ في النيّة، كما أنّك إذا قلت: "زيدٌ قام"، ففي "قام" ضمير في النيّة، وليست له علامةٌ ظاهرةٌ. فإذا ثُنّي، أو ¬
جُمع، فالضميرُ أيضًا في النيّة، غيرَ أنّ له علامةً. والمذهب الأوّل؛ لأنّك إذا قلت: "الزيدان قاما"، فالألف قد حلّت محلّ "أبوهما"، إذا قلت: "الزيدان قام أبوهما". فلمّا حلّت محلَّ ما لا يكون إلّا اسمًا، وجب أن يكون اسمًا. وتقول في المؤنّث: "هندٌ ضَرَبَتْ"، فالفاعلُ في النيّة، والتاء مُؤْذِنةٌ بأنّ الفعل لمؤنّثٍ. والذي يدل أنّها ليست اسمًا أشياء، منها: أنّك تقول: "هندٌ ضربتْ جاريتُها"، فترفع "الجاريةَ" بأنّها فاعلةٌ، ولو كانت التاء اسمًا، لم يجز رفعُ الاسم الظاهرِ؛ لأنّ الفعل لا يَرْفع فاعلَيْن، أحدُهما مضمرٌ، والآخرُ ظاهرٌ. ومنها أنّها لو كانت اسمًا، لكنتَ إذا قلت: "قامت هند"، فقد قدّمت المضمرَ على المظهر، وذلك لا يجوز. ومنها أنّك تقول في التثنية: "قَامَتَا"، فتجمع بين التاء، وضمير التثنية، فيلزم من ذلك أنّ يكون الفعلُ خبرًا عن ثلاثةٍ من غيرِ اشتراك، فإذًا لا فَرْقَ بين قولك: "قامت هندٌ"، و"هندٌ قامت" في كون التاء حرفاً. فإذا ثنّيتَ قلت: "الهندان قامَتَا"، فيكون كلفظِ المذكّر لمَا ذكرناه من أنّ التثنية ضربٌ واحدٌ. فإنّ جمعت المؤنّثَ، قلت: "الهندات قُمْنَ"، فتكون النونُ اسمًا ضميرًا لهندات. فإنّ قدمتَ، وقلت: "ضربن الهنداتُ"، كانت حرفاً مُؤذِنةً بأنَّ الفعل لجماعةِ المؤنّث، كما قلنا في التاء إذا قلت: "قامت هندٌ". ومنه بيتُ الفَرَزدَق [من الطويل]: 444 - وَلكِنْ دِيافِىّ أَبُوهُ وأُمُّهُ ... بحَوْرانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أَقارِبُهْ ¬
فالنون في "يعصرن" حرفٌ، وليست اسمًا، فأمرُ النون كأمر الألف والواو في "قَاما أَخَواكَ"، و"قاموا إخْوَتُك". فإنّ قلت: فهلا كان الاختيارُ "قاما أخواك"، و"قاموا إخوتك"، و"قُمْنَ الهنداتُ"، إذ كُنَّ حروفًا مُؤذِنةٌ بعددِ الفاعلين، كما كان الاختيارُ: "قامت هندٌ". قيل: الفرقُ بينهما أنّ التأنيث معنى لازمٌ، لا يُفارِق الاسمَ، والتثنية غيرُ لازمة، لأنّك قد تزيد عليها، فتصير جمعًا، وقد تنقُص منها، فيبقى واحدٌ، فلِلُزوم معنى التأنيث؛ لزمت علامتُه، ولَزوال معنى التثنية؛ لم تلزم علامتُها. ووجهٌ ثانٍ أنّهم لم يختاروا "قاما أخواك"، ولا "قاموا إخوتك"، لئلاّ يُتوهّم أنه خبرٌ مقدَّمٌ، فيلتبِسَ الفاعلُ بالمبتدأ، فاعرفه. وأمّا الضمير المنصوب المتّصل، فهو يُوافِق ضميرَ المجرور في اللفظ، ويُشارِكه في الصورة. وإنّما استوت علامةُ ضمير المنصوب والمجرورِ لتَوخيهما في الإتيان على معنى المفعول، أعني أنّهما يأتيان فضلة في الكلام. وهو على ثلاثةِ أضرب: متكلِّمٌ، ومخاطَبٌ، وغائبٌ. فتقول في ضمير المتكلّم "ضَرَبَنِي"، فتكون العلامةُ الياء كما تكون في المجرور كذلك، نحو "غُلامي"، و"صاحبي"، إلّا أنّك أتيتَ بنونٍ قبل الياء، ليقع الكسرُ عليها، ويسلَمَ الفعلُ من الكسر، كأنّهم حرسوا أواخرَ الأفعال من دخولِ الكسر عليها لتباعُدِ الأفعال من الجرّ، والكسرُ لفظه لفظُ الجرّ. وذلك أنّ ياء المتكلّم تكْسِر ما قبلها إذا كان ممّا يُحرك، والذي يدلّ على أنّ النون زيادةٌ، والضميرَ هو الاسمُ وحده، أنّه متى اتصل ضميرُ المتكلّم المنصوبُ، أو المجرورُ بالاسم، كان ياء لا نون معها، وكسرتِ الياء ما قبلها؛ فأمّا المنصوب، فنحو: "الضاربي"، و"المُكْرِمِي"، فالياء منهما في موضع منصوب. والذي يدل على ذلك أنّك إذا أوقعتَ موقعه ظاهرًا، لم يكن إلا منصوبًا، نحو: "الضاربُ زيداً"، و"المُكرِمُ خالدًا". فأمّا المجرورُ، فنحو: "مَعِي"، و"غلامي"، فعلمتَ بذلك أنْ النون في "ضَرَبَنِي" ليست من الضمير في شيءٍ، وإنّما أُتي بها لأمر راجع إلى الفعل، وهو ما ذكرناه من حِراسةِ الأفعال من الكسر. وممّا يُؤيِّد عندك زيادتَها، وأنّها ليست من الاسم أنّك قد تحذِفها في نحو: "أني" و"إنِّي". قال الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (¬1)، فأتى بنون الوِقاية على الأصل، وقال: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ} (¬2)، فحذف نون الوقاية. والذي يدلّ على أنّ المحذوف منها نونُ الوقاية أنّها قد حُذفت في أُخْتَيْها. قالوا: "لَعَلِّي"، و"لَيتِي". قال الله ¬
تعالى: {لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} (¬1) وقال الشاعر [من الوافر]: 445 - كمُنْيَةِ جابرٍ إذ قال لَيْتِي ... أُصالِحُه وأَفْقِدُ بَعْضَ مَالِي فالمحذوف هنا نون الوقاية غير ذي شَكّ، فثبت أنّ المحذوف في "إنِّي"، و"أنِّي" نون الوقاية. وقد اختلفوا في علّةِ حذف هذه النون، فقال سيبويه (¬2): إنّما حُذفت لكثرة الاستعمال، واجتماع النونات، وهم يستثقلون التضعيفَ. فإنّ قيل: فإذا كانوا إنّما حذفوا نون الوقاية لثِقَلِ التضَعيف، واجتماع النونات، فما بالُهم حذفوها في "لَعَلِّي"، و"لَيْتِي"، ولم يجتمع في آخِرهما نوناتٌ؟ قيل: أمّا "لَعَلَّ"، فإنّها وإن لِم يكن في آخرها نون، فإنّ في آخِرِها لامًا مضاعَفةٌ، واللامُ قريبةٌ من النون، ولذلك تُدغَم فيها، نحو قوله تعالى: {مِن لَّدُنْهُ} (¬3). ولا يُدّغَم في النون غير اللام. وأمّا "لَيْتَ" فلم يكن في آخرها نونٌ، ولا ما يُضارع النون، ويقرُب منها، فيلزمُها النونُ. ¬
وقالوا: "لَيتَنِي"، وقَلَّ في كلامهم: "لَيْتي"، وكان من قبيلِ الضرورة، ومع ذلك، فإنها حروفٌ أجريت مُجرى الفعل في العمل، وليست أفعالاً، فهي بحكم الشَّبَه تلزمها نونُ الوقاية كالفعل. ومن حيث هي حروفٌ يجوز إسقاطُ النون منها, لأنّ الحروف في ذلك على ضربَيْن: تأتي بالنون والياء، وبالياء وحدَها، وذلك نحو قولك: "مِنِّي"، و"عَنِّي"، فهذه قد لزمتها النون على ما ترى. وقالوا: "إلَيَّ"، و"بي" من غيرِ نون؛ لأنّ الحروف لا يُكرَه فيها الكسرُ كما كُره في الأفعال، مع أنّهم قد حذفوا هذه النونَ مع الفعل نفسِه، نحو قوله [من الوافر]: 446 - تَراة كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكًا ... يَسُوءُ الفالِياتِ إذا فَلَيْنِي وإذا أجازوا حذفَها مع الفعل؛ كان مع الحرف أسْوغَ. فأمّا الفراء، فإنّه احتجّ لسقوطِ النون في "أَنَّ"، و"كَأَنَّ"، و"لَعَلَّ" بأنّها بُعدتْ عن الفعل، إن ليست على لفظه، فضعُف لزومُ النون لها، و"ليْتَ" على لفظ الفعل، فقوي فيها إثباتُ النون. ألا ترى أنّ أولها مفتوحٌ، وثانيَها حرفُ علّةٍ ساكنٌ، وثالثَها مفتوحٌ، فهو كـ"قَامَ"، و"بَاعَ"؟ وهو قولٌ حسنٌ، إلّا أنّه يلزمه أنّ يقلّ حذفُها مع "أنَّ" المفتوحة؛ لأنّها على وزان الأفعالِ ¬
المضاعَفةِ، نحو: "رَدَّ"، و"شَدّ"، و"مَدَّ"، فإذا ثنّيتَ، أو جمعتَ، قلت: "ضَرَبَنَا"، فيستوي لفظُ التثنية والجمع. وقد تقدّمتْ علّةُ ذلك في ضميرِ الفاعل، إلّا أنّك هنا لا تُسكِّن آخِرَ الفعل، كما فعلتَ به حين اتّصل به ضميرُ الفاعل، نحو: "ضَرَبْنَا"، و"حَدثْنَا". فإذا سكّنت آخِرَ الفعل، فالضميرُ فاعل، وإذا حرّكتَ، فالضميرُ مفعولٌ. وأمّا المخاطب المنصوب إذا كان مذكرًا، فضميرُه كافٌ مفتوحةٌ، نحو: "ضربتُكَ"، والمؤنّثَ كافٌ مكسورةٌ، نحو: "ضربتُكِ"، قال الله تعالى في قِصّةِ زَكَرِيّاءَ: {يُبَشِّرُكَ} (¬1) وقال في قصّةِ مَرْيَمَ: {يُبَشِّرُكَ} (¬2)، فتحوا الكافَ مع المذكّر، وكسروا مع المؤنّث للفرق بينهما. وخُصّ المؤنث بالكسرة؛ لأنّ الكسرة من الياء، والياء ممّا يُؤنَّث به، نحو: "قُومِي"، و"تَذهَبِينَ". فهذه الكافُ اسمٌ، وتُفيد الخطابَ. والذي يدل على أنها اسمٌ أنّها وقعت موقعَ ما لا يكون إلّا اسمًا، وهو المفعولُ، ألا ترى أنّك لو وضعتَ مكانَها ظاهرًا؛ لكان منصوبًا بحقِّ المفعول، نحو: "ضرب زيداً عمرٌو". وقد تكون هذه الكافُ لمجرَّدِ الخطاب عَرِيَة من معنى الاسميّة، نحو قولهم: "النَّجاءَكَ"، فالكافُ حرفٌ لمجرّدِ الخطاب. ولا يجوز أنّ يكون اسمًا؛ لأنّه لو كان اسمًا، لكان له موضعٌ من اِلإعراب، وليس له موضعٌ من الإعراب؛ لأنّه لو كان له موضعٌ من الإعراب، لم يَخْلُ إما أنّ يكون مرفوعًا، أو منصوبًا، أو مجرورًا. لا يجوز أن يكون مرفوعًا؛ لأنّه لا رافعَ هناك. ولا يجوز أنّ يكون منصوبًا؛ لعدمِ الناصب أيضًا. ولا يجوز أنّ يكون مخفوضًا؛ لأنّ ما فيه الألف واللام لا يجوز أنّ يضاف إلّا في باب "الحسن الوجهِ"، وليس ذلك منه. ومنه الكافُ في "ذلِكَ"، و"أُولئِكَ" ونحوهما؛ لعدمِ جوازِ الإضافة فيهما. فإذا ثنّيتَ، قلت: "ضربتُكُما". ويستوي فيه المذكّرُ والمؤنّثُ، وقد تقدّمت علّةُ ذلك. وتقول في جمع المذكّر: "ضربتُكُم"، وأصلُه: "ضربتُكُمُوا" بواوٍ، وإنّما حذفتَ الواو تخفيفًا، وأسكنتَ الميم لِما ذكرناه. وتقول في المؤنّث: "ضربتُكُنَّ"، فتفصِل بين ضميرِ المذكّر، والمؤنّث، والتثنيةِ، والجمعِ لما ذكرناه في ضمير المرفوع. وأمّا ضميرُ الغائب، فإنّك تُثنِّيه، وتجمعُه، وتفرِق بين مذكّره ومؤنّثه كما فعلتَ مع المخاطب، وهو ههنا أَوْلى لأنّه ضميرُ ظاهرٍ قد جرى ذكره. والظاهرُ يُثنَّى، ويُجْمَع، ويُذكَّر، ويُؤنَّث، فتقول في المذكّر: "ضربْتُه"، فالضميرُ الهاء، إلّا أنّك تزيد معها حرفًا آخرَ، وهو الواو، وذلك لخَفاء الهاء. وكان القياسُ أن يكون حرفاً واحدًا؛ لأنّ المضمراتِ وُضعت نائبةً عن غيرها من الأسماء الظاهرة لضربٍ من الإيجاز والاختصارِ، كما جِيء بحروفِ المعاني نائبةً عن ¬
غيرها من الأفعال، فـ "مَا" نائبةٌ عن "أَنْفِي"، والهمزةُ نائبةٌ عن "أَسْتَفْهِمُ"، والواوُ في العطف، ونحوها عن الفاء، و"ثُمَّ"، نائبةٌ عن "أجْمَعُ" و"أعْطِفُ"، فلذلك قلّتْ حروفُها كما قلّتْ حروفُ المعاني، فجُعل ما كان منها متّصلاً على حرف واحد كالتاء في "قُمْتَ"، والكاف في "ضَرَبَكَ"، وجُعل بعضُ المتْصل في النية كالضمير في "أَفْعَلُ"، و"يَفْعَلُ"، و"تَفْعَلُ"، وفي "زيدٌ قام" و"يقوم" مبالغةٌ في الإيجاز عند أَمْنِ اللَّبْس، بدلالةِ حروفِ المضارعة على المضمرين. ألا ترى أنّك إذا قلت: "أَفْعَلُ"، فالهمزةُ دلّت على أنّ الفعل للمتكلّم وحده، والنون دلت على أنّ المتكلم معه غيرُه، والتاء دلّت على أنّ الفعل للمخاطب، أو الغائبة؟ وتقدُّمُ الظاهر في قولك "زيدٌ قام" دلّ على أنّ الضمير له. واحتمل أن يكون على حرف واحد؛ لأنّه متصلٌ بما قبله من حروفِ الكلمة، ولو كان منفصلاً، لكان على حرفَيْن، أو أكثرَ؛ لأنّه لم يُمكِن إفرادُ كلمةٍ على حرف واحد. والمنفصلُ منفردٌ عن غيره بمنزلةِ الأسماء الظاهرةِ. وتقول في المؤنّث: "ضربتُها"، وفي التثنية: "ضربتُهُما" الذَّكَرُ والأُنْثَى فيه سَواءٌ. وتقول في جمع المذكّر: "ضربتُهُمْ"، والأصلُ: "ضربتُهُمُوا" بواوٍ بعد الميم، وتحذف الواو وتُسكّن ما قبَلها تخفيفًا. وتقول في جمع المؤنّث: "ضربتُهُنَّ" بنون مشدَّدة، ليكون نونان بإزاء الميم والواو في المذكّر. وأمّا ضمير المجرور، فهو في اللفظ والصورة كلفظِ المنصوب على ما تقدّم، نحو قولك إذا كنيتَ عن نفسك وحدَك: "مَرَّ بي"، و"غُلامي"، فالضميرُ الياء كما كانت في المنصوب، إلا أنّك لا تأتي ههنا بنون الوقاية لأنّه اسمٌ، والاسمُ لا يُصان عن الكسر، وهذه الياء تُفتَح وتُسكَّن، فمن فتحها، فلأنّها اسمٌ على حرف واحد، فقوِي بالحركة، كالكاف في "غلامكَ". ومَن أسكنَ، فحُجّتُه أنّه استغنى عن تحريكها بحركة ما قبلها مع إرادة التخفيف فيها. فإذا ثنّيتَ، قلت: "مَرَّ بِنَا"، و"غلامُنَا"، يستوي في ذلك التثنيةُ والجمع، والمذكر والمؤنّثُ استغناء بقَرِينةِ المشاهدة والحضور عن علامةٍ تدل عى كلِّ واحد من هذه المعاني. فإذا خاطبتَ، قلت: "بِكَ"، و"غلامُكَ" في المذكّر بكاف مفتوحة، كما كان المنصوبُ كذلك، وتقول في المؤنّث: "بِكِ"، و"غلامُكِ"، بكاف مكسورة كما فعلت في المنصوب كذلك. وتقول في التثنية: "بِكُمَا"، و"غلامُكُمَا" مذكّرًا كان، أو مؤنّثًا، كما كان في المنصوب كذلك. وتقول في الجمع: "بِكُمْ"، و"غلامُكُمْ"، وفي جمع المؤنّث "بِكُنَّ"، و"غلامُكُنَّ" فتُثنَّي، وتجمَع، وتُؤنِّث، والعلّةُ فيه ما تقدّم. فأمّا المضمر المنفصل، فإنّا قد بَيَّنَّا أنّه الذي لا يلي العاملَ، ولا يتصِّل به، وذلك بأن يكون مُعرَّى من عامل لفظىٍّ، كالمبتدأ والخبر في نحو قولك: "نَحْنُ ذاهبون"، و"كيف أنت؟ "، و"أَيْنَ هو؟ "؛ أو يكون مقدَّمًا على عامله، كقولك: "إياك أُخاطِبُ". قال
الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬1)؛ أو مفصولاً بينه وبينه بشيء، كالاستثناء والعطفِ، نحو: "ما قام إلّا أنتَ"، و"ما ضربتُ إلّا إيّاك"، ونحو:،"ضربتُ زيداً وإيّاه". ولا يخلو من أنّ يكون مرفوعَ الموضع، أو منصوبَ الموضع، ولا يكون مخفوضَ الموضع؛ لأنّ المجرور لا يكون إلّا بعامل لفظىٍّ، كحروفِ الجرّ والإضافةِ. ولا يجوز أن يتقدّم المجرورُ على الجارّ، ولا يُفصَل بينهما فصلاً لازمًا، وقولُنا: "لازمًا" احترازٌ ممّا قد يُفصَل بين المضاف والمضاف إليه بالظرف، فإنّ ذلك لا يقع لازمًا؛ لأنّ الظرف ليس بلازمٍ ذكره. فأمّا ضميرُ المرفوع، فيكون متكلمًا ومخاطبًا وغائبًا، فالمتكلّمُ "أَنَا" إذا كان وحده، فالألفُ والنون هو الاسمُ عند البصريين، والألفُ الأخيرة أُتي بها في الوقف لبيانِ الحركة، فهي كالهاء في "اغْزُة" و"ازمِهْ". وإذا وصلتَ، حذفتَها كما تحذِف الهاء في الوصل. وذهب الكوفيون إلى أنّها بكمالها هو الاسمُ، واحتجّوا لذلك بقول الشاعر [من الوافر]: 447 - أَنَا سَيْفُ العَشِيرةِ فاعْرِفُوني ... حَمِيدٌ قد تَذَرَّيْتُ السَّنامَا وجهُ الشاهد أنّه أثبتَ الألفَ في حالِ الوصل. ومنه قِراءةُ نافع: {أَنَا أُحْيِي} (¬2) قالوا: فإثباتُها في الوصل دليلٌ على ما قلناه، ولا حجّةَ في ذلك لقِلّته؛ ولأنّ الأعمّ ¬
الأغلبَ سُقوطُها. ومُجازُ البيت والقراءةِ على إجراء الوصل مُجرى الوقف، وهو بالضرورة أشبه، كقوله [من الرجز]: 448 - [كأنّهُ السَّيلُ إذا اسْلحَيَّا] ... مِثْلُ الحَرِيقِ صادَفَ القَصَبّا وقد قالوا: "أنَهْ"، فوقفوا بالهاء، حُكي عن بعضِ العرب، وقد عَرْقَبَ ناقتَه لضَيْفٍ، فقيل له: "هلّا فصدتَها وأطعمتَه دَمَها مَشْوِيًّا". فقال: "هذا فَصْدي أَنَة". وقال الشاعر [من الرجز]: 449 - إنْ كُنْتُ أَدْرِي فعَلَىَّ بَدَنَه ... من كَثرَةِ التخْلِيط فيَّ مَنْ أَنَهْ ¬
ومنهم من يُسكِّن النون في الوصل والوقف، فيقول: "أنْ فعلتُ". وهذا ممّا يؤيّد مذهبَ البصريين، وأنّ الألف زائدةٌ لبيانِ الحركة، لوُقوعها موقعَ ما لا شُبْهَةَ في زيادتها، وهي الهاءُ, وسقوطِها في هذه اللغة. وقد حكى الفرّاء: "آنَ فعلتُ"، بقلب الألف إلى موضعِ العين، فإنّ صحّت هذه الروايةُ كان فيها تَقْوِيَةٌ لمَذْهبهم، فهو عند الكَوفيين مبنىٌّ على السكون وهي الألف، وعند البصريين مبنيّ على الفتح، ويحتمِل أنّهم إنّما فتحوه لئلاّ يُشْبِه الأدواتِ. وأمّا "نَحْنُ" فللمتكلّم إذا كان معه غيرُه، يستوي فيه المذكّرُ والمؤنّث والتثنيةُ والجمع، فتقول: "نحن خارجان"، و"نحن خارجون". وإنّما استوى فيه لفظُ التثنية والجمع لِمَا تقدّم من أن التثنية والجمعَ ههنا ليس على منهاج غيرها من الأسماء الظاهرة؛ لأنّه لم يُرَد ضَمُّ متكلّم إلى متكلم كما كان التثنيةُ ضمَّ اسم إلى اسم. وإنّما المتكلّمُ يتكلّم عن نفسه وغيره، ولم يكن المتكلّم ممّا يُلْبِس بغيره لإدراكه بالحاسّة، فلم يحتج إلى الفصل بين التثنية والجمع، والتأنيث والتذكير. وحركةُ النون لالتقاء الساكنَيْن، وخُصّت بالضمّ لوجوه: منها أنَّ الصيغة للجمع، والواوُ من علاماتِ الجمع، نحو: "قاموا"، و"الزيدون"، والضمّةُ من جنسِ الواو، فلمّا وجب تحريكُها، حُرّكت بأقربِ الحركات إلى معنى الجمع. وهذا قولُ أبي إسحاق الزَّجّاج. ومنها قولُ أبي العبّاس المبرّد إنّها شُبّهت بـ "قَبْلُ"، و"بَعْدُ"، في الغايات، وذلك من حيث صلحت لاثنين فصاعدًا كما صلحت "قبلُ" و"بعدُ" للشيء والشيئين فما فوقهما، فصارت لذلك غايةٌ كـ"قبلُ" و"بعدُ". ومنها أنْ هذا الضمير مرفوعُ الموضع، فحُرّك بحركةِ المرفوع، وهو قولُ أبي الحسن الأخفش الصغير, وقال قُطْرُبٌ: بُنيت على الضمّ؛ لأنّ أصلها "نَحُن" بضمُ العين، ثُمّ نُقلت الضمّة إلى اللام التي هي النونُ. وكان الذي دعاه إلى هذه المَقالة أنّه رآهم قد يقفون عليه بنقلِ الضمّة إلى الساكن قبله، فيقولون: "نَحُنْ"، كما يقولون: "هذا بَكُرْ"، فادّعى أنّ أصلها ذلك، ثمّ أسكنها تخفيفًا، كما يقولون في "عَضُدٌ": "عَضْدٌ"، وكرِه الساكنين، فنقل حركتَه إلى الساكن قبله الثاني، كما قالوا: "يَرُدُّ"، و"يَفِرُّ"، و"يَعَضُّ"، لمّا أسكنوا للادغام، نقلوا حركتَه إلى الساكن قبله، وهذا لا يستقيم لأنّ النقل من عَوارِض الوقف، فلا يُجعَل أصلاً يُبنَى عليه حُكْمٌ. وأمّا المخاطب؛ فإثك تفصِل بين مذكّره ومؤنّثه وتثنيته وجمعه بالعلامات؛ لأنّ ¬
تعريفه دون تعريفِ المتكلّم, لأنّه قد يُلْبِس بأن تُخاطِب واحدًا، ويكون بحَضْرته غيرُه، فيُتوهّمُ انصرافُ الخطاب إلى غيرِ المقصود. وليس كذلك المتكلّم؛ لأنّه إذا تكلّم، لا يشتبِه به غيرُه، فلذلك تقول: "أَنْتَ" إذا خاطبتَ واحدًا. فالاسمُ منه الألفُ والنون عندنا، وهي التي كانت للمتكلّم، زيدت عليها التاء للخطاب، وهي حرفُ معنى مجرَّدٌ من معنى الاسميّة، إذ لو كان اسمًا، لكان له موضعٌ من الإعراب. ولو اعتُقد له موضعٌ من الإعراب، لكان إمّا رفعًا، أو نصبًا، أو جرًّا، فلا يجوز أن يكون مرفوعًا، أو منصوبًا؛ لأنّه لا رافعَ ولا ناصبَ، ولا يجوز أن يكون مخفوضًا, لأنّه مضمرٌ، والمضمراتُ لا تضاف من حيث كانت معرفةٌ. وإذا بطل أن يكون له موضعٌ من الإعراب، بطل أن يكون اسمًا، فليست التاء في "أَنْتَ" كالتاء في "ضربتَ"، كما أن الكاف في "ذلِكَ" و"النَّجاءكَ" ليست كالكاف في "غلامك"، و"صاحبك". وإذا ثبت أنها حرفٌ، كان حقُّه السكونَ، وإنّما حُرّك لأجلِ الساكن قبله، وخُصّ بالفتحة لخِفّتها كواو العطف وفائه، وهمزة الاستفهام، ونحوهنّ من حروف المعاني، ولتكون حركتُها كالتاء في "ضربتَ"، و"قتلتَ"، حيث كانا جميعًا للخطاب، وإن اختلف حالاهما. وقد ذهب الكوفيون إلى أن التاء من نفسِ الكلمة، والكلمةَ بكَمالها اسمٌ عَمَلاً بالظاهر، والصوابُ ما ذكرناه. فإنّ خاطبتَ المؤنّث، كسرتَها، فقلت: "أَنْتِ". وذلك لأنّ الفتح لمّا استبَدّ به المذكّرُ، عُدل إلى الكسر, لأنّه أخفُّ من الضمّ، ولأنّ الكسرة من الياء، وهي ممّا يُؤنَّث بها على ما تقدّم قبلُ. فإنّ خاطبت اثنين، قلت: "أنْتُمَا"، فالميم لمجاوَزةِ الواحد، وكانت الميم أَوْلى لشَبَهها بحروفِ المَدّ. وهي من مَخْرَجِ الواو، والواوُ تكون للجمع في "قاموا"، والألفُ للدلالة على التثنية، كما كانت كذلك في "قَامَا"، فإذا الاسمُ منه الهمزةُ والنون، وباقِي الحروف زوائدُ لِما ذكرناه. وقيل: إنّ الكلمة بكَمالها الاسمُ من غيرِ تفصيل، وهو الصوابُ؛ لأنّ هذه الصيغة دالّة على التثنية، وليست تثنيةٌ صِناعيّة؛ لأنّ حدَّ المثنّى ما تتنكّرُ معرفتُه، والمضمرُ لا يتنكّرُ بحال، فكأنّ صيغته لذلك. ويستوي فيه المذكرُ والمؤنّث كما يستوي في الظاهر، نحو: "الزيدان"، و"العمران" و"الهِنْدان"؛ لأنّ العِدّة واحدةٌ. فإنّ خاطبتَ جماعةً، قلتَ: "أَنْتُمُو"، وإن شئتَ، قلت: "أَنْتُمْ". وثبوتُ الواو هو الأصلُ؛ لأنّ الواو تكون علامةَ ضميرِ الجمع في الفعل، نحو: "قاموا"؛ ولأنه في مقابلَةِ جمع المؤنّث، نحو: قولك: "ضربتُنَّ". فكما أن علامة المؤنّث حرفان، فكذلك علامةُ الجمع حرفان، ويُؤكد ذلك عندك أنّ الواو تظهَر بعد الميم مع الضمير في "أَعْطَيْتُكُمُوهُ"، والضمائرُ ترُدّ الأشياء إلى أصولها في أكثر الأمر. وحذفُ الواو تخفيفٌ لثِقَلها عند أَمْنِ
اللبس، وزَوالِ الإشكال لأنّه لا يُلْبِس بالواحد لوجودِ الميم، ولا يُلْبس بالتثنية؛ لأنّ المثنّى يلزمُه ثبوتُ الألف، وقد تقدّم نحو ذلك في المتّصل. والصوابُ أَنّ الكلمة بكَمالها اسمٌ، كما ذكرنا في التثنية، وهي صيغةٌ موضوعةٌ للجمع. فإنّ خاطبتَ جماعةَ مؤنّثاتٍ، قلت: "أَنْتُنَّ" بشون مشدّدة. والكلمةُ بكمالها الاسمُ على ما قدمناه في التثنية والجمع المذكّر. فأمّا ضميرُ الغائب، فإنّه يُثنَّى، ويُجمع، ويُبيَّن بعلامةِ المؤنّث، وهو أولى بذلك، لما ذكرناه من أنّه ضميرُ ظاهرِ قد جرى ذكرُه، والظاهرُ يُثنّى، ويجمع، ويؤنّث. فكذلك ما ناب منابَه، فإذا كنيتَ عن الواحد المذكّر، قلت: "هُوَ قائمٌ"، فـ "هُوَ" مرفوعٌ الموضع؛ لأنّه مبتدأٌ، والمبتدأُ مرفوعٌ، ولأنك لو وضعتَ مكانَه اسمًا ظاهرًا، لكان مرفوعًا، نحوَ: "زيدٌ قائمٌ". والاسمُ هُوَ بكَماله عند البصريين، وقال الكوفيون: الاسمُ الهاء وحدَها، والواوُ مَزيدةٌ، واحتجّوا لذلك بقول الشاعر [من الطويل]: فبَيْناهُ يَشْرِي رَحْلَه قال قائلٌ: ... لِمَنْ جَمَلٌ رِخْوُ المِلاطِ نَجِيبُ (¬1) فحذف الواوَ. وحذفُها يدلّ على زيادتها. والصوابُ مذهبُ البصريين؛ لأنّه ضميرٌ منفصلٌ مستقلٌّ بنفسه يجري مجرى الظاهر، فلا يكون على حرف واحد؛ ولأنّ المضمر إنّما أُتي به للإيجاز والاختصار، فلا يَلِيق به الزيادةُ ولا سِيّما الواوُ وثقلها. ولا دليلَ في البيت؛ لِقلّته، فهو من قبيل الضرورة. وبُنيت على الفتح تقويةً بالحركة، ولم تضُمّها إتباعَا لضمّة الهاء، لثِقَل الضمّة على الواو المضموم ما قبلها، وكانت الفتحةُ أخفُّ الحركات. وربّما جاء في الشعر سكونّها وتضعيفُها، قالَ الشاعر [من الطويل]: 450 - وإنّ لِسانِي شَهْدَةٌ يُشْتَفَى بها ... وهُوَّ على مَن صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ ¬
والإسكان تخفيفٌ. والتضعيفُ لكرَاهيةِ وقوعِ الواو طَرَفًا، وقبلَها ضمّةٌ. وتقول في التثنية: "هُمَا"، والكلام عليها على نحو من الكلام على "أَنْتُمَا" إلّا أنّ "أنتما"، ليس فيه حذفٌ. وقيل: إنّ أصلَ "هُمَا": "هُومَا"، فحُذفت الواو، قالوا: لأنّها لو بقيت، لَوجب ضمُّها؛ لأنّ هذه الميم يُضَمّ ما قبلها، والضمّةُ تُستثقل على الواو المضمومِ ما قبلها، فحُذفت الضمّة للثقل. ولمّا سكنت الواوُ، تَطرّق إليها الحذفُ لضعْفها، وذلك لئلاّ يُتوهّم أنّهما كلمتان منفصلتان أعني "ما" و"هُوَ". وثبتت الألفُ في "هما" كما ثبتت في "أنتما". وتقول في جمع المذكّر: "هُمُوا"، تزيد "ميمًا" و"واوًا" علامة للجمع، كما زادوهما لذلك في "قاموا" و"أنتموا". هذا هو الأصلُ، أعني إثباتَ الواو، وقد تُحذَف الواو فِرارًا من ثِقَلها ولأن اللبس مرتفِعٌ؛ لأنّه لا يُلْبِس بالواحد؛ لأنّ الواحد لا ميمَ فيه، والتثنيةُ يلزمُها الألفُ بعد الميم. ولمّا حُذفت الواو، أُسكنت الميم؛ لأنّ في إبقاء الضمّة إيذانًا بإرادة الواو المحذوفةِ، إذ كانت من أعراضها. وتقول في الواحدة المؤنّثة: "هي"، بفتح الياء، كأنّهم قوّوها بالحركة، إذ كان الضميرُ المنفصل عندهم يجري مجرى الظاهر. وأقَلُّ ما يكون عليه الظاهرُ ثلاثةُ أحرف، ولما كان "هُوَ"، و"هِيَ" على حرفَيْن، قُوّيا بالحركة، وكانت الفتحة أَوْلى لخفّتها. وذهب الكوفيون إلى أن الاسم الهاء وحدها، كما ذكرنا في "هُوَ" الذي للمذكّر، واحتجّوا لذلك بحذفِ الياء في نحو قوله [من الرجز]: 451 - دِيارُ سُعْدَى إذهِ من هَواكَا ¬
وليس في ذلك حجّةٌ, لأنّ ذلك من ضروراتِ الشعر. وفيها ثلاثُ لغاتٍ: "هِيَ" بتخفيف الياء وفتحِها لِما ذكرناه من إرادةِ تَقْوِية الاسم، و"هِيَّ" بتشديد الياء مبالغةٌ في التقوية، ولِتصير على أبْنيةِ الظاهر و"هِيْ" بالإسكان تخفيفًا، وهي أضعفُ لغاتها. وينبغي أن يكون الحذفُ في قوله: "إذْه من هواكا" على لغةِ من أسكن لضُعفها، إذ المفتوحةُ قد قُوّيتْ بالحركة، فإنّ دخلتْ على كل واحدة منهما واوُ العطف، أو فاؤه، أو لامُ الابتداء، كنتَ مخيَّرًا: إن شئتَ أسكنتَ الهاء، هان شئت بقيتَ الحركةَ، فمَن بقى الحركة؛ فعلى الأصل، ومن أسكن؛ فلأنّ الحرف الذي قبلها, لمّا كان على حرف واحد لا يقوم بنفسه، صار بمنزلةِ جزء منه، فشُبّه "فهي، بـ "كتِف"، و"فهو" بـ "عَضُد"، فكما يقال في "كتف"، و"عضد": "كَتْفٌ"، و"عَضْدٌ"، كذلك قالوا في: "فَهِيَ": "فَهْيَ"، وفي "فَهُوَ" "فَهْوَ"، قال الله تعالى: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} (¬1)، وقال الله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} (¬2)، وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} (¬3). ولا يفعلون ذلك مع "ثُمَّ" ونحوها ممّا هو على أكثرَ من حرف واحد، إلّا على نَدْرةٍ، نحو قوله: {ثُمَّ لْيَقْطَع} (¬4) قُرىء بإسكانِ اللام وكسرِها، فالكسرُ على الأصل لما ذكرناه. ومن أسكن، شَبَّه الميمَ مِن "ثُمَّ" مع ما بعدها بـ"كتف"، فأسكن لذلك، وهو قليلٌ. وتقول في التثنية: "هُمَا" للمذكّر. واستوى المذكّرُ والمؤنث ههنا كما استويا في المخاطب والمتصلِ، نحو: "أنتما فَعَلْتُمَا". وتقول في جمع المؤنّث: "هُنَّ"، بتشديد النون، ليكون حرفَيْن، فيُقابِل الميمَ والواوَ في جمعِ المذكّر، نحو: "هُمُوا فعلوا". وأمّا الضمير المنصوب المنفصل، فاثنَا عشرَ لفظًا. تقول: "إيّاي أكرمتَ"، إذا أخبرت عن نفسك، وفي التثنية والجمع: "إيّانَا"، يستوي فيه المذكّرُ والمؤنّثُ والتثنية والجمعُ؛ لأنّ حال المتكلم واضحةٌ، فلم يحتج إلى علامٍ فاصلةٍ. فإنّ خاطبتَ مذكّرًا، قلت: "إيّاكَ أكرمتُ"، بفتح الكاف، كما تفتحُها مع المتّصل، ¬
فصل [اتصال بعض الأحرف بالضمائر]
نحو: "أكرمتُك". وتقول في التثنية: "إياكما"، وفي الجمع: "إيّاكُمُوا"، وإن شئت حذفتَ الواو، وسكنتَ الميم، كما فعلتَ في المتّصل، نحو: "أكرمتُكُمْ". وتقول للمؤنّث المخاطب: "إياكِ"، بكسر الكاف، كما فعلت مع المتّصل، نحو: "أكرمتُكِ"، والتثنية: "إياكُما" كالمذكّر، والجمع: "إياكُنَّ"، شدّدتَ النون في المؤنّث، ليكون حرفَيْن بإزاء الميم والواو في المذكّر. وتقول في الغائب: "إيّاه لقيتُ"، وفي التثنية "إياهُما"، وفي الجمع "إيّاهُمُوا". فإنّ شئت، أقررتَ الواو، وإن شئت، حذفتَها، وأسكنتَ الميم. وتقول في المؤنّث: "إياها"، وفي التثنية: "إيّاهُما" كالمذكّر، وفي الجمع: "إيّاهُنَّ"، شدّدتَ النون لتكون بإزاءِ الميم والواو على ما ذكرناه، فاعرفه. فصل [اتصال بعض الأحرف بالضمائر] قال صاحب الكتاب: والحروف التي تتصل بـ "أياً" من الكاف ونحوها لواحق للدلالة على أحوال المرجوع إليه, وكذلك التاء في "أنت" ونحوها في أخواته, ولا محل لهذه اللواحق من الإعراب، إنما هي علامات كالتنوين, وتاء التأنيث, وياء النسب. وما حكاه الخليل عن بعض العرب: "إذا بلغ الرجل الستين فإياه وأيا الشواب" مما لا يعمل عليه. * * * قال الشارح: اعلم أن هذا الضرب من المضمرات فيه إشكالٌ، ولذلك كثُر اختلافُ العُلماء فيه. وأسدُّ الأقوال، إذا أُمْعن النَّظَرُ فيها، ما ذهب إليه أبو الحسن الأخفشُ، وهو أن "إيّا" اسمٌ مضمرٌ، وما بعده من الكاف في "إيّاك" والياء في "إيّايَ"، والهاء في "إيّاه" حروف مجرَّدةٌ من مذهب الاسميّة، للدلالة على أعداد المضمرين وأحوالهم، لا حَظَّ لها في الإعراب. وإنّما قلنا: إن "إيَّا" اسم مضمرٌ ليس بظاهر؛ لأنّه في جميع الأحوال منصوبُ الموضعٍ، وليس في الأسماء الظاهرة اسمٌ يلزمُه النصبُ، فلا يرتِفع إلّا ما كان ظرفًا غيرَ متمكِّن، نحو: "ذات مَرَّةٍ"، و"بُعَيْداتِ بَيْنٍ"، "وذَا صَباحٍ"، وما جرى مجراهنّ، وشيء من المصادر، نحو: "سُبْحانَ"، و"مَعاذَ"، و"لَبَّيْكَ". وليس "إيَّا" واحدًا منها، فلمّا لزم النصبَ كلزومِ "أَنْتَ"، وأخواتِه الرفعَ؛ دلّ على أنّه مضمرٌ مثلُه، فـ "إيَّاك" في المنصوب كـ "أنت" في المرفوع. وممّا يدلّ أيضا على أنَّه ليس بظاهرٍ تغيُّرُ ذاته في حالِ الرفع والجرِّ. وليسَ كذلك الأسماءُ الظاهرةُ، فإنّ الأسماء الظاهرةَ يعتقِب على آخِرها حركاتُ الإعراب، ويُحكَم لها بها في موضعها إذا لم تظهَر في لفظها من غيرِ تغيُّرها أنفسِها، فلمّا خالَفَ هذا الاسمُ فيما ذكرناه الأسماء الظاهرة، ووافَقَ المضمراتِ، دلّ على أنّه مضمرٌ، وليس بظاهرٍ. وإذ ثبت أنّه اسمٌ مضمرٌ، كانت الكافُ اللاحقةُ له حرفا مجرَّدًا من معنى الاسميّة للخِطاب. وإنّما
قلنا ذلك؛ لأنّه لو كان اسمًا، لكان له موضعٌ من الإعراب. ولو كان له موضعٌ من الإعراب، لكان إمّا رفعًا، وإمّا نصبًا، وإمّا جرًا. فلا يجوز أن يكون في موضع مرفوع؛ لأنّ الكاف ليست من ضمائرِ المرفوع. ولا يجوز أن يكون منصوبًا, لأنّه لا ناصبَ له. ألا ترى أنّك إذا قلت: "إيّاك أُخاطِبُ"، كانت "إيّا" هي الاسمَ بما ذكرناه من الدليل، وإذا كانت الاسمَ، كانت مفعولةً لهذا الفعل، وإذا كان كذلك، فبقي الكافُ بلا ناصبٍ، إذ هذا الفعلُ لا يتعدّى إلى أكثرَ من مفعولٍ. ولا يجوز أيضًا أن يكون مجرورًا؛ لأنّ الجرّ في كلامهم إنّما هو من وجهَيْن: إمّا بحرفِ جرّ، وإمّا بإضافةِ اسم، ولا حرفَ جرّ ههنا يكون مجرورًا به. ولا يجوز أن يكون مخفوضًا بإضافةِ "إيّا" إليه؛ لأنّه قد قامت الدلالةُ على أنّه اسمٌ مضمرٌ، والمضمرُ لا يضاف, لأنّ الإضافة للتخصيص، والمضمراتُ أشدُّ المعارف تخصيصًا، فلم تحتج إلى الإضافة. وإذا ثبت أنّه ليس باسمٍ؛ كان حرفًا بمعنى الخطاب مجرَّدًا من مذهب الاسميّة، كالكاف في "النَّجاءَكَ" بمعنَىَ "انْجُ". فالكافُ هنا حرفُ خطاب؛ لأنّ الألف واللام والإضافة لا تجتمعان. ومثله قولهم: " انْظُرْكَ زيدًا"، فالكافُ حرف خطاب؛ لأنّ الفعل قد تعدّى إلى مفعوله، فلم يتعدّ إلى آخر، ولأنّ هذا الضرب من الفعل لا يتعدّى إلى ضمير المأمور، لا تقول: "اضرِبْكَ"، ولا "اُقْتُلْكَ" إذا أمرتَه بضَرْبِ نفسه وقَتْلِه إيّاها. وقالوا: "عنده رجلٌ لَيسَكَ زيدًا"، فالكافُ هنا ليست اسمًا؛ لأنّك قد نصبت "زيدًا" بأنّه خبرُ "ليس". ولو كانت الكافُ اسمًا، لكانت منصوبةٌ، ولو كانت منصوبة، لَمَا نصبتِ اسمًا آخر، وإذا كانت الكافُ قد وردت مرّةً اسمًا دالاًّ على الخطاب، نحو: "رأيتُك"، "ومررتُ بك" ومرّةً حرفًا دالاًّ على الخطاب مجرّدًا من معنى الاسميّة، كانت الكافُ في "إيّاك" من القبيل الثاني، لقيامِ الدليل عليه. فإنّ قيل: إذا زعمتَ أنّ الكاف في "إياك" حرفُ خطاب كحالها في "ذلِكَ"، وما ذكرتَه من النظير، فما تصنع بقولهم "إيّاه" و "إيّايَ"، ولا كافَ هناك، وإنّما هنا "هاءً"، و"ياءٌ"، ولا نعلمُهم جرّدوا الهاء والياء في نحو هذا من مذهبِ الاسميّة، كما فعلوا ذلك في الكاف التي في "ذلك" و"أُولئِكَ"؟ قيل: قد ثبت ذلك في الكاف، ولم نَجِد أمرًا سوّغ ذلك في الكاف، وانكفّ عن الهاء والياء، مع أنّه قد جاء عنهم: "قاما الزيدان"، و"قاموا الزيدون"، و"قُمْنَ الهِنْداتُ". وأنتَ إذا قلت: "الزيدان قاما"، فالألفُ اسمٌ، وضميرُ الفاعل. وإذا قلت: "الزيدون قاموا"، فالواو اسمٌ. وإذا قلت: "قاموا الزيدون"، فهي حرفٌ. وكذلك النونُ في قولك: "الهنداتُ قُمْنَ" اسمٌ، وفي قولك: "قُمْنَ الهنداتُ" حرفٌ. وإذا جاز في هذه الأشياء أن تكون في حالٍ دالّة على معنى الاسميّة، ومعنى الحرفيّة، ثمّ يُخلَع عنها معنى الاسميّة في حالٍ أخرى، جاز أن تكون الهاء في "ضَرَبَهُ"، و"الياء" في "ضَرَبَنِي"، اسمين دالَّيْن على معنى الاسميّة والحرفيّة. وإذا قلت: "إيّايَ"
و"إيّاهُ"، تَجرّدتا من معنى الاسميّة، وخلصتا لدلالة الحرفيّة. ويُؤكد عندك كونَها حروفًا غير أسماء أنّه لم يُسمَع عنهم تأكيدُها. لم يقولوا: "إيّاك نفسَك"، ولا "إيّاكم كُلَّكم"، ولا "إيّايَ نفسي"، ولا "إيّاهم كلَّهم". ولو كانت أسماء، لساغ فيها ذلك. وقد ذهب الخليلُ (¬1) إلى أنّ "إيَّا" في "إياك" اسمٌ مضمرٌ مضافٌ إلى الكاف. وحُكي عن المازنيّ مثله أنه مضمرٌ أُضيفُ إلى ما بعده، واعتمد على ما حكاه عن العرب. قال سيبويه (¬2): حدّثني من لا أتَّهِمُ عن الخليل أنَّه سمع أعرابيًّا يقول: "إذا بلغ الرجلُ السِتّين فإيّاهُ وإيَّا الشَوابِّ". قال: وقوعُ الظاهر موقع هذه الحروف مخفوضًا بالإضافة يدلّ على أنها أسماءٌ في محلِّ خفض. وحُكي عن أبي عثمان أنّه قال: لولا قولُهم: و"إيّا الشوابِّ"، لكانت الكافُ للمخاطب. وحكى سيبويه (¬3) عن الخليل أن قائلاً لو قال: "إيّاك نفسَك"، لم أُعنِّفْه. يريد: لو أكّدها بمُؤكِّد لم يكن مُخْطِئًا. وهو قولٌ فاسدٌ؛ لأنّه إذا سُلّم أنّه مضمرٌ، لم يكن سبيلٌ إلى إضافته، لما ذكرناه من أنّ الغرض من الإضافة التخصيصُ، والمضمراتُ أشدُّ المعارف تخصيصًا، وما أضيف من المعارف، نحو: "زيدكم"، "وعمركم"، فعلى تأويلِ التنكيرِ كأنّه توهّم أن جماعةً مسمَّيْنَ بهذَيْن الاسمَيْن، فأضافَهما. ولولا ذلك لم تسُغ إضافتُها. والمضمراتُ لا يُتصوّر تنكيرُها بحالٍ، فلا يمكن إضافتها. وأمّا قولهم: "وإيَّا الشوارب" فمحمولٌ على الشُّذوذ، وذلك أسهلُ من القول بإضافة المضمر. وأمّا قوله: لو أن قائلاً قال: "إيّاك نفسَك"، لم أُعنِّفه، فليس ذلك بروايةٍ رواها عن العرب، ولا مَحْضَ إجازةٍ، بل هو قياسٌ على ما رواه من قولهم: "وإيّا الشَّوابّ". وأبو الحسن استقلّ هذه الحكايةَ، ولم تكثُر، ولم يجز القياسُ عليها، فلم يجز "إيّاك وإيّا الباطلِ". ولم يستحسِن الجميعُ إضافةَ هذا الاسم إلى الظاهر. وذهب أبو إسحاق الزجّاجُ إلى أن "إيّا" اسمٌ ظاهرٌ يضاف إلى سائرِ المضمرات، نحو قولك: "إيّاك ضربتُ"، و"إيّاهُ حدّثتُ"، ولو قلت: "إيّا زيدِ حدّثتُ"، كان قبيحًا؛ لأنّه خُصّ به المضمرُ. قال: والهاء في "إيّاه" مجراها كالتي في "عصاه". وهذا القولُ يفسُد بما ذكرناه من الدلالة بأنّه اسمٌ مضمرٌ، ولو كان اسمًا ظاهرًا، وألفُه كألِف "عَصا"، و"مَغْرى" وما أشبهَهما ممّا يُحكَم في حروفِ العلّة منه بالنصب، لثبتتِ الألفُ في "إيّا" في حال الرفع والجرّ كما كانت في "عصا" كذلك. وليس كذلك، بل ثبتت في موضع النصب دون الموضعَيْن، فبَانَ أن "إيا" ليس كـ "عصا" و"مَغْزَّى"، لكنّه نفسَه في موضع نصب، كما أن الكاف في "رأيتُك" في موضع نصب، و"أنْتَ"، و"هُوَ" في موضع رفع. وذهب بعضُهم إلى أن "إياك" بكَمالها اسمٌ، حكى ذلك ابن كَيْسانَ. وفيه ضعفٌ ¬
من قِبَل أنّه ليس في الأسماء الظاهرة والمضمرةِ ما يختلِف آخره، فيكون تارةً كافًا، وتارةً ياءً، وتارةً هاءً , نحو: قولك: "إيّاكَ"، و"إيّايَ"، و"إيّاهُ"، فيكونَ هذا مثله، بل لمّا كانت الكافُ مفتوحةً مع خطاب المذكّر، مكسورةً مع خطابِ المؤنّث، فكذلك "إيّا" الاسمُ، والكافُ بعدها حرفُ خطَاب. ولذلك تقول: "إيّاكَ"، وَ"إيّاكُما"، و"إيّاكُمْ"، كما تقول: "أَنتَ" و "أَنْتُمَا"، و"أَنْتُمْ". وقال بعضهم: الياء والكاف والهاء هي الأسماء، و"إيَّا" عِمادٌ لها، وذلك لأنّها هي الضمائرُ في "أكرمتَني"، و"أكرمتُك"، و"أكرمتُه"، فلمّا أُريد ذلك، فَصَلها عن العامل، إمّا بالتقديم، وإمّا بتأخيرها عنه، ولم تكن ممّا يقوم بنفسه لضُعفها وقِلّتها، فدُعمتْ بـ "إيَّا"، وجُعلت وُصلةَ إلى اللفظ بها. فـ "إيّا" عندهم اسمٌ ظاهرٌ يُتوصّل به إلى المضمر، كما أنّ "كِلا" اسم ظاهرٌ يُتوصّل به إلى المضمر في قولك: "كِلاهما". وهذا القولُ واهٍ، وذلك لأنّ "إيّا" اسمٌ مضمرٌ منفصلٌ بمنزلةِ "أَنَا"، و"أَنْتَ"، و"نَحْنُ"، و"هُوَ" في أنّها مضمراتٌ منفصلةٌ، فكما أنّ "أنا" و"نحن" و"أنت" مخالِفٌ لفظ المرفوع المتّصل، نحو التاء في "قمتُ"، والنون والألِف في "قُمْنَا"، وهي ألفاظٌ أُخَرُ غيرُ ألفاظِ المضمر المتّصل، وليس شيءٌ منها معمودًا، بل هو قائم بنفسه، فكذلك "إيّا" اسمٌ مضمرٌ منفصلٌ ليس معمودًا به غيرُه. وكما أن التاء في "أَنْتَ"، وإن كان لفظُها لفظَ التاء في "قُمْتَ"، ليست إيَّاها معمودةً بما قبلها، وإنّما الاسمُ ما قبلها، وهي حرفُ معنى، وافَقَ لفظَ الاسم، كذلك ما قبل الكاف في "إيّاك" هو الاسمُ، وهي حرفُ خطاب. وأمّا تشبيهُهم "إيّا" بـ "كِلا" فليس بصحيح. والفرقُ بينهما ظاهرٌ، وذلك أنّ "كِلا" اسمٌ ظاهرٌ مفردٌ متصرِّفٌ، يدل على الاثنَيْن كما أنّ "كُلاًّ" اسمُ مفردٌ ظاهرٌ يدلّ على الجمع، و"كِلا" ليس بوُصلةٍ إلى المضمر؛ لأنّه قد اطّردتْ إضافتُه إلى الظاهر اطّرادَها إلى المضمر، نحو قوله تعالى: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا} (¬1) ونحو قول الشاعر [من الوافر]: 452 - كِلَا يَوْمَيْ طُوالَةَ وَصْلُ أَرْوَى ... [ظَنُونٌ، آنَ مُطَّرَحُ الظّنُونِ] ¬
فصل [استعمال الضمير المنفصل والضمير المتصل]
ولو كانت "كلا" وصلة إلى الضمير، لم تُضَفْ إلى غيره. وقال سيبويه: "إيَّا" اسمٌ لا ظاهرٌ، ولا مضمرٌ، بل هو مبهمٌ كُني به عن المنصوب، وجُعلت الكافُ والياءُ والهاء بيانًا عن المقصود، وليُعلَم المخاطب من الغائب، ولا موضعَ لها من الإعراب. ويُعزَى هذا القولُ إلى أبي الحسن الأخفش، إلّا أنّه أشكلَ عليه أمرُ "إيَّا"، فقال: هي مبهمةٌ بين الظاهر والمضمر. وقد قامت الدلالةُ على أنّه اسمٌ مضمرٌ بما فيه مَقْنَعٌ، وشبهها بالتنوين، وتاء التأنيث، وياءي النَّسْبة من حيث كانت حروفًا دالّةً على أحوالٍ في الاسم، كما دلّت الحروفُ الواقعةُ بعد "إيَّا" على أعدادِ المضمرين، والحضورِ، والغَيْبةِ، والمتكلّمِ، فهي مثلُها من هذه الجهة، وخُلُوِّها من معنى الاسمية، فاعرفه. فصل [استعمال الضمير المنفصل والضمير المتصل] قال صاحب الكتاب: ولأن المتصل أخصر لم يسوغوا تركه إلى المنفصل إلا عند تعذر الوصل, فلا تقول: "ضرب أنت ولا هو", ولا "ضربت إياك", إلا ما شذ من قول حميد الأرقط [من الرجز]: 453 - [أتتك عنسٌ تقطع الأراكا] ... إليك حتى بلغت إياكا ¬
وقول بعض اللصوص [من الهزج]: 454 - كأنا يوم قرى ... إنما نقتل إيانا وتقول: "هو ضرب" و"الكريم أنت", و"إن الذاهبين نحن" و [قال] [من السريع]: 455 - [قد علمت سلمي وجاراتها] ... ما قطر الفارس إلا أنا ¬
وجاء عبد الله وأنت وإياك أكرمت إلا ما أنشده ثعلب [من البسيط]: 456 - وما نبالي إذا ما كنت جارتنا ... ألا يجاورنا إلاك ديار * * * قال الشارح: قد تقدّم القولُ: إن الضمير ضميران: متّصلٌ ومنفصلٌ. فما كان متّصلاً، كان أَقَلَّ حروفا من المنفصل، فمِنْه ما كان على حرف واحد، كالتاء في "قمتُ"، والكاف في "ضَرَبَكَ" طَلَبًا للإيجاز والاختصارِ، حتّى إنّهم جعلوا بعضَ المتّصلة في النيّة كالضمير في "أَفْعَلُ"، و"يَفْعَلُ"، و"تَفْعَلُ"، وفي "زيدٌ قَامَ". وجاز أن يكون على حرف واحد لاتصاله بما قبله من حروفِ الكلمة المتقدّمة. فأمّا المنفصل، فلا يكون إلّا على حرفَيْن، أو أكثرَ؛ لأنّه منفرِدٌ عن غيره بمنزلةِ الأسماء الظاهرة، ولا يمكن إفرادُ كلمة على حرف واحد. وإذا ثبت أن المتصل أقلُّ حروفًا من المنفصل وأَوْجزُ، كان النُّطْقُ بالمتّصل أخفَّ، فلذلك لا يستعملون المنفصلَ في المواضع التي يمكن أن يقع فيها المتّصلُ؛ لأنّهم لا يعدِلون إلى الأثقل عن الأخفّ، والمعنى واحدٌ إلّا لضرورةٍ. فلذلك لا تقول: "ضَرَبَ أنتَ"، ولا "هُوَ"؛ لأنّه يجوز أن يقع هنا المتّصلُ، فتقول: "ضَرَبْتَ" و"ضَرَبَ"، فتكون التاء الفاعلةَ، ولا حاجةَ إلى "أنتَ". ¬
وكذلك يكون الفاعل مستتِرًا في "ضَرَبَ", ولا حاجةَ إلى "هُوَ", لأنّ الأوّل أوجزُ. وكذلك لا تقول: "ضرب زيدٌ إيّاك"، وإن كان فَصَلَ بينهما الفاعلُ الظاهرُ؛ لأنّ الفصل ليس بلازمٍ، إذ ليس تقدُّمُ الفاعل على المفعول حَتْمًا لازمًا؛ لأنّه يجوز أن تقول: "ضَرَبَكَ زيدٌ"، فتُقدَّم المفعولَ من غيرِ قُبْح. وأمّا قول حُمَيْد الأَرْقَطِ [من الرجز]: إليك حتى بلغتْ إيّاكا فإئه وضع " إيّاك" موضع الكاف ضرورةً، والقياسُ "بلغتْك". وكان أبو إسحاق الزجّاجُ يقول: تقديره: حتى بلغَتْك إيّاك. وهذا التقديرُ لا يُخْرِجه عن الضرورة سواءً أراد به التأكيدَ، أو البدلَ؛ لأنّ حذفَ المؤكَّد، أو المُبْدَل منه ضرورةٌ؛ والمرادُ: سارت هذه الناقةُ حتى بلغتْك. ومثله قولُ بعض اللُصوص [من الهزج]: كَأَنَّا يَوْمَ قُرَّى إنْ ... نَمَا نَقْتُلُ إيّانَا البيت لذي الإصْبَع العَدْوانيّ، وقبله: لَقِينَا مِنْهُمُ جَمْعًا ... فأَوْفَى الجَمْعَ ماكانَا وبعده: قَتَلْنَا مِنْهُمُ كُلَّ ... فَتًى أَبْيَضَ حُسّانا الشاهد فيه وضعُ "إيّانا" موضعَ الضمير المتّصل، إلّا أنّه أسهلُ ممّا قبله. وذلك لأنّه لا يُمْكِنه أن يأتي بالمتّصل، فيقول: "نَقْتُلُنَا"؛ لأنّه يتعدّى فعلُه إلى ضميره المتّصل، فكان حقه أن يقول: "نقتل أنفسَنا" لأنّ المنفصل والنفس يشتركان في الانفصال، ويقعان بمعنًى، نحو قولك: "ما أُكرمتَ إلّا نفسَك"، و"ما أكرمتَ إلّا إيّاك"، فلمّا كان المتّصل لا يمكن وقوعُه ههنا لِما ذكرناه، وكان النفسُ والمنفصلُ مترادِفَيْن، استعمل أحدهما موضع الآخر. و"قُرَّى" بضمْ الأوّل: موضعٌ، والمعنى أنّ قَتْلَنا إيّاهم بمنزلةِ قَتْلنا أنفسَنا؛ لأنَّا عشيرةٌ واحدةٌ. قال: وتقول: "هو ضَرَبَ"، و"الكريمُ أنتَ" إلخ، يشير إلى أنّ المضمر إذا وقع في هذه المواقع، لا يكون إلّا منفصلاً، ولا حظَّ للمتصل فيها. وجملةُ الأمر أن المضمرات المنفصلة تكون مرفوعةَ الموضع، ومنصوبةَ الموضع. والمرادُ بالمنفصل الذي لا يلي العاملَ، ولا يتّصل به بأن يكون مُعرَّى من عاملٍ لفظيِّ، أو مقدَّمَا على عامله اللفظيِّ، أو مفصولاً بينه وبين عامله. فأمّا المرفوع، فخمسةُ مواضع: المبتدأ وخبرُه، وخبرُ "إنَّ" وأخواتِها، وبعدَ حروف الاستثناء، وحروفِ العطف. فقولُنا: "هو ضَرَبَ" فـ "هو" مبتدأ، و"ضَرَبَ" جملةٌ في
فصل [توالي ضميرين]
موضع الخبر. وقولُنا: "الكريمُ أنتَ" "الكريمُ" مبتدأ، و"أنت" الخبرُ، والمبتدأُ وخبرُه العاملُ فيهما الابتداءُ، وهو عامل معنويٌّ، فلا يمكن وصلُ معموله به، فلذلك وجب أن يكون ضميرُهما منفصلاً. ومثلُ ذلك "كيفَ أنتَ؟ " و"أَيْنَ هُوَ؟ ". فـ"كيف" و"أَيْنَ" خبران مقدَّمان، و"أنتَ" و"هُوَ" مبتدآن، فلذلك وجب أن يكون ضميرُهما منفصلاً أيضًا. وقوله: "إنّ الذاهبين نَحْنُ"، فـ "نحن" خبرُ "إنَّ"، ولا يكون ضميرُه إلّا منفصلاً، لأنّه لا يصحّ اتّصاله بالعامل فيه, لأنّ مرفوعَ "إنّ" وأخواتِها لا يتقدّم على منصوبها. وقوله [من السريع]: ما قَطَّرَ الفارسَ إلّا أَنَا لمّا وقعت الكنايةُ بعد حرف الاستثناء، لم تكن إلّا منفصلةً. وقوله: "جاء عبدُ الله وأنتَ"، "أنت" عطفٌ على "عبد الله"، فانفصل؛ لأنّه وقع بعد حرف العطف، فلم يلتصِق بالعامل فيه. وأمّا المنصوب المنفصلُ، فيقع في خمسةِ مواضع أيضاً، إذا تقدّم على عامله، نحو: "إيّاك أكرمتُ"؛ لأنّه لا يمكن اتصالُه بالعامل مع تقدُّمه، أو كان مفعولاً ثانيًا، أو ثالثًا، نحو: "عِلمتُه إيّاه"، و"أعلمتُ زيداً عمرًا إياه"، أو كان إغراءَ المخاطب، نحوَ: "إيّاك والطريقَ". وقد تقدّم شرحُ ذلك. وربما اضطُرّ الشاعر، فوضع المتّصلَ موضعَ المنفصل، نحو ما أثده أحمدُ بن يَحْيَى [من البسيط]: فما نُبالِي إذا ما كنتِ جارَتَنَا ... إلخ فأتى بالكاف موضعَ "إيّاك" وهو ههنا أسهلُ من قوله [من الرجز]: إليك حتى بلغتْ إيّاكا (¬1) لأنّ فيه عُدولاً إلى الأخفّ الأوجزِ، و"إلّا" في معنى العامل، إذ كانت مُقوِّيةً له، كيف، وقد ذهب بعضُهم إلى أنّها هي العاملةُ؟ وإنّما أتى بالضمير المنصوب بعد "إلّا" هنا؛ لأنّه استثناءٌ مقدَّمٌ، والمرادُ أن لا يُجاوِرنا ديّارٌ إلّا أنتِ، أي: أنت المطلوبةُ، فإذا خلصتِ، فلا التفاتَ إلى غيركِ. فصل [توالي ضميرين] قال صاحب الكتاب: فإذا التقى ضميران في نحو قولهم: "الدرهم أعطيتكه", ¬
والدرهم أعطيتكموه"، و"الدرهم زيد معطيكه"، و"عجبت من ضربكه"، جاز أن يتصلا كما نرى، وأن يفصل الثاني, كقولك: "أعطيتك إياه"، وكذلك البواقي. وينبغي إذا اتصلا أن تقدم منهما ما للمتكلم على غيره، وما للمخاطب على الغائب، فتقول "أعطانيك", و"أعطانيه زيدٌ" و"الدرهم أعطاكه زيدٌ", وقال عز وجل: {أنلزمكموها} (¬1). * * * قال الشارح: المضمران إذا اتصلا بعامل، فلا يخلو اتّصالهما إما أن يكون بفعلٍ، وإمّا باسمٍ فيه معنى الفعل. فإنّ اتّصلا بفعلٍ، فإن كان أحدُ المضمرَيْن فاعلاً، والآخرُ مفعولاً، لزِم تقديمُ الفاعل على كلِّ حال من غِيرِ اعتبارِ الأقرب، وذلك نحو"ضربتُك"، و"ضربتُه"، و"ضربتَني"، و"ضربتَه"، و"ضَرَبَني"، و"ضَرَبَك"، و"ضَرَبَه". وإنّما لزم تقديمُ الفاعل مع الفعل على غيره من المضمرات, لأنّه كجزء منه، إذ كان يُغيِّر بناءه حتى يختلِط به، كأنّه من صِيغته، كقولك: "ذهبْتَ"، و"ذهبْتُمَا"، و"ذهبْتُمْ"، و"ذهبْتُنَّ"، فتُسكن آخِرَ الفعل، وقد كان مفتوحًا قبل اتّصاله به. وربّما اختلط به الضميرُ حتى يصير مقدَّرًا في الفعل بغيرِ علامة ظاهرة، كقولك: "زيدٌ قام"، و"أنت تقوم"، و"أنا أقوم"، و"نحنُ نقوم". ولا يُوجَد ضميرُ مرفوع متّصلٌ بغيرِ فعل، ولذلك استحكمتْ علامةُ الإضمار في الفعل. فإن كان المتّصلُ به الضميران مصدرًا، نحو: "عجبتُ من ضَرْبي إيّاك، ومن ضَرْبيكَ"، ذلك في الثاني وجهان: أن تأتي بالمتصل، نحو: "عجبتُ من ضَرْبيكَ"، وأن تأتي بالمنفصل، نحو: "عجبتُ من ضَرْبي إيّاك". والثاني هو الأجودُ المختارُ. وإنّما كان المنفصلُ هنا هو المختارَ بخلاف الفعل، لوجهَيْن: أحدُهما أن "ضَرْبًا" اسمٌ، ولا يستحكِم فيه علاماتُ الإضمار استحكامَها في الأفعال، إذ كانت علامةُ ضميرِ المرفوع، لا تتّصِل به، ولا بما اتّصل به، وإنّما يتّصل به علامةُ ضميرِ المجرور، والذي يُشارِكه في ذلك الأسماء التي ليس فيها معنى فعل، نحو: "غُلامي"، و"غلامك"، و"غلامه". ولا يتّصل بالضمير المضاف إليه "الغلامُ" ضميرٌ آخرُ متّصلٌ، فكان المصدرُ الذي هو نظيرُه كذلك. والوجه الثاني: أن الضمير المضافَ إليه المصدرُ مجرورٌ حالٌّ محلَّ التنوين، ونحن لو نَوَّنَّا المصدرَ، لَمَا وَلِيَه ضميرٌ متْصلٌ، وإنّما يَلِيه المنفصلُ، نحو قولك: "عجبتُ من ضَرْب إيّاك، ومن ضرب إيّاه، ومن ضرب إيّايَ". ولذلك كان الأجودُ المختارُ أن تأتي بالمنفصل مع المصدر. ويجوز أن تأتي بالمتّصل معه جوازًا حسنًا، وليس بالمختار. ¬
وإنّما جاز اتْصالُ الضميرَين به من نحو: "عجبتُ من ضَرْبِيكَ"، وإن كان القياسُ يقتضي انفصالَ الثاني من حيث كان اسمًا كغيره من الأسماء غيرِ المشتقّة، نحو: "غلامك"، و"صاحبك"، لشَبَهه بالفعل من حيث كان الفعل مأخوذًا منه، ويعمل عَمَلَه. فشُبّه ما اتّصل بالمصدر بما اتّصل بالفعل، فقولُك: "عجبتُ من ضَرْبي إيّاك" هو الوجهُ والقياسُ. وقولُك: "عجبتُ من ضَرْبِيك" جائزٌ حسنٌ على التشبيه بالفعل، نحو: "ضربتُك"، فالياء في "ضَرْبِيك" بمنزلةِ التاء في "ضربتُكَ". وإذا اتّصل الضميران بالمصدر، فالأوّل هو الفاعلُ، والثاني هو المفعول على الترتيب الذي ذكره من تقديم المتكلّم، ثُمّ المخاطبُ، ثمّ الغائبُ من نحو: "عجبتُ من ضَرْبِيك، وضَرْبِيه، ومن ضَرْبِكَهُ" على الترتيب الذي رتّبه صاحب الكتاب. فإن كان الفاعل المخاطبَ، وأضفتَ المصدر إليه، والمفعولُ به المتكلّمُ، لم يحسن إلّا المنفصلُ، نحو: "عجبتُ من ضَرْبك إيّايَ"، و"عجبتُ من ضَرْبه إيّاي". فإنّ كان الضميران مفعولَيْن، لزم اتّصالُ ضمير المفعول الأوّلِ بالفعل؛ لأنّه يَليه. ولا فَرْقَ في ذلك بين أن يكون قد اتّصل بالفعل ضميرُ فاعلِ، وأن لا يكون اتّصل به؛ لأنّ ضمير الفاعل يصير كحرفٍ من حروف الفعل، فيتّصل به ضميرُ المفعول بالفعل مع ضمير الفاعل، كما يتّصل به خاليًا من الضمير، فتقول: "ضربتُكَ"، و"ضربتَنِي"، كما تقول: "ضَرَبَكَ"، و"ضَرَبَنِي". فإذا جئتَ بعد اتّصالِ ضمير المفعول الأوّلِ بضميرِ مفعولٍ ثانٍ، جاز اتّصالُه وانفصالُه، نحو: "الدرهمُ أعطيتُكَهُ، وأعطيتُك إيّاه"، فاتّصالُه لقوّة الفعل، وأنّه الأصلُ في اتّصالِ المنصوب. ولما كان المتّصلُ أخصَر من المنفصل، ومعناه كمعنى المنفصل، اختاروه على المنفصل. وأمّا جوازُ الإتيان بالمنفصل، فلأنّ ضميرَ المفعول الثاني لا يُلاقي ذاتَ الفعل، إنّما يُلاقي ضميرَ المفعول الأوّل، وليس كذلك ضميرُ المفعول الأوّل, لأنّه يلاقي ذاتَ الفعل حقيقةٌ في نحو: "ضَرَبَكَ"، أو ما هو منزَّلٌ منزلةَ ما هو حرفٌ من حروف الفعل، نحو: "ضربتُكَ". ألا ترى أنَّه يلاقي الفاعلَ، والفاعلُ يتنزّلُ منزلةَ الجزء من الفعل؟ قال الله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} (¬1)، فقدّم ضميرَ المخاطب على الغائب؛ لأنّه أقربُ إلى المتكلّم. وقد اشترط صاحب الكتاب أنّه إذا التقى ضميران متّصلان، بُدىء بالأقرب إلى المتكلّم من غير تفضيل. والصوابُ ما ذكرتُه، وهذا الترتيبُ رأيُ سيبويه (¬2)، وحكايتُه عن العرب. والعلّةُ في ذلك أن الأولى أن يبدأ الإنسانُ بنفسه؛ لانّها أعرفُ وأهَمُّ عنده. وكما كان المختارُ أن يبدأ بنفسه، كان المختار تقديمَ المخاطب على الغائب؛ لأنّه أقربُ إلى ¬
[توالي ضميرين ثانيهما منفصل]
المتكلّم. وقد أجاز غيرُه من النحويين تقديمَ الضمير الأبعد على الأقرب قياسًا، وهو رأيُ أبي العبّاس محمّد بن يزيد، وكان يُسوِّي بين الغائب والمخاطب والمتكلّم في التقديم والتأخير، ويُجيز "أعطاهُوكَ"، و"أعطاهُوني". و"أعطاكَنِي". ويستجِيدُه، ولم يَرْضَ سيبويه مَقالتَهم وقال (¬1): هو شيءٌ قاسُوه ولم يتكلّم به العربُ، فاعرفه. [توالي ضميرين ثانيهما منفصل] قال صاحب الكتاب: وإذا انفصل الثاني لم تراع هذا الترتيب، فقلت: "أعطاه إياك" و"أعطاك إياي" وقد جاء في الغائبين أعطاهاه وأعطاهوها ومنه قوله [من الطويل]: 457 - وقد جعلت نفسي تطيب لضغمةٍ ... لضغمهماها يقرع العظم نابها وهو قليل, والكثير: "أعطاها إياه"، و"أعطاه إياها"، والاختيار في ضمير خبر كان وأخواتها الانفصال, كقوله [من الطويل]: 458 - لئن كان إياه لقد حال بعدنا ... [عن العهد والإنسان قد يتغير] ¬
وقوله [من مجزوء الرمل]: ليس إياي وإيا ... ك ولا نخشى رقيبا (¬1) وعن بعض العرب: "عليه رجلاً ليسني" وقال [من الرجز]: 459 - [عددت قومي كعديد الطيس] ... إذ ذهب القوم الكرام ليسي * * * ¬
قال الشارح: ومتى انفصل الضميرُ الثاني عن الأول، لم يلزم فيه هذا الترتيب، بل يجوز لك أن تبدأ بأيهما شئتَ، فتقول: "أعطاه إيّاك"، و"أعطاه إيّايَ"، و"أعطاك إيّايَ"، فتكون مخيَّرًا: أيُّهما شئتَ قدّمتَ. وإنّما كان كذلك من قِبَل أنّ الضمير المنفصل يجري مجرى الظاهر لاستقلاله بنفسه، وعدم افتقاره إلى غيره، فكما أنّ الأسماء الظاهرة لا يُراعَى فيها الترتيبُ، بل تُقدِّم أيَّها شئت، فكذلك الضميرُ المنفصل. فإذا كان الضميران غائبَيْن، جاز لك الجمعُ بينهما متّصلَيْن، فتقول: "أعطاهُوها"، و"أعطاهاهُ"، وكنتَ مخيَّرًا في أيّهما بدأتَ به. وذلك من قِبَل أنّهما كِلاهما غائبٌ، وليس فيهما تقديمُ بعيدٍ على قريبٍ. قال سيبويه (¬1): وهو عربيٌّ جيّدٌ، وليس بالكثير في كلامهم، بل الأكثرُ في كلامهَم: "أعطاه إيّاها"، و"أعطاها إيّاهُ"، فتأتي بضميرِ المفعول الثاني منفصلاً. وإنّما قَلَّ في كلامهم؛ لأنّه ليس فيه تقديمُ الأقرب على الأبعد لتَساويهما في المرتبة. فأمّا قولُ مُغَلِّس بن لَقِيط الأَسَديّ [من الطويل]: وقد جعلتْ نفسي ... إلخ فالشاهد فيه أنّه جمع بين ضميريَن بلفظِ الغيبة، الأوّلُ مجرورٌ بإضافةِ المصدر إليه، والثاني في محلِّ نصب بالمصدر. والجيدُ الكثيرُ: "لضغْمِهما إيّاها"، فيأتي به منفصلاً. واتّصالُ الضميرَيْن في البيت أقبحُ؛ لأنّهما اتّصلا بالمصدر، وهو اسمٌ، ولم يستحكم في اتّصال الضمير به استحكامَ الفعل. يصف حالَه مع بني أخيه مُدْرِكٍ ومُرَّةَ، وهو من أبيات أوّلها: وأَنقَتْ لِيَ الأيامُ بَعْدَكَ مُدْرِكَا ... ومُرَّةَ والدُّنْيَا كَريهٌ عِتابُها قَرِينَيْنِ كالذئْبَيْنِ يَقْتَسِمانني ... وشَرُّ صحَاباتِ الرجالِ ذِئابُها الضَّغْم: العَضُّ. والضمير الأوَّلُ المثنّى يعود إلى "قرينين"، والضميرُ الثاني يعود إلى النفس. وقوله: "يقرعُ العظمَ نابُها"، يصف شدّة العض بحيث يصل نابُه إلى العظم. ¬
فأمّا ضميرُ خبرِ "كَانَ" وأخواتِها، ففيه وجهان: أحدهما: الاتّصالُ، نحو قولك: "كَانَهُ"، و"كَانَني". قال أبو الأسوَد [من الطويل]: 460 - [دعِ الخَمْرَ يَشرَبْها الغُواةُ فإنّني ... رأيتُ أخاها مُجْزيًا لمكانِها] فإنّ لم يَكُنْهَا أو تَكُنْهُ فإنّه ... أَخُوها غَذَتْهُ أُمُّهُ بلبانِها ¬
فصل [الضمير المستتر]
والثاني: أن يأتي منفصلًا، نحو: "كان زيدٌ إياه"، و"كان إيّايَ". قال الشاعر [من مجزوء الرمل]: لَيْتَ هذا اللَّيْلَ شَهْرٌ ... لانَرَى فيه عَرِيبَا لَيْسَ إيّايَ، وإيّا ... كِ ولانَخْشَى رقيبا (¬1) وقال عمر بن أبي رَبِيعَةَ [من الطويل]: لَئنْ كان إيّاهُ لَقَدْ حَالَ بَعْدَنَا ... عن العَهْدِ والإنسانُ قد يَتَغَيَّرُ (¬2) وهذا هو الوجهُ الجيّدُ؛ لأنّ "كَانَ" واْخواتها يدخلن على المبتدأ والخبر، فكما أنّ خبر المبتدأ منفصل من المبتدأ، كان الأحسنُ أن تفصِله ممّا دخلن عليه. فأمّا الاسمُ المُخبَرُ عنه، فإنّ ضميره متّصلٌ؛ لأنّه بمنزلةِ فاعِل هذه الأفعال، ولا يكون إلّا اسمًا، فصار مع الفعل كشيء واحد، ولذلك تتغيّرُ بِنْيةُ الفعل له. ولمّا كان الخبرُ قد يكون جملةً، وظرفًا غيرَ متمكّن، وهذه الأشياء لا يجوز إضمارُ, ولا تكون إلّا منفصلةٌ من الفعل، اختير في الخبر الذي يمكن إضمارُه إذا أضمر أن يكون على منهاجِ ما لا يصحّ إضمارُه من الأخبار في الانفصال من الفعل. ووجهٌ ثانٍ أنّا لو وصلنا ضميرَ الخبر بضميرِ الاسم، نحو: "كُنْتُكَ"، و"كَانَهُ"، و"كَانَنِي"، فالفاعلُ في هذا الباب والمفعولُ لشيء واحد، وفعلُ الفاعل لا يتعدّى إلى نفسه متّصلًا، ويتعدّى إلى نفسه منفصلًا، فلا يجوز "ضربتُنِي"، ولا "ضربتَكَ"، ويجوز "إيّايَ ضربتُ"، و"إيّاك ضربتَ". فأمّا وجهُ جوازِ "كُنْتُهُ"، و"كَانَنِي"، فعلى التشبيه بالفعل الحقيقي حين جُعل الاسم والخبر بمنزلة الفاعل والمفعول. فأمّا قولهم: "عليه رجلاً لَيْسَنِي"، فهو حكاية عن بعض العرب، قال ذلك لرجلٍ ذُكر له أنّه يريده بسُوءٍ، فوصل الضمير بنونِ الوقاية على ما ذكرنا من التشبيه بالأفعال الحقيقية. فأمّا قول الشاعر [من الرجز]: عَدَذتُ قَوْمِي كَعدِيدِ الطَّيْسِ ... إذْ ذهَبَ القَوْمُ الكِرامُ لَيْسِي (¬3) فوصله بغيرِ نون تشبيهًا لها بالحرف، لقلّةِ تمكنها، وعدمِ تصرُّفها. فصل [الضمير المستتر] قال صاحب الكتاب: والضمير المستتر يكون لازماً وغير لازم. فاللازم في أربعة أفعال: "افعل", و"تفعل" للمخاطب, و"أفعل", و"نفعل". وغير اللازم في فعل الواحد ¬
الغائب, وفي الصفات. ومعنى اللزوم فيه أن إسناد هذه الأفعال إليه خاصة لا تسند البتة إلى مظهر, ولا إلى مضمر بارزٍ. ونحو "فعل", و"يفعل" يسند إليه وإليهما في قولك: "عمرو قام" و"قام غلامه", و"ما قام إلا هو", ومن غير اللازم ما يستكن في الصفة, نحو قولك: "زيدٌ ضاربٌ"؛ لأنك تسنده إلى المظهر أيضاً في قولك: "زيد ضارب غلامه"، وإلى المضمر البارز في قولك: "هندٌ زيد ضاربته هي"، و"الهندان الزيدان ضاربتهما هما"، ونحو ذلك مما أجريتها فيه على غير من هي له. * * * قال الشارح: لمّا كانت المضمرات إنّما جِيءَ بها للإيجاز والاختصارِ، قلّت حروفُها، فجُعل ما كان متّصلًا منها على حرف واحد، كالتاء في "قمتُ"، والكاف في "ضَرَبَكَ" إلّا أن يكون هاء، فإنّه يُردَف بحرف لين لخَفائه، واحتمل أن يكون على حرف واحد، لاتصاله بما قبله من حروف الكلمة. فأمّا المنفصل فيكون على أكثر من حرف واحد، لانفصاله ممّا يعمل فيه، واستقلالِه بنفسه، فهو جارٍ لذلك مجرى الظاهر. وجُعل بعضُ المضمرات مستتِرًا في الفعل منويًّا فيه، غُلُوًّا في الإيجاز، وذلك عند ظهور المعنى، وأَمْنِ الإلباس، وذلك في أفعالٍ مخصوصةٍ، فمن ذلك الفعلُ الماضي إذا أُسند إلى واحدٍ غائبٍ، نحو: "زيدٌ قام"، و"عمرٌو ضرب"، لا يظهر له علامةٌ في اللفظ، فإنّ ثُنّي وجُمع، طهرت علامتُه، نحو: "الزيدان قَاما"، و"الزيدون قاموا". فإنّ قيل: ولِمَ كان لا يظهر له علامةٌ مع الواحد، وتظهر مع التثنية والجمع، قيل: قد عُلم أن كل فعل لا بدّ له من فاعلٍ، إذ لا يحدُث شيءٌ من ذلك من تِلْقاء نفسه، فقد عُلم فاعل لا محالةَ، فلمّا كان الفعل لا يخلو من فاعلٍ، لم يُحتَج له إلى علامة. فإن قيل: ولِمَ الفاعلُ الغائبُ إذا أُسْنِدَ إلى الماضي، لا يظهر له علامةٌ، ومع المتكلّم والمخاطب يظهر له علامةٌ، نحوَ: "قمتُ"، و"قمتَ"؟ قيل: مع دلالةِ الفعل على فاعل، وقد تقدّم ظاهرٌ يعود إليه ذلك المضمرُ، أُغني عن علامةٍ له، وليس كذلك مع المتكلّم والمخاطب، فإنّه لا يتقدّم لهما ذكرٌ، فاحتيج إلى علامةٍ لهما لذلك، فاعرفه. ومن ذلك الصفات كاسم الفاعل واسم المفعول، نحوِ: "ضاربٍ"، و"مضروبٍ"، ونحوِهما من الصفات، فإنّها إذا جرت صفةً لواحد، كان فيها مضمرٌ من الموصوف لِما فيها من معنَى الفعليّة، إلّا أنّه لا يظهر له علامةٌ في اللفظ لِما ذكرناه، نحوَ قولك: "هذا رجلٌ ضاربٌ ومضروبٌ"، فإن وصفتَ بها اثنَيْن أو جماعة، ثنْيتَ الصفةَ، أو جمعتَها، فتقول: "هذان رجلان ضاربان، وغلامان مضروبان". وقامت علامةُ التثنية والجمع مقامَ علامة المضمر، وإن لم تكن إيّاها. والذي يدل على أن التثنية ههنا قائمةٌ مقامَ علامة الضمير، وإن لم تكن إياّها، أنّه إذا خلتِ الصفةُ من المضمر، لم تحسن تثنيتُها, ولا
فصل [ضمير الفصل أو العماد]
جمعُها، وذلك إذا أُسندت إلى ظاهر، نحوَ قولك: "هذا رجل ضاربٌ غلامُه"، لم تُثنِّه، ولم تجمعه، نحوَ قولك: "هذان رجلان ضاربٌ غلامُهما، ومضروبٌ أخواهما". ومن ذلك الأفعالُ المضارِعةُ، خص: "أقوم"، و"نقوم"، و"يقوم" و"تقوم" يستوي فيها ضميرُ المخاطب، والمتكلّم، والغائب في الاستتار، وعدمِ ظهورِ علامةٍ؛ لأنّ تصريفَ الفعل، وما في أوّله من حروف المضارعة يدل على المعنى، ويُغْنِي عن ذِكْرِ علامة له. وهذا الضمير المستتر على ضربَيْن: لازمٌ وغيرُ لازم، والمراد بقولنا: "لازمٌ" أن لا يُسنَد الفعل إلى غيره من الأسماء الظاهرة والمضمرةِ ذَواتِ العلامة، وذلك نحوُ: "أقومُ"، إذا أخبرتَ عن نفسك وحدَها، و"نَقومُ" إذا أخبرتَ عن نفسك وعن غيرك، فإنّه لا يكون الفاعلُ فيهما إلّا مستكِنًّا مستترًا، وإنما لم يُسنَد إلى ظاهرِ؛ لأنّ الظاهر موضعٌ للغيبة، والمتكلّمُ حاضرٌ، فاستحال الجمعُ بينهما, ولم يظهر فيه علامةُ تثنيةِ، ولا جمع، لامتناعِ حقيقةِ التثنية والجمع منه، إذ المُتكلِّمُ لا يُشارِكه متكلّمٌ آخرُ في خطاب واحدٍ، فيكونَ اللفظُ لهما، لكنّه قد يتكلّم عن نفسه وعن غيره، فجُعل اللفظ الذي يتكلّم به عنه وعن غيره مخالِفَ اللفظ الذي له وحدَهُ، واستوى أن يكون غيرُه المضمومُ إليه واحدًا واثنين وجماعةٌ، وقد تقدّم نحوُ ذلك. فأمّا قولُ صاحب الكتاب: فاللازمُ في أربعةِ أفعال: "افْعَلْ" للأمر فالفاعلُ فيه مستكن لا يمكن إبرازُه. و"تَفْعَلُ" للمخاطب. و"أفْعَلُ" للمتكلّم وحدَه. و"نَفْعَلُ" للمتكلّم إذا كان معه غيرُه. ومعنَى اللزوم أنّ إسنادَ هذه الأفعال إليه خاصّةً لا تُسنَد إلى مظهر، ولا إلى مضمر بارزٍ. والمرادُ بالبارز أن يكون له علامةٌ لفظيّةٌ، وذلك أن "افْعَلْ" في الأمر للواحد لا يظهر ضميرُه، ويظهر في التثنية والجمع، نحوِ: "افْعَلَا"، و"افْعَلُوا"، وكذلك "تَفْعَلُ" إذا خاطبت واحدًا لا يظهر له صورةٌ. وتظهر العلامةُ في التثنية والجمع، نحوِ: "تفعلان"، و"تفعلون". فأمّا "أفْعَلُ" إذا أخبر عن نفسه، و"نَفْعَلُ" إذا أخبر عن نفسه وعن غيره، فلا يظهر له صورةُ فاعلٍ ألبتّةَ استغناء عن ذلك بالعلامة اللاحقةِ للفعل، نحوِ الهمزة في "أفْعَلُ"، والنونِ في "نَفْعَلُ"، وما عدا ما ذكر من الأفعال لا يلزم استتارُ الضمير فيه، فاعرفه. فصل [ضمير الفصل أو العماد] قال صاحب الكتاب: ويتوسط بين المبتدأ وخبره قبل دخول العوامل اللفظية وبعده إذا كان الخبر معرفة أو مضارعاً له في امتناع دخول حرف التعريف عليه, كـ "أفعل من كذا" أحد الضمائر المنفصلة المرفوعة، ليؤذن من أول أمره بأنه خبرٌ لا نعت، وليفيد ضرباً من التوكيد. ويسميه البصريون فصلاً، والكوفيون عماداً, وذلك في قولك: "زيدٌ هو المنطلق"، و"زيدٌ هو أفضل من عمرو"، وقال تعالى: {إن
كان هذا هو الحق} (¬1)، وقال تعالى: {كنت أنت الرقيب عليهم} (¬2)، وقال: {ولا تحسبن الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله هو خيراً لهم} (¬3)، وقال تعالى: {إن ترن أنا أقل منك مالاً} (¬4). ويدخل عليه لام الابتداء، تقول: "إن كان زيدٌ لهو الظريف"، و"إن كنا لنحن الصالحين". وكثير من العرب يجعلونه مبتدأ, وما بعده مبنياً عليه, وعن رؤبة أنه يقول: "أظن زيداً هو خير منك", ويقرؤون: {ومن ظلمناهم ولكن كانوا هم الظالمون} (¬5) و {أنا أقل} (¬6). * * * قال الشارح: اعلم أنّ الضمير الذي يقع فَصْلًا له ثلاثُ شرائطَ: أحدها: أن يكون من الضمائر المنفصلة المرفوعةِ الموضع، ويكونَ هو الأوّلَ في المعنى. الثاني: أن يكون بين المبتدأ وخبرِه، أو ما هو داخلٌ على المبتدأ وخبره من الأفعال والحروف، نحو: "إنَّ" وأخواتها، و"كَانَ" وأخواتِها، و"ظننتُ" وأخواتِها. الثالثُ: أن يكون بين معرفتَيْن أو معرفةٍ وما قَارَبَها من النكرات. ويُقال له: فَصْلٌ، وعِمادٌ. فالفصل من عباراتِ البصريين، كأنّه فصل الاسمَ الأوّل عمّا بعده، وآذن بتَمامه، وأن لم يبق منه بَقيةٌ من نعتٍ، ولا بدلٍ إلّا الخبرَ لا غيرُ. والعِمادُ من عبارات الكوفيين، كأنّه عمد الاسمَ الأوّلَ، وقوّاه بتحقيق الخبر بعده. والغرض من دخول الفصل في الكلام ما ذكرناه من إرادةِ الإيذان بتمام الاسم وكَمالِه، وأنّ الذي بعده خبرٌ، وليس بنعتٍ، وقيل: أُتي به ليُؤذِن بأن الخبر معرفةٌ، أو ما قاربَها من النكرات. وإنّما اشتُرط أن يكون من الضمائر المنفصلة المرفوعةِ الموضع, لأنّ فيه ضربًا من التأكيد، والتأكيدُ يكون بضميرِ المرفوع المنفصل، نحوُ: "قمتُ أنَا"، و {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} (¬7)، ولذلك من المعنى وجب أن يكون المضمرُ هو الأولَ في المعنى؛ لأنّ التأكيد هو المؤكَّدُ في المعنى. ولهذا المعنى يُسمّيه سيبويه وَصْفًا كما يسمّى التأكيدَ المحضَ. ¬
ولو قلت على هذا: "كَانَ زيدٌ أنتَ خيرًا منه"، أو "ظننتُ زيدًا أنتَ خيرًا منه"، لم يجز؛ لأنّ الفصل ههنا ليس الأولَ، فلا يكون فيه تأكيدٌ له، فأمّا قول الشاعر [من الوافر]: 461 - وكَائِنْ بالأبَاطِحِ مِن صَدِيقٍ ... يَرانِي لو أُصِبْتُ هو المُصابا فإنّك لو حملتَه على ظاهره، لم يجز أن يكون "هُوَ" فصلًا, لأنّ "هُوَ" ضميرُ غائبٍ، و"نِي" ضميرُ متكلّم، فلا يصح أن يكون تأكيدًا له، فإن حملتَه على حذفِ مضاف، كأنّه قال: "يرى مُصابي هو المصابَا"، جاز؛ لأنّ الثاني هو الأوَّلُ. وإنّما اشترط أن يكون بين المبتدأ والخبر، أو ما دخل عليهما ممّا يقتضي الخبرَ. وذلك من قِبَل أنّ الغرض به إزالةُ اللبس بين النعت والخبر، إذ الخبرُ نعتٌ في المعنى. وذلك نحوُ قولك: "زيدٌ هو القائمُ", لأنّ الذي بعده معرفةٌ، يمكن أن يكون نعتًا لِما قبله، فلمّا جئت بـ "هُوَ" فاصلةً بَيَّنَ أنّك أردتَ الخبرَ، وأنّ الكلام قد تَمَّ به لفَصْلك بينهما، إذ الفصلُ بين النعت والمنعوت قبيحٌ. فإنّ قيل: إذا كان الغرض بالفصل إنّما هو الفرق بين النعت والخبر، فما بالُه جاء فيما لا لَبْسَ فيه، نحو قوله تعالى: {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (¬1)، و {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} (¬2). ولا لَبسَ في ذلك؛ لأنّ المضمرات لا تُوصَف؟ فالجوابُ أن هذا هو الأصلُ: ¬
أن لا يقع الفصلُ إلّا بعد الاسم الظاهر ممّا يُوصَف، فلمّا ثبت هذا الحكمُ للظاهر، أُجري المضمر مُجراه، وإن كانت المضمراتُ لا تُنعَت، إذ كان أصلُه المبتدأ والخبرَ، كما ذكرنا في "يَعِدُ"، و"تَعِدُ" و"نَعِدُ": أصل الحذف في "يَعِدُ" لوقوع الواو بين ياء وكسرة، وباقي أخواته محمولة عليه، كذلك ههنا. فلذلك تقول: "كان زيدٌ هو القَائمَ"، و"كنت أنَا القائم". قال الله تعالى: {فلما توفيتني كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (¬1). وتقول: "ظننتُ زيدًا هو القائمَ"، و"حسِبتُ زيدًا هو الجالسَ". قال الله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} (¬2). وقال: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} (¬3) من رؤيةِ القَلْب. واعلم أن قوله تعالى: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (¬4)، و {وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (¬5) و {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا} (¬6)، يجوز أن يكون المضمر فيه فصلًا، ويجوز أن يكون تأكيدًا؛ لأنّه بعد مضمرٍ، والمضمرُ يُؤكَّد بالمضمر المرفوع إذ كَانَهُ، سواء كان الأوّلُ مرفوعَ الموضع، أو منصوبَه، أو مجرورَه. واعلمْ أنّ الفصل لا يظهر له حكمٌ في بابِ "إنَّ" وأخواتِها، وباب المبتدأ والخبر، لأنّ أخبارها مرفوعةٌ، فإذا قلت: "زيدٌ هو القائمُ"، و"إن زيدًا هو القاَئمُ"، لم يُعلَم أنّ المضمر فصلٌ أو مبتدأٌ، إلّا بالإرادة والنيّةِ. ولا يظهر الفرق بينهما في اللفظ، ويظهر مع الفعل, لأنّ أخباره منصوبة، نحوَ قولك: "كان زيد هو القائمَ"، و"ظننتُ زيدًا هو العاقلَ". فعُلم أنّ "هُوَ" فصل بنصبِ ما بعده. وإنّما وجب أن يكون بعد معرفةٍ؛ لأنّ فيه ضربًا من التأكيد، ولفظُه لفظُ المعرفة، فوجب أن يكون الاسمُ الجاري عليه معرفة، كما أن التأكيد كذلك، ووجب أن يكون ما بعده معرفة أيضًا؛ لأنّه لا يكون ما بعده إلّا ما يجوز أن يكون نعتًا لِما قبله، ونعتُ المعرفة معرفةٌ. فلذلك وجب أن يكون بين معرفتَيْن. وقولنا: "أو ما قَارَبَ المعرفةَ" إشارةٌ إلى بابِ "أفْعَلُ مِن كذا"؛ لأنّه يقع بعد الفصل، وإن لم يكن معرفةً، وذلك لأنّه مُشابِهٌ للمعرفة من أجلِ أنّه غير مضاف. ويمتنع دخولُ الألف واللام عليه؛ لأنّ الألف واللام تُعاقِب "مِنْ"، فلا تُجامِعها، فجرى مجرَى العَلَم، نحو: "زيد" و"عمرو" في امتناعه من الألف واللام، وليس بمضافٍ مع أن "مِنْ" تُخصّصه؛ لأنّها من صلته، فطال الاسمُ بها، فصارت كالصلة للموصول، وذلك نحوُ قولك: "كان زيدٌ هو خيرًا منك"، و"حسِبتَني أنَا خيرًا منك". ¬
قال الله تعالى: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ} (¬1)، يُقرَأ: "تحسبنّ" في الآية بالتاء والياء (¬2)، فَمن قرأ بالتاء، فتقديرُه: لا تحسبَنَّ بُخْلَ الذين يبخلون بما آتاهم الله، ثمُ حُذف المضاف. ومَن قرأ بالياء، فـ "الذين" في موضع الفاعل، والمفعولُ الأوَّل محذوفٌ، والتقديرُ: البخلَ هو خيرًا لهم. وحَسُنَ إضمارُه لِما في "يبخلون" من الدلالة عليه، وصار كقولهم: "مَن كَذَبَ كان شَرًّا له"، أي: كان الكَذِبُ شرًّا له. ولو قلت على هذا: "ما ظننتُ أحدًا هو خيرًا منك"، لم يجز؛ لأنّه لم يأتِ بعد معرفة، وكذلك لو قلت: "ما ظننتُ زيدًا هو قائمًا" لم يجز؛ لأنّ الذي بعده ليس معرفةٌ، ولا مُقاربًا للمعرفة. ويجوز رفعُ ما بعد هذه المضمرات سواء كان قبلها معرفة، أو بعدها، أو لم تكن، وذلك نحوُ قولك: "ما ظننتُ أحدًا هو خيرٌ منك"، فـ "أحدًا" مفعولٌ أوّلٌ، وقولُك: "هو خيرٌ منك" مبتدأٌ وخبرٌ في موضعِ المفعول الثاني. وكذلك لو قلت: "ما ظننتُ زيدًا هو قائمٌ". كل ذلك جائزٌ. وكذلك تقول: "زيد هو القائمُ"، و"إنّ زيدًا هو العالمُ"، و"ظننتُ محمّدًا هو الشاخصُ"، و"كنتُ أنَا الراكبُ"، وهو استعمالُ ناس كثير من العرب حكاه سيبويه (¬3). وعَن رُؤبَةَ أنّه كان يقول: "أظُنّ زيدًا هو خيرٌ منك" بالرفع، وحكى عيسى بن عمر أن ناسًا كثيرًا من العرب يقولون: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} (¬4)، وقال قيس بن ذُرَيح [من الطويل]: 462 - تُبَكي على لُبْنَى وأنتَ تركتَها ... وكُنْتَ عليها بالمَلا أنتَ أقْدَرُ ¬
جاء مرفوعًا, لأنّ القافية مرفوعةٌ. والذي يُفارِق به المبتدأُ الفصلَ ههنا أنّ الضمير إذا كان مبتدأٌ، فإنه يُغيِّر إعرابَ ما بعده، فيرفعُه ألبتّةَ بأنّه خبر المبتدأ، وإذا كان فصلًا، لا يُغير الإعرابَ عمّا كان عليه، بل يبقى على حاله كما لو لم يكن موجودًا. فتقول في المبتدأ: "كان زيدٌ هو القائمُ "، ترفع "القائمَ" بعد أن كان منصوبًا، وتكون الجملةُ في موضع الخبر. وكذلك تقول: "ظننتُ زيدًا هو القائمُ"، ترفعُه أيضًا، وتكون الجملةُ في موضعِ المفعول الثاني لِـ"ظننتُ". فأمّا إذا كان الفصلُ بين المبتدأ وخبرِه، أو بين اسمِ "إنَّ" وخبرِها، فإنّه لا يظهر الفرقُ بينهما من جهة اللفظ؛ لأنّ ما بعد المضمر فيه مرفوع في كِلا الحالَيْن, لأنّ خبرَ المبتدأ مرفوع، وخبر "إن" مرفوع. وإنّما يقع الفصلُ بينهما من جهةِ الحكم والتقدير. فإذا جعلتَه مبتدأ، كان اسمًا، فله موضعٌ من الإعراب وهو الرفعُ، بأنّه مبتدأ، والمبتدأُ يكون مرفوعًا. ويدلّ على ذلك أنّك لو أوقعتَ موقعَه اسمًا ظاهرًا، لكان مرفوعًا، نحوَ قولك: "كان زيدٌ غلامُه القائمُ". هاذا جعلتَه فصلًا، فقد سلبتَه معنَى الاسميّة، وابتززتَه إيّاه، وأصرتَه إلى حَيِّزِ الحروف، وألْغَيْتَه كما تُلْغِي الحروفَ، نحوَ إلغاءِ "مَا" في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} (¬1)، فلا يكون له موضعٌ من الإعراب، لا رفعٌ، ولا نصبٌ، ولا خفضٌ، وليس ذلك بأبعدَ من إعمالِ "مَا" عَمَلَ "ليْسَ" لَشَبَهها بها، والقياسُ أن لا تعمل. ونظيرُ ذلك من الأسماء التي لا موضعَ لها من الإعراب الكافُ في "ذلِكَ"، و"أُولَئِكَ" و"رُوَيْدَكَ"، و"النَّجاءَكَ"، ونحوِ ذلك. وربّما التبس الفصلُ بالتأكيد والبدلِ في مواضعَ، والذي يفصِل بينهما. أمّا الفرقُ بين الفصل والتأكيد، فإنّه إذا كان التأكيدُ ضميرًا، فلا يُؤكد به إلّا مضمرٌ، نحوَ: "قمتَ أنتَ"، و"رأيتُك أنت"، و"مررتُ بك أنت". والفصلُ ليس كذلك، بل يقع بعد الظاهر ¬
فصل [ضمير الشأن أو القصة]
والمضمر، فإذا قلت: "كان زيدٌ هو القائمَ"، لم يكن "هُوَ" ههنا إلّا فصلًا لوقوعه بعد ظاهرٍ، ولو قلت: "كنتَ أنتَ القائمَ"، جاز أن يكون فصلًا ههنا، وتأكيدًا. ومن الفصل بينهما أنّك إذا جعلتَ الضمير تأكيدًا، فهو باقٍ على اسميّته، ويُحكَم على موضعه بإعرابِ ما قبله، وليس كذلك إذا كان فصلًا على ما بيّنا. وأمّا الفصلُ بينه وبين البدل، فإنّ البدل تابعٌ للمُبدَل منه في إعرابه كالتأكيد، إلّا أنّ الفرق بينهما أنّك إذا أبدلتَ من منصوبٍ، أتيتَ بضميرِ المنصوب، فتقول: "ظننتُك إيّاك خيرًا من زيد"، و"حسِبتُه إيّاه خيرًا من عمرو". وإذا أكّدتَ، أو فصلتَ، لا يكون إلّا بضمير المرفوع. ومن الفرق بين الفصل والتأكيد والبدل أن لامَ التأكيد تدخل على الفصل، ولا تدخل على التأكيد والبدل، فتقول في الفصل: "إن كان زيد لَهو العاقلَ"، و"إن كنّا لَنَحّنُ الصالحين"، ولا يجوز ذلك في التأكيد والبدل؛ لأنّ اللام تفصِل بين التأكيد والمؤكَّد، والبدلِ والمبدلِ منه، وهما من تمامِ الأوّل في البيان. وقد ذهب قومٌ إلى أن "هُوَ" ونحوَها من المضمرات لا تكون فصلًا، وإنّما هي في هذه المواضع وصفٌ وتأكيدٌ، وهي باقيةٌ على اسميتها. وقد بيّنّا فَسادَ ذلك بُوقوعه بعد الظاهر والمضمر، ولا يُؤكَّد به الظاهرُ، وبدخولِ لام التأكيد عليه، فاعرفه. فصل [ضمير الشأن أو القصة] قال صاحب الكتاب: ويقدمون قبل الجملة ضميراً يسمى ضمير الشأن والقصة, وهو المجهول عند الكوفيين, وذلك نحو قولك: هو زيد منطلق أي الشأن والحديث زيد منطلق. ومنه قوله عز وجل: {قل هو الله أحد} (¬1) ويتصل بارزاً في قولك: "ظننته زيد قائم"، و"حسبته قام أخوك"، و"إنه أمة الله ذاهبةٌ"، وإنه يأتنا نأته"، وفي التنزيل: {وأنه لما قام عبد الله} (¬2)، ومستكناً في قولهم "ليس خلق الله مثله", و"كان زيد ذاهب"، و"كان أنت خير منه"، وقوله تعالي: {كاد تزيغ قلوب فريق منهم} (¬3) , ويجيء مؤنثاً إذا كان في الكلام مؤنث نحو قوله تعالى: ¬
فإنها لا تعمى الأبصار} (¬1)، وقوله تعالى: {أو لم تكن لهم آية أن يعلمه علماء بني إسرائيل} (¬2). وقال [من الطويل]: 463 - على أنها تعفو الكلوم [وإنما ... نوكل بالأدني وإن جلّ ما يمضي * * * قال الشارح: اعلم أنّهم إذا أرادوا ذِكْرَ جملة من الجُمَل الاسميّة، أو الفعليّة، فقد يُقدِّمون قبلها ضميرًا يكون كنايةٌ عن تلك الجملة، وتكون الجملة خبرًا عن ذلك الضمير، وتفسيرًا له. ويُوَحِّدون الضمير؛ لأنّهم يريدون الأمرَ والحديثَ, لأنّ كلَّ جملة شأنٌ وحديثٌ، ولا يفعلون ذلك إلّا في مواضع التفخيم والتعظيم، وذلك قولك: "هو زيدٌ قائمٌ"، فـ "هُوَ" ضميرٌ لم يْتقدّمْه ظَاهرٌ. إئما هو ضميرُ الشأن والحديثِ، وفَسَّرَه ما بعده من الخبر، وهو "زيدٌ قائمٌ"، ولم تأتِ في هذه الجملة ¬
بعائدٍ إلى المبتدأ، لأنّها هو في المعنى، ولذلك كانت مُفسِّرة له، ويُسمِّيه الكوفيون الضمير المجهول؛ لأنّه لم يتقدّمه ما يعود إليه. فأمّا قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬1) فقد قال جماعة البصريين والكسائيُّ من الكوفيين: إن "هُوَ" ضميرُ الشأن والحديث، أُضمر ولم يتقدمّه مذكورٌ، وفسّره ما بعده من الجملة. وقال الفرّاء: هو ضميرُ اسم الله تعالى، وجاز ذلك وإن لم يَجْرِ له ذكرٌ لِما في النفوس من ذِكْره، وكان يجيز: "كان قائمًا زيدٌ"، و"كان قائمًا الزيدان والزيدون"، فيكون "قائما" خبرًا لذلك الضمير وما بعده مرتفعٌ به، والبصريون لا يُجيزون أن يكون خبرُ ذلك الضمير اسمًا مفردًا؛ لأنّ ذلك الضمير هو ضميرُ الجملة، فينبغي أن يكون الخبر جملة، كما تقول: "كان زيدٌ أخاك"، فتجعل "الأخَ" خبرًا له، إذ كان هو إيّاه، غير أن الخبر إذا كان مفردًا، كان مُعرّبًا، وظهر الإعرابُ في لفظه، وإذا كان جملةٌ، كان الإعرابُ مقدّرًا في موضعه دون لفظه. ويجيء هذا الضمير مع العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر، نحو: "إن" وأخواتِها، و"ظننتُ" وأخواتها، و"كَانَ" وأخواتها، وتعمل فيه هذه العواملُ. فإذا كان منصوبًا، برزت علامتُه متّصلة، نحوَ قولهم: "ظننتُه زيدٌ قائمٌ"، و"حسبته قام أخوك"، فالهاء ضميرُ الشأن والحديثِ، وهي في موضع المفعول الأوّل، والجملةُ بعدها في موضع المفعول الثاني، وهي مُفسِّرةٌ لذلك المضمر. وتقول: "إنّه زيدٌ ذاهبٌ"، فالهاءُ ضميرُ الأمر، و"زيدٌ ذاهبٌ" مبتدأ وخبرٌ في موضع خبرِ الأمر. ومثله: "إنّه أَمَةُ الله ذاهبةٌ"، و"إنّه مَن يأتِنا نَأتِه"، الهاء في ذلك كلّه ضميرُ الحديث، وما بعده من الجملة تفسيرٌ له في موضع الخبر، ولا يُحتاج فيها إلى عائدٍ في الجملة، لأنّها هي الضميرُ في المعنى. ومثله قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يدعوه} (¬2)، ولا يجوز حذفُ هذه الهاء إلّا في الشعر. لا يجوز في حال الاختيار "إن زيدٌ ذاهبٌ" على معنَى "إنّه زيد ذاهبٌ"، وقد جاء في الشعر. قال [من الخفيف]: 464 - إنّ مَن لَامَ في بَنِي بِنْتِ حَسّا ... نٍ ألُمّة وأعْصِهِ في الخُطُوب ¬
وقال [من الخفيف]: 465 - إنّ مَن يَدْخُلِ الكَنِيسَةَ يَوْمًا ... يَلْقَ فيها جَاَذِرًا وظِباءَ ¬
الهاء مرادةٌ، والتقديرُ: إنَّهُ، وذلك لأنّ "مَنْ" ههنا شرطٌ، ولا يعمل في الشرط ما قبله من العوامل اللفظيّة، فلذلك قلنا: إنّ الهاء مرادةٌ، وكذلك باقي أخواتها. وإذا كان مرفوعًا متْصلًا، استكنّ في الفعل، واستتر فيه؛ لأنّ ضمير الفاعل، إذا كان واحدًا غائبًا، استكنّ في الفعل، نحوَ: "زيد قام"، فلذلك قالوا: "ليس خَلَق اللهُ مثلَه"، ففي "لَيسَ" ضميرٌ منويٌّ مستكنٌّ؛ لأنّ "لَيسَ"، و"خَلَقَ" فعلان، والفعلُ لا يعمل في الفعل، فلا بدّ من اسم يرتفع به، فلذلك قيل: فيه ضميرٌ. وتقول: "كان زيدٌ قائمٌ"، و"كان أنتَ خيرٌ منه"، ففي "كَانَ" ضميرُ الأمر مستكنًّا فيها، والجملةُ بعده في موضع الخبر، وهو تفسيرٌ لذلك المضمر، وكذلك باقي أخواتها. قال الشاعر [من الطويل]: إذا مُتُّ كان الناسُ صِنْفان شامِتٌ ... وآخَرُ مُثْني بالذي كُنْتُ أصْنَعُ (¬1) أضمر في "كَانَ" ضميرَ الشأن والحديث، وأوقع الجملةَ بعده تفسيرَه. ومنه قول الآخر [من البسيط]: 466 - هي الشِّفاءُ لِداءٍ لو ظفِرتُ بها ... وليس منها شِفاءُ الداءِ مَبْذُولُ ¬
جعل في "لَيْسَ" ضميرًا، لم يتقدّمْه ظاهرٌ، ثمّ فَسرَهُ بالجملة من المبتدأ والخبر الذي هو خبرُه. فأمّا قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ} (¬1)، فقد قرأ حَمْزةُ وحَفْصٌ: "كاد يزيغ" بالياء، وقرأ الباقون بالتاء. وفي رفعِ "قلوب" وجهان: أحدُهما: أنّها مرتفعة بـ "تزيغ"، وفي "كَادَ" ضميرُ الأمر؛ لأن "كَادَ" فعلٌ، و"تزيغ" فعلٌ، والفعل لا يعمل في الفعل، فلم يكن بد من مرتفع به. الثاني: أنها مرتفعةٌ بـ "كَادَ"، والخبرُ مقدَّمٌ، وهو"تزيغ"، والأولُ أجودُ؛ لأنّك جعلتَ ما يعمل فيه الأوَّل يلي الآخِرَ، وهذا لا يحسن. قال: "وربما أنّثوا ذلك الضمير على إرادةِ القصّة". وأكثرُ ما يجيء إضمارُ القصّة مع المؤنْث، وإضمارُها مع المذكر جائزٌ في القياس؛ لأنّ التذكير على إضمارِ المذكر، وهو الأمرُ والحديثُ، فجائزٌ إضمارُ القصة والتأنيثُ لذلك. وأما قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} (¬2)، فإن ابن عامر وحدَه قرأ بالتاء، ورفعِ "آية"، وقرأ سائرُ السبعة بالياء، ونصبِ "آية"، فالنصبُ على خبرِ "كان" و"أن يعلمَه" الاسمُ. ومن قرأ بالتاء والرفعِ، فعلى إضمارِ القصة، والتقديرُ: أو لم تكن القصّة أن يعلمه علماء بني إسرائيل آيةٌ. كأنّك قلت: "عِلْمُ بني إسرائيل آيةٌ"، كما تقول: "لم تكن هندٌ منطلقة"، وأنتَ تريد لم تكن القصّةُ، و"أن يعلمه" مبتدأ، و"آية" الخبرُ، وقد تقدم عليه، كقولهم: "تَمِيمِيٌّ أنَا"، و"مشنوءٌ مَن يَشْنَأُك". ولا يحسن أن يكون "آيةٌ" اسمَ "تَكُنْ"؛ لأنها نكرةٌ، و"أن يعلمه" معرفةٌ، فإذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ، فالاسمُ هو المعرفةُ، والخبرُ النكرةُ، فلذلك عدل المحققون عن هذا الظاهر إلى إضمار القصّة. وقد ذهب بعضهم إلى أنّ "آية" اسمُ "تكن" وتأنيثَ الفعل لذلك، و"أنْ يعلمه" الخبرُ. قال: لأن الاسم والخبر شيءٌ واحدٌ مع أنها قد خصت بقوله: لَهُمْ. وهذا ضعيفٌ لا يكون مثلُه إلّا في الشعر، وموضعِ الضرورة. ويُقوِّي الوجهَ الأولَ قراءةُ الجماعة، فأمَّا قول الشاعر [من الطويل]: على أنّها تَعْفُو الكُلومُ وإنما ... نُوَكَّلُ بالأدْنَى وإنْ جَلَّ مايَمْضِي (¬3) ¬
فصل [تمييز الضمير]
البيت من الحَماسة لأبي خِراش الهُذَلي، وهو من قِطْعةٍ أوَّلُها: حَمِدْتُ إِلهِي بعدَ عُرْوَةَ إذ نَجَا ... خِراشٌ وبعضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بَعْضِ والشاهد فيه قولُه: "على أنها" على تأنيثِ القصّة، أي: على أن القصّة تعفو الكلومُ. الكلومُ: جمعُ كَلْم، وهي الجِراحُ. تعفو أي: تَدْرُسُ، من قولهم: "عَفَتِ الرِّياحُ المنزل"، أي: درستْه. والمرادُ: أن الكلوم والمَصائب قد تُنسَى، وإنّما نُوَكل منها بما يقرُب حدوثُه، وإن كان ما مضى منه جليلًا، فاعرفه. فصل [تمييز الضمير] قال صاحب الكتاب: والضمير في قولهم "ربه رجلاً" نكرة مبهم يرمي به من غير قصد إلى مضمر له، ثم يفسر العدد المبهم في قولك: "عشرون درهماً". ونحوه في الإبهام والتفسير والضمير في نعم رجلاً. * * * قال الشارح: هذا الضمير كالضمير المتقدّم في احتياجه إلى ما يُفسِّره، إلّا أن ذلك الضمير يُفسَّر بجملةٍ، والضميرَ في"رُبَّ" يفسر بمفردٍ، وإنّما دخلتْ "رُبَّ" على هذا المضمر، و"رُبَّ" مختصّةٌ بالنكرات من حيث كان ضميرًا لم يتقدمه ذكر، فكان مبهما مجهولًا يحتاج إلى ما يُفسره ويُبيِّنه، فأشبهَ النكراتِ، فساغ دخولُها عليه لذلك. وصار كالعدد إذا قلت: "عشرون"، أو"ثلاثون" مَثَلًا، فإنّه يُفيد مقدارًا معلومًا من غيرِ أن يدل على نوعِ المعدود، فهو مبهمٌ، ولذلك فُسّر بالواحد، ليدل على نوع المعدود. ونظيرُ هذا المضمر المضمرُ في "نِعْمَ"، و"بِئْسَ" في أحدِ ضربَيْ فاعلهما، فإنّه يكون مضمرًا لم يتقدمه ذكر، ثم يُفسر بالواحد المنكورِ، نحوَ: "نِعْمَ رجلًا زيد"، و"بِئسَ غلامًا عمرٌو"، وسنذكُر حكمَهما في موضعهما إن شاء الله تعالى. فصل [الضمير بعد "لولا"] قال صاحب الكتاب: وإذا كنى عن الأسم الواقع بعد لولا وعسى فالشائع الكثير أن يقال لولا أنت ولولا أنا وعسيت وعسيت قال تعالى: {لولا أنتم لكنا مؤمنين} (¬1) وقال: {فهل عسيتم} (¬2). وقد روى الثقات عن العرب: "لولاك", ¬
ولولاي وعساك وعساني وقال يزيد بن أم الحكم [من الطويل]: 467 - وكم موطن لولاي طحت كما هوى ... بأجرامه من قلة النيق منهوي وقال [من السريع]: 468 - [أومت بعينيها من الهودج] ... لولاك هذا العام لم أحجج ¬
وقال [من الرجز]: يا أبتا علّك أو عساكا (¬1) وقال [من الوافر]: ولي نفس أقول لها إذا ما ... تنازعني لعلي أو عساني (¬2) * * * قال الشارح: قد تقدم القول: إنّ الاسم الواقع بعد "لَولاَ" الظاهرَ يرتفع بالابتداء عند جماعةِ البصريين، فإذا كُني عنه، فينبغي أن لا يختلِف إعرابُه؛ لأن العامل في الحالَين شيءٌ واحدٌ. فكما أنه إذا كان ظاهرًا يكون مرفوعًا بالابتداء، فكذلك إذا كُني عنه، يكون في محل رفع بالابتداء، ويكون لفظُه من الضمائر المرفوعة المنفصلة. هذا هو القياسُ، وعليه أكثرُ الاستعمال فعلى ذلك تقول: "لولا أنتَ"، و"لولا أنتُمَا"، و"لولا أنتم". قال الله تعالى: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (¬3). وقال عامر بن الأكْوَع، وهو يَحْدُو برسول الله - صلى الله عليه وسلم -[من الرجز]: 469 - لَا هُمَّ لولا أنتَ ما اهتَدَينَا ... ولا تَصَدَّقْنَا ولا صَلَّينَا ¬
وأمْا الكِسائي، فكان يرى ارتفاعَ الاسم بعد "لولا" بفعل مضمر معناه: لو لم يكن، فعلى هذا ينبغي إذا كُني عنه أن تقول: "لولا أنا"، و"لولا أنت"؛ لأن الفعل لم يظهر، فيتصلَ به كنايتُه، فوجب أن يكون الضمير منفصلًا. وأمّا "عَسَى"، فهو فعل من أفعالِ المقاربة، وهو محمولٌ في العمل على "كَانَ"، لاقتضائه اسمًا وخبرًا، واسمُها مشبَّهٌ بالفاعل يرتفع ارتفاعَه، كما أن "كَانَ" كذلك، فإذا كُنَّي عن اسم "عَسَى"، فينبغي أن يكون كالكناية عن اسمِ "كَانَ"، ضميرا متّصلًا مرفوعَ الموضع، وعَليه الاستعمالُ، نحوُ: "عَسَيتُ"، و"عسيتَ"، و"عسيتُمَا"، و"عسينَا"، و"عسيتُم". قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} (¬1) قُرىء بفتح السين وكسرها (¬2)، وهما لغتان، والفتحُ أشهرُ، إلّا أنه قد ورد عن العرب: "لولاكَ"، و"لولايَ". قال الثقَفي [من الطويل]: وِكم موطن لولايَ ... إلخ وقبله: عَدُوُّك يَخْشَى صَوْلَتِي إن لَقِيتُه ... وأنْتَ عَدُوِّي ليس ذاك بمُسْتَوِي الشاهد فيه إتيانُه بضميرِ المجرور بعد "لَوْلَا"، وهي من حروف الابتداء، ومعنَى طِحْتَ: هُلكتَ، والأجرامُ: جمعُ جِرْم، وهو الجَسَدُ، والنِّيقُ: أعلى الجبل، ومُنْهَوِ: ساقِطٌ، وهو شاذٌّ, لأن نونَ المطاوَعة إنّما تدخل فعلاً متعدّيًا، نحوَ: "كسرتُه فانْكَسَر"، و"حسرتُه فانحسر"، و"هَوَ" كما ترى لازمٌ. ومنه قول الآخر [من السريع]: لولاكَ هذا العامَ لم أحْجُجِ البيت لعمر بن أبي رَبِيعَةَ، وصدرُه: أوَمَتْ بكَفيْها مِنَ الهَوْدَجِ وكان أبو العباس يُنكِر هذا الاستعمال، ويقول: إنّه خَطَأ. والذي استغواهم بيتُ الثقَفي، وفي قصيدته اضطرابٌ، وإنكارُ مثلِ هذا لا يحسن، إذ الثقفي من أعيانِ شعراءِ ¬
العرب، وقد روى شِعْرَه الثقاتُ، فلا سبيلَ إلى مَنعِ الأخذِ به مع أنه قد جاء من غير جهةِ الثقفي نحوُ بيت عمر، وهو قوله: لولاكَ هذا العامَ لم أحْجُجِ الكاف في "لولاك" مفتوحةَ، والخطابُ لعمر، يشير إلى أنها أوْمَأتْ إليه، وقالت ذلك. ومنه قول الآخر [من الطويل]: 470 - أتُطْمِعُ فِينَا مَن أراقَ دِماءَنا ... ولولاكَ لم يَعْرِضْ لأحْسابِنا حَسَنْ وورد عنهم أيضًا "عَساكَ"، و"عَساني"، قال الشاعر [من الوافر]: ولي نفسٌ أقول لها ... إلخ البيت لعِمَرانَ بن حِطان (¬1) الخارِجي، والشاهدُ فيه اتصالُ ضمير النصب بـ "عَسَى"، والقياسُ: "عَسَيتُ"، فتأتي بضميرِ الرفع كما أن الظاهر كذلك. ودخولُ نون الوقاية في "عساني" دليلَ على أن الضمير في موضع نصب. يقول: إذا نازعتْني نفسي في أمر الدنيا، خالفتُها، وقلتُ: لعلي أتورطُ فيها، فأكف عمّا تدعوني إليه. وقيل: المرادُ إذا نازعتُها لأحمِلَها على الأصلح لها، ثم سوفتْني، قلتُ لها: لَعَلِّي أقبَل هذا، وأصبِر على ما تدعوني إليه، وقبلَ هذا البيت: ومَن يَقصِدْ لأهلِ الحق منهم ... فإني أتقِيه بما اتَّقاني ¬
يُريد أن من يقصد الخَوارجَ ويُخالِفها، أُدافِعه، وأُحارِبه، وأتَّقِيه. ومن ذلك قولُ رُؤبَةَ [من الرجز]: يا أبَتَا عَلَّكَ أو عَسَاكَا وقبله: تَقُول بِنْتِي: قد أَنَى أناكَا الشاهد فيه "عساكا"، ووضعُ ضمير النصب موضعَ ضمير الرفع. والمعنى: إنّه قد حان وقتُ رَحيلكَ في طَلَبِ الرزق، وقولُه: "عَلَكَ"، أي: لَعَلكَ إن سافرتَ أصبتَ مُلْتمَسَك. * * * قال صاحب الكتاب: واختلف في ذلك: فمذهب سيبويه (¬1) , وقد حكاه عن الخليل ويونس أن الكاف والياء بعد "لولا" في موضع الجر، وأن لـ "لولا" مع المكنى حالاً ليس له مع المظهر، كما أن لـ "لدن" مع "غدوة" حالاً ليست له مع غيرها. وهما بعد عسى في محل النصب بمنزلتهما في قولك:"لعلك", و"لعلي". ومذهب الأخفش أنهما في الموضعين في محل الرفع، وأن الرفع في "لولا" محمول على الجر، وفي "عسى" على النصب، كما حمل الجر على الرفع في قولهم: "ما أنا كأنت" والنصب على الجر في مواضع. * * * قال الشارح: لما ورد عنهم "لَوْ لايَ"، وَ"لَوْلاكَ"، و"عساكَ"، و"عساني"، وليست هذه الكناياتُ من ضمائرِ المرفوع، والموضعُ موضعُ رفع، تَشعَّب فيه أراءُ الجماعة. فذهب سيبويه إلى أن موضعَ الضمير في "لولايَ"، و"لولاكَ" خفضٌ، وحكاه عن الخليل ويونسَ، واحتجّ بأن الياء والكاف لا يكونان علامةَ مضمرٍ مرفوع، وأنّ "لَوْلَا" في عَمَلِها الخفضَ مع المكنى، وإن كانت لا تعمله مع الظاهر بمنزلةِ "عَسَى" في عملها النصبَ مع المكنى، نحوِ: "عساك"، و"عساني"، وإن كان عملُها مع الظاهر الرفعَ، فَلِ"عسى"، ولـ"لَوْلَا" مع المضمر حال تُخالِف الظاهرَ. كما أنّ لـ"لَدُنْ" مع "غُدْوَةٍ" حالًا ليست مع غيرها. ألا تراها تنصبها دون أن تنصب غيرَها. والمرادُ أنه غيرُ مستنكَر أن يكون للحرف عملٌ في حالٍ، لا يكون له في حالٍ أُخرى. وحاصلُه إبرازُ نظيرٍ ليقعَ الاستئناسُ به. ومن ذلك "لَاتَ" من قوله تعالى: {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (¬2)، فإنّها تعمل في الأحيان عَمَلَ "لَيْسَ"، ومع غيرها لا يكون لها عملٌ. فإن قيل: إذا جعلتم "لَوْلَا" خافضة، وحروفُ الخفض جيء بها لإيصالِ (¬3) الأفعال ¬
إلى الأسماء، فـ "لَوْلَا" وُصلة لِماذا؟ فالجوابُ أن حروف الجرّ قد تقع زوائدَ في موضعِ ابتداء، وذلك نحوُ قولهم: "بحَسْبِكَ زيدٌ"، والمرادُ: حسبُك زيدٌ، وقولِهم: "هل من أحدٍ عندك؟ " والمرادُ: هل أحدٌ عندك؛ فموضعُ الحرفَيْن رفيع بالابتداء وإن كانا عمِلا الخفضَ، فكذلك "لَوْلَا" إذا عملت الجرَّ، صارت بمنزلة الباء في "بحسبك زيد". و"مِنْ" في "هل من أحد عندك" غيرَ متعلّقة بشيء، وموضعُها رفيع بالابتداء، والخبرُ مقدر محذوف كما كان مع الرفع. وقال الأخفش -وهو قول الفراء -: إن الكاف والياء في "لولاك" و"لولاي" في موضعِ رفع، واحتجّ بأن الظاهر الذي وقعت هذه الكناياتُ موقعَه مرفوع. قال: وإنما علامةُ الجرّ دخلت على الرفع ههنا، كما دخلت علامةُ الرفع على الجرّ في قولهم: "ما أنا كأنتَ". و"أنتَ" من علاماتِ المرفوع، وهو ههنا في موضعِ مجرور، وكذلك الكافُ والياءُ من علاماتِ المجرور، وهما في "لولاي"، و"لولاك" من علاماتِ المرفوع، وُيؤيد ذلك أنك تجد المكنى يستوي لفظُه في الخفض والنصب، فتقول:"ضربتُك"، و"مررت بك"، ويستوي أيضًا في الرفع والنصب والخفض، فتقول: "ضَرَبَنَا"، و"مَرَّ بنا"، و"قُمنَا" فتكون النونُ والألف علامةَ المنصوب والمجرور والمرفوع. وإذا كان كذلك، جاز أن تكون الكافُ في موضعِ "أنتَ"، و"أنتَ" في موضع الكاف، وُيفرَّقَ بين إعرابهما بالقَرائن، ودَلالاتِ الأحوال، وقد ردّ سيبويه هذه المقالةَ، فقال: لو كان موضعُ الياء والكاف في "لولاي"، و"لولاك" رفعًا، وأن كنايةَ الرفع وافقتِ الجرّ كما وافقه النصبُ إذا قلت: "معك"، و"ضَرَبَكَ"؛ لفُصِلَ بينهما في المتكلم، فكنتَ تقول في الرفع: "لولاني"، وفي الجرّ: "لولايَ"، كما تقول في النصب: "ضَرَبَنِي"، وفي الجرّ: "مَعِي"، فاعرفه. وأمّا "عساك"، و"عساني"، ففيه ثلاثةُ أقوال: أحدُها: قولُ سيبويه (¬1)، وهو أن "عَسَى" بمنزلةِ "لَعَلَّ" ينتصب بعدها الاسمُ، والخبر محذوف مرفوع في التقدير، كما أن "عَلكَ" خبرُها محذوفٌ مرفوع في التقدير، والكافُ اسمُها، وهي منصوبة. والذي يدل على أن الكاف في "عساك" منصوبة أنها ليست من ضمائر الرفع، ويدخل عليها نونُ الوقاية في قولِ عِمْران: لعليّ أو عساني (¬2) والنون والياء فيما آخِره ألفٌ لا تكون إلَّا للنصب. والثاني: وهو قول الأخفش، أن الكاف والنون والياء في موضعِ رفع، وأنّ لفظ النصب استعير للرفع كما استعير له لفظُ الجرّ في "لولاي" و"لولاك ". ¬
فصل [نون الوقاية]
والثالث: قول أبي العباس المبرد، وهو أن الكاف والنون والياء في موضعِ نصب بأنها خبرُ "عسى"، وأن اسمها مضمرٌ فيها مرفوعٌ. وجعله كقولهم: "عَسَى الغُوَيْرُ أبْؤُسَا" (¬1)، إلَّا أنه قُدّم الخبر؛ لأنها فعلٌ، ونُوِيَ الاسم للعلم به، كما قالوا: "لَيْسَ إلَّا"، فاعرفه. فصل [نون الوقاية] قال صاحب الكتاب: وتعمد ياء المتكلم إذا اتصلت بالفعل بنون قبلها صوناً له من أخي الجر. وتُحمَل عليه الأحرف الخمسة لشبهها به, فيقال: "إنني", وكذلك الباقية، كما قيل "ضربني", و"يضربني". وللتضعيف مع كثرة الإستعمال جاز حذفها من أربعة منها في كل كلام, وقد جاء في الشعر "ليتي"؛ لأنها منها قال زيد الخيل [من الوافر]: كمنية جابر إذ قال ليتي ... أصادفه وأفقد بعض مالي (¬2) * * * قال الشارح: اعلم أن ضمير المنصوب إذا كان للمتكلّم، واتصل بالفعل، نحوَ: "ضَرَبني"، و"خاطَبَني"، و"حَدَّثَني"، فالاسمُ إنّما هو الياءُ وحدَها، والنونُ زيادةٌ. ألا تراها مفقودةَ في الجرِّ من نحوِ "غلامي"، و"صاحبي"، والمنصوبُ والمجرورُ يستويان. وإنما زادوا النونَ في المنصوب إذا اتصل بالفعل وِقايةً للفعل من أن تدخله كسرةٌ لازمةٌ. وذلك أن ياء المتكلم لا يكون ما قبلها إلَّا مكسورًا إذا كان حرفاً صحيحًا، نحوَ: "غلامي"، و"صاحبي". والأفعالُ لا يدخلها جرٌّ، والكسر أخو الجرّ؛ لأن مَعْدِنَهما واحدٌ، وهو المَخرَجُ، فلمّا لم يدخل الأفعالَ جرٌّ، آثروا أن لا يدخلها ما هو بلفظه ومن مَعْدِنه خوفًا وحِراسة من أن يتطرّق إليها الجرُّ، فجاؤوا بالنون مزيدةً قبل الياء، ليقع الكسرُ عليها، وتكون وِقاية للفعل من الكسر. وخصوا النونَ بذلك، لقُرْبها من حروف المدَّ واللين، ولذلك تُجامِعها في حروف الزيادة، وتكون إعرابًا في "يفعلان"، و"تفعلان"، و"يفعلون"، و"تفعلون"، و"تفعلين"، كما تكون حروفُ المدّ واللين إعرابًا في الأسماء الستة المعتلّة من نحوِ قولك: "أخوك"، و"أبوك"، وأخواتِهما، وفي التثنية والجمع؛ ولأن هذه النون قد ¬
تكون علامةَ إضمار، فكرهوا أن يأتوا بحرفٍ غيرِ النون، فيخرجَ عن علامات الإضمار. فإن قيل: فلِمَ زِدتموها فيما آخِرُه ألف من الأفعال، نحو: "أعطاني"، و"كساني"، والكسرُ لا يكون في الألف؟ قيل: لما لزمت النونُ والياءُ في جميعِ الأفعال الصحيحة لِما ذكرناه، صارت كأنها من جملةِ الضمير، فلم تُفارِقها لذلك، مع أن الحكيم يُدار على المَظِنة لا على نفس الحِكْمة، والياءُ مظنّتُه كسرُ ما قبلها، والذي يدلّ على أن النون مزيدةٌ لِما ذكرناه أن هذا الضمير إذا اتصل باسمٍ، لم تأت فيه بنون الوقاية، نحو: "الضاربي"، و"الشاتمي"، فالياء ههنا في محلّ نصب، كما تقول: "الضاربُ زيدًا"، ولم تأت معه بنون الوقاية؛ لأنه اسمٌ يدخله الجرُّ، فلمّا كان الجرُّ مما يدخله، لم يمتنع مما هو مقاربٌ له. فإن قيل: فهلّا حُرست الأفعالُ من الكسر في مثلِ "اضْرِب الرجلَ". قيل: الكسرةُ ها هنا عارضةٌ لالتقاء الساكنين، فلا يُعْتَد بها موجودةً، ألا ترىَ أتك لا تُعيد المحذوفَ لالتقاء الساكنين في مثل: "زَنَتِ المرأةُ"، و"بَغَتِ الأَمَةُ"، وإن كان أحدُ الساكنين قد تَحرَّك، إذ الحركةُ عارضة لالتقاء الساكنين. وقد أدخلوا هذه النون مع "إنَّ" وأخواتها، فقالوا: "إنني"، و"أنني"، و"كَأَننِي"، و"لكِننِي"، و"لَعَلَّنِي" و"لَيْتَنِي", لأنها حروف أشبهتِ الأفعالَ، وأُجريت في العمل مُجراها، فلزمها من علامة الضمير ما يلزم الفعلَ. وقد جاءت محذوفةً، وأكثرُ ذلك في "إن"، و"أن"، و"لكِن"، و"كَأنَّ"، فقالوا: "إنِّي"، و"أنَّي"، و"لكنِّي"، و"كَأنِّي"، وإِنّما ساغ حذفُ النون منها لأنّه قد كثُر استعمالُها في كلامهم، واجتمعت في آخِرها نونات، وهم يستثقلون التضعيف، ولم تكن أصلاً في لحاقِ هذه النون لها، وإنّما ذلك بالحمل على الأفعال، فلاجتماع هذه الأسباب سوّغوا حذفَها. وقد حذفوها من "لَعَلَّ"، فقالوا: "لَعَلّي"؛ لأنه، وإن لم يكن آخِرُه نونًا؛ فإنّ اللام قريبة من النون، ولذلك تُدّغَم فيها في نحو قوله تعالى: {مِنْ لَدُنْهُ} (¬1)، فأُجريت في جواز الحذف مجراها. وأما "لَيْتَ"، فلمّا لم يكن في آخِرها نونٌ، ولا ما يُشْبِه النونَ؛ لزمتها النونُ، ولم يجز حذفُها إلَّا في ضرورة الشعر. فأمَّا قوله [من الوافر]: كمُنْيَةِ جابِر إذْ قال لَيتِي ... إلخ البيت لزيدِ الخَيْلِ، وهو زيدُ بن مُهَلْهِل بن يزيد بن مُنْهِب الطائي، وكان شاعرًا مُجيدًا، قدم على النبي - صلى الله عليه وسلم - في وَفْدِ طيئٍ سنةَ تسع، فأسلمَ، وسمّاه النبي - صلى الله عليه وسلم -: زيدَ الخَيْر، وقال: ما وُصف لي أحدٌ في الجاهلية إلَّا رأيتُه دون ما وُصف غيرك، وقبله: تَمَنَّى مَزيَدٌ زيداً فلَاقَى ... أَخَا ثِقَةٍ إذا اخْتَلَفَ العَوالِي ¬
ومَزْيَدٌ رجلٌ من بني أسَد كان يتمنّى أن يلقى زيدَ الخيل، فلَقِيَه زيدُ الخيل، فطعنه، فهرب منه. وقوله: "كمُنيَة جابِرٍ". يريد أن مزيدًا تمنى أن يلقاه كما تمنى جابرٌ، وكلاهما لقي منه ما يكرَه. والشاهد في البيت حذفُ النون من "لَيْتِي" ضرورةً، شبّهها بأخواتها، يصف أن مزيدًا تمنى لقاءه، فكان تَمَنيه عليه كمنيةِ جابر. * * * قال صاحب الكتاب: وقد فعلوا ذلك في "من", و"عن" و"لدن" و"قط", و"قد" إبقاء عليها من أن تزيل الكسرة سكونها وأما قوله [من الرجز]: قدني من نصر الخبيبين قدي (¬1) فقال سيبويه (¬2) لما اضطر شبهه بـ "حسبي", وعن بعض العرب: "مني" و"عني", وهو شاذ. ولم يفعلوه في "علي", و "إليَّ", و"لدي", لأَمنهم الكسرة فيها. * * * قال الشارح: اعلم أنّ "مِنْ"، و"عَنْ"، من الحروف المبنية على السكون، و"لَدُن"، و"قَطْ"، و"قَدْ" بمعنَى "حَسْبُ" أسماءٌ مبنيةٌ أيضًا على السكون، ومن الحروف والأسماء ما هو متحرّكٌ بحركةِ بناء، أو إعراب. وياء المتكلّم يكون ما قبلها متحركًا مكسورًا، فكرهوا اتصال الياء بهذه الكِلَم، فتُكسَر أواخرُها لها، فتلتبِس بما هو مبنىٌّ على حركة، أو بما هو معربٌ من الأسماء التي على حرفَيْن من نحو: "يَد"، و"هَن"، فجاؤوا بالنون حِراسة لسكونِ هذه الكلم، وإيثارًا لبَقاء سكونها, لئلاّ يقعوا في باب "لبْس"، فلذلك قالوا: "مِني"، و"عَني"، و"لَدُني"، و"قَطْنِي"، و"قَدْنِي"، فكان لفظُ المجرورَ هنا كلفظ المنصوب. فأمّا قوله [من الرجز]: قَدْنِيَ من نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِي البيت لأبي بَحْدَلَةَ، وبعده: ليس الإمامُ بالشحِيحِ المُلْحِدِ والشاهد فيه حذفُ النون من "قَدِي"، تشبيهًا لها بـ "حَسْبِي"، إذ كان معناهما واحداً، وإثباتُها هو المستعمل، لأنها في البناء ومضارَعةِ الحروف بمنزلة "مِنْ"، و"عَنْ"، فألزموها النونَ قبل الياء، لئلا يُغير آخِرُها عن السكون. والمراد بأبي خُبَيْب عبدُ الله بن الزُّبَيْر، وكان مكنى بابن له اسمُه خبيبٌ، وثناه لأنه أراده ومُصْعبًا. وغلب أبا خبيب لشُهْرته كما قيل: "العُمَران". ومن قال الخُبَيْبِينَ بلفظ الجمع، فإنّه أراد عبد الله وشِيعَتَه. يصف رَغْبَتَه عن عبد الله وأخيه إلى عبد الملك بن مَرْوانَ، وقد جاء عن ¬
بعض العرب: "مِنِي"، و"عَنِي" بحذف نون الوقاية. أنشد بعضهم [من الرمل]: 471 - أيُّهَا السائلُ عنهم وعَنِي ... لَسْتُ من قَيْسٍ ولا قَيْس مِنِي وهو قليل في الاستعمال، وإن كان القياسُ لا يأباه كلَّ الإباء من حيث كانت حروفًا، والحروفُ قد تأتي بالنون والياء، نحوُ: "مِني" و"عَنّي"، وقد تأتي بالياء وحدَها، نحو: "بِي" و"لِي"، فلذلك حَذَفَها مَنْ حذف حملاً لها على غيرها من الحروف. فأمّا ما في آخِره ألف من الحروف، والأسماء غير المتمكنة، نحو: "عَلَى"، و"إلى"، و"لَدَى"، فإنّهم لم يأتوا فيها بالنون إذا أضافوها إلى ياء النفس، وإن كانت أواخرُها ساكنة، كما أتوا بها مع "مِنْ"، و"عَنْ"، و"قَطْ"، و"قد" حيث قالوا: "منّي"، و"عنّي"، و"قطني"، و"قدني" من قوله [من الرجز]: امْتَلأَ الحَوْضُ وقال قَطْنِي (¬1) وذلك من قِبَل أنهم إنّما أتوا بنون الوقاية في "مِنِّي"، و"عَنّي" حِراسةَ لسكونهما، وشَحًّا عليه أن يذهب؛ لأن ياء النفس تَكْسِر ما قبلها، وههنا ألفٌ تنقلِب مع المضمر ياءً، والألفُ والياء لا تُكسَران لياء النفس، ولا تزولان عن السكون معها، أمّا الألفُ فلتِعذرِ تحريكها، وأمّا الياء فالادّغامُ يُحصِّنها من التحريك، فاستغنوا عن النون التي تكون وقاية للكسرة لذلك. ¬
أسماء الإشارة
أسماء الإشارة فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: "ذا" للمذكر، ولمثناه "ذان" في الرفع, و"ذين" في النصب والجر، ويجيء "ذان" فيهما في بعض اللغات ومنه قوله تعالي: {إن هذا لساحران} (¬1) , و"تا" و"تي" و"ته" و"ذه" بالوصل, وبالسكون, و"ذي" بالمؤنث, ولمثناه "تان", و"تين". ولم يثن من لغاته إلا "تا" وحدها. ولجمعهما جميعاً "أولاً" بالقصر, والمد، مستوياً في ذلك أولو العقل وغيرهم. قال جرير [من الكامل]: 472 - ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأيام * * * قال الشارح: اعلم أن هذا الضرب من الأسماء هو البابُ الثاني من المبنيات، وهي ¬
الأسماءُ التي يشار بها إلى المسمى، وفيها من أجلِ ذلك معنى الفعل، ولذلك كانت عاملة في الأحوال، وهي ضربٌ من المبهم. وإنما كانت مبنية لتضمّنها معنى حرفِ الإشارة. وذلك أن الإشارة معنى، والموضوع لإفادةِ المعاني إنّما هي الحروفُ، فلما استُفيد من هذه الأسماء الإشارة، عُلم أن للإشارة حرفًا تَضمَّنه هذا الاسم، وإن لم يُنْطَق به، فبُني كما بُني "مَنْ"، و"كَمْ " ونحوُهما. وقال قوم: إنّما بُني اسمُ الإشارة لشَبَهه بالمضمر، وذلك لأنّك تشير به إلى ما بحَضْرتك ما دام حاضرًا، فإذا غاب، زال عنه ذلك الاسمُ. والأسماءُ موضوعة للزومِ مسمَّياتها, ولمّا كان هذا غيرَ لازم لِما وُضع له؛ صار بمنزلة المضمر الذي يُسمَّى به إذا تقدم ظاهرٌ، ولم يكن اسمًا له قبل ذلك، فهو اسمٌ للمسمى في حال دون حال، فلمّا وجب بناءُ المضمر، وجب بناء المبهم كذلك. ويقال لهذه الأسماء: مبهماتٌ؛ لأنها تشير بها إلى كل ما بحضرتك، وقد يكون بحضرتك أشياء، فتُلْبِس على المخاطب، فلم يدر إلى أيها تشير، فكانت مبهمة لذلك. ولذلك، لزمها البيانُ بالصفة عند الإلباس. ومعنى الإشارة الإيماء إلى حاضر بجارحةٍ أو ما يقوم مقامَ الجارحة، فيتعرفُ بذلك، فتعريفُ الإشارة أن تخصِّص للمخاطب شخصًا يعرفه بحاسَّةِ البَصَرِ، وسائرِ المعارف هو أن تختصّ شخصًا يعرفه المخاطبُ بقلبه، فلذلك قال النحويون: إِن أسماء الإشارة تتعرّف بشيئَيْن: بالعين وبالقلب. فـ "ذا" إشارة إلى مذكر، وهو ثُلاثىُّ، ووزنُه "فَعْلٌ" ساكنَ العين محذوفَ اللام، وألفُه منقلبة عن ياء، فهو من مضاعَفِ الياء من بابِ "حَييتُ"، و"عَيِيتُ". هذا مذهبُ البصريين، قالوا: أصلُه: "ذَيٌّ" على لفظِ "حَىٍّ"، و"عَىٍّ"، ثمّ حُذفت اللام لضرب من التخفيف، فبقي "ذَيْ" ساكن الياء، فقُلبت ياؤه ألفًا، لئلا يُشْبِه الأدواتِ، نحو: "كَيْ"، و"أَيْ". فإن قيل: فمن أَيْنَ زعمتم أن ألفَه منقلبةٌ عن ياء؟ وهلّا كانت أصلاً، لبُعْدها من التمكّن، وعدم اشتقاقِها كما قلتم ذلك في ألِف "مَتَى" و"لَدَى"، و"إذا" ونحوها من الأسماء غير المتمكنة. فالجوابُ: أنهم قد قالوا في "ذَا": "ذا"، فأمالوها، حكاه سيبويه، فدل أنها من الياء. وذهب قومٌ إلى أنّها من الواو، قالوا: لأن بابَ "شَوَيْتُ"، و"لَوَيْتُ" أكثرُ من بابِ "حَيِيتُ" و"عَيِيتُ". والأوّلُ أقيسُ لمجئ الإمالة فيها. فإن قيل: ولِمَ حكمتم عليها بأنّها من ذواتِ الثلاثة؟ وهلّا كانت ثُنائيةَ كـ"منْ"، و"كَمْ". قيل: لأن "ذَا" اسمٌ منفصلٌ قائمٌ بنفسه، قد غلب عليه أحكامُ الأسماء الظاهرة، نحو وَصْفه، والوصف به، وتثنيته، وتحقيره. فلمّا غلب عليه شَبَهُ الأسماء المتمكّنة، حُكم عليه بأنه ثُلاثى كالأسماء المتمكنة. وقد جعله بعضُهم من الأسماء الظاهرة، وهو القياسُ، إذ لا يفتقر إلى تقدُّم ظاهرِ، فيكونَ كنايةَ عنه.
فإن قيل: فهلَّا كان مما أُضمر على شريطةِ التفسير، ويكون ما بعده من النعت بيَانًا له، كما فُسّر المضمر بالظاهر في قولك: "أَكْرَمَني، وأكرمتُ زيدًا". قيل: لو كان كذلك، لزم نعتُه، ولم يجز أن لا تذكره. ألا تراك تقول: "هذا زيدٌ"، و"رأيتُ هذا"، فلا تأتي له بصفةٍ، إنّما تأتي بها إذا التبس للإيضاح، فلذلك كان القياس أن يكون ظاهرًا. وقد أشكل أمرُه على قوم، فجعلوه قِسْمًا ثالثًا بين الأسماء الظاهرة والمضمرة؛ لأن له شَبَهًا بالظاهرة، وشبهًا بالمضَمرة. فمن حيث كانت مبنيّة، ولم يُفارِقها تعريفُ الإشارة، كانت كالمضمرة، ومن حيث صُغرت، ووُصفت، ووُصف بها، كانت كالظاهرة. وذهب الكوفيون (¬1) إلى أن الاسم إنما هو الذالُ وحدها، والألف مزيدةٌ لتكثيرِ الكلمة، قالوا: والدليلُ على ذلك قولُهم في التثنية: "ذَانِ"، و"ذَيْنِ"، فحذفوا الألف لقيام حرف التثنية مقامَها في التكثير. وهذا فاسدٌ لقولهم في التحقير: "ذَيَّا"، فأعادوه إلىَ أصله، وهذا شأنُ التصغير. وأما ذَهابُ ألفه في التثنية، فلم يكن لِما ذكروه من الاستغناء عنه بحرف التثنية، إنّما حذفُه لالتقائه مع حرف التثنية، فحُذف لالتقاء الساكنين. ولم يقلبوه كما قلبوه في "رَحَيان"، لبُعده من التمكن، وعدمِ تصرُّفه. فإن قيل: الزيادة في حال التصغير لا تدل على أن ذلك أصل فيها، فإنّا لو سمّينا بـ "قَدْ" أو"هَلْ" ونحوهما مما هو على حرفَيْن، ثم صغرناه، لزِدْنا فيه ما لم يكن له، فكذلك اسمُ الإشارة لما كان على حرفَيْن، وصغرناه، زدنا فيه زيادةً، كمّلتْ له بناء التصغير. قيلٍ: نحن إذا سمّينا بـ "قَدْ" وأشباهِه، فإنّا ننقُله من الحرف إلى الاسم، فإذا صغرناه، فإنّما نُصغره على أنَّه اسمٌ، فوجب أن نجتلِب له حرفاً، يوجِبه الاسميةُ. وإذا صغّرنا "ذا" ونحوَه من أسماء الإشارة، فإنّما نصغره، وهو على معناه من الاسمية الذي وُضع له، على أنه لو ذهب ذاهبٌ إلى أن "ذا" ثُنائيُّ، وليس له أصل في الثلاثية، نحوَ: "مَنْ"، و"كَمْ" في المبهمة، وأنّ ألفه أصل كالألف في "لَدى" و"إذا"، لم أَرَ به بأسًا لعدم اشتقاقه، وبُعْدِه عن التصرّف. والذي يُؤيد ذلك أنك لو سمّيت بـ "ذا"، لقلت: "هذا "ذاءٌ"، فتزيدها ألفاً أخرى، ثم تقلِبها همزةً لاجتماعِ الألفَيْن، كما تقول: "لاءٌ"، إذا سمّيت بـ "لا". ولو كان أصلُها الثلاثية، ولامُها ياء، لكنت تقول إذا سمّيت به: "هذا ذايٌ"، فتأتي بالياء الأصلية، ولا تقلبها لوقوعها بعد ألفِ أصليلة، كما تقول: "زايٌ"، و"رايٌ". فأمّا الإِمالة، فإنّما ساغت فيه؛ لأن الألف قد تنقلب ياء في "ذِي"، فإذا ثنيتَه، قلت: "ذَانِ" في الرفع. وهذه الألفُ علامةُ الرفع، وقد انحذفت ألفُ الأصل لالتقاء الساكنين، دل على ذلك انقلابُها في النصب والجرّ من نحو: "رأيت ذَيْنِ"، و"مررت بذَيْن". ¬
وقد اختلف النحويون في هذه التثنية، فذهب قومٌ إلى أنّها تثنيةٌ صِناعيّةٌ، والنونُ عوضٌ من الحركة والتنوين، كما كانت في قولك: "الزيدان"، و"العمران" كذلك، وإن كان الواحدُ مبنيًّا لا حركةَ ولا تنوينَ فيه؛ لأنه بالتثنية فَارَقَ الحرفَ، وعاد إلى حكم التمكن، فقُدّر فيه في التثنية الحركةُ والتنوينُ، فصارت النونُ عوضًا منهما. وقال آخرون: إن النون في "هذَانِ"، و"هذَيْن" عوضٌ من الألف الأصليّة حين حُذفت في التثنية لالتقاء الساكنين. وذهب آخرون إلى أنها ليست تثنيةً صناعيّةً، وإنما هي صيغةٌ للتثنية، كما صيغت "اللَّذَانِ"، و"اللَّتَانِ" للتثنية، وليست النونُ عوضًا من الحركة والتنوين، ولا عوضًا من الحرف المحذوف، وذلك أن أسماء الإشارة لا تصح تثنيةُ شيء منها، من قِبَل أنّ التثنية إنما تأتي في النكرات، وأسماء الإشارة لا يصح تنكيرُها بحالٍ، فلا يصحّ أن يُثنى شيءٌ منها. وهو الصوابُ. ألا ترى أن حال أسماء الإشارة بعد التثنية على حد ما كانت عليه قبل التثنية، وذلك نحو قولك: "هذان الزيدان قائمَيْن"، فتنصب "قائمين" على الحال، بمعنى الفعل الذي دل عليه الإشارة والتنبيهُ، كما كنتَ تنصب في الواحد، نحو: "هذا زيد قائمًا"، فتجد الحالَ واحدة قبل التثنية وبعدها. فإذًا طريقُ "هذان"، و"هاتان" غيرُ طريقِ "الزيدان"، و"العمران". ألا ترى أن تعريفَ "زيد"، و"عمرو" بالوضع والعَلَميّةِ، فإذا ثنّيت واحدًا منهما، تنكر حتى صار كأسماءِ الأجناس الشائعة، فتقول: "هذان زيدان ظريفان"، و"رأيت زيدَيْن ظريفَيْن". فلو لم يكونا نكرتَيْن، لما صح وصفُهما بالنكرة. فإذا أردت بعد ذلك التعريفَ، فبالألف واللام، أو بالإضافة. فتعريفُهما بعد التثنية من غير وجه التعريف قبلها. وإذ امتنع تثنيةُ الأسماء المشار بها لامتناع تنكيرها، كان قولهم: "هذان"، و"هاتان"، و"هذيْن"، و"هاتَين"، صيغًا موضوعة للتثنية مخترعة لها. وليست تضُمّ هذا إلى هذا كما ضممتَ "زيداً" إلى "زيد" حين قلت: "الزيدان"، إلَّا أنهم جاؤوا بها على منهاجِ التثنية الحقيقية، فقالوا: "هذان" و"هذَين"، لئلا يختلف طريقُ التثنية. ونظيرُ ذلك الأسماء المضمرةُ، نحو قولك: "أنتَ" و"أنْتُمَا"، و"هُوَ"، و"هما" في أنّها صيغٌ صيغتْ للتثنية، وأسماء مخترعة لها, وليست تثنية صِناعيةً. فإن قيل: فإذا كان "هذان"، و"هاتان" صيغا للتثنية كـ"هُمَا" و"أَنْتُمَا" في المضمرات، فهلّا قالوا في "أنت": "أنتان"، وفي "هُوَ": "هُوان"، كما قالوا في "هذا"، و"هاتا": "هذان"، و"هاتان". قيل: أسماء الإشارة أشد شَبَهًا بالمتمكّنة من المضمرة، ألا تراهم يصفون أسماءَ الإشارة، ويصفون بها، فيقولون: "مررت بهذا الرجل"، و"مررت بزيدٍ هذا؟ " فلمّا قاربت أسماءُ الإشارة المتمكنةَ هذه المقارَبةَ، ودانتْها هذه المُداناةَ، صيغت في التثنية على منهاج تثنيةِ الأسماء المتكنة، ولذلك أُعربت التثنية، وإن كان
الواحدُ مبنيّا، كأنّ ذلك لئلا يختلف طريقُهما. ولمّا بعُدت المضمراتُ من المتمكنة، وتَوغلتْ في شَبَهِ الحروف، صاغوا لها أسماء للتثنية على غير منهاجِ تثنيةِ المتمكّنة تمييزًا لما قارب المتمكنة على ما لم يُقارِبها، وبُعد عنها. فأمّا قول صاحب الكتاب: "ويجيء ذَانِ" فيهما في بعض اللغات"، فإن المراد بذلك أنّه يكون في حالِ الرفع والنصب والجرّ بالألف، فتقول: "جاءني ذان"، و"رأيت ذان"، و"مررت بذان". وليس ذلك ممّا يختص بأسماء الإشارة، بل يكون في جميع الأسماء المثناة، نحو قولك: "جاءني الزيدان"، و"رأيت الزيدان"، و"مررت بالزيدان"، وهي لغةٌ لبني الحارث وبُطون من رَبِيعَةَ، فمن ذلك قوله [من الطويل]: 473 - تَزَوَّدَ مِنا بَيْنَ أُذْناهُ طَعْنَة ... دَعَتهُ إلى هابِي التُرابِ عَقِيمِ وقال الآخر [من الطويل]: 474 - فأَطْرَقَ إطراقَ الشُجاع ولو يَرَى ... مَساغًا لِناباهُ الشُجاعُ لَصمَّمَا ¬
وأنشدوا [من الرجز]: 475 - إن لِسَلْمَى عِنْدَنَا دِيوانَا ... أَخزَى فُلانًا وابْنَهُ فلانَا أَعْرِفُ منها الأَنْفَ والعَيْنانَا ... ومَنْخَرَيْن أَشبَهَا ظَبْيانَا ¬
يريد العينَيْن، ثمّ جاء بمنخرَيْن على القياس، وقال آخر [من الرجز]: طارُوا عَلاهُن فطِرْ عَلاهَا ... واشْدُدْ بمَثْنَى حَقَب حَقْواهَا (¬1) إن أباها وأَبَا أباها ... قد بَلَغا في المَجْد غايَتاها وهي لغة فاشيةٌ. فأمّا قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (¬2)، فقد قرأ ابنُ كَثِير وحَفْص "إن" بالتخفيف، وقرأ أبو عمرو: "إنَّ هذَيْن لساحران" بتشديد النون والياء في "هذين". وقرأ الباقون بتشديد النون والألف. فأمّا قراءةُ ابن كثير وحفصٍ، فعلى أن "إن" المخففةُ من الثقيلة، ودخلت اللامُ فَرْقًا بينها وبين النافية، وأُبطل عملُها لنقصِ لفظها وخروجِها لذلك عن شَبَه الفعل، وهو المختار في "إنِ" المكسورةِ إذا خُفّفت، وقال الكوفيون: "إنْ" ههنا بمعنى النفي، واللامُ بمعنى "إلَّا"، والتقديرُ: ما هذان إلَّا ساحران، وهو حسن على أصلهم، غير أن أصحابنا لا يُثْبِتون مجيء اللام بمعنى "إلَّا". وأما قراءةُ الجماعة: "إن هذان لساحران"، فأمثلُ الأقوال فيها أن تكون على لغة بني الحارث في جَعْلهم المثنى بالألف على كلّ حال، كأنهم أبدلوا من الياء ألفًا لانفتاح ما قبلها، وإن كانت ساكنةً، كقولهم في "يَيأسُ": يَاءَسُ. وقال أبو إسحاق: الهاء مرادةٌ، والتقديرُ: إنهُ هذان لساحران، واللامُ مزيدة فيه للتأكيد، وحسُن دخولُها في الخبر حيث كانت الجملةُ مفسِّرةً لذلك المضمر، فكأنّها في الحكم بعد "إن"، فدخلت اللامُ مع الهاء للتأكيد كما تدخل مع عدمها. وقال قومٌ: "إن" ها هنا بمعنى "نَعَمْ"، والمعنى: نَعَمْ هذان لساحران، واللامُ مزيدة للتأكيد، وكان محلها أن تكون في الاسم إلا أنهم أخروها إلى الخبر لوجودِ لفظِ "إن"، و"إن" كانت بمعنى "نَعَمْ". وإذا كانوا قد أخروا لام التأكيد من الاسم إلى الخبر نحو قوله [من الرجز]: 476 - أُمُّ الحُلَيْس لَعَجُوزٌ شَهرَ بَهْ ... تَرْضَى من اللحْم بَعظْمِ الرَّقَبَهْ ¬
على توهُّمِ "إن" لكثرةِ دخولها على المبتدأ، فلأنْ يُؤخروها مع وجود لفظها أجدرُ. وإلى هذا الوجه ذهب أبو عُبَيْدَةَ مَعْمَرُ بن المُثَنَّى، ومحمّدُ بن زيد، وأبو الحسن عليّ بن سليمان الأخفش. وقد جاءت "إن" بمعنى "نَعَمْ" كثيرًا. قال الشاعر [من مجزوء الكامل]: 477 - بَكَرَ العَواذِلُ في الصَّبُو ... حٍ يَلُمْنَنِي وألَومُهُنهْ وَيقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلا ... ك وقد كَبِرْتَ، فقلتُ: إنَّهْ ¬
أي: نَعَم هو كذلك، والهاء لبيانِ الحركة. وقال الآخر [من الكامل]: 478 - قالوا: غَدَرْتَ فقلتُ: "إن" ورُبمَا ... نالَ العُلَى وشِفا الغَلِيلِ الغادِرُ أي: نعم، فإذا أشرت إلى المؤنث، ففيه خمسُ لغات، قالوا: "ذِي"، و"ذِهْ"، و"تَا"، و"تِي"، و"تِهْ". فأمّا "ذِي"، فهو تأنيثُ "ذَا"، ووزنُه فِعْلٌ، كـ "بِنْت"، والياء فيه أصل، وليس للتأنيث، إنما هي عينُ الكلمة، واللامُ محذوفة كما كانت في "ذا" كذلك. والتأنيثُ مستفادٌ من الصيغة، وصحّت الياء لانكسار ما قبلها. وأما "ذِهْ" فهي ذِي، والهاء فيها بدلٌ من الياء، وليست للتأنيث أيضًا. فإن قيل: فلِمَ قلتم: إِن الهاء بدل من الياء في "ذي"؟ وهلا كان الأمرُ فيها بالعكس. قيل: إنما قلنا: إِن الياء هي الأصلُ، لقولهم في تصغير "ذَا": "ذَيَّا". و"ذِي" إنما هو تأنيثُ "ذَا"، فكما أن الهاء ليس لها أصلٌ في المذكر، فكذلك هي في المؤنث؛ لأنها من لفظه. فإن قيل: فهلّا كانت الهاء للتأنيث على حدّها في "قائمة"، و"قاعدة"، فالجوابُ: ¬
أنها لو كانت للتأنيث على حدّها في "قائمة"، و"قاعدة"، لكانت زائدة، وكان يؤدي إلى أن يكون الاسم على حرف واحد، وقد بينّا ضُعْفَ مذهب الكوفيين في ذلك. وأمرٌ آخرُ أنك لا تجد الهاء علامة للتأنيث في موضع من المواضع. والياء قد تكون علامة للتأنيث في قولك: "اضرِبِي"، فأمّا "قائمة" و"قاعدةٌ"، فإِنما التأنيثُ بالتاء. والهاء من تغيرِ الوقف، ألا تراك تجدها تاء في الوصل، نحو: "طَلْحَتان"، و"هذه طلحةٌ يا فَتَى، وقائمة يا رجلُ"، فإذا وقفتَ كانت هاء؟ والهاء في "ذِهْ" ثابتة وصلًا ووقفًا، والكلامُ إنّما هو في حقيقته، وما يندرج عليه، ألا ترى أننا نُبدِل من التنوين ألفًا في النصب، وهو في الحقيقة تنوين على ما يُدْرَج عليه الكلامُ؟ ويؤيد ذلك أن قومًا من العرب- وهم طَيىءٌ - يقِفون على هذا بالتاء، فيقولون: "شَجَرَت"، و"حَجَفَت"، فثبت بما ذكرناه أن الهاء في "ذِهْ" ليست كالهاء في "قائمة"، فلا تُفيد فائدتَها من التأنيث. وقوله: "بالوصل والسكون" يريد أن هذه الهاء يجوز فيها وجهان: أن تكسِرها وتَصِلها بحرفِ مد كما تفعل بهاء الإضمار. والآخرُ أن تُسكنها وصلًا ووقفًا. فمن حركها؛ فلأنها هاء في اسم مبهم غير متمكّن، فشُبهت بهاء الإضمار، نحو: "مررت بهِ"،، و"نظرت إلى غلامهِ". ومَن سكنها؛ فإنّه جرى على القياس، إذ كانت بدلًا من حرف ساكن، وهو الياء، فيقول: "هذه أمةُ الله"، و"نظرت إلى هذِهْ يا فَتَى". فإذا لَقِيَها ساكن، لم يكن بدٌّ من تحريكها بالكسر، فتقول: "هذهِ المرأةُ قائمةٌ"، و"هذه الأَمةُ عاقلةٌ". ويحتمل ذلك أمرَيْن: أحدهما: أن يكون لمّا صار إلى موضع يُحتاج فيه إلى حركةِ الهاء لئلا يجتمع ساكنان، عاد إلى لغةِ من يكسر، ولم يجعلها في قوله: "هذه أمةُ الله"، لالتقاء الساكنين. وذلك أقيسُ من اجتلابِ حركة غريبة. ويدل على ذلك أن من قال: "هُمْ قاموا"، فأسكنَ الميمَ من "هُمْ"، متى احتاج إلى حركتها، ردّ إليها الضمة التي في لغةِ من يقول: "هُمُو قاموا". وعلى ذلك من قال: "مُذْ"، فأسكنَ الذالَ لزَوالِ النون الساكنة من قبلِها، إذا احتاج إلى حركةِ الذال، ردها إلى الضمّ، فقال: "مُذُ اليومِ". وكذلك من أعمل "مَا" النافيةَ، إذا عرض ما يُبْطِل الإعمالَ من اعتراضِ الاستثناء، أو تقديمِ الخبر، صار إلى لغةِ من لا يُعْمِل. والأمر الآخر: أن تكون الكسرة لالتقاء الساكنين، وكذلك الضم في "هُمُ القومُ" لالتقاء الساكنين، وإنما عُدل إلى الضم للإتباع، وكذلك الضم في "مُذُ الليلةِ"، ويؤيد ما قلناه أن بعضَ ذلك قد جاء مكسورًا. قال الشاعر فيما أنشده قُطْرُبْ [من الطويل]: 479 - ألا إِنّ أصْحابَ الكَنِيفِ وَجَدْتُهُم ... هُمِ القَوْمُ لَما أَخْصَبوا وتَمَوَّلُوا ¬
وأنشد الكوفيون [من الكامل]: 480 - فهُمُو بِطانَتُهم وهُمْ وُزَراؤُهمْ ... وَهُمِ القُضاةُ ومِنهُمِ الحُكامُ وهي لغةٌ لبعضِ بني سُلَيم. وحكى اللِّحْيانى: "مُذِ اليوم"، و "مُذِ الليلة"، والكسرُ لا محالةَ لالتقاء الساكنين، فكذلك يكون الضمُّ لالتقاء الساكنين. وعدلوا عن الكسرة لإتباع على حد قوله تعالى: {وَقَالَتِ اخْرُجْ} (¬1)، و {بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} (¬2)، وإذا جاز الإتباعُ مع الفصل فيما ذكرناه، فجوازُه مع غير الفصل أولى. فإذا ثنيتَ، قلت: "تانِ" في الرفع، و"تَينِ" في النصب والجرّ، كما ذكرنا في المذكر. وقال صاحب الكتاب: و"لم يُثَن من لغاته إلَّا تَا وحدَها". والذي أراه أن "ذِي"، و"ذِهْ" لا يصح تثنيتهما؛ لأتك لو فعلت، لكنت تحذف الياء من "ذي"، لسكونها، والهاء من "ذِهْ"؛ لأنها بدلٌ من الياء، وكنت تقول: "ذَانِ"، و"ذَيْنِ"، فيُلبِس بالمذكر. ¬
فصل [لحوق كاف الخطاب بأواخرها]
وأما "تَا"، و"تِي"، و"تِهْ"، فلا مانعَ من تثنيتها، فإذا قلت: "تَانِ"، جاز أن يكون على لغةِ من يقول: "تَا"، فحذف الألفَ لالتقاء الساكنين، وجاز أن يكون على لغةِ من يقول:"تِي"، فحذف الياء، وفتح التاء لمُجاوَرةِ ألف التثنية، ويجوز أن يكون على لغةِ من يقول: "تِة"، فحذف الهاء؛ لأنها عوضٌ من الياء في "تِي"، فأجراها مُجرى الياء في الحذف، وفتح التاء لمجاورةِ ألف التثنية. فإذا أردت الجمع؛ قلت: "أُولَا"، و"أولاء" بالقصر والمد، وهذا اللفظُ يُعبر به عن المذكر والمؤنث. وهي صيغةٌ من غيرِ لفظ الواحد، كـ"الإبل" و"الخَيْل". والقصرُ هو الأصل، ونظيرُه: "قُرَى"، و"بُرَى"، ولم يلتق في آخِره ساكنان، فيُكْسَرَ لالتقائهما، فبقي ساكنًا على ما يقتضيه القياسُ في كل مبني. ومَن مد، فإنه زاد ألفًا قبل اللام حيث أراد بناء الكلمة على المدّ، فاجتمع ألفان: الألفُ المبدلة من اللام، وألفُ المدّ، فوجب حذفُ أحدهما، أو تحريكه لالتقاء الساكنين، فلم يجز الحذفُ لئلا يزول المدّ، وقد بنيت الكلمة على المدّ، فوجب التحريكُ، فلم يجز تحريكُ الأُولى؛ لأن تحريكها يُؤدِّي إلى قَلبها همزةً. ولو قُلبت همزةً، لفارقتِ المدَّ، فوجب تحريكُ الثانية، فانقلبت همزةً؛ لأنها أقربُ الحروف إليها، وكان القياسُ أن تكون ساكنةً على أصلِ البناء، وإنما كُسِرت لالتقاء الساكنين. وهذه الصيغة يستوي فيها المذكرُ والمؤنثُ، لأنها واقعة على جمع، أو جماعةِ، فكأنه قال: أُشير إلى هذه الجماعة، أو إلى هذا الجمع. والجمعُ والجماعةُ، كل واحد منهما يقع على المذكر والمؤنث، والحَيَوانِ والجَمادِ، فلذلك استوى فيه لفظُ المذكر، والمؤنث، ووزنُه " فُعالٌ" على وزنِ "غُرابٍ". فأمّا قولُ جَرِير [من الكامل]: ذم المنازل (¬1) ... إلخ فالشاهد فيه استعمالُ "أولئك" فيما لا يعقل، وهي الأيامُ، على حد ما يُستعمل في العُقلاء. ألا ترى أنه قال: "أولئك الأيام" كما يقولون: "أولئك القومُ"؟ ومثلُه قول الآخر [من البسيط]: يا ما أُمَيلِحَ غِزلَانا شَدَن لنا ... من هؤُلَيائِكُن الضالِ والسمُرِ (¬2) فجاء بـ "أولاءِ" للضال والسمُر كما جاء به جرير للأيام. فصل [لحوق كاف الخطاب بأواخرها] قال صاحب الكتاب: ويلحق حرف الخطاب بأواخرها, فيقال: "ذاك", و"ذانك", ¬
بتخفيف النون وتشديدها. قال تعالى: {فذانك برهانان من ربك} (¬1)، و"ذينك", و"تاك" و"تيك" و"ذيك", و"تانك", و"تينك", و"أولاك" و"أولئك". ويتصرّف مع المخاطب في أحواله من التذكير والتأنيث والتثنية والجمع. قال تعالى: {وكذلك قال ربك} (¬2) وقال: {ذلكما مما علمني ربي} (¬3)، وقال: {ذلكم الله ربكم} (¬4) وقال: {فذلكن الذي لمتنني فيه} (¬5). * * * قال الشارح: اعلم أن كاف الخطاب على ضربَيْن: أحدهما ما يُفيد الخطابَ والاسمية، والآخرُ ما يفيد الخطاب مجردًا من معنى الاسمية. فالأول نحو الكاف في "أخيك"، و"أبيك"، و""غلامك"، ونحوها ممّا له موضعٌ من الإعراب، ألا ترى أن موضعَ هذه الكاف خفضٌ بإضافةِ الاسم الأول إليه، وكذلك إذا وضعتَ مكانَه ظاهرًا، كان مخفوضًا، نحو: "أخي زيد"، و"أبى خالدٍ"، و"غلامِ عمرو". والثاني نحو الكاف اللاحقة بأسماء الإشارة، نحو: "ذاك"، و"ذانّك"، و"ذَيْنِك"، و"تاك"، و"تانِك"، و"تَينِك"، و"تِيك"، و"ذِيك"، و"أولئك". الكاف في جميع ذلك للخطاب مجردًا من معنى الاسمية. والذي يدل على تجردُّها من معنى الاسمية أنها لو كانت باقية على اسميتها, لكان لها موضعٌ من الإعراب، إما رفعٌ، وإما نصبٌ، وإما خفضٌ. وذلك ممتنِعٌ ههنا، وقد تقدم بيانُ ذلك وشرحه في "إياكَ" من المضمرات. ومما يدل على أن هذه حروفٌ، وليست أسماء، إثبات نون التثنية معها في "ذانك"، و"تانك"، ولو كانت أسماء، لوجب حذفُ النون قبلها، وجَرُّها بالإضافة، كما تقول: "غلاماك"، و"صاحباك". ونظيرُ الكاف في ذلك ونحوه من أسماء الإشارة الكافُ في "النجاءَكَ" بمعنى "انجُ"، الكاف فيه حرف خطاب، إن لو كانت اسمًا، لَمَا جازت إضافةُ ما فيه الألفُ واللام إليها. وكذلك قولهم: "انظُرْكَ زيدًا"، الكاف حرف خطاب؛ لأن هذا الفعل لا يتعدى إلى ضميرِ المأمور المتصل. وقولهم: "لَيْسَكَ زيدًا"،"زَيْدًا" هو الخبرُ، والكاف حرفُ خطاب، ومثلُه: "أَرَأَيتَك زيدًا ما يصنعُ"، الكافُ هنا للخطاب، وليست اسمًا. قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} (¬6)، فإذا قلت: "لك"، أو إليكَ؛ فقد خاطبتَه باسمه كناية، وإذا قلت: "ذاك"، أو "ذلك"، فقد خاطبتَه بغير اسمه، ولذلك لا يحسن أن يقال للمُعظم من الناس: "هذا لك" , ولا "إليك". ويحسن أن يقال: "قد كان ذلك"، و"هو كذلك". ¬
وقوله: "يتصرف مع المخاطب في أحواله من التذكير والتأنيث"، فالمراد أنّه تختلف حركاتُ هذه الكاف، ليكون ذلك أمارة على اختلافِ أحوالِ المخاطب من التذكير والتأنيث، وتلحَقُه علامات تدل على عَدَدِ المخاطبين. وُيوضِح لك ذلك نعتُ اسم الإشارة، ونداءٌ المخاطب، فإذا سألتَ رجلًا عن رجل، قلت: "كيف ذلك الرجل يا رجلُ"، بفتح الكاف؛ لأنك تُخاطِب مذكرًا قال الله تعالى: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (¬1). وإذا سألتَ امرأة عن رجل، قلت: "كيف ذلكِ الرجلُ يا امرأةُ"، كسرتَ الكاف حيث خاطبتَ مؤنثًا. قال الله تعالى {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} (¬2). وإذا سألت رجلَين عن رجل، قلت: "كيف ذلكُمَا الرجلُ يا رجلان"، ألحقتَ الكاف علامةَ التثنية حيث خاطبتَ رجلَيْن. قال الله تعالى: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} (¬3). فإن سألت رجلًا عن رجلَين، قلت: "كيف ذانك الرجلان يا رجلُ"، ثنّيتَ "ذَا" حيث كنت تسأل عن رجلَين، وفتحتَ الكاف حيث كنت تخاطب واحدًا. وإذا سألت رجالًا عن رجال، قلت: "كيف أولئكم الرجال يا رجالُ"، جمعتَ اسم الإشارة؛ لأن المسؤول عنه جمعٌ، وألحقتَ الكاف علامة الجمع، إذ كنت تخاطب جماعة. قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} (¬4). فإن سألت رجلًا عن جماعةِ مذكرِين؛ قلت: "كيف أولئك الرجال يا رجلُ" فإن سألت نساء عن نساء، قلت: "كيف أولئكن النساء يا نساء". قال الله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} (¬5)، ألحقَ علامة جمع المؤنّث حيث كان الخطابُ للنسوة، وهنّ صواحباتُ يوسف. و"كيف ذلكن الرجلُ يا نساءُ"، إذا سألت نساء عن رجل. وعلى هذا فقِس ما يأتيك من هذا. هذه هي اللغة الفاشيةُ التي يقتضيها القياسُ، وعليها مُعْظَمُ الاستعمال. وفيها لغةٌ أخرى نقلها الثقاتُ، وهي إفرادُ علامة الخطاب وفتحها على كل حالٍ تغليبًا لجانب الواحد المذكر، فتقول للرجل: "كيف ذلكَ المرأةُ يا رجلُ" (¬6)، بفتح الكاف كخطاب المَذكر، وكذا إذا خاطبتَ اثنين، أو جماعة. وفي التنزيل {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (¬7) وقياسُ اللغة الأولى: "وكذلكُمْ" لأن الخطاب لجماعة كما في الآية الأخرى {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} (¬8) ومنه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (¬9) إلى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهمُ} (¬10) ولم يقل: "ذلِكُم"، والمخاطبُ جماعة. ¬
فصل [الإشارة إلى القريب والمتوسط والبعيد]
فصل [الإشارة إلى القريب والمتوسط والبعيد] قال صاحب الكتاب: وقولهم: "ذلك" هو "ذاك", زيدت فيه اللام, وفرق بين "ذا", و"ذاك" و"ذلك", فقيل: الأول للقريب, والثاني للمتوسط, والثالث للبعيد, وعن المبرد أن "ذانك" مشددة تثنية "ذلك"، ومثل ذلك في المؤنث "تلك" و"تالك"، وهذه قليلة. * * * قال الشارح: قولهم "ذلِكَ"، الاسمُ فيه "ذَا"، والكافُ للخطاب، وزيدت اللامُ لتدل على بُعْدِ المشار إليه، وكُسرت لالتقاء الساكنين، ولم تُفتَح لئلا تُلبِس بلام المِلْك، لو قلت: "ذا لَكَ". فـ "ذَا" إشارةٌ إلى القريب بتجرُّدها من قرينة تدل على البُعد، فكانت على بابها من إفادة قرب المشار إليه؛ لأن حقيقةَ الإشارة الإيماء إلى حاضر. فإذا أرادوا الإشارة إلى متنحٍّ متباعِدٍ، زادوا كاف الخطاب، وجعلوه علامة لتباعُدِ المشار إليه، فقالوا: "ذَاكَ"، فإن زاد بُعْدُ المشار إليه، أتوا باللام مع الكاف، فقالوا: "ذَلِكَ". واستُفيد باجتماعهما زيادة في التباعد, لأن قوَّةَ اللفظ مُشْعِرة بقوة المعنى. فأمّا تشديدُ النون في "ذانِّ"، و"هذان"، فعوضٌ من حرف محذوف، فأمّا في "ذان" فعوضٌ من ألِف "ذا"، وهي في "ذانك" عوضٌ من لامِ "ذلِكَ". قاله المبردُ. فإذا قلت: "ذَاكَ " في الواحد، قلت في التثنية: "ذانِكَ". وإذا قلت: "ذلِكَ"، قلت في التثنية "ذَانكَ" بالتشديد. ويحتمل أن يكون التشديدُ عوضًا من ألِف"ذَلِكَ"، وإذا كان عوضًا من حرف، صار بمنزلةِ الميم المشددة في آخِرِ "اللهُمُّ" عوضًا من "يَا" فشُدّدت كتشديد الميم. ويجوز أن يكون تشديدُ النون للفرق بين النون التي هي عوض من حرفٍ، وبين النون التي هي عوض من الحركة والتنوين، جعلوا لِما هو عوض من الحرف مَزِية، فشُددت. فإن قيل: فلِمَ عوّضوا من الحرف الذاهب، وحذفُه عارضٌ لالتقاء الساكنين؟ قيل: من قِبَل أن التثنية لا يسقُط منها شيءٌ لالتقاء السَاكنين إلَّا المبهمَ، فلمّا خالف المتمكنَ، ونقص منه حرف، عُوّض من ذلك. وبعضهم لا يجعل التشديدَ في "ذان" عوضًا، بل من قبيل الادغام، وذلك أتنا ثنينا "ذا"، فصار "ذَانِ"، ثمّ دخلت اللامُ بعد النون للمعنى الذي أُريد منها، وهو بُعْدُ المشار إليه، فصار "ذَانِلِ"، فاجتمعت النونُ واللامُ، وكل واحد منهما يجوز ادّغامُه في صاحبه، فقُلب الثاني إلى لفظِ الأول، فصارت اللامُ نونًا، وادغمت فيها النونُ الأُولى كما قالوا: "مُذكِر". بالذال المعجمة، وأصلُه "مُذْتَكِرٌ". ولا يكون ذلك في "هذَانِ"؛ لأن هاء التنبيه واللام لا يجتمعان, لأن "هَا" للقريب، واللامَ للبعيد، والبُعدُ والقُرْبُ معنيان متدافِعان. وقوله: ومثلُ ذلك في المؤنّث، "تِلكَ"، و"تَالِكَ"، يريد أنه كما زادوا اللامَ مع
فصل [دخول "ها" التي للتنبيه على أوائلها]
المذكر لبُعدِ المشار إليه، فقالوا: "ذلِكَ"، كذلك زادوها مع المؤنّث، فقالوا "تِلْكَ"، و"تَالِكَ". فأمَّا "تلك" فهي "تِي"، وإنما حذفوا الياء لسكونها وسكونِ اللام بعدها. ولم يكسروا اللامَ كما فعلوا في "ذلِكَ"، كأنهم استثقلوا وقوعَ الياء بين كسرتَيْن لو قالوا: "تِيلِكَ". وقالوا في "تَا" "تَالك"، فلم يحذفوا الألفَ كما لم يحذفوها في "ذِلكَ". وهي قليلةٌ في الاستعمال، والقياسُ لا يأباها. ولم يقولوا: "ذِيكَ"، كأنهم استغنوا عنه بـ "تِيكَ". فصل [دخول "ها" التي للتنبيه على أوائلها] قال صاحب الكتاب: وتدخل "ها" التي للتنبيه على أوائلها فيقال: "هذا" و"هذاك", و"هذان", و"هاتا", و"هاتي" و"هذي" و"هاتيك", و"هؤلاء",و"هؤلا". * * * قال الشارح: اعلم أن "هَا" كلمةُ تنبيهٍ، وهي على حرفَيْن كـ"لاَ"، و"مَا"، فإذا أرادوا تعظيمَ الأمر والمبالغةَ في إيضاحِ المقصود، جمعوا بين التنبيه والإشارة، وقالوا: "هذَا"، و"هذِهِ"، و"هاتِهِ"، و"هاتَا"، و"هاتِي". قال الشاعر [من الطويل]: 481 - ونَبَّأتُمانِي إنمَا المَوْتُ بالقُرَى ... فَكَيْفَ وهَاتِي هَضْبَةْ وكَثِيبُ ¬
وقال الآخر [من الوافر]: 482 - وَلَيس لعَيشِنَا هذا مَهاه ... وليستْ دارُنَا هاتَا بِدارِ فـ "هَا" للتنبيه، و"ذَا" للإشارة، والمرادُ تَنَبَّه أيُّها المخاطبُ لمن أشِيرُ إليه. وتسقُط ألفُه في الخَط لكثرة الاستعمال، وهي ثابتة لفظًا. وقد يكون معهما خطابٌ، فتقول: "هاذاك"، و"هاتاك"، فـ "هَا" تنبيهٌ، و"ذَا"، و"تَا" إشارةٌ، والكافُ حرفُ خطاب. وفي التثنية "هاذانِ"، و"هاتانِ"، وإن جئت بالخطاب، قلت: "هاذانِكَ"، و"هاتانِكَ"، فـ "هَا" تنبيهٌ، و"ذان" إشارة إلى اثنين، والكافُ حرفُ خطاب. وتقول في الجمع "هؤُلاءِ". وفيه ثلاثُ لغات أشهرُها "هؤلاءِ" بالمدّ، و"هاؤلَا" بالقصر، و"هَؤلاءِ" بحذفِ ألفِ "هَا" التي للتنبيه، كأنّه لكثرة استعماله صار كالكلمة الواحدة، فخفّفوه بحذفِ ألفه. قال الشاعر [من الوافر]: 483 - تَجَلَّدْ لا يَقُل هَؤلاءِ هذا ... بَكَى لما بَكَى أسَفًا وغَيظَا ¬
فصل [الإشارة إلي المكان]
وقال الأعشى [من الخفيف]: 484 - هؤُلَا ثُمَّ هؤلائك أعطَيـ ... ـتُ نِعالاً مَحذُوَّةً بنِعالِ فصل [الإشارة إلي المكان] قال صاحب الكتاب: ومن ذلك قولهم إذا أشاروا إلى القريب من الأمكنة: "هنا", وإلى البعيد" "هنا". وقد حكي فيه الكسر, و"ثم". وتلحق كاف الخطاب, وحرف التنبيه بـ "هنا", و"هنا". ويقال: "هنالك", كما يُقال: "ذلك". * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأسماء من أسماءِ الإشارة أيضًا، فهي مشارٌ بها كما يشار بـ "هذَا" و "هؤلاء"، إلَّا أن هذه الأسماء لا يشار بها إلَّا إلى ما حضر من المكان، وتلك يُشار بها إلى كلً شيء، وهي مبنيَة كبناءِ "ذَا"، و"ذِه"، على السكون، والعلّةُ في بنائها كالعلة في بناءِ "ذَا"، و "ذِة"، وهو تضمُّنُها معنَى حرف الإشارة، أو شَبَهُها بالمضمرات على ما تقدَم. ¬
وفيها ثلاثُ لغاتُ: "هُنَا"، و"هَنا"، و"هِنا"، فأفصحُها "هُنَا" بضم الهاء، وأردؤُها "هِنا" بالكسر. وألفُ "هُنَا" لام، ووزنُه "فُعَل" كـ" صُرَد" (¬1) و" نُغَرٍ" (¬2). وأمّا "هَنا" بتضعيف العين، فينبغي أن لا يكون من لفظِ "هُنَا"، بل من معناه، وإن وافَقَه في بعضِ حروفه، كـ "سَبِط"، و"سِبَطْر"، و"دَمِث"، و"دِمَثْر". وألفُه زائدةٌ، ووزنُه "فَعْلَا"، العينُ واللامُ من واد واحد، كـ"حَبٍّ "، و"دَرٍّ"، وذلك لقلةِ ما جاء في الأسماء على وزنِ "فَعَّلَ"، إنما جاء في أسماء قليلة من المعارف، نحوِ: "خَضَّمَ"، و"عَثَّرَ". ويحتمل أن تكون ألفُه للإلحاق، نحو: "أرطى" فيمن قال: "أدِيمٌ مأروطٌ"، و"عَلْقًى"، ولم يُنوَّن للبناء. ويحتمل أن تكون للتأنيث كـ "سَلمَى"، وَ"رَضوَى"، وأما من كسر الهاءَ، فقال: "هِنا"، فهي أردأ اللغات وأقلها، وألفُه زائدةٌ أيضًا؛ لأنّه قد ثبتت زيادتُها في لغةِ مَن فتح الهاءَ، فتكون زائدة في لغةِ مَن كسر؛ لأنها لا تكون أصلًا في لغةٍ، زائدة في لغة اخرى. ويحتمل أن تكون ألفُه للإلحاق بـ "دِرْهَم"، كـ"مِغزى". ويحتمل أن تكون للتأنيث كـ"دِفْلَى"، قال ذو الرُّمّة في التشديد [من البسيط]: 485 - هُنا وهِنَّا ومِن هُنَّا لَهُن بها ... ذاتَ الشمائلِ والأيْمانِ هَيْنُومُ فأمَّا قول الراجز: 486 - قد وَرَدَت مِن أمْكِنَهْ ... مِن ههُنَا ومِن هُنَهْ إن لم أُرَوِّها فَمَه ¬
فإنه أراد "هُنَا"، فأبدل من الألف هاءً. ويجوز إدخالُ "هاءِ" التنبيه عليها كما تُدخِله على "ذَا"، فتقول: "هَا هُنَا" (1)، و"هاهَنا"، و"هاهِنا". قال الله تعالى: {إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} (¬2). ويدخل عليها كافُ الخطاب، فيقال: "هُنَاكَ "، فـ "هُنَا" إشارةٌ إلى مكان قريب، و"هُناكَ" إشارةٌ إلى مكان متباعِد، كما كان في "ذاكَ" كذلك. فإن أرادوا زيادةَ البُعْد، جاؤوا باللام، فقالوا: "هُنالِكَ"، كما قالوا: "ذلِكَ". قال الله تعالى: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} (¬3). وأما "ثم"، فإشارةٌ إلى المكان البعيد، جعلوا لفظَه وصيغتَه تدلّ على بُعْد، فلم يحتاجوا معه إلى قرينةٍ من كافِ خطاب، أو لام، إذ نفسُ الصيغة تدل على ذلك. فإذا قلت: "هُناكَ"، دلّت الكافُ على مثلِ ما يدل عليه "ثَم" بمُجرَّدها. وهي مبنيةٌ لتضمُّنها حرفَ الإشارة، أو شَبَهِ المضمر على ما ذكرناه في "ذلِكَ" و"هُنَالِكَ"، وكان أصلُها أن تكون ساكنة، وإنما حُرّكت لالتقاء الساكنين، وهما الميمان في آخِرها، وفُتحت طَلَبًا للخفة لاستثقالِ الكسرة مع التضعيف، فإذا وقفتَ عليها، إن شئت، ألحقتَها هاءَ السَكت، فقلت: "ثَمَّهْ"، وإن شئت، لم تأتِ بها، وقلت: "ثَمَّ"، فاعرفه. ¬
الموصولات
الموصولات فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: "الذي" للمذكر, ومن العرب من يشدد ياءه. و"اللذان" لمثناه, ومنهم من يشدد نونه و"اللذين"- وفي بعض اللغات- "اللذون" لجمعه. و"الأولى" و"اللاؤون" في الرفع, و"اللائين" في الجر والنصب. و"التي" لمؤنثه, و"اللتان" لمثناه, و"اللاتي" و"اللات" و"اللائي", و"اللاء" و"اللاي", و"اللواتي" لجمعه. * * * قال الشارح: معنى الموصول أن لا يتِم بنفسه، ويفتقِر إلى كلام بعده، تصلُه به ليَتِم اسمًا، فإذا تَم بما بعده، كان حكمُه حكمَ سائر الأسماء التامّة، يجوز أن يقع فاعلًا، ومفعولاً، ومضافًا إليه، ومبتدأ، وخبرًا. فتقول: "قام الذي عندك"، فموضعُ "الذِي" رفعٌ بأنه فاعلٌ. وتقول: "ضربتُ الذي قام أبوه" فموضعُه نصب بأنه مفعول. وتقول: "جاءني غلامُ الذي في الدار"، فيكون موضعُ "الَّذي" خفضًا بإضافةِ الغلام إليه، وتقول: "الذي في الدار زيدٌ"، فيكون موضعُ "الذي" رفعًا بأنه مبتدأ. وتقول: "زيدٌ الذي أبوه قائمٌ"، فموضعُ "الَّذي" رفع بأنه خبر المبتدأ. ولهذا المعنى من احتياجه في تَمامه اسمًا إلى جمله بعده تُوضِحه، وجب بناؤُه؛ لأنه صار كبعضِ الكلمة، وبعضُ الكلمة لا يستحِقّ الإعرابَ، أو لأنّه أشبهَ الحرف من حيث إنه لا يُفيد بنفسه، ولا بدّ من كلام بعده، فصار كالحرف الذي لا يدل على معنى في نفسه، إنما معناه في غيره، ولذلك يقول بعضُهم: إن الموصول وحدَه لا موضعَ له من الإعراب، وإنما يكون له موضعَ من الإعراب إذا تم بصلته. والصوابُ عندي أن الإعراب للاسم الأول الموصولِ، ومجرَى الصلة من الموصول مجرَى الصفة من الموصوف، فكما لا يتوقف إعرابُ الموصوف على تمامه بالصفة، كذلك لا يتوقف إعرابُ الموصول على تمامه بالصلة. ويُوضِح ذلك لك أتى المُعْرَب من الموصولات يظهر الإعرابُ فيه، نحوَ: "أي"، ألا تراك تقول: "جاءني أيُّهُمْ أبوه قائمٌ"، ولارأيت أيَّهم أبوه قائمٌ"، و"مررت بأيَّهم أبوه قائم"، فكما أن الإعراب هنا ظاهر في "أي"، كذلك ينبغي أن
يكون في "الذي" وأخواتِها، إلا أن الفرق بين الصلة والصفة، أنّ الجملة إذا كانت صفة كان لها موضعٌ من الإعراب؛ لأنها واقعةٌ موقعَ المفرد، إذ كانت الصفةُ تكون بالمفرد، والصلةُ لا موضعَ لها من الإعراب؛ لأنها لم تقع موقعَ المفرد؛ لأنّ الصلة لا تكون مفردًا. واعلمْ أن الموصولاتِ ضربٌ من المُبْهَمات، وإنما كانت مبهمةٌ لوقوعها على كل شيء من حَيَوان وجَماد وغيرِهما، كوقُوعِ "هذَا"، و"هؤُلاءِ" ونحوِهما من أسماء الإشارة على كل شيء. وجملةُ الأمر أن الموصولات تسعةٌ، وهي "الذِي"، و"التِي"، وتثنيتُهما وجمعُهما، و"مَنْ"، و"مَا" بمعناهما، واللام بمعنَى "الذي"، و"أيٌّ"، و"ذُو" في لغةِ طَيِّئٍ، و"ذَا" إذا كان معها "مَا"، وَ"الألى" في معنَى "الذينَ". فأمّا "الذِي"، فيقع على كل مذكر من العُقلاء وغيرهم، تقول: "جاءني زيدٌ الذي قام أبوه"، و"رأيت الثوْب الذي تعرفُه"، قال الله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬1)، وقال تعالى: {إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} (¬2). وفيها أربعُ لغات. قالوا: "الذِي" بياء ساكنة، وهو الأصل فيها. و"اللَّذ"، بكسر الذال من غيرِ ياء، كأنّهم حذفوا الياء تخفيفًا، إذ كانت الكسرةُ قبلها تدلُّ عليها، فعلوا ذلك كما قالوا: "ياغُلامِ"، و"يا صاحبِ"، بالكسرة اجتزاء بها عن الياء. الثالثُ: "اللَّذْ"، بسكون الذال، ومُجازُه أنهم لما حذفوا الياء اجتزاء بالكسرة منها، أسكنوا الذال للوقف، ثمّ أجروا الوصل مُجرى الوقف، كما قالوا [من الرجز]: مِثْل الحَرِيق صادَفَ القَصَبَّا (¬3) وهو من قبيل الضرورة، وعند الكوفيين قياسٌ لكثرته. الرابعُ: "الذِيُ"، بتشديد الياء للمبالغة في الصفة، كما قالوا: "أحْمَرِيٌّ"، و"أضفَرِيٌّ"، وكما قال [من الرجز]: والدَّهْرُ بالإنْسانِ دوارِيُّ (¬4) وليس منسوبًا. وأصلُ "الَّذي": "لَذ"، كـ "عَم" و"شَج"، فاللامُ فاءٌ الكلمة، والذال عينها، والياء لامها. هذا مذهبُ البصريين، وقال الكوفيون (¬5): الأصل في "الَّذي" الذال وحدَها، وما ¬
عداها زائدٌ، فأصلُ "الَّذِي" كأصلِ "هذَا". و"هذا" عندهم أصلُه الذال وحدها، فجَوْهَرُهما واحدٌ، وإنما يفترقان بحسبِ ما يلحَقهما من الزيادات المختلفة لاختلافِ معنيَيْهما. واحتجّوا لذلك بأن قالوا: رأينا الياء تسقُط في التثنية، نحوِ قولك: "اللذانِ"، و"اللذيْن"، وقالوا في إحدى لغاتِها: "اللذْ"، بسكون الذال، قال الشاعر [من الرجز]: 487 - [فَظَلْتُ في شَرٍّ مِنَ اللذْ كيدا] ... كاللذْ تَزَبى زُبْيَة فاصطِيدا وهو فاسدٌ, لأنه لا يجوز أن يكون اسمٌ في كلام العرب على حرف واحد، إلَّا أن يكون مضمرًا متصلًا. ولو كان الأصل الذالَ وحدَها لَما جاز تصغيرَها. والتصغيرُ ممّا يرُد الأشياءَ إلى أُصولها, ولا يدخل إلَّا على اسم ثُلاثي. وقد قالوا في التصغير: "اللذَيا"، فالياءُ الأوُلى للتصغير، والألفُ كالعِوَض من ضمِّ أوله، والموجودُ بعد ذلك ثلاثةُ أحرف: اللام، والذال، والياء. ولا يدُفَع المسموع وما عليه اللفظُ إلَّا بدليل، إذ الأصلُ عدمُ الزيادة. وأمّا احتجاجُهم بحذفِ الياء في التثنية، نحو قولهم: "اللذانِ"، فإنما كان لالتقاء الساكنين، كما قلنا في "هذانِ"، ولم تثبت الياءُ وتتحركَ، فيقالَ: "اللذِيَانِ"، كما قالوا: ¬
"العَمِيانِ"، لنقصِ تمكُنها وخروجِها إلى شَبَهِ الحروف. والحروفُ جامدة لا تصرُّفَ لها كتصرَّفِ المتمكنة، وأما حذفُ الياء وإسكانُها؛ فلضرب من التخفيف كحَذفهم لها في قوله تعالى: {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} (¬1) في قراءةِ كثيرِ فن القُرّاءِ. ومثلُه [من الكامل]: 488 - كَنَواحِ رِيشِ حَمامَة نَجْدِيَّةٍ ... ومَسَحْتِ باللثَتَيْنِ عَصْفَ الإثْمِدِ وأمّا الألف واللام في "الذي" و"الَّتي"، وتثنيتِهما وجمعِهما، فذهب قومٌ إلى أنها زائدة للتعريف على حدّها في "الرجل"، و"الغلام"؛ لأنها معارفُ، والألف واللام مُعرِّفان، فكان إفادةُ التعريف بهما. والذي عليه المحققون أنهما زائدتان، والمرادَ بهما لفظُ التعريف لا معناه، والذي يدل أنهما ليستا لمعنى التعريف أمران: أحدهما: أن الألف واللام في الموصولات زيادةٌ لازمةٌ، ولامُ التعريف لا نعرفُها جاءت لازمة، بل يجوز إِسقاطها، نحوُ: "الرجلُ" و"الغلامُ"، و"رجلٌ"، و"غلامٌ". ولم نجدْهم قالوا: "لَذ"، كما قالوا: "غُلامٌ"، فلمّا خالفتْ ما عليه نظائرُها؛ دل على أنها زائدة لغيرِ معنى التعريف، كما يُزاد غيرُها من الحروف. والأمرُ الثاني: أنا نجد كثيرًا من الأسماء الموصولة مُعَراة من الألف واللام، وهي مع ذلك مُعرَّفةٌ، وهي "مَن"، و"مَا"، و"أيٌّ"، نحوُ قولك: "ضربتُ مَنْ عندك"، و"أخذتُ ما أعطيتَني"، و"لأُكْرِمَن أيهُمْ في الدار". فهذه الأشياءُ كلُها معارفُ، ولا ألفَ ولامٌ فيها كما كانتا في "الذي" و"الَّتي". وإنما تعرُّفُها بما بعدها من صلاتها، وإذا ثبت أن الصلة مُعَرِّفةٌ، لم يكن الألفُ واللام فيما دخلا فيه من الموصولات مُعرَّفة أيضًا؛ لأن ¬
الاسم لا يَتعرَّف من جهتَيْن مختلفتَيْن. وإذا ثبت أن الألف واللام لا يفيدان هنا التعريف؛ كان زيادتُهما لضرب من إصلاحِ اللفظ. وذلك أن "الذي" وأخواته ممّا فيه لامٌ إنّما دخل توصُّلاً إلى وصفِ المَعَارف بالجمل، وذلك أن الجمل نكراتٌ. ألا ترى أنها تجري أوصافًا على النكرات، نحوَ قولك: "مررتُ برجلٍ أبوه زيد"، و"نظرتُ إلى غلام قام أخوه". وصفةُ النكرة نكرةٌ. ولولا أن الجمل نكراتٌ، لم يكن للمخاطب فيها فائدة؛ لأن ما تَعرَّف لا يُستفاد، فلمّا كانت تجرى أوصافًا على النكرات لتنكرها؛ أرادوا أن يكون في المعارف مثلُ ذلك، فليم يَسُغ أن تقول: "مررت بزيدٍ أبوه كريمٌ"، وأنت تريد النعت لـ "زَيد"؛ لأنه قد ثبت أن الجمل نكراتٌ، والنكرةُ لا تكون وصفًا للمعرفة. ولم يمكن إدخالُ لام التعريف على الجملة؛ لأن هذه اللام من خَواصِّ الأسماء، والجملةُ لا تختص بالأسماء، بل تكون جملة اسمية، وفعليّة فجاؤوا حينئذ بـ "الذِي" متوصِّلين بها إلى وصف المعارف بالجمل، فجعلوا الجملة التي كانت صفة للنكرة صفة لـ "الذي"، وهو الصفة في اللفظ، والغرضُ الجملة، كما جاؤوا بـ "أيٍّ" متوصلين بها إلى نداءِ ما فيه الألف واللام، فقالوا: "يا أيُّها الرجلُ"، والمقصود نداءُ الرجل، و"أيٌّ" وُصلةٌ، وكما جاؤوا بـ "ذِي" التي بمعنَى "صاحب"، متوصّلين إلى وصف الأسماء بالأجناس، إلَّا أن لفَظَ "الذي" قبل دخولِ الألف وَاللام، لم يكن على لفظِ أوصافِ المعارف، فزادوا في أوّلها الألفَ واللام، ليحصُل لهم بذلك لفظُ المعرفة الذي قصدوه، فيتطابقَ اللفظُ والمعنى. فإذا ثنيتَ "الَّذي"، قلت في الرفع: "اللَّذانِ"، وفي النصب والجرّ: "اللَّذَيْنِ". واعلمْ أن جميعَ هذه الأسماء المُبهَمة، نحو: "الَّذي"، و"التي"، وأسماءِ الإشارة، ونحوِها ممَّا لا يُفارِقه التعريفُ لا يصح تثنيتُه. فالتثنية فيه إنما هي صيغة موضوعةٌ للتثنية. لأن التثنية إنما تكون في النكرات، نحوِ قولك: "رجل"، و"رجلان"، و"فرسٌ" و"فرسان". فأمّا "زيدٌ"، و"عمرٌو"، و"زيدان"، و"عمران"، فإنك لم تُثَنه إلَّا بعد سَلْبه ما كان فيه من تعريفِ العَلَمية، حتى صار شائعًا كـ"رجلٍ" و"فرسٍ". وإنما كان كذلك من قِبَل أن المعرفة لا يصح تثنيتُها؛ لأن حد المعرفة ما خص الواحدَ من جنسه، ولم يَشِع في أُمته. وإذا ثُنّي، فقد شُورِكَ في اسمه، وخرج عن أن يكون معرفة. وإذا ثبت أن المعرفة لا تصح تثنيتُها مع بَقاءِ تعريفها، فما لا يصح تنكيرُه، لا تصح تثنيتُه. ولما كانت هذه الأسماءُ ممّا لا يصح اعتقادُ التنكير فيها, لم تكن تثنيتها تثنية حقيقية، وإنما هي صيغةٌ موضوعة للدلالة على التثنية، إلَّا أنها جرت على منهاجِ التثنية الحقيقية في الإعراب، لقُربها من الأسماء المتمكنة. وممّا يؤيِّد أنها وَضْعيةٌ حذفُ الياء في التثنية. ولو كانت تثنية صِناعيّة، لَثبت فيها الياءُ، كما تثبت في "عَمِ"، و"عَمِيانِ". ومجرى النون فيها مجراها في "هذانِ". وكانت مكسورة؛ لأنها جرت على منهاج التثنية الحقيقية، تقول:"رجلان"، و"فرسان"، بكسر النون، كذلك ههنا. ومنهم من
يقول: دخلت النونُ في "اللذانِ"، و"اللَّتانِ" عوضًا من الياء المحذوفة، كما كانت في "هذانِ" كذلك. ومنهم من لا يجعلها عوضًا من شيء؛ لأنها صيغةٌ موضوعة للتثنية على ما تقدم. ومنهم من يُشدِّد النون، فيقول: "اللَّذان"، وقد قرأ ابن كَثِير: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ} (¬1) بتشديد النون. فمن خفف النونَ، فقد جرى على منهاج التثنية على حد نونِ "رَجُلانِ"، و"فَرَسانِ". ومن شدّدها، فإنه جعل التشديد فَرْقًا بين ما يُضاف من المثنى، وتسقُط نونُه للإضافة، نحو: "غلاما زيدٍ"، و"صاحبا عمرٍو"، وبين ما لا يُضاف، نحو: "الذي"، و"التي"، وسائرِ المبهمات. ومنهم من يقول: التشديدُ فرقٌ بين النون الداخلة عوضًا من الحركة والتنوينِ، وبين النون الداخلة عوضًا من حرف ساقط من نفس الكلمة، كأنّهم جعلوا لِما هو عوض من أصل الكلمة مَزِيَّة على ما هو عوضٌ من شيء زائد ليس من الكلمة. وتقول في الجمع: "الذينَ"، بالياء في الرفع والنصب والجرّ لا يختلف، لأنّه مبنىٌّ كالواحد، ومنهم من يقول: "اللَّذُونَ" في الرفعِ، و"الذينَ" في النصب والخفض يجعلُه كالتثنية، إذ كان على منهاجها في الصحَّة، والأول أكثرُ. وأمّا "الألى" بمعنَى "الّذين" فهو جمعُ "الَّذي" من غير لفظه، كـ "رَجُل" و"نَفَر"، و"امرَأة" و"نِسوَة"، وهو بوزنِ "الحُطَم" و "اللُّبَد". وأمّا "اللَّاءُ"، فهو بمعنَى "الذي"، نحوِ: "جاءني اللَّاءُ فَعَلَ كذا"، أي: الَّذِي فعل، فهو بوزنِ "رجلٌ مالٌ"، إذا كثُر مالُه، و"كَبشٌ صافٌ" إذا كثر صُوفُه، و "يَوْمٌ راحٌ"، إذا كثرتُ فيه الرِيح. ويُجمع "اللاءُ" جمعَ السلامة كما فعلوا ذلك بـ "الذِي"، فقالوا: "اللَّاؤونَ" في الرفع، و"اللَّائِينَ" في النصب والجرّ. وأمّا "الَّتِي"، فهي عبارة عن كل مؤنّث من حَيَوان وغيره، تقول: "جاءتَني المرأةُ التي تعرفُها"، و"رأيتُ الناقة التي عندك"، و"غُنِيتُ بالشجرة التَي حَمْلُها طيّبٌ"، والكلامُ فيها كما الكلامُ في "الذِي". والألفُ واللام فيها زائدة كما كانت في "الذِي" لإصلاحِ لفظها لوصفِ المعارف. وهي ثُلاثيهٌ، الاسمُ: اللامُ والتاء والياء, لأنه الموجود، والذي عليه اللفظُ، وقال الكوفيون: هي منقولة من "تَا" في الإشارة، وأصلُ "تَا" عندهم التاءُ وحدَها، والكلامُ عليها كالكلام في "الذي". وفيها أربعُ لغات كلغاتِ "الَّذي". يقولون: "الَّتِي" بإسكان الياء، واللّتِ بالكسر، واللَّتْ بالسكون، واللَّتِيُّ بالتشديد. والكلامُ عليها كالكلام على "الذِي"، وقد تقدم ما فيه مَقْنَعٌ. ¬
وتُثنِي "التِي"، فتقول: "اللتانِ" في الرفع، و"اللَّتَيْنِ" في النصب والجرّ، وهو معربٌ, لأن مِنهاجَ التثنية لا يختلف، ولا تكون إلَّا من لفظِ الواحد، وليس كذلك الجمع، فإنّه يختلف، فيكون جمعٌ أكثرَ من جمع، ولا تكون تثنيةٌ أكثرَ من تثنية، ويكون الجمعُ من غير لفظِ واحده، كالنفَر، والنسْوَة، والإبِل، فلذلك حافظوا على التثنية، وأجروها في الإعراب على منهاج واحد، وتركوا الجمع على حاله من البناء كواحده. ويقولون في جمع "التِي": "اللَّاتِي"، على وزنِ "القاضِي"، و"اللّائِي"، و"اللَّاءِ" بغير ياء، كما قالوا في "الذِي": "الألى"، فأتوا به على غير لفظ الواحد. قال تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} (¬1). وربما قالوا: "اللوَائِي"، و"اللوَاءِ" بغيرِ ياء، كما قالوا: "اللوَاتِي"، و"اللوَاتِ"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: واللام بمعنى "الذي" في قولهم: "الضارب أباه زيدٌ" أي: الذي ضرب أباه, و"ما", "من" في قولك: "عرفت ما عرفته ومن عرفته", و"أيهم" في قولك: "أضرب أيهم في الدار", و"ذو" الطائية الكائنة بمعنى "الذي" في نحو قول عارق [من الطويل]: 489 - [لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم] ... لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه "وذا" في قولك: "ماذا صنعت", بمعنى: "أي شيء الذي صنعته. * * * ¬
قال الشارح: قد ذكرنا عدةَ الأسماء الموصولة، وقد تقدم الكلام على "الذِي"، و"التي"، وتثنيتهما، وجمعهما. فأمّا الألفُ واللام، فتكون موصولة بمعنَى "الذي" في الصفة نحوِ اسم الفاعل، واسم المفعول، تقول: "هذا الضاربُ زيدًا"، والمراد: الَّذي ضرب زيدًا، و"هذا المضروبُ" والمراد الذي ضُرب، أو يُضرَب. وذلك أنهم أرادوا وصفَ المعرفة بالجملة من الفعل، فلمّا لم يُمكِن ذلك لتَنافِيهما في التعريف والتنكير، توصلوا إلى ذلك بالألف واللام، وجعلوها بمعنَى "الَّذي"، بأن نَوَوْا فيها ذلك، ووصلوها بالجملة، كما وصلوا "الذي" بها، إلا أنه لما كان من شأنها أن لا تدخل إلا على اسم، حوَّلوا لفظَ الفعل إلى لفظ الفاعل، أو المفعول، وهم يريدون الفعل. فإذا قلت: "الضاربُ"، فالألفُ واللام اسم في صورة الحرف، واسمُ الفاعل فعل في صورة الاسم. ألا ترى أنه لا يجوز أن تقول: "هْذا ضاربٌ زيدًا أمسِ"، فتُعمِلَه فيما بعده بل تُضيفه ألبتةَ؟ ويجوز أن تقول: "هذا الضاربُ زيدًا أمس"، فتُعمِلُه، لأنّك تنوي بـ "الضارب" الذي ضَرَبَ. ومتى لم تَنوِ بالألف واللام "الذي"، لم يحسن أن يعمل ما دخلا عليه، وصار كسائرِ الأسماء، ويؤيد ما ذكرناه أن الشاعر قد يُضطرَّ، فيُدخِل الألف واللام على لفظ الفعل من غيرِ أن ينقُله إلى اسم الفاعل، وما أقَلَّه! قال الشاعر [من الطويل]: فيُستَخْرَجُ اليَربُوعُ من نافِقائه ... ومن جُحرِهِ ذِي الشيخَةِ اليَتَقَصَّعُ (¬1) وقال الآخر [من الطويل]: 490 - يقول الخَنَا وأبْغَضُ العُجْمِ ناطِقًا ... إلى رَبهِ صَوْتُ الحَمارِ اليُجَدَّعُ ¬
والمراد: الذي يتقصعُ، والذي يُجدَّع. وقد اختُلف في هذه اللام، فذهب قومٌ إلى أنّها حرف وليست اسمًا، وإن نُوي بها مذهبُ الاسمية، ولذلك أُعرب الاسم الواقع بعدها بإعرابِ "الذي" بغيرِ صلة. ولو كانت اسمًا، لكان الإعرابُ لها، وحُكِم على موضعها بالإعراب الذي يستحِقه "الذي". وذهب قومٌ إلى أنها اسم، واحتجوا لذلك بعَوْدِ الضمير من الصفة بعدها إليها، كما يعود إلى "الذي" من صلتها. والصوابُ الأول أنها حرف، إذ لو كانت اسمًا، لكان لها موضعٌ من الإعراب. ولا خلافَ أنه لا موضعَ لها من الإعراب، ألا ترى أنها لو كان لها موضع من الإعراب، لكنت إذا قلت: "جاءني الضاربُ"، يكون موضعُها رفعًا بأنها فاعلٌ، فكان يؤدي إلى أن يكون للفعل الواحد فاعلان من غيرِ تثنية، أو عطفٍ: الألفُ واللام، واسمُ الفاعل. وإذا قلت: "ضربتُ الكاتبَ"، يكون للفعل مفعولان، وذلك لا يجوز, لأن هذا الفعل لا يكون له أكثرُ من مفعول واحد. وإذا قلت: "مررت بالضارب"، يكون لحرفِ الجرّ مجروران، وذلك مُحال. وأما قولهم: إنه يعود إليها الضميرُ من الصفة، فلا تقول إن الضمير يعود إلى نفس الألف واللام، بل تقول إِنّه يعود إلى الموصوف المحذوف لأنك إذا قلت: "مررت بالضارب"، فتقديرُه: "مررت بالرجل الضارب"، فالضميرُ يعود إلى الرجل الموصوف المحذوف؛ لأنه في حكمِ المنطوق به، وتارة تقول: إِنه يعود إلى مدلولِ الألف واللام، وهو"الذِي"، فاعرفه. وأمّا "مَنْ"، فإنّها تكون بمعنَى "الذي"، وتحتاج من الصلة إلى مثلِ ما احتاجت إليه "الذي"، إلَّا أنّها لا تكون إلَّا لذَواتِ مَن يعقِل، وهي اسم بدليلِ أنّها تكون فاعلة، نحوَ قولك: "جاءني من قام"، فموضعُ "مَنْ" رفعٌ بأنه فاعل، ومفعولة، نحوَ: "رأيت مَن عندك"، فيكون موضعُها نصبًا بأنه مفعول به كما تكون الأسماءُ كذلك. ولا بد لها من ضمير يعود إليها، وذلك من خصائص الأسماء. ويدخل عليها حروفُ الجرّ، نحوَ قولك: "مررت بِمَنْ عندك". قال الله تعالى: {فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬1)، وهي مبنية كما كانت "الَذِي" كذلك, لأنّ ما بعدها من الصلة من ¬
تمامها، فهي بمنزلةِ بعض الاسم، وبعضُ الاسم مبنى لا يستحِق الإعرابَ، وذلك نحوُ قولك: "جاءني مَن عندك"، أي: الذي عندك. قال الله تعالى: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ} (¬1)، إلَّا أنها تُفارِق "الذي" في أنها لا توصف كما توصف "الذي"، ولا يوصَف بها كما يوصف بـ "الذي". ألا تراك تقول: "جاءني زيد الذي قام"، و"جاءني الذي قام الظريف"، فتصف "الذي"، وتصف بها, ولا تفعل ذلك في "مَن"؛ لخروجها عن شَبَهِ الأسماء المتمكِّنة، وشَبَهِها بالمضمرات بنَقْصِ لفظها. ألا ترى أنّها على حرفَيْن، والأسماءُ الظاهرة لا تكون على أقل من ثلاثةِ أحرف. فلمّا بعُدتْ من الظاهر، لم توصَف، ولم يوصَف بها. وليس كذلك "الذي" فإِنها على ثلاثة أحرف، إذ أصلُها "لَذِ"، مثلُ: "عَم" و"شَج". فإن قيل: إذا زعمتَ أنها لا تقع إلا على ذواتِ مَن يعقِل، فما تصنع بقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} (¬2)، والذي يمشي على بطنه، والذي يمشي على أربع ليسوا من العُقلاء؛ لأنّ الذي يمشي على بطنه من جنسِ الحَيات، والذي يمشي على أربع من جنسِ الأنعام والخيل؟ فالجوابُ أنّه لما خلط ما يعقل وما لا يعقل، غَفبَ جانبَ من يعقل، وذلك أنه قال: "فَمِنهُمْ"، فجمع كنايةَ من يعقل وما لا يعقل بلفظِ ما يعقل، فلمّا كان كنايةُ الجمع الذي فيه ما يعقل وما لا يعقل مثلَ كناية الجمع الذي ليس فيه ما لا يعقل، كان تفصيلُه كذلك، ولِـ "مَن"، مواضعُ غيرُ ذلك تُذكَر فيما بعدُ. وأمّا "مَا"، فتكون موصولة بمعنى "الذِي"، تحتاج من الصلة إلى مثلِ ما تحتاج وهي مبنيةٌ لِما ذكرناه في "مَنْ"، من أنها هي وما بعدها اسمٌ واحدٌ، فكانت كبعضِ الاسم. وهي تقع على ذواتِ ما لا يعقل وعلى صفاتِ من يعقل. قال الله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20)} (¬3)، أي: يُذاب ما في بطونهم وجلودُهم وقال: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا} (¬4)، فأوقع "مَا" على ما كانوا يعبدون من الأصنام. وقال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (¬5). وقد ذهب بعضهم إلى أنها تقع لِما يعقل بمعنَى "مَنْ"، واحتجّ بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى} (¬6)، وبقوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5)} (¬7). وحكى أبو زيد من قول الِعرَب: "سبْحَانَ مَا سَخرَكُن لنا"، فأجرى "مَا" على القديم سبحانه، وهذاَ ونحوُه محمول عَندنا على الصفة، وقد ذكرنا أنّها تقع على صفاتِ من يعقل، فقولُه: {مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}، بمعنَى: ¬
الطَيب منهن. وقولُه: {وَالسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا}، بمعنَى: البانِي لها في أحدِ القولَين، والقولُ الآخر أن يكون بمعنى المصدر، أي: وبِنائِها. وقولُهم: "سبحانَ ما سخركن لنا" بمعنَى المُسخر، ومهما جاء من ذلك، فمتأوَّلٌ على ما يَرجِعه إلى ما أصّلنا , ولها مواضعُ تُذكر أقسامُها فيها فيما بعدُ، إن شاء الله. وأما "أَيٌّ"، فإنّها تكون موصولة أيضًا تحتاج إلى كلام بعدها، تتِمّ به اسمًا كاحتياجِ "الذِي" و"مَنْ"، و"مَا"، إذا كانا بمعنَى "الذي". ويعمل فيها ما قبلها من العوامل كما تعمل في "الذي"، فتقول: لأضرِبَن أيَّهُمْ في الدار"، والمعنى "الذي في الدار" منهم، فـ "أيٌّ" بمنزلةِ "الذي"، إلَّا أنها تُفيد تبعيضَ ما أُضيفت إليه، ولذلك لزمتْها الإضافةُ. ألا ترى أنك إذا قلت: "لأضربن الذي في الدار"، لم يكن في اللفظ دلالةٌ على أنّه واحدٌ من جماعة، كما تُفيد "أيٌّ" ذلك؟ وقد تُفرَد ومعناها الإضافة، نحوُ قوله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1)، والمعنى: أيَّ الاسمَين دعوتَ الله به، فله الأسماء الحسنى. ولا بدّ من عائد في الجملة التي هي صلةٌ له. ألا تراك تقول: "جاءني ايُّهُم قام أبوه"، والعائدُ الهاء في "أبوه"، وتقول:"لأضربَن أيَّهُم قام غلامُه، وأيَّهُم هو أحسنُ"؟ فإن حذفتَ العائد المرفوع الذي لا يحسُن حذفُه في "الذِي"، بُني على الضم، نحوَ قولك: "لأضربَن أيهُم أحسنُ". قال الله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69)} (¬2)، والمعنى أيَّهُم هو أشدُ. وإنما بُنيت, لأن القياس فيها أن تكون مبنية على حد نظيرَيْها، وهما "مَنْ"، و"مَا"؛ لأنها إذا كانت استفهامًا، فقد تضمنتْ معنَى همزة الاستفهام؛ وإذا كانت جزاء، فقد تضمنت معنى حرف الجزاء، وهو" إنْ"؛ وإذا كانت خبرًا بمعنَى "الذي" فهي كبعضِ الاسم على ما أصلنا. وإنما أُعربت لتمكنها بلزوم الإضافة لها حَمْلًا لها على نقيضها ونظيرها، وهو "بَعضٌ" و"كُلٌّ"، فلمّا حُذف العائد المرفوع الذي لا يحسن حذفُه مع "الذي"، دخلها نقصٌ بإزالتها عن ترتيبها، فعادت إلى أصلها. ومقتضَى القياس فيها من البناء كما أنا "مَا" الحِجازيةَ إذا قدُّم خبرُها، أو دخلها الاستثناءُ الناقضُ لمعنَى الجَحْد، رُدّت إلى قياسِ نظيرها في الابتداء، نحوِ: "هَلْ"، و"إنَّمَا" ونحوِهما مما يكون بعده المبتدأ والخبر، وإنما بُني على الضم على التشبيه بـ "قَبْلُ" و"بَعْدُ"، و"يَا زيدُ"؛ لأنّه يكون مُعرَبًا في حال، ومبنيًّا في حال، كما تقول: "جئتُ من قَبْلِ ومن بَعْدٍ"، و"يَا رجلًا"، ثم تقول: "جئت من قبلُ ¬
ومن بعدُ"، إذا أردت المعرفة، و"يَا زيدُ". هذا مذهبُ سيبويه، والكوفيون يُخالِفونه في هذا الأصل (¬1)، وينصبون "أيًّا" إذا وقع عليها فعلٌ، سواء حذفوا العائد من الصلة، أو لم يحذفوه، ولا فرقَ عندهم بين قولهم: "لأضربَن أيهم هو أفضلُ"، وبين "لأضربَن أيهم أفضلُ" ولا يضمّون "أيهُم" إلَّا في موضعُ رفع، فأمّا قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} (¬2)، فإنهم يقرؤونها بالنصب، حكاه هارونُ القارئ عنهم، وقرأ بها أيضًا، وتأوّلوا الضم على وجوه: أحدُها: أنه معربٌ، وأنّه رفعٌ بأنه مبتدأ، و"أشَدُّ" الخبرُ، ويكون "أيٌّ" هنا استفهامًا، كأنه اكتفى بالجار والمجرور في قوله: {مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ}، كما يُقال: "لأقْتُلَن من كل قَبِيلٍ"، و"لآكُلَنّ من كل طَعام"، ثُم ابتدأ {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا}، وهو رأيُ الكسائي والفراء، وعلى هذا، لا يكون للجملة التي هي "أيُّهُم أشد" موضعٌ من الإعراب. والوجهُ الثاني: أن يكون "أيُّهُم" أيضًا استفهامًا على ما ذكرنا، وهو رفعٌ بأنه مبتدأ، وما بعده الخبرُ، والجملةُ في موضع المفعول لقوله: {لَنَنْزِعَنَّ}، والنزعُ بمعنى التبيين، فهو قريب من العِلم، فلذلك جاز تعليقُه عن العمل. والوجه الثالث: أن يكون رفعًا على الحكاية، والمعنى: ثُم لننزعن من كل فَرِيق تَشايَعُوا الذي يُقال فيه: أيُّهم أشدُّ على الرّحمن عتيّا، وهو رأيُ الخليل (¬3)، وشبّهه بقول الأخْطَل [من الكامل]: 491 - [ولَقَد أبيتُ من الفتاة بمنزلٍ] ... فأبِيت لا حَرِجٌ ولا محرومُ ¬
وهذا بابُه الشعر، وفي حال الاختيار عنه مندوحة. ويونسُ (¬1) يجعله من قبيلِ "أشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ" في تعليق الفعل عن العمل سواء كان من أفعال القلب، أو لا يكون، ويُجيز "لأضربن أيَّهُم هو أفضلُ"، ويُعلق الضرب. وهذا ضعيف؛ لأن التعليق ضربٌ من الإلغاء. ولا يجوز أن يُعلَّق من الأفعال عن العمل إلَّا ما يجوز إلغاؤه، والذي يجوز إلغاؤه أفعالُ القلب، نحوُ: "ظننتُ"، و"علمتُ"، والكوفيون لا يروون "لأضربنّ أيهُم قائمٌ" بالضم، ولا يقولونه إلَّا منصوبًا. ويعضُد ما قالوا ما حكاه الجَرْمي، قال: من حينِ خرجتُ من الخَنْدَق، يعني خندقَ البصرة، حتّى صرتُ إلى مكةَ، لم أسمع أحدًا يقول: "اضرب أيهُم أفضلُ"، أي: كلهم ينصب. وهذه الحكايةُ لا تمنع أن يكون غيرُه سمع خلافَ ما رواه، ويكونَ ما سمعه لغة لبعض العرب. وذلك أنّ سيبويه سمع ذلك وحكاه. ويدل على ذلك قولُه (¬2): وسألتُ الخليل عن قولهم: "اضرب أيّهم أفضلُ"، يعني العربَ، وقال: القياسُ هو النصب. وتأوُّلُ الرفع على الحكاية، وأنشد أبو عمرو [من المتقارب]: 492 - إذا ما أتَيْتَ بَنِي مالك ... فَسَلمْ على أيهُمْ أفْضَلُ ¬
وهذا نَصٌّ في محل النزاع، ولـ "أيِّ" و"ما" و"مَنْ" أقسامْ تُذكر فيما بعدُ إن شاء الله. وأما "ذُو" فإنّ طَيِّئا تقول: "هذَا ذُو قال ذاك"، يريدون: الذِي قال ذاك. وهي "ذُو" التي بمعنَى "صاحِب"، نقلوها إلى معنَى "الذِي"، ووصلوها بالجملة من الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر التي توصَل بها "الذي"، وبنوها لاحتياجها إلى ما بعدها كما كانت "الذي" مبنية، فقالوا: "هذا زيدٌ ذُو قام"، و"رأيت زيدًا ذو قام"، و"مررت بزيدِ ذو قام أبوه"، فيكون في حال الرفع والنصب والجرّ بالواو. وهذه الواوُ عينُ الكلمة، وليست علامةَ الرفع. وتقول "مررت بالمرأة ذو قامت، وبالرجلَيْن ذو قاما، وبالرجال ذو قاموا"، فيستوي فيه التثنيةُ والجمع والمؤنث. قال الشاعر [من الوافر]: 493 - فإن الماءَ ماءُ أبِي وجَدي ... وبِئْرِي ذُوحَفَرْتُ وذُو طَوَيْتُ ¬
وصف البئر بـ "ذُو" وهي مؤنثة، ومن أبياتِ الحَماسة لمَنْظُور بن سحُيَمْ [من الطويل]: 494 - فإمَّا كِرامٌ مُوسِرُون أتَيْتُهُمْ ... فحَسْبِيَ من ذُو عِنْدَهُمْ ماكَفانِيَا أي: مِن الذي عندهم، ووَصَلَه بالظرف كما تَصِل "الذِي" به في قولك: "جاءني الذي عندهم"، فأمَّا قوله [من الطويل]: لَئِنْ لم تُغَيرْ بعضَ ما قد صَنَعْتُمُ ... لأنْتَحِيَنْ للعَظْمِ ذُو أنا عَارِقُهْ (¬1) ¬
وقبلَه: حَلَفْتُ بِهَدي مُشْعَر بَكَراتُهُ ... تَخُبُّ بصَحراءِ الغَبِيطِ دَرادِقُهْ فالبيت لعَارِق الطائي، وعارقٌ لقبٌ غلب عليه، لُقِّب بذلك لقوله في آخِرِ البيت: "ذُو أنا عارِقُهْ". واسمُه قَيْس بن جِرْوَةَ بن سَيْف بن مالِك بن عمرو بن أبان. ويُروى: "لَئن لم يُغيرْ"، ويروى: "لأنْتَحِيَن العَظْمَ". والشاهد فيه جعلُ "ذُو" بمعنَى "الذِي" ووصلُها بالمبتدأ والخبر. وقولُه: "لَئِنْ" فيما بين القَسَم والمُقسَم عليه تَوْطئةٌ للقسم، وجوابُ القسم "لأنتحين للعظم". يقول: آلَيْتُ إن لم تُغير بعضَ صَنِيعك، لأقصِدن في مُقابَلته كَسرَ العَظم الذي صرتُ أعْرُقُه، أي: أنتزعُ اللحمَ منه. جعل شَكْواه كالعَرْق، وجعل ما بعده إن لم يُغير مُعامَلتَه تأثيرًا في العَظم نفسِه. وهذا وَعِيدٌ. وذهب بعضهم إلى أنك تقول في المؤنث: "ذاتُ قالت ذاك"، وفي التثنية، والجمع، ويكون مضمومًا في كل حال. وحُكي أنّه يجوز أن تقول في جماعةِ المؤنث: "ذَواتُ قلن"، وفي ذلك دلالةُ أنه منقول من "ذِي" التي بمعنَى "صاحب". والفرق بين "ذُو" التي بمعنَى "الذِي" على لغةِ طيِّئ وبين "ذُو" التي بمعنَى صاحب من وجوه: منها أن "ذُو" في لغةِ طيىء توصَل بالفعل، ولا يجوز ذلك في "ذُو" التي بمعنى "صاحب". ومنها أن "ذُو" في مذهبِ طيىء لا يوصَف بها إلَّا المعرفةُ، والتي بمعنَى "صاحب" يوصف بها المعرفة والنكرة. إن أضفتَها إلى نكرة، وصفت بها النكرة، وإن أضفتها إلى معرفة، صارت معرفة، ووصفت بها المعرفة، وليست "ذُو" التي بمعنَى "الذِي" كذلك؛ لأنها مُعرَّفةٌ بالصلة على حد تعريفِ "مَن"، و"مَا". ومنها أن التي في لغةِ طيىء لا يجوز فيها "ذَا" ولا "ذِي"، ولا تكون إلَّا بالواو، تقول: "مررت بالرجل ذُو قال"، أي: "الذي قال"، و"رأيت الرجلَ ذُو قال"، وليس كذلك التي بمعنَى "صاحب"، فاعرفه. فأمّا "ذَا" من قولك: "مَاذَا صنعتَ" فهي على وجهَينَ: أحدُهما: أن تكون "مَا" استفهامًا، وهي اسم تام مرفوعُ الموضع بالابتداء، و"ذَا" خبرُه، وهي بمعنَى "الذي"، وما بعده من الفعل والفاعل صلتُه، والعائدُ محذوف، والتقديرُ: صنعتَهُ. والوجه الثاني: أن تجعل "مَا"، و"ذَا" جميعًا بمنزلةِ "مَا" وحدَها، وتكون قد ركّبت من كلمتَين كلمة واحدةَ، نحوَ: "إنمَا"، و"حَيْثُمَا" ونحوِهما من المركبة، وتكون "مَا" مع "ذَا" في موضعِ نصب بـ "صَنَعْتَ"، ويكون جوابُ الأول مرفوعًا، وجواب الثاني منصوبًا؛ لأن الجواب بدلٌ من السؤال. قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} (¬1)، قرئ ¬
برفعِ "العفو" ونصبِه (¬1)، فالرفعُ على أن يكون "ذَا" بمعنَى "الذي"، والمعنى: مَا الذي ينفقونه. قال الشاعر [من الطويل]: 495 - ألَا تَسْألانِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ ... أنَحْب فيُقضَى أمْ ضَلالٌ وباطِلُ؟! والنصب على تركيبِ "مَا"، و"ذَا"، وجعلِهما معا كلمةَ واحدةَ في موضع منصوب بالفعل بعدهما، قال الله تعالى: {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا} (¬2). فإن قيل: فهلَّا كانت "ذَا" في قولك "مَاذَا صنعتَ؟ " زائدة مُلغاةَ. قيل عنه جوابان: أحدهما: أنه لو كانت "ذَا" زائدة، لقلتَ في الجواب: "عَم ذَا تسألُ؟ " بحذفِ ألفِ "مَا"، كما تقول "عَمِّ تسألُ؟ " لأن "مَا" إذا كانت استفهامًا، ودخل عليها حرفُ الجرّ، حُذفت ألُفها، نحوَ قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} (¬3) و {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (¬4)، فلمّا ثبتت ¬
فصل [صلة الموصول والعائد]
الألف، وقلتَ: "عَمّا ذَا تسأل؟ "؛ دل على أنهما رُكّبا تركيبَ "إنَّمَا"، وصارت الألفُ حَشْوًا. والثاني: لو كانت مُلغاة، لكان التقديرُ في "مَاذَا تصنعُ؟ ": ما تصنعُ؟ وتكون في موضعِ نصب. فلمّا قال [من الطويل]: أنَحب فيُقْضَى أم ضلالٌ وباطلُ فأبدل المرفوعَ من "مَا" دل أنّها مرفوعة بالابتداء، والخبرُ "ذَا"، والفعلُ صلة على ما ذُكر. فصل [صلة الموصول والعائد] قال صاحب الكتاب: والموصول ما لا بُدّ له في تمامه إسماً من جملة تردفه من الجمل التي تقع صفات، ومن ضمير فيها يرجع إليه. وتسمى هذه الجملة صلة، ويسميها سيبويه الحشو (¬1). وذلك قولك "الذي أبوه منطلق زيد"، و"جاءني من عهده عمرو". واسم الفاعل في "الضارب" في معنى الفعل, وهو مع المرفوع به جملة واقعة صلة للام, ويرجع الذكر منه إليه, كما يرجع إلى "الذي". * * * قال الشارح: الموصول ما لا يتِم حتى تَصِلَه بكلام بعده تامِّ، فيصير مع ذلك الكلام اسمًا تامًا بإزاء مسمَّى، فإذا قلت: "جاءني الرجلُ الذي قام"، فـ "الذِي" وما بعده في موضعِ صفةِ "الرجل" بمعنَى: القائم. وإذا قلت: "جاءني مَن قام"، فـ "مَنْ" وما بعدها في موضعِ اسم معروفِ غيرِ صفة، فمنزلةُ "الذِي"، ونحوه من الموصولات وحدَه منزلةُ حرف من الكلمة، من حيث كان لا يفهَم معناه إلَّا بضم ما بعده إليه، فصار لذلك من مُقدماته، ولذلك كان الموصول مبنيًّا، فالموصول وحدَه اسم ناقص، أي: ناقصُ الدلالة، فإذا جئتَ بالصلة، قيل: مَوْصُول حينئذٍ. وقوله: "لا بد له في تمامه اسمًا من جملةٍ تردفه"، أي: تتبعه، وكلُّ شيء يتبع شيئًا فقد رَدِفَه. وقوله "من الجمل التي تقع صفات"، يريد من الجمل التي تُوضِح وتُبين، وهي الجملُ المتمكنة في باب الخبر، وصلح فيها أن يقال فيه: صِدْقٌ، أو كِذْبٌ، وجاز أن تقع صفةَ للنكرة. فأمّا الاستفهامُ فلا يجوز أن يُوصَل به "الذِي" وأخواتُها لا يجوز "جاءني الذي أَزَيْدٌ أبوه قائمٌ"، وكذلك الأمرُ والنهيُ، لِما ذكرناه من أنها لا تقع صفة للنكرة، إذ كانت لا تحتمِل الصدقَ والكذبَ. ¬
وجملةُ الأمر أن الصلة بأربعةِ أشياء: الفعلِ والفاعل، والمبتدأ والخبر، والشرطِ وجوابه، والظرفِ. ولا بد في كل جملة من هذه الجمل من عائد يعود منها إلى الموصول، وهو ضميرُ ذلك الموصول ليربِط الجملةَ بالموصول، ويُؤذِنَ بتعلُّقها بالموصول، إذ كانت الجملة عبارة عن كل كلام تام قائم بنفسه. فإذا أتيتَ فيها بما يتوقف فهمُه على ما قبله، آذَنَ بتعلُّقها به. فمِثالُ وَصْلك بالفعل قولُك: "جاءني الذي قام"، فـ "الذِي" الموصولُ، و"قَامَ" الصلةُ، والعائد الفاعل، وهو ضميرُ الموصول، واستتر في الفعل؛ لأنه له. ولو كان لغيره، لم يستتر، نحوَ "الذي قام غلامُه زيدٌ". وسواءٌ في الفعل الفعلُ اللازم والمتعدي، والحقيقي وغيرُ الحقيقي، نحو"كَانَ"، و"لَيْسَ"، فمثالُ اللازم ما تقدم من قولنا: "جاءني الذي قام، والذي قام غلامُه"، ومثالُ المتعدي "جاءني الذي ضرب زيدًا، والذي أعطَى عمرًا درهمًا، والذي ظَن زيدًا قائمًا، والذي أَعْلَمَ عمرًا زيدًا خيرَ الناس". فَـ "الذِي" هو الموصول، و"ضَرَبَ زيدًا" هو الصلة، والعائدُ الفاعل المستتر في "ضرب". وكذلك الباقي، الصلةُ الفعل وما يتبعُه من الفاعل والمفعولين. ومثالُ وَصْلك بالفعل غير الحقيقي قولُك: "جاءني الذي كان قائمًا، والذي ليس قائمًا"، فـ "كَانَ" واسمها وخبرها الصلةُ، والعائدُ الاسم المستتر، ولا فرقَ في ذلك بين أن تكون الجملة إيجابًا، أو سَلبًا. فمثالُ الإيجاب: "الذي قام زيدٌ"، ومثال السلب: "الذي ما قام زيدٌ". وتقول في الموصول بالمبتدأ والخبر: "جاءني الذي أبوه قائمٌ"، فـ "الذي" اسمٌ موصولٌ، و"أبوه قائمَ لما الصلةُ، والعائدُ الهاء في "أبوه". ومثلُه: "جاءني الذي هو قائم"، فقولُك: "هو قائمٌ" صلة، و"هُوَ" العائدُ إلى الموصول، ومثالُ وَصْلك بالشرط والجزاء قولك: "جاءني الذي إنْ تَأْتِه يَأتِك عمرو"، فقولك: "إن تأته يأتك عمرو" صلة، والعائدُ الهاء في "تأته". واعلمْ أن كل واحد من الشرط والجزاء جملة فعلية تامة، فلمّا دخل عليهما حرفُ الشرط ربطهما وجعلهما كجملة واحدة في افتقار كل واحدة من الجملتَيْن إلى الأخرى، كافتقار المبتدأ إلى الخبر، فالجملةُ الأولى التي هي شرط بمنزلة المبتدأ، والجملةُ الثانية التي هي جزاءٌ كالخبر. وإذا كان كذلك، فأنتَ بالخيار في إلحاقِ العائد: إن شئت أتيت به في الجملة الأولى، نحوَ ما تقدم من قولك: "جاءني الذي إن تأته يأتك عمرٌو". فالعائدُ الهاء في "تَأتِهِ". وإن شئت أتيت به في الجملة الثانية، نحوَ قولك: "جاءني الذي إِن تُكرِمْ زيدًا يَشْكُرْك"، فالعائدُ المضمر في "يشكرك". فإن جئت بالضمير فيهما، فأحسنُ شيء، نحوَ قولك: "جاءني الذي إن تَزُرْه يُحْسِنْ إليك"، فالعائدُ الأول الهاء المنصوبة في "تزره"، والآخَرُ الضمير المرفوع في "يحسن إليك"، كما يكون في المبتدأ والخبر إذا كانا صلة كذلك، إن شئت أتيت بالعائد مع المبتدأ وحدَه، نحوَ: "جاءني الذي أبوه قائم"،
وإن شئت أتيت به مع الخبر وحدَه، نحوَ: "الذي أخوك غلامُه زيد"، وإن شئت أتيت به معهما، نحوَ: "الذي أبوه أخوه زيد"، و"الذي عَمُّه خالُه عمرٌو". وأما الصلة إذا كانت ظرفًا، أو جارًا ومجرورًا؛ فنحو: "الذي عندك زيدٌ"، و"الذي في الدار خالد". واعلم أن الظرف إذا وقع صلة، فإنه يتعلق بفعل محذوف، نحو: "استَقَرَّ" أو"حَل" ونحوِه، ولا يتعلق باسمِ فاعل؛ لأن الصلة لا تكون بمفرد، إنّما تكون بجملة. وأكثرُ النحويين يسمي هذه الجملة صِلَة، وسيبويه يسمّيها حَشوًا. فالصلَةُ مصدر كالوَصل من قولك: "وَصَلت الشيءَ وَصلًا وصِلَةً". والمراد أن الجملة وَصْلٌ له، فأمّا تسميةُ سيبويه لها حَشوًا، فمن معنى الزيادة، أي أنها ليست أصلاً، وإنما هي زيادةٌ يُتمم بها الاسم، ويُوضَح بها معناه. ومنه: "فُلان من حَشوِ بني فُلان"، أي: من أَتْباعهم، وليس من صَمِيمهم. وقوله: "واسم الفاعل في "الضارب" في معنى الفعل"، قد تقدم القول: إن الألف واللام بمعنى "الذي"، واسمَ الفاعل بمعنى الفعل. وذلك أنّهم أرادوا أن يصفوا بالجملة الفعلية المعرفةَ كما وصفوا بها النكرةَ، فلم يُمْكِنهم ذلك لتنافيهما في التعريف والتنكير، فجاؤوا بالألف واللام، ونَوَوهما بمعنَى "الذي" ولم يمكن إدخالُهما على لفظ الفعل، لأنهما من خصائصِ الأسماء، فحولوا لفظَ الفعل إلى لفظِ اسم الفاعل، فصار اسمًا في اللفظ، وهو فعلٌ في الحكم والتقدير، وفيه ضمير يعود إلى الألف واللام، إذ كانت في تأويلِ "الذي". والصوابُ أنّه عائدٌ إلى مدلولِ الألف واللام، وهو الموصوف باسم الفاعل، واسمُ الفاعل، مع ما فيه من الضمير المرفوع، في تقدير الجملة كسائر الصلات. قال صاحب الكتاب: وقد يحذف الراجع كما ذكرنا, وسمع الخليل عربياً يقول: "ما أنا بالذي قائل لك شيئاً" (¬1) , وقريء: {تماماً على الذي أحسن} (¬2) , بحذف شطر الجملة. وقد جاءت "التي" في قولهم "بعد اللتيا والتي" (¬3) محذوفة الصلة بأسرها, ¬
والمعنى بعد الخطة التي من فظاعة شأنها كيت وكيت. وإنما حذفوا ليوهموا أنها بلغت من الشدة مبلغاً تقاصرت العبارة عن كنهه. * * * قال الشارح: اعلم أنهم قد حذفوا الرَّواجع من الصلة، وكثُر ذلك عندهم، حتى صار قياسًا. وليس حذفُها دون إثباتها في الحُسْن، وقد جاء الأمران في كتاب الله تعالى، نحو قوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬1) والمراد: بَعَثَهُ، وقال في موضع آخر: {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (¬2)، فأتى بالعائد، وهو الهاء. وإنما حذفوا العائد من الصلة؛ لأن "الذِي"، وما بعده من الفعل والفاعل والمفعول جميعًا كاسم واحد، وكذلك كل موصول يكون هو وصِلَتُه كاسم واحد، فكأنهم استطالوا الاسمَ، وأن يكون أربعةُ أشياء كشيء واحد، فكرهوا طُولَه، كما كرهوا طولَ "اشْهِيبَاب"، و"احْمِيرار"، فخفّفوه بحذف الياء، وقالوا: "اشْهِباب"، و"احْمِرار". كذلك لما استطالوا الاسم بصلته، حذفوا من صلته العائدَ تخفيفًا. وإنما حذفوا الراجع دون غيره من الصلة، إذ لم يكن سبيل إلى حذف الموصول، لأنه هو الاسمُ، ولا إلى حذف الفعل، لأنه هو الصلةُ، ولا إلى حذف الفاعل, لأن الفعل لا يَستغني عنه، فحذفوا الراجع. ولا يُحذف هذا الراجع إلَّا بمجموع ثلاث شرائط: أحدُها: أن يكون ضميرًا منصوبًا، لا ضميرًا مرفوعًا, ولا مجرورًا, لأن المفعول كالفضلة في الكلام، والمستغنى عنه، وأن يكون الراجعُ متصلًا، لا منفصلًا لكثرةِ حروف المنفصل، وأن يكون على حذفه دليلٌ، وذلك أن يكون ضميرًا واحدًا، لا بدّ للصلة منه، فتقول: "الذي ضربتُ زيد"، فتحذف العائد الذي هو الهاء؛ لأن الكلام والصلة لا يتم إلَّا بتقديره. ولو قلت: "الذي ضربتُه في داره زيد"، لم يجز حذفُ الهاء؛ لأن الصلة تتم بدونه، فلا يكون في اللفظ ما يدل عليه. وقد حذفوا العائد على الموصول، إذا كان مبتدأ، نحوَ قولك: "جاءني الذي ضاربٌ زيدًا"، والمراد: الذي هو ضارب، وحكى صاحبُ الكتاب عن الخليل: "مَا أنا ¬
بالذي قائلٌ لك شيئًا"، أي: الذي هو قائلٌ، ومن ذلك قراءةُ بعضهم {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (¬1) برفعِ "بعوضة" كأنه جعل "مَا" موصولة بمعنَى "الذي"، والمرادُ أن الله لا يَستحيي أن يَضرِبَ مَثَلًا الذي هو بعوضة، ومثلُه قراءةُ بعضهم: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} (¬2) أي الذي هو أحسنُ، ومثله قوله [من المنسرح]: 496 - لَمْ أَرَ مِثْلَ الفِتْيَانِ في غِيَرِ ... الأَيامِ يَنْسَوْنَ ما عَواقِبُها أي: ينسون الذي هو عواقبُها. وحذفُ الضمير من هذا ضعيف جدًّا؛ لأن العائد هنا شَطْرُ الجملة، وليس فضلةَ كالهاء في قولك: "الذي كلمتُه". والذي سَهلَه قليلاً العِلمُ بموضعه إذ كانت الصلة لا تكون بالمفرد. وقد جاءت الصلة محذوفة بالكلية، وذلك شاذ في الاستعمال والقياس. أمّا قِلتُه في الاستعمال، فظاهر، وأمّا في القياس؛ فلأن الصلة هي الصفة في المعنى. وإنّما جيء بـ "الذي" وُصلة إلى ذلك، فلا يسوغ حذفها؛ لأن فيه تفويتَ المقصود، كما لا يجوز حذفُ الصفة من المُبهَم في قولك: "يَا أَيُّها الرجلُ"؛ لأنه هو المقصود بالنداء، و"أَيٌّ" وُصلة إلى ذلك. فمن ذلك قولُهم في المَثَل: "بَعْدَ اللتَيَّا والتِي" (¬3)، بحذفِ الصلة من كل واحد ¬
فصل [تخفيف الموصول]
منهما؛ لأن الغرض أن هذه الخُطة لعِظَمها وفخامةِ أمرها موصوفة بصغيرِ المكروه وعظيمِه. وقيل: (اللتَيا)، و"التِي" من أسماء الداهية كأنها سُميت بالموصول دون الصلة. وأما قول الشاعر، أنشده أبو عثمان [من الرجز]: 497 - حَتى إِذَا كانا هُما اللذَيْنِ ... مِثْلَ الجَدِيلَيْنِ المُحَمْلَجَيْنِ فإنه شبه الذِي بـ "مَنْ" و"مَا"، فحذف صلتَها ووصفها كما يُفعل بـ "مَن" و"مَا". فأمَا على أصل الكوفيين، فإنّهم يجعلون "الذي" هنا موصولة على بابها، ويصلونها بـ "مِثْل"؛ لأنهم يجرونها مُجرى الظرف. فصل [تخفيف الموصول] قال صاحب الكتاب: و"الذي" وضع وصلة إلى وصف المعارف بالجمل, وحق الجملة التي يوصل بها أن تكون معلومة للمخاطب, كقولك: "هذا الذي قدم من الحضرة", لمن بلغه ذلك. * * * قال الشارح: قد تقدم القول: إن "الذِي" إنما أُتي بها توصُّلاَ إلى وصف المعارف بالجُمَل حين احتاجوا إلى وصفها بالجمل كما كانت النكراتُ كذلك. وينبغي أن تكون الجملة التي تقع صلة معلومة عند المخاطب؛ لأن الغرض بها تعريفُ المذكور بما يعلمُه المخاطب من حاله، ليصح الإخبارُ عنه بعد ذلك، والصلةُ تُخالِف الخبرَ؛ لأنِّ الخبر ينبغي أن يكون مجهولًا عند المخاطب, لأن الغرض من الخبر إفادةُ المخاطب شيئًا من أحوالِ مَن يعرفه. فلو كان ذلك معلومًا عنده، لم يكن مُفيدًا له شيئًا، فلذلك لا تقول: "جاءني الذي قام"، إلَّا لمن عرف قيامَه، وجهل مجيئَه؛ لأن "جاءَ" خبرٌ، و "قَام" صلة. ¬
وكذلك لا تقول: "أَقْبَلَ الذي أبوه منطلق"، إلاّ لِمن عرف انطلاقَ أبيه، وجهل إقبالَه، فاعرف ذلك. قال صاحب الكتاب: ولا ستطالتهم إياه بصلته مع كثرة الإستعمال خففوه من غير وجه, فقالوا: ""اللذ" بحذف الياء, ثم "اللذ" بحذف الحركة، ثم حذفوه رأساً, واجتزؤا عنه بالحرف الملتبس به, وهو لام التعريف. وقد فعلوا مثل ذلك بمؤنثه, فقالوا "اللّتِ" و"اللَّتْ" و"الضاربته هندٌ" بمعني "التي ضربته هندٌ". وقد حذفوا النون من مثناه ومجموعه, قال الفرزدق (¬1) [من الكامل]: 498 - أبني كليب إن عمي اللذا ... قتلا الملوك وفككا الأغلالا وقال [من الطويل]: 499 - وإن الذي حانت بفلج دماؤهم ... [هم القوم كل القوم يا أم خالد] ¬
وقال تعالى: {وخضتم كالذي خاضوا} (¬1). * * * قال الشارح: قد تقدم أنهم استطالوا الاسم الموصول بصلته، ولاستطالتهم إياه تجزؤوا على تخفيفه من غيرِ جهة واحدة، فتارةً حذفوا الياء منها، واجتزؤوا بالكسرة منها، وقالوا: "اللَّذِ". وتارة يحذفون الياء والكسرة معًا؛ لأنه أبلغُ في التخفيف، فإذا غالَوْا في التخفيف، حذفوا "الذي" نفسَها، واقتصروا على الألف واللام التي في أولها، وأقاموها مقامَ "الذي"، ونووا ذلك فيها, ولم يمكن إدخالُها على نفس الجملة، لأنها من خصائصِ الأسماء، فحولوا لفظ الفعل إلى لفظ اسم الفاعل، وأدخلوا عليه اللامَ، وهم يريدون "الذي"، وقد تقدم ذلك. وقد فعلوا في المؤنْث مثلَ ذلك، فقالوا: "اللَّتِ"، بكسر التاء، وَ"اللَّتْ" بسكونها، كما كان في المذكّر كذلك، وقالوا:"الضاربتُه هندٌ"، والمراد "التي ضربتْه"، فحذفوا "التي"، واجتزؤوا بالألف واللام، وحَولوا لفظ الفعل إلى اسم الفاعل مبالغة في التخفيف. وقد حذفوا النون أيضًا تخفيفًا من مثناه ومجموعه، فقالوا: "جاءني اللَّذَا قاما، ¬
فصل [الإخبار بـ "الذي"]
والَّذِي قاموا"، والمراد: "اللَّذان، والّذِينَ"، فحذفوا النون تخفيفًا لطُولِ الاسم بالصلة، فأمّا قول الفَرَزْدَق [من الكامل]: أبنِي كليب إن عَمّي اللذا ... إلخ فإن الشاهد فيه حذفُ النون من "اللَّذان" وقوله: "اللَّذَا" يفخَر على جَرِير، وهو من بني كُلَيب بن يَربوع، بمن اشتهر من بني تَغلِبَ كعمرو بن كُلثوم قاتلِ عمرو بن هِند الملك، وعصِم (¬1) بن الْنُعمان بن مالك بن عَتاب أبي حَنَش بن حنش قاتلِ شُرَحْبِيل بن عمرو بن حُجْر يومَ الكُلاب الأول، وغيرِهما من ساداتِ تغلب. وقيل أراد بعَمَّيه هُذَيلَ بن هُبَيْرَة التغلبي الشاعر، والهذيلَ بن عِمرانَ الأصفَر الذي كان أخًا لأُمه. وأمّا قول الآخر [من الطويل]: وإن الذي حانت بِفَلج دَماؤُهم ... هُمُ القَومُ كُل القومِ يا أُمّ خالِدِ فإن البيت للأشهَب بن رُمَيلَة، ويروى: زُمَيلَة بالزاي. والشاهدُ فيه حذف النون من "الّذين" استخفافًا على ما تقدم، والذي يدل أنه أراد الجمعَ قولُه:"دماؤهم"، فعَودُ الضمير من الصلة بلفظ الجمع، يدل أنه أراد الجمع. ومثلُه قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا} (¬2) والمراد: "الذين"، لقوله: "خاضوا". ويجوز أن يكون "الذي" واحدًا، وُيؤدي عن الجمع. فإن عاد الضمير بلفظ الواحد، فنَظَرًا إلى اللفظ، وإن عاد بلفظ الجمع، فبالحمل على المعنى على حدِّ "مَن". ومثلُه قوله تعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (¬3). وقال سبحانه: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} (¬4)، فعاد الضمير مرّةَ بلفظ الواحد، ومرّة بلفظ الجمع حَملاَ على المعنى. وهو يرثي قومًا قُتلوا بفلْج، وهو موضع معروف بين البصرة وضَرِيَّة، وهو مذكر مصروف. فصل [الإخبار بـ "الذي"] قال صاحب الكتاب: ومجال "الذي" في باب الإخبار أوسع من مجال اللام التي بمعناه حيث دخل في الجملتين الاسمية والفعلية جميعاً، ولم يكن للام مدخل إلا في الفعلية، وذلك قولك إذا أخبرت عن زيد في "قام زيدٌ" و"زيدٌ منطلقٌ": "الذي قام زيدٌ"، و"الذي هو منطلق زيد"، و"القائم زيدٌ", ولا تقول: "الهو منطلق زيد", والإخبار عن كل اسم في جملة سائغٌ إلا إذا منع مانع. * * * قال الشارح: الإخبار ضرب من الابتداء والخبرِ تُصدّر فيه بـ "الذِي" أو بالألف ¬
واللام بمعناها، وقد ذكرنا أن "الذِي" إذا تَم بصلته، كان اسمًا مفردًا كـ"زيد" و"عمرو" لا يُفيد إلّا بضمِّ جزء آخرَ إليه. فإذا قيل لك: أَخْبِر عن اسم من الأسماء، فالمرادُ أَلْحِقِ الكلامَ "الذِي" أو الألفَ واللام، واجعلهما في موضعِ مبتدأ، وانزع ذلك الاسمَ من مكانه الذي كان فيه، وضَعْ موضعَه ضميرًا يقوم مقامَه، يكون راجعًا إلى "الذي"، أو إلى الألف واللام، واجعلْ ذلك الاسمَ خبرًا. مثالُ ذلك إذا قيل لك: أَخْبِرْ عن زيد من قولك: "قام زيدٌ" بـ "الذِي"، قلتَ: "الذي قام زيد"، فيكون "الذِي" مبتدأ، و"قَامَ" صلتَه، وفيه ضمير قام مقامَ "زيد" في كونه الفاعلَ، وهو ضمير راجع إلى "الذِي"، وبه تَم الكلامُ، وهو في المعنى زيدٌ؛ لأنه ضميرُ "الذِي"، و"الذِي" هو زيدٌ. ولذلك كان خبرًا عنه؛ لأن الخبر إذا كان مفردًا هو المبتدأُ في المعنى، فإن أخبرتَ عنه بالألف واللام، قلت: "القائمُ زيدٌ"، فالألفُ واللام قائم مقامَ "الذِي"، واسمُ الفاعل الذي هو"قائمٌ" عوضٌ عن "قَامَ". وفي اسم الفاعل ضمير عائدٌ إلى الألف واللام، والألفُ واللام هما "زيدٌ"، غيرَ أنك أعربتَ الألف واللام بتمامه بإعرابِ "الَّذِي" وحدَها. فإن أخبرتَ عن "زيد" من قولك: "زيد منطلق"، قلت: "الذي هو منطلق زيد"، جعلتَ بدلَ "زيد" ضميرَه، وهو مبتدأ كما كان "زيدٌ" مبتدأ، و"منطلق" الخبرُ، و"هُوَ منطلق" صلةُ "الذِي"، "وهُوَ" راجع إلى "الذِي"، و"زيد" خبرُ "الذِي"؛ لأن " زيدًا" هو "الذِي" في المعنى. فلو أخذتَ تُخبِر عنه بالألف واللام، لم يصح؛ لأنك تحتاج أن تنقُله إلى اسم الفاعل، واسمُ الفاعل إنما يكون من الفعل، لا من الاسم. ولذلك قال: "إن مجالَ "الذِي" في باب الإخبار أوسعُ من مجال الألف واللام"؛ لأن "الذِي" يكون مع الجملتين الاسمية والفعلية، والألفُ واللام لا تكون إلَّا مع جملة فعلية، فكل ما يُخْبَر عنه بالألف واللام يصح أن يخبَر عنه بـ "الَّذِي"، وليس كلُّ ما يخبر عنه بـ "الَّذي" يجوز أن يخبر عنه بالألف واللام، فكان الإخبارُ بـ "الّذي" أعمَّ. وقوله: "والإخبار عن كل اسم في جمله سائغ"، يريد الجملةَ الخبرية التي يحسن في جوابها صِدْقٌ وكذب لأن هذه الجمل تقع صلاتٍ وصفاتٍ، كما تقع أخبارًا، والأسماة بحُكْم أنها أسماءٌ سِماتٌ على مسمَّياتِ يجوز الإخبارُ عنها بأحوالها، إلَّا إذا منع مانع، وسنذكُرَ الموانعَ فيما بعدُ. * * * قال صاحب الكتاب: وطريقة الإخبار أن تصدر الجملة بالموصول, وتزحلف الإسم إلى عجزها واضعاً مكانه ضميراً عائداً إلى الموصول. بيانه أنك تقول في الإخبار عن زيد في "زيد منطلق": "الذي هو منطلق زيد", وعن "منطلق": "الذي زيد هومنطلق", وعن
"خالد" في "قام غلام خالد": "الذي قام غلامه خالد", أو "القائم غلامه خالد", وعن اسمك في "ضربت زيداً": "الذي ضرب زيداً أنا", أو "الضارب زيداً أنا". وعن "الذباب" في "يطير الذباب فيغضب زيد": "الذي يطير فيغضب زيد الذباب" أو "الطائر فيغضب زيد الذباب", وعن زيد "الذي يطير الذباب فيغضب زيد", أو "الطائر فيغضب زيد". * * * قال الشارح: قد ذكرنا أن طريقةَ الإخبار أن تُصدِّر الجملة بالموصول الذي هو "الذي"، و"التي"، أو الألفُ واللام بمعناهما، وتنزع الاسم الذي تريد الإخبارَ عنه من الجملة، وتضع موضعَه ضميرًا يعود إلى الموصول يكونه في المعنى، ثمّ تأتي بذلك الاسم الذي تُخبِر عنه آخِرًا، تجعله خبرًا عن الموصول. وإنّما قال النحويون: "أُخبِرَ عنه"، وهو في اللفظ خبرٌ؛ لأنه في المعنى مُحَدَّثٌ عنه، إذ قد يكون خبرٌ، ولا يُخبَر عنه، نحو الفعل، فأرادوا التنبيه على أنه خبر ومحدَّث عنه في المعنى. فإذا أخبرتَ عن "زيد" من قولك: "زيدٌ منطلقٌ"، فإنّك تقول: "الذي هو منطلقٌ زيدٌ". نزعتَ "زيدًا" من الجملة، وجعلتَ بدلَه ضميرَه، وهو مبتدأ كما كان "زيد" مبتدأ، و"منطلق" خبرُه على ما كان، والجملةُ من المبتدأ والخبر صلةُ "الذِي"، وهُوَ راجع إلى "الذي"، وَ "الَّذي" هو "زيدٌ"، ولذلك كان خبرًا عنه؛ لأن الخبر إذا كان مفردًا يكون هو المخبرَ عنه في المعنى. فإن أخبرتَ عن "منطلق" من قولك: "زيد منطلق"، قلت: "الذي زيد هو منطلق"، فتجعل الضمير موضعَ "منطلق" خبرًا عن "زيد"، كما كان "زيد" كذلك. وجعلتَ الجملة صلةَ "الذي"، ثمّ أتيتَ بـ "منطلق"، وجعلتَه خبرًا عن الموصول الذي هو "زيدٌ"، ولا يصح الإخبارُ بالألف واللام هنا؛ لأن الألف واللام لا مَدْخَلَ لها في المبتدأ والخبر على ما بينّا. فإن أخبرت عن خالد في قولك: "قام غلامُ خالد"، قلت: "الذي قام غلامُه خالدٌ"، جعلتَ الهاء موضعَ "خالد"، وهي مضاف إليها الغلامُ، كما كان "خالد" كذلك، وجعلت "خالدًا" خبرًا عن الموصول الذي هو الهاءُ في المعنى. فإن أخبرت بالألف واللام، قلت: "القائم غلامُه خالد"، فـ "القائم" مبتدأ، و"غلامُه" مرتفع ارتفاعَ الفاعل، كأنك قلت: "الذي قام غلامُه"؛ لأن الألف واللام في معنَى "الذِي"، واسمُ الفاعل في معنى الفعل، وجعلتَ "خالدًا" الخبرَ، كما كان في "الذِي" كذلك. وجملةُ الأمران الإضافة تنقسم قسمَين: أحدُهما: أن يدل المضاف إليه على شخصٍ بعينه، والآخَرُ أن لا يدلّ على شخص
بعينه. فأمّا ما دل على شخص مفرد، فنحو: "غلامُ زيد"، و"صاحبُ عمرو"، وأمّا ما لا يدل على شخص مفرد، فنحو: "سام أَبْرَصَ"، و"أبي الحُصَيْن". فأمَّا الثاني: وهو ما لا يدل على شخص مفرد، فلا يجوز الإخبارُ عنه؛ لأنه لا يتخصص بالإضافة، وأما الأوّل -وهو ما يدل على شخص مفرد- فإنه يجوز الإخبارُ عن المضاف مفردًا، وعن المضاف إليه مفردا, ولا يجوز الإخبارُ عنهما معًا؛ لأنّ المضمر لا يدل على أكثرَ من واحد. ولو قيل لك: أَخْبِرْ عن "قَامَ" من قولك: "قام غلامُ خالد"، قلت: هذا لا يجوز؛ لأن الفعل لا يُضمَر، وقد بينّا أن معنى الإخبار أن تنزع الاسمَ المخبرَ عنه من الكلام، وتأتي موضعه بضميره، إن كان مبتدأ كان ضميرا منفصلًا، وإن كان مفعولًا أو مضافا إليه، كان المضمرُ متصلًا. فإن أخبرت عن اسمك في"ضربتُ زيدًا"، قلت في الإخبار بـ "الذي": "الذي ضرب زيدًا أَنَا"، نزعتَ ضميرَ المتكلم من الفعل، ووضعتَ مكانَه ضميرَ الغَيبة؛ لأنه راجعٌ إلى "الذي"، و"الذي" موضوعٌ للغيبة، واستتر الضميرُ في الفعل؛ لأن الفعل، إذا كان واحدًا غائبًا، لم تظهر له علامة، ثمّ جعلت ضميرَ المتكلم المنتزعَ خبرًا. فلمّا صار خبرًا، وجب أن يكون ضميرًا مرفوعًا منفصلًا للمتكلم، نحوَ: "أَنَا". وإنما كان مرفوعًا؛ لأنه خبرُ المبتدأ، وخبرُ المبتدأ لا يكون إلَّا مرفوعًا. وإنما كان منفصلًا؛ لأن خبر المبتدأ ليس عاملُه لفظًا، فيتصلَ به. وكان ضميرَ متكلم على حد ما غالب في "ضربتُ". وتقول في الإخبار بالألف واللام: "الضاربُ زيدًا أنا"، فـ "الضارب" مبتدأ، وفيه ضمير يعود إلى الألف واللام، و"أَنَا" الخبرُ. فإن أخبرت عن المفعول الذي هو زيدٌ بـ "الذي"، قلت: "الذي ضربتُه زيد". فـ "الذي" مبتدأ، و"ضربتُه" صلتُه والهاء عائدة إِليه، و"زيدٌ" خبر. ويجوز حذف الهاء، فتقول: "الذي ضربت زيدٌ". قال الله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)} (¬1). فإن أخبرت بالألف واللام، قلت: "الضارِبُه أنا زيد"، فالهاء في "الضاربه" ترجع إلى ما دل عليه الألفُ واللام، وهو"الذِي"، و"أَنَا" مرتفعٌ بـ "ضارب"، وأظهرتَ المضمر الذي هو "أَنَا"؛ لأن "ضاربًا" لك، وقد جرى على الألف واللام الذي لـ"زيدٍ"، وقد جرى على غيرِ مَنْ هو له. واسمُ الفاعل إذا جرى على غيرِ مَن هو له، برز ضميرهُ. وتقول: "يَطِير الذباب فيغضَب زيدٌ"، إن أخبرتَ عن الذباب، قلت: "الذي يطير فيغضب زيد الذبابُ"، فيكون "الذي" في موضع رفع؛ لأنه مبتدأٌ، و"يطير" صلتُه، وفيه ضمير يعود إلى "الذي"، وهو الفاعلُ، استكنّ فيه لكونه واحدًا لغائب. وضميرُ الفاعل ¬
[ما يمنع فيه الإخبار]
إذا كان بهذه الصفة، كان مستكنًا في الفعل بلا علامة لفظية. وقولُه: "فيغضب زيد" جملة معطوفة على "يطير"، والمعطوفُ والمعطوف عليه داخل في الصلة. و"الذبابُ" خبرُ المبتدأ، وقد كان قبلَ الإخبار فاعل "يطير". فلما أخبرت عنه، وضعتَ مكانَه ضميرَه، وأخّرتَه، فجعلته خبرًا. فإن أخبرت بالألف واللام، قلت: "الطائرُ فيغضب زيد الذبابُ"، فيكون "الطائر" مبتدأ، وفيه ذكر يعود إلى مدلولِ الألف واللام، وهو مرتفعٌ به. وقولُه: "فيغضب زيد" معطوفٌ عليه, لأنه، وإن كان مفردًا، فهو في تأويل الجملة؛ لأن "الطائر" بمعنَى "الذي يطير"، فكأنّك عطفت جملة على جملة في الحكم. ومثلُه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (¬1)، على معنى: إن الذين تَصدّقوا وأقرضوا، و"الذباب" الخبرُ، فهو الآنَ مرفوع, لأنه خبرُ المبتدأ، وقبلُ كان مرفوعًا بأنه فاعل. فإن أخبرت عن "زيد"، قلت: "الذي يطير الذبابُ، فيغضب زيد"، فـ "الذي" مبتدأ، و"يطير الذبابُ" صلةٌ. وقولُه: "فيغضب" معطوفٌ عليه، وفيه ذكر يعود إلى المبتدأ والموصولِ، وهو "الذي"، و"زيد" الخبرُ. والفاءُ ربطت الجملتَين، وجعلتهما كالجملة الواحدة؛ لأنها أحدثت فيهما معنَى الجزاء، وصار بمعنَى "إن طار الذبابُ يغضب زيد". ولما كان الشرطُ والجزاء كالجملة الواحدة، فاقتضى كل واحدة من الجملتين الأخرى، كفى عودُ الضمير إلى الموصول من إحداهما إذا كانتا صلة، نحوَ قولك: "الذي أبوه قائمٌ زيدٌ". ولو كان مكانَ الفاء الواوُ، لم يصح الإخبارُ عن "الذباب"، ولا عن "زيد"؛ لأن الواو لا تُحْدِث في الكلام معنى الجزاء، فتبقى إحدى الجملتَيْن أجنبية من الموصول لخُلُوها من العائد. وتقول في الإخبار بالألف واللام: "الطائرُ الذبابُ فيغضب زيد"، فـ "الطائرُ" مبتدأ، و"الذبابُ" رفعٌ به، وليس فيه ذكر؛ لأنه قد رفع ظاهرًا. و"يغضب" معطوفٌ عليه، وفيه ذكر يعود إلى الموصول، وبه تمت الصلةُ. و"زيد" خبرُ المبتدأ. * * * [ما يمنع فيه الإخبار] قال صاحب الكتاب: ومما امتنع فيه الإخبارُ ضميرُ الشأن؛ لاستحقاقِه أوَّلَ الكلام، والضميرُ في "منطلق" في "زيد منطلقٌ"، والهاءُ في "زيد ضربتُه" و"مِنهُ" في "السمْنُ مَنَوانِ (¬2) منه بدرهمِ"؛ لأنها إذا عادت إلى الموصول، بَقِيَ المبتدأُ بلا عائد، والمصدرُ والحالُ في نحوِ "ضرْبِي زيدًا قائمًا"؛ لأنك لو قلت: "الذي هو زيدًا قائمًا ضربي"، أعملتَ الضمير، ولو قلت: "الذي ضربي زيدًا إياه قائم"، أضمرتَ الحال، والإضمارُ إنما يسوغ فيما يسوغ تعريفُه. * * * ¬
قال الشارح: قد تقدم القول: إن كل اسم من جملةٍ تامة خبريةٍ يجوز الإخبارُ عنه، إلَّا أن يمنع منه مانعٌ. فمن المواضع التي يمتنع الإخبارُ عن الاسم فيها ضميرُ الشأن والحديثِ. لو قلت: "كان زيدٌ قائمٌ"، فأضمرتَ في "كَانَ" ضميرَ الشأن والحديث، لم يجز الإخبارُ عن ذلك الضمير. فلا يجوز: "الذي كان زيدٌ قائمٌ هو"، ولا "الكائنُ زيدٌ قائمٌ هو"؛ لأن ضمير الشأن والحديث لا يكون إلَّا أولًا غيرَ عائد على ظاهر، وإنّما تُفسره الجملةُ بعده. وأنتَ إذا أخبرتَ عنه، أخرجتَه عن هذه الصفة بأن يصير متأخّرًا يعود على ما قبله من الموصول غيرَ مفسر بجملة، وهذا غيرُ ما وُضع عليه. ومن ذلك الضميرُ في "منطلق" في قولك: "زيدٌ منطلقٌ"، لا يجوز الإخبارُ عنه. لو قلت: "الذي زيد منطلقٌ هو"، لم يجز؛ لأن الضمير في "منطلق" كان عائدًا إلى المبتدأ الذي هو "زيدٌ"، وأنتَ حينَ أخبرتَ عنه، نزعت منه ذلك الضميرَ، وجعلت فيه ضميرًا يعود إلى الموصول، وأخرت الضميرَ الذي كان مستكنًّا فيه إلى موضع الخبر، وجعلته منفصلًا، فبقي المبتدأُ الذي هو "زيد" بلا عائد إليه. فإن أعدتَ الضمير إلى "زيد"، بقي الموصولُ بلا عائد، فكانت المسألة باطلة من هذا الوجه. ومثله امتناعُ الإخبارُ عن الهاء في "زيدٌ ضربتُه"؛ لأن هذه الهاء عائدة إلى "زيد". ولو أخبرتَ عنه، لنزعتَ هذا المضمر، وجعلت مكانَه ضميرًا آخرَ يعود إلى الموصول، وأخرتَ الضمير الذي في "ضربتُه" إلى موضع الخبر، على القاعدة المذكورة، وكنت تجعله منفصلًا، لتعذُّر الإتيان بالمتصل، ولو فعلت ذلك، لأخليتَ المبتدأ الذي هو "زيد" من عائد عليه. ومثله امتناعُ الإخبار عن الهاء في "مِنْهُ" من قولك: "السمْنُ مَنَوان منه بدرهم"، لأتك لو أخبرتَ عنها, لكنت قائلًا: "الذي السمنُ منوان منه بدرهم هو"، فتجعل الهاءَ في "منه" عائدةٌ على الموصول، ويبقى المبتدأُ الذي هو "السمن" بلا عائد، وذلك ممتنع. ومن ذلك قولك: "ضَرْبِي زيدًا قائمًا". لا يجوز الإخبارُ عن المصدر ههنا, ولا عن الحال؛ لأنك إن أخبرت عن المصدر، لَزِمَك إضمارُه، وكنت تقول: "الذي هو زيدًا قائمًا ضَربي"، فكنت تنصب "زيدًا قائمًا" بـ "هُوَ"؛ لأنّها كناية عن المصدر الناصب. والمصدر إذا أُضمر لا يعمل. لو قلت: "مُرُوري بزيدِ حسنٌ، وهو بعمرو قبيحٌ", لم يجز؛ لأن المصدر إنما عمل بما فيه من حروف الفعل وتقديرِه بـ "أن" والفعلِ، وبعد الكناية تزول منه حروفُ الفعل، ويمتنع تقديرُه بـ "أَنْ" والفعلِ. وكذلك لو أخبرتَ عن الحال، فقلت: "الذي ضَرْبي زيدًا إياه قائمٌ"، لم يجز؛ لأن الحال لا يكون إلَّا نكرة، وأنتَ إذا كنيتَ عنه عرفته. وذلك لا يجوز في الحال، فلو أخبرت عن المفعول، وهو "زيدٌ"، لجاز، وكنت تقول: "الذي ضربي إياه قائمًا، أو ضربتُه قائمًا، زيدٌ"، فاعرفه.
فصل [أوجه "ما"]
فصل [أوجه "ما"] قال صاحب الكتاب: و"مَا" إذا كانت اسمًا على أربعة أوجه: موصولةٌ كما ذُكر، وموصوفة، كقوله [من الخفيف]: 500 - رُب ما تَكرَهُ النفوسُ مِنَ الأمِر ... له فَرْجَةٌ كحَل العِقالِ ونكرةٌ في معنَى شَيء من غير صلةٍ، ولا صفةٍ، كقوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} (¬1). وقولِهم في التعجب: "ما أَحْسَنَ زيدًا! "، ومضمَّنة معنَى حرفِ الاستفهام، والجزاء، كقوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} (¬2)، وقولِه: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} (¬3). * * * ¬
قال الشارح: لما ذكر الموصولات، وذكر في جملتها "مَا"، أتبعها ذِكْرَ أقسامها، وهي على أربعةِ أضرب: أحدُها: أن تكون موصولة معرفة بمنزلةِ "الذي". والآخر: أن تكون منكورة غيرَ موصولة. والثالثُ: أن تكون استفهامًا. والرابُع: أن تكون جَزاءً. فأمّا الأول منها - وهو أن تكون بمعنَى "الذي"، وتوصَل بما يوصَل به "الذي" - فقد تقدم الكلامُ عليها. وأمّا الثاني: وهو أن تكون منكورة، فهي على ضربَين: أحدُهما: أن تكون غيرَ موصوفة، والآخرُ: أن تكون موصوفة. فأمّا الموصوفةُ، فكقوله تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} (¬1). "عتيد" خبر ثانٍ، أو صفة ثانية. ويجوز أن تكون "مَا" بمعنَى "الذي"، و"لديّ" بعده الصلةُ، وهو خبرٌ عن "هذَا"، و"عتيد" خبر ثان على حد {وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} (¬2). والفصلُ بين الصفة والصلة أن الصلة لا تكون إلَّا جملة، والصفةُ قد تكون اسمًا مفردًا. فإذا وقعت الجملةُ صفة للنكرة، فإنما تقع من حيث تُوصَف النكراتُ بالجمل، لا أن ذلك لازمٌ، بخِلاف الصلة. والفرقُ بين الجمل التي تكون صلة لـ"ما"، وبين الجمل التي تكون صفة لها، أن الجمل التي تكون صفة لها, لها موضع من الإعراب بحسبِ إعرابِ موصوفها، والجملُ التي تكون صلة لا موضعَ لها من الإعراب. ومما جاءت فيه منكورة موصوفة قولُه تعالى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (¬3). أجاز بعضُهم أن تكون "مَا" نكرة، و"بعوضة" وصف لها على أن تكون "مَا" في موضع البدل مِن "مثلًا". فإن قيل: كيف ساغ وصفُها بـ "بعوضة" وهو نوعٌ؟ قيل: لا يبعد ذلك ها هنا؛ لأن "مَا" اسم عام قرُبت في الإبهام والعموم من "ذَا". وحكمُ هذه الأسماء أن تُبين بأسماء الأنواع، وقد تقدم علةُ ذلك. وكذلك "ما" الثانيةُ في قوله: {فَمَا فَوْقَهَا} (¬4)، يجوز أن تكون نكرة، ويكون "فوقها" صفة، والتقديرُ: إن الله لا يَستحي أن يضرب مثلًا شيئًا بعوضة فشيئًا فوقها. فأمّا قولُ الشاعر [من الخفيف]: رب ما تكره ... إلخ فالبيت لأُمَيةَ بن أبي الصلْت، والشاهدُ فيه كونُ "ما" نكرة، وما بعدها صفةٌ لها. والذي يدل أنها نكرةٌ دخولُ "رُبَّ" عليها، وهي بمعنَى "شَيْء". والعائدُ من الصفة محذوف. والمعنى: رُبَّ شيء تكرهه النفوسُ من الأمور الحادثة الشديدةِ، وله فَرْجَةٌ ¬
تعقُب الضيقَ كحَل عِقال المقيَّد. والفَرجَةُ بالفتح في الأمر، وبالضم في الحائط ونحوه ممّا يُرَى. حكى أبو عُبَيْدة عن أبي عمرو بن العَلاء، قال: أخافنا الحجّاج، فهرب إلى نحوِ اليَمَن، وهربت معه، فبَينَا نحن نَسِير، وقد دخلنا إلى أرض اليمن، لَحِقنَا أعرابي على بَعِير يُنشِد [من الخفيف]: لا تَضِيقَن بالأُمور فقد يُكـ ..... شَف غَماؤُها بغَيْرِ احْتِيالِ رُب ما تكرَه النفوسُ من الأمر ... له فَرجَةٌ كحَلّ العِقال فقال أبو عمرو: وما الخبرُ؟ قال: مات الحجاجُ. قال أبو عمرو: وكنتُ بقوله: "فَرْجَةٌ"، بفتح الفاء، أشَد فَرَحًا من قوله: "مات الحجاج". والضرب الآخر من ضربي النكرة: هو أن تكون نكرة غيرَ موصوفة. وذلك من نحو قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} (¬1)، فـ "مَا" ههنا نكرةٌ غيرُ موصوفة، والذي يدل على ذلك أنها لو كانت موصوفة؛ لكان بعدها صفةٌ، وليس بعدها ما يصلح أن يكون صفة؛ لأن الصفة إنما تكون مفردة أو جملة. وإذا كان الوصفُ مفردًا، وجب أن يكون نكرة لإبهام الموصوف، وليس ما بعده نكرة ولا جملة، فيكونَ صفة. فثبت بما ذكرناه أنها غيرُ موصوفة، وأنها نكرةٌ لعدم الصلة. وإذا كانت نكرةً، فهي في موضع نصب كما لو كانت النكرةُ ملفوظًا بها، والتقديرُ: إن تُبدُوا الصدقاتِ، فالصدقاتُ نِعمَ شيئًا إبداؤها، أي: نِغمَ الشيءُ شيئًا، فـ "إبداؤها" هو المخصوص بالمدح، فحُذف المضاف الذي هو"الإبداء"، وأقيم المضاف إليه، وهو ضميرُ "الصدقات" مُقامه للدلالة عليه. وإنما قلنا ذلك، لأن "هي" ضميرُ "الصدقات" غيرَ ذي شك، فلا يخلو إما أن يكون على تقدير حذفِ المضاف الذي هو الإبداء، أو لا على تقديره. فلو لم يكن المضاف مقدرًا، لكان المعنى: فنِعمَ شيئًا الصدقاتُ، وتكون "الصدقاتُ" هي الممدوحةَ، وليس المعنى على ذلك، إنما المدحُ راجعٌ إلى إبداءِ الصدقات لا إليها نفسِها، وإخفاؤُها وإيتاؤُها الفقراءَ خيرٌ. ومن ذلك "مَا" في التعجب، نحو قولك: "ما أحسن زيدًا! " ومنه قوله تعالى: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} (¬2)، فـ "مَا" نكرة غير موصوفة في موضعِ رفع بالابتداء، و"أكفره" الخبرُ، ومعناه التعجب، أي: هو ممن يُتعجب منه، ومثلُه {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (¬3)، أي: هم ممن يقال فيهم ذلك، وقيل: إِن "مَا" استفهامٌ، وهو ابتداءٌ، و"أكفره" الخبرُ، أي: أي شيء حملهم على الكفر مع ما يرون من الآيات الدالّة على التوحيد. وأمّا القسم الثالث: وهو كونها استفهامًا، فهي فيه غيرُ موصولة ولا موصوفةٍ، وهي سُؤالْ عن ذواتِ غيرِ الأناسي، وعن صفاتِ الأناسيّ، نحو قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ ¬
بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (¬1)، وقوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} (¬2)، فـ "مَا" اسمْ نكرة في موضع رفع بالابتداء، والتقديرُ: أي شيء تلك بيمينك. وهي مبنيةٌ لتضمنها همزةَ الاستفهامِ، وإنما جيءَ بها لضرب من الاختصار، وذلك أنّك إذا قلت: ما بيدك؟ فكأنك قلت: أعصى بيدك، أم سيف، أم خَنْجَر، ونحو ذلك ممّا يكون بيده، وليس عليه إجابتُك عمّا بيده، إذا لم تأت على المقصود، فجاؤوا بـ "ما"، وهو اسمٌ واقعٌ على جميع ما لا يعقِل، مُبْهَمْ فيه، وضمّنوه همزة الاستفهام، فاقتضى الجوابَ من أولِ وَهْلَةٍ، فكان فيه من الإيجاز ما ترى. وأمّا كونُها جزاءٌ؛ فنحو قولك: "ما تَصنَعْ أَصْنَعْ مثله"، ونحو قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ} (¬3)، ونحو قوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} (¬4). وحكمُها في الجزاء في حَصرها الأسماءَ، ووقوعِها عليها، كحكمها في الاستفهام، فإذا قال: "ما تَأكُلْ آكُلْ"، فتقديرهُ: إن تأكلْ خُبْزًا، أو إن تأكلْ لَحْمًا، أو غيرَ ذلك مما يُؤكَل، فـ "مَا" قامت مقامَ هذه الأشياء، وأغنت عن تَعْدادها، كما كانت في الاستفهام كذلك. فأمّا موضعُها من الإعراب، فعلى حسب العامل، كما أنها في الاستفهام كذلك. إن كان الشرطُ فعلًا غيرَ متعد، كان الموضعُ رفَعًا بالابتداء، نحوَ: "مَا تَقُمْ أَقُمْ"، و"ما تَقُمْ أَضْرِبْ"، كما أنها في الاستفهام كذلك. وإن كان متعديًا، كانت منصوبةَ الموضع به. وإن دخل عليها حرفُ جر، أو أُضيف إليها اسمٌ، كانت مجرورةَ الموضع به، كما أنها في الاستفهام كذلك. فأما انجزامُ الفعل بعدها، وبعد غيرها من أسماء الجزاء، فينبغي أن يكون بتقديرِ "إن"، ولا يكون بالاسم؛ لأَنا لم نجد اسمًا عاملًا في فعلٍ، وإنما الأفعالُ تعمل في الأسماء. * * * قال صاحب الكتاب: وهي في وجوهها مُبهَمةٌ، تقع على كل شيء، تقول لشَبَح رُفع لك من بعيد، لا تشعُر به: "ما ذاك؟ " فإذا شعرتَ أنه إنسانٌ، قلت: "مَن هو؟ "، وقد جاء "سُبْحَانَ ما سخركن لنا"، و"سبحانَ ما سبح الرعْدُ بحَمْده". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن "ما" في وجوهها الأربعة تقع على ذواتِ غيرِ الأنَاسي، وعلى صفاتِ الأناسي، فإذا قلت: "ما في الدار؟ " فجوابُه: "ثوبٌ"، أو ¬
فصل [قلب ألف "ما" وحذفها]
"فرسٌ"، ونحو ذلك ممّا لا يعقِل. وإذا قلت: "ما زيدٌ؟ " فجوابُه: "طويلٌ"، أو"أسودُ"، أو"سَمِينٌ"، فتقع على صفاته. وقد تُقام الصفة مُقام الموصوف في الخبر، نحو: "مررت بعاقل وكاتب"، فكذلك يجوز أن تقوم مقامَه في الاستخبار، فإذا قيل: "ما عندك؟ " قلت: "زيد" أو"عمرو" ونحوهما من أشخاصِ الأناسي. وذلك على إقامة "مَا"، وهو استخبار عن الأوصاف، مقامَ "مَن" في الاستخبار عن المعارف، كما أقمت "الكاتبَ" مقامَ "زيد"، وكما أقمته مقامه في الاستخبار. كذلك يجوز أن تُقيمه مقامه في الخبر، وعليه قوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} (¬1). ومن ذلك ما حُكي عن أبي زيد "سُبْحانَ ما سبح الرعدُ بحَمده"، و"سبحانَ ما سخركن لنا". فامّا إذا قلت في جواب "مَا عِندَكَ؟ ": "رجلٌ"، أو"فرسٌ"، فليس على إقامة الصفة مقامَ الموصوف؛ لأن "ما" يُسأَل بها عن الأنواع والأشياء التي تدل على أكثرَ من واحد (¬2). فمن حيث كان "رجلٌ" و"فرسٌ" نوعَيْن يَعُمّان جماعة كثيرة، جاز أن يقعا في جواب "ما"، وليس ذلك باتساع، كما كان وقوعُ "زيد" و"عمرو" في جوابها اتّساعًا. وقوله: "تقول لشَبَح رُفع لك من بعيد لا تشعر به: ما ذَاكَ؟ "، يريد أنّك إذا رأيت شخصًا من بُعْد، ولا تتحققُ أنه من العُقلاء، أو غيرهم، عبرتَ عنه بـ "مَا"؛ لأنّها تقع على الأنواع، فكأن السؤال وقع عن نوعِ الشبح المَرئي. فإذا تحقّقتَ أنّه إنسانٌ، قلت "مَن هو"، فتُعبر عنه بـ "مَنْ"، إذ كانت مختصة بالعقلاء، وقد تقدم الكلام عليها. فصل [قلب ألف "ما" وحذفها] قال صاحب الكتاب: ويصيب ألفها القلب والحذف, فالقلب في الاستفهامية جاء في حديث أبي ذؤيب: "قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء كضجيج الحجيج أهلّوا بالإحرام فقلت: مه؟ فقيل: هلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ". * * * قال الشارح: اعلم أنه لما كثُر استعمالُ هذه الكلمة، وتَشعّبتْ مواضعُها، وأوقعوها ¬
على ما لا يعقل، وعلى صفاتِ من يعقل، وربّما اتسعوا فيها وأوقعوها على ذواتهم على ما ذكرناه، اجترؤوا على ألفها تارةً بالقلب، وتارةً بالحذف. فأمّا القلب، ففى الاستفهامية، وذلك قولهم: "مَه"، والمراد: ما الأمرُ؟ أو ما الخبرُ؟ فقلبوا الألف هاءً؛ لأنها من مَخرَجها، وتُجانِسها في الخَفاء، إلَّا أنها أبينُ منها. قال الراجز [من الرجز]: قد وَرَدَتْ مِن أَمْكِنه مِن ههُنَا ومِن هُنَه إن لم أرَوها فَمَة (¬1) قوله: "فَمَهْ"، أي: فما أَصْنَعُ؟ أو فما قُدْرتي؟ ونحو ذلك حديثُ أبي ذُؤَيب: قدمتُ المدينَة إلخ، والمراد: ما الخبرُ؟ أو ما الأمرُ؟ فقلبوا الألف هاء، وحذفوا الخبر لدلالة الحال عليه. وأبو ذؤيب هذا هو الشاعرُ، كادْ مُسْلِمًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يَرَه، وكان جاهليًا إسلاميًا. واسمُه خُوَيلِدُ بن خالد بن محرب. وهذا الحديثُ رواه ابنُ يسار يرفعه إلى أبي ذؤيب أنه قال: بَلَغَنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليَلٌ، فاستشعرتُ حُزْنًا، فبِتُ بأطولِ ليلة، لا ينجاب دَيجُورُها, ولا يطلعُ نورُها، وظللتُ أُقاسي طُولها, حتى إذا كان قريبُ السحَر، أغفيتُ، فهتف بي هاتفٌ، وهو يقول [من الكامِل]: خَطب أجل أَناخَ بالإِسلام ... بَيْنَ النخَيْلِ ومَقعَدِ الآطامِ قُبِضَ النبي محمَّد فعُيُونُنا ... تُذرِي الدموعَ عليه بالتسجامِ قال أبو ذُؤَيب: فوثبتُ من نَومي فزَعًا، فنظرتُ إلى السماء، فلم أر إلَّا سَعْدَ الذابح، فتفألتُ به ذَبحًا يقع في العرب، وعلمت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قُبض، وهو ميت من عِلته. فركبتُ ناقتي، وسرتُ، فلما أصبحتُ، طلبتُ شيئًا أَزجرُ به، فعَن لي شَيهُم، يعني: القُنفُذَ، وقد قبض على صِل، يعني: الحَيةَ، فهي تلتوي، والشيهَمُ يَعَضها، حتى أكلها. فزجرتُ ذلك، فقلت: شيهمٌ شيءٌ مُهِم، والتواءُ الأصل التواءُ الناس على القائم بعد رسول الله. ثم أولت أَكلَ الشيهم غَلَبَةَ القائم بعده على الأرض. فحثثتُ ناقتي، حتى إذا كنتُ بالغابة، زجرتُ الطائرَ، فأخبرني بوَفاته. ونعب غرابٌ سانحٌ، فنطق بمثلِ ذلك، فتَعوذتُ بالله من شَر ما عَن لي في طريقي، وقدمتُ المدينة، ولهم ضجيجٌ بالبكاء كضجيج الحجيج إذا أهلوا بالإحرام، فقلتُ: "مَه"؟ قالوا: "قُبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -". فجئتُ إلى المسجد، فوجدتُه خاليًا، فأتيتُ بيتَ رسول الله، فوجدتُ بابَه مُرتَجًا، وقيل: هو مُسَجي، وقد خلا به أهلُه. فقلتُ: "أَيْنَ الناسُ"؟ فقالوا في سَقِيفةِ بني ساعِدَةَ، صاروا ¬
إلى الأنصار. فجئتُ إلى السقيفة، فوجدتُ أبا بكر، وعمر، وأبا عُبَيْدَةَ بن الجراح، وسالِمًا، وجماعة من قُرَيْش، ورأيتُ الأنصار فيهم سَعْدُ بن عُبادَةَ، وفيهم شُعراؤهم: حَسانُ بن ثابتٍ، وكَعبُ بن مالكٍ، ومَلأ منهم. فأويتُ إلى قريش. وتَكلمتِ الأنصارُ، فأطالوا الخِطاب، وأكثروا الصواب، وتكلم أبو بكر، فِلله دره من رجل! لا يُطيل الكلامَ، ويعلم مواضعَ فَصْلِ الخِصام، واللهِ لقد تكلم بكلام لا يسمعه سامع إلَّا انقاد له، ومال إليه. ثم تكلم عمرُ بعده بدُونِ كلامه، ثمّ مدّ يدَه إليه، وبايَعَه، وبايَعوه. ورجع أبو بكر، ورجعتُ معه. قال أبو ذؤيب: فشهِدتُ الصلاةَ على محمّد- صلى الله عليه وسلم -، وشهدتُ دَفْنَه. ثم أنشد أبو ذؤيب يبكي النبي - صلى الله عليه وسلم -[من الكامل]: لما رأيتُ الناسَ في عَسَلانِهم ... ما بَينَ مَلْحود له ومُضَرَّحِ مُتَبادِرِينَ لشَرجَع بأكفهِم ... نَص الرقاب لفَقْدِ أَرْوَعَ أَرْوَحِ فهناكَ صِرتُ إلى الهُمومِ ومَن يَبِت ... جارَ الهُمومَ يَبِيتُ غيرَ مُرَوحِ كُسِفَت بمَصْرَعِه النجومُ وبَذرُها ... وتَزَعزَعَت آطامُ بَطنِ الأَبطَحِ وتَرَعْرَعَت أَجبالُ يَثْرِبَ كلُها ... ونُخَيْلُها بحُلُولِ خَطْبٍ مُفْدحِ ولَقَذ زَجَرْتُ الطيرَ قَبلَ وفاته ... بمُصابِه وزجَرتُ سَعْد الأذبَحِ وزجرت إذْ نَعَبَ المُشَحجُ سانحًا ... مُتفائلًا فيه بِفَأل أَقْبَحِ ثم انصرف أبو ذؤيب إلى بادِيَته. وتُوفي أبو ذؤيب في خلافةِ عثمان بن عَفانَ بطريقِ مكةَ ذاهبًا إليها، ودفنه ابن الزبَير. * * * قال صاحب الكتاب: والجَزائيةِ، وذلك عند إلحاقِ "مَا" المزيدة بآخِرها، كقوله تعالى: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} (¬1). * * * قال الشارح: وقد قلبوا ألفها هاء أيضًا إذا كانت جزاء، فقالوا: "مَهْمَا"، وأصلها عند الخليل "مَا" (¬2). وحروفُ الجزاء قد تُزاد فيها "مَا"، كقولك: "متى ما تأتِني آتِك"، و"أَينَ ما تكن أكن"، فزادوا "ما" على "مَا" كما يزيدون "ما" على "مَتَى" فصار "مَامَا"، فاستقبحوا هذا اللفظ لتَكرار الحرفَين، فأبدلوا من الألف الأولى هاء، فقالوا: "مَهْمَا"، إذ الألف والهاء من مَخرَج واحد. وقال آخرون: هي مركبةَ من "مَهْ" بمعنى: "اكفُف" و"ما" الشرطيةِ. والمعنى عندهم: اكفف عن كل شيء ما تفعل أَفعلْ. وقال غيرهم هي اسم مفردٌ معناه العموم. قالوا: لأن الأصل عدمُ التركيب. ويؤيد القولَ الأولَ عَوْدُ الضمير إلى "مَهْمَا" كما يعود إلى ¬
"ما"، قال الله تعالى: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ} (¬1). ويؤيد الثاني قول الشاعر [من الطويل]: 501 - أَمَاوِي مَهْمَن يَسْتَمِعْ في صَدِيقِهِ ... أَقاوِيلَ هذا الناسِ مَاوِي يَندَمِ فركب "مَهْ" مع "مَنْ" كما ركبتَها مع "مَا"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: والحذف في الاستفهامية عند إدخالِ حروفِ الجر عليها، وذلك قولك:"فِيمَ"، و"بِمَ"، و"عَم"، و"لِمَ"، و"حَتامَ"، و"إلامَ"، و"عَلامَ". * * * قال الشارح: اعلم أنّ ألفَ "مَا" إذا كانت استفهامًا، ودخل عليها حرفٌ جارٌّ، فإنها تُحذف لفظًا وخطًا، نحو قولك: "فِيمَ" و"بِمَ"، و"عَلامَ"، و"عَم"، و"لِمَ"، و"حَتامَ"، و"إلامَ". وإنما حذفوها؛ لأن الاستفهام له صدرُ الكلام، ولذلك لا يعمل فيه ما قبله من العوامل اللفظية إلا حروفُ الجرّ. وذلك لئلا يخرج عن حكم الصدر. وإنما وجب لحروف الجر أن تعمل في أسماء الاستفهام دون غيرها من الحروف، لتنزلها مما دخلت عليه منزلةَ الجزء من الاسم، يُحكَم عليهما جميعًا بالنصب. ولذلك يُعطَف عليهما بالنصب، نحو قوله [من الوافر]: فلَسْنَا بالجِبالِ ولا الحَدِيدَا (¬2) ¬
فصل [أوجه "من"]
وإذا دخل على "ما" الاستفهاميّةِ حرفُ جر، بَعُدَ من الاستفهام حيث عمِل فيه ما قبله، وقرُب من الخبريّة، فحذفوا ألفَه للفرق بين الخبر والاستخبار، فقالوا: "فِيمَ"، و"عَمَّ"، والأصلُ: "فيِمَا"، و"عَمَّا". قال الله تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} (¬1). وقال: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (¬2). وإنما خصوا ألف الاستفهامية بالحذف دون الخبرية؛ لأن الخبرية تلزمها الصلةُ، والصلةُ من تمام الموصول، فكأن ألفها وقعتْ حَشْوا غيرَ متطرفةٍ، فتَحصنتْ عن الحذف. وربّما أثبتوها في الشعر وهو قليلٌ، قال الشاعر [من الوافر]: 502 - على ما قام يَشْتِمُني لَئيمٌ ..... كخِنْزِير تَمَرّغَ في رَمادِ فصل [أوجه "من"] قال صاحب الكتاب: و"من", كـ "ما" في أوجهها إلا في وقوعها غير موصولة, ولا موصوفة, وهي تختص بأولي العلم. * * * قال الشارح: اعلم أن "مَنْ" اسمٌ مبهمٌ يقع على ذواتِ ما يعقل. والدليلُ على أنَّه اسمٌ أنه يقع فاعلًا ومفعولًا، ويدخل عليه حروفُ الجرّ، ويعود عليه الضميرُ، وهذه الأشياءُ من خصائص الأسماء. ¬
فأمّا وقوعُها فاعلة، ففي غير الاستفهام والجزاء، وذلك إذا كانت موصولةٌ، أو نكرةٌ؛ لأنّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله، والفاعلُ لا يكون إلَّا بعد فعل، وأمّا المفعول فيكون في جميعِ ضروبها؛ لأنّ المفعول يجوز تقديمُه على فعله، نحو قولك: "مَنْ ضربتَ؟ " فـ "مَنْ" في موضع نصب. وأقسامُها كأقسامِ "ما" في جميع مواضعها، إلَّا في وقوعها نكرة غيرَ موصوفة على ما ذكرناه في "ما"، نحو: {فَنِعِمَّا هِيَ} (¬1)، وفي التعجّب نحو: "ما أحسنَ زيدًا! " عند سيبويه وأصحابِه، فإنّ "مَنْ" لا تُستعمل في ذلك. ولها ثلاثة مواضع: الأول: أن تكون موصولة بمعنى "الذِي" تحتاج إلى جملة بعدها تتِم بها اسمًا، وقد تقدّم شرحه. الثاني: أن تكون استفهامًا، نحو قولك: "مَنْ قام؟ " و"مَنْ عندك؟ " فـ "مَنْ" في موضع رفع بالابتداء، وما بعدها الخبرُ. والذي يدل على ذلك أنّك لو أوقعتَ موقَعها اسمًا معربًا مما يظهر فيه الإعراب، لظهر فيه الرفعُ، نحو قولك: "أيُ إنسان عندك؟ " و"أيُّ رجلٍ قام؟ " قال الله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} (¬2). وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} (¬3). وقال الشاعر [من الخفيف]: 503 - مَن رأيتَ المَنُونُ خَلدْنَ أَمْ مَنْ ... ذا عليه مِن أَنْ يُضامَ خَفِيرُ ¬
فـ "مَنْ" هنا استفهامٌ في موضع رفع، إذا رُفع "المنون"، وأُلْغي الفعل الذي هو "رأيت". فإن أعملتَ الفعل، نصبتَ "المنون"، وكانت "مَنْ" في موضع نصب بـ "خلدن". وهي مبنية لتضمنها همزة الاستفهام، وذلك أنك إذا قلت: "من هذا؟ " فكأنك قلت: "أزيدٌ هذا أعمرٌو هذا؟ " والأسماء لا تُحصَى كثرةَ، فأتوا باسم يتضمن جميع ذلك، وهو"مَنْ"، فاستُغني به عن تَعْداد الأسماء كلها على ما تقدّم في "ما". الموضع الثالث: أن تقع للمُجازاة وتختصّ أيضًا بذواتِ من يعقل، وهي مبنيّة أيضًا لتضمنها حرفَ الجزاء، وهو"إنْ"، وذلك نحو قولك: "من يأتِني آتهِ"، و"من يُكْرِمْني أشْكُرْه"، كأنك قلت: إن يكرمني زيد أو عمرو ونحوهما ممّن يعقل أشكره. قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} (¬1). الرابع: أن تكون نكرة موصوفة، نحو قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} (¬2) في أحد الوجهَيْن، أي: كلُّ شيء عليها هَالِك إلَّا وَجْهَه. ومثله قول الشاعر [من السريع]: 504 - يا رُب مَن يُبْغِضُ أَذْوادَنَا ... رُحْنَ على بَغْضائه واغتَدَيْنْ ¬
ومثله قول الآخر [من الرمل]: 505 - رُبّ مَن أَنْضَجْتُ غَيْظًا صَدْرَهُ ... قد تَمَنى لِيَ مَوْتًا لم يُطَعْ فـ "مَنْ" في ذلك كله نكرةٌ لدخولِ "رُبَّ" عليها، وما بعدها من الجملة صفةٌ لها. وقد وُصفت بالمفرد، نحو قوله [من الكامل]: 506 - وكَفَى بنا فَضْلًا على مَنْ غَيْرِنا ..... حُب النبي محمدِ إيّانَا ¬
فقوله "غيرنا" مخفوضٌ على أنّه نعتٌ لـ"مَنْ". والكوفيون يزيدون في أقسامها قسمًا خامسًا: يجعلونها زائدةً مُؤكدةً كما تُزاد "مَا". وأنشد الكِسائي لعَنْتَرَةَ [من الكامل]: 507 - يا شاةَ مَن قَنَصٍ لِمَنْ حَلتْ له ... حَرُمَتْ عَلَيَّ ولَيْتَهَا لم تَحْرُمِ قال: أراد "يا شاةَ قنصٍ". وأصحابُنا يُنشِدونه: "يا شاةَ ما قنصٍ". فإن صحّت روايتُهم، حُمل على أنها موصوفة، و"قنصٌ" الصفة، فهو مصدر بمعنى: قانص، كما قالوا: "ماء غَوْرٌ"، أي: غائرٌ، و"رجل عَدْلٌ"، أي: عادلٌ. والمراد: يا شاةَ إنسانٍ قانصٍ. وإنما قال "تختص بأُولي العِلْم"، ولم يقل: "بأُولي العقل" على عادة النحويّين، لأنه رآها تُطلَق على البارئ سبحانه في نحو قوله: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} (¬1)، ونحو ¬
قوله: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (¬1)، والبارىءُ سبحانه يوصف بالعلم، ولا يوصف بالعقل، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وتوقَع على الواحد والاثنين والجمع والمذكر والمؤئث، ولفظُها مذكرْ، والحَمْلُ عليه هو الكثيرُ، وقد تُحمَل على المعنى- وقُرىء قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} (¬2) بتذكير الأول، وتأنيث الثاني (¬3)، وقال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} (¬4). وقال الفَرَزْدَق [من الطويل]: [تَعَش فإنْ عاهَدْتني لا تخونني] ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يا ذِئْبُ يَصْطَحِبانِ (¬5) * * * قال الشارح: اعلم أن "مَنْ" لفظُها واحدٌ مذكرٌ، ومعناها معنى الجنس لإبهامها تقع على الواحد والاثنين والجماعة والمذكر والمؤنث، فإذا وقعتْ على شيء من ذلك، ورددتَ إليها الضميرَ العائد من صلتها، أو خبرِها على لفظها نفسِها، كان مفردًا مذكّرًا؛ لأنه ظاهرُ اللفظ، سواء أردتَ واحدًا مذكرًا، أو مؤنثًا، أو اثنين، أو جماعةٌ. وإن أعدتَ الضمير إليها على معناها، فهو على ما يقصِده المتكلمُ من المعنى، فأمّا ما أُعيد إليه على اللفظ؛ فنحو قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} (¬6) على حد قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} (¬7)، وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} (¬8)، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (¬9)، وعليه أكثرُ الاستعمال. وأمّا ما أُعيد إليه على معناه في الجمع، فنحو قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} (¬10)، {وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ} (¬11). وأمّا ما أُعيد بلفظ التثنية، فنحو قول الفَرَزْدَق [من الطويل]: تَعَش فإنْ عاهَدتني لا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبانِ (¬12) ويُروى: "تَعالَ"، وقبلَه: وأَطْلَسَ عَسّالٍ وما كان صاحبًا ... رَفَعْتُ لِنارِي مَوْهِنًا فأَتانِي ¬
فصل [استفهام الواقف عن نكرة بـ "من"]
الشاهد فيه قوله: "يصطحبان"، ثَنى الضمير الراجع إلى "من" حيثُ إنه أراد معنى التثنية؛ لأنه عنى نفسَه والذئب. وصف أنه أوقدَ نارًا وطرقه الذئبُ، فدعاه إلى العَشاء. وقد فرق بين الصلة والموصول بقوله: "يا ذئبُ". وساغ ذلك لأن النداء موجود في الخطاب، وإن لم يذكره، فإن قدّرتَ "مَنْ" نكرة، و"يصطحبان" في موضع الصفة، كان الفصلُ بينهما أسهلَ. وأما المؤنّث، فنحو قولهم فيما حكاه يونس (¬1): "مَنْ كانت أُمَّك"، أُنّث "كَانَتْ" حيث كان فيها ضميرُ "مَنْ" وكان مؤنثًا؛ لأنه هو الأمُّ في المعنى. هذا إذا نصبت "أُمّك"، فإن رفعت "الأم" كان اسمَ "كَانَ"، وكان التأنيثُ ظاهرًا، إذ كان الفعل مسندًا إلى مؤنث ظاهرٍ، وتكون "مَنْ" في موضعِ نصب خبرَ "كان". وعلى الوجه الأوّل تكون في موضع رفع بالابتداء. ومن ذلك قراءةُ الزعْفَراني، والجَحْدَري: {وَمَنْ تَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا} (¬2)، بالتاء فيهما، حيث أراد واحدة من النساء. جعل صلته إذ عني المؤنّث كصلةٍ "التي". وقرأ حَمزَةُ والكِسائي: {يَقْنُتْ ويعْمَلْ} بالياء على التذكير حملًا على اللفظ فيهما. وقرأ الباقون من السبعة: {يَقْنُتْ} بالتذكير على اللفظ، و {تَعْمَلْ} بالتأنيث على المعنى. وقال بعضُ الكوفيين: إذا حُمل على المعنى، لم يجز أن يُرَدّ إلى اللفظ، وإذا حُمل على اللفظ جاز حملُه على المعنى. وهو ضعيف؛ لأنه لا فَرْقَ بينهما. وقد جاء ذلك في التنزيل، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (¬3)، فجمع حملًا على المعنى، ثمّ قال: {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} (¬4). فصل [استفهام الواقف عن نكرة بـ "من"] قال صاحب الكتاب: وإذا استفهم بها الواقف عن نكرة, قابل حركته في لفظ الذاكر من حروف المد بما يجانسها, يقول إذا قال "جاءني رجل": "منو"؟ وإذا قال "رأيت رجلاً": "منا"؟، وإذا قال: "مررت برجلٍ": "مني"؟ وفي التثنية: "منان"؟ و"منين"؟ وفي الجمع: "منون"؟ و"منين"؟ وفي المؤنث: "منه"؟ و"منتان"؟ و"منتين"؟ و"منات"؟ والنون والتاء ساكنتان. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن الاستفهام هنا استثباتٌ، وهو ضربٌ من الحكاية، والغرضُ به إعلامُ السامع أنه قد تقدم كلام هذا إعرابُه، خَوْفًا من أن يكون عرض له غفلةٌ من استماعِ الكلام المتقدّم. وكان القياسُ أن تُعاد الكلمة جَمْعاءَ بالألف واللام، أو تُضمَر؛ لأنها تصير معهودة لتقدمِ ذكرها. قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} (¬1)، إلَّا أنهم عدلوا عن ذلك، لئلّا يُتوهم فيه أنه معهود غيرُ الأول، فزادوا على "مَنْ" في الوقف زيادة تُؤذِن بأنه قد تقدم كلامٌ هذا إعرابُه، وأن القصد إليه دون غيره. وكانت تلك الزيادةُ من حروف المدَّ واللين؛ لأنها تُجانِس الحركاتِ. فقابلوا كل حركة في لفظ المُذكر بما يُجانِسها من هذه الحروف. فإن كان مرفوعًا، زدتَ في أداة الاستفهام واوًا. وإن كان منصوبًا، زدت ألفًا. وإن كان مجرورًا، زدت ياءً. فإذا قال القائلُ: "هذا رجلٌ"، قلت في جوابه: "مَنُو"؟ وإذا قال: "رأيت رجلًا"، قلت في جوابه: "مَنَا"؟ وإذا قال: "مررت برجل"، قلت: "مَنِي"؟ وتُثني، وتجمع، وتُؤنث، فتقول إذا قال: "هذان رجلان": "مَنَانْ"؟ وإذا قال: "رأيت رجلَيْن"، أو"مررت برجلَيْن"، قلت: "مَنَيْنْ"؟ وإذا قال: "هؤلاء رجالٌ"، قلت: "مَنُونْ"؟ وإذا قال: "رأيت رجالًا" أو"مررت برجالٍ"، قلت: "مَنِينْ"؟ فإن قال: "رأيت امرأةً"، قلت: "مَنَهْ"؟، و"مَنْتْ"؟، كما يقال: "ابْنَهْ"، و"بِنْتْ". وإذا قال: "هاتان امرأتان"، قلت:"مَنْتَانْ"؟ وإذا قال: "رأيت امرأتَيْن"، أو"مررت بامرأتَيْن"، قلت: "مَنْتَيْنْ"؟ بإسكان النون، كأنه ثنى "مَنْت"، فقال: "مَنْتَان"، كما يقال: "بِنْتَان"، و"ثِنْتَان". وإذا قال في الجمع: "رأيت نساء"، قلت: "مَنَاتْ"؟ بإسكان التاء. واعلم أنك إذا قلت في الاستثبات "مَنُو"، أو"مَنَا"، أو"مَنِي"، فـ "مَنْ" في موضعِ رفع بالابتداء، والخبرُ محذوف، والتقديرُ: مَن المذكور؟ أو مَن المستفهَمُ عنه؟ أو يكون خبرًا، والمحذوفُ هو المبتدأُ، وهذه الزياداتُ ليست إعرابًا لما دخلتْ عليه، وإنما هي علامات يُحكَى بها حالُ الاسم المتقدّم. وإنما قلت ذلك لأمرَيْن: أحدُهما: أن "مَنْ" مبنية لتضمنها حرفَ الاستفهام، وذلك مستمِرٌ فيها. وإذا كان مستمرًا فيها، استمر البناءُ لاستمرارِ سَبَبه. والأمرُ الثاني: أن هذه العلامات لا تثبُت إلَّا في الوقف، والإعرابُ لا يثبت في الوقف. وقد اختلف العُلماء في كَيْفِيةِ دخولِ هذه الحروف، فقال قومٌ: إنما دخلت الحركات التي هي الضمةُ والفتحة والكسرة "مَنْ" في حال الوقف حكايةً لإعراب الاسم المتقدّم، ولم تكن الحركةُ ممّا يُوقَف عليها، فوصلوها بهذه الحروف لتبيينِ ما قصدوه من الدلالة، فوصلوا الضمّةَ بالواو، والفتحةَ بالألف، والكسرةَ بالياء، ¬
كوَصْلهم القافيةَ المُطْلَقة بهذه الحروف، نحو قوله [من الوافر]: 508 - [متي كان الخيامُ بذي طلوح] ... سُقِيتِ الغَيْثَ أيتُهَا الخِيامُو ونحو قوله [من الوافر]: أَقِلي اللَوْمَ عَاذِلَ والعِتابَا ... [وقولىِ إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصابا] (¬1) ونحو [من الطويل]: [قِفا نبْكِ من ذكرى حبيب ومَنزِلِ ... بِسقْطِ اللوى] بَيْنَ الدخُولِ فَحَوْمَلِي (¬2) وقال المبرّد: أدخلوا هذه الحروف قبل الحركات، فالواوُ في "مَنُو" قبلَ ضمّة النون، والألفُ في "مَنَا" قبل الفتحة، والياءُ في "مَنِي" قبل الكسرة. وإنّما حركوا النون، وأصلُها البناء على السكون لعِلتَيْن: إحداهما: أنّك تقول في النصب: "مَنَا"، فتفتح النون, لأن ما قبل الألف لا يكون إلَّا مفتوحًا. فلمّا وجب تحريكُها في النصب، حركوها في الرفع والجرّ، ليكون الجميعُ على منهاج واحد، لا يختلف. والعلةُ الثانية أن الواو ¬
والياء خَفِيتان، فإذا جعلوا قبل كل واحد منهما الحركةَ التي هي منها، ظهرتا وتَبينتا. وأما "مَنَهْ" فإنّما فُتحت النون, لأنّ هاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا، وأمّا تحريكُها في التثنية والجمع فمن قبل أنّهم أرادوا أن يكون الاستثباتُ في التثنية والجمع على منهاجِ التثنية والجمع الحقيقيّ، فلمّا كان ما قبل حرف التثنية مفتوحًا، فتحوا النون في حكايته، ولمّا كان ما قبل الواو في الجمع مضمومًا، وما قبل الياء مكسورًا اعتمدوا، مثلَ ذلك في حكايته إذا استثبتوا. فأمّا "مَنْتَانْ"، و"مَنْتَيْنْ" بسكون النون في حكايةِ تثنية المؤنث، فكأنّه ثُني "مَنْتْ"، بسكون النون، كما تقول "بِنْتَانِ"، و"أخْتَانِ" جَعل التاء للإلحاق بـ "فَلْسٍ" و"كَعْبٍ"، كما كانت في "بِنْت"، و"أخْت" ملحقتَيْن بِـ "عِدْلٍ"، و"بُرْد". * * * قال صاحب الكتاب: وأما الواصلُ، فيقول في هذا كله: "مَنْ يا فَتَى؟ " بغيرِ علامة، وقد ارتكب من قال [من الوافر]: 509 - أَتَوْا نارِي فقلتُ مَنُونَ أَنْتُمْ ... [فقالوا: الجن. قلت: "عِمُوا ظلامًا"] شُذوذَيْن: إلحاقَ العلامة في الدَّرْج، وتحريكَ النون. * * * ¬
قال الشارح: قد تقدم القول: إن هذه العلامات إنما تلحق في حال الوقف فقط، فإذا وصلت، عادت إلى حالها من البناء على السكون، ومقتضى القياس فيها. فلذلك إذا قال في الوقف: "مَنُو"، و"مَنَا"، و"مَنِي" يقول إذا وصل: "مَن يا فتى؟ " وكذلك إذا قال: "رأيتْ نساءً"، فقال في الوقف: "مَنَاتْ؟ "، وإذا قال: "رأيت رجالًا"، فقال: "مَنِينْ؟ "، وإذا قال: "رأيت امرأةً" فقال "مَنَهْ؟ "، أو"مَنتْ؟ " فإنه إذا وصل قال: "مَن يا فتى؟ " بإسكان النون وكذلك إذا قال: "رأيت رجلًا"، وامرأةً"، فبَدَأَ بالمذكر، قلت في السؤال: "مَنْ ومَنَهْ؟ " وإن بدأ بالمؤنث، قلت: "مَنْ ومَنَا؟ " لأن العلامة إنّما تلحق الذي تقف عليه، وهو الثاني، والأولُ لا تلحَقُه علامةٌ، لأنه موصول بالثاني. هذا مذهبُ الخليل وسيبويه (¬1)، وأما يونس (¬2)، فكان يُجيز "مَنَة"، و"مَنَةٌ" و"مَنَةٍ" في الوصل كما يكون مع الوقف، ويَقِيسه على "أي"، وزعم أنَّه سمع عربيًا يقول: "ضرب مَن مَنا" (¬3). وعلى هذا ينبغي إذا ثَنى، أو جمع فقال: "منان"، أو"منون" أن لا يُغيره، ويُثْبِته وصلًا، ووقفًا. واستدل على ذلك بقولِ شَمِر بن الحارث الطائي الشاعر [من الوافر]: أَتَوا نارِى فقلتُ: مَنُونَ أَنتُمْ؟ ... فقالوا: الجِن قُلْتُ: عِمُوا ظلامًا فقلت: إلى الطعامِ فقال منهم ... زَعِيمٌ: نَحسُدُ الأنَسَ الطعامَا وبعضهم يرويه: "عِمُوا صَباحًا"، والأكثرُ "ظَلامًا". ويؤيده البيتُ الثاني. وهو شاذ، وشذوذُه من وجهَيْن: أحدهما: أنه أثبتَ الزيادة في الوصل، وهي إنما تكون في الوقف لا غيرُ. والثاني: أنه فتح النونَ، وحقها السكون. وكان أبو إسحاق يقول فيه: إِن الشاعر اعتقد الوقفَ على "منون"، ثم ابتدأ بما بعده. وأما قياسُ "مَنْ" على "أي" فليس بصحيح, لأن "أَيا" معربةٌ، و"مَنْ" مبنيّةٌ. وأما ما حكاه من قولهم: "ضرب مَن مَنَا"، فهي حكايةٌ نادرةٌ لا يُؤخَذ بها، وقد استبعدها ¬
سيبويه (¬1)، فقال: لا يتكلّم به العربُ. ووجهُه من القياس أنّه جرّد "مَنْ" من الدلالة على الاستفهام، حتى صارت اسمًا كسائرِ الأسماء، يجوز إعرابُها، وتثنيتُها، وجمعُها، كما جرّدوا "أيا" من الاستفهام حين وصفوا بها، فقالوا: "مررت برجلٍ أي رجلٍ"، أي: كاملٍ. وقد فعلوا ذلك في مواضعَ، فمن ذلك قول الشاعر [من البسيط]: 510 - [هل ما عَلمتَ وما استُودعْتَ مكتومُ ... أمْ حَبْلُها إذْ نَأَتْكَ اليومَ مَصْروم؟] أَمْ هَلْ كَبِيرٌ بَكَى لم يَقْضِ عَبْرَتَهُ ... إثْرَ الأحِبةِ يومَ البَيْنَ مشكومُ ¬
فهذا اعتقد خَلْعَ الاستفهام من "هَلْ"، ولولا ذلك، لم يجمع بين استفهامَيْن، وهي "أَمْ"، و"هَلْ". وإنما حكمنا على خلع دليلِ الاستفهام من "هَلْ" دون "أمْ"؛ لأنّ "هَلْ" قد استُعمل غير استفهام، نحو: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (¬1)، أي: قد أتى، ونحو قوله: {هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} (¬2)، والمرادُ النفي، أي: ما جزاءُ "الإحسان إلَّا الإحسانُ، فكان اعتقادُ نَزْع الاستفهام منها أسهلَ من اعتقادِ نزعه من "أَمْ"، فأمّا قول الشاعر [من البسيط]: 511 - أَمْ كيف يَنْفَعُ ما تُعْطِي العَلُوقُ به ... رِئْمانَ أَنْفٍ إذا ما ضُنَّ باللبَن ¬
فإنه ينبغي أن يُعتقد نَزْعُ دليل الاستفهام من "أَمْ"، وقَصْرُها على العطف لا غيرُ، ألا ترى أنّا لو نزعنا الاستفهام من "كَيْفَ"، للزم إعرابُها كما أُعربتْ "مَنْ" في هذا الوجه، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: ومنهم من لا يزيد إذا وَقَفَ على الأحرف الثلاثة، وَحَّدَ، أم ثَنى، أم أنثَ، أم جَمَعَ. * * * قال الشارح: قوم من العرب لا يحكون إلَّا الإعرابَ لا غيرُ، فيقولون في الرفع: "مَنُو"، وفي النصب: "مَنَا"، وفي الجرّ: "منِي"، سَواءٌ في ذلك الواحدُ، والاثنان، والجمع، والمذكر، والمؤنث. حكى سيبويه (¬1) عن يونس أن قومًا من العرب يقولون ذلك، وكأنّ الذين يقولونه اكتفوا بما ضمّنوه من علامات الإعراب، ويُجْرون "مَنْ" على أصلها من كونها تصلُح للواحد، والاثنين، والجمع بلفظ الواحد المذكر، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وأما المعرفة، فمذهبُ أهلِ الحجاز فيه إذا كان عَلَمًا أن يَحْكِيَه المستفهِمُ كما نُطق به، فيقولَ لمَن قال: "جاءني زيدٌ": "من زيدٌ؟ "، ولمَن قال: "رأيت زيدًا": "من زيدًا؟ " ولمَن قال: "مررت بزيد": "مَن زيد؟ "، وإذا كان غيرَ عَلَم رَفَعَ لا غيرُ، يقول لمَن قال: "رأيت الرجلَ" "مَنِ الرجلُ؟ " ومذهبُ بني تَميم أن يرفعوا في المعرفة ألبَتةَ. * * * قال الشارح: قد اختلف العربُ في الاسم المعروف، فذهب أهلُ الحجاز إلى حكايةِ لفظه، وهي أن يجري الاسمُ على إعراب الاسم المتقدّم ذكرُه، فإذا قال الرجل لرجلِ: "جاءني زيدٌ"، قلت في جوابه متثبتًا: "من زيدٌ؟ "، وإذا قال: "رأيت زيدًا"، قلت: "من زيدًا؟ " وإذا قال: "مررت بزيدٍ"، قلت: "مَن زيد؟ " و"إنما يفعلون ذلك في العَلَم خاصة. وأما بنو تميم، فيرفعون على كل حال، ويقولون: "من زيدٌ؟ " بالرفع لا ¬
غيرُ، سواء قالوا: "جاءني زيد" أو "رأيت زيدًا"، أو"مررت بزيد". فأمّا أهلُ الحجاز، فتَحرزوا بالحكاية لِما قد يعرِض في العَلَم من التنكير بالمشاركة في الاسم، فجاؤوا بلفظه، لئلا يتوهم المسؤولُ أنّه يُسأل عن غيرِ مَن ذَكَرَه من الأعلام، وخصّوا الأعلامَ بذلك لكثرة دَوْرها وسعةِ استعمالها في الإخبارات، والمعامَلات، ونحوهما, ولأنّ الحكاية ضربٌ من التغيير، إذ كان فيها عدولٌ عن مقتضَى عمل العامل، والأعلامُ مخصوصةٌ بالتغيير. ألا ترى أنهم قالوا: "رجاء بن حَيْوَةَ"، وقالوا: "مَحْبَب"، و"مَكْوَزةُ"؟ وساغ فيها الترخيمُ دون غيرها من الأسماء؛ لأنها في أصلها مغيرةٌ بنَقْلها إلى العَلَمية، والتغييرُ يُؤْنِس بالتغيير. ووجهٌ ثانٍ أن الأعلام إنما سوغوا الحكايةَ فيها لما تَوهموه من تنكيرها، ووُجودِ التزاحم لها في الاسم، فجاؤوا بالحكاية لإزالةِ توهمِ ذلك. وهذا المعنى ليس موجودًا في غيرها من المعارف؛ لأنه لا يصح اعتقادُ التنكير فيما فيه الألفُ واللام مع وجودهما, ولا فيما هو مضاف مع وجودِ الإضافة، وكذلك سائرُ المعارف. وكان يونسُ (¬1) يُجْرِي الحكاية في جميع المعارف، ويرى بابَها، وبابَ الأعلام واحدًا. وحكى سيبويه (¬2) عن بعض العرب: "دَعْنا مِن تَمْرتانِ" كأنه قال: "ما عنده تمرتان"، فحكى قوله. وقال: سمعتُ عربيًا يقول لرجل سأله: "أليس قُرَشيا"؟ فقال: "ليس بقُرَشيًا"، حكايةٌ لقوله. فعلى هذا، إذا قال: "رأيتُ أخا زيدٍ"، جاز أن يقول: "من أخا زيدٍ". وليس ذلك بالمختار، والوجه الرفع في جميع المعارف ما خلا الأعلام، نحوُ قولك في جواب "جاءني أخو زيدٍ": "من أخو زيد؟ " و"رأيت أخا زيد": "من أخو زيد؟ "، و"مررت بأخي زيد": "من أخو زيد؟ "، وكذلك باقي المعارف. فإن قيل: إذا كان الغرض من حكاية العَلَم إزالةَ توهم أن الاسم الثاني غير الأول، فهلّا زادوا على "من" زيادة تُنْبِىء عن حالِ الاسم المذكور، فيُعْلَمَ أنّه المراد دون غيره، كما فعل بالنكرة حيث قالوا: "مَنُو"، و"مَنَا"، و"مَنِي". قيل: كان القياس في النكرة الحكايةَ كالعَلَم لِما ذكرناه، غير أن إعادةَ لفظ النكرة، لم تجز؛ لأنه يلزم فيها، إذا أُعيدت، إدخالُ الألف واللام فيها؛ لأنها تصير معهودة، نحو قولك: "جاءني رجلٌ"، و"فعل الرجل كذا". وإذا أُدخل عليه الألف واللام، لم تمكن إعادةُ لفظ الأول، فلمّا لم تسغ الحكايةُ في النكرة، عدلوا إلى ما فعلوه من زيادة على لفظ "مَنْ" لتنوبَ منابَ الحكاية. وأمّا العَلَمُ المعرفة، فلا يلزم فيه ما لزم في النكرة من الإتيان بالألف واللام لتعرفه، فساغت منه الحكايةُ. ¬
وأمْ بنو تميم، فإنهم جروا في ذلك على القياس في غيرِ هذا الباب، إذ لا خلافَ أن مستفهِمًا لو ابتدأ السؤالَ، لقال: "من زيدٌ؟ " فـ "مَنْ" مبتدأٌ، و"زيدٌ" الخبر، أو"زيد" مبتدأ، و"من" الخبر. فكذلك إذا وقع السؤال جوابًا لا فَرْقَ بينهما, ولأن الحكاية إنّما كانت في النكرة لتُنْبِىءَ أنّ الاستفهام إنما كان عن الاسم المتقدّم، لا عن غيره ممّا يُشارِكه في اسمه، وليس هذا المعنى في المعرفة، فكان منزلةُ بني تميم منزلةَ من أتى بالكلام من غيرِ تأكيد، نحو قولك: "أتاني القومُ". ومنزلةُ أهل الحجاز منزلةَ من أتى بالتأكيد، نحو قولك: "أتاني القومُ كلهم"؛ لأن التأكيد يُزيل توهُّمَ اللبس كما تُزيله الحكاية. فإن جئت مع "مَنْ" بواوِ عطف، أو فاء، نحو قولك: "فَمَنْ"، أو"وَمَنْ"؛ لم يكن فيما بعده إلَّا الرفعُ، وبطلت الحكايةُ، وذلك قولك إذا قال القائل: "رأيت زيدًا": "وَمَنْ زيدٌ" أو"فمَنْ زيدٌ؟ " وإنما كان كذلك من قِبَل أنك لمّا أتيتَ بحرف العطف، علم المسؤولُ أنّك تعطِف على كلامه، وتنحو نحوه، فاستغنيتَ عن الحكاية، فاعرفه. قال صاحب الكتاب: لماذا استُفهم عن صفةِ العَلَم، قيل إذا قال: "جاءني زيدٌ": "المَني"، أي: الْقُرَشِي، أم الثقَفِي، و"المَنِيّتانْ"، و"المَنِيونْ". * * * قال الشارح: قد يحتاج الإنسان إلى معرفةِ نَسَب مَنْ يُذكَر له، وإن كان معروفَ العين عنده. فإذا أراد ذلك، أدخل الألفَ واللام على "مَنْ" من أولها، وأتى بياء النسب من آخِرها، وأعربها بإعرابِ الاسم المسؤول عنه، فإذا قال: "جاءني زيدٌ"، قال: "المَنِي؟ " وإذا قال: "رأيت زيدًا" قال: "المَنِي؟ " وإذا قال: "مررت بزيد"، قال: "المَنِي؟ " كأنه قال: "الثقَفي، أم القُرَشي؟ "، وإذا قال: "جاءني الزيدان"، قلت: "المَنِيانْ؟ " وفي النصب والجرّ: "المَنِيين؟ " فجئت بـ "مَنْ"؛ لأن "مَنْ " يُسأل بها عن الرجل المنسوب، أو الموصوف، وأمّا علامةُ النسب التي هي الياء، فلِيُعْلَمَ أنه يُسأل عنه منسوبًا، وأمّا الألفُ واللام. فلأنه إنما يُسأل عن صفةٍ العبارةُ عنها بالألف واللام. ولو صرحتَ مكان "المَنى" بـ "الثقفي"، أو"القرشي"، لكان إعرابُه إعرابَ "المنيّ" على حسبِ الاسم المتقدّم. ويجوز رفعُه ألبتّة على إضمارِ مبتدأ، تقديره: "أهو الثقفي، أو القرشي؟ " كما إذا قيل: "كيف أنتَ؟ " قلت: "صالحٌ"، أي: "أنا صالحٌ". ولا يحسن أن يقع في جوابِ "المني" غيرُ النسب إلى الأب، نحو: "الثقفي"، و"القرشيّ"، ولا يحسن "البصري" أو"المكّي"؛ لأن أكثرَ أغراض العرب في المسألة عن الأنساب (¬1). وحُكي عن المبرد أنه سُئل عن الرجل يقولُ: "رأيت زيدًا"، فأردتَ أن تسأله عن صفته، ¬
فصل [أوجه "أي"]
فقال: أقول: "المني" كأني أقوله: "الظريفيّ" أو"العالمي"، فعلى هذا يجوز في كل صفة. والأول أكثرُ، فعلى هذا لو قيل: "رأيت لاحِقًا"، وأريد البعير، وأردتَ أن تسأله عن صفته، فالقياسُ أن تقول: "المائِي؟ "، أو"الماوِيَّ؟ " لأنّ "ما" تختص بما لا يعقل، فاعرفه. فصل [أوجه "أي"] قال صاحب الكتاب: و"أي" كـ "من" في وجوهها, تقول مستفهماً: "أيهم حضر؟ " ومجازياً "أيهم يأتني أكرمه"، وواصلاً: "أضرب أيهم أفضل"، وواصفاً: "يا أيها الرجل". وهي عند سيبويه (¬1) مبنية على الضم إذا وقعت صلتها محذوفة الصدر, كما وقعت في قوله تعالى: {ثم لننزعن من كل شيعة أيهم أشد علي الرحمن عتيا} (¬2). وأنشد أبو عمر الشيباني في كتاب الحروف [من المتقارب]: إذا ما أتيت بني مالك ... فسلم على أيهم أفضل (¬3) فإذا كملت, فالنصب كقولهم: "عرفت أيهم هو في الدار", وقد قريء: {أيهم أشد} (¬4). * * * قال الشارح: قد تقدم القول على "أي"، وأن معناها تبعيضُ ما أضيفت إليه، ولذلك لزمتْها الإضافةُ. وأقسامُها كأقسامِ "مَنْ" في وجوهها، وهي أربعة أقسام: تكون استفهامًا، وجزاءً، وموصولةً، وموصوفةً. فإذا كانت استفهامًا، أو جزاء، كانت تامّةً لا تحتاج إلى صلةِ. وتكون مرفوعة ومنصوبة ومجرورة. فرفعها بالابتداء لا غيرُ، ونصبها بما بعدها من العوامل، ولا يعمل فيها ما قبلها, لأن الاستفهام والجزاء لهما صدر الكلام. فمثالُ الاستفهام "أيهم حضر؟ " و"أيهم يأتيني؟ " فـ "أيٌّ" هنا اسم تام لا يفتقر إلى صلةٍ, وهو رفعٌ بالابتداء، وما بعده الخبرُ، قال الله تعالى: {أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا} (¬5). وتقول: "أيهم تضرب؟ " فـ "أي" نصبٌ بما بعده. قال الله، تعالى: {أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (¬6) فـ "أي" نصب بـ "ينقلبون" لا بما قبله. ¬
فصل [الاستفهام بـ "أي" عن نكرة في وصل]
ومثالهم إذا كانت جزاء "أيُّهم يأتني أُكْرِمْهُ" و"أيهم تُكْرِمْ أُكْرِمْه" فـ "أيٌّ" نصب بما بعده من الفعل، قال الله تعالى: {أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1) فـ "أَيا" نصبٌ بـ "تدعوا"، و"ما" زائدةٌ. وإذا كانت موصولة، احتاجت إلى وَصْلها بكلام بعدها يُتمُّها، وتصير اسمًا به كاحتياج "الذِي" و"مَنْ"، و"ما"، إذا كانا بمعنى "الّذي". ويعمل فيها ما قبلها، وما بعدها، كما يعمل في "الذي"، وقد تقدم الكلام على ذلك مستقصى في الموصولات. وأمّا كونُها موصوفة، ففي النداء خاصّة، إذا أردت نداء ما فيه الألفُ واللام، فتجيءُ بها مجرَّدة من معنى الاستفهام، وتجعلها وُصْلةٌ إلى نداء ما فيه الألفُ واللام، وذلك نحو قولك: "يا أيُّهَا الرجلُ"، "يا أيها الغلامُ"، وهو كثير في الكتاب العزيز، نحو: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬2)؛ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} (¬3) ولزمتها هاء التنبيه كالعِوَض من المضاف إليه، فـ "أيٌّ" مُنادَى مضمومٌ كـ"يَا زيدُ"، و"هَا" للتنبيه، وما بعده صفةٌ له، وقد تقدّم ذلك في النداء. فصل [الاستفهام بـ "أيّ" عن نكرة في وصل] قال صاحب الكتاب: وإذا استفهم بها عن نكرة في وصل, قيل لمن يقول: "جاءني رجل": "أي؟ " بالرفع، ولمن يقول: "رأيت رجلاً": "أياً؟ " ولمن يقول: "مررت برجل": "أي؟ " وفي التثنية والجمع في الأحوال الثلاث, "أيان؟ " و"أيون؟ " و"أيينِ؟ " و"أيينَ؟ " وفي المؤنث "أيةٌ؟ " وأما في الوقف, فإسقاط التنوين وتسكين النون. * * * سبيلُ "أي" في الاستثبات سبيلُ "مَنْ"، وكان الأصلُ إذا قال القائل: "رأيت رجلًا"، أن تقول: "أي الرجلُ؟ " لأنّ النكرة إذا أُعيدت، عُرّفت بالألف واللام؛ لأنّها تصير معهودة بتقديم ذكرها، فاقتصروا على "أي"، وأعربوه بإعرابِ الاسم المتقدّم، وحكوا إعرابَه، وتثنيتَه، وجمعَه إن كان مثنى، أو مجموعًا، ليُعْلِموا بذلك أنه المقصود دون غيره. فإذا قال: "جاءني رجل" قلت: "أي؟ " وإذا قال: "رأيت رجلًا"، قلت: "أيا؟ " وإذا قال: "مررت برجلٍ"، قلت: "أي؟ " وإذا قال: "جاءني رجلان" قلت: "أيانِ؟ " وفي النصب والجرّ: "أَيينِ؟ " وإذا قال: "رجال"، قلت: "أيُّونَ؟ " وفي النصب والجرّ: ¬
"أيينَ؟ " وإذا قال: "جاءتْني امرأة"، قلت: "أيةٌ؟ " وإذا قال: "امرأتان"، أو"امرأتَيْنِ"، قلت: "أيتَانِ؟ " أو"أيتَيْنِ؟ " وإن قال: "جاءني نساءٌ"، قلت: "أيَّاتٌ؟ " وكان ذلك أخصرَ وأوجزَ من أن يأتوا بزيادةِ الألف واللام والجملةِ بأسرها مع حصولِ المقصود بدُونها. وربما وقع عند ظهور الخبر بالألف واللام في الخبر لبسٌ بأن المذكور معهود غيرُ الأوّل. قال أبو العبّاس المبرد: لو ذكرتَ الخبر، وأظهرتَه، لم تكن "أيٌّ" إلَّا مرفوعة، نحوَ قولك: "أي مَن ذكرتَ؟ " أو"أي هؤلاء؟ " ولم تحسن الحكايةُ؛ لأنّ الخبر إذا ظهر، عُلم أن المتقدِّم مبتدأ، فقبُح مخالَفةُ ما يقتضيه إعرابُ المبتدأ. ألا ترى أنّهم قد أجازوا الحكايةَ بـ "مَنْ" في العَلَم، فقالوا في جواب من قال: "رأيت زيدًا": "مَن زيدًا؟ " لعدمِ ظهور الإعراب في "مَنْ". ولم يفعلوا ذلك مَع "أي"، لظهور الإعراب فيها، فاستقبحوا مخالَفةَ ما يقتضيه ظاهرُ اللفظ، وكذلك ورد عنهم: "إِنّهم أجمعون ذاهبون"، برفعِ "أجمعين" على الموضع، لما لم يظهر في المكنِي الإعرابُ، ولم يُجيزوا: "إنّ القومَ أجمعون ذاهبون" على الموضع، لظهور الإعراب في "القوم". واعلم أنّ "أيا" لما كانت مخالِفةَ لـ"مَنْ" من جهةِ أنّ "أيا" معربةٌ، و"مَنْ" مبنيّة، كان ما يلحق "أيا" إعرابًا يثبت وصلًا، ويُحذَف وقفًا، ويُبدَل في الوقف من تنوينه في النصب ألفٌ. ولمّا كانت "مَنْ" مبنيّةٌ، لم يكن ما يلحقها إعرابًا، وإنّما هو علاماتٌ ودلالاتٌ على المسؤول عنه، ولذلك كان بابُه الوقفَ، ويُحذف في الوصل، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: ومحله الرفع على الإبتداء في هذه الأحوال كلها وما في لفظه من الرفع والنصب والجر حكاية وكذلك قولك: "من زيدٌ؟ " و"من زيداً؟ " و"من زيدٍ؟ " "من" والاسم بعده مرفوعًا المحل, مبتدأ وخبراً. ويجوز إفراده على كل حال, وأن يقال: "أياً؟ " لمن قال: "رأيت رجلين" أو"أمرأتين" أو "رجالاً" أو "نساءً"، ويقال في المعرفة إذا قال: "رأيت عبد الله", "أي عبد الله؟ " لا غير. * * * قال الشارح: اعلم أنّك إذا حكيت، وقلت "أيا؟ " في جواب "رأيتُ رجلًا"، فـ "أيا" في محل مرفوع بالابتداء، والخبرُ محذوف، والتقديرُ: إلا مَن ذَكرتَ؟ أو أيا المذكور؟ ويجوز أن يكون خبرَ ابتداء، والمحذوفُ هو المبتدأ، والنصبُ في لفظه على حكايةِ إعرابِ الاسم المتقدّم. كما أنّك إذا حكيتَ بـ "مَنْ" عن العَلَم، فقلت في جوابِ من قال: "رأيت زيدًا": "مَن زيدًا؟ " يكون "زيدًا" في موضعِ رفع بأنّه خبرُ المبتدأ، وإن كان منصوبًا على الحكاية. كذلك إذا قلت: "أيا؟ " كان في موضعِ مرفوع، وإن كان منصوبًا في اللفظ على الحكاية، وكذلك الجرُّ إذا قلت: "أي؟ " في جوابِ "مررت برجلٍ" في موضعِ رفع
فصل ["ذا" بمعني "الذي"]
بالابتداء، وخفضُه حكايةُ إعراب الاسم المتقدّم. وإذا قيل: "جاءني رجلٌ"، قلت "أيّ؟ " فرفعت فالرفعُ على الحكاية؛ لأنك إنما تستفهم عمّا وضع المتكلّمُ كلامَه عليه، وليس الرفع الذي يُوجِبه الابتداءُ، إنما هو في محلِّ مبتدأ. ويجوز أن يُقال "أيًا؟ " لِمَن قال: "رأيت رجلَيْن أو امرأتَيْن أو رجالًا أو نساءً"، فتُفْرِدها مع الاثنين والجماعة، وتُذكِّرها مع المؤنّث؛ لأنّ لفظَ "أي" يجوز أن يقع للاثنين والجماعة على لفظ الواحد، ويقع على المؤنث بلفظِ المذكّر، كما كانت "مَنْ" كذلك. فإذا استثبتَ بـ "أي" عن معرفة، لم يكن بد من الإتيان بالخبر، وبطلت الحكايةُ، فإذا قال "جاءني عبدُ الله"، قلت: "أيٌّ عبدُ الله؟ "، وإذا قال: "رأيت عبد الله"، قلت: "أيٌّ عبدُ الله؟ "، وإذا قال: "مررت بعبد الله"، قلت: "أيّ عبدُ الله؟ " بالرفع لا غيرُ. لم يكتفوا في المعرفة إلَّا بذكرِ الاسم والخبر، وفصلوا بين المعرفة والنكرة لاختلافِ حالَيْهما في السؤال. وذلك أن السؤال في النكرة، إنّما هو عن ذاتها، وفي المعرفهَ إنما هو عن صفتها. فإذا سألت عن منكورٍ، فإنما سألت عن شائع في الجنس، لِيخُصه لك باللقب أو بغيره من المُعرِّفات، وإذا سألت عن معرفة، فإنّما سألت عن معروفٍ وقع فيه اشتراك عارض، فأردت أن يخُصّه لك بالنعت، فإذا قال: "جاءني عبد الله"، قلت: "أيٌّ عبدُ الله؟ " فالجوابُ: "الطويلُ"، أو"العالمُ"، ونحوهما من الصفات المميزة ممّن له مثلُ اسمه، فلما كان الجوابُ بالنعت، لم يكن بد من ذكرِ المنعوت، فاعرفه. فصل ["ذا" بمعني "الذي"] قال صاحب الكتاب: ولم يثبت سيبويه "ذا" بمعنى "الذي" إلا في قولهم: "ماذا", وقد أثبته الكوفيون, وأنشدوا [من الطويل]: عدس ما لعباد عليك إمارة ... أمنت وهذا تحملين طليق (¬1) أي: و"الذي تحملينه طليق", وهذا شاذ عند البصريين. وذكر سيبويه (¬2) في "ماذا صنعت؟ "وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى أي شيء الذي صنعته وجوابه حسن بالرفع وأنشد للبيد [من الطويل]: ألا تسألان المرء ماذا يحاول ... أنحب فيقضي أم ضلال وباطل (¬3) ¬
والثاني أن يكون "ماذا" كما هو بمنزلة اسم واحد, كأنه قيل: "أي شيء صنعت؟ " وجوابه بالنصب, وقرىء قوله تعالى: {ماذا ينفقون قل العفو} (¬1) بالرفع والنصب. * * * قال الشارح: قد تقدم القول في "ذَا" من قولك "مَاذَا صنعتَ؟ " أنّها تكون على وجهَيْن: أحدُهما: أن تكون بمعنَى "الذِي" وما بعده من الفعل والفاعل صلتُه، وهو في موضعِ مرفوع, لأنّه خبرُ المبتدأ الذي هو"مَا". والوجهُ الثاني: أن يكون "مَا"، و"ذَا" جميعًا اسماً واحدًا، يُستفهم به بمعنَى "مَا"، وموضعُه نصبٌ بالفعل بعده، وقد مضى مشروحًا. فأمّا البيت الذي أنشده وهو [من الطويل]: ألا تسألان ... إلخ البيت للَبِيد، والشاهد فيه رفعُ "أنَحْبٌ" و"ضَلالٌ" على البدل من "مَا"، فدل ذلك على أن "ذَا" في موضع رفع بأنه خبرُ "مَا"، وهو بمعنَى "الذي"، وما بعده صلتُه. والنَّحبُ: النذُرُ، يُقال: "سار فلانٌ على نَحْبٍ" إذا سار فأجْهَدَ السيرَ، كأنه خاطَرَ على شيء، فجَدَّ في السير، كأنه يُعنِّف الإنسانَ على جِدّه في أمر الدنيا وتَعَبِه لها، أي يفعل ذلك لنذرٍ يقضيه، أم لضلالٍ وأمرٍ باطلٍ. ولا يكون "ذَا" ولا شيءٌ من أسماء الإشارة موصولًا عند البصريين، إلَّا فيما ذكرناه من "ذا" إذا كان معها "مَا". وذهب الكوفيون (¬2) إلى أن جميعَ أسماء الإشارة يجوز أن تقع موصولة، وإن لم يكن معها "مَا"، واحتجّوا بأشياء، منها قولُه تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (¬3). ومن ذلك ما قاله ثَعْلَب في قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} (¬4) أن هؤلاء بمعنى "الذين"، والمراد: الّذين تقتلون أنفسكم. ومن ذلك قوله [من الطويل]: عَدَس ما لعباد ... إلخ ¬
البيت ليزيد بن مُفزغ، والشاهدُ فيه قوله: وهذا تحملين، جعل "هذَا" بمعنَى "الذي" موصولًا، و"تحملين" صلتَه، أي: والذي تحملينهُ طليقٌ. يصف أمْنَه بخُروجه عن ولايةِ عَبّادٍ، ويخاطب بَغلتَه، فقولُه: "عَدَسْ" زَجْرٌ للبغلة، كأنّه زجرها، ثم قال: ما لعبّادَ عليك إمارةٌ، أمنتِ. ويجوز أن يكون "عدس" اسمًا للبغلة نفسِها، سُميت بذلك؛ لأنه ممْا تُزجَر به، كما قال [من الرجز]: 512 - إذا حَمَلْتُ بِزتي على عَدَسْ والصواب ما ذهب إليه أصحابُنا. وما تَعلقوا به لا حجّةَ فيه، فأمّا قوله تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} (¬1) فالجارُّ والمجرور في موضع الحال، و"مَا" استفهامٌ في موضعِ رفع بالابتداء، و"تِلْكَ" الخبرُ، كما يكون الجار والمجرور صفةً إذا وقع بعد نكرة، نحوَ: "هذه عَصا بيَمِينك". وصفةُ النكرة تكون حالًا للمعرفة. وكذلك "تحملين" من قوله: "وهذا تحملين طليقُ"، فـ "هذَا" مبتدأ، و"طليق" الخبرُ، و"تحملين" في موضع الحال، والتقديرُ: هذا محمولًا طليقٌ. وأمّا قوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} (¬2)، فـ "أنْتم" مبتدأ، و"هؤلاء" الخبر، و"تقتلون أنفسكم" في موضع الحال، التقديرُ: ثم أنتم هؤلاء قاتِلِينَ أنفسَكم. وذهب أبو العباس المبرّد إلى أنّ "هؤلاء" مُنادى، والتقدير: يا هؤلاء، فهو في موضعِ اسم مضموم، و"أنْتُم" مبتدأ، والخبرُ "تقتلون". ولو كان تقديرُ "هؤلاء الَّذين" كما ذهبوا إليه، لكان "تقتلون" بلفظِ الغيبة؛ لأنّ "الَّذي" اسمٌ ظاهر موضوع للغيبة. هذا هو الاْكثرُ، وربما جاء لا بلفظ الغيبة حملًا على المعنى دون اللفظ، نحوَ قوله [من الكامل]: 513 - وأنا الذي قتلتُ بَكْرًا بِالقَنَا ... وتركتُ مُرَّةَ غيرَ ذاتِ سَنامِ ¬
وهو قليلٌ من قبيلِ الشاذّ، فاعرفه. ¬
شرح المفصل للزمخشري تأليف موفق الدين أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش الموصلي المتوفي سنة 643هـ قدم له ووضع هوامشه وفهارسه الدكتور إميل بديع يعقوب الجزء الثالث منشورات محمد علي بيضون لنشر الكتب السنة والجماعة دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
دار الكتب العلمية جميع الحقوق محفوظة جميع حقوق الملكية الأدبية والفنية محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنفيذ الكتاب كاملا أو مجزأ أو تسجيله علي أشرطة كاسيت أو إدخاله علي الكمبيوتر أو برمجته علي اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطيا. الطبعة الأولي 1422هـ - 2001م دار الكتب العلمية بيروت - لبنان رمل الظريف- شارع البحتري - بناية ملكارت هاتف وفاكس: 364398 - 366135 - 378572 (9611) صندوق بريد: 9434 - 11 بيروت - لبنان
أسماء الأفعال والأصوات
بسم الله الرحمن الرحيم أسماءُ الأفعال والأصوات فصل [نوعا أسماء الأفعال] قال صاحب الكتاب: هي على ضربين ضرب لتسمية الأوامر وضرب لتسمية الأخبار, والغلبة للأول وهو ينقسم إلى متعد للمأمور, وغير متعد له. فالمعتدي نحو قولك: "رويداً زيداً", أي: أروده ,وأمهله. ويقال: "تيد زيداً" بمعنى رويد, و"هلم زيداً", أي قربه, وأحضره, و"هات الشيء" أي: أعطنيه, قال تعالى: {قل هاتوا برهانكم} (¬1). و"ها زيداً", أي خذه, و"حيهل الثريد", أي: إيته, و"بله زيداً" أي: دعه, و"تراكها" و"مناعها" أي: "اتركها" و"امنعها", و"عليك زيداً" أي: الزمه, و"علي زيدًا" أي: أولنيه. * * * قال الشارح: اعلم أن معنَى قول النحويين: "أسماءُ الأفعال" المرادُ به أنها وُضعت لتدل على صِيَغِ الأفعال، كما تدل الأسماءُ على مُسمَّياتها، فقولُنا: "بَعُدَ" دالٌ على ما تحته من المعنى، وهو خِلاف القُرب. وقولُك: "هَيْهَاتَ" اسم للفظِ "بَعُدَ" " دال عليه، وكذلك سائرها. والغرض منها الإيجاز والاختصار، ونوعٌ من المبالغة، ولولا ذلك، لكانت الأفعالُ التي هذه الألفاظُ أسماءٌ لها، أوْلى بموضعها. ووجهُ الاختصار فيها مجيئُها للواحد والواحدة، والتثنية والجمعِ بلفظ واحد وصورةِ واحدةِ، ألا ترى أنك تقول في الأمر للواحد: "صَهْ يا زيد"، وفي الاثنين: "صَهْ يا زيدان"، وفي الجماعة: "صَه يا زيدون"، وفي الواحدة: "صَه يا هِندُ"، و"صَة يا هندان"، و"صَه يا هنداتُ"، ولو جئت بمُسَمَى هذه اللفظة، وهو "اسكُت"، و"اسكتا" للاثنين، و"اسكتوا" للجماعة، و"اسكتي"، للواحدة المخاطبة، و"اسكتنَ" لجماعة المؤنث؟ فتَرْكهم إظهارَ علامةِ التأنيث والتثنية والجمع مع أن في كل واحد من هذه الأسماء ضميرًا للمأمور، والمَنهيّ بحكم مشابهةِ الفعل، ونِيابتِه عنه دليلٌ على ما قلناه من قصدِ الإيجاز والاختصار. وأما المبالَغة، فإنّ ¬
قولنا: "صَهْ" أبلغُ في المعنى من "اسْكُتْ"، وكذلك البَواقي. واعلم أن هذه الأسماء، وإن كان فيها ضميرٌ تستقِل به، فليس ذلك على حدّه في الفعل، ما فيها ألا ترى الفعل يصير بما فيه من الضمير جملةً، وليست هذه الأسماءُ كذلك، بل هي مع ما فيها من الضمير أسماءٌ مفردةٌ على حدّه في اسم الفاعل، واسم المفعول والظرفِ؟ والذي يدل على أن هذه الألفاظ أسماء مفردة إسنادُ الفعل إليها. قالَ زُهَيْر [من الكامل]: 514 - ولَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنْتَ إذا ... دُعِيَتْ نَزالِ ولُجَّ في الذعْرِ فلو كانت "نَزالِ" بما فيها من الضمير جملة، لَما جاز إسنادُ "دُعِيَتْ" إليها من حيث كانت الجمل لا يصح كونُ شيء منها فاعلًا. وإنما لم يصحّ أن تكون الجملةُ فاعلًا؛ لأنّ الفاعل يصحّ إضمارُه، والجملة لا يصحّ إضمارها؛ لأن المضمر لا يكون إلَّا معرفةً، والجمل ممّا لا يصح تعريفُها من حيث كانت معاني الجمل مستفادة. ولو كانت معرفة، لم تكن مستفادةً، فلما تَدافع الأمران فيها (¬1) وتَنافيا، لم يجتمعا. والذي يدلّ أن هذه الألفاظ أسماءٌ أُمورٌ: الأوّل منها: جوازُ كونها فاعلةٌ ومفعولةٌ، فمن الفاعل ما ذكرناه من إسنادِ الفعل ¬
إليها في قوله: "إذا دعيتْ نزال"، والفعلُ لا يُسنَد إلَّا إلى اسم مَحْض. ومن المفعول قُولُ الآخَر [من الكامل]: 515 - فدَعَوْا نَزالِ فكُنْت أوّلَ نَازِلٍ ... وعَلَامَ أرْكَبُهُ إذا لم أنْزِلِ فإن قيل: فقد قال الشاعر [من الطويل]: 516 - وما راعَنِي إلَّا يَسِيرُ بشُرْطَةٍ ... وعَهْدِي به قَيْنًا يَفُشُّ بِكِيرِ ¬
فجعل "يسير" فاعلًا، وهو فعل مضارعٌ، وقال جَمِيل [من الطويل]: 517 - جَزِعْتُ حِذارَ البَيْنِ يومَ تَحَمَّلُوا ... وحُقَّ لِمثْلِي يا بُثَيْنَةُ يَجْزَعُ فأسند "حُقَّ" إلى "يجزع" وهو فعلٌ، قيل: إن مراده ها هنا معنى الفعلَيْن، والتقديرُ: "أن يسيرَ" و"أن يجزعَ". فالفعلُ فيهما مسند إلى المصدر المنوي، لا إلى الفعل؛ لأن "أن" والفعلَ مصدرٌ. والمرادُ: وما راعني إلَّا سَيْرُه، وحُق لمثلي الجَزَعُ. وقد اطّرد حذفُ "أن" وإرادتُها نحوُ قوله [من الطويل]: ألَا أيهَذا الزاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى ... وأن أشْهَدَ اللذاتِ هل أنتَ مُخْلِدِي (¬1) والمراد "أن أحضرَ" فلما حُذف "أنْ" ارتفع الفعل، وإن كانت مرادة. ومثلُه قوله [من الوافر]: فقالوا: ما تَشاءُ فقلتُ: ألْهُو (¬2) ¬
والمراد: أن ألْهُوَ، أي اللهْوَ. والثاني: حكايةُ بنائه إذا نُقل إلى العَلَمية، وسُمّي به، وفي آخِره الراءُ، فإنه يجتمع القبيلان: بنو تميم وأهل الحجاز علي بنائه، نحوِ قولك: "حَضارِ"، و"سَفارِ"، فحالُه بعد التسمية كحاله قبل التسمية في بنائه؛ لأنه اسمٌ نُقل فبقي علي بنائه، ولم يُعرَب. ولو كان فعلًا، لوجب إذا نُقل إلى العلمية أن يُعرب، نحوَ: "كَعْسَبَ"، و"تَغْلِبَ"، و"اضرب". فإن قيل: فهلّا كان إعرابُ بني تميم من ذلك في التسمية ما لم يكن آخرُه راءً، نحوَ: "نَزالِ"، و"دَراكِ" دليلًا على أنّه فعل. قيل: لا يدلّ ذلك على كونه فعلًا؛ لأنهم أجروا ذلك مُجْرَى "أيْنَ"، و"كَيْفَ"، و"كَمْ" إذا سُمّي به، وإجماعُهم مع الحجازيين على بناءِ ما كان آخره راءٌ بعد التسمية به دلالةٌ على أنّه اسمٌ عندهم. الثالث: إنّه يُنون فَرْقا بين المعرفة والنكرة، وذلك إذا قلت: "صَهْ"، كان معرفة، وإذا قلت: "صَهٍ"، كان نكرة، والتعريفُ من خصائص الأسماء، ويؤيّد ما قلناه جُمودُها، وعدمُ تصرّفها. فإن قيل: هذه تعمل عملَ الأفعال، وتُفيد فائدةَ الأفعال من الأمر والنهي والزمان الخاص، ألا تراك إذا قلت: "هَيْهاتَ"، فهمتَ البُعدَ في زمانٍ ماضٍ، وهذه دلالةُ الفعل، فهلاّ قلت: إنها أفعالٌ، وتكون من قبيل الألفاظ المترادِفة، فـ "صَهْ"، و"اسْكُتْ" بمنزلةِ: "ذَهَبَ"، و"مَضَى"، و"قَعَدَ"، و"جَلَسَ". قيل: قد تقدّمت الدلالةُ على اسميةِ هذه الكِلَم بما فيه مَقْنَعٌ، وأمّا إعمالها عملَ الأفعال؛ فللشَبَه الواقع بينها وبين الأفعال، وأمّا دلالتُها على ما تدلّ عليه الأفعال من الأمر والنهي والزمان الخاص؛ فإنّما استُفيد من مدلولها لا منها نفسِها، فإذا قلت: "صَهْ"، دل ذلك على "اسْكُتْ"، والأمرُ مفهوم منه، أي: من المسمى الذي هو "اسكت". و"هَيْهاتَ" اسم، ومسمّاه لفظ آخَر، وهو بعُدَ، فالزمانُ معلومٌ من المسمى لا من الاسم. ولمّا كانت هذه الألفاظ أسماءٌ للأفعال كالأعلام عليها؛ كان فيها كثير من أحكام الأعلام، وذلك أن فيها المرتجَلَ والمنقول والمشتقّ، فالمرتجلُ، نحوُ: "صَهْ"، و"مَهْ"، والمنقول كـ" عَلَيْكَ" و"إلَيْكَ"، و"دُونَكَ"، والمشتقّ كـ" نَزالِ"، و"حَذارِ"، و"بَدادِ". وهذه الأسماء على ضربين كما ذُكر: ضرب لتسمية الأوامر، وضرب لتسمية الأخبار، والغَلَبَةُ للأول. وإنما كان الغالب فيها الأمرَ، لِما ذكرناه من أنّ الغرض بها الإيجاز مع ضرب من المبالغة. وذلك بابُه الأمر؛ لأنه الموضع الذي يُجْتزأ فيه بالإشارة، وقرينةِ حال، أو لفظٍ عن التصريح بلفظ الأمر. ألا ترى أنّك تقول لمَن أشال سَوْطًا، أو سدد سَهْمًا، أو شهر سيفًا: "زيدًا"، أو"عمرًا"، فتستغني بشاهدِ الحال عن أن تقول: "أوْجِعْ "، أو "ارْمِ"، أو"اضْرِبْ". ويكفي من ذلك الإشارةُ وشاهد الحال، وقامت
المخاطبةُ وحُضورُ المأمور مقامَ اللفظ بالأمر. وإذا جاز حذفُ فعل الأمر من غيرِ خَلَفٍ لشاهدِ حالٍ، كان حذفُه لقيام غيره مقامَه أوْلى بالجواز. وليس كذلك الغائب والخبرُ، فلذلك قل استعمالُ هذه الكِلَمَ في الخبر، وكثُر في أمرِ الحاضر. ووجهٌ ثانٍ أنّ الأمر لا يكون إلَّا بالفعل، فلمّا قويت الدلالةُ على الفعل، حسُن حذفُه وإقامةُ الاسم المُناب عنه خَلَفًا منه. ولما كانت هذه الأسماء عِوَضًا عن اللفظ بالفعل ونائبة عنه، أُعملت عَمَلَه، ولما كانت الأفعال التي هي مسمَّياتُ هذه الأسماء، منها ما هو متعد للفاعل متجاوِزٌ له إلى غيره، نحوُ: "خُذ زيدًا" و"الْزَمْ عمرًا"، ومنها ما هو لازم له لا يتجاوزه إلى مفعول، نحوُ: "اسْكُتْ"، و"اكْفُفْ"، كانت هذه الأسماء كذلك على حسبِ مسمياتها، منها ما هو متعد للمأمور، ومنها ما لا يتجاوزه إلى غيره. فمن المتعدى قولُهم: "رُوَيْدَ زيدًا"، أي: أرْوِدْه، وأمْهِلْه، فهو اسمٌ لهذا اللفظ، وهو مشتق من مسماه الذي هو "أرْوِدْ". وأصلُه المصدر الذي هو "إرْوادٌ". وصُغر بحذفِ الزوائد تصغيرَ الترخيم، فقالوا: "رُوَيْد"، كما قالوا: "سُوَيْدٌ" في "أسْوَدُ"، و"زُهَيْرٌ" في "أَزْهَرُ". وقال الفراءُ: "رُوَيْدَ" تصغيرُ "رُودِ"، و"الرُودُ": المَهْل، يُقال: فلانٌ يمشي على رُودٍ، أي: على مهل، قال الشاعر [من البسيط]: 518 - [تكادُ لا تَثلِمُ البطحاءَ وَطْأتُها] ... كأنّها ثَمِلْ يَمْشِي على رُودِ وقالوا: "تَيْدَ زيدًا" في معنَى "رُوَيْدَ زيدًا"، فهو اسمٌ لقولك: "أرْوِدْ"، و"أمْهِلْ"، ¬
وهو مبني لوقوعه موقعَ فعل الأمر، وتضمنِه معنَى لام الأمر. وكان الأصلُ أن يكون ساكنَ الآخِر، إلَّا أنه التقى في آخره ساكنان: الياءُ والدال، ففُتحت الدال لالتقاء الساكنين لثِقَل الكسرة بعد الياء، على حد صَنِيعهم في "رُوَيْدَ"، و"أيْنَ"، و"كَيفَ". وحكى البَغْداديون: "تَيْدَك زيدًا"، ويحتمل أن يكون الكاف اسمًا في موضع خفض، ويكون انتصابُه على المصدر بمنزلهَ: "ضَرْبَ زيدٍ عمرًا". ويجوز أن تكون للخَطاب مُجرَّدة من معنَى الاسميّة بمنزلةِ: "رُوَيْدَك زيدًا". والأقربُ في هذه اللفظة أن تكون مأخوذةً من "التؤَدَة"، الفاءُ واوٌ، أُبدل منها التاءُ، ولزم البدلُ على حد "تَيْقُورٍ" و"تَوْراةٍ"، والعينُ همزة، أُبدلت ياء لضربٍ من التخفيف على غيرِ قياس، كما قالوا في "قَرَأْتُ": "قَرَيْتُ"، وفي "بَدَأْتُ"، "بَدَيْتُ"، وفي "تَوَضأتُ": "تَوَضيْتُ". ومن ذلك "هَلُم زيدًا"، أي: قَربْه، وأحْضِرْه، وليس المراد أنّها دالّة على ما يدل عليه "قربه"، و"أحضره"، وإنما "هَلُم" اسم لهذا اللفظ الذي هو"قَربْ"، و"أَحْضِرْ"، وله موضعٌ يُذكر فيه. ومن ذلك: "هَاتِ الشيءَ"، أي: أعْطِنِيه، وهو اسمٌ لـ "أعْطِني" و"نَاوِلْنِي"، ونحوِهما. وهو مبنِي لوقوعه موقعَ الأمر، وكُسر لالتقاء الساكنين: الألف والتاء، وكأته من لفظِ "هَيْتُ" ومعناه. وقال بعضهم: هو من "آتَى يُؤَاتِي"، والهاءُ فيه بدل من الهمزة، ويُعزَى هذا القول إلى الخليل (¬1)، واستدل على ذلك بتَصْرِيفه، نحوِ قوله [من الرجز]: 519 - لله ما يُعْطي وما يُهاتي من "المُهاتاة" ويُلحِقونه ضميرَ التثنية والجمع لقوة شَبَهِ الفعل. قال الله تعالى: {هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬2). وفي الحديث: "هاتوا ¬
[اسم الفعل غير المتعدي]
رُبعَ عُشورِ أموالكم" (¬1). كما فعلوا ذلك في "هَلُم" حين قالوا: "هلما"، و"هلموا"، وفي "هاءَ" حين قالوا: "هاؤُمَا"، و"هاؤُم". قال الله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} (¬2). ومن ذلك قولهم: "حَيهَلَ الثرِيدَ"، جعلوا "حَيَّ" و"هَلْ" بمنزلةِ شيء واحد، وفتحوهما كـ "خمسةَ عشرَ"، وسمّوا بهما الفعلَ، فـ "حيهل الثريد" بمنزلة: "ايتوا الثريدَ". وقالوا: "بَلْهَ زيدًا"، والمراد: دَعْ زيدًا، وقالوا: "تَرَاكِها"، و"مَنَاعِها"، والمراد: اتْرُكْها، وامْنَعْها. وقالوا: "عَلَيْكَ زيدًا"، أي: الْزَمْه. وقالوا: "عَلَى زيدًا" أي: أوْلِنِيهِ. فهذه كلّها أسماءٌ لِما ذكرناه من الدلالة، وكلّها مُتعدية ضميرَ المأمور إلى المفعول، كما كانت مسمياتُها كذلك، فاعرفه. * * * [اسم الفعل غير المتعدّي] قال صاحب الكتاب: وغيرُ المتعدي نحوُ قولك: "صَهْ"، أي: اسْكُتْ، و"مَهْ"، أي: "كْفُفْ، و"إيهِ"، أي: حَدِّثْ، و"هَيتَ"، و"هَلْ"، أي: أسْرِعْ، و"هَيكَ"، و"هَيْكَ"، و"هَيا"، أي: أَسْرِعْ فيما أنت فيه. قال [من الرجز]: 520 - [لتَقْرَبِن قُرْبَا جُلْذِيا ...... ما دامَ فيهن فصِيلٌ حيّا] فقَدْ دَجَا الليلُ فهَيا هَيَّا ¬
و" نَزالِ"، أي: انزلْ، و" قَدْكَ"، و"قَطْكَ"، أي: "اكْتَف"، و"انْتَه"، و"إلَيْكَ"، أي: تَنَحَّ. وسمع أبو الخَطاب مَن يُقال له: "إليكَ"، فيقول: "إليّ" كأنه قيل: له "تَنَحَّ"، فقال: "أتَنَحى". و"دَعْ"، أي: "انتَعِش"، يُقال: "دَعَا لك", وَ"دعدعا"، و"أمِينَ", و"آمِينَ"، بمعنَى: استَجب. * * * قال الشارح: هذه الألفاظ كلها ممّا سمي به الفعل في حال الأمر، وهي لازمةٌ لا تُجاوِز مأمورَها؛ لأنّها نائبةٌ عن أفعال لازمة غيرِ متعدّية. وإذا كان الأصلُ الذي هو المسمّى لازما، كان الاسمُ الذي هو فرعٌ باللزوم وعدم التعدي أوْلى. فمن ذلك "صَهْ" بمعنَى "اسْكُت"، و"مَهْ" بمعنى "اكْفُف"، و"إيهِ" بمعنى "حَدث"، فكلها أسماءٌ لِما تقدّم بيانُه، وكلها لازمةٌ؛ لأنها اسمٌ لفعلٍ لازمٍ, وكلها مبنيةٌ لوقوعها موقعَ الفعل المبني، وهو الأمرُ. فإن قيل: فعلُ الأمر مختلف في بنائه وإعرابه على ما هو معلومٌ، فما بالُ الإجماع وَقَعَ علي بناءِ هذه الكِلَم؟ قيل: فعلُ الأمر مبني عند المحققين، على أنا نقول: إن وقوعَ هذه الأسماء موضعَ ما أصلُه البناءُ، وجَريَها مجراه في الدلالة سبب كافٍ في البناء. ولا خلافَ عند الجميع في أنّ أصلَ ما وقعتْ هذه الكلمُ موقعَه البناءُ، وهو الفعلُ على الإطلاق، فكان مبنيًا لهذه العلّة. فَـ "صَهْ" و"مَهْ" مبنيّان، لِما ذكرناه، ولأنهما صوتان سُمي بهما، وحُكي حالهما قبل التسمية. وبعد التسمية، وهما لازمان على حسب مُسمّاهما، فـ "صَهْ" نائبٌ عن "اسْكُتْ"، و"مَهْ" نائبٌ عن "اكفُفْ"، وهما مبنيان علىَ الوقف، وذلك هو الأصل في كل مبني، وإنّما حُرّك منه ما حُرّك لعلةٍ. وحالُ "إيهِ" كحالِ "صَهْ"، و"مَهْ" في البناء، وكان القياسُ أن تكون ساكنةَ الآخِر كـ "صَهْ"، و"مَهْ"، إلا أنه التقى في آخِرها ساكنان: الياء والهاء، فكُسرت الهاء لالتقاء الساكنين. واحتُمل ثقل الكسرة بعد الياء، إذ لو فُتحت، لالتبس بـ "إِيها" التي للكَف، وهي نائبة عن "زدْ" أو"حَدث". وذَكَرَها مع اللازمة نظرًا إلى الاستعمال، إذ لا يكادون يقولون: "إيهِ الحديثَ"، وإن كان القياسُ لا يأباه، بل يقتصْيه؛ لأنه اسم ناب عن فعل ¬
متعد، نحوِ: "حَدث"، أو"زِدْ". وكل واحد من هذَيْن الفعلَيْن متعد، فوجب أن يكونْ كذلك؛ لأنه عبارةٌ عنهما. قال ذو الرمة [من الطويل]: 521 - وَقَفْنا وَقُلْنَا إيهِ عن أُم سالمٍ ... وما بالُ تَكْلِيمِ الدِّيار البَلاقِعِ وكان الأصمعي يُنْكِر على ذي الرمة هذا البيتَ، ويزعم أن العرب لم تقل إلَّا: "إيهٍ" بالتنوين، وجميعُ النحويين صوبوا قولَ ذى الرمّة، وقسموا "إيه" إلى قسمَين: معرفةٍ ونكرةٍ، فإذا استزادوا منكورًا، قالوا: "إيه" بالتنوين، وإذا استزادوا معرفةً، قالوا: "إيهِ" من غيرٍ تنوين على حد "صَهِ" و"صَهْ". ومن ذلك "هَيْتَ"، وهو اسمٌ للفعل، وفيه ضميرُ المخاطب كـ"صَهْ" و"مَهْ"، ومسماه "أسْرعْ". يُقال: "هَيْتَ" إذا دعاه. قال الشاعر [من مجزوء الكامل]: 522 - أبلِغ أميرَ المؤمنين ... أخَا العِراقِ إذا أتَيتَا أن العِراقَ وأهْلَهُ ... سلَمٌ إليك فهَيتَ هَيْنا ¬
يريد عليّ بن أبي طالب، رضوانُ الله عليه، وهو لازمٌ لا يتعدّى إلى مفعول، كما أن مسمّاه كذلك. وفيه ثلاث لغات: هَيْت بالفتح، و"هَيت" بالضم، و"هَيْتِ" بالكسر. وأصلُه البناء على السكون كـ"صهْ"، إلَّا أنه التقى في آخِره ساكنان: الياء والتاء، فحُركت التاء لالتقاء الساكنين. فَمن فتح، فطَلَبًا للخِفة لثقَل الكسرة بعد الياء، كما قالوا: "أيْنَ"، و"كَيْفَ". ومَن ضم، فإنه شبهه بالغايات، نحوِ: "قَبْل"، و"بَعْدُ". وذلك لأنّ معنَى "هَيتَ": دُعائي لَكَ، فهو في معنى الإضافة، واستعماله من غيرِ إضافة كقَطعه عن الإضافة، فيُبْنَى على الضم كبناءِ "قَبْلُ"، و"بَعْد". ومَن كسر، فقال: "هَيْتِ"، وهي أقلها، فكَسَرَ على أصل التقاء الساكنين، ولم يبالِ الثقلَ، لقلةِ استعمالها ونُدرتِها في الكلام، فجاؤوا بها على الأصل كـ "جَيرِ". و"لَكَ" من قولك: "هَيْتَ لك" تبيين للمخاطب جيءَ به بعد استغناءِ الكلام عنه، كما كان كذلك في "سَقيًا لَكَ"، ألا ترى أن "سقي" غير محتاج إلى "لَكَ"؛ لأن معناه: "سَقاك الله سَقيًا"، وإنّما جيءَ بـ "لَكَ" تأكيدًا وزيادةً، فهي في "هَيْتَ لك" كذلك. وأما "هَل" فهو من الأصوات المسمى بها أيضًا، ومعناها "أشرع" و"تَعالَ"، يُقال "هَلْ" و"هَلٍ" وهو مبني, لأنّه صوت وقع موقعَ الفعل المبنيّ، وسكن على أصل البناء، وتنوينُه يدل على أنه صوت كـ"صَه"، و"إيه"، قال الشاعر [من الرمل]: 523 - فَظَنَنَّا أنّه غالِبُه ... فدَعَوْنَاه بِهَابِ ثُم هَلْ ¬
وأصله زجرٌ للفرس، ثم سُمي به الفعلُ، قال الشاعر، أنشده أبو عُبَيدَةَ [من الرمل]: 524 - فَعَرَفنَا هِرةً تَأخُذُهُ ... فزَجَرْنَاه وقُلنا: هَلَ هلْ وقالوا: "هَيكَ" مضعَّفَ الياء، والمرادُ: أسرع، والاسمُ "هَي"، والكاف حرفُ خطاب كالتي في "رُوَيْدَكَ زيدًا". وهو مبنى، وحُرك آخِره لالتقاء الساكنين، وفتح لثقلِ التضعيف، ويُخفف بحذف إحدى الياءَيْن، فيقال: "هَيْك"، كما قالوا في "بَخٍّ": "بَخٍْ"، فحذفوا إحدى الخاءَيْن، وكما قالوا في "أُفٍّ": "أُفٍْ"، فحذفوا إحدى الفاءَيْن. فإذا لم يُلْحِقوا الكاف، جاؤوا بالألف للوقف، فقالوا: "هَيَّا"، كما جاؤوا بها للوقف في "أنَا". قال ابن مَيادَةَ [من الرجز]: لَتَقرُبِن قَرَبًا جُلذِيا ... ما دَامَ فيهن فَصِيل حيًا وقد دَجَا الليل فَهَيا هَيا (¬1) أي: أسرعِي. يخاطب ناقتَه، ولذلك كسر الباءَ مِن "لتقربنّ"، و"جلذيا" أي: سريعًا. يحثها على سرعة السير. ومن ذلك قولهم: "نَزَالِ" في الأمر، والمرادُ: انْزِلْ، فهو لازم غيرُ متعدّ على حد لزوم مسمّاه، وهو"انزِل"، وسيوضَح أمره في موضعه بعدُ. ¬
ومن ذلك "قَدْكَ"، و"قَطكَ"، وهما اسمان، ومسماهما "اكْتَفِ"، و"انْتَهِ"، فهما لازمان على حسب ما سُميا به من الأفعال، وهما مبنيّان لوقوعهما موقع الفعل المبني، وجَريهما مجراه فيَ الدلالة. وسُكّن آخِرهما على حد التسكين في "صَهْ"، و"مَهْ"؛ لأنه الأصلُ في البناء، ولم يلتق في آخِرهما ساكنان، فتجبَ الحركةُ لاجتماعهما. والكافُ فيهما ليست اسمًا، وإنما هي حرفُ خطاب على حدّها في، النجاءَكَ"، و"رُوَيْدَكَ"، و"قَدْ" مُخففةٌ، وأصلُها "قَد" مثقلةَ، فحُذفت إحدى الدالَين تخفْيفًا على حد قولهم: "بَخْ" خفيفة في "بَخٍّ" مثقّلةً, لأنه مأخوذ من "قددتُ الشيءَ" إذا قصعتَه طُولًا. وكذلك "قَطْكَ" مخفّفةٌ من "قط" مأخوذة من "قططتُ الشيءَ"، أي: قطعتُه عرْضًا كأن الاكتفاء قطعٌ عمّا سِواه، فاعرفه. ومن ذلك "إلَيْكَ" بمعنَى "تَنَحَّ". قال الأعشى [من الخفيف]: 525 - فاذْهَبِى ما إليكِ أدْرَكَنِي الحِلمُ ... عَداني عن هَيْجِكمْ أشْغالي وأنشد ثَعْلَبٌ [من البسيط]: 526 - اذهَبْ إليك فإني من بني أسَدٍ ... أهْلِ القِبابِ وأهلِ الخَيْل والنادِي ¬
كأنه قال: اذهبْ تَنَح. فالكافُ في محلِّ خفض بحرف الجرّ، والتسميةُ وقعت بالجارّ والمجرور. ولذلك حُكي لفظهما، وجَرَيَا في التسمية مجرى الأصوات المسمى بها من نحوِ: "صهْ"، و"مَهْ". وحكى أبو الخطاب أنّه سمع مَن يُقال له: "إلَيْكَ"، فيقول: "إليَّ"، كأنّه قيل له: "تَنَحَّ"، فقال: "أتَنَحى". لم يأت ذلك ألَّا في هذا الحرف وحدَه، فلا يُقال: "دُونِي" ولا "عَلَيَّ". وذلك من قِبَل أن بابَ هذا الأمرُ، فإذا قلت: "إليك"، فقال: "إليّ"، فقد جعل "إليّ" بمعنَى: "أتنحّى"، وهذا خبرٌ ليس بأمرٍ. وقد تقدم أن بابَ هذه الأسماء إنما الأمرُ للمخاطَب؛ لأن أمر المخاطب يُكتفى معه بشاهدِ الحال على ما سبق. ومن قولهم: "دَعْ"، ومعناه: انْتَعِشْ، يقال ذلك للعاثر، أو لمَنْ أصابتْه حادثةٌ. قال الشاعر [من الطويل]: 527 - لَحَى الله قَوْمًا لم يقولوا لعاثِرٍ ... ولا لابْنِ عَم نالَهُ الدَهْرُ: دَعْدَعَا وهو صوتٌ سُمي به، يُقال: "دَعْدَعْتُ بالمَعْز"، إذا دعوتَها، وهو مبني على السكون، وعلةُ بنائه كعلةِ "صَهْ"، و"مَهْ". فأمّا قولهم: "دَعَا لك"، و"دَعْدَعَا"، فهو مصدرٌ معربٌ، كقولهم: "سَقْيًا لك". ¬
ومن ذلك قولهم في الدُّعاء: "أمِينَ"، ومعناه: اسْتَجِبْ، فهو اسمٌ لهذا الفعل. وفيه لغتان "أمِينَ" بالقصر على زنةِ "فَعِيل"، و"آمِينَ" بالمدّ على زنةِ "فَاعِيل". قال الشاعر [من البسيط]: 528 - يا رَب لا تَسْلُبَني حُبهَا أبَدًا ... ويَرْحَمُ اللهُ عَبْدًا قال: آمِينَا فجاء بها ممدودةً، وقال الآخر في المقصورة [من الطويل]: 529 - تَبَاعَدَ عَني فَطْحَلٌ إذ رأيتُه ... أمِينَ فزادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا ¬
[أسماء الفعل التي هي أسماء أخبار]
والأصل القصر، والمد إشباعُ فتحةِ الهمزة، ومنه قولُ الهُذَليّ [من الكامل]: 530 - بَيْنَا تَعَنقِه الكُماةَ ورَوْغِه ... يَوْمًا أُتِيحَ له جَرِيءٌ سَلْفَعُ والمراد: بينَ أوقاتِ تعنقه. قالوا في "بَيْنَ": "بَيْنَا"، وهي مبنية لوقوعها موقعَ فعلِ الأمر، وفُتحت لالتقاء الساكنين على حد "رُوَيْدَ"، و"أيْنَ"، و"كَيْفَ". فأمّا قول أبي العباس في "آمِينَ": بمنزلةِ "عَاصِينَ"، فإنّه إنّما يريد به أنّ الميم خفيفة كصادِ "عاصين" لا أنه جمعٌ. وقال أبو الحسن: "آمِينَ" اسمٌ من أسماء الله تعالى. والوجهُ الأول، إذ لو كان كذلك، لم يكن مبنيًا، ويؤيد ذلك قولُه تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} (¬1)، كما جاء في الخبر أن موسى كان يدعو، وأخاه كان يُؤمِّن، والاسمُ الواحد لا يُقال له دعاءٌ. * * * [أسماء الفعل التي هي أسماء أخبار] قال صاحب الكتاب: وأسماءُ الأخبار، نحوُ: "هَيهاتَ ذاك" أي: بَعُدَ، وَ"شَتّانَ زيد وعمرو"، أي: افْتَرَقَا، وتَبايَنَا، و"سَرْعانَ ذا إهالة" (¬2)، أي: سَرُعَ، و"وَشْكانَ ذا ¬
خُروجًا"، أي: وَشُكَ، و"أُفٍّ" بمعنَى " أتَضَجرُ"، و"أوَّه" بمعنَى "أتَوَجعُ". * * * قال الشارح: قد ذكرنا أن بابَ أسماء الأفعال الأغلبُ فيها الأمرُ؛ لأنّ الغرض منها مع ما فيها من المبالغة الاختصارُ، والاختصار يقتضي حذفًا، والحذفُ يكون مع قوّةِ الحلم بالمحذوف. وهذا حكمٌ مختصٌّ بالأمر لِما ذكرناه, لأنّ الأمر يُستغنى فيه في كثير من الأمر عن ذكرِ ألفاظِ أفعاله بشواهدِ الأفعال. والخبرُ ليس كالأمر في ذلك، فلذلك قل في الخبر، إلَّا أنه لمّا كان الحذف أيضًا قد يقع في بعض الأخبار لدلالة الحال على المراد، ووُضوحِ الأمر فيه، وكَونِهِ محذوفًا كمنطوقٍ به لوجودِ الدليل عليه، استُعمل في الخبر بعضُ ذلك، فجاءت فيه كما جاءت في الأمر، ألَّا أنّها قليلة بالإضافة إلى ما جاء في الأمر. وبابُه السماع دون القياس. فمن ذلك قولهم: "هَيْهاتَ"، وهو اسم لـ "بَعُدَ"، وإن ما عدلوا عن لفظ الفعل لضرب من المبالغة، فإذا قال: "هيهات زيدٌ"، فكأنه قال: "بَعُدَ جِدًّا"، أو"بَعُدَ كُل البُعْدِ". ولعله يخرج في كثيرِ من الأمر إلى أن يُؤيس (¬1) منه، وهو مبني لوقوعه موقع الفعل المبني، وهو "بَعُدَ"، ويقع الاسمُ بعدها مرفوعًا بها ارتفاع الفاعل بفعله, لأنها جارية مجرى الفعل، فاقتضت فاعلًا كاقتضائه الفعلُ. قال جَرِير [من الطويل]: 531 - فهيهاتَ هيهاتَ العَقِيقُ وأهْلُهُ ... وهيهاتَ خِلٌّ بالعقيق نُواصِلُهْ ¬
العقيق: وادٍ بالمدينة، وقال أيضًا [من الكامل]: 532 - هيهات مَنْزلُنَا بنعْفِ سُوَيْقَةٍ ... كانت مُبارَكة من الأيامِ فـ "العقيق" و"منزلُنا" مرتفعان بأنهما فاعل "هيهات", فأمّا قوله تعالى: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (¬1)، فَقيل: اللامُ زائدة، و"مَا" الفاعلةُ، والتقدير: هيهات هيهات ما توعدون. وقيل: الفاعلُ محذوف، والتقدير: بعُد الصدْقُ لمِا توعدون، فاللامُ على بابها؛ لأنّه لم تُؤلَف زيادةُ اللام في نحوِ هذا. وإنّما تُزاد لتمكينِ معنى الإضافة، نحوِ قوله [من مجزوء الكامل]: بَا بُؤْسَ للحَرْب التِي ... وَضَعَت أراهِطَ فاسْتَراحُوا (¬2) ¬
وقوله [من البسيط]: يا بُؤْسَ للحَرْب ضَرارًا لأقْوامِ (¬1) وقد استبعد بعضُهم القولَ بحذف الفاعل، وزعم أنه مضمرٌ فيه، والتقديرُ: هيهات بَعْثُكم، وإخراجُكم، لتقدُّمِ ذكرِ الإخراج. ومما سُمي به الفعل في حال الخبر "شَتَّانَ"، ومسمّاه "افْتَرَقَ"، و"تَباعَدَ". وهو مبني على الفتح، وربما كسروا نونَه، والفتحُ المشهور. وإنما بُني لوقوعه موقع الفعل المبني، وهو الماضىِ، نحو: "افترقَ"، و"بُعد". وقال الزجاج: إنّما بُني لأنّه على زنةِ "فَعْلَان"، فهو مخالفٌ لأخواته، إذ ليس في المصادر ما هو على هذه الزنة، فبُني لذلك. وهذا ضعيفٌ؛ لأنه قد جاء عنهم: "لَوَاهُ لَيانًا". قال الشاعر [من الطويل]: 533 - تُطِيلِينَ لَيانِي وأنْتِ مَلِيئَةٌ ... وأُحْسِنُ يا ذاتَ الوِشاحِ التقاضِيَا وتحريكه لالتقاء الساكنين، وهما النون والألف قبلها، وإنّما فُتح إتباعًا للفتحة قبله، وقيل: إنّما فُتح لأن الفتحة حركةُ مسمّاه، وهو الفعل الماضي. وزعم أبو حاتِم أن "شتان" كـ"سُبْحَانَ" وهو وَهْم؛ لأن "شتان" مبني، و"سبحان" معربٌ، لكنه لا ينصرف للتعريف والألفِ والنونِ، ولذلك لما نكر في قوله [من البسيط]: سُبْحانَهُ ثُمّ سُبْحانًا نَعُوذُ به ... وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِي والجُمُدُ (¬2) انصرف، ونُوّن. ولفظُه مأخوذ من "الشت"، وهو التفرق والتباعد. يُقال: "شَتَّ ¬
الشمْلُ يَشت"، إذا تَفرَّق، وقيل: إن "شَت" الذي "شَتان" مصدرُه: "فَعُلَ" مضمومَ العين. وإنما حُذفت الضمة للادّغام، قال الله تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (¬1). ولا بدّ له من فاعلٍ، فيقال: "شَتَّانَ زيدٌ وعمرْو"، قال الشاعر [من الرجز]: 534 - شتّانَ هذا والعِناقُ والنوْمْ ... والمَشرَبُ البارِدُ في ظِلِّ الدَّومْ ويُقال: "شتان ما زيدٌ وعمرّو"، والمراد: شتان زيدٌ وعمرّو، و"مَا" زائدةٌ. قال الأعشى [من السريع]: 535 - شتانَ ما يَوْمِي على كُورِهَا ... ويَوْم حَيانَ أخِي جابِرِ ¬
وربّما قالوا: "شتّان ما بين زيد وعمرو"، قال رَبِيعةُ الرقيُّ [من الطويل]: 536 - لَشتانَ ما بين اليَزِيدَيْن في الندَى ... يَزِيدِ سُلَيْم والأغَرِّ ابن حاتِمِ وكان الأصمعيّ يُنْكِر هذا الوجه ويأباه، وحجّتُه أنّ "شتان" نابَ عن فعلٍ تقديرُه: "تَفرق" و"تَباعَد"، وهو من الأفعال التي تقتضي فاعلَيْن؛ لأن التفرّق لا يحصل من واحد. والقياسُ لا يأباه من جهة المعنى؛ لأنه إذا تَباعد ما بينهما، فقد تباعد كل واحد منهما من الآخَر. ولو قال: "شتان زيدٌ أو عمرو"، لم يجز؛ لأنّ "أو" لأحدِ الشيئَيْن، والافتراقُ لا يكون من واحد. ومن ذلك "سَرْعَانَ"، والمراد: سَرُعَ، وفُعل به ما فُعل بـ "شتان" من البناء والفتح. وفي المَثل: "سَرعَانَ ذا إهالة" (¬1)، أي: ما أسرعَ هذه الإهالةَ! والإهالةُ: الشحْم المُذاب. زعموا أن بعضَ حَمْقَى العرب اشترى شاة، فسال رُعامُها، فتَوهمه شَحْمًا مُذابًا، فقال لبعضِ أهله: خُذْ من شاتنا إهالتَها، فنظر إلى مُخاطها، فقال: سرعان ذا إهالة! فـ "إهالةً" منصوبٌ على التمييز. وقيل: إنّ بعضهم استضاف بقومٍ، فعجّلوا له إهالة، فقال: سَرْعانَ ذا إهالةَ! وقالوا: "وَشكانَ وأشْكانَ ذا خروجًا"، أي: سرُع، وقرُب، و"خروجًا" نصب على التمييز، أي: مِن خُروجٍ. ¬
ومن ذلك قولهم: "أُفّ"، ومعناه: أتضجَّرُ، فهو اسمٌ لهذا الفعل ونائب عنه، وهو مبني لوقوعه موقعَ الفعل مطلقًا، إذ الفعلُ أصلُه البناء، ومن يقول إنما بُني بالحمل على أسماء الأفعال المأمور بها, لم يحتج إلى اعتذار عن "أُف" وأصلُه أن يكون بناؤُه على السكون، وإنما الحركةُ فيه لالتقاء الساكنين، وهما الفاءان، وفيه لغاتٌ، قالوا: "أُف"، و"أُفٍّ"، و"أفُّ"، و"أُفٌّ"، و" أُفَّ"، و"أُفًّا"، وتُمال، فيقال: "أُفِّي". والعامةُ تُخْلِصها ياءً، فتقول: "أُفِّي". وتُخفف، فيقال: "أُفُ" (¬1). فالحركةُ في جميعها لالتقاء الساكنين، فمَن كسر فعلى أصل الباب، ومن ضم فللإتباع، ومن فتح فللاستخفاف، ومن لم يُنوِّن، فإنه أراد المعرفة، أي: أتضجرُ التضجّرَ، ومَن نون، أراد النكرة، أي: تضجرًا، ومَن أمال، أدخل فيها ألفَ التأنيث، وبناها على "فُعْلَى". وجاز دخولُ ألف التأنيث مع البناء كما جاءت تاؤُه مع "ذَيّةَ"، و"كَيةَ". وقد قالوا: "هَنا"، فأدخلوا فيها ألفَ التأنيث، ووَزْنُها "فَعْلَى"، وليس من لفظِ "هُنَا"، بل هو مثلُ "سِبَطْر"، و"سَبِطٍ"، ويجوز أن يكون من لفظه، ويكون وزنُه "فَنْعَلًا" كـ"عَنْبَسِ" و"عَنْسَلٍ"، فيمن جعله من العَسْلان. ومن ذلك "أوّهْ" بمعنَى "أتَوَجعُ"، وفيه لغات. قالوا: "أوه مِن كذا"، بسكون الواو، وكسر الهاء، قال الشاعر [من الطويل]: 537 - فأوْهِ لذِكْراها، إذا ما ذكرتُها ... ومِن بُعْدِ أرْضٍ بَيْنَنَا وسَماءِ وقالوا: "آهِ"، بمَدّةٍ بعد الهمزة وكسرِ الهاء. وربما شدّدوا الواو وكسروها، وسكنوا الهاء، فقالوا: "أوهْ مِن كذا". وربما كسروا الهاء مع التشديد. أنشد ¬
أحمد بن يحيى، قال: أنشدتني امرأة من بني قُرَيْظ [من الطويل]: 538 - أوّهِ مِن ذِكْرَى حُصَيْنا ودُونَهُ ... نَقًا هائلٌ جَعْدُ الثرَى وصَفِيحُ وقالوا فيه: "آوهْ"، بالمد وتشديد الواو وفتحِها ساكنةَ الهاء، وكل ذلك من "التأوهِ"، ومنه قوله [من الوافر]: 539 - إذا ما قُمْتُ أرْحَلُها بلَيْل ... تَأوّهُ آهَةَ الرّجُلِ الحَزِينِ ومن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} (¬1)، فالهمزةُ فاءٌ، والواو عين، والهاء لامٌ، فَمن قال: "أَوْهِ"، فإنه كسر الهاءَ لسكون الواو قبلها. ومن قال: "آهِ"، فإنه قلب الواو ألفًا للفتحة قبلها، كما قالوا في "الدوّ": "داوِي". ومن قال: "أَوِّهْ"، بتشديد الواو، ¬
فصل [أوجه "رويد"]
وسكون الهاء، فإنه ضعّف العينَ للمبالغة، وكسرها لالتقاء الساكنين، وسكن الهاءَ لتحرُّكِ ما قبلها. ومن قال: "أوهِ"، فكسر الهاءَ مع كسرِ الواو وتشديدِها، فقد كان القياسُ أن تسكن الهاءُ التي هي لامٌ؛ لأن ما قبلها متحرك، إلَّا أنه حُرك الآخِر إتباعًا لكسر الواو، وقد فعلوا نحوًا من ذلك ببعضِ المُعرَب، نحوِ: "أُخوكَ"، و"أُبُؤُكَ"، و"امْرُؤٌ"، و"ابْنُمٌ"، ومن قال: "آوَّهْ" بالمد، فيحتمل أن يكون أشبعَ فتحة الهمزة، فصارت ألفًا، كما قالوا: "آمِينَ" في "أمِينَ"، وفتحوا الواوَ إتباعًا للفتحة قبلها. وقد قالوا: "أوّت" في معنَى "أوه"، وجاؤوا فيها بلغاتٍ قريبةٍ من لغاتِ "أوه"، وينبغي أن لا تكون من لفظها، بل من معناها, لأن "أوْهِ" صحيحُ اللام، فهو من باب "حَوْضٍ"، و"فَوْزٍ"، و"أوتٍ" الهمزةُ فاءٌ، والعينُ واللام واوٌ، فهو من باب "الهُوَّة"، و"القُوَّة"، فهي كِلَمٌ تَقاربتْ ألفاظُها، واتَحدت معانيها. فصل [أوجه "رويد"] قال صاحب الكتاب: في "رويد" أربعة أوجه هو في أحدها مبني وهو إذا كان إسماً للفعل، وعن بعض العرب: "والله لو أردت الدراهم لأعطيتك رويد ما الشعر". * * * قال الشارح: لِـ"رُويدَ" أربعةُ مواضعَ: أحدها: أن يكون اسمًا للفعل نحوَ ما تقدم، ومسمّاه "أرَوِدْ" و"أمْهِلْ"، وهو متعدّ إلى مفعول واحد، نحوَ: "رويدَ زيدًا"، على حسب تعدي مسماه، نحوِ قولك: "أرودْ زيدًا"، و"أمهلْه"، وفيه ضميرٌ منويٌّ، وهو ضميرُ الَمخاطب. إن كان المخاطب واحدًا، كان الضمير واحدًا. وإن كان اثنين، فالضميرُ اثنان. وإن كان الخطاب لجماعةٍ، فالضميرُ لجماعة، إلا أنّه لا يظهر لذلك صورةُ لفظ، لا في تثنية، ولا جمع، بخلاف الفعل؛ فإن الضمير تظهر صورتُه في التثنية والجمع؛ لأن الفعل هو الأصل في العمل، وهذه الأسماءُ فروعٌ ونائبةٌ عنه، فلذلك انحطت عن درجته. قال الشاعر [من الطويل]: 540 - رُوَيْدَ عَلِيًّا جُد ما ثَدْيُ أُمهِمْ ... إلَيْنَا وَلكِنْ بَعْضُهُمْ مُتَمايِنُ ¬
فنصب "عليًا" بـ "رُوَيْدَ"، كأنه قال: "أرْوِدْ عليًا" أي: أمْهِلْهُم، و"عَلِيٌّ": قبيلةٌ، وجُد: قُطع نسبتهم بنا، وكَنَى بالثدي عن القَرابة, لأن الرضاع سببُ القرابة. فأما قولهم: "واللهِ لو أردتَ الدراهم، لأعطيتُك، رُوَيْدَ ما الشعْرَ"، فالمراد: أرْوِدِ الشعرَ، و"مَا"، زائدة، كأنّه قال: "لو أردت الدراهم، لأعطيتُك، فدَع الشعرَ لا حاجةَ بك إليه". وقد تدخله كافُ الخطاب، فيقال: "رُوَيْدَكَ زيدًا"، جاؤوا بها لتُبيِّن مَن يُعْنَى بالخطاب، لئلا يلتبِس بمن لا تعنيه، كما جاؤوا بها في "هَلُمَّ لك"، و"سَقْيًا لك"، إلَّا أن الكاف في "لَكَ" في محل خفض بما قبله من الخافض، والكافُ في "رُوَيْدَكَ" لا محلّ لها من الإعراب، وإن كان طريقُهما في البيان واحدًا. فإن كان المخاطب مذكّرًا، فتحتَها، وإن كان مؤنثًا، كسرتها. وتُثنيها وتجمعها إذا أردت تثنية أو جمعًا، فتقول: "رُوَيْدَكَ يا زيدُ"، و"رويدكِ يا هِنْدُ"، و"رويدكما يا زيدان"، و"رويدكم يا زيدون". وقد اختلفوا في هذه الكاف، فذهب قومٌ إلى أنّها اسمٌ، موضعُه من الإعراب رفعٌ، وقال آخرون: موضعُها نصبٌ. وذهب سيبويه (¬1) إلى أنها حرفٌ مجردٌ من معنى الاسميّة للخطاب، كالكاف في "ذلِكَ"، و"أُولئِكَ"، و"النجاءَكَ". والصحيحُ مذهبُ سيبويه فيها؛ لأنها لو كانت في موضعِ رفع بأنّها فاعل، لم يجز حذفُها، وأنتَ قد تقول: "رويدَ زيدًا"، فتحذفها، وتجعل في "رويد" ضميرًا مرفوعًا في النية يجوز أن يُؤكَّد، وأن يُعطَف عليه بحسب ما يجوز في ضمائرِ الفاعلين، نحوِ قولك: "رويدكم أنتم وزيدٌ"، و"رويدكم أجمعوَن"، كما تقول: "قُمْ أنت وعبدُ الله"، و"قوموا أجمعون ". فلمّا ساغ فيها ذلك، دلّ على أن الكاف ليست فاعلةً. ولا تكون أيضًا في موضع نصب؛ لأن "رويد" اسمُ "أرْوِدْ"، و"أرْوِدْ" إنما يتعدّى إلى مفعول واحد، فلو كانت الكاف في محلِّ نصب، لَكنت إذا ¬
قلت: "رويدك زيدًا"، مُعديًا له إلى مفعولَيْن: أحدُهما مضمرٌ، وهو الكاف، والآخر ظاهرٌ، وهو"زيد". ولو جاز ذلك، لجاز "رويد زيدًا خالدًا"، ولا نعلم أحدًا قاله. ولو كانت منصوبة أيضًا، لجاز أن تقول: "رويدك نفسَك"، إذا أردت تأكيد الكاف، وكذلك لو كانت مجرورة، لجاز أن تقول: "رويدك نفسِك" على أنه تأكيدٌ، ولا يُسمع مثلُ ذلك. * * * قال صاحب الكتاب: وهو فيما عداه مُعْرَبٌ، وذلك أن يقع صفة، كقولك: "ساروا سيرًا رُوَيْدًا"، و"ضَعْه وَضْعًا رويدًا"، وقولِك للرجل يُعالِج شيئًا: "رويدًا"، أي: عِلاجًا رويدًا، وحالًا، كقولك: "ساروا رويدًا" ومصدرًا في معنَى "إروادٍ" مضافًا، كقولك: "رويدَ زيدِ"، وسُمع بعضُ العرب: "رويدَ نفسِه"، جَعَلَه مصدرًا كـ"ضَرْبَ الرِّقابِ". * * * قال الشارح: الموضع الثاني من مواضعِ "رُوَيْدَ" أن تكون صفة، نحوَ قولك: "ساروا سيرًا رويدًا". وتكون معربةً مصدرًا وُصف به على حدّ قولهم: "رجل عَدْلٌ"، و"ماءٌ غَوْرٌ"، ويكون أصلُه "إرْوادًا"، ألَّا أنّه صُغّر بحذفِ زوائده، كما قالوا في "أسْوَدَ": سُوَيْدٌ، وفي "أزْهَرَ": "زُهَيْرٌ". ويجوز أن يكون تصغيرَ "مُرْوَدٍ" أو"مَرْوَدٍ"، فحذفوا الزوائدَ. الموضع الثالث: أن يكون حالًا، ويكون معربًا أيضًا، نحوَ قولهم: "ساروا رويدًا"، أي: مُرْوِدِينَ. إذا ذكرت المصدرَ، كان صفة له، وإذا لم تذكره، كان حالًا لضُعْفِ حذفِ الموصوف، وإقامةِ الصفة مُقامه. ويجوز أن يكون المراد: ساروا سيرًا رويدًا, ثم حذف الموصوف وأُقيمت الصفة مقامه, وهو ضعيف. والموضع الرابع: أن يكون مصدرًا بمعنَى "إرْوادٍ"، ويكون معربًا، فتقول: "رويدًا زيدًا"، بمعنَى: "أرْوِدْ زيدًا إروادًا"، فحُذف الفعل، وأُقيم المصدر مُقامه، كما قالوا: "سَقْيًا ورَعْيًا"، والمراد: سَقاك اللهُ، ورَعاك اللهُ. وقد يُضاف إلى المفعول، فيقال: "رُوَيْدَ زيدٍ"، كما قال: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (¬1)، فهو باقٍ على مصدريته غيرَ مسمى به، ولا مُغيرٍ عن جهته. قال الشاعر [من الطويل]: 541 - رُوَيْدًا بني شَيْبانَ بَعْضَ وَعِيدِكُمْ ... تُلاقوا غَدًا خَيْلِي على سَفَوانِ ¬
فصل [أحكام "هلم"]
ويروى: "رُوَيْدَ بني شيبان" من غير تنوين. ويحتمل أن يكون مصدرًا مضافًا إلى ما بعده، ويُؤيده روايةُ مَن نوّن. ويجوز أن يكون أراد اسمَ الفعل، ويكون "بني شيبان" منصوبًا به، كقوله: "رويدَ عَلِيًا". فصل [أحكام "هلمَّ"] قال صاحب الكتاب:"هَلُمَّ" مركبة من حرف التنبيه مع "لُمَّ محذوفة من "ها" ألفها عند أصحابنا (¬1)، وعند الكوفيين من "هل" مع "أم" محذوفة همزتها. والحجازيون فيها على لفظ واحد في التثنية والجمع والتذكير والتأنيث. وبنو تميم يقولون "هلما", "هلموا", "هلمي", "هلممن". وهي على وجهين: متعدية كـ"هات"، وغير متعدية بمعنى: "تعال", و"أقبل". قال تعالى: {قل هلم شهداءكم} (¬2). وقال: {هلم إلينا} (¬3) وحكى الأصمعي أن الرجل يقال له: فيقول:"لا أهلم". * * * قال الشارح: قد تقدّم أن "هَلُمَّ" اسمٌ من أسماء الأفعال، ومسمّاه "إيتِ"، و"تَعالَ"، وهو مبنى لوقوعه موقع الفعل المبنيّ، وأصلُه أن يكون ساكنا على أصل البناء، وإنما حُرّك آخِره لالتقاء الساكنين، وهما الميمان في آخِره، وفُتح تخفيفًا لثقل التضعيف، وهو مركَّبٌ. قال الخليل (¬4): أصلُه "هَا لُمَّ"، فـ "هَا" للتنبيه، و"لُمَّ" من قولهم: "لَمَّ الله شَعَثَه"، أي: جَمَعَه، كأنه أراد: "لُمَّ نفسَك إلينا"، أي: اُقْرُبْ. وإنما حُذفت ألفُ "هَا" تخفيفًا لكثرة الاستعمال، ولأنّ اللام بعدها، وإن كانت متحرّكةَ، في حكم الساكن. ألا ¬
ترى أن الأصل، وأقوى اللغتين، وهي الحجازية، أنك تقول: "ها الْمُم"؟ فلمّا كانت اللام في حكمِ الساكن، حُذفت لها ألفُ "هَا"، كما تحذَف لالتقاء الساكنين، وجُعلا اسمًا واحدًا. وقال الفراء: أصله "هَلْ أُمَ"، أي: اقْصِد، فخُففت الهمزة، بأن أُلقيت حركتها على اللام، وحُذفت، فصارت "هَلُمّ". وقد أنكر بعضهم ذلك، وقال: إنّه ضعيف من جهة المعنى، إذ كانت "هَل" للاستفهام، ولا مَدخَلَ للاستفهام ها هنا. والقول: إِن "هَل" التي رُكّبت مع "أُمَّ" ليست التي للاستفهام، وإنّما هي التي للزجْر والحَث، من قوله [من الرمل]: 542 - [يَتَمارَى في الذي قُلْتُ لَهُ] ... وَلَقَد تَسمَع قَولِي حَيهَلْ وفيها مذهبان: أحدهما: وهو مذهب أهل الحجاز، أن تكون بلفظ واحد مع الواحد والاثنين والجماعة، والمذكر والمؤنث، نحوِ: "هَلُم يا رجلُ"، و"هلم يا رجلان"، و"هلمّ يا رجالُ"، و"هلم يا امرأة"، و"هلم يا امرأتان"، و"هلم يا نسوةُ". يستوي في اللفظ الواحدُ والجمعُ، كما كان كذلك في "صَهْ"، و"مَهْ" ونحوهما، وهو القياس، وبه ورد التنزيل. قال الله تعالى: {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} (¬1)، أَفرد، والمخاطبون جماعة، وعليه قوله [من الرجز]: 543 - يا أيهَا الناسُ ألَا هَلُمَّه ¬
وإنما كان هذا هو القياسَ؛ لأنه قد قامت الدلالة على أنّه اسم، وليس القياس في الأسماء أن تتّصل بها علامةُ الضمير المرفوع، إنّما ذلك للأفعال. والذي يدلّ على خروجه عندهم عن حكم الأفعال مخالفتُهم مجراه في لغتهم؛ لأنّ لغتهم أن يقولوا للواحد: "الْمُمْ"، بإظهار التضعيف، نحوَ: "ارْدُدْ"، و"اشْدُدْ"، فلمّا ركّبوه مع غيره، وسمّوا به، خرج عن حكم الفعل، فلم تظهر فيه علامةُ تثنية ولا جمع. والمذهب الثاني: وهو مذهب بني تميم، اعتبارُ الفعل، وهو"لم"، وتغليبُ جانبه، فيُثنون ويجمعون، نحوَ قولهم: "هلمّ يا رجلُ"، و"هلمَّا يا رجلان"، و"هَلُمُّوا يا رجالُ"، و"هَلُمي يا امرأةُ"، و"هَلْمُمْنَ يا نسوةُ". تفتح الهاء، وتُسكَّن اللام، وتضمّ الميم الأُولى، وتسكن الثانية، وتفتح النون مخفَّفة. هذا مذهبُ البصريين وأكثرِ الكوفيين، وإنما كان كذلك؛ لأن لام الكلمة تسكن عند اتصالِ هذه النون بها، إذ كانت ضميرَ مرفوع، كما تقول: " ضَرَبْنَ"، و"خَرَجْنَ". وإذا سكن ما قبلها، بطل الادّغامُ، وصار بمنزلةِ "اشْدُدْ"، و"ارْدُدْ". وزعم الفرّاء أنّ الصواب أن يُقال: "هَلُمّنّ" بفتح الهاء، وضمّ اللام، وفتح الميم وتشديدها، وفتح النون أيضًا مشدّدة. قال: والذي أوجب ذلك أن هذه النون التي هي ضميرُ الجماعة لا تُوجد إلَّا وقبلها ساكنٌ، فزادوا نونًا ثانيةً قبلها ليقع السكونُ عليها، وتسلَمَ فتحةُ الميم في "هَلُمَّ"، فتكون وقاية لها من السكون، كما قالوا: "مِني"، و"عَنّي"، فزادوا نونًا ثانيةً لتسلم نونُ "مِنْ"، و"عَنْ" من الكسر، إذ كانت ياءُ المتكلّم أبدًا تَكْسِر ما قبلها. وحُكي أيضًا عن بعضهم: "هَلُمَّيْنَ يا نسوةُ" يُجعَل الزائد للوقاية ياء، وهذا شاذّ. واعلم أن بني تميم، وإن كانوا يُجرونها مُجْرى الفعل، في اتّصال الضمير بها لشدّةِ شَبَهها بالفعل، وإفادتِها فائدةَ الفعل، فهي عندهم أيضًا اسمٌ للفعل، وليست مُبقّاةً على أصلها من الفعلية قبل التركيب والضمِّ. والذي يدل على ذلك أنّ بني تميم يختلفون في آخِر الأمر من المضاعف، فمنهم من يُتْبع، فيقول: "رُدُّ" بالضم، و"فِرِّ" بالكسر، و"عَضَّ" بالفتح. ومنهم من يكسر على كلِّ حال، فيقول: "رُدِّ"، و"فِرِّ"، و"عَضِّ". ومنهم من ¬
فصل [أحكام "ها"]
يفتح على كل حال. ثم رأيناهم كلهم مجتمِعين على فتح الميم من "هَلُمَّ"، ليس أحدٌ يكسرها, ولا يضمها، فدل ذلك على أنها خرجت عن طريق الفعلية، وأُخلصت اسمّا للفعل، نحوَ: "دُونَكَ"، و" رُوَيْدَكَ"، و"عِنْدَكَ". وهي تكون على وجهَيْن: متعدّية، وغيرَ متعدية. فالمتعديةُ نحوِ قولهم: "هلمَّ زيدًا"، بمعنَى: "قَربْهُ"، و"أحْضِرْهُ"، فتكون كـ"هَاتِ"، قال الله تعالى: {هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ} (¬1). وغيرُ المتعدية قولك: "هَلُم يا زيدُ"، بمعنَى: "ايتِ"، و"اقْرُبْ". قال الله تعالى: {هَلُمَ إِلينَا} (¬2)، فعدّاه بحرف الجر، فيكون مجراه مجرى الأفعال التي تُستعمل لازمةً ومتعدية، نحوِ: "رَجَعَ"، و"رجعتُه"، و"شَحَا فُوهُ"، وَ"شَحَا فَاهُ"، ونحوِهما. وحكى الأصمعي: "هلم إلى كذا"، فيقال: "لا أهَلُمُّ إليه"، و"هلمّ كذا"، فيقال: "لا أهَلُمُهُ"، بفتح الألف والهاء وضمّ اللام والميم، والأصلُ في ذلك: "لا ألُم"، كما تقول: "لا أرُد"، كأنّه يرده إلى أصله قبل التركيب، وهو شاذّ. فصل [أحكام "ها"] قال صاحب الكتاب: "هَا" بمعنَى "خُذْ"، وتُلحَق الكافُ، فيقال: "هَاكَ"، فتُصرَّف مع المخاطب في أحواله، وتوضَع الهمزة موضعَ الكاف، فيقال:"هاءَ". وتُصرَّف تصريفَها، ويُجمَع بينهما، فيقال: "هاءَكَ"، بإقرارِ الهمزة على الفتح وتصريفِ الكاف. ومنهم مَن يقول: "هاءِ"، كـ"رَامِ"، ويُصرّفه تصريفَه. ومنهم مَن يقول: "هَأْ" بوَزْنِ "هَب"، ويصرفه تصريفَه. * * * قال الشارح: اعلم أن "هَا" من الأصوات المسمى بها الفعلُ في الأمر، ومسماه "خُذْ"، و"تَناوَلْ"، ونحوُهما. ومنهم من يجعله ثُنائيَّا مثلَ "صَهْ" و"مَهْ"، وتلحقه كاف الخطاب، فيقال: "هَاكَ يا رجلُ"، و"هاكُمَا يا رجلان"، و"هَاكُمْ يا رجالُ"، و"هَاكِ يا امرأةُ"، و"هاكُمَا يا امرأتان" كالمذكرَيْن، و"هاكُن يا نسوةُ". فالاسم "هَا"، وفيه ضمير بحسبِ المخاطبين: إن كان واحدًا، ففيه ضميرُ واحد، وإن كان اثنين، ففيه ضميرُ اثنين، وإن كان جماعة، ففيه ضميرُ جماعة، إلَّا أنه لا يظهر ذلك الضمير. والكافُ حرفُ خطاب لا موضعَ لها من الإعراب، وتختلف بحسب اختلاف المخاطبين في التذكير، والتأنيث، والإفراد، والتثنية، والجمع، فتفتحها إذا كانَ المخاطب ¬
مذكرا، وتكسرها إذا كان مؤنّثًا، وتُثنيها وتجمعها إذا كان المخاطب مثنى أو مجموعًا. ومنهم من يقول: "هَاءَ"، بهمزة بعد الألف، يجعله ثُلاثيا كـ"خَافَ"، و"هَابَ"، ويفتح الهمزةَ مع المذكر، ويكسرها مع المؤنث، فيقول: "هاءَ يا رجلُ"، و"هاءِ يا امرأةُ"، ويكون فيه ضمير مستتِر. فإن ثُنّي، أو جُمع، ظهر ذلك الضميرُ، فتقول في تثنية المذكر وجَمْعه: "هاؤُما"، و"هاؤُمْ"، قال الله تعالى: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19)} (¬1)، وفي جماعة المؤنث: "هَاؤُن يا نسوةُ". وهذه أجودُ لغاتها، وبها ورد الكتاب العزيز. واعلم أن الباب والقياس في هذه الأسماء أن لا يلحَقها ضميرُ تثنية، ولا جمع، لأن هذه الأسماء إنما سُمّيت بها الأفعالُ لضرب من الاختصار، ولولا ذلك، لكانت الأفعالُ التي هذه الألفاظُ أسماؤُها موجودةً هنا غيرَ معوض عنها. ووجهُ الاختصار مجيئُها للواحد والواحدة، فما فوقَهما على صورة واحدة. تقول: "هاءَ يا رجلُ"، و"هاءَ يا امرأةُ"، وكذلك التثنية والجمع، وعلى هذه اللغة أكثرُ الاستعمال، وإنما لما نابت عن الأفعال، وقامت مقامَها، قويت الدلالةُ على معناها، فصارت كالمرادِفة لها، فظهر الضميرُ في بعض الأحوال، ليُؤذِن بقوة الشَبَه بهذه الأفعال التي هي في معناها, وليُعْلِم أيضًا بظهوره أن في باب "صَهْ"، و"مَهْ"، ضميرًا، كما قالوا: "المَقْوُودُ"، و"الحَوَكَةُ"، و"أَغْيَلَتِ المرأةُ"، و [منَ الطويل]: 544 - صَدَدْتِ فأطْوَلْتِ الصُدُودَ [وقلما ... وِصالٌ على طول الصدودِ يَدومُ] ¬
ليكون ذلك مَنْبهَة، وأمارةً على أن الأصل ذلك. ولما ظهر الضميرُ، ظهر على صورة غريبة، ليدل ذلك على أن الموضع ليس من مواضعِ ظهورِ الضمير. وإنما كانت غريبةً؛ لأنّها ليست على حد "افْعَل"، و"افعَلاَ"، و"افْعَلُوا"، إنّما ذلك "هَأْ"، و"هاءَا"، و"هاؤوا". فأمّا "هاؤُمْ"، فغريبٌ من نادرِ العربية؛ لأنّ الميم إنّما توجَد في ضمير المخاطب إذا كان غيرَ أمر، نحوَ: "قُمْتُم"، و"قُمْتُمَا"، و"ضربتُكم"، و"ضربتُكما". وهذا ممّا يُؤكد كونَ هذه الألفاظ أسماءً، وليست أفعالًا، وذلك أنه لمّا اتصل الضميرُ بما اتّصل به منها، اتّصل على غير حد اتّصاله بالفعل، إنمّا جاء على نحوِ "أنتما"، و"أنتم"، فدل ذلك على أنها أسماءٌ لا أفعالٌ، على أنّ بعضهم قد قال: "هَأْ يا رجلُ"، و"هاءَا"، و"هَاؤُوا"، على حدّ "اضْرِبَا"، و"اِضْرِبُوا". حكى ذلك أبو عمر الجَرْميّ، وأبو بكر بن السَّرّاج. قال أبو عمر: وذلك قليل. ومنهم من يقول: "هاءِ يا رجلُ"، على وزنِ "عاطِ" و"رَامِ"، يجعل أصلَه "هاءِي" بالياء، فمثالُه من الفعل: "فَاعِلْ" كـ"قَاتِلْ"، وسقطت الَياءُ للأمر، ومثلُه "هاتِ". وتقول لاثنين: "هائِيَا"، وللجمع المذكّر: "هاؤُوا"، وللمرأة: "هاءِي" بياء، والتثنيةُ: "هائِيَا" كالمذكّرَيْن، وتقول في جماعة المؤنث: "هائِينَ". قال الشاعر [من الطويل]: 545 - فقلتُ لها هاءِي فقالتْ براحَةٍ ... تَرَى زَعْفَرانا في أسِرَّتِها وَرْدَا ¬
فأمّا قولُ علي - رضي الله عنه -[من الطويل]: 546 - أفاطِمَ هاءِ السَّيْفَ غيرَ ذمِيمِ ... [فلستُ برِعديدٍ ولابِلَئيمِ] فإنه يحتمل أن يكون من اللغة الأوُلى، ويحتمل أن يكون من هذه اللغة، وحذف الياء لسكون اللام بعدها. فإن قيل: فهلا حكمتم عليه بأنّه فعل, لاتصال الضمير به على حد اتّصاله بالفعل، كما قلتم في "لَيسَ": إنها فعل مع عدم دلالتها على الزمان الماضي، لاتصال الضمير بها على حد اتصاله بالأفعال. قيل: الجوابُ أنه قد قامت الدلالةُ بما سبق أنه اسم، ومن قال: "هاءِ" أو"هاؤوا" فلقوَّةِ شَبَهه بالفعل، ووقوعِه موقعه، أجراه فجراه في اتصال الضمير به، وعامَلَه معامَلةَ مُقابله، وهو"هاتِ"، و"هاتِيَا"، و"هاتُوا"، و"هاتِينَ"، كما شَبهَ "لَيْسَ" بـ "مَا" من قال: "ليسَ الطيب ألَّا المِسْكُ"، فعامَلَها معاملتَها في إيصالِ عملها عند دخولِ حرف الاستثناء على خبرها. ومما يدل أنه ليس فعلًا أنك تقول في أمرِ الواحد: "هاءَ"، ولو كان فعلًا، لقيل: "هَأ" كـ"خَف"، فلمّا لم يُقَلْ، دل على أنه اسم، وليس فعلًا. على أن منهم من يقول: "هَأ يا رجلُ"، على زنةِ "خَفْ"، بهمزة ساكنة، و"هاءِ"، أو"هاءِى يا امرأةُ"، و"هاؤُوا"، و"هَأْنَ"، مثلَ: "خَفْنَ" فهؤلاء يجعلونه فعلًا. ويؤيد ذلك ما حكاه الكِسائي من قول الرجل إذا قيل له: "هاءَ": "ممن أهاءُ، وإهاءُ؟ " كما تقول: "ممن أخافُ". وقياس هذا المذهب أن يكون على "فَعِلَ يَفعَلُ"، كـ "عَلِمَ يَعْلَمْ" كـ"خِلت إخالُ" , ولذلك جاز كسر الهمزة من أوله، فقالوا: "إهاءُ"، كما قالوا: "إخال". ¬
فصل [أحكام "حيهل"]
ومنهم من يقول: "هَأْ"، بهمزة ساكنة، و"هآ" و"هؤوا" كما تقول: "طَأ"، و"طآ"، و"طؤُوا"، و"هئي يا امرأةُ" كما تقول: "طئي"، و"هَأْنَ" كما تقول: "طَأْنَ". وقياسُ هذه اللغة أن تجعلها من بابِ "وَهَبَ يَهَبُ" ممّا فاؤه واو، وسقطت الواوُ على حد سقوطها في "وهب يهب". وقوله: "وَتُلْحَق الكاف، فيقال هاكَ"، يعني للخطاب، "فتُصرف مع المخاطب في أحواله"، يعني إن كان المخاطب مذكرًا، فُتحت، وإن كان مؤنثا، كُسرت، وإن كان مثنى، ثُنيت، وإن كان مجموعا، جُمعت على ما تقدم. وقوله: "وتُوضَع الهمزة موضعَ الكاف"، يعني أنهم يخاطبون بها، فيفتحونها مع المذكر، ويكسرونها مع المؤنث، كما يفعلون بالكاف. ولا يريد أنها زائدة للخطاب كالكاف، إنما الهمزةُ لامٌ، والكلمة بها ثُلاثيّة، فـ "هاء" بألف وهمزةِ بعدها من غيرِ لفظِ "هَا" بألف وحدَها، وإن كانا بمعنى واحد على حد "لُؤْلُؤ"، و"لأال"، و"سَبط"، و"سِبَطْر". وقوله: "ويُجمع بينهما"، يريد بين الهمزة والكاف، لتأكيد الخطاب كما تقول: "أرَأيْتَكَ زيدا ما صَنَعَ". والجمعُ بينهما يؤيد أن الهمزة ليست زائدة كزيادة الكاف، فاعرفه. فصل [أحكام "حيَّهل"] قال صاحب الكتاب:"حيهل" مركب من "حي" و"هل", مبني على الفتح. ويقال: "حيهلاً" بالتنوين ,"وحيلاً" بالألف. وذكر هذه اللغات سيبويه (¬1) وزاد غيره: "حيَّهلْ", و"حيَّهل", و"حيهلاً". * * * قال الشارح: قد تقدم القول: إِن "حَيَّهَلَ" اسمٌ من أسماء الأفعال، وهو مركبٌ من "حَي"، و"هَلَ"، وهما صوتان معناهما الحَث، والاستعجال، فجمع بينهما. وسُمي بهما للمبالغة، فكان الوجه أن لا ينصرف كما كان "حَضْرَمَوْتُ"، وَ"بَعْلَبَك" كذلك، إلَّا أنه ههنا وقع موقعَ فعلِ الأمر، فبُني كـ"صَهْ"، و"مَهْ". وفيه لغات قالوا: حَيَهَلَ بفتحها، شبهوه بـ "خَمْسَةَ عَشرَ" وبابِه، وفي الحديث: "إذا ذُكر الصالحون، فحَيَّهَلَ بعُمَرَ" (¬2)، أي: اُدْعُ عمر، إنه من أهلِ هذه الصفة. وقالوا حَيَّهَلا، فنونوه للتنكير كما قالوا في "صَهْ": "صَه"، وفي "إيهِ": "إيه". ¬
وقالوا: حَيهَلا، بألف من غيرِ تنوين، وأصلُها أن تُلْحَق في الوقف على حد إلحاق الهاء في "كِتابِيَهْ"، و"حِسابِيَهْ" للوقف. ونظيرُ الألف هنا الألفُ في "أنَا"، من قولك: "أنَا"، إذا وقْفتَ عليها من قولك: "أنَ فعلتُ". وإثباتُها في الوصل لغةٌ رديئة, وبابُه الشعر، نحوِ قوله [من المتقارب]: 547 - فكيف أنَا وانتِحالِي القَوافِي ... بَعْدَ المَشِيب كَفَى ذاك عارَا وحكي غيرُ سيبويه: حَيهَلْ، بسكون اللام على أصل البناء, كـ"صَهْ"، و"مَهْ"؛ لأنه لا يُلحَق في آخِره ساكنان، فبقي على أصله من البناء. قال لَبِيد [من الرمل]: يَتَمارَى في الَّذي قُلْت له ... ولقَد يَسمَعُ قَوْلي حَيهَل (¬1) وقالوا: حَيهْلَ، بسكون الهاء، وفتح اللام، وحَيهْلا بسكون الهاء مع الألف. وإنما أسكنوا الهاء؛ لأنها لما رُكبت وصارت كلمة واحدة، استثقلوا اجتماعَ المتحركات، فسكنوا الهاء كما سكنوا الشين في "إحدَى عَشرَةَ" ونظائرِه، لاجتماع المتحركات. * * * قال صاحب الكتاب: وقد جاء معدي بنفسه, وبـ "الباء", وبـ "علي", وبـ "إلي", وفي الحديث "إذا ذكر الصالحون فحيهلاً بعمر" (¬2). وقال [من الطويل]: 548 - بحيهلا يزجون كل مطية ... أمام المطايا سيرها المتقاذف ¬
وقال الآخر [من البسيط]: 549 - وهيج الحي من دار فظل لهم ... يوم كثير تناديه وحيهله * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ هذه الأسماء لمّا كانت أسماء لألفاظِ الأفعال، وواقعةً موقعَها، ومؤدِّيةً معناها، قويت دلالتُها عليها، فكان حكمُها في اللزوم والتعدّي كحكمها، فتكون لازمةً إذا كانت أسماءً لفعل لازم غير متناوِلٍ مفعولًا، نحوَ: "صَهْ"، و"مَهْ". فهذان اسمان لازمان؛ لأنّهما وقعا موقعَ فِعْل، هو كذلك، فكان ما ناب عنه كذلك لا يتعدّى إلَّا بوساطةِ حرف جرّ. وتكون متعدَّيةً، وذلك إذا كانت أسماءً لفعل متعدّ، نحوَ: "رُوَيْدَكَ زيدًا"، أي: أمْهِلْهُ، و"عليك بكرًا"، بمعنَى: الْزَمْهُ، وخُذْهُ من فَوْقك، و"دُونَكَ بكرًا" أي: تَناوَلْه من تَحْتك. ومنها ما استُعمل تارةٌ لازمًا لا يتعدّى إِلا بواسطة حرف الجر، وتارة متعدّيًا، كـ"رُوَيْدَ"، و"هَلُمَّ". ونظيرُ الاسم من هذه الأسماء ما استُعمل تارةً لازمًا لا يتعدّى إلا بواسطة حرف الجرّ، وتارة متعديًا بنفسه في الأفعال الصريحة، ما جاء على صيغة واحدة، نحوُ: "وزنتُ زيدًا"، و"وزنتُ له"، و"كِلْتُه وكِلْتُ له". قال الله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} (¬1). و"حيّهل" أيضًا ممّا يُستعمل لازمًا ومتعديًا بنفسه، وذلك على اختلافِ تقديرِ الفعل المسمّى، فإذا قلت: "حيّهَلَ الثَّرِيدَ"، فمعناه: أحْضِرْه، وقَرّبْه. فلمّا كان الفعلان متعدّيَيْن، كان الاسمُ الواقع موقعَهما كذلك، وتقول: "حيّهل بفلانٍ" بمعنَى: "إيتِ به"، فتصل الاسمَ بالباء كما كان الفعلُ المنوبُ عنه كذلك. وتقول: "حَيَّ على الصلاة"، أي: أقْبِلوا عليها. وقالوا: "حَي على الصَّبُوح" (¬2)، وربما قالوا: "حيّ إلى كذا" بمعنَى: "سارِعوا إليه، وبادِروا"، فأمّا ما أنشده من قوله [من الطويل]: بحيّهلا يزجون ... إلخ فشاهدٌ على أن معناها الاستحثاث والعجلة، والبيت للنابغة الجعدي، أدخل حرف الجر على "حيّهلا"، وتركه على لفظه إذ كان مبنيًّا، والباء متعلقة بـ "يزجون". يقول: لعجلتهم يزجون المطايا بحيهلا على أنها متقدمة في السير، متقاذفة فيه، أي مترامية. وجعل التقاذف للسير توسّعًا, لأنه يكون فيه. وأما قوله: وهيج الحيّ ... إلخ فهو من أبيات الكتاب، والشاهد فيه إعرابُ "حيّهله"، ورفعُه. جَعَلَه- وإن كان مركّبًا من شيئَيْن- اسمًا واحدًا للصوت، ولم يُرِد به الدعاءَ، أي: كثير فيه هذا الصوتُ الذي معناه الدعاءُ. ومثله في جَعْله اسمًا واحدًا قولُ الآخر [من الرجز]: 550 - هِئْهاؤُهُ وَحَيْهَلُهْ ¬
[استعمال "حي" و "هلا" اسمي فعل]
وصف جَيْشا، سُمع به، وخِيفَ منه، فانتُقل عن المحلّ لأجله، وبُودِرَ بالانتقال قبل لَحاقه. * * * [استعمال "حيَّ" و "هلا" اسمي فعل] قال صاحب الكتاب: ويستعمل "حي" وحده بمعنى "أقبل". ومنه قول المؤذن "حي على الصلاة"، و"هلا" وحده. قال [من الطويل]: 551 - ألا أبلغا ليلي وقولا لها: هلا ... [فقد ركبت أمرًا أغرَّ محجلا] * * * قال الشارح: قد تقدّم أن كلّ واحد من "حَيَّ"، و"هَلْ" صوتٌ معناه الحَثّ والاستعجالُ، فهو مستقِلّ بهذه الفائدة، وإنّما جُمع بينهما مبالغةً في إفادةِ هذا المعنى، فإذا أردت المبالغةَ، جمعتَ بينهما، وإذا أردت أصلَ الدعاء من غير مبالغة فيه، جئت بكلّ واحد منهما منفردًا، فمن ذلك قول ابن أحْمَرَ [من البسيط]: 552 - أنْشَأتُ أَسْألُهُ ما بالُ رِفْقَته ... حَيَّ الحُمُولَ فإنّ الرَّكْبَ قد ذَهَبَا ¬
فصل [أحكام "بله"]
ومن ذلك قول المُؤذِّن: "حَيَّ على الفَلاح"، إنّما هو دعاءٌ إلى الصلاة، وإلى الفلاح، وربّما اكتفوا بـ "هَلْ" وحدَها. قال النابغة الجعدي [من الطويل]: ألا حييا ليلى وقولا لها هلا أي: تعاليْ، وأقبلي، واستعمال "حيّ" وحدها أكثرُ من استعمالِ "هَلْ" وحدها. فصل [أحكام "بله"] قال صاحب الكتاب: "بله" على ضربين اسم فعل ومصدر بمعنى الترك ويضاف فيقال "بله زيد" كأنه قيل: "ترك زيد". وأنشد أبو عبيدة قول [من الكامل]: 553 - تذر الجماجم ضاحيًا هاماتها] ... بله الأكف كأنها لم تخلق ¬
منصوباً ومجروراً. وقد روى أبو زيد فيه القلب إذا كان مصدراً وهو قولهم: "بهل زيد". * * * قال الشارح: اعلم أنّ "بَلْهَ" تكون على ضربين: أحدُهما أن تكون اسمًا من أسماء الأفعال، كـ"صَهْ" و"مَه"، والآخر أن تكون مصدرًا مضافًا إلى ما بعده، كما كانت "رُوَيْدَ زيدٍ" كذلك. فإذا كانت اسمًا للفعل، كانت بمعنَى "دعْ"، وكانت مبنيّة لوقوعها موقع الفعل، وهو"دَعْ". وحُرّكت لالتقاء الساكنين، وهما اللام والهاء. وفُتح إتباعًا لفتحة الباء، ولم يُعتَدّ باللام حاجزًا لسكونها. كما قالوا: "مُنْذُ"، فأتبعوا الذال ضمّةَ الميم، ولم يعتدّوا بالنون حاجزًا، ومثلُه قوله [من الطويل]: 554 - [عَجِبْتُ لمولودٍ وَلَيْسَ لَهُ أبٌ ... وَذي وَلَدٍ] لم يَلْدَهُ أبَوان ¬
فتح الدالَ إتباعًا لفتحة الياء عند سكون اللام. وإن كان مصدرًا، كان معربًا غيرَ مبنيّ مضافًا إلى ما بعده. فتقول: "بَلْهَ زيدٍ"، كما تقول: "تَرْكَ زيدٍ" من نحو قوله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (¬1). فمن قال: "بَلْهَ زيدًا"، جعله بمنزلةِ "دَعْ"، وسمّى به الفعلَ، ومن قال: "بَلْهَ زيدٍ"، فأضاف، جعله مصدرًا. ولا يجوز أن يضاف، ويكونَ مع الإضافة اسمَ الفعل؛ لأنّ هذه الأسماء التي سُمّي بها الفعل عندهم لا تُضاف كما لا تُضاف مسمّياتُها من الأفعال، فلا تُضاف كما لا تُضاف الأفعالُ، فأمّا ما أنشد من قوله [من الكامل]: تَذَرُ الجَماجِمَ ضاحِيًا هاماتُها ... بَلْهَ الأكُفِّ كأنّها لم تُخْلَقِ (¬2) فإنّ أبا عُبَيْدَةَ أنشده لكَعْب بن مالكٍ، ويُروى بخفض "الأكفّ". ونصبِها، فمَن خفض، جعله مصدرًا بمنزلةِ {فَضَرْبَ الرِّقَابِ} (¬3) ومن نصب جعله، اسمًا للفعل بمعنَى "دَعْ". والذي يدلّ على أنه اسمُ فعل قولُ ابن هَرْمَةَ [من البسيط]: 555 - يَمْشِي القَطُوفُ إذا غَنَّى الحُداةُ به ... مَشْيَ الجَوادِ فَبَلْهَ الجِلَّةَ النُّجُبَا ¬
فهذا لا يكون إلَّا اسمَ فعل لنَصْبه ما بعده، فأمّا قول الآخر [من البسيط]: 556 - حَمّالُ أثْقالِ أهْلِ الوُدِّ آوِنَةً ... أُعْطِيهِمِ الجَهْدَ مِنِّي بَلْهَ ما أسَعُ فيجوز أن تكون "مَا" في موضعِ نصب، ويكون في "بَلْهَ" ضميرُ مرفوع. ويدلّ على ذلك قوله: بَلْهَ الجلّةَ النُّجُبا ويجوز أن يكون موضعه جرًّا على من أنشد "بَلْهَ الأكُفِّ"، يجعله مصدرًا. وذهب أبو الحسن الأخفشُ إلى أن "بَلْه" حرفُ جرّ بمنزلةِ "حَاشَى"، و"عَدَا". وقد حكى أبو زيد فيها: "بَهْلَ"، قلب اللامَ إلى موضع العين، وحكى عنهم: "إنّ ¬
فصل [أوجه "فعال"]
فلانًا لا يُطيق أن يحمِل الفِهْرَ فمِن بَلْهِ أن يأتي بالصخْرة". يقول: لا يُطيق أن يحمل الفهر، فكيف يطيق حَمْلَ الصخرة؟ وبعضُ العرب يقول: مِن بَهْلِ أن يحمل الصخرةَ، فقلب. وهذه الحكايةُ من دخولِ "مِنْ" عليه، والإضافةُ في قوله: "بَلْهَ الأكفّ"، والقلبُ في قولهم "بهل"، يدل على أنّه مصدرٌ؛ لأنّ اسم الفعل لا يُضاف، ولا يدخل عليه عواملُ الأسماء؛ لأنّه في معنَى الفعل. ولذلك قال أبو الحسن: إِنّ "دُونَكَ" في الإغراء لا ينتصب على حد انتصابه قبل التسمية والنِّيابةِ عن الفعل، فاعرفه. فصل [أوجه "فَعالِ"] قال صاحب الكتاب: "فعال" على أربعة أضرب التي في معنى الأمر كنزال وتراك وبراك ودراك ونظار وبداد أي ليأخذ كل منكم قرنه. ويقال أيضًا "جاءت الخيل بداد", أي متبددة ونعاء فلاناً، ودباب للضبع أي دبي، و"خراج" لعبة للصبيان, أي: أخرجوا, وهي قياس عند سيبويه في جميع الأفعال الثلاثية (¬1). وقد قلت في الرباعية كـ "قرقار" في قوله [من الرجز]: 557 - [حتي إذا كان علي مطار ... يمناه واليسري علي الثرثار] قالت له ريح الصبا قرقار ¬
وقال [من الكامل]: 558 - [متكنفي جنبي عكاظ كليهما] ... يدعو وليدهم بها عرعار * * * قال الشارح: اعلم أنّ صيغةَ "فَعَالِ" ممّا اختصّ به المؤنّثُ، ولا يكون إلا معرفةً معدولًا عن جهته، وهو على أربعة أضرب: فالأوّل: أن يكون اسمّا للفعل في حال الأمر مبنيًّا على الكسر، وذلك قولك: "نَزالِ"، و"تَراكِ"، ونحوهما. وإنّما بُني لِما ذكرناه من وقوعه موقعَ فعل الأمر، وهذا تقريبٌ. والحقُّ في ذلك أنّ علّةَ بنائه إنّما هي لتضمُّنه معنى لام الأمر. ألا ترى أن "نَزالِ" بمعنَى "انْزِلْ"، وكذلك "صَهْ" بمعنَى "اسْكُتْ"؟ وأصلُ "اُسْكُتْ" و"انْزِلْ": "لِتَسْكُتْ" و"لِتَنْزِلْ"، كما أن أصلَ "قُمْ": "لِتَقُمْ"، وأصلَ "اُقْعُدْ" "لِتَقْعُدْ". يدلّ على ذلك أنّه قد جاء على الأصل في قوله تعالى: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} (¬1). فلمّا تضمّنتْ هذه الأسماءُ معنى لام الأمر، شابَهت الحروفَ، فبُنيت كما بُنيت "كَيْفَ"، و"كَمْ"، لمّا تضمّن كل واحد منهما معنى حرف الاستفهام. والأسماءُ المسمّى بها الفعلُ في الخبر، نحو: "شتّانَ" و"هَيهاتَ" محمولةٌ في ذلك على الأسماء المسمّى بها في الأمر، وحقُّها أن تكون مُسكَّنةَ الآخِر كـ"صَهْ" و"مَهْ" إلَّا أنّه التقى في آخِرها ساكنان: الألفُ الزائدة، ولامُ الكلمة، فوجب تحريكُ اللام لالتقاء الساكنين. وكان الكسرُ أوْلى لوجهَيْن: أحدُهما: أَنّ "نزَالِ" وبابَه مؤنّثٌ، والكسرُ من عَلَم التأنيث، نحو: "قُمْتِ"، و"ضَرَبَكِ"، فحُرّك بأشكل الحركات به. والوجه الآخر: أَنه كُسر على حد ما يُوجِبه التقاءُ الساكنين، وإنّما أُتي بهذه الأسماء ¬
لِما ذكرناه من إرادةِ الإيجاز والمبالغة في المعنى، فـ "نَزالِ" أبلغُ في "المعنى" من "انْزِلْ"، و"تَراكِ" أبلغُ من "اتْرُكْ". وإنّما غُير لفظُ الفعل الواقعَةِ هذه الأسماءُ موقعه، ليكون ذلك أدَلَّ على الفعل، وأبلغَ في إفادة معناه، فـ "نَزالِ" بمعنى المُنازَلة، ولذلك كان مؤنّثا في قوله [من الكامل]: وَلَنِعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنْتَ إذا ... دُعِيَتْ نَزالِ ولُجَّ في الذُّعْر (¬1) وهو اسمٌ لـ"نازِلْ". وأصلُه أنّه كان إذا التقى خَصْمان، نزلا عن ظهور خَيْلهما، وتَقاتلا، ثمّ اتُّسع فيه حتى قيل لكلِّ متحارِبَيْن: "متنازِلان"، وإن كان راكبَيْن. وقالوا "تَراكِ" بمعنَى "اتْرُكْ". قال الشاعر [من الرجز]: 559 - تَراكِهَا مِن إبِلٍ تَراكِها ... أمَا تَرَى الخَيْلَ لَدَى أوْراكِها وقالوا: "بَراكِ" بمعنَى "ابْرُكْ". يقال في الحرب: "بَراكِ بَراكِ"، أي: ابْرُكُوا واثْبُتوا، و"البرَاكاءُ": الثبات في الحرب والجِدُّ فيه. قال بِشْرٌ [من الوافر]: 560 - ولا يُنْجِي من الغَمَراتِ إلَّا ... بَراكاءُ القِتالِ أَوِالفِرارُ ¬
وقالوا: "دَراكِ" بمعنى "أَدْرِكْ". والإدراكُ: اللحوق، يقال: "مشيتُ حتى أدركتُ". والمدارَكةُ: المتابَعة. ويقال: "بَدادِ بَدادِ في الحرب"، أي: لِيَأْخُذْ كلُّ رجل قِرْنَهُ. والبَدادُ: البِراز. يقال: "لو كان البَدادُ، لما أَطاقُوه"، أي: لو بارزناهم رجلًا رجلًا. ويقال: "تَبادَّ القومُ"، إذا أخذ كلُّ واحد قِرْنَه. فأمّا قولهم: "جاءت الخيلُ بَدادِ"، أي: متبدَّدةً، فليس من هذا الباب، وسيُذكَر في موضعه. وقالوا: "نعاءِ الرجلَ" بمعنى "انْعَهُ". قال الكُمَيْت [من الطويل]: 561 - نَعاءِ جُذامًا غيرَ مَوْتٍ ولا قَتْلِ ... ولكِنْ فِراقًا للدَّعائمِ والأصْلِ وكانت العرب، إذا مات منها ميّتٌ له خَطْرٌ وقَدْرٌ، ركِب راكبٌ، وجعل يسير في الناس. ويقال: "نَعاءِ فلانًا"، أي: انْعَهُ، أي: أَظْهِرْ خبرَ وَفاته. وقالوا: "دَبابِ" للضَّبُع، والمراد: دِبِّي، قيل لها ذلك لقلّةِ عَدْوها، كأنّها تَدِبُّ. يقال: "ناقة دَبُوبٌ"، أي: لا تكاد تمشي لكثرة لَحْمها. وقالوا: "خَراجِ خراجِ"، أي: أَخْرِجوا إلى الخَريج، والخريجُ: لُعْبةٌ للصبيان. قال الهُذَليّ [من الطويل]: 562 - أَرِقتُ له ذاتَ العِشاءِ كأنّه ... مَخاريقُ يُدْعَى تَحْتَهُنّ خَرِيجُ ¬
وقالوا: "مَناعِ زيدًا"، أي: امْنَعْهُ. قال الشاعر [من الرجز]: 563 - مَناعِها من إبِل مَناعِها ... أَمَا تَرَى الموتَ لَدَى أَرْباعِها ولم يأت هذا البناء من الرُّباعيّ إلا قليلًا، قالوا: "قَرْقارِ" بمعنى "قَرْقِرْ". قال الراجز [من الرجز]: قالت له رِيحُ الصَّبا قَرْقارِ ... واخْتَلَطَ المعروفُ بالإنكار (¬1) ¬
["فعال" التي بمعني المصدر]
أي: قالت: "قَرْقِرْ بالرَّعْد"، كأنّها أمرتِ السحابَ بذلك، أي: ألقحتْه، وهيّجتْ رَعْدَه. وهو مأخوذ من "قَرْقَرَ البعيرُ"، إذا صفا صوتُه، ورجع. وبعيرٌ قَرْقارُ الهَدِير إذا كان صافي الصوتِ في هديره، وقالوا: "عَرْعَارِ" من "العَرْعَرَة"، وهي لعبة للصبيان. قال النابغة [من الكامل]: مُتَكَنِّفِي جَنْبَيْ عُكاظَ كِلَيْهِما ... يَدْعُو وَلِيدُهُمُ بها عَرْعارِ (¬1) وذلك أنّ الصبي كان إذا لم يجد من يُلاعِبه، رفع صوتَه فقال: "عَرْعارِ"، أي: هَلُمُّوا إلى العَرْعرة، فإذا سمعوا، خرجوا إليه، ولعبوا معه تلك اللعبةَ. هذا مذهب سيبويه في ذلك كله، وقد خولِف في حَمْلِ "قرقارِ"، و"عرعارِ" على العدل لخروجهما عن الثُّلاثيّ الذي هو البابُ، وجُعلا حكاية للصوت المُردَّد دون أن يكونا معدولَيْن، وهو القياس؛ لأنّ بناء "فَعالِ" إنّما يجيء من الثلاثيّ، وهذا العدلُ إنّما جاء فيه. فأمّا الرباعيُّ نحو"قرقارِ" و"عرعارِ"، فهو"فَعْلالِ" وليس بـ "فَعالِ". واعلم أنّ هذه الأسماء كلَّها أسماءٌ لِما تقدّم من الدلالة, لأنّ هذا البناء ليس من أَمْثِلَةِ الأفعال، وهو في الأسماء كثيرٌ، وهي مؤنّثةٌ بدليل قوله [من الكامل]: إذا دُعِيَتْ نَزالِ ولُجَّ في الذُّعْرِ (¬2) فتأنيثُ الفعل حين أُسند إليه دليلٌ على أنّه مؤنّثٌ. وهي معرفةٌ؛ لأنّ قولك: "نَزالِ" معناه: "انْزِلْ". وهذا لفظٌ معروف غيرُ منكور. واعلم أنّ للنحويّين خلافًا في هذا القِسم المعدول عن لفظِ فعل الأمر المأخوذِ من لفظه، فمنهم من طرده في كلّ فعل ثلاثيّ لكثرةِ ما ورد منه عنهم واستمرّ، وهو رأيُ سيبويه، ومنهم من يَقِف عندما جاء عن العرب منه، فلا يقول: "قَوامِ" في معنى "قُمْ"، ولا "قَعادِ" في معنى "اُقْعُدْ". وهو القياس؛ لأنّ "فَعالِ" اسمٌ وضعتْه العربُ موضعَ "افْعَلْ"، وليس لأحدٍ أن يبتدِع اسمًا لم يتكلّم به العربُ. وأمّا الرباعيُّ فلا كلامَ أنّه لا يقاس عليه. والفصل بين الثلاثيّ والرباعيّ عند سيبويه أنّ الثلاثيّ قد كثُر في كلامهم جدًّا , ولا يُسمَع من الرباعيّ إلا في الحرفَيْن اللذَيْن ذكرناهما، فلمّا كثر ذلك في كلامهم، جعله أصلًا، وقاس عليه، ولمّا قلّ في الرباعيّ، وقف عند المسموع منه، ولم يتجاوزه. * * * [" فعال" التي بمعني المصدر] قال صاحب الكتاب: والتي في معنى المصدر والمعرفة كفجار للفجرة، ويسار للميسرة، وجماد للجمود، وحماد للمحمدة. ويقولون للظباء إذا ورت الماء: فلا ¬
عباب، وإذا لم ترد فلا أباب، وركب فلان هجاج أي الباطل. ويقال دعني كفاف أي تكف عني وأكف عنك، ونزلت بوار على الكفار ونزلت بلاء على أهل الكتاب. * * * قال الشارح: الضرب الثاني من ضروب "فَعالِ" أن تكون اسمًا لمصدر، عَلَمًا عليه كـ"فَجارِ" و"بَدادِ"، ولا تُبنَى إلا أن يجتمع فيها ما اجتمع في "نَزالِ" وبابه من التعريف والتأنيث والعدلِ. فهي محمولةٌ عليه في البناء؛ لأنّها على لفظه ومُشابِهةٌ له من الجهات المذكورة، وهذا مذهب سيبويه. وزعم أبو العبّاس المبرّد أنّ الذي أوجب بناء هذه الأسماء أنّها لو كانت مؤنّثة معرفة غيرَ معدولة، لكان حكمُها مَنْعَ الصرف، فلمّا عُدلت، زادها العدلُ ثقلًا، فلم يبق بعد منع الصرف إلا البناء، وهو رأيُ ابن كَيْسان. وكان أبو إسحاق يُنْكِر هذا القول، ويستضعفه ويقول: الاسمُ إذا اجتمع فيه عِلّتان امتنع من الصرف، ولا يزيده اجتماعُ العِلَل على منعِ الصرف، فيكون اجتماعُ العلل المانعَ من الصرف، وأدنى ذلك علّتان. والذي يدلّ على ذلك أنّ "صَحْراء" لا ينصرف، وإذا سُمّي به، زاد علّة، ولم يُخْرِجه ذلك إلى البناء. وكذلك "حَمْراءُ" غير مصروف، وفيه الوصفُ مع التأنيث المستقلُّ بمنع الصرف. ومن ذلك "فِرْعَوْنُ"، لو سمّيت به امرأة، لم يَزِدْه ذلك على منع الصرف. وقالوا: "أَذْرَبِيجَانُ" اسمُ هذا المكان، فإنّه قد اجتمع فيه التعريف، وزيادةُ الألف والنون، والعُجْمَةُ، والتأنيث، والتركيبُ، ولم يزده على منع صرفه. فمن ذلك "فجارِ". قال النابغة [من الكامل]: إنَّا اقْتَسَمْنَا خُطَّتَيْنَا بَيْنَنَا ... فحَمَلْتُ بَرَّةَ واحْتَمَلْتَ فَجارِ (¬1) قالوا: يريد الفَجْرَةَ، جعلوه عَلَما عليه، فإذا قيل: "فَجارِ"، دلّ على لفظ الفجرة، والحَدَثُ الذي هو الفُسوقُ مستفاد من المسمّى، لا من الاسم. وقد ذهب من ينتمي إلى التحقيق من النحويّين إلى أنّ الأمثلَ أن تكون "فجارِ" معدولة عن "فَجْرَةَ" عَلَمًا؛ لأنّه قَرَنَها بِعِدْلها "بَرَّة"، فكما أنّ "برّة" عَلَمٌ لا محالة، فكذلك ما عُدل عنه "فَجارِ"، فهو في التقدير "فَجْرَةُ". فلو عُدل عن "برّة" هذا، لكان قياسُه "برارِ". ومن ذلك "بَدادِ"، يقال: "جاء القوم بَدادِ"، قال عَوْفُ بن الخرع [من الكامل]: 564 - وذكرتَ من لَبَنِ المُحلَّق شُرْبَةً ... والخَيْلُ تَعْدُو في الصَّعِيد بَدادِ ¬
أي: بَدَدًا بمعنَى متبددة، فهو مصدرٌ في معنى اسم الفاعل، كقولهم: "عَدْلٌ" بمعنى "عادِلٍ"، و"غَوْرٌ" بمعنى "غائِرٍ". والتحقيقُ فيه أنّه اسم لمصدر مؤنّث معرفة، كأنّه البَدَّةُ، وإن كان لا يُتكلّم به، كأنّه أصلٌ مرفوض، ومثله قولُ حسّان [من الكامل]: 565 - كُنَّا ثَمانِيَةً وكانوا جَحْفَلاً ... لجبًا فشُلُّوا بالرِّماحِ بَدادِ أي: متبدِّدين. فإن قيل: بَدادِ معرفة فيما زعمتم، وهي ههنا حالٌ، والحال لا تكون إلا نكرة. فالجوابُ: يجوز أن يجيء الحال معرفةً إذا كان مصدرًا، نحو: "فعلتَه جَهْدَك وطاقتَك"، و"أرسلها العِراكَ" من قوله [من الوافر]: فَأَرْسَلَها العِراكَ ولم يَذُدْها ... ولم يُشْفِقْ على نَغصِ الدِّخالِ (¬1) ¬
وقالوا: "يَسارِ" بمعنى المَيْسَرَة، يقال: "أنْظِرْني حتّى يَسارِ"، أي: إلى الميسرة. قال [من الطويل]: 566 - فَقُلْتُ امْكُثِي حتّى يَسارِ لَعَلَّنَا ... نَحُجَّ مَعًا قالتْ: أَعامًا وقابِلَهْ أي: امكثي إلى ميسرة، فهو عَلَمٌ على هذا اللفظ، وقالوا: "جَمادِ" بمعنى الجمود، يقال للبَخِيل: "جَمادِ له"، أي: لا زال جامدَ الحال، وقالوا: "حَمادِ" بمعنى المَحْمَدَة، قال المتلمِّس [من الوافر]: 567 - جَمادِ لها جَمادِ، ولا تَقُولِي ... لها أَبَدًا إذا ذُكِرَتْ حَمادِ ¬
أي: قولي لها: "جمودًا"، ولا تقولي لها: "حَمْدًا وشُكْرًا". وقالوا: "عَبابِ" بمعنى العَبّ، ويقال: "لا عَبابِ" أي: لا عَبَّ، والعبُّ: شربُ الماء من غير مَصّ، وفي الحديث "الكُبادُ من العَبّ" (¬1)، والكُبادُ: وجعُ الكَبِد. ويقولون للظباء إذا وردتِ الماءَ: "لا عَبابِ"، أي: لا عبَّ، وإذا لم تَرِد: "لا أَبابِ". وقالوا: "رَكِب فلان هَجاجِ"، أي: رأسَه، فكأنّه اسم للهجاج، قال الشاعر [من الوافر]: 568 - وقد ركبوا على لَوْمِي هَجاجِ أي: الهَجّةَ، أي: هاجّين على رؤوسهم لا يَلْوون (¬2). ويقال: "دَعْني كَفافِ"، أي: تكُفّ عنّي، وأكُفّ عنك، فهو اسم بمعنى الكَفّة. ويقال: "نزلتْ عليهم بَوارِ" حكاه الأحمر، جعله معدولًا عن المصدر، وبناه على الكسرِ لما ذكرناه، والبَوار: الهَلاكُ، ومنه قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} (¬3)، أي: هَلْكَى. وقالو!: "نزلتْ بَلاءِ على أهل الكتابِ" مكسورةً كـ"فَجارِ"، و"بَدادِ"، حكاه ¬
["فعال" المعدولة عن الصفة]
الأحمر عن العرب، وهو اسم للمصدر، والمرادُ البَلِيّة. والبَلاء: الاختبارُ بالخير والشرّ، يقال: "أبْلاه الله بلاءً حسنًا". قال زُهَيْر [من الطويل]: 569 - جَزَى اللهُ بالإحسانِ ما فَعَلا بِكُمْ ... وأبْلاهما خَيْرَ البَلاءِ الذي يَبْلُو أي: خيرَ الصَّنِيع الذي يختبِر به عِبادَه، فاعرفه. * * * [" فعال" المعدولة عن الصفة] قال صاحب الكتاب: والمعدولة عن الصفة كقولهم في النداء يا فساق ويا خباث ويا لكاع ويا رطاب ويا دفار ويا خضاف ويا خزاق ويا حباق. * * * قال الشارح: هذا الضرب هو الثالث من ضروب "فَعالِ"، وهو أن تكون صفةً غالبة، نحو قولك: "يا فَساقِ"، و"يا غَدارِ"، و"يا خَباثِ"، ونحو ذلك ممّا ذكره. وأصلُها "فاعلةٌ"، نحو: "فاسِقة" و"غادِرة" و"خَبِيثة". وإنّما عُدل إلى "فَعالِ" لضرب من المبالغة في الفسق، والغَدْر، والخُبْث، كما عدلوا عن "راحِم" إلى "رَحْمان" للمبالغة، وكما عدلوا عن "لَئِيم" إلى "مَلأَمانَ"، وعن "لاكعٍ" إلى "مَلْكَعانَ" (¬1) حيث أرادوا المبالغة في الصفة، ولا يُستعمل في غير النداء غالبًا. وإنما اختص به النداء؛ لأنّه يصير معرفةً بالقصد، كتعريفِ "رجل" في قولك: "يا رجلُ"، فاجتمع فيه التعريفُ الحاصل بالنداء، والتأنيثُ إذ كان معدولًا عن مؤنّث، ¬
والعدلُ مع لفظِ "فَعالِ"، فناسَبَ لفظَ "نَزالِ" ومعناه، فبُني كبنائه. والدليلُ على تعريفه قولهم: "يا فُسَقُ الخَبِيثُ"، و"يا فَساقِ الخبيثةُ"، فوصفُهم إيّاه بالمعرفة دليلٌ على تعريفه. وربّما جاء في غير النداء ضرورةً في الشعر، ولذلك قلنا: "غالِبًا". قال الحُطَيْئة [من الوافر]: 570 - أُطَوفُ ما أُطَوفُ ثُمّ آوِي ... إلى بَيْتٍ قَعِيدَتُهُ لَكاعِ فـ "فَساق" معدول عن "فاسقَة"، والفاسقُ: الفاجر، وأصله الخروجُ عن الأمر. يقال: "فسقتِ الرُّطَبَةُ"، إذا خرجتْ عن قِشْرتها، ومنه قوله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (¬1)، أي: خرج عن ذلك. قال ابن الأعرابيّ: لم يُسمَع في شيء من كلام الجاهليّة، ولا شعرِهم "فاسِقٌ". وأمّا "خَباثِ"، فمعدول عن "خَبِيثةٍ"، والخبيثُ ضدّ الطيّب، يقال: "خَبُثَ، فهو خبيثٌ"، أي: خَبٌّ رَدِيءٌ، وأخبثَه غيرُه: علّمه الخُبْثَ. و"لَكاع" معدول عن "لَكْعاءَ"، يقال: "رجلٌ لُكَعُ"، أي: لئيمٌ، و"امرأةٌ لكعاء"، وقد لَكِعَ لَكَاَعَة، فهو أَلْكَعُ، ولُكَعُ معدول عنه، ولذلك لا ينصرف. و"لَكاعِ" معدول عن "لَكْعاءَ". ¬
["فعال" في غير النداء]
وقالوا: "رَطابِ" للأَمَة، وهي صفةُ ذَمٍّ، والمراد: "يا رَطْبَةَ الفَرْج"، وذلك ممّا تُعاب به المرأة. وقالوا: "يا دَفارِ"، والمراد "يا دَفِرَةُ"، فعدلوا عن "دفرة" إلى "دَفارِ" للمبالغة في الصفة، والدَّفْرُ: النَّتْنُ، والدنيا: أُمُّ دَفارِ، كنوها بذلك ذَمًّا لها. ويقال: "دَفْرًا لك"، أي: نَتْنًا. وقالوا للأمَة أيضًا: "يا خَضافِ"، فهو صفةُ ذمّ، والخَضفُ: الحَبْقُ، أنشد الأصمعيّ [من الرجز]: 571 - إنَّا وَجَدْنَا خَلَفًا بِئْسَ الخَلَفْ ... عَبْدًا إذا ما ناءَ بِالحمْل خَضَفْ كأنّهم أرادوا: "يا خاضفةُ"، أي: يا ضارطةُ. ومثله قولهم: "يا حَباقِ"، والمراد: "يا حابقةُ"، فعُدل إلى "فَعالِ" للمبالغة، والحَبْقُ: الضَّرْط. وقالوا: "يا حَزاقِ"، أي: يا حازقةُ، وهو من صفاتِ الذمّ من معنى البُخْل، وقيل هو بالخاء المعجمة من "الخَزْق"، وهو القَذَرُ، كأنه قال: "يا ذارقةُ". * * * [" فعالِ" في غير النداء] قال صاحب الكتاب: وفي غير النداء نحو حلاق وجباذ للمنية، وضرام للحرب، وكلاح وجداع وأزام للسنة، وحناذ وبراح للشمس، وسباط ¬
للحمى، وطمار للمكان المرتفع, يقال: "هوى من طمار", و"ابنا طمار": ثنينان (¬1)، و"وقع في بنات طمار وطبار" (¬2) أي في دواه، و"رماه الله ببنت طمار", و"سببته سبّة تكون لزام", أي لازمة. ويقولون للرجل يطلع عليهم يكرهون طلعته: "حداد حدية", و"كرار" خرزة يؤخذن بها أزواجهن يقلن: "يا هصرة اهصريه ويا كرار كريه, إن أدبر فرديه وإن أقبل فسريه" وفي مثل "فشاس فشيه من استه إلى فيه" (¬3). و"قطاط" في قوله [من الوافر]: 572 - أطلت فراطهم حتى إذا ما ... قتلت سراتهم كانت قطاط أي كانت تلك الفعلة لي كافية وقاطة لثأري أي قطعة له. و"لا تبل فلاناً ¬
عندي بلال أي بالة, ويقال للداهية "صمي صمام". و"كويته وقاع" وهي سمة علي الجاعرتين (¬1) , وقيل في طول الرأس من مقدمه إلى مؤخره قال [من الوافر]: 573 - وكنت إذا منيت بخصم سوء ... دلفت له فأكويه وقاع * * * قال الشارح: هذه الألفاظ، وإن كان أصلها الصفةَ، إلا أنّها خرجت مَخْرَجَ الأعلام، نحو: "حَذامِ"، و"قَطامِ"، فلذلك كانت معارفَ، والعلّةُ في بنائها كالعلّة في بناء "حَذامِ"، و"قَطامِ". فمن ذلك "حَلاقِ"، و"جَباذِ" للمنيّة، قيل لها: "حَلاقِ"؛ لأنّها تحلِق كل حيّ، مِن "حَلَقَ الشَّعَرَ". قال الشاعر [من الكامل]: 574 - لَحِقَتْ حَلاقِ بهم على أَكْسائِهِمْ ... ضَرْبَ الرِّقابِ ولا يُهِمُّ المَغْنَمُ ¬
و"جَباذٍ" من "جبذتُ الشيء"، كأنها تجبِذهم، وليس "جَبَذَ" مقلوبًا من "جَذَبَ"، وإن كان في معناه. وإنّما هما لغتان، يقال: "جذب"، و"جبذ". ألا ترى أنّ تصرُّفهما بالماضي، والمستقبل، والمصدر، واسم الفاعل، والمفعول تصرُّفٌ واحدٌ، نحو: "جبذ يجبِذ، جَبْذًا فهو جابذٌ ومجبوذٌ"، كقولك: "جذب يجذِب جَذْبًا، فهو جاذبٌ، ومجذوبٌ"؟ وإذ تَساوَيا في التصرّف، لم يكن جعلُ أحدهما أصلًا، والآخرِ مقلوبًا منه بأوْلى من العكس. وإنّما قيل لها ذلك لجَبْذها الأرواح. ومن ذلك قولهم: "ضَرامِ" للحرب عَلَمٌ لها، وهو من "أَضْرَمْتُ النارَ"، أي: أَجَّجتُها، يقال منه: "ضَرمْتُ النارَ"، و"أضرمتُ". و"ضَرِمَ الشيء" بالكسر: اشتدّ حَرُّه، والحربُ تشبَّه بالنار. وقالوا: "كَلاحِ"، و"جَداعِ"، و"أزامِ" للسَّنَة، و"كلاح" من قولهم: "كلح الرجلُ كُلُوحًا، وكُلاحًا"، إذا كشر عن أنْيابه عُبوسًا، وتوصَف السنة المُجْدِبة بالكلوح، فيقال: "سنةٌ كالِحةٌ"، وربّما وصفوها بالمصدر مبالغةً، كما قالوا: "رجلٌ عدلٌ ورِضى"، قال لَبِيدٌ [من الرجز]: 575 - كان غِياثَ المُرْمِل المُمْتاحِ ... وعِصْمَةً في الزَّمَنِ الكُلاحِ ¬
و"كَلاحِ " اسمٌ للسنة المُجْدِبة الشديدةِ معدولٌ عن "كالِحَة"، و"جَداعٍ" اسمٌ للسنة المجدبة أيضًا التي تجدَع بالمال، أي: تذهب به، قال الشاعر [من الوافر]: 576 - لقد آلَيْتُ أَغْدُرُ في جَداعِ ... وإنْ مُنِّيتُ أُمّاتِ الرّباعِ وقالوا: "أَزامِ" للسنة الشديدة، يقال "نزلتْ بهم أَزامِ وأُزُومٌ"، أي: سنة شديدة، من الأزمَة، وهي الشدّةَ والقَحْط. يقال: "أصابتهم سنةٌ أَزَمَتْهم أَزْمًا"، أي: طحنتْهم. وقالوا للشمس: "حَناذِ" من الحَنْذ، وهو شدّةُ الحَرّ وإحراقُه، يقال منه: "حنذتْه الشمسُ"، أي: أحْرقتْه، ويجوز أن يكون من قوله تعالى: {فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} (¬1)، أي: مَشْويٍّ، كأنّها تَشْوِي بحرّها. وقالوا: "بَراحِ"، وهو من أسماء الشمس أيضًا، قال الشاعر [من الرجز]: 577 - هذا مَقامُ قَدَمَيْ رَباحِ ... ذَبَّبَ حتّى دَلَكَتْ بَراحِ ¬
وهو مأخوذ من "برِح" إذا زال، ولذلك قيل لأقربِ ليلةٍ مضت: البارحةُ، قيل لها ذلك لزوالها. ويجوز أن يكون قيل لها ذلك لشدّة حَرّهَا، من "البَوارح"، وهي الرياحُ الحارّة. ومنه "بُرَحاء الحُمَّى"، وهي شدّةُ حَرّها. وقالوا: "سَباطِ" للُحمَّى، قال [من الوافر]: 578 - [أجزتَ بفِتيَةٍ بيضٍ كرامٍ] ... كأنّهم تُمِلُّهُمْ سَباطِ وهو مأخوذ من "أسبطَ الرجلُ"، أي: امتدّ وانبسط من الضرب، إذ المحمومُ يتمدّد ويتمطّى، ويتألّم تألُّمَ المضروب. و"طَمارِ" من أسماء المكان المرتفع، قال الأصمعيّ: يقال: "انصب عليه من طَمارِ"، أي: من عالٍ، قال الشاعر [من الطويل]: 579 - وإنْ كنتِ لا تَدْرِينَ ما الموتُ فانْظُرِي ... إلى هانىءٍ في السُّوق وابنِ عَقِيلِ إلى بَطَلٍ قد عَقَّرَ السيفُ وَجْهَهُ ... وآخَرَ يَهْوِى من طَمارِ قَتِيلِ ¬
قال الكسائي: يقال: "من طَمارِ"، و"من طَمارَ" بكسر الراء وفتحِها , من كسر بناه على الكسر، ومن فتح أعربه ولم يصرفه، كما فعلوا في "حَذامِ"، و"قَطامِ"، وهو مأخوذ من الطُّمور، وهو شِبْهُ الوُثوب نحو السماء، قال الشاعر [من الكامل]: 585 - وإذا نَبَذْتَ له الحَصاةَ رأيتَه ... يَنْزُو لوَقْعَتِها طُمورَ الأَخْيَلِ وطامرُ بن طامر: البُرْغوث، قيل له ذلك لوُثوبه. وابنا طَمارِ: ثَنِيَّتان معروفتان. و"وقع في بنات طمارِ وطَبارِ"، أي: في دَواهٍ. وأظنُّ الباء بدلاً من الميم ¬
لغلَبةِ استعمال الميم. ويقولون: "رماه الله ببِنْتِ طَمارِ"، أي: بداهيةٍ. وقالوا: "سببتُه سَبَّةً تكون لَزامِ"، أي: لازمةً، جاؤوا بها على "فَعالِ" كـ"قَطامِ". وقياسُه أن يكون صفةً شاملةً، إلا أن السبّة اختصّت بهذا البناء، حتى صار كالعَلَم لهَا، حكى ذلك الكسائيُّ. ويقولون للرجل يطلُع عليهم، يكرَهون طَلْعتَه: "حَدادِ حُديه". وهو من الحَدّ، وهو المنع، ومنه قيل للبَوّاب: "حَدادٌ"، لمَنْعه الداخلَ، فـ "حَدادِ" معدول عن "حادّةٍ"، أي: مانعة، وهو مُنادّى محذوفُ أداةِ النداء. وينبغي أن يكون موضعه مع "فَساقِ"، و"لكاعِ"، وقولهم: "حُدِّيه"، أي: امْنَعِيه، وهي كالرُّقْية، والتأنيثُ كأنّه يخاطب جِنّيّةً، أو تابِعةً. وكذلك قولهم: "كَرارِ"، وهي خَرَزَةٌ تُؤخِّذ بها نساء العرب أزواجهنّ، أي: يَسْحَرْنَ، تقول الساحرةُ: "يا هَصْرَةُ اهْصِرِيهِ"، أي: ارْجِعيه، وأصله المَيْل، و"يا كَرارِ كُرِّيه"، وهو معدول عن "كارّةٍ"، وهو من الكَرّ، وهو الرُّجوع، يُستعمل لازمًا ومتعدّيًا كما كان "رجع" كذلك. "إن أَدْبَرَ، فرُدِّيه، وإن أقبل، فسُرِّيه". وقالوا في مَثَلٍ: "فَشاشِ فُشيه من استه إلى فِيه". "فَشاشِ" مبني على الكسر، والمراد: فاشّةٌ، عُدل إلى "فَشاشِ" للمبالغة. والمرادُ بـ"فَشاشِ" الداهيةُ، أي: يا داهيةُ، استخرِجي ما عنده كما تنفشّ الرياحُ من الوَطْب، ورُدّيه عمّا في نفسه. من قولهم: انْفَشَّ الرجلُ من الأمر، إذا فتر، وكسِل. وقالوا: "قَطاطِ"، وهو معدول عن "قاطّةٍ"، أي: كافيةٍ، يقال: "قَطاطِ" بمعنَى "حَسْبي"، من قولهم: "قَطْك درهمٌ"، أي: حَسْبِك وكافِيك، مأخوذٌ من "القَطّ"، وهو القَطع، كأنّ الكِفاية قطعتْ عن الاستمرار، فأمّا قوله [من الوافر]: أطلتُ فراطهم ... إلخ (¬1) فالبيت لعمرو بن مَعْدِيكَرِبَ. وقالوا: "بَلالِ" بمعنى "بالة". يقال: "لا تَبُلُّكَ عندي بَلالِ"، أي: بالّة، قالت ليلى الأَخْيَليّة [من الوافر]: 581 - فلا وأَبِيكَ يا ابنَ أبي عقيل ... تَبُلُّكَ بعدها فينا بلالِ فلو آسَيْتَه لَخَلاك ذَمٌّ ... وفارَقَك ابنُ عَمّك غيرَ قالِ ¬
["فعال" المعدولة عن "فاعلة" في الأعلام]
ابن أبي عقيل كان مع تَوْبَةَ حين قُتل، وفرّ عنه، فهي تُعنِّفه على ذلك، وكان ابنَ عمّه. أي: لا يُصِيبك بعدها فينا نَدى، ولا خيرٌ. وهو من البَلَل، وهو الرُّطوبة. وقالوا: "صَمام" للداهية، أي: صامةٌ. ويقال: "داهيةٌ صَمّاء"، أي: شديدة، يقال: "صَمّي صَمامِ"، أي: ادْهَيْ يا داهيةُ وزِيدي. وقالوا: "كويتُه وَقاعِ"، وهي سِمةٌ، قال أبو عبيدة: هي الدائرةُ على الجاعِرتَيْن، وقال غيره: هي دائرة واحدة، يُكْوَى بها جِلْدُ البعير أيْنَ كان، لا تخُصّ موضعًا. قال عَوْفُ بن الأحوص [من الوافر]: وكنتُ إذا مُنيتُ ... إلخ (¬1) وهو مأخوذ من الوَقِيعة، وهي نُقْرَةٌ في مَتْنِ حجرة يستنقِع فيها الماء. * * * [" فعال" المعدولة عن "فاعلة" في الأعلام] قال صاحب الكتاب: والمعدولة عن "فاعله" في الأعلام كـ "حذام", و"قطام", ¬
وغلاب وبهان لنسوة، وسجاح للمتنبئة، وكساب وخطاف لكلبتين، وقثام وجعار وفشاح للضبع، وخصاف وسكاب لفرسين، وعرار لبقرة يقال "باءت عرار بكحل" (¬1) وظفار للبلد الذي ينسب إليه الجزع. ومنها قولهم "من دخل ظفار حمَّر" (¬2) وملاع ومناع لهضبتين، ووبار وشراف لأرضين ولصاف لجبل. * * * قال الشارح: هذا القسم الرابع من أقسام "فَعالِ"، وهو ضربٌ من المرتجَل؛ لأنّه لم يكن قبل العَلَمية بإزاء حقيقة معدولًا، ثمّ نُقل إلى العلميّة. والفرقُ بين هذا القسم والذي قبله أنّ هذا القسم مقطوعُ النَّظَر فيه عن معنى الوصفيّة، والذي قبله الوصفيّةُ فيه مرادةٌ. فمن ذلك "حَذامِ" اسمٌ من أسماء النساء معدول عن "حاذِمةَ" عَلَمًا، وهو مأخوذ من "الحَذْم"، وهو القَطع، يقال: "حذمتُ الشيء حَذْما"، أي: "قطعتُه"، و"سيفٌ حِذيَمٌ"، أي: قاطعٌ، وبه سُمّي حَذِيمَةُ بن يَرْبُوع بن غَيْظ بن مُرَّة. ومن ذلك "قَطامِ" اسم امرأةٍ معدول عن "قاطمةَ"، وهو مأخوذ من "القَطْم"، وهو العَضُّ وقطعُ الشيء بمُقدّم الفَم، ولذلك قيل، للصَّقْر: "قُطامي". ومنه لقبُ الشاعر قُطاميّ بضمّ القاف وفتحها. وكذلك "غَلابِ" من أسماء النساء كـ"قَطامِ"، مأخوذ من غَلَبَهُ يغلِبه غَلْبًا وغَلَبًا وغَلَبَة. قال الله تعالىَ: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (¬3). و"بهانِ" اسم امرأة قال الشاعر [من الوافر]: 582 - أَلا قالتْ بَهانِ ولم تَأَبَّقْ ... كَبِرْتَ ولا يَلِيقُ بك النَّعِيمُ ¬
وهو مأخوذ من قولهم: "امرأة بَهْنانةٌ"، أي: ضَحّاكةٌ طيّبةُ الأَرَجِ، و"بَهْنانةٌ" فَعْلانة، الألف والنون فيها زائدة، كـ"خُمْصانةٍ" و"نَدْمانةٍ". و"سَجاح" اسم امرأة من بني يَرْبُوع تنبّأتْ في زمنِ مُسَيْلِمَةَ، وهو مأخوذ من قولهم: "وجهٌ أسجحُ"، أي: حسنٌ مستقيمُ الصورة. قال الشاعر [من الطويل]: 583 - [لها أُذُنٌ حَشْرٌ وذِفْرى أسيلَةٌ ... وخَدُّ] كمِرْآةِ الغريبةِ أَسْجَحُ ومنه قولهم: "ملكتَ فأَسْجِحْ" (¬1)، أي: أحْسِنْ، فـ "سَجاحِ" معدول عن "ساجِحةً" عَلَمًا، و"ساجحة" منقول من الصفة، وهي المُحْسِنة. ومن الأعلام على "فَعالِ" قولهم: "كَسابِ" و"خَطافِ" لكَلْبَتَيْن، فـ "كَسابِ" معدول عن "كاسبة" منقول من الصفة، يقال: "كسبتُ مالا واكتسبته" بمعنى واحد، و"كسبتُ الرجلَ مالًا فكسبه". جاء مطاوعُه على "فَعَلَ"، والكَسْبُ: طلبُ الرزق، والكَواسِبُ: ¬
الجوارح. و"خَطافِ" معدول عن "خاطفة" كأنّها تخطَف الصَّيْدَ , أي: تستلِبه. ومن أسماء الضَّبُع "قَثامِ" و"جَعارِ"، و"فَشاحِ". فـ "قَثامِ" اسمُ الأنُثى من الضباع، والذكرُ قُثَمُ، فـ "قُثَمُ" معدول عن "قاثم"، منقول من الصفة بمعنى: المُعْطِي، مِن "قَثَمَ له من المال"، إذا أعطاه دُفْعَةً من المال جيّدةً، كما كان "عُمَرُ" معدولًا عن "عامِرٍ" و"قَثامِ" معدول عن "قائمة" كما كان "حَذامِ" معدولًا عن "حاذمة"، وقيل: إنّما قيل لها: "قثام" لتلطُّخها بجَعْرها، وهو نَجْوها، يقال للأَمَة: "قَثامِ"، كما يقال لها: "دَفارِ". وقالوا لها أيضًا: "جَعارِ" لكثرة جَعْرها، وقالوا لها أيضًا: "فشاح"، وهو من قولهم: "فَشَحَ فبَالَ"، أي: فَرَّجَ ما بين رجلَيْه، وهو كالتفحُّج، كأنّها لِعظَم بَطْنها تفشح. وقالوا: "حَصافِ"، وهو اسمُ فرس، وهو من قولهم: "فرسٌ مِحْصِفٌ"، و"ناقةٌ مِحْصافٌ"، أي: سريعةٌ، وربّما قالوه بالخاء المعجمة. و"عَرارِ" بالعين والراء المهملتَيْن اسم بَقَرَة، ومن أمثالهم "باءتْ عَرارِ بكَحْل" (¬1)، كانتا بَقَرَتَيْن انتطحتَا، فماتَتا معًا، فباءتْ هذه بهذه. يُضرَب لكلِّ متساويَيْن. قال ابن عَنْقاء الفَزاريّ [من البسيط]: 584 - باءَتْ عَرارِ بكَحْلٍ والرفاقُ مَعًا ... فلا تَمنَّوْا أَمانِيَّ الأَباطيلِ يقال: "باء الرجل بصاحبه" إذا قُتِل به، ويقال: "بُؤْ به" أي: كُنْ ممّن يُقتَل به، و"كَحْل" يصرف، ولا يصرف. فمن لم يصرفه؛ فلأنّه عَلَمٌ مؤنّث، لانّه اسمُ بقرة، ومَن صرفه؛ فلِخِفّته كـ"دَعْدٍ". ويجوز أن يكون اشتقاقُ "عَرارِ" من "العُرَّة"، وهو السَّلْح، يقال: عَرَّ، إذا سَلَحَ، كأنّه قيل لها ذلك لسَلْحها، كما قيل للضبع: "جَعارِ" لكثرة جَعْرها. و"ظَفارِ" اسمُ بلد باليَمَن، يقال: "جَزْعٌ ظفاريٌّ" منسوبٌ إليها، و"عُودٌ ظفاريّ" ¬
للذي يُتبخر به. ومن أمثالهم: "من دخل ظَفارِ حَمرَ" (¬1)، أي: تكلّم بكلام حِمْيَرَ، يُضرَب لمن يتلبّس بقوم، فيصير على خُلْقهم. واشتقاقُ "ظَفارِ" من "الظفَرَ"، وهو المطمئِن من الأرض، ذو النبات، ويقال: "ظَفرَ النباتُ يُظفر"، إذا طلع. و"مَلاع" اسمُ هَضْبَة، والهضبةُ: الجبل المنبسِط على وجه الأرض، ومن أمثالهم: "أوْدَتْ بهم عُقابُ مَلاع" (¬2)، أي: أهلكتْهم بكَؤُودها، وهو من "المَلِيع" و"المَلاع"، وهما المَفازةُ لا نبات فيها. وكذلك "مَناعِ" اسمُ هضبة أيضًا شاقّة، وهو مأخوذ من قولهم: "مكان مَنِيعٌ"، و"قد مَنُعَ"، إذا امتنع على من يُريده. وقالوا: "وَبارِ" وهو عَلَم لأرض كانت لعادٍ، ويزعمون أنها بلدُ الجنّ، ويحتمل اشتقاقُها أمرَيْن: أحدهما أن تكون سُميت بذلك لكثرة الوِبار بها، وهو جمعُ وَبْرة، وهي دُوَيْبَّة تُشبه بالسنور، بلا ذَنَب، أو لأنها تُنْبِت بناتِ أَوْبَرَ، وهي ضربٌ من الكَمْأة. وقالوا: "شَرافِ"، وهو اسم لأرض من قولهم: "جبلٌ مُشْرِفٌ"، أي: عالٍ. وقالوا: "لَصافِ"، وهي أرض من منازِل بني تميم. قال الشاعر [من الكامل]: 585 - قَدْ كُنْتُ أَحْسَبُكُمْ أُسُودَ خَفِية ... فإذا لَصافِ تَبِيضُ فيها الحُمَّرُ ¬
فصل [بناء "فعال" وإعرابها]
الحُمر: ضرب من الطير، كالعُصْفور، ويجوز أن يكون اشتقاقُ "لَصافِ" من "اللصَف"، وهو شيءٌ ينبت في أصل الكَبَر (¬1) أشبَه الخِيارَ، وقيل: هو ضربٌ من التمر. فصل [بناء "فعال" وإعرابها] قال صاحب الكتاب: والبناء في المعدولة لغة أهل الحجاز, وبنو تميم يعربونها ويمنعونها الصرف، إلا ما كان في آخره راء كقوله: "حضار" لأحد المحلفين و"جعار", فأنهم يوافقون فيه الحجازيين إلا القليل منهم كقوله [من مخلع البسيط]: 586 - [ألم تمروا إرمًا وعادًا ... أودي بها الليل والنهار] ¬
ومر دهر علي وبارِ ... فهلكت جهرة وبارُ بالرفع. * * * قال الشارح: اعلم أن هذا الضرب من المعدولة فيها مذهبان: أحدهما مذهبُ أهل الحجاز، فإنهم يجعلونها كالفصول المتقدمة، فيبنونها، ويكسِرونها حملًا عليها لمجامَعتها إياها في التأنيث، والعدل والتعريف، كما كان كذلك فيما قبل. وقال أبو العباس: إنما بُنيت لأنها قبل العدل غيرُ مصروفهَ، نحو"حاذِمة"، و"قاطمةَ"، فإذا عُدلت زادها العدلُ ثِقَلًا، وليس وراءَ منع الصرف إلا البناء، وقد تقدم ذلك والكلامُ عليه. قال الشاعر [من الوافر]: 587 - إذا قالَت حَذامِ فَصدقوها ... فإنّ القولَ ما قالَت حَذامِ وقال الآخر [من الوافر]: 588 - أتارِكَةٌ تَدَللَها قَطامِ ... وضِنّا بالتَّحِيَّة والكَلامِ ¬
فصل [أحكام "هيهات"]
فبناهما على الكسر، وأمّ ابنو تميم، فإنهم يُجرونها مُجْرَى ما لا ينصرف من المؤنث، نحو: "زَيْنَبَ"، و"عائِشَةَ"، فيقولون: "هذه حَذامُ وقَطامُ"، و"رأيت حذامَ وقطامَ"، و"مررت بحذامَ وقطامَ"، إلَّا ما كان آخِره راء، فإنّ أكثرهم يُوافِق أهل الحجاز، فيكسرون الراء، وذلك من قِبَل أن الراء لها حظ في الإمالة ليس لغيرها من الحروف، فيكسرونها على كل حال من جهة الإمالة التي تكون فيها، فيكون الكسرُ من جهة واحدة، وذلك نحو: "حَضارِ" اسمَ كوكب بالقرب من سُهَيْل، يقال: "حَضارِ والوَزْنُ مُحْلِفان"، وهما نَجْمان يطلعان قبل سهيل، فيُحلَف أنهما سهيلٌ للشَّبَه. و"جَعارِ" اسم للضبع، و"وبَارِ" موضع. ومنهم من لا يفرّق بين ما آخِرُه راءٌ وغيره، فلا يصرِفه كـ"حذامِ" و"قطامِ". وقال الشاعر [من مخلع البسيط]: ومرّ دهر ... إلخ هكذا جاء مرفوعًا، وهو من قصيدة قوافيها مرفوعة، وهو للأعشى، وهو من بني قيس، ومنزلُه باليَمامة، وبها بنو تميم. فصل [أحكام "هيهات"] قال صاحب الكتاب: "هيهات" بفتح التاء لغة أهل الحجاز، وبكسرها لغة أسدٍ وتميم، ومن العرب من يضمها، وقرىء بهن جميعاً. وقد تنون على اللغات الثلاث، وقال [من الطويل]: 589 - تذكرت أياماً مضين من الصبا ... فهيهات هيهات إليك رجوعها ¬
وقد روي قوله [من الرجز]: 590 - هيهات من مصبحها هيهات بضم الأول وكسر الثاني. * * * قال الشارح: قد ذكرنا "هَيْهاتَ" وأنه مبنيّ لوقوعه موقع الفعل المبنيّ، أو بالحمل على "صَه"، و"مَه"، ونحوهما ممّا يُؤْمَر به، وحقه السكون على أصل البناء. والحركةُ فيه لالتقاء الساكنين: الألف والتاء، فمنهم من فتح التاء إتباعًا لما قبلها من الفتح، إذ كانت الألف غيرَ حصينة لضرب من الخفة، كما فتحوها في "الآن"، و"شَتانَ"، وهي لغةُ أهل الحجاز. وهو اسم واحد عندهم رباعيٌّ من مُضاعَفِ الهاء والياء، ووزنه "فَعْلَلَةٌ"، وأصله "هَيْهَيَة"، فهو من باب "الزلْزَلَة"، و"القَلقَلَة"، ونظيره من المعتل "الزَّوْزاة", و"القَوقاة"، و"الشوْشاة"، و"الزوزَاة": مصدرُ "زَوْزَيْتُ به" وهو شِبْه الطَّرد، و"القَوْقاةُ" كالضوضاة، ومنه "قَوْقَتِ الدجاجة"، إذا صَوَّتتْ. والشوشاةُ. الناقة السريعة، والأصل: الزَّوْزَوَة، والقَوقَوَة، والشوْشَوَة، فقُلبت الواو فيهن ياء لوقوعها رابعةً، ثم قلبت ألفًا لتحركها وانفتاح ما قبلها. فالألف هنا بدلٌ من ياء هى بدلٌ من واو. و"هيهات" أصلها "هَيْهَيَة"، فقُلبت ياؤه ألفًا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فصارت "هَيهات" وتاؤه للتأنيث لَحِقَه عَلَمُ التأنيث، وإن كان مبنيًّا كما لحق "كَيةَ"، و"ذَيةَ" فعلى هذا تُبدِل من تائه هاء في الوقف كما تبدلها في "أَرْطاةٍ"، و"سِعْلاةٍ" ومنهم من كسر التاء، فقال: "هيهاتِ"، وهي لغة تميم وأسد. ويحتمل أمرَيْن: أحدهما أن يكون اسمًا واحدًا كحاله في لغةِ من فتح, وإنما كُسر على أصل التقاء الساكنَين لخفة الألف قبلها، كما كسروا نون التثنية بعد الألف في قولك: "الزيدان"، و"العمران". ويحتمل أن يكون جَمَع "هيهاتَ" المفتوحةِ الجمعَ المصححَ، والتاء فيه تاء ¬
جمع التأنيث، فالكسرةُ فيها كالفتحة في الواحد، ويكون الوقفُ بالتاء على حدّ الوقف على التاء في "مسلماتٍ"، واللامُ التي هي الألف في "هيهاتَ" محذوفةٌ لالتقائها مع ألف الجمع. وإنّما حُذفت، ولم تُقلب كما قُلبت في "حُبْلَيَاتٍ"، لعدم تمكُّنها. جعلوا للمتمكن مَزِية على غير المتمكّن، فحذفوها على حد حذف الياء في "اللذان"، و"اللتان". ولو جاءت غير محذوفة، لقلت: "هَيْهَيَات" كـ"شَوْشَيَات"، و"قَوْقَيَات" في جمع "شَوْشاةٍ" و"قَوْقاة"، لكنّه جاء مخالفا لجمع المتمكنة، فالألفُ في "هيهات"، في من فتح لامَ الفعل المبدلةَ من الياء، بمنزلة اللام الثانية في "الزلْزَلَة"، و"القَلْقَلَة". والألفُ فيمن كسر زائدةٌ، وهي التي تصحَب تاء الجمع في مثل "الهِنْدات"، و"الحُبْلَيَات". ومنهم من يضم التاء، فيقول "هيهاتُ". ويحتمل الضم فيها أمرَيْن: أحدهما أن يكون إعرابًا، وقد أخلصها اسمًا معربًا فيه معنى البُعْد، ولم يجعلها اسما للفعل، فيَبْنِيَه ويكون مبتدأ، وما بعده الخبر. والأمرُ الثاني أن تكون مبنيّةً على الضم؛ لأن الضم أيضًا قد يكون لالتقاء الساكنين، نحو: "أُفُّ"، و"مُنْذُ"، و"نَحْنُ". وقد قالوا في زَجْر الإبل: "جَوْتَ" بالفتح، و"جَوْتِ" بالكسر، و"جَوْتُ" بالضمّ، وقد تُنوَّن "هيهات" في لغاتها الثلاث، فيقال: "هيهاتٌ"، و"هيهاتٍ"، و"هيهاتًا". فمن لم ينوّن، أراد المعرفة، أي: البعدَ. ومَن نوّن، أراد النكرة، أي: بُعدًا. وقوله: "وقد قُرىء بهن جميعًا" يريد اللغاتِ الثلاث، فالفتح هي القراءة العامّة المشهورة، وقد رُويت منوَّنة عن الأعْرَج. والكسر من غير تنوين قراءةُ أبي جعفر الثَّقَفيّ. والكسرُ مع التنوين قراءةُ عيسى بن عمر. والضم مع التنوين قراءةُ أبي حَيْوَةَ، ولا أعلمها قُرئت بالضمّ من غير تنوين، وقيل: قرأ بها قَعْنَبٌ، فأمّا قوله [من الطويل]: تذكّرتَ أياما ... إلخ فشاهد على الكسر مع التنوين، فنوّن الثانية، ولم ينون الأولى، والمعنى: يتأسّف على أيام الصبا، ويستبعِد رجوعَها، وأمّا قول الآخر [من الرجز]: يُصْبِحْنَ بالقَفْرأَتاوِيّاتِ ... هيهاتُ مِن مُصْبَحِها هيهاتِ هيهاتَ حَجْرٌ من صُنَيْبِعاتِ فالرواية بضم الأول، وكسر الثاني. يصف إبلا قطعت بلادًا حتى صارت في القِفار. * * * قال صاحب الكتاب: ومنهم من يحذفها. ومنهم من يسكنها, ومنهم من يجعلها نوناً. وقد تبدل هاؤها همزة. ومنهم من يقول "أيهاك", و"أيهان" و"أيها". وقالوا أن المفتوحة مفردة وتاؤها للتأنيث مثلها في غرفة وظلمة, ولذلك يقلبها الواقف هاء فيقول "هيهاه". وألفها عن ياء لأن أصلها "هيهية" من المضاعف كزلزلة. وأما المكسورة,
فجمع المفتوحة وأصلها هيهات فحذف اللام والوقف عليها بالتاء كـ "مسلمات". * * * قال الشارح: من العرب من يحذف التاء من "هيهات"، فيقول "هَيْهَا"؛ لأنّ التاء زائدةٌ لتأنيثِ اللفظة كـ"ظُلْمَة" و"غُرْفَة"، وليست لتأنيث المعنى، كـ"قائمة"، و"قاعدة"، فلذلك حذفها، وجعل تسميةَ الفعل بدونها, لأنه أخف، والتذكير هو الأصل. ومنهم من يُسكن التاء، ويقول: "هَيْهاتْ"، وقد قرأ بها عيسى الهَمْدانيّ، وهي روايةٌ عن أبي عمرو. ووجه ذلك اعتقادُ الوقف, لأنّه في الوقف يجوز الجمعُ بين ساكنَيْن، فيكون الوقفُ كالسادّ مَسَدَّ الحركة. والأمثلُ أن يكون ذلك فيما فيه ضمير، نحو قوله: {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} (¬1) إذ كان فيه ضميرُ الإخراج لتقدم ذكره، وإذا كان فيه ضمير، استقل به، فساغ الوقفُ عليه. والوجهُ أن يكون ذلك على لغةِ من كسر التاء، واعتقد فيه الجمعيةَ، ولذلك وقفوا عليها بالتاء، إذ لو كان مفردًا، لكانت هاء كهاء "عَلْقاةٍ"، و"سُماناةٍ"، وللزم إبدالُها في الوقف هاء، فكنت تقول: "هيهاهْ". فبَقاء التاء في الوقف عليها دليل على ما قلناه. وقد قيل: إِن الوقف عليها بالتاء إجراء لحال الوقف مُجْرَى الوصل، كقول من سُلم عليه: "وعليك السلامُ والرحمتْ"، ونحو قوله [من الرجز]: بل جَوْزِ تَيْهاءَ كظَهْرِ الحَجَفَتْ (¬2) والأوّل أشبهُ، إذ الثاني بابُه الضرورة والشعر، ومنهم من يجعلها نونًا، فيقول: "هيهان". والأقيسُ في ذلك أنّهم لما اعتزموا التذكيرَ بحَذْف التاء منها، بالَغُوا في ذلك بأن زادوا الألف والنونَ اللتين تكونان للتذكير في الصفات، نحو: "عَطْشان"، و"سَكْران"، وانحذفت الألفُ الأصلية لسكونها وسكونِ الألف الزائدة بعدها، كما حذفت مع ألف الجمع في "هيهاتِ" على لغةِ من كسر، فيكون "هيهان" مذكرًا، و"هيهات" مؤنثًا. ويجوز أن يكون "هيهانَ" "فَعْلانَ" ثلاثيًّا، فيكون من معنى "هيهات" لا من لفظه، كـ"سَبِط"، و"سِبَطْر"، ولا يقال: النون بدلٌ من التاء؛ لأنا لا نعلمها أُبدلت من التاء في موضع، فيكون هذا مثله. فأمّا من كسر نون "هيهان"؛ فيكون تثنيةٌ، وقد حكى ثَعْلَبٌ التثنيةَ فيها، والمرادُ بالتثنية معنى التكرير، أي: هيهاتَ هيهاتَ، كما كان تقديرُ: "حَنانَيْكَ"، و"دَوالَيْكَ": تحنُّنا بعد تحنّنٍ، ومُداولة بعد مداولة. ويحتمل أن يكون تثنيةً أيضًا على لغةِ مَن فتح النون على حدّ قوله [من الرجز]: أَعْرِفُ منها الأَنْفَ والعَيْنانَا ... ومَنْخَرْينِ أَشْبَهَا ظَبْيانَا (¬3) ¬
فصل [معني "شتان"]
ومن العرب من يبدل هاءه همزة، فيقول: "أَيْهاتَ". قال جرير [من الكامل]: أَيْهاتَ مَنْزِلُنا بِنَعْفِ سُوَيْقَةٍ ... كانت مُباركَةً منَ الأيامِ (¬1) والهمزة قد تُبدَل من الهاء، قالوا: "ماءٌ"، و"شاءٌ"، والأصلُ: مَوَهٌ، وشَوَهٌ، وكان ذلك لضرب من التَقاصّ لكثرةِ إبدال الهاء من الهمزة. ألا تراهم قالوا: "هِنْ فعلتَ فعلتُ"، والمراد: "إن"، وقالوا: "هنرت الثَّوْبَ" في "أنرتُه"، وقالوا: "هرحتُ الدابّةَ"، والمراد: أرحتُها، فعوضوا الهمزة من الهاء لكثرة دخول الهاء عليها؟ وقالوا: "أيْهاكَ" فأبدلوا من الهاء الهمزة. ولمّا حذفوا التاء من "هيهات" لما ذكرنا من إرادة تذكير لفظها، أدخلوا كاف الخطاب، فقالوا: "أيْهاكَ" على حدّها في "ذَاكَ"، و"النَّجاءكَ". ويجوز أن تكون الكاف اسمًا في محلِّ خفض بالإضافة، وتُخلَص "هَيْهَا" اسمًا معربًا بمعنى البُعْد. ويُؤنس بذلك قراءةُ من قرأ: "هيهاتٌ" بالرفع والتنوين في أحد الوجهين، وممّا يُؤنس باستعمالهم في هذا اللفظ اسما معربا قولُ رُؤْبَةَ [من الرجز]: 591 - هَيْهاتَ مِن مُنْخَرَق هيهاؤُه (¬2) فهو كقولهم: "بَعُدَ بُعْدُه"، و"جُنَّ جُنُونُه"، للمبالغة. فـ "هَيْهَاءة"، "فَعْلالَةٌ" كـ"زَلْزالَة"، والهمزةُ فيه بدل من الياء؛ لأنه رباعي على ما تقدم، وقالوا: "أَيْهان"، و"أَيْهَا" كما قالوا: "هَيْهَانَ" و"هَيْهَا". وقوله: "إن المفتوحة مفردة" قد تقدم الكلام عليه إلى آخر الفصل. فصل [معني "شتان"] قال صاحب الكتاب: المعنى في "شتان" تباين الشيئين في بعض المعاني والأحوال, والذي عليه الفصحاء "شتان زيد وعمرو" و"شتان ما زيد وعمرو". وقال [من السريع]: شتان ما يومي على كورها ... ويوم حيّان أخي جابر (¬3) ¬
وقال [من الرجز]: شتان هذا والعناق والنوم ... والمشرب البارد في ظل الدوم (¬1) وأما نحو قوله [من الطويل]: لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم (¬2) فقد أباه الأصمعي ولم يستعبده بعض العلماء عن القياس. * * * قال الشارح: قد تقدم الكلام على "شَتّانَ" بما فيه مَقْنَعٌ، ونحن الآن نتكلّم على الأبيات. اعلم أنّ "شتّان" معناها تَبايَنَ، وافْتَرَقَ، وذلك لا يكون من واحد؛ لأنّ الفُرْقة إنما تحصل من اثنين فصاعدًا، والمرادُ المفارَقةُ في المعاني والأحوال، كالعِلْم والجَهْل والصحة والسَّقَم ونحوها؛ لأن الافتراق بالذوات حاصلٌ، إذ كل شيئين فأحدهما غير الآخر لا محالةَ، وإنما لمّا كان قد يحصل ثم اشتباه في بعض الأحوال والمعاني، وجب أن يكون الافتراق فيها أيضًا، فلذلك تقول: "شَتان زيدٌ وعمرو"، ولو قلت: "شتّان زيد"، وسكتَّ، لم يجز لما ذكرناه من أن الافتراق لا يكون من واحد. وأمّا البيت الثاني الذي أنشده، وهو: شتان هذا والعِناقُ والنَّوْمْ ... إلخ فالشاهد فيه رفع الاسمين بعد ارتفاعَ الفاعل. وهذه اللغةُ الفصيحة، ويُروى: "في ظل الدوم" على الإضافة، فمن روى: و"الظلَّ الدوم"، فعلى الصفة، والمعنى: الظل الدائمُ، ومن أضاف، أراد بالدوم شجر المُقْل لا الصفةَ، وأمّا البيت الأوّل، وهو: شتان ما يَوْمِي ... إلخ فالبيت للأعشى، والشاهدُ فيه: "ما يومي ويوم حيّان"، فـ "ما" زائدة، والمرادُ: شتّان يومي ويومُ حيّان، فهو كالأوّل، إلَّا أن فيه زيادةَ "ما". وَ"حَيانُ": رجلٌ من بني حَنِيفة، كان يُنادِم الأعشى، وله أخٌ يقال له: جابِر، كان مَلِكا يُحْسِن إليه، فهو يفرق بين ركوبه على كور الناقة تدور، وبين تلك الأيام، وهو قريبٌ من معنى البيت الأول، وأما البيت الثالث، وهو [من الطويل]: لَشتّان ما بين اليزيدين ... إلخ فهو لرَبِيعَةَ الرَّقيّ، وهو مُوَلد لا يُؤْخَذ بشعره. واليزيدان: يزيدُ بن حاتم المُهَلَّبيّ، وهو الممدوح، ويزيد بن أُسَيْد السُّلَمي. وكان المنصورُ قد عقد ليزيد بن أسيد على ديار مِصْرَ، وعقد ليزيد بن حاتم على إفْرِيقِيَة، فسارا معًا. وكان يزيد بن حاتم يَمُون ¬
فصل [أحكام "أف"]
الكَتِيبَتَيْن، فقال ربيعةُ ذلك. وكان الأصمعيّ يُنْكِرِه، ووجه إنكاره أنّ "شتّان" يقتضي اسمَيْن و"ما" ها هنا إن جعلتَها موصولةً، كان ما بعدها اسمًا واحدًا بمنزلةِ "شَتانَ زيدٌ"، وذلك لا يجوز، ولذلك قالوا: لو قيل: "شتّان زيدٌ أو عمرو" من غيرِ ذكرِ اثنين، لم يجز؛ لأنّ "أوْ" لأحدِ الشيئَيْن، وإن جعلتَها صلةً، لم يبق معك ما يصلح أن يكون فاعلاً. وقال قوم: لا يبعُد جوازُ ذلك؛ لأنّه إذا تَباعَد ما بينهما، فقد تَباعَدا، وفارَقَ كلُّ واحد منهما صاحبه، فاعرفه. فصل [أحكام "أفّ"] قال صاحب الكتاب: "أُفَُِّ", يفتح, ويضم, ويكسر, وينون في أحواله, وتلحق به التاء منوَّنًا, فيقال: "أُفَّةً". * * * قال الشارح: قد تقدم القول: إن "أُفَّ". مبنيةٌ، ومعناها أَتَضَجرُ ونحوه، وحقها السكون على أصل البناء، والحركةُ فيه لالتقاء الساكنين، وهما الفاءان، وفيها لغاتٌ عِدّةٌ. قالوا: "أُفَّ" مفتوحة غيرَ منوَّنة، و"أُفًّا" مفتوحةً منوَّنةَ، و"أُفُّ" مضمومة من غير تنوين، و"أُفٌّ" مضمومة منونة، و"أُفِّ" بالكسر من غير تنوين، و"أُفٍّ" بالكسر مع التنوين، وتُخفف، فيقال: "أُفْ" ساكنة الفاء، وتُمال فيقال: "أُفّي"، وهي التي تُخلِّصها العامّةُ ياء، فتقول: "أُفِّي". فأمّا الفتح فيها فلِكَراهِيَة الكسر فيها مع ثِقَل التضعيف، فعدلوا إلى الفتح، إذ كان أخف الحركات. ومن ضم، أتبع الفاء ضمةَ الهمزة، كما قالوا: "مُنْذُ"، و"شُدُّ"، و"مُدُّ". ومن كسر، فعلى أصلِ التقاء الساكنين، ولم يُبال الثِّقلَ. ومن لم يُنوِّن، أراد التعريف، أي: التضجرَ المعروفَ، ومن نوّن، أراد النكرة، أي: تضجُّرًا. ومن أمال، أدخل فيه ألف التأنيث، وبناه على "فُعْلَى"، وجاز دخولُ ألف التأنيث مع البناء كما جاءت تاؤه معه في "ذَيةَ"، و"كَيةَ". وقد قالوا: "هَنا" في المكان، فأدخلوا فيه عَلَم التأنيث مع البناء، فعلى هذا لا يكون من لفظِ "هُنَا"؛ لأنّ "هُنَا" من لفظ معتل اللام، فهو من بابِ "هُدى"، و"ضُحى"، و"هَنَّا"صحيحُ اللام من المضاعَف، فهو من باب "حَبٍّ"، و"دَرٍّ". ولا يبعد أن يكون من لفظه، ويكون وزنُه، "فَنْعَلًا" كـ"عَنْبَس"، فتكون النونُ الأولى زائدة، والألفُ أصلاً. وأمّا "أُف" الخفيفة، فإنهم استثقلوا التضعيفَ، فحذفوا إحدى الفائَيْن تخفيفًا، فصارت "أُفْ" ساكنةً؛ لأنّها إنما كانت متحرّكة للساكنَيْن، وقد زال المقتضي للحركة، وهو ذَهابُ أحد الساكنين.
فصل [أقسام أسماء الأفعال من حيث التعريف والتنكير]
ومنهم من قال: "أُفَ" بفتح الفاء مع تخفيفها، وقد قرأ بها ابن عباس. ووجهُ ذلك أنّهم أبقوا الحركة مع التخفيف أمارةً على أنّها قد كانت مثقَّلة مفتوحة، كما قالوا: "رُبَ"، فخففوها، وأبقوا الفتحةَ فيها دلالةً على أصلها، كما قالوا: "لا أُكلِّمك حَيْرِيْ دهْرٍ"، فأسكن الياء في موضع النصب، في غير الشعر, لأنّه أراد التضعيف في "حَيْرِيَّ دَهْرٍ". فكما أنه لو ادّغم الياء الأوُلى في الثانية، لم تكن إلَّا ساكنة، فكذلك إذا حُذفت الثانية تخفيفًا، أُقِرت الأولى على سكونها, لتكون أمارة، وتنبيها على إرادة الادغام، إذ مع الادغام لا تكون الأولى إلَّا ساكنةً، كذلك ها هنا، وقد ذكرنا طَرَفًا من ذلك في شرح المُلوكيّ. وأمّا "أُمة" بتاء التأنيث، فلا أَعرفُها، وإن كانت قد وردتْ، فما أَقَلَّها! وإن كان القياسُ لا يأباها كلَّ الإباء؛ لأنّه إذا جار أن يدخلها ألفُ التأنيث، فيقال: "أُفَّي"؛ جار أن يدخلها تاؤه، لا فرقَ بينهما، فاعرفه. فصل [أقسام أسماء الأفعال من حيث التعريف والتنكير] قال صاحب الكتاب: وهذه الأسماء على ثلاثة أضرب: ما يستعمل معرفة ونكرة، وعلامة التنكير لحاق التنوين, كقولك "إيهِ", "وإيهِ", و"صَهْ", و"صَهِ", و"مَهْ",و "مَهِ" و"غاقِ", و"غاقٍ" و"أُفِّ", و"أُفٍّ", وما لا يستعمل إلا معرفة نحو: "بله" و"آمين", وما التزم فيه التنكير كـ"إيهاً" في الكف، و"ويهاً" في الإغراء، و"واهاً" في التعجب، يقال: "واهاً له ما أطيبه! " ومنه: "فداءٍ له فلانٌ" بالكسر والتنوين, أي ليفدك. قال [من البسيط]: 592 - مهلاً فداءٍ لك الأقوام كلهم ... [وما أثمر من مال ومن ولد] * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم أن هذه الأسماء تكون نكرة ومعرفة، فإذا أريد بها النكرةُ، نُوّنتْ، وكان التنوين دليلَ التنكير، وإذا أريد بها المعرفةُ، واعتُقد ذلك فيها، سقط التنوينُ منها، وكان سقوطُه عَلَمَ المعرفة، وذلك نحو "صَهْ"، و"صَهٍ"، و"إِيهِ"، و"إِيهٍ". هذا مقتضى القياس فيها، إلَّا أنها من جهة الاستعمال على ثلاثة أضرب: منها ما يُستعمل معرفة ونكرة، ومنها ما لم يستعمل إلَّا معرفة، ومنها ما لم يستعمل إلَّا نكرة. فالأول نحو قولك: "إِيهِ"، و"إِيهٍ"، و"صَهْ"، و"صَهٍ"، و"مَهْ"، و"مَهٍ"، و"غاقِ"، و"غاقٍ"، وأُف"، و"أف". فـ "إِيهِ" من غير تنوين معرفةٌ، ومعناه الاستزادة. قال ذو الرُّمّة [من الطويل]: وقَفْنَا وقُلْنَا إِيهِ عن أُم سالِم ... وما بالُ تَكْلِيمِ الدِّيارالبَلاقِعِ (¬1) لما أراد المعرفةَ، لم يأتِ فيه بالتنوين، وكان الأصمعيّ يُخطىء ذا الرمّة في هذا البيت، ويزعم أن العرب لا تقول إلَّا "إِيهٍ" بالتنوين. وجميعُ البصريين صوبوا ذا الرمّة، وقسموا "إيه" إلى معرفة ونكرة، فالمعرفة: "إيهِ" بلا تنوين، والنكرةُ: "إيه" منوّنا، وقالوا: خَفِيَ هذا الموضعُ على من عابه. والقولُ فيه أن الأصمعي أنكره من جهة الاستعمال، والنحويّون أجازوه قياسًا, ولا خلافَ بينهم في قلةِ استعماله. ومن ذلك "صَهْ" من غير تنوين معرفةً، و"صَهٍ" منونا نكرة، ومثله "مَهْ"، و"مَهٍ"، فـ"مَه" في المعرفة، ومعناه الكَفّ، و"مَه" في النكرة، ومعناه: كَفا. وكذلك إذا قلت في حكايةِ صوت الغُراب: "غاقِ"، و"غاقٍ"، إذا نونت، كان نكرةً، ومعناه: بُعْدًا بُعْدًا، أو فِراقًا فِراقًا؛ لأن صوت الغراب يُؤذن بالفراق والبُعْدِ عندهم، ولذلك سمّوه غراب البَيْن. وكأنهم فهِموا ذلك من لفظه، إذ كان الغُراب من الغُرْبة والاغترابِ. وإذا أريد به المعرفةُ، تُرك منه التنوين، نحو: "غاقِ غاقِ". ومن ذلك "أُف"، و"أُف" وقد تقدّم الكلام فيه. فالتنوين الذي يدخل في هذه الأصوات إنّما يفرق بين المعرفة والنكرة، ولا يكون في معرفةِ ألبتّةَ، ولا يكون إلَّا تابعًا لحركات البناء، وليس كتنوين "زيد" و"عمرو" الذي يكون بعد حركات الإعراب في المعرفة والنكرة. ¬
وأمّا الثاني، وهو ما لا يُستعمل إلَّا معرفة، فنحو: "بَلْهَ" بمعنى "دَع"، و"آمِينَ" بمعنى "استجِبْ"، لم يُسمَع في واحد منهما التنوينُ، وقد تقدم ذكرهما. وأما الضرب الثالث، وهو ما لا يُستعمل إلا نكرة منونًا، فتح و"إيها" في الكَف، فإنها لم تَرِد إلا منونة نكرةً، وفتحت للفرق بينها وبين "إيهِ" التي بمعنى الاستزادة، يقال: "إيهِ" أي: زِد من حديثك أو عَمَلِك، و"إيها" إذا استكففتَه عن ذلك. قال حاتم [من البسيط]: 593 - إِيهَ فِداءٍ لَكُمْ أُمي وما وَلَدَتْ ... حاموا على مَجْدكم واكْفوا مَنِ اتَّكَلا وقال أبو بكر بن السري: يقال: "إِيهَ" في الكف و"إيها" بالتعريف والتنكير. قال: ومن ينوّن إذا فتح فكثيرٌ، والقليلُ من يفتح ولا يُنوِّن، ومن ذلك "وَيهًا" بمعنى الإغراء بالشيء والاستحثاث عليه. قال الكُمَيْت [من المتقارب]: 594 - وجاءَتْ حَوادِثُ في مِثلها ... يقال لِمِثلِيَ: وَيهًا فُلُ ¬
وقال الآخر [من الرجز]: 595 - وَهوَ إذا قيل له وَيْهًا كُلْ ... فإنه مُواشِكٌ مُسْتَعْجِلْ وَهْوَ إذا قيل له وَيْهًا فُلْ ... فإنه أَحْرِ به أن يَنْكِلْ يريد: يا فلانُ، وهو صوتٌ سُمّي به الفعل، ومسماه "أَسْرعْ"، و"عَجلْ" وهو مبنيّ لذلك، وفُتح لثقل الكسر بعد الياء، ولم يأت عنهم إلا منكورا. وقالوا: "وَاهًا له ما أَطْيَبَهُ! " للتعجبِ من طِيبِ الشيء وحُسْنِه، وهو اسمٌ لـ "أُعْجَبُ"، قال أبو النَّجْم [من الرجز]: ¬
596 - وَاهًا لِرَيى ثُم واهًا واهَا ... يالَيْتَ عَيْنَيْها لنا وفاها بِثَمَن نُرْضِي به أَباها وهو من الأسماء التي لم تُستعمل إلَّا منكورةً منوّنةً، والعلةُ في بنائه وفَتْحِه كالعلة في "وَيْها". ومن ذلك قولهم: "فداءٍ لك فلانٌ" بالكسر والتنوين. أنشد أبو زيد [من الرجز]: 597 - إيهًا فِداءٍ لك يا فَضالَهْ ... أَجَرهُ الرُّمْحَ ولا تُهالَهْ ¬
فهو مبني على الكسر. وإنّما بُني لوقوعه موقعَ ما أصلُه البناء، وهو فعلُ الأمر؛ لأنّهم يريدون به الدعاء، والدعاءُ حقُّه أن يكون على لفظ الأمر. وما جاء منه بلفظ الخبر نحو "رَحِمَهُ اللهُ"، و"سَلمَهُ اللهُ"، فتوسُّع ومبالغةٌ على معنى حصول ذلك واستقراره، والمرادُ: لِيَفْدِكَ، وهو في البناء كـ"نَزالِ" و"مَناعِ"، وكُسر لالتقاء الساكنين، على أصلِ ما يقتضيه التقاء الساكنين. والتنوينُ فيه للتنكير على نحوه في "إيه"، ولم يُسمع عنهم إلَّا منوّنا، وذلك لأنّه ليس له متعلقٌ يحتمل التعريفَ كما لنظائره فيما ذكرنا، فيجري مجرى ما وقع موقعَه من الفعل. ويُروى: "فداءٌ لك" بالرفع، و"فِدى لك"، بالقصر. أمّا وجهُ الرفع، فعلى أنّه خبر مقدم على المبتدأ، وهو فلانٌ. وأما القصرُ، فيحتمل أمرَيْن: أحدهما أن يكون في موضع رفع، كما قالوا: "فداءٌ لك"، فرفعوا، ويجوز أن يكون في موضع بناء إلَّا أنه ثبتت الألفُ، وإن كان في موضع سكون؛ لأن الألف الواقعة قبل الممدود لا تقع قبل المقصور، لكنّه ثبتت فيه الألفُ كما ثبتت في "مَتَى"، وليست الألفُ في "فدى لك" على هذا كالتي في "عَلا" من قوله [من الرجز]: 598 - فَهْيَ تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشًا مِن عَلا ¬
فصل [أسماء الأفعال المتصلة بكاف الخطاب]
لأن هذه في موضع حركة، وهي ضمّةٌ، وتلك في موضع سكون، فأمّا قوله [من البسيط]: مَهْلًا فِداء لك الأقوامُ كُلُّهُمُ ... وما أُثَمرُ من مالٍ ومن وَلَدِ (¬1) فالبيت للنابغة، و"الأقوامُ" رفع, لأنّه فاعلُ "فداء", لأنّه في معنى: ليَفْدِكَ الأقوامُ، ويروى بالرفع على الابتداء والخبر، وبالنصب على المصدر، ذكره النَّحّاسُ، فاعرفه. فصل [أسماء الأفعال المتصلة بكاف الخطاب] قال صاحب الكتاب: ومن أسماء الفعل دونك زيداً أي خذه، وعندك عمراً، وحذرك بكراً وحذارك ومكانك وبعدك إذا قلت تأخر أو حذرته شيئاً خلفه، وفرطك وأمامك إذا حذرته من بين يديه شيئاً أو امرأته أن يتقدم، ووراءك أي انظر إلى خلفك إذا بصرته شيئاً. * * * قال الشارح: قد سموا الأفعال بأسماء مضافةٍ ظروفِ أَمْكِنَة وغيرِها، وقد قصره بعضُهم على السَّماع، ولا يستعمِل إلَّا ما ورد عن العرب من ذلك، ولا يَقيسه. وقد أجاز الكسائيُّ الإغراء بجميعِ حروف الصفات. ويريد أهلُ الكوفة بحروف الصفات حروفَ الجر، لإجراء حروف الجرّ مُجرى الظروف. والمذهبُ الأوّلُ، وعليه الأكثرُ؛ وذلك لقلّة ما جاء منه عنهم، فمن ذلك قالوا: "دُونَكَ زيدا"، أي: خُذْه من تحت، و"عندك عمرا"، أي: الْزَمْه من قُرْبٍ، وقالوا: "مكانَك" بمعنى "اُثْبُتْ". قال الله تعالى: {مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ} (¬2)، فأكّد الضمير في مكانكم حيث عطف عليه "الشركاء"، فهو كقولك: "اثبتوا أنتم وشركاؤكم". وقالوا: "بَعْدَكَ"، و"وَراءَكَ" إذا قلت له: تَأَخَّرْ، وحذّرتَه شيئًا من خَلفه، وقالوا: "فَرَطَكَ"، و"أَمامَك" إذا حذّرتَه من بين يدَيْه شيئًا؛ فهذه كلُّها ظروفٌ أُنيبت عن فعل الأمر، فهي في مذهب الفعل لذلك. والذي يدل على ذلك قوله [من الوافر]: 599 - وقَوْلِي كُلَّما جَشَأتْ وجاشَتْ ... مَكانَكِ تُحْمَدِي أو تَسْتَرِيحِي ¬
فجوابه بالجزم دليل على أنه في مذهب الأمر، كأنه قال. "اثْبُتي تحمدى، أو تستريحي". ومن ذلك ما حكاه الفرّاء من قول بعض العرب: "مكانَكَنِي" لما وضعه موضعَ "أُنْظِرْني"، ألحقه النون المزيدةَ لسلامة الفعل من الكسر، نحو: "خُذنِي" و"أَنْظِرْني". وهذه مبالغة في إجراء هذه الظروف مُجرى الفعل، ولكونِ هذه الظروف في مذهب الفعل ونائبةً عنه، لم تكن معمولة لغيرها, ولا الحركة فيها بحركةِ إعراب، وإنما هى حركةُ بناء مَحكيةٌ جائيَة بعد النقل على ما كانت عليه قبله، إلَّا أنها لما لم تكن بعامل، كانت بناءً، ويجوز أن لا تكون حكايةً، وإنما هي بناءٌ؛ لأنه لما سُمي به في حالِ إِضافته، صار كالاسم الواحد، وصار الأوَّل كالصدر للثاني، ففتُح الأول كفتح "حَضْرَمَوْتَ"، وليست الفتحة فيه الفتحة التي كانت له في حال إعرابه. وأمّا الكاف في "عندك"، و"دونك" ونحوهما من الظروف المسمى بها الأفعالُ، فإنها أسماءٌ مخفوضةُ الموضع؛ لأنها قبل التسمية بها كانت أسماء مخفوضة, لا محالةُ. والتسميةُ وقعتْ بها، فكانت باقية على اسميّتها، إذ التسمية لا تُحِيلها. ألا ترى أن نحو"تَأبطَ شَرًّا" لمّا وقعتِ التسميةُ بالجملة، حُكيت، وكان الاسمُ الثاني منصوبا كحاله قبل التسمية. وذكر ابن بابْشاذ أن الكاف في هذه الأسماء حرفُ خطاب على حدها في "روَيْدَكَ"، و"ذلِكَ" و"النجاءَكَ". واحتجّ بأنها أسماء أفعال، وأسماء الأفعال في مذهب الفعل، فلا تضاف. هذا معنى كلامه، والمذهبُ الأول؛ لأن التسمية في "دونك"، و"عندك" ¬
فصل [أسماء الأصوات]
ونحوهما، وقعت بالمضاف، والمضاف إليه، كما وقعت بالجملة في نحو: "تأبّط شرا"، و"بَرَقَ نَحْرُه". والتسميةُ في "رُوَيْدَكَ" وقعت بالاسم الأول وحدَه، بدليلِ أنّه يقع بعده الظاهرُ، فتقول: "رُوَيْدَ زيدًا"، وليس كذلك هذه الظروفُ. فأما "حَذَرَكَ"، و"حِذارَك"، فلا أراه من هذا الباب، وإنّما هو من مصادر مضافةٍ إلى ما بعدها، فهي من باب "عَمْرَكَ الله"، و"قَعْدَكَ اللهَ"، وإنّما أوردها ها هنا؛ لأنّ فيها تحذيرا كالتحذير في "وراءَك"، "وأمامَكَ"، ونحوهما، فاعرفه. فصل [أسماء الأصوات] قال صاحب الكتاب: ومن الأصوات قول المنتدم والمتعجب: "وي" يقول: "وي ما أغفله! " ويقال "وي لمه". ومنه قوله تعالى: {ويكأنه لا يفلح الكافرون} (¬1) و"ضربه فما قال حس ولا بس"، و"مض": أن يتمطق بشفتيه عند رد المحتاج قال [من الرجز]: 600 - سألتها الوصل فقالت مض وفي أمثالهم "إن في مض لمطمعا" (¬2)، و"بخ" عند الإعجاب, و"أخ" عند التكره قال العجاج [من الرجز]: 601 - وصار وصل الغانيات أخا وروى: "كخا". و"هلا" زجر للخيل، و"عدس" للبغل، وبه سمي، و"هَيْدَ" بفتح ¬
الهاء وكسرها للإبل، و"هادَ", و"هادِ", مثله، ويقال أتاهم فما قالوا له هيد ما لك" إذا لم يسألوه عن حاله, و"جه" و"ده" مثله ومنه "ألا ده فلا ده" (¬1)، و"حوب" (¬2) , و"حاي" (¬3) و"عاي" (¬4) مثله. و"سع" حث للإبل, و"جوت" دعاء لها إلى الشرب. وأنشد قوله [من الطويل]: 602 - دعاهن ردفي فارعوين لصوته ... كما رعت بالجوت الظماء الصواديا ¬
بالفتح محكياً مع الألف واللام, و"جيء" مثله, و"حل" زجر الناقة, و"حب" من قولهم للجمل "حب لا مشيت", و"هدع" تسكين لصغار الإبل, و"دوه" دعاء للربع, و"نخ" مشددة ومخففة صوت عند إناخة البعير, و"هيخ" و"أيخ" مثله, و"هس" وهج وفاع زجر للغنم. وبس دعاء لها, وهج وهجا خسءٌ للكلب. قال [من الكامل]: 603 - سفرت فقلت لها هج فتبرقعت ... فذكرت حين تبرقعت ضبارا و"هِيجِ" يُصوِّت به الحادي، و"حَجْ"، و"عَهْ"، و"عِيزَ" زجر للضأن، و"ثِىءْ" دعاء للتيس عند السفاد، و"دَجْ" صِياح بالدَّجاج، و"سَأ" و"تُشُؤْ" دعاء للحِمار إلى الشُرْب، وفي مَثل: "إذا وقف الحمارُ على الردْهَة فلا تَقُلْ له: "سَأ" (¬1)، و"جاهِ" زجر للسبُع، و "قُوسْ" دعاء للكلب، و"طِيخِ" حكايةُ صوتِ الضاحك، و"عيطْ" صوتُ الفِتْيان، إذا تَصايحوا في اللعْب، و"شِيبِ" صوتُ مَشافِرِ الإبل عند الشرب، و"ماء" حكايةُ بُغام (¬2) الظبْية، و"غاقِ" حكاية صوت الغُراب، و"طاقِ" لا حكاية صوت الضَرْب، "وطَقْ" حَكاية صوت وَقْعِ الحِجارة بعضِها ببعض، "وقَبْ" حكاية وقع السيف. * * * قال الشارح: إنما قال: "ومن الأصوات"؛ لأن أسماء الأفعال والأصوات متواخيةٌ؛ لأنها مزجورٌ بها، كما أن الأصوات كذلك. واعلم أن الأصوات كلها مبنية محكية؛ لأن ¬
الصوت ليس فيه معنى، فجرى مجرى بعض حروف الاسم. وبعضُ حروف الاسم مبني، فمن ذلك قولهم: "وَيْ" في حالِ الندم والإعجاب بالشيء، وهو اسم سُمي به الفعل في حال الخبر، كأنه اسمُ "أُعْجَب" أو"أَتَنَدمُ"، وهو مبني؛ لأنه صوت سمي به. ولم يلتقِ في آخِره ساكنان، فيجبَ لذلك التحريكُ، فبقى على سكونه، وقالوا: "وَيْ لمهِ" والمراد: لأمهِ، فحذفوا الهمزة تخفيفا كما قالوا: "أيْشَ" والمراد "أي شيء"، فحذفوا تخفيفا. فأما قوله تعالى: {وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} (¬1)، فذهب الخليل وسيبويه (¬2) إلى أن "وَي" منفصلة، معناها: "أُعْجَبُ"، ثم ابتدأ "كأنه لا يفلح الكافرون"، و"كأن" هاهنا لا يراد به التشبيهُ، بل القطعُ واليَقِينُ، وعليه بيتُ الكتاب [من الخفيف]: 604 - وَيْ كَأَن مَن يَكُنْ له نَشَب يُحببْ ... ومَن يَفتَقِر يَعِش عَيْشَ ضُر ¬
لم يُرِد ههنا التشبيه، بل اليقين. ومما لا يكون فيه "كَأَنَّ" إلَّا عارية من معنى التشبيه قوله [من البسيط]: 605 - كأنني حِينَ أُمْسِي لا تُكَلمُني ... مُتَيم يَشْتَهِي ما ليس مَوْجُودَا أي: أنا حين أمسي هذه حالي. وذهب أبو الحسن إلى أنّه "وَيْكَ" مفصولة من "أنهُ"، وكان يعقوبُ يقف على "وَيْكَ" ثم يبتدىء: "أنهُ لا يفلح الكافرون"، كأنه أراد بذلك الإعلام بأنّ الكاف من جملةِ "وَيْ"، وليست التي في صدرِ "كأن" إنما هي "وَيْ" على ما ذكرنا أضيف إليها الكافُ للخطاب على حدها في "ذلِكَ"، و"أُولئك"، ويُؤيد ذلك قول عَنْتَرَةَ [من الكامل]: 606 - ولقد شَفَى نَفْسي وأَبْرَأَ سُقْمَهَا ... قَوْلُ الفَوارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ ¬
فجاء بها متصلة بالكاف من غير "أن"، فهي حرفُ خطاب، وليست اسما مخفوضا كالتي في "غلامك"، و"صاحبك"؛ لأن "وَيْ" إذا كانت اسما للفعل، فهي في مذهب الفعل، فلا تضاف لذلك، و"أن" وما بعدها في موضع نصب باسم الفعل الذي هو "وَيْ"، ولذلك فُتحت "أن"، والتقديرُ: أعجبُ لأنّه لا يفلح الكافرون. فلما سقط الجار، وصل الفعلُ، فنَصَبَ. وذهب الكسائي إلى أن الأصل: "وَيْلَكَ"، فحُذفت اللام تخفيفا. وهو بعيد، وليس عليه دليل. وقد ذهب بعضهم إلى أن "وَيْكَأَنهُ" بكماله اسم واحد، والمراد شدّةُ الاتصال، وأنه لا ينفصل بعضُه من بعض، فاعرفه. ومن ذلك "حَسِّ"، و"بَسِّ"، فـ "حَس" اسم سُمي به الفعل في حال الخبر، ومعناه: "أتألمُ" و"أتوجع"، وهو مبني؛ لأنه صوت وقع موقع الفعل، وكُسر لالتقاء الساكنين، و"بَس" بمعنَى "حَسْبُ"، فهو اسم "اكْتَفِ"، و"اقْطَعْ". يقال: ضربهُ فما قال حَس ولا بَسّ"، أي: لم يتوجّع، ولا استكف. وفي الحديث: "فأصاب قَدَمُه قدمَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: حَسّ" (¬1)، كأنه تألم. ومن ذلك "مِضّ" بكسر الميم والضاد، وهو حكايةُ صوت الشَفَتَيْن عند التمطق، يقال ذلك عند رَد ذي الحاجة، وهو اسم بمعنى "اعْذِرْ"، والمراد به الردّ على إطماع، ¬
وفي المَثَل "إن في مِض لَمَطْمَعًا" (¬1)، أي: لطَمَعا، وقال الراجز [من الرجز]: سألتُها الوَصْلَ فقالتْ مِض (¬2) وهي مبنية على الحكاية، وكُسرت لالتقاء الساكنين، وهما الضادان، ومن ذلك "بَخ"، وهي كلمة تقال عند تعظيم الشيء وتفخيمه، وأصلها التشديد والكسر. قال الشاعر [من الرجز]: 607 - في حَسَب بَخ وعِز أَقْعَسَا أي: في حسب مقول فيه ذلك، وهو اسم لـ"عَظُمَ" و"فَخُمَ"، فهو مبني لذلك، وفيه لغاتٌ، قالوا: "بَخِّ بَخِّ" بالتضعيف والكسر من غير تنوين. فالبناء لأنه صوت محكى، أو لوقوعه موقع الفعل، والكسرُ لالتقاء الساكنين، وهما الخاءان. وقالوا: "بَخٍّ بَخٍّ" بالتضعيف مع التنوين، كأنهم أرادوا النكرة. وقالوا: "بَخْ بَخْ" مخففة كأنهم استثقلوا التضعيف، فحذفوا إحدى الخاءَيْن، ثمّ سكنوا الأخرى, لأنه لم يلتقِ فيه ساكنان، قال الأعشى [من الكامل]: 608 - بَيْنَ الأشج وبين قَيْس باذِخٌ ... بَخْ بَخْ لِوالده وللمَوْلُودِ ¬
وقالوا: "بَخ بَخ" بالتنوين للتنكير. قال الشاعر [من المتقارب]: 609 - رَوافِدُهُ أَكْرَمُ الرافِداتِ ... بَخٍ لَكَ بَخٍّ لبَحْر خِضَمْ فجمع بين اللغتَيْن. وحكى ابن السِّكيت "بَهْ بَهْ" في معنى "بخ بخ"، وينبغي أن تكونا لغتَيْن؛ لأن الهاء لا تُبْدَل من الخاء. وقالوا: "إخ" عند التكره للشيء، وهو صوت سُمي به الفعل، ومسمّاه "أَكْرَهُ"، و"أَتكره". قال العَجّاج [من الرجز]: وانثَنَتِ الرّجْلُ فصارتْ فَخا ... وصار وَصْلُ الغانِياتِ أَخَّا (¬1) ويروى: "كِخا". أعربها هنا؛ لأنه أراد اللفظة، ولم يرد مسماها. وقالوا: "هَلَا"، وهو زجرٌ للخيل والإبل، وهو اسم للفعل، ومسماه: تَوَسعي، أو تَنَحي، ونحوهما. قال [من الطويل]: 610 - [أَعَيرْتَني داء بِأُمكَ مِثْلُهُ] ... وأيُ جوادٍ لا يُقالُ له هَلَا ¬
وقد تُسكن بها الإناث عند دُنُو الفَحْل منها، وهو صوت محكي مبني لوقوعه موقعَ الفعل، وهو مُسكنُ الآخِر على ما يقتضيه البناء. وقالوا عَدَسْ، وهو زجز للبَغْل. قال ابن مُفرغ [من الطويل]: عَدَسْ ما لِعَباد عليكِ إمارَةٌ ... أَمِنْتِ وهذا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ (¬1) وقد سموا البغل نفسَه عَدَس قال [من الرجز]: إذا حملتُ بِزتي على عَدَسْ ... على الّذي بَيْنَ الحِمارِ والفَرَسْ فلا أُبالِي مَن غَزَا ومَن جَلَس (¬2) وهو صوت محكي، ولم يلتق في آخِره ما يُوجِب تحريكَه، فبقي على سكونه، وقالوا: "هَيْدَ"، و"هِيدَ" بفتح الهاء وكسرها، وهو زجر للإبل، قال الشاعر [من الرجز]: 611 - باتَتْ تُبادِي شَعْشَعات ذُبلَا ... فَهْيَ تُسَمى زَمْزَما وعَيْطَلَا حتّى حَدَوْناها بهَيْدَ وهَلَا ... حتى يرَى أَسْفَلُها صار عَلَا ¬
"زمزم" و"عيطل" اسمان لناقة واحدة. ويقال: "أتاهم، فما قالوا له هَيْدَ"، أي: ما سألوه عن حاله، وهو مبني لِما ذكرناه من أنه صوت، سُمّي به الفعل. وكان حقه أن يكون مسكنَ الآخر، إلَّا أنّه التقى في آخِره ساكنان: الياء والدال، ففُتحت الدال لالتقاء الساكنين لثِقَل الكسرة بعد الياء. و"هادِ" مثلُه، يقال: "هَيْدَ"، و"هادِ". ويقال: "ما له هَيْدَ ولا هادِ"، أي: لا يقال له ذلك، أي: لا يُمْنَع من مَرامه، ولا يُزْجَر عنه لقوته، قال ابن هَرْمَةَ [من البسيط]: 612 - حتى استقامتْ له الآفاقُ طائِعة ... فما يُقالُ له هَيْدَ ولا هادِ ¬
إلَّا أن "هَيْدَ" مفتوحة لثقل الكسرة بعد الياء، و"هادِ" مكسورة على القياس. وقالوا: "جَهْ "، وهو صوتٌ يُزجَر به السبُع ليكفّ وينتهيَ. يقال منه: "جَهْجَهْتُ" بالسبع، إذا قلت له ذلك، كما يقال: "بَخبَخت" إذا قلت له: "بَخ بَخ"، ويقال: "تجَهْجَهْ عني"، أي: طَاوعْ وانْتَهِ. ومثله في الزجر قالوا: "دَه"، مثل "هَبْ"، ومنه: "إن لا دَهْ فلا دَهْ" ساكنةَ الهاء، وهو رواية ابن الأعرابي، والمشهورُ روايةُ المفضل: "إن لا دَه فلا دَه"، ومعناه: "افعَلْ"، فهو صوت سمي به الفعل في الأمر، ومنه قول رؤبة [من الرجز]: 613 - وقول إن لا دَه فلا ده والمعنى: إن لا يكن منك فعلٌ لهذا الأمر، فلا يكون بعد الآن، فكأنّه نفيُ مدلولِ مسماه، والتنوين فيه التنكير على نحو: "صَهٍ"، و"مَهٍ"، وهو كلمة فارسية. وأصله أن الموتور كان يلتقي وَاتِرَه، فلا يتعرض له، فيقال له ذلك. يُضرَب لكل من لا يُقدم على الأمر، وقد حان حِينُه. وقالوا "حَوْبُ"، وهو صوتُ يزجر به الإبل. يقال: "حَوَبْت بالإبل" إذا قلتَ لها، "حوب"، وهو مبني؛ لأنه صوت محكي، والحركة فيه لالتقاء الساكنين. وفيه ثلاثُ لغات، قالوا: "حَوْبَ" بالفتح، و"حَوْبُ" بالضم، و"حَوبِ" بالكسر. وتنون في جميع لغاتها، فيقال: "حَوْبًا"، و"حَوْبٌ" و"حَوْبٍ". وقالوا فيهَ: "حَابِ"، فَمن فتح، طلب الخفةَ، ومن ضم، فإتباعٌ للواو قبلها، أجروا الواو مُجرى الضمة، فأتبعوها الضم كما أتبعوا الضمّة، فقالوا: "مُد"، و"شد". ومن قال "حوب "، فكسر، فعلى أصلِ التقاء الساكنين. ومن لم يُنون، أراد المعرفة، ومن نون أراد الَنكرة. واعلم بأن اختلاف هذه اللغات، ومَجِيئَها منونةً وغيرَ منوّنة مما يدلّ أنّها أصوات، ولَيسَتْ أفعالًا، إذ ليس لها عِصْمَة الأفعال. ومن ذلك قولهم: "عاي" في الزجر، و"حاي" كلمةُ زجر للإبل وغيرها من المواشي. ¬
وقالوا: "سَعْ"، وهو زجر للمَعْز، يقال لها: "سَعْ سَعْ". قال الفراء: "يقال: "سَعْسَعْتُ بالمعز" إذا زجرتَها. قال ابن دُرَيْد، وقد يُزجَر البعير، فيقال له: "سَعْ"، وهو صوت أيضًا مبني محكي، وسكن آخرُه لأنه لم يلتق في آخره ما يُوجِب الحركةَ كـ "صَهْ" و"مَهْ". وقالوا: "جَوْتَ"، وهو دعاءٌ للإبل لتشرب، ويقال: "جَوْتَ جَوْتَ"، وهو من الأصوات المحكيّة، وفُتح للخفة، فأما قول الشاعر، أنشده الكسائي [من الطويل]: دعاهن رِدْفي ... (¬1) إلخ فشاهد على صحة الاستعمال، وقال: "بالجَوْتَ"، فأدخل عليه الألفَ واللام، وأبقاه على حاله من الحكاية والبناء؛ لأن إلحاقَ الألف واللام الأسماء المبنية لا يُوجِب لها الإعرابَ، ألا ترى إلى قولهم "الآن"، و"الذِي"، و"التِي" ونحوها كيف دخلت عليها اللام، ولم توجِب لها إعرابا؟ فكذلك دخولُ الألف واللام في "الجَوْتَ" زائدة على حدّ زيادتها فيما ذكرنا, ولا يوجب ذلك إعرابًا؛ لأنها لم تلحق هذا القبيلَ؛ لأن مجراه مجرى الفعل. ألا ترى أنها لا تدخل في مثلِ "غاقِ"، و"صَهْ" ونحوهما. ومثلُ "الجَوْتَ" في دخول الألف واللام عليه قوله [من الطويل]: تَداعَيْنَ باسم الشيبِ في مُتَثَلمِ (¬2) فقوله: "شِيب" حكايةُ صوتِ جَذبها الماء، ورَشْفِها له عند الشرب، فأدخل عليه اللامَ، وحكاه. ومثَله قول الآخر [من الرجز]: يَدْعُونَنِي بالماء ماءً أَسْوَدَا (¬3) فـ "ماء" حكايته صوت بُغام الظباء، وأدخل عليه اللامَ (¬4)، وهو قليل قياسا واستعمالا. ومثله "جِئْ"، وهو صوت محكي ساكنُ الآخر؛ لأنه لم يعرض فيه ما يُوجِب الحركة، يقال ذلك للإبل عند الشرب، ويقال: "جَأْجَأْتُ بالإبل جأْجَأَة"، إذا قلت لها: "جِىءْ جِىءْ" والاسمُ: "الجيءُ" مثلُ "الجِيع". قال [من الهزج]: 614 - وما كان على الجِيء ... ولا الهِيء امْتِداحِيكَا ¬
فـ "الجىء" الدعاء للشرب، و"الهِيء" الدعاء للعَلَف، يقال: "هَأْهَأْتَ بها" إذا دعوتَها للعلف. ومن الأصوات "حَلْ"، وهو زجز للناقة، وهو مبنيٌ على السكون؛ لأنه لم يلتق في آخِره ساكنان، فبقي على سكونه، يقال منه: "حَلْحَلْتُ بالناقة" إذا قلت لها: "حَلْ حَلْ"، ويدخله تنوينُ التنكير، فيقال: "حَلٍ". قال رُؤْبَةُ [من الرجز]: 615 - وطُولُ زَجْرٍ بحَلٍ وعاجٍ وقالوا: "حَبْ" بالحاء غير المعجمة، وهو صوت يُزجَر به الجمل عند البروك، يقولون: "حَبْ لا مَشَيْتَ"، والإحباب في الإبل كالحِران في الخيل، قال الشاعر [من الرجز]: 616 - ضَرْبَ البَعِيرِ السوْءِ إذْ أَحَبا وهو مبني على السكون؛ لأنّه لم يُوجَد في آخِره ما يُوجِب الحركة. وقالوا: "هِدَعْ" بكسر الهاء، وفتح الدال، وهو صوت تُسكن به صغارُ الإبل إذا تَفرقت، وهو ساكنُ الآخِر على أصل البناء. ¬
وقالوا: "دوهٍ"، وهو دعاء للربع، والربَعُ. الفَصِيل ينتَج في الربيع، وهو أول النتاج. يقال: "ما له رُبَعٌ، ولا هُبَعٌ" (¬1)، والهُبَعُ: ما يُنتَج في آخِر النتاج. وقالوا: "نَخَّ" مشدّدة، وهو صوت يقال عند إناخة البعير، وفُتح آخره لالتقاء الساكنين، وهما الخاءان، وخُص بالفتح لثقل التضعيف، وإتباعا لفتحة النون، وقد يُخفف بحذف إحدى الخاءَيْن، فإذا حُذفت إحدى الخاءين، يُسكن آخِره؛ لأن الموجب للحركة قد زال، وهو اجتماع الساكنين، ويقال منه: "نَخنَختُ الناقةَ، فتنخنخت"، أي: أبركتُها، فبركتْ. قال العَجاج [من الرجز]: 617 - ولو أَنَخْنَا جَمعَهُم تَنَخْنَخُوا وقالوا: "هِيخِ"، و"إيخِ" مثله يقال لإناخة البعير. وقالوا: "هُس"، وهو صوت يزجر به الراعي الغنمَ. وهو مفتوح الآخر لثقل التضعيف. ويقال: "راعٍ هسهاسٌ، وهُساهِسٌ"، إذا رعاها لَيْلَهُ كلهُ، كأنه قيل له ذلك لزَجْره إياها بـ "هُس". وقالوا: "فاعِ"، والمشهور: "فَعْ"، فعلى ذلك تكون الألف إشباعًا عن فتحة الفاء، يقال: "فَعْفَعَ بالغنم"، إذا قال لها: "فعْ فَعْ"، ومنه: "راعِ فَعْفاعٌ". وقالوا: "بُسْ"، وهو صوت يُدعَى به الغنم. قال أبو زيد: أَبْسَستُ بالغنم إذا أشليتَها إلى الماء، وقال أبو عُبَيد: يقال: بسستُ الإبل وأبسستُها, لغتان إذا قلت لها: بُس بُس، ومصدرُه: الإبساسُ، وهو صوت للراعي يسكن به الناقة عند الحَلْب. وقالوا: "هَجْ" في خَسءِ الكلب وزجرِه، ساكنُ الآخِر مخفف على أصل البناء ¬
كـ "صَهْ" و"مَة"، وهو زجر للغنم. وربما قالوا فيه: "هَجَا" بألف، فأمّا قوله، وهو الحارث بن الخَزْرَج [من الكامل]: سَفَرَت فقلتُ لها هَجِ ... إلخ (¬1) فشاهد على الاستعمال، ونوّن "هَج"؛ لأنّه أراد النكرة. يهجو امرأة، ويصفها بالقَباحة، وأنها حين سفرت، زجَرَها زَجْر الكلاب، وحين تبرقعتْ، أشبهتِ الكلابَ. و"ضبار" اسم كلب. وقالوا: "هِيج"، وهو صوت يُصوت به الحادى، ويزجر، به إبلَه. وحج وهو صوت يزجر به الضأن. ومثله "عَهْ"، و"عِيزِ". وقالوا: "ثِىء" وهو دعاء للتَيس عند السفاد، وهو ساكنُ الآخِر؛ لأنه لم يُوجَد فيه ما يُوجب تحريكه. وقالوا: "دَجْ" بفتح الأول وإسكان الثاني، وهو صوتُ يُدعَى به الدجاج، يقال: "دَجْدَجْتُ بالدجاجة"، إذا قلت لها: "دج" تدعوها. وقالوا: "سَأ" بالسين غير المعجمة، و"تشؤ" بالشين المعجمة، وهو صوت يُدعى به الحمار إلى الشرب. قال الأحمر: "سَأسَأتُ بالحمار" إذا دعوته إلى الشرب، وقلتَ له: "سَأسَأْ" بالسين غير المعجمة. وقال أبو زيد: "شَأْشَأْتُ بالحمار": دعوتُه، وقلت له: "تُشؤْ تشؤْ". وقال رجل من بني الحِرْماز: "تشَأْ تُشَأْ" بضم التاء وفتح الشين، يُقال: "شَأشَأت". وفي المَثَل: "إذا وقف الحمارُ على الردْهة، فلا تَقُل له سَأ" (¬2). وفي روايةِ: "قَرب الحمارَ من الردهة ولا تقل له سَأْ". والردهةُ: نقْرَة في صخرةِ الجبل يستنقِع فيها ماءُ السماء، والمراد: قرب الحمار من الماء فهو يشرب، ولا حاجة إلى أن تدعوه إلى الشرب بهذا اللفظ. وقالوا: "جاهِ" مكسورَ الآخِر لالتقاء الساكنين، وهو صوت يزجَر به البعير دون الناقة. هكذا نقله الجَوهَري، وربْما قالوا: "جاه" بالتنوين، وأنشد [من الطويل]: 618 - إذا قلتَ جاهٍ لجَّ حتى تَرُدهُ ... قُوَى أدَمٍ أطْواقُها في السلاسِلِ ¬
وصاحب الكتاب قال: هو زجرٌ للسبع. وقالوا: "قُوسْ"، وهو صوت يُدعَى به الكلب، وهو ساكنُ الآخِر وإن اجتمع فيه ساكنان، كأنه موقوف عليه، فإن وُصل بكلام يُوجِب تحريكَه، ضُم للإتباع. وقالوا: "طِيخِ" بكسر الطاء، وهو حكايةُ صوت الضاحك. وقالوا: "عِيطْ" ساكنَ الطاء، وهو حكايةُ صوت الصبيان إذا تصايحوا. يُقال: "عَطْعَطَ القومُ"، إذا تصايحوا، والمصدر: العَطْعَطَةُ. ولا أراه من لفظِ "عِيطْ"، إنما الفعلُ منه "عيّطوا". ويجوز أن يكون الأصل في "عِيطْ": "عِطْ" مثلَ "جِىءْ" و"ثِىءْ"، والياءُ حدثت عن إشباعِ كسرة العين، كما قالوا في "صَهٍ": "صَاهٍ"، فأشبعوا فتحةَ الصاد، فصارت ألفًا، فعلى هذا تكون العَطْعَطَة. و"شِيبِ" حكايته صوت مَشافِرِ الإبل عند الشرب، قال ذو الرُّمّة [من الطويل]: تَداعَيْنَ باسْمِ الشِّيبِ في مُتَثَلّمٍ ... جَوانِبْه من بَصْرَة وسِلامِ (¬1) و"شِيبِ" مكسورُ الباء للساكن قبله. وقالوا: "ماءِ" مكسورَ الهمزة لسكون الألف قبلها. وهو حكايةُ صوت بُغام الظَّبْية، وقد تقدم. وقالوا: "غاقِ"، وهو حكايةُ صوت الغراب، وهو مكسور الآخِر لسكون الألف قبل آخِره، وقد يُنوَّن، فيقال: غاية، قال القُلاخ [من الرجز]: 619 - مُعاوِد للجُوع والإمْلاقِ ... يَغْضَبُ إنْ قال الغُرابُ غاق أبعدكن الله من نياقِ ¬
وقالوا: "طاقِ" حكايةُ صوت الضرْب، وهو مكسور للساكن قبله. "وطَقْ" حكايته وقعِ الحجارة بعضِها على بعض، يُقال: "طَقْطَقَتِ الحجارة"، إذا جاء صوتها طَقْ طَقْ، والطقْقَقَةُ صوتُ وقعِ حَوافر الخيل على الصلاب مثلُ الدقدقة، وهو ساكنُ الآخِر؛ لأنّه لم يُوجَد في آخِره ما يُوجِب الحركة. وقالوا: "قَبْ" ساكنَ الباءِ أيضًا، وهو حكايةُ صوت وقعِ السيف على الضَرِيبة. ¬
الظروف
الظروف فصل [ظروف الغايات] قال صاحب الكتاب: منها الغايات، وهي قبل وبعد وفوق وتحت وأمام وقدام ووراء وخلف وأسفل ودون ومن عل. وابدأ بهذا أول. وقد جاء ما ليس بظرف غاية، نحو حسب ولا غير وليس غير. والذي هو حد الكلام وأصله أن ينطق بهن مضافات، فلما اقتطع عنهن ما يضفن إليه، وسكت عليهن؛ صرن حدودًا ينتهي عندها، فلذلك سمين غايات. * * * قال الشارح: إنما قيل لهذا الضربَ من الظروف: غايات؛ لأن غايةَ كل شيء ما ينتهي به ذلك الشيءُ، وهذه الظروفُ إذا أُضيفت، كانت غايتُها آخِرَ المضاف إليه؛ لأن به يتم الكلامُ، وهو نهايتُه. فإذا قُطعت عن الإضافة، وأُريد معنى الإضافة، صارت هي غاياتِ ذلك الكلام، فلذلك من المعنى قيل لها: غايات. وهي مبنية على الضم، أما بناؤها؛ فلأن هذه الظروف حقُها أن تكون مضافة؛ لأنها من الأسماء الإضافية التي لا يتحقّق معناها إلَّا بالإضافة، ألا ترى أنّ "قَبْلًا" إنّما هو بالإضافة إلى شيء بعده، و"بَعْدا" إِنما هو بالإضافة إلى ما قبله؟ فلذلك كان حقها الإضافةَ، نحوَ: "جئتُ قبلَ يوم الجمعة، وبعدَ يومِ خُروجِك"، فلما حُذف ما أُضيفت إليه مع إرادته، واكتُفي بمعرفة المخاطب عن ذكره، وفُهم منها (¬1) بعد الحذف ما كان مفهوما منها (1) قبل الحذف، صارت بمنزلةِ بعض الاسم؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد، وبعضُ الاسم مبني لا يستحِق الإعرابَ. وأمّا كونُها على حركة، فلأن لها أصلًا في التمكن، ألا ترى أنها تكون معرفة إذا كانت مضافة، نحوَ قولك: "جئتُ قَبْلَكَ، ومن قَبْلِك، وبعدَك، ومن بَعدِك"، أو نكرة، في نحوِ: "جئت قَبلًا، وبَعدًا"، وإنما تكون مبنية إذا قُطعت عن الإضافة، فلمّا كان لها هذا القَدَمُ في التمكن، وجب بناؤها على حركة تمييزا لها على ما بُني، ولا أصلَ له في ¬
التمكن من نحوِ: "مَنْ"، و"كَمْ". وليس تحريكُها لالتقاء الساكنين كما يظن بعضُهم، ألا ترى أن من جملة الغايات "أوَّلُ"، و"مِن عَلُ" وآخِرُهما متحرك، ولم يلتق فيه ساكنان؟ وأمّا الضم فيها خاصةً؛ فلأن الضمّة حركةٌ لم تكن لها في حال إعرابها وتمكُنها، ألا ترى أنها في حال إعرابها تكون منصوبة ومجرورة، نحوَ قولك: "جئتُ قَبْلَك، وبَعْدَك"، و"جئت من قَبْلِك ومن بَعْدِك"؟ فلما بُنيت، ووجب لها الحركةُ؛ ضموها لئلا يُتوهم أنّها معرفة إذ الضمة غريبة منها. وقيل: حُركت بأقوى الحركات، وهي الضمة، لتكون كالعِوَض من حذفِ ما أُضيف إليه. وقيل: بُنيت على الضم لشَبَهها بالمنادى المفرد من نحوِ "يا زيدُ"، ووجهُ الشبَه بينهما أن المنادى المفرد متى نُكر، أو أُضيف، أعرب، نحوَ قوله [من الطويل]: 620 - أدارًا بحُزْوَى هِجْتِ للعَيْن عَبْرَةً ... [فَمَاء الهَوَى يَرْفَضُ أَو يَتَرقْرَقُ] وقوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} (¬1). وإذا أُفرد معرفة، بُني، وقد كان له حالةُ تمكُن، وكذلك "قَبْلُ"، و"بَعْدُ" إذا نُكر وأُضيف، أُعرب، وإذا أُفرد معرفة، بُني، فلذلك قالوا: "جئتُ قَبْلُ، وبَعْدُ ومِن قَبْلُ، ومن بعدُ". قال الله تعالى: {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} (¬2)، والمرادُ: من قَبْلِ كلّ شيء، ومن بعدِ كل شيء، وكذلك بقيةُ الظروف. قال الشاعر [من الطويل]: 621 - [إذا أنا لم أُومَنْ عليكَ] ولم يَكُنْ ... لِقاؤك إلَّا من وَراءُ وَرَاءُ ¬
وقال [من الرجز]: 622 - [يا رُب يوم لي لا أظللُة] ... أرْمَضُ مِنْ تَحْتُ وأضْحَى مِن عَلُهْ ¬
[بناء ظروف الغايات وإعرابها]
وحكُم "أوَّلُ"، و"حَسْبُ" وَ"لَيسَ غَيرُ" حكمُ "قَبْلُ" و"بَعْدُ"، قال الشاعر [من الطويل]: 623 - لَعَمْرُكَ ما أدرِي وإني لأوْجل ... على أينَا تغْدو المَنِيةُ أوَّلُ فاعرفه. * * * [بناء ظروف الغايات وإعرابها] قال صاحب الكتاب: وإنما يُبْنَينَ إذا نُوي فيهن المضافُ إليه، فإن لم يُنوَ، فالإعراب، كقوله [من الوافر]: 624 - فساغَ لِيَ الشَرابُ وكنتُ قَبْلا ... أكاد أغَص بالماءِ الفُراتِ ¬
وقد قُرىء {لله الأمْرُ من قَبْل وَمِن بَعْد} (¬1)، ويقال: "ابدأ به أولاً". * * * قال الشارح: قد تقدم القول: إن المضاف إليه من تمام المضاف إذ كان مُعرفًا له، فهو بمنزلة اللام من "الرجل" و"الغلام"، فإذا حُذف المضاف إليه مع إرادته، كان ما بقي كبعض الاسم، وبعضُ الاسم لا يستحق الإعرابَ. وأمّا إذا حُذف، ولم يُنْوَ ثبوتُه، ولا التعريفُ به، كان المضاف تامًا، فيُعرَب كسائر النكرات، نحو: "فَرَسٍ"، و"غلامٍ". فتقول: "جئت قَبْلاً، وبَعْدًا، ومِن قَبْلٍ ومن بَعْدٍ". وأما قول الشاعر [من الوافر]: فساغ لي الشراب ... إلخ فشاهد على إعرابِ "قَبْلٍ" حيث حُذف منها المضاف إليه، ولم يُنْوَ، والمشهورُ فيه الرواية: "بالماء الفرات"، ورواه الثعالبِيّ عن أبي عمرو: "بالماء الحميمِ"، وهو المحفوظ. وقُرىء {لله الأمرُ من قبل ومن بعدِ} (¬2) بالجرّ والتنوين على إرادة النكرة، وقَطْعِ النظر عن المضاف إليه، وقرأ الجَحْدَري، وعونٌ العُقْيْليّ: {من قبلِ ومن بعدِ} بالجرّ من غير تنوين على إرادة المضاف إليه وتقديرِ وجوده. ومثله في إرادة النكرة قولُهم: "ابْدَأْ بذلك أولًا"، أي: مُقدمًا , ولم يتعرّض للتقدم ¬
على ماذا، فصار نكرةً يُفهَم منه مفردًا غيرُ ما يُفهَم منه مضافًا، ألا ترى أنّك إذا أضفتَه، تُفهم منه التقدمَ علي شيء بعينه، وإذا لم تضفه، فهمتَ منه التقدمَ مطلقًا. وقيل: معنى التنكير فيه أنه إذا أضيف إلى نكرة، كان نكرة، وإذا حُذف المضاف إليه، بقي على تنكيره، فكان معربًا لذلك. * * * قال صاحب الكتاب: ويُقال: "جئتُه من عَلٍ"، وفي معناه. "من عالٍ", و"من معال" ,و"من عَلَا". ويقال: "جئته مِن عَلْوَ وعَلْوُ وعَلْوِ"، وفي معنَى "حَسْبُ": "بَجَل". قال [من الرجز]: 625 - رُدّوا علينا شَيخنا ثُم بَجَلْ * * * قال الشارح: اعلم أنهم يقولون: "جئته من عَل" , ومعناه: من فَوْق، وفيه لغات، قالوا: "جئته من عَلٍ" منقوص كـ "عَمٍ" و"شَجٍ"، قال امرؤ القيس [من الطويل]: 626 - [مِكَرٍّ مِفَر مُقْبِل مدبِر مَعًا] ... كَجلمودِ صَخْرٍ حَطهُ السيلُ من عَلِ ¬
وقالوا: "مِن عال" كـ "قاض"، و"غاز"، قال الشاعر [من الرجز]: 627 - قباء من تحت وريا من عال ويروى: تَظْمَأ مِن تَحْتُ وتَرْوَى مِن عالْ وقالوا في معناه: "مِن مُعالٍ"، قال ذو الرُّمة [من الرجز]: 628 - ونَغَضانُ الرحْل من مُعالِ ¬
وقالوا: "مِن عَلَا" مقصورًا كـ"عَصًا"، و"رَحَى"، قال [من الرجز]: فَهْيَ تَنُوشُ الحَوْضَ نَوْشًا مِن عَلَا ... نَوْشًا به تَقْطَعُ أجْواز الفَلَا (¬1) وقالوا: "من عَلُ" بضم اللام. قال الشاعر [من الكامل]: 629 - وَلَقَدْ سَدَدْتُ عَلَيْكَ كُلَّ ثَنِية ... وأتَيْتُ فَوْقَ بني كلَيْب مِن عَلُ وقالوا: "مِن عَلْوُ"، و"من عَلْوَ"، و"من عَلْوِ" بالضم والفتح والكسر، قال أعشى باهِلَةَ [من البسيط]: 630 - إني أتَتْني لِسانٌ لا أُسَرُّ بها ... مِن عَلْوَ لا عَجَب منها ولا سَخَرُ ¬
يروى بالضم والفتح والكسر. وهذه اللغاتُ، وإن اختلفت ألفاظُها، فالمراد بها معنى واحد، وهو "فَوق". و"فَوْق" من الأسماء التي لا تنفكّ من الإضافة؛ لأنه إنما يكون فوقًا بالنسبة إلى ما يُضاف إليه، كما كانتْ "قَبْلُ" و"بَعْدُ" كذلك، فوجب أن يكون "عَلُ" وسائر لغاتها مضافةً إلى ما بعدها. فإذا أُضيف إلى معرفة، وقطع عن الإضافة، وكان المضافُ إليه مرادًا منويًا، كان معرفةً، وبُنى لما ذكرناه من تنزله منزلةَ بعض الاسم إذ كان إنما يتم تعريفه بما بعده مما أضيف إليه. وإن قُطع النظر عن المضاف إليه، كان معربًا منكورًا، وكذلك لو أضفته إلى نكرة، وقطعتَه عنه، كان معربا أيضًا؛ لأنه منكور كما كان. فمعناه مع قطع الإضافة كمعناه مضافًا. فإذا قلت: "جئتُ من عَل" بالخفض، جعلتَه منكورًا، كأنك قلت: "جئتُ من فوقٍ"، ويحتمل أن تكون الكسرة إعرابا، وهو محذوفُ اللام، ويحتمل أن تكون الكسرة فيه بناء، وكسرةُ الإعراب محذوفة لثِقَلها على الياء التي هي لام مبدلة من الواو، والياءُ حُذفت لسكون التنوين بعدها على حد "قاضِ". وإذا قلت: "مِن عَلُ" بالضم، فهو معرفة محذوفُ اللام، والضم فيه كـ "قَبْل" و"بَعدُ". وإذا قلت: "عَلْوُ"، و"عَلْوَ"، وَ"عَلْوٍ"؛ فقد تممت الاسم، ولم تحذف منه شيئًا، فمن قال: "عَلوِ"، و"عَلوَ" بالكسر أو الفتح، فكأنه تَوهم الحركةَ فيه لالتقاء الساكنين، فالكسر على أصل التقاء الساكنين، والفتحُ طلبًا للخفّة، وإتباعًا لفتحة العين إذ كانت اللام ساكنة، فهي حاجز غير حصين. وكذلك من قال فيه: "عَلَا"، وجعله مقصورًا، فهو أيضًا تامٌّ غيرُ منتقص منه، وألفُه ¬
فصل [أحكام "حيث"]
منقلبة عن الواو، فإن نوى فيه المضافَ إليه، وجعله معرفة، كانت الألف في تقديرِ ضمة، ومن جعله نكرة، كانت الألف في تقدير كسرة، كما تكون "عَصا" كذلك. وكذلك "عالٍ"، و"مُعالٍ"، فهو تامٌّ، إذا كانت نكرة، كان مجرورًا ونوّن، وإذا كان معرفة، حُذف منه التنوين، وكان بالياء، وكانت الضمة فيه منوية. هذا هو القياس. فأما "بَجَلْ"، فهي اسم من أسماء الأفعال معناها: "اكْتَفِ"، و"اقْطَعْ". وهي مبنية على السكون لوقوعها موقعَ الفعل المبني، وسكنت على مقتضى القياس في كل مبني. وقد يُدْخِلون عليها الكافَ، فيقولون: "بَجَلْكَ"، كما يقولون: "قَطْكَ"، و"قَدْكَ"، إلا أنهم يقولون في إضافته إلى النفس: "بَجَلِي"، ولا يكادون يقولون: "بَجَلنْي" كما يقولون: "قَطنِي". وإنما ذُكرت هاهنا, لأنها في معنَى "حَسْبُ"، فاعرفه. فصل [أحكام "حيث"] قال صاحب الكتاب: وشبه "حَيْثُ" بالغايات من حيث ملازمتها الإضافة. ويُقال "حَيْثُ" و"حَوْثُ" بالفتح والضم فيهما, وقد حكى الكسائي: "حَيْثِ" بالكسر. ولا يُضاف إلى غير الجملة, إلا ما روي من قوله [من الرجز]: 631 - أما ترى حيث سهيل طالعاً ... [نجمًا يضيء كالشهاب لامعا] أي مكان سهيل وقد روى ابن الأعرابي بيتاً عجزه [من الطويل]: 632 - [ونطعنهم حيث الحبي بعد ضربهم ... ببيض المواضي] حيث لي العمائم ¬
ويتصل به "ما", فيصير للمجازاة. * * * قال الشارح: في "حَيْثُ" أربعُ لغات. قالوا: "حيثُ" بالضم، و"حيثَ" بالفتح، و"حَوْثُ"، و"حَوْثَ ". وهي مبنية في جميعِ لغاتها، والذي أوجب بناءَها أنّها تقع على الجهات الست، وهي "خَلْف"، و"قُدامٌ "، و"يمِينٌ"، و"شِمالٌ"، و"فَوْقٌ"، و"تَحْت"، وعلى كلّ مكان، فأبهمتْ "حَيْثُ" ووقعتْ عليها جميعًا، فضاهتْ بإبهامها في الأمكنة "إذ" المبهمةَ في الأزمنة الماضية كلها. فكما كانت "إذْ" مضافة إلى جمله تُوضِحها، أُوضحتْ "حَيْثُ" بالجملة التي تُوضَح بها "إذْ" من ابتداء وخبر، وفعل وفاعل. وحين افتقرتْ إلى الجملة بعدها، أشبهتْ "الّذِي" ونحوَها من الموصولات في إبهامها في نفسها وافتقارِها إلى جمله بعدها تُوضِحها، فبُنيت كبناء الموصولات. ووجهٌ ثان أنه ليس شيء من ظروف الأمكنة يُضاف إلى جمله إلَّا "حَيْثُ". فلمّا خالفت أخواتِها؛ بُنيت لخروجها عن بابها. ووجب أن يكون بناؤها على السكون؛ لأنّ المبنيّ على حركة ما كان له أصل في التمكن، وحالةٌ يكون معربا فيها، نحوَ: "يا زيدُ"، وبابِه في النداء، و"قبلُ"، و"بعدُ" ونحوِهما من الغايات. فأما "حَيْثُ" فلما لم تكن لهما هذه الحالةُ؛ كانت ساكنةَ الآخِر إلَّا أنّه التقى في آخرها ساكنان، وهما الياء والثاء، فمنهم مَن فتح طلبًا للخفة لثقل الكسرة بعد الياء كـ "أيْنَ" و"كَيْفَ"، ومنهم من شبّهها بالغايات، فضَمها كـ "قَبْلُ" و"بَعْدُ". ووجهُ الشبَه بينهما أن حق "حَيْثُ" من جهةِ أنها ظرف أن تُضاف ¬
إلى المفرد كغيرها من ظروف الأمكنة، نحوِ: "أمامَك"، و"قُدامَك" ونحوِهما، فلما أُضيفت إلى الجملة، صارت إِضافُتها كلَا إضافةٍ، فأشبهتْ "قَبْلُ"، وَ"بَعْدُ" في قطعهما عن الإضافة، إلَّا أن الحركة في "حَيْثُ" لالتقاء الساكنين، وفي "قَبْلُ"، وَ"بَعْدُ" للبناء. وحكى الكسائيّ عن بعض العرب الكسرَ في "حَيْث"، فيقول: "من حَيْثِ لا يعلمون"، فكَسَرَها مع إضافتها إلى الجملة، ووجهُ هذه اللغة أنهم أجروا "حَيْث"، وإن كانت مكانا، مُجرى ظروف الزمان في إضافتها إلى الجمل، وإذا أُضيفت إلى الجملة، كان فيها وجهان: الإعرابُ والبناءُ، نحوُ قوله [من الطويل]: على حِينَ عاتبتُ المَشِيبَ على الصبَا ... وقلتُ: ألَما أصْحُ والشَيْبُ وازع (¬1) ويروى: "على حينِ" بالكسر، فمن فتح، بناه، ومَن كسر، أعربه. ويجوز أن يكون من قال: "حَيْثِ" بناه أيضًا، إلَّا أنه كسر على أصل التقاء الساكنين، ولم يُبالِ الثقلَ، كما قالوا: "جَيْرِ"، و"وَيبِ"، فكسروا، وإن كان قبل الآخِر ياءٌ. ومن العرب من يضيف "حَيْثُ" إلى المفرد ويجرّه، أنشد ابنُ الأعرابي [من الطويل]: ونَطْعُنُهُمْ حَيْثُ الحُبَى بَعْدَ ضَرْبهم ... ببِيضِ المَواضي حيثُ لي العَمائِمِ فهذ بناه، وأضافه إلى المفرد، كما قال: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (¬2)، فأضاف "لدن" مع كونه مبنيًّا ,ولم يمنعْه ذلك من الإضافة. ولا يُجازَى بـ "حَيْثُ" كما جُوزي بأخواتها من نحوِ "أيْنَ"، و"أنى" من حيث كانت مضافة إلى الجملة بعدها. والإضافةُ مُوضِحة مُخصصةٌ، والجزاءُ يقتضي الإبهامَ، فيتنافى مع (¬3) معنى الإضافة والجزاء، فلم يُجمع بينهما. فإذا أُريد ذلك، أُتي معها بمَا يقطعها عن الإضافة، ويصير الفعلَ بعدها مجزومًا بعد أن كان مجرورَ الموضع، ولا تفسير بدخولِ "مَا" عليها حرفًا، كما صارت "إذْ" عند سيبويه حرفًا بدخولِ "مَا" عليها، وذلك لقوةِ "حَيْثُ" وكثرةِ مواضعها، وتشعُّبِ لغاتها على ما سيوضح في موضعه من هذا الكتاب. وقد يُستعمل "حَيْثُ" بمعنى الزمان، نحوَ قوله [من المديد]: 633 - لِلفَتَى عَقْل يَعِيشُ به ... حَيْثُ تَهْدِي ساقَهُ قَدَمُهْ فاعرفه. ¬
فصل [أحكام "منذ"]
فصل [أحكام "منذ"] قال صاحب الكتاب: ومنها "منذ"، وهي إذا كانت إسماً على معنيين: أحدهما: أول المدة كقولك: "ما رأيته منذ يوم الجمعة"، أي: أول المدة التي انتفت فيها الرؤية ومبدؤها ذلك اليوم. والثاني: جميع المدة كقولك: "ما رأيته منذ يومان"، أي مدة انتفاء الرؤية اليومان جميعاً. و"مذ" محذوفة منها, وقالوا: هي لذلك أدخل في الأسمية, وإذا لقيها ساكن بعدها ضمت رداً إلى أصلها. * * * قال الشارح: اعلم أن "مُذْ"، و"مُنْذُ" يختصان بالزمان، فلا يدخلان إلا على زمان، فمحلهما من الزمان محل "مِنْ" من المكان. فـ "مِن" لابتداء الغاية في المكان، ولا يُستعمل في غيره. تقول: "ما سرْتُ مِن بغدادَ"، أي: ما ابتدأتُ السيرَ من هذا المكان. و"مُنْذُ"، و"مُذ" لهذا المعنى في الزمان، ولا يُستعملان في غيره. وذهب الكوفيون (¬1) إلى أن "من" يصلح للزمان والمكان، و"مُذْ"، و"مُنْذُ" لا يصلحان إلَّا للزمان، وتَعلقوا بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ} (¬2)، و"أوّلُ يوم" من الزمان؛ وقد دخلتْ "من" على الزمان، ومنه قولُ زُهَيْر [من الكامل]: 634 - لِمَنِ الدِيارُ بقُنةِ الحِجرِ ... أقْوَيْنَ مِن حِجَج ومِن دَهْرِ ¬
و"حِجج" معناه: سِنون، وقد دخل عليها "مِنْ". ولا حجةَ في ذلك لاحتمالِ أنّ يكون المراد بقوله: "من أول يوم": من تأسيسِ أول يوم، ثم حُذف المضاف، وأُقيم المضافُ إليه مُقامه. وقولُ زهير: "من حجج" أي: من مَر حجج، فدخولُ "مِنْ" إنّما هو على الحدث، لا على الزمان. قال سيبويه (¬1): و"مُذْ" تكون ابتداءَ غاية الأيّام والأحيان كما كانت "مِنْ"، لا يدخل واحد منهما على الآخر، يعني أنّ "مُذْ" لا تدخل على "مِنْ"، و"مِنْ" لا تدخل عليها. و"مُذْ" مخفّفة من "مُنْذُ" بحذف عينها، كما كانت "لَدُ" مخففةَ من "لَدُنْ" بحذف لامها. والذي يدلّ على ذلك أنّك لو سميت بـ "مُذْ"، وصغرتَها, لقلت: "مُنَيْذ"، فتُعيد المحذوفَ. والعرب تستعملهما اسمَيْن وحرفَيْن. والأغلبُ على "مُنْذُ" أن تكون حرفًا، ويجوز أن تكون اسمَا. والأغلبُ على "مُذْ" أن تكون اسما للحذف الذي لحقها، والحذفُ بابُه الأسماء من نحوِ: "يَدٍ"، و"دَمٍ"، والأفعالُ من نحوِ "خُذْ"، و"كُلْ"؛ وأما الحروف، فليس الأصلُ فيها الحذفَ إلَّا أن تكوَن مضاعَفة، فتُخفَف نحوَ: "إن"، ولكِن، و"رُبَّ". وإنما قل الحذفُ في الحروف, لأن الحذف ضرب من التصرف، والحروفُ لا تصرفَ لها لجُمودها وكونِها بمنزلةِ جزء من الاسم والفعل، وجزءُ الشيء لا تصرفَ له. وشيءِ آخَرَ، وهو أن الحروف إنما جيءَ بها لضرب من الإيجاز والاختصار، وهو النيابةُ عن الأفعال لتُفيد فائدتَها مع إيجاز اللفظ، ألا ترى أنّ همزة الاستفهام نائبة عن ¬
"أسْتَفْهِمُ"، وواوُ العطف نائبة عن "عطفتُ"، وكذلك سائرُ الحروف؟ وإذا كانت الحروفُ إنما جيء بها للإيجاز والاختصار، فلو ذهبتَ تحذف منها شيئًا، لكان اختصارَ المختصر، وهو إجحاف. فلذلك كان الغالبُ على "مُنْذُ" الحرفيةَ، والغالبُ على "مُذ" الاسميّةَ. فإذا كانت حرفًا، كان ما بعدها مخفوضًا، وكانت بمعنى الزمان الحاضر، نحوَ قولك: "ما رأيتُه مُذُ الساعةِ"، أي: في هذه الساعة الحاضرة، وكذلك "مُنْذُ الشهرِ"، و"منذُ العامِ"، كلُه بمعنى الحاضر. فـ "مُنْذُ" أوصلتْ معنى الفعل إلى ما بعدها من الزمان. ومثلُه: "مُذْ كَمْ سرتَ؟ " فـ"مُذْ" أوصلتُ معنَى "سرت" إلى "كَمْ"، كما كانت الباءُ كذلك في قولك: "بمن تَمُرُّ؟ " وتقول: "ما رأيتُه مُذ اليومِ إلى ساعتك هذه"، جعلتَ "اليوم" أوّلَ غايتِك، فأُجْريتْ في بابها كما جرتْ "مِنْ" إذا قلت: "مِن مكانِ كذا". وتقول: "ما رأيتُه مُذْ يومَيْن"، جعلتهما غايةَ ابتدائها. وإذا كانت اسمًا فلها معنيان: أحدُهما: أن تكون بمعنى الأمَد، فتنظِم أوّلَ الوقت إلى آخره. والآخَرُ: أن تكون بمعنَى أولِ الوقت. مثالُ الوجه الأول قولُك: "ما رأيتُه مذ يومان"، و"منذ ليلتان "، والمعنى: أمدُ ذلك يومان وليلتان، والنكرةُ ممّا يختصّ بهذا الضرب؛ لأن الغرض عدة المُدّة التي انقطعت فيها الرؤيةُ. وذلك أنّها وقعتْ جوابًا عن "كم مدةُ انقطاعِ الرؤية؟ " أو "مذ كم يومًا لم تَرَه؟ " فوجب أن يكون الجوابُ عددًا؛ لأنّ "كَمْ" عَدَدٌ، والجوابُ ينبغي أن يكون مطابقًا للسؤال، ولا يلزم تخصيصُ الوقت وتعيينُه. فإن أتيتَ بمعرفةِ تشتمِل على عددٍ، جاز ولم يمتنِع، نحوَ قولك: "لم أرَه مذ المحرمُ" ومذ الشتاءُ"؛ لاشتمالهما على مدة معدودة، كأنك قلت: "لم أره مذ ثلاثون يومًا، ومذ ثلاثةُ أشهرٍ"؛ لأن تعريفه لم يُخْرِجه عن إفادة العدد، فقد وفيتَ بجوابِ "كَمْ" وزيادة. وأما الوجه الآخر: فيُذكَر فيه ابتداءُ الوقت على جهة التعريف، كقولك: "ما رأيتُه مذ يومُ الجمعة"، والمعنى: ابتداءُ ذلك يومُ الجمعة، وأوّلُ ذلك يومُ الجمعة. وهذا الوجهُ الثاني لا يجوز فيه إلَّا التوقيتُ والإشارة إلى وقتِ بعينه. وذلك أنّ جميعَ ذلك جوابُ كلام، كأنّه لما قال: "لم أرَك"، قال: "كم مدّةُ ذلك؟ " و"ما أوّلُ ذلك؟ " فجوابُ الأول العددُ، وما له مقدار معلوم من الزمان على ما ذُكر. وجوابُ الثاني، وهو "ما أوّلُ ذلك؟ " و"ما ابتداءُ ذلك؟ " أن تذكر له أوقاتًا معلومة، نحوَ: "يومُ كذا"، و"سنةُ كذا". والمرادُ: ما رأيتُه مذ ذلك الوقت إلى وقتي هذا، إلَّا أنّك تركتَ ذِكْرَ منتهَى الغاية للعِلْم به، إذ لو كان وقعت رؤيتُه بعدُ، ولم تكن الرؤيةُ انقطعتْ من الوقت الذي ذكره، لكان الإخبار غيرَ صحيح. واعلم أنّك إذا رفعتَ ما بعد "مُذْ"، فالكلامُ مبتدأ وخبر، فـ "مُذ" أبتداء، وما بعده
الخبرُ؛ لأن "مُذْ" واقعة موقعَ "الأمَد"، كأنّك قلت: "أمدُ ذلك يومان"، أو"أوَّلُ أمدِه يومُ الجمعة"، فكما يكون الأمدُ مبتدأ، فكذلك ما وقع موقعَه. وقال بعضهم: "يومان" هو المبتدأ، و"مُذ" الخبر، وتُقدر "مُذْ" تقديرَ ظرف المكان، كأنّه قال: "بيني وبينه يومان". والأوّلُ أظهرُ، فالكلامُ إذا رفعتَ ما بعد "مُذْ" جملتان، وإذا خفضتَ وقلت: "مذ يومَيْن"، فالكلامُ جملة واحدة. وذهب الفرّاء إلى أنّ "مُنْذُ" مركبة من "مِنْ"، و"ذُو"، فحذفوا الواو تخفيفًا وما بعدها من صلة الذال، وقال غيره: هي مركّبة من "مِنْ" و"إذْ"، فحُذفت الهمزة تخفيفًا، وغُيرت بضمّ أوّلها، وحُرّكت الذال لسكونها، وسكونِ النون قبلها، وضُمتْ إتباعًا لضمة الميم. وهذه دَعاوَى لا دليلَ عليها، والأصلُ عدمُ التركيب. وقد ذهب بعضُ أصحابنا (¬1) إلى أن "مُذْ" و"مُنْذُ" اسمان على كل حال، فإذا رفعتَ ما بعدهما، فعلى الابتداء والخبر على ما سبق، وإذا خفضت ما بعدهما، فعلى تقديرِ اسمين مضافين، وإن كانا مبنيين، كقولك: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (¬2) أضفتَ "لدن" إلى "حكيم"، وإن كان مبنيًّا. ومثلُه في خفضِ ما بعده ورفعِه "كَمْ". تقول: "كم رجل جاءني؟ " فيكون بمنزلةِ عدد مضاف، وتقول: "كم دراهمُك؟ " فيكون في موضع مبتدأ، وما بعده الخبرُ. وهو قول متين، إلا أن الجواب عنه أن "مُذْ" و"مُنْذُ" لابتداء الغَاية في الزمان، فهي نظيرةُ "مِنْ" في المكان، فكما أتى "مِنْ" حرفٌ، فكذلك ما هو في معناه. فإن قيل: فلِمَ بُنيت "منذ" و"مذ"؟ قيل: أما إذا كانت حرفًا، فلا كلامَ في بنائها، إذ الحروفُ كلها مبنيّة، وإذا كانت اسمًا، فهي مبنية أيضًا؛ لأنّها اسم في معنى الحرف، فكان مبنيا كـ"مَنْ" و"مَا" إذا كانا استفهامًا، أو جزاءً، وحقهما السكون؛ لأن أصل البناء على السكون. وإنما حُركت "مُنْذُ"، لكون النون قبلها ساكنةً، وضُمّت إتباعًا لضم الميم، إذ النونُ خفية، لأنها غُنَّة في الخَيْشوم ساكنةٌ، فكانت حاجزًا غيرَ حصين. ولو بنوها على الكسر بمقتضى التقاء الساكنين، لَخرجوا من ضم إلى كسر، وذلك قليلٌ في كلامهم. ومثلُه في الإتباع قولُهم: "مُنْتُن"، فمنهم من يضم التاء إتباعًا لضمة الميم، ومنهم من يقول: "مِنْتِنٌ"، بكسر الميم إتباعًا لكسرة التاء، إذ النونُ لخَفائها وكونِها غنةً في الخيشوم حاجر غيرُ حصين. وأمّا "مُذْ" فساكنةٌ, لأنه لم يلتق في آخِرها ما يوجب لها الحركةَ، فإن لَقِيَها ساكن بعدها، ضُمّت لالتقاء الساكنين، نحوَ: "مُذُ اليومُ"، و"مُذُ ¬
فصل [أحكام "إذ" و "إذا"]
الليلةُ". ومنهم من يكسرها، فيقول: "مُذِ اليومُ"، و"مذِ الليلةُ"، فمَن ضمّ، فإنّه أتْبَعَ الضم الضم، وإذا كانوا أتبعوا في "مُنْذُ" مع الحاجز، فأن يُتْبِعوه مع عدم الحاجز أوْلى. ويجوز أن يكون لما وجب التحريكُ لالتقاء الساكنين، حرّكوه بالحركة التي كانت له، كما قالوا: "رُبَ"، فحركوها في حال التخفيف بالحركة التي كانت لها قبل التخفيف، فاعرفه. فصل [أحكام "إذْ" و "إذا"] قال صاحب الكتاب: ومنها "إذ" لما مضى من الدهر، و"إذا" لما يستقبل منه, وهما مضافتان أبداً, إلا أن "إذ" تضاف إلى كلتا الجملتين، وأختها لا تضاف إلا إلى الفعلية, تقول: "جئت إذ زيد قائم"، و"إذا قام زيد"، و"إذ يقوم زيد"، و"إذ زيد يقوم", وقد استقبحوا: "إذ زيد قام". وتقول: "إذا قام زيد"، و"إذا يقوم زيد". قال الله تعالى: {والليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى} (¬1) , ونحو قوله [من الرجز]: 635 - إذا الرجال بالرجال التفت ارتفاع الاسم فيه بمضمر يفسره الظاهر. * * * قال الشارح: "إذْ"، و"إذا" ظرفان من ظروف الأزْمِنة، فـ "إِذْ" ظرفٌ لِما مضى منها، و"إذَا" لِما يُستقبل، وهما مبنيان على السكون. والذي أوجب لهما البناءَ شَبَهُهما بالموصولات، وتنزلُ كل واحد منهما منزلةَ بعض الاسم. فأما "إذْ" فإنّها تقع على الأزمنة الماضية كلها مبهمةً فيها, لا اختصاصَ لها ببعضها دون بعض، فاحتاجت لذلك إلى ما يوضحها، ويكشِف عن معناها، وإيضاحُها يكون بجملة بعدها، فصارت بمنزلةِ بعض الاسم، وضارعتْ "الّذِي"، والأسماءَ الناقصةَ المحتاجةَ إلى الصلات, لأن الأسماء موضوعةٌ للدلالة على المسميات، والتمييزِ بين بعضها وبعض. فإذا وُجد منها ما يتوقّف معناه على ما بعده، حل مع ما بعده من تَمامه محل الاسم الواحد، وصار هو بنفسه ¬
بمنزلةِ بعض الاسم، وبعضُ الاسم مبنيّ؛ لأنّ بعض الاسم لا يُوضَع للدلالة على المعنى. وبُنيت على السكون على أصل البناء على ما تقدم. فـ "إذْ" تُوضح بالمبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، فمثالُ المبتدأ والخبر قولُك: "جئتُك إذ زيدٌ قائم"، ومثال الفعل والفاعل قولك: "جئتُك إذ قام زيدٌ"، و"إذ يقوم زيد". وإذا كان الفعل مضارعًا؛ حسن تقديمهُ وتأخيرهُ، نحوُ: "جئتُك إذ يقوم زيد"، و"إذ زيد يقوم". وإذا كان ماضيًا، لم يحسن تأخيرُه، لا يكادون يقولون: "إذ زيد قام"، وذلك لأنّ "إذْ" ظرفُ زمان ماض، فإذا كان معك فعلٌ ماض، استحبوا إيلاءه إياه لتشاكُلِ معناهما، وما بعد "إذْ" في موضعِ خفض بإضافةِ "إذْ" إليه، إذ كانت زمانًا، والزمانُ يضاف إلى الجُمل، نحوَ: "جئتُك زمانَ زيد أمير، وزمنَ قام زيدٌ، وزمنَ يقوم زيد". وأما "إذَا"، فهي اسمٌ من أسماء الزمان أيضًا، ومعناها المستقبَل، وهي مبنيةٌ لإبهامها في المستقبل، وافتقارِها إلى جملةٍ بعدها، تُوضِحها وتُبينها كما كانت الموصولات كذلك، على ما ذكرنا في "إذْ"، مضافَا ذلك إلى ما فيها من معنى الشرط، فبُنيت كبناء أدوات الشرط، وسكن آخِرُها؛ لأنّه لم يلتقِ فيه ساكنان. ولِما تضمنتْه من معنى الجزاء، لم يقع بعدها إلَّا الفعلُ، نحوُ: "آتيك إذا احمر البُسْرُ، وإذا يقوم زيدٌ". فأمّا قول الله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (¬1) فشاهد على جوازِ وقوعِ كلّ واحد من المضارع والماضي بعدها، فإذا وقع الاسمُ بعدها مرفوعا، فعلى تقدير فعلِ قبله؛ لأنّه لا يقع بعدها المبتدأ والخبر، لِما تضمنته من الشرط والجزاء. والشرطُ والجزاء مختصان بالأفعال، وذلك نحوُ قوله، وهو جَحْدَرُ بن ضبَيْعَةَ جاهلى [من الرجز]: إذا الرجالُ بالرجالِ الْتَفتِ وبعده: أمُخْدَج في الحَرْب أمْ أتَمَّتِ ويروى: إذا الكُماةُ بالكُماة التفتِ و: إذا العَوالي بالعوالي التفتِ والمُخدَج: الولدُ يولَد ناقصًا، وإن تمت أيّامُ حَمْله، كأنه قال: "إذا التفّت الرجالُ بالرجال التفت"، ومثله قوله [من الطويل]: إذا ابنُ أبي مُوسَى بِلالًا بَلَغْتِهِ ... فقامَ بفَأسٍ بين وَصلَيْكِ جازِرُ (¬2) ¬
والمراد: إذا بُلغ ابنُ أبي موسى بلال بلغتِه. وعليه قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (¬1) و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} (¬2). كله بإضمارِ فعلٍ يُفسره الظاهرُ. وأجاز الكوفيون وقوعَ المبتدأ والخبر بعدها لأنها ليست شرطًا في الحقيقة. * * * قال صاحب الكتاب: وفي "إذا" معنَى المُجازاة دونَ "إذْ"، إلَّا إذا كُفُتْ، كقول العَباسِ بن مِرْداسٍ [من الكامل]: 636 - إذْما دخلتَ على الرسولِ فقُلْ له ... حَقًّا عَليكَ إذا اطْمَأن المَجْلِسُ وقد تقعانِ للمُفاجَأة، كقولك: "بَينَا زيدٌ قائم إذ رأى عمرًا"، و"بينما نحن بمكان كذا إذا فلانٌ قد طلع علينا"، و"خرجتُ فإذا زيدٌ بالباب". قال [من الطويل]: 637 - وكنتُ أُرَى زيدًا كما قيلَ سَيدًا ... إذا إنه عَبْدُ القَفا واللهازِمِ ¬
وكان الأصمعيّ لا يستفصِح إلَّا طَرْحَهما في جواب "بَينَا"، و"بَينَمَا"، وأنشد [من الوافر]: 638 - بينا نحنُ نَرْقُبُه أتانَا ... مُعَلقَ وَفْضَة وزِنادِ راعِ ¬
وأمثالًا له. ويُجاب الشرط بـ "إذا" كما يُجاب بالفاء. قال الله تعالى {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (¬1). * * * قال الشارح: إنما كان في "إذا" معنى المجازاة؛ لأن جوابها يقع عند الوقت الواقع، كما تقع المجازاةُ عند وقوع الشرط. ومثلُه قولك: "الذي يأتيني فلَهُ درهمٌ"، فيه معنى المجازاة؛ لأنه بالإتيان يستحق الدرهمَ. ولا يُجازَى بها، فيُجْزَمَ ما بعدها؛ لِما تقدم من توقيتها، وتعيينِ زمانها، فلذلك كان ما بعدها من الفعل مرفوعًا، نحوَ قوله [من البسيط]: 639 - تُصغِى إذا شَدها للرحْل جانِحَة ... حتى إذا ما استَوَى في غَرْزِها تَثِبُ ولا يُجزَم بها إلا في الشعر، نحوِ قوله [من الطويل]: 640 - إذا قَصُرَتْ أسْيافُنا كان وَصلُها ... خُطانَا إلى أعْدائِنا فنُضارِبِ ¬
فجزمُ ما عُطف على الجواب دليل على جزم الجواب. وليست "إذْ" كذلك لتبيين وقتها وكونِه ماضيًا، والشرطُ إنّما يكون بالمستقبل، فلذلك ساغ أن يليها الاسمُ والفعلُ. فإذا دخلتْ عليها "مَا"، كفتْها عن الإضافة، نحوَ قوله، وهو العَباس بن مِرْداس [من الكامل]: إذ ما أتَيْتَ على الرسول فقُلْ له ... إلخ الشاهد فيه مُجازاتُه بـ "إذْمَا"، ودل على ذلك إتيانُه بالفاء جوابًا, لأنّها صارت بدخولِ "مَا" عليها، وكَفِّها لها عن الإضافة المُوضِحةِ الكاشفةِ عن معناها، مبهمة بمنزلةِ "مَتَى"، فجازت المجازاةُ بها، كما يُجازَى بـ "متَى". والفرقُ بيِن "مَتَى" و"إذْ" أن "متى" للزمان المطلق، و"إذْ" للزمان المعين إلَّا أنّ "إذْ" تفسير بتركيب "مَا" معها حرفا من حروف الجزاء عند سيبويه (¬1)، وتخرج عن حَيزِ الأسماء، وسيوضَح ذَلك في موضعه من الجزاء. وقد تكون "إذا" للمُفاجأة، فتكون فيه اسما للمكان، وظرفًا من ظروفه، فتقول: "خرجتُ فإذا زيدٌ قائم"، و"خرجتُ فإذا زيدٌ قائمًا"، و"خرجتُ فإذا زيد". فإذا قلت: "خرجتُ فإذا زيد قائم". كان "زيد" المبتدأ، و"قائم" الخبرَ، و"إذا" ظرفَ مكان عمِل فيه الخبرُ، كما تقول: "في الدار زيد قائم"، والمرادُ: بحَضْرتي زيدٌ قائمٌ، أي: فاجَأني عند خروجي. وإذا قلت: "فإذا زيدٌ قائمًا"، جعلتَ "إذا" الخبرَ؛ لأنّه ظرفُ مكان، وظروفُ ¬
المكان تقع أخبارًا عن الجُثَث، و"قائمًا" حال من المضمر في الظرف، والظرفُ وضميرُه عمِلًا في الحال، كما تقول: "في الدار زيدٌ قائمًا". ومن قال: "خرجتُ فإذا زيدٌ"، فـ "زيدٌ" مبتدأ، و"إذا" الخبر، فأمّا قوله، أنشده سيبويه [من الطويل]: وكنتُ أُرَى زيدًا ... إلخ فأوْرده شاهدًا على كونِ "إذا" خبرًا، وذلك إذا فُتحت "أن" على تأويل المصدر المبتدأ، والإخبارُ عنه بـ "إذا"، والتقديرُ: فإذا العُبُوديةُ، كأنه شاهَدَ نفسَ المعنى الذي هو الخِدمةُ والعَمَلُ. فأما إذا كُسرت "إن" فإنه على نيةِ وقوع المبتدأ والخبر بعد "إذا", لأن "إن" تُقدَر تقديرَ الجُمَل، أي: فإذا هو عبدٌ، كأنه شاهَدَ الشخصَ نفسَه من غير صفة العمل. يهجو هذا الرجلَ بأنه كان يظنّ فيه النجْدَةَ، فإذا هو ذليلُ القفا واللهازمِ. واللهازمُ: جمعُ لِهْزِمَة بكسر اللام، وهما لهزمتان، أي: عَظْمان ناتئان في أصل اللحْيَيْن, لأن الخُضوع يكون بالأعناق والرؤوس. و"إذا" هاهنا يجوز أن تكون ظرفَ مكان متعلقة بالخبر، ويجوز أن تكون حرفًا دالًا على المفاجأة، فلا تتعلق بشيء، وقد تقدم نحوُ ذلك في أول الكتاب. وقد تُغنِي "إذا" إذا كانت للمفاجأة عن الفاء في جواب الشرط، تقول: "إن تأتِني فأنا مُكْرِمْ لك"، وإن شئت: "إذا أنا مكرم لك"، وذلك لتقارُب معنيَيْهما؛ لأن المفاجأة والتعقيب متقاربان. قال الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (¬1)، أي: فهم يقنطون. فأما قولهم: "بَيْنَا زيدٌ قائمٌ إذ رأى عمرًا"، و"بَيْنَمَا نحنُ في مكان كذا إذا طلع فلان علينا"، فقال بعضهم: هي للمفاجأة كما كانت "إذا" كذلك، وقال بعضهم هي زائدة، والمعنى: بينما زيد قائم رأى عمرًا. وكان الأصمعي لا يرى إلَّا طَرْحَ "إذْ" من جواب "بَيْنَا" و"بَيْنَمَا"، ويستضعِف الإتيانَ بها، وذلك من قِبَل أن "بَيْنَا" هي "بَيْنَ"، والألفُ إشباعٌ عن فتحة النون، وهي متعلقة بالجواب، فإذا أتيتَ بـ "إذ"، وأضفتَها إلى الجواب، لم يحسن إعمالُه فيما تقدم عليه، والذي أجازه لأجلِ أنه ظرفٌ، والظروف يُتسع فيها. وأحسنُ أحوالها أن تكون زائدة، فلا تكون مضافة، فلا يقبح تقديمُ ما كان في حيّز الجواب، فأما قوله [من الوافر]: بينا نحن نرقبه ... إلخ فشاهدٌ على استعمالها بغيرِ "إذْ"، وهو الأفصحُ، والمراد بقوله: "بينا نحن بين أوقاتِ نحن نرقبه"؛ لأنه قد أضيف إلى الجملة. وإنّما يضاف إلى الجملة أسماءُ الزمان ¬
فصل ["لدي" ولغاتها]
دون غيرها، فلذلك قلنا: إن المراد: بين أوقات نحن نرقبه. ومثله قوله [من الكامل]: بَينَا تَعَنقِهِ الكماةَ وروغِهِ ... يَومًا، أُتِيحَ له جَرِيءٌ سَلفَعُ (¬1) والمراد: بين أوقاتِ تعنقِه الكماةَ. فصل ["لدي" ولغاتها] قال صاحب الكتاب: ومنها "لدى", والذي يفصل بينها وبين "عند" أنك تقول: "عندي كذا" لما كان في ملكك, حضرك أو غاب عنك، و"لدي كذا" لما لا يتجاوز حضرتك. وفيها ثماني لغات: "لدى", و"لدن" و"لدن" و"لد" بحذف نونها، و"لدن", و"لدن" بالكسر لالتقاء الساكنين، و"لَد" و"لُد" بحذف نونهما. وحكمها أن يجر بها على الإضافة كقوله تعالى: {من لدن حكيم عليم} (¬2). وقد نصبت العرب بها "غدوة" خاصة قال [من الطويل]: 641 - لدن غدوة حتى ألاذ بخفها ... بقية منقوص من الظل قالص تشبيهًا لنونها بالتنوين , لما رأوها تُنزع عنها وتثبت. * * * قال الشارح: أعلم أن "لَدَى" ظرف مْنْ ظْروف الأمكنة بمعنى "عِندَ"، وهو مبني على السكون، والذي أوجب بناءه فَرْطُ إبهامه بوقوعه على كل جهة من الجهات الستّ، ¬
فليس في ظروف الأمكنة أبْهَمُ منَ "لَدَى"، و"عِنْدَ"، ولذلك لزمت الظرفيّةَ، فلم تتمكن تمكن غيرها من الظروف، فجرت لذلك مجرى الحرف في إبهامه. وكان القياس بناء "عِنْدَ" أيضًا؛ لأنّها في معنى "لَدُنْ" و"لَدَى"، وإنّما أُعربت "عِنْدَ"؛ لأنهم توسعوا فيها، فأوقعوها على ما بحضرتك، وما يبعد، وإن كان أصلها الحاضرَ، فقالوا: "عندي مالٌ"، وإن لم يكن حاضرًا، يريد أنه في مِلْكي. وقالوا: "عندي عِلمٌ" ولا يعنون به الحضرةَ. و"لَدَى" لا يتجاوزون به حضرةَ الشيء، فلهذا القدر من التصرف أعربوا "عِنْدَ"، وإن كان حكمُها البناء كـ "لَدُنْ"، و"لَدَى"، وبها جاء التنزيل. قال الله تعالى: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (¬1)، وقال: {مِنْ لَدُنْهُ} (¬2) وقال: {مِنْ لَدُنْا} (¬3) وقال: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ} (¬4)، وقال: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} (¬5). وليست "لَدَى" من لفظ "لَدنْ"، وإن كانت من معناها؛ لأن "لَدَى" معتل اللام، و"لَدُنْ"صحيح اللام. وقالوا فيها: "لَدْنِ" بفتحِ اللام وسكون الدال وكسر النون، فإنّهم استثقلوا ضمة الدال، فسكنوا تخفيفًا، كما قالوا في "عَضُد": "عَضْدٍ". ولمّا سكنت الدالُ، والنونُ ساكنة، كسروا النونَ لالتقاء الساكنين، فقالوا: "لَدْنِ". وقالوا: "لُدْنِ" بضم اللام مع سكون الدال وكسر النون، وذلك أنّهم لما أرادوا التخفيف، نقلوا الضمة من الدال إلى اللام، ليكون ذلك أمارة على الحركة المحذوفة، وكسروا النون لالتقاء الساكنين. فأمّا من قال: "لَدَنْ"، فهي "لَدُنْ" بضم الدال، وإنما سكنوا الدال استثقالًا للضمّة فيها، كما قالوا: "عَضْدٌ"، و"سَبْعٌ". فلما سكنت الدال، وكانت النون بعدها ساكنة، فُتحت الدال لالتقاء الساكنين، وشُبّهت من طريق اللفظ بنحو قولك في الأمر والنهي: "اضْرِبَنْ زيدًا"، و"لا تَضْرِبَنْ عمرًا"، وقد حذفوا النون من "لَدُنْ" تخفيفًا، فقالوا: "من لَدُ الصلاة"، و"لَدُ الحائطِ"، وليس حذفُ النون لالتقاء الساكنين؛ لأنهم قد حذفوها؛ ولا ساكنَ بعدها، أنشد سيبويه [من الرجز]: 642 - مِن لَدُ شَوْلًا فإلَى إتْلائِها ¬
فمنهم من قال: "لدُ"، بضم الدال وإبقاء الضمة بعد الحذف، ليكون دليلًا على المحذوف، وأنه منتقص من غيره، وليس بأصلِ على حِياله. ومنهم من قال: "لُدْ"، فحذف النون بعد نقل الضمّة إلى اللام. ومنهم من قال: "لَدْ"، بفتح اللام وسكون الدال، كأنه حذف الضمة تخفيفًا على ما ذكرنا، ثم حذف النون، وأبقى الدال على سكونها. واعلم أن حكمَ "لَدُنْ" أن يُخْفَض ما بعدها بالإضافة كسائر الظروف، نحو: "أْمامَ"، و"قُدامَ"، و"وَراءَ"، و"فَوْقَ"، و"تحتَ"، ولأنّ نونها من أصل الكلمة بمنزلة الدال من "عِنْدَ"، كما قال عز وجلّ: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (¬1)، غير أن من العرب من ينصب بها، قال الشاعر [من الطويل]: لدن غدوة حتّى أَلاذَ ... إلخ وقال ذو الرُّمة [من الطويل]: 643 - لَدُنْ غُدْوَة حتى إذا امْتَدتِ الضحَى ... وحَث القَطِينَ الشحْشَحانُ المُكَلَّفُ ¬
يعني الحادي، والقطين: جمع قاطن. وإنما نصبوا بها هاهنا؛ لأنهم شبهوا نونَ "لدن" بالتنوين في "ضاربٍ"، فنصبوا "غدوةً" تشبيها بالمميز في نحو: "عندي راقودٌ خَلاّ، وجُبة صُوفًا"، والمفعولِ في نحو: "هذا ضاربٌ زيدًا، وقاتلٌ بكرًا"، ووجهُ الشَّبَه بينهما اختلافُ حركة الدال قبل النون، يقال: "لَدُنْ"، و"لَدَنْ"، بضم الدال وفتحها على ما سبق. فلما اختلفت الحركتان قبل النون، وكانوا يحذفون النون، فيقولون: "لَدُ غدوة"، شابهت الحركاتُ قبلها باختلافها حركاتِ الإعراب، وشابهت النونُ التنوين بكونها تُحذَف تارة وتُثبَت أخرى، كما يكون التنوين كذلك، فنصبوا بها "غدوةً"، كما نصبوا بـ "ضارب". وقد شبه بعضُهم "غدوةً" بالفاعل، فرفعها فقال: "لدن غدوةٌ"، كما تقول: "قام زيدٌ". ومنهم من يجري على القياس، فيخفض بها، فيقول: "لدن غدوة". ولا يُنصب غيرُ "غدوة" مع "لدن"، وذلك لكثرة استعمالها، فغيروها عن الجر، فلا تقول قياسًا على "لدن غدوةً": "لدن بُكْرَةَ"؛ لأنه لم يكثر في كلامهم كثرةَ "لدن غدوة". واعلم أن "غدوة" قد وقعت بعد "لدن" مصروفة ألبتةَ، فقالوا: "لدن غدوةً"، و"غدوة" وقعتْ في كلامهم معرفةً، و"غَداةٌ" نكرة، ألا ترى أنك تقول: "بالغداة والعَشِي"، ولا تقول: "بالغدوة والعشي" إلَّا في قراءة ابن عامر؟ والوجهُ في ذلك كثرةُ استعمالها , ولكثرة الاستعمال أثر في التغيير، ألا ترى أنهم قالوا: "أيْش"، والمراد: أيُ شيءٍ، وقالوا: "وَيْلُمِّهِ"، وقالوا: "لا أَدْرِ"، فغيروا هذه الأشياء عن مقتضاها لضرب من التخفيف عند كثرة الاستعمال. وصرفُ الاسم حكم عليه بالخفة، وعدل به عن شَبَه الفعل، هذا مع ما في صرفه من إزالةِ لبس، وذلك أنك لو منعتَه الصرفَ، فقلت: "لدن غدوةَ"، ربّما أشكل على السامع، وظَن أنه مخفوض، والفتحةُ علامةُ الخفض، فصرفوها ليُؤْمَنَ هذا اللبسُ فيه. وحملوا الخفضَ والرفع على النصب في الصرف ليجيء الأمرُ فيه على منهاج واحد في الخفيف، كما حملوا "أَعِدُ"، و"نعد"، و"تَعِدُ" على "يَعِدُ" في حذف الواو. ويحتمل وجهًا آخَرَ، وهو أن النصب إنما هو على التشبيه بالتمييز على ما تقدم، والتمييزُ لا يكون إلَّا نكرة، فنوَوْا في "غدوة" التنكيرَ حملاً لها على أُختها، وهي "غداةٌ". وقد اعتقد فيها التنكيرَ من قرأ: {بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} (¬1). ومن ذلك قولُ طَرَفَةَ [من الطويل]: 644 - كأن حُدُوجَ المالِكِيةِ غُدْوَة ... خَلايَا سَفِين بالنواصِفِ مِن دَدِ ¬
فصل ["الآن", و"متي", و"أين", و"أيان" و"لما"]
ولما كان النصب هو الغالبَ عليها، حملوا الرفع والجر عليه، فاعرفه. فصل ["الآن", و"متي", و"أين", و"أيّان" و"لمّا"] قال صاحب الكتاب: ومنها "الآن" وهو للزمان الذي يقع فيه كلام المتكلم. وقد وقعت في أول أحوالها بالألف واللام، وهي علة بنائها, و"متى" و"أين", وهما يتضمنان معنى الاستفهام ومعنى الشرط، تقول: "متى كان ذاك؟ " و"متى تأتني أكرمك" و"أين كنت؟ " و"أين تجلس أجلس". ويتصل بهما "ما" المزيدة فتزيدهما إبهاماً. والفصل بين "متى" و"إذا" أن "متى" للوقت المبهم, و"إذا" للمعين. و"أيان" بمعنى "متى" إذا استفهم بها, و"لما" في قولك: "لما جئتَ جئتُ" بمعني "حين". * * * قال الشارح: "الآنَ" ظرف من ظروف الزمان معناه الزمنُ الحاضرُ، وهو الذي يقع فيه كلامُ المتكلم الفاصلُ بين ما مضى، وما هو آتٍ. وهو مبني على الفتح. وفي علّةِ بنائه إشكال، فذهب قوم إلى أنه بُني؛ لأنه وقع في أول أحواله معرفة بالألف واللام، وحكمُ الأسماء أن تكون منكورةً شائعةً في الجنس، ثم يدخل عليها ما يعرفها من إضافة وألف ولام، فلما خالفت أخواتِها من الأسماء، بأنْ وقعت معرفة في أول أحوالها, ولزمت موضعًا واحدًا، بُنيت لذلك؛ لأن لزومها بهذا الموضع، ألحقها بشَبَه الحروف. وذلك أنّ الحروف لازمة لمواضعها التي وُضعت لها غيرُ زائلة عنها. وهذا رأيُ أبي العباس المبرد، وإليه أشار صاحبُ الكتاب. وقال الفرّاء: أصله "آنَ" مِن "آنَ الشيء يَئِينُ"، إذا أنى وقتُه، يقال: "آنَ لك أن تفعل كذا"، و"أنى لك". قال الشاعر [من الوافر]: 645 - تَمَخضَتِ المَنُونُ له بيَوْمٍ ... أَنَى ولكُل حامِلةٍ تَمامُ ¬
و"آنَ" فعل ماض، فلما أُدخل عليه الألف واللام، تُرك على ما كان عليه من الفتح، كما جاء في الحديث أنَّه - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن قِيلَ وقَالَ (¬1). و"قيل"، و"قال" فعلان ماضيان، فأدخل الخافضَ عليهما، وتركهما على ما كان عليه، وله قولٌ آخرُ أنّ أصله "أوَان"، فحذفوا الواو، وصار "آنَ"، كما قالوا: "رَيَاحٌ"، و"رَاحٌ". وكلا القولَيْن فاسدٌ، أما الأوّل؛ فلأنه لو كان أصلُه "آنَ"، لافتقر إلى فاعل مع أن الأفعال المحكيّة يدخل عليها العواملُ ولا تُؤثر فيها، نحو: "تَأَبطَ شَرا"، و"بَرَقَ نَحْرُهُ"، ولا يدخل عليها الألفُ واللام. فأما الثاني، فحاصلُه راجع إلى المعنى، وليس بعلة للبناء. وذهب أبو إسحاق إلى أن "الآن" إنما تعريفُه بالإشارة، وأنه إنّما بُني لمّا كانت فيه الألفُ واللام لغيرِ عهد متقدم؛ لأنك تقول: "الآنَ فعلت"، ولم يتقدم ذكرُ الوقت الحاضر. وهذا فاسدٌ، أما قوله: إِن تعريفه بالإشارة؛ فإن أسماء الإشارة لا تدخلها لام (¬2)، نحو: "هذا"، و"تِلْكَ". وأما قوله إنه بُني لأن الألف واللام فيه لغير عهد متقدّم، ففاسدٌ أيضًا؛ لأنّا نجد الألفَ واللام في كثير من الأسماء على غيرِ عهد مع كونِ الأسماء معربة، وتلك الأسماء قولك: "يا أيها الرجلُ"، و"نظرتُ إلى هذا الغلام". وقد ذهب جماعة ممن ينتمي إلى التحقيق والحِذْق بهذه الصناعة إلى أنه مبني لتضمنه لامَ التعريف، وتلك اللامُ غيرُ اللام الظاهرة فيه، على حد بنائه في "أَمْسِ". وتلك اللامُ المقدرةُ هي المُعرفة، وذلك لأنه معرفة. وتعريفُه لا يخلو إمّا أن يكون بما فيه من اللام الظاهرة كما يظن بعضُهم، أو أنه من قبيل سائر المعارف، فلا جائزٌ أن يكون تعريفه بما فيه من اللام؛ لأنّا استقرينا جميعَ ما فيه لامُ التعريف، فإذَا إسقاطُ لامه جائزٌ، ¬
نحو: "الرجل", و"رجل", و"الغلام", و"غلام"، ولم يقولوا: "أفعلُ آنَ ذلك" كما قالوا: الآنَ، فدل ذلك على أن اللام فيه ليست للتعريف. وإذا لم تكن للتعريف، كانت زائدة على حد زيادتها في "الذِي" و"التِي". ألا ترى أن تعريفَ "الذي" و"التي" بالصلة لا بما فيه من اللام. يدل على ذلك أنّ "مَنْ"، و"مَا" معارفُ، وليس فيهما لام، فعلمتَ بذلك أن التعريف بالصلة لا باللام. وإذا ثبت أنها زائدةٌ، لم تكن المُعرفةَ، وليس بمضمرِ؛ لأن المضمرات محصورة، وليس "الآنَ" منها؛ وليس أيضًا بعَلَم؛ لأن العَلَم يقع على كلّ شيء بعينه، و"الآنَ" يقع على كل وقتٍ حاضر لا يخصّ بعضَ ذلك دون بعض. وليس من أسماء الإشارة لِما ذكرناه من دخول اللام عليه، واللامُ لا تدخل على أسماء الإشارة. وليس بمضافٍ، لأنّا لا نُشاهد مضافًا إليه. وإذا ثبت أنّه معرفة، وليس من أنواع المعارف الأربعة، تَعين أن يكون معرفة باللام المقدرة فيه، كما قلنا في "أَمْسِ"، لتعذرِ أن يكون التعريف بهذه اللام الظاهرة فيه. والذي أراه أن تعريفه بما فيه من اللام الظاهرة، وأما لزومُها، فعلى حسبِ إرادة معنى التعريف فيها بخلاف "الرجل" و"الغلام"، فإنه لم تلزمهما اللامُ؛ لأنهما يُستعملان معرفة ونكرة، فإذا أُريد النكرة، لم يأتوا باللام، وإذا أرادوا المعرفة، ألحقوهما اللامَ، وكذلك نظائرُهما. وأما "الآنَ"، فلما أُريد به المعرفة ألبتّة، لزمت أداتُه. وأمّا علةُ بنائه؛ فلإبهامه ووُقوعِه على كلّ حاضر من الأزمنة، فإذا انقضى، لم يصلح له، ولزمه حرفُ التعريف، فجرى مجرى "الذي" و"التي"، فاعرفه. وأما "مَتَى"، فسؤالٌ عن زمانٍ مبهم يتضمن جميعَ الأزمنة، فإذا قيل: "متى الخروجُ؟ " فتقول: "اليومَ"، أو"الساعةَ"، أو"غدًا". والمرادُ بها الاختصار، وذلك أنّك لو سألت إنسانًا عن زمنِ خروجه، لكان القياسُ: "اليومَ تخرج، أم غدًا، أم الساعة؟ " والأزمنةُ أكثرُ من أن يحاط بها، فإذا قلت: "مَتَى"، أغنى عن ذكر ذلك كلّه. وهي مبنيّة على السكون؛ لأنها وقعت موقعَ حرف الاستفهام، وهو الألف، وأصلُ الاستفهام بحروف المعاني، وبُنيت على السكون على أصل البناء، ولم يلتق في آخرها ساكنان، فيجبَ التحريكَ لذلك. وأما "أَيْنَ"، فظرف من ظروف الأمكنة، وهو مبني لتضمنه همزة الاستفهام. والغرضُ به أيضًا الإيجازُ والاختصار، وذلك أنّ سائلًا لو سأل عن مستقَر زيد، فقال: "أفي الدار زيدٌ، أفي المسجد زيد؟ " ولم يكن في واحد منهما، فيُجيب المسؤول بـ "لا"، ويكون صادقًا. وليس عليه أن يُجيب عن مكانه الذي هو فيه؛ لأنه لم يُسأل إلَّا عن هذَيْن المكانَيْن فقط. والأمكنةُ غيرُ منحصرة، فلو ذهب يُعدِّد مكانًا مكانًا، لقَصَرَ عن استيعابها،
وطال الأمرُ عليه، فجاؤوا بـ "أيْنَ" مشتملاً على جميع الأمكنة، وضمنوه معنى الاستفهام، فاقتضى الجوابَ من أولِ مرة. ووجب أن تُبنَى على السكون، لوقوعها موقع همزة الاستفهام، إلَّا أنه التقى في آخره ساكنان، فحُركت النون لاجتماعهما، وفُتحت طلبا للخفة واستثقالًا للكسرة بعد الياء، فآثروا تخفيفَها لكثرة دَوْرها، وسعةِ استعمالها. وفيهما معنى المجازاة لإبهامهما ووقوعِهما على كل اسم يقع بعد حرف الجزاء، ألا ترى أنك إذا قلت: "متى تَقُمْ أَقُمْ"، كان معناه: "إنْ تقم يومَ الجمعة، أقم فيه، إنْ تقم يومَ السبْت أقم فيه"؟ وكذلك إذا قلت: "أيْنَ بيتُك آتِه"، معناه: أين بيتُك، إنْ أعرفه آتِه، و"أين تكن أكن" معناه: إن تكن في المسجد، أكن فيه، إن تكن في السوق، أكن فيه. فلما كانت "مَتَى" و"أيْنَ" يشتمِلان على كل اسم من أسماء الزمان والمكان، ويقع الجوابُ عنهما معرفة ونكرة، ولم يكونا مضافَيْن إلى ما بعدهما كـ"إذْ" و"إذا"، جازت المجازاةُ بهما. قال الشاعر [من الوافر]: أنا ابنُ جَلَا وطَلاع الثنايَا ... متى أَضَعِ العِمامَةَ تَعْرِفُوني (¬1) وقال [من الخفيف]: 646 - أَيْنَ تَصْرِفْ بها العُداةَ تَجِدْنا ... نصرِفُ العِيسَ نَحْوَها للتلاقِي ¬
وقد تدخل "ما" "أَيْنَ" و"مَتَى" للجزاء زائدة مُؤكدة، نحو: "متى ما تَقُمْ أَقُمْ"، و"أَيْنَمَا تَجْلِسْ أَجْلِسْ معك". قال الشاعر [من الطويل]: 647 - متى ما يَرَ الناسُ الغَنِي وجارُه ... فَقِيرٌ يقولوا: عاجِز وجَلِيدُ وقال الله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} (¬1)، وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} (¬2). فإذا دخلت عليهما "مَا"، زادتْهما إبهامًا, وازدادت المجازاةُ بهما حُسْنًا. فإن قيل: ولِمَ جُوزِيَ بـ "مَتَى"، ولم يُجاز بـ"إذا"؟ وما الفصلُ بينهما؟ قيل: قد تقدم أنّ "إذا" للزمان المعين، وهو الآتي، و"مَتَى" لزمان مبهم، فلذلك جوزي بـ "متى"، ولم يجاز بـ "إذا". ألا ترى إلى قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} (¬3) و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (¬4)، لو وُضع مكانَ "إذا" "إنْ"، فقيل: "إن الشمسُ كوّرت"، و"إن السماء انشقت"، لم يحسن، لأنك تجعل ما هو متيقنُ الوجودِ مشكوكًا فيه؟ وأمّا "أيانَ"، فظرف من ظروف الزمان مبهمٌ بمعنى "مَتَى". والفرقُ بينها وبين "مَتَى" أنّ "مَتَى" لكثرة استعمالها صارت أظهرَ من "أيانَ" في الزمان. ووجهٌ آخرُ من الفرق أن "مَتَى" يُستعمل في كلّ زمان، و"أيانَ" لا يُستعمل إلَّا فيما يراد تفخيمُ أمره وتعظيمُه، نحو قوله تعالى: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} (¬5)، أي: متى مرساها؟ وقال تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} (¬6). ¬
[أمس]
وبُني لتضمنه همزةَ الاستفهام، وحرك آخِره لالتقاء الساكنين , وفُتح على طريق الإتباع لما قبله، إذ الألفُ من جنس الفتحة، أو إتباعًا للفتحة قبله، إذ الألفُ حاجر غيرُ حصين، كما فعلوا فى "شَتانَ" كذلك. وأما "لَما" فظرف زمان إذا وقع بعده الماضي، نحو قولك: "جئت لما جئتَ". ومعناه معنى "حينَ"، وهو الزمان المبهم. وهو مبني لإبهامه واحتياجِه إلى جملة بعده، كبناءِ "إذْ" و"إذَا". وهو مركب من "لِمَ" النافية و"ما"، فحصل فيها بالتركيب معنى لم يكن لها، وهو الظرفية. وخرجتْ بذلك إلى حيّز الأسماء، فاستحالت بالتركيب من الحرفية إلى الاسمية، كما استحالت "إذ" بدخول "مَا" عليها من الاسمية إلى الحرفية، وتغير معناها بالتركيب من المُضي إلى الاستقبال. * * * [أمس] قال صاحب الكتاب: و"أَمسِ" وهي متضمنة معنى لام التعريف مبنية على الكسر عند الحجازيين، وبنو تميم يمنعونها الصرفَ، فيقولون: "ذَهَبَ أَمْسُ بما فيه"، و"ما رأيتُه مُذ أمسَ". قال [من الرجز]: 648 - لَقَد رأيتُ عَجَبًا مُذ أَمسَا ... عَجائِزًا مِثْلَ السعالِي خَمْسَا * * * ¬
["قط "و"عوض"]
قال الشارح: اعلم أن "أمْسِ" ظرف من ظروف الزمان أيضًا، وهو عبارة عن اليوم الذي قبلَ يومك الذي أنت فيه، ويقع لكلّ يوم من أيام الجُمْعة. وللعرب فيه خِلافٌ، فأهلُ الحجاز يبنونه على الكسر، فيقولون: "فعلتُ ذاك أَمْسِ"، و"مضى أمسِ بما فيه". واحتجّ أبو العباس وأبو بكر بن السَّراج بأنه مبهمٌ، ووقع في أول أحواله معرفة، فمعرفتُه قبل نكرته، فجرى مجرى "الآنَ". والصوابُ أنه إنما بُني لتضمنه لام المعرفة، وبها صار معرفة، والاسمُ إذا تضمن معنى الحرف، بُني. وكان حقُه تسكينَ الآخِر على ما يقتضيه البناء، وإنما التقى في آخِره ساكنان، وهما السين والميمُ قبلها، فكُسرت السين لالتقاء الساكنين. فإن قيل: فلِمَ حُذفت اللام من "أمس"، وضُمن معناها، وأُلْزِمت "الآنَ"، وهما سواء في التعريف والظرفية؟ قيل: لأن "أمس" يقع على اليوم المتقدّم ليومك من أوله إلى آخِره، فأمرُه واضحٌ، فاستغنى بوُضوحه عن علامة التعريف، وليس كذلك "الآنَ"؛ لأنه الحَدّ الفاصل بين الزمانَيْن، وهو من أَلْطَفِ ما يُدرَك، فلم يستغن لذلك عن علامةِ تكون فيه. فإن قيل: ولِمَ وجب تعريفُ "أمس"، ولم يجب تعريفُ "غَدٍ"، وهما سَواء، فـ "أمس" اسم لليوم الذي قبل اليوم الذي أنت فيه, و"غَد" اسم لليوم الذي يَلِي اليومَ الذي أنت فيه؟ فالجواب أن "أمس" قد حضر وشوهد، فحصلت معرفتُه بالمشاهدة، فأغنى ذلك عن علامة، وليس كذلك "غد"، فأقاموا المشاهدةَ في "أمس" مقامَ أداة التعريف. ولم يكن في "غد" مثلُ ذلك ما يقوم مقامَ علامة التعريف، فهو نكرة حتى تدخل عليه العلامةُ المُعرفةُ. وأما بنو تميم، فيعربونه ويجعلونه معدولاً عن اللام، فاجتمع فيه التعريف والعدلُ، فيُمنعُ من الصرف لذلك، فيقولون: "مضى أمسُ بما فيه"، بالرفع من غيرِ تنوين، و"فعلتُه أمسَ" بالنصب، قال الراجز، أنشده سيبويه: لَقَدْ رأيتُ عَجَبًا مُذْ أَمْسَا ... عَجائِزًا مِثْلَ السعالِي خَمْسَا يَأْكُلْنَ ما في رَحْلهن نَهْسَا ... لا تَرَكَ الله لَهُن ضِرْسَا الشاهد فيه أنه خفض بـ"مُذْ"، واعتقد فيها الحرفيةَ، والفتحةُ علامةُ الخفض. والفرق بين المعدول عن الحرف والمتضمّن له، أنك إذا عدلتَ عن الحرف، جاز لك إظهارُه واستعمالُه، وإذا ضمنتَه إياه، لم يجز إظهارُه. ألا ترى أنه لا يجوز إظهارُ همزة الاستفهام مع "أيْنَ" و"كَيْفَ" ونظائرِهما؟ وقد حكى بعضهم أن من العرب من يعتقد فيه التنكيرَ، ويعربه، ويصرفه، ويُجْريه مُجْرى الأسماء المتمكنة، فيقول: "مضى أمس بما فيه" على التنكير، وهو غريب في الاستعمال دون القياس، فاعرفه. [" قطّ "و"عوض"] قال صاحب الكتاب: "قَط"، و"عَوضَ"، وهما لزماني المُضِي والاستقبالِ على
سبيلِ الاستغراق، تقول: "ما رأيته قَط"، و"لا أَفْعَلُه عَوْضَ" ولا يُستعملان إلَّا في موضع النفي. قال [من الطويل]: 649 - رَضِيعَي لِبان ثَدْيَ أُم تَقاسَمَا ... بأَسْحَمَ داج عَوْضَ لا نَتَفَرقُ وقد حُكي "قُط" بضم القاف، و"قَطُ" خفيفةَ الطاء، و"عَوْضُ" مضمومة. * * * قال الشارح: اعلم أنّ قَط بمنى الزمان الماضي، يقال: "ما فعلتُه قَط"، ولا يقال: "لا أفعلُه قطّ". وهي مبنية على الضم؛ لأنها ظرفٌ. وأصلُ الظروف أن تكون مضافة، فلما قُطعت عن الإضافة، بُنيت على الضم كـ"قَبْلُ" و"بَعْدُ". قال الكسائي: كان "قَطُط" على زنةِ "فَعُل" كـ"عَضُد"، فلما سكن الحرفُ الأول للادّغام، حُرك الآخر بحركته. والذي أراه أنه "فَعْل" كـ"قَبْل" و"بَعْد"؛ لأنّ الحركة زيادة، ولا يُحكَم بها إلَّا بدليل، ولأن أكثرَ ظروف الزمان كذلك، نحو: "يَوْم"، و"شَهْر"، و"دَهْر". ومنهم منٍ يقول: "قُط"، بضم القاف والطاء، يُتْبع الضم الضم، مثلَ "مُدُّ" و"شُدُّ"، ومنهم من يُخفف، فيحذف إحدى الطاءين تخفيفًا، ويُبقِي الحركةَ بحالها دلالة وتنبيها على أصلها، كما قالوا: "رُبَ" حين خففوها، أبقوا الفتحةَ دلالة على المحذوف. ومنهم ¬
فصل ["كيف"]
من يُتبع الضم الضم في المخفف أيضًا، فيقول: "قُطُ"، وهو قليل. وأمّا "عَوْضَ"، فهو اسم من أسماء الدهر، وهو للمستقبل من الزمان، كما أن "قط" للماضي. وأكثرُ استعماله في القَسَم، تقول: "عَوْضَ لا أُفارِقُك"، أي: لا أُفارِقك أبدًا، كما تقول: "قط ما فارقتُك". و"عَوْضَ" مبنية لقَطْعها عن الإضافة، وفيها لغتان: الفتحُ والضمُّ، فمَن فتح,. فطلبًا للخفة، ومن ضم، فتشبيهَا بـ "قَبْلُ" و"بَعْدُ"، كما قالوا: "حَوْثَ"، و"حَوْثُ". قال الأعشى [من الطويل]: رضيعَي لبان ... إلخ الشاهد فيه قوله: "عوض لا نتفرق"، أي: لا نتفرّق أبدًا، يريد أنهما تَحالفا في بطن أُمّهما. ودل عليه قوله: "بأسحم داج". والأسحمُ: الأسودُ، ويقال: الدمُ تُغمَس فيه اليَد عند التحالُف، ويقال بالرحِم. فإن أضفته، أعربتَه، تقول: "لا أفعلُه عوضَ العائِضين"، أي: دَهْرَ الداهِرِينَ، فيكون معربًا. وانتصابُه على الظرف، لا على حده في "عَوْضَ لا نتفرق". و"عوض" من لفظ العِوَض ومعناه، وذلك أنّ الدهر لا يمضي منه جزءٌ إلَّا ويخلُفه جزء آخر، فصار الثاني كالعِوَض من الأول. فصل ["كيف"] قال صاحب الكتاب: و"كيف" جار مجرى الظروف, ومعناه السؤال عن الحال, تقول: "كيف زيد؟ " أي: على أي حال هو؟ وفي معناه "أني". قال الله تعالى: {فأتوا حرثكم أني شئتم} (¬1). وقال الكميت [من المنسرح]: 650 - أنى ومن أين آبك الطرب ... [من حيث لا صبوة ولا ريب] ¬
إلا أنهم يجازون بـ "أنى" دون "كيف". قال لبيد [من الطويل]: 651 - فأصبحت أني تأتها تلتبس بها ... [كلا مركبيها تحت رجليك شاجرُ] وحكى قطرب عن بعض العرب: "انظر إلى كيف يصنع". * * * قال الشارح: "كَيْفَ" سؤال عن حال, وتضمّنت همزة الاستفهام، فإذا قلت: "كيف زيدٌ؟ " فكأنك قلت: "أصحيح زيد أم سقيم؟ أآكل زيدٌ، أم شاربٌ؟ إلى غيرِ ذلك من أحواله. والأحوالُ أكثرُ من أن يحاط بها، فجاؤوا بـ "كَيْفَ" اسم مبهم يتضمن جميعَ الأحوال. فإذا قلت: "كيف زيدٌ؟ " أغنى عن ذلك كلِّه. وقوم يُجْرون "كَيْفَ" مُجرى الظروف، ويُقدرونها بحرف الجر، فإذا قلت: "كيف أنت؟ " فتقديرُه: على أي حال. والصحيحُ أنها اسمٌ صريح غيرُ ظرف، وإن كان قد يُؤدِّىِ معناها معنى "على أيِّ حال". والذي يدلّ على ذلك أنك تُبْدِل منها الاسم، فتقول: "كيف أنت: أصحيح أم ¬
سقيمٌ؟ " ويقع الجوابُ بالاسم، فتقول في جواب من قال: "كيف أنت": "صحيح"، أو "سقيم"، ونحوهما من أحواله. ولو كانت ظرفا، لوقع البدلُ منها، والجوابُ عنها بالظرف. ألا ترى أن "أيْنَ" لمّا كانت ظرفًا، لم يُجَبْ عنها إلَّا بظرف، نحو: "أين أنت؟ " فيقال: "في المسجد" أو "في السوقُ". ولو قال في جواب من قال: "كيف أنت؟ ": "على حالِ كذا"، لم يمتنع، وكان الجوابُ معنويًّا، لا على اللفظ. ولو قال: "على أي حال زيد؟ " فقيل: "على حالِ شِدة، أو حالِ رَخاء"، لكان الجوابُ على اللفظ. ولو قال: "صالحٌ"، أو"سقيمٌ"، لم يمتنع نظرًا إلى المعنى. ومما يُؤيد كونَ "كَيْفَ" اسمًا لا ظرفًا أنها لو كانت ظرفًا أو في تقدير الظرف، لم يمتنع دخولُ حروف الجر عليها، كما لم يمتنع دخولُها على "أَيْنَ" و"مَتَى". وهي مبنيّة لما ذكرناه من وقوعها موقعَ ألف الاستفهام، وتضمُنها معناه، وبُنيت على السكون، فالتقى في آخرها ساكنان، وهما الياء والفاءُ، فحركوا الفاء بالفتح استثقالًا للكسرة بعدَ الياء، والعربُ يُجيزون الخفّةَ فيما يكثر استعماله. فإن قيل: ومن أيْنَ زعمتم أنّ "كَيْفَ" اسم؟ وهلّا قلتم إِنّها حرف لامتناعِ خَواص الأسماء والأفعالِ منها. قيل: إنما قلنا ذلك؛ لأنّها لا تخلو إمّا أن تكون اسمًا، أو فعلًا، أو حرفًا. فلا تكون حرفًا؛ لأنها تُفيد مع الاسم الواحد، ويكون كلامًا، نحو: "كيف أنت؟ " والحرفُ لا يفيد مع الاسم إلَّا في باب النداء. وليس هذ بنداء، ولا تكون فعلًا؛ لأنّها تفيد مع الفعل، نحو: "كيف أصبحتَ؟ " والفعلُ لا يفيد مع الفعل، ولا يكون منهما كلام، وأيضا فإنه على زنةِ "فَعْلَ"، بسكون العين، وليس في الأفعال ما هو على هذه الزنة. فإن قيل: فإذا كان اسمًا على ما ذكرتم، فلِمَ امتنعتْ منه حروفُ الجر، ولم تدخل عليه كما دخلت على "أَيْنَ"، إذا قلت: "من أين؟ " و"إلى أين؟ " فالجواب أن "أَيْنَ" لما كانت سؤالًا عن الأمكنة، ونائبة عن اللفظ بها، وكانت الأمكنةُ المنوبُ عنها مما تدخلها حروفُ الجر، فتقول: "من السوق"، و"من الجامع"، و"إلى السوق"، و"إلى الجامع" جار أن تدخل على ما ناب عنها وقام مقامَها، وأمّا "كَيْفَ " فإنما هي سؤال عن الأحوال، والأحوالُ لا تدخل عليها حروفُ الجر. ألا تراك لا تقول: "أَمِن صحيح" ولا "أمِن سقيم"، فكذلك سائرُ الأحوال، فلم تدخل على "كيف"، كما لم تدخل على ما ناب عنه. وقد حكى قُطْرُبٌ: "انظُر إلى كيف يصنع"، وقالوا: "على كيف تَبِيعُ الأحمَرَيْن؟ " وذلك شاذ، شبهوها بـ "أَيْنَ". وفي "كيف" لغتان، قالوا: "كَيْفَ"، و"كَيْ". قال الشاعر [من البسيط]: 652 - أو راعِيانِ لبُعْران لنا شَرَدَتْ ... كَيْ لا يُحِسانِ من بُعْرانِنَا أَثَرَا ¬
قالوا: "كَيْ" هنا بمعنى "كيف" استفهام. وقال قومٌ: أراد: "كيف"، وإنما حذف الفاء تخفيفًا، كما قالوا: "سَو أفعلْ"، والمرادُ: سَوْفَ. ولا يُجازَى بـ "كيف" كما جُوزي بـ "أَيْنَ" لضُعْفها ونَقْصها عن تصرُفِ أخواتها بكونها اسمًا , ولا يُخبَر عنها، فلا يقال: "كيف في الدار؟ "، كما يقال: "من في الدار؟ "، و"ما عندك؟ " على الابتداء والخبر. ولا يعود إليها ضمير، فلا يقال: "كيف ضربتَه؟ "، والهاء تعود إلى "كيف". ولا يكون جوابُها إلَّا نكرة، وجوابُ أخواتها يكون معرفة ونكرة، فإذا قلت: "كيف زيدٌ"، فيقال: "صالح"، أو"سقيم"، ولا يقال: "الصالحُ". فلما نقص تصرُّفُه عن تصرُّفِ أخواته، ولم تكن ثم ضرورة تدعو إلى المجازاة به, لأنّه يقوم مقامَه: "على أي حال تكن أكُنْ". وأما "أنى"، فظرفُ مكان يُستفهم بها كـ"أَيْنَ"، قال الله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} (¬1)، أي: من أيْنَ لك هذا؟ ويجازون بها. يقولون: "انى تقم أقم". قال لبيد [من الطويل]: فأصبَحْتَ أنى تَأْتِها تَشْتَجِر بها ... كِلَا مَرْكَبَيْها تَحْتَ رِجْلَيْكَ شاجرُ (¬2) وقال بعضهم: إِنّها تؤدي معنى "كيْفَ"، نحو قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} (¬3)، أي: كيف شئتم. والمجازاةُ بها دليلٌ على استعمالها استعمالَ "أَيْنَ". وهي مبنية لتضمُنها همزة الاستفهام، وسكن آخِرُها على قياس البناء، فأما قول الكُمَيْت [من المنسرح]: أَنى ومِن أَيْنَ آبَكَ الطرَبُ ... من حيثُ لا صَبوَةٌ ولا رِيَبُ (¬4) الشاهد فيه استعمالُ "أَنى" بمعنى "كيف". ألا ترى أنه لا يحسن أن تكون بمعنى "أَيْنَ"؛ لأن بعدها "من أَيْنَ"، فتكون تكرارًا. ويجوز أن تكون بمعنى "من أين"، وكُررت على سبيل التوكيد، وحسُن التكرارُ لاختلاف اللفظَيْن، فاعرفه. ¬
المركبات
المركبات فصل [نوعا المركبات] قال صاحب الكتاب: هي على ضربين: ضرب يقتضي تركيبه أن يبني الإسمان معاً، وضرب لا يقتضي تركيبه إلا بناء الأول منهما. فمن الضرب الأول نحو "العشرة" مع ما نيف عليها, وقولهم: "وقعوا في حيص بيص" (¬1)، و"لقيته كفة كفة" (¬2)، و"صحرة بحرة" (¬3)، و"هو جاري بيت بيت" (¬4)، و"وقع بين بين"، و"آتيك صباح مساء, ويوم يوم"، و"تفرقوا شغر بغر, وشذر مذر, وخذع مذع" (¬5)، و"تركوا البلاد حيث بيث, وحاث باث". ومنه "الخاز باز" والضرب الثاني نحو قولهم: "افعل هذا بادي بدي"، و"ذهبوا أيدي سبا" (¬6)، ونحو: "معد يكرب"، و"بعلبك"، و"قالي قلا" (¬7). * * * ¬
فصل [الفرق بين ضربي المركبات]
قال الشارح: لما كانت المبنيّات منقسمة إلى مفرد ومركب، وتقدم الكلامُ على المفرد منها، إذ كان المفردُ أصلًا للمركب، وجب أن ينتقل إلى الكلام على الأسماء المركبة، والمركب من الأسماء ضربان ضرب يجب فيه البناء لكِلَا الاسمين، نحو: "أَحَدَ عَشَرَ"، و"خَمسَةَ عَشَرَ"، ونحوهما، و"حَيْصَ بَيْصَ" ونحوها مما ذكره في هذا الفصل. وضربٌ آخر يُبنى فيه الاسم الأوّل دون الثاني، وهو"قَالِي قلا" و"حَضْرَمَوْتُ" ونحوهما، وسيُذكر الفصل بينهما بعدُ، إن شاء الله تعالى. فصل [الفرق بين ضربي المركبات] قال صاحب الكتاب: والذي يفصل بين الضربين أن ما تضمن ثانية معنى حرف, بني شطراه لوجود علتي البناء فيهما معاً, أما الأول, فلأنه تنزل منزلة صدر الكلمة من عجزها، وأما الثاني, فلأنه تضمن معنى الحرف, وما خلا ثانيه من التضمن أعرب وبني صدره. * * * قال الشارح: اعلم أنّ التركيب على ضربَيْن: تركيب من جهة اللفظ فقط، وتركيب من جهة اللفظ والمعنى. فأما التركيبُ من جهة اللفظ فقط، فهو الضرب الأول من التركيبَيْن اللذَيْن ذكرهما، وهو في الأعداد، نحو: "أَحَدَ عَشَرَ" وبابِه، و"لقيتُه كَفةَ كَفةَ"، و"حَيْصَ بَيْصَ"، ونحوهما. فهذا يجب فيه بناء الاسمَيْن معًا. وذلك لأنّ الاسم الثاني قد تضمن معنى الحرف. ألا ترى أن الأصل في "أحد عشر": "أحدٌ، وعَشَرَةٌ"، فحُذفت الواو من اللفظ، والمعنى على إرادتها؟ ألا ترى أن المراد "أحد وعشرة"؟ فـ "عشرة" عدّة معلومة أضيفت إلى العدد الأول، فكمل من مجموعهما مقدارٌ معلومٌ، فهما اسمان، كل واحد منهما منفرد بشيء من المعنى، فلما كانت الواو مرادة؛ تَضمنها الاسمُ الثاني، وبُني لذلك، وبُني الاسم الأول؛ لأنه صار بالتركيب كبعضِ اسم بمنزلةِ صدر الكلمة من عَجُزها، فهما علتان. وكذلك باقي هذا الضرب من نحو: "كَفةَ كَفةَ"، و"خَازِ بَازِ"، وسيوضَح ذلك إن شاء الله تعالى. وأمّا الضرب الثاني، وهو المركّب من جهة اللفظ والمعنى، نحو: "حَضْرَمَوْتَ"، و"قَاليقَلا"، و"مَعديكَربَ" ونحوها من الأعلام المركبة، فهذا أصله الواو أيضًا، حُذفت من اللفظ، ولم تُرَدْ من جهة المعنى، بل مُزج الاسمان، وصارا اسمًا واحدًا بإزاء حقيقة، ولم ينفرد الاسم الثاني بشيء من معناه، فكان كالمفرد غير المركب، فبُني الاسم الأوّل؛ لأنه كالصدر من عجز الكلمة، وجزءُ الكلمة لا يُعرَب؛ لأنّه كالصوت. وأُعرب الثاني؛ لأنه لا يتضمن معنى الحرف، إذ لم يكن المعنى على إرادته, لأنّ العَلَم إنما هو وَضْعُ لفظ بإزاء مسمى من غيرِ إفادة معنى من اللفظ، وقد ذكر صاحبُ الكتاب "بَادِي بَدَا"،
فصل [حكم الأعداد المركبة]
و"أَيَادِي سَبَا" من هذا الضرب، وليس منه، وإنّما هو من الضرب الأوّل؛ لأنهما ليسا عَلَمَيْن، وسيوضح أمرُهما إن شاء الله تعالى. فصل [حكم الأعداد المركبة] قال صاحب الكتاب: والأصل في العدد المنيف على العشرة أن يعطف الثاني على الأول، فيقال: "ثلاثة وعشرة"، فمزج الأسمان وصيرا واحداً لوجود العلتين. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن من الأسماء المركبة العَدَدَ من "أحَدَ عَشَرَ" إلى "تِسْعَة عَشَرَ"، من نحوِ "ثلاثةَ عشرَ"، و"خمسةَ عشرَ"، ونحوِ ذلك، جعلتَ النيفَ والعشرةَ اسمًا واحدًا، وبنيتَهما على الفتح. والذي أوجب بناءَهما أنّ التقدير فيهما: خمسةٌ وعشرةٌ، فحُذفت الواو، وركبوا أحدَ الاسمَيْن مع الآخر، وجعلوهما كالاسم الواحد الدال على مسمى واحد، ليجري مجرى سائر الأعداد المفردةِ، نحوِ: "خمسة"، و"ستة"؛ لأنّه أخصرُ. وربما احتاجوا إلى ذلك في بعضِ الاستعمال، وذلك أنّك لو قلت: "أعطيتُ بهذه السلْعة خمسةً وعشرة"، جاز أن يتوهم المخاطَبُ أنهما صَفْقَتان، أُعْطي بها مرّة خمسة، ومرةَ عشرةٌ. فإذا ركبت، زال هذا الاحتمالُ، وارتفع اللبْس، وتَحقق المخاطبُ أنك أعطيتَ بها هذا المقدارَ من العدد. ولا يلزم هذا فيما زاد على العشرين والثلاثين فما فوقَهما من العُقود كالستّين والسبعين؛ لأن مجرى هذه العقود مجرى جمع السلامة، وإعرابُها كإعرابه، والتركيبُ لا يتطرّق على المثنيات والمجموعات، إنما بابُ ذلك المفرداتُ. فلذلك لم تُركب هذه العقود مع النيف عليها كما رُكبت العشرة مع ما انضم إليها مما هو دونها من الأعداد، مع أنه قَل ما يتباين حكمُ مُثَمنٍ في التقويم حتى يُعطِيَ تارة درهمًا، وتارة عشرين درهمًا. وما زاد على العشرين من العقود كالثلاثين والأربعين، فالتبايُنُ أفحشُ، واللبسُ أبعدُ. وبُني على حركة؛ لأنّ له أصلًا في التمكن، فعُوّض من تمكنه بأن بُني على حركة تمييزًا له على ما بُني، ولا أصلَ له في التمكن، نحوِ: "مَنْ"، و"كَمْ". وفُتح طلبًا للخفة، إذ ليس الغرضُ في تحريكه إلَّا تمييزَه مما (¬1) بُني على السكون، وبالفتحة نصل إلى هذا الغرض، فلم يكن بنا حاجةٌ إلى تكلفِ ما هو أثقلُ منها. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: ومن العرب مَن يسكن العينَ، فيقول: "أحَدَ عْشَرَ" احتِراسًا من تَوالي المتحركاتِ في كلمة. * * * قال الشارح: من العرب من يقول: "أحدَ عْشَرَ, ثَلاثَةَ عْشَرَ"، فيُسكن العين، وذلك أنهم لما ركبوا الاسمَيْن اسمًا واحدًا، تَوالَى في "أحَدَ عَشَر" ست متحركات، وفي "ثلاثة عشر"، و"خمسة عشر" خمسُ متحرّكات، ولا يتوالى في كلمة أكثرُ من ثلاثِ حركات إلَّا أن يكون مخففا من غيره، فيجتمع فيه أربعُ متحركات، نحوُ: "عُلَبِط" (¬1) و"هُدَبِد" (¬2)، وأصلُهما: "عُلابِطٌ" و"هُدابِدٌ"، فحُذفت الألف تخفيفًا. فلا يجتمع في كلمة أكثرُ من أربعِ متحركات، فلما اجتمع في "أحَدَ عَشَرَ" ست متحركات وفي "خَمْسَةَ عَشَرَ" خمسُ متحركات، أسكنوا الحرفَ الذي بتحريكه يكون الخروجُ عن منهاجِ الأسماء وطريقِها. ومَن فعل ذلك من العرب، فإنه لا يفعله في "اثْنَيْ عَشَرَ"، لئلا يجمع بين ساكنَيْن، وليس في كلامهم جمع بين ساكنين إلا أن يكون الأول حرفَ مد ولِينٍ، والثاني مدّغَمًا، نحوَ: "دابة" و"شابة"، مع أن الياء في النصب، والألف في الرفع ساكنان، فلم يَتوالَ فيهما من التحركات ما تَوالَى في "أحد عشر" ونحوِه. وأيضًا فإن الإسكان في "أحد عشر" ونحوه إنما كان لتوالِي المتحرّكات في كلمة واحدة، لأجل التركيب وجعلهما كلمة واحدةً، وأما "اثني عشر" فغيرُ مركبة، فلم يكونا كلمة واحدةً، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وحرفُ التعريف والإضافةُ لا يُخِلّان بالبناء، تقول: "الأحَدَ عَشرَ"، و"الحادِيَ عَشرَ" إلى "التسْعةَ عَشرَ"، و"التاسِعَ عَشرَ"، وهذه "أحَدَ عَشرَكَ"، و"تسعةَ عشرَكَ". وكان يَرَى الأخفشُ فيه الرفعَ إذا أضافه، وقد استرذله سيبويه (¬3)، وإن سُمي رجل بـ "خَمْسةَ عَشَر"، كان فيه الرفعُ والإبقاءُ على الفتح. * * * قال الشارح: إذا أردتَ تعريفَ هذا العدد، أدخلتَ عليه الألفَ واللام أو الإضافةَ، وتركتَه علي بنائه؛ لأنّ الألف واللام والإضافة لا تُخْرِجانه عن لفظه وتركيبِه، فكان باقيًا علي بنائه، فلذلك تقول مع الألف واللام: "أخذتُ الخمسةَ عشرَ درهمًا"، وكذلك إلى ¬
فصل [معاني الألفاظ المركبة]
"التسعةَ عشرَ" و"الحادِيَ عَشَرَ"، و"الخامِسَ عَشَرَ"، بفتح الآخِر منهما إلى "التاسِعَ عَشَرَ"، وتقول في الإضافة: "خمسةَ عشرَك" و"خامسَ عشرَك"، فلا يختلف حكمُ البناء في الإضافة لِما ذكرناه من العلّة. وكان الأخفش يرى إعرابَها إذا أضفتها، وهي عددٌ، فتقول: "هذه الدراهمُ خمسةَ عَشَرُك". قال سيبويه: وهي لغة رديئة، وكان يحتجّ بأنّ "خمسة عشر" في تقديرِ تنوين، ولذلك عمِل في مُميزه، فَمَتَى أضفتَه إلى مالِكه، لم يصلح تقديرُ التنوين، لمعاقَبةِ التنوين الإضافةَ، فصار بمنزلةِ اسم لا ينصرف، فإذا أُضيف، انصرف، وأُعْرِب. وهذا الاعتلالُ فاسد؛ لأن تقدير التنوين فيه لم يكن سببَ بنائه حتى يُعْرَبَ عند زَواله، إنّما البناءُ لتضمنه حرفَ العطف، وذلك باقٍ بعد الإضافة كما قبلها. ثمّ ما ذكره منتقِضٌ بدخول الألف واللام، فإنه لا يُعرَب لذلك كما أُعرب بالإضافة، ولا فَرْقَ بينهما في معاقبة التنوين. فإن سُمّي رجل بـ "خمسةَ عشرَ" ونحوِه من المركبات، ففيه وجهان: أحدهما: أن تعربه، فتضمّ الراءَ في الرفع، وتفتحها فى النصب والجر، وتُجْريه مُجْرَى اسم لا ينصرف، نحوِ: "بَعْلَبَك" و"مَعْدِيكَرِبَ"، لزوالِ معنى العطف. وعلى هذا، إذا أضفت، صرفتَه، ودَخلَه الجرُّ، نحوُ: "جاءني خمسةَ عشَرُك"، و"رأيت خمسةَ عشرَك"، و"مررت بخمسةَ عشرِك". والوجهُ الثاني: تَبْنيه بعد التسمية؛ لأنّ التركيب والبناء وقع قبل التسمية، فلمّا سمّيتَ بهما، حكيتَ حالَهما قبل التسمية. فصل [معاني الألفاظ المركبة] قال صاحب الكتاب: وكذلك الأصل وقعوا في حيص وبيص، أي في فتنة تموج بأهلها متأخرين ومتقدمين, ولقيته كفة وكفة، أي ذوي كفتين؛ كفة من اللاقي, وكفة من الملقى؛ لأن كل واحد منهما في وهلة التلاقي كاف لصاحبه أن يتجاوزه. * * * قال الشارح: العرب تقول: "وقع الناسُ في حَيْصَ بَيْصَ"، إذا وقعوا في فِتْنة واختلاط من أمرهم، لا مَخْرَجَ لهم منه، وهما اسمان رُكبا اسمًا واحدًا، وبُنيا بناءَ "خمسةَ عشرَ". والذي أوجب بناءَهما تقديرُ الواو فيهما، وذلك أن الأصل "وقعوا في حَيْص وبَيص"، ثم حُذفت الواو إيجازًا وتخفيفًا، والمعنى على العطف، فتضمن معنى حرف العطف، فبُني لذلك كما فعلوا في "خمسةَ عشرَ" وبابِه. و"حَيْصٌ" مأخوذ من "حَاصَ يَحِيصُ" إذا فَر، يقال: "ما عنه مَحِيص"، أي: مَهْرَبٌ، و"بَيْصٌ" مأخوذ من قولهم: "بَاصَ يَبُوصُ"، أي: فاتَ وسَبَقَ؛ لأنّه إذا وقع الاختلاطُ والفتنةُ، فمنهم هارب، ومنهم فائت. ولذلك فسرهما بفِتْنة تموج بأهلها متأخرين ومتقدمين، فالحَيْصُ: التأخّر
والهَرَبُ، والبَوْصُ: التقدم والسبْق، وكان ينبغي أن يُقال: "حَيْصَ بَوْصَ"، غيرَ أنهم أتبعوا الثاني الأولَ. قال الشاعر [من الرجز]: 653 - عَيْناءُ حَوْراءُ منَ العِين الحِيَرْ والكلام: "الحُور"، لأنها جمعُ " حَوْراءَ"، كـ "حَمْراءَ" و"حُمْر"، لِيَزْدَوِجَا، ولا يختلفا. ومثلُه "العَشايَا والغَدايَا". ولو انفردت "الغَداةُ"، لم تُجمع على "غَدايَا"، وفي مَثَلِ: "أخذه ما قَدُمَ وما حَدُثَ" (¬1)، بضم الدال من "حدث". ولو انفردت، لم تكن إلَّا مفتوحة، نحوَ: "حَدَثَ الأمرُ"، وهو كثيرٌ. وفي "حيص بيص" لغات، قالوا: "حَيْصَ بَيْصَ" بالفتح فيهما، وهو الكثير المشهور. وأنشد الأصمعي لأُمَيةَ بن أبي عائذٍ الهُذَلي [من الكامل]: 654 - قد كنتُ خَراجًا ولوجا صَيرَفًا ... لم تَلْتَحِصنِي حَيْصَ بَيْصَ لَحاصِ ¬
وقالوا: "حَيصِ بَيْصِ"، بكسر الآخِر منهما، قال الشاعر [من الرجز]: 655 - صارت عليه الأرضُ حَيْصِ بَيْصِ ... حتى يَلُقَّ عِيصَهُ بعِيصِي وربما كسروا الأولَ منهما في اللغتَين، فقالوا: "حِيصَ بِيصَ"، و"حِيصِ، بِيصِ". وعلى هذا تكون الواوُ في "بيص" قد إنقلبت ياءَ لسكونها وانكسارِ ما قبلها على حد انقلابها في "مِيزان"، و"مِيعادِ". وقد ينونونهما، فيقولون: "حيصٍ بيصٍ"، و"حيصًا بيصًا". حكى ذلك أبو عمرو (¬1). ومَن فتحهما، فقد طلب الخفّةَ، كما قلنا في "خمسةَ عشرَ". ومَن كسر، فلالتقاء الساكنين، ويجوز أن تجعله صوتًا كأنه حكايةُ ما يقع في الاختلاط والفتنة، وعلى هذا لا يكون مشتقًّا من شيء، فتكسره كما تكسر الأصوات، نحوَ: "غاقِ، غاقِ" إذا قدرتَه تقديرَ المعرفة، وتُنونه إذا نويتَ النكرة. وقالوا: "لقيتُه كَفةَ كَفةَ" إذا فاجأتَه، وهما اسمان رُكّبا اسمًا واحدًا، وبنيا على الفتح بناءَ "خمسةَ عشرَ". والأصل: "كَفة وكَفة"، أي: كفة منه وكفة منّي. ويجوز أن يكون الأصل: كفّةَ على كفّهٍ، أو كفّةً، عن كفة وذلك أن المتلاقيَين إذا تلاقيا، فقده كَف كل واحد منهما صاحبَه عن مجاوَزته إلى غيره في وقتِ التقائهما، فـ "كَفةٌ كَفةٌ" مصدران في موضع الصفة، ومحلُهما نصبٌ على الحال، كأنك قلت: "لقيته متكافَّيْن" مثلَ قولك: ¬
"لقيتُه قائمَين"، تريد حالًا منك، وحالًا منه، نحوَ قول الشاعر [من الوافر]: مَتَى ما تَلْقَني فَرْدَيْن تَرْجُفْ ... رَوانِفُ ألْيَتَيْكَ وتُسْتَطارَا (¬1) * * * قال صاحب الكتاب: و"صَحْرَة وَبَحْرَة"، أي: ذَوَيْ صحرةِ وبحرةِ، أي: انكشاف واتساع لا سُتْرةَ بيننا. ويُقال: "أخبرتُه بالخبر صحرةَ بحرةَ"، ويقولون: "صحرةً بحرةً نَحْرَة"، فلا يبنون لئلا يمزُجوا ثلاثةَ أْشياءَ، وهو "جارِي بَيتٌ إلى بيتٍ، أو بيتٌ لبيتٍ"، أي: هو جاري مُلاصِقًا، و"وقع بَينَ هذا، وبين هذا". قال عَبِيد [من مجزوء الكامل]: 656 - [نَحْمي حَقيقَتَنا] وَبَعْضُ ... القَوْمِ يَسْقُطُ بَينَ بَيْنَا * * * قال الشارح: يُقال: "لقيتُه صَحْرَةَ بَحْرَةَ"، أي: ليس بيني وبينه ساتر، وهما مركبان، والتقديرُ: صحرة وبحرة، فحُذفت الواو، وتضمن الكلامُ معناها، فبُني لذلك، وفُتح للخفة، وموضعُهما حال. والتقدير: لقيتُه بارزًا، واشتقاقُهما من "الصحْراء"، و"البَحْر"، و"صحرة" و"بحرةٌ" مصدران، أي: ذوَيْ صحرةٍ وبحرةٍ، أي: ذوي انكشافٍ واتّساع. ويقولون: "لقيتُه صَحْرَةً بَحْرَةً نَحْرَةً"، فيُعربونها، وينصبونها منونة؛ لأنّهم لا يُركبون ثلاثة أشياء اسمًا واحدًا، و"نَحْرَة" من "نَحْرِ الشهْر"، وهو أولُه، أي: لقيتُه مكشوفصا نهارًا. ¬
وقالوا: "هو جارِي بيتَ بيتَ"، يريدون القُرْبَ والتلاصُقَ، وهو مركّبُ أيضًا مبنيٌّ على الفتح كـ "خمسةَ عشرَ"، والأصلُ: بيتًا لبيتٍ، أو بيتًا فبيتًا، أو بيتًا إلى بيتٍ، فحُذف الحرف، وضُمّن معناه، فبُني لذلك، وهما في موضع الحال، كأنّك قلت: هو جاري مُلاصِقًا، والعامل في الحال ما في "جاري" من معنى الفعل. ولا يجوز تقديمُ الحال فيه على العامل، لو قلت: "بيتَ بيتَ هو جاري"، لم يجز؛ لأنّ العامل ليس فعلًا، ولا اسمَ فاعلٍ، ويجوز التقديمُ في "كفّة كفّة"، فتقول: "كَفَّةَ كَفَّةَ لقتُه", لأنّ العامل فعلٌ. ولو قلتَ: "جاوَرَني، أو مُجاوِري بيتَ بيتَ"، جاز التقديمُ حينئذٍ، فتقول: "بيتَ بيتَ هو مُجاوِري"، فتُقدِّمه؛ لأنّ العامل اسمُ فاعلٍ، واسمُ الفاعل يجوز تقديمُ منصوبه عليه، ولو قلت: "بيتَ بيتَ جاوَرَني"، لكان بالجواز أجدَر، إذ كان فعلًا، فاعرفه. وقالوا: "وقع هذا الأمرُ بَيْنَ بَينَ"، فيبنونهما اسمًا واحدًا، لأن الأصل: بينَ هذا، وبينَ هذا، فلمّا سقطت الواوُ تخفيفًا والنيّةُ نيّةُ العطف، بُني لتضمُّنه معنى الحرف، وهو في موضع الحال أيضًا، إذ المرادُ بقولهم: "وقع بينَ بينَ"، أي: وَسَطًا، فأمّا قول عَبِيد بن الأبْرَص [من مجزوء الكامل]: نَحْمِي حَقِيقَتَنَا وبعـ ... ــضُ القَوْمِ يَسْقُطُ بَيْنَ بَيْنَا فهو شاهد على صحّة الاستعمال، والحقيقةُ ما يجبُ على الرجل أن يحميه، يُقال: "رجلٌ حامِي الحقيقةِ"، أي: شَهْمٌ لا يُضام له حَرِيمٌ. * * * قال صاحب الكتاب: وأتيته صباحاً ومساءً، ويوماً ويوماً"، أي كل صباح ومساء, وكل يوم, و"تفرقوا شغراً وبغراً"، أي منتشرين في البلاد هائجين, من "اشتغرت عليه ضيعته", "إذا فشت وانتشرت"، و"بغر النجم": هاج بالمطر. قال العجاج [من الرجز]: 657 - بغرة نجم هاج ليلاً فانكدر ¬
و"شذراً ومذراً" من "التشذر" وهو التفرق والتبذير، والميم في "مذر" بدل من الباء, و"خذعاً ومذعاً" أي منقطعين منتشرين من الخذع وهو القطع. ومن قولهم فلان مذاع، أي كذاب يفشي الأسرار وينشرها, وحيثاً وبيثاً من قولهم فلان يستحيث ويستبيث، أي يستبحت ويستثير. * * * يُقال: "أتيتُه صَباحَ مَساءَ، ويَوْمَ يَوْمَ "، والكلام فيه كالكلام فيما قبلَه، وذلك أنّه بُني لتضمُّنه معنى الحرف، وهو الواوُ، كأنّك قلت: "صباحًا ومساءً، ويومًا ويومًا". فلمّا حذفت الواو، بُنيا لذلك، وليس المرادُ صباحًا بعينه، أو يومًا بعينه. ولو أضفتَ، فقلت: "صباحَ مساءٍ"، لجاز، كأنّك نسبته إلى المساء، أي: صباحًا مقترِنًا بمساءٍ. وجاز إضافتُه إليه لتصاحُبهما، وكذلك الإضافةُ جائزةٌ في جميع ما تقدّم من نحوِ: "بيتَ بيتٍ"، و"بينَ بينٍ"، و"كَفَّةَ كَفَّةٍ"، يُنسَب أحدهما إلى الآخَر لَاتّفاقهما في وقوع الفعل منهما، فإن دخل على جميعِ ذلك حرفُ جرّ، لم يكن إلَّا مضافًا مخفوضًا، وبطلَ البناءُ، نحوَ: "آتيك في كلِّ صباحٍ ومساءٍ"؛ لأنّه بدخولِ حرف الجرّ، خرج عن باب الظروف، وتَمكَّن في الاسميّة، فلم يُبْنَ؛ لأن هذه الأسماء إنّما تُبنَى إذا كانت حالًا أو ظرفًا؛ لأنّه حال تَنْقُص تمكُّنَها، فلم تُقدَّر فيها الواو. وقالوا: "تَفرْقوا شَغَرَ بَغَرَ"، أي: في كلِّ وجه لا اجتماعَ معه. وهما اسمان رُكّب أحدهما مع الآخر، فصارا اسمًا واحدًا، وبُنيا لِما تضمّناه من معنى الواو، وكان الأصل فيه: "سَغَرًا وبَغَرًا"، فحُذفت الواو لِما ذكرناه من إرادة الإيجاز والتخفيفِ، وتضمّنا معناها. والمعنيّ بالتضمّن إرادةُ معنى الحرف مع حذفه، فبُني لذلك بناءَ "خمسة عشرَ". و"شَغَرَ" مأخوذ من قولهم: "اشتغر في البلاد"، إذا أبعد فيها، أو مِن "شَغَرَ الكلبُ"، إذا رفع إحدى رِجْليه ليَبُول، فباعَدَها من الأُخرى. و"بَغَرَ" من "بَغَرَ النجمُ"، أي: سقط، وهاج بالمطر، قال العَجَاج [من الرجز]: بَغْرَةَ نَجمٍ هاجَ لَيْلًا فانْكَدَرْ أو من "البَغَر"، وهو العَطَش يأخذ الإبلَ، فلا تَرْوَى، وربّما ماتت به. قال الفرزدق [من البسيط]: 658 - فَقُلتُ ما هو إلَّا الشَّأْمُ تَرْكَبُه ... كأنَّما المَوتُ في أجْنادِه البَغَرُ ¬
فجُعل مع "شَغَرَ" في التَّفرّق الذي لا اجتماعَ معه، كما يكون في العطش كذلك. ومثله "شَذَرَ مَذَرَ"، كلّه من معنى التفرّق الذي لا اجتماع معه، وهو مركّب أيضًا مبنيّ لتضمُّنه معنى الحرف. ويحتمل أن يكون مأخوذًا من "الشَّذْر"، وهو الذهبُ، يُلقَط من المَعْدِن من غيرِ ذَوْب الحجارة، فهو متفرِّقٌ فيه متبدِّدٌ، أو من "الشَّذْر"، وهو صِغارُ اللُؤْلُؤ، كأنّه لصِغَره متفرّقٌ لا يُجمَع بالنَّظْم. و"مَذَرَ" من "مَذِرَت البَيْضَةُ"، إذا فسدت وأبعدتْ، أو من "البَذْر" وهو الزَّرْعُ؛ لأنَّ فيه تفريقَ الحَبّ، ومنه التبذير، وهو تفريقُ المال إِسرافًا، فتكون الميمُ على هذا بدلًا من الباء، ويُؤْيِّد ذلك قولُهم فيه: "شَذَرَ بَذَرَ" بالباء على الأصل. وقالوا في معناه: "خِذَعَ مِذَعَ". وهو مركب مبنيّ لتضمُّنه حرف العطف، والمراد: خِذعًا ومِذَعًا، فرُكّبا، والعطفُ مرادٌ في النِّيَّة، وهو مأخوذ من "الخَذْع"، وهو القطعُ، يُقال: "لَحْمٌ مُخَذَّغ"، أي: مُقَطَّعٌ. و"مِذَعَ" من قولهم: "مَذَعَ السِّرَّ"، إذا أفشاه ولم يكتُمه، كأنّه تفريقٌ له. وقالوا: "تركوا البلادَ حَيْثَ بَيْثَ، وحاثِ باثِ، وحَوْثَ بَوثَ" إذا تَفرَّقوا، وربَّما نوّنوا تشبيهًا لها بالأصوات المنكورة. وقالوا: "حَيْثًا بَيْثًا"، وذلك إذا تفرّقوا وتبدّدوا، وهو من استحاثَ الشيءَ: إذا ضاع في التُّراب. ومثلُه "اسْتَباثَ"، وهو البَحْث عن الشيء بعد ضَياعه. قال الشاعر [من الوافر]: 659 - لَحَقُّ بَنِي شغارةَ أن يقولوا ... لِصَخْرِ الغَيِّ: ماذا تَسْتَبِيثُ أي: تطلب. ¬
فصل [لغات "خاز باز"]
فصل [لغات "خاز باز"] قال صاحب الكتاب: وفي "خاز باز" سبع لغات، وله خمسة معان, فاللغات "خازِ بازِ"، و"خازَ بازَ" و"خازِ بازُ، و"خازَ بازُ"، وخازُ بازٍ", و"خازِ باءُ" كـ "قاصعاء" (¬1) و"خزباز" كـ "قرطاس". * * * قال الشارح: قد ورد في "الخازِ باز" اللغاتُ التي ذكرها، وهي سبعُ لغات، قالوا: "خازِ بازِ" بكسر الأوّل والثاني، و"خازِ بازُ" بكسر الأوّل وضمّ الثاني، و"خازَ بازَ" بفتحهما معًا، و"خازَ بازُ" بفتح الأوّل وضمّ الثاني، و"خازُ بازٍ" بإضافة الأوّل إلى الثاني، و"خازِ باءُ" مثلَ "قاصِعَاءَ"، "ونافِقاءَ" (¬2)، و"خِزْبازٌ" كـ" قِرْطاسٍ" و"كِرْياسٍ"، والكرياسُ: الكَنِيفُ في أعلَى السَّطْح، وهو معرَّب. فمن قال: "خازِ بازِ"، فإنّه جعلهما اسمَيْن غيرَ مركّبين، وأجراهما مُجرى الأصوات، نحوِ: "غاقِ غاقِ"، وكسر كلَّ واحد لالتقاء الساكنين. ومن قال: "خازِ بازُ"، فإنه ركّبهما اسمًا واحدًا، وبنى الأوّلَ؛ لأنّه صار كالجزء من الثاني بمنزلة الصدر له، وسكّنه على أصل البناء، إلَّا أنّه التقى في آخره ساكنان، فكسر لالتقاء الساكنين. وأعرب الثاني تشبيهًا بـ "مَعْدِيكَرِبَ"، في لغةِ من يعرب، فيقول: "هذا معديكربُ"، و"رأيت معديكربَ"، و"مررت ¬
بمعديكربَ" إلَّا أنّه لم يلتقِ في آخِرِ "معديكرب" ساكنان، فبقي على سكونه. ومن قال: "خازَ بازَ" ففَتَحَهما، فإنّه ركّبهما وجعلهما اسمّا واحدًا، وبناهما على الفتح تشبيهًا بـ "خمسةَ عشرَ". ومن قال: "خازَ بازُ"، فإنّه ركّبهما اسمًا واحدًا، وشَبَّهَه بـ "حضرموت" في لغةِ من أعرب، وقال: "هذا حضرموتُ"، فأعربه كإعرابه، وفَتَحَ الأوّل؛ لأنّه يُنزِّل الثاني من الأوّل منزلةَ تاء التأنيث، وفتح ما قبل الثاني كما يفتح ما قبل تاء التأنيث. ومن قال: "خازُ بازٍ"، فإنّه أضاف الأوّل إلى الثاني، كما قالوا: "بَعْلَبَكِّ" و"معديكربٍ"، فيمن أضاف، وجعل "كرب" مذكّرًا. وطريقُ إضافة هذه الأسماء طريقُ إضافة الاسم إلى اللقب، نحوِ "قَيْسُ قُفِّةَ"، و"سَعِيدُ كُرْزٍ". ومن قال: "خازِ باءُ"، فإنّه بناه على "فَاعِلَاء"، وجعل همزتَه للتأنيث مثلَ "قاصِعاءَ"، و"نافِقاءَ". ومن قال: "خِزْبازٌ"، فإنّه بني منهما اسمًا واحدًا على مثالِ "قِرطاسِ" و"كِرْياسٍ"، فهو معربٌ بوُجوهِ الإعراب كلِّها منصرفٌ. * * * قال صاحب الكتاب: والمعاني: ضرب من العشب قال [من الرجز]: 660 - [رعيتها أكرم عودٍ عودا ... الصِّلَّ والصفصل واليعضيدا] والخاز باز السنم المجودا ... [بحيث يدعو عامرٌ مسعودا] ¬
وذباب يكون في العشب قال [من الوافر]: 661 - [تفقأ فوقه القلع السواري] ... وجن الخاز باز جنونا وصوت الذباب وداء في اللهازم قال [من الرجز]: 662 - يا خاز باز أرسل اللهازما ... [إني أخاف أن تكون لازما] والسنور. * * * ¬
قال الشارح: للخازِ بازِ معانٍ خمسةٌ على ما ذُكر، حكاها أبو سَعِيد، وهو ضربٌ من العُشْب. أنشد ابن الأعرابيّ [من الرجز]: رَعَيْتُها أكْرَمَ عُودٍ عُودَا ... الصِّلَّ والصِّفْصِلِّ واليَعْضِيدَا والخازِ بازِ السَّنِمَ المَجُودَا ... بِحَيْثُ يَدْعُو عامرٌ مَسْعُودَا عامر ومسعود: راعيان، والصلُّ والصفصلّ: نبتٌ، واليعضيدُ: بقلةٌ، والسَّنِمُ: المرتفعُ، وهو الذي خرجتْ سُنْبُلَتُه، كأنّه يدعوه للفرح بالخِصْب. وذبابٌ أزرقُ يكون في العُشْب، قال ابنُ أحْمَرَ [من الوافر]: تَفَقَّأ فَوقَهُ القَلَعُ السَّوارِي ... وجُنَّ الخازِ بازِ به جُنُونَا فيحتمل أن يريد بـ "الخاز باز" العشبَ، ويحتمل أن يريد به الذبابَ نفسَه، فإنّه يُقال: "جُنَّ النبتُ"، إذا خرج زَهْرُه، قال [من المتقارب]: 663 - تَبَرَّجَتِ الأرْضُ مَعْشُوقَةً ... وجُنَّ على وجهها كُلُّ نَبْتِ ويُقال أيضًا: "جُنَّ الذبابُ"، إذا طار وهاج. قال الأصمعي: "الخازِ بازِ": حكايةُ صوت الذباب، وسمّاه به، وقوله: "تَفَقَّأ"، أي: تَشَقَّقَ بمائه، وقوله: "فَوْقَهُ"، أي: فوق الهَجْل، وهو المُطمئنّ من الأرض، أو فوق العُشْب، و"الَقَلعُ": جمعُ "قَلَعَةٍ"، وهي القطعة العظيمة من السَّحاب، و"السَّواري": جمعُ "ساريةٍ"، وهي السحابة تأتي ليلًا. ¬
فصل [أصل "بادي بدي" و"بادي بدا" ومعناهما]
وقال: "الخازِ بازِ"، فأدخل عليه الألف واللام، وتركه علي بنائه، كما تقول: "الخمسةَ عشرَ"، فتُدخِل عليه الألف واللام، وهو علي بنائه. ويكون بمعنَى داءٍ في الأعناق واللَّهازمِ، قال الشاعر، أنشده الأخفش [من الكامل]: 664 - مِثلُ الكِلابِ تَهِرُّ عند بُيُوتِها ... وَرِمَتْ لَهازِمُها من الخِزْبازِ وقال الراجز، وهو العَدَوِيُّ [من الرجز]: يَا خازِ بازِ أرْسِلِ اللَهازِمَا ... إنّي أخافُ أن تكون لازِمَا واللهازمُ: جمعُ لِهْزِمَةٍ، واللِهْزِمَتان: عَظْمان ناتِئان تحت الأُذْن. وحكى أبو سَعِيد: إنّه السِّنَّوْر، وهو أغْربُها. فصل [أصل "بادي بدي" و"بادي بدا" ومعناهما] قال صاحب الكتاب: "افعل هذا بادي بدي, وبادي بدا" أصله "بادئ بديء", و"بادي بداء", فخفف بطرح الهمزة والإسكان, وانتصابه على الحال. ومعناه مبتدئاً به قبل كل شيء. وقد يستعمل مهموزاً, في حديث زيد بن ثابت "أما بادئ بدء فإني أحمد الله". * * * قال الشارح: العرب تقول: "افعلْ هذا بَادِي بَدَا"، بياء خالصة وألف خالصة، والمعنى: أوّلَ كلّ شيء، فـ "بادي بدا" اسمان رُكّبا وبُنيا على تقديرِ واو العطف، وهو منكورٌ بمنزلةِ "خمسةَ عشرَ"، ولذلك كان حالًا، وأصفه "بادِىءَ بدَاءٍ" على زنةِ "فَعالٍ" ¬
مهموزًا؛ لأنّه من الابتداء، فخُفّفت الهمزة من "بادِىءَ" بقَلْبها ياءً خالصةً، لانكسارِ ما قبلها على حدّ قلبها في "بِيرٍ" و"بِيَارٍ"، وأصلُهما الهمزة، ولمّا صارت ياءً، أُسكنت على حدّ إسكانها في "قالِي قَلَا" و"مَعْدِيكَرِبَ". وأمّا "بَدَا" فأصلُه "بَداءٌ"، فخفّفوه بأن قصروه بحذف ألفه، فبقي "بَدَأٌ"، فخُفِّفت الهمزة بقلبها ألفًا لانفتاحِ ما قبلها على حدّ قلبها في قوله [من الكامل]: 665 - [رَاحَتْ بِمَسْلَمَةَ البِغَالُ عَشِيَّةً ... فارْعَيْ فَزارَةُ لا هَناكِ المَرْتَعُ وأصلُه: لا هَنَأَكِ المرتعُ، ونحوِ قوله [من البسيط]: 666 - سَالَتْ هُذَيْل رَسُولَ اللَّهِ فاحِشَةً ... [ضَلَّتْ هُذيلٌ بما جاءَتْ وَلَمْ تُصِب] ¬
فصل [معني"أيدي سبا"]
وأصلُه: سَألَتْ، مهموزًا. وقيل: كان أصلُه "بَداء"، على زنة "فَعالٍ"، فحُذفت الهمزة تخفيفًا كما حذفوها من "سَا يَسُو"، و"جَا يَجِي"، وأصلُه: "جَاءَ يَجِيءُ"، و"سَاءَ يَسُوءُ"، وإلى هذا أشار صاحبُ الكتاب بقوله: "فخُفّف بطرح الهمزة والإسكانِ"، يريد: بطرح الهمرة من "بداءٍ" والإسكان في "بادى". وقالوا: "بادي بَدٍ" بالإضافة من غيرِ بْناء، وأصلُه: "بَدِيءٍ" على زنة "فَعِيلِ"، فقُصر بحذف الياء، ثمّ أُبدلت الهمزة ياءً، لانكسارِ ما قبلها على حدّ قلبها في "بادي"، أو حُذفت الهمزة حذفًا لكثرة الاستعمال، كما حُذفت في "بَدَا". فوزنُ "بَدَا" من "بادي بَدَا" على القول الأوّل: "فَعَلٌ"، وعلى القول الثاني: "فَعَا" مْحذوفَ اللام. وفيه لغاتٌ أخَرُ، قالوا: "بادي بَدْءٍ" على زنة "فَعْلٍ" بالهمزة في الثاني دون الأوّل، و"بادي بَدِيءٍ" على زنة "فَعِيلٍ" على الأصل، و"بادِىءَ بَدءٍ" على زنة فَعْلٍ بالهمزة فيهما، وعليه حديثُ زيد بن ثابتٍ: "أمّا بادِىءَ بَدْءٍ". وقال بعضهم: معنَى "بادي بدَا": ظاهرًا، مأخوذٌ من "بَدَا يَبْدُو" إذا ظهر. والوجهُ هو الأوّل لمَجِيئه مهموزًا في حديثِ زيد: "أمّا بادِىءَ بَدْءٍ" ونحو: "بادئ بَدْءٍ". فصل [معني"أيدي سبا"] قال صاحب الكتاب: يقال ذهبوا أيدي سبا وأيادي سبا أي مثل أيدي سبأ بن يشجب في تفرقهم وتبددهم في البلاد حين أرسل عليهم سيل العرم, والأيدي كناية عن الأبناء والأسرة، لأنهم في التقوي والبطش بهم بمنزلة الأيدي. * * * قال الشارح: يُقال: "ذهبوا أيْدِي سَبَا". وفيه لغتان: "أيْدِي سَبَا"، و"أيادِي سَبَا" فـ "أيدي" جمعُ "يَدٍ"، وهو جمعُ قلّة، وأصلُه: "أيْدُيٌ" على زنة "أفْعُلٍ"، نحوِ: "كَعْبٍ" و"أكْعُبٍ"،وإنّما كسروا العين منه لئلّا تنقلب الياءُ منهْ واوًا لانضمامِ ما قبلها، فيصير آخرُ الاسم واوًا، قبلها ضمّةٌ، وذلك معدومٌ في الأسماء المتمكّنة. ومثلُه قوله [من البسيط]: ¬
667 - لَيْثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عند خِيسَتِهِ ... بالرَّقْمَتَينِ له أجْرٍ وأعْراسُ فأبدلوا من الضمّة كسوةً، ومن اواو ياءً، فصار: "أجْرٍ"، كما ترى من قبيل المنقوص. و"أيَادِي" جمعُ الجمع. قالوا: "أيْدٍ" و"أيادٍ". وفيه لغتان: إحداهما: أن تُرِكِّبهما اسمًا واحدًا، وتبنيهما لتضمُّن حرف العطف، كما فُعل بـ "خمسةَ عشرَ" وبابِه. الثانيةُ: أن تضيف الأولَ إلى الثاني، كما تقدّم في "بيتَ بيتٍ" و"صباحَ مساءٍ" من جواز التركيب والبناءِ والإضافة، وموضعهما النصبُ على الحال، والمرادُ: ذهبوا متفرّقين، ومتبدِّدين ونْحوَهما. فإن قيل: فكيف جاز أن يكون حالًا، وهو معرفةٌ, لأن "سَبَا" اسم رجل معرفةٌ؟ ميل: أمّا إذا ركّبتَهما، فقد زال بالتركيب معنَى العَلَميّة، وصار اسمًا واحدًا، فـ "سَبَا" حينئذ كبعضِ الاسم، وهو نكرةٌ، وأمّا إذا أضفتَ، ففيه وجهان: أحدهما: أنّه معرفةٌ وقع موقعَ الحال، وليس بالحال على الحقيقة، وإنّما هو معمولُ الحال، والموادُ: ذهبوا مُشْبِهين أيادي سَبَا، ثمّ حُذفت الحال، وأُقيم معمولها مُقامها على حدٍّ "أرسلها العرِاكَ" (¬1)، أي. مُعْتَرِكَة العراكَ، و"رجع عَوْدَه على بَدْئه" (¬2)، أي: عائدًا عوده. ¬
فصل [لغتا "معديكرب"]
والوجهُ الثاني: أن تجعل "سَبَا" في موضعِ منكور، وإذا كان كذلك، فلا يمتنع كونُه حالًا، وطريقُ تنكيره أن تريد: مِثْلَ سَبَا، فتكون الإضافةُ في الحقيقة إلى "مثْل"، و"مثلٌ" نكرةٌ، وإن أُضيف إلى معرفة، كما قالوا: "قَضِيَّةٌ ولا أبَا حسنٍ لها" (¬1)، والمرادُ: ولا مثلَ أبي حسن، ولولا ذلك؛ لم يجز أن تعمل فيه "لَا"؛ لأنّ "لَا" يختصّ عملُها بالنكرات. ومثلُه [من الرجز]: لا هَيْثَمَ الليلةَ للمَطِيّ (¬2) والمراد: لا مثلَ هَيْثَمٍ. و"سَبَا" أصلُه الهمزة، وإنما تُرك الهمزة تخفيفًا لطُول الاسم، وكثرةِ الاستعمال مع ثِقَل الهمزة، كما قالوا: "مِنْساةٌ"، وهو من "نَسَأْتُ"، فصار من قبيل المقصور، فإذا اعتُقد فيه التركيب والبناءُ، كانت الألف في تقديرِ مفتوح، نحوِ فتحةِ "كَفَّةَ كَفَّةَ"، و"بيتَ بيتَ" إذا رُكّبت وبُنيت، وإذا أَضَفْتَ؛ كان في موضعِ مخفوض. وأصلُ هذا المثَل أنّ سَبَأ بن يَشْجُبَ بن يَعْرُبَ بن قَحْطانَ لمّا أُنْذِروا بسَيْل العَرم، خرجوا من اليَمَن متفرِّقين في البلاد، فقيل لكلِّ جماعة تَفرَّقتْ: "ذهبوا أيدي سَبَا" (¬3)، والمرادُ بـ "الأيدي" الأبناءُ والأسْرَةُ، لا نفسُ الجارحة, لأنّ التفرّق بهم وقع، واسْتعير اسمُ "الأيْدي"؛ لأنّهم في التَّقَوِّي والبَطْش بهم بمنزلة الأيْدي، فاعرفه. فصل [لغتا "معديكرب"] قال صاحب الكتاب: في معد يكرب لغتان: إحداهما التركيب ومنع الصرف، والثانية الإضافة. فإذا أضيف جاز في المضاف إليه الصرف وتركه، تقول: هذا معديكرب ومعدي كربِ ومعد كربَ. وكذلك قالي قلا وحضرموت وبعلبك ونظائرها. * * * قال الشارح: اعلم أنّ في "معديكرب" لغاتٍ. يُقال: "هذا معديكربُ" بالرفع، وهذا: "معدِي كربٍ" بالخفض والتنوين، و"هذا معدي كربَ" بالفتح من غير تنوين، فمن قال: "هذا معديكربُ"، فإنّه ركّبهما، وجعلهما اسمًا واحدًا، وأعرب الثاني، إلَّا أنّه منعه الصرفَ لاجتماع التعريف والتركيب، وهما علّتان من مَوانعِ الصرف. وبنى الأوّلَ لأنّه ¬
منزَّلٌ منزلةَ الجزء من الكلمة، فهو كصدر الكلمة من عَجُزها. وكان القياس فتحَ الياء من "معديكرب" على حدّ نظائرها من الصحيح، نحوِ: "حَضْرَمَوْتُ" و"بَعْلَبَكٌّ"، إلَّا ائهم تركوا الفتح وأسكنوه، فقالوا: "هذا معدِيكربُ"، و"رأيت معدِيكربَ" و"مررت بمعدِيكربَ"، وكذلك جميعُ ما جاء من ذلك بالياء، من نحوِ: "قالِيقَلَا" و"أيادِي سَبَا"، و"ثَمانِي عشرَة". والعلّةُ في إسكانها أمران: أحدهما: أنهما لمّا رُكّبا، وصارا كلمة واحدة، ووقعت الياءُ حَشْوا، أشبهتْ ما هو من نفس الكلمة، نحوَ ياءِ "دَرْدَبِيس" (¬1)، و"عَيْطَمُوس" (¬2)، فأُسكنت على حدّ سكونهما. والوجه الثاني: أنّ الاسمَيْن إذا جُعلا اسمًا واحدًا، وكان آخِرُ الأوّل منهما صحيحًا، بُني على الفتح، والفتحُ أخفُّ الحركات، والياءُ المكسورُ ما قبلها أثقلُ من الحروف "الصحيحة" فوجب أن تُعطَى أخفَّ ممّا أُعطي الحرفُ الصحيح، ولا أخفَّ من الفتحة إلَّا السكونُ. فإن قيل: ولِمَ أُعرب "معديكرب" ونظائرُه من نحوِ "حضرموت" و"بعلبكّ" مع أنّه مركّبٌ؟ وهلاّ بُني على حد "خمسةَ عشرَ" و"بيتَ بيتَ" فيمن ركّب؟ قيل: التركيبُ ها هنا ليس كالتركيب في "خمسةَ عشرَ"، وذلك أن "معديكرب" و"حضرموت"، وشِبْهَهما من المركّبات مشبّهة بما فيه هاءُ التأنيث من نحوِ: "طلْحَةَ" و"حَمْزَةَ"، فأُعرب كإعرابه, لأنّ اتّصال الاسم الثاني بالاسم الأوّل كاتّصال هاء التأنيث من جهةِ أنّه زيادةٌ فيه، بها تَمامُه من غيرِ أن يكون له معنًى ينفرد به. ولو كان للثاني معنًى ينفرد به، لكان كـ "خمسةَ عشرَ" في البناء. ألا ترى أنّ العشرة عدّةٌ معلومةٌ كما أنّ الخمسة كذلك، فلمّا اجتمعا، انتهيا إلى مقدارٍ آخرَ من العدد، ليس لكل واحد منهما، كما لو جمعتَهما بحرف العطف. فمعنى العطف بعد التركيب مرادٌ، والتركيبُ إنّما كان من جهة اللفظ لا غيرُ. وليس كذلك "معديكرب"؛ لأنّ "كَرِبَ" لا ينفرد بمعنًى من الجملة، فصار كتاءِ "طَلْحَةَ" و"حَمْزَةَ" ونحوِهما من الأسماء المفردة ممّا في آخِره تاءُ التأنيث. واللغة الثانية: أن تقول: "هذا معدِيكربٍ"، فتضيف "معدي" إلى "كرب"، وتجعل "كربًا" اسمًا مذكّرًا، وتصرفه لذلك، وتُنوِّنه. فإن قيل: فإذا كان مضافًا، فهلاّ فُتحت ياؤه في النصب، فقلتَ: "رأيت معدِيَ كربٍ"، كما تقول: "رأيت قاضِيَ واسطٍ"؟ فالجوابُ أنها لمّا أُسُكنت في حال التركيب، نحوَ: "هذا معدِيكرب"، وهو موضعٌ ينفتح فيه الصحيحُ، نحو: "حضرَموت"، أُسكنت ¬
في حال الإعراب؛ للُزوم السكون لها في حال البناء. ووجةٌ ثانٍ أنّهم أسكنوا الياءَ في حالٍ، وهو حالُ الإضافة، ليكون دليلًا على أنّ لها حالًا تسكن فيه، وهو حالُ التركيب، كما فتحوا الراء في "أرَضُون"، ليكون ذلك دليلًا على أنّ لها حالًا تُفتَح فيه، وهو الجمع المؤنّث، نحو: "أرَضاتٌ". ومن قال: "هذا مَعْدِيكَرِبَ"، ففتح على كل حال، فيحتمل أمرَيْن: أحدُهما: أن يكون "معدي" مضافًا إلى "كرب"، وتجعل "كرب" عَلَمًا مؤنّثًا، فتمنعه الصرفَ، فيكون الاسمان معربَيْن على هذا. والاْمرُ الثاني: أن يكونا مركّبَيْن مبنيَّيْن على حدِّ "خمسةَ عشرَ"، كأنّه ركّبهما، وبناهما قبل التسمية على إرادة الواو، ثمّ سمّى بهما بعد التركيب، وحكى حالَهما في البناء قبل التسمية. وفي "معديكرب" شُذوذان: أحدهما إسكانُ الياء في موضع الفتح، والآخرُ قولهم "مَعْدِي" والقياس "مَعْدَى" بالفتح؛ لأن "المَفْعَل" من المعتلّ اللام، سَواءً كان من الواو أو من الياء، فبابُه الفتح، نحوُ: "المَغْزَى" و"المَرْمى"، وسَواءٌ في ذلك الحَدَثُ والزمانِ والمكانُ. فلمّا جاء "مَعْدِي" مكسورًا كان خارجًا عن مقتضى القياس. واشتقاقُ "مَعْدِي" من "عَداه يَعْدُوه" إذا تَجاوزه، و"كرب" من "الكَرْب"، وهو الغَمّ، وتفسيرُ "معديكرب": عَداه الكَرْبُ، فاعرفه.
الكنايات
الكنايات فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: وهي: "كم", و"كذا" و"كيت" و"ذيت". فـ "كم" و"كذا" كنايتان عن العدد على سبيل الإبهام, و"كيت" و"ذيت" كنايتان عن الحديث والخبر, كما كني بـ "فلانٍ" و"هن" عن الأعلام والأجناس, تقول: "كم مالك؟ " و"كم رجل عندي؟ " و"له كذا وكذا درهماً"، و"كان من القصة كيت وكيت، وذيت وذيت". * * * قال الشارح: الكناية التَّوْرِيَةُ عن الشيء بأن يُعبَّر عنه بغيرِ اسمه، لضرب من الاستحسان، نحوَ قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} (¬1)، كنى به عن قَضاء الحَاجة، إذ كان أكْلُ الطعام سببًا لذلك. ومثلُه قوله تعالى في جوابِ قولِ قوم هُودٍ، صلواتُ الله عليه لهُود: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬2)، فكَنَى عن تكذيبهم وأحسنَ. ومن ذلك الكناياتُ في الطَّلاق، وهو التعبيرُ عنه بألفاظٍ غير ظاهرة فيه، وهو مأخوذ من "كَنَيْتُ عن الشيء"، إذا عبّرتَ عنه بغيرِ الذي له. ومنه الكُنْيَةُ، لأنّها تَوْريةٌ عن الاسم. والغرض هنا الكُنَى المبنيّةُ، فمن ذلك "كَمْ"، وهي كنايةٌ عن العدد المُبْهَم، تقع على القليل منه والكثيرِ والوَسَطِ. ولها موضعان: الاستفهامُ والخبرُ، وأصلُها الاستفهام. والاستفهام يكون بالمبهم لِيُشْرَح ما يُسأل عنه. وليس الأصلُ في الإخبار الإبهامَ، ولذلك كان في الخبريّة شيء من أحكامِ الاستفهام، وهو أن لها صدرَ الكلام كالاستفهاميّة، وتُفسَّر بالمنكور، ويجوز تفسيرُها بالواحد، كأنّهم تركوا عليها بعضَ أحكام الاستفهام، ليدلّ على أنّها مُخْرَجةٌ عنه إلى الخبر. وإنما أُخرجت إلى الخبر للحاجة إلى المبالغة في تكثير العدّة، وهي في كلا الموضعَيْن اسمٌ مبنيٌّ على السكون. والذي يدل على كونها اسمًا أُمورٌ: منها دخولُ حرف الجرّ عليها، تقول: "بكَمْ مررتَ؟ " و"على كم نزلتَ؟ " و"إلى كم تصنع كذا؟ " وتضاف، ويضاف إليها، فتقول: ¬
"صاحبُ كم أنْتَ؟ " و"كم رجلِ عندك؟ " ويُخبَر عنها، نحوَ: "كم غلامًا عندك؟ " ويُبدَل منها الاسمُ، نحوَ: "كم دينارًا لك أعشرون، أم ثلاثون؟ " ويعود إليها الضميرُ، نحوَ: "كم رجلاً جاءك؟ " وإن شئت: "جاؤوك". وتكون مفعولةً، نحوَ: "كم رجلًا ضربتَ؟ " وهذا كلُّه يدلّ على كونها اسمًا. وأمّا الذي أوجب بناءَها، فإنّها إذا كانت استفهامًا، فقد تضمّنت معنى الحرف، ووقعت موقعَه، فإذا قلت: "كم غلامًا لك؟ " أو"كم مالُك؟ " فمعناه: "أعشرون غلامًا لك، أم ثلاثون؟ " ونحوُهما من الأعداد، لأنه يُسأل بها عن جميع الأعداد، فأغنتْ "كَمْ" عن همزة الاستفهام وما بعدها من العدد. وإذا كانت خبرًا، فهي مبنيّة أيضًا؛ لأنّها بلفظِ الاستفهاميّة. وتقع في الخبر موقعَ "رُبَّ"، و"رُبَّ" حرفٌ، فضارعتْها "كَمْ" في الخبر، فبُنيت كبنائها. والمرادُ بمضارعتها لها أنّ "رُبَّ" لتقليل الجنس، و"كَمْ" في الخبر لتكثيره، وكلّ جنس فيه قليلٌ وكثيرٌ، فالكثيرُ مركّبٌ من القليل، والقليلُ بعضُ الكثير، فهما شريكان لذلك. وبُنيت على الوقف؛ لأنّ أصل البناء على الوقف. وأمّا "كَذَا"، فهي كنايةٌ عن عدد مبهم بمنزلةِ "كَمْ"، يُقال: "لي عليه كذا وكذا درهمًا". إذا أراد إبهامَ العدد، كنى عنه بـ "كَذَا"، كما يكنون عن الأعلام بـ "فلان". والأصلُ "ذَا"، والكافُ زائدة، وليست على بابها من التشبيه؛ لأنّه لا معنَى للتشبيه ها هنا، إنّما المعنى: لي عليه عددٌ مَا. لم يكن هنا تشبيهٌ، فالكافُ إذًا زائدةٌ إلا أنها زيادةٌ لازمةٌ، و"ذَا" في موضع مجرور بها. ويدلّ على أنّ الكاف في "كَذَا" جازةٌ، و"ذَا" في موضعِ مجرور بها قولُهَ تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} (¬1)، فالكاف في "كأيّ" هي الكافُ في "كذا". فظهورُ الجرّ في "أيّ" حين زيد عليها الكافُ دليل على أن "ذَا" مجرورٌ بها، إلا أنّه لا يَتَبيَّن فيها الإعرابُ حيث كانت مبنيّة. وإذا كانت زائدة، لا تُفيد معنى التشبيه؛ لم تكن متعلّقة بفعلٍ ولا معنَى فعل، كما كانت الباءُ في "ليس زيدٌ بقائمٍ" غيرَ متعلّقة بشيء، حيث كانت زائدة. والذي يدلّ على أنّ الكاف في "كذا، وكذا" زائدةٌ ممزوجةٌ بـ "ذَا" امتزاجَ الكلمة الواحدة، أنك لا تصف "ذَا"، ولا تُؤكِّدها، ولا تُؤنِّثها، فلا تقول: "كَذِهِ"؛ لأنّه جرى مجرَى "حَبَّذَا" في امتزاجها كلمةً واحدةً. وعلى هذا قالوا: "إنّ كذا وكذا مالُك"، فجعلوها في موضعِ مُخْبَرٍ عنه، كما قالوا: "حَبَّذَا زيدٌ"، فجعلوه في موضعِ مبتدأ مُحدَّثٍ عنه. وأمّا "كيْتَ" وكيْتَ، فكنايتان عن الحديث المُدْمَج، كُني بها عن الحديث كما كُني بـ "فلان" عن الأعلام، وبـ "هن" عن الأجناس. وهي مبنيّةٌ، وفيها لغاتٌ تأتي بعدُ. ¬
فصل ["كم الاستفهامية و"كم" الخبرية]
فصل ["كم الاستفهامية و"كم" الخبرية] قال صاحب الكتاب: "و"كم" على وجهين: استفهامية وخبرية, فالاستفهامية تنصب مميزها مفرداً كمميز "أحد عشر" تقول: "كم رجلاً عندك؟ " كما تقول: "أحد عشر رجلاً", والخبرية تجره مفرداً أو مجموعاً كمميز "الثلاثة" و"المائة". تقول: "كم رجل عندي", و"كم رجال"، كما تقول "ثلاثة أثواب", و"مائة ثوب". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِن لـ"كَمْ" موضعَيْن: الاستفهام والخبرَ، فإذا كانت استفهامًا، كانت بمنزلةِ عدب منوَّنٍ، أو فيه نونً، نحو: "أحدَ عشرَ"، و"عشرين"، و"ثلاثين". فإذا قلت: "كم مالُك؟ " فقد سألتَ عن عدد؛ لأن "كَمْ" سؤالٌ عن عدد. فإن فسّرتَ ذلك العدد، جئت بواحد منكورٍ، فتنصبه على التمييز، فتقول: "كم درهمًا لك؟ " و"كم غلامًا عندك؟ " كما تقول: "أعشرون درهمًا لك؟ " فتُغمِل "كم" في "الدرهم" كما تُعمِل "العشرين"؛ لأنّ "العشرين" عددٌ منوّنٌ، فكذلك "كَمْ" عددٌ منوّنٌ. فكلُّ ما يحسن أن تُعمِل فيه "العشرين"، تعمل فيه "كَمْ". وإذا قُبح "العشرين" أن يعمل فيه، قُبح ذلك في "كَمْ"؛ لأنّ مجراهما واحد. وإنّما قدّرها بـ "أحدَ عشرَ"، ولا تنوينَ فيه، من قِبَل أنّه في حكم المنوّن، إذ كان المراد منه العطفَ. وإنّما حُذف منه التنوين للبناء كما يُحذف فيما لا ينصرف، نحو: قولك: "هؤلاء حواجُّ بيتَ الله"، فتنصب "بيت الله" بـ "حواجّ" مع حذف التنوين؟ لأنّ التنوين لم يكن حُذف منه لمعاقَبة الإضافة، وإنّما حُذف لعلّةِ مَنْع الصرف ومشابَهةِ الفعل. فكذلك "أحدَ عشرَ" أصلُه التنوين، وإنّما أوجب سقوطَه البناء ومشابهةُ الحرف. وحكمُ "كم" حكمُ العشرين. و"الأحد عشر" في أن أصلها الحركة والتنوينُ، وإنّما سقطا لمكان البناء. فكذلك نُصب ما بعد "كم" بتقدير التنوين، كما يُنصَب ما بعد "أحد عشر" بتقدير التنوين. وأمّا الخبريّة، فإنّها تُبيَّن بالواحد والجمع، وتُضاف إلى المعدود، وذلك نحو "كم رجلٍ عندك! " و"كم غِلْمانٍ لك! " لأنّها بمنزلةِ اسم منصرف في الكلام منوّنٍ يجُرّ ما بعده إذا سقط التنوين، وذلك نحو: "مائَتَا درهمٍ"، فانْجَرَّ "الدرهمُ" لمّا سقط التنوين، ودخل فيما قبله؛ لأنّ المضاف إليه داخلٌ في المضاف. وإنّما كان كذلك من قِبَل أنّ "كم" واقعةٌ على العدد، والعددُ منه ما ينصب مميِّزَه، نحو قولك: "عندي خمسةَ عشرَ ثَوْبًا، وعشرون عِمامَةً". ومنه ما يضاف إلى مميِّزه، وذلك على ضربَيْن: منه ما يضاف إلى الجمع نحو "ثلاثةُ أثوابٍ إلى العشرة"، ومنه ما يضاف إلى الواحد، نحو: "مائةُ درهمٍ"،
فصل [إعراب "كم"]
و"ألفُ دينارٍ"، فمُيّزت "كَمْ" بجميع أنواعِ ما مُيّز به العددُ. وهذا مع إرادةِ الفرق بين موضعيها، إذ كان لفظُهما واحدًا، ولها معنيان، فـ "كَمْ" و"مُذْ"، و"حَتَّى" من جهة اللفظ على هيئة واحدة، وتعمل عَمَلَيْن. فإن قلت: ولِم خُصّت الخبرية بالخفض، والاستفهاميّة بالنصب؟ فالجوابُ أنّ التي في الخبر تُضارع "رُبَّ"، وهي حرفُ خفض، فخفضوا بـ "كَمْ" في الخبر حملاً على "رُبَّ". ولمّا وجب للخبريّة الخفضُ بمضارَعتها "رُبَّ"، وجب للأخرى النصبُ؛ لأنّ العدد يعمل إمّا خفضًا، وإمّا نصبًا، ويُؤيِّد ذلك أنّ الاستفهام يقتضي الفعلَ، والفعلُ عملُه النصب. والقياسُ في "كَمْ" أن تُبيَّن بالواحد من حيث كانت للتكثير، والكثيرُ من العدد، يُبين بالواحد، نحو: "مائةُ ثوب" و"ألف دينارٍ"، فاعرفه. فصل [إعراب "كم"] قال صاحب الكتاب: وتقع في وجهيها مبتدأة، ومفعولة، ومضافاً إليها, تقول: كم درهماً عندك؟ وكم غلام لك! على تقدير أي عدد من الدراهم حاصل عندك؟ وكثير من الغلمان كائن لك، وتقول كم منهم شاهد على فلان؟، وكم غلاماً لك ذاهب! تجعل لك صفة لـ "الغلام"، و"ذاهباً" خبراً لـ "كم". وتقول في المفعولية: كم رجلاً رأيت؟ " و"كم غلام ملكت! وبكم مررت! وعلى كم جذعاً بني بيتك؟ وفي الإضافة: رزق كم رجلاً وكم رجل أطلقت. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن "كَمْ" اسمٌ بدليلِ دخولِ حرف الخفض عليها، والإخبارِ عنها، إلا أنّها مبنيّةٌ لما ذكرناه من أمرها، فلا يظهر فيها إعرابٌ، إنّما يُحكَم على محلّها بالرفع والنصب والخفض. فإذا كانت مرفوعةَ الموضع؛ فالابتداء لا غيرُ، ولا تكون فاعلةً؛ لأن الفاعل لا يكون إلا بعد فعل، و"كَمْ" لا تكون إلا أوّلاً في اللفظ، فإذا كان الفعلُ لها، فإتما يرتفع ضميرُها به، وهي مرفوعةٌ بالابتداء. فمثالُ كونها مبتداة قولُك في الاستفهام: "كم درهمًا عندك؟ " فـ "كَم" في موضع رفع مبتدأةٌ، و"درهمًا" منصوبٌ بـ "كَمْ"؛ لأئها في تقديرِ عدد منوّنٍ، أو فيه نونٌ، و"عندك" الخبرُ. والمعنى: أيُّ عددٍ من الدراهم كائنٌ عندك، أو حاصلٌ، ونحو ذلك. وتقول: "كم رجلًا جاءك؟ " فتكلون "كم" أيضًا في موضع مرفوع بالابتداء، و"جاءك" الخبرُ، وفيه ضميرٌ يرجع إلى المبتدأ، وتقول في الخبر: "كم غلام لك! " فـ "كَمْ" في موضع رفع بالابتداء، و"غلام" مخفوضٌ بإضافةِ "كَمْ" إليه، و"لَكَ" الخبرُ، والمعنى: كثير من الغِلْمان لك: لأنّ كم في الخبر للتكثير. هذا تفسيرُ المعنى، وأمّا تقديرُ الإعراب، فكأنّك قلت: "مائةُ غلامٍ لك"، ونحوه من العدد الكثيرِ، نحو: "مائة" و"ألف" وغيرهما من الذي قد حُذف تنوينه للإضافة.
وقالوا: "كم رجلٍ أفضلُ منك؟ " حكاه يونُس (¬1) عن أبي عمرو عن العرب، جعل "أفضل" خبرًا. وتقول: "كم منهم شاهدٌ على فلان؟ " فتكون "كم" في موضع رفع بالابتداء، و"شاهدٌ" الخبر، و"عَلَى" متعلّقةٌ بـ "شاهد"، والمميّزُ محذوفٌ. وتقول في الخبر "كم غلام لك ذاهبٌ! " فـ "كَمْ" في موضع مبتدأ أيضًا، و"ذاهبٌ" الخبر، و"لَكَ" في موضع الصفة لـ"غلام"، ويتعلّق بمحذوفٍ تقديره: استقرّ لك، أو مستقِرٌّ لك. وإذا كانت منصوبة، فعلى ثلاثة أضرب: مفعولٌ به، ومفعولٌ فيه، ومصدرٌ. فمثالُ المفعول به قولك: "كم رجلًا رأيتَ؟ " فـ "كَمْ" في موضع منصوب بـ "رأيتَ"، وهي استفهامٌ هنا، ولذلك نصبتْ مميِّزَها، وتقديمُ المفعول هنا لازمٌ؛ لأنّ "كَم" استفهامٌ، والاستفهائم له صدرُ الكلام، والتقديرُ: أعشرين رجلاً رأيتَ، ونحوه. وتقول في الخبر: "كم غلامٍ ملكتُ! " فـ "كَمْ" في موضع نصب بـ "ملكت"، وقُدّم لِما تقدّم من كونِ "كَمْ" لها صدرُ الكلام أيضًا في الخبر على حدّها في الاستفهام، وحملاً على "رُبَّ" لمضارَعتها إيّاها على ما تقدّم. وأمّا المفعول فيه، فقولك: "كم يومًا عبدُ الله ماكِثٌ؟ " فـ "عبدُ الله" مبتدأ، و"ماكثٌ" الخبر، فـ "كَمْ" هنا زمانٌ، وهي في موضع نصب مفعولٌ فيه، ومثل ذلك: "كم شَهْرًا ضُمْتَ؟ " فـ "كَمْ" في موضع منصوب بـ "صمت". وتقول: "كم فَرْسَخًا سِرْتَ؟ "، و"كم مِيلاً قطعتَ؟ " فـ "كَمْ" هنا مكان. ومثالُ المصدر: "كم ضَرْبَةً ضربتُ؟ " و"كم وَففَةً وقفتُ؟ " فتكون "كم" في موضع مصدر منصوب بما بعده من الفعل. والمرادُ عددُ المرّات. فـ "كَمْ"، يُسأل بها عن كل مقدار، فلذلك جاز أن يسأل بها عن الزمان والمكان، وعن المصادر، وعن الأسماء، فعَنْ أيِّ شىء سُئل بها عنه، صارت من ذلك الجنس، وُيوضح أمرَها مميِّزها. وأمّا إذا كانت مجرورة، فإنَّ ذلك يكون بحرف جر، أو بإضافة اسم مثله إليه، فمثالُ حرف الجرّ: "بكَمْ رجلاً مررتَ؟ " فـ "كَمْ" في موضع مخفوض بالباء، والجارُّ والمجرور في موضع نصب بـ "مررت"، و"رجلاً" منصوبٌ بـ "كَمْ"؛ لأنّها استفهامٌ. فإن أردتَ الخبر، خفضتَ "رجلاً"، وقلت: " بكم رجلٍ مررت! ". والفرقُ بينهما أنّه في الاستفهام يسأل عن عددِ من مرّ بهم من الرجال، وفي الثاني يخبر أنّه مرّ بكثير من الرجال، فالمسألةُ الأُولى تقتضي جوابًا، والثانية لا تقتضي جوابًا. وتقول: "على كم جِذْعًا بُني بيتُك؟ " فـ "كم" أيضًا مخفوضةٌ بـ "عَلَى"، و"عَلَى" وما بعده في موضع نصب بما بعده من الفعل، وهو فعلٌ بُني للمفعول، و"جذعًا" منصوبٌ بـ "كَمْ". وقد حكى الخليلُ (¬2) أنّ من العرب من يخفض "جدْعًا"، ويقول: "على كم ¬
فصل [حذف مميز "كم" الاستفهامية]
جذع بيتُك مبنيٌّ". والوجه النصب؛ لأنّه ليس موضعَ تكثير، وإنّما هو سؤالٌ واستفهامٌ عن عدة الجُذوع. والذين خفضوا فإنّما خفضوا بإضمارِ "مِنْ"، وحسُن حذفُها ها هنا؛ لأنّ "عَلَى" في أوّل الكلام صارت عوضًا منها (¬1)، كما حسُن حدفُ حرف القَسَم في قولهم: "لا ها الله لا أفعلُ"، و"اللهِ لتَفْعَلَنَّ"، حيث جعلوا هاء التنبيه وألفَ الاستفهام عوضًا من واو القسم، كذلك ها هنا. وتقول في الإضافة: "رِزدْقَ كم رجلًا أطلقتَ"؟ فـ "رزق" منصوب بأنّه مفعولُ "أطلقت" وهو مضاف إلى "كم"، والتقديرُ: أَرِزْقَ عشرين رجلًا أطلقت؟ ونحوه من العدد ممّا فيه نونٌ، أو تنوين مقدّرٌ، نحو: "خمسةَ عشرَ" وبابِه، وبإضافته إلى "كَمْ" سرى إليه الاستفهامُ، فصار مستفهمًا عنه. ألا تراك تقول: "من عندك؟ " ويكون الجوابُ "زيدٌ"، أو "عمرٌو"، أو"هندٌ" ونحو ذلك ممّا يعقل، ولو قلت: "غلامُ مَنْ عندك؟ " لم يكن الجوابُ إلا "غلامُ زيد"، أو"غلامُ عمرو"، فعلمتَ أنّ السؤال إنما وقع عن المضاف لا المضاف إليه، وتقول إذا كانت خبرًا: "رزقَ كم رجلٍ أطلقتُ" بخفضِ "رجل"، فيكون التكثيرُ للرزق دون العدد؟ فاعرفه. فصل [حذف مميز "كم" الاستفهامية] قال صاحب الكتاب: وقد يحذف المميز فيقال كم مالك؟ أي كم درهماً أو ديناراً مالك؟ وكم غلمانك؟ أي كم نفساً غلمانك؟ وكم درهمك؟ أي كم دانقاً درهمك، وكم عبد الله ماكث؟ أي كم يوماً أو شهراً، وكذلك كم سرت؟ وكم جاءك فلان؟ أي كم فرسخاً وكم مرة أو كم فرسخ وكم مرة. * * * قال الشارح: يجوز حذف المفسِّر مع "كَمْ"، كما كان لك أن تحذفه في العدد من نحو "عشرين" ونظائره، وتكتفى بدليلٍ عليه إمّا بتقدُّمِ ذكره، أو دليل حال، وذلك نحو: "كم مالُك؟ " والمراد: كم درهمًا، أو دينارًا مالُك؟ ولا يجوز في "مالُك" إلا الرفع على الابتداء، و"كَم" الخبرُ، أو"كم" المبتدأ و"مالك" الخبر. وجاز حذفُ المُمَيِّز للعلم بمكانه ووضوح أمره. ولا يُحْسَن حذفُ المميز مع "كم" إلا إذا كانت استفهامًا، ولا يحسن مع الخبريّة, لأنّ الخبريّة مضافةٌ، وحذفُ المضاف إليه، وتَبْقِيَةُ المضاف قبيحٌ. ومثله: "كم غلمانُك؟ " والمعنى: كم غلامًا غلمانُك، أو نفسًا، ونحوهُما من التقديرات. وتقول: "كم درهمُك؟ " والمراد: كم دانَقًا، أو قِيراطًا؟ فالسؤال وقع عن أجزاء ¬
فصل [مميز "كم" الاستفهامية]
درهم واحد له، ولو نصب فقال: "كم درهمًا لك؟ " لكان سائلًا عن عددِ دراهمه. وتقول "كم عبدُ الله ماكثٌ؟ " فـ "عبدُ الله" مبتدأ، و"ماكثٌ" الخبر، و"كَمْ" ظرفُ زمان منتصبٌ بـ "ماكث"، والمميّزُ محذوف، والتقدير: كم يومًا، أو شهرًا عبدُ الله ماكث؟ فالمسألةُ عن مقدارِ مَكْثه من الزمان. ولذلك قُدّر بالزمان. وكذلك تقول: "كم سرتَ؟ " ولا تذكر مفسِّرًا، فيحتمل أن تريد ما سارَهُ من المسافة، فيكون ظرفَ مكان، كأنك قلت: "كم فرسخًا سرت؟ " أو"كم مِيلاً؟ " ونحو ذلك. وإذا أردت ما ساره من الأيّام، فهو ظرفٌ من الزمان، وتقديرُه: كم يومًا سرتَ، أو ساعةً؟ فتكون "كم" في موضعِ نصب بالفعل، وكذلك "كم جاءك فلان؟ " والمراد: كم مرّة جاءك؟ وقد قدّر صاحب الكتاب المفسِّر المحذوفَ بالنصب والخفض، فالنصبُ على الاستفهام، والخفضُ على الخبر، وقد تقدّم أنّ تقديره منصوباً أحسنُ، إذ حذفُ المضاف إليه قبيحٌ، فاعرفه. فصل [مميز "كم" الاستفهامية] قال صاحب الكتاب: ومميز الاستفهامية مفرد لا غير, وقولهم كم لك غلماناً؟ المميز فيه محذوف، والغلمان منصوبة على الحال بما في الظرف من معنى الفعل، والمعنى كم نفساً لك غلماناً؟ * * * قال الشارح: قد تقدّم أن "كم" الاستفهاميّة تُفسَّر بالواحد المنكور، نحو: "رجل" و"غلام" و"درهم" و"دينار" ونحوها من الأنواع، وذلك لأنّها في الاستفهام مقدّرةٌ بعدد منوَّن، أو فيه نونٌ، نحو: "خمسةَ عشرَ"، و"عشرين"، و"ثلاثين"، ونحو ذلك من الأعداد المنوَّنة. وتفسيرُ هذه الأعداد إنّما يكون بالواحد المنكور، نحو: "عندي خمسةَ عشرَ غلامًا، وعشرون عمامة"، فكذلك ما كان في معناها، فلذلك فُسرت "كم" في حال الاستفهام بالواحد. فأمّا الخبريّة، فإنّه يجوز تفسيرُها بالمفرد والجمع، نحو: "كم رجل عندك! ". و"كم عِمامةٍ لك! " و"كم رجالٍ عندك! " و"كم غِلْمانٍ لك! " لأنها في تقديرِ عدد مضاف. والعددُ المضاف منه ما يضاف إلى جمع، نحو: "ثلاثةُ أثوابٍ"، و"عشرةُ غلمانٍ"، ومنه ما يضاف إلى واحد، نحو: "مائةُ دينار"، و"ألفُ درهم". وكانت "كَمْ" تشمَل النوعَيْن، فأضيفت إليهما. وقال أبو عليّ: أصلُها أن تضاف إلى واحد، وإنّما أضيفت إلى الجمع على الأصل المرفوض؛ لأن الأصل في "مائةُ درهم": "مائة من الدراهم"، فحذفوا "من" تخفيفًا، واكتفوا عن الجمع بالواحد، كما قالوا: "ثلاثُ مائةٍ"، والأصلُ: ثلاثُ مِئِين. فأمّا قولهم: "كم لك غلمانًا؟ " فـ "كَمْ" في موضع مبتدأ، و"لَكَ" الخبرُ، والمميِّزُ
فصل [الفصل بين "كم" الخبرية وبين مميزها]
محذوف، والتقدير: كم نفسًا لك غلمانًا؟ أي: في خِدْمتهم، أو كم وَلَدًا لك غلمانًا؟ أي: شَبابًا. والعاملُ في الحال الجارُّ والمجرور النائبُ عن "استقرّ" ونحوه، والصاحبِ المضمرِ فيه. ولو قلت: "كم غلمانًا لك"، لم يجز ألبتّةَ، لأنّك إن جعلتَه تفسيرًا، امتَنع لكونه جمعًا، وإن جعلتَه حالًا، امتنع لتقدُّمه على العامل المعنويّ، وهو"لَكَ"، وكان بمنزلة: "زيد قائمًا فيها" لتقدُّم الحال على العامل المعنويّ. فصل [الفصل بين "كم" الخبرية وبين مميزها] قال صاحب الكتاب: وإذا فصل بين الخبرية ومميزها نصب، تقول "كم في الدار رجلاً" قال [من البسيط]: 668 - كم نالني منهم فضلاً على عدم ... [إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل] وقال [من المتقارب]: 669 - تؤم سناناً وكم دونه ... من الأرض محدودباً غارها ¬
وقد جاء الجر في الشعر مع الفصل. قال [من الكامل]: 670 - كم في بني سعد بن بكر سيد ... ضخم الدسيعة ماجد نفاع * * * قال الشارح: اعلم اْنّ "كَمْ" يجوز الفصلُ بينها وبين مميِّزها بالظرف وحروف الجرّ جوازًا حسنًا من غيرِ قُبْح، نحو: "كم لك غلامًا"، و"كم عندك جاريةً"، ولا يحسن ذلك ¬
فيما كان في معناها من الأعداد، نحو: "عشرين"، و"ثلاثين" ونحوهما من الأعداد المنوّنة. والفصلُ بينهما أنّ "كم" كانت مستحِقّةً للتمكّن في الأصل بحكمِ الاسميّة، ثمّ مُنعتْه بما أوجب البناء لها، فصار الفصلُ، واستحسانُ جوازه كالعوض ممّا مُنعتْه من التمكّن مع كثرة استعمالها في كلامهم. فإن قيل: فهلّا كان الفصلُ بين "خمسة عشر" ومميِّزها إلى "تسعة عشر" حسنًا أيضًا؛ لأنّها مُنعت التمكّنَ بعد استحقاقه. قيل: قد جعلنا كثرة الاستعمال أحدَ وصفَي العلّةِ، ولم يوجَد في "خمسة عشر" وبابه. فإن قيل: فِلمَ قُبح الفصلُ بين العدد ومميِّزه، ولم يحسن: "قبضتُ خمسةَ عشرَ لك درهمًا"، و"رأيت عشرين في المسجد رجلاً"؟ قيل: إنّما كان كذلك لضُعْفِ عملِ "العشرين" ونحوها فيما بعدها؛ لأنّها عملت على التشبيه باسم الفاعل، ولم تَقْوَ قوّتَه مع أنّه قد جاء ذلك في الشعر. قال الشاعر [من المتقارب]: 671 - على أنّني بَعْدَ ما قد مَضَى ... ثلاثون للهَجْرِ حَوْلاً كَمِيلا وأنشد سيبوبه لعبد بني الحَسْحاس [من الطويل]: 672 - فأَشْهَدُ عند اللَّهِ أن قد رأيتُها ... وعشرون منها إصْبَعًا من وَرائِيا ¬
واعلم أن "كم" الاستفهاميّةَ لا يكون مميّزُها إلا واحدًا منصوبًا، و"كم" الخبريةَ تفسَّر بالواحد والجمع، وتضاف إلى مفسِّرها. وبعض العرب ينصب بـ "كَمْ" في الخبر، كما ينصب في الاستفهام، وهم بنو تميم، كأنّهم يقدّرون فيها التنوينَ، وينصبون. ومعناها منوَّنةً وغيرَ منوّنة سواءٌ، وهو عربيٌّ جيّدٌ، والخفضُ أكثرُ. فإذا فُصل بين "كم" ومميِّزها في الخبر، عدلوا إلى لغةِ الذين يجعلونها بمنزلةِ عدد منوّن، وينصبون بها؛ لأنّه قبيحٌ أن يُفصَل بين المضاف والمضاف إليه؛ لأنّ المضاف إليه من تمام المضاف، فصارا كالكلمة الواحدة، والمنصوبُ يجوز أن يُفصل بينه وبين ما عمِل فيه، ألا تراك تقول: "هذا ضاربُ اليومَ زيدًا"، ولا تقول: "هذا ضاربُ اليومَ زيدٍ" إلا في ضرورة؟ فأمّا قول القُطاميّ [من البسيط]: كم نالَنِي مِنْهُمُ فَضْلاً على عَدَمٍ ... إذ لا أَكادُ مِن الإقْتارِ أَحْتَمِلُ (¬1) فالشاهد فيه أنّه لمّا فصل بين "كم" ومميِّزها، وهو فَضْلة، عدل إلى لغةِ من ينصب لقُبْح الفصل بين الجارّ والمجرور، ولا سيّما بغير الجارّ والمجرور، و"كم" ها هنا خبريّةٌ؛ لأنّه مدحٌ بتكثير الأفضال عليه عند عدمه لشدّة الزمان، وبلوغِ الفقر على حالٍ لا يُمْكِنه الارتحالُ للانتجاع وطلب الرزق. و"أحتملُ" من "التحمّل"، وهو الرَّحِيل، ويُروى "أجتمل" بالجيم، والمعنى: أَجْمَعُ العِظامَ، وأُخْرِجُ وَدَكَها، وأَتعلّلُ به، مأخوذٌ من "الجَمِيل"، وهو الوَدَك. ومن رواه كذلك قال: "إذ لا أزالُ". ومثلُ هذا الفصل والنصبِ قولُ زُهَيْر [من المتقارب]: تؤمّ سِنانا (¬2) ... إلخ ¬
الشاهد فيه نصبُ "محدودبًا" حيث فصل بينه وبين "كم" بالظرف والجارّ والمجرورِ، وعدل إلى لغةِ من ينصب. يصف ناقتَه، فيقول: تؤمّ سِنانًا، وهو الممدوحُ على بُعْدِ المسافة. والغارُ: الغائرُ من الأرض المطمئنّ، وجعله مُحْدَوْدِبًا لِما يتّصل به من الإكام ومُتونِ الأرض. وربّما جرّوا بها مع الفصل على حدّ قوله [من البسيط]: كأنّ أصْوات من إيغالِهِنَّ بنا ... أواخِرِ المَيْسِ أصواتُ الفَراريجِ (¬1) وذلك في الشعر، نحو قول الشاعر [من الرمل]: 673 - كم بجُودٍ مقْرِفٍ نالَ العُلا ... وكَرِيمٍ بُخلُهُ قد وَضعَة يُروى "مقرف" بالجرّ، ويجوز فيه النصبُ والرفعُ، فالجرُّ بإضافةِ "كم" مع الفصل، والنصبُ على التمييز، والرفعُ على الابتداء، و"كم" الخبرُ. وحسُن الابتداءُ به، وهو نكرةٌ لوصْفه بقوله: "نال العُلا"، أو يكون "كم" مبتدأ، و"مقرف" الخبر. وأما قول الفرزدق [من الكامل]: كم في بني سعد بن بكر (¬2) ... إلخ ¬
فصل [عودة الضمير علي "كم"]
فالشاهد فيه خفضُ "سيّد" بـ "كَمْ" مع الفصل ضرورةً. والدَّسِيعةُ: العَطيّةُ، وهو مِن "دَسَعَ البعيرُ بجِرَّته" إذا دفعها، ويقال هي الجَفْنَةُ. والمرادُ أنَّه واسعُ المعروفِ. والماجدُ: الشريفُ. فصل [عودة الضمير علي "كم"] قال صاحب الكتاب: ويرجع الضمير إليه على اللفظ والمعنى، تقول كم رجل رأيته ورأيتهم، وكم امرأة لقيتها ولقيتهن وقال تعالى: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً} (¬1). * * * قال الشارح: اعلم أن "كَمْ" اسمٌ مفرد مذكّر موضوع للكثرة، يُعبَّر به عن كلِّ معدود، كثيرًا كان أو قليلًا، وسواءٌ في ذلك المذكّرُ والمؤنّثُ، فقد صار لها معنى ولفظ. وجرت في ذلك مجرَى "كُلّ"، و"أيّ"، و"مَنْ"، و"ما" في أنّ كلَّ واحد منها له لفظٌ ومعنًى، فلفظُه مذكّر مفرد، وفي المعنى يقع على المؤنّث والتثنية والجمع. فإذا عاد الضميرُ إلى "كم" من جملةٍ بعدها، جاز أن يعود نظرًا إلى اللفظ، وجاز أن يعود حملاً على المعنى، فتقول: "كم رجل جاءك" فتُفرِد الضميرَ، وتُذكُره حملاً على اللفظ، ولو قلت: "جاءاك" بلفظ التثنية، أو"جاؤوك" بلفظ الجمع، لجاز أن ترُد الضميرَ تارةً إلى اللفظ، وتارةً إلى المعنى، وكذلك في المؤنّث تقول: "كم امرأهٍ جاءك" على اللفظ، و"جاءتْك"، و"جاءتاك"، و"جِئْنَك" على المعنى. قال الله تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} (¬2)، فجمع الضميرَ نظرًا إلى المعنى. ولو حمل على اللفظ، لقال: شفاعتُه. وأمّا تمثيلُه بـ "كَمْ رجل رأيتُه"، فهو على لفظِ "كم"، و"رأيتُهم" على المعنى؛ لأنّ المراد التكثيرُ. وقوله: "وكم امرأةٍ لقيتُها"، فالضمير عائدٌ فيه على المعنى. ولو أراد اللفظَ، لقال: "لقيتُه"؛ لأنّ "كم" مذكّرُ اللفظ، "ولقيتُهنّ" على المعنى أيضًا؛ لأنّه واقعٌ على مؤنّث في معنى الجمع. ومنه قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} (¬3)، فأنّث الضمير على المعنى أيضًا, لأن "كم" مفسرةٌ بـ "القرية". ولو جاء على اللفظ، لقال: "أهلكناه". ولا يكون الضميرُ في "أهلكناها" عائدًا إلى "القرية"؛ لأنّ خبرَ المبتدأ إذا كان جملة، فالضميرُ منها إنّما يعود إلى المبتدأ نفسه لا إلى تفسيره، ثمّ قال: {أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} (¬4) لأنّ المراد بالقرية أهلُها فاعرفه. ¬
فصل
فصل قال صاحب الكتاب: وتقول كم غيره لك، وكم مثله لك، وكم خيراً منه لك، وكم غيره مثله لك، تجعل مثله لـ "غيره", فتنصبه نصبه. * * * قال الشارح: تقول: "كم غيرَه لك"، و"كم مثلَه لك". كل ذلك جائزٌ، فتكون "كم" في موضعِ مبتدأ، و"لَكَ" الخبرَ، و"غيرَه"، و"مثلَه" ينتصبان بـ "كم" لأنّهما نكرتان، وإن كانا مضافيْن، وقد مضى تفسيرُهما، وكذلك يجوز أن يُفسِّرهما العددُ من نحو "عشرين"، و"ثلاثين" فيما حكاه سيبويه عن يونس (¬1). وتقول": "كم خيرًا منه لك"؛ لأنّ "خيرًا" نكرةٌ، وإن قاربت المعرفةَ. وتقول: "كم غيرَه مثلَه لك"، فتنصب "غيرًا" بـ "كم"، وتنصب "مثلَه" لأنّه صفةٌ لِـ "غيرٍ"، فينتصب انتصابَه. فصل [أوجه إعراب الاسم بعد "كم" في قول للفرزدق] قال صاحب الكتاب: وقد ينشد بيت الفرزدق [من الكامل]: 674 - كم عمة لك يا جرير وخالة ... فدعاء قد حلبت عليَّ عشاري على ثلاثة أوجه: النصب على الاستفهام، والجر على الخبر، والرفع على معنى "كم مرة حلبت علي عماتك". * * * ¬
فصل [إضافة "كم" الخبرية إلي ما بعدها]
قال الشارح: هذا البيت يُنشَد على ثلاثة أوجه: رفعٍ، ونصبٍ، وجرٍّ. فالرفعُ على أنّه مبتدأ، وحسُن الابتداء به حيث وُصف بالجارّ والمجرور، وهو "لَكَ". وقوله: "قد حلبت عليّ عِشارِي". في موضع الخبر وتكون "كم"، واقعةً على الحَلَبات، فتكون مصدرًا، والتقديرُ: "كم مرّةٍ، أو حَلْبَةٍ عَمَّةٌ لك قد حلبتْ عليّ عشاري". ويجوز أن تكون "كم" واقعةً على الظرف، فيكون التقدير: كم يومًا، أو شهرًا، ونحوهما من الأزمنة. ومن نصب، فعلى لغة من يجعل "كم" في معنى عددٍ منوّنٍ، ونصب بها في الخبر، وهم كثيرٌ، منهم الفرزدقُ؛ لأنّ هذا ليس موضعَ استفهام مع أنّه لا يبعد الاستفهام على سبيل التقرير، فتكون "كم" مبتدأ في موضع مرفوع، وقوله: "قد حلبت عليّ عشاري" في موضع الخبر، وتكون "كم" واقعةً على العَمّات. ومن جرّ، فعلى أنّه خبرٌ بمعنى "رُبَّ". وأجودُها الجرُّ؛ لأنّه خبرٌ، والأظهر في الخبر الجرُّ. والمراد الإخبار بكثرة العمّات الممتهِنات بالخِدْمة. وبعده النصبُ، لأنه خبرٌ أيضًا في معنى عمّاتٍ. هاذا رُفعت، لم تكن إلا واحدة؛ لأنّ التمييز يكون، بواحدٍ في معنى جمع. وإذا رفعتَ، فلست تريد التمييزَ. ألا ترى أنّه إذا قيل: "كم درهمٌ لك"، كان المعنى: "كم دانَقًا هذا الدرهمُ الذي سُئلتَ عنه"؟ فالدرهمُ واحدٌ, لأنّه خبرٌ، وليس. بتميينرٍ، وصاحب الكتاب فسّره في حال الرفع بالجمع، وفيه نظرٌ. والصوابُ ما ذكرتُه لك. وهذا البيت يهجو به جَرِيرًا، ويصف أنّ نِساءه راعياتٌ له يَحْلُبْنَ عليه عِشارَه، وهي النُّوق التي أتى عليها من حِينِ أُرسل عليها الفَحْلُ عشرةُ أشهر، ثمّ لا يزال ذلك اسمًا لها حتى تَضَع، فاعرفه. فصل [إضافة "كم" الخبرية إلي ما بعدها] قال صاحب الكتاب: والخبرية مضافة إلى مميزها عاملة فيه عمل كل مضاف في ¬
فصل ["كأين" ولغاتها]
المضاف إليه. فإذا وقعت بعدها من وذلك كثير من استعمالهم منه قوله تعالى: {وكم من قرية} (¬1)، {وكم من ملك} (¬2) , كانت منونة في التقدير, كقولك كثير من القرى ومن الملائكة. وهي عند بعضهم منونة أبداً والمجرور بعدها بإضمار "من". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِنّ "كم" في الخبر في تأويل اسم منصرف في الكلام، يجُرّ ما بعده إذا أُسقط التنوين منه، نحو: "مائةُ درهم"، و"مائتَيْ دينارٍ". وتدخل "من" على مميِّزها كثيرًا، نحو قوله تعالى: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ} (¬3)، {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ} (¬4)؛ لأنّ الإضافة فيها مقدَّرةٌ بـ "مِنْ" على حدِّ "بابُ ساجٍ"، و"جُبَّةُ صُوفٍ". فإذا قلت: "كم قريةٍ"، و"كم ملكٍ"، فكأنّك قلت: "كثيرٌ من القرى، وكثيرٌ من الملائكة". فإذا أظهرتَ "مِنْ"، كان العملُ لها دون "كم"، والكوفيون (¬5) يخفضون ما بعد "كم" على كلِّ حال بـ "من"، فإن أظهرتَها، فهي الخافضةُ، وإن لم تُظْهِرها، فهي مرادةٌ مقدَّرةٌ كما تُحذَف "رُبَّ" وتُقدَّر، ولذلك حسُن الفصلُ بين "كم" والمخفوض بعدها. وتكون "كم" عندهم في تقدير اسم منوّنٍ على كل حال. وهو ضعيف؛ لأنّ المجرور داخلٌ فيما قبله، فهما في موضع اسم واحد، ولا يحسن حذفُ بعض الاسم، فاعرفه. فصل ["كأين" ولغاتها] قال صاحب الكتاب: وفي معنى "كم" الخبرية "كأين", وهي مركبة من كاف التشبيه و"أي", والأكثر أن تستعمل مع "من". قال الله عز وجل: {فكأين من قرية أهلكناها} (¬6). وفيها خمس لغات: كأين، وكاءٍ بوزن "كاعٍ"، وكيء بوزن كيع، وكأي بوزن كعي، وكإ بوزن كع. * * * قال الشارح: اعلم أنّ "كَأَيِّنْ" اسمٌ معناه معنى "كم" في الخبر، يكثُر به عدّةُ ما يضاف إليه، نحو قوله [من الطويل]: 675 - وكاءٍ ترى مِنْ صامتٍ لكَ مُعْجِبٍ ... زِيادتُه أونقْصُه في التكَلُّمِ ¬
ونحو قوله [من الوافر]: وكاءٍ بالأبَاطِحِ من صَدِيقٍ ... يَراني لو أَصِبْتُ هو المُصابا (¬1) وهي مركبة، أصلُها: "أيٌّ"، زيد عليها كافُ التشبيه، وجُعلا كلمةً واحدةً، وحصل من مجموعهما معني ثالثٌ، لم يكن لكلّ واحد منهما في حال الإفراد. ولذلك نظائرُ من العربيّة وغيرها، ولكونهما صارا كلمةً واحدةً، لم تتعلّق الكافُ بشيء قبلها من فعلٍ، ولا معنى فعل، كما لا تتعلَّق في "كَأَنّْ" و"كَذَا" بشيء مع كونها عاملةً فيما دخلتْ عليه؛ لأنّ حرف الجرّ لا يُعلَّق عن العمل. ألا ترى أنّ "مِنْ" في قولك: "ما جاءني من أحد" زائدةٌ لا تتعلّق بشىء، وهي مع ذلك عاملةٌ. وكذلك الباء في قولك: "ليس زيد بقائمٍ" عاملةٌ مع كونها زائدةً غيرَ متعلّقة بفعلٍ قبلها. وكذلك الكافُ في "كأيّ" زائدةٌ غيرُ متعلّقة بشيء، وهي مع ذلك عاملةٌ. وهي تنصب ما بعدها، فتقول: "كأيٍّ رجلًا رأيت"، فتكون "كأيّ" في موضعِ منصوب بـ "رأيت" نَصْبَ المفعول به، كما أنّك إذا قلت: "رأيت كذا وكذا رجلًا"، كان "كَذَا" في موضعِ نصب بـ "رأيت". وتقول: "كأيٍّ أتانى رجلاً"، فتكون "كأيّ" في موضع مبتدأ، و"أتاني" الخبرُ، كما تكون "كم" كذلك. وإنّما نصبوا بها للزوم التنوين لها، والتنوين مانعٌ من الإضافة، فعُدل إلى النصب؛ لأنّها للتكثير بمنزلةِ "كم" في الخبر، تخفض مميِّزَها عند قومٍ، وتنصبه عند آخرين. والخفضُ ها هنا ممتنعٌ. قال سيبويه (¬2): لأنّ المجرور بمنزلة التنوين، فلذلك نصبوا ما بعدها كما نصبوا ما بعد "كذا وكذا درهمًا". وأكثر العرب لا يتكلّمون بها إلا مع "مِنْ"، نحو قوله تعالى: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} (¬3). ¬
وإنّما ألزموها "مِنْ" توكيدًا، فصارت بمنزلةِ تمام الاسم، ومثله زيادةُ "ما" في "لا سِيَّما زيدٌ". وإنّما اختاروا ذلك لتوهّم لبسٍ ربّما وَقَعَ، وذلك أنّك إذا قلت: "كَأيٍّ رجلاً أهلكت"، جارّ أن يكون "رجلاً" منصوبًاب "كَأَيٍّ"، فيكون واحدًا في معنى جمع، ويجوز أن يكون منصوبًا بالفعل بعده، ويكون "كأيٍّ" ظرفًا، كأنّه قال: "كأيٍّ مرّةً"، فيكون "رجلًا" واحدًا لفظًا ومعنًى، كأنّه قال: "أهلكتُ رجلاً مِرارًا". قال سيبويه (¬1): إنّما ألزموها "مِنْ" لأنّها توكيدٌ، فجُعلت كأنّها شيء يتمّ به الكلامّ. قال (¬2): ورُبَّ تأكيدٍ لازم حتّى يصير كأنّه من الكلمة. وهذا هو المعنى الأوّل، وذلك أنّ التأكيد إنّما يُؤتَى به لإزالةِ لَبْس، أو قَطْعِ مَجاز، فلمّا كان الموضع موضعَ لبس، لزم التأكيد. وفيها خمسُ لغات على ما ذُكر، قالوا: "كَأَيٍّ"، و"كاءٍ"، و"كَيْءٍ"، و"كَأْي"، و"كَإ". حكى ذلك أحمدُ بن يَحْيَى ثَعْلَبٌ. فمن قال: "كَأَيٍّ"، فهي "أَيٌّ" دخلتْ عليها الكافُ، ورُكّبتا كلمةً واحدةً على ما تقدّم، ومن قال: "كاءٍ" فهي "كأَيٍّ " أيضًا، تَصرّفوا فيها لكثرة استعمالهم إيّاها، فقدّموا الياء المشدّدة، وأُخّرت الهمزة، كما فعلوا ذلك في "قِسِّي"، و"أشياء"، و"جاءٍ" في قول الخليل، فصار "كَيِّىءٍ" فأشبه "هَيِّنًا"، و"لَيِّنًا"، فحذفوا الياء الثانيةَ تخفيفًا، فصار "كَيْء"، كما قالوا: "هَيْنٌ"، و"لَيْنٌ"، ثمّ قلبوا الياء ألفًا لانفتاح ما قبلها كما فعلوا في "طائيٌّ"، والأصلُ: طَيْئِيٌّ، وكما قالوا: "حارِيٌّ" في النِّسَب إلى الحِيرَة، وقالوا: "آيَةٌ" وهو"فَعْلَةٌ" ساكنَ العين في قولِ غير الخليل، ولذلك نظائرُ، فصار"كاءٍ". وكان أبو العبّاس المبرّد يذهب إلى أنّ الكاف لمّا لحقتْ أوّل "أيٍّ"، وجُعلتْ معها اسمًا واحدًا، بنوا منهما اسمًا على زنةِ "فاعلٍ"، فجعلوا الكافَ فاءً، وبعدها ألفُ "فاعلٍ"، وجعلوا الهمزةَ التي كانت فاءً في موضع العين، وحذفوا الياء الثانية من "أيٍّ"، والياء الباقيةُ في موضع اللام، ودخل عليها التنوينُ الذي كان في "أيٍّ"، فسقطت الياء لالتقاء الساكنَيْن، فصارت "كَاءٍ". ولزمت النونُ عوضًا من الياء المحذوفة. وكان يونس يزعم أن "كائنْ" فاعلٌ من "كَانَ يَكُونُ". فعلى القولَيْن الآخِرَيْن يكون الوقفُ عليها بالنون، وعلى القول الأوّل تقِف بالهمزة والسكون، وتحذف التنوينَ. وأما "كَيِّىءٍ" بياء مشدَّدة وهمزة بعدها، فإنّه لمّا أصاره القلبُ والتغييرُ إلى "كَيِّىءٍ"، وُقف عند ذلك، ولم تُحذَف إحدى الياءَيْن، وإنما أُخّر الهمزة، وقُدّم الياء، فصار كـ "سَيِّد" و"جَيِّد"، فخفّ بكثرة النظير. وأمّا "كَيْءٍ" بوزنِ "كَيْع"، فلغةٌ حكاها أبو العبّاس. وذلك أنّه لمّا أصاره القلبُ والتخفيفُ بحذف إحدى الياءَيْن إلى "كَيْءٍ" بوزن "بَيْتٍ"، لم تُقلَب الياء ألفًا لسكونها. ¬
فصل ["كيت" و"ذيت": استعمالها ولغاتها]
وأمّا "كَأْيٍ" بوزن "كَعْي" بهمزة ساكنة، وياء مكسورة خفيفةٍ، فحكاها أبو الحسن بن كَيْسانَ. فإنّه لمّا أدخل "الكافَ على "أيٍّ"، وركّبهما كلمةً واحدةً، وصار اللفظُ "كأيٍّ"، خفّف بحذف إحدى الياءَيْن، وأسكن الهمزة، كأنّه بني من المجموع اسمًا على زنةِ "فَعْلٍ"، مثلَ: "فَلْس" و"كَعْبٍ". وأمّا "كَإٍ" بوزن "كَعٍ"، فحكاها أيضًا أبو الحسن بن كيسان، وذلك أنّهم بنوا منه اسمًا على زنةِ "فَعِلٍ" بكسر العين، وفتح الفاء كـ "عمٍ"، و"شَجٍ". فهذا ما بَلَغَنا من لغاتها، وأصلُ هذه اللغات، وأفصحُها "كَأَيِّ" بياء مشدّدة، والوقفُ عليها بغيرِ تنوين، وبعدها في الفصاحة والكثرةِ "كَاء"، بوزن "كَاعٍ "، وهي أكثرُ في أشعار العرب من الأوُلى، ثمّ باقِي اللغاتِ متقارِبةً في الفصاحة. فصل ["كيت" و"ذيت": استعمالها ولغاتها] قال صاحب الكتاب: وكيت وذيت مخففتان من كية, وذية. وكثير من العرب يستعملونهما على الأصل. ولا يستعملان إلا مكررتين, وقد جاء فيهما الفتح والكسر والضم, والوقف على "بنت" و"أخت". * * * قال الشارح: قد تقدّم أنّ هذه الأسماء كناياتٌ عن الحديث، فتقول: "كان من الأمر كَيْتَ وكَيْتَ، وذيْتَ وذَيْتَ". وفي "كَيْتَ" و"ذَيْتَ" ثلاثُ لغات: الفتح والكسر والضمّ، وأصلُه أن يكون ساكنَ الآخِر على أصل البناء، وتحريكُه لالتقاء الساكنين. فمَن فتح، فَطَلبًا للخفة لثقل الكسرة بعد الياء، كما قالوا: "أَيْنَ" و"كَيْفَ". ومن كسر، فعلى أصل التقاء الساكنين. ومن ضم، فتشبيهاً بـ "قبل" و"بَعْدُ". وأصلهما "كيَّة" و"ذيَّة"، وقد نطقت بذلك العربُ، فقالت: "كان من الأمر كَيَّةَ وذَيَّةَ"، ثمّ إنّهم حذفوا الهاء، وأبدلوا من الياء التي هي لامٌ تاءً، كما فعلوا ذلك في "ثِنْتَين". وليست التاء في "كيت" و"ذيت" للتأنيث، يدلّ على ذلك سكونُ ما قبلها، وتاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلا مفتوحًا، والتأنيثُ مستفادٌ من نفس الصيغة. فالصيغةُ في "كَيْتَ" و"ذَيْتَ" رسيلةُ التاء في "كَيَّةَ" و"ذَيَّةَ"، كما كانت التاءُ في "ابْنَةٍ" و"اثْنَتَيْنِ" رسيلةَ الصيغة في "بِنْت" و"ثِنْتَيْن". فأمّا "كَيَّةَ" و"ذَيَّةَ"، فليس فيهما مع الهاء إلا الفتحُ؛ لأنّ الهاء بمنزلةِ اسم ضُمّ إلى اسم، نحوَ: "خمسةَ عشرَ"، و"شَغَرَ بَغَرَ"، فكما أنّ الاسم الأوّل من الاسمَيْن مفتوحٌ لا محالةَ، فكذلك هاء التأنيث.
فإن قيل: فلِمَ قضيتَ على تاء "كيت"، و"ذيت" بأنّها بدلٌ من ياء؟ وهلاّ قلت: إِنّها بدلٌ من واو كما كانت كذلك في "بِنْتٍ" و"أُخْتٍ". قيل: لو قضينا على تاء "كَيْتَ" و"ذَيْتَ" بأنّها من الواو، لصِرْنا إلى مثالٍ لا نظيرَ له في كلامهم؛ لأنّه ليس في كلام العرب لفظةٌ عينُها ياءٌ ولامُها واوٌ. ألا ترى أنّ سيبويه قضى على واوِ "حَيَوان" بأنّها مبدلةٌ من الياء؟ قال: لأنّه ليس في كلامهم مثلُ: "حَيِوْتُ". وقوله: "ولا يُستعمل كيت وذيت إلا مكرَّرتَيْن"، فإنّه يريد أنّهما لا يُستعملان مفردَيْن، وإنّما تُكرِّرهما، فتقول: "كيت وكيت" و"ذيت وذيت"، ليكون ذلك أدلَّ على الحديث، ولا يُتوهّم أنِّهما كنايةٌ عن لفظَيْن مفردَيْن، فاعرفه.
المثنى
ومن أصناف الاسم المثنَّى فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: وهو ما لحقت آخره زيادتان: ألف أو ياء مفتوح ما قبلها، ونون مكسورة، لتكون الأولى علماً لضم واحد إلى واحد، والأخرى عوضاً مما مُنع من الحركة والتنوين الثنتين في الواحد. * * * قال الشارح: اعلم أنّ التثنية ضمُّ اسم إلى اسم مثلِه، واشتقاقُها من "ثَنَّى يُثَنِّي" إذا عطف، يقال: "ثنّى العُودَ" إذا عطفه عليه، فكأنّ الثاني معطوف. وأصلُها العطف، فإذا قلت: "قام الزيدان"، فأصله: زيدٌ وزيدٌ، لكنّهم إذا اتّفق اللفظان، حذفوا أحدَ الاسمين، واكتفوا بلفظ واحد، وزادوا عليه زيادةً تدلّ على التثنية، فصارا في اللفظ اسمًا واحدًا، وإن كانا في الحكم والتقدير اسمَيْن. وكان ذلك أوجزَ عندهم من أن يذكروا الاسمين، ويعطفوا أحدهما على الآخر، فإذا ثنّوا الاسم المرفوع، زادوا في آخِره ألفًا ونونًا، وإذا ثنّوا الاسم المجرور أو المنصوب، زادوا في آخره ياء مفتوحًا ما قبلها ونونًا مكسورةً، فيكون لفظُ المجرور كلفظ المنصوب، فالزائدُ الأوّلُ -وهو الألف أو الياء- يكون عوضًا من الاسم المحذوف، ودالًّا على التثنية، ولذلك كان حرف الإعراب. فالأصلُ في قولك: "الزيدان": زيدٌ وزيدٌ، والذي يدلّ على ذلك أنّ الشاعر إذا اضطُرّ عاود الأصل، نحو قوله [من الرجز]: 676 - كَأَنَّ بَيْنَ فكّها والفَكِّ ... فَأْرَةَ مِسْكٍ ذُبِحَتْ في دسُكِّ ¬
أراد: بين فَكَّيْها، فلمَّا لم يتّزِن له، رجع إلى العطف، وهو كثيرٌ في الشعر. ويؤيّد ذلك أنّك لا تأتي به في الأسماء المختلفة، نحوِ: "جاءني زيدٌ وعمرٌو"، لكونِ أحدِ اللفظَيْن لا يدلّ على الآخر. وقد قالوا أيضًا: "العُمَران"، والمراد أبو بكر وعُمَرُ، وقالوا: "القَمَران"، والمراد: الشمس والقمر، وذلك لاتّضاح الأمر فيهما وعدم الإشكال. وإنّما كانت هذه الحروف هي المزيدةَ دون غيرها لخفّتها، وذلك أنّ أخفَّ الحروَف حروفُ المدّ واللِّين، وهي الواو والألف والياء. وقد كان القياسُ أن يكون الرفع بالواو، والنصب بالألف، والجرّ بالياء، وكذلك الجمعُ الذي على حدّ التثنية، لتعذُّر الحركات فيها؛ لأنّ حكم العلامات أن تكون بالحركات، إذ كانت أقلّ وأخفّ، فلمّا كانت الحركاتُ متعذّرةً لاستيعاب الواحد لها، عدلوا إلى أشبهها من الحروف، غيرَ أنّهم أرادوا الفصلَ بين إعراب التثنية والجمع. ولم يكن الفصلُ بينهما بنفس الحروف، لأنّها سواكنُ، ففصلوا بينهما بالحركات التي قبل هذه الحروف، فكان ينبغي على ما قدّمناه أن تكون تثنيةُ المرفوع بواو مفتوحٍ ما قبلها، نحوُ قولك: "زيدَوْنِ" و"مسلمَوْنِ"، وتثنيةُ المجرور بالياء، نحوُ: "زيدَيْنِ" و"مسلمَيْنِ"، وتثنيةُ المنصوب بالألف، نحوُ: "زيدَانِ" و"مسلمانِ". ويكون رفعُ الجمع بواو مضمومٍ ما قبلها، نحوُ قولك: "الزيدُونَ" و"المسلمُونَ"، وجمعُ المجرور بياء مكسور ما قبلها، كقولك: "زيدِينَ" و"مسلمِينَ"، وجمعُ المنصوب بالألف، والألفُ لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا، كقولك: "زيدان" و"مسلمان". ولو فعلوا ذلك، لوَقَعَ الفرقُ بين التثنية والجمع في المرفوع والمجرور؛ لأنّ ما قبل الواو والياء في التثنية مفتوحٌ، وفي الجمع على غير ذلك، إلَّا أنّه كان يلتبس تثنيةُ المنصوب بجمعه، فأسقطوا الألف من علامة النصب، وجُعلت علامةَ الرفع في التثنية، فبقي النصبُ بلا علامةٍ، فاُلحق بالجرّ، وكان إلحاقُه بالجرّ أوْلى، لأمُورٍ منها: أنّ الجرّ أقوى من الرفع؛ لأن الجرّ مختص بالأسماء، ولا يكون في غيرها، فكان إلحاقه به أولى. الثاني: أنّ النصب أخو الجرّ، وإنّما كان أخاه؛ لأنّه يُوافِقه في كناية الإضمار، نحوِ: "ضربتُكَ"، و"غلامُكَ"، فالكافُ في "ضربتك" في موضعِ نصب، وهي في "غلامك" في موضعِ خفض، فلمّا اتّفقا في الكناية، حُمل أحدهما على الآخر. ¬
الثالثُ: أنّهما شريكان في وصول الفعل إليهما على سبيل الفضلة، غيرَ أنّ وقوعه على المنصوب بلا واسطةٍ، وعلى المجرور بواسطة حرف الجرّ، ألا ترى أنّه لا فرقَ في المعنى بين قولنا: "نصحتُ زيدًا"، و"نصحتُ لزيدٍ"؟ فلمّا استويا في المعنى سُوّي بينهما في اللفظ. فإن قيل: فهلّا استُعملت الألف في نصب التثنية والجمع في أحدهما، وأسقطوها من الآخر، إذ اللبسُ إنّما وقع باستعمالها فيهما؟ فالجوابُ أنّ التثنية وهذا الضربَ من الجمع، لمّا كانا على منهاج واحد في سلامة لفظ الواحد، وزيادةٍ مّا تدلّ على التثنية والجمع، ووجب إسقاطُ الألف من أحدهما، أسقطوها من الآخَر، ليتّفقا، ولا يختلفا. ونظيرُ ذلك: "يَعِدُ"، و"يَزِنُ"، والأصلُ: "يَوْعِد"، و"يَوْزِن"، فحذفوا الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، ثمّ أتبعوا باقيَ المضارع في الحذف، إذ كان طريقُها في المضارعة واحدًا. فإن قيل: ولِمَ أزالوا الواو من علامةِ رفع التثنية، وجعلوا مكانَها الألفَ مع حصول الفرق بين التثنية والجمع بفتحِ ما قبل الواو في التثنية وضمِّ ما قبلها في الجمع؟ قيل: كرهوا أن يستعملوا حرفَيْن من حروف المدّ، ويطرحوا الثالثَ، وقد كانت الحركاتُ المأخوذة منهنّ مستعمَلاتٍ في الواحد. واستعملوا الألف في التثنية دون الجمع لوجهَيْن: أحدُهما: أن ما قبل الياء في التثنية مفتوحٌ مُشاكِلٌ للألف. والوجهُ الثاني: أنّ التثنية أكثرُ من الجمع، ألا ترى أن كلَّ ما يجوز جمعُه هذا الجمعَ يجوز تثنيتُه، وليس كلُّ ما يجوز تثنيتُه يجوز أن يُجمع جمعَ السلامة؟ فجُعلت الألفُ فيما يكثر استعمالُه لخفّتها؛ لأنّهم يعتنون بتخفيفِ ما يكثر على ألسِنتهم، ولذلك نظائر كثيرةٌ. وإنّما استعملوه في المرفوع دون المجرور؛ لأنّ الجرّ لازم في الاسم لا يكون إلا فيه، وليس كذلك الرفعُ، فإنّه يكون فيه، وفي الفعل، فكان تغييرُ ما ليس بلازمٍ أوْلى. ووجهٌ آخر: أنَّ الواو أثقلُ من الياء، فلمّا وجب إبدالُ إحداهما بالألف، كانت الواوُ أوْلى لثقلها، مع أنّهم كرهوا أن يقولوا: "الزيدَوْن"؛ لأنّه يُشْبِه لفظَ ما جُمع من المقصور جمعَ السلامة، نحوِ: "المُصْطَفَوْنَ" وَ"المُعَلَّوْنَ". واعلم أنّ الألف والياء حرفا إعرابٍ بمنزلة الدال من "زيد" والراء من "جعفر". هذا مذهبُ سيبويه، وهو قولُ أبي إسحاق، وابن كَيْسانَ، وأبي بكر بن السَّرّاج. واحتجّوا بأنّ حكمَ الإعراب أن يدخل الكلمةَ بعد دلالتها على معناها، للدلالة على اختلاف أحوالها من الفاعليّة والمفعوليّة ونحوِهما، نحوِ قولك: "جاءني زيدٌ"، و"رأيت زيدًا"، و"مررت بزيدٍ"، فيختلف حالُ الاسم بحسبِ اختلاف الإعراب، وذاتُ الاسم واحدةٌ لا تختلف. فلمّا كان الواحدُ دالاً على مفردٍ، وبزيادة حرفَي التثنية دالاً على اثنين، كان حرفُ التثنية من تمام الاسم، ومن جملةِ صيغةِ الكلمة، وصار كالهاء في "قائمة"، والألف في
"حُبلَى"؛ لأنّ الألف والهاء زِيدَا لمعنى التأنيث، كما زيد حرفُ التثنية لمعنى التثنية، وصارا حرفَي إعراب كذلك في التثنية. وقال أبو الحسن: ليست هذه الحروف حروفَ إعراب، ولا إعرابًا، لكنّها دليلُ الإعراب، فإذا رأيتَ الألف، علمتَ أنّ الاسم مرفوعٌ، وإذا رأيت الياء؛ علمت أنّ الاسم مجرورٌ أو منصوب. وإليه ذهب أبو العبّاس محمّد بن يزيد، واحتجّ بأنّها لو كانت حروفَ إعراب، لَمَا عرفتَ بها رفعًا من نصب، ولا جرٍّ، كما أنّك إذا سمعتَ دالَ "زيد"، لم تدلّ على رفع ولا نصب ولا جرّ، فلمّا دلّت على الإعراب، عُلم أنّها ليست حروفَ إعراب. وهذا الاعتلالُ ليس بلازمٍ؛ لأنّه يجوز أن يكون الحرف من نفس الكلمة، ويفيد الإعرابَ. ألا ترى أنّا لا نختلف أن الأفعال المعتلّةَ الآخِر، نحوَ: "يَغْزُو"، و"يَرْمِي"، و"يَخْشَى" جزمُها بسقوطِ هذه الحروف منها، وذلك كقولك: "لم يَقْضِ"، و"لم يَغْزُ"، و"لم يَخْشَ". فإذا كان الإعرابُ قد يكون بحذفِ شيء من نفس الكلمة، جاز أن يكون بإثباته، ومن ذلك قولُك: "أبوك"، و"أخوك"، و"أباك"، و"أخاك"، و"أبيك"، و"أخيك"، فالواوُ قد أفادت الرفعَ، والألفُ قد أفادت النصب، والياءُ قد أفادت الجرّ، وهنّ حروفُ الإعراب بلا خلاف عندنا. فإن قيل: فهلّا دلّ انقلابُ ألف التثنية إلى الياء في حال الجرّ، وإلى الواو في حال الرفع، أنّها ليست حروف إعراب، قيل: انقلابُها لا يُخْرِجها عن كونها حروفَ إعراب بعد أن قام الدليلُ على ذلك. ألا ترى أنّا لا نختلف في أنّ ألفَ "كِلَا" حرفُ الإعراب منها، وأنت مع ذلك تقلبها ياءً في النصب والجرّ، نحوَ قولك: "جاءني الزيدان كلاهما"، و"رأيتُهما كِلَيْهما"، و"مررت بهما كِلَيْهما"؟ ومن ذلك الأسماءُ المعتلّة، نحوُ: "أخوك"، و"أبوك"، وأخواتِهما، فإنّها تكون في الرفع واوًا، وفي النصب ألفًا، وفي الجرّ ياءً، ومع ذلك لا نختلف في أنّها حروفُ إعراب على ما سبق. وأمّا قوله: إنّها ليست بإعرابٍ، فهو صحيحٌ، وهو مذهب سيبويه، وقيل: مذهبُ سيبويه أن الألف والياء في التثنية إعرابٌ، فالألف بمنزلة الضمّة، والياء بمنزلة الكسرة والفتحةِ. والأولُ المشهور من مذهبه. وقال أبو عمر الجَرميّ: الألفُ حرفُ إعراب كما قال سيبويه، وانقلابُها هو الإعراب. ولا يكاد ينفكّ من ضُعْف، وذلك أنّه يجعل الإعرابَ في الجرّ والنصب معنّى، لا لفظًا؛ لأنّ الانقلاب معنى؛ واللفظُ هو المقلوب، فيجعل إعرابَه في الرفع لفظًا لا معنًى. فخالف بين جهات الإعراب في اسم واحد، وذلك معدومُ النظير. وكان الزِّياديّ والفرّاء يذهبان إلى أنّ الألف في التثنية إعرابٌ، وكذلك الياء. وقد تقدّم القول بأنّ الإعراب إذا أُزيل، لم يختلّ معنى الكلمة، وأنت متى أسقطتَ الألف أو الياء، اختلّ معنى التثنية، فعُلم بذلك أنّهما ليستا بإعراب. ويدل على أن الألف في التثنية
ليست إعرابًا قولُهم: "مِذْرَوانِ" (¬1)، ألا ترى أنّ الألف لو كانت إعرابًا؛ لَوجب أن تنقلب الواوُ في "مِذْرَوان" ياءً, لأنّها رابعةٌ، وقد وقعتْ طرفًا كما قُلبت في "أغْزَيْتُ"، و"أدْعَيْتُ". ووجودُ هذه الألف في اسم العدد من نحوِ "اثنان" دليلٌ على أنّها ليست إعرابًا؛ لأن أسماء العدد كلَّها مبنية، نحوَ: "ثلاثهْ، أربعهْ، خمسهْ"؛ لأنها كالأصوات موقوفةُ الآخِر. وأمّا الزيادة الثانية، وهي النون، فهي عوضٌ من الحركة والتنوين اللذَيْن كانا في الواحد، وذلك أن الاسم، بحُكْم الاسميّة والتمكُّنِ، تلزمه حركةٌ وتنوينٌ. فالحركةُ دليلُ كونه فاعلاً أو مفعولاً ونحوَهما من المعاني، والتنوينُ دليلُ كونه منصرفًا متمكّنًا. وأنتَ إذا ثنّيتَه بضمِّ غيره إليه، امتنع من الحركة والتنوين، ولم تُزِل التثنيةُ ما كان له بحقّ الاسمية والتمكُّن، فعُوِّض النون من الحركة والتنوين. فإن قيل: فأنت تقول: "الرجلان" و"الزيدان"، فتُثْبِت النونَ مع الألف واللام، والتنوينُ لا يثبت مع الألف واللام، فلِمَ قلتم: إِنّ النون عوضٌ من الحركة والنون جميعًا؟ فالجواب أنّ النون دخلت قبل دخول الألف والسلام عوضًا من الحركة والتنوين، ثمّ دخلت الألف واللام للتعريف؛ لأنّ التثنية لا تصحّ مع بقاء تعريفه. ألا ترى أنّك لو رُمْتَ تثنية "الرجل" مع بقاءِ ما فيه من التعريف، لرُمْتَ مُحالاً؛ لأنّ "الرجل" معيَّنٌ مقصودٌ إليه، فإذا ثنّيناه، زال التعيينُ، وصار من أُمّةٍ كل واحد له مثلُ اسمه. وهذان معنيان متدافعان، فصحّ أنّك لمّا أردتَ تثنيتَه، نزعتَ عنه الألفَ واللام، حتى صار نكرةً، ودخلت النون عوضًا من الحركة والتنوينِ، ثمّ دخلت الألف واللام حينئذ للتعريف، ولم يُزيلا النونَ كما أزالا التنوينَ؛ لأنّ التنوين ساكنٌ زائلٌ في الوقف، والنون متحرّكةٌ ثابتةٌ في الوقف، فلم يقويا على حذفها. وإنّما كان المعوَّض نونًا من قِبَل أنّه كان ينبغي أن يكون أحدَ حروف المدّ واللِّين لِما تقدّم من خفّتها، ولو فعلوا ذلك، لزِمهم قلبُها أو حذفُها لاجتماعها مع ألف التثنية أو يائها. فلمّا كان يؤدّي إلى تغيير أحدها، عدلوا إلى أقرب الحروف شَبَهًا بها، وهي النون، فزيدت، وكانت ساكنة، وقبلها الألفُ أو الياءُ ساكنةً، فكُسرت لالتقاء الساكنين. فإن قيل: ولِمَ حُرّكت النون لالتقاء الساكنين؟ وهلّا حُذفت الألف لذلك. فالجوابُ أنّه كان القياس حذفَ الألف لالتقاء الساكنين؛ لأنّ حرف المدّ إذا لَقِيَه ساكنٌ بعده، فإنّه يُحذف لالتقاء الساكنين؛ لأن حركةَ ما قبله تدل عليه، وذلك نحوُ: "لم يَخَفْ"، و"لم يَهَبْ"، و"لم يَقُلْ"، و"لم يَبعْ". والأصل: يَخَاف، ويَهاب، ويَقُول، ويَبِيع. وإنما لمّا سكن حروفُ الإعراب للجازم، التقى في آخِر الفعل ساكنان: حرفُ الإعراب، وما قبله من حروف المدّ، فحُذف حرفُ المدّ لالتقاء الساكنين. وإنّما امتنع حذفُ حرف التثنية، ¬
لسكون النون بعده من قِبَل أنّه جيء به للدلالة على معنى التثنية. فلو حذفتَه، لذهبتْ دلالتُه، وكان يكون نقضًا للغرض كما لو ادُّغم، نحوُ: "مَهْدَدٍ" (¬1)، و"قَرْدَدٍ" (¬2)، فلذلك حُرّكت النون، ولم تُحذف الألف لهذا المانع. فإن قيل: ولِمَ خُصّت بالكسر دون غيرها من الحركات؟ قيل: لوجهَيْن: أحدُهما: أنّ الأصل في حركةِ التقاء الساكنين الكسرُ، فكُسرت نونُ التثنية على أصل التقاء الساكنين. والوجهُ الثاني: أنّهم أرادوا الفرق بين نون التثنية ونون الجمع. ولمّا كان ما قبل نون التثنية ألفًا، وما قبل نون الجمع واوًا، والألفُ أخفُّ من الواو، كسروها مع الألف، وفتحوها مع الواو، لتكون الكسرةُ التي هي ثقيلةٌ مع الألف التي هي خفيفةٌ، والفتحةُ التي هي خفيفةٌ مع الواو التي هي ثقيلةٌ، فيعتدل الأمرُ. فإن قيل: فأنت تقول في الجرّ والنصب: "مررت بالزيدَيْنِ"، و"ضربت الزيدَيْنِ"، وقبلها ياءٌ، فهلّا عدلتَ إلى الفتحة، لأجل الياء كما فعلتَ في "أيْنَ" و"كَيْفَ"؟ قيل: الياء في التثنية ليست بلازمة على حدّ لزومها في "أين" و"كيف"، ألا تراك تقول في الرفع الذي هو الأصل: "رجلان"، و"فرسان"، فلا تلزم النونَ الياءُ كما تلزم الياءُ النونَ والفاءَ في "أين" و"كيف"؟ فلِعدم لزوم الياء في التثنية، وكونِ الرفع هو الأصلَ، أجروا البابَ على حكم الأصل الذي هو الألفُ، وإنّما الياءُ بدلٌ مع تنكّبِ اختلافِ حالِ نون التثنية، على أنّ من العرب من يفتح نون التثنية في حال الجرّ والنصبَ، ويُجْرِي الياء، وإن كانت غيرَ لازمة، مُجرى الياء اللازمة في نحوِ "أيْنَ" و"كَيْفَ"، فيقول: "مررت بالزيدَيْنَ"، و"ضربتُ الزيدَينَ". حكى ذلك البغداديّون، وأنشدوا لحُمَيْد بن ثَوْر [من الطويل]: 677 - على أحْوَذِيَّيْنَ اسْتَقَلَّتْ عَشِيَّةً ... فما هي إلا لَمْحَهٌ فَتَغِيبُ ¬
وأنشد قُطْرُبٌ لامرأةٍ من فَقْعَسَ [من الرجز]: 678 - يا رُبَّ خالٍ لك مِن عُرَيْنَة ... حَجَّ على قُلَيِّصٍ جُوَيْنَة فَسْوتُهُ لا تَنْقَضِي شَهرَيْنَهْ ... شَهْرَيْ رَبِيعٍ وجُمادَيَيْنَهْ وقد فتحها بعضُهم في موضع الرفع، أنشد أبو زيد في نَوادِره [من الرجز]: أعْرِفُ منها الجِيدَ والعَينانا ... ومَنْخَرَيْن أشْبَهَا ظَبْيانَا (¬1) وقد حُكي عن بعضهم أنّه ضمّ النون في التثنية، نحوَ: "الزيدانُ" و"العمرانُ". وهذا من الشذوذ بحيث لا يُقاس غيرُهما عليهما. ¬
وهذا معنى قوله: "لِتكون الأُولى عَلَمًا لضمِّ اسم واحد إلى اسم واحد"، يعني الألف في الرفع، والياء في الجرّ والنصب. جعلوهما دليلاً على التثنية، وعوضًا من الاسم المحذوف. و"الأُخرى عوضًا ممّا مُنع من الحركة والتنوين"، يعني النون على ما ذكرنا. قال صاحب الكتاب: ومن شأنه إذا لم يكن مثنَّى منقوصٍ أن تبقَى صيغةُ المفرد فيه محفوظةً، ولا تسقُط تاءُ التأنيث إلا في كللمتَيْن: "خُصْيانِ"، و"ألْيانِ"، قال [من الرجز]: 679 - كأَنَّ خُصْيَيْهِ من التَّدَلْدُلِ ... [ظَرفُ عَجُوزٍ، فيه ثِنْتَا حَنْظَلِ] وقال [من الرجز]: 680 - يَرْتَجُّ ألْياهُ ارْتِجاجَ الوَطْبِ * * * ¬
قال الشارح: ومن شرط المثنّى أن تسلم صيغةُ واحده في التثنية، ولا تُغيَّر عمّا كانت عليه في حال الإفراد، وذلك من قِبَل أنّ لفظ الاسم المثنّى دالّ على المحذوف، فلو غُير بزيادةٍ فيه أو نقصٍ منه، لم يبق دالا على ما حُذف، وشيءٌ آخرُ أنّ المثنّى في معنى العطف. فكما أنّك في حال العطف لا تُغيِّر المعطوف عليه، كذلك في التثنية التي هي في معناه، ولا فرق في ذلك بين المذكّر والمؤنّث. فإن كان في المؤنث علامةُ تأنيث، فإنّها تثبت، ولا تُحذف كما حُذفت في الجمع، نحوِ: "مسلماتٍ" و"صالحاتٍ"، بل تأتي بها، فتقول: "قائمتانِ"، و"قاعدتانِ"، فتُثبِت التاء لِما ذكرتُه، ولأنّ التاء علمُ التأنيث. فلو حُذفت، لالتبس بالمذكّر، وليس كذلك الجمعُ في مثلِ "مُسْلماتٍ" و"قائماتٍ"؛ لأنّ التاء الثانية تُغْنِي عنها في الدلالة. ولم تُحذف التاء في التثنية إلَّا في موضعَيْن شَذَّا عن القياس. قالوا: "خُصْيان"، و"ألْيان" والقياس: خُصْيَتانِ، وألْيَتانِ، لأنّ الواحدة خُصْيَةٌ, وألْيَةٌ، قالت امرأةٌ من العرب [من الرجز]: 681 - لَسْتُ أُبالِي أنْ أكونَ مُحْمِقَهْ (¬1) ... إذا رأيتُ خُصْيَة مُعَلَّقَهْ وربّما قالوا: "خِصْيَةٌ" بالكسر، كأنّهم ثنّوا "خُصْيًا" بغيرِ تاء، جاؤوا في المثنّى على ¬
[سقوط نون المثني بالإضافة وألفه بملاقاة ساكن]
ما لم يُستعمل، كما جاؤوا بشيء من المجموع على غير واحده، نحوِ: "حاجَةٍ"، و"حَوائِجَ"، و"شَبَهٍ"، و"مَشايِهَ"، و"ذَكرٍ"، و"مَذاكِيرَ". ويجوز أن يكون بنوا "خصيتان"، و"أليتان" على التثنية، كم بنوا "مذْرَوانِ"، ثمّ أسقطوا التاء حينئذ، لئلّا يصير عَلَمُ التأنيث حَشوًا من كلّ وجه. وليس كـ "قائمتان"؛ لأنّ التثنية في تقدير الانفصال. قال أبو عمرو: الخُضيَتان: البَيْضَتان، والخُصْيان: الجِلْدتان اللتان فيهما البيضتان، فأمّا قول الراجز، أنشده سيبويه [من الرجز]: كأن خُصْيَيْهِ من التَّدَلْدُلِ ... ظَرْفُ عَجُوزٍ فيه ثِنْتَا حَنْظلِ فشاهد على حذف التاء في التثنية، وذلك على قولِ من لا يفرق، وفيه شذوذان: أحدهما حذف التاء من "خُصْيَةٍ" في التثنية، هذا الشذوذُ من جهة القياس دون الاستعمال، والآخرُ قوله: "ثنتا حنظل"، والقياسُ أن يقول: "حَنْظَلَتانِ". والتَّدَلْدُلُ: الاضطراب، وخصّ ظرفَ العجوز، لأنّها لا تستعمل طِيبًا ولا غيرَه ممّا تتصنّع به النساءُ للرجال، وإنّما تذخَر فيه ما تتعانى به من الحنظل ونحوه. فأمّا "ألْيَة"، فلم يُسمَع فيها إلا الفتح. وفي التثنية: ألْيانِ، وأنشد [من الرجز]: يرتح ألْياهُ ارتجاجَ الوَطْبِ والقياس: ألْيَتاه، فحذف التاء لِما ذكرناه، وحذف النون للإضافة. والوَطْبُ: النَّحْيُ، أو ارتجاجُه: اضطرابُه إذا كان مملوءًا. وقوله: "إذا لم يكن مثنَّى منقوصِ" يريد إلا أن يكون الاسم المثنّى منتقصًا منه في حال الإفراد، نحوِ: "أخٍ" و"أبٍ"، فإنّك تُغيره برَدّه إلى أصله من ظهورِ ما حُذف منه، نحوِ: "أخَوانِ"، و" أبَوانِ"، فاعرفه. * * * [سقوط نون المثني بالإضافة وألفه بملاقاة ساكن] قال صاحب الكتاب: وتسقط نونه بالإضافة كقولك غلاماً زيد، وثوبي عمرو، وألفه بملاقاة ساكن كقولك التقت حلقتا البطان (¬1). * * * قال الشارح: وتسقط نون التثنية للإضافة، نحوَ: "جاءني غلاما زيد"، و"رأيت ¬
ثَوْبَيْ عمرو". والأصل: غلامان وثوبَيْن. وذلك أنّ النون عوضٌ من الحركة والتنوين، والتنوينُ لا يثبت مع الإضافة، فكذلك ما هو بدلٌ منه. فإن قيل: النون عوضٌ من الحركة والتنوين جميعًا على ما قرّرتم، والحركةُ تثبت مع الإضافة، نحوَ قولك: "جاءني غلامُ زيد"، و"رأيت غلام زيد"، و"مررت بغلامِ زيد"، فلِمَ حذفتم النون في الإضافة مع ثبوتِ أحدِ بَدَلَيْها، وهو الحركةُ؟ فالجواب: أنّه لمّا ثَبُتَتِ النون مع الألف واللام في نحو: "الرجلان"، و"الغلامان" مع أنّ أحد بدلَيْها - وهو التنوين - لا يثبت معهما، حُذفت مع الإضافة، مع أنّ أحد بدلَيْها -وهو الحركة- لا يُحذف، كأنّ ذلك لضرب من التعادُل والتَّقاصِّ. فإن قيل: فهلّا ثبتتْ مع الإضافة، وحُذفت مع الألف واللام، قيل: المضاف إليه محلّه محلُّ التنوين آخِرًا، ومحلُّ الألف واللام أوّلاً، فكان حذفُ النون مع الإضافة أوْلى لوجودِ ما يقوم مقامَه، ويحُلّ محلَّه. ووجهٌ ثانٍ، وهو أنّ المضاف والمضاف إليه كاسم واحد، والنونُ والتنوينُ يفصلان الكلمةَ عمّا بعدها، والألفُ واللام تفصل الكلمةَ أيضًا؛ لأنّهما يمنعان إضافة ما يدخلان عليه كفصلِ النون والتنوين، فكأنّ زيادة النون مع الألف واللام فيه تأكيدٌ لمعناها، ومع الإضافة نقضٌ للغرض بالإضافة. ومع ذلك لو حذفوها مع الألف واللام، ربّما وقعوا في لبسٍ؛ لأنّهم قد يُلْحقون الواحدَ المنصوبَ ألفَ الإطلاق في القوافي، وفي أواخرِ الآي، نحوِ قوله تعالى: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (¬1) {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (¬2)، ونحوِ قول الشاعر [من الوافر]: أقِلِّي اللَّوْمَ عاذِلَ والعِتابَا (¬3) فلو أسقطوا النون في حالِ دخول الألف واللام، لم يُعلَم: أواحدٌ هو، أم مثنًّى. وقد ذهب بعضهم إلى أنّ للنون في التثنية أحوالاً ثلاثةً: حالاً تكون فيه عوضًا من الحركة والتنوين، وحالًا تكون فيه عوضًا من الحركة وحدَها، وحالًا تكون فيه عوضًا من التنوين وحدَه. أمّا كونُها عوضًا من الحركة والتنوين، ففي كلّ موضع لا يكون الاسمُ المتمكِّن فيه مضافًا، ولا معرّفًا بالألف واللام، نحوَ: "رجلان" و"غُلامان". ألا ترى أنّك إذا أفردتَ الواحد على هذا الحدّ، وجدتَ فيه الحركة والتنوين جميعًا، نحوَ: "رجلٌ" و"غلامٌ"، فالنون عوضٌ عمّا يجب في ألفِ "رجلان" التي هي حرف الإعراب بمنزلةِ لامِ "رجل". فأمّا الحال التي تكون فيها نونُ التثنية عوضًا من الحركة وحدَها، فمع لام ¬
فصل [تثنية المقصور]
التعريف، نحوَ: "الرجلان" و"الغلامان". ألا ترى أنّك لو أفردتَ هذا الاسم، لم تجد فيه إلا الحركةَ وحدَها، نحوَ قولك: "الرجلُ"، و"الغلامُ". والحالُ التي تكون فيها النونُ عوضًا من التنوين وحدَه، فهو إذا كان مضافًا، نحوَ: "غلاما زيدٍ"، و"فرسا خالدٍ". ألا تراك تحذفها كما تحذف التنوينَ للإضافة؟ والصحيحُ المذهب الأوّل، وقد تقدّمت الدلالةُ على صحّته. واعلم أنّه قد تُحذف أيضًا ألفُ التثنية، وذلك إذا لقيها ساكنٌ بعدها من كلمة أُخرى، كقولك: "جاءني غلاما ابْنك" و"الْتَقَتْ حَلْقَتَا البِطانِ" (¬1). حُذفت النون للإضافة، والألفُ لسكونها وسكونِ ما بعدها، وهو الباء في "ابنك"، واللام في "البطان"؛ لأنّ الهمزة زائلةً في الوصل. فإن قلت: فأنت قد منعت من حذفها لسكون نون التثنية بعدها، فما بالُك حذفتها ها هنا؟ وما الفرقُ بين الموضعين؟ فالجواب أنّ الفرق بينهما أنّ نون التثنية لازمةٌ للمثنّى بمنزلةِ حرف من حروف الكلمة، وليس كذلك إذا كان من كلمتَيْن؛ لأنّه ليس بلازمٍ أن يُضاف إلى ما فيه ألفَّ ولامٌ، أو همزةُ وصلٍ. ألا تراك تقول: "هذان غلاما زيد، وصاحبا عمرو"، فكان الساكنُ إذا كان من كلمة أُخرى أمرًا عارضًا، والعارضُ لا اعتدادَ به. ألا تراك لا تُعيد المحذوفَ في "رمتِ المرأةُ" و"لم يقمِ الرجل"، وإن كانت التاء والميم قد تحرّكتا، إذ الحركةُ فيهما ليس أمرًا لازمًا، ولذلك قال: وتُحذف ألفه، يريد ألف المثنّى بمُلاقاةِ ساكنٍ، يعني من كلمتَيْن على ما ذكرنا، فاعرفه. فصل [تثنية المقصور] قال صاحب الكتاب: ولا يخلو المنقوص (¬2) من أن تكون ألفه ثالثة, أو فوق ذلك. فإن كانت ثالثة وعرف لها أصلٌ في الواو أو الياء, ردت إليه في التثنية كقولك قفوان وعصوان وفتيان ورحيان، وإن جهل أصلهما نظر فإن أميلت قلبت ياء كقولك: متيان وبليان في مسمين بـ "متى" و"بلى"، وإلا قلبت واواً كقولك: "لدوان" و"إلوان" في مسمين بـ "لدي" و"إلى". * * * قال الشارح: اعلم أنك إذا ثنّيتَ المقصور، وهو كلّ اسم وقعتْ في آخِره ألفٌ مفردةٌ، نحوُ: "رَحّى"، و"عَصًا"، فلا يخلو إمّا أن يكون ثُلاثيًّا، أو زائدًا على الثلاثة. ¬
فإن كان ثلاثيًّا، نظرتَ، فإن كانت ألفُه منقلبة عن ياء، رددتَها في التثنية إلى الياء، كقولك في "رَحًى": "رَحَيانِ"، وفي "فَتًى": "فَتَيانِ". قال الله تعالى: {وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ} (¬1). فإن قيل: فمن أين علمتم أن ألفَ "رحى"، و"فتى" من الياء؟ قيل: لقولهم فيه: "رَحَيْتُ بالرحى" إذا طحنت بها، ولقولهم في جمعِ "فَتًى": "فِتْيانٌ" و"فِتْيَةٌ"، فظهورُ الياء فيما ذكرنا دليلٌ على أنّها من الياء. فإن قيل: ففي "رحى" لغتان: يُقال: "رحَيْت بالرحى"، و"رحَوْت" بالياء والواو، فلِمَ قلتم: "رَحَيانِ" لا غيرُ؟ قيل: الحكمُ في التثنية على الغالب الأكثر، والأكثرُ: "رحيت" بالياء. قال الشاعر [من الوافر]: 682 - كَأنَّا غُدْوَةً وَبَنِي أبِينَا ... بجَنْبِ عُنَيْزَةٍ رَحَيَما مُدِيرِ فإن كانت الألف منقلبةً عن واو، رددتَها في التثنية إلى الواو، نحوَ: "قَفًا"، و"عَصًا"، و"رَجًا" واحدِ أرْجاءِ البِئْر، وإنّما قالوا في "قَفُا": "قَفَوانِ"، لقولك: "قَفَوْتُ الرجلَ" إذا تبعتَه من خَلْفه، وفي "عصًا": "عَصَوانِ"، لقولك: "عَصَوْتُه بالعصا" إذا ضربتَه بالعصا، وتقول في "رَجًا": "رَجَوانِ". قال الشاعر [من الوافر]: 683 - فَلَا يُرْمَى بِيَ الرَّجَوانِ إنّي ... أقَلُّ القَوْمِ مَن يُغْنِي مَكانِي ¬
فإن قيل: ولِمَ قُلبت الألف إلى الواو والياءِ؟ وهلّا حُذفت لالتقاء الساكنين على حدّ الحذف في "إقامةٍ"، و"إصابة"؟ فالجواب أنّه إنّما وجب تحريكُها لالتقاء الساكنين، ولم تُحذف؛ لأنّا لمّا أدخلنا الألفَ للتثنية، اجتمعت مع الألف التي هي لامُ الكلمة، ولم يمكن حذفُ إحداهما خوفًا من لبسٍ، فلمّا بطل حذفُ إحداهما لِما ذكرناه، وجب التحريكُ، ولم يمكن تحريكُ الألف؛ لأنّها مدةٌ لا تكون إلا ساكنةً. وقد عُلم أنّ الاسم إذا كان على ثلاثةِ أحرف، والثالثُ ألفٌ، أنّ الألف منقلبةٌ عن ياء أو واو، فرُدّت في التثنية إلى ما هي منقلبةٌ عنه. وكان ذلك أوْلى من اجتلابِ حرف أجنبيّ، ألا ترى أنّك لو ثنّيت مثلَ "رَحّى"، و"عَصّا"، و"حُبْلَى"، فكان يلزم، إذا أضفتَ، حذفُ النون، قلتَ: "عصَا زيد"، و"رحَا عمرو"، و"حُبْلى القوم"، فيلتبس الواحدُ بالتثنية، ولا يُعلمَ أواحدًا تريد أم اثنين. فإن جُهل أمرُها، نظرتَ، فإن كان سُمع فيها الإمالة، قُلبت في التثنية ياءً. فعلى هذا، لو سمّيتَ بـ "بَلى" و"مَتى"، ثمّ ثنّيتَهما، فإنّك تقلب ألفهما ياءً في التثنية؛ لأنّه قد سُمع فيهما الإمالةُ، أمّا "بلى" فإنّها، وإن كانت حرفًا، فإنّها على أبنيةِ الأسماء من ذواتِ الثلاثة، وتَكْفِي في الجواب، فصارت كأنّها دلّت دلالةَ الأسماء، فأُميلت لذلك. وأمّا "متى" فأُميلت لقوّة الاسميّة، فعلى هذا تقول: "مَتَيانِ"، و"بَلَيانِ"، في تثنيةِ مَن اسمُه "مَتَى" و"بَلَى". ولو سمّيتَ بـ "إلَى" و"لَدَى" و"إذَا"، قلبتَ ألفَهنَّ واوًا؛ لأنّ أمرها مجهولٌ، ولم يُسمع فيهنّ الإمالةُ. وليس شيءٌ من الأسماء أصلُه الياء، وتمتنع منه الإمالةُ. هذا أصلٌ مستمِرٌّ عند البصريين لا يختلفون فيه. وذهب الكوفيون إلى أنّ ما كان من الثلاثيّ مفتوحَ الأوّل كان على العِبْرة التي ذكرناها، وما كان مكسورَ الأوّل أو مضمومَهُ، قلبوه إلى الياء، ¬
وإن كان من الواو، وكتبوه بالياء، نحوَ: "الضُّحَى"، و"الرُّشَى"، و"الحُبَى". والحقُّ مع البصريين للقياس والسَّماع، أمّا القياس فقد ذُكر، وأمّا السماع فما حكاه أبو الخَطّاب أنّه سمع في تثنيةِ "كِبًا"، وهو العُود الذي يُتبخّر به: "كِبَوانِ"، وحكى الكسائيّ منهم أنّه سمع في "حِمًى" "حِمَوانِ"، وفي "رِضًا" "رِضَوانِ"، وهذا نصٌّ في محلّ النِّزاع، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وإن كانت فوق الثلاثة لم تقلب إلا ياء كقولهم أعشيان وملهيان وحبليان وحباريان (¬1). وأما مذروان (¬2) فلأن التثنية فيه لازمةٌ كالتأنيث في شقاوة (¬3). * * * قال الشارح: فإن كان المقصور فوق الثلاثة، قُلبت ألفه في التثنية ياءً على كلّ حال، وذلك من قِبَل أنّ المقصور إذا زاد على الثلاثة، لم تكن ألفه منقلبةٌ إلا عن ياء، أو مشبَّهةّ بالمنقلب عنها، سواءً كان أصلُها الياءَ، أو لا أصلَ لها. فمثالُ الأوّل "أعْشَى"، و"ملْهًى"، ونحوُهما من قولك: "مَغْزًى" و"مُعْطًى"، فهذه الألفاظُ أصلها الواو؛ لأنّ "أعْشَى" من عَشَا يَعْشُو من قوله [من الطويل]: مَتَى تَأتِهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ نارِهِ ... تَجِدْ خَيْرَ نارٍ عندها خَيْرُ مُوقِدِ (¬4) و"ملْهًى" من اللَّهْو، و"مَغْزًى" من الغَزْو، و"مُعْطًى" من "عَطَا يَعْطُو". وإنّما لمَّا وقعت الواو رابعةً، قُلبت ياءً. وهذه قاعدةٌ من قواعد التصريف أنّ الواو إذا وقعت رابعةً طرفًا؛ فإنّها تُقلَب ياءً، نحوَ: "أدْعَيْتُ"، و"أغْزَيْتُ". فعلوا ذلك حملاً له على المضارع في "يُغْزي" و"يُدْعى". فأصلُ هذا القلب في الفعل، والاسمُ محمولً عليه، فالأصلُ في "أعْشَى": "أعشَوُ"، وفي "ملْهًى": "ملْهَوٌ"، وفي "مَغْزًى": "مَغْزَوٌ"، وفي "مُدْعًى": "مُدعوٌ"، فحُوّل إلى "أعْشَيٌ" و"مُلْهَيٌ"، و"مَغْزَيٌ" و"مُدْعَيٌ"،، ثْم صارت ألفًا لتحرّكها، وانفتاح ما قبلها. فهذه الألفُ منقلبهٌ عن ياء، والياءُ بدلٌ من الواو. وأمّا المنقلبة عن الياء أصلاً، فنحوُ: "المَرْمَى"، و"المَجْرَى". تقول: "مَرْمَيانِ"، و"مَجْرَيانِ"، وهو من "رَمَيْتُ، و"جَرَيْتُ". وأمّا المشبَّه بالمنقلب، فنحوُ ألف "حُبْلَى"، و"حُبارَى"، و"أرْطًى"، و"قَبَعثَرى"، فالألفُ في "حُبْلَى" للتأنيث، وليست منقلبة عن شيء، لكنّها في حكم المنقلب عن الياء، إذ الواو لا تقع طرفًا رابعةً، ولذلك تُكتَب ياءً، ¬
فصل [تثنية الممدود]
وتسوغ فيها الإمالةُ. ولو صُرْفت لكان بالياء، نحوَ: "حَبْلَيْتُ "، و"حَبْرَيْتُ". والألفُ في "أرْطى" للإلحاق بـ "جَعْفَرٍ"، وألفُ "قبعثرى" زائدةٌ لتكثير الكلمة. وحكمُها في شَبَه المنقلبة عن الياء حكمُ ألف التأنيث، لذلك قُلبت في التثنية ياءً، فقلتَ: "حُبْلَيانِ"، و"أرْطَيانِ"، و"قَبَعْثَريانِ". هذا مذهب البصريين فيما جاوَزَ الثلاثةَ من المقصور، قلّتْ حروفُه أو كثُرت، وأمّا الكوفيون (¬1) فيحكون عن العرب أنّه إذا تَعدَّى المقصورُ الأربعةَ، وكثُرت حروفُه، حذفوا ألفَه في التثنية. ولم يفرق أصحابُنا بين القليل والكثير. فأمّا "مِذْرَوانِ" وهما أطرافُ الألْيَتَيْن، وهما أيضًا الموضعان اللذان يقع فيهما الوَتَرُ من القوس. قال عَنْتَرَةُ [من الوافر]: أحَوْلِي تَنْفُضُ اسْتُكَ مِذْرَوَيْها ... لِتَقْتُلَنِي فَهَا أنَا ذَا عُمارَا (¬2) فقد كان ينبغي أن يُقال: "مِذْرَيَيْها" بالياء على قياسِ تثنية المقصور الزائد على الثلاثة من نحوِ "مَلْهًى"، و"مَغْزًى"، غيرَ أنّ التثنية على ضربَيْن: أحدُهما: أن يلحق الاسمَ فيها حرفُ التثنية، ويكون في تقدير الانفصال. والآخرُ: أن تُصاغ على التثنية، ولا يُقدَّر فيها انفصالُ الواحد كما قُدّر في الوجه الأوّل، ولكن بُني على التثنية، فالأوّلُ كقولك: "رجلٌ ورجلان"، و"عَصًا وعَصَوانِ"، وجميعُ ما تقدّم. والثاني كقولهم: "مِذْرَوان"، و"عقلتُه بثِنايَيْن" (¬3). فهذا بُني على التثنية، كما بُني نحوُ: "الشَّقاوَة"، و"العَظايَة"، و"الإداوَة" على التأنيث من غير تقديرِ دخول التاء على المذكّر. فلولا ذلك، لانقلبت الواو والياء همزة، كما تنقلب في "رِدَاءَيْن"، فلا مفردَ لكلّ واحد من "مذروَين"، و"ثنايَين"، كما أنّه لا مذكرَ لـ "للإداوة" و "الشقاوة" ونحوهما، فاعرفه. فصل [تثنية الممدود] قال صاحب الكتاب: وما آخره لا تخلو همزته من أن يسبقها ألف أو لا. ¬
فالّتي سبقتْها ألفٌ على أربعةِ أضرب: أصليةٌ كـ "قُرّاءٍ"، و"وُضّاءٍ"، ومنقلبةٌ عن حرفٍ أصلٍ كـ "رِداء" و"كِساءٍ"، وزائدةٌ في حُكْم إلأصلية كـ "عِلْباءٍ" (¬1) و"حِرْباءٍ" (¬2)، ومنقلبةٌ عن ألفِ تأنبث كـ "حَمْراءَ" و"صَحْراءَ". فهذه الأخيرةُ تُقلَب واوًا، لا غيرُ، كقولك: "حَمْراوانِ" و"صَحْراوان". والبابُ في البَواقِي أن لا يُقْلَبْنَ، وقد أُجيزَ القلبُ أيضًا. والتي لا ألفَ قبلها، فبابُها التصحيحُ كـ "رَشَأ" (¬3)، "وحِدَأ" (¬4). * * * قال الشارح: اعلم أنّ ما آخِرُه همزة من الأسماء على ضربَين: ممدودٌ وغيرُ ممدود. فالممدودُ كلّ اسم وقعت في آخره همزة قبلها ألفٌ زائدةٌ، نحوُ: "كِساءِ"، و"رِداءٍ" ونحوِهما من نحو"سِقاءٍ" و"غطاء"، و"شَقاءٍ". وغيرُ الممدود كلُّ اسم كان في آخِره همزةٌ لا ألفَ قبلها، نحوُ: "خَطَأ"، وَ"رَشَأ"، ونحوِهما من نحو"حِدَأ" و"قارِئ" و"مُنْشِىءٍ"، فالمهموزُ أعمُّ من الممدود، إذ كلُّ ممدود مهموزٌ؛ لأن في آخره همزةً، وليس كل مهموز ممدودًا. والهمزة في آخر الممدود على أربعة أضرب: تكون أصلاً، وبدلاً من أصل، وزائدةً في حكم الأصل، وزائدةً للتأنيث. فالأصلُ نحو: "قُرّاء" و"وُضاء". والذي يدلّ على أنها أصل ثبوتُها في تصرّفها من الفعل، نحوُ: "قَرَأْتُ"، و"تَوَضَّأْتُ"، فتجدُها ثابتةً في تصاريف الفعل. وأمّا كونها بدلاً من أصل، فنحوُ: "كِساءٍ"، و"رِداءٍ"، فهذه الهمزة ليست أصلاً ولا زائدةً، وإنما هي بدلٌ من حرف أصليّ، كقولك: "فلانٌ حسنُ الكِسْوَةِ والرِّدْيَةِ". فالواو في "الكسوة" والياء في "الردية" هي الهمزةُ في "كساء" و"رداء" مقلوبة عنهما. وأمّا كونُها زائدة للإلحاق، فنحوُ: "عِلْباءٍ"، و"حِرْباءٍ" الهمزة فيه للإلحاق بـ "سِرْداحٍ" و"حِمْلاقٍ". والحقُّ من أمرها أنّها بدلٌ من ياء مزيدة للإلحاق كأنّ الأصل "عِلْبايٌ"، و"حِرْبايٌ"، ثمّ وقعت الياء طرفًا بعد الألف زائدةً، فقُلبت اْلفًا، ثمّ قُلبت الألف همزةً، ومثلُه العمل في "كساء" و"رداء". والذي يدلّ أن الأصل ما ذكرنا من أمرِ هذه الهمزة أتهم لمّا أنّثوا هذا الضربَ، ¬
أظهروا الحرف المنقلب، وذلك نحوُ: "دِرْحايَةٍ" (¬1)، و"دِعْكايَةٍ" (¬2). وإنّما قال: إنّها في حكم الأصل؛ لأنّها للإلحاق، فالهمزةُ بإزاءِ الحاء في "سِرْداح" (¬3)، والقاف في "حِمْلاق" (¬4). وأمّا كونها زائدة للتأنيث، فنحوُ: "حَمْراءَ" و"صَحْراءَ"، فالهمزة فيهما زائدةٌ للتأنيث. والحقٌ فيها أنّها بدلٌ من ألف التأنيث في "حُبْلَى" و"سَكْرَى". وإنما قُلبت همزةً لاجتماعها مع ألف المدّ قبلها، وسيوضَح أمرُها في موضعه من هذا الكتاب. فإذا ثنّيت الممدودَ، فإن كانت همزتُه للتأنيث، نحوِ: "حمراء" و"صحراء"، قلبتَها واوًا أبذا، نحوَ قولك: "هاتانِ حَمْر اوانِ وصَحْراوانِ"، و"رأيت حمراوَيْنِ وصحراوَيْنِ"، و"مررت بحمراوَيْن وبصحراوَيْن". وإنما قلبوها هنا، ولم يُقِرّوها على لفظها، حملاً لها على الجمع المؤنّث السالم والنسبِ من نحوِ: "صَحْراوات"، و"خُنْفساوات"، و"صَحْراويّ"، و"حمْراويّ"، لاجتماعهنّ في سلامة الواحد وزيادة الزائدَيْن في الآخِر منهنّ للمعنى. وإنّما قُلبت في النسب، لئلاّ يصير علمُ التأنيث حَشْوًا، مع أنّك لو نسبتَ إليه مؤنّثًا، لاجتمع في الكلمة علامتَا تأنيث، نحوَ: "حَمْرائيّة" و"صَحْرائيّة". وذلك لا يجوز. وأبدلوا منها في الجمع واوًا، لئلّا يجمعوا في اسم بين علامتَيْ تأنيث. فإن قيل: ولِمَ كان البدلُ واوًا، ولم يكن ياء؟ فالجواب أنّ الذي دعاهم إلى القلب في "صحراوات" و"صحراوِيّ" الفِرارُ من علامتَيْ تأنيث، وكانت الياءُ ممّا يؤنَّث بها في مثلِ "اذْهَبِي"، و"انْطَلِقِي"، فعدلوا عنها إلى الواو؛ لأنّها لا تكون للتأنيث، وقيل: اختاروا الواو للفرق بينها وبين المقصورة. فإن كانت همزته زائدة للإلحاق، نحوَ: "عِلْباء" و"حِرْباءٍ"، ففيه وجهان: أجودُهما: إقرار الهمزة بحالها، نحوُ: "علباءانِ" و"حرباءانِ"؛ لأنّ الهمزة فيه ليست للتأنيث. والثاني: أن تُبدِلها واوًا كما فعلت بهمزة التأنيث، فتقول: "عِلْباوان"، و"حِرْباوان"؛ لأنّها وإن لم تكن للتأنيث، لكنّها شابهتْ "حَمْراءَ" وبابَها بالزيادة، فحُملت عليها. وهذا شَبَهٌ لفظي؛ لأنّا لا نشُكّ أن "حمراء" وبابها لم تُقلَب لكونها زائدة. وإن كان مثنًّى، نحوِ: "كِساء"، و"رِداء"، فالوجه والباب إقرارُ الهمزة، نحوُ ¬
فصل [تثنية المحذوف لامه]
قولك: "كساءانِ"، و"رداءانِ"، و"رأيت كِساءَيْن ورداءَيْن"، و"مررت بكساءَيْن ورداءَيْن". ويجوز قلبُها واوًا، فتقول: "جاءني كساوانِ ورداوان"، و"رأيت كساوَيْن ورداوَيْن" حملًا لها على همزة "عِلْباء" و"حِرْباء"، من حيث كانت الهمزة في "كساء" و"رداء" بدلاً من حرفٍ ليس للتأنيث. ثمّ إنّهم تَجاوزوا هذا إلى أن قالوا: "قُرّاوان" و"وُضّاوان"، فشبّهوا همزةَ "قُرّاءٍ" و"وُضّاءٍ" بهمزةِ "كِساء" و"رِداء"، من حيث كانت لامًا غيرَ زائدة، كما أن همزةَ "كساء" و"رداء" غيرُ زائدة. فإذا القلبُ في "حمراوان" هو الأصل، قال أبو عمرو: وكلُّ العرب تقول: "حمراوان". وربّما قالوا: "حمراءان"، فلم يقلبوها تشبيهًا بهمزة "علباء" من حيث هما زائدان. حكى ذلك محمّد بن يزيد عن أبي عثمان. والقلبُ في "علباء" أقوى منه في "كساء". والقلبُ في "كساء" أقوى منه في "قُرّاء" و"وُضّاء". والداعي لهم إلى هذه الإلحاقات والحملِ حاجتُهم إلى التوسّع في اللغة. وحكى الكسائيّ عن العرب: "كسايان"، و"ردايان" بالياء، فصار فيه ثلاثُ لغات. وأجاز ذلك أجمعَ في باب "حمراء" فقال: "حمراوان" بالواو، و"حمراءان" بالهمزة، و"حمرايان" بالياء. وأجاز الكوفيون (¬1) فيما طال من الممدود حذفَ الحرفَيْن الآخِرَيْن، فقالوا: "قاصِعان"، و"نافِقان" في "قاصِعاءَ" (¬2)، و"نافِقاءَ" (¬3). فإن ثنّيت نحوَ "رَشَأ" و"فَرَأ" ونحوَهما ممّا هو مهموز غيرُ ممدود فليس إلا وجهٌ واحدٌ، وهو إقرارُ الهمزة نحوُ "رشأان"، و"فرأان" لأنّ الهمزة فيه أصليّةٌ لم يوجَد فيها ما وُجد في الممدود، فاعرفه. فصل [تثنية المحذوف لامه] قال صاحب الكتاب: والمحذوف العجز يرد إلى الأصل ولا يرد، فيقال أخوان وأبوان ويدان ودمان وقد جاء يديان ودميان قال [من الكامل]: 684 - يديان بيضاوان عند محلم ... [قد تمنعانك أن تضام وتضهدا] ¬
وقال [من الوافر]: 685 - فلو أنا على حجر ذبحنا ... جرى الدميان بالخبر اليقين * * * قال الشارح: اعلم أنّ المحذوفَ العجز، وهو الساقطُ اللام، على ضربَيْن: ضربٌ ¬
يُرَدّ إليه الحرف الساقط في التثنية، وضربٌ لا يردّ إليه. فمتى كانت اللام الساقطة ترجع في الإضافة، فإنّها تردّ إليه في التثنية. لا يكون إلا كذلك، وإذا لم يرجع الحرفُ الساقطُ في الإضافة، لم يرجع في التثنية، فمثالُ الأوّل: "أخٌ" و"أبٌ"، تقوله في تثنيتها: "هذان أخَوان وأبَوان"، و"رأيت أخوَيْن وأبوَيْن"، و"مررت بأخوَين وأبوَيْن"؛ لأنّك تقول في الإضافة: "هذا أبوك وأخوك"، و"رأيت أباك وأخاك"، و"مررت بأبيك وأخيك"، فترى اللامَ قد رجعت في الإضافة، فكذلك رددتَها في التثنية. وذلك لأنّا رأينا التثنية قد ترُدّ الذاهبَ الذي لا يعود في الإضافة، كقولك في "يَدٍ": "يَدَيانِ"، وفي "دَمٍ": "دَمَيانِ"، وأنت تقول في الإضافة: "يَدُك" و"دمُك"، لا تردّ الذاهب. فلمّا قويت التثنيةُ على ردّ ما لم تردّه الإضافةُ، صارت أقوى من الإضافة في باب الردّ، فإذا ردّت الإضافةُ الحرفَ الذاهب، كانت التثنية أوْلى بذلك وأجدر. ومثالُ الثاني "يَدٌ" و"دمٌ"، فإنّك تقول في التثنية: "يَدانِ" و"دَمانِ"، فلا تردّ الذاهب؛ لأنّك لا تردّه في الإضافة، فأمّا قول الشاعر [من الكامل]: يَدَيانِ بَيْضاوانِ عند محَلِّمٍ ... قد تَمنَعانِكَ أن تضامَ وتُضْهَدَا ويُروى: محَرِّقٍ. والشاهد فيه قوله: "يَدَيان" بردّ الساقط. ومثلُه قول الآخر [من الوافر]: فلو أنّا على حجر ... إلخ وحمله أصحابُنا على القلّة والشذوذ، وجعلوه من قبيل الضرورة. والذي أراه أنّ بعض العرب يقول في "اليَدِ": "يَدّى" في الأحوال كلّها، يجعله مقصورًا كـ "رَحى" و"فَتًى". منْ ذلك قولُ الراجز: 686 - يا رُبَّ سارٍ باتَ ما تَوَسَّدَا ... إِلّا ذِراعَ العَنْسِ أو كَفَّ اليَدَا ¬
وتثنيتُها على هذه اللغة: "يَدَيانِ" مثلُ "رَحَيانِ"، وكذلك "دَمٌ"، يقال منقوصًا ومقصورًا. وعليه قولُ الشاعر [من الطويل]: 687 - فلَسْنَا على الأَعْقابِ تَدْمَى كُلْومُنا ... ولكِنْ على أَقْدامِنا يَقْطُرُ الدَّمَا فلذلك قال: "جَرَى الدَّمَيان"، كما تقول: "فَتَيان" و"رَحَيان". ومُحَلِّمٌ: ملكٌ من ملوك اليَمَن، وقوله: "جَرَى الدَّمَيان بالخبر اليقين" يصف ما بينهما من العَداوة والبَغضاء، ¬
فصل [تثنية الجمع]
حتىّ إنّهما لو ذُبحا على حجر واحد، لَمَا امتزج دِماؤهما. والبيت لمِرداس بن عمرو وقيل للأَخْطَل، وقبله: لَعمْرُكَ إنَّنِي وأَبَا رَباحٍ ... على طولِ التَّجاوُرِ بَعْدَ حِينِ لأبْغِضُة ويُبغِضُنِي وأَيْضًا ... يَرانِي دُونَه وأراهُ دُونِي وأمّا "هَنٌ"، فمن قال فيه: "هنك"، ولم يردّ الذاهبَ في الإضافة؛ قال في تثنيته: "هَنانِ"، و"هَنَيْن" ومن. قال: "هذا هَنُوك"، و"رأيت هَنَاك"، و"مررت بهَنِيك"، قال في التثنية: "هَنَوان وهَنَوَيْن"، فردّ الساقطَ، فاعرفه. فصل [تثنية الجمع] قال صاحب الكتاب: وقد يثنى الجمع على تأويل الجماعتين والفرقتين وأنشد أبو زيد [من الطويل]: 688 - لنا إبلان فيهما ما علمتم ... [فعن أيها ما شئتم فتنكبوا] ¬
وفي الحديث: "مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين" (¬1). وأنشد أبو عبيد [من البسيط]: 689 - لأصبح الحي أوباداً ولم يجدوا ... عند التفرق في الهيجا جمالين وقالوا: "لقاحان سوداوان", وقال أبو النجم [من الرجز]: 690 - [تبقلت في أول التبقل] ... بين رماحي مالك ونهشل * * * ¬
فصل [جعل المثني علي لفظ الجمع]
قال الشارح: القياس يأبى تثنيةَ الجمع، وذلك أنّ الغرض من الجمع الدلالةُ على الكثرة، والتثنيةُ تدلّ على القلّة، فهما معنيان متدافِعان. ولا يجوز اجتماعُهما في كلمة واحدة، وقد جاء شيءٌ من ذلك عنهم على تأويلِ الإفراد، قالوا: "إبِلان"، و"غَنَمان"، و"جملان". ذهبوا بذلك إلى القطيع الواحد، وضمّوا إليه مثلَه، فثنّوه. أنشد أبو زيد [من الطويل]: هُما إِبِلانِ فيهما ما عَلِمْتُمُ ... فَعَنْ أَيّها ما شِئْتُمُ فتَنَكبُوا وقالوا: "لِقاحان سَوْداوان" حكاه سيبويه (¬1)، وإنَّما "لِقاحٌ" جمعُ "لِقْحَةٍ"، وقالوا: "جِمالان" يريدون قطيعَيْن منها. قال الشاعر [من البسيط]: لأصبح الحي ... إلخ فالتثنية تدلّ على افتراقها قطيعَيْن. ولو قال: "لِقاحٌ"، أو"جِمالٌ"، لَفُهم منه الكثرةُ، إلا أنّه لا يدلّ على أنّها مفترقةٌ قطيعين. وهو في "إبلان" أسهلُ؛ لأنّه جنسٌ، فهو مفردٌ، وليس بتكسير كـ "جَمَل" و"جِمال"، ومن ذلك قول أبي النَّجْم [من الرجز]: تَبَقَّلَتْ في أوّلِ التَّبَقُّلِ ... بين رِماحَيْ مالِكٍ ونَهْشَلِ أَعلمَ بالتثنية افتراقَ رماح هؤلاء من رماح هؤلاء. فأمّا قوله عليه السلام: "مَثَلُ المُنافِقِ كالشاة العائِرة بين الغَنَمَيْنِ"، فإنّه شبّه المنافقَ، وهو الذي يُظْهِر أنّه من قوم وليس منهم، بالشاة العائرة، وهي المتردّدة بين الغنمَيْن، أي: بين القطيعَيْن، لا تعلم من أيِّ القطيعين هي. يقال: سَهْمٌ عائرٌ، وحَجَرٌ عائرٌ، إذا لم يُعلَم من أَيْنَ هو، ولا مَن رماه. فصل [جعل المثني علي لفظ الجمع] قال صاحب الكتاب: وتجعل الاثنان على لفظ الجمع إذا كانا متصلين (¬2) كقولك: ¬
"ما أحسن رؤسهما! " وفي التنزيل: {فاقطعوا أيديهما} (¬1) وفي قراءة عبد الله {أيمانهما} (¬2) , وفيه: {فقد صغت قلوبكما} (¬3).وقال [من السريع]: 691 - [ومهمهين قذفين مرتين] ... ظهراهما مثل ظهور الترسين فاستعمل هذا والأصل معاً. ولم يقولوا في المنفصلين: "أفراسهما", ولا "غلمانهما". وقد جاء: "وضعا رحالهما". * * * قال الشارح: اعلم أن كلَّ ما في الجَسد منه شيءٌ واحدٌ لا ينفصل كالرأس، والأنف، واللسان، والظهر، والبطن، والقلب، فإنّك إذا ضممتَ إليه مثلَه؛ جاز فيه ثلاثةُ أوجه: أحدُها الجمع، وهو الأكثر، نحو قولك: "ما أحسن رؤُوسهما! " قال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬4). وإنّما عبّروا بالجمع، والمرادُ التثنية من حيث إنّ التثنية جمعٌ في الحقيقة؛ ولأنه ممّا لا يُلْبِس ولا يُشكِل؛ لأنّه قد عُلم أنّ الواحد لا يكون له إلا رأسٌ واحدٌ، أو قلب واحد، فأرادوا الفصل بين النوعَيْن، فشبّهوا هذا النوع بقولهم: "نحن فعلنا"، وإن كانا اثنين في التعبير عنهما بلفظ الجمع. وكان الفرّاء يقول: إنّما خُصّ هذا النوع بالجمع نظرًا إلى المعنى؛ لأنّ كلَّ ما في الجسد منه شيءٌ واحدُ فإنّه ¬
يقوم مقامَ شيئَيْن، فإذا ضُمّ إلى ذلك مثلُه، فقد صار في الحكم أربعةً، والأربعةُ جمعٌ. وهذا من أصول الكوفيين الحسنة، ويؤيّد ذلك أنّ ما في الجسد منه شيء واحد؛ ففيه الدِّيَةُ كاملةٌ كاللسان والرأس، وأمّا ما فيه شيئان، فإنّ فيه نصفَ الدية. والوجه الثاني التثنية على الأصل وظاهرِ اللفظ، نحو قولك: "ما أحسنَ رَأْسَيْهما وأسلمَ قلبيهما! " قال الشاعر [من الطويل]: 692 - بِمَا في فُؤادَيْنا من الهَمِّ والهَوَى ... فيَبْرَأُ مُنْهاضُ الفُؤادِ المُشَعَّفُ (¬1) فأمّا قول خِطام المُجاشِعيّ [من الرجز]: ومهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْنْ ... ظَهْراهما مِثْلُ ظُهورِ التُّرْسَيْنْ جِبْتُهما (¬2) بالنَّعْت لا بالنَّعْتَيْنِ فإنَّ الشاهد فيه تثنيةُ "الظَّهْر" على الأصل. والكثيرُ الجمع لما ذكرناه مع كَراهيةِ اجتماع التثنيتَيْن في اسم واحد؛ لأنّ المضاف إليه من تمام المضاف. يصف مفازة قَطَعَها، والمَهْمَهُ: القَفْرُ، والقَذَفُ بالفتح: البعيدُ، والمَرْتُ: الأرض التي لا تنبُت، كأنّهما فَلاتان لا نَبْتَ فيهما، ولا شخصَ يُستدلّ، فشبّههما بالتُّرْسَيْن. وجَمَعَ بين اللغتَيْن بقوله: "ظهراهما مثل ظهور الترسَيْن". وقوله: "جُبْتُهما (2) بالنعت"، أي: خرقتُهما بالسير، أىِ: بأنْ نُعِتَا لي مرّةً واحدةً. ¬
والوجه الثالث: الإفراد، نحو قولك: "ما أحسن رأسَهما! " و"ضربتُ ظَهْرَ الزيدَيْن". قال الشاعر [من البسيط]: 693 - كأنه وَجْهُ تُرْكِيَّيْن قد غَضِبَا ... [مُسْتَهدِفٌ لِطعانٍ غير مُنْجَحِرِ] وذلك لوضوح المعنى، إذ كلُّ واحد له شيءٌ واحدٌ من هذا النوع، فلا يُشْكِل، فأتى بلفظ الإفراد، إذ كان أخفّ. فإن كان ممّا في الجسد منه أكثرُ من واحد، نحو: "اليَد"، و"الرِّجْل"، فإنّك إذا ضممته إلى مثله، لم يكن فيه إلا التثنيةُ، نحو: "ما أبسطَ يَدَيْهما، وأخف رِجْلَيْهما! " لا يجوز غيرُ ذلك، فأمّا قوله تعالى: {وَاَلسَّارِقُ وَاَلسَارِقَةُ فَاَقْطَعوَأ أَيدِيَهُمَا} (¬1)، فإنّما جمع؛ لأنّ المراد الايْمانُ، وقد جاء في قراءة عبد الله بن مسعود {فاقطعوا أيْمانَهما}. وكذلك المنفصل من نحو"غلام"، و"ثوب"، إذا ضممت منه واحداً إلى واحد، لم يكن فيه إلا التثنية، نحو: "غلامَيْهما"، و"ثَوْبَيْهما" إذا كان لكلّ واحد غلامٌ وثوبٌ. ولا يجوز الجمعُ في مثلِ هذا؛ لأنه ممّا يُشْكِل ويُلْبس، إذ قد يجوز أن يكون لكلّ واحد غِلْمانٌ وأثوابٌ، وقد حكى بعضُهم: "وَضَعَا رِحالَهما"، كأنّهم شبّهوا المنفصل بالمتّصل، وهو قليل، فاعرفه. ¬
المجموع
ومن أصناف الاسم المجموع فصل [نوعاه] قال صاحب الكتاب: وهو على ضربين: ما صح فيه واحده، وما كسر فيه, فالأول ما آخره واو أو ياء مكسور ما قبلها بعدها نون مفتوحة، أو ألف أو تاء, فالذي بالواو والنون لمن يعلم في صفاته وأعلامه كـ "المسلمين" و"الزيدين"، إلا ما جاء من نحو: "ثبون", و"قلون" و"أرضون" و"أحرون" و"إوزون". والذي بالألف والتاء للمؤنث في أسمائه وصفاته كـ "الهندات" و"التمرات" و"المسلمات". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الجمع ضَمُّ شيء إلى أكثرَ منه، فالتثنيةُ والجمعُ شريكان من جهةِ الجمع والضمّ، وإنّما يفترقان في المقدار والكَمّيّة. والغرضُ بالجمع الإيجازُ والاختصارُ، كما كان في التثنية كذلك، إذ كان التعبيرُ باسم واحد أخفّ من الإتيان بأسماء متعدّدةٍ. وربّما تَعذّر إحصاء جميع آحادِ ذلك الجمع، وعطفُ أحدها على الآخر. وهو على ضربَيْن: جمعُ تصحيح، وجمعُ تكسير. فجمعُ الصحّة ما سلم فيه واحدُه من التغيير، وإنّما تأتي بلفظه البتّةَ من غير تغيير، ثمّ تزيد عليه زيادة تدلّ على الجمع، كما فُعل في التثنية، ويقال له: جمعٌ سالمٌ؛ لسلامة لفظِ واحده من التغيير، ويقال: جمعٌ علي حد التثنية لسلامةِ صدره كما كان المثنّى كذلك. وربّما قالوا: جمعٌ على هِجائَيْن؛ لأنّه يكون مرّة بالواو والنون، ومرّة بالياء والنون. وإنّما جُعل التثنية أصلًا في السلامة؛ لأنّ المثنّى لا يكون إلّا سالمًا، والجمعُ قد يكون منه سالمٌ، وغيرُ سالم. ألا ترى أنَّه ليس كلُّ الأسماء يُجمع جمعَ السلامة، فإنّه لا يقال في "مَسْجِدٍ": "مسجدون"، ولا في "حَجَرٍ": "حَجَرون"؟ وإنّما المجموعُ منها جمعَ السلامة أسماءٌ مخصوصةٌ، وليست التثنيةُ كذلك، إذ لا تكون إلّا سالمةً مصحَّحًا فيها لفظ الواحد نحو قولك في "مسجد": "مسجدان"، وفي "حَجَر": "حَجَران". والمجموع جمعَ السلامة على ضربَيْن: مذكّرٌ ومؤنّثٌ، فالمذكّر يكون آخِرُه في الرفع بالواو والنون نحو: "الزيدُونَ"، و"المسلمُونَ"، وفي الجرّ بالياء المكسورِ ما قبلها
والنون، نحو: "الزيدِينَ" و"المسلمِينَ". والنصبُ محمول على الجرّ كما كان كذلك في التثنية. وإنما اشتُرط في الياء أن يكون ما قبلها مكسورًا تحرُّزًا من ياء التثنية، فإن التثنية في الجرّ والنصب بالياء، ويكون ما قبل يائها مفتوحًا. ولم يُشترط في الواو أن يكون ما قبلها مضمومًا؛ لأنّ من المجموع ما يكون ما قبل الواو فيه مفتوحًا، وهو المقصور، نحو: "المُصْطَفَوْنَ"، و"المُعَلَّوْنَ". وقد تقدّمت العلّةُ في جعلِ، رفع الاثنين بالألف ورفعِ الجمع بالواو في فصل التثنية بما أغنى عن إعادته. وهذه الواو حرفُ الإعراب كما كانت الألف في التثنية كذلك، وهي علامةُ الرفع والجمع والقلّةِ، فإنه لا يُجمع على هذا الجمع إلّا ما كان من الثلاثة إلى العشرة، فهو من أبنيةِ القلة، فإن أُطلق بإزاء الكثير، فتجَوُّزٌ. والحقيقةُ ما ذكرناه، وإنما كان كذلك؛ لأنّ هذا الضرب من الجمع على منهاج التثنية، فكان مثله في القلّة. وليس كل الأسماء يُجمع هذا الجمعَ، إنما يُجمع منها بالواو والنون ما كان مذكرًا عَلَمًا لمن يعقل، أو لصفاتِ من يعقل، وذلك نحو: "الزيدون"، و"المسلمون"، فلو قلت في "هِنْد": "هِنْدون"، لم يجز؛ لأنّه وإن كان عَلمًا يعقل، فليس مذكّرًا، ولو قلت في "حَجَرٍ": "حجرون"، أو في "صَخرٍ": "صَخْرون"، لم يجز؛ لأنّه ليس بعَلَم عاقل، فلو سميتَ رجلًا بـ"حجر" أو"صخر"، جاز جمعه بالواو والنون؛ لأنه بالتسمية قد جَمع الأوصافَ الثلاثة. وإنّما قال: "لمن يعلم"، ولم يقل: "لمن يعقل"؛ لأنّ هذا الجمع قد وقع على القديم سبحانه، نحو قوله: {والْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ} (¬1)، وقوله: {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ} (¬2) وقوله: {أَمْ نَحنُ الزَّارِعُونَ} (¬3)، وهو كثير، فلذلك عدل عن اشتراط العقل إلى العلم, لأنّ البارئ يوصَف بالعلم ولا يوصف بالعقل. وإنّما قال: "لمن يعلم"، ولم يقل: "لأوُلي العلم"؛ لأنّ البارئ سبحانه عالمٌ لذاته، لا بعِلْمٍ عنده، فجرى في العبارة على قاعدةِ مذهبه. فإن قيل: ولِمَ كان الجمع بالزيادة، ولم يكن بالنُّقْصان؟ قيل: لما كان الجمع تكثيرَ الواحد، وجب تكثيرُ حروف الواحد للدلالة على الجمع، لتكون الزيادةُ كالعوض من الأسماء الساقطة. هذا هو القياس إلّا أن توجَد علّةٌ تقتضي الحذفَ والتخفيفَ. فإن قيل: ولِمَ فُرق بين جمع من يعقل، وما لا يعقل؟ قيِل: القياس يقتضي التفرقةَ بين جمعِ من يعقل، وبين جمع ما لا يعقل، وبين كل مختلفَيْن في لفظٍ، أو معنى. هذا هو الأصل، إلّا أن يدخل شيءٌ في غير بابه لضرب من المشاكلة. فإن قيل: ولِمَ اختصّ هذا الجمعُ بأعلامِ من يعقل وصفاتهم؟ قيل: لمّا كانت الحاجة ماسّةً إلى الأعلام للإخبار عن كل شخص ممن (¬4) يعقل بما له أو عليه، من تبايُع ¬
ومُعامَلة وغيرِها، كانوا بثباتها مُعتنين. وتصحيح ألفاظها لفرطِ اهتمامهم بها، فجعلوا لجمعها لفظًا يحفظ صيغتَها من التغيير والتكسير. وأمّا صفاتُهم؛ فإنّها جارية مجرى الأفعال، فزادوا عليها بعد تمامها على الجمع، كما يُفعل ذلك بالفعل في نحو: "يَقُومُونَ"، و"يَضْرِبُونَ" فكما جمعوا أفعالَهم بالواو والنون، كذلك جمعوا صفاتِهم؛ لأنّ الصفة تجري مجرى الفعل. وأمّا النون فكالعوض من الحركة والتنوين اللذَيْن كانا في الواحد على ما بيّنّاه في فصل التثنية، وتحريكُها لالتقاء الساكنين، وهما النون، وما قبلها من حروف اللِّين. وخُصّ الجمع بالفتح، ليُفرَّق بين نون الجمع ونون التثنية، وقد تقدم ذلك. فقد جاءت أسماءٌ مجموعةٌ جمعَ السلامة، وهي مؤنّثةٌ، وليست واقعةً على من يعقل، وهي "ثُبَةٌ"، و"قُلَةٌ"، و"أَرْضٌ"، و"حَرَّةٌ"، و"إوَزَّةٌ". وذلك من حيث كانت أسماء معتلّة منتقصًا منها، وأكثرُها محذوفةُ اللام، فجُعل جمعُها بالواو والنون كالعوض من الذاهب منها، فـ"ثُبَةٌ" بمعنى الجماعة من الناس وغيرهم، وأصلُه: "ثُبوة". والذي يدلّ على ذلك قولُهم: "ثبَّيْتُ الشيء" إذا جمعتَه. قال لَبِيدٌ [من الطويل]: 694 - تُثَبِّي ثَناءً من كَرِيمٍ وَقَوْلِه ... ألا انْعَمْ على حُسْنِ التَّحِيةِ واشْرَبِ فـ"ثَبَّيْتُ" يدلّ على أن اللام حرفُ علّة، وأن الثاء فاءٌ، والباء عينٌ، ولا يدلّ أنّه من واو أو ياء؛ لأنّ الواو إذا وقعتْ رابعةً طرفًا، لا تثبت، ألا تراهم قالوا: "عَدّيْتُ"، و"خَلَيْتُ"، وهو من "العَدْو"، و"الخَلْوَة". لكن لما كان الأكثرُ فيما حُذفت لامُه من الواو، نحو: "أخٍ"، و"أَبٍ"، و"غَدٍ"، و"هَنٍ"، قُضي عليه أنه من الواو، والأكثر في ¬
جمعها "ثُباتٌ" على قياسِ جمع الأسماء المؤنَّثة. قال الله تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (¬1)، فـ"ثُباتٌ" كقولك جماعاتٌ في تَفْرِقَةٍ، قال [من الطويل]: 695 - فلمّا جَلاها بالإِيامِ تَحَيَّزَتْ ... ثُباتٍ عليها ذُلُّها واكْتِئابُها وقد ذهب أبو الحسن إلى أنّه ثُبَةُ الحوْض، وهي وَسَطُه، من "ثابَ الماء إليها"، وأنّ الكلمة محذوفةُ العين. والصوابُ أن يكون المحذوف فيه اللامَ، ويكون من "ثبيْتُ". وذلك أن مجتمع الماء وسطُه. هذا مع كثرةِ ما حُذف لامه من الأسماء، وقلةِ المحذوف العين، ألا ترى أنّه لم يأتِ مما حُذف عينه إلّا في كلمتَيْن، قالوا: "سُهٌ" في "اسْتٍ"، وقالوا: "مُذْ" في "مُنْذُ"؟ وأما "قُلَةٌ" فأصله "قُلْوَة" لقولهم: "قَلَوْتُ بالقُلَة"، وجمعُه "قُلاتٌ"، و"قُلُونَ" لِما ذكرناه، وله نظائرُ من كلامهم، قالوا: "بُرَةٌ"، و"بُرُونَ"، و"سَنَةٌ" و"سِنُونَ"، و"مائَةٌ" و"مِئُونَ". كل ذلك إنما جُمع بالواو والنون عوضا ممّا حُذف لامه، وربّما كسروا أوّله، فقالوا: "ثِبُونَ"، و"قِلُونَ"، و"سِنُونَ". كأنّهم أرادوا أن يدخله ضربٌ من التكسير، ليُعلَم أنّه ليس مصحّحًا من كل وجه، إنّما ذلك لأمر عرض فيه. ويؤكّد عندك أنهم إنّما جمعوه بالواو والنون لضرب من التعويض، أنّهم إذا جمعوه بالتاء، ردّوا ما حُذف منه، وقالوا: "سَنَواتٌ"، وإذا حذفوا، قالوا: "سِنُونَ"، وهذا ظاهرٌ. وأمّا "أَرْضٌ"، و"أَرَضُونَ"، فإنّه وإن لم يكن منتقصًا منه شيءٌ، فيكونَ جمعُه بالواو ¬
والنون عوضًا منه، فإن "أرضًا" اسمٌ مؤنثٌ، والقياسُ في كل اسم مؤنّث أن يدخله علمُ التأنيث، للفرق بينه وبين المذكّر، نحو: "قائم"، و"قائمة"، و"ظريف"، و"ظريفة"، و"رَجُل"، و"رَجُلَة" وأمّا ما تُركت منه العلامةُ، فللخفّة والثِّقةِ بدلالةِ باقي الكلام عليه، قبله أو بعده، و"أرْضٌ" مؤنّثةٌ، فكان فيها هاءٌ مرادةٌ، وكان التقدير: أَرْضَةٌ، فلمّا حُذفت الهاء التي كان القياس يُوجِبها ويستحِقّها عَلَمُ الفرق، عوّضوا منها الجمعَ بالواو والنون، فقالوا: "أَرَضونَ"، وفتحوا الراء في الجمع، ليدخل الكلمةَ ضربٌ من التغيير استيحاشًا من أن يوفوه لفظَ التصحيح ألبتّةَ، وليُعْلِموا أيضًا أن "أرضًا" ممّا سبيلُه لو جُمع بالتاء أن يُفتَح راؤه، فيقال: "أرَضاتٌ"؛ لأنّ "فَعْلَةَ" إذا كان اسمًا، وجُمع بالألف والتاء، فإنّ عينه تُحرَّك في الجمع بالفتح أبدًا، نحو قولهم في "جَفنَةٍ": "جَفَناتٌ"، وفي "قَضعَةٍ": "قَصَعاتٌ"، فرقًا بين الاسم والصفة. وأمّا "حَرَّةٌ"، فهي أرضٌ ذاتُ حجارة سُود كالمُحْرَقة، يقال: "حَرَّةٌ"، و"أَحَرَّةٌ"، والجمعُ "حَرُّون" و"أَحَرَّونَ"، قال الشاعر [من الرجز]: 696 - لا خِمْسَ إلا جَنْدَلُ الأَحَرِّينْ ... والخِمْسُ قد أَجْشَمَكَ الأمَرَّينْ وأصله: "أَخرَرَةٌ" على زنةِ "أَفْعَلَةَ"، فكرهوا اجتماعَ مثلَيْن متحرّكَيْن، فنُقلت حركةُ الأول إلى ما قبله، وهي الحاء، ثمّ ادُّغم أحدهما في الآخر. ومثله "إوزَّةٌ" و"إِوَزُّونَ". قال الشاعر [من البسيط]: 697 - تلْقى الإوَزُّونَ في أَكْنافِ دارَتِها ... فَوْضًى وبين يَدَيها التِّيْنُ مَنْثُورُ ¬
والعمل فيهما واحدٌ، لِما دخل هذا الضربَ من التغيير والادّغام، فيُجُرونه بجمعه على لفظٍ يحفظ صيغةَ واحده، ولا يدخله تغييرٌ آخرُ بسبب الجمع، وقالوا: "حَرَّةٌ"، و"حَرُّونَ"، فجمعوه أيضًا بالواو والنون حملًا على "أَحَرَّينَ"؛ لأنّه من لفظه ومعناه. قال الشاعر [من الرجز]: 698 - فَمَا حَوَتْ نَقْدَةُ ذاتُ الحَرِّينْ مع أن فيه من الادّغام مثلَ ما في "الأَحَرّين"، فاعرفه. وأمّا المؤنّث، فجمعُه السالمُ بالألف والتاء، نحو: "الهِنْدات" و"المسلمات"، وكذلك ما أُلحق بالمؤنّث ممّا لا يعقل من نحو: "جِبال راسِياتٍ"، و"جِمالٍ قائماتٍ" فهذا الضربُ من الجمع إذا زدتَ في آخِره الألفَ والتاء، كالجمع المذكّر السالم في سلامةِ واحده. وقد اختلفوا في هذه الألف والتاء، فقال بعضُ المتقدّمين: التاء للجمع والتأنيث، ودخلت الألف فارقةً بين الجمع والواحد، وقال قومٌ: التاء للتأنيث والألفُ للجمع. والذي عليه الأكثرُ أنّ الألف والتاء للجمع والتأنيث من غيرِ تفصيل. والذي يدلّ على ذلك أمران: أحدهما: إسقاطُ التاء الأولى التي كانت في الواحد في قولك: "مسلماتٌ"، ¬
فلولا دلالةُ الثانية على التأنيث كدلالتها على الجمع؛ لم تسقط التاء الأولى، لئلا يُجمع في كلمة واحدة بين علامتَيْ تأنيث. والأمر الثاني: أنّك لو أسقطتَ أحدهما، لم يُفهَم من الحرف الثاني ما يفهم من مجموعهما من الجمع والتأنيث. فإن قيل: ولِمَ كانت الزيادةُ حرفَيْن؟ وهلّا كانت حرفًا واحدًا. قيل: إنّما زادوا حرفَيْن؛ لأنّ جمعَ المؤنّث السالم فرعٌ على جمع المذكّر السالم، فكما أن المَزيد في جمع المذكر السالم حرفان، كذلك كان مثله في جمع المؤنّث، وكان الزائد الأول حرفَ مدّ ولِين كما كان في التثنية والجمع. وإنّما اختيرت الألفُ دون الواو والياء لخفتها وثقلِ الجمع والتأنيثِ. واختيرت التاء معها لوجهَيْن: أحدهما: أنّها تُشْبه الواوَ، ولذلك أُبدلت منها في مواضعَ كثيرةٍ، نحو: "تُكَأَةٍ"، و"تُخَمَةٍ"، والواو أختُ الألَف. والوجة الثاني: أنّها تدل على التأنيث، فرُكّبت مع الألف ليدلّا على الجمع والتأنيث. وهذه التاء هي حرفُ الإعراب في هذا الجمع؛ لأنها حرفٌ صيغت الكلمةُ عليه لمعنى الجمع، فكانت كالواو والياء في الجمع المذكر السالم، فالتاءُ والضمّةُ عليها بمنزلة الواو في "الزيدون"، والتاء والكسرةُ بمنزلة الياء في "الزيدين". * * * قال صاحب الكتاب: والثاني يعم من يعلم وغيرهم في أساميهم, وصفاتهم كـ "رجال" و"أفراس", و"جعافر" و"ظراف", و"جياد". * * * قال الشارح: قوله: "الثاني" يريد الثاني من ضربَي الجمع، وهو جمع التكسير، وهو يعُم من يعقل وما لا يعقل، نحو: "رِجالٍ"، و"أَفْراَسٍ" والمذكّرَ والمؤنّثَ، نحو: "هُنُودٍ"، و"زُيُودٍ". وإنّما قيل له: "مكسَّرٌ"، لتغيُّرِ بنيته عمّا كان عليها واحدُه، فكأنّك فككتَ بناء واحده، وبنيتَه للجمع بناء ثانيًا، فهو مشبَّهٌ بتكسير الأبنية لتغيُّر بِنْيتها عن حال الصحّة. وهذا التغييرُ يكون تارةً بزيادةٍ، وتارة بنقصٍ، وتارةً بتغييرِ بنيةِ الواحد من غيرِ زيادة ولا نقصٍ في الحروف. فأما التغيير بالزيادة، فنحو: "رَجُلٍ"، و"رِجالٍ"، و"فَرَسٍ"، و"أَفْراسٍ". ومثالُ التغيير بالنقص "إزارٌ"، و"أُزُرٌ"، و"خِمارٌ"، و"خُمُر". وأمّا تغييرُ البناء، فهو راجع إلى تغيير الحركات، نحو: "أَسَدٍ"، و"أُسُدٍ"، و"وَثَنٍ"، و"وُثْنٍ". والأصل في ذلك الجمعُ بالزيادة لِما ذكرناه، نحو: "فَلْسٍ" و"أَفْلُسٍ" و"فُلُوسٍ"، و"كَعْبٍ"، و"أَكْعُبٍ"، و"كِعابٍ". فأمّا "إزازٌ"، و" أُزُرٌ"، و"خِمارٌ"، و"خمُرٌ"، و"أسَدٌ"، و"أُسُدٌ"، و"وثَنٌ"، و"وُثُنٌ"، فمنتقصٌ منه ومقصورٌ من "فُعُولٍ"، وأصله "أُزُورٌ"، و"أُسُودٌ"، لكنّهم حذفوا منه الواو لضرب من التخفيف. واعلم أن إعراب هذا الضرب يكون باختلاف الحركات، نحو: "هذه دُورٌ
وقُصُورٌ"، و"رأيت دورًا وقصورًا"، و"مررت بدورٍ وقصورٍ" بخلافِ جمع الصحّة. وإنّما كان إعرابُه بالحركات؛ لأنّه أشبه المفردَ؛ لأنّ الصيغهَ تستأنف له كما تستأنف للمفرد، وليس كذلك جمعُ السلامة، فإن الصيغة فيه هي صيغةُ المفرد. وإنما زيد عليه زيادة تدل على الجمع، ويؤكّد شَبَهَ التكسير بالمفرد أنهم قد يصفون المفردَ بجمع التكسير، نحو قولهم: "بُرْمَةٌ أعْشارٌ" (¬1)، و"ثَوْبٌ أَسْمالٌ" (¬2)، و"قِدْرٌ أَكْسارٌ" (¬3)، ولا يفعلون ذلك في جمع السلامة فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وحكم الزيادتين في "مسلمون" نظير حكمهما في مسلمان: الأولى علم ضم الإثنين فصاعداً إلى الواحد، والثانية عوض عن الشيئين، وتسقط عند الإضافة. * * * قال الشارح: حكم الزيادتَيْن في الجمع السالم، وهما الواو والنون في الرفع، والياء والنون في الجرّ والنصب، حكم الزيادتَيْن في التثنية، فكما كانت الألف في التثنية عوضًا من ضمِّ اسم إلى اسم، وهو معنى الدلالة على التثنية، والثاني، وهو النون، عوضًا من الحركة والتنوين على ما قرّرناه، فكذلك الواو في الجمع السالم، والياء عوضٌ من ضمِّ الاسمَيْن فصاعدًا إلى الاسم المذكور، وهو معنى الجمع. وفي هذه الواو ستُّ علامات: الجمعُ والتذكيرُ؛ لأنّ هذا الضرب من الجمع إنما هو للمذكرين ممّن يعقل، والسلامةُ، والقلّةُ، وعلامةُ الرفع، وحرف الإعراب، وكذلك الياء. هذا مذهبُ سيبويه، وقد تقدّم ذكرُ الخلاف فيه. وأمّا النون؛ فعوضٌ من الحركة والتنوين اللذَيْن كانا في الواحد على حدّ ما ذكرناه في التثنية، قال: "وتسقطان في الإضافة"، يعني نون التثنية، ونون الجمع، نحو قولك: "جاءني مسلمُو زيدٍ"، و"رأيت مسلمِي زيد"، و"مررت بمسلمِي زيد"، كما تقول: "جاءني غلاما زيد" و"رأيت غلاميْ زيد"، و"مررت بغلامَيْ زيد". وإنّما حُذفت هذه النون في الإضافة؛ لأنها عوضٌ من الحركة والتنوين اللذَيْن كانا في الواحد، والتنوينُ يُحذف مع الإضافة، فحُذفت النون ها هنا كحَذْفه. فإن قيل: فإذا كانت النون عوضًا من الحركة والتنوين جميعًا، فما بالُها تُحذف مع الإضافة مع ثبوتِ أحد بدلَيْها، وهو الحركةُ؟ قيل: لمّا ثبتتْ مع الألف واللام مع حذف أحد ¬
بدلَيْها، وهو التنوين؛ حُذفت مع الإضافة مع ثبوت أحد بدلَيْها، وهو الحركة، ليعتدلا. فإن قيل: فهلّا عُكس الأمر فيهما؟ فالجواب أنّ الإضافة تقتضي الاتّصالَ؛ لأنّ المضاف إليه داخلٌ في المضاف من تمامه، والنونُ تفصل الاسمَ ممّا بعده، فكان إثباتُ النون مع الإضافة نقضًا للغرض بالإضافة. والألفُ واللام يفصلان الاسمَ ممّا بعده؛ لأنهما يمنعان الإضافةَ على حد منع النون؛ فكأنّ في ثبوت النون مع الألف واللام تقريرًا للمعنى، وتأكيدًا له من غيرِ تدافُع. ووجة ثانٍ أنّ الألف قد تلحق الواحدَ المنصوبَ مع الألف واللام في القوافي ورُؤُوسِ الآي، كقوله تعالى: {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} (¬1) {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} (¬2) ونحو قول الشاعر [من الوافر]: أقِلِّي اللَّوْمَ عاذِلَ والعِتابَا (¬3) فلو أُسقط النون مع الألف واللام في التثنية، لالتبست بالواحد فيما ذكرناه فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وقد أجرى المؤنث على المذكر في التسوية بين لفظي الجر والنصب، فقيل: "رأيت المسلمات", و"مررت بالمسلمات"، كما قيل: "رأيت المسلمين", و"مررت بالمسلمين". * * * قال الشارح: قد ذكرنا أن إعراب هذا الجمع بالحركات على القياس، وليس الأمرُ فيه كالتثنية والجمع اللذَيْن إعرابُهما بالحروف، وإذا كان إعرابُه بالحركات، فرَفْعُه بالضمّ، نحو: "هذه مسلماتٌ"، وفي الجرّ: "مررت بمسلماتٍ"، والنصبُ محمولٌ على الجرّ، فيكون في موضع النصب مكسورًا. وإنما حُمل النصب فيه على الجرّ لوجهَيْن: أحدهما: أن جمع المؤنّث السالم فرعٌ على جمع المذكّر السالم، فكما حُمل منصوبُ جمع المذكّر على مجروره في مثل: "مررت بالزيدِينَ" و"رأيت الزيدِينَ"، كذلك حُمل منصوبُ جمع المؤنث السالم على مجروره في مثل: "مررت بالمسلماتِ"، و"رأيت المسلماتِ"، ليكون الفرعُ على منهاج الأصل، ولا يُخالِفه. والوجهُ الثاني: أن جمع المؤنّث السالم يوافق جمعَ المذكّر السالم في أشياء، ويخالفه في أشياء. فأمّا الموافقةُ، ففي سلامة الواحد، وزيادةِ الزيادتَيْن لعلامة الجمع، وكون الزائد الأوّل حرفَ مدّ. وأمّا المخالفةُ، فمن جهةِ أنّ الزائد الثاني -وهو التاء- حرُف الإعراب يجري عليها حركاتُ الإعراب، وليس كذلك الجمعُ المذكرُ، فإن النون لا يدخلها إعرابٌ. ومنها أنّ ¬
الزيادة الأولى التي هي الألف لا تتغير كما تتغيَّر الزيادةُ الأولى في جمع المذكّر، نحو: "الزيدون"، و"الزيدين"، فتكون في الرفع واوًا، وفي الجرّ والنصب ياء. وتثبت الزيادةُ الثانيةُ وهي التاء- في الجمع المؤنّث السالم، ولا تُحذف في الإضافة، نحو: "مسلماتُك". وتُحذف النون من جمع المذكر في الإضافة إذا قلت: "مسلمُوك"، و"مسلمُو زيد". فبالمعنى الذي استويا فيه؛ حُمل أحدهما على الآخر؛ لأنّ الشيء يُقاس على الشيء إذا كانا مشتبِهَيْن في معنًى ما، وإن كانا مختلفَيْن في أشياء أُخَرَ. فبالمشابهة حُمل جمع المؤنّث على جمع المذكّر، بأن جُعل للرفع علامةٌ مفردةٌ، وللجرّ والنصب علامة واحدة اشتركا فيها، فقيل: "جاءني مسلماتٌ"، و"رأيت مسلماتٍ"، و"مررت بمسلماتٍ". ولا يجوز فتحُ هذه التاء عندنا، وأجازه البغداديّون، وأنشدوا لأبي ذُؤَيْب [من الطويل]: فلمّا اجْتَلاها بالإِيامِ تَحَيَّزَتْ ... ثُباتًا عليها ذُلُّها وانْكِسارُها (¬1) وحكوا أيضًا: "سمعتُ لُغاتَهم". ولا حجّةَ لهم في ذلك، لاحتمالِ أن يكون "لُغاتٌ" و"ثُباتٌ" واحدًا، فأصلُ "ثُبَةٍ": "ثُبْوَةٌ"، وأصلُ "لُغَةٍ": "لُغْوَةٌ" مثل "نُقْرَةٍ"، و"ثُغرَةٍ"، وإن كان استعمالُهما بحذف اللام، إلّا أنّهم تمّموهما، كقولهم: "حُلاةٌ"، و"حُلى"، و"مُهاةٌ"، و"مُهَى". وقال أبو الخَطّاب: "واحدُ الطُّلَى طُلاةٌ"، فكذلك لغاتهم تكون على "فُعْلَةَ". وحكى أحمدُ بن يحيي "سِمٌ"، و"سُمٌ"، و"سُماةٌ"، فرَدَّ اللام، وإن كان الاستعمال بحذفها، فلُغاتٌ مثلُ "سُماةٍ". ومثله في الحذف والإتمام قولهم: "غَدٌ" و"غَدوٌ" في قوله [من الرجز]: لا تَقْلُوَاها وادْلُوَاها دَلْوَا ... إنّ مع اليَوْمِ أَخاه غَدْوَا (¬2) ويكون أجرى التاء في المفرد مجراها في الجمع، فردّ اللامَ مع المفرد كما تُرَدّ مع الجمع في قولهم: "أَخَواتٌ"، فإن قالوا: إِضافتُه إلى الجمع تدلّ أنّه جمعٌ؛ قيل: لا تدلّ إضافتُه إلى الجمع على أنّه جمع لاحتمالِ أن يكون من قبيل قوله [من الوافر]: 699 - كُلُوا في بَعْضٍ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإنّ زَمانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ ¬
فأمّا قوله تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} (¬1)، فيحتمل أن يكون من قبيل البيت، اكتفى بلفظ الإفراد عن الجمع لعدم الإلباس، ويجوز أن يكون "السمعُ" مصدرًا، والمراد: مواضعُ سمعهم. ومثله قول الشاعر [من البسيط]: 700 - إنّ العُيُونَ التي في طَرْفِها مَرَضٌ ... قَتَّلْنَنا ثمَّ لم يُحْيِينَ قَتْلانَا فإنّه أفرد "الطرف"، إذ كان مصدرًا كـ"السمع". فإن قيل: فقد قالوا: "استأصل الله عَرْقاتَهم"، أي: شأفَتَهم، بفتح التاء، هكذا جاء في كتاب العَيْن عن الخليل (¬2)، وهذا الاسمُ ليس منتقصًا منه، فيقالَ: تُمِّمَ؛ قيل يحتمل أن يكون "عرقاتهم" واحدًا، والألفُ فيه للإلحاق بـ"دِرْهَم"، فألفُه كألف "مِعْزاةٍ"، و"سِعْلاةٍ"، فاعرفه. ¬
فصل [جمع القلة وجمع الكثرة]
فصل [جمع القلة وجمع الكثرة] قال صاحب الكتاب: وينقسم إلى جمع قلة وجمع كثرة, فجمع القلة العشرة فما دونها، وأمثلته: "أفعل", "أفعال", "أفعلة"، "فعلة"كـ "أفلس" و"أثواب" و"أجربة", و"غلمة". ومنه ما جمع بالواو والنون، والألف والتاء. وما عدا ذلك جموع كثرة (¬1). * * * قال الشارح: كان القياس أن يُجعل لكل مقدار من الجمع مثالٌ يمتاز به من غيره، كما جعلوا للواحد والاثنين والجمع، فلمّا تَعذَّر ذلك إذ كانت الأعدادُ غير متناهيةِ الكثرة؛ اقتصروا على الفصل بين القليل والكثير، فجعلوا للقليل أبنيةً تُغايِر أبنيةَ الكثير، ليتميّز أحدهما من الآخر. والمرادُ بالقليل الثلاثة فما فوقها إلى العشرة، وما فوق العشرة فكثيرٌ. أبنيةُ القلّة أربعةُ أمثلةٍ من التكسير، وهي: أَفْعُلُ مثل: "أَفْلُسٍ"، و"أَكْعُبٍ"، وأَفْعالٌ، مثل: "أَجْمالٍ"، و"أَفْراسٍ"، وأَفْعِلَةُ، مثل: "أَرْغِفَةٍ"، و"أَجْرِبَةٍ"، وفِعْلَةُ، مثل: "غِلْمَةٍ"، و"صِبْيَةٍ". ومن ذلك جمعا السلامة بالواو والنون، نحو: "الزيدون"، و"المسلمون"، والألِف والتاء. فهذان البناءان أيضًا من أبنية القلّة؛ لأنّهما على منهاج التثنية، والتثنيةُ قليلٌ، فكانا مثله. ويدل على أن هذه الأبنية للقلّة أمران: أحدهما: أنّك تُصغِّرها على لفظها، فتقول في تصغير "أفْلُس": "أُفَيْلِسٌ"، وفي "أَجْمالٍ": "أُجَيمالٌ"، وفي "أجْرِبَةٍ": "أُجَيْرِبَةٌ"، وفي "غِلْمَةٍ": "غُلَيمَةٌ". ولو كانت للكثير، لرددتَها إلى الواحد، ثمّ تجمعها بالواو والنون إن كانت لمن يعقل، وبالألف والتاء إن كانت لغيره، نحو قولك في "رِجالٍ"، "رُجَيْلُونَ"، وفي "غِلْمانٍ" "غُلَيمُونَ"، وفي "جِمالٍ": "جُمَيْلاتٌ"، وفي "دَراهِمِ": "دُرَيْهِماتٌ". والثاني: أنّك تُفسِّر به العددَ القليلَ، فتقول: "ثلاثةُ أَفْلُسٍ"، و"أربعةُ أجْمالٍ"، و"خمسةُ أرْغِفَيةٍ"، و"ثلاثةُ صِبْيَةٍ". وكذلك الجمع بالواو والنون، والألِف والتاء. تقول: "ثلاثةُ بَنِينَ"، و"ثلاثُ شجراتٍ". فتَميِيزُك بهذه المجموع العددَ القليلَ دليلٌ على ما قلناه، ولذلك عابوا على حَسّانَ قوله [من الطويل]: 701 - لنا الجَفَناتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ بالضُّحَى ... وأَسْيافُنا يَقْطُرْن من نَجْدَةٍ دَمَا ¬
قالوا: البيت مَدْحٌ، وقد كان ينبغي أن يقول: لنا الجِفانُ البِيضُ؛ لأنّ الغُرّة بَياضٌ يسيرٌ، وكان حقُّه أن يستعمل "السُّيُوف" موضعَ "الأسياف". وهذا، وإن كان الظاهرُ ما ذكروه، إلّا أنّ العرب قد تستعمل اللفظَ الموضوع للقليل في موضع الكثير. من ذلك قوله تعالى: {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} (¬1)، وقال: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} (¬2)، ولا يعِد الكريمُ سبحانه بأن في الجَنَّة غُرُفاتٍ يسيرةً، وكذلك ليس المراد بقوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} العشرةَ فما دونها، وإنما الإخبارُ عن هذا الجنس قليلِه وكثيرِه. وذلك أنّ الجموع قد يقع بعضُها موضعَ بعض، ويُستغنى ببعضها عن بعض، ألا ترى أنّهم قالوا: "رَسَنٌ"، و"أَرْسانٌ"، و"قَلَمٌ"، و"أَقْلامٌ"، واستغنوا بهذا الجمع عن جمع الكثرة؟ وقالوا: "رَجَلٌ"، و"رِجالٌ"، و"سَبُعٌ"، و"سِباعٌ" ولم يأتوا لهما ببناء قلّة؟ وأقيسُ ذلك أن يُستغنى بجمع الكثرة عن القلّة, لأنّ القليل داخلٌ في الكثير. واعلم أنّ هذا الفصل بين أبنية القليل والكثير، إنّما وقع في الثُّلاثيّ لخفّة لفظه وكثرةِ دَوْره، إذ الكلمةُ إذا كثُرت، كثُر التصرُّفُ فيها، ألا ترى أنّهم قد بلغوا ببنات الثلاثة في الزيادة سبعةَ أحرف، نحو: "اشْهيبابٍ" (¬3)، فزيد على الثلاثة أربعةُ أحرف، فلم يُزَدْ على الأربعة أكثرُ من ثلاثة أحرف، نحو: "احْرِنْجامٍ" (¬4)، ولم يُزد على الخمسة أكثرُ من ¬
فصل [إعراب جمع المذكر السالم بالحركات في بعض اللغات]
حرف واحد، نحو: "عَضْرَفُوطٍ" (¬1)، فثبت بما ذكرناه كثرةُ تصرُّفهم في الثلاثيّ، وقلّةُ تصرُّفهم في الرباعي والخماسيّ. فلذلك كان لكل مثال من أمثلة الثلاثي أمثلة كثيرة في الكثرة والقلّة، ولم يكن للرباعيّ إلّا مثالٌ واحدٌ، القليلُ والكثيرُ فيه سواء، وهو "فَعالِلُ"، نحو: "خَناجِرَ"، و"بَراثِنَ". ولم يكن للخماسيّ مثال في التكسير، لانحطاطه عن درجة الرباعيّ في التصرّف، وكان محمولًا على الرباعيّ في جمعه، نحو: "فَرازِدَ" (¬2)، و"سَفارِجَ" (¬3)، كـ "جَعافِرَ". فهو بناءٌ واحدٌ للكثير والقليل بخلاف الثلاثيّ الذي له أبنيةٌ كثيرةٌ. واعلم أن أبنية القلّة أقربُ إلى الواحد من أبنية الكثرة، ولذلك يجري عليه كثيرٌ من أحكام المفرد. ومن ذلك جوازُ تصغيره على لفظه خِلافًا للجمع الكثير، ومنها جوازُ وصف المفرد بها، نحو: "ثَوْبٌ أَسْمالٌ"، و"بُرْمَةٌ أَعْشار". ومنها جوازُ عَوْدِ الضمير إليها بلفظ الإفراد، نحو قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} (¬4). فصل [إعراب جمع المذكر السالم بالحركات في بعض اللغات] قال صاحب الكتاب: وقد يجعل إعراب ما يجمع بالواو والنون في النون, وأكثر ما يجيء ذلك في الشعر، ويلزم الياء, إذ ذاك قالوا: "أتت عليه سنين", وقال [من الطويل]: 702 - دعاني من نجد فإن سنينه ... لعبن بنا شيباً وشيبننا مُردا ¬
وقال سحيم [من الوافر]: 703 - وماذا يدري الشعراء مني ... وقد جاوزت حد الأربعين * * * قال الشارح: اعلم أنّ من العرب من يجعل إعرابَ ما يُجمع بالواو والنون في النون، وذلك إنما يكون فيما يُجمع بالواو والنون عوضًا من نقصٍ لحِقه، نحو قولك: "سِنُونَ"، و"قُلُون" (¬1)، و"ثُبُون" (¬2). والشيخُ قد أَطلق ها هنا، والحق ما ذكرتُه. ¬
ويلزم فيه الياءُ، فتقول: "هذه سِنِينٌ"، و"رأيت سنينًا"، و"مررت بسنينٍ". وإنّما جاز إعرابُ النون في هذا الضرب من الجمع؛ لأنّ النون فيه قامت مقامَ الحرف الذاهب، فجعلوها [من] (¬1) كلام الكلمة. وإنّما ألزموه الياءَ ليصير نظيرَ "غِسْلِينٍ" (¬2) ونحوه من الأسماء المفردة، و"غِسْلِين"، "فِعْلِينٌ" من "الغُسالة". وأجاز أبو العباس المبرّد التزامَ الواو، فيكون مثلَ "زَيْتُونٍ"، فأمّا قوله [من الطويل]: دَعانِيَ من نَجْدٍ فإنّ سِنِينَة ... إلخ وقبله: لَحَى اللهُ نَجْدًا كَيْفَ يَتْرُكُ ذا الغِنَى ... فَقِيرًا وحُرَّ القَوْمِ تَحْسِبُة عَبدا البين للصِّمَّة بن عبد الله القُشَيري، والشاهدُ فيه أنّه جمع بين النونَين والإضافةِ في قوله: "سِنِينَهُ". والقياسُ فيه "سنيّه"، لكنّه جعل النونَ حرفَ الإعراب، وألزمه الياء، ليكون كـ"غِسْلِين". ومثله قوله فيما أنشده أبو زيد [من الوافر]: 704 - سِنِينِيَ كُلَّها لاقَيْتُ حَرْبًا ... أُعَدُّ مع الصَّلادِمَة الذُّكُورِ وقال الآخر [من الكامل]: 705 - وَلَقَدْ وَلَدْتَ بَنِينَ صِدْقٍ سادَةً ... ولأنْتَ بَعْدَ اللهِ كُنْتَ السَّيِّدا ¬
فأمّا قول سُحَيْم بن وَثِيل: وماذا يَدَّرِي ... إلخ فذهب قومٌ إلى أنّ النون في "الأربعين" حرفُ الإعراب، والكسرة فيه علامةُ الجرّ، ويكون من قبيلِ ما جُمع بالواو والنون عوضًا من المحذوف، كـ"سِنُون"، و"قُلُون". وذلك أن "ثلاثين" ونحوَه من قولك: "أربعين"، ليس بجمعِ "ثلاثٍ"، و"أربعٍ" على الحقيقة، إذ لو كان "ثلاثون" جمعَ "ثلاث"؛ لَوجب أن يُستعمل في تِسْعة, لأنّ الواحد من تَثْليثها ثلاثة، وفي اثني عشرَ, لأنّ الواحد من تثليثها أربعةٌ، وفي خمسةَ عشرَ, لأنّ الواحد من تثليثها خمسةٌ، إلى أن تتجاوز به الثلاثين من الأعداد التي الواحد من تثليثها فوق العشرة. وكذلك "الأربعين" ونحوُها من الخمسين إلى تسعين. وإذا ثبت أنّ "ثلاثين" ليس بجمع "ثلاث"، و"أربعين" ليس بجمع "أربع"، عُلم أنّه اعتقد فيه أن له واحدًا مقدَّرًا، وإن لم يجر به استعمالٌ، فكأن "أربعين" جمعُ "أربع"، و"أربعٌ" جماعةٌ، فكأنّه قد كان ينبغي أن يكون فيه الهاءُ، فعُوّض بالواو والنون، وصار الأمرُ فيه كحالِ "أرْضٍ" و"أرَضِينَ". ونحوٌ من ذلك قولُهم في اسم البلد: "قِنَّسْرُونَ"، و"فَلَسْطُونَ" كأنهم جعلوا كل ناحيةٍ من "قنّسرين" و"فلسطين" "قِنَّسْرَ وفَلَسْطَ"، والناحيةُ والجهةُ مؤنّثتان، فكان القياس في واحده لو نُطق به: "قِنَّسْرَةُ"، و"فَلَسْطَةُ"، فعوّضوا من ذلك الجمعَ بالواو والنون. والحقُّ فيه أنّ النون في قوله [من الوافر]: وقد جاوزتُ حَدَّ الأربعينِ (¬1) ليست حرفَ إعراب، ولا الكسرةُ فيه علامةَ جرّ، إنما هي حركةُ التقاء الساكنين، وهما الياء والنون. وكُسرت على أصل التقاء الساكنين؛ لأنّ حركة التقاء الساكنين لم تأتِ ¬
على منهاح واحد، بل تأتي تارةً كسرةً، وهو الأصل، وتارةً ضمّةً، نحوَ: "شُدُّ"، و"مُدُّ"، وتارةً فتحةً، نحو: "شُدَّ" فيمَن فتح، و"أيْنَ"، و"كَيْفَ". فلمّا اضطُرّ الشاعر إلى الكسر، لئلا تختلف حركةُ حرف الرَويّ، كَسَرَ؛ لأنّ الأبيات مجرورةُ القوافي مطلقةٌ. وممّا يدلّ أنّ الكسرة في نون "الأربعين" ليست جرًّا، إنّما هي كسرةُ التقاء الساكنين، قولُ ذي الإصْبَع [من البسيط]: 706 - إنِّي أبِيٌّ أبِيٌّ ذو مُحافَظَةٍ ... وابْنُ أبِيٍّ أبِيٍّ مِن أبِيِّينِ فـ "أبِيُّونَ" جمعُ "أبِيٍّ" مثلُ: "ظريف"، و"ظريفون"، فكما لا يُشَكّ في كسرة نون "أبيّينِ" أنّها لالتقاء الساكنين، لأنّه جمعٌ صحيحٌ مثلُ: "مسلمين"، و"صالحين"، فكذلك ينبغي أن تكون كسرةُ النون في "الأربعينِ". ومثله قول الآخر [من البسيط]: 707 - [ما سَدَّ حَيٌّ وَلا مَيْتٌ مَسَدَّهُما] ... مِثْلُ الخَلائِفِ من بَعْدِ النَّبِيِّينِ ¬
فصل [أوزان جمع الاسم الثلاثي المجرد]
فهذا جمعٌ بُني على الصحة. وإنما كُسرت نونُ الجمع ضرورةً، وأُجريت في الكسر مُجرى نون التثنية. واعتمدوا في الفصل بين التثنية والجمع بحركة ما قبل الياء في الجرّ والنصب؛ وأمّا في الرفع؛ فالفصلُ بينهما ظاهرٌ؛ لأنّ رفع الاثنين بالألف، ورفع الجميع بالواو، فاعرفه. فصل [أوزان جمع الاسم الثلاثي المجرد] قال صاحب الكتاب: وللثلاثي المجرد إذا كسر عشرة أمثلة: "أفْعالٌ"، "فِعالٌ"، "فُعُولٌ"، "فِعلانُ", "أفعُلٌ", "فُعلانُ"، "فِعَلَةُ"، "فُعْلٌ"، "فُعْلةُ". فـ "أفعالٌ" أعمها, تقول: أفراخٌ وأحمال وأركان وأجمال وأعجاز وأعناق وأفخاذ وأعناب وأرطاب وآبال, ثم فعال تقول: زناد, وقداح, وخفاف وجمال ورباع وسباع, ثم فعول وفعلان وهما متساويان تقول فلوس وعروق وجروح وأسود ونمور ورئلان وصنوان وعيدان وخربان وصردان, ثم أفعل تقول أفلس وأرجل وأزمن وأضلع، ثم فعلان وفعلة وهما متساويان تقول بطنان وذؤبان وحملان وغردة وقردة وقرطة, ثم فعل تقول سقف وفلك, ثم فعلة وفعل تقول جيرة ونمر. وقد جاء "حجلى" في جمع حجل قال [من الكامل]: 708 - [فارحم أصيبيتي الذين كأنهم] ... حجلي تدرج في الشربة وقع] * * * ¬
قال الشارح: إنما بدأ بحَصْرِ ألفاظ الجمع، ولم يذكر أبنيةَ الثُّلاثيّ التي في الآحادُ التي تُكسَّر عليها الجموعُ؛ لأنّ الباب بابُ الجمع، فجاء بالتفصيل على وَفْق التَّرْجمة. ونحن نجمع بينهما؛ لأنّ الفائدة مرتبطةٌ بهما، فالأسماء الثلاثيّة المجرَّدة من الزيادة لها عشرةُ أمثلةٍ، "فَعْلٌ" بفتح الأوّل وسكون الثاني، مثلُ: "فَلْسٍ"، و"كَعْبٍ"، و"فَعَلٌ" بفتح الأوّل والثاني، نحوُ: "فَرَسٍ"، و"جَمَلٍ"، و"فَعِلٌ" بفتح الأوّل، وكسر الثاني، نحوُ: "كَتِفٍ"، و"فَخِذٍ"، و"فَعُلٌ" بفتح الأوّل وضمّ الثاني، نحوُ: "عَضُدٍ"، و"يَقُظٍ"، و"فِعْلٌ" بكسر الأوّل وسكون الثاني، نحوُ: "حِبْرٍ"، و"عِدْلٍ"، و"فِعَلٌ" بكسر الأوّل وفتح الثاني، نحوُ: "عِنَبٍ"، و"نِطَعٍ"، و"فِعِلٌ" بكسر الأوّل والثاني، نحوُ: "إبِلٍ"، و"إطِلٍ"، و"فُعْلٌ" بضم الأوّل وسكون الثاني، نحوُ: "قُفْلٍ"، و"بُرْدٍ"، و"فُعَلٌ" بضم الأوّل وفتح الثاني، نحوُ "صُرَدٍ" (¬1) و"نُغَر" (¬2)، و"فُعُلٌ" بضمّ الأوّل والثاني، نحوُ "عُنُقٍ"، و"طُنُبٍ". فأمّا "فَعْلٌ"، فالقياس في تكسيره أن يجيء في القلّة على "أفْعُل"، نحوِ: "كَلْبٍ"، و"أكْلُبٍ"، و"كَعبٍ" و"أكْعُبٍ"، وقالوا في المضاعف: "صَكٌّ"، و"أصُكٌّ"، و"ضَبٌّ" و"أضُبٌّ". وأمّا الكثير، فبابُة أن يجيء على "فِعَالٍ"، و"فُعُولٍ"، نحوِ قولك: "كَلْبٌ"، و"كِلابٌ"، و"فَلْسٌ"، و"فُلُوسٌ". وربّما تَعاقبا على الاسم الواحد، قالوا: "فَرْخٌ"، و"فِراخٌ"، و"فُرُوخٌ"، و"كَعْبٌ"، و"كِعابٌ"، و"كُعُوبٌ". قال الشاعر [من الوافر]: 709 - وكُنْتُ إذا غَمَزْتُ قَناةَ قَوْمٍ ... كَسَرْتُ كُعُوبَها أو تَسْتَقِيمَا ¬
وباقي الأمثلة تُجمع في القلّة على "أفْعالٍ"، نحو: "أفراسٍ"، و"أكْتافٍ"، "أعْضادٍ"، و"أجبالٍ"، و"أعْنابٍ"، و"آطالٍ"، و"أبْرادٍ"، و"أعْناقٍ"، وجمعُها الكثير "فِعالٌ" و"فُعُولٌ"، نحوُ: "جَمَلٍ"، و"جِمالٍ"، و"بُرْد"، و"بُرُود"، ما خلا "فُعَلًا"، فإنّ بابه أن يُجمع على "فِعْلانَ"، نحوِ: "صُرَدٍ"، و"صِرْدانٍ"، و"جُرَذٍ"، و"جِرْذانٍ" يستوي فيه القليلُ والكثيرُ، وأصلُه الكثرة، والقلّةُ داخلةٌ عليه، ويُفرَق بينهما بقرِينة. فإن قيل: ولِمَ اختصّ جمعُ القلة بـ"أفعُلَ"، و"أفْعالٍ"؟ فالجواب أنّه لما كان بين جمع القلّة والواحد من المشابهة، ما تقدّم ذكرُه من كونِ صيغته مستأنفةً له، ويجري عليه كثيرٌ من أحكام المفرد، من نحوٍ عود الضمير مفردًا إليه، كقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} (¬1)، وجوازِ تصغيره على لفظه، ووصفِ المفرد به من نحوِ: "بُرْمَةٍ أعشارٍ"، و"ثَوْبٍ أسْمالٍ"؛ اختاروا هذَيْن البناءَيْن؛ لأنّهما لا يكاد يُوجَد لهما نظيرٌ في الآحاد، ليُعلَم أنّهما للجمع، ولا يقع فيهما التباسٌ بالواحد. فإن قيل: ولِمَ اختصّ "أفْعُلُ" بـ"فَعْلٍ" ساكنَ العين مفتوحَ الفاء؟ قيل: لخفّته وكثرةٍ استعماله؛ اختاروا له أخفَّ اللفظَيْن وأقلَّهما حروفًا؛ لأنّ بنية الجمع على حسب واحده، فإذا كان الواحد خفيفًا قليلَ الحروف، قلّت حروفُ جمعه وحركاتُه اللاحقةُ لتكسيره، وإذا ثقُل الواحد، وكثُرت حروفه، كثُر ما يلحق جمعَه لِما ذكرناه من أن الجمع يكون بزيادةٍ على الواحد. فإن قيل: ولِمَ اختصّ "فُعَلٌ" مضمومَ الفاء مفتوحَ العين بِـ"فِعْلان"، نحوِ: "نُغَرٍ"، و"نِغْرانٍ"، و"جُرَدٍ" و"جِرْذانٍ"؟ قيل: لوجهَيْن: أحدُهما: أنّ هذا البناء لمّا اختصّ بضرب من المسمَّيات، وهو الحَيَوانُ، ولزِمه، فلم يفارقه إلى غيره، ولم يكن غيرُه من الأسماء كذلك، فإنّها لا تلزم مسمّى خصّوه بهذا ¬
الجمع، كما خصّوا بـ "فَعْلَى" ما كان به آفَةٌ من نحوٍ: "قَتْلَى"، و"مَرْضَى"، ولا يُجمع عليه إلّا ما أصابته بليّةٌ، نحوُ: "جَرِيحٍ"، و"جَرْحَى"، و"زَمِينٍ"، و"زَمْنَى". والوجه الآخر: أن يكون منتقصًا من "فُعالٍ"، و"فُعَالٌ" يُجمع في الكثرة على "فِعلان"، نحو: "غُرابٍ" و"غِرْبان"، و"عُقاب" و"عِقْبانِ". وممّا يؤيّد ذلك أنّ "فُعَلًا" لا يكاد [يأتي] إلا مغيرًا من غيره، نحوَ: "عُمَرَ"، و"زُفَرَ" عَدْلًا من "عامِرٍ"، و"زافِرٍ"، و"فُسَقَ"، و"خُبَثَ"، والمراد: فاسِقٌ وخَبِيثٌ. فلمّا كان قد تَغيَّر عن "فاعِلٍ"، و"فَعِيلٍ"، كان تغييرُه عن "فُعالٍ" أوْلى؛ لأنّه ليس بين البناءَيْن إلا طرحُ الألف، فهو أقربُ إليه. واعلم أنّ الاسم الثلاثي لكثرته وسعةِ استعماله، كثُرت أبنيةُ تكسيره، وكثُر اختلافها، حتى لا يكاد يخلو بناءٌ منها من الشذوذ، والقياسُ ما تقدّم ذكُره. والمرادُ بقولنا أنّه القياسُ أنّه لو ورد اسمٌ، ولم يُعرف كيف جمعُه، لكان القياسُ أن يُجمع على المنهاج المذكور، فعلى هذا لو سمّيتَ بالمصدر من نحوِ: "ضَرْبٍ"، و"قَتْل"، لكان القياس في جمعه أن تقول في القلّة: "أضْرُبٌ" و"أقْتُلٌ"، قياسًا على "أْفْلُسٍ" و"أكْعُبٍ"، وفي الكثير: "ضُرُوبٌ" أو"ضِرابٌ"، و"قُتُولٌ" أو "قِتالٌ"، قِياسًا على "فُلُوسٍ" و"كِعابٍ". ولا بدّ من ذكرِ ما شذّ من ذلك ليُعلم؛ حتّى لو اضطُرّ شاعرٌ أو ساجعٌ إلى مثله، لم يكن مُخْطِئًا؛ لأنّه استند إلى أصلٍ من استعمالهم. فمن الشاذّ تكسيرُهم "فَعْلًا" في القلّة على "أفْعالٍ" (¬1)، والقياس "أفْعُلٌ" على ما تقدّم، قالوا: "رَأْدٌ"، و"أرْآدٌ"، و"الرَّأدُ": أصل اللَّحْيَيْن، وقالوا: "زَنْدٌ"، و"أزْنادٌ"، و"الزَّنْدُ": العُود الذي يُقدَح به النار، وهو الأعلى، والزَّنْدَةُ السُّفْلى فيها ثَقْبٌ، وهي الأُنثى، فإذا اجتمعا قيل: "زَنْدانِ"، ولم: يُقَل: "زندتان". وقالوا: "فَرْخٌ" و"أفْراخٌ"، و"أنْفٌ" و"آنافٌ". جمعوا هذه الأسماءَ على "أفْعالٍ" حَمْلًا لها على ما هي في معناه، وذلك أنّ "رَأدًا" ¬
في معنى "ذَقَنٍ"، و"زَنْذٌ" في معنى "عُودٍ"، و"فَرْخٌ" في معنى "طَيْرِ" أو"وَلَدٍ"، و"أنْفٌ" في معنى "عُضوٍ"، فكما قالوا: "أذْقانٌ"، و"أعْوادٌ"، و"أطيارٌ"، و"أعْضاءٌ"، فكذلك قالوا: "أرْآدٌ"، و"أفْراخٌ"، و"أزْنادٌ"، و"آنافٌ"، لأنّها في معناها، فأعطوها حُكْمَها. وقيل: إنما قالوا "أرْآدٌ"؛ لأنّ الهمزة مُقارَبة للألف، ومن مَخرَجها، فعاملوها مُعامَلتَها في الجمع، فكما قالوا: "بابٌ" وأبْوابٌ"، و"نابٌ" و"أنْيابٌ"، كذلك قالوا: "رَأدٌ" و"أرْآد". والنونُ في "زَنْدٍ"، و"أنْفٍ" ساكنةٌ، فهي غُنَّةٌ، فجرت لغُنّتها مجرى المتحرّكة، والراءُ في "فَرْخ" حرفٌ مكرَّرٌ، فجرى تكريرُه مجرى الحركة فيه، فلذلك قالوا: "أفْراخٌ" (¬1). وربّما تَوارد البناءان على الاسم الواحد منها، قالوا: "أزنُدٌ"، و"أزْنادٌ". قال الشاعر [من المتقارب]: 710 - وُجِدْتَ إذا اصْطلَحُوا خَيْرَهمْ ... وزَنْدُكَ أثْقَبُ أَزْنادِهَا وقالوا: "أفَرُخٌ"، و"أفْراخٌ". قال الواجز: 711 - لولا هُباشاتٌ من التَّهْبِيشِ ... لصِبْيَةٍ كأفْرُخٍ العُشُوشِ ¬
وقال الشاعر [من البسيط]: 712 - ماذا تقول لأفْراخٍ بذي مَرَخٍ ... زُغْبِ الحَواصِلِ لا ماءٌ ولا شَجَرُ فالبيت الأوّل على القياس، والثاني على الشاذّ، وقالوا: "أنْفٌ" و"آنافٌ" و"آنُفٌ". قال الأعْشى [من الطويل]: 713 - إذا رَوَّحَ الراعِي اللِّقاحَ مُعَزِّبًا ... وأمْسَتْ على آنافِها غَبَراتُها ¬
فأمّا "الرَّأدُ" فلم يُسمع فيه إلّا "أرْآدٌ". وقد جاء الكثير على "فُعْلانَ"، بضمّ الفاء. قالوا: "ظَهْرٌ"، و"ظُهْرانٌ"، و"بَطْنٌ"، و"بُطنانٌ"، و"ثَعْبٌ"، و"ثُعْبانٌ"، والثَّعْبُ: مَسِيلُ الوادي، وقالوا: "جَحْشٌ"، و"جِحْشانٌ"، و"عَبْدٌ"، و"عِبْدانٌ"، فكسّروه على "فِعْلانَ" بكسر الفاء. وربّما كسّروه على "فُعُولَةَ"، و"فِعالَةَ"، فيأتون فيه بتاء التأنيث لتحقيق تأنيث الجمع، فقالوا: "الفِحالَةُ"، و"البُعُولَةُ"، و"العُمُومَةُ". وقد جاء أيضًا على "فِعَلَه". قالوا: "جَبْءٌ"، و"جِبَأةٌ"، و"فَقْعٌ" و"فِقَعَةٌ" لضربَيْن من الكَمأة، وقالوا: "قَعْبٌ"، و"قِعَبَةٌ". وقد جاء أيضًا على "فَعِيلٍ"، قالوا: "عَبْدٌ"، و"عَبيدٌ"، و"كَلْبٌ"، و"كَلِيبٌ". قال الشاعر [من السريع]: 714 - والعِيسُ يَنْغُضْنَ بِكيرانِها ... كأنّما يَنهَشُهُنَّ الكَلِيبْ وذلك كله قليلٌ شاذٌ، لا يُقاس عليه، وبعضُه أشذُّ من بعض، فـ "الكَلِيبُ" و"العَبيدُ"، أقلُّ من "فِقَعَةٍ"، و"قِعَبَةٍ"، و"فِقَعَةٌ"، و"قِعَبَةٌ" أقلُّ من "فُعْلان"، و"فِعْلانَ"، وسيبويه (¬1) كان ¬
يذهب إلى أنّ "الكليب" ونحوه اسمٌ للجمع كـ"الجامِل" (¬1)، و"الباقِر" (¬2)، وكذلك "فِقَعَةٌ"، و"قِعَبَةٌ"، وليس بجمع مكسَّر. فعلى هذا، لو صُغّر، لصُغّر على لفظه، ولم يُردّ إلى الواحد. وذهب الأخفش إلى أن ذلك كلّه تكسيرٌ وإن قَلَّ استعمالُه. وقال قومٌ: "فِعَلَة" وبابُه مقصورٌ من "فِعالَة"، فالأصلُ في "فِقَعَةٍ": "فِقاعَةٌ" كـ"حِجارَةٍ"، فاعرفه. فأمّا "فَعَلٌ" بفتح الفاء والعين، فالقياسُ أن يأتي في القلّة على "أفْعالٍ" كـ"جَمَلٍ"، و"أجْمالٍ"، وفي الكثير "فِعالٌ" و"فُعُولٌ"، نحوُ: "جِبالٍ"، و"جِمُالٍ"، و"أُسُودٍ"، و"ذُكُورٍ". و"فِعالٌ" في هذا الباب أكثرُ من "فُعُولٍ". وقد جاء على غير المنهاج المذكور، قالوا في القليل: "زَمَنٌ"، و"أزْمُنٌ"، قال ذو الرُّمّة [من الطويل]: 715 - أمَنْزِلَتَيّ مَيٍّ سلامٌ عَلَيكُما ... هَلِ الأزْمُنُ اللاتي مَضَيْنَ رَواجِعُ وحكى سيبويه (¬3): "جَبَلٌ"، و"أَجْبُلٌ". وقالوا في المعتلّ: "عَصَا"، و"أعْصٍ" كـ"أدْلٍ"، و"أحْقٍ"، وذلك من حيث كان "الزَّمَنُ" دَهْرًا، و"الجَبَلُ" تَلاًّ، فحملوه على معناه. وفي الجملة إن الأسماء الثلاثيّة لمّا اشتركت في عدّة واحدة، وأصلٍ واحد؛ جاز أن يُشبَّه بعضُها ببعضٍ، فيدخل كلُّ واحد منها على الآخر، ولُزومُ "فَعَلٍ" مفتوحَ العين لـ"أَفعَل"، وبناؤه عليه أكثرُ من لزوم "فَعْلٍ" ساكنَ العين لـ"أَفْعل"، وذلك لخفّة "فَعْلٍ" وكثرتِه تَوسّعوا فيه أكثرَ من توسّعهم في "فَعَلٍ". ولذلك كان الشاذُّ في جمع "فَعَلٍ" أقلَّ ¬
من الشاذّ في جمع "فَعْلٍ". وقد كسّروه في الكثير على "فُعْلان". قالوا: "حَمَلٌ"، و"حُمْلانٌ"، و"سَلَقٌ"، و"سُلْقانٌ". والسَّلَقُ: المكان المطمئنّ. وقالوا: "بَرَقٌ"، و"بِرْقانٌ"، و"وَرَلٌ"، و"وِرْلانٌ"، كسّروه على "فِعْلان" بكسر الفاء، و"البَرَقُ": الحَمَلُ، و"الوَرَلُ": دُوَيْبَّةٌ تُشْبِه الضَّبَّ. وقالوا: "أسَدٌ"، و"أُسُدٌ"، وَ"وَثَنٌ" و"وُثُن"، وقد قرأ عَطاء بن أبي رَباح: {إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلّا أُثْنًا} (¬1)، والمراد: وُثْنًا، فسُكّنت العين على حدّ "رُسُْلٍ"، و"كُتُْبٍ"، وقُلبِتْ الواو همزةٌ لانضمامها على حدّ قلبها في "أُقْتٍ"، و"أُجُوهٍ". وقد أنكر بعضهم أن يكون لفظُ الجمع أقل من لفظ الواحد، فتأوّله على أن يكون مخفَّفًا من "أُسُدٍ" مضمومَ العين، و"أُسُدٌ" مقصورٌ من "أُسُودٍ"، فأمّا "إزارٌ" و"أُزُرٌ"، فهو أيضًا مقصورٌ من "أُزُورٍ". ومثله قول الشاعر [من الرجز]: 716 - فيها عَيائيلُ أسودٌ ونُمُرْ وقد يُدْخلون الهاء على "فُعُولٍ" و"فِعالٍ" هنا، كما أدخلوها عليهما في تكسير "فَعْلٍ"، فيقولون: "ذُكُورَةٌ"، و"أُسُودَةٌ"، و"ذِكَارَةٌ"، و"جِمالَةٌ"، و"حِجارةٌ"، وقالوا: "حِجارٌ" أيضًا، وهو أقيسُ، و"حِجارَةٌ" أكثرُ. قال الشاعر [من البسيط]: 717 - كأنّه من حِجارِ الغَيْلِ لَبَّسَها ... مَضارِبُ الماءِ لَوْنَ الطُحْلُبِ اللَّزِبِ ¬
الغَيْل: الماء البخاري، واللَّزِبُ: اللازم. فأمّا ما كان منه مضاعفًا، فإنّه يلزم بناءَ أدنى العَدَد، ولا يُجاوِزه. قالوا: "لَبَبٌ"، و"ألْبابٌ"، و"مَدَدٌ"، و"أمْدادٌ"، و"فَنَنٌ"، و"أفْنانٌ"، اجتزؤوا في المضاعف ببناء القلّة عن بناء الكثرة، كما قالوا: "أرْسانٌ"، و"أقْلامٌ"، فاقتصروا على "أفْعالٍ"، ولم يجاوزوه. وأمّا "فَعِلٌ" بفتح الفاء وكسر العين، فإنّه يكسَّر على "أفْعالٍ". قالوا: "كَبِدٌ"، و"أكْبادٌ"، و"فَخِذٌ"، و"أفْخاذٌ"، و"نَمِرٌ"، و"أنْمارٌ". ولا يكادون يَتجاوزونها إلى بناء الكثرة، وذلك من قِبَل أنّ "فَعِلاً" أقلُّ من "فَعَل" بكثير، كما أنّ "فَعَلًا" أقلُّ من "فَعْل". والبناءُ إذا كثُر، توسّعوا في جمعه، ألا ترى أنّ "فَعْلًا" ساكنَ العين لمّا كان أكثرَ من "فَعَلٍ"، جاؤوا لمضاعفه ببناءِ قلّة وبناءِ كثرة، نحوٍ قولهم: "صَكٌّ"، و"أصُكٌّ"، و"صِكاكٌ"، و"صُكُوكٌ". ولم يجىءْ في مثل "مَدَدٍ"، و"فَنَنٍ": "مِدادٌ"، و"فِنانٌ"، ولا "مُدُودٌ"، و"فُنُونٌ". و"فَعِلٌ" أقلُّ من "فَعَلٍ"، فنقص تصرّفُه عنه بأن لزم بناءَ القلّة، ولم يتجاوزه، وقد قالوا: "النُّمُورُ"، و"الوُعُول". ولم يكثر فيه كثرتَه في "فَعَلٍ"، وإنما ذلك على التشبيه بـ"الأُسود". فأمّا "فَعُلٌ" بفتح الأوّل وضمّ الثاني، فهو كـ"فَعِلٍ" يأتي على "أفْعالٍ"، قالوا: "عَجُزٌ"، و"أعجازٌ"، و"عَضُدٌ"، و"أعْضادٌ"، ولم يتجاوزه إلى غيره، كما لم يتجاوز "فَعِلٌ"؛ لأنّ "فَعُلًا" مضمومَ العين، أقلُّ من "فَعِلٍ" مكسورَ العين. وإذا لم يُجاوِزوا "فَعِلًا" أدنَى العدد لقلّته، كان ذلك في "فَعُلٍ" أولى؛ لأنه أقلُّ. وقد قالوا: "رَجُلٌ" و"رِجالٌ"، و"سَبُعٌ"، و"سِباعٌ". جاؤوا به على "فِعالٍ" على التشبيه بـ"فَعَلٍ". وقد قالوا: "ثلاثةُ رِجْلَةٍ"، كأنّهم استغنوا بها عن "رِجالٍ"، وليس "رِجْلَةٌ" بتكسير "رَجُلٍ"، وإنّما هو اسمٌ للجمع. وأمّا "فِعْلٌ" بكسر الأوَّل وسكون الثاني، فإنّه يكسَّر في القلّة على "أفْعالٍ"، وفي الكثير على "فُعُولٍ"، و"فِعالٍ". و"فُعُولٌ" فيه أكثرُ، قالوا: "حِمْلٌ"، و"أحْمالٌ"، و"حُمُولٌ"، و"عِدْلٌ"، و"أعْدالٌ"، و"عُدُولٌ"، و"بِئْرٌ"، و"أبْآرٌ"، و"بِئارٌ"، و"ذِئْبٌ"، و"ذِئابٌ". ويجتزئون بـ"أفْعالٍ" عن "فُعُولٍ"، و"فِعالٍ". قالوا: "خِمسٌ"، و"أخْماسٌ". و"الخِمْسُ" من أظْماء الإبل، و"شِبْرٌ"، و"أشْبارٌ"، و"سِتْرٌ"، و"أسْتارٌ"، و"طِمْرٌ"، و"أطْمارٌ". استغنوا بـ"أفْعالٍ" هنا كما استغنوا بـ"أفْعالٍ" فيما تقدّم، نحوِ: "رَسنٍ" ¬
و"أرْسانٍ"، و"قَدَمٍ"، و"أقْدامٍ" عن بناء الكثرة، وكما استغنوا بـ "أفْعُلَ" في "كفِّ"، و"أكُفّ" ولم يتجاوزوه. وقد جاؤوا به على "فِعَلَةَ". قالوا: "قِرْدٌ"، و"قِرَدَةٌ"، و"حِسْلٌ"، و"حِسَلَةٌ". والحِسْلُ: ولد الضَّبّ، جعلوه للقليل، قالوا: "ثلاثةُ قِرَدَةٍ"، كأنّهم استغنوا بـ"قِرَدَةٍ" عن "أقْرادٍ". وقد كسّروه على "فُعْلانَ" بضم الفاء، قالوا "ذِئْبٌ"، و"ذُؤْبانٌ"، و"صِرْمٌ"، و"صُرْمانٌ"، وعلى "فِعْلان" بكسر الفاء، قالوا: "رِئْدٌ"، و"رِئْوانٌ"، والرِّئْدُ: التِّرْبُ، و"شِقْذٌ"، و"شِقْذانٌ"، وهو فَرْخ العَظاء والحِرْباءِ. وقالوا: "صِنْوٌ"، و"صِنْوانٌ"، و"قِنْوٌ" (¬1)، و"قِنْوانٌ"، وقد يُضَمّان، فيقال: "صُنْوان"، و"قُنْوانٌ". وكثُر في كلامهم، فهو في الكثرة عديلُ "فَلْسٍ"، و"كَعْبٍ"، فلذلك توسّعوا في أبنية تكسيره. وقد يجيء في القلّة على "أفْعُل"، وذلك قليل يُسمع ولا يُقاس عليه، قالوا: "ذِئْبٌ"، و"أذْؤُبٌ"، و"قِطْعٌ"، و"أقْطُعٌ". والقِطْعُ: نَضل عريض يصير للسَّهْم. وقالوا: "قِدْرٌ"، و"أقْدُرٌ". وأنكر الجَرْميّ "أقْدُرٌ". وقالوا: "جِرْوٌ" و"أجْرٍ"، و"رِجْلٌ" و"أرْجُلٌ"، ولم يتجاوزوا "أرْجُلاً" إلى غيره من جموع الكثرة، كما لم يتجاوزوا "أكُفّا". فأمّا "فِعَلٌ" بكسر الفاء وفتح العين، فإنّه في القلّة على "أفْعالٍ"، نحوِ: "عِنَبٍ"، و"أعْنابٍ"، و"ضِلَعٍ"، و"أضْلاعٍ"، و"مِعًا"، و"أمْعاءٍ"، و"إرَم"، و"آرامٍ"، والإرَمُ: العَلَم في الطريق. وفي الكثير: "فُعُولٌ"، قالوا: "ضُلُوعٌ"، و"أُرُومٌ"، ولم يقولوا: "عُنُوبٌ"، ولا "مُعِيّ"، اجْتَزؤوا عنه بمثال القلّة، كما اكتفوا بـ"أرْسانٍ" عن "رُسُونٍ". وقد قالوا في القلّة: "أضْلُعٌ"، شبْهوه بـ"أزْمُنٍ"، أو لأنّه عَظْمٌ قالوا: "أضْلُعٌ"، كما قالوا: "أعْظُمٌ". فأمّا "فِعِلٌ" بكسر الفاء والعين، فتكسيرُه في القلّة على "أفَعالٍ". قالوا: "إبِلٌ"، و"آبالٌ"، و"إطِلٌ"، و"آطالٌ"، والإطلُ: الخاصِرَةُ، ولم يتجاوزوه إلى غيره، بل اكتفوا بهذا المثال عن مثال الكثرة، لقلّته في كلامهم، ولم يتوسّعوا فيه. وأمّا "فُعْلٌ" بضمّ الفاء وسكون العين، نحوُ: "قُفْلٍ"، و"بُرْدٍ"؛ فبابُه أن يجيء في القلّة على "أفْعالٍ"، نحوِ: "أقْفالٍ"، و"أبْرادٍ"، ويُجمع في الكثرة على "فُعُولٍ"، و"فِعالٍ". و"فُعُولٌ" أكثرُ فيه، قالوا: "بُرْدٌ"، و"بُرُودٌ"، و"أبْرادٌ"، و"بُرْجٌ"، و"بُرُوجٌ"، و"أبْراجٌ"، و"جُنْدٌ"، و"جُنُودٌ" و"أجْنادٌ". وأمّا مجيئُه على "فِعالٍ"، فقالوا: "جُمْدٌ"، و"أجْمدٌ"، و"جِمادٌ"، والجُمْدُ: الأرض المرتفعة، و"قُرْطٌ"، و"قِراطٌ"، و"أقْراطٌ". و"فِعالٌ" في المضاعف أكثرُ. قالوا: "قُفٌّ"، و"قِفافٌ" لِما ارتفع من الأرض، وقالوا: "خُفٌّ"، و"خِفافٌ"، و"أخْفافٌ" في القلّة، و"خُصٌّ"، و"أخْصاصٌ"، و"خِصاصٌ"، و"عُشٌّ"، ¬
و"عِشاشٌ"، و"أعْشاشٌ"، وقالوا: "عُشُوشٌ" أيضًا قال رؤبة [من الرجز]: لِصِبْيَةٍ كَأَفْراخِ العشوش (¬1) وقالوا في المعتل: مدى و"أمْداء"، ولم يتجاوزوه لقلّته وقد كسروه أيضًا على "فِعَلَة". قالوا: "جُحْرٌ"، و"أجْحارٌ"، و"جِحَرَةٌ"، و"قُلْبٌ"، و"أقْلابٌ"، و"قِلَبَةٌ"، وقالوا: "خُرْجٌ"، و"خَرَجَةٌ"، ولم يقولوا: "أخْراجٌ"، وقالوا: "رُكْنٌ"، و"أرْكانٌ"، و"جُزْءٌ"، و"أجْزاءٌ"، ولم يجاوزوه كما لم يجاوزوا "خِرَجَة". وقد كسّروا حرفًا منه على "فُعْلٍ" كما كسّروا عليه "فَعَلٌ" بفتح العين، قالوا: "الفُلْكُ" للواحد والجمع. قال الله تعالى: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} (¬2)، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} (¬3)، فَجَعَلَه جمعًا كأنّهم حملوا "فُعْلاً" على "فَعَلٍ"؛ لأنّ "فُعْلًا" يكون جمعًا لـ"فَعَلٍ"، نحوَ: "أسَدٍ"، و"أُسْدٍ". و"فُعْلٌ"، و"فَعَلٌ" قد يشتركان في "أفْعالٍ". نحوِ: "صُلْبٍ"، و"أصْلابٍ"، و"أسَدٍ"، و"آسادٍ"، فشُورك بينهما في هذا الضرب من الجمع، فـ "الفلْكُ" إذا أُريد به الواحدُ، فبمنزلة "قُفْلٍ"، وإذا أُريد به الجمعُ، فهو بمنزلة "أسْدٍ". وكثُر توسُّعُهم في هذا البناء لكثرته في كلامهم، فهو في الكثرة قريبٌ من كثرة "فَلْسٍ" و"كَعْبٍ". وأمّا "فُعَلٌ" بضمّ الفاء، وفتح العين نحوُ "صُرَدٍ"، و"صِرْدانٍ"، و"جُرَذٍ"، و"جِرْذانٍ"، فقد تقدّم ذكرُه، وقد شَذَّ منه: "رُبَعٌ" و"أرْباعٌ"، و"الرُّبَعُ" من الإبل: ما نُتج في الربيع، و"رُطَبٌ" و"أرْطابٌ"، وإنّما قالوا ذلك, لأنّ "الرُّبَع" جَمَلٌ، فجمعوه جمعَه، و"الرُّطَبُ" ثَمَرٌ، فكسّروه تكسيرَه مع أنّه ليس بواحدٍ، وإنّما هو جمعُ "رُطَبَةٍ". وأمّا "فُعُلٌ" بضمّ الفاء والعين نحوُ: "عُنُقٍ" و"طُنُبٍ" و"أُذُنٍ"، فهو قليل كـ"فِعَلٍ"، نحوِ: ضِلَع. قالوا فيه: "عُنُقٌ"، و"أعْناقٌ"، و"أُذُنٌ"، و"آذانٌ"، فلم يجاوزوه إلى غيره لقلّته، كما لم يجاوزوا "إبِلًا" و"آبالًا" وبابَه فاعرفه. فجميعُ أبنية جموع الثلاثيّ عشرةٌ على ما ذكرنا، منها خمسةُ أبنية مَقيسةٍ مطّرِدةٍ، وهي "أفْعُلُ"، و"أفْعالٌ" و"فُعُولٌ"، و"فِعالٌ"، و"فِعْلانُ". فأمّا "أفْعُلُ" و"أفْعالٌ" فبناءان للقليل، وأمّا "فُعُولٌ" و"فِعالٌ" فأخوان، وهما للكثير، و"فُعُولَةُ" و"فِعالَةُ" مؤنَّثاهما يجريان مجراهما، وليس "أفْعُل" و"أفْعَالٌ" أخوَيْنِ؛ لأنّ ما يجيء فيه "فُعُولٌ" يجيء فيه "فِعَالٌ" بعينه، وليس كذلك "أفْعُل" و"أفْعالٌ"، وباقي الأمثلة شاذّةٌ من جهة الاستعمال، وبعضُها أكثرُ من بعض. وقوله: "فأفْعالٌ أعَمُّها"، يريد: أعمّها استعمالًا؛ لأنه ورد في الأبنية العشرة، وهو شاذّ في بناءَيْن منها، وذلك قولهم: "أفْراخٌ" و"أرْآدٌ"، و"أرْباعٌ" و"أرْطابٌ"، مطّردٌ في الباقي. ¬
ثم "فُعالٌ" أكثرُ من بقيّة الأبنية؛ لأنّه يرد في ستّة أمثلة في "فَعْلٍ" مفتوحَ الأوّل ساكنَ الثاني، نحوِ: "كِباشٍ"، و"زِنادٍ"، وفي "فِعْلٍ" بكسر الفاء، نحوِ: "قِدْح"، و"قِداح"، و"فُعْلٍ" بضمّ الفاء، نحوِ: "خُفّ"، و"خِفافٍ"، وفي "فَعَلٍ" بفتح الأوّل والثاني، نحوِ: "جَمَلٍ" و"جِمالٍ"، وفي "فُعَلٍ" بضمّ الأوّل وفتح الثاني، نحوِ: "رُبَعٍ" و"رِباعٍ"، وفي "فَعْلٍ" بضمّ الثاني، نحوِ: "سَبُعٍ" و"سِباعٍ". ثمّ "فُعُولٌ" بعد "فِعالٍ" في الكثرة، ترد في خمسة أمثلة، قالوا: "فُلُوسٌ" في جمع "فَلْسٍ"، و"عُرُوقٌ" في جمع "عِرْقٍ"، و"جُرُوحٌ" في جمع "جُرْحٍ"، فهذه ثلاثةُ أمثلةٍ ساكنةُ العين متحرّكةُ الفاء بالحركات الثلاث، وقالوا: "أُسُود" و"نُمُورٌ" في جمع "أسَدٍ" و"نَمِرٍ". و"فِعْلانُ" مقاربٌ في الكثرة لـ"فُعُولٍ". قالوا: "رِئْلانٌ"، و"صِنْوانٌ"، و"عِيدانٌ"، و"خِرْبانٌ"، و"صِرْدانٌ"، في جمع "رَأْلٍ"، و"صِنْوٍ"، و"عُودٍ"، و"خَرَبٍ"، و"صُرَدٍ". ثم "أفْعُلٌ" في الكثرة بعد "فِعْلان" ورد في أربع أمثلة: قالوا: "أفْلُسٌ"، و"أرْجُلٌ"، و"أزْمُنٌ"، و"أضْلُعٌ"، في جمع "فَلْسٍ"، وَ"رِجْلٍ" و"زمَنٍ" و"ضِلْعٍ". و"فُعْلانٌ" مضمومَ الفاء، و"فِعَلَةٌ" بكسر الفاء وفتح العين، وهما متساويان في الكثرة، قالوا: "بُطْنانٌ"، و"ذُؤْبانٌ"، و"حُمْلانٌ"، في جمع "بَطْنٍ"، و"ذِئْبٍ"، و"حَمَلٍ"، وقالوا: "عِوَدَةٌ"، و"قِرَدَةٌ"، و"قِرَطَةٌ"، في جمع "عَوْدٍ"، وهو البَعيرُ الهرِمُ، و"قِرْدٍ"، و"قُرْطٍ"، وهو الحَلْقة في الأُذْن. وباقي الأمثلة متقاربةٌ في القلّة والكثرة، فأمّا "حِجْلَى" في جمع "حَجَلٍ"، فهو قليل لم يأت منه في الثلاثيّ، إلّا هذا المثالُ، ولذلك لم يذكره صاحب الكتاب مع أمثلة المجموع. قال الأصمعيّ: هو لغةٌ في "الحَجَل". والصحيحُ أنّه جمعٌ، ونظيرُه "ظِرْبَى" في جمع "ظَرِبانٍ" على زنة "قَطِرانٍ"، وهو دُوَيْبَّةٌ مُنْتِنَةٌ. والذي يدلّ أن "حِجْلَى"، و"ظِرْبَى" جمعان تأنيثُهما، يُقال: "هي الحِجْلَى والظِّرْبَى"، و"هو الحَجَلُ" حكى ذلك أبو زيد، ولو كان لغةً في "الحَجَل" كما قال الأصمعيّ، لكان مذكّرًا مثلَه. وقال أبو الحسن: "حِجْلى" يكون واحدًا، ويكون جمعًا كـ"الفُلْك" و"الهِجانِ". فعلى هذا يكون بناءً ثالثًا، فأمّا البيت الذي أنشده، وهو [من الكامل]: ارْحَمْ أُصَيْبِيَتِي الذين كأنّهم ... حِجْلَى تَدَرَّجُ في الشَّرَبَّةِ وُقّعُ (¬1) فهو لعبد الله بن الحَجّاج، والشاهدُ فيه استعمالُ "حِجْلَى" جمعًا. و"أصَيْبِيَتِي" تصغير "أصْبِيةٍ"، وهو جمع "صَبِيٍّ" كـ"رَغِيفٍ" و"أرْغِفَةٍ". وحقّره على لفظه، ولم يردّه إلى الواحد؛ لأنّه بناءُ قلّة. شَبَّهَ صِبْيَتَه لضُعْفهم عن الكَسْب بحجل تدرّج من أماكنه، ولا يَطِيرُ لعَجْزه عن الطَّيَران. والشَّرَبَّةُ: موضعٌ، وهو بناءٌ غريبٌ. ¬
فصل [أوزان جمع الثلاثي المجرد الذي لحقته تاء التأنيث]
فصل [أوزان جمع الثلاثي المجرد الذي لحقته تاء التأنيث] قال صاحب الكتاب: وما لحقته من ذلك تاء التأنيث, فأمثلة تكسيره "فِعالٌ"، "فُعُولٌ", "أفْعُلٌ، "فِعَلٌ"، "فُعَلٌ"، "فُعْلٌ". نحو: "قصاعٍ", و"لقاح", و"برام", و"رقاب", و"بدور" و"حجوز" و"أنعم", و"أينق" و"بدرٍ", و"لقح" و"تير", و"معد" و"نُوَبٍ" و"بُرَق" و"تخم" و"بُدن". * * * قال الشارح: اعلم أن ما لحقتْه التاءُ من الثلاثيّ ستّةُ أبنية: "فَعْلَةُ" بفتح الأوّل وسكون الثاني، و"فَعَلَةُ" بفتح الأوّل والثاني، و"فَعِلَةُ" بفتح الأوّل وكسر الثاني، و"فُعْلَةُ" بضمّ الأوّل وسكون الثاني، و"فِعْلَةُ" بكسر الأوّل وسكون الثاني، و"فُعَلَةُ" بضمّ الأوّل وفتح الثاني. فأمّا الأوّل، وهو "فَعْلَةُ"، فجمعُه لأدنى العدد بالألف والتاء، نحوُ: "قَصْعَةٍ"، و"قَصَعاتٍ"، و"جَفْنَة"، و"جَفَنات"، و"صَحْفَة"، و"صَحَفات". وإذا أردت الكثيرَ، كسّرته على "فِعالٍ"، وذلك: "قَصْعةٌ"، و"قِصاعٌ"، و"جَفْنَةٌ"، و"جِفانٌ"، و"صَحْفَةٌ"، و"صِحافٌ". هذا هو الباب، وقد يجيء على "فُعولٍ". قالوا: "بَدْرَةٌ"، و"بُدُورٌ"، و"مَأنَةٌ"، و"مُؤُونٌ"، و"المَأنَةُ". أسفلُ البطن. أدخلوا "فُعُولًا" على "فِعالٍ"، لأنهما أُختان، كما دخلت عليها في جمع "فَعْلٍ"، نحوِ: "فَلْسٍ"، و"فُلُوسٍ"، إلّا أنّ "فُعُولاً" في جمع "فَعْلَةَ" قليلٌ، وفي "جمع فَعْلٍ" كثيرٌ، وذلك لأنّ "فَعْلًا" أخفُّ من "فَعْلَة" وأكثرُ استعمالًا، فكانت أكثرَ تصرُّفًا. وإنّما اختصّ "فَعْلَةُ" بـ"فِعالٍ"؛ لأنّه أخفُّ البناءَيْن، والمعتل والمضاعف في ذلك كالصحيح، قالوا في المعتل العين: "ضَيْعَةٌ"، و"ضَيْعاتٌ"، و"ضِياعٌ"، و"عَيْبَةٌ"، و"عَيْباتٌ"، و"عِيابٌ"، وقالوا: "رَوْضةٌ"، و"رَوْضاتٌ"، و"رِياضٌ"، قال الله تعالى: {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} (¬1). وقالوا في المعتلّ اللام: "ظَبْيَةٌ"، و"ظَبَياتٌ"، و"ظِباءٌ"، و"رَكْوَةٌ"، و"رَكَواتٌ"، و"رِكاءٌ"، و"قَشْوَةٌ"، و"قَشَواتٌ"، و"قِشاءٌ"، وربّما كسّروه على "فُعَلٍ". قالوا: "نَوْبَةٌ"، و"نُوَبٌ"، و"جَوْنَةٌ"، و"جُوَنٌ"، ومثله "قَرْيَةٌ"، و"قُرّى". وليس ذلك بقياس مطّرد، إنّما هو محمول على غيره، حملوه على "فُعْلَةَ"، حيث قالوا: "غُرَفٌ" و"ظُلَمٌ"، كما حملوا "فَعْلًا" ساكنَ العين على "فُعَلٍ"، فجمعوه على "فِعْلان". قالوا: "حَشٌّ"، و"حِشّانٌ"، ¬
و"عَبدٌ"، و"عِبْدانٌ"، و"صُرَدٌ"، و"صِرْدانٌ"، و"نُغَرٌ"، و"نِغْرانٌ". وقد يجيء على "فِعَلٍ" بكسر الفاء وفتح العين، قالوا: "خَيْمَةٌ"، و"خِيَمٌ"، و"هَضْبَةٌ"، و"هِضَبٌ"، و"جَفْنَةٌ"، و"جِفَنٌ". وليس ذلك أيضًا بقياس، إنما هو مقصور من "فِعالٍ"، نحوِ: "هِضابٍ"، و"جِفانٍ". والمضاعفُ منه كالصحيح، قالوا: "سَلَّةٌ"، و"سَلّاتٌ"، و"سِلالٌ"، و"جَرَّةٌ" و"جَرّاتٌ"، و"جِرارٌ"، و"رَبَّةٌ"، و"رَبّاتٌ"، و"رِبابٌ". وقد يستغنون بجمع القلّة، فلا يجاوزونه، قال سيبويه (¬1): وقد يجمعون بالتاء، وهم يريدون الكثرةَ. وأمّا الثاني، وهو "فَعَلَةُ" بالتحريك، فإنّه يجمع في القلة بالتاء، وفي الكثرة على "فِعالٍ". قالوا: "رَقَبَةٌ"، و"رَقَباتٌ"، و"رِقابٌ"، و"رَحَبَةٌ"، و"رَحَباتٌ"، و"رِحابٌ"، و"الرحبةُ": ساحةُ المسجد وغيرِه بتحريك الحاء. وحكى أبو زيد: "رَحْبَةٌ"، بالسكون. والمعتلُّ كذلك، قالوا: "ناقَةٌ"، و"نِياقٌ"، والقليل "ناقاتٌ"، وربّما كسّروه على "فُعْلٍ"، قالوا: "ناقةٌ"، و"نُوقٌ"، و"قارَةٌ"، و"قُورٌ"، و"القارةُ": الأكَمَةُ. قال الراجز: 718 - هل تَعرِفُ الدارَ بأعْلَى ذي القُورْ ... قد دَرَسَتْ غَيْرَ رَمادٍ مَكْفُورْ ومثله من الصحيح خَشَبَةٌ، وخُشْبٌ، وبَدَنَةٌ، وبُدنٌ، قال الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬2)، وقال: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} (¬3) قُرىء بالإسكان والضمّ (¬4)، وليس ذلك بالأصل، إنما "فُعْلٌ" مخفَّفٌ من "فُعُلٍ" مقصورٌ من "فُعُولٍ"، وقد ¬
كُسرت أيضًا على "فِعَلٍ" قالوا: قامَةٌ، وقِيَمٌ، وتارَةٌ، وتِيَرٌ، قال الراجز: 719 - يَقُومُ تاراتٍ ويَمْشِي تِيَرًا و"فِعَلٌ" هنا مقصور من "فِعَالٍ". ويؤيّد ذلك عندك قلبُ الواو ياءً في "قِيَمٍ"، كما قُلب في "سَوْطٍ"، و"سِياطٍ"، و"حَوْضٍ"، و"حِياضٍ"، إذ لو كان أصلًا، لصحّت الواوُ فيه كما صحّت في "زَوْجٍ"، و"زِوَجَةٍ"، و"عَوْدٍ" و"عِوَدَةٍ". وأمّا المعتل اللام، فنحوُ: "قَناةٍ"، و"قَطاةٍ"، و"حَصاةٍ"، فأكثرُ ما يجيء جمعُه كجمع الأجناس، أو جمعِ السلامة بالألف والتاء، فأمّا الأوّل، فنحوُ: "قَناةٍ"، و"قَنًا"، و"قَطاةٍ"، و"قَطًا". وأمّا الثاني: وهو جمع السلامة، فنحوُ: "قَنَواتٍ" و"قَطَواتٍ"، و"حَصَياتٍ"، وقد جاءت على "فِعَالٍ". قالوا: "أضاةٌ"، و"إضاءٌ"، قال الشاعر [من الطويل]: 720 - عُلِينَ بكِدْيَوْنٍ وأُبْطِنَّ كُرَّةً ... فَهُنَّ إضاءٌ صافِياتُ (¬1) الغَلائِلِ ¬
وقالوا: "أمَةٌ"، و"إماءٌ". ويجيء أيضًا على "فُعُولٍ" كما جاء الصحيح. قالوا: "صَفاةٌ"، و"صُفِيٌّ"، فـ"صُفِيّ" "فُعُولٌ"، وأصلُه "صُفُويٌ". وإنّما قلبوا الواو ياءً لوقوعها ساكنةً مع الياء. قال الشاعر [من الرجز]: 721 - كأنّ مَتْنَيْهِ من النَّفيِّ ... من طُولٍ إشرافٍ على الطَّوِيِّ مَواقِعُ الطَّيْرِ على الصُّفِيِّ وقالوا: "دَواةٌ"، و"دُوِيٌّ"، وهو "فُعُولٌ" أيضًا، فعُمل به ما تقدّم ذكرُه. وما جاء من المضاعف، فحكْمه حكمُ الصحيح، لكنّه عزيزٌ. وأمّا الثالث: وهو "فُعْلَةُ"، فإنه يجمع في القلّة بالألف والتاء. قالوا: "رُكْبَةٌ"، و"رُكُباتٌ"، و"ظُلمَةٌ"، و"ظُلُماتٌ"، قال الله تعالى: {مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} (¬1)، وقال: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} (¬2). ويجمع في الكثير على "فُعَلٍ"، قالوا: "رُكَبٌ"، و"ظُلَمٌ"، و"غُرَفٌ". هذا هو الباب كما كان "فِعالٌ"، نحوُ: "خِفانٍ"، و"قِصاعٍ" هو البابَ في "فَعْلَةَ". و"فَعَلاتُ" كـ"جَفَناتٍ"، و"قَصَعاتٍ" أشدُّ تمكُّنًا من "غُرفات"، و"ظُلُماتٍ"، وذلك ¬
لأمرَيْن: أحدُهما: أن "فَعْلَةَ" كـ"جَفْنَةٍ"، و"قَصْعَةٍ" أكثرُ من "فُعْلَةَ" بالضمّ، وأخفُّ لفظًا، فكان التوسّع فيه أكثرَ. والثاني: كراهيةُ الضمّتَيْن؛ إذا قلت: "رُكُباتٌ". وقد يجيء على "فِعالٍ" في المضاعف، قالوا: "جُبّةٌ" و"جِباب"، و"قُبَّةٌ" و"قِبابٌ"، وهو كثيرٌ. وقالوا في غير المضاعف: "بُرْمَةٌ"، و"بِرامٌ"، و"نُقْرَةٌ"، و"نِقارٌ"، و"بُرْقَةٌ"، و"بِراقٌ". شبّهوه بـ"قَصْعَةٍ" أو"قِصاعٍ". وقالوا فيما اعتلّت عينه: "دُولَةٌ"، و"دُولاتٌ"، و"دُوَلٌ"، وقالوا في المعتلّ اللام: "خُطْوَةٌ"، و"خُطُواتٌ"، و"خُطى"، و"عُرْوَةٌ"، و"عُرُواتٌ"، و"عُرًى". والمعتلُّ بالياء في الكثير كذلك، قالوا: "كُلْيَةٌ"، و"كُلًى"، و"مُدْيَةٌ"، و"مُدًى". ولا يكادون يجمعونه بالتاء، كأنّهم كرهوا جمعه بالتاء لِما يلزم من ضمّ العين، فيقال: "كُلُياتٌ"، فتقع الياء بعد ضمّة، فيثقل النُّطْقُ بها، فاجتزؤوا ببناء الكثرة عنه، وقالوا: "ثلاث غُرَفٍ ورُكَبٍ"، فأضافوا عدد القليل إلى بناء الكثرة، كما قالوا: "ثلائةُ قِرَدَةٍ"، و"ثلاثةُ جُرُوحٍ"، فأضافوه إلى بناء الكثرة. والمضاعفُ مثلُه، قالوا: "سُرَّةٌ"، و"سُرّاتٌ"، و"سُرَرٌ"، و"مُدَّةٌ"، و"مُدّاتٌ"، و"مُدَدٌ"، و"جُدّةٌ"، و"جُدّاتٌ"، و"جُدَدٌ". وأمّا الرابع: وهو "فِعْلَةُ"، فإنّه يجمع في القلّة بالألف والتاء، نحوَ: "سِدْراتٍ"، و"كِسراتٍ"، وفي الكثير يُكسَّر على "فِعَلٍ". قالوا: "سِدَرٌ"، و"كِسَرٌ"، وقد يقولون: "ثلاثُ كِسَرٍ"، و"ثلاثُ فِقَرٍ"، فيُوقِعونه على القليل، كما قالوا: "ثلاث غُرَفٍ"، فأوقعوه على القليل. و"ثلاثُ كِسَرٍ" أقوى من "ثلاث غُرَفٍ" لأنّ جمعَ "فُعْلَةَ" مضمومَ الفاء بالألف والتاء أكثرُ من جمعِ "فِعْلَةَ" بكسر الفاء بهما، فـ "غُرُفاتٌ" أكثرُ من "كِسِراتٍ"، وذلك من قبل أن التقاء الكسرتَيْن في كلمة واحدة أقلُّ من التقاء الضمَّتَيْن، ولذلك قلّ بابُ "إبِلٍ"، و"إطِلِ"، وكثُر بابُ "طُنُبٍ" و"جُنُبٍ". والمعتلُّ اللام بهذه المنزلة، قالوا: "لِحْيَةٌ"، و"لِحًى"، و"فِرْيَةٌ"، و"فِرًى"، و"رِشْوَةٌ"، و"رِشًى". ولا يكادون يجمعونه بالألف والتاء؛ لأنه كان يلزم كسرُ ثانيه، فيقال: "رِشِواتٌ". وإذا كرهوا اجتماعَ الكسرتين في الصحيح، كانوا له في المعتلّ أكرهَ، وقالوا في المعتلّ العين: "قِيمَةٌ"، و"قِيماتٌ"، و"دِيمَةٌ"، و"دِيماتٌ"، و"قِيَمٌ"، و"دِيَمٌ" جمعوه في القلّة بالألف والتاء؛ لأنه لا يجتمع فيه كسرتان، كما اجتمعتا في المعتل اللام، وقالوا في المضاعف: "قِدَّةٌ"، و"قِدّاتٌ"، وقِدَدٌ، وعِدَّةٌ، وَ"عدّات"، و"عِدَدٌ" وربّما كسّروا "فِعْلَةَ" على "أفْعُلَ"، قالوا: "نِعْمَةٌ"، و"أنْعُمٌ"، و"شِدَّةٌ"، و"أشُدٌّ"، وذلك قليل، ليس بالأصل. والذي عليه المحقِّقون أنّ "أنْعُمًا" جمعُ "نُعْم" على القياس، و"النُّعْمُ" المصدرُ، و"أشُدٌّ" جمعُ "شَدٍّ" "كقَدٍّ" و"أقُدٍّ". قال أبو عُبَيْدةَ مَعْمَرُ بن المُثَنَّى: أشُدٌّ جمعٌ لا واحدَ له.
فصل [جمع الصفات]
الخامس: وهو "فَعِلَةُ" بفتح الأوّل وكسر الثاني، نحوُ: "نَقِمَةٍ" و"مَعِدَةٍ"، فتكسيرُهُ في الكثير "فِعَلٌ" بكسر الفاء، وفتح العين، نحوُ: "نِقَم" و"مِعَدٍ". وليس ذلك بقياس، والذي سوّغ لهم ذلك أنهم يقولون: "نِقْمَةٌ" و"مِعْدَةٌ" بسكون الثاني، فيصير كـ"كِسْرَةٍ"، و"خِرْقَةٍ"، فيُكسَّر تكسيرَه، وفي القلّة بالألف والتاء، نحوَ: "نَقِماتٍ" و"مَعِداتٍ"، ولا يُغيَّر. السادس: ما كان على "فُعَلَةَ" بضمّ الفاء وفتح العين، وذلك نحوُ: "تُخَمَةٍ"، و"تُهَمَةٍ"، فتكسيرَه في الكثرة على "تُخَم"، و"تُهَم"، بضمْ الأوّل وفتح الثاني. أجروا هذا القبيل من الأسماء في الجمع مجرى "فُعْلةَ"، كـ"ظُلْمَةٍ" و"غُرْفَةٍ"، كما أجروا "فَعَلَةَ" بفتحِ الفاء والعين مجرى "فَعْلَةَ" ساكنَ العين. فقالوا: "رِقابٌ" كما قالوا: "جِفانٌ". وليس "تُخمٌ". و"تُهَمٌ" كـ"رُطَبٍ", لأنّ "رُطَبًا" ونحوه جنسٌ، فهو بمنزلة "تَمْرٍ" و"بُرٍّ"، فهو اسمُ واحد يقع للجنس، ألا ترى أنّه يُذكَّر، فيقال: "هو الرطب"، كما يُقال: "هو التمر". و"التُخَمُ" ونحوُه مؤنَّثٌ، نحوُ قولك: "هي التخم". ولو صغّرت "رطبًا"، لصغّرتَه على لفظه، فقلت: "رُطَيْبٌ"، ولو كان تكسيرًا، لكنت تقول: "رُطيْباتٌ". فلو صغّرت "تخمًا"، لقلت: "تُخَيْماتٌ"، فتردّه إلى الواحد، ثمّ تجمعه بالألف والتاء؛ لأنه جمعٌ مكسّرٌ. فجميعُ أبنية جمع هذه الأسماء ستة على ما ذُكر، فأعمُّها "فِعالٌ"؛ لأنّه يكون في أربعةٍ منها، وذلك أنّه يَكون في "فَعْلَةَ"، نحوِ: "جَفْنَةٍ" و"جِفانٍ"، و"فِعْلَةَ" كـ"لِقْحَةٍ" و"لِقاحٍ". و"اللّقْحَةُ": الناقة تُحلَب، وفي "فُعْلَةَ" بالضمّ كـ" بُرْمَةٍ" و"بِرام"، و"البرمةُ": القِدْرُ، وفي "فَعَلَةَ" كـ"رقَبَةٍ" و"رِقابٍ"، و"فِعالٌ" في "فَعْلَةَ" و"فَعَلَةَ" بسكون العين وتحريكها قياسٌ مطّردٌ، وهو فيما عداهما شاذّ. و"فُعَلٌ" في "فُعَلَةَ" و"فُعْلَةَ" بضمّ الفاء أصلٌ، وما عداه فهو شاذّ. و"فِعَلٌ" في "فِعْلَةَ" بكسر الفاء أصلٌ، وغيرُه فيها شاذّ. وأمّا "فَعِلَةُ" كـ"مَعِدَةٍ"، فقد ذُكر أمرها، فاعرفه. فصل [جمع الصفات] قال صاحب الكتاب: وأمثلة صفاته كأمثلة أسمائه، وبعضها أعم من بعض, وذلك قولك أشياخ وأجلاف وأحرار وأبطال وأجناب وأيقاظ وأنكاد وأعبد وأجلف وصعاب وحسان ووجاع, وقد جاء وجاعي ونحوه: حباطي وحذاري وضيفان وإخوان ووغدان وذكران وكهول ورطلة وشيخة وورد وسحل ونصف وخشن, وقالوا: سمحاء في جمع "سمح".
قال الشارح: اعلم أنّ تكسير الصفة ضعيفٌ، والقياسُ جمعُها بالواو والنون. وإنّما ضعُف تكسيرها؛ لأنها تجري مجرى الفعل، وذلك أنّك إذا قلت: "زيدٌ ضاربٌ"، فمعناه: يَضْرِبُ، أو ضَرَبَ، إذا أردتَ الماضي، وإذا قلت: "مضروبٌ"؛ فمعناه: يُضْرَبُ، أو ضُرِبَ، ولأنّ الصفة في افتقارها إلى تقدم الموصوف، كالفعل في افتقاره إلى الفاعل. والصفةُ مشتقة من المصدر كما أن الفعل كذلك، فلمّا قاربت الصفةُ الفعلَ هذه المقارَبةَ، جرت مجراه، فكان القياس أن لا تُجمع كما أنّ الأفعال لا تُجمع، فأمّا جمعُ السلامة، فإنّه يجري مجرى علامة الجمع من الفعل إذا قلت: "يَقُومُونَ"، و"يَضْرِبُونَ"، فأشبهَ قولُك: "قائمون": "يقومون". وجرى جمعُ السلامة في الصفة مجرى جمع الضمير في الفعل؛ لأنّه يكون على سلامة الفعل، فكل ما كان أقربَ إلى الفعل، كان من جمع التكسير أبعدَ، وكان البابُ فيه أن يُجمع جمعَ السلامة، لِما ذكرناه من أنّ "ضاربون"، و"مضروبون" يُشْبِه "يَضرِبون"، و"يُضْرَبون" من حيثُ سلامةُ الواحد في كل واحد منهما، وأن الواو للجمع والتذكير كما كانت في الفعل كذلك. وقد تُكسَّر الصفة على ضُعْفٍ لغَلَبَة الاسميّة. وإذا كثُر استعمالُ الصفة مع الموصوف، قَوِيَت الوصفيّةُ، وقيل دخولُ التكسير فيها، وإذا قلّ استعمالُ الصفة مع الموصوف، وكثر إقامتُها مُقامه، غلبت الاسميّةُ عليها، وقوي التكسير فيها. وتكسير الصفة على حد تكسير الاسم، وقولُه: "وأمثلهُ صفاته كأمثلة أسمائه"، يريدُ أن أبنية تكسير الصفة كأبنية تكسير الاسم. والضميرُ في قوله: و"أمثلةُ صفاته كأمثلة أسمائه" يعود إلى الاسم الثلاثيّ. والمرادُ أنّ تكسير الصفة، إذا كانت ثلاثيّة، كتكسير الاسم إذا كان ثلاثيًا، وأبنيةُ الثلاثيّ من الصفات سبعةُ أبنية: "فَعْلٌ" بفتح الأوّل وسكون الثاني، و"فِعْلٌ" بكسر الأوّل وسكون الثاني، و"فُعْلٌ" بضمّ الأوّل وسكون الثاني، و"فَعَلٌ" بفتحهما، و"فَعِلٌ" بفتح الأوّل وكسر الثاني، و"فَعُلٌ" بفتح الأوّل وضمّ الثاني، و"فُعُلٌ" بضمّهما. فما كان من الأوّل، وهو "فَعْل"، فتكسيره على "فِعَالٍ"، قالوا: "صَعْبٌ"، و"صِعابٌ"، و"فَسْلٌ"، و"فِسالٌ"، و"خَذلٌ"، و"خِدالٌ". والفسلُ: الرَّذْلُ، والخدلُ: الممتلىءُ. هذا هو الغالب المطرد، وإنما جاء على "فُعُولٍ". قالوا: "كَهْلٌ"، و"كُهُولٌ"، دخلت "فُعُولٌ" على "فِعَالٍ" هنا على حد دخولها عليها في الأسماء، نحوِ: "كَعْبٍ"، و"كِعابٍ"، و"كُعُوبٍ"، إلّا أنها في الاسم أقعدُ منها في التكسير، فكان التوسعُ فيها أكثر، وقد جاء على "فُعُلٍ" أيضًا. قالوا: "رجلٌ كَثُّ اللِّحْيَة"، و"قومٌ كُثٌّ"، وقالوا: "رجلٌ ثَطٌّ، للكَوْسَج، و"قومٌ ثُطٌّ"، و"ثَوْبٌ سَحْلٌ"، و"ثيابٌ سُحُلٌ" وهو الأبيض، وقالوا: "فرسٌ وَرْدٌ"، و"خَيْلٌ وُرْدٌ"، وهو قليل. وربّما قالوا: "كِثاثٌ"، و"ثِطاطٌ"، و"وِرادٌ" على القياس، وقالوا: سَمْحٌ، و"سُمَحاءُ"، فجاؤوا به على معناه؛ لأنّه في معنى اسم الفاعل
فجاء على "عَالِم"، و"عُلَماءَ"، و"صالِحٍ"، و"صُلَحاءَ"، وما أقربَه من "المَذاكِير"، و"المَلامِحِ"، كأنّه جاء على غير المستعمل ولا يُكسَّر القليل على "أفْعُلَ"، فلا يُقال في "صَعْبٍ": "أصْعُبٌ" ولا في "فَسْلٍ": "أفْسُلٌ"، كما قالوا في الاسم: "أكْعُبٌ"، و"أفْلُسٌ"، وذلك أنّ الغرض من المجيء بأبنية القلّة أنّ تُضاف أسماءُ أدنى العدد إليها من نحو: "ثلاثةُ أثوابٍ"، و"خمسةُ أكْلُبٍ"، وأنت لا تضيف إلى الصفة؛ لأنّ الغرض بيانُ نوع المعدود، ولا يحصل ذلك بالإضافة إلى الصفة. ألا ترى أنك إذا قلت: "ثلاثةُ طِوالٍ" مَثَلًا، لم يدلّ على نوع دون نوع, لأنّ الطُّول يشترِك فيه أنواعٌ كثيرةٌ. فلمّا كان كذلك، لم يُحْتَج إلى أمثلة القلّة في الصفات، فإذا احتيج إلى ذلك؛ جمعوه جمعَ السلامة يقع للقليل، فاستغنوا به. وقد كسّروا بعض الصفات تكسيرَ الأسماء، فجاؤوا بها على "أفْعُلَ". قالوا: "عبدٌ"، و"أعْبُدٌ"، و"عَبِيدٌ"، كما قالوا: "كَلْبٌ"، و"أكْلُبٌ"، و"كَلِيبٌ"، وقالوا: "شَيْخٌ"، و"أشْياخٌ"، كما قالوا: "بَيْتٌ"، و"أبْياتٌ". وقالوا: "عِلْجٌ"، و"عِلَجَةٌ"، و"أعْلاجٌ"، كما قالوا: "أجْذاعٌ" في "جِذْعٍ". وقالوا: "شِيخانٌ" و"ضِيفانٌ" على حدّ "رَألٍ" و"رِئْلانٍ". وقالوا: "شِيَخَةٌ" كما قالوا: "زِوَجَةٌ"، و"عِوَدَةٌ" في الاسم، وقالوا: "وَغْدٌ"، و"وُغْدانٌ" بالضمّ على زنةِ "فُعْلانَ"، كما قالوا: "ظَهْرٌ"، و"ظُهْرانٌ". وقالوا: "وِغْدانٌ" بكسر الفاء كما قالوا: "جَحْشٌ" و"جِحْشانٌ"، و"عَبْدٌ"، و"عِبْدانٌ"، فجاءت أمثلتُه على تسعةِ أبنية، منها بناءٌ واحدٌ مطّردٌ، وهو "فِعالٌ"، والبواقي شاذّةٌ تُسمَع ولا يُقاس عليها. وبعضُها أكثرُ من بعض، وذلك لأنّهم أجروها مجرى الأسماء، ألا ترى أنّهم لا يكادون يستعملونها مع موصوفاتها، فلا يقولون: "رجلٌ عبدٌ"، ولا "رجلٌ شيخٌ"، ولو سمّيت رجلًا بصفة، لكان حكمُها حكمَ الأسماء. وأمّا الثاني: وهو "فِعْلٌ"، فإنّه يكسّر على "أفْعالٍ"، نحوِ: "جِلْفٍ"، و"أجْلافٍ"، والجِلْفُ: الشاة المسلوخة بلا رأسٍ ولا قوائمَ. وقالوا: "نِضْوٌ"، و"أنْضاءٌ"، وهو المهزول، وحكى أبو زيد: "خِلْوٌ" بالكسر، و"أخْلاءٌ"، جعلوا "أفْعالًا" هنا بدلاً من "فُعُولٍ" و"فِعَالٍ". ولذلك لا يجيء معهما، فلا يُقال: "أجْلافٌ"، و"جُلُوفٌ"، ولا "جِلافٌ". وقال بعضهم: "أجْلُفٌ"، كما قالوا: "أذْؤُبٌ"، أجروه مجرى الأسماء، وقالوا: "رجلٌ صِنْعٌ"، و"قَوْمٌ صِنْعُونَ"، لم يجاوزوا ذلك. والصِّنْعُ: الحاذق. وليس شيءٌ من هذه الصفات يمتنع من الجمع بالواو والنون. وأمّا الثالث: وهو "فُعْلٌ"، بضمّ الفاء وسكون العين، فهو مثلُ "فِعْلٍ" المكسورِ الفاء في القلّة، قالوا: "رجلٌ حُلْوٌ"، و"قومٌ حُلْوُونَ"، وقالوا: "مُرٌّ"، و"أمْرارٌ"، و"حُرٌّ"، و"أحْرارٌ،" كما قالوا: "جِلْفٌ"، و"أجْلافٌ"؛ لأنّ "فِعْلًا"، و"فُعْلًا" قد يشتركان في "أفْعالٍ". وقالوا: "رجلٌ جُدٌّ" لذي الحَظّ، و"رجالٌ جُدُّونَ"، لم يجاوزوا فيه الواو
والنون، كما قالوا: "صِنْعُونَ"، ولم يجاوزوه. والتوسّعُ في "فُعْلٍ" أقل من التوسع في "فِعْلٍ"؛ لأنّه أقل في الصفة كما كان أقل منه في الأسماء. وأمّا الرابع: وهو "فَعَلٌ"، فقد كسّروه على "فِعَالٍ"، فقالوا: "حَسَنٌ"، و"حِسانٌ"، و"سَبَطٌ"، و"سِباطٌ"، وهو الشَّعْر المسترسِل غيرُ الجَعْد، وقالوا: "قَطَطٌ"، و"قِطاطٌ" للشَّعْر إذا كان شديدَ الجُعودة، حملوه على الاسم في نحوِ: "جَبَلٍ"، و"جِبالٍ"، و"جَمَلٍ"، و"جِمالٍ". اتّفق "فَعَلٌ" و"فَعْلٌ" في الصفة كما اتّفقا في "كِلابٍ"، و"جِبالٍ". وربّما كسّروه على "أفْعالٍ", لأنه ممّا يكسّر عليه في الاسم، نحوِ: "أجْبالٍ"، و"أجْمالٍ"، واستغنوا به عن "فِعَالٍ"، وذلك قولك: "بَطَلٌ"، و"أبْطالٌ"، و"عَزَبٌ"، و"أعْزابٌ". وقالوا: "خَلَقٌ"، و"أخْلاقٌ"، و"سَمَلٌ" و"أسْمالٌ". قال لَبِيدٌ [من الكامل]: 722 - تَهْدِي أوائَلَهنّ كلُّ طِمِرَّةٍ ... جَرْداءُ مِثْلُ هِراوَةِ الأعْزابِ وَلا يمتنع منه ما كان مذكّرًا يعقل من الواو والنون، نحوُ: "حَسَنُونَ"، و"عَزَبُونَ"، ومن الألف والتاء للمؤنث، كقولهم: "حَسَنَةٌ"، و"حَسَناتٌ"، و"سَبَطَةٌ"، و"سَبَطاتٌ"، و"بَطَلَةٌ"، و"بَطَلاتٌ". وربّما كسّروه على "فِعَالٍ". قالوا: "حَسَنٌ"، و"حِسانٌ"، و"سَبَطٌ"، و"سِباطٌ". وقالوا: "صنَعٌ"، و"صَنَعُونَ" للحاذقِ الصَّنْعة، وقالوا: "رَجَلُ الشَّعْر، ورَجَلُونَ" لمن رَجِلَ شَعْرُه، ولم يُكسِّروهما. استُغني عن تكسيرهما بجمع السلامة، وذلك لقوّة الجمع السالم في الصفة. وأمّا الخامس: وهو "فَعِلٌ"، بفتح الأوّل وكسر الثاني، فإنّه يكسّر على "أفْعالٍ"، قالوا: "نَكِدٌ"، و"أنْكادٌ"، وحملوه على نظيره من الأسماء، وهو "كِبِدٌ"، و"أكْبَادٌ". والصفاتُ قد تُحمَل على الأسماء في التكسير؛ لأنها أشدُّ تمكُّنًا في التكسر من الصفات. فمتى احتجتَ إلى صفة، ولم تعلم مذهبَ العرب في تكسيرها، فإنّك تكسّرها تكسيرَ الاسم الذي هو على ¬
بنائها؛ لأنها أسماءٌ، وإن كانت صفاتٍ، وذلك في الشعر، فأمّا في الكلام، فالجمعُ بالواو والنون، والألف والتاء، لا غيرُ، إلا أن تعلم مذهب العرب في تكسيرها، فلا يُعدَل عنه. وقالوا: "وَجِعٌ"، و"قومٌ وِجاعٌ" كأئهم حملوه على "حَسَنٍ"، و"حِسانٍ"، و"سَبَطٍ"، و"سِباطٍ"، فوافَقَ "فَعِلٌ" "فَعَلاً" في الصفة، كما وافقه في الاسم حيث قالوا: "جَمَلٌ"، و"أجْمالٌ"، كما قالوا: "كَتِفٌ" و"أكْتافٌ". وقالوا: "أسَدٌ"، و"أُسُودٌ"، كما قالوا: "نَمِرٌ"، و"نُمُورٌ"، فلمّا اتّفقا في الاسم، اتّفقا في الصفة. وقالوا: "وَجِعٌ" و"وَجْعَى" جاؤوا به على "فَعْلَى"، كما قالوا: "هَلْكَى"، و"زَمْنَى"؛ لأنّها بَلايا وآفات، فأجروها مجرى "قَتْلَى"، و"جَرْحَى"، وسيوضَح ذلك في موضعه. وقالوا أيضًا: "وُجاعَى"، وهو أيضًا بناءٌ لِما يكون آفةٌ وبليّة، إلّا أن "فَعْلَى" فيه أكثرُ. وحكى أبو عمر الجَرْميّ: "فَرِحٌ" و"أفْراحٌ"، ويُقال: "فِراحٌ". قال الشاعر [من الوافر]: 723 - وُجوهُ الناسِ ما عُمّرْتَ بِيضٌ ... طلِيقاتٌ وأنْفُسُهُمْ فِراحُ والباب فيه أن يُجمع بالواو والنون، نحوَ "فَرِحُون"، و"وَجلون". قال الله تعالى: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} (¬1)، وقال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} (¬2). السادس: وهو "فَعُلٌ" بفتح الأوّل، وضمّ الثاني، وحكمُه حكم "فَعِلٍ"؛ لأنّ "فَعُلًا"، و"فَعِلًا" قد كثُر في الكلمة والواحدة، نحوَ: "حَذُرٍ" و"حَذِرٍ"، و"يَقُظٍ"، و"يَقِظٍ"، و"فَطُنٍ"، و"فَطِنٍ"، لتقارُب الحركتَيْن تَعاقَبتا على الكلمة الواحدة. وقد كسّروا بعضَ ذلك على "أفْعالٍ". قالوا: "يَقُظٌ"، "أيْقاظٌ". قال الشاعر [من الطويل]: 724 - لقد عَلِمَ الأيْقاظُ أخْفِيَةَ الكرَى ... تَزجُّجَها من حالكٍ واكْتِحالَها ¬
فأمّا "يَقْظانُ"، فتكسيره على "أيْقاظٍ"، والبابُ فيه جمعُ السلامة كما تقدّم. السابع: وهو "فُعُلٌ"، بضمّ الأوّل والثاني، وهو قليل في الصفات. قالوا: "رجلٌ جُنُبٌ"، أي: ذو جَنابةٍ، وفيه لغتان، قوم من العرب يجمعونه، فيقولون: "أجْنابٌ"، و"جُنُبان" حكاه الأخفش، وقومٌ يُفرِدونه في جميع الأحوال، فيقولون: "رجلٌ جُنُبٌ"، و"رجلانِ جُنُبٌ"، و"رجالٌ جُنُبٌ". قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} (¬1)، جعلوه مصدرًا، فلذلك وحّدوه. فقد صارت أبنيةُ جمع الصفات سبعةَ أبنية، فأعمَّها "أفْعالٌ"؛ لأنّها ترد على جميعِ أبنية الصفات، وهي "فَعْلٌ" كـ"شَيْخٍ"، و"أشْياخٍ"، و"فِعْلٌ" كـ"جِلْفٍ"، و"أجْلافٍ"، و" فُعْلٌ" كـ"حُرّ"، و"أحْرارٍ"، و"فَعَلٌ" كـ"بَطَلٍ"، و"أبْطالٍ"، و"فَعُلٌ" كـ"يَقُظٍ" و"أيْقاظٍ"، و"فَعِلٌ" كـ"نَكِدٍ" و"أنكادٍ"، و"فُعُلٌ" كـ"جُنُبٍ" و"أجْنابٍ". ثمّ "فِعالٌ"؛ لأنّه يقع على ثلاثةِ أبنية: منها "فَعْلٌ"، نحوُ: "صَعْبٍ" و"صِعابٍ"، و"فَعَلٌ"، نحوُ: "حَسَنٍ"، و"حِسانٍ"، وفَعِلٌ، نحوُ: "وَجِعٍ"، و"وِجاعٍ"، وباقي الأبنية متساويةٌ. * * * قال صاحب الكتاب: والجمع بالواو والنون فيما كان من هذه الصفات للعقلاء الذكور غير ممتنع, كقولك: صعبون وصنعون (¬2) وحسنون وجنبون (¬3) , وحذرون وندسون. * * * ¬
قال الشارح: لا يمتنع شيءٌ من هذه الصفات من الجمع بالواو والنون إذا كان مذكّرًا ممّن يعقل، بل هو القياس فيها، لِما ذكرناه من أنّها جاريةٌ مجرى الأفعال في جَرْيها صفة على ما قبلها، كما تكون الأفعالُ كذلك، وواوُ "ضَارِبُونَ" تُشْبِه واوَ الضمير في "يضربون"؛ لأنها مثلُها في مَجيئها بعد سلامةٍ ما قبلها، وأنّها للجمع، فجاز أن تُجمع هذا الجمعَ، فتقول: "صَعْبُونَ" كما تقول: "يَضعُبُونَ". قال الشاعر [من الرجز]: 725 - قالت سُلَيْمَى: لا أُحِبُّ الجَعْدِينْ ... ولا السِّباطَ إنهُم مَناتِينْ وقالوا: "رجلٌ صِنْعٌ"، و"قومٌ صِنْعُونَ" للحاذقِ الصَّنْعة. وقالوا: "رجلٌ حَسَنٌ"، و"قومٌ حَسَنُونَ"، و"رجلٌ جُنُبٌ"، و"قومٌ جُنُبُونَ"، و"حَذِرٌ"، و"حَذِرُونَ". والحَذِرُ: الكثيرُ الحَذَر، يُقال: "رجلٌ حَذُرٌ وحَذِرٌ"، بالضمّ والكسر إذا كان مستيقِظًا مُتَحرِّزاً. وقالوا: "رجلٌ ندُِسٌ"، و"قومٌ ندسون". يُقال: "نَدُسٌ ونَدِسٌ" بالضمّ والكسر، أي: فَهِمٌ. * * * قال صاحب الكتاب: وأما جمع المؤنث منها بالألف والتاء فلم يجيء فيه غيره وذلك نحو عبلات وحلوات وحذرات و"يقظات" إلا مثال "فعلة", فإنهم كسروه على "فعال" كـ"جعاد" و"كماش" ,و"عبال" (¬1). وقالوا علج في جمع علجة (¬2). * * * قال الشارح: قد تقدّم الكلام أنّ الباب في الصفة جمعُ السلامة، وأنّ التكسير فيهما ¬
فصل [جمع المؤنث الثلاثي الساكن الوسط المنتهي بالتاء]
على خلاف الأصل، فإذا بعُد التكسيرُ في المذكر، كان في المؤنّث أبعدَ؛ لأنّ التأنيث يزيده شَبَهًا بالفعل، ولذلك كان من الأسباب المانعة للصرف، فإذًا الوجهُ في جمعِ ما كان مؤنّثًا بالتاء من الأسماء الثلاثية، نحوِ: "عَبْلَةٍ"، و"حُلْوَةٍ"، و"عِلْجَةٍ"، و"حَذِرَةٍ"، و"يَقُظَةٍ" أن يُجمع بالألف والتاء، فيقال: "عَبْلاتٌ"، و"حُلْواتٌ"، و"عِلْجاتٌ"، و"حَذِراتٌ"، و"يَقُظاتٌ". ولم يُسمع التكسير في شيء منها إلّا في مِثال واحد، وهو "فَعْلَةُ"، فإنّهم كسّروه على "فِعالٍ"، قالوا: "عَبْلَةٌ"، و"عِبالٌ"، و"كَمْشَةٌ"، و"كِماشٌ". يُقال: "رجلٌ كَمشٌ"، و"امرأةٌ كَمْشَةٌ" بمعنى الماضي السريع، كأنّهم لكثرةِ "فَعْلَةَ" تَصرّفوا فيها على نحوِ من تصرّفهم في "فَعْلٍ". واستوى "فَعْلٌ"، و"فَعْلَةُ" في "فِعَالٍ" إذا كانا صفتَيْن، كما استويا في الاسم من نحو: "كَلْب"، و"كِلابٍ"، و"جَمْرَةٍ"، و"جِمارٍ"، ولم يتجاوزوا "فِعالًا" في "فَعْلَةَ"؛ لأنّ التكسير لا يتمكّن في الصفة تمكُّنَه في الاسم. وقالوا: "عِلَجٌ"، و"عِلَجَةٌ"، وهو قليل، جاؤوا به على نحوٍ من تكسير الأسماء، نحوِ: "خِرْقَةٍ"، و"خِرَقٍ"، و"كِسْرَةٍ"، و"كِسَرٍ"، فاعرفه. فصل [جمع المؤنث الثلاثي الساكن الوسط المنتهي بالتاء] قال صاحب الكتاب: والمؤنث الساكن الحشو لا يخلو من ان يكون أسماً أو صفة, فإذا كان اسماً تحركت عينه في الجمع إذا صحت بالفتح في المفتوح الفاء, كـ "جمرات", وبه وبالكسر في المكسورها, كـ"سدرات", وبه وبالضم في المضمومها كـ "غرفات". وقد تسكن في الضرورة في الأول، وفي السعة في الباقين في لغة تميم. * * * قال الشارح: اعلم أن ما كان من هذه الأسماء الثلاثية المؤنّثة بوزنِ "فَعْلَةَ"، كـ"قَصْعَةٍ"، و"جَفْنَةٍ"، فإنّك تفتح العين منه في الجمع أبدًا إذا كان اسمًا، نحوَ: "جَفَناتٍ"، و"قَصَعاتٍ"، كأنّهم فرقوا بذلك بين الاسم والصفة، فيفتحون عين الاسم، ويقولون: "تَمَراتٌ"، ويسكّنون الصفة، فيقولون: "جاريةٌ خَذلَةٌ" (¬1)، و"جَوارٍ خَذلات"، و"حالةٌ سَهْلَةٌ"، و"حالاتٌ سَهْلات". وإنّما فتحوا الاسم، وسكّنوا النعت، لخفّة الاسم وثِقَلِ الصفة؛ لأنّ الصفة جاريةٌ مجرى الفعل، والفعلُ أثقلُ من الاسم؛ لأنّه يقتضي فاعلاً، فصار كالمركّب منهما، فلذلك كان أثقلَ من الاسم، ولا يجوز ¬
إسكانُه إلّا في ضرورة الشعر، نحوِ قول ذي الرُّمّة [من الطويل]: 726 - أتَتْ ذِكَرٌ عَوَّدْنَ أحْشاءَ قَلْبِهِ ... خُفُوقًا ورَفْضاتُ الهَوَى في المَفاصِلِ وقال الآخر [من الرجز]: 727 - [علّ صروفَ الدهر أو دولاتِها ... تدلْننا اللمةَ من لمّاتِها] أو تَسْتَرِيحُ النَّفْسُ مِن زَفْراتِها ¬
وقيل: إنّها لغةٌ. فإن كان مضمومَ الفاء كـ"ظلمة" و"غُرْفَة"، فإنّك تُحرِّك العين بالضمّ، نحوَ: "ظلُماتٍ"، و"غُرُفاتٍ"، و"رُكُباتٍ". وإنما ضمّوها تشبيهًا، بـ"فَعْلَةَ" و"فَعَلاتَ" من قولهم: "جَفْنَةٌ"، و"جَفَناتٌ"، ومنهم من يفتح فيقول: "ظُلَماتٌ"، و"رُكَباتٌ". وقد رُوي [من الطويل]: 728 - فلمّا رَأوْنا بادِيًا رُكَباتُنا ... على مَوْطِنٍ لا نَخلِطُ الجِدَّ بالهَزْلِ مفتوحًا، والكثيرُ الضمّ، فالضمُّ للإِتْباع، والفتحُ للخفّة. وقال بعض النحويّين: إنّ "رُكَباتٍ" بالفتح جمعُ "رُكَبٍ"، و"رُكَبٌ" جمعُ "رُكْبَةٍ"، ولو كان كما قالوا، لمَا جاز "ثلاثُ ركباتٍ"؛ لأنّ هذا الضرب من العدد لا يُضاف إلّا إلى أبنية القلّة، أو ما كان في معناها. و"ركباتٌ" على هذا كثير؛ لأنّه جمعُ جمع، والإسكانُ في "ظُلُمات" جائزٌ، فيقال: "ظُلْمات"، و"غُرْفات"، وهو تخفيفٌ لثقل الضمّة، كما قالوا في "رُسُلٍ": "رُسْلٌ". ¬
[جمع المؤنث الثلاثي الساكن الوسط المعتله المنتهي بالتاء]
وإذا كانوا يستثقلون الضمّة الواحدة في مثل "عَضُدٍ"، فيُسكِّنون، فهم للضمَّتَيْن أشدّ استثقالًا، ولا يحرّكون منه ما كان مضاعفًا من نحو: "جُدّاتٍ"، و"سُرّاتٍ"؛ لأنهم ادغموا في الواحد لاجتماع المثلَيْن، فلم يُبْطِلوا ذلك في الجمع. ولهم عنه مندوحةٌ إلى جمع آخر، وهو المكسر، نحوُ: "جُدَدٍ" و "سُرَرٍ". وما كان منه مكسور الفاء من نحو: "كِسْرَةٍ"، و"سِدْرَةٍ"، فإنّك تَكْسِر عينه في الجمع، نحوِ: "كِسِرات"، و"سِدِرات"، وهو أقلُّ من "غُرُفات"، و"ظُلُمات"؛ لأنّ، اجتماع الكسرتَيْن في أوّل الكلمة أقلُّ من اجتماع الضمّتَيْن، ولذلك قل نحوُ: "إبِلٍ"، و"إطِلٍ"، وكثُر نحوُ: "جُنُبٍ"، و"طُنُبٍ". ومنهم من يفتح العين كما يفتح في نحو: "ظُلْمة"، ويقول: "كِسَراتٌ"، و"سِدَرأتٌ"، كما يقول: "ظُلَماتٌ"، فالكسرُ للإتباع، والفتحُ للتخفيف. ومنهم من يحذف الكسرة تخفيفًا، فيقول "كِسْراتٌ" و"سِدْراتٌ"، كما يقول في "إبِلٍ": "إبْلٌ"، وفي "كَتِفٍ": "كِتْفٌ". [جمع المؤنث الثلاثي الساكن الوسط المعتلُّه المنتهي بالتاء] قال صاحب الكتاب: فإذا اعتلت فالإسكان كـ "بيضات" و"جوزات" و"ديمات" و"دولات"، إلا في لغة هذيل قال قائلهم [من الطويل]: 729 - أخو بيضات رائحٌ متأوبٌ ... [رفيقٌ بمسح المنكبين سبوح] * * * قال الشارح: والمراد إذا اعتلّت العين من الاسم المؤنّث، فما كان منه بوزن "فَعْلَة" ¬
كـ"جَوْزَةٍ"، و"عَيْبَةٍ"، فإنّك تسكّن حرفَ العلّة منه، فتقول: "جَوْزاتٌ"، و"عَيْباتٌ"، قال الله تعالى: {ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ} (¬1)، وقال: {فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} (¬2)، ولا يحرّكون، فيقولوا: "جَوْزاتٌ"، و"بَيْضاتٌ" كما يقولون: "جَفْناتٌ"، و"تَمْراتٌ"، كأنهم كرهوا حركةَ حرف العلّة، وقبله مفتوحٌ، فيُقلبُ ألفًا، فيقال: "جازاتٌ"، و"باضاتٌ"، فيلتبس "فَعْلَةُ" ساكنةَ العين، بـ"فَعَلَةَ" مفتوحةَ العين، نحوِ: "دارَةٍ"، و"داراتٍ"، و"قامَةٍ"، و"قاماتٍ"، ومنهم من يقول: "جَوَزاتٌ"، و"بَيَضاتٌ"، فيفتح، ولا يقلب؛ لأنّ الفتحة عارضةٌ، كما لم يقلب الواو من {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى} (¬3)، و {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} (¬4)، وهي لغةٌ لهُذَيْلٍ. قال الشاعر [من الطويل]: أخُو بَيَضاتٍ رائِحٌ مُتَأوِّبٌ ... رَفِيقٌ بمَسْحِ المَنْكِبَيْنِ سَبُوحُ وذلك قليل، والأوّلُ عليه الكثيرُ. وحكمُ المضمومِ الفاء والمكسورة في إسكان عينه، كحكم المفتوح، نحوُ: "دِيماتٍ"، و"دُولات" حملوه فيَ الإسكان على: "بيضات" و"عَوْرات"، فأمّا المعتلُّ اللام من نحو: "غَدْوَةٍ"، و"قَرْيَةٍ"، فإنّك تحرّك وتجري فيه على قياس الصحيح، نحوِ: "غَدَواتٍ"، و"قَرَياتٍ". لتحصُّن حرف العلّة عن القلب بوقُوع ألف الجمع بعده، إذ لو قلبتَه، لزمك حذفُ أحدهما لاجتماع الألفَين، وكان يلتبس بالواحد ممّا هو على "فَعَلَةَ" بتحريك العين من نحو: "قَناةٍ"، و"فتاة"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وتسكن في الصفة لا غير, وإنما حركوا في جمع "لجبة", و"ربعة"؛ لأنهما كأنهما في الأصل اسمان, وُصف بهما, كما قالوا: "امرأة كلبة", و"ليلة غم". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِنّ ما كان بوزن "فَعْلَةَ" صفةٌ، وجمعتَه بالألف والتاء، لم تُحرِّك وَسَطَهُ، بل تُسكِّنه فَرْقًا بين الصفة والاسم، نحوَ: "عَبْلاتٍ"، و"خَدْلاتٍ". فأمّا قولهم: "لَجْبَةٌ"، و"لَجَباتٌ" بالتحريك، ففيه وجهان: أحدُهما: أن من العرب من يقول: "شاةٌ لَجَبَةٌ"، بفتح الجيم بوزن "أكَمَةٍ"، وهي التي وَلَّى لبنُها وقَلَّ، وأجمعوا في الجمع على هذه اللغة. والوجهُ الثاني: أنّ "لجبة" في الأصل اسمٌ، وُصف به، فرُوعِيَ أصلُه بأن حُرّك في الجمع، وكذلك: "رَبْعَةٌ" اسمٌ في الأصل، يدلّ على ذلك ثبوتُ تاء التأنيث فيه مع المذكّر، كثبوتها مع المؤنّث، فتقول: "رجلٌ رَبْعَةٌ"، كما تقول: "امرأةٌ رَبْعَةٌ"، فهو اسمٌ يقع على المذكّر والمؤنّث، وُصف به كما يُقال: "رجالٌ خمسةٌ"، و"خمسةٌ" اسمٌ، وُصف به المذكّر. ¬
فصل [جمع المؤنث الساكن الوسط غير المنتهي بالتاء]
وهم قد يصفون بالأسماء على تخيُّل معنى الوصفية فيها، نحوَ قولك: "ليلة غَمٌّ"، أي: مُظْلِمَةٌ، و"امرأةٌ كَلْبَةٌ" على معنَى: دَنِيّة. ولو كان "ربعة" صفةٌ في الأصل، لفُصل به بين المذكّر والمؤنّث بحذف التاء، كما تقول: "رجلٌ عالمٌ"، و"امرأةٌ عالمةٌ". وقالوا: "العَبَلاتُ" بالفتح لقوم من قُرَيْش سُقوا بذلك, لأنّ أُمّهم كان اسمها "عَبْلَةَ"، والصفةُ إذا سمّي بها، خرجت عن حكم الصفة، وجُمعت جمعَ الأسماء، ولذلك قالوا: "الأحاوصُ"، فاعرفه. فصل [جمع المؤنث الساكن الوسط غير المنتهي بالتاء] قال صاحب الكتاب: وحكم المؤنث مما لا تاء فيه كالذي فيه التاء. وقالوا: "أرضاتٌ", و"أهلات" في جمع "أهل" و"أرض". قال [من الطويل]: 730 - فهم أهلات حول قيس بن عاصم ... [إذا أدلجوا بالليل يدعون كوثرا] وقالوا: "عرساتٌ", و"عيراتٌ" في جمع "عرسٍ", و"عير". قال الكميت [من الخفيف]: 731 - عيرات الفعال والسؤدد العدد ... إليهم محطوطة الأعكام * * * ¬
قال الشارح: حكم المؤنّث الذي لا تاءَ فيه في فتحِ ثانيه إذا جُمع بالألف والتاء حكمُ ما فيه التاءُ، فتقول في امرأةٍ اسمُها "دَعْدٌ" أو "وَعْدٌ": "دَعَداتٌ"، و"وَعَداتٌ"، كما تقول: "تَمَراتٌ"، و"جَفَناتٌ". لمّا جمعتَ ما لا تاءَ فيه بالألف والتاء كجمع ما فيه تاءٌ، صار حكمُه كحكمه في انفتاحِ ثانيه. ومن ذلك "أرْضٌ" هي مؤنّثةٌ، ولذلك تظَهر التاءُ في تحقيرها، فتقول "أُرَيْضَةٌ"، فإذا جمعتَها بالتاء، فتحتَ الراء منها، فقلت: "أرَضاتٌ"، كما قالت: "دَعَداتٌ"، و"وَعَداتٌ". وأمّا "أهَلاتٌ"، فهو جمعُ "أهْلَةٍ" بالتاء، وليس بجمع "أهْل" كما ظنّه صاحبُ الكتاب، ألا ترى أنّ "أهْلاً" مذكّرٌ، يُجمع بالواو والنون، نحوَ: "أهْلُونَ". قال الشاعر، وهو الشَّنْفَرَى [من الطويل]: 732 - ولِي دُونَكُم أهْلُونَ سِيدٌ عَمَلَّسٌ ... وأرْقَطُ زُهْلُولٌ وعَرْفاءُ جَيْألُ ¬
لأنّهم لمّا وصفوا به، أجروه مجرى الصفات في دخول تاء التأنيث للفرق، فقالوا: "رجلٌ أهْلٌ"، و"امرأةٌ أهْلَةٌ"، كما يقولون: "ضارِبٌ"، و"ضارِبَةٌ". قال الشاعر [من الطويل]: 733 - وأهْلَةِ وُدٍّ قد تَبَرَّيْتُ وُدَّهُمْ ... وألبستُهمْ في الحَمْد جَهْدي ونائلي ولمّا قالوا في المذكّر: "أهلٌ"، و"أهلون"، وفي المؤنّث "أهْلةٌ"، و"أَهلاتٌ"؛ أشبه "فَعْلَةَ" في الصفات، فجمعوه بالألف والتاء، وأسكنوا الثاني منه، فقالوا: "أهْلاتٌ"، كما فَعلوا ذلك بسائر الصفات من نحو: "صَعْباتٍ"، و"عَبْلاتٍ". ومن العرب من يقول: "أهَلاتٌ"، فيفتح الثاني، كما فتحوه في "أرَضاتٍ"؛ لأنه اسمٌ مثلُه، وإن أشبه الصفةَ. قال المُخبَّل السَّعْديّ [من الطويل]: فهُمْ أهَلاتٌ حَوْلَ قَيْسِ بنِ عاصِمٍ ... إذا أدْلَجوا باللَّيلِ يَدعُون كَوْثَرَا (¬1) فأمّا "عُرُساتٌ"، فهو جمع "عُرُسٍ"، و"عُرُسٌ" جمع " عَرُوسٍ"، و"العروس" صفةٌ تقع للذَّكَر والأنُثى. وأمّا "عِيَراتٌ" فهو جمع "عِيرٍ"، وهي الإبلُ تحمل الطعام والمِيرة، وسيبويه (¬2) ¬
فصل [حكم المعتل العين من "أفعل" في الجمع]
ذكره: "عَيَرات" مفتوحَ الفاء، ثمّ فتح الثاني في الجمع على لغةِ هُذَيْل، نحوِ: "أخُو بَيَضاتٍ"، وحكى ذلك عن العرب، ولا أعرفُ "العير" مؤنّثًا، إلا أن يكون جمع "عيرةٍ" بالتاء، فإنّه يُقال للذكر من الحُمُر: "عَيْرٌ" وللأُنثى "عَيْرَةٌ"، فأمّا قول الكُمَيْت [من الخفيف]: عِيَراتُ الفَعالِ والسُّؤْدَدِ العِدْد ... إليهم محطوطةُ الأعْكامِ (¬1) ويروى: والحَسَبِ العَوْد. وهذا البيت من قصيدةٍ يمتدح بها أهلَ البيت، رضوان الله عليهم أجمعين، أوّلُها [من الخفيف]: مَن لقَلْبٍ مُتَيَّمٍ مُسْتَهامِ ... غيرِ ما صَبْوَةٍ ولا أحْلامِ و"الفَعالُ" بفتح الفاء: الكَرَمُ، والسُّؤدَدُ: السِّيادة، والعِدُّ بالكسر: الشيء الكثير، وما له مادّةٌ لا تنقطع، والحَسَبُ: كَرَمُ الرجل، والعَوْدُ: القديم، وقوله: "محطوطةُ الأعكامِ"، أي: تركب الإبل بأعكامها، أي: بأحمالها فيهم بالحسب والرُّشْدِ والأفعال الحسنة. فصل [حكم المُعتلّ العين من "أفعل" في الجمع] قال صاحب الكتاب: وامتنعوا فيما اعتلت عينه من "أفعل". وقد شذ نحو: "أقوس", و"أثوب", و"أعين", و"أنيب". و"امتنعوا" في الواو دون الياء من "فعولٍ, كما امتنعوا في الياء دون الواو من "فعال". وقد شذ نحو: "فووجٍ", و"سُوُوق". * * * قال الشارح: قد تقدّم أن "فَعْلًا" يُجمع في القلّة على "أفْعُلَ"، نحوِ: "أكْلُبٍ"، و"أفْلُسٍ"، وفي الكثير على "فِعالٍ"، و"فُعُولٍ"، نحوِ: "كِلابٍ" و"فُلُوسٍ"؛ فأمّا المَعتلّ العين من نحوِ: "سَوْطٍ"، و"حَوْضٍ"، و"شَيْخٍ"، و"بَيْتٍ"، فإَنّه إذا أُريد به أدنى العدد، جُمِعَ على "أفْعالٍ"، نحوِ: "ثَوْبٍ"، و"أثوابٍ"، و"سَوْطِ"، و"أسْواطٍ"، و"بَيْتٍ"، و"أبْياتٍ"، و"شَيخٍ"، و"أشْياخٍ". عدلوا في المعتلّ عن "أفْعُلَ"، كراهيةَ الضمَّة في الواو والياء لو قالوا: "أسْوُطٌ"، و"أبْيُتٌ"، إذ الضمّةُ على الواو والياء مستثقَلة، وإن سكن ما قبلهما، وكان عنه مندوحةٌ، فصاروا إلى بناء آخر، وهو "أفْعالٌ". وقد شذّت ألفاظٌ، فجاءت على القياس المرفوض، قالوا: "أقْوُسٌ"، و"أثْوُبٌ"، و"أعْيُنٌ"، و"أنْيُبٌ". جاؤوا بها على "أفْعُلَ" مَنْبهة على أنّه الأصل، قال الأزْرَق العَنْبَري [من البسيط]: 734 - طِرْنَ انقطاعةَ أوْتارٍ مُحَضْرَمةٍ ... في أقْوُسٍ نازَعَتْها أيْمُنٌ شُمُلا ¬
فصل [جمع "أفعل" و"فعول" من المعتل اللام]
وكذلك المعتلّ العين بالألف، يُجمع على "أفْعالٍ" من نحوِ: "بابٍ" و"أبْوابٍ"، و"ناب"، و"أنياب". وذلك من قبل أنّ الألف منه منقلبةٌ عن ياء، أو واو متحرّكتَيْن في الأصل، ولذلك اعتلّتا. وإذا كانت الألفُ أصلُها الحركةَ، كانت في الحكم من باب: "فَرَسٍ"، و"قَلَمٍ". وبابُ ذلك "أفْعالٌ"، نحوُ: "أفْراسٍ"، و"أقْلامٍ"، لا "أفْعُلُ". وكان بعضهم يفرق بين المذكّر والمؤنّث، فيجمع منه ما كان مذكرًا على "أفْعالٍ"، كـ"بابٍ"، و"أبوابٍ"، ويجمع ما كان مؤنثًا على "أفْعُلَ" كـ"دَارٍ"، و"أدْوُرٍ"، و"نَارٍ"، و"أَنْور"، وليس دلك بمطّردٍ عند سيبويه (¬1)، ولا قياسًا، بدليلِ قولهم: "نابٌ"، و"أنْيابٌ". وإذا تجاوزتَ أدنى العدد، كانت بناتُ الواو على "فِعَالٍ"، نحوِ: "سَوْطٍ"، و"سِياطٍ"، و"حَوضٍ"، و"حِياضٍ"، كأنّهم كرهوا "فُعُولًا" لأجل الضمّة على حرف العلّة مع واو الجمع. فأمّا قلبُ الواو ياءً، فسيُذكَر في موضعه من التصريف، إن شاء الله. وقد شذّ نحوُ: "فُوُوجٍ"، و"سُوُوقٍ"؛ لِما ذكرناه من إرادة التنبيه على أن ذلك هو الباب. فأمّا بنات الياء، فإنها تجمع على "فُعُولٍ"، نحوِ: "بَيْتٍ"، و"بُيُوتٍ"، و"شَيْخٍ"، و"شُيُوخٍ". وغلب "فُعُولٌ" في بنات الياء، لئلّا تلتبس ببنات الواو، إذ الواو في "فِعَالٍ" تصير إلى الياء، وكانت الضمّة مع الياء أخفَّ منها مع الواو. فصل [جمع "أفْعُل" و"فُعول" من المعتلّ اللام] قال صاحب الكتاب: ويقال في "أفعل", و"فعول" من المعتل اللام: "أدل" ¬
و"أيد" و"دُليٌّ" و"دميٌّ". وقالوا: "نحو" و"قنوٌّ". والقلب أكثر. وقد يكسر الصدر, فيقال: "دليٌّ" و"نحيٌّ", وقولهم: "قسيٌّ", كأنه جمع "قسوٍ" في التقدير. * * * قال الشارح: أمّا ما كان معتل اللام من نحو: "دَلْوٍ"، و"حَقْوٍ"، و"جَرْوٍ"، فإنّه يجمع في أدنى العدد على القياس، فيقال: "أدْلٍ"، و"أحْق"، و"أجْرٍ". والأصلُ: "أدْلُوٌ"، و"أحْقُوٌ"، فوقعت الواو طرفًا، وقبلها ضمّةٌ، وليس من الأسماء المتمكنة ما هو بهذه الصفة، فكرهوا المَصِيرَ إلى بناء لا نظيرَ له، فأبدلوا من الضمّة كسرة، ثمّ قلبوا الواو ياء، لتطرُّفها ووقوعِ الكسرة قبلها، فصار من قبيلِ المنقوص، كـ"قاضٍ"، و"غازٍ". قال الشاعر [من البسيط]: لَيْثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عند خِيسَتِهِ ... بالرَّقْمَتَيْن له أجْرٍ وأعْراسُ (¬1) ومثله "قَلَنْسُوَةٌ"، و"قَلَنْسٍ"، و"قَمَحْدُوَةٌ"، و"قَمَحْدٍ". لمّا حُذفت التاء للفرق بين الجمع والواحد، صارت الواو طرفًا، وقبلها ضمّةٌ، فعُمل فيها ما تقدّم، وجُمع في الكثير على "فِعالٍ"، و"فُعُولٍ". وقالوا: "دُلِيٌّ"، و"دُمِيٌّ"، و"دِماءٌ"، والأصل: " دُمُويٌ"، و"دُلُووٌ"، فحوَّلوه إلى "دُلِيٍّ"، و"دُمِيٍّ"، ومثله "عُصِيٌّ" في جمع "عَصًا". والعلّةُ في تحويله إلى ذلك اجتماعُ أمرَيْن: أحدُهما: كونُ الكلمة جمعًا، والجمعُ أثقل من الواحد. والثاني: أنّ الواو الأوُلى مدّةٌ زائدةٌ لم يُعتدّ بها فاصلةً، فصارت الواو التي هي لامُ الكلمة كأنّها وَلِيَت الضمّةَ، وصار في التقدير "عُصُوٌ" و"دُلُوٌ"، فقُلبت الواو ياءً على حد قلبها في "أدْلٍ"، و"أحْقٍ"، ثمّ اجتمعت هذه الياء المنقلبة عن الواو مع الواو التي قبلها للجمع وهي ساكنةٌ، فقُلبت الواو ياءً، وادّغمت في الياء الثانية على حد: "طَوَيْتُه طَيًّا"، و"لَوَيْتُه لَيًّا". ومنهم مَنْ يُتْبع ذلك ضمّة الفاء فيكسرها، ليكون العملُ من وجه واحد، فيقول: "دَلِيٌّ"، و"عِصِيٌّ". ومنهم من يُبْقيها على حالها مضمومةً، ويقول: "دُلِيٌّ"، و"عُصِيٌّ". فأمّا "دُمِيٌّ"، فاللامُ ياءٌ من غيرِ قلب، فاجتمعت مع الواو قبلها ساكنة، فقُلبت ياء، وأُدُّغمت كما فُعل بـ"عِصِيّ" و"دِلِيّ"، ولو كان مثلُ "عُصُوٍّ"، و"دُلُوٍّ" اسمًا واحدًا، لا جمعًا؛ لم يجبْ فيه القلبُ لخفّته، ألا تراك تقول: "مَغْزُوٌّ"، و"مَدْعُوٌّ"، و"عُتُوٌّ". و"عُتُوٌّ": مصدر "عَتا يَعْتُو". هذا هو الوجه المختار، ويجوز القلب في الواحد، فيقال: "مَغْزِيٌّ"، و"مَدْعِيٌّ". قال الشاعر [من الطويل]: 735 - وقد عَلِمَتْ عِرْسِي مُلَيْكَةُ أنَّنِي ... أنا اللَّيثُ مَعْدِيًّا عليه وعادِيا ¬
أنشده أبو عثمان "مَعْدُوًا" بالواو على الأصل، ورواه غيرُه "مَعْدِيًّا". فأمّا الجمع من نحو: "حُقِيٍّ"، و"عُصِيٍّ"، فلا يجوز فيه إلَّا القلبُ، وقد شذّت ألفاظٌ من هذا الجمع، فجاءت على الأصل غيرَ مقلوبة، كأنّهم صحّحوها مَنْبَهة على أنّ أصلها ذلك. قال الشاعر [من الوافر]: 736 - ألَيْسَ مِن البَلاءِ وَجِيبُ قَلْبِي ... وإيضاعِي الهُمُومَ مع النُّجُوِّ أراد جمع "نَجْوٍ" من السَّحاب. وحكى سيبويه (¬1) عن بعض العرب أنَّه قال: "إنّكم ¬
فصل [جمع ذي التاء من المحذوف العجز]
لَتنظرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ"، يريد جمعَ "نَحْوٍ"، أي: جهاتٍ. وقالوا: "بَهْوٌ"، و"بُهُوٌّ" في الصدر، و"بُهِيٌّ" أيضًا. وحكى ابن الأعرابيّ: "أبٌ"، و"أُبُوٌّ"، و"أخٌّ"، و"أُخُوٌّ". وأنشد القَنانيّ [من الطويل]: 737 - أبَى الذّمّ أخْلاقُ الكِسائيّ وانْتَهَى ... به المَجْدُ أخْلاقَ الأُبُوِّ السَّوابقِ وأمّا "قُِسِيٌّ" من "قُوُوسٍ"، ووزنُه "فُِلُوعٌ" مقلوبٌ من "فُِعُولٍ" كأنّه في التقدير جمعُ "قَسْوٍ"، ثمّ قُلبت الواو فيه ياءً كـ"دَلْوٍ"، و"دُلِيٍّ"، فاعرفه. فصل [جمع ذي التاء من المحذوف العجز] قال صاحب الكتاب: وذو التاء من المحذوف العجز يجمع بالواو والنون مغيراً أوله، كـ "سنون", وقلون، وغير مغير كـ "ثُبون" و"قُلون"، وبالألف والتاء مردوداً إلى الأصل كـ "سنوات", و"عضوات"، وغير مردود كـ "ثُبات" و"هنات", وعلى "أفْعُلَ" كـ "آم". وهو نظير "آكم". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِنّ أقلّ الأسماء أُصولًا ما كان على ثلاثة أحرف، فأمّا ما كان منها على حرفَيْن، وفيه تاءُ التأنيث، نحوُ: "قُلَةٍ"، و"ثُبَة"، و"بُرَة"، و"كُرَة"، و"سَنَةٍ"، و"مِئَة"، فإنّها أسماءٌ منتقصٌ منها محذوفةُ اللامات، فأصلُ "قُلَةٍ": "قُلْوَة"، فحُذفت الواو تخفيفًا، والقُلَةُ: اسمُ لُعْبة، وهو أن يُؤخَذ عُودان صغيرٌ وكبيرٌ، يُوضَع الصغير على الأرض، ويُضرَب بالكبير، وهو من الواو، لقولهم: "قَلَوْتَ بالقُلَةِ" إذا لعبتَ (¬1) بها. ¬
و"الثُّبَة": الجماعة من قوله تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا} (¬1)، وأصلُ "ثُبَةٍ": ثُبْوَةٌ، كـ"ظُلْمَةٍ"، و"غُرْفَةٍ". وقد بينتُ أمره في أوّلِ هذا الفصل، هو من قولهم: "ثَبَّيْتُ"، أي: جمعتُ، فهذا يدلُّ أنّ اللام حرفُ علّة، ولا يدلّ أنّه من الواو والياء؛ لأنّ الواو إذا وقعت رابعة، تُقلَب ياءً، نحوَ "أعْطَيْتُ"، و"أرْضَيْتُ"، وهو من "عَطا يَعْطُو"، و"الرِّضْوانِ". وإنّما قلنا: إنها من الواو, لأنّ أكثرَ ما حُذف لامه من الواو، نحوَ: "أخٍ"، و"أبٍ". وأما "البُرَةُ"، فأصلُها: "بروة"، واللامُ محذوفة، و"البرةُ": حَلْقة تُجعَل في أنف البعير لينقادَ، وهي معتلّةُ اللام؛ لقولهم في جمعها "بُرَى". وينبغي أن يكون المحذوف واوًا حملًا على الأكثر. و"كُرَةٌ" كذلك لقولهم: "كَرَوْتُ بالكُرَة". و"سَنَةٌ" من الواو لقولهم "سَنَواتٌ"، ومن قال: "سانَهْتُه"، كان المحذوف منه الهاءَ، والهاءُ مشبّهةٌ بحرف العلّة، فحُذفت كحذفه. وأمّا "مِئَةٌ"، فأصلُها "مِئْيَةٌ" بالياء؛ لقولهم: "أمْأيْتُ الدراهمَ" إذا كمّلتَها مائة، وقالوا في معنى مائةٍ: "مأَى". وهذا قاطعٌ على أنّه من الياء. فإذا أُريد جمعُ شيء من ذلك، كان بالألف والتاء، نحوَ: "قُلاتٍ"، و"ثُبات"، و"بُرات"، و"كُرات"، و"مِئات". هذا هو الوجه في جمعها؛ لأنّها أسماءٌ مؤنّثةٌ بالتاء، فكان حكمها في الجمع حكمَ "قَصْعَةٍ"، و"جَفْنَةٍ"، ولم يكسّروها علي بناء يردّ المحذوفَ، فيكون نقضًا للغرض، وتراجُعًا عمّا اعتزمه فيها، فلذلك وجب جمعُها بالألف والتاء. وقد يجمعون ذلك بالواو والنون، فيقولون: "قُلُونَ"، و"بُرُونَ"، و"ثُبُونَ"، و"سِنُونَ"، و"مِئُونَ"، ونحوَ ذلك، كما يجمعون المذكر ممّن يعقل من نحو: "المسلمين"، و"الصالحين"، كأنّهم جعلوا جمعه بالواو والنون عوضًا ممّا مُنعه من جمع التكسير. ومنهم من يكسر أوّلَ هذه الأسماء، فيقولون: "قِلُونَ"، و"ثِبُونَ"، و"سِنُونَ". وإنّما فعلوا ذلك للإيذان بأنّه خارجٌ عن قياسِ نظائره؛ لأنّه ليس في الأسماء المؤنّثة غيرِ المنتقص منها ما يُجمع بالواو والنون، وقد قال بعضهم في "مِئُونَ": إنّ الكسرة في الجمع غيرُ الكسرة في الواحد، كما أنّ الضمّة في قولهم: "يا مَنْصُ" في لغةِ من قال: "يا حارُ" بالضمّ، غيرُ التي كانت في "مَنْصُورٍ". وقال أبو عمر الجَرْميّ: إِن الجمع بالألف والتاء للقليل، وبالواو والنون للكثير، فيقولون: "هذه ثباتٌ قليلةٌ"، و"ثُبُونَ كثيرةٌ". ولا أرى لذلك أصلًا، وكأن الذي حمله على ذلك أنّهم إذا صغروه، لم يكن إلّا بالألف والتاء، نحوَ: "سُنَيّاتٍ"، و"قُلَيّات"، و"ثُبَيات"، وإنّما ذلك لأنّه إذا صُغّر، يُرَدّ إليه المحذوف، فيصير كالتامّ، فيُجمع بالألف والتاء كما يُجمع التامّ. وقد يجمعون من ذلك بالألف والتاء ما لا يجمعونه بالواو والنون، قالوا: "ظُباتٌ"، ¬
و"سِياتٌ"، ولم يقولوا: "ظُبُونَ"، ولا "سِيُونَ"، كأنّهم استغنوا عنه بالألف والتاء. وفي ذلك دليلٌ على أن الجمع بالألف والتاء هو الأصلُ في هذه الأسماء؛ لأنّك تجمع بالألف والتاء كل ما تجمعه منها بالواو والنون، ولستَ تجمع بالواو والنون كل ما تجمعهُ بالألف والتاء منها. والوجهُ ألا تردّ المحذوفَ في الجمع في نحو: "قُلات"، و"ثُبات"؛ لِما ذكرناه من إرادة التخفيف فيها، وتعويضِ التاء عن المحذوف، ولذلك استغنوا عن تكسيرها. وقد ردّوا المحذوف في شيء منها تنبيها على الأصل، وأنَّسَ بذلك أنّ تاء التأنيث التي هي عوضٌ قد انحذفت، قالوا: "سَنَةٌ"، و"سَنَواتٌ"، وقالوا: "هَنَةٌ"، و"هَنَواتٌ"، و"هَناتٌ". قال الشاعر [من الطويل]: أرَى ابنَ نِزارٍ قد جَفاني ومَلَّني ... على هَنَواتٍ شَأْنُها مُتَتابِعُ (¬1) وقالوا "عِضةٌ"، وَ"عضاه"، و"عِضَواتٌ". قال الشاعر [من الرجز]: 738 - هذا طَرِيقٌ يَأزِمُ المآزِمَا ... وعِضَواتٌ تَقطَعُ اللَّهازِمَا وقد كسّروا شيئًا منها تكسيرَ التامّ، قالوا: "أمَةٌ"، وفي القليل: "آمٍ" وفي الكثير: ¬
فصل [جمع الرباعي]
"إماءٌ"، فـ "أمَةٌ" "فَعَلَةُ" بتحريك العين، وجُمعت في القلّة على "أفْعُلَ"، كما قالوا: "أكَمَةٌ". وأصلُ "آمٍ": "آمُوٌ"، فأبدلوا من الضمّة كسرةً، ومن الواو ياءً، كما فعلوا في "أدْلٍ"، و"أجْرٍ". وقالوا في الكثير: "إماءٌ"، كما قالوا: "إكامٌ"، ولم يقولوا: "أمُونَ"، فيجمعوه بالواو والنون، كما قالوا "سِنُونَ"؛ لأنّهم قد كسّروه. والجمعُ بالواو والنون، إنما هو عوضٌ من التكسير، ولم يجمعوه بالألف والتاء، فيقولوا: "أمَواتٌ" كما قالوا "سَنَواتٌ"؛ لأنّهم استغنوا عن ذلك بـ"آمٍ"، إذ كان جمعَ قلّة مثلَه، فاعرفه. فصل [جمع الرُّباعيّ] قال صاحب الكتاب: ويجمع الرباعي - إسماً كان, أو صفة، مجرداً من تاء التأنيث, أو غير مجرد - على مثال واحد, وهو "فعالل", كقولك: "ثعالب" و"سلاهب", و"دراهم", و"هجارع", و"براثن", و"جراشع", و"قماطر", و"سباطر", و"ضفادع", و"خضارم". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول إنّ الرباعيّ، لثِقَله بكثرة حروفه، لم يتصرّفوا فيه تصرُّفَهم في الثلاثيّ، فلم يضعوا له في التكسير إلّا مثالًا واحدًا، كالوا به جميعَ أبنية الرباعي القليلَ والكثيرَ، وهو "فَعالِلُ"، أو ما كان على طريقته ممّا ثالثُ حروفه ألفٌ، وبعدها حرفان، وذلك نحو: "ثَعْلَبٍ"، و"ثَعالِبَ"، و"بُرْثُنٍ"، و"بَراثِنَ"، و"جُرْشُعٍ"، و"جَراشِعَ"، و"قِمَطْرٍ"، و"قَماطِرَ"، و"سِبَطْرٍ". و"سَباطِرَ"، و"ضِفْدِعٍ"، و"ضَفادِعَ"، و"خِضْرِمٍ"، و"خَضارِمَ". و"البُرْثُنُ" من السباع والطير كالأصابع من الإنسَان، والمخالِبُ كالظُّفْر، والجُرْشُعُ من الإبل: العظيمُ، والقِمَطْرُ: وعاءٌ تُصان فيه الكُتُب، ومنه قول الشاعر [من الرجز]: 739 - ليس بعِلْمٍ ما يَعِي القِمَطْرُ ... ما العِلْمُ إلّا ما وَعاهُ الصَدْرُ ¬
والسبَطْرُ كالبسيط وهو المُمْتَدّ، والضِّفْدِعُ معروفةٌ من دَوابّ الماء، وهو ضِفْدِعٌ بكسر الضاد والدال كـ"زِبْرِجٍ" (¬1)، وقد تُفتح الدال، وهو قليل. والخِضْرِم من أوصاف البَحْر يقال: "بحرٌ خضرمٌ" أي: كثيرُ الماء، و"رجلٌ خضرمٌ": كثيرُ العطيّة، فهذا وزنُه "فَعالِلُ"؛ لأنّ حروفه كلّها أصولٌ. وقالوا "مَسْجِدٌ"، و"مَساجِدُ"، فهذا وزنُه "مَفاعِلُ"، وقالوا في المُلْحَق به "جَدْوَلٌ"، و"جَداوِلُ"، وهذا وزنُه "فَعاوِلُ". والبناء في هذا كلّه على طريقة واحدة، وإنّما اختاروا هذا البناء لخفته، وذلك أنّه لمّا كثُرت حروف الرباعيّ، فطال، ثقُل، ووجب طلبُ الخفّة له، ولِما ذكرناه من ثِقَله، كان الرباعيّ في الكلام أقل من الثلاثي، ولزم جمعُه طريقةً واحدةً، ولم يزد في مثال تكسيره إلا زيادةً واحدةً هَرَبًا من الثقل. واختاروا أَخَفَّ حروف اللين، وهي الألفُ، وفتحوا أوّلَه لخفّة الفتحة، وكسروا ما بعد الألف حملًا على التصغير؛ لأنّ الألف في التكسير وسيلةُ ياء التصغير، فكما كسروا ما بعد ياء التصغير، كسروا ما بعد الألف في التكسير. والذي يدلّ أن الفتحة في "ثَعالِبَ"، و"جَعافِرَ" غيرُ الفتحة في "ثعْلَبٍ"، و"جَعْفَرٍ"؛ فتحها في "سَباطِرَ"، و"بَراثِنَ" مع أن الأوّل في "سِبَطْرٍ"، و"بُرْثُنٍ" ليس مفتوحًا. ولم يجيئوا في الرباعيّ ببناء قلّة، وإنّما بناء أدنى عدده وأقصاه بناء واحد وهو "فعالِلُ"، فتقول: "ثلاثةُ قَماطِرَ"، فتستعمله في القليل، وهو للكثير؛ لأنّك لا تصل إلى الجمع بالألف والتاء, لأنه مذكر، ولا يمكن الإتيانُ ببناء أدنى العدد إلا بحذف حرف من نفس الاسم. ألا ترى أنّك لو أخذتَ تكسّر نحو: "ضِفْدِع" على "أَفْعُلَ"، و"أَفْعالٍ"، لوجب أن تقول: "أَضْفُدٌ"، و"أَضْفادٌ"؟ فلمّا كان يؤدّي بناء القلّة إلى حذفِ شيء من الاسم، وكان عنه مندوحةٌ، رُفض. وإذا اجتُزىء ببناء الكثرة عن بناء القلّة حيث لا حَذْفَ، نحو: "شُسُوعٍ"؛ كان هنا أُولى. ولا فَرْقَ في ذلك بين الاسم والصفة، ألا تراهم يقولون في "ثَعْلَبٍ"، و"جَعْفَرٍ"، "ثَعالِبُ"، و"جَعافِرُ". وكذلك تقول في "سَلْهَبٍ"، و"صَقْعَبٍ"، "سَلاهِبُ"، و"صَقاعِبُ"، والسلهب: الطويل، وكذلك الصقعب. وكما قالوا: "ضِفْدِعٌ"، و"ضَفادِعُ"، و"زِبْرجٌ"، ¬
[جمع الخماسي]
و"زَبارجُ"، قالوا: "خِضْرِمٌ"، و"خَضارِمُ"، و"صَمْرِدٌ"، و"صَمارِدُ". والصمرد: الناقةُ القليلةُ اللبن، وكذلك الباقي، لا فرق فيه بين الاسم والصفة، وذلك أنهم إذا استثقلوا الاسمَ، وراموا تخفيفَه، فلأن يخفّفوا الصفة لثقلها بتضمنها ضميرَ الموصوف، كان ذلك أَوْلى. وكذلك ما فيه تاء التأنيث حكمُه في التكسير حكمُ ما لا تاء فيه، نحو:"زردمةٍ", و"زَرادِمَ"، و"جُمْجُمَةِ"، و"جماجِمَ"، و"مَكْرُمةٍ"، و"مَكارِمَ"، تجمعه جمعَ ما لا تاء فيه؛ لأن التاء زائدة تسقط في التكسير، إلاَّ انك إذا أردت أدنى العدد، جمعتَه بالألف والتاء، نحو: "زَرْدَمات"، و"جُمْجُمات"، و"مكرمات"، لمكان تاء التأنيث، فاعرفه. [جمع الخماسيّ] قال صاحب الكتاب: وأما الخماسي, فلا يكسر إلا على استكراه, ولا يتجاوز به إن كسر هذا المثال بعد حذف خامسه, كقولهم في "فرزدق": "فرازد"، في "جحمرشٍ" جحامر. * * * قال الشارح: اعلم أنّه لا يجوز جمعُ الاسم الخماسي؛ لإفراطه في الثقل بطُوله، وكثرة حروفه، وبُعْدِه عن المثال المعتدل، وهو الثلاثيّ، وتكسيرُه يزيده ثِقَلاً بزيادة ألف الجمع، فكرهوا تكسيرَه لذلك. فإذا أريد تكسيرُه، حذفوا منه حرفاً، وردوه إلى الأربعة، وذلك الحرفُ الآخِرُ. وإنما حذفوا الآخر لوجهَيْن: أحدهما: أنّ الجمع يسلم حتى يُنتهى إليه، فلا يكون له موضعٌ. الثاني: أن الحرف الآخر هو الذي أثقلَ الكلمة، فلولا الخامسُ، ما كان ثقيلاً، فلذلك تَنكبوا تكسيرَ بنات الخمسة؛ لكراهِيَتهم أن يحذفوا من الأصول شيئًا، وذلك قولك في "سَفَرْجَل": "سَفارِجُ"، وفي "شَمَرْدَلٍ" (¬1): "شَمارِدُ"، وكذلك جميعُ الخماسي؛ تحذف اللامَ، وتبنيه على مثالٍ من أمثلة الرباعيّ، نحو: "جَعْفَر"، و"زِبْرِج"، ونحوهما، ثم تجمعه جمعه. وقالوا في "فَرَزْدَق": "فَرازِقُ"، والجيدُ: "فَرازِدُ". وإنما حذفوا الدال؛ لأنها من مَخْرج التاء، والتاء من حروف الزيادة، فلما كان كذلك، وقُربت من الطرف؛ حذفوها. ومن قال ذلك، لم يقل في "جَحْمَرِشٍ" (¬2): "جَحارِشُ"؛ لتباعُد الميم من الطرف. * * * قال صاحب الكتاب: ويقال: "دهثمون" و"هجرعون", و"صهصلقون", و"حنظلاتٌ" و"بهصلات", و"سفرجلات", و"جحمرشات". * * * ¬
قال الشارح: يريد أن الاسم الخماسي لا يُجمع مكسرًا لِما ذكرناه، ويُجمع سالمًا؛ لأن الزيادة التي تلحقه في جمع السلامة غيرُ معتد بها من نفس الكلمة؛ لأنها زيادة عليها بعد سلامة لفظ الواحد بمنزلة الزيادة للإعراب. والنحويون يقدّرون التثنية وجمعَ السلامة تقديرَ ما عُطف من الأسماء، فإذا قلت: "الزيدان"، فهو بمنزلةِ "زيدٌ، وزيدٌ"، وإذا قلت: "الزيدون"، فهو بمنزلةِ "زيد، وزيد، وزيد". فكما أن المعطوف أجنبى من المعطوف عليه، كذلك ما قام مقامه، فإذا كان الاسم الخماسيّ عَلَمًا، جمعتَه جمعَ السلامة، نحو: "فَرَزْدَقٍ"، و"فرزدقون"، وكذلك إذا كان صفة من صفات من يعقل، وذلك قولهم: "دَهْثَمٌ"، و"دَهْثَمُونَ"، و"هِجْرَعٌ"، و"هِجْرَعُونَ". الدهثمُ: السهْلُ الخُلُق، وأرضٌ دهثمةٌ أي: سهلة. والهجرع: الطويل. وقالوا: "صَهصَلِقٌ"، "وصَهْصَلِقون". والصهصلق: الصوت الشديد، يقال: "رجلٌ صهصلقُ الصوت، وقوم صهصلقون". وقوله "حَنْظَلات"، و"بُهْصُلات"، و"سَفَرْجَلات"، و"جَحْمَرِشات"؛ يريد أنّ الاسم الرباعي والخماسي إذا كان فيهما تاء التأنيث، جمع لأدنى العدد بالألف والتاء، نحو: "حنظلة"، و"حنظلات"، وهي الشَّرْيُ، و"بهصلة"، و"بهصلات"، والبهصلة، بالباء المضمومة والصاد غير المعجمة المضمومة: المرأةُ القصيرة. وقالوا في الخماسيّ: "سفرجلةٌ"، و"سفرجلات"، و"جحمرش"، و"جحمرشات"، والجحمرشُ: العجوز المُسِنّة، جمعوها بالتاء؛ لأنها مؤنّثة وإن لم تكن فيه علامة، فاعرفه. فصل [جمع الثلاثي المزيد بحرف الذي ثالثة مدة] قال صاحب الكتاب: وما كانت زيادته ثالثة مدة فلأسمائه في الجموع أحد عشر مثالاً: أفعلة، فعل، فعلان، فعائل، فعلان، فعلة، أفعال، فعال، فعول، أفعلاء، أفعل. وذلك نحو أزمنة وأحمرة وأغربة وأرغفة وأعمدة وقذل وخمر وقرد وكثب وزُبُر وغزلان وصيران وغربان وظلمان وقعدان وشمائل وأفائل وذنائب وزُقّانٍ وقضبان وغلمة وصبية وأيمان وأفلاء وفصال وعنوق وأنصباء وألسن. ولا يجمع على أفعل إلا المؤنث خاصة نحو عناق وأعنق وعقاب وأعقب وذراع وأذرع. وأمكن من الشواذ. * * * قال الشارح: اعلم أن ما كان من الأسماء على أربعة أحرف وثالثُه حرفُ لِين، فأبنيةُ تكسيره أحدَ عشرَ بناء على ما ذَكَرَ. والأسماء التي تُكسر من هذا البناء خمسةُ أبنية: "فَعَال" كـ "زَمان"، و"فِعالٌ"، كـ"حِمار" و"فُعالٌ"، كـ"غُراب"، و"فَعِيلٌ"، كـ"رَغِيف"، و"فَعُولٌ"، كـ"عَمُود".
فما كان من الأول وهو "فَعالٌ"؛ فإنه يُجمع في القلة إذا كان اسمًا مذكرًا على "أَفْعِلَةَ"، نحو: "زَمانٍ"، و"أَزْمِنَةٍ"، و"قَذالٍ"، و"أقْذِلَةٍ"، و"فَدانٍ"، و"أَفْدِنةٍ"، وكذلك كل ما كان على أربعة أحرف ثالثُه حرفُ مدّ ولِين، نحو: "حِمار"، و"أَحْمِرَةٍ"، و"غُراب"، و"أغربة", و"رَغِيف"، و"أرغفة"، و"عَمُود"، و"أعمدة"؛ لأنها سواء في الزيادة والحركة والسكون. وإنما جمعوه على "أَفْعِلَةَ" في القلة؛ ليكون على منهاج "أَفْعُلَ" في جمع "فَعْل" بسكون العين، كانّهم تَوهموا حذفَ الزائد. وذلك أنّ هذه الأسماء، إنما زادت على "فَعْل" بحرف اللين، وهو مَدة زائدة، وما قبله من الحركة من تَوابعه وإعراضه، إذ لا يكون حرفُ المدَّ واللين إلَّا وقبله من جنسه (¬1). وكما جمعوا "فَعلاً" على "أَفْعُلَ"، نحو: "كَلْب"، و"أَكْلُبٍ"، كذلك جمعوا هذه الأسماء على "أَفْعِلَةَ"، إذ لا فَرْقَ بين "أَفْعُلَ"، و"أَفْعلَةَ"، إلَّا زيادةُ عَلَم التأنيث، فأما الهمزةُ، ففي أولهما جميعاً. والضمةُ التي في عينِ "أَفْعُلَ" كالكسرة التي في عين "أَفْعِلَةَ"، مع أنْ هذه الضمة قد تفسير كسرةٌ مع المعتل في نحو: "أَدْلٍ"، و"أَظْبٍ". فإذا أردت بناء الكثرة، قلت: "فَدانٌ"، و"فُدْنٌ"، و"قَذالٌ"، و"قُذُلٌ". وقد يستغنون ببناء القلة، فلم يجاوزوه، نحو: "زمانٍ"، و"أَزْمِنَةٍ"، و"مَكانٍ"، و"أَمْكِنَةٍ". وقد كسروه على "فُعُولٍ"، قالوا: "عَناقٌ"، و"عُنُوق". وأما الثاني، وهو"فِعالٌ" بكسر الفاء، فحكمُه في جمع الكثرة كحكم "فَعالٍ", لأنه ليس بينهما في البناء إلَّا فتح الأول وكسرُه، ولذلك استويا في بناء جمع الكثرة، كما استويا في القليل، فتقول في القليل: "حِمارٌ"، و"أَحْمِرَةٌ"، و"خِمارٌ"، و"أَخْمِرَةٌ"، كما كان كذلك في "فَعالٍ". وقالوا في الكثير: "حُمُر"، و"خُمُر"، و"أُزُرٌ"، وقالوا: "شِمالٌ" لليَد، و"شَمائلُ"، كسروه على "فَعائلَ"، كأنهم جعلوه من ذوات الأربعة بزيادة الألف التي فيه، فصار كـ"قِمَطْر" (¬2) و"قَماطِرَ"، فأما قول أبي النَجْم [من الرجز]: 740 - يأتي لها من أَيْمُن وأَشْمُلِ ¬
وقول الأزرَق العَنبَري [من البسيط]: نازَعَتها أَيْمُنٌ شُمُلا (¬1) فإنهما قدّرا حذف الألف، فصار ثلاثيًّا، ثم جمعاه على "أَفْعُلَ"، و"فُعُل"، نحو "أَكْلُبٍ"، و"أُسُدٍ"، ومثله، "لِسانٌ"، و"أَلسُنٌ". وأمّا "فُعال" مضمومَ الفاء، نحو: "غرابٍ"، و"غُلام"، و"خُراج"، فإنه يُكسر لأدنى العدد على "أَفعِلَةَ" على حدّ تكسيرِ "فَعال" و"فِعال"؛ لأنّه ليس بينهما إلَّا ضم الفاء. وذلك قولك: "غُرابٌ"، و"أَغرِبَةٌ"، و"خراج"، و"أَخْرِجَة". ولم يقولوا: "أَغْلِمَةٌ"، كأنهم استغنَوا عنه بـ"غِلْمَةٍ"؛ لأن "غِلْمَةٌ" على زنةِ "فِعْلَةَ"، وهو من أبنية أدنى العدد، وربما رُدّ في التصغير إلى الباب، يقولون "أُغَيْلِمَة". وقالوا في الكثير: "فِعلانُ"، نحو: "غُراب"، و"غِرْبانٍ"، و"غُلام"، و"غِلْمان". وقيل: إِنما قالوا في الكثير: "فِعلان", لأن ألفة مدة زائدة، فلما حذفت، صار كأنه "غُرَبٌ"، و"غلَمٌ" على مثال "صرَد"، و"جُرَذٍ". فكما قالوا: "صِردانٌ"، و"جِرْذانٌ"، كذلك قالوا: "غِرْبان"، و"غِلمان". وأما "فَعِيلٌ"، فإنه يُكسر في أدنى العدد على "أَفْعِلَةَ" كـ"فَعالٍ"، و"فِعالٍ"؛ لأنّهن أخواتٌ في الزنة والحركاتِ والسكونِ. وذلك قولك: "جَريبٌ"، و"أَجرِبَةٌ"، و"كَثِيبٌ"، و"أَكْثِبَةٌ"، و"رَغِيفٌ"، و"أَرْغِفَةٌ". وربما كسروه في القلة على "فِعْلَةَ"، نحو: "صَبِى"، و"صِبْيَة"، كما قالوا: "غِلمَةٌ"، وعلى "أَفْعالٍ"، نحو: "يَمِين" و"أيْمانٍ"، كأنهم حذفوا الزائد، وكسروا ذوات الثلاثة. فإذا جاوزتَ أدنى العدد، فإنه يجيء على "فعُلٍ" كأخواته، وعلى "فُعلانَ"، نحو قولك: "قَضِيبٌ"، و"قُضُب"، و"قُضْبان"، و"رَغِيفٌ"، و"رُغُف"، و"رُغفانٌ"، و"كَثِيبٌ"، و"كُثُبٌ"، و"كُثبان"، هذا بابُه، وعليه قياسُ ما جُهل أمره، وما عدا ذلك، فشاذ يُسمَع ولا يقاس عليه. وقالوا: "نَصِيبٌ"، و"أَنصِباء"، و"خَمِيسٌ"، و"أَخمِساء"، فجمعوه على "أفعِلاء"، كأنهم شبّهوه بالصفة، حيث قالوا: "شَقِيٌ"، و"أَشقِياء"، و"تَقِي"، و"أَتْقِياءُ". ولأنهم يجمعون عليه ما كان معتلاً أو مضاعفًا؛ جاؤوا بهذا البناء في الكثير على منهاج بناء القلة، ألا ترى أنّه لا فرقَ بينهما إلا إبدالُ عَلَم التأنيث، وهو التاء بغيره. وقد كسروه على "فِعلانَ" بكسر الفاء, وهو قليل أيضًا، قالوا: "ظَلِيمٌ"، ¬
و"ظِلْمانٌ"، و"قَضِيبٌ"، و"قِضْبانٌ"، ويقال: "قُضْبانٌ" أيضًا، وقالوا: "فَصِيلٌ"، و"فُصْلانٌ"، و"عَرِيضٌ"، و"عُرْضانٌ"، كأنّهم شبّهوه بـ "فُعالٍ"، وكسّروه تكسيرَه، نحو: "غُرابٍ"، و"غِرْبانٍ". والعَرِيضُ: التيْسُ، كأنّهم جاؤوا به على حذف الزائد. وقالوا "أَفِيلٌ"، و"آفالٌ"، و"أَفائِلُ"، فمن قال: "آفالٌ"، جمعه على حذف الزيادة، وجعله ثلاثيًا، ومن قال: "أَفائِلُ"، جمعه على الزيادة، كما قالوا: "شَمائِلُ". وقالوا: "أديمٌ"، و"أَدَمٌ"، و"أَفِيقٌ"، و"أَفَقٌ"، وهما اسمان للجمع، وليسا بتكسير الواحد. وأما "فَعُولٌ"، فمجراه في التكسير مجرى "فَعِيلٍ"، وذلك لاستوائهما في العدد والحركات والسكون، ليس بينهما فرقٌ إلَّا أنّ زيادة "فَعُول" الواو، وزيادة فَعِيلٍ الياء، والياء أختُ الواو، فإذا أردت أردت العدد، بنيتَه على "أَفْعِلَةَ"، كما كان "فعيل" كذلك، فتقول: "عَمُودٌ" و"أَعْمِدَة"، و"خَرُوف"، و"أَخْرِفَة"، و"قَعُود"، و"أَقْعِدَة"، وتقول في الكثير "عُمُدٌ" و"عُتُدٌ"، و"قُدُمٌ"، في جمع "قَدُومٍ"، كسروه على حد "قَلِيبٍ"، و"قلُبٍ"، و"كَثِيبٍ"، و"كُثُبٍ". وقد قالوا: "خِرْفان"، و"قِعْدان"، و"عِتْدان" في جمع "عَتُود"، شبهوه بـ "غُراب"، و"غِرْبان"، و"غُلام"، و"غِلْمان". والبابُ الأوّل، خالفتْ "فَعُول"، "فَعِيلًا" هنا كما خالفتها "فُعالٌ".وقالوا: "ذَنُوبٌ"، للدَّلو، و"ذَنائِبُ"، كسّروه بالزيادة، كما قالوا: "أَفائِلُ"، وقد جاؤوا به في القلة على "أَفْعالٍ"، نحو: "فَلُو"، و"أَفْلاء"، كسروه على حذف الزيادة. واعلمْ أن كل ما جاء من ذلك على "فُعُلٍ"، فيجوز تسكينُه تخفيفًا، نحو قولك في "كُتُب": "كُتْبٌ"، وفي "رُسُل": "رُسْلٌ"، وهي لغةُ بني تميم. قالوا: كل ما أصله الحركة يجوز تسكينُه تخفيفًا، وحُكي عن أبي الحسن: أن كل "فُعل" في الكلام، فتثقيله جائزٌ، إلَّا ما كان صفة، نحو: "حُمْرٍ"، أو معتل العين، نحو: "سُوقٍ". فالأولُ يجوز في الكلام وحال السعة، والثاني لا يجوز إلَّا في الشعر. فقد صار أمثلةُ تكسيره أحدَ عشرَ مثالًا، من ذلك "أَفْعِلَةُ"، وهي القياس فيه لأدنى العدد، يشترك فيه الأبنيةُ الخمسةُ: "فَعالٌ"، نحو: "زَمانٍ"، و"أَزمِنَةٍ"، و"فِعال"، كـ"حِمار"، و"أَحْمِرَة"، و"فُعال"، كـ"غُراب"، و"أَغرِبَة"، و"فَعِيل"، كـ"رَغِيف"، و"أَرْغِفَة"، و"فَعُول"، كـ"عَمُود" و"أَعْمِدَة". ومن ذلك "فُعُل" بضم الفاء والعين، وهو القياس في الكثير، وقد جاء في الأمثلة الخمسة، من ذلك "فَعالٌ"، قالوا: "قَذالٌ"، و"قُذُلٌ"، وهو مؤخر الرأس، ومَعْقِد العِذار من الفرس، و"فِعالٌ"، نحو: "حِمار" و"حُمُر"، و"فُعال"، نحو: "قُراد"، و"قُرُد". والقُراد: صِغارُ الحَلَم، ويُجمَع على "قِرْدانٍ" أيضًا، و"فَعِيلٌ"، نحو: "كَثِيب"، و"كُثُب"، وهي تِلالُ الرمل، و"فَعُولٌ" نحو: "زَبُور"، و"زُبُر"، وهو الكتاب، وهو "فَعُولٌ" بمعنى "مَزبُور"، أي: مكتوب فيه. ومنه "فِعلانُ"، وقد جاء أيضًا في الأمثلة الخمسة، قالوا: "غَزالٌ"،
و"غِزلان" و"صِوار"، و"صِيرانٌ"، والصّوارُ: القطيع من البَقَر، وهو أيضًا وعاء المِسْك. قال الشاعر [أمن الوافر]: 741 - إذا لاحَ الصوارُ ذكرتُ لَيْلَى ... وأَذكُرُها إذا نَفَحَ الصوارُ فجمع بينهما. و"فُعال": "غُرابٌ"، و"غِرْبانٌ"، و"فَعِيلٌ": "ظَلِيمٌ"، و"ظِلمانٌ"، و"فَعُولٌ": "قَعُودٌ"، و"قِعْدانٌ". ومن ذلك "فَعائِلُ" جاء في بنائَيْن "فَعِيل"، و"فَعُولٍ"، قالوا في "فَعِيل": "أَفِيلٌ"، و"أَفائِلُ"، وهي صغار الإبل، وقالوا في "فَعُولٍ": "ذَنُوبٌ"، و"ذَنائِبُ". والذنوب: الدلْوُ المملوءة. ومن ذلك "فُعلانُ"، وهو في بناءين: "فُعالٍ"، نحو: "زقاقٍ"، و"زُقانٍ"، و"فعِيل"، نحو: "قَضِيب"، و"قُضبانٍ". ومن ذلْك "فِعلَة"، وهو منها في بناءين أيضًا: "فُعالٍ"، قالوا: "غُلامٌ"، و"غِلمَةٌ"، و"فَعِيل"، نحو: "صَبِىٍّ"، و"صِبيةٍ"، وهي من أبنية أدنى العدد. ومن ذلك "أَفعال"، وهو في بناءَين: "فَعِيلٍ"، و"فعُولٍ"، قالوا لليَد: "يَمِينٌ"، و"أَيمانٌ"، و"فَلُوٌّ"، و"أَفْلاءٌ". والفَلُوُّ: المُهرُ، سُمي بذلك؛ لأنه يُفتلى عن أمه، أي: يُقطَع. ومن ذلك "فِعالٌ" لم يأت إلَّا في مثال واحد، وهو"فَعِيل". قالوا: "فَصِيلٌ"، و"فِصالٌ". ¬
[عدم مجئ "فعل" في جمع الثلاثي المضاعف ولا المعتل اللام]
ومنه "فُعُولٌ"، وهو أيضًا في مثال واحد، وهو"فَعال"، قالوا: "عَناقٌ"، و"عُنُوقٌ"، وهي الأنثى من ولدِ المَعْز. ومن ذلك "أَفْعِلاء" جاء في بناء واحد أيضًا، وهو "فَعِيلٌ"، قالوا: "نَصِيبٌ" و"أَنْصِباء". ومن ذلك "أَفْعُلُ"، ولا يجمع على "أَفْعُلَ" إلَّا ما كان مؤنثًا، سواء كان على "فَعالٍ"، أو"فُعالِ"، أو" فِعالٍ". قالوا: "عَناق"، و"أَعْنُق"، و"عُقابٌ"، و"أَعْقُبٌ"، و"ذِراعٌ"، و"أَذْرُعٌ". فأمّا "لِسان"، و"أَلْسُن"، فإن فيه لغتَيْن: التأنيث والتذكير، فمن أنث، قال: "أَلْسُنٌ"؛ ومن ذكْر، قال: "أَلْسِنَة"، كأنّهم فرقوا بين جمع المذكّر من هذا البناء والمؤنث؛ كما فصلوا بين جمعِ نحو: "قَصْعَةٍ"، و"كَعْبٍ"، فجمعوه على خلافِ جمع المذكّر؛ لأن المذكر يجمع في القلة على "أَفْعِلَةَ"، وهذا يجمع على "أَفْعُلَ". وشبّهوه بالعدد يكون في المذكّر بالهاء، نحو: "ثلاثة"، و"أربعة"، وفي المؤنث بغيرها، نحو: "ثلاث"، و"أربع". ولم يجمعوه جمعَ ما فيه تاء التأنيث، نحو: "قَصْعَة"، و"جَفْنَة"، وإن كان على عدته؛ لأنّ زيادته ليست كتاء التأنيث, لأن زيادته مَدّة زائدةٌ كالإشباع، فاعتقدوا سقوطَها، فصار على ثلاثة أحرف، فجُمع على "أَفْعُلَ"، كما يُجمَع الثلاثة عليه، نحو: "كَعْب"، و"أَكْعُبٍ"، و"فَلْس"، و"أَفْلُسٍ"، ولذلك قالوا في الكثير: "عُنُوقٌ"؛ لأن "فُعُولًا"، و"أَفْعُلَ" يترادفان على الثلاثي، نحو: "فَلْسٍ"، و"أَفْلُس"، و"فُلُوسٍ". وربما قالوا: "عُنُقٌ" قصروا "فُعُولًا"، كما قالوا: "أُسُدٌ" في "أُسُودٍ". وربّما خُفف أيضًا؛ فقالوا: "عُنْقٌ"، كما قالوا: "أُسْد". وقد قالوا: "مَكانٌ"، و"أَمْكُنٌ"، فجمعوه جمع المؤنّث، و"المكانُ" مذكرْ جاء ذلك شاذًّا، ومُجازُه أنه على "فَعالٍ". والمكانُ أرضٌ، والأرضُ مؤنثةٌ، فجُمع جمعَ ما هو مؤنثٌ، والمشهورُ "أَمْكِنَةٌ" على القياس، فاعرفه. * * * [عدم مجئ "فُعُل" في جمع الثلاثي المضاعف ولا المعتل اللام] قال صاحب الكتاب: ولم يجيء "فُعُلٌ" من المضاعف ولا المعتل اللام وقد شذ نحو: "ذُبٍّ" في جمع "ذُبابٍ". * * * قال الشارح: يريد أنّ المضاعف يجمع في القلّة على "أفعِلَةَ"، نحو: "كِنانٍ"، و"أَكِّنَّةٍ". والكِنانُ: ما يكُنّك، أي: يستُرك من مَطَر أو حَرً أو بَرْدٍ، و"عِنانٍ"، و"أَعنهٍ"، و"خِلالٍ"، و"أخلةٍ". والخِلالُ: العُود يُتخلّل به، وما يُخَل به الثوبُ أيضًا. واقتصروا علي بناء القلة، وإن عنوا الكثيرَ، استغنوا بـ"أَكِنةٍ"، و"أَعنةٍ" عن أن يقولوا "كُنُنٌ"، و"عُنُنٌ"، فيُكرِّروا النون من غير ادّغام، كأنهم استثقلوا ذلك، وكان عنه مندوحةٌ، وهو
الاجتزاء ببناء القلة. وإذا كانوا قد اجتزؤا ببناء القلّة حيث لا ضرورةَ، نحو: "زَمان"، و"أَزْمِنَةٍ"، و"مَكانٍ"، و"أَمْكِنَةٍ"، و"رَسَنٍ"، و"أَرْسانٍ"، كان مع الضرورة أَوْلى. فإن قيل: فهلا ادغموه، وقالوا: "كُنّ"، و"عُنّ"، قيل: لو فعلوا ذلك؛ لم ينفكّ من ثقل التضعيف، فأمّا قولهم: "ذُبٌّ" في جمع "ذُبابٍ"، فهو شاذّ، فإنه يقال: "ذُبابةٌ" للواحد، و"ذُبابٌ" للجنس، على حد "بَطَةٍ"، و"بَطّ"، و"حَمامةٍ"، و"حَمامٍ"، ويجمع "الذبابُ" في القلة على "أَذِبةٍ"، والكثيرُ "ذِبانٌ"، على حد "غُرابٍ"، و"أَغْرِبِةٍ"، و"غِرْبانٍ". قال النابغة [من الرجز]: 742 - ضَرّابَةَ بالمِشْفَرِ الأَذِبهْ فأما المعتل، فإن كان معتل العين بالياء؛ كان حكمُه حكمَ الصحيح، يقال: "عِيانٌ"، و"أَعْيِنَةٌ"، في العدد القليل، وفي الكثير "عُيُنٌ" بضم الياء؛ لأنّ الضمّة على الياء لا تثقُل ثِقلَهَا على الواو. ومن قال في "رُسُلٍ": "رِسْلٌ"، فخفّف، قال هنا: "عِينٌ" بكسر العين، كما قالوا: "دَجاجةٌ بَيُوضٌ"، و"دجاجٌ بُيُضٌ، وبِيضٌ". وإنما كسروا الفاء لتصح الياء، ولا تنقلبَ واوًا لسكونها وانضمام ما قبلها على حد قلبها في "مُوسرٍ"، و"مُوقِنٍ". فإن كان من ذوات الواو من نحو: "خوانٍ"، و"رواقٍ"، كُسر في القلة على "أَفْعِلَةَ"، تكسيرَه في الصحيح، نحو: "أَرْوِقَةٍ"، و"أَخْوِنَةٍ". وتقول في الكثير: "خُونٌ"، و"رُوقٌ"، تأتي به على لغة بني تميم بالإسكان، كأنهم استثقلوا الضمّة على الواو، فحذفوها. وكان الأصل "خُوُنٌ"، و"رُوُقٌ"، فإن اضطر الشاعر، رد الأصلَ. قال عَدي [من الكامل]: 743 - [عَنْ مبرقاتٍ بالبُرينَ وتَبْدو] ... بالأكُف (¬1) اللامِعاتِ سُوُرْ ¬
وما كان من ذلك معتلّ اللام من نحو: "كِساء"، و"رِداء"، و"غِطاء"، و"سَماء"، فإنّك تكسره في القلة على "أَفْعِلَةَ"، نحو: "أَكْسِيَةٍ"، و"أَرْدِيَةٍ"، و"أَغْطيَةِ"، ولا تُجاوِزه إلى بناء الكثرة. وذلك من قبل أن الهمزات التي في أواخر هذه الأسماء أصلُها الواو، لأنه من "غَطَا"، "يَغْطُو"، و"الكِسْوةِ". فلو بنيتَه للكثير على حد "فُدنٍ"، و"قُذُلٍ"، لقلت: "كُسُوٌّ"، و"غُطُوٌ"، و"سُمُوٌ"، فكانت الواو تقع طرفًا، وقبلها ضمةٌ، وذلك معدوِمٌ في الأسماء المتمكنة، وكان يلزم قلبُ الواو ياء والضمةِ كسرةً، على حد صَنِيعك في "أدْلٍ"، و"أَجرٍ". فلما كان يؤدّي إلى هذا التغيير، وكان عنه مندوحةٌ؛ تَجنبوه، واجتزؤوا ببناء القلّة، فأما "رداء"، فلامُه ياء، لقولهم: "حسنُ الردْيَةِ"، ولا يكسّر على "فُعُلٍ"؛ لأنه يلزم وقوعُ الياء طرفًا، وقبلها ضمةٌ، فكان يلزم قلبُها واوًا لضُعْفها بتطرفها، ووقوع الضمّة قبلها، فكان يصير حالُها كحالِ ما لامُه واوٌ، فأما "سماءٌ"، فإذا أريد به المَطَرُ، كُسر في أدنى العدد على "أَسْمِيَةٍ" وفي الكثير، "سُمِيّ". قال العَجّاج [من الرجز]: 744 - تَلُفهُ الأرواحُ والسمِيُّ وهو "فُعُولٌ"، فُعل به ما فُعل بـ "عُصِىٍّ"، و"دُليٍّ"، فاعرفه. * * * ¬
[جمع الثلاثي المزيد بحرف والذي ثالثة مدة وينتهي بتاء التأنيث]
[جمع الثلاثي المزيد بحرف والذي ثالثة مدة وينتهي بتاء التأنيث] قال صاحب الكتاب: ولما لحقته من ذلك تاء التأنيث مثالان: "فعائل", "فعلٌ"، وذلك نحو: "صحائف", و"رسائل" و"حمائم", و"ذوائب", و"حمائل", و"سفن". * * * قال الشارح: اعلم أن ما كان من الأسماء مؤنثًا بالتاء على أربعةِ أحرف، ثالثُه حرف مَد ولين على رنةِ "فَعالَةَ"، كـ "حَمامَةٍ"، و"دَجاجَةٍ"، أو"فِعالَةَ" كـ "رِسالَةٍ"، و"عِمامَةِ"، أو "فُعالَةَ" كـ "ذُؤابَةٍ"، و"ذُبَابَةِ"، أو"فَعِيلَةَ" كـ"صَحِيفَةٍ" و"سَفِينةٍ"، أو"فَعُولَةَ" كـ "حَمُولَةٍ"، و"رَكُوبَة"، فإن بابه أن يُكسر على "فَعائِلَ"، نحو: "حَمائِمَ"، و"دَجائِجَ"، و"رَسائِلَ"، و"عَمائِمَ"، و"ذَوائِبَ"، و"ذَبائِبَ"، و"صَحائِفَ"، و"سَفائِنَ"، و"حَمائِلَ"، و"رَكائِبَ". وإنما كان الباب فيما لحقته التاء من هذه الأبنية أن يجمع على "فَعائِلَ"؛ لأنّهم أرادوا الفصلَ بين جمع المذكر والمؤنث من هذه الأبنية، كما فصلوا بين جمع "قَصْعَةٍ"، و"فَلْسٍ"، و"رَحَبَةٍ"، و"قَلَمٍ" فنزلوا الزائدَ الذي هو حرفُ المدّ فيها منزلةَ الأصل، فجمعوها على الزيادة التي فيها, ولم يُقدِّروا حذفَها، فصارت كالأربعة من نحو: "جُخْدُبٍ" (¬1)، و"بُرْثُنٍ" (¬2)، فكما قالوا: "جَخادِبُ"، و"بَراثِنُ" قالوا هنا: "حَمائِمُ"، و"رَسائِلُ" لأنّه على طريقةِ "فَعالِلَ"، إذ كان في العدة والحركات مثله، وإن اختلفا في الوزن. فوزنُ "جَخادِبَ"، و"بَراثِنَ"، "فَعالِلُ"، ووزنُ "حَمائِمَ"، و"رَسائِل"، "فَعائِلُ"؛ لأن الثالث منها مَدةٌ زائدةٌ، فقُوبلتْ في المثال بمثلها. والثالثُ من "جُخدُبٍ" أصل، فقُوبل في المثال باللام. فإذا أردت العدد القليل، جمعته بالألف والتاء، نحو: "حَماماتٍ"، و"رِسالاتٍ"، و" ذُؤابابٍ"، و"صَحِيفاتٍ"، و"حَمُولاتٍ". وربما قالوا: "ثلاثُ صَحائِفَ ورَسائِلَ"، فاستعملوا هذا البناء في القليل، كما قالوا: "ثلاثةُ جَعافِرَ وجَخادِبَ"، إلَّا أن استعمالَ نحو"جَخادِبَ" في القليل عن ضرورة، إذ لا يمكن جمعُها بالألف والتاء، وفي "صَحائفَ" وبابِه استحسان وتشبية بـ"جَخادِبَ". فإن قيل: ولِمَ قلبتَ حرف المدّ همزة في الجمع؟ قيل: لما جُمع على الزيادة، وقعت ألفُ "حَمامة"، و"رِسالة"، و"ذُؤابة" بعد ألف التكسير، وألفُ التكسير تُكسر ما بعدها من نحو: "جَعافِرَ"، و"زَبارجَ"، و"بَراثنَ"، والألفُ مَدة زائدة لا حظ لها في ¬
[جمع الوصف المزيد بحرف الذي ثالثه حرف مد]
الحركة، فقُلبت إلى أقرب الحروف إليها بما يمكن تحريكُه، وهو الهمزة، فقالوا: "حَمائِمُ"، و"رَسائِلُ"، و"ذَوائِبُ"؛ لامتناع الحركة فيها. فإن قيل: فإنّكم همزتم الألفَ في "حمائم"، و"ذوائب"، لامتناع الحركة فيها، فما بالُكم همزتموها في "صَحائف"، و"حَمائِل" مع إمكان الحركة في الياء والواو؟ قيل: لما كانت الياء في "صحيفة"، والواوُ في "حمولة" مدّتَيْن زائدتَيْن، لا حظّ لهما في الحركة؛ حملوهما في الهمزة على الألف في "حَمامة"، و"رِسالة"، و"ذُؤابة"، إذ كانت مثلهما في الزيادة والمدّ. ألا ترى انك لا تهمز نحو ياء "مَعِيشَةٍ"، بل تتركها ياء على حالها في الجمع، نحو قولك: "مَعايِشُ"؛ لكون الياء فيها أصلاً متحركةً في الأصل، وهمزُها رديء، ووجهُه ومُجازُه التشبيه بـ "صَحِيفَة"، و"كَتِيبةَ"، وليس مثلهما. وربما قالوا: "سُفنٌ"، و"صُحُفٌ" فكسروه على "فُعُل"، وشبهوه بـ "قليب" (¬1) و"قُلُب"، كأئهم لم يعتدوا بالهاء، وجمعوا "سفينًا" و"صحيفًا" على "سُفُن" و"صُحُف" كما قالوا: "جَفرَةٌ" (¬2)، و"جِفارٌ"، فقدروا الهاء ساقِطةً، وجمعوه جمعَ ما لا هاء فيه، حتى كأنهم جمعوا "جَفرًا"، فاعرفه. [جمع الوصف المزيد بحرف الذي ثالثه حرف مدّ] قال صاحب الكتاب: ولصفاته تسعة أمثلة: "فُعلاءُ"، "فُعُلٌ"، "فِعالٌ"، "فُعْلانُ"، "فِعْلانُ", "أَفْعالٌ"، "أفْعِلاءُ"، "أَفعلةُ"، "فُعُولٌ", وذلك نحو: "كُرَماءَ", و"جُبناءَ" و"شُجعاءَ" و"ودداء" و"نُذُرٍ" و"صُبُر" و"صُنُع" و"كُنز", و"كرامٍ", و"جياد", و"هجان" و"ثنيانٍ" و"شجعان" و"خصيانٍ" و"أشراف" و"أعداء" وأنبياء وأشحة وظروف, ويجمع جمع التصحيح, نحو: "كريمون" و"كريماتٌ". * * * قال الشارح: الهاء في قوله: "ولصفاته" تعود إلى "ما" من قوله: "وما كانت زيادته ثالثة مدة ممّا هو على أربعة أحرف"؛ لأن ذلك يكون أسماء، وصفات، فأضاف الصفة إليه إضافةَ البعض إلى الكل، كما يقال: "نَصْلُ السيْف"، و"حَب الحَصِيد"، فإن الباب أن يكسر على "فُعَلاء"، و"فِعالٍ"، فـ "فُعَلاءُ" نحو: "فَقِيهٍ"، و"فُقَهاءَ"، و"بَخِيل"، و"بُخَلاء"، و"كَرِيم"، و"كُرَماءَ". وإنّما جمعوا "فَعِيلًا" إذا كان صفة على "فُعَلاء"، للفرق بينه وبين "فَعِيل" الذي هو اسمٌ، وجعلوا ألفَ التأنيث في آخره بإزاء تاء التأنيث في جمع المذكر، نحو: "أَرْغِفَةٍ"، و"أَجْرِبَةٍ". وإنما أتوا بعَلَم التأنيث في الجمع ليكون كالعِوَض من الزائد المحذوف في الجمع. ¬
وأما "فِعالٌ"، فنحو: "كَرِيم"، و"كِرام"، و"ظَرِيف"، و"ظِرافٍ"، و"لَئِيم"، و"لِئامٍ". وذلك على حذف الزائد، فَصار ثلاثيًا، فجمعوه جمع الثلاثيّ من الصفات، نحو: "صَعْب"، و"صِعابٍ"، وَ "عبْلٍ"، و"عِبالٍ". وقالوا في المضاعف: "شَدِيدٌ"، و"شِدادٌ"، و"حَديدٌ"، و"حدادٌ". وقالوا: "أَشِداءُ"، و"أَلِبّاءُ"، و"أَشِحاءُ"، جعلوه نظيرَ "فُعَلاء"، كأنهم كرهوا أن يقولوا: "شُدَداء"، و"لُبَبَاءُ"، و"شُحَحاءُ"، فيُكرروا حرفَيْن بلفظ واحد من غير ادغام. وحينِ استثقلوا ذلك عدلوا إلى بناء جمع الاسم من نحو"جَرِيبٍ"، و"أَجْرِبَة"، و"كَثِيبٍ"، و"أكْثِبَةٍ"، إلَّا أنهمِ غيروا عَلَمَ التأنيث؛ لئلا يكون مثله من كل وجه. وقد قالوا: "أَشِحةٌ"، و"أَعِزةٌ"، و"أذِلةٌ"، فأتوا به علي بناء الاسم من غير تغيير. قال الله تعالى: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} (¬1). وقالوا: "شَقِيٌّ"، و"أَشقِياءُ"، و"غَنِيٌّ"، و"أَغْنِياءُ"، و"صَفِيٌّ"، و"أَصْفِياءُ"، وجعلوا "أَفْعِلاء" فيما اعتلّت لامُه نظيرَ "فُعَلاء" في الصحيح، وذلك أنّهم كرهوا أن يقولوا: "شُقَياء" و"غُنَياء"، فتقع الياء مفتوحةٌ، وقبلها فتحةٌ، وذلك ممّا يُوجِب قلبَها ألفًا، فعدلوا عنه إلى "أَفْعِلاء". وأما ما كان معتل العين من نحو"طَوِيلٍ"، و"قَوِيمٍ"، فإنه يُكسر على "فِعالٍ" من نحو "طِوالٍ"، و"قِوام"، و"طِيال"، و"قِيام"، وهو قليل. قال الشاعر [من الطويل]: 745 - تَبينَ لي أنّ القَماءَةَ ذِلةٌ ... وأن أَعِزّاءَ الرِجالِ طِيالُها ¬
والكثير: "طِوالُها". ولم يقولوا فيه: "فُعَلاءٌ" ولا "أَفْعِلاء" استغنوا عنهما بـ"فِعَالٍ"؛ لانه أخف. وقد شذ منه قولهم: "بَغِيٌّ"، و"بُغَواءُ"، وكان حقُه أن يقال: "بُغَياء"؛ لأنه من ذوات الياء. وحكى الفراء: "سَرِيٌّ"، و"سُرَواء". ولم يجمع على هذا إلَّا هذان الحرفان. وقد كسّروه على "فُعُلٍ"، قالوا: "نَذِيرٌ"، و"نُذُرٌ"، شبهوه بالاسم نحو: "كَثِيب"، و"كُثُبٍ"، قال تعالى: {فَكَيفَ كاَنَ عَذَابِى وَنُذُرِ} (¬1). وقالو ا: "جَدِيد"، و"جُدُدٌ"، و"سَدِيسٌ"، و"سُدُسٌ"، والسديسُ: التي أتت عليها السنةُ السادسةُ، يقال: "شاةٌ سَدِيسٌ"، "وناقة سديس"، والجمع: "سُدْسٌ" قال الشاعر [من الطويل]: 746 - فَطافَ كما طافَ المُصَدقُ وَسْطَها ... يُخير منها في البَوازِلِ والسدْسِ وقالوا: "صَدِيقٌ"، و"صُدُقٌ"، و"فَصِيحٌ"، و"فُصُحٌ". قال الشاعر [من الكامل]: 747 - خُرْسٌ بـ "لا" في كلِّ مَكْرُمَة (¬2) ... فُصُحٌ بَقوْلِ نَعَمْ وبالفَعْل ¬
وقالوا: "لَذِيذ"، و"لُذ"، خفْفوا على حد "رُسُلٍ"، و"رُسل". قال الشاعر [من الكامل]: 748 - لُذٌّ بأَطرافِ الحَدِيث إذا ... حُبَّ القِرَى وتُنُورع الفَجَرُ وقالوا في المعتلّ: "ثَنِيٌّ"، و"ثُنٍ"، والأصِل "ثُنُيٌّ" بضم النون، فأبدلوا من الضمة كسرة؛ لئلا تنقلب الياء واوًا، كما فعلوا في "أدْلٍ"، و"أَجْرٍ". ومن خفف قال: "ثُنْى" بإثبات الياء. وقالوا: "ثُنْيان"، كسروه على "فعْلانَ"، شَبهوه بـ "جَرِيبٍ"، و"جرْبانِ"، ومثله "شَجِيعٌ"، و"شُجعانٌ". وقالوا: "خَصِىُّ"، و"خِصْيانٌ"، كسروه علىَ "فِعلانَ" بكسر الفاء، شبهوه بـ "ظَلِيم"، و"ظِلمانٍ". وقالوا: "يَتِيمٌ"، و"أيتامٌ"، و"شَريفٌ"، و"أَشرافٌ"، جاؤوا به على "أَفْعالٍ"، شبهوا "فعِيلاً" بـ "فاعِلٍ" حيث قالوا: "شاهدٌ"، و"أَشهادٌ"، و"صاحبٌ"، و"أَصْحابٌ"؛ لأنه أربعة على عدته، والزيادةُ فيه حرفٌ ساكنٌ لين مثله. وقالوا: "أَبيلٌ"، و"آبالٌ". والأبيل: القَس، وكان عِيسَى عليه السلام يقال له: "أَبِيلُ الأبَيلِينَ"، كما يقال: "قَسُّ القُسوسِ". قال الشاعر [من الطويل]: 749 - وما سبح الرُّهبانُ في كل بِيعَةِ ... أَبِيلَ الأَبِيلِينَ المَسِيحَ بنَ مَريَمَا ¬
وقالوا: "ظريف"، و"ظُرُوف"، جاؤوا به على حذف الزائد، كأنه جمعُ "ظَرْف"، وإن لم يُستعمل على نحو: "فَلْسٍ"، و"فُلُوسٍ". و"ظَرْفٌ" في معنى "ظرِيف" ,كما قالوا: "عَدْلٌ" في معنى "عادِلٍ". وقال أبو عمر (¬1): هو جمعُ "ظريف" على غير قياس. ونظيرُه "زَنْدٌ"، و"أَزْنادٌ"، و"زَمَانٌ"، و"أَزْمانٌ". قال: ويدل على ذلك أنك لو صغّرت "ظُرُوفًا"، لقلت "ظُرَيفُونَ"، ولا يمتنع ما كان من ذلك لمن يعقل مذكرًا من الواو والنون، نحو: قولك: "ظريفون"، و"لبيبون"، و"حكيمون"، وما كان مؤنثًا بالألف والتاء، نحو: "لبيبة"، و"لبيبات"، و"ظريفة"، و"ظريفات". و"فُعالٌ" بمنزلةِ "فَعِيل"؛ لأنهما أختان، تقول: "رجل طَوِيل وطُوال"، و"بَعِيدٌ وبِعادٌ"، وقالوا: "شَجِيعٌ وشُجاعٌ"، و"خَفِيفٌ وخُفافٌ"، وتدخل في مؤنّث "فعالٍ" الهاء، كما تدخل في مؤنث "فَعِيلٍ". تقول: امرأةٌ "طويلة وطُوالَةٌ"، و"خفيفةٌ وخُفافَةٌ"، فلما اتفقا في المعنى، اتّفقا في الجمع. وقالوا "شُجاعٌ وشُجَعاء"، كما قالوا: "فَقِيهٌ وفُقَهاء". وقالوا: "طُوالٌ وطِوالٌ" كما قالوا: "كِرامٌ" و"لِئامٌ". وأما "فَعُولٌ"، فيجيء على ثلاثةِ أبْنية "فعُل"، و"فَعائِلَ"، و"فُعَلاء". فالاولُ قالوا: "صَبُورٌ وصُبُرٌ"، و"غَدُورٌ وغُدُرٌ". هذا هو الباب، المذكر والمؤنث فيه سَواءٌ، وإنما استويا في هذا المثال؛ لأنه لا علامةَ للتأنيث فيه ظاهرة، تقول: "رجل صَبُور"، و"امرأة صَبورٌ"، و"رجلٌ غَدُورٌ"، و"امرأةٌ غدورٌ". فلما استويا المذكّر والمؤنّث في الواحد، استويا في الجمع. والثاني "فَعَائِلُ" ويختص بالمؤنث، قالوا: "عَجُوز وعَجائِزُ". شبهوهُ بـ "فَعِيلَةَ"؛ لأنه مؤنث مثله، وقالوا: "عُجُزٌ". قال الشاعر [من الكامل]: 750 - جاءَتْ به عُجُزمُقابَلَة ... ما هن من جَرْم ولا عُكْلِ ¬
وقالوا للوالِهِ: "عَجُولٌ، وعُجُلٌ"، وقالوا: "جَدُودٌ وجَدائِدُ"، و"صَعُودٌ وصَعائِدُ"، و"سَلُوبٌ وسَلائِبُ". والجدود: التي قل لَبَنُها، والصعُودُ: التي عطفت على ولدِ غيرها، والسلُوبُ: التي سُلبت ولدَها بموتٍ، أو ذَبْح، أو غيرِ ذَيْنك. جاؤوا بها على "فعَائِلَ"؛ لأنها مؤنّثةٌ، فكان علامةُ التأنيث فيها مقدرة، فصار كـ "صَحيحَة"، و"صَحائِحَ". شبّهوا "فَعُولًا" في الصفة بالاسم، فجمعوه جمعَه، فكما قالوا: "قَدُومٌ، وقُدُمٌ، وقَدائِمُ"، و"قَلُوصٌ، وقُلُص، وقَلاِئصُ" كذلك قالوا: "عَجُوزٌ، وعُجُز، وعَجائِزُ". وقد يستغنون بأحدهما عن الآخر، قالوا: "عَجائِلُ"، ولم يقولوا: "عُجُلٌ"، وقالوا: "صَعائِدُ"، ولم يقولوا "صُعُدٌ". وقد قالوا في المذكر: "جَزُورٌ، وجَزائِرُ"، وبابه المؤنّث، كأنهم لما كان لغيرِ من يعقل؛ جمعوه جمعَ المؤنث؛ لأن غير العُقلاء يجري في الجمع مجرى المؤنّث. فأمّا "ذَنُوب" و"أَذْنِبَةٌ"، ففيه لغتان: التذكير والتأنيث. فمن ذكّر، قال: "أَذْنِبَة"؛ ومن أنث، قال: "ذَنائِبُ". ويُحكَى أنّه لمّا قال عَلْقَمَةُ [من الطويل]: 751 - وفي كل حَي قد خَبَطْتَ بنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لَشأْسٍ من نَداكَ ذَنُوبُ ¬
فقال: بل "أَذْنِبَة"، وأطلقَ أخاه شَأْسًا، وأحسن إليه. ولا يجمعون من ذلك بالواو والنون، وإن كان لمن يعقل, لأن مؤنثه لا يجمع بالألف والتاء. إنما لم يجمع المؤنث بالألف والتاء؛ لأنها لا تُستعمل في المؤنث بعلامة الثأنيث؛ لأنها لم تَجْرِ على العقل، فلما طُرحت الهاء في الواحد مع أن التأنيث يُوجِبها؛ كرهوا أن يأتوا بجمع، يوجب ما كرهوا، فيكون نقضًا لغرضهم، فعدلوا عن السلامة إلى التكسير، وأجروا المذكر مجراه. وقد حكوا: "عَدُوَّةٌ"، فأدخلوا تاء التأنيث على "فَعُولٍ"، وهو قليل، والكثيرُ "عَدُوٌّ"، ان عنيتَ المؤنث. وإنّما أدخلوا فيه تاء التأنيث تشبيها له بـ"صَدِيقٍ"، و"صَدِيقَةٍ"؛ لأنّه مثله في الصفة والعدةِ والزيادةِ، وهم كثيرًا ما يحملون الشيء على نقيضه، وكل واحد منهما يقع على الجمع بلفظ الواحد. قال الله تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} (¬1)، وقال: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} (¬2)، وكذلك "صَدِيقٌ". قال الراجز: 752 - دَعْها فَمَا النحْوِي من صَدِيقِها وكما شُبه "فَعُولٌ" بـ "فَعِيل"، فأُلْحق به تاء التأنيث كذلك شبهوا "فَعِيلًا" بـ "فَعُولٍ"، فأسقطوا منه تاء التأنيث، فقالوا: "شاةٌ سَدِيسٌ"، إذا أتت عليها السنةُ السادسةُ، وقالوا: ¬
"رِيح خَرِيق"، أي: باردةٌ شديدةُ الهُبُوب. قال الشاعر [من الوافر]: 753 - كأن هُبُوبها خَفَقانُ رِيح ... خَرِيقٍ بين أَعْلام طِوالِ و"كَتِيبَةْ خَصِيفٌ"، فأما قولهم: "رَكُوبَة"، و"حَلُوبَةٌ"، فالتأنيث فيه للمبالغة والتكثير كـ "نَسابةٍ"، ومن قال: "عَدُوَّةٌ" لم يمتنع عنده جمعُه بالألف والتاء، ومذكره بالواو والنون. الثالث "فُعَلاء"، وهو قليل، قالوا: "وَدُودٌ"، و"وُدَداءٌ"، شبهوه بـ "فَعِيلٍ"، إذ كان مثله في العدة، والواو أختُ الياء، ولذلك يتفقان في الرِّدْف. وفيه شذوذ من وجهَين: أحدهما أن "فَعُولًا" لا يجمع على "فُعَلاء"، إنما بابُه "فَعِيلٌ" كـ "كَرِيمٍ"، و"كرمَاءَ"، فهو في "فَعُول" شاذّ. الثاني إنه إنما جاء هذا البناء في الجمع على التشبيه بـ "فَعِيلٍ"، فلا يكون هذا البناء في المضاعف من "فَعِيلٍ"، فلا يقال: "شَدِيدٌ"، و"شُدَداءٌ"، و"جَلِيلٌ"، و"جُلَلاء"، فهو في "فَعولٍ" المشبه به أشد امتناعًا، فكان فيه شاذًّا. وإنما سوّغ ذلك خروجُه عن بابه، وشذوذُه، فأُجري عليه بما ليس له، وقد شبّهه سيبويه (¬1) بـ "خُششاء" في الواحد يريد أنهم احتملوا التضعيف في "وُدَداء" كما احتملوه في "خُشَشَاء"، و"الخششاء": العظم الناتىء خَلفُ الأُذن، وهما خشَشاوان. وربما ادغم، فقيل: "خُشاء"، ونظيرُه "قُوباء" بالسكون، وهما حرفان نادران، فأما "فَعَالٌ" بفتح الفاء فهو كـ "فَعُولٍ"، يجمع على "فُعُلٍ" و"فعْلٍ" في المعتل. وقد جاء فيه أيضًا "فُعَلاء"، فكان له ثلاثةُ أبنية في الجمع. فالأولُ "فُعُلٌ"، قالوا: "امرأةٌ صَناعٌ وصنُعٌ" و"جَماد وجمدٌ"، كما قالوا: "صَبُورٌ وصُبُرٌ". والصناعُ: المرأة ¬
الحاذقة، ويقال: جَمادٌ، أي: بَخِيلَةٌ، و"سنة جماد"، أي: مُجْدِبة. الثاني: قالوا في المعتلٌ: "نُوار" و"نور"، و"جواد" و"جُود"، و"عَوان" و"عُون"، وأصله التثقيل. وإنما سكّنوه تخفيفًا لثقل الضمة على حرف العلة. وإنما كان البابُ في "فَعالٍ" أن يُكسر على "فُعُلٍ"؛ لأنه نظيرُ "فَعُولٍ" من جهة الصفة والعدة، وأنه يمتنع من كل واحد منهما تاء التأنيث، فلا يقال: "امرأةٌ صناعةٌ"، كما لا يقال: "امرأة صَبُورَةٌ". ويقال: "امرأةٌ نَوارٌ"، أي: عفيفة، نافرة عن القبيح. وأصل النوار النفارُ. و"الجَوادُ": الرجل الكريم مأخوذٌ من "الجَوْد"، وهو المطر الغزير. و"العَوانُ": النصَفُ، يقال: "امرأة عوان"، و"بَقَرَة عوان"، أي: نَصَف في سنها. الثالث: قالوا: "جَبانٌ"، و"جُبَناء". قال سيبويه (¬1) شبهوه بـ "فَعِيل"، قالوا: "فَقِية"، و"فُقَهاء"، و"بَخِيلٌ"، و"بُخَلاء"؛ لأنه مثله في الصفة والزنة والزيادة. يريد أن "فَقيها"، و"ظَرِيفًا"، ونحوهما من الصفات كما أن "جَبانا" صفة، وأن الزائد في البناءين حرفُ مَد ولِين، وأن زنتهما واحدة من جهة سكونه. وحُكي عن سيبويه: "رجل جَبانٌ"، و"امرأةٌ جَبَانَة"، و"جُبَناء" في الجمع (¬2). فعلى هذا لا يمتنع جمعُه بالواو والنون، فيمن يعقل، وبالألف والتاء في المؤنّث. وأما "فِعَال" بكسر الفاء، فله في التكسير ثلاثةُ أبنية "فُعُلٌ"، "فِعَالٌ"، "فَعائِلُ"، وهو كـ"فَعالٍ" بفتح الفاء، لا تدخل تاء التأنيث في مؤنثه. فالأول، وهو فُعُلٌ، قالوا فيه: "ناقة دلاتٌ"، أي: سريعةٌ، و"نُوقٌ دُلثٌ"، و"ناقةٌ كِنازٌ"، و"نُوق كُنُزٌ"، أي: مجتمعةُ اللحم. الثاني، وهو"فَعائلُ"، قالوا: "ناقةٌ هِجانٌ"، وهي الكريمة الخالصة، و"نُوقٌ هَجائِنُ". وقالوا: "شِمالٌ"، وهي الخليقة، والجمع "شَمائِلُ" على إرادة الزائد، وأما "فُعُل" فعلى تقدير حذف الزائد. الثالثُ "فعَالٌ"، قال الخليل (¬3): "الهِجانُ" يكون واحدًا، ويكون جمعًا. تقول: "هذا هِجانٌ"، و"هؤلاء هِجانٌ". وذلك أن هِجانا "فِعالٌ"، و"فِعال" يجري مجرى "فَعِيلٍ"، لاستوائهما في العدة والزيادة. فمن حيث جمعوا "فَعِيلًا" على "فِعالٍ"، نحو: "ظَريفٍ"، و"ظِرافٍ"، و"شَرِيفٍ"، و"شِرافٍ"، كذلك كسروا عليه "فِعالاً"، وقالوا في "الشمال" التي هي الخليقة: تكون واحدًا وجمعًا. قال الشاعر [من الطويل]: ¬
[جمع "فعيل" بمعني "مفعول"]
754 - [ألم تَعلَمَا أَن المَلَامَةَ نَفعهَا ... قليل] ومالَوْمَي أخِى مِن شَمالِيَا يريد: من شَمائِلي. وقالوا: "دِرعٌ دِلاصٌ"، وهو البَراق، و"درُوعٌ دِلاصٌ"، فـ "دِلَاصٌ"، إذا كان جمعًا، تكسير"دِلاص" الذي هو واحد. فإن قيل: فهلا كان "هِجانٌ" و"دِلاصٌ" في مذهب المصدر من نحو: "جُنُب"، ولا يكون تكسيرًا؟ قيل: في ذلك مذهبان: منهم من يقول: "هذا هِجانٌ"، و"هذان هجَانان"، و"هؤلاء هَجائنُ"، وكذلك "دِلاصٌ"، فعلى هذا يكون تكسيرًا، إذ لو كان مصدرًا؛ لم يُثَنَّ كما كان في "جُنُبٍ" كذلك. والذي يدل على ذلك قولُهم: "جَواد"، و"جِيادٌ"، فجمعوا "فَعالاً" على "فِعَالٍ". و"فَعالٌ"، و"فِعالٌ"، مجراهما واحدٌ، ليس بينهما فرق إلَّا فتحُ التاء وكسرُها. فكما لا يُشَك في أن "جِيادًا" تكسيرٌ، كذلك "هِجانٌ". ومنهم من يقول: "هذا هِجانٌ"، و"هذان هجانٌ"، و"هؤلاء هجانٌ"، وكذلك "دِلاصٌ"، فهؤلاء يجعلونه مصدرًا، ويُوَحِّدونه في كل الأحوال، كما كانت "جُنُبٌ" كذلك، فاعرفه. [جمع "فعيل" بمعني "مفعول"] قال صاحب الكتاب: وأما "فعيلٌ" بمعنى "مفعولٍ", فبابه أن يكسَّر على "فعلي" كـ "جرحى", و"قتلى". وقد شذّ "قتلاء", و"أسراء"، ولا يجمع جمع التصحيح، فلا يقال "جريحون" ولا "جريحاتٌ". * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ "فَعِيلًا" إذا كان بمعنى "مَفْعُولٍ"، فإنه يجري مجرى "فَعُولٍ"، فلا تدخله الهاءُ في المؤنث، ويكون لفظُ المذكُر والمؤنث فيه سواءً، كما كان كذلك في "فَعُولٍ". وبابُه أن يُكسر على "فَعْلَى" كما ذكر، نحوَ: "جَرِيح"، و"جَرْحَى"، و"قَتِيلٍ"، و"قَتْلَى"، و"لَدِيغ"، و"لَدْغَى". أما اختصاصُه بـ"فَعْلَى"؛ فلأنّه لا يُجمَع على ذلك إلَّا ما كان من الآفات والمَكارِه التي تُصيب الحيَّ، وهو لها كارِهٌ غيرُ مُريد، فلما اختص المفردُ بمعنى واحد، لا يشرَكه فيه غيرُه، اختصوا جمعه ببناء لا يشركه فيه غيره وهو"فَعْلَى"، فإن وُجد في غيره، فلمشارَكته له، وشَبَهِه به على ما سيُذكَر. وقد شذ نحوُ: "قُتَلاء"، و"أُسَراءَ"، كأنهم شبهوه بـ"ظَرِيفٍ"، و"ظُرَفاءَ"، و"شَرِيف"، و"شُرَفاءَ". والبابُ "فَعْلَى"؛ لأن "قتيلًا" بمعنى "مقتول"، و"أسيرًا" بمعنى "مأسُورٍ". ولا يُجمَع شيء من ذلك إذا كان مذكّرًا بالواو والنون، كما لم يجمع مؤنثُه بالألف والتاء، فلا يُقال: "قَتِيلُونَ"، ولا "جَرِيحَات"؛ لأنهم لم يفصلوا في الواحد بين المذكّر والمؤنث بالعلامة، فكرهوا أن يفصلوا بينهما في الجمع، فيأتوا في الجمع بما كرهوا في الواحد، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: ولمؤنثها ثلاثة أمثلة: فعال، فعائل، فعلاء, وذلك نحو صباح وصبائح وعجائز وخلفاء. * * * قال الشارح: قوله: "ولمؤنّثها"، يعني مؤنّثَ هذه الصيغة يريد ما كان علي بناءِ "فعِيلٍ" إذا لم يكن بمعنى "مفعول"؛ وله في الجمع ثلاثةُ أبنية: "فِعَالٌ"، "فَعائِلُ"، "فُعَلاءُ". فالأول، قالوا: "صَبِيحَةٌ"، و"صِباحٌ"، و"ظَرِيفَة"، وظِرافٌ"، والصبيحةُ: الجميلة. يُقال: "امراة صبيحةٌ" إذا كانت ذاتَ صَباحة، وهي الجَمال، ومثلُه "ظريفةٌ"، و"ظِرافٌ" جمعوه على "فِعالٍ" بالزيادة كالمذكر، ولم يفصلوا بينهما في الجمع، كأنهم اكتفوا بالفصل في الواحد عن الفصل في الجمع. والثاني: "فَعائِلُ"، قالوا: "صَبيحَةٌ"، و"صَبائِحُ"، "وصَحِيَحةٌ"، و"صحائح"، و"طَبِيبَةٌ"، و"طَبائِبُ"، جمعوه جمع الأَسماء، نحوِ "صَحِيفَةِ"، و"صَحائِفَ"، وَ"سَفِينَة"، و"سَفائنَ"، فهذا البناءُ في المؤنث نظيرُ "أَفْعِلاء" و"فُعَلاء" في الصفات للمذكر، فـ"أفْعِلاءُ"، نحوِ: "صَفِي"، و"أصْفِياءَ"، و"شَقِى"، و"أشْقِياءَ"، و"فُعَلَاءُ"، نحو: "كريمٍ"، و"كُرَماءَ"، و"شَهِيدٍ"، و"شُهَداءَ". وقد يستغنون بـ "فِعَالٍ" عن "فَعَائِلَ". قالوا:
[جمع الاسم الذي علي وزن "فاعل"]
"سَمِينَةٌ"، و"سِمانٌ" و"صَغِيرَةٌ"، و"صِغارٌ"، و"كَبِيرَةٌ"، و"كِبارٌ"، ولم يقولوا: "سَمائِنُ"، ولا "صَغائِرُ" ولا "كبائر" في السّنّ، إنما جاز ذلك في الذنُوب. الثالث: "فُعَلاءُ"، قالوا: "فَقِيرَةٌ"، و"فُقَراءُ"، و"سَفِيهَةٌ"، و"سُفَهاءُ"، جُمع جمع المذكر، ولم يُسمَع من ذلك إلَّا هذان الحرفان. وقد قالوا فيه: "سَفائِهُ"، كما قالوا: "صَحائِحُ"، فأمّا "خليفة" فقد قالوا فيه "خَلائِفُ"، و"خُلَفاء"، قال الله تعالى: {خَلَائِفَ في الْأَرْضِ} (¬1)، وقال: {وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ} (¬2)، فمن قال: "خَلائِفُ"، فعلى الأصل المذكرر، جَمَعَه على حدّ: "صَبيحَةٍ"، و"صَبائِحَ"، ومن قال: "خُلَفاءُ"، كان كـ "فُقَراءَ"، و"سُفَهاءَ". وهو ها هنا أسهلُ؛ لأَن الخليفة لا يكون إلَّا مذكرًا، فجمع على المعنى دون اللفظ. ويحتمل أن يكون "خلائف" جمع "خَلِيف" فإنه يُقال: "خليفٌ"، و"خليفةٌ". قال الشاعر [من البسيط]: 755 - إن من القَوْم مَوْجُودًا خَلِيفَتُه ... وما خَلِيفُ أبي وَهْبٍ بمَوْجُودَ فجاء "خُلَفاءُ" على "خَلِيفٍ" كـ "فُقَهاءَ"، و"ظُرَفاءَ". [جمع الاسم الذي علي وزن "فاعل"] قال صاحب الكتاب: وما كان على فاعل إسماً فله إذا جمع ثلاثة أمثلة: فواعل، فُعْلانُ، فِعْلانُ، نحو: كواهل وحجران وجنان. * * * قال الشارح: اعلم أن ما كان من الأسماء على "فاعِلٍ"، أو"فاعَلٍ" غيرَ نَعْت، فله ¬
في التكسير ثلاثةُ أبنية، فالبابُ فيه أن يُكسر على "فَواعِلَ"، نحوِ: "كاهِلِ"، و"كَواهِلَ"، و"حائطٍ"، و"حَوائِطَ"، و"نَائِل"، و"نَوائِلَ"، و"طابِقِ"، و"طَوابِقَ"؛ وذلك لأنه ليس بنعت، فتريد أن تفصل بينه وبين مؤنثه، وإنما هو اسم رباعى بالزيادة, فجُمع على الزيادة، فكان حكمه في الجمع حكمَ بنات الأربعة، وشُبه بما فيه زيادةُ الإلحاق، نحوِ: "جَوْهَرِ"، و"صَيْرَفٍ"؛ لأنه مثلُه في العدة، وكونِ الزائد ثانيًا من حروف المدّ، فكما يُقال: "جَواهِرُ"، و"صَيارِفُ"، كذلك قيل: "حَوائِطُ"، و"حَواجِزُ". وإنما قلبوا ألفَ "فاعِلٍ" في هذا الجمع واوًا؛ لأن ألف التكسير تقع بعدها، والجمعُ بينهما متعذرٌ لسكونهما، فلم يكن بد من حذف أحدهما أو قلبِه، فلم يسغ الحذف؛ لأنه يُخِل بالدلالة على الجمع، فتَعين القلبُ. وقلبوها واوًا, ولم يقلبوها ياءً؛ لأُمور منها: أنهم حملوها في القلب على التصغير، فكما قالوا: "حُوَيِّطٌ"، و"حوَيجِز"، قالوا في التكسير: "حَوائِطُ"، و"حَواجِزُ"؛ لأن التصغير والتكسير من واد واحد، فجاز أن يحمَل كل واحد من التصغير والتكسير على أخيه. ألا ترى أنّهم كما حملوا التكسير على التصغير هنا، كذلك حملوا التصغير على التكسير، فقالوا: "أسَيْوِدٌ" من غير ادّغام، كما قالوا: "أساوِدُ". الثاني: أنهم أرادوا الفرق بين ألف "فاعِلٍ"، وياءِ "فَيْعَلٍ"، نحوِ: "صَيرَفٍ". ألا تراك لو قلت في "صارِفٍ": "صَيارِف"، لجاز أن يُتوهم أنه جمعُ "صَيْرَفٍ"، فعُدل إلى الواو لذلك. الأمر الثالث: أن الألف لما زيدت للجمع، وأُريد قلبُها، قلبوها واوًا تشبيهًا لها بواو الجمع، نحوِ: "قَامُوا" و"الزيدون" ولا فرق في ذلك بين المعرفة والنكرة، فإنك تقول في المعرفة: "خالِد"، و"خَوَالِدُ"، و"قاسِمٌ"، و"قَواسِمُ"، كما تقول: "كاهِلٌ، وكَواهِلُ". ولا تمتنع المعرفةُ من الواو والنون نحوِ قولك: "خالدون"، و"قاسمون". وقد جاء في "فاعَل"، "فَواعِيلُ"، نحوِ: "طابِقٍ"، و"طَوابِيقَ"، و"دانِق"، و"دَوانِيقَ"، و"خاتَم"، و"خَواتِيم"، كأنهم جمعوه على ما لم يُستعمل، نحوِ: "طابقٍ"، و"طَوابِيقَ"، و"داناقٍ"، و"دَوانِيقَ"، و"خاتام"، و"خَواتِيمَ". وليس ذلك بقياس مطرد، على أن بعضهم قال: "خاتامٌ"، وأنشدوا [من الرجز]: 756 - [أَعَزُّ ذاتَ المِئزرِ المنشق] ... أخذتِ خاتامِى بغيرِ حَق ¬
[جمع مؤنث الاسم الذي علي وزن "فاعل"]
فعلى هذا يكون "خَواتِيم" قياسًا. قال الفراء: لم يجىء في "فاعِلِ": "فَواعِيلُ" إلَّا في شيء من كلام المولدين، قالوا: "باطِل"، و"بَواطِيلُ" شبهوه بـ"طابِقِ"، و"طَوابِيقَ". الثاني: "فُعلانُ" بضم الفاء، قالوا: "حاجر"، و"حُجرانٌ"، و"سالّ"، و"سُلانٌ"، و"حائِرٌ"، و"حُورانٌ"، وقالوا فيه: "حِيرانٌ"، كسروه على "فِعلانَ"، كما قالوا: "جِنانٌ"، ومثله "غِيطانٌ"، و"حِيطانٌ"، جمع "غائطِ"، و"حائط". وذلك أنهم شبهوه بـ"فَعِيل"، فجمعوه جمعه، كما قالوا: "جَرِيبٌ"، و"جُبانٌ"، و"رَغِيفٌ"، و"رُغفانٌ"، كذلك قالوا ها هنا: "جِنانٌ"، و"حِيرانٌ". و"فُعلانُ" بالضم في هذا أكثر من "فِعلانَ", لأنه محمول على"فَعِيل". والبابُ في "فعيل" "فُعلانُ"، نحو: "جريب" و"جُرْبان"، و"كثيب"، و"كُثبان"، و"فِعلانُ"، فيه قليل، نحوُ: "ظَلِيم"، و"ظِلمانٍ"، و"قضيب"، و"قِضبان". وإذا قل في الأصل كان فيما حمُل عليه أقل، فمن كسره على "فَواعِلَ"، جمعه جمع الأربعة، فنزل الزائدَ فيه منزلةَ الأصل، ومن كسره على "فُعلان" و"فِعلان"، فعلى حذف الزائد، وجمعه جمع بنات الثلاثة، نحوِ: "حُملانٍ"، و"وِرلانٍ". وقالوا: "وَادٍ"، و"أودِيَة" جمعوه في القلة على "أفْعِلَةَ" كما قالوا: "أرْغِفَةٌ"، ولم يأتِ إلَّا في هذا الحرف المعتل نادرًا، كأنهم كرهوا فيه "فواعِلَ"؛ لئلا تنقلب الواو همزة، فيقال: "أوَادٍ"، والأصل: "وَوادٍ"، فيجتمع في أول الكلمة واوان، فتنقلب الأُولى همزة، كما قلبوها في "أواقٍ". والحاجر: مكان مستدير يمسك الماءَ من شَفَة الوادي، وهو "فاعل" من "الحَجر"، وهو المَنعُ. والسالّ: مَسيل ضيق في الوادي، والحائر كالبُستان، وتُسميه العامة الحَيرَ. والغائط: المكان المنخفض، وكني به عن قضاء الحاجة؛ لأن من أراد قضاء الحاجة، أتى الغائطَ ليتستر عن الأعين، وهو من الواو، لقولهم: "تَغَوطَ" إذا أتى الغائطَ. وإنما قلبوا الواو ياءَ في "الغِيطان" لسكونها وانكسارِ ما قبلها، كما فعلوا في "مِيزان". ومثلُه "حِيطان" هو من الواو؛ لأنه من "حَاطَ" "يحوط". [جمع مؤنث الاسم الذي علي وزن "فاعل"] قال صاحب الكتاب: ولمؤنثه مثال واحد "فواعل", نحو:"كواثب", وقد نزلوا ¬
[جمع الصفة التي علي وزن "فاعل"]
ألفَ التأنيث منزلةَ "تائه"، فقالوا في "فاعِلاء"، "فَواعِلُ"، نحوَ: "نَوافِقَ"، و"قَواصِعَ"، و"دَوامَّ"، و"سَوابِ". * * * قال الشارح: المؤنث في هذا البناء على ضربين: مؤنث بعلامة هي تاءٌ، كـ"جاعرةٍ"، و"كاتبةٍ"، ومؤنث بعلامة هي ألفٌ ممدودةٌ، نحوُ: "نافِقاءَ"، و"قاصعاءَ". فقياسُ ما كان من الأول أن يجمع على "فَواعِلَ"؛ لأنّك في التكسير تحذف التاء إذا كانت منفصلة عن الاسم على حد حذفها في "قَصْعةٍ"، و"قِصاعٍ"، و"جَفنَة"، و"جِفانٍ"، ثم تجمع جمع المذكر، فتقلب ألفه واوًا، نحوَ: "جَواعِرَ"، و"كَواثِبَ". ولم يخافوا التباسَه بالمذكر؛ لأن التأنيث هنا ليس للفرق. وما كان من الثاني، وهو المؤنث بالألف الممدودة، فإنه أيضًا يُجمع على "فَواعِلَ"، قالوا: "نافِقاءُ"، و"نَوافِقُ"، و"قاصِعاءُ"، و"قَواصِعُ". شبهوا ما فيه ألفُ التأنيث بما فيه تاءُ التأنيث، فـ"نافِقاءُ"، و"قاصِعاءُ"، بمنزلة "نافِقَةٍ"، و"قاصِعَةٍ"، فحذفوها في التكسير كما يحذفون التاء، ومثلُه قولهم: "خُنْفَساءُ"، و"خَنافِسُ"، كأنهم جمعوا "خُنْفَسَةَ". والجاعِرَة: حَلْقة الدبْر، وهي أيضًا طَرَف الفَخْذ موضعُ الرقْمَة من الحِمار، وهما الجاعِرتان. والكاثِبَة من الفرس: أعلى الحارِك. والنافِقاء، والقاصِعاء، والداماء من جِحرَةِ اليَرْبُوع. و"سَوابُّ": جمع "سابِياءَ" وهو النتاج، ومنه الحديث: "تسعةُ أعْشار البَرَكَة في التجارة، وعُشْرٌ في السابياء" (¬1). [جمع الصفة التي علي وزن "فاعل"] قال صاحب الكتاب: وللصفة تسعة أمثلة: فعل، وفعال، وفعلة، فُعلة، فعل، فعلاء، فعلان، فعال، فعول. نحو شهد وجهل وجهال وفسقة وقضاة. وتختص بالمعتل اللام وبزل وشعراء وصحبان وتجار وقعود. وقد شذ نحو فوارس. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول إنّ التكسير في الصفات ليس بقياس؛ لشَبَهها بالأفعال، والبابُ أن تجمع بالواو والنون؛ لأن الفعل يتصل به هذه العلاماتُ، نحوُ: "يضربون"، فإذا البابُ في "فاعل" إذا كان صفة نحوَ "كاتب"، و"ضارب" أن يجمع بالواو والنون، نحوَ قولك: "ضاربون"، و"كاتبون"؛ لأنه صفة، ومؤنثُه بالهاء، نحوُ: "ضاربة"، و"كاتبة"، فكان جمعُ مذكره بالواو والنون، كما كان جمعُ مؤنثه بالألف والتاء، نحوُ: "ضاربات"، و"كاتبات". وقد يكسر بحكم الاسمية، فإذا كُسر المذكر منه كان على "فُعلٍ". قالوا: "شاهِدٌ"، ¬
و"شُهدٌ"، لشاهد المَصِير، و"بازِل"، و"بُزل"، و"قارحٌ"، و"قُرحٌ". ومثلُه في المعتل: "صائِم"، و"صُوَّمٌ"، و"نائم"، و"نُومٌ"، ويجوز "صُيمٌ"، و"نُيمٌ". وقالوا فيما اغتسلت لامه: "غاز"، و"غُزى"، و"عافٍ"، و"عُفُى" بمعنى الدارس، وعلى "فُعالٍ". قالوا: "شُهادٌ", و"جهالٌ", و"ركابٌ" وذلك كثير. وقد يكسر علي"فعلة".قالوا: "فاسقٌ", و"فسقةٌ", و"بارُّ", و"بررةٌ", و"كافرٌ", و"كَفَرَةٌ"، وقالوا فيما اعتلت عينه: "خائِنٌ"، و"خَوَنَةٌ"، و"حائكٌ"، و"حَوَكَة"، والقياس: "خانَةٌ"، و"حاكَةٌ"، وإنّما خُرج على الأصل. وربما قالوا: "خانةٌ"، و"حاكةٌ"، كما قالوا: "باعَةٌ"، ونظيرُه من المعتلّ اللام "غازٍ"، و"غُزاةٌ"، و"قاضٍ"، و"قُضاةٌ"، جاؤوا به على "فُعَلَةَ"، وهو بناء اختص به المعتل، لا يكون مثلُه في الصحيح. وزعم بعضُ الكوفيين أن أصل "قُضاةٍ": "قُضى" مثلَ "شُهد"، و"قُرح"، فحذفوا إحدى العينَيْن، وأبدلوا منها الهاءَ، ولا دليل على ذلك. وكان أبو العباس محمَّد بن يزيد يذهب إلى أن ذلك ليس بتكسير لـ"فاعل" على الصحة، إنما هي أسماء للجمع، فهو بابُه كـ "عمود"، وَ"عَمَدٍ"، و"أفِيقٍ"، و"أفَقِ". وقد كسروه على "فُعُلٍ"، قالوا: "بازِلٌ"، و"بُزُلٌ"، و"شارِفٌ"، و"شُرُف" للمُسِنة من الإبل، وقالوا: "عائذ" و"عوذ"، وهي القريبةُ النتاجِ، و"حائلٌ"، و"حُولٌ"، و"عائط"، و"عِيط"، بمعنى "الحائل". وأصلُ " عُوذٍ"، و"حُولٍ"، " عُوُذ"، و"حُوُلٌ"، فأُسكنت الواو استثقالًا للضمة عليها، وأصلُ "عِيطٍ"، "عُيُطٌ"، فسكّنوا الياء استثقالاً، وكسروا العين لتصحّ الياءُ، وذلك كما قالوا: "بِيضٌ" في جمع "أبْيَضَ"، وأصلُه: "بُيْضٌ" كـ "أحْمَرَ" و"حُمرٍ". وإنما كسروا الباء؛ لتصح الياء، وذلك أنهم شبّهوا "فاعلًا" بـ"فَعُول"، فجمعوه على حذف الزيادة, لأنه مثلُه في الزيادة والعدة، فكما قالوا: "غَفُورٌ"، و"غُفُرٌ"، و"صَبُورٌ"، و"صُبُرٌ"، كذلك قالوا: "بازلٌ"، و"بُزُلٌ"، و"شارِفٌ"، و"شُرُفٌ"، فحذفُ الألف من "فاعِل" هنا كحذف الواو من "فَعُولٍ". ويجيء على "فُعَلاء". قالوا: "شاعرٌ"، و"شُعَراءُ"، و"جاهل"، و"جُهَلاء"، و"عالم"، و"عُلَماء"، و"صالح"، و"صُلَحاء"، و"عاقل"، و"عُقَلاء"، شبّهوه بـ "فَعِيل" الذي هو بمنزلةِ "فاعل"، نحوِ: "كريم"، و"كُرَماء"، و"حكيم"، و"حُكَماء"؛ لأنّه إنّما يُقال ذلك لمن قد استكمل الكَرَمَ والحكمةَ، وكذلك "شاعرٌ" لا يقال إلا لمن قد صارت صناعتَه، وكذلك "جاهلٌ". فلما استويا في العدة، وتَقاربَا في المعنى، حُمل عليه كما حُمل "بِازِلٌ"، و"بُزُلٌ" على " صَبُورٍ"، و"صُبرٍ". وليس "فُعُلٌ" و"فُعَلاءُ" فيه بمطّرد، فيقاسَ عليه لقلته، إنما يُسمَع ما قالوه، ولا يُتجاوز. قال سيبويه (¬1): وليس "فُعُلٌ" ولا "فُعَلاءُ" بالقياس المتمكن في هذا الباب. ¬
وأمّا "فُعْلانُ"، فقالوا "راع"، و"رُعْيانٌ"، و"شابٌ"، و"شُبان"، و"صاحبٌ"، و"صُحْبانٌ"، شبهوه بالاسم، حيث قالوا: "فالِقٌ"، و"فُلْقان"، و"حاجرٌ"، و"حُجرانٌ"، وليس بالكثير. ويُكثر على "فِعَالٍ"، قالوا: "تاجِرٌ"، و"تِجارٌ"، و"صاحِبٌ"، و"صِحابٌ"، و"نائِم"، "نيام" و"راع" و"رعاءٌ". قال تعالى: {حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ} (¬1).وقالوا: "كافرٌ", و"كفارٌ" قال الشاعر [من الوافر]: 757 - وشُق البَحْرُ عن أصْحابِ مُوسَى ... وغُرقَتِ الفَراعنَةُ الكِفارُ وذلك أنهم أجروا "فاعِلًا" مجرى "فَعِيل" حيث قالوا: "راعٍ"، و"رُعْيانٌ"، و"فالِقٌ"، و"فُلْقانٌ"، كما قالوا: "جَرِيب"، و"جُربانٌ". وقد أجازوا في "فَعِيل" الذي هو اسم "فِعالاً"، كقولهم: "إفالٌ"، و"فِصال" في جمع "أفِيل"، و"فَصِيل". فأجازوا ذلك في "فاعِل"؛ لأن "فَعِيلًا" يُجمع عليه كـ "كريم" و"كِرام"، و"طويل"، و"طِوال". ويكسر أيضًا على "فُعُولٍ". قالوا: "قاعدٌ"، و"قُعُودٌ"، و"جالِسٌ"، و"جُلوسٌ"، و"شاهِدٌ"، و"شُهُودٌ". قال الشاعر [من الطويل]: وبايَعْتُ ليْلَى في خَلَاء ولم يكن ... شُهُودٌ على لَيْلَى عُدُولٌ مَقانِعُ (¬2) كأنهم جاؤوا به على المصدر، نحوِ: "جَلَس جُلُوسًا"، و"قَعَدَ قُعُودًا". قال سيبويه: وليس بالكثير. وقالوا: "هالِكٌ" و"هَلْكَى"، شبّهوه بـ "فَعِيل" بمعنى "مفعول"، نحوِ: "جريح"، و"جَرْحى"، و"قتيل"، و"قَتْلَى"، إذ كانت بَلِية ومُصِيبةَ، فأما "غائبٌ"، "وغَيَبٌ"، و"خادمٌ"، و"خَدَمٌ"، فأسماء للجمع، وليست جموعًا. وقوله: "وقد شذ نحوُ: فَوارِسَ" يريد أنهم لم يجمعوا "فاعلًا" صفة على "فَواعِلَ"، ¬
وإن كان هو الأصلَ؛ لأنهم قد جمعوا المؤنث عليه، فكرهوا التباسَ البناءَيْن، إذ لو قالوا: "ضَوارِبُ"، و"كِواتِبُ"، لم يُعلَم أجمعُ "فاعل" هو، أم جمع "فاعلةَ". وقد قالوا: "فارسٌ"، و"فَوارِسُ". قال الشاعر [من الوافر]: 758 - فَدَتْ نفْسِي وما مَلَكَتْ يَمِينِي ... فَوارِسَ صَدقت فيهم ظُنُوني فوارِسَ لا يَمَلونَ المَنَايَا ... إذا دارت رَحَا الحَرْبِ الزبونِ وقالوا: "هالك في الهَوالِك" (¬1). قال [من الطويل]: 759 - فأيقَنْتُ أني ثائر ابنِ مُكَدمٍ ... غَداتئِذٍ أوهالِكٌ في الهَوالِكِ ¬
وذلك قليل شاذ، ومُجازُه أمران: أحدهما أن "فارسًا"، قد جرى مجرى الأسماء، لكثرة استعماله مفردا غيرَ موصوف؛ والآخرُ أنّ "فارسًا" لا يكاد يُستعمل إلا للرجال، ولم يكن في الأصل إلا لهم، فلما لم يكن للمؤنث فيه حَظ، لم يخافوا التباسًا، وأما "هَوالِكُ"، فإنّه جرى مَثَلًا في كلامهم، والأمثال تجري على لفظ واحد، فلذلك جاء على أصله، فإن اضطُر الشاعر إليه، جاز له أن يجمعه على "فَواعِل"؛ لأنه الأصل. قال الفَرَزْدَق [من الكامل]: 760 - وإذا الرجالُ رَأَوْا يَزِيدَ رَأيْتَهم ... خُضُعَ الرقابِ نَواكسَ الأبْصارِ ¬
[جمع مؤنث الصفة التي علي وزن "فاعل"]
والأصل من هذه الأبنية "فُعَّلٌ"، و"فُعَّالٌ"، وكأن "فُعلًا" مخفف من "فُعالٍ"؛ لأن كل ما يجوز فيه "فُعَّلٌ" يجوز فيه "فُعّالٌ"، وما عدا هذَيْن البناءَيْن فمجموعٌ على غير بابه. [جمع مؤنث الصفة التي علي وزن "فاعل"] قال صاحب الكتاب: ولمؤنثه مثالان فواعل وفعل نحو ضوارب ونوم ويستوي في ذلك ما فيه التاء وما لا تاء فيه كحائض وحاسر. * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الصفة لماكانت جارية على الفعل يوصَف بها المذكّر والمؤنث، وتدخل التاء على المؤنّث للفرق بينهما؛ كسروا ما كان من ذلك مؤنثًا على "فَواعِلَ"، نحوِ: "امرأة ضاربةِ"، و"نساء ضوارب"، و"جارية جالسة"، و"نساء جوالس". وكرهوا أن يجمعوا عليه المذكّرَ، وإن كان أصلًا، لئلّا يلتبس البناءان. ولم يخافوا التباسَه بالاسم؛ لأن الفرق بينهما ظاهر، إذ كان الصفة مأخوذة من الفعل. وسَواء في ذلك ما فيه تاء، وما لا تاءَ فيه، نحوُ: "حائض"، و"حوائض"، و"طامِث"، و"طوامِث"، و"حاسِر"، و"حواسِر"؛ لأن التاء مرادةٌ فيه. ويجري ذلك المجرى ما كان صفة لِما لا يعقل، تجمعه على "فَواعِل"، وإن كان مذكّرًا، نحوَ: "جَمَل بازل"، و"جِمال بوازلَ"، و"جَبَل شاهق"، و"جِبال شواهِق"، و"حِصان صاهِل"، و"خَيْل صواهِل"؛ لأن ما لا يعقل يجري مجرى المؤنث، وكذلك إذا صغرت الجمع، وكان لِما لا يعقل، نحوَ قولك في تحقير: "فُلُوس"، "فُلَيْسات"، وفي تحقير "كِلاب": "كُلَيْباتٌ". وقد كسروه أيضًا على "فُعل" كالمذكر، واعتمدوا في الفرق على القرينة، قالوا: "حُيضٌ"، و"حُسرٌ"، وقالوا: "نائِمَةٌ"، و"نُومٌ"، و"زائرةٌ"، و"زُوَّرٌ". وذلك أن التاء، لما لم تكن من بناء الاسم إنما هي متصلةٌ، صار كأنه "نائمٌ"، و"زائرٌ"، فجُمع جمع ما لا تاء فيه من المذكر, فاعرفه. فصل [جمع الاسم الذي في آخره ألف تأنيث رابعة] قال صاحب الكتاب: وللاسم مما في آخره ألف تأنيث رابعة مقصورة أو ممدودة مثالان: فعالى , فعال. نحو صحارى وإناث. * * * قال الشارح: لقا كانت ألف التأنيث تقع لازمة غيرَ منفصلة من الكلمة، كما كانت ¬
التاء منفصلة, لأن الكلمة بُنيت عليها، فلما كان الأمر فيها على ما ذُكر, نزلوها منزلةَ ما هو من نفس الكلمة، فإذا كانت رابعة، كان الاسم بها كالرباعيّ، فجُمع جمعه، فقالوا: "عَلْقَى" (¬1)، و"عَلاقَى"، و"ذِفْرَى" (¬2)، و"ذَفارَى"، وقالوا في الصفة "حُبْلَى"، و"حَبالَى"، و"سَكْرَى" و"سَكارى". فـ" حَبالَى"، و"ذَفارَى" بمنزله "جَخادِبَ" (¬3)، و"دَراهِمَ". وليست الألف في "حَبالَى" كالألف في "حُبْلَى"؛ لأن الألف في "حُبْلَى" للتأنيث، والألف في "حبالى" منقلبة عن ياء, لأنّه جمعٌ على منهاج "جَعافِرَ". وما بعد الألف في "جَعافِرَ" لا يكون إلَّا مكسورًا، فلما انكسر ما قبل الياء في "حَبالى"، انقلبت ياء، فصار في التقدير "حَبالِيُ"، فأبدلوا من الكسرة فتحة، ومن الياء ألفًا؛ لأن الألف أخفّ في اللفظ، ولم يُشْكِل؛ لأنّه ليس لك "فعائلُ" يلتبس به، ولم يفعلوا ذلك بـ"قاضٍ"، لئلا يلتبس بـ "فاعَلٍ"، نحوِ: "خَاتَم"، و"تابَل". فامتناعُ الصرف في "حَبالَى"، و"ذَفارَى" لم يكن كامتناعه في "حُبْلَى"، و"ذِفْرَى"، وإنّما كان كامتناعه في "مساجد"، و"جعافر". والذي يدل أن الألف في "حبالى" ليست كالألف في "حبلى"، انك لو سميت رجلًا بـ "حَبالَى"، ثم صغرته، لم تُصغره على حد تصغير "حُبارَى"، ألا ترى أنك لو صغّرت "حُبَارَى"، لكان لك فيه وجهان: أحدهما: أن تحذف الألف الأُولى، وتُثْبِت ألف التأنيث، فتقول: "حُبَيْرَى". والوجهُ الثاني: أن تحذف ألف التأنيث للطول, ولا تحذف الأُولى، وتقلبها ياءً، فتقول: "حُبَير". وأنت لو صغرت "حَبالَى" اسمَ رجل، لحذفتَ الألف الأولى، وقلبت الثانية ياء على حد الأصلية والمُلحِقة، نحو قولك في "مَلهي": "مُلَيْهِ"، وفي "أرْطى": "أُرَيط". وكذلك ما في آخره ألفا التأنيث، نحوُ "صَحْراءَ"، و"عَذْراءَ"، فإنك تقول في تكسيره: "صَحارَى"، و"عَذارَء" وإن شئت: "صَحار"، و"عَذار"، وكان الأصل "صَحارِيُ"، و"عَذارِيُّ" مشددَ الياء، وإن شئت أن تقوله، قلتَه. قال الشاعر، أنشده أبو العباس للوليد بن يزيد [من الهزج]: 761 - لقد أغْدُو على أشْقرَ ... يَجْتابُ الصحارِيا ¬
وقال آخر [من الوافر]: 762 - إذا جاشت حَوالَيهِ تَرامَت ... ومَدته البَطاحِي الرغابُ يريد جمع "بَطحاءَ". وحكى الأصمعيّ. "صَلافِي" في جمع "صَلْفاءَ"، وهي الأرض الصلْبة، و"خبارِيُّ" في جمع "خَبراءَ" (¬1) فإن قيل: ومن أين جاء التشديد في مثل هذا؟ قيل: "صحراءُ" ونحوه من قولك: ¬
[جمع الصفة التي على أربعة أحرف آخرها ألف التأنيث]
"عذراء"، و"خبراء" على خمسة أحرف، والألفُ إذا وقعت رابعة فيما هذا عدتُه، لم تحذف في التكسير والتصغير، وإنما تحدف إذا لم تجد من الحذف بدًّا. وإذا ثبتت، لزمك أن تقلبها ياءٌ؛ لانكسار الراء في "صَحارِيُ" قبلها، كما تنقلب ألفُ "قِرْطاسٍ"، و"حِمْلاق" (¬1) ياء لانكسار ما قبلها، إذا قلت "قَراطِيسُ"، و"حَمالِيقُ". وكذلك تقلب الألف الأَولى من "صَحراءَ"، و"عَذْراءَ" ياء، فتصير الهمزةُ ألفًا؛ لأنها إنما كانت قُلبت همزة لوقوع ألف المدّ قبلها، فإذا زالت الألفُ بقلبها ياءً، عادت الهمزة إلى ما كانت عليه، وهو ألف، فقلبوا الألف ياءً لسكون الياء قبلها، والألُف لا يكون ما قبلها ساكنًا، وادغموا الياء المنقلبة عن ألف المدّ في الياء المنقلبة عن ألف التأنيث، فصار "صَحارِيُّ"، و"صَلافِىُّ". فمنهم من قاله، ومنهم من حذف الياء الأولى تخفيفًا، فصار "صَحارٍ"، و"صَلافٍ". فقدم أبقوه على حاله، وقوم أبدلوا من الكسرة فتحةً، ومن الياء ألفا؛ لأنها أخف، ولا يُشْكِل بغيره، وليكون آخِرُ الجمع بالألف كما كان الواحد كذلك، فهذا المثال الأول، وهو "فَعالَى". وأمّا المثال الثاني وهو"فِعالٌ"، فقد قالوا "ذِفارٌ" في جمع "ذِفْرَى"، وقالوا في الصفة: "إناثٌ"، وقالوا في الممدود "نُفَساءُ" (¬2)، و"نِفاسٌ" وذلك أنهم شبهوا ألفي التأنيث بتائه، فحذفوهما في التكسير كما تحذف التاءُ فيه، فـ "أنثى"، و"إناثٌ"، و"بَطحاءُ"، و"بِطاحٌ" بمنزله " جُفْرَةٍ"، و"جِفارٍ"، و"قَصْعَة"، و"قِصاع". و"نُفَساءُ"، و"نِفاسٌ" بمنزلة "رُبَعَةِ"، و"رِباع"، والجُفْرةُ من الفرس: وسطُه، وكما قالوا في "قاصِعاءَ" (¬3)، و"نافِقاءَ" (¬4): "قَواصِعُ"، و"نَوافِقُ"، نزلوا ألفَي التأنيث فيه منزلةَ التاء في "ضارِبة"، و"ضَوارِبَ"، و"قائمة" و"قوائم"، كذلك نزلوهما منزلتَهما في الحذف هنا، لأنهما سَواءٌ في التأنيث، وإن كان أحدُهما بالتاء، والآخرُ بالألف. وصاحب الكتاب ضمّن هذا الفصلَ أحكامَ جميع الاسم، ومثل بـ "أُنْثَى"، و"إناث"، وهو صفة، وعُذْرُه أنه لا فَرْقَ بينهما في هذا الجمع، فاعرفه. [جمع الصفة التي على أربعة أحرف آخرها ألف التأنيث] قال صاحب الكتاب: وللصفة أربعةُ أمثلة: "فِعالٌ"، "فُعْلٌ", "فُعَلٌ"، "فَعالَى"، نحو ¬
"عِطاش"، و"بِطاح"، و"عِشار"، و"حُمرِ"، و"الصغَرِ"، و"حَرامَى", ويُقال: "ذِفْرَيات"، و"حُبْلَيات"، و"الصغرَيات"، و"صَحراوات"، إذا أُريد أدْنَى العدد، ولا يُقال: "حَمراوات"، وأما قولُه عليه السلام: "ليس في الخَضْراوات صَدَقَة" (¬1)؛ فلجَرْيهِ مجرَى الاسم. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن ما كان مَن الأسماء على أربعة أحرف، آخِرُه ألفُ التأنيث مقصورة كانت، أو ممدودةً؛ فإنه يُكسر على "فَعالَى"، و"فِعالٍ". ويشترك فيهما الاسم والصفة، تقول في الاسم: "صَحْراءُ"، و"صَحارَى"، و"ذِفْرَى"، و"ذَفارَى"، وتقول في الصفة: "أُنْثَى"، و"إناث"، و"عَطْشَى"، وَ"عِطاشٌ"، من قولك: "رجل عَطْشانُ"، و"امراة عَطْشَى". وقالوا: "بَطْحاءُ"، و"بِطاحٌ". فهذا أصلُه الصفة، يُقال: "مكان أبْطَحُ"، وَ"بَرية بَطحاء" لِما اتسع منها، فلذلك مثلنا به في الصفات، ومثلنا به في الاسم, لأنه جارٍ مجرى الاسم؛ لأنك تقول: "أبْطَحُ"، و"بَطْحاءُ" ولا يكاد يُذكر موصوفًا. وكذلك تقول في الجمع: "بَطْحاوات"، فتجمعه بالألف والتاء، كما تقول "صَحْراوات"، وقالوا: "الأباطِحُ"، كـ "أفْكَلٍ" (¬2)، و"أفاكِلَ"، ولم يقولوا "بُطْح" وإن كان هو الأصل، وقالوا: "حَرَامَى" وهو جمع "حَرمَى" وهو صفة، تقول: "شاة حَزمَى" إذا اشتهت الفحلَ، و"شِياة حَرَامَى"، وكذلك كلُّ ذات ظِلْفِ. وتختص الصفة ببناءَيْن آخرَيْن في التكسير، وهما "فُعْلٌ"، و"فُعَلٌ". فأما "فُعْلٌ" فهو جمعُ "فَعلاء" صفة إذا كانت مؤنثةَ "أفعَلَ"، نحوَ "حَمْراءَ"، و"حُمْرٍ"، و"صَفراءَ"، و"صُفر". جمعوه على "فُعْلٍ" جمع ما لا زائدَ فيه، شبهوه بـ "فَعُولٍ" حيث قالوا: "صَبُورٌ"، و"صبرٌ"، و"عَجُولٌ"، و"عُجُلٌ"؛ لأنّه من الثلاثة كما أنه من الثلاثة، ويستوي فيه المذكر والمؤنث، تقول: "حَمْراءُ"، و"حُمْرٌ"، و"أَحْمَرُ" و"حُمْرٌ"، و"صَفْراءُ"، و"صُفْرٌ"، و"أصفَرُ"، و"صُفر"، وإنما اشتركا في الجمع, لأنهما لما مُنعا الاشتراكَ الذي في "ضارِبٍ"، و"ضارِبَةٍ" عُوّضا الاشتراكَ في الجمع، فقيل: "حُمْرٌ"، و"صُفْر"؛ ولأنّ المذكر والمؤنث يستويان في تأنيث الجمع، نحوِ: "هي الرجال"، و"هي النساءُ". ولا يجوز تحريكُ وسطِ هذا إلَّا في الشعر، نحو قول طَرَفَة [من الرمل]: 763 - [أيها الفِتيَانُ في مَجلِسنَا] جَردُوا منها وِرادًا وشُقُر ¬
وذلك للفرق بين "أفْعَلَ" صفة، وبين ما يجمع عليه من الأسماء، نحوِ: "رُسل"، و"كُتبٍ"، فإن هذا مضمومُ العين، ويجوز إسكانُه، والأولُ ساكنٌ، لا يجوز ضمه إلَّا ضرورة، يُشبهونه بالاسم. ويُكسر على "فُعْلانَ"، نحوِ: "سُودانٍ"، و"بِيضانٍ"، و"شُمْطان" (¬1). وذلك أنهم لما جمعوه على "فُعْل" نحوَ جمعِ ما لا زائدَ فيه، نحوِ: "سُود"، و"حُمْر"؛ جمعوه أيضًا على "فُعْلانَ"، نحوِ: "وَغْدٍ"، و"وُغْدانٍ". ولا يجمع المؤنّث من هذا بالألف والتاء، ولا مذكرُه بالواو والنون؛ لأنّه ليس بجارٍ على الفعل. وذلك أن الصفات على ضربَيْن: أحدُهما: ما كان جاريًا على الفعل كـ "ضارِب"، و"ضارِبَة"، وغير جار كـ "أحْمَر"، ونحوه. فما كان من الأول، فإنه يجمع جمع السلامة، فتقول في المذكر: "قائمون"، و"ضاربون"، وفي المؤنّث: "قائمات"، و"ضاربات". وذلك أنه لما جرى على الفعل؛ شُبّه بلفظ الفعل الذي يتصل به ضميرُ الجمع؛ لأن الفعل يسلم ويتغيّر بما يتصل به، فقولُك: "ضاربون" بمنزلةِ "يضربون"، و"ضارباتٌ" بمنزلةِ "يَضْرِبْنَ". وما كان من الثاني -وهو غيرُ الجاري- فلا يجمع جمع السلامة إلَّا عن ضرورة، نحوِ قوله [من الوافر]: 764 - فما وُجِدَتْ بناتُ بني نِزار ... حَلائلَ أحْمَرِينَ وأسْوَدِينَا ¬
وكان ابن كَيْسان يقول: لا أرى به بأسًا. والمذهبُ الأوّل لِما ذكرناه، ولذلك لا يجمع "فَعْلَى" "فَعْلانَ" جمع السلامة، فإن سمّيتَ بشيء من ذلك، جاز أن تجمعه جمع السلامة؛ لأنه اسمٌ. وقد جاء في الحديث "ليس في الخَضْراوات صَدَقَةٌ", لأنه يريد البُقُولات. وكذلك لو سميت رجلًا بـ"أسْوَدَ"، جاز أن تجمعه بالواو والنون، فتقول: "أسْوَدُونَ". وكذلك لو صغّرت هذا الجمع، لجمعته بالواو والنون والألف والتاء، فتقول في "سُود" وأنت تريد المذكرَ: "أُسَيْوِدِينَ"، و"سُوَيْداوات" إذا أردت المؤنّث. وأمّا "فُعَلٌ" فهو جمع "الفُعْلَى" تأنيثِ "الأفْعَل". وذلك أن "أفْعَلَ" إذا كان لا يتم نعتا إلا بـ "مِنْ"، كقولك: "أفضلُ من زيد"، و"أصغرُ من خالد"؛ فإنه يجمع منه ما كان للآدميين مذكرًا بالواو والنون، كما قال تعالى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (¬1)، وقال: {بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (¬2)، ومؤنّثُه بالألف والتاء، نحوِ: "الكُبْرَى"، و"الكُبْرَيات"، و"الصغْرَى"، و"الصُّغْرَيات"، وذلك من قبل أنّه لما لم يُنكر، ولم يكن إلا بالألف واللام المُعرفة، أو"مِن" المُخصصةِ؛ نقص عن مجرى الصفات، وجرى مجرى الأسماء؛ لأنّ الصفات بابُها التنكير من حيث كانت جارية مجرى الفعل. ولما جرت مجرى الأسماء؛ لم تمتنع من جمع السلامة إذا كانت للآدميين، ولذلك تُكسَّر تكسيرَ الأسماء، فتقول في المذكر منه: "الأكابرُ"، و"الأصاغر"، كما تقول: "الأجادل"، و"الأفاكل". قال الله تعالى: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} (¬3). وتقول في المؤنث: "الكُبْرَى"، و"الكُبَرُ"، و"الصغْرَى"، و"الصغَرُ". قال الله تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} (¬4)، نزلوا ألف التأنيث فيه منزلةَ التاء التي تُلْحَق للتأنيث، فـ "الكُبْرَى"، و"الكُبَرُ" بمنزله "الظلْمَة"، و"الظلَم"، و"الغُرفَة"، و"الغُرَف". وقوله: "ويُقال: "ذِفْرَيات"، و"حُبْلَياتٌ"، و"الصغْرَياتُ"، و"صَحْراوات" إذا أُريد أدنى العدد، ولا يُقال "حَمْراواتٌ"؛ يريد أن كل ما في آخِره ألفُ التأنيث المقصورةُ أو الممدودة، فإنه يجوز جمعُه بالألف والتاء، وذلك لأن الاسم إذا كان في آخِره ألفُ ¬
[جمع الاسم الذي علي خمسة أحرف وآخره ألف التأنيث]
التأنيث، يجري مجرَى ما فيه تاءُ التأنيث، لاتفاقهما في الزيادة، وإفادة معنى التأنيث، فكما يجمع ما فيه التاءُ إذا أردت أدنى العدد، نحوُ: "ضاربة" و"ضاربات"، كذلك يجمع ما فيه ألفُ التأنيث، من نحو: "ذِفْرَى"، و"ذِفْرَيات"، و"حُبْلَى"، و"حُبْلَيات"، و"الصغْرَى"، و"الصغْرَيات"، و"صَحْراءَ"، و"صَحْراوات"، ما خلا بابَ "حَمْراءَ"، و"صَفْراءَ" فإنه لا يجمع بالألف والتاء، وكذلك "فَعْلَى" مؤنّثُ "فَعْلانَ"، فإنّه لا يجمع بالألف والتاء، ولا مذكّرُه بالواو والنون، وقد تقدمت علةُ ذلك. [جمع الاسم الذي علي خمسة أحرف وآخره ألف التأنيث] قال صاحب الكتاب: وإذا كانت الألف خامسة، جُمع بالتاء كقولك: "حُباريَاتٌ"، و"سُمانَيات". * * * قال الشارح: إذا كانت ألف التأنيث خامسة في اسم، لم يُكسروه، بل يقتصرون فيه على جمع السلامة، نحوِ قولك: "حُبارَى"، "حُبارَيات"، و"سُمانَى"، "سُمانَياتٌ"، وإن عنيتَ الكثير. وذلك أنّك لو كسّرتَه، وهو على خمسة أحرف لم يمكن ذلك، ولم يكن بد من حذف إحدى الألفَيْن. فإن حذفتَ ألف التأنيث، قلت: "حَبائِرُ"، و"سَمائِنُ"، وذلك أنك لما حذفت ألفَ التأنيث، بقي "حُبارٌ"، و"سُمانٌ"، ثمّ جئت بألف التكسير قبل ألف الإفراد، فوجب قبلها همزة؛ لأنها وقعت موقعَ ما لا يكون إلا مكسورًا؛ لأنّها وقعت موقعَ الفاء من "جَعافِرَ"، والدال من "جَخادِبَ". والألفُ لا يمكن تحريكُها، فقُلبت همزة, لأنّها قريبة من الألف، ويمكن تحريكُها، فصار "حَبائِرَ". وإن حذفت الألف الأُولى، بقي الاسم "حُبْرَى"، و"سُمْنَى". وإذا كسرته، قلت: "حَبارَى"، و"سَمانَى" كما قالوا: "حُبْلَى"، و"حَبالَى". وما كان على "فَعْلاء"، أو"فِعالةَ" وأخواتِها، فإنّه يُكسر على ذلك، فـ "فَعْلاء" نحو "صَحْراءَ"، و"صَحارَى"، و"عَذْراءَ"، و"عَذارَى"، و"فِعالةُ"، نحوُ "رِسالَة"، و"رَسائِلَ". وأخواتُها "فُعالَةُ"، و"فَعالَةُ"، و"فَعِيلَةُ". فـ "فَعالةُ" "سَحابَة" و"سَحائِبُ"، و"فُعالَةُ" "ذُؤابَة"، و"ذَوائِبُ"، و"فَعِيلَةُ" "سَفِينَةٌ" و"سَفائِنُ"، فكرهوا تكسيرَ ذلك، لئلا يصيرِوا إلى هذه الأبنية، ففصلوا بينهما بأن عدلوا عن تكسيرها إلى جمع السلامة. فإن قيل: فأنت تقول في "دَلَنْظى" (¬1) و"سَرَنْدى" (¬2)، ونحوِهما "دَلانِظُ"، و"سَرانِدُ"، و"دَلافي "، و"سَراب "، ولا تُبالي الالتباسَ. قيل: الألف في "دَلَنْظى" و"سَرَنْدى" ليست للتأنيث، وإنما هي للإلحاق، وما كان للإلحاق فهو جارِ مجرى الأصل، فلذلك كُسر كما يُكسر "سَفَرْجَلٌ" ونحوُه بالحذف. ¬
فصل [جمع "أفعل"]
فصل [جمع "أَفْعَل"] قال صاحب الكتاب: ولـ "أفْعَلَ" إذا كلان اسمًا مثالٌ واحدٌ: "أفاعِلٌ" نحوُ "أجادِلَ"، وللصفة ثلاثةُ أمثلة: "فُعْلٌ "، "فُعْلَانُ", "أفاعِلُ"، نحوُ: "حُمْر"، و"حُمْرانٍ" و"الأصاغرِ"، وإنما يُجمَع بـ "أفاعِلَ" أفْعَلُ" الذي مؤنثُه "فُعْلَى"، ويُجمَع أيضًا بالواو والنون. قال الله تعالى: {بِاَلأخسَرِين أعمالا} (¬1). أما قوله [من الطويل]: أتاني وَعِيدُ الحُوصِ من آلِ جَعْفَرٍ ... فَيَاعَبْدَ عَمْرو لو نَهَيْتَ الأحاوِصَا (¬2) فمنظورٌ فيه إلى جانِبَيِ الوَصْفِيّة والاسميّةِ. * * * قال الشارح: "أفْعَلُ" يكون اسمًا، ويكون صفة، فإذا كان اسمًا، فجمعُه على "أفاعِلَ"، نحوِ: "أفْكَل"، و"أفاكِلَ"، وهىِ الرعْدة، و"أيْدَع"، و"أيادِعَ" وهو ضربٌ من الصمغ أحمرُ، و"أرْنَب"، و"أرانِبَ"، و"أجْدَلٍ"، و"أجادِلَ" وهو الصقر. وإنما جُمع على ذلك؛ لأنّه في العدة كالأربعة، فجُمع جمعه، فـ "أفاكِلِ" كـ "جَعافِرَ" الهمزهُ فيه كالجيم، وإن كانت الهمزة زائدة في الوزن، والجيمُ أصلٌ، فصار كالملحق بالأربعة من نحو: "قَسوَرٍ" و"غَيْلَم"، وإن لم يكن ملحقًا على الحقيقة، لكنه على وزنه. فكل ما كان في أؤله همزةٌ زائدة من الأسماء الثلاثيّة، فإنّ تكسيره على "الأفاعِل"، وإن اختلفت حركاته، نحوَ: "إثْمِدٍ" (¬3)، و"أثامِدَ"، و"أبْلُم" (¬4)، و"أبالِمَ"، و"إصْبَعِ"، و"أصابع"، لا يختلف بناءُ جمعه، وإن اختلفت حركاتُ الواحد، كما كان الرباعي كذلك، نحوُ: "زَبارجَ"، و"جَعافِرَ"، و"بَراثِنَ"، و"دَراهِمَ"، و"قَماطِرَ"، و"جَخادِبَ". وأما الصفة، فلها ثلاثةُ أبنية: "فُعْلٌ" نحو"أحْمَرَ"، و"حُمر"، و"أصْفَرَ"، و"صُفْرٍ". وكُل "أفْعَلَ" مؤنثُه "فَعْلاءُ"، فهذا جمعُه، ولا يجوز ضمّه إلَّا في الشعر. ويجمع على "فُعْلانَ"، نحوِ: "حُمْران"، و"بِيضان" و"سُودان"، قال الشاعر [من الهزج]: 765 - ومِعْزَى هَدِبَا يَعْلُو ... قِرانَ الأرْضِ سُودَانَا ¬
ولا يجمع بالواو والنون إلا عن ضرورةِ، وقد تقدم شرحُ ذلك بما فيه كفاية. وأما "أفاعِلُ"، فيكون جمعًا لـ "أَفْعَلَ" صفة أيضًا، وذلك أنّ "أفْعَلَ" قد يكون صفة، فيلزمها "مِنْ"، ويراد بها التفضيل، كقولك: "زيد أفضلُ من عمرو"، و"خالدٌ أكرمُ منك". فإذا أدخلتَ عليه الألف واللام، أسقطتَ منه "مِنْ"، كقولك: "مررت بالأفضل والأكرم". ولا يُستعمل مع حذفِ "مِنْ" إلَّا بالألف واللام أو بالإضافة، نحوِ: "الأفضل"، و"فُضْلَاهم"، وإذا كان معه "مِن"، فإنه يكون بلفظ واحد، لا يُؤنث، ولا يُثنى، ولا يجمع، فتقول: "زيد أفضلُ من عمرو"، و"هندٌ أفضل من عمرو"، و"الزيدان أفضل من العمرَين"، و"الزيدون أفضل من الخالدين". وذلك لأنه في معنى الفعل، إذ المراد: يزيد فضلُه عليه. والفعلُ لا يثنى، ولا يجمع، ولا يؤنث. وإذا كان معه الألف واللام، جرى مجرى الاسم، فيؤنث، نحوَ: "الفُضْلَى"، و"الطولَى"، ويثنى، نحوَ: "الأكرمان"، و"الأفضلان"، ويجمع جمع السلامة، نحوَ قولك: "الأفضلون"، و"الأكرمون". ويكسر تكسيرَ الأسماء، نحوِ: "الأكابِر"، و"الأصاغِر". وقد تقدم الكلام عليه مشروحًا قبلُ، فإذا سُمي بصفةٍ رجلٌ نحوِ "أحْمَدَ"، و"أسْعَدَ"، صار اسمًا جامدًا، وجُمع جمع الأسماء، نحوَ: "أحامِدَ"، و"أساعِدَ". ويجمع أيضًا جمع السلامة، نحوَ قولك: "أحمدون"، و"أسعدون"، و"أحمدِينَ"، و"أسعدِينَ"؛ لأنّه بالتسمية زال معنى الوصف عنه، ولم يبق يُفيد من المعنى ما كان يفيده قبل التسمية. ألا ترى أنك تسمي بالاسم الشيءَ وضِدّه، وتسمي "حَسَنَا" ما ليس بالحسن. وإذا زال عنه معنى الوصف؛ جُمع جمع الأسماء الجامدة، نحو: "أرانِبَ"، و"أفاكِلَ"، فأمّا قول الشاعر [من الطويل]: أتاني وعيد الحوص (¬1) ... إلخ ¬
فصل [جمع "فعلان" و"فعلان" و"فعلان"]
فإنه لمح معنى الوصفية فيه، فجمعه على "حُوصٍ"، كـ "أحْمَرَ" و"حُمر"، كأنه جعله بمنزلةِ مَن به حَوَصٌ. والحَوَصُ: ضِيقُ إحدى العينين، وعلى ذلك أدخلوا الألف والسلام على "الحارث"، و"العَباس" لمكان معنى الوصفية، ثم قال: "الأحاوص" تغليبًا لجانب العَلَمية، كما يُغلب العلميةَ من يقول: "حارِثٌ"، و"عَباس"، فجمعه جمع الأسماء، نحوِ: "أفكَلٍ"، و"أفاكل"، و"أرْنَب"، و"أرانب". والبيت للأعشى، ويعني عبد عمرو بن شُرَيح بن الأحوص، وكان علَقمةُ بن عُلاثة بن عَوْف بن الأحوص نافَر عامرَ بن الطفَيْل، فهَجَا الاْعشى علقمةَ، ومدح عامرًا، فأوعده بالقتل، فقال: أتاني وعيد الحوص، فاعرفه. فصل [جمع "فَعْلان" و"فُعْلان" و"فِعْلان"] قال صاحب الكتاب: وقد جُمع "فَعْلانُ" اسمًا على "فَعالِينَ"، نحوِ "شَياطينَ"، وكذلك "فُعْلانُ"، و"فِعْلانُ"، نحوَ: "سَلاطِينَ"، و"سراحِينَ"، وقد جاء "سراح"، وصفة على "فِعالٍ"، و"فَعالَى"، نحوِ: "غضاب"، و"سَكارَى"، وتقول بعضُ العرب: "كُسالَى"، و"سُكارَى"، و"عُجالَى"، و"غُيارَى"، بالضم. * * * قال الشارح: اعلم أن ما كان من الأسماء على وزنِ "فَعْلانَ"، فإنه يكسّر على "فَعَالِينَ"، ولا فرق بين المفتوح الأول والمضمومه والمكسوره، وذلك نحو: "شَيْطان"، و"شَيَاطِينَ"، و"سُلطانِ"، و"سَلاطِينَ"، و"سِرْحانِ"، و"سَراحِينَ". وذلك لأنها أسماءٌ ثلاثيّة أُلحقت ببنات الأربعة، فوجب أن تجمع جمعَ ما أُلحقت به, لأنْ حكم الملحق حكمُ ما أُلحق به؛ لانه مثلُه في الحكم. ألا ترى أنك تقول في جمع "قَسْوَرِ" (¬1)، و"صَيرَفِ": "قَساوِرُ"، و"صَيارِفُ"، فتجمعه جمعَ "جَعْفَرِ"، و"جَعافِرَ"، و"سَلْهَبِ" (¬2)، و"سَلاهِبَ"، إذ كان ملحقًا به، كذلك "شيطان" من الثلاثيّة أُلحق بالأربعة؛ لأنه من "شاطَ يَشِيطُ" إذا بطل وهلك. قال الأعشى [من البسيط]: 766 - قد نَخْضِبُ العَيْرَ من مَكْنُونِ فائلِه ... وقد يَشِيطُ على أرْماحِنَا البَطَلُ ¬
ووقعت الألف فيه رابعة، وهو موضع يثبت فيه حرفُ المدّ، ولا يُحذف، وإن كانت خماسية، نحوَ "قِنْدِيل"، و"قَنادِيَل"، و"جُزمُوقٍ" (¬1)، و"جَرامِيقَ"، وَ"شِمْلَالٍ" (¬2)، و"شَمالِيلَ"، إلَّا أنها تُقلَب ياء إذا لم تكنها لانكسارِ ما قبلها. و"سُلْطَان" ثلاثىُّ؛ لأنه من السلاطَة، وهو القَهْر، ملحق بـ "قُرطاطٍ" (¬3)، و"فُسطاطٍ" (¬4). قال سيبويه (¬5): وهو قليل. ولا نعلمه جاء وَضعًا، وهو"فُعْلانُ". و"سِرْحان"، من الثلاثة أيضًا، كقولهم في تكسيره: "سِراحٌ"، أُلحق بالأربعة من نحو "عِثكالٍ" (¬6)، و"شِمْراخ" (¬7)، وهو كثير، نحوُ: "حِذْفار"، وهو واحدُ "الحَذافِير" من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فكأنما خُيِّرت له الدُّنْيا بحذافيرها" (¬8). وأما الصفة، فإنّها تُجمع على "فِعَالٍ"، وذلك إذا كان مؤنثُه "فَعْلَ"، نحوَ: "عَجْلانَ"، و"عِجالٍ"، و"عَطْشانَ" و"عِطاشٍ"، و"غَرثَانَ" (¬9)، و"غِراثٍ". وكذلك مؤنثُه، جمعوه على حذف الزائد من آخِره للفرق بينه وبين الاسم، فكأنه بعد حذف الزائد ¬
فصل [جمع "فيعل"]
"عَجل"، و"عَطش"، فجُمع على "فِعالٍ" كما قالوا: "خَدْلٌ" (¬1) و"خِدالٌ"، و"صَعبٌ"، و"صِعابٌ". كما حذفوا ألفَ "أُنْثَى"، فقالوا: "إناث"، وألف "رُبى"، فقالوا: "رُبابٌ" للشاة القريبةِ العهد بالنتاج. قال سيبويه (¬2): وافَقَ "فَعِيلًا"، و"فَعِيلَةَ"، و"فَعالةَ"، و"فَعالاً". يعني: كما قدّروا حذف الزائد في هذه الكلم، وجمعوها جمعَ ما لا زيادةَ فيه، نحوَ "كَرِيم"، و"كِرامٍ"، و"ظَرِيفَةِ"، و"ظِرافٍ"، و"جَوَاد"، و"جِياد"، كذلك فعلوا بـ "عَطْشانَ" وبابه. وقد كسروه أيضًا على "فَعالَى". قالوا: "سَكرانُ"، و"سَكارَى"، و"حَيْرانُ"، و"حَيارَى"، و"خَزْيانُ"، و"خَزايَا". والأوّلُ أكثر، والمؤنّثُ كذلك. قالوا: "سَكْرَى"، و"سَكارَى"، و"خزيا"، و"خَزايَا". شبهوا الألف والنون بألفي التأنيث؛ لأنهما زائدان معًا. والأولُ منهما حرفُ مد، ويُؤنث كل واحد منهما على لفظِ مذكره، فكما قالوا: "صَحْراءُ"، و"صَحَارَى"، و"عَذْراءُ"، و"عَذارَى"، كذلك قالوا: "سَكْرانُ"، و"سَكَارَى"، و"عَطْشانُ"، و"عَطاشَى". وقد ضم بعضُهم الأول من هذا الجمع، فقالوا: "سُكارَى"، و"عُجالَى"، و"غُيارَى" في جمع "غَيرانَ" كله مضموم. وهذا الضم في جمع "فَعْلانَ" خاصة، ليُعلمَ أنَّه جمعُ "فَعْلانَ"، وليس بجمع "فَعْلَاءَ". فصل [جمع "فَيْعَلِ"] قال صاحب الكتاب: و"فَيعِلٌ"، يكسر على "أفْعالٍ"، و"فِعالٍ"، و "أفْعِلاء"، نحوِ: "أمواتٍ"، و"جِيادٍ"، و"أبْيِناءَ"، ويُقال: "هَيِّنُونَ"، و"بَيِّعاتٌ". * * * قال الشارح: اعلم أن "فَيْعِلاً" من الأبنية المختصة بالمعتل، لا يكون مثلُه في الصحيح، كما قالوا: "غُزاةٌ"، و"رُماة" فجمعوا "فَاعِلاً" منه على "فُعَلَةَ"، ولا يكون مثله في الصحيح. وقد ذهب بعض الكوفيين إلى أن أصله "فَعِيلٌ"، ثم قُلبت إلى "فَيْعِلٍ". والقلبُ على خلاف الأصل، ولا دليلَ عليه. فإذا أُريد جمعُه، فالبابُ فيه والكثير أن يجمع جمعَ السلامة؛ لأنه صفةٌ تدخل مُؤنثه التاءُ للفرق، من نحو: "مَيتٍ"، و"مَيتةٍ"، ¬
و"بَيع"، و"بَيعَةٍ". وهو جار مجرى "فاعِلِ"؛ لأنّه على عدته. وموضعُ الزيادة فيهما واحد، فكما كان الباب في "فاعِل" جمعَ السلامة، من نحو قولك: "ضِارب"، و"ضارِبُونَ" " و"ضارِبَةٌ"، و"ضارِبات"، كذلك كان الأكثرُ في "فَيْعِل" جمعَ السلامة من نحو قولك: "مَيتٌ"، و"ميتون"، و"هَين"، و"هينون"، و"مَيتَة"، و"مَيتاتٌ"، و"هَينَةٌ"، و"هَيناتٌ"، وفي الحديث: "المؤمنون هينون لينون" (¬1). فإذا أُريد تكسيره، حُمل على غيره مما هو على عدته، فمن ذلك قولهم: "مَيِّت"، و"أمْواتٌ"، شبهوه بـ "فاعِل"، فكما قالوا: "شاهِدٌ"، و"أشْهادٌ"، كذلك قالوا: "مَيِّتٌ"، و"أموات". جاؤوا به على حذف الزوائد، كأنه بقي "مَوْت"، فقالوا: "أمْوات" مثلَ "سَوْط"، و"أسْواط"، و"حَوْضٍ"، و"أحْواضٍ". والمؤنّثُ كالمذكر، لا فصلَ بينهما، قالوا: "مَيتَة"، و"أمْواتٌ"، كما قالوا في المذكر "مَيًت"، و"أموات"، وذلك أنّك في التكسير تحذف التاء، فيصير "مَيتا"، فتجمعُه على "أمْوات". ومثلَه قالوا "حَىٌّ"، و"أحْياءٌ"، و"حَيةٌ" و"أحْياءٌ"، و"نِضْوٌ"، و"أنْضاءٌ"، و"نِضْوة"، و"أَنْضاء"، وذلك كثيرٌ. وقالوا للمَلِك: "قَيلٌ"، و"أقْوالٌ"، وربما قالوا: "أقْيال" بالياء. وذلك من قِبَل أن "القَيْل" أصله: "قَيل"، وهو"فَيْعِل" من القول، قيل له ذلك لنَفاذ قوله. فمن قال: "أقْوالٌ"، جمعه على الأصل كـ"مَيت"، و"أمْوات". ومن قال: "أقْيالٌ"، جمعه على لفظه. والوجهُ الأول، وقالوا: "كَيْسٌ"، و"أكْياسٌ"، والمراد: "كَيسٌ" على زنة "فَيْعِل". يدل على ذلك جمعُهم إياه بالواو والنون كثيرًا, ولو كان "فَعْلًا"، لكان الباب في جمعه التكسيرَ، نحوَ: "صَعْب"، و"صِعاب". وقد كسروه أيضًا على "فِعَالٍ". قالوا: "جَيدٌ"، و"جِيادٌ". وشبهوه بـ"فَاعِل"، وقالوا: "مَيت"، و"أمْواتٌ"، و"جَيدٌ"، و"أجْوادٌ". كذلك قالوا: "أجْيادٌ" كما قالوا: "قائمٌ"، و"قِيامٌ"، و"نائمٌ"، و"نِيامٌ". وكذلك قالوا: "سَيدٌ"، و"سادَةٌ"، كما قالوا: "قائِدٌ"، و"قادَةٌ"، و"حائِكٌ"، و"حاكَةٌ". وقد كسروه أيضًا على "أفْعِلاء"، فقالوا: "هَينٌ"، و"أهْوِناءُ". وحكى الجَرْمي: "جَيد"، و"أجْوِداءُ"، حملوه على "فَعِيل"، نحوِ "نَبِى" و"أنْبِياءَ"، و"صَفِى"، و"أصْفِياءَ". وقد احتجّ الفراءُ بهذا الجمع على أن أصله "فَعِيلٌ". قال: لأنّ "فَعِيلًا" يجمع على ذلك؛ ولا دليلَ في ذلك, لأنّهم قد يجمعون الشيء على غير بابه، ألا تراهم قالوا: "شاعِرٌ" و"شُعَراءٌ"، و"جاهِلٌ"، و"جُهَلاءُ". وإنما "فُعَلاءُ" بابه "فَعِيلٌ"، نحوُ: "كرَماءَ"، و"لُؤَماءَ"، فكذلك ها هنا فاعرفه. ¬
فصل [جمع "فعال" و"فعال" و"فعيل" و"مفعول" و"مفعل" و"مفعل"]
فصل [جمع "فَعّال" و"فُعّال" و"فِعِّيل" و"مفعول" و"مُفْعِل" و"مُفْعَل"] قال صاحب الكتاب: و"فَعّالٌ", و"فُعّالٌ", و"فِعِّيلٌ" و"مَفْعُولٌ", و"مُفْعِلٌ" و"مُفْعَلٌ", يُستغنى فيها بالتصحيح عن التكسير, فيقال: "شرابون" و"حسانون" و"فسيقون" و"مضروبون" و"مُكرِمون" و"مُكرَمون". * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الصفات، لا تكاد تُكسر، كأنّه استُغني عن تكسيرها بجمع السلامة، فَـ"فَعال" للمبالغة، فأجروه مجرى "مُفَعلٍ"؛ لأنهما للمبالغة، و"مُفَعلٌ" يجري على "فَعَّلَ"، نحوِ "كَسَّرَ"، منه و"مُكَسرٌ"، و"قَطَعَ"، منه و"مُقَطعٌ". وتدخله تاءُ التأنيث نحوُ "مُكَسرَةٍ"، و"مُقَطعَة". و"فَعال" كذلك، تقول: "شَرابٌ"، و"شَرّابةٌ"، فلذلك تجمعه جمعَ السلامة كما تجمع "مُفَعلًا"، فتقول: "شَرّابون"، و"شَرّاباتٌ"، و"قَتّالون"، و"قَتالاتٌ"، كما تقول "مُقَتلٌ"، و"مُقَتلون"، و"مُقَتلة"، و"مقتلات". لم يُفعَل به ما فُعل بـ"فَعُولٍ" من التكسير، وإن كانا جميعًا للمبالغة، كأنهم أرادوا الفصل بينهما. وأما "فُعال"، نحوُ: "حُسّانٍ"، و"كُرّامٍ"، و"قُراءٍ"، و"وُضاءٍ"، فحكمُه في الجمع حكمُ "فَعّالٍ"، يكون المذكّر بالواو والنون، والمؤنث بالألف والتاء، نحوُ: "حُسّانون"، و"كُرامون"، و"حُسّاناتٌ"، و"كُرّاماتٌ"؛ لأنّه مثله في المبالغة. وتدخل مؤنثَه التاءُ، قال الشماخ [من البسيط]: 767 - دارَ الفَتاةِ التي كُنا نَقُولُ لها ... يا ظَبْيَةَ عُطُلاَ حُسّانَةَ الجِيدِ ¬
فكان في حكم الجاري على الفعل لذلك، كما كان "فَعّالٌ". ومثل ذلك "فِعِّيلٌ"، نحوُ: "فِسيقٍ"، و"شِريبٍ"، و"سِكِّيرٍ"، فإنّه يجمع مذكرُه بالواو والنون، ومؤنّثُه بالألف والتاء؛ لأنه مثلُ "فَعّالٍ" في المبالغة. وتدخل مؤنثَه تاءُ التأنيث، فكان كالجاري على الفعل، فلذلك كان حكمه حكِمَ جمع السلامة. وكذلك "مَفْعُولٌ" من نحو: "مضروب"، و"مقتول"، بمنزلة "فَعّالٍ"؛ لأنه في حكم الجاري على الفعل. وتدخله تاءُ التأنيث من نحو "مضروبة"، فلذلك كان الباب فيه جمع السلامة من نحو"مضروبون"، و"منصورون". قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} (¬1)، وقال: {مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا} (¬2). وكذلك ما جرى على الفعل من نحو: "مُفَعِّلٍ"، و"مُفَعَّلٍ"، من نحو: "مُكَسِّرٍ"، و"مُكَسَّرٍ"، فـ "مُكَسِّرٌ" اسمُ فاعل جار على "يُكَسِّرُ" مما سُمي فاعلُه، و"مُكَسَّرٌ" اسمُ مفعول جار على "يُفَعَّلُ"، بناءِ ما لم يُسَمَّ فاعلُه. وتدخل المؤنثَ منه تاءُ التأنيث، فلذلك كان جمعُ مذكره بالواو والنون، ومؤنثِه بالألف والتاء، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وقد قيل عواوير وملاعين ومشائيم وميامين ومياسير ومفاطير ومناكير ومطافل ومشادن. * * * قال الشارح: قد شذّ من ذلك أشياءُ، فجاءت مكسّرة، وذلك يُحفَظ ولا يُقاس عليه، فمن ذلك قولهم: "عُوّارٌ"، و"عَواوِيرُ"، للجَبان، أجروه مجرى الأسماء؛ لأنهم لا يقولون للمرأة: "عُوارةٌ"؛ لأن الشَجاعة والجُبْن من أوصاف الرجال لحضورهم الحَرْبَ، وكثرِة لِقائهم الأعداءَ، قال الاْعشى [من الخفيف]: 768 - غيرُ مِيل ولا عَواوِيرَ في الهَيجا ... ولا عُزَّلٍ ولا أكْفالِ ¬
فصل [جمع الثلاثي المزيد بحرف للإلحاق بالرباعي أو لغير الإلحاق]
فهذا شاذ في "فُعالٍ". وقالوا: "مَلاعِينُ"، كسروا "مَلْعُونا"، كأنهم شبّهوه بالاسم مما هو على خمسة أحرف، ورابعُه حرفُ مدّ ولين، من نحو: "بُهْلُولِ"، و"بهالِيلَ"، و"مُغْرُودٍ"، و"مَغارِيدَ"، وهو ضرب من الكَمْأة، ومثله "مَشْؤُوم"، و"مَشائِيمُ". قال الشاعر [من الطويل]: مَشائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَة ... ولا ناعِبٍ إلا بِبَيْن غُرابُها (¬1) وقالوا: "مَيْمُونٌ"، و"مَيامِينُ"، ولا مَكْسُور"، و" مَكاسِيرُ"، و"مَسْلُوخَة"، و"مَسالِيخُ"، كله على التشبيه بالاسم. وهذا شاذ في "مَفْعول". وقالوا: "مُفْطِر"، و"مَفاطِيرُ"، و"مُنكِرٌ"، و"مَناكِيرُ"، و" مُوسِرٌ"، و"مَياسِيرُ"، و"مُطْفِلٌ"، و"مَطافِلُ"، و"مُشدِنٌ"، و"مَشادِنُ". فهذه الأسماءُ مكسرة، فما كان جاريًا على الفعل بمعنى الفاعل، فـ "مُفْطِر" من "أفْطَرَ" "يُفْطِرُ"، فهو "مُفْطِرٌ". وقالوا في الجمع: "مَفاطِيرُ"، و"مُنْكِرٌ" فاعلٌ من "أنْكَرَ" فهو منكر، والجمع مَناكِيرُ. و"مُوسِرٌ" من "اليُسْر"، والواوُ فيه منقلبة عن الياء لسكونها وانضمامِ ما قبلها, ولذلك عادت إلى الياء في الجمع، نحوِ "مَيَاسِير" لتحركها وزوالِ الضمة قبلها، والياءُ فيها مَطْلَةٌ على حدها في "خاتِم"، و"خَواتِيمَ". وقالوا: "مُطفِلٌ"، و"مَطافِلُ"، و"مُشدِنٌ"، و"مَشادِنُ"، وربما قالوا: "مَطافِيلُ"، و"مَشادِينُ"، على غير القياس. والمُطْفِلُ: الأُمُ معها طِفلٌ، والمُشْدِنُ: الظبْية التي قد شدن خشفها, أي: قوي , واستغني عن أمه. فصل [جمع الثلاثي المزيد بحرف للإلحاق بالرباعي أو لغير الإلحاق] قال صاحب الكتاب: وكل ثلاثي فيه زيادة للإلحاق بالرباعي كجدول وكوكب وعثير (¬2)، أو لغير الإلحاق وليست بمدة كأجدل وتنضب ومدعس؛ فجمعه على مثال جمع الرباعي تقول جداول وأجادل وتناضب ومداعس. * * * ¬
[جمع الاسم الرباعي الأعجمي أو المنسوب]
قال الشارح: إذا أُلحق بناء ببناء، صار حكمُ الفرع الملحَق كحكم الأصل الملحَق به، فالثلاثي إذا زيد فيه ما يُلْحِقه بالأربعة، صار حكمه حكمَ الأربعة، فجمعُه كجمعه، فتفتح أولَه، وتزيد فيه ألفا ثالثة، وتكسر ما بعدها، كما تفعل بـ"جَعافِرَ"، و"زَبارجَ"، فتقول في "جَدْوَلٍ": "جداول" وفي "كَوْكَب": "كواكب"؛ لأن "جدولًا"، و"كوكبًا"، الواوُ فيهما زائدة؛ لأنّها لا تكون أصلاً مع ثلاثة أحرف أُصول، فهما ملحقان بـ "جَعْفَر". و"عِثْيَرٌ" ثلاثى، والياء فيه زائدة لِما ذكرناه، فهو ملحق بـ"دِرْهِم"، و"هِجْرَع"، فكما تقول: "جَعَافِرُ"، و"دَراهِمُ"، فكذلك تقول: "جَداوِلُ"، و"كواكب"، و"عَثايرُ"؛ لأنه قد صار في الحكم رباعيًا. فإن كانت الزيادة فيه لغير الإلحاق، ولم تكن مدة كـ"أجْدَلٍ"، و"تَنْضُبٍ"، و"مِدْعَس". فـ"أجْدَلٌ" ثلاثي والهمزةُ في أوله زائدةٌ؛ لأن الهمزة لا تكون في أول بنات الثلاثة إلا زائدة، فالبناءُ وإن كان على زنة "جَعْفَر"، فليس المراد من الهمزة الإلحاقَ، إنما ذلك شيءٌ حصل بحكم الاتّفاق من غيرِ أن يكون مقصودًا إليه، إلَّا أن الزيادة لما لم تكن من حروف المدّ واللين، جرى مجرى الملحق؛ لأن الملحق تكثيرٌ كما أن هذه الحروف كذلك. وليست حروف المدّ كذلك؛ لأنها تجري مجرى الحركات المُشْبَعة عما قبلها، فلا تُعتد مُكثرة لغيرها، فلذلك تجمعها جمعَ الملحق، فتقول في "أجْدَلٍ" - وهو الصقر- "أجادِلُ"، فتفتح أولَه، وتزيده ألفًا ثالثة، وتكسر ما بعدها، كما تفعل في الرباعي والملحقِ به؛ لأنه قد صار على عدته. وتقول: "تَنْضُبٌ"، و"تَناضِبُ"، والتنضب: شجرٌ يُتخذ منه السهامُ، وهو من الثلاثة، والتاءُ في أوله زائدةٌ؛ لأنه ليس في الأسماء مثلُ "جَعْفُر" بضم الفاء؛ ولأنه من الشيء الناضب، وهو البعيد، كأنه قيل له ذلك لعِظَمه، كما قيل لنَظِيره: "شَوْحَطٌ"، وهو من "شَحَطَ". وقالوا: "مِدْعَس"، و"مَداعِسُ"، والمدعسُ: الرمْح الاسم، والميمُ فيه زائدة؛ لأنها لا تكون في أولِ بنات الثلاثة إلَّا زائدة، وكأنه من "الدعْس"، وهو الطعن, لأن الرمح آلةُ الطعن. * * * [جمع الاسم الرباعي الأعجمي أو المنسوب] قال صاحب الكتاب: وتلحق بآخره التاء إذا كان أعجمياً أو منسوباً كجواربة وأشاعثة. * * * قال الشارح: إذا كان الاسم رباعيًا أعجميًا أو منسوبًا، فإنه يجمع على ما تقدّم من
[جمع الرباعي إذا لحقه حرف لين رابع، والثلاثي الملحق به، وما فيه زيادة غير مدة فيصير بها أربعة]
جمع الرباعي، إلا أنك تُلحِق جمعَه الهاءَ في الأكثر. قالوا: "مَوْزَج" (¬1)، و"مَوازِجَة"، و"جَورَبٌ"، و"جَوَارِبَة"، وكلاهما فارسي معربٌ، ودخلت الهاء لتأكيد تأنيث الجمع؛ لأنه مكسرٌ على حدّ دخولها في "حَجَر"، و"حِجارَة"، و"ذَكَر"، و"ذِكارَة"، وللإيذان بالعُجْمة فيها. ومثلُه "كَيلَجَة"، و"كَيَالِجَة"، لمِكيال، و"طَيْلَسانٌ"، و"طَيالِسَة". ونظيرُ ذلك من العربي "صَيْقَل"، و"صَيَاقِلَة"، و"صَيرَف"، و"صَيَارِفَة"، و"ملأَكٌ"، و"مَلائِكَة". وربما حذفوا التاء تشبيها بالعربي، قالوا: "جَوَارِبُ"، وَ"كَيَالِجُ" كأنهم شبهوه بـ"صَوَامِعَ"، و"كَوَاكِبَ". وقالوا "المَناذِرةُ" و"المَسامِعَةُ"، و"السيَابِجَةُ"، و"المَهالِبَةُ"، و"الأحامِرَةُ"، و"الأزارِقَةُ"، فواحدُ "المَناذِرَةِ" "مُنْذِرِيّ" منسوب إلى المُنذِر بن ماء السماء، وواحدُ "المَسامِعَةِ" "مِسْمَعِيّ" منسوبٌ إلى "مِسْمَع"، وأمّا "السيابِجَةُ"، فجمع، والواحدُ "سَيْبَجِىٌّ" فارسى معرب، وهم قوم من السنْد بالبصرة، كانوا جَلاوزَة وحُراسَ السجن. ومثله "البَرابِرَةُ" الواحد "بَرْبَرِي"، و"المَهالبَةُ" منسوب إلى المُهَلب بن أبي صُفرَةَ، الواحدُ "مُهَلَّبِى"، و"الأحامِرَة"، و"الأزارِقَةُ" الواحد منهما "أحْمَرِيٌّ"، و"أزْرَقِىٌّ". والهاء في هذا الجمع تحتمل أمرَين: أحدُهما أن تكون لتأكيد تأنيث الجمع؛ لأنه مكسرٌ، والآخرُ أن تكون بدلًا من ياءَيِ النسَب، كما أبدلوا الياءَ من المحذوف في "سَفاريجَ" (¬2) ونحوِه. وذلك أنهم حذفوا ياءَيِ النسب، ثم جمعوا "مُنْذِرًا" على "مَناذِرَ"؛ لأنه رباعي، وأدخلوا الهاء عوضًا من المحذوف، وكذلك "مِسْمَع"، و"سَيْبَج"، فأما "مُهَلبٌ" فاللامُ فيه مضاعفة، فحذفوا إحدى اللامَيْن، فبقي "مُهَلَبٌ" رباعيًا، فجمعوه جمعَ الرباعي، وكذلك "أحمرُ"، و"أزرَقُ" جمعوهما جمعَ الأسماء لما لم يريدوا فيهما الصفة، فاعرفه. [جمع الرباعي إذا لحقه حرف لين رابع، والثلاثي الملحق به، وما فيه زيادة غير مدّة فيصير بها أربعة] قال صاحب الكتاب: والرباعي إذا لحقه حرفُ لِين رابعٌ، جُمع على "فَعالِيلَ" كـ"قَنادِيل"، و"سَرادِيحَ"، وكذلك ما كان من الثلاثى مُلْحَقًا به، كـ "قَراوِيحَ"، و"قَراطِيطَ"، وكذلك ما كانت فيه من ذلك زيادة غيرُ مَدة كـ"مَصابِيحَ"، و "أناعِيمَ"، و"يَرابِيعَ"، و"كَلالِيبَ". * * * قال الشارح: إذا وقع حرف المدّ رابعًا مع أربعة أحرف أُصولٍ، نحوَ: "سِرْداحٍ"- وهي الناقة الكثيرة اللحم- و"قِندِيلٍ"، و"جُرْمُوقٍ" -وهو ما يُلبَس فوق الخُف- فإنّ ¬
تكسيرها على "فَعَالِيلَ" نحوِ: "سَرادِيحَ"، و"قَنادِيلَ"، و"جَرامِيقَ". فلا تحذف حرف المد، بل تقلبه إلى الياء، إن لم يَكُنها؛ لسكونه وانكسارِ ما قبله، ولا تحذفه؛ لأنه موضعٌ يثبت فيه حرف المدّ. ألا ترى أنك تقول في تكسير "سَفَرجَل": "سَفارِيجُ"، وفي "فَرَزْدَقٍ": "فَرازِيدُ". وإذا كنت تزيد حرفَ المدّ هنا بعدَ أن لم يكن، ولا تقدح في بناء التكسير؛ فلأن تُقِره إذا كان معك أولى؛ إذ لا تحذف شيئًا، وأنت من تجد الحذف بُدًّا. وأما ما ألحق من الثلاثي ببنات الأربعة، فإن جَمعه كذلك أيضًا، نحوَ: "قِرواح"، و"قَراوِيحَ"، و"قُرطاط"، و"قَراطِيطَ"، كما كان جمعُ "جَدوَلٍ"، و"عِثْيَر" كجمع "جَعفر"، و"دِرهَم". والقِرْواحُ: الناقة الطويلة القوائمِ، قيل لأعرابىّ: ما القِرواحُ؟ قال: التي كأَنها تمشي على أرماح. قالوا: الواو والألف فيه زائدتان، كأنه من "قَرَحَ الفرسُ". والقُرْطاط: البَرْذَعَةُ، وأصلُه قُرْطٌ، وإحدى الطاءَين زائدة للإلحاق ببنات الأربعة، ثم زيد فيها ألف رابعة، فصار بمنزلة أربعة أحرف أصلية، زيد فيها ألف رابعة، نحوِ "سِرْداح"، و"حِدْبارٍ" وهي الناقة المهزولة، فلذلك تجمعه كالأصل، فأمّا قول الشاعر [من الطويل]: 769 - أدِينُ وما دَيْنِي عليك بمُغرَمٍ ... ولكِنْ على الشُم الجِلادِ القَراوِحِ وإنما قال: "القَراوِح" على حد قول الآخر [من الرجز]: 770 - وكَحلَ العَيْنَيْن بالعَواوِرِ ¬
فصل [اسم الجنس الجمعي]
كأنه حذف الياء تخفيفًا، وصحةُ الواو تدل على ذلك. وكذلك ما كان فيه زيادة غيرُ مدّة، فيصير بها أربعة، وإن لم تكن للإلحاق، نحوُ: "مِصباح"، و"أنْعام"، و"يَربُوع"، و"كَلوب"، فإنه يجمع على مثل جمع الملحق، نحوِ: "مَصابِيحَ"، و"اْناعِيمَ"، و"يَرابِيعَ"، و"كَلالِيبَ"؛ لأنه على عدّته، ولا اعتبارَ باختلاف حركاته، فـ "مِصباحٌ" "مِفْعالٌ" من "الصُّبح"، والميمُ زائدة في أوله، وليست من حروف المدَّ واللين، والألفُ زائدة، وهي من حروف المدّ واللين. و"أنعامٌ" جمعُ "نَعَم" جمعَ قلّة، وهذا البناءُ قد يجمع إذا أُريد الكثرةُ، نحوُ: "أنَاعِيمَ"، و"أقاوِيلَ". و"اليربُوع": دُوَيْنة تُشبِه الجُرَذَ مُكحل بَريٌّ، تأكله العربُ، والياءُ في أوله زائدة، والواوُ أيضًا زائدة، وهي رابعة. و"كَلوبٌ" "فَعُّولٌ" إحدى اللامين زائدة، كأنه من "الكَلْب"، وهو مِسْمارٌ مُعوَجٌّ يُعلِّق عليه المُسافِرُ أداتَه. والكَلوبُ الكُلّاب، فهو المِنْشال، فاعرفه. فصل [اسم الجنس الجمعيّ] قال صاحب الكتاب: ويقع الاسم المفرد على الجنس، ثم يميز منه واحده بالتاء. وذلك نحو تمر وتمرة، وحنظل وحنظلة، وبطيخ وبطيخة، وسفرجل وسفرجلة. وإنما يكثر هذا في الأشياء المخلوقة دون المصنوعة ونحو سفين وسفينة ولبن ولبنة وقلنس وقلنسوة ليس بقياس. وعكس تمر وتمرة كمأة وكمء وجبأة وجبء. * * * قال الشارح: اعلم أن هذا الضرب من الأسماء التي يُميز فيها الواحد بالتاء من نحو ¬
"شَعِيرَة"، و"شَعِيرٍ"، و"تَمْرَةٍ"، و"تَمْرٍ"، إنما هو عندنا اسمٌ مفرد واقع على الجنس كما يقع على الواحد، وليس بتكسير على الحقيقة، وإن استُفيد منه الكثرة؛ لأن استفادة الكثرة ليست من اللفظ، إنما هي من مدلوله، إذ كان دالا على الجنس، والجنسُ يفيد الكثرةَ. والكوفيون يزعمون أنه جمع كُسّر عليه الواحد. ويؤيد ما ذكرناه أمران: أحدهما: أنه لو كان جمعًا، لكان بينه وبين واحده فرقٌ؛ إما بالحروف، وإما بالحركات، فلما أتى الواحدُ على صورته، لم يُفْرَق بينهما بحركة، ولا غيرِها، دل على ما ذكرناه؛ وأمّا التاء، فبمنزلةِ اسم ضُم إلى اسم، فلا يدل سقوطُها على التكسير. الأمرُ الثاني: أنه يوصَف بالواحد المذكر من نحو قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (¬1)، وأنت لا تقول: "مررت برِجالٍ قائم" فدل ذلك على ما قلناه. فإن قيل: فقد قال: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (¬2) فأنّث، وقال: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} (¬3) والحالُ كالوصف، وقال سبحانه: {السَّحَابَ الثِّقَالَ} (¬4)، فوصفه بالجمع، فهلّا دل ذلك على أنه جمع؛ لأنّ المفرد المذكر لا يوصَف بالجمع، قيل: إن ذلك جاء على المعنى؛ لأن معنى الجنس العمومُ والكثرةُ، والحمل على المعنى كثير، ويدل على ذلك إجماعُهم على تصغيره على لفظه نحوِ "تُمَيرٍ"، و"شُعَيرٍ"، ولو كان مكسرًا، لرُد في التصغير إلى الواحد، وجمع بالألف والتاء من نحو "تُمَيْراتٍ"، و"شُعَيراتٍ"، فلما لم يُرَد هنا إلى الواحد، دل على ما قلناه. ولا يكون في الغالب إلا فيما كان مخلوقًا لله تعالى غيرَ مصنوع، نحوَ: "تَمْرَة"، و"تَمرٍ"، و"طَلْحَةٍ"، و"طَلح"، و"بُرةٍ" , و"بُر". وذلك لأنّه جنس يخلقه الله جُمْلَة، فالجملةُ فيه مقدمة على الواحد، ولَيس كالمصنوعات التي الواحدُ فيها مقدّم على الجملة، فإذا أُريد تمييزُ الواحد، مُيز حينئذ بالتاء، من نحو: "تَمْرَة"، و"طَلحَة". ونظيرُ ذلك المصدرُ، من نحو: "الضرْب"، و"الأكل"، فإنه جنس للأفعال دالٌّ على الكثرة، فإذا أدخلوا الهاءَ، وقالوا: "ضَرْبَة"، و"أكْلَة"، صار محدودًا، ودل على المرة الواحدة، كذلك ها هنا. فأما قولهم: "سَفِينَة"، و"سَفِينٌ"، و"لَبِنَة"، و"لَبِنٌ"، و"قَلَنْسُوَةٌ"، و"قَلَنْسٍ"؟ فمشبة بما تقدم من المخلوقات. والقياسُ فيما كان من ذلك التكسيرُ نحوُ "قَصْعَةٍ"، و"قِصاعٍ"، و"جَفْنَةٍ"، و"جِفانٍ"، وربما شبهوا المخلوقاتِ بالمصنوعات فكسّروها، وقالوا: "طلْحَةٌ"، و"طِلاحٌ"، و"سَخْلَةٌ"، و"سِخالٌ"، و"صَخْرَةٌ"، و"صُخْورٌ". ¬
فصل [الجمع المبني على غير واحده المستعمل]
فأما "الكَمأةُ"، و"الجَبْأةُ" - وهو ضرب من الكمأة أيضًا- فعَكسُ هذا الجمع، وهو نادِرُ الجمع؛ لأن الكثير أن يكون ما فيه التاءُ للواحد، نحوُ: "تمرة"، و"طلحة"، وما سقطت منه للجمع، نحوُ. "تمر"، و"طلح". وهذا إذا كان فيه التاءُ كان للجمع، وإذا كان عاريًا منها، فهو للواحد. ووجهُه أن التاء قد تلحَق الجمعَ لتأكيد تأنيث الجمع، من نحو: "حِجارة", و"ذُكورة"، فتَدرجوا في ذلك إلى أن جعلوها للجمع البتة. وربما كُسّر على القياس، فقالوا: "جِبَأة" على حد "فَقْع"، و"فِقَعَةٍ". وقالوا: "أكْمُؤٌ" كـ"كَلبٍ", و"أكْلُبٍ"، قال [من الكامل]: 771 - ولقد جَنَيتُك أكمُؤَا وعَساقِلَا ... [ولقد نَهَيْتُك عن بَنَات الأَوبرِ] فكسر على "أكمُؤ" فاعرفه. فصل [الجمع المبني على غير واحده المستعمل] قال صاحب الكتاب: وقد يجيء الجمع مبنياً على غير واحدة المستعمل, وذلك نحو "أراهط" و"أباطيل" وأحاديث وأعاريض وأقاطيع وأهال وليال وحمير وأمكن. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنهم قد كسروا شيئًا من الأسماء لا على الواحد المستعمَل، بل تَحملوا لفظًا آخرَ مُرادِفًا له، فكسروه على ما لم يُستعمل، فمن ذلك "رَهطٌ"، و"أراهِطُ"، قال الشاعر [من مجزوء الكامل]: يا بُؤْسَ للحَرْب التي ... وَضَعَتْ أراهِطَ فاستَراحُوا (¬1) وليس القياس في "رهط" أن يجْمع على "أراهط"؛ لأن هذا البناء من جموع الرباعىّ، وما كان على عدته، نحوِ: "جَعْفَرٍ"، و"جَعافِرَ"، و"جَدوَلٍ"، و"جَداوِلَ"، و"أرْنَبٍ"، و"أرانِبَ". و"رَهْطٌ" ثلاثى فلا يجمع عليه، فكأنهم حين قالوا: "أراهِطُ"، جمعواَ "أرهطا" في معنَى "وهي"، وإن لم يُستعمل. وليس "أرهُط" بجمع "رَهْطٍ"، إذ لو كان كذلك، لم يكن شاذًا. ويدل على ذلك أن الشاعر قد جاء به لما احتاج إليه. قال [من الرجز]: 772 - وفاضِحِ مفَتَضِحٍ في أرْهُطِهْ ... من أرْفَعِ الوادي ولا من بغثطِة ومن ذلك قالوا: "باطِل"، و"أباطِيلُ". وليس قياسُ جمع "فاعِل" على ذلك، وإنما قياسُ ذلك: "بَواطِلُ"، مثل: "كاهِلٍ"، و"كَواهِلَ"، و"جائزٍ"، و"جَوائِزَ"، فكأنهم جمعوا "أبْطِيلًا"، و"أبْطالًا" في معنى "باطِلٍ"، وإن لم يُستعمل. ومن ذلك "أحَاديثُ"، و"أعارِيضُ"، في جمع "حَدِيثٍ"، و"عَروضٍ"؛ والحديثُ الخبرُ، وهو جنس يقع على القليل والكثير، وقد جمعوه على "أحادِيث". و"العَرُوضُ": ميزان الشعْر، وهي مؤنثة لا تجمع؛ لأنها كالجنس يقع على القليل والكثير. والعَرُوض ¬
أيضًا اسم لآخِرِ جُزْء في النصف الأوّل من البيت، ويجمع على "أعارِيضَ" على غير قياس، كأنهم جمعوا "إعْرِيضًا" في معنى "عَرُوضٍ"، ولم يُستعمل. والقياسُ "حَدائِثُ"، و"عَرائِضُ"، على حدّ "قَلُوصٍ"، و"قَلائِصَ"، و"سَفِينَة"، و"سَفائِنَ"، إلَّا انهم قالوا: "أحادِيثُ"، وكأنهم جمعوا "أحْدُوثَة" في معنى الحديث، وإن لم يستعمل. قال الفراء: وهو جمعُ، "أُحدوثة"، واستُعمل في الحديث. والفرقُ بين "الحديث" و"الأحُدوثة"، أن الحديث اللفظُ، والأُحدوثة المعنى المتحدثُ به، فكذلك أعارِيضُ مثلُه. وقالوا: "قَطِيع" للطائفة من البقر والغنم، والجمعُ "أقاطِيعُ" على غير قياس، جاؤوا به على ما لم يُستعمل، وهو" إقْطيعٌ"، والقياس "قَطائِعُ"، لكنه لم يستعمل. وقالوا "أهْلٌ"، و"أهالٍ"، على غير قياس، كأنّهم جمعوا "أهْلاة"، ولم يستعمل. ولو جُمع على القياس، لقيل: "إهالٌ" على زنة "فِعَالٍ"، كـ "كَعْبٍ"، و"كِعابٍ". وقد جاء في الشعر: "آهالٌ" مثلُ "فَرخٍ"، و"أفْراخٍ"، وأنشد الأخفش [من الرجز]: 773 - وبَلدَة ما الإنْسُ من آهالِها ومثله "لَيلَة"، و"لَيالٍ"، جاء على غير واحده, لأنّ "لَيْلَة" ثلاثيُّ، و"لَيالٍ"، جمعُ رباعي، كأنه جمعُ "لَيْلاةٍ". وربّما قالوه. قال الشاعر [من الرجز]: 774 - في كلً ما يوم وكل لَيْلاهْ ¬
فصل [جمع الجمع]
وقالوا في التصغير: "لُيَيْلِيَةٌ"، فصغّروه على "ليلاة"، كما جاء عليه في الجمع. وقد جمعوا ما كان على أربعة أحرف جمعَ الثلاثي، كما جمعوا الثلاثي جمعَ الرباعي، فقالوا: "حِمارٌ"، و"حَمِيرٌ"، كأنهم قدروا "حمارًا" على "حَمرٍ"، ثم جمعوه على "فَعِيل"، مثلِ: "كَلْبٍ"، و"كَلِيبٍ"، و"عَبْد"، و"عَبِيدٍ". ومثله قولهم في "صاحِب": "أصْحابٌ"، وفي "طائِرٍ": "أطيارٌ"، كأنهم قدروه "صَحْبًا"، و"طَيْرًا"، ثمّ كسّروه على "أفْعالٍ". وقالوا: "مَكانٌ"، وهو"فَعالٌ"، يدلّ على ذلك قولُهم: "أمكِنَة"، وكسروه على "أمْكُن"، كأنه جمعُ "مَكْن" بحذف الألف؛ لأنا لا نعلم "فَعالًا" أو "فِعالاً"، أو"فُعالاً" يجمع على "أفْعُلَ" إلَّا إذا كان مؤنثًا، نحوَ: "عُقابٍ"، و"أعْقبٍ"، فاعرفه. فصل [جمع الجمع] قال صاحب الكتاب: ويجمع الجمع، فيقال في كل "أفْعُلَ", و"أفْعِلَةَ", "أفاعِلُ"، وفي كل "أفْعالٍ" أفاعيل، نحو أكالب وأساور وأناعيم. وقالوا جمائل وجمالات ورجالات وكلابات وبيوتات وحمرات وجزرات وطرقات ومعنات وعوذات ودورات ومصارين وحشاشين. * * * قال الشارح: اعلم أن جمع الجمع ليس بقياس، فلا يجمع كل جمع، وإنما يوقَف عند ما جمعوه من ذلك، ولا يُتجاوز إلى غيره، وذلك لأن الغرض من الجمع الدلالةُ على الكثرة، وذلك يحصل بلفظ الجمع، فلم يكن بنا حاجةٌ إلى جمع ثان. قال سيبويه (¬1): اعلم أنه ليس كل جمع يُجمع، كما أنه ليس كل مصدر يُجمع كـ "الأشْغال"، و"الحُلوم". وقال أبو عمر الجَرْمي: لو قلنا في "أفْلُسٍ": "أفالِسُ"، وفي "أكْلُبٍ": "أكالِبُ" وفي "أدْلٍ": "أدالٍ"، لم يجز، فإذا جمعُ الجمع شاذ. وأما قول صاحب الكتاب: "فيقال في كل "أفْعُلَ"، و"أفْعِلَةَ": "أفاعِلُ"، وفي كل "أفْعالٍ": "أفاعيل""، فتسمحٌ في العبارة. والصوابُ ما ذكرناه. وإنما يجمعون الجمع، إذا أرادوا المبالغة في التكثير، والإيذانَ بالضروب المختلفة من ذلك النوع على تشبيه لفظ الجمع بالواحد. وقد جاء ذلك في جمع القلة، وفي جمع الكثرة، وهو في جمع القلّة أسهلُ لدلالته على القلة، فإذا أُريد الكثيرُ، جمعوه ثانيًا. فأما مَجِيئُه في جمع القلة "أفْعُلَ"، و"أفْعِلَةَ"، و"أفْعالٍ"، فمن ذلك قولهم: "أيْدٍ"، و"أيادٍ"، ¬
و"أوطُبٌ"، و"أواطِبُ"، فـ "اليَدُ" التي هي الجارحة تجمع على "أيدٍ". قال الله تعالى: {فَاَقطَعُوَا أَيديَهُمَا} (¬1)، وقال: {لهم أَيْدِ يَبطِشُونَ بهآَ} (¬2)، وقال {أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ} (¬3) جمعوا "يدًا" على " أفعُلَ"، وهو من أمثلةِ أقل العدد لما كان واحده "فَعلًا"، والدالُ التي هي عينُ الفعل، وإن كانت مكسورة، فأصلُها الضم، كما أنها في "كَلبٍ"، و"أكْلُبٍ"، و"كَعب"، و"أكعُبٍ" كذلك. وإنما عدلوا إلى الكسر، لتصح الياءُ، إذ لو بقيت الضمةُ قبل الياء، لانقلبت واوًا، وكنت تصير إلى بناء ليس مثله في الأسماء، ويجمع "الأيْدِي" على "أيادٍ". قال الراجز: 775 - [كأنهُ بالصحصَحان الأَنجلِ] ... قُطنٌ سُخامٌ بأيَادِي غُزَّلِ (¬4) قال الجرمي: سمعتُ أبا عُبَيدَةَ يقول: سمعتُ أبا عمرو يقول: إذا أرادوا المعروف، قالوا: "له عندي أيادٍ"، وإذا أرادوا جمع "اليَدِ"، قالوا: "أيْدٍ"، فذكرتُ ذلك لأبي الخَطاب، قال: ألم يسمع أبو عمرو قولَ عَدِي [من الخفيف]: 776 - ساءَها ما تَأملَت في أيادِينا ... وأسْيافُنا إلى الأعْناقِ ¬
وأنشد أبو زيد [من الوافر]: 777 - فأما واحدٌ فكَفاكَ مِثلِي ... فَمَن لِيَدٍ تُطاوِحُها الأيادِي قال أبو زيد: جُمع "اليَد" على "الأيَادِي". وقالوا: "أوْطُبٌ" في جمع "وَطبٍ"، وهو سِقاءُ اللبن خاصة، وقالوا: "أواطِبُ"، فجمعوا الجمعَ، قال الراجز: 778 - تُحْلَبُ منها سِتةُ الأواطِبِ فأمّا تمثيلُه بـ "أكالِبَ"، فكأنه قاسَه، وما أظُنه ورد. ولذلك قال الجرمي: لو قلت: "أكالِبُ"، لم يجز، على أن الجَوهري (¬1) قد حكى "أكالب" في جمع "أكْلُبٍ". ¬
فأمّا "أفعِلَةُ"، فنحوُ قولهم: "سِقاءٌ"، و"أسْقِيَةٌ"، و"أساقِ". والسقاءُ: القِرْبَةُ. إلَّا أن القربة للماء، والسقاء للبن وللماء، والنحْي للسمن، والوَطْب للبن. فهذه الأسماءُ من أبنية القلة، فلمّا أرادوا التكثير، جمعوه، وشبهوا "أفْعُلَ" بـ"أفْعَلَ"، نحوِ: "أرْنَبٍ"، فجمعوه جمعَه؛ لأنه على أربعة أحرف مثلُه. واختلافُ الحركات لا أثرَ لها في جمع الرباعي. ألا ترى أنك تقول في "جعْفَرٍ": "جَعافِرُ"، وفي "زِبْرِج": "زبارج"، وفي "بُرْثُن": "بَراثِنُ"، فتجمع الرباعي كله على منهاج واحد، وإن اختلفت أبنيتُه. كذلك ها هنا قالوا: "أواطِبُ"، و"أياد"، كما قالوا: "أرانِبُ"، و"أفاكِلُ"؛ وإن اختلفا في الحركة. وقد قالوا: "سِوارٌ" للواحد من "أسْوِرَة" المرأة، و"أسِورةٌ" لأدنى العدد، وقد جمعوا"أسورة"، فقالوا: "أساوِرُ". وفي الكتاب العزيز: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} (¬1) وقد يُدْخلون عليه التاء لتأنيث الجمع، فيقولون: "أساوِرَةٌ" على حد قولهم: "حِجارَة"، و"ذُكُورَة". قال الله تعالى: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} (¬2). شبهوا "أفْعِلَةَ" بـ "أفْعَلَةَ"، نحو" أرْمَلَةٍ"، فجمعوه جمعه، فقالوا: "أساوِرُ"، كما قالوا: "أرامِلُ". وقال أبو عمرو بن العَلاء: قد يكون "أساوِرُ" جمعَ: "أُسْوارٍ"، فعلى هذا لا يكون من جمع الجمع، ويكون أصله "أساوِيرَ"، وحُذفت الياء تخفيفًا على حد حذفها في "العَواوِر". فأما "أفْعالٌ"، فنحو قولهم: "أنْعامٌ" في جمع "نَعَم"، والنعَمُ: المال الراعية، واستعمالُه في الإبل أكثرُ، وهو لفظُ مفرد دل على الجمع، لا واحدَ له من لفظه، ويجمع في القلة على "أنْعام". فإذا جمعوا هذا الجمع للتكثير، قالوا: "أناعِيمُ"، فـ "أناعيمُ"، على هذا جمعُ الجمع، فلو قال له: "عندي أناعيمُ" فأقل ما يلزم به سبعةٌ وعشرون من ذلك النوع؛ لأنّ النعم جمع من جهة المعنى، وأقل ما ينطلق عليه اسم الجمع ثلاثة، فإذا جمعتَ، وقلت: "أنْعام"، فإن أقل تضعيفها ثلاثُ مرّات، فتصير تسعة، فإذا جمعت "أنعامًا"، وكان المراد باقلها تسعة، كان أقل تضعيفها ثلاث مرَّات، فتصير سبعة وعشرين، وعلى هذا لو قلت: سمعت أقاوِيلَ، لكان أقل ذلك سبعة وعشرين قولًا. و"أفْعال" ها هنا محمول في الجمع على "إفعالٍ"، نحو: "إكْرام "، و"إحْسانٍ"، كما كان "أفْعُلُ" محمولًا على "أفْعَلَ"، نحوِ: "أرْنَبٍ"، و"أفعِلَةُ"، محمولاً على "أفْعَلَةَ"، نحوِ "أرمَلَة". وقالوا: "أعْطِياتٌ"، و"أسْقِياتٌ"، فجمعوها جمعَ السلامة حِيث كسروها، وشبهوها بـ "أنْمُلَةٍ"، و"أنْمُلاتٍ". وأم بناء الكثرة؛ فقد قالوا فيه: "جِمالٌ"، و"جَمائِلُ"، حملوه على "شِمالٍ" و"شَمائِلَ"؛ لأنه مثله في الزنة، كأنهم أرادوا اختلاف ضروبها, ولم يقصدوا ¬
بذلك التكثير؛ لأن بناء الأصل يفيد الكثرة، قال ذو الرمة [من الطويل]: 779 - وقَرَّبْنَ بالزُّرقِ الجَمائلَ بَعْدَما ... تَقَوبَ عن غِرْبانِ أوْراكِها الخَطْرُ وقالوا: "جِمالاتٌ"، قال الله تعالى. {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} (¬1). وقد كثُر جمعُ السلامة في التكسير، قالوا: "رِجالات"، و"كِلاباتٌ"، و"بُيُوتات"؛ لأنها جموع مكسرة مؤنْثة، فجمعوها بالألف والتاء كما يجمع المؤنث، وقالوا: "حُمُراتٌ" و"جُزُراتٌ"، و"طُرُقاتٌ" جمعوها "حِمارًا"، و"جَزُورًا"، على "حُمُرٍ"، و"جُزُرٍ"، و"طَرِيقًا"، على "طُرُقٍ"، ثم جمعوها بالألف والتاء لِما ذكرناه من تأنيث التكسير. وأما "مُعُناتٌ"، فمثلُ "طُرُقاتٍ", الواحدُ "مَعِينٌ" وهو الماء الجاري، وجمعُه "مُعُن"، مثلُ: "طَرِيق" و"طُرُق"، ثم جمعوا الجمع بالألف والتاء؛ لأنه مؤنث مكسر، فقالوا. "مُعُنات". وقالوا: "عُوذاتٌ"، والواحد "عائذٌ" للناقة القريبة العهد بالنتاج، قال الراعِي [من الطويل]: 780 - لها بحَقِيلٍ فالنمَيرَةِ مَنزل ... ترى الوَحْشَ عُوذاتٍ به ومَتالِيَا ¬
فصل [الجمع الذي لم يكسر عليه الواحد]
والجمع "عُوذ"، وأصله "عُوُذ" بالضم، وإنما اتفقوا على لغةِ من أسكن لثقل الضمة على الواو، ثم جمعوا "عُوذًا" على "عُوذاتٍ". وكذلك "دارٌ" جمعوها على "دُور" على حد "أسَدٍ"، و"أُسْدِ"، ثمّ جمعوا الجمع بالألف والتاء، فقالوا: "دُورات". فأما "مَصارِينُ"، فهو جمعُ الجمع أيضًا، والواحد "مَصِيرٌ" وجمعُه الكثير "مُصْرانٌ"، مثل "كَثِيبٍ"، و"كُثْبان"، وجمعوا "مُصْرانًا" على "مَصارِينَ"، كما قالوا: "قُرْطانٌ"، و"قَراطِينُ". فأمّا "حَشاشِينُ"، فالواحد "حَش"، وهو البُسْتان، والجمع "حِشان"، مثلُ "ضَيْف"، و"ضِيفان"، ثم جمعوا الجمع على الزيادة، فقالوا: "حَشاشِينُ"، كما قالوا: "مُصْران"، و"مَصارِينُ". فصل [الجمع الذي لم يُكسَّر عليه الواحد] قال صاحب الكتاب: ويقع الاسم على الجميع لم يكسر عليه واحده، وذلك نحو ركب وسفر وأدم وعمد وحلق وخدم وجامل وباقر وسراة وفرهة وضأن وغزي وتُؤام ورخال. * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذا الضرب من الأسماء، وإن دل على الكثرة، فليس بجمع كُسر عليه الواحد على حد "رَجُل"، و"رِجالٍ"، وإنما هو اسم مفرد واقع على الجمع بمنزلة "قَوْم"، و"نَفَرٍ"، إلا أن "قومًا"، و"نفرًا" من غير لفظ الواحد؛ لأنّ الواحد منهما ¬
"رَجُلٌ"، وليس من لفظِ "قوم" و"نفر" في شيء، فأمّا "راكِبٌ"، و"رَكْبٌ"، و"مُسافِرٌ"، و"سَفْرٌ". وجميعُ هذا الباب من لفظ المفرد ومن تركيبه، إلَّا أنّه لم يُكسر عليه الواحد، بل هو اسمٌ موضوع بإزاء الجمع. وذهب أبو الحسن إلى أنه تكسيرٌ، فإذا صُغر على مذهبه، رُد إلى الواحد، وصُغر عليه، ثم تلحقه الواو والنون إن كان مذكرًا، والألفُ والتاء إن كان مؤنّثًا، فتقول في تصغير: "رَكْبٍ": "رُوَيْكِبُونَ"، وفي "سَفْر": "مُسَيْفِرُونَ"، و"رُوَيْكِبات" و"مُسَيْفِراتٌ" إذا كان مؤنثًا. والمذهب الأول؛ لأمورٍ منها: أن المسموع في تصغير "رَكْب"؛ "رُكَيْبٌ". قال الشاعر أنشده أبو زيد [من الطويل]: 781 - وأَيْنَ رُكَيْب واضِعُون رِحالَهم ... إلى أَهْلِ نار من أناسٍ بأَلسْوَدَا وأنشد أبو عثمان عن الأصمعي لأحيْحَةَ بن الجُلاح [من الرجز]: 782 - بَنَيْتُه بِعُصْبَة مِن مالِيَا ... أَخْشى رُكَيْبًا أو رُجَيْلًا عادِيَا ¬
وهذا نَصٌّ في محلّ النِّزاع، إذ لو كان جمعًا مكسّرًا، لرُدّ إلى الواحد. فأمّا قول أبي الحسن: "رُوَيْكِبُونَ"، فهو شيء يقوله على مقتضى قياسِ مذهبه، والمسموع غيره. الثاني: أنّ الجمع المكسّر مؤنّثٌ، وهذه الأسماء مذكرةٌ، تقول: "هو الرَّكْبُ"، و"هذا السَّفْرُ"، و"هو الجاملُ، والباقِرُ، والأَدَمُ، والعَمَدُ"، ونحو ذلك، ولو كان مكسّرًا، لقلت: هِيَ، وهذِهِ. الثالث: أن "فَعْلًا" لا يكون جمعًا مكسّرًا لـ"فاعل"، ونحوه؛ لأنّ الجمع المكسّر حقُّه أن يزيد على لفظ الواحد، وهذا أخفُّ من بناء الواحد؛ فلا يكون جمعًا مكسّرًا. فإن قلت: فأنتم تقولون: "إزارٌ"، و"أُزُرٌ"، و"جِدارٌ"، و"جُدُرٌ"، وهو عندكم تكسيرٌ، وهو أنقصُ من لفظ الواحد، قيل: "فُعُلٌ" هنا منتقصٌ من "فُعُولٍ"، والأصلُ "أُزُورٌ" و"جُدُورٌ"، وإنّما خُفّف بحذف الواو منه. الرابع: أن هذه الأبنية لو كانت جمعًا صِناعيًّا، لا طرد ذلك فيما كان مثله، وأنت لا تقول في "جالِسٍ": "جَلْسٌ"، ولا في "كاتِبٍ": "كَتْبٌ"، فثبت بما ذكرناه أنّه اسم مفرد دالّ على الجمع، وليس بجمع على الحقيقة. فمن ذلك قولهم: "راكبٌ"، و"رَكْبٌ"، فالراكبُ يقال لراكب البعير خاصّة، فإذا كان على ذي حافرٍ: فرسٍ أو حمارٍ، قيل: "فارسٌ"، وقيل: لا يقال لراكب الحمار: فارسٌ، وإنّما يقال له حَمّارٌ. والرَّكْبُ: أصحابُ الإبل في السفر خاصّة من العشرة فما فوقها، وأمّا السَّفْر فالجماعة المسافرون، والواحدُ "سافِرٌ"، مثلُ "صاحِبِ" و"صَحْب"، يقال: سَفَرْتُ أسْفِرُ سُفُورًا إذا خرجتَ إلى السفر، فأنا سافِرٌ، وقد كثُرت اَلسافِرَةُ، أيَ: المُسافِرون. ومنه "أَدِيمٌ"، و"أَدَمٌ"، و"عَمُودٌ"، و"عَمَدٌ"، فأمّا الأديمُ (¬1) فالجِلْدُ المدبوغ، والعَمُود: عمودُ البيت. فالأَدَمُ بالفتح والعَمَدُ اسما جنس، وليس بتكسير؛ يدلّ على ذلك ما تقدّم من تصغيره على لفظه، وتذكيره، وعدمِ اطّراده، فتقول: "هو الأدم والعمد"، و"أُدَيْمٌ"، و"عُمَيْدٌ"، ولم يقولوا: "أُدَيِّمٌ"، ولا "عُمَيِّدٌ". ومن ذلك قولهم: "حَلَقٌ"، و"خَدَمٌ"، وهما جنسٌ، وليس بتكسير لِما ذكرناه، فالحَلَقُ جنسٌ، والواحد "حَلَقَةٌ" بالتحريك، وهي حلقةُ الباب والأذُنِ. وقد أنكر بعضُهم ¬
التحريك، وقال: إنّما يقال: "حَلْقَةٌ" بالإسكان لا غيرُ. حكى يونس (¬1) عن أبي عمرو بن العَلاء: "حَلقَةٌ" بالتحريك، والجمعُ "حَلَقٌ" قال ثَعْلَبٌ كلُّهم يجيزه على ضُعْفه. وحكى ابن السِّكِّيت عن أبي عمرو الشَّيْباني، قال: ليس في الكلام "حَلَقَةٌ" بالتحريك إلَّا في قولهم: "هؤلاء قومٌ حَلَقةٌ"، للذين يحلِقون الشَّعْر، فمن قال: "حَلَقَةٌ"، و"حَلَقٌ"، كان مثلَ "ثَمَرَةٍ"، و"ثَمَرٍ"، فهو جنس. وكذلك "خَدَمَةٌ"، و"خَدَمٌ"، للخَلْخَال، وأصله السَّيْر يُشَد في رُسْغ البعير ليُعلَّق فيه سَرِيحَةُ النَّعْل. ومن ذلك "الجامِلُ"، و"الباقِرُ"، فالجامل: القطيعُ من الإبل مع رُعاتها وأربابِها، قال الشاعر [من الطويل]: 783 - [وإنْ تَكُ ذا شاءِ كَثيرٍ فإِنَّهُمْ] ... لَنَا جامِلٌ ما يَهْدَأُ اللَّيْلَ سامِرُهْ والباقِر: جماعةُ البقر، وقد قُرىء: {إِنَّ الْبَاقِرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا} (¬2)، الواحدُ منهما جَمَلٌ، وبَقَرَةٌ. ¬
وأمّا "السَّراة"؛ فواحده "سَرِيٌّ"، و"السَّرْوُ"، و"السَّخاء" في المُرُوءَة، وأصلُه "سَرَوَةٌ"، مثل "فَسَقَةٍ"، و"كَفَرَةٍ"، وليس بتكسير "سَرِيٍّ"؛ لأن "فَعِيلًا" لا يكسّر على "فَعَلَةَ"؛ ولأنّك تقول: "سَرَواتٌ"، فتجمعه بالتاء، ولم تقل: "فَسَقاتٌ". فدلّ أنّه ليس مثله. ولو كان جمعًا مكسّرًا، لقيل: "سُراةٌ" بالضمّ؛ لأنّ باب جمع ما كان معتلًا "فُعَلَةُ"، نحو: "غُزاة"، و"رُماة"، وبابُ ما كان صحيحًا "فَعَلَةُ"، نحو: "فَسَقَةٍ"،، و"كَفَرَةٍ". ومثله "فاره"، و"فُرْهَةٌ"، يقالُ: "حِمارٌ فارِهٌ" إذا كان حادًّا في المَشْي، حاذقًا فيه، و"حَمِيرٌ فُرْهَةٌ"، مثل: "صاحِبٍ"، و"صُحْبَةٍ"، وهو اسم مفرد واقع على الجمع لعدم اطراده وجوازِ تصغيره على لفظه. وكذلك "الضَّأْنُ"، يقال للواحد: "ضائِنٌ"، و"ضَأَنٌ" بالفتح، كـ"ماعِزٍ"، و"مَعَزٍ"، وقد يسكن الثاني، فيقال: "ضَأنٌ"، و"مَغزٌ"، فيكون على هذا "ضائن"، و"ضَأْنٌ"، كـ"راكِبٍ"، و"رَكْبٍ". وقالوا: "غَزِيٌّ" والواحد "غازٍ". قال امرؤ القيس [من الطويل]: 784 - سَرَيتُ بهم حتى تَكِلّ غُزاتُهم ... وحتّى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بأَرْسانِ ¬
فصل [ما يأتي مفردا وجمعا بلفظ واحد]
ومثله "عازِبٌ"، و"عَزِيبٌ"، و"قاطِنٌ"، و"قَطِينٌ". وحكمه حكمُ "تاجِرٍ"، و"تَجْرٍ"، و"صاحبٍ"، و"صَحْبٍ"، في عدم اطّراده وتذكيره، نحو: "هو الغَزِيُّ"، وتصغيرِه على لفظه، فالَعازبُ الذي لا يروح على (¬1) الحَيّ من الإبل، والجمعُ "عَزِيبٌ"، مثل: "غازٍ"، و"غزِيّ". وعكسُه في المعنى "قاطنٌ"، و"قَطِينٌ"، يقال: "قَطَنَ بالمكان" إذا تَوطَّنه، فهو "قاطِن"، وجمعُه "قَطِينٌ"، مثل: "عازِبٍ"، و"عَزيبٍ"، و"غازٍ"، و"غَزِيٍّ". وقالوا: "تُؤَامٌ" في جمع "تَوْأَمٍ" على زنة "فَوْعَلٍ"، مثلِ "جَوْهَرٍ"، والقياس "تَوَائِمُ" مثلُ "قَشْعَمٍ" و"قَشاعِمَ"، وقد جاء أيضًا على القياس. ونحوه قالوا: "رُخالٌ"، و"رِخالٌ"، بضمّ الراء وكسرها في جمع "رَخْلٍ"، وهي الأنُثى من ولد الضأن، والقياس "أَرْخالٌ"، كـ "كَبدٍ"، و"أَكْبادٍ". فصل [ما يأتي مفردًا وجمعًا بلفظ واحد] قال صاحب الكتاب: ويقع الاسم الذي فيه علامة التأنيث على الواحد والجميع بلفظ واحد, نحو: حنوة وبهمى وطرفاء وحلفاء. * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأسماء أسماء نباتٍ، فهي أجناسٌ يخلقها الله دفعةً واحدةٌ كالشجر والنَّخْل، فكان مقتضى الدليل أن يُميَّز الواحد من الجنس، بزيادة التاء، كما فُعل في نحو: "شَجَرَةٍ"، و"شَجَرٍ"، و"نَخْلَةٍ"، و"نَخْلٍ"، فلم يسغ ذلك في هذه الأسماء؛ لأنّ في آخرها علامة التأنيث، فتركوها على حالها، وفصلوا الواحد بالصفة، فقالوا إذا أرادوا الكثير: "حَنْوَةٌ". وإذا أرادوا الواحد، قالوا: "حنوةٌ واحدةٌ". وكذلك "بُهْمَى"، و"طَرْفاء"، و"حَلْفاء"، تقول: "عندي بهمى كثيرةٌ"، و"بهمى واحدةٌ"، و"عندي طرفاء كثيرة"، و"طرفاء واحدة"، و"حلفاء كثيرة"، و"حلفاء واحدة". ولم يجز أن تقول في الواحدة: "بُهْماةٌ"، ولا "طَرْفاة"، كما قلت ذلك في "شَجَرَةٍ"، و"نَخْلَةٍ"؛ من قبل أنّك لا تجمع بين علامتَي تأنيثٍ في كلمة واحدة. يدلّ على ذلك أنّ ألف "أرْطى"، و"عَلْقى" لمّا كانت للإلحاق، ولم تكن للتأنيث، جاز أن تقول في الواحد: "علقاةٌ"، و"أرطاةٌ" كما قلت في "شجرة"، و"نخلة". فـ"الحَنْوَة" بالفتح: نبتٌ طيبُ الرائحة، قال الشاعر [من الكامل]: 785 - وكأنّ أَنْماطَ المَدِينَةِ حَوْلها ... من نَورِ حَنْوَتِها ومن جَرْجارِها ¬
فصل [حمل الشيء علي غيره في الجمع]
و"البُهْمَى": نبتٌ يُشبِه رأسُه سُنْبُلَ الزَّرْع، وليس إيّاه. و"الطرفاء": شجرٌ مُرٌّ. و"الحلفاء": نبتٌ في الماء، لا واحد لـ"طرفاء"، و"حلفاء". قال سيبويه (¬1): "الطرفاء" واحدٌ وجمعٌ. يريد أن هذا اللفظ يُستعمل للواحد والجمع، فإذا أريد به الواحد، مُيّز بالصفة على ما ذكرنا. وقد ذكر بعضهم أنّ واحد "طرفاء": "طَرَفَةٌ" بفتح الراء، وكذلك واحدُ "القَصْباء": "قَصَبَةٌ"، وأمّا "الحلفاء"؛ فقال الأصمعيّ: الواحد "حَلِفَةٌ" بالكسر، وقال أبو زيد والفرّاء: "حَلَفَةٌ" بالفتح، كـ"طَرَفةٍ"، و"قَصَبةٍ". فصل [حمل الشيء علي غيره في الجمع] قال صاحب الكتاب: ويحمل الشيء على غيره في المعنى, فيُجمع جمعه, نحو قولهم: "مرضى" و"هلكى" و"موتى" و"جربى" و"حمقى"، حملت على "قتلى" و"جرحى" و"عقرى" و"لدغى" ونحوها مما هو "فعيل" بمعنى "مفعول"، وكذلك "أيامي" و"يتامى" محمولان على "وجاعي" و"حباطي". * * * قال الشارح: اعلم أن الشيء يُحمَل على الشيء لمناسبةٍ بينهما، إما من جهة اللفظ، وإما من جهة المعنى. وقد تقدّم من ذلك كثيرٌ في التكسير. وهذه الأسماء حُملت على غيرها لتقارُبهما في المعنى؛ وذلك أن هذا البناء من الجمع إنّما يجمع عليه "فَعِيلٌ" إذا كان في معنى "مَفْعول"، وذلك بأنّ فعْله ممّا لم يُسمّ فاعله من نحو: "قَتِيل"، و"جَرِيحٍ". ألا ترى أنّ تقديره: قُتِلَ فهو قتيلٌ، وجُرِحَ فهو جَرِيحٌ. ¬
ولا يجمع من ذلك على "فَعْلَى"، إلا ما كان من الآفات والمكاره التي يُصاب بها الحَيُّ، وهو غير مُرِيد لها، نحو: "لَدِيغ"، و"عَقِير"، فتقول في تكسيره: "قَتْلَى"، و"جَرْحَى"، و"لَدْغَى"، و"عَقْرَى". ولا يقاَل في "حَمِيدٍ": "حَمْدَى" لأنّه ليس بآفةٍ، فأمّا "مَرْضَى"، و"هَلْكَى"، و"مَوْتَى"، و"جَرْبَى"، و"زمْنَى"، فليس الباب فيها أن تجمع على "فَعْلَى" لأنّ أفعالها لِما سُمّي فاعله، نحو: "مَرِضَ"، و"هَلَكَ"، و"مَاتَ"، و"جرِبَ"، و"زَمِنَ"، ولا تُبنَى لما لم يُسمّ فاعله، فلا يقال: "مُرض"، ولا "هُلك"؛ لأنّها غير متعدّية، فبابُها أن تجمع جمعَ السلامة، نحو: "مريضون"، و"جَرِبون"، و"زَمِنون"؛ لأنّها جاريةٌ على أفعالها، وتدخلها تاء التأنيث للفرق، فيقال: "مَرِضَتْ هنْدٌ فهي مَرِيضَةٌ"، و"زَمِنَتْ فهي زَمِنَةٌ"، فالقياس: "مريضون"، تجمعه بالواو والنون؛ لأن مؤنّثه يجمع بالألف والتاء، نحو: "مريضاتٍ"، و"زَمِناتٍ". فأمّا جمعُهم إيّاه على "فَعْلَى"، فليس بالأصل، وإنّما هو بالحمل على "جريح"، و"جَرْحَى"، و"قتيل"، و"قَتْلَى"، لمشاركتها "فَعِيلًا"، في معنى "مَفْعول" في المكروه. قال الخليل (¬1): إنّما قالوا: "مَرْضَى"، و"هَلْكَى" ونحوهما؛ لأنّ هذه الأشياء أمور أُدْخلوا فيها، وهم لها كارهون، فصار بمنزلة المفعول به، نحو: "جريح"، و"جرحى" و"عقير"، و"عقرى". فهي فاعلة في اللفظ، ومفعولة في المعنى. وحُمل "فاعل" ها هنا على "المفعول"، إذ كان في معناه، كما حملوا مفعولًا على "فاعلٍ" إذا كان في معناه، نحو: قوله: "امرأةٌ حَمِيدَةٌ"، فأدخلوا فيها التاء، وإن كانت بمعنى "مفعول"؛ لأنّ الحمد شيءٌ يُطلَب، ويُرغَب فيه، فصارت بمنزلة الفاعل. والذي يدلّ أن باب "مَرْضَى"، و"هَلْكَى" ونحوهما محمولٌ على "جرحى"، و"عقرى" قولك: "زَمِنون"، و"جَرِبون"، ولو كان أصلًا كـ"جَرْحَى"، لم يجمع جمعَ السلامة، كما أنّ "جريحًا" وبابه لا يجمع جمع السلامة؛ لأنّه يستوي فيه لفظُ المذكر والمؤنّث، فيقال: "رجل جريح"، و"امرأة جريح"، فلا يقال: "جَرِيحون" كما لا يقال: "جَرِيحاتٌ". والحملُ على المعنى هو الكثير، وقد جاء شيء من ذلك محمولًا على اللفظ، قالوا: "مِراضٌ"، كما قالوا: "ظَرِيفٌ"، و"ظِرافٌ"؛ لأنّه "فاعِلٌ" مثلُه، قال جرير [من البسيط]: 786 - [قَتَلْنَنَا بِعُيُونٍ زَانَها مَرَضٌ] ... وفي المِراضِ لنا شَجْوٌ وتَعْذِيبُ ¬
وقالوا: "هالِكٌ"، و"هُلاكٌ"، و"هالكون"، كما قالوا: "شاهِدٌ"، و"شُهّادٌ"، و"شاهدون". وقالوا: "جَرِبٌ"، و"جِرابٌ"، جعلوه بمنزله "حَسَنٍ"، و"حِسانٍ"؛ لأنّ "فَعِلًا" و"فَعَلًا" يتقاربان، ألا تراهم قالوا: "بَطَلٌ"، و"أَبْطالٌ"، كما قالوا: "نَكِدٌ"، و"أَنْكادٌ". وقالوا أيضًا: "جُرْبٌ" على القياس من قوله [من الكامل]: 787 - ما إنْ رأيتُ ولا سَمِعْتُ به ... كاليومِ هانىءَ أَيْنُقٍ جُرْبِ ومثلُ "مَرْضَى"، و"هَلْكَى" قولهم: "أَحْمَقُ"، و"حَمْقَى"، و"أَنْوَكُ"، و"نَوْكَى"، و"الأَنْوَك" الأحمق، جعلوا ما أُصيبوا به في عقلهم بمنزلةِ ما أُصيبوا به في أَبْدانهم. ولا يجيء ذلك في كلِّ ما كان مثله، ألا ترى أنّك لا تقول في "بَخِيلٍ": "بَخْلَى"، ولا في "سَقِيمٍ": "سَقْمَى"؟ وقالوا: "يَتامَى"، و"أَيامَى" شبّهوهما بـ"وَجاعَى"، ¬
فصل [رد المحذوف عند الجمع]
و"حَباطَى"؛ لأنّهما مصائبُ ابتُلوا بها كالأوْجاع لعدم القُيَّم بأمورهما. وإنّما قالوا: إِنّ "وجاعى"، و"حباطى" هما الأصل، و"يتامى"، و"أيامى" محمولان عليهما؛ لأنّ بابَ "فَعالَى" أن يكون جمعًا لـ"فَعْلانَ"، ويكون الألف والنون بمنزلة ألفَيِ التأنيث. فواحدُ "وجاعى": "وَجِعٌ"، وواحدُ "حباطى": "حَبِطٌ". و"فَعِلٌ"، و"فَعْلانُ" يشتركان كثيرًا، كقولهم: "عَطِشٌ"، و"عَطْشانُ"، و"عَجِلٌ"، و"عَجْلانُ". وليس الواحد من "يَتامَى"، و"أَيامَى": "يَتِمٌ"، "وأَيِمٌ"، فيكونَ مثله، فلذلك حمله عليه، ولم يجعله أصلًا. وقال بعضهم: الأصلُ في "أَيامَى": "أَيايِمُ"، فقلبوا الياء إلى موضع اللام، ثمّ فعلوا به ما فعلوا بـ"مَدَارى". والأوّل أقيسُ، فاعرفه. فصل [ردّ المحذوف عند الجمع] قال صاحب الكتاب: والمحذوف يرد عند التكسير وذلك قولهم في جمع: "شفة", و"است" و"شاة" و"يد": "شِفاهٌ" و"أستاهٌ" و"أيدٍ" و"يدي". * * * قال الشارح: اعلم أنّ ما حُذف منه حرفٌ، وبقي على حرفَيْن، على ضربَيْن: أحدهما ما تلحقه تاء التأنيث، فتكون كالعوض من المحذوف، وذلك نحو "سَنَةٍ"، و"قُلَةٍ"، و"شَفَةٍ"، و"شاةٍ". والثاني ما لا تاء فيه كـ"دَمٍ"، و"يَدٍ". فما كان من الأوّل، فالبابُ فيه أن يجمع بالألف والتاء، نحو: "سَنَواتٍ"، و"قُلاتٍ"؛ لمكان التاء في آخِره. وقد يجمع بالواو والنون، نحو: "سِنُونَ"، و"قُلُونَ". وقد تقدّم ذلك وشرحُه في الجمع الصحيح. وربّما كسّروا منها شيئًا، فحينئذ يُرَدّ فيه المحذوف كما يردّ في التصغير، فمن ذلك "شَفَةٌ"، و"شِفاهٌ"، و"شاهٌ"، و"شِياهٌ". ولم يجمعوا ذلك بالواو والنون حيث كسّروه، وردوا ما حُذف منه، ولم يجمعوه أيضًا بالألف والتاء إذا أرادوا أدنى العدد، كأنّهم استغنوا بـ"شِفاهٍ" و"شِياهٍ" عن أدنى العدد، وإن كانت من أبنية الكثرة، كما استغنوا بـ"جُرُوحٍ" عن "أَجْراحٍ"، وقد تقدّم مثلُ ذلك. ووزنُ "شفة"، و"شاة" في الأصل "فَعْلَةُ" كـ"جَفْنَةٍ"، و"قَصْعَةٍ"؛ ولذلك جُمعت على "شِفاهٍ"، و"شِياهٍ" كما قالوا: "جِفانٌ"، و"قِصاعٌ"، والأصل: "شَفْهَةٌ" اللامُ هاء، والهاء مشبَّهةٌ بحرف العلّة لخَفائها وضَعْفها بتطرُّفها. وهم كثيرًا ما يحذفون حروف العلّة إذا وقعت طرفًا، وبعدها تاء التأنيث، نحو: "ثُبَةٍ"، و"بُرَةٍ"، و"قُلَةٍ"، كأنّ تاء التأنيث قامت مقامَ المحذوف، فحُذفت الهاء هنا، كحذفها في "أَخ"، و"يَدٍ". يدلّ على ذلك ظهورُها في التصغير من نحو: "شُفَيْهَة"، وفي التكسير، نحو: "شِفاهٍ". وقالوا في الفعل: "شافَهْتُ مُشافَهةً"، ويقال للرجل العظيم الشَّفَتَيْن: "شُفاهِيٌّ". وذهب السِّيرافيّ إلى أنّها
"شَفَهَةٌ"، و"شَوَهَةٌ"، بتحريك العين، وتكسيرُهما على "فِعالٍ"، نحو: "شِفاهٍ"، و"شِياهٍ" على حد "رَقَبَةٍ"، و"رِقابٍ". والوجهُ ما ذكرناه لأنّ باب "قَصْعَةٍ"، و"جَفْنَةٍ" أكثرُ من باب "قَصَبَةٍ"، وَ"طَرَقَةٍ"، والعملُ إنّما هو على الأكثر لا على الأقلّ، مع أنّ الأصل عدمُ الحركة، فلا يُحكَم بها إلا بثَبَتٍ. وزعم قومٌ أنّه من الواو، وأصلُه "شَفْوَةٌ" كـ"سَلْوَةٍ"، و"شَقْوَةٍ"؛ لأنّه يقال في الجمع: "شَفَواتٌ"، و"رجلٌ أَشْفَى" إذا كان لا تنضمّ شفتاه كالأَورق. والصحيحُ الأوّل، وما روَوه من "شفواتٍ" إن صحّ، فهو من معنى الشفة لا من لفظها، أو يكون كـ"عِضَةٍ" و"سَنَةٍ" في أنّه يكون له أصلان: الهاء والواو. وأمّا "شاةٌ" فالأصلُ فيها "شَوْهَةٌ" أيضًا بسكون العين، ولامُها هاء بدليل قولهم في التصغير: "شُوَيْهَةٌ"، وفي الجمع: "شِياهٌ"، فظهورُ الهاء دليلٌ على ما قلناه، فحُذفت اللام على حدّ حذفها في "شفة". ولمّا انحذفت الهاء، بقي الاسم "شَوَةٌ"، فانفتحت الواو لمجاوَرة تاء التأنيث؛ لأنّ تاء التأنيث تفتح ما قبلها، نحو: "جاء طَلْحَةُ"، و"رَأَى حَمْزَةُ" فقُلبت الواو ألفًا؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فصارت "شاةً". فإذا أريد تكسيرُها على أصل بنائها قبل الحذف، وذلك على تقدير التمام، فما وجب له في حال التمام من الجمع، عومِل به. ومن ذلك "اسْتٌ"، و"أَسْتاهٌ"، و"يَدٌ"، و"أَيْدٍ"، و"يُدِيٌّ"، و"دَمٌ"، و"دِماءٌ". فأمّا "اسْتٌ"، فأصله: "سَتَةٌ" بالتحريك، ولامُه هاء، فحُذفت اللام، وأُسْكِنت الفاء لتدخل الهمزةُ عوضًا من المحذوف، فصار "اسْتًا". والذي يدلّ أن اللام هاء قولهم: "رجلٌ أَسْتَهُ بَيِّنُ السَّتَهِ" إذا كان كبير العَجُزِ، و"السُّتْهُمُ" و"السُّتاهِيُّ" مثله. وظهورُ الهاء فيما ذكرنا دليلٌ على أنّ اللام هاء. وربّما حذفوا العين، وأبقوا اللام التي هي هاء، فقالوا: "رجلٌ سَهٌ" قال الشاعر [من الطويل]: 788 - شَأَتْكَ قُعَيْنٌ غَثُّها وسَمِينُها ... وأَنْتَ السَّهُ السُّفْلَى إذا دُعِيَتْ نَصْرُ ¬
وفي الحديث "العَينُ وكاء السَّهِ" (¬1). والأوّلُ أكثر؛ لأنّ الحذف في اللامات أكثرُ منه فيما هو عينٌ. ويدل على أنّ الأصل "سَتَهٌ" بفتح العين قولُهم في جمعه لأدنى العدد: "أَسْتاهٌ"، ولو كان "فَعْلًا" كـ"فَلْسٍ"، و"كَعْبٍ"، لقيل في جمعه: "أَسْتُهٌ"، كما قالوا: "أَفْلُسٌ"، و"أَكعُبٌ". ولا تكون الفاء مضمومَة أو مكسورة؛ لأنّ الفتحة قد ظهرت في "سَتَهٍ". وهذا نَصٌّ. وأمّا "يَدٌ"، فقد تقدّم الكلام عليها، وأنّها "يَدْيٌ" بسكون العين من غير خلاف. وإنّما قلنا ذلك؛ لأنّ الحركة زيادةٌ، ولا سبيلَ إلى الحكم بالزيادة حتى تقوم الدلالةُ عليها، وليس في قوله [من الكامل]: يَدَيانِ بَيضاوانِ عند مُحَلِّمٍ ... قد تَمْنعانك أن تُضامَ وتُضْهَدَا (¬2) في دليلٌ على حركة العين؛ لأنّ اللام لمّا حُذفت، وصارت العين حرفَ الإعراب، وتَعاقَبت عليها حركاتُ الإعراب، ثمّ رُدّت اللام، لم تسكن العينُ التي كانت متحرّكة، إذ لو سكنتْ، لصار الردُّ كَلَا رَدٍّ. وهذا الاسمُ من باب "سَلِسَ"، و"قَلِقَ"، فاؤُه ولامه ياء، وهو نادر، ليس في الأسماء مثله. والذي يدلّ أنّ لامه ياء قولهم: "يَدَيتُ إليه يَدًا" إذا أَوْليتَه معروفًا. قال الشاعر [من الوافر]: 789 - يَدَيْتُ على ابن حَسْحاسِ بن وَهْبٍ ... بأَسْفَلِ ذِي الجِذاةِ يَدَ الكريمِ ¬
وسُمّيت "النِّعْمَةُ" يَدًا؛ لأنّ الإعطاء إنّما يكون باليد، فسُمّيت بها كما سمّوا الحِلْفَ يَمِينًا، لأنّهم كانوا يتعاطون أَيْمانَهمِ عند الحَلْف، ولكَوْن اليَد "فَعْلًا" جُمعت في القلّة على "أَفْعُلَ"، نحو: "أَيْدٍ"، كما قالوا: "أدْلٍ"، و"أَجْرٍ". وقالوا: "يُدِيٌّ" من قوله [من الطويل]: 790 - [فَلَنْ أَذكُرَ النعمانَ إلا بصالِحٍ] ... فإنّ لَه عندي يُدِيًّا وأَنْعُمَا وهذا الجمع أيضًا ممّا يدلّ على أنّ اليَد "فَعْلٌ"؛ لأنّ هذا الجمع إنّما يكون لِما هو على زنة "فَعْلٍ" ساكنَ العين نحو "عَبدٍ"، و"عَبِيدٍ"، و"كَلْبٍ"، و"كَلِيبٍ"، فاعرفه. فأمّا "دَمٌ" فأصله "دَمْىٌ"؛ لقوله [من الوافر]: جَرَى الدَّمَيانِ بالخَبَر اليَقِينِ (¬1) ومن قال: "الدَّمَوانِ" جعله من الواو، والأوّل أكثر. وذهب أبو الحسن، وأبو ¬
العباس المبرّد إلى أنّ أصله "دَمَيٌ" بالتحريك، فهو "فَعَلٌ" كـ"جَبَلٍ"، وأنّ جمعه جاء مخالِفًا لنظائره. قالا: والذي يدلّ على ذلك أن الشاعر لمّا اضطُرّ، عاد إلى الأصل، ألا ترى إلى قوله [من الطويل]: فلَسْنَا على الأَعْقاب تَدْمَى كُلُومُنا ... ولَكِنْ على أَقْدامِنا يَقْطُرُ الدَّمَا (¬1) وقال الآخر [من الرمل]: 791 - غَفَلَتْ ثُمَّ أَتَت تَطلُبُه ... فإِذَا هي بعِظامٍ ودَمَا قالا: ولا يُلزِم على هذا قوله [من الكامل]: يديان بيضاوان عند محلّمِ (¬2) لاحتمالِ أن يكون على لغةِ من قصر، وقال: "هذه يَدَى"، و"رأيت يَدَى"، و"مررت بيَدَى" كـ"رَحى" و"قَفا". والوجهُ الأوّل، لما ذكرناه، ولأنّك تجمعه في الكثرة على "دِماءٍ"، و"دُمِيّ" على حد "ظَبْي"، و"ظِباءٍ" و"ظُبِىٍّ" و"دَلْوٍ" و"دِلاءٍ"، و"دُلِيٍّ". وأمّا قولهما: إنّ جمعه جاء مخالفًا، فالأصلُ عدمُ مُخالَفةِ القياس، وسُلوكُ مَحَجَّته، ومَهْمَا أَمْكَنَ العملُ به، فلا يُعدَل عنه، وأمّا قوله [من الطويل]: ولكن على أقدامنا يقطر الدَّما (¬3) فعلى لغة من قصر، فاعرفه. ¬
فصل [جمع المذكر الذي لم يكسر]
فصل [جمع المذكَّر الذي لم يُكسَّر] قال صاحب الكتاب: والمذكر الذي لم يكسر يجمع بالألف والتاء نحو قولهم السرادقات وجمالات سبحلات وسبطرات. ولم يقولوا جوالقات حين قالوا: جواليق. وقد قالوا بوانات مع قولهم بون. * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأسماء، لمّا لم يدخلها التكسير، وكانت قد تصير إلى تأنيث الجمع، تَخيلوا فيها التأنيثَ، فجمعوها بالألف والتاء على حدِّ ما فيه تاء التأنيث، فقالوا: "سُرادِقاتٌ"، والواحد: "سُرادِقٌ"، وهو البيت من القُطن. وقالوا: "جِمالٌ سِبَحْلاتٌ"، والواحد: "سِبَحْلٌ" مثلُ "قِمَطْرٍ"، وهو البعير الضخم. وقالوا: "سِبَطْراتٌ"، والواحد: "سِبَطْرٌ"، أي: ممتدّ طويل، وقالوا: "جُوالِق"، ولم يقولوا: "جوالقات"، فيجمعوه بالألف والتاء حيث كسروه، وقالوا: "جَوالِيقُ"، و"الجوالق": وعاءٌ من صوف وغيره. وقالوا: "بُوَاناتٌ" مع قولهم: "بُونٌ"، والواحد: "بِوانٌ" بكسر الباء، وهو عمود من أعمدة الخَيْم، فجمعوه بالألف والتاء مع أنّهم قد كسّروه. وذلك قليل، وما كان من هذا الجمع، فسبيلُه أن يُحفَظ ولا يقاس عليه.
المعرفة والنكرة
ومن أصناف الاسم المعرفة والنكرة فصل [تعريف المعرفة وأضربها] قال صاحب الكتاب: فالمعرفة ما دل على شيء بعينه, وهو على خمسة أضرب: العلم الخاص، والمضمر، والمبهم وهو شيئان: أسماء الإشارة, والموصولات، والداخل عليه حرف التعريف، والمضاف إلى أحد هؤلاء إضافة حقيقة. * * * قال الشارح: اعلم أن المَعْرِفَة في الأصل مصدرُ "عَرَفْتُ مَعْرِفَةٍ وعِرْفانًا"، وهو من المصادر التي وقعت موقع الأسماء، فالمراد بالمعرفة الشيء المعروف، كالمراد بنَسْج اليَمَن أنَّه منسوجُ اليمن، وكقوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ} (¬1)، أي: مَخْلُوقُه، وكذلك النكرةُ بمعنى المنكور، والمرادُ بالمعرفة ما خَصَّ واحدًا من الجنس، لا يتناول غيرَه، وذلك متعلّقٌ بمعرفة المخاطب دون المتكلّم، إذ قد يذكر المتكلّمُ ما هو معروف له، ولا يعرفه المخاطبُ، فيكون منكورًا، كقول القائل لمن يخاطبه: "في داري رجلٌ"، و"لِي بُسْتانٌ"، وهو يعرف الرجل والبستان، وقد لا يعرفه المتكلّمُ أيضًا، نحو قولك: "أنا في طَلَبِ غلامٍ أشتريه، ودارٍ أكتريها"، ولا يكون قصدُه إلى شيء بعينه. واعلم أنّ النكرة هي الأصل، والتعريف حادثٌ؛ لأنّ الاسم نكرة في أوّلِ أمره مبهمٌ في جنسه، ثمّ يدخل عليه ما يُفْرِد بالتعريف، حتى يكون اللفظ لواحدٍ دون سائر جنسه، كقولك: "رجلٌ"، فيكون هذا الاسم لكلّ واحد من الجنس، ثمّ يحدث عهدُ المخاطب لواحدٍ بعينه، فتقول: "الرجلُ"، فيكون مقصورًا على واحد بعينه، فالنكرةُ سابقةٌ، لأنّها اسم الجنس الذي لكلّ واحد منه مثلُ اسم سائرِ أُمَّتِه، وضعه الواضعُ للفصل بين الأجناس، فلا تجد معرفةً إلَّا وأصلُها النكرة؛ إلَّا اسمَ الله تعالى؛ لأنّه لا شريكَ له ¬
سبحانه وتعالى، فالتعريفُ ثانٍ أُتي به للحاجة إلى الحديث عن كلّ واحد من أشخاص ذلك الجنس، إذ لو حُدّث عن النكرة، لَمَا علم المخاطُب عمَّن الحديثُ، ويزيد ما ذكرناه عندك وُضوحًا أنّ الإنسان حين يُولَد، فيُطلَق عليه حينئذ اسمُ رجل، أو امرأةٍ، ثمّ يُميَّز باللَّقَب، والاسم. والمعارف خمسةٌ على ما ذكر، فمنها العَلَم الخاصّ، نحو: "زيد"، و"عبد الله"، فهو معرفةٌ؛ لأنّه موضوع بإزاء واحد بعينه لا يشركه فيه غيرُه، وقد تقدّم الكلام في الأعلام في أوّلِ الكتاب. وقوله: "الخاصّ" تحرُّرٌ من الأسماء العامّة، نحو "رجل"، و"فرس" ونحوهما من أسماء الأجناس، فإنّ الأسماء كلّها أعلامٌ على مسمَّياتها، إلَّا أنّ منها ما مسمّاه عامٌّ، وهو اسمُ الجنس، ومنها ما مسمّاه خاصٌّ، نحو: "زيد"، و"عبد الله"، ونحوهما. فاسمُ الجنس مسمّاه عامّ، والعَلَمُ مسمّاه خاصّ. ومنها المُضْمَر، وهو ضربٌ من الكناية فكلُّ مضمر كنايةٌ، وليس كل كناية مضمرًا. وإنّما صارت المضمرات مَعارِفَ؛ لأنّك لا تُضْمِر الاسم إلَّا وقد علم السامعُ على مَن يعود، فلا تقول: "ضربتُه"، ولا "مررت به" حتى يعرفه، ويدري مَن هو. ومن ذلك الأسماء المُبْهَمة، وهي ضربان: أسماء الإشارة، والموصولاتُ، فأمّا أسماء الإشارة، فنحو "ذَا"، و"ذِهْ"، و"ذَانِ"، و"تَانِ"، و"أولاء". ومعنى الإشارة الإيماء إلى حاضرٍ، فإن كان قريبًا، نبّهتَ عليه بها نحو "هذا"، و"هَاتَا"؛ وإن كان بعيدًا، ألحقته كافَ الخطاب في آخره، نحو: "ذَاك" للفرق بينهما. ومعنى التعريف فيه أن يختصّ واحدًا ليعرفه المخاطبُ بحاسّة البَصَر، وغيرُه من المعارف يختصّ واحدًا ليعرفه بالقلب. ومن الفرق بين المضمر والمبهم، أنّ المضمر في الغائب يبيَّن بما قبله، وهو المظهر الذي يعود عليه المضمرُ، نحو قولك: "زيدٌ مررتُ به"، والمبهمُ الذي هو اسم الإشارة يُفسَّر بما بعده، وهو اسمُ الجنس كقولك: "هذا الرجل والثوب" ونحوه. وقد مضى الكلام على أسماء الإشارة بما فيه مَقنعٌ. والمعنيُّ بالإبهام وقوعُها على كلّ شيء من حَيَوان وجَماد وغيرِهما، ولا تختص مسمّى دون مسمّى، هذا معنى الإبهام فيها، لا أن المراد به التنكير، ألا ترى أنّ هذه الأسماء معارفُ لِما ذكرناه فيها. والقسم الثاني من المبهمات - وهو الاسم الموصول كـ"الَّذِي"، و"الَّتِي"، و"مَنْ"، و"ما"، وتقدّم الكلام عليها. وكلُّها معارفُ بصلاتها، فبَيانُها بما بعدها أيضًا، إلَّا أنّ أسماء الإشارة تُبيَّن باسم الجنس، والموصولات تبين بالجمل بعدها. والذي يدلّ أنّها معارف أنّه يمتنع دخولُ علامة النكرة عليها، وهي "رُبَّ"، وتُوصَف بالمعارف، نحو
قولك: "جاءني الذي عندك العاقلُ". وتقع أيضًا وصفًا للمعارف، نحو: "جاءني الرجل الذي عندك". وكلُّها مبهمة؛ لأنّها لا تخصّ مسمّى دون مسمّى، كما كانت أسماء الإشارة كذلك. وأمّا الداخل عليه الألف واللام، فنحو: "الرجل"، و"الغلام"، إذا أردتَ واحدًا بعينه معهودًا بينك وبين المخاطب، كقول القائل: "لقيتُ رجلًا"، فيقول المخاطب: "وما فعل الرجلُ؟ " أي: المعهود بيني وبينك في الذِّكْر، أو تكون معه في حديثِ رجل، ثمّ يأتي ذلك الرجلُ، فتقول: "وَافَى الرجلُ"، أي: الذي كنّا في حديثه وذِكْرِه وافى. فلا بدّ في تعريف العَهْد من ثلاثةٍ: المذكور، والمتكلّمِ، والمخاطبِ. وتكون اللام لتعريف الجنس، كقولك: "الدينارُ خيرٌ من الدرهم"، و"الرجلُ خيرٌ من المرأة" ولا تعني بقولك: "الدينار"، و"الرجل" شخصًا مخصوصًا تُفضِّله، وإنّما تريد الجنس أجمعَ، ويكشِف عن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواوَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (¬1)، فالإنسان هنا عامٌّ يراد به جميعُ الآدمّين، بدليل استثناء الجمع منه؛ لأنّه إنّما يُستثنى الأقلُّ من الأكثر، ومحالٌ استثناء الأكثر من الأقلّ. وللألف واللام أقسامٌ تُذكَر في موضعها من الكتاب، إن شاء الله تعالى. ومن الفرق بين تعريف العهد، وتعريف الجنس أنّ العهد لا بدّ فيه من تقديمِ مذكورٍ، ولذلك يحسن أن يقع موقعَه المضمرُ فتقول: "جاءني رجلٌ"، و"فعل الرجلُ" وإن شئتَ قلت: "وفعل" على إضماره لتقدُّم ذكره، وكذلك قوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} (¬2)، لو كان كلامًا، لجاز أن يقال: "مَعَهُ" وليس كذلك الجنس، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وأعرفها المضمر، ثم العلم، ثم المبهم، ثم الداخل عليه حرف التعريف, وأما المضاف فيعتبر أمره بما يضاف إليه. واعرف أنواع المضمر ضمير المتكلم، ثم المخاطب، ثم الغائب. * * * قال الشارح: اعلم أنّ المعارف، وإن اشتركت في أصل التعريف، فهي تَتفاوَت في ذلك، فبعضُها أعرفُ. فكلَّما كان الاسم أخصَّ، كان أعرفَ. وقد انقسموا في القول بأعرف المعارف بحسب انقسام المعارف، فقال قومٌ: أعرفُ المعارف المضمر، ثمّ الاسم العَلَم، ثمّ المبهم، ثم ما فيه الألف واللام. واحتجّوا بأنّ المضمر لا اشتراكَ فيه لتعيُّنه بما ¬
يعود إليه، ولذلك لا يوصَف، ولا يوصَف به، وليس كذلك العَلَمُ، فإنّه يقع فيه الاشتراكُ، ويُميَّز بالصفة. وذهب آخرون إلى أنّ الاسم العلم أعرفُ المعارف، ثمّ المضمر، ثمّ المبهم، ثمّ ما عُرّف بالألف واللام، وهو مذهب الكوفيين (¬1)، وإليه ذهب أبو سَعِيد السِّيرافيّ. واحتجّوا بأنّ العلم لا اشتراك فيه في أصل الوَضْع، وإنّما تقع الشِّرْكة عارضةً، فلا أَثَرَ لها. قالوا: والمضمر يصلح لكل مذكور، فلا يخصّ شيئًا بعينه، وقد يكون المذكور قبله نكرةً، فيكون نكرةً أيضًا على حسبِ ما يرجع إليه، ولذلك تدخل عليه "رُبَّ" من قولهم: "رُبَّهُ رجلاً". وذهب قوم إلى أنّ المبهم أعرف المعارف، ثمّ المضمر، ثمّ العلم، ثمّ ما فيه الألف واللام، وهو رأيُ أبي بكر بن السَّرّاج، واحتجّ بأنّ اسم الإشارة يتعرّف بشيئين: بالعين، والقلب، وغيرُه يتعرّف بالقلب لا غيرُ. وهو ضعيف؛ لأنّ التعريف أمرٌ راجِعٌ إلى المخاطب دون المتكلّم، وما ذكره يرجع إلى معرفة المتكلّم، وأمّا المخاطبُ، فلا عِلْمَ له بما في نفس المتكلّم. والمذهب الأوّل، وعليه الأكثرُ، وهو مذهب سيبويه لِما ذكرناه؛ وأمّا قولهم: إنّه قد يعود إلى نكرةً، فيكون نكرةٍ، فنقول: لا نُسلِّم أنّه يكون نكرةً؛ لأنّا نعلم قَطعًا مَن عُني بالضمير؛ وأمّا دخولُ "رُبَّ" عليه في "رُبَّهُ"، فهو شاذّ مع أنّه يُفسَّر بما بعده، فصار بمنزلة النكرة المتقدّمة، والأسماء الأعلام أعرفُ من أسماء الإشارة؛ لأنّ الأعلام تُوصف، ولا يُوصَف بها، وذلك دليلٌ على ضُعْف التعريف فيها، ولذلك قلنا بانحطاط تعريفها عن المضمرات. وأسماء الإشارة توصَف، ويوصَف بها، والصفةُ لا تكون أخصّ من الموصوف. وجوازُ الوصف بالاسم، ووَصُفه مُؤْذِن بوَهْن تعريفه وضُعْفه، ألا ترى أنّك إذا قلت: "زيدٌ الطويلُ"، فـ "الطويل" أعمُّ من "زيد" وحدَه؛ لأنّ الطويل كثيرٌ، وزيدٌ أخصُّ من "الطويل". وأسماء الإشارة أعرفُ ممّا فيه الألف واللام لِما ذكرناه، فالألف واللام أبهمُ المعارف وأقربُها من النكرات، ولذلك قد نُعِتَتْ بالنكرة كقولك: "إنّي لأمرُّ بالرجل غيرِك، فيَنْفَعُني، وبالرجل مِثْلِك، فيُعْطِيني"؛ لأنّك لا تقصد رجلاً بعينه. ومن ذلك قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ} (¬2)، جعل "غَيْرًا" نعتًا لـ"الَّذِينَ"، وهي في مذهب الألف واللام التي لم يُقصَد بها شيء بعينه. ويدلّ على ذلك أن من المعرَّف بالألف واللام ما يستوي في معناه ما فيه الألف واللام، وما لا ¬
[تعريف النكرة]
لامَ فيه، نحو: "شربت ماءً والماء"، و"أكلتُ خُبْزًا والخبزَ"؛ ولذلك امتنع أن يُنعَت ما فيه الألفُ واللام بالمبهم. وأمّا المضاف، فيُعتبر أمره بما يضاف إليه، فحكمُ المضاف حكمُ المضاف إليه، فإذًا ما أضيف إلى المضمر أعرفُ ممّا أضيف إلى العلم، وما أضيف إلى العلم أعرف ممّا أضيف إلى المبهم، وما أضيف إلى المبهم أعرف ممّا أضيف إلى ما فيه الألفُ واللام. فعلى هذا لا تصف العلم بما أضيف إلى المضمر، فلا تقول: "مررت بزيدٍ أخيك" على الوصف، ويجوز على البدل، ولا تصف المبهم بما أضيف إلى مضمرٍ أو عَلَمٍ، فلا تقول: "مررتُ بهذا أخيك، أو صاحبِ عمرو" على النعت، ولا تصف ما فيه الألف واللام بما أضيف إلى غيره ممّا لا لامَ فيه. واعلم أنّ المضمرات، وإن كانت أعرفَ المعارف، إلّا أنّها تَتفاوَت أيضًا في التعريف، فبعضُها أعرفُ من بعض، فأعرفُها وأخصُّها ضميرُ المتكلّم، نحو: "أنَا"، والتاء في "فعلتُ"، والياء في "غلامِي"، و"ضَرَبَنِي"؛ لأنّه لا يُشارِك المتكلّمَ أحدٌ، فيدخلَ معه، فيكونَ ثَمّ لَبسٌ. ثمّ المخاطب، وإنّما قلنا: إِنّ المخاطب منحطّ في التعريف عن المتكلّم؛ لأنّه قد يكون بحَضْرته اثنان أو أكثرُ، فلا يُعلَم أيَّهم يخاطِب. ثم الغائب، وإنّما انحطّ ضميرُ الغائب عنهما؛ لأنّه قد يكون كناية عن معرفة وعن نكرة، حتى قال بعضُ النحويين: إِنّ كناية النكرة نكرةٌ، ولذلك أجازوا "رُبَّ رجلٍ وأَخيه". فهذا ترتيبُها في التعريف، فاعرفه. * * * [تعريف النكرة] قال صاحب الكتاب: والنكرة ما شاع في أمته كقولك: جاءني رجل وركبت فرساً. * * * قال الشارح: قد تقدّم أن النكرة أصلٌ للمعرفة ومتقدّمةٌ عليها، وهي كلُّ اسم يتناول مسمّيَيْن فصاعدًا على سبيل البدل، فهو نكرةٌ، وذلك نحو: "رَجُلٍ"، و"فَرَسٍ". ألا ترى أنّ "رجلاً" يصلح لكلّ ذَكَر من بني آدم، و"فرسٌ" يصلح لكلّ ذي أربعٍ صَهالٍ. وعلامتُها أن تحسن فيها "رُبَّ" واللامُ، نحو: "رُبَّ رجلٍ والرجلُ". وبعض النكرات أنكرُ من بعض، فما كان أكثرَ عُمومًا، كان أوغَلَ في التنكير، فعلى هذا "شَيْءٌ" أنكرُ من "جِسم"؛ لأنّ كلّ جسم شيءٌ؛ وليس كل شيء جسمًا، و"جِسمٌ" أنكرُ من "حَيَوانٍ"؛ لأنّ كلّ حيوان جسمٌ، ولَيس كلُّ جسم حيوانًا، و"حيوان" أنكرُ من إنسان، و"إنسانٌ" أنكر من "رجل" و"امرأة"، فاعرفْ ذلك.
المذكر والمؤنث
ومن أصناف الاسم المذكَّر والمؤنَّث فصل [تعريف المذكر والمؤنث] قال صاحب الكتاب: المذكر ما خلا عن العلامات الثلاث التاء والألف والياء، في نحو: غرفة وأرض (¬1) , وحبلى وحمراء وهذى, والمؤنث ما وجدت فيه إحداهن. * * * قال الشارح: التذكير والتأنيث معنيان من المعاني، فلم يكن بدٌّ من دليل عليهما، ولمّا كان المذكّر أصلًا، والمؤنّث فرعًا عليه؛ لم يحتج المذكّرُ إلى علامة؛ لأنّه يُفهَم عند الإطلاق، إذ كان الأصلَ، ولمّا كان التأنيث ثانيًا، لم يكن بدّ من علامة تدلّ عليه، والدليلُ على أنّ المذكّر أصلٌ أمران: أحدُهما مَجيئُهم باسم مذكّر يعُمّ المذكّرَ والمؤنّثَ، وهو شَيْءٌ. الثاني أنّ المؤنّث يفتقر إلى علامة. ولو كان أصلًا، لم يفتقر إلى علامة، كالنكرة لمّا كانت أصلاً، لم تفتقر إلى علامة. والمعرفةُ لمّا كانت فرعًا، افتقرت إلى العلامة، ولذلك إذا انضمّ إلى التأنيث العَلَميّةُ، لم ينصرف، نحو: "زَيْنَبَ"، و"طَلْحَةَ"، وإذا انضمّ إلى النكرة، انصرف، نحو: "جَفْنَةٍ"، و"قَصْعَةٍ". فإذا قد صار المذكّرُ عبارةٌ عن ما خلا من علامات التأنيث، والمؤنّثُ ما كانت فيه علامةٌ من العلامات المذكورة. وعلامات التأنيث ثلاثةٌ: التاء، والألف، والياء. والكلامُ: أسماءٌ وأفعالٌ وحروفٌ، والذي يؤنَّث منها الأسماء دون الأفعال والحروفِ؛ وذلك من قبل أنّ الأسماء تدلّ على مسمّياتٍ تكون مذكّرةً ومؤنّثةً، فتدخل عليها علامةُ التأنيث أمارةً على ذلك، ولا يكون ذلك في الأفعال، ولا الحروف. أمّا الأفعال؛ فلأنّها موضوعةٌ للدلالة على نِسْبَةِ الحَدَث إلى فاعلها، أو مفعولها من نحو: "ضَرَبَ زيدٌ"، و"ضُرِبَ عمرو"، فدلالتُها على الحدث ليست من جهة اللفظ، وإنّما هي التزامٌ، فلمّا لم تكن في الحقيقة بإزاء مسمّيات؛ لم يدخلها ¬
التانيثُ. وأمرٌ آخرُ أنّ مدلولها الحَدَثُ، وهي مشتّقةٌ منه، والحدثُ جنسٌ مذكّرٌ، ولذلك قال سيبويه: لو سُمّيت امرأةٌ بـ "نِعْمَ"، و"بِئْسَ"، لانْصَرَفَا؛ لأنّ الأفعال مذكّرةٌ. فأمّا لَحاق العلامة بها من نحو: "قامت هندٌ"، و"قعدتْ سُعادُ"، فلتأنيث الفاعل لا لتأنيثها في نفسها، وهذا أحدُ ما يدلّ أنّ الفاعل كجُزء من الفعل، وذلك أنّ الأصل، إذا أريد تأنيثُ كلمة، أن يلحق عَلَمُ التأنيث تلك الكلمةَ، فأمّا لحاقُ العلامة بكلمة والمرادُ غيرها، فلا، فدلّ ذلك على أنّ الفعل والفاعل كجزء واحد. وأمّا الحروف؛ فلأنّها لا تدلّ على معنى تحتها، وإنّما تجيء لمعنى في الاسم والفعل؛ فهي لذلك في تقدير الجزء من الاسم والفعل، وجزء الشيء لا يؤنّث. وقد جاء منها ثلاثةُ أحرف، وهي "لا"، و"ثُمَّ"، و"رُبَّ"، على التشبيه بالفعل، إذ كانت تكون عاملةً. وعلامات التأنيث ثلاثةٌ على ما ذكر: التاء، والألف، والياء، وقد أضاف غيرُه الكسرة، في نحو: "فَعَلْتِ يا امرأةُ"، فصارت العلامات أربعةً. فأمّا التاء، فتكون علامةً للتأنيث تلحَق الفعلَ، والمراد تأنيثُ الفاعل على ما ذكرنا في نحو: "قامت هندٌ"، و"قعدت جُمْلُ". وهذه التاء إذا لحقتِ الأفعالَ، كانت ثابتةً لا تنقلب في الوقف، نحو: "قامتْ هندٌ"، و"هندٌ قامتْ". وإذا لحقت الاسمَ، نحو: "قائمة"، و"قاعدة"، أُبْدل منها الهاء في الوقف، فتقول: "هذه قائمة، وقاعدهْ". وفي هذه التاء مذهبان: أحدُهما: وهو مذهبُ البصريين- أنّ التاء الأصلُ، والهاء بدلٌ منها، والثاني -وهو مذهب الكوفيين- أنّ الهاء هي الأصل. والحقُّ الأوّل، والدليلُ على ذلك أنّ الوصل ممّا تجري فيه الأشياء على أصولها، والوقف من مواضع التغيير. ألا ترى أنّ من قال في الوقف: "هذا بَكُرْ"، و"مررت ببَكِرْ"، فنقل الضمّة والكسرةَ إلى الكاف، فإنّه إذا وصل، عاد إلى الأصل من إسكان الكاف، وكذلك من قال في الوقف: "هذا خالِدٌ" فضاعف، فإنّه إذا وصل لا يفعل ذلك، بل يخفّف الدال، على أنّ من العرب من يُجْرِي الوقف مجرى الوصل، فيقول: "هذا طَلْحَتْ"، و"عليكم السلام والرحمتْ" وقال [من الرجز]: بل جَوْزِ تَيْهاءَ كَظَفرِ الحَجَفَتْ (¬1) وأنشد قُطْرُبٌ [من الرجز]: 792 - الله نَجّاكَ بكَفَّي مُسْلِمَتْ ... من بَعْدِما وبَعْدِما وبَعْدِمَتْ صارت نُفوسُ القَوْمِ عندَ الغَلْصَمَتْ ... وكادتِ الحُرَّةُ أنّ تُدْعَى أَمَتْ ¬
وقد أجروها في الوصل على حدّ مجراها في الوقف. من ذلك ما حكاه سيبويه (¬1) من قولهم في العدد: "ثَلَاثهْ أَرْبَعَه"، وعلى هذا قالوا في الوصل: "سَبْسَبَّا" (¬2)، وكَلْكَلاَّ" (¬3). وهو قليل من قبيل الضرورة. فلمّا كان الوصل ممّا يجري فيه الأشياء على أصولها، وكان الوقفُ ممّا يتغيّر فيه الأشياء عن أصولها في غالب الأمر، ورأينا عَلَم التأنيث في الوصل تاء، وفي الوقف هاء، نحو: "ضاربه"، و"قائمه"؛ علمنا أنّ الهاء في الوقف بدلٌ من التاء في الوصل، وأنّ التاء هي الأصل. وأمّا الألف، فقد تكون للتأنيث، وذلك نحو الألف في "حُبْلَى"، و"سَكْرَى"، ¬
و"غَضْبَى"، و"جُمادَى"، و"حُبارَى"، فهذه كلّها وما يجري مجراها للتأنيث، يدلّ على ذلك أنّك لا تُنوِّنها في النكرة، قال الفرزدق [من الطويل]: 793 - وأشلاءُ لَحْمٍ مِن حُبارَى يَصِيدُها ... لنا قانِصٌ من بَعْضِ ما يَتَخَطَّفُ والفرق بين تأنيث التاء في "قائمة"، و"قاعدة"، والتأنيث بالألف فيما ذكرنا أنّ التاء تدخل في غالب الأمر كالمنفصلة ممّا دخلت عليه؛ لأنّها تدخل على اسم تامّ الفائدة لإحداث معنى آخر، وهو التأنيث، فكانت كاسم ضُمّ إلى اسم آخر، نحو: "حَضْرَمَوْتَ"، و"بَعْلَبَكّ". ويدلّ على ذلك أمورٌ: منها: أنّك تفتح ما قبل التاء كما تفتح ما قبل الاسم الثاني من الاسمَيْن، فتقول: "قائمَةٌ"، و"طلحَةُ"، كما تقول: "حَضْرَمَوْتُ"، فتفتح ما قبل الآخر. ومنها أنّك إذا صغّرتَ ما في آخِره تاء التأنيث، فإِنّك تُصغِّر الصدر، ثم تأتي بالتاء، نحو: "طَلْحَةَ"، و"طُلَيْحَةَ"، و"تَمْرَةٍ"، و"تُمَيْرَةٍ"، كما تصغّر الصدر من الاسمين المركّبين، ثمّ تأتي بالآخر، نحو: "حُضَيْرَ مَوْتَ". وممّا يدل على انفصالها وأنّ الكلمة لم تُبْنَ عليها، أنّك تحذفها في التكسير، فتقول في تكسير "جَفْنَةٍ": "جِفانٌ"، وفي "قَصْعَةٍ": "قِصاعٌ". وليست الألف كذلك، بل تثبت في التكسير، فتقول في "حُبْلَى": "حَبالَى"، وفي "سَكْرَى": "سَكارَى"؛ لأن الكلمة بُنيت عليها بناء سائر حروفها، كما تقول في "جَعْفَرٍ": "جَعافِرُ"، وفي "زِبْرِجٍ": "زَبارجُ". فإن قيل: فما بالُكم تقولون في تكسير "قَرْقَرَى" (¬1)، و"جَحْجَبَى" (¬2): "قَراقِرُ"، و"جَحاجِبُ"، بحذف الألف؟ قيل: لم يحذفوا الألف هنا على حدّ حذف التاء في ¬
"جِفانٍ"، و"قِصاعٍ"، وإنّما حذفوها لوقوعها خامسةً، كما يحذفون الخامسَ الأصلىَّ في "سَفَرْجَلٍ"، و"سَفارِجَ"، و"فَرَزْدَقٍ"، و"فَرازِدَ". فإن قيل الهمزة أيضًا في "حَمراءَ"، و"خَضْراءَ"، و"صَحْراءَ"، و"عَذْراءَ"، تفيد التأنيث، فما بالُكم لم تذكروها مع علامات التأنيث؟ قيل: الهمزة في الحقيقة ليست عَلَمًا للتأنيث، وإنّما هي بدلٌ من الألف في مثل "حُبْلَى"، و"سَكْرَى". وإنّما وقعت بعد ألفٍ قبلها زائدةٍ للمدّ، فالتقى ألفان زائدتان، الأَولى المزيدةُ للمدّ، والثانيةُ للتأنيث، فلم يكن بدّ من حذف إحداهما أو تحريكها. فلم يجز الحذفُ في واحدة منهما، أمّا الأولى؛ فلو حُذفت، لذهب المدُّ، وقد بُنيت الكلمة ممدودةً، وأمّا الثانية، فلو حُذفت، لزال علمُ التأنيث، وهو أفحشُ من الأوّل. فلمّا امتنع حذفُ إحداهما، ولم يجز اجتماعُهما لسكونهما، تَعيَّن تحريكُ إحداهما، فلم يكن تحريكُ الأولى؛ لأنّها لو حُرّكت، لفارقت المدَّ، والكلمةُ مبنيّةٌ على المدّ، فوجب تحريكُ الثانية. ولمّا حُرّكت، انقلبت همزةً؛ فقيل: "صَحْراء"، و"حَمْراء". فثبت بما ذكرنا أن الهمزة بدلٌ من ألف التأنيث. فإن قيل: ولِمَ قلت: إنّ الهمزة بدلٌ من ألف التأنيث؟ وهلّا قلت: إنّها أصلٌ في التأنيث كالتاء والألف. قيل عنه جوابان: أحدهما أنّا لم نَرَهم أنّثوا بالهمزة في غير هذا الموضع، وإنّما يؤنّثون بالتاء والألف في نحو: "حَمْزَةَ"، و"حُبْلَى"، فكان حملُ الهمزة في "صحراء" وبابه على أنّها بدلٌ من ألف التأنيث أوْلى، وقد تقدّم نحو من ذلك. الثاني أنّا قد رأيناهم لمّا جمعوا شيئًا ممّا في آخره همزةُ التأنيث، أبدلوها في الجمع ياءً، ولم يُحقِّقوها، وذلك قولهم في جمع "صَحْراءَ"، و"خَبْراءَ": "صَحارِيُّ"، و"خَبارِيُّ". ولو كانت أصلًا غيرَ منقلبة، لجاءت ظاهرةً، نحو قولهم في "قُرّاءٍ": "قَرارِىءُ" وفي "كوكب دُرِّيءٍ": "درارِيءُ"، فظهرت الهمزةُ ها هنا حيث كانت أصلًا؛ لأنّه من "قَرَأْتُ"، و"دَرَأْتُ". فأمّا قول بعض النحويين: أَلِفَي التأنيث، فتقريبٌ وتجوّزٌ. والحقُّ ما ذكرناه، وذلك أنّهما لمّا اصطحبتا، وبُنيت الكلمة عليهما، أطلقوا على ألف المدّ ألفَ التأنيث، فقالوا: ألفَا التأنيث. وأمّا الياء، فقد تكون علامةً للتأنيث في نحو: "اضْرِبِي"، و"تَضْرِبِينَ"، ونحوهما، فإنّ الياء فيهما عند سيبويه ضميرُ الفاعل، وتفيد التأنيث، كما أن الواو في "اضْرِبُوا"، و"يَضْرِبُونَ" ضميرُ الفاعل، وتفيد التذكيرَ. وهي عند الأخفش وكثيرٍ من النحويين حرفٌ دالّ على التأنيث بمنزلة التاء في "قامَتْ"، والفاعل ضميرٌ مستكنّ، كما كان كذلك مع المذكّر في "اضْرِبْ"؛ فأمّا الياء في "هَذِي"، فليست علامةً للتأنيث كما ظنّ، وإنّما هي عينُ الكلمة، والتأنيث مستفاد من نفس الصيغة. وعلى قياس مذهب الكوفيين تكون الياء للتأنيث؛ لأنّ الاسم عندهم الذال وحدها، والألفُ من "ذَا" مزيدةٌ، وكذلك الياء مزيدة للتأنيث، فالمؤنّث ما وُجد فيه إحدى هذه العلامات.
[المؤنث الحقيقي والمؤنث المجازي]
[المؤنث الحقيقي والمؤنث المجازي] قال صاحب الكتاب: والتأنيث على ضربين: حقيقي كتأنيث المرأة أوالناقة, ونحوهما مما بازائه ذكر في الحيوان، وغير حقيقي كتأنيث الظلمة والنعل ونحوهما مما يتعلق بالوضع والاصطلاح. والحقيقي أقوى، ولذلك امتنع في حال السعة (¬1) "جاء هندٌ"، وجاز "طلع الشمس"، وإن كان المختار "طلعت". فإن وقع فصل استجيز نحو قولهم: "حضر القاضي امرأة", قال جرير [من الوافر]: 794 - لقد ولد الأخيطل أم سوء ... [علي باب استها صلب وشام] وليس بالوسع, وقد رده المبرد، واستحسن نحو قوله تعالى: {فمن جاءه موعظة} (¬2) , {ولو كان بهم خصاصة} (¬3). * * * قال الشارح: اعلم أنّ المؤنّث على ضربَيْن كما ذكر: حقيقيٌّ. وغيرُ حقيقىّ، فالمؤنّث الحقيقيُّ التأنيثِ، والمذكّرُ الحقيقيُّ التذكيرِ معلومان؛ لأنّهما محسوسان، وذلك ما كان للمذكر منه فَرْجٌ خلافُ فَرْجِ الأُنثى، كالرَّجُل والمرأة، وإن شئت أن تقول: ما كان بإزائه ذَكَرٌ في الحَيَوان، نحو: "امرأة"، و"رجل"، و"ناقة"، و"جَمَل"، و"أتان"، و"عَيْر"، و"رِخْل"، و"حَمَل" وذلك يكون خِلْقة الله تعالى. وغيرُ الحقيقي أمرٌ راجعٌ إلى اللفظ بأن تُقْرَن به علامةُ التأنيث من غير أن يكون تحته معنى، نحو: "البُشْرَى"، ¬
و"الذِّكرَى" و"صَحْراءَ"، و"عَذراءَ"، و"غُرْفَةٍ"، و"ظُلْمَةٍ". وذلك يكون بالاصطلاح ووَضْع الواضع، فـ "البشرى"، و"الذكرى"، مؤنّثان بأن دخل عليهما ألفُ التأنيث المقصورةُ. و"صحراء"، و"عذراء"، ونحوهما مؤنثان بالألف الممدودة، و"غرفة"، و"ظلمة"، مؤنّثان بالتاء، و"نَعْلٌ"، و"قِدْرٌ ونحوهما من مثل "شَمسٍ" و"فَرَسٍ"، و"هِنْدٍ"، و"جُمْل"، علامةُ التأنيث فيها مقدّرةٌ، يدل على ذلك ظهورُها في التّصغير، نحو: "نُعَيْلَةٍ"، و"قُدَيْرَةٍ". واعلم أنّ التأنيث الحقيقىّ أقوى من التأنيث اللفظيّ؛ لأنّ المؤنّث الحقيقيّ يكون تأنيثُه من جهة اللفظ والمعنى من حيث كان مدلولُه مؤنّثًا. وغيرُ الحقيقيّ شيء يختصّ باللفظ من غيرِ أن يدلّ على معنى مؤنّث تحته، فكان التأنيث المعنويّ أقوى لِما ذكرناه. ويلزم فعلَه علامةُ التأنيث في نحو: "قامت المرأة"، و"ذهبت الجاريةُ"، فتلحَق التاء الفعلَ للإيذان بأنّ فاعله مؤنّثٌ، كما تلحَقه علامةُ التثنية والجمع في نحو: "قاما أخواك"، و"قاموا إخوَتُك" للإيذان بعَدَد الفاعلين. فإن قيل: الاختيار "قام أخواك"، و"قام إخْوَتُك"، فما بالُك توجب إلحاقَ العلامة في المؤنّث، نحو: "قامت هندٌ"؟ فالجواب: أنّ الفرق بينهما أنّ التأنيث معنى لازمٌ لا يصحّ انتقالُه عنه إلى غيره، وليس كذلك التثنية والجمع، فإنّهما غيرُ لازمَيْن، إذ الاثنان قد يُفارِق أحدُهما الآخرَ، فيصير واحدًا، ويزيدان، فيصيران جمعًا. وكذلك الجمع، قد ينقص فيصير تثنيةً، وليس التأنيث كذلك، فللزومِ معنى التأنيث؛ لزمت علامتُه، ولعدم لزوم معنى التثنية والجمع؛ لم تلزم علامتُهما. فإن فصل بينهما فاصلٌ من مفعول أو ظرف أو جارّ ومجرور، جارّ سقوطُ علم التأنيث، نحو قولهم: "حَضَرَ القاضِيَ اليومَ امرأةٌ"، لمّا فصل بالظرف والمفعول؛ حسن تركُ العلامة؛ لأن الفاصل سَدَّ مَسَدَّ علم التأنيث مع الاعتماد على دلالة الفاعل على التأنيث، فأمّا قول جَرِير [من الوافر]: لقد وَلَدَ الأُخَيْطِلَ أُمُّ سَوْءٍ ... على بابِ اسْتِها صُلْبٌ وشَامُ الشاهد فيه إسقاط علم التأنيث من الفعل مع كون تأنيث الفاعل حقيقيًا لوجود الفصل بالمفعول. يهجوه بذلك؛ و"الصُّلْبُ" جمع "صَلِيبٍ"، وأصله: "صُلُبٌ"، مثل: "كَثِيبٍ"، و"كُثُبٍ". وإنّما الإسكانُ لضرب من التخفيف. و"الشامُ" جمعُ "شَامَةٍ" يُعلِمه أنّه عارفٌ بذلك المكان منها، ومثلُه قول الآخر [من البسيط]: 795 - إن امْرَأً غَرَّهُ مِنْكُنَّ واحدةٌ ... بَعْدي وبَعْدكِ في الدنيا لَمغْرُورُ ¬
لم يقل: "غَرَّتْهُ"؛ لمكان الفصل، ولو قاله، لكان أحسن. وفي الكَتاب العزيز: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} (¬1). وقد ردّ أبو العبّاس إسقاطَ العلامة مع المؤنّث الحقيقيّ، ومنع منه، وإن كان بينهما فصلٌ، واحتجّ بأنّه قد يشترك الرجالُ والنساء في الأسماء. قال الشاعر [من الطويل]: 796 - تَجاوَزْتُ هِنْدًا رَغْبَةً عن قِتالِهِ ... إلى مالِكٍ أَعْشو إلى ضَوْءِ نارِه فـ "هندٌ" هنا اسمُ رجل. وقال الآخر [من الرجز]: 797 - يا جَعفَرٌ يا جَعْفَرٌ يا جَعفَرُ ... إنْ أَكُ دَحْداحًا فَأَنْتِ أَقْصَرُ ¬
[وجوب تأنيث الفعل إذا أسند إلي ضمير المؤنث]
و"جعفرٌ" هنا اسم امرأة، والسماعُ بخلافِ ما ذهب إليه، فهو تعليلٌ في مُقابَلةِ النصّ، فأمّا إذا سُمّي بمذكّرٍ كامرأةٍ تسمّى بـ "زَيدٍ"، أو "قاسِمٍ"، لزم إلحاقُ العلامة سواءٌ في ذلك الفصلُ وعدمُه، نحو: "قالت زيدٌ"، و"أقبلتِ اليومَ قاسمٌ". ولا يجوز حذفُ التاء منه؛ لئلاّ يُلْبِس بالمذكّر؛ لأنّ الفاعل لا دلالةَ فيه على التأنيث، إذ لا علامةَ فيه للتأنيث، ولا هو غالبٌ في المؤنّث، نحو: "زَينَبَ"، و"سُعادَ". فإن كان المؤنّث غيرَ حقيقي بأن يكون من غير حَيَوان، نحو: "النَّعْل"، و"القِدْر"، و"الدار"، و"السُّوق"، ونحو ذلك، فإنّك إذا أسندتَ الفعل إلى شيء من ذلك، كنت مخيَّرًا في إلحاق العلامة وتَرْكِها، وإن لَاصَقَ، نحو: "انقطع النعلُ"، و"انقطعت النعل"، و"انكسرت القِدْرُ"، و"انكسر القدر"، و"عَمِرَت الدار"، و"عمر الدار"؛ لأنّ التأنيث لمّا لم يكن حقيقيًّا، ضعُف، ولم يُعيَّن بالدلالة عليه مع أنّ المذكّر هو الأصل، فجاز الرجوعُ إليه. وإثبات العلامة فيه أحسنُ من سقوطها مع الحقيقيّ. قال الله تعالى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} (¬1) {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} (¬2) {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} (¬3) وإثباتُ التاء أحسنُ، قال الله تعالى: {قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} (¬4). [وجوب تأنيث الفعل إذا أسند إلي ضمير المؤنث] قال صاحب الكتاب: هذا إذا كان الفعل مسنداً إلى ظاهر الاسم، فإذا اسند إلى ضميره فإلحاق العلامة. وقوله [من المتقارب]: 798 - [فلا مزنةٌ ودقت ودقها] ... ولا أرض أبقل إبقالها متأول. * * * ¬
قال الشارح: هذا حكم الفعل إذا أُسند إلى ظاهرِ مؤنّث، فإن أُسند إلى مضمر مؤنّث، نحو: "الدارُ انهدمتْ"، و"مَوْعِظةٌ جاءت"، لم يكن بدّ من إلحاق التاء، وذلك لأن الراجع ينبغي أن يكون على حسب ما يرجع إليه؛ لئلّا يُتوهّم أن الفعل مسندٌ إلى شيء من سببه، فيُنتظرَ ذلك الفاعلُ؛ فَلذلك لزم إلحاقُ العلامة لقَطْعِ هذا التوهُّم، كما اضطُرّوا إلى علامة الفاعل إذا أُسند إلى ضمير تثنية أو جمع، نحو: "الزيدان قاما"، و"الزيدون قاموا"، للإيذان بأنّ الفعل للاسم المتقدّم لا لغيره، فيُنتظرَ. وسواءٌ في ذلك الحقيقيّ وغيرُ الحقيقيّ، فأمّا قوله [من المتقارب]: فلا مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَها ... ولا أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقالَها فإنّ البيت لعامر بن جُوَين الطائيّ، والشاهد فيه حذف علامة التأنيث مع إسناد الفعل إلى ضمير المؤنّث. وذلك قليل قبيح، ومُجازُه على تأويلِ أنّ الأرض مكانٌ، فكأنّه قال: "ولا مكان أبقل إبقالها"، والمكانُ مذكّر، والمُزْنَة: القِطْعة من السحاب. والوَدْقُ: المطر. والإبقالُ: إنباتُ البَقْل، يقال: أبقل المكان، فهو باقلٌ، والقياس: مُبْقِلٌ، وكلُّ نابت اخضرّت به الأرضُ، فهو بقلٌ، ونحو ذلك قول الأعشى [من المتقارب]: 799 - فإمّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّة ... فإن الحَوادِثَ أَوْدَى بها ¬
ولم يقل: "أَوْدَتْ"؛ لأنّ "الحوادث" بمعنى "الحدثان"، و"الحَدَثانُ" مذكر. والذي سوّغ ذلك أمران: كونُ تأنيثه غير حقيقيّ، والآخرُ أنّ فيه رَدًّا إلى الأصل، وهو التذكير، ولو قال: "إن زَيْنَبَ قَامَ"، لم يجز؛ لأنّ تأنيثَ هذا حقيقىٌّ، وأقبحُ من ذلك قول رُوَيْشِدٍ [من البسيط]: 800 - يا أَيُّها الراكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سائِل بني أَسَدٍ ما هذه الصَّوْتُ ¬
فصل [ثبوت تاء التأنيث وتقديرها]
فإنّه أنّث "الصوت"، وهو مذكّر، لأنّه مصدر كـ "الضرب" و"القتل"، كأنّه أراد الصَّيْحة والاستغاثة، وهذا من أقبح الضرورة، أعني تأنيث المذكّر؛ لأن المذكّر هو الأصل، ونظيرُه [من الوافر]: 801 - إذا بعضُ السِّنِينَ تَعَرَّقَتْنا ... كَفَى الأيْتامَ فَقْدَ أَبي اليَتِيمِ لأنّه أنّث "البعض"، وهو مذكّر، وهو أسهلُ ممّا قبله، لأنّ بعض السنين سنةٌ، وليس كذلك "الصوتُ"، فاعرفه. فصل [ثبوت تاء التأنيث وتقديرها] قال صاحب الكتاب: والتاء تثبت في اللفظ وتقدر, ولا تخلو من أن تقدر في اسم ثلاثي, كـ"عين", و"أذنٍ"، أو في رباعي كـ "عناقٍ" و"عقربٍ". ففي الثلاثي ¬
فصل [وجوه دخول تاء التأنيث علي الكلمة]
يظهر أمرها بشيئين: بالإسناد وبالتصغير، وفي الرباعي بالإسناد. * * * قال الشارح: اعلم أن المؤنّث على ضربين: مؤنّثٌ بعلامة، ومؤنّثٌ بغير علامة. والأصلُ في كلّ مؤنّث أن تلحقه علامةُ التأنيث للفرق بين المذكّر والمؤنّث، نحو: "قائم"، و"قائمة"، و"امْرىءٍ"، و"امرأةٍ"، وذلك لإزالة الاشتراك بين المؤنّث والمذكّر. وأمّا ما لا علامة فيه للتأنيث، فنحو: "هِنْدٍ"، و"عَناقٍ"، و"قِدْرٍ"، و"شَمسٍ"، ونحو ذلك، فإنّ التاء فيه مقدّرةٌ مرادةٌ. وإنّما حُذفت من اللفظ؛ للاستغناء عن العلامة باختصاص الاسم بالمؤنّث. والمؤنّث على ضربين: ثلاثيّ ورباعيّ. فالثلاثيُّ يُعلَم تقدير التاء فيه بشيئَيْن: بالتصغير وبالإسناد. وأمّا التصغير، فنحو قولك في "قِدْرٍ": "قُدَيْرَةٌ"، وفي "شَمْسٍ": "شُمَيْسَةْ"، وفي "هِنْدٍ": "هُنَيْدَةُ"، فيُرَدٌ إلى الأصل في التصغير، فتلحقه العلامة، لتَبْنِيَ تصريفَه على أصله، كما تقول في "بابٍ": "بُوَيْبٌ"، وفي "نابٍ": "نُيَيْبٌ". وأمّا الإسناد، فكقولك: "طلعت الشمسُ"، و"انكسرت القِدْرُ"، وحاصلُ هذا السَّماعُ. فأمّا إذا كان الاسم رباعيًّا، نحو: "عَقْرَب"، و"عَناقٍ"، و"سُعادَ"، و"زَيْنَبَ"، فإنّ التاء لا تظهر في مصغَّره، نحو قولك: "عُقَيْرِبٌ"، و"عُنَيِّقٌ"، و"سُعَيِّدُ"، و"زُيَيْنِبُ". وإنّما فعلوا ذلك، ولم يُلْحقوها الهاء كما ألحقوها الثلاثيَّ، وذلك أنّهم شبّهوا باء "عَقْرَبٍ"، وقاف "عَناقٍ"، ودال "سُعادَ"، وإن كنّ لاماتٍ أصولًا، بهاء التأنيث في "طلحة"، و"حمزة"، إذ كانت هذه الأسماءُ مؤنّثة، وكانت الباء والقاف والدال متجاوزةً للثلاثة التي هي أوّلُ الأصول، كتجاوُز الهاء في "طلحة" و"حمزة" الثلاثةَ. فكما أنّ هاء التأنيث لا تدخل عليها هاءٌ أخرى، كذلك منعوا الباء من "عقرب" ونحوِها أن يقولوا: "عُقَيْرِبَةٌ"، كما امتنعوا أن يقولوا في "حمزة": "حُمَيْزَتَةُ"، فيُدْخِلوا تأنيثًا على تأنيث. وإذا لم تظهر التاء في مصغّره لِما ذكرناه، عُلم تأنيثُه بالإسناد، نحو: "لسعتِ العقربُ"، و"رَضِعَتِ العَناقُ"، و"أقبلت سُعادُ". وقد يُعْلَم التأنيث بالصفة من نحو: "هذه عقربٌ مُؤذيَة"، و"عناقٌ رَضِيعَةٌ"، و"سعادُ الحسنةُ"، وقد يعلم أيضًا بتأنيث الخبر، من نحوِ: "العقربُ مؤذية" و"العناقُ رضيعةٌ"، و"سعادُ حسنةٌ"، فاعرفه. فصل [وجوه دخول تاء التأنيث علي الكلمة] قال صاحب الكتاب: ودخولها على وجوه: للفرق بين المذكر والمؤنث في الصفة كضاربة ومضروبة وجميلة، وهو الكثير الشائع, وللفرق بينهما في الاسم كامرأة وشيخة وإنسانة وغلامة ورجلة وحمارة وأسدة وبرذونة,
وهو قليل, وللفرق بين اسم الجنس والواحد منه، كتمرة وشعيرة وضربة وقتلة. وللمبالغة في الوصف, كعلامة ونسابة وراوية وفروقة وملولة. ولتأكيد التأنيث كناقة ونعجة. ولتأكيد معنى الجمع, كحجارة وذكارة وصقورة وخؤولة وصياقلة وقشاعمة. وللدلالة على النسب كالمهالبة والأشاعثة، وللدلالة على التعريب, كموازجة وجواربة. وللتعويض كفرازنة وجحاجحة. ويجمع هذه الأوجه إنها تدخل للتأنيث وشبه التأنيث. * * * قال الشارح: هذا الفصل يشتمل على أقسام تاء التأنيث وذِكْرِ مَظانّها، وهي تأتي في الكلام على عشرة أنواع: الأوّلُ: وهو أعمُّها أن تكون فرقًا بين المذكّر والمؤنّث في الصفات، نحو: "ضارِبٍ"، و"ضاربةٍ"، و"مضروب"، و"مضروبة"، و"مُفْطِر"، و"مفطرة". فجميعُ ما ذكرناه صفةٌ، وهو مأخوذ من الفعل، وما لم نذكره من الصفات فهذا حكمُه. الثاني: للفرق بين المذكّر والمؤنّث في الجنس، نحو: "امْرِىءٍ" و"امرأةٍ"، و"مَرْءٍ"، و"مَرْأَةٍ"، قال الله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} (¬1)، وقال: {امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا} (¬2)، وقالوا: "شَيْخٌ"، و"شَيْخَةٌ". قال الشاعر [من الطويل]: 802 - وتَضْحَكُ مِنِّي شَيْخَةٌ عَبْشَمِيَّةٌ ... كَأَنْ لم تَرَي قبلي أَسِيرًا يَمانِيَا ¬
وقالوا: "غُلامٌ"، و"غلامةٌ". قال أَوْسٌ الهُجَيْميّ يصف فَرَسًا [من الوافر]: 803 - بسَلْهَبَةٍ صَرِيحِيٍّ أَبُوها ... تُهانُ بها الغُلامةُ والغُلامُ وقالوا "رَجُلٌ"، و"رَجُلَةٌ". قال الشاعر [من المديد]: 804 - مَزَّقُوا جَيْبَ فَتاتِهِمِ ... لم يُبالُوا حُرْمَةَ الرَّجُلَهْ وكانت عائشَةُ، رضي الله عنها، "رَجُلَةَ الرَّأْيِ"، حكاه أبو زيد. وقالوا: "حِمارٌ"، و"الأتَانُ": حِمارَةٌ، واشتقاقه من الحُمْرَة؛ لأنْ الَغالب على حُمُر الوحش الحُمْرَةُ، ¬
وقالوا: "أَسَدٌ"، و"اللَّبُؤَةُ": أَسَدَةٌ، حكاه أبو زيد. وقالوا: "بِرْذَوْنٌ" للدابّة، قال الكِسائيّ: الأُنثى بِرذَوْنَةٌ، وأنشد [من الطويل]: 805 - أَرَيتَ إذا جالَتْ بك الخَيْلُ جَوْلَة ... وأَنْتَ على بِرْذَوْنَةٍ غيرِ طائِلِ وذلك قليل؛ لأنّ الأنثى لها اسمٌ تنفرد به، ومن ذلك دخولُها في العدد من نحو: "ثلاثة"، و"أربعة"، للفرق بين المذكّر والمؤنّث في الجنس، إلّا أنّه على نقيض تلك الطريقة؛ لِما ذكرناه في باب العدد. الثالث: أن تأتي للفرق بين الجنس والواحد، نحو: "تَمْرَةٍ" و"تَمْرٍ"، و"شَعِيرَةٍ"، و"شعير". وقد تقدّم القول إنّ بابه يكون في المخلوقات دون المصنوعات. ومن ذلك "ضَرْبَةٌ"، و"ضَرْبٌ"، و"قَتْلَةٌ"، و"قَتلٌ"؛ لأنّ الضرب جنسٌ يعُمّ القليلَ والكثيرَ، و"ضَرْبَةٌ" للمرّة الواحدة. ومن ذلك "بَطَّةٌ"، و"بَطٌّ"، و"حَمامةٌ"، و"حَمامٌ". وذكر أبو بكر بن السَّرّاج هذا القسمَ مُفرَدًا؛ لأنّه يقع في الحيوان للفرق بين الواحد والجمع. وهو داخلٌ في هذا الباب من هذه الجهة، وينفصل منه؛ لأنّه في الحيوان لا يراد له الفرقُ بين المذكّر والمؤنّث فى الجنس، كـ "مَرْءٍ"، و"مَرْأَةٍ". الرابعِ: أن تدخل للمبالغة في الصفة؛ مثلِ: "عَلّامَةٍ"، و"نَسّابَةٍ" للكثيرِ العِلْم والعالمِ بالأَنْساب، وقالوا: "راوِيَةٌ" للكثيرِ الرواية، يقال: "رجل راويةُ الشعْر"، ومن ذلك "بعيرٌ راويةٌ"، و"بَغْلٌ راويةٌ"، أي: يُكثَرُ الاستقاء عليه. ومنه "فَرُوقَةٌ"، يقال: "رجلٌ فَرُوقَةٌ" للكثير الفَرَق، وهو الخَوْف، وفي المَثَل "رُبَّ عَجَلَةٍ تَهَبُ رَيْثًا، ورُبَّ ¬
فَرُوقَةٍ يُدْعَى لَيثًا" (¬1). وقالوا: "مَلُولَةٌ" في معنى "المَلُول"، وهو الكثيرُ المَلَل. الخامس: أن تاتي لتأكيد التأنيث، وهو قليل، نحو: "ناقةٍ"، و"نَعْجَةٍ"، وذلك أنّ الناقة مؤنّثةً من جهة المعنى، لأنّها في مقابَلةِ "جَمَلٍ"، وكذلك "نعجةٌ" في مقابلة "كَبْشٍ"، فهو بمنزلة "عَناقٍ" و"أَتانٍ"، فلم يكن محتاجًا إلى عَلَم التأنيث، وصار دخولُ العَلَم على سبيل التأكيد؛ لأنّه كان حاصلاً قبل دخوله. السادس: أن تكون لتأكيد تأنيث الجمع؛ لأنّ التكسيرِ يُحْدِث في الاسم تأنيثًا، ولذلك يُؤنَّث فِعْلُه، نحو: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} (¬2)، فدخلت لتأكيده، نحو: "حجارَةٍ"، و"ذِكارَةٍ"، و"صُقُورَةٍ"، و"خُؤُولَةٍ"، و"عُمُومَةٍ"، و"صَياقِلَةٍ"، و"قَشاعِمَةٍ". السابع: أن تدخل في معنى النَّسَب، مثلِ: "المَهالِبة"، و"الأشاعِثة"، و"المَسامِعة"، الأصلُ: "مُهَلَّبِيّ"، و"أَشْعَثِيّ"، و"مِسْمَعِيّ"، فلمّا لم يأتوا بياء النسب؛ أتوا بالتاء عوضًا منها، فأفادت النسبَ، كما كانت تُفيده الياء في "مهلَّبيّ"، ونحوه. الثامن: أن تدخل الأعجميّة للدلالة على التعريب، نحوَ: "جَوارِبَةٍ"، و"مَوازِجَةٍ"، لأن "الجَوْرَب" أعجميٌ، و"الموازجةُ" جمع "مَوْزَجٍ"، وهو كـ"الجورب"، وهو معرَّب، وأصلُه بالفارسيّة "مُوزَه". التاسع: إلحاقها للعوض في الجمع الذي على زنةِ "مَفاعِيلَ"، نحو: "فَرازِنَةٍ"، و"جَحاجِحَةٍ" في جمع "فِرْزانٍ" (¬3)، و"جَحْجاحٍ" (¬4)، وقياسُه: "فَرازِينُ" و"جَحاجِيحُ"، فلمّا حذفوا الياء، وليست ممّا يُحذف؛ عوّضوا التاء منها. العاشر: إلحاقها في مثل "طلحةَ"، و"حمزة"، وهو في الحقيقة من باب "تمرةٍ"، و"تمرٍ". الطَّلْحُ: شجرٌ، وحمزةٌ: بَقْلَةٌ، ثمّ سُمّي بها. قال أنَسٌ: "كَناني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببقلةٍ كنتُ أجتنيها" (¬5)، وكان يُكْنَى أبا حَمْزَةَ، فإذا أتى من هذا شيءٌ، نُظر إلى أصله قبل النقل والتسمية، ليُعْلَم من أيّ الأقسام هو. قال: "ويجمع هذه الأنواعَ أنّها تدخل للتأنيث وشَبَهِ التأنيث"، يريد أنّ الأصل في إلحاق التاء للفرق بين المذكّر والمؤنّث الحقيقيّ، وإلحاقُها فيما عدا ذلك على جهة الشبه ¬
فصل [مجيء تاء التأنيث منفصلة وغير منفصلة]
والتفريع على هذا الأصل. فمن ذلك إلحاقُها للفرق بين الواحد والجمع؛ فلأنّ الجمع لمّا كان اسمًا للجنس، كان أصلاً من هذا الوجه، ثمّ احتيج إلى إفراد الواحد من الجنس، فكان فَرْعًا على ذلك الأصل، فلحقَتْه العلامةُ بهذه العلّة. فجميعُ ما لحقته التاء، فهو تفريعٌ على أصلِ تأنيث، كتفريع المؤنّث على المذكّر، فاعرفه. فصل [مجيء تاء التأنيث منفصلة وغير منفصلة] قال صاحب الكتاب: والكثير فيها أن تجيء منفصلة, وقل أن يُبنى عليها الكلمة ومن ذلك عباية وعظاية وعلاوة وشقاوة. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إنّ تاء التأنيث في حكم المنفصلة؛ لأنّها تدخل على اسم تامٌ، فتُحْدِث فيه التأنيثَ، نحوَ: "قائم"، و"قائمة"، و"امرىء"، و"امرأة"، فهي لذلك بمنزلةِ اسم ضُمّ إلى اسم. هذا هو الكثيرُ فيها، والغالبُ عليها، وقد دللنا على ذلك فيما تقدّم. وقد تأتي لازمةً كالألف، كأنّ الكلمة بُنيت على التأنيث، ولم يكن لها حظٌّ في التذكير، فهي كحرف من حروف الاسم صِيغَ عليه. فأمّا "عَبايَةٌ"، و"عَظايَةٌ"، و"صَلايَةٌ"، فإنّه قد ورد فيها الأمران: تصحيحُ الياء وقلبُها همزة. فأمّا التصحيح فيها، فإنّه لمّا بُنيت الكلمة على التأنيث، وتنزلت التاءُ فيها منزلةَ ما هو من نفس الكلمة، قويت الياء لبُعْدها عن الطرف ووقوعِها حَشوًا، فصحّت، ولم تُهْمَز، ومثلُ ذلك "قمَحْدُوَةٌ"، و"تَرْقُوَةٌ"، و"عَرْقُوَةٌ". فلولا بناء الكلمة على التأنيث، لوجب قلبُ الواو فيها ياءً، لوقوعها طرفًا في الحكم وانضمامِ ما قبلها. وأمّا من أَعَلَّ الياء وهَمَزَ؛ فإنّه بنى الواحدَ على الجمع. فلمّا كانوا يقولون في الجمع: "عَظاءٌ"، و"عَباءٌ"، و"صَلاءٌ"، فيلزمهم إعلالُ الياء لوقوعها طرفًا، فإذا أرادوا إفرادَ الواحد من الجنس، أدخلوا عليه تاء التأنيث، كما فعلوا في "تَمْر"، و"تَمْرة"، وقدّروها منفصلةً، فثبتت الهمزةُ لذلك بعد دخول التاء، كما كانت ثابتةً قبل دخولها. وأمّا "نِهايَةٌ"، و"غَباوةٌ"، و"شقاوةٌ" و"سقاية"؛ فاقتصروا فيها على التصحيح، لأنّها كِلَمٌ بُنيت على التأنيث، ولم يقدِّروها منفصلة، ألا ترى أنّهم لم يقولوا في الجمع: "نهاءٌ"، ولا "غباءٌ"، ولا "شقاءٌ"، فيلزمَ الإعلالُ كما لزم في "عباء"، و"عظاء"، وصار نظيرَ قولهم: "عقلتُه بثِنايَين" في أنّ الكلمة مبنيّةٌ على التثنية، ولذلك لم يهمزوا كما همزوا في "كِساءٍ"، و"رِداءٍ".
فصل [مجيء تاء التأنيث للجمع]
فصل [مجيء تاء التأنيث للجمع] قال صاحب الكتاب: وقولهم: "جمالة" في جمع "جمال" بمعنى جماعة جمالة، وكذلك بغالة وحمارة وشاربة وواردة وسابلة, ومن ذلك البصرية والكوفية والمروانية والزبيرية، ومنه الحلوبة والقتوبة والركوبة. قال الله تعالى: {فمنها ركوبهم} (¬1) وقرئ: "ركوبتهم" (¬2)؛ وأما "حلوبة" للواحد, و"حلوبٌ" للجمع, فكـ "تمرة" و"تمر". * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذه الصفات فيها ضربٌ من النَّسَب، وإن لم يكن فيها ياء النسب، فقالوا لصاحب الجِمال: "جَمَّالٌ"، ولصاحب البِغال: "بَغّالٌ"، ولصاحب الحُمُر: "حَمّارٌ"، وهو الذي يعمل عليها ويُباشِرها، وإن لم يكن مالِكَها. وذلك كثيرٌ فيما كان صنعة تكثُر مُعالَجتُها، نحوَ: "صَرّافٍ"، و"عَوّاجٍ"، للذي يُكْثِر الصَّرْف وبَيْعَ العاج، لأن "فَعالاً" للتكثير، وصاحبُ الصنعة مُلازِمٌ لصنعتة مُداوِمٌ عليها؛ فجُعل له البناءُ الدالُّ على التكثير كـ "البَزّاز"، و"العَطّار"، فإذا أرادوا الجمع، ألحقوها التاء، فقالوا: "جَمّالة"، و"بغّالة"، و"حمّارة"، فأنّثوا لفظه على إرادة الجماعة؛ لأنّ الجماعة مؤنّثة، فكأنّهم قالوا: "جماعة جمّالة وبغّالة وحمّارة"، ومثلُه "شارِبة"، و"وارِدة"، و"سابِلة"، فالشارِبةُ: الجماعة على ضَفَّة النهر، ولهم ماؤُه، والواردةُ والسابلةُ: أبناء السبيل، والتأنيثُ على إرادة: الجماعة الشاربة والواردة والسابلة. وكذلك المنسوب قد يؤنَّث على إرادة الجماعة، كـ "البصريّة"، و"المَرْوانيّة"، في المنسوب إلى مَرْوانَ بن الحَكَم، و"الزُّبَيْريّة" في المنسوب إلى الزُّبَيْر، ومثلُه "الحَلُوبة"، و"القَتُوبة"، و"الركُوبة"، فإنّ الباب فيما كان على "فَعُولٍ" أن لا يُؤتَى فيه بعلامةِ تأنيث؛ لأنّه ليس بجارٍ على الفعل. ويستوي فيه الذّكَرُ والأُنثى، فيقال: "رجل صَبُورٌ"، و"امرأةٌ صبورٌ"، و"رجلٌ غدورٌ"، و"امرأةٌ غدور"، إلّا أنّهم قالوا: "رجل مَلُولَةٌ"، وهو الكثيرُ المَلَل، وهو السآمَة، و"امرأةٌ ملولةٌ"، وقالوا: "رجل فَرُوقَةٌ وامرأة فروقة" على معنى المبالغة، كما قالوا: "نَسّابة"، و"عَلّامة"، وقالوا: "حَمُولةٌ"، و"قتوبةٌ"، و"ركوبةٌ"، يريدون أنّها ممّا يُحْمَل عليها، وتُقْتَب، وتُرْكَب، فهي متّخَذةٌ لذلك، وإن لم يقع بها ¬
فصل [مذهب البصريين والكوفيين في نحو "حائض"]
الفعلُ، فهي كـ "الذَّبِيحَة"، و"الضَّحِيَّة"، في أنّها مُعَدَّةٌ لذلك. وقال أبو الحسن: إنّما قالوا: "حمولةٌ" حيث أرادوا التكثير، كما قالوا: "نَسّابةٌ"، وَ"راوِيةٌ"، ودخلها معنى الجمع على إرادة الجماعة، فاعرفه. فصل [مذهب البصريين والكوفيين في نحو "حائض"] قال صاحب الكتاب: وللبصريين (¬1) في نحو: "حائض" و"طامث" وطالق مذهبان, فعند الخليل (¬2) أنه على معنى النسب كـ "لابن" و"تامر"، كأنه قيل: "ذات حيض وذات طمث"، وعند سيبويه (¬3) أنه متأول بإنسان أو شيء حائض كقولهم: "غلام ربعة ويفعة" على تأويل نفس وسلعة؛ وإنما يكون ذلك في الصفة الثابتة، فأما الحادثة فلا بد لها من علامة التأنيث، تقول: "حائضةٌ وطالقة الآن أو غدًا" ومذهب الكوفيين (¬4) يبطله جري "الضامر" على الناقة والجمل، والعاشق على المرأة والرجل. * * * قال الشارح: اعلم أنّهم قالوا: "امرأة طالِقٌ، وحائِضٌ وطامِثٌ وقاعِدٌ" للآيسَة من الحَيْض، و"عاصفٌ"، في وصف الرِيح من قوله تعالى: {جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} (¬5)، فلم يأتوا فيه بالتاء وإن كان وصفًا للمؤنّث؛ وذلك لأنّه لم يجر على الفعل. وإنّما يلزم الفرقُ ما كان جاريًا على الفعل؛ لأنّ الفعل لا بدّ من تأنيثه إذا كان فيه ضميرُ مؤنّث حقيقيًّا كان أو غيرَ حقيقيّ، نحوَ: "هندٌ ذهبتْ"، و"مَوْعِظةٌ جاءتْ". فإذا جرى الاسم على الفعل، لزمه الفرقُ بين المذكّرِ والمؤنّث، كما كان كذلك في الفعل. وإذا لم يكن جاريًا على الفعل، كان بمنزلة المنسوب، فـ "حائضٌ" بمعنى: حائِضِىّ، أي: ذات حَيْضٍ، على حدّ قولهم: "رجلٌ دارعٌ"، أي: دِرْعِيٌّ بمعنى "صاحبِ دِرْع". ألا ترى أنّك لا تقول: "دَرعَ"، فتُجْريَه على "فَعِلَ". إنّما قولُك: "دارعٌ": أي: ذو دُرُوعٍ، و"طالقٌ"، أي: ذات طَلاقٍ، أي: أنّ الطلاق ثابتٌ فيها. ومثله قولهم: "مُرْضِعٌ"، أي: ذات رِضَاعٍ. ومنه قوله تعالى: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} (¬6)، أي: ذات انفطارٍ. ¬
وليس ذلك على معنى "حَاضَتْ"، و"انْفَطَرَتْ"، إذ لو أريد ذلك، لأتوا بالتاء، وقالوا: "حائضةٌ غَدًا وطالِقَةٌ غدًا"؛ لأنّه شيءٌ لم يثبت، وإنّما هو إخبارٌ على طريق الفعل، كأنّك قلت: "تحيض غدًا، وتَطْلُق غدًا" ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} (¬1) وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} (¬2) وقول الشاعر [من الطويل]: 806 - رأيتُ ختونَ (¬3) العامِ والعامُ قبلَهُ ... كحائِضَةٍ يَزْنِي بها غيرُ طاهِرِ وذلك كلّه يجري على الفعل على تقديرِ "حاضَتْ"، و"طلُقتْ"، هذا مذهب الخليل. وسيبويه يتأوّل على أنّه صفةُ شَيءٍ أو إنْسَانٍ، والشَّيْء مذكّرٌ، فكأنّهم قالوا: "شيءٌ حائضٌ"؛ لأنّ الشيء عامٌّ يقع على المذكّر والمؤنّث. واحتجّ الخليلُ بأنّه قد جاء فيما لا يختصّ بالمؤنّث، نحو: "جَمَلٍ بازلٍ"، و"ناقةٍ بازلٍ" ووجدناهم قد وصفوا بأشياء لا فِعْلَ لها، نحو: "دارعٍ"، و"نابلٍ"، ولا وجهَ له إلّا النسبُ، فحملوا عليه "حائضًا"، و"طالِقًا"، ونحوَهما، وكأنّ المعنى ساعَدَ عليه. وأمّا سيبويه، فاحتجّ بأنّه لمّا ورد ذلك فيما يشترِك فيه المذكّرُ والمؤنّث؛ كان الحمل على المعنى مَهْيَعًا مُعبَّدًا، نحو قوله [من السريع]: 807 - قامَتْ تُبَكِّيهِ على قَبْرِهِ ... مَنْ لِيَ مِنْ بَعْدِكَ يا عامِرُ تَرَكْتَنِي في الدار ذَا غُرْبَةٍ ... قد ذَلَّ مَن ليس له ناصِرُ ¬
ولم يقل: "ذات غربة"، كأنّه حمله على "إنسانٍ ذي غربة"؛ لأنّ المرأة إنسانٌ، فكذلك قالوا: "حائضٌ" على معنى: شَيْءٍ حائضٍ، لأنّ المرأة شيءٌ وإنسانٌ. واعلم أن "حائضًا"، و"طاهِرًا"، ونحوهما إذا سقط منها التاء على التأويل المذكور، فإنّه مذكرٌ، وليس ذلك من قبيل المؤنث المعنويّ من نحو: "نَعْلٍ"، و"سُوقٍ"، و"دارٍ"، اللاتى التاء مرادةٌ فيها، والذي يدلّ على ذلك أنّا لو سمّينا رجلاً بـ "حائض" أو "طاهر"، لصرفنا. ولو كان مؤنّثًا، لم ينصرف كما لو سمّينا بـ "سُعاد"، و"زَيْنَب"، وذلك نصٌّ من سيبويه (¬1). ويدلّ على تذكيره أيضًا أنّ التاء قد تدخله على الحدّ الذي وصفناه، وإنّما وُصف المؤنّث بالمذكّر على التأويل على حدّ وصف المذكّر بالمؤنّث، كقولهم: "رجلٌ رَبْعَةٌ، ونُكْحَةٌ، ولُعْنَةٌ، وهُزْأَةٌ". وذهب الكوفيون إلى أنّ سقوط التاء من هذه الأشياء؛ لأنّها معانٍ مخصوصٌ بها المؤنّث، فاستغني عن علامة التأنيث، إذ العلامةُ إنّما يُؤتَى بها عند الاشتراك في المعنى للفصل؛ فأمّا إذا لم يكن هناك اشتراك، فلا حاجةَ إلى علامة. ورأيتُ ابن السكِّيت قد عَلَّلَ بذلك في إصلاحه. وهو يَفْسُد من وجوهٍ: ¬
فصل [ما يستوي فيه المذكر والمؤنث]
أحدُها: أنّ ذلك لم يطّرِد فيما كان مختصًّا بالمؤنّث، بل قد جاء أيضًا فيما يشترِك فيه الذكَرُ والأنثى، قالوا: "جملٌ بازلٌ"، و"ناقة بازل"، و"جمل ضامر"، و"ناقة ضامر". قال الأعشى [من السريع]: 808 - عَهْدِي بها في الحَيّ قد سُرْبِلَت ... هَيْفَاءَ مِثلَ المُهْرَةِ الضامرِ فإسقاط العلامة ممّا يشترك فيه القبيلان دليلٌ على فَسادِ ما ذهبوا إليه، وإن كان أكثرُ الحذف إنّما وقع فيما يختصّ بالمؤنّث. الثاني: أنّه ينتقض ما ذهبوا إليه بقولهم: "مُرْضعَةٌ"، بإثبات التاء فيما يختصّ بالمؤنّث. الثالث: أنّ التاء مُلْحَقٌ مع فعل المؤنّث، نحو: "حاضت المرأةُ"، و"طلُقت الجاريةُ"، ولو كان اختصاصُه بالمؤنّث يكفي فارقًا، لم يفترق الحالُ بين الصفة والفعل، فاعرفه. فصل [ما يستوي فيه المذكر والمؤنث] قال صاحب الكتاب: ويستوي المذكر والمؤنث في فعول ومفعال ومفعيل وفعيل بمعنى مفعول ما جرى على الاسم. تقول: "هذه المرأة قتيل بني فلان", و"مررت بقتيلهم". وقد يشبه به ما هو بمعنى فاعل، قال الله تعالى: {إن رحمة الله قريب من المحسنين} (¬1). وقالوا: "ملحفةٌ جديد". * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذه الأمثلة من الصفات يستوي في سقوط التاء منها المذكّر ¬
فصل [حكم الفعل المسند إلي الجمع في التذكير والتأنيث]
والمؤنّث، فيقال: "رجلٌ صَبُورٌ وشَكُورٌ" و"امرأةٌ صبورٌ وشكورٌ". وكذلك قالوا: "امرأةٌ مِعْطارٌ" للّتي تُكْثِر من استعمال الطيب، و"مِذْكارٌ" للّتي عادتُها أن تلد الذكورَ، و"مِئْناثٌ"، للّتي عادتُها أن تلد الإناثَ. وقالوا: "مِنْطِيقٌ" للبليغ، و"مِعْطِيرٌ"، بمعنى العَطّار. وقالوا: "امرأةٌ جَرِيحٌ"، و"قَتِيلٌ". فهذه الأسماءُ إذا جرت على موصوفها، لم يأتوا فيها بالهاء، وإذا لم يذكروا الموصوف، أثبتوا الهاء خَوْفَ اللبس، نحو: "رأيتُ صبورةً، ومعطارةً، وقتيلةَ بني فلانٍ"، فهذا معنى قوله: "ما جرى على اسم"، أي: ما تقدَّمها موصوفٌ. فأمّا "فَعُولٌ"، و"مِفْعالٌ"، و"مِفْعِيلٌ"، فأمثلةٌ معدولٌ بها عن اسم الفاعل للمبالغة، ولم تَجْرِ على الفعل، فجرت مجرى المنسوب، نحو: "دارع"، و"نابلٍ"، فلم يُدْخِلوا فيها الهاء لذلك. وقد شذّ نحو: "مِعْزابَةِ" إذا كان يعزُب بإبله في المَرْعَى، فيُبْعِدها عن الناس لعِزّته وقُدْرته. ومثلُه "مِطْرابَةٌ" للكثير الطرَبِ، و"مِجْذامَةٌ" للسريع في قطع المَوَدّة. وأمّا "فَعِيلٌ" بمعنى "مَفْعولٍ"، فنحو: "كَفٍّ خَضِيبٍ"، و"عَيْنٍ كَحِيلٍ"، فإنّه أيضًا يستوي في حذف التاء منه المذكّرُ والمؤنَّثُ؛ وذلك لأنّه معدولٌ عن جهته، إذ المعنى كَفٌّ مخضوبةٌ بالحِنّاء، وعينٌ مكحولةٌ بالكُحْل، فلمّا عدلوا عن "مَفْعول" إلى "فَعيل"؛ لم يُثْبِتوا التاء ليفرقوا بينه وبين ما لم يكن بمعنى "مَفْعول"، من نحو: "كَرِيمَة"، و"جميلة". وقد شبّهوا "فعيلاً" التي بمعنى "فاعل" بالّتي بمعنى "مفعول"، فأسقطوا منها التاء. فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} (¬1)، وهو بمعنى: مُقْتَرِبٍ، شبّهوه بـ "قَتِيلٍ" ونحوه. وقيل: إنّما أُسقطت منه التاء؛ لأنّ الرَّحْمَة والرُّحْم واحدٌ، فحملوا الخبر على المعنى، ويؤيّده قوله تعالى: {هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي} (¬2). فأمّا قولهم: "مِلْحَفَةٌ جديدٌ"، فقال الكوفيون: هي "فَعيلٌ" بمعنى "مَفْعول"، أي: مجدودة، وهي المقطوعة عن المِنْوال عند الفَراغ من نَسْجها. وقال البصريون: هي بمعنى "فاعِلة"، أي: جَدَّتْ. يقال: "جَدَّ الشيء يجِدّ إذا صار جديدًا"، وهو ضدُّ الخَلَق، فسقوطُ الهاء عندهم شاذّ مشبَّهٌ بالمفعول. ومن ذلك "رِيحٌ خَرِيقٌ"، أي: شديدةُ الهُبوب، كأنّها تخرِق الأرض. قال الشاعر [من الوافر]: كأنّ هُبُوبَها خَفَقانُ رِيحٍ ... خَرِيقٍ بين أعْلامٍ طِوالِ (¬3) ومنه "شاةٌ سَدِيسٌ"، أي: بلغت السنةَ السادسةَ. فصل [حكم الفعل المسند إلي الجمع في التذكير والتأنيث] قال صاحب الكتاب: وتأنيث الجمع ليس بحقيقي؛ ولذلك اتسع فيما أُسند إليه ¬
إلحاق العلامة وتركها, تقول: "فعل الرجال, والمسلماتُ والأيامُ" وفعلت. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إنّ الجمع يُكْسِب الاسمَ تأنيثًا؛ لأنّه يصير في معنى الجماعة، وذلك التأنيثُ ليس بحقيقيّ؛ لأنّه تأنيثُ الاسم لا تأنيثُ المعنى، فهو بمنزلة "الدار" و"النعْل" ونحوهما، فلذلك إذا أُسْند إليه فعلٌ، جاز في فعله التذكيرُ والتأنيثُ. فالتأنيث لِما ذكرناه من إرادة الجماعة، والتذكيرُ على إرادة الجمع، ولا اعتبارَ بتأنيث واحده أو تذكيرِه. ألا تراك تقول: "قامت الرجالُ"، و"قام النساء"، فتُؤنِّث فعلَ "الرجال" مع أنّ الواحد منه مذكّرٌ، وهو "رجلٌ"، وتُذكّر فعلَ "النساء" مع أنّ الواحد "امرأةٌ". قال الله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ} (¬1) {وَقَالَ نِسْوَةٌ} (¬2). ولا فرق بين العُقلاء وغيرهم، فـ "الرجالُ" و"الأيّام" في ذلك سواءٌ؛ لأنّ التأنيث للاسم لا للمسمّى. والكوفيون يزعمون أنّ التذكير للكثرة، والتأنيث للقلّة. ويؤيّد عندك أنّ تأنيث الجمع ليس بحقيقي أنّك لو سمّيت رجلاً "كِلابًا"، أو "كِعابًا"، أو "فُلُوسًا"، أو "عُنُوقًا"، لصرفتَه. ولو كان تأنيثُه حقيقيًا، لكان حكمُه حكم "عقربٍ" إذا سُمّي به، و"سُعادَ" في الصرف. والجمع على ضربَيْن: مكسّرٌ وصحيحٌ. واعلم أنّ الجموع تختلف في ذلك، فما كان من الجمع مكسّرًا، فأنتَ مخيَّرٌ في تذكير فعله وتأنيثه، نحو: "قام الرجال"، و"قامت الرجال" من غيرِ ترجيح؛ لأنّ لفظ الواحد قد زال بالتكسير، وصارت المعاملةُ مع لفظ الجمع، فإن قدّرتَه بالجمع، ذكّرته، وإن قدّرتَه بالجماعة، أنّثته. قال الشاعر [من الكامل]: 809 - أَخَذَ العَذارَى عِقْدَها فنَظَمْنَهُ ... [مِن لُؤلُؤٍ مُتَتابِعٍ مُتَسَرِّدِ] ¬
وقال الراجز: 810 - إذا الرِّجال وَلَدَتْ أَولادُها ... واضطَرَبَتْ مِن كِبَرِ أَعْضادُها وَجَعَلَت أَوْصابُها تَعْتادُها ... فَهْيَ زُرُوعٌ قد دَنَا حَصَادُها وما كان منه مجموعًا جمعَ السلامة، فما كان منه لمؤنّثٍ، نحو: "المسلمات" و"الهندات"، كان الوجه تأنيثَ الفعل، وإن كان الجمع للمذكّرين بالواو والنون؛ فالوجهُ تذكير الفعل فيه، نحو: "قام الزيدون". وإنّما كان الوجه فيما كان مؤنّثًا تأنيثَ الفعل، لرجَحان التأنيث فيه على التذكير. وذلك أنّ التأنيث فيه من وجهَيْن: من جهةِ أنّ الواحد مؤنّثٌ، وهو باقٍ على صيغته، وهو مع ذلك مقدّرٌ بالجماعة، والتذكيرُ من جهة واحدة، وهو تقديره بالجمع. وجمعُ المذكّر بالعكس، التذكيرُ فيه من جهتَين: من جهةِ أنّ الواحد ¬
[حكم الفعل المسند إلي ضمير الجمع في التذكير والتأنيث]
باقٍ وهو مذكّر، والثاني أنّه مقدّرٌ بالجمع، وهو مذكّر، والتأنيثُ من جهة واحدة، وهو تقديره بالجماعة، فرجَحَ على التأنيث. وقد ذكّر بعضهم الأوّل وهو قليل قرأ حمزةُ والكسائيّ وابن عامرٍ {قَبْلَ أَنْ يَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} (¬1) بالياء. وقال الشاعر [من الطويل]: 811 - وقام إلَيَّ العاذِلاتُ يَلُمْنَنِي ... يَقُلْنَ: أَلَا تَنْفَك تَرْحَلُ مَرْحَلا وقد أنّث بعضهم الثاني، وهو من قبيل الضرورة. قال الشاعر [من البسيط]: قالت بنو عامرٍ خالوا بني أَسَدٍ ... يا بُؤْسَ للحَرْب ضَرّارًا لأقوامِ (¬2) فاعرفه. [حكم الفعل المسند إلي ضمير الجمع في التذكير والتأنيث] قال صاحب الكتاب: وأما ضميره فتقول في الاسناد إليه: "الرجال فعلت, وفعلوا"، و"المسلمات فعلت, وفعلن" وكذلك "الأيام" قال [من الكامل]: 812 - وإذا العذارى بالدخان تقنّعت ... واستعجلت نصب القدور فملَّتِ * * * ¬
قال الشارح: قوله: و"أمّا ضميره" يريد ضمير الجمع، فإذا أُسند فعلٌ إلى ضمير الجمع؛ فلا يخلو الجمعُ من أن يكون مكسّرًا، أو غيرَ مكسّر. فإن كان مكسّرًا وكان المذكّرُ ممّن يعقل، نحو: "الرجال" و"الغِلْمان"؛ كان لك فيه وجهان: أحدهما أن تُلْحِقه تاء التأنيث، نحو: "الرجالُ قامت"، فتُؤنِّثه، وتُفْرِده؛ لأنّه يرجع إلى تقدير الجماعة، وهي حقيقة واحدةٌ مؤنّثة. ويجوز أن يرجع إلى اللفظ، وهو جمعُ مذكّرٍ عاقلٍ، فتظهر علامة ضميره بالواو، نحو: "الرجالُ قاموا"؛ لأنّ الواو للمذكّرين ممّن يعقل؛ فأمّا قوله [من الطويل]: 813 - شَرِبْتُ بها والدِّيكُ يَدْعُو صَباحَه ... إذا ما بَنُوا نَعْشٍ دَنَوْا فتَصَوَّبُوا ¬
فإنّه كان ينبغي أن يقول: "دَنَتْ" على تقدير علامة الجماعة، أو: "دَنَوْنَ"؛ لأنّه جمعٌ لِما لا يعقل، إلّا أنّه أجراها مجرَى من يعقل إذ كان دَوْرُها يجري على تقديرٍ لا يختلف، وصار كقصد العاقل لشيءٍ يعلمُه، فلذلك جمعها بالواو والنون، فقال: "بنو نعش"، ولم يقل: "بنات نعش"؛ فإذًا عاد الضميرُ بالواو على حدّ جَمْعه إيّاه. ومثله قوله تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ} (¬1)، لمّا أخبر عنهنّ بالخطاب الذي يختصّ بمن يعقل؛ جمعها بالواو المختصّة بمن يعقل. وإن كان المكسّر لغير أولى العقل؛ نحو: "الأيّام"، و"الحُمُر"، فلك فيه وجهان: أحدهما: أن تُلْحِق الفعلَ التاء، فتقول: "الأيّامُ فعلتْ"، على تقدير جماعة الأيّام، وإن شئت، قلت: "فَعَلْنَ"؛ لأنّ الأيّام ممّا لا يعقل. فجمعُه وضميرُ جمعه كالمؤنّث، وإن كان مذكّرًا، نحو: "ثِيابُك مُزِقنَ"، و"جِمالُك أَقْبَلْنَ". قال الشاعر [من الطويل]: 814 - وإن تكنِ الأيّامُ فَرَّقْنَ بَيْنَنَا ... فَقَدْ بَانَ مَحْمُودًا (¬2) أَخِي يَوْمَ وَدَّعَا ¬
والذي يؤيد عندك أنّ ما لا يعقل يجري عندهم مجرى المؤنّث أنّك إذا صغّرتَ نحو: "جمالٍ"، و"دراهم"؛ فإنّك تردّه إلى الواحد، ثمّ تجمعه بالألف والتاء كالمؤنّث، فتقول في تصغير "جمال"، و"دراهم": "جُمَيلاتٌ"، و"دُرَيْهِماتٌ". والمؤنّث السالم نحو: "الهندات"، تقول: "الهنداتُ قامت" على معنى الجماعة، و"قُمْنَ"، على اللفظ، وكذلك مكسّرُه، نحو: "الهُنُودُ قامت"، و"قمن" إن شئت. فأمّا قولُ الشاعر [من الكامل]: وإذا العذارى ... إلخ البيت لسُلْمَى بن رَبِيعَةَ الضَّبّيّ، والشاهد فيه قوله: "تقنّعت، ومَلَّتْ" حيث كان عائدًا إلى "العذارى"، و"العَذارَى" جمعُ "عَذْراءَ"، وهي البِكْر. يصف إكرامَ أهله الضُّيُوفَ، وأنّه لفرط إكرامهم تُباشِر الصَّبِيّاتُ الأبكارُ ما يباشره الإماءُ (¬1)، وأمّا الجمع المذكّر السالم، فمضمرُه بالواو، نحو: "الزيدون قاموا" لا غيرُ. * * * قال صاحب الكتاب: وعن أبي عثمان: العرب تقول: "الأجذاع انكسرن" لأدنى العدد, و"الجذوع انكسرت". ويقال: "لخمس خلون", و"لخمس عشرة خلت"، وما ذاك بضربة لازب. * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذا الشيء قد استعملْته العربُ استحسانًا للفرق بين القليل والكثير، فيقولون: "الأجْذاع انكسرن"، و"الجذوع انكسرت"، فيؤنّثون الكثير بالتاء والقليل بالنون، ومنه قولهم في التأريخ: "لخمس خَلَوْنَ"، و"أربعٍ بَقِينَ"، و"لخمسَ عشرةَ خلتْ"، و"لثلاثَ عشرةَ بقيتْ". وقد قيل في تعليلِ ذلك أقوالٌ: أقربُها ما ذهب إليه الجُرْجانيّ، وهو أنّ التأنيث فيها لمعنى الجماعة، والكثرةُ أذهبُ في معنى الجمعيّة من القلّة، والتاء حرفٌ مختصٌّ ¬
فصل [حكم صفة اسم الجمع في التذكير والتأنيث]
بالتأنيث، فجُعلت علامة فيما كان أذهبَ في معنى الجمعيّة، والنونُ فيما هو أقلُّ حَظًّا في الجمعيّة؛ لأنّ النون لا ترد للتأنيث خصوصًا، وإنّما ترد على ذواتٍ صفتُها التأنيث. والذي عندي في ذلك أنّ بناء القلّة قد جرى عليه كثيرٌ من أحكام الواحد. من ذلك جوازُ تصغيرها على ألفاظها من نحو: "أُجَيْمالٍ"، و"أُثَيّابٍ". ومنها جوازُ وصف المفرد به من نحو: "بُرْمَةٍ أكْسارٍ"، و"ثَوْبٍ أَسْمالٍ". ومنها عود الضمير إليه مفردًا من قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ} (¬1). فلمّا غلبت على القلّة أحكامُ المفرد؛ عبّروا عنها في التأنيث بالنون المختصّة بالجمع، لئلّا يُتوهّم فيها الإفرادُ. وقوله: "وما ذاك بضَرْبةِ لازِبٍ" يريد: بأَمْرٍ ثابتٍ يلزمك أن تأتي به، بل أنتَ مخيَّرٌ إن أتيتَ به، فحَسَنٌ؛ وإن لم تأت به، فعربيٌّ جيّدٌ، وهو من قولهم: "لَزَبَ الشيء يَلْزُبُ لُزُوبًا" إذا ثبت، و"لازِبٌ" أفصحُ من "لازِمٍ". فصل [حكم صفة اسم الجمع في التذكير والتأنيث] قال صاحب الكتاب: ونحو "النخل" و"التمر" مما بينه وبين واحده التاء يذكر ويؤنث قال الله تعالى: {كأنهم أعجاز نخل خاوية} (¬2) وقال: {منقعر} (¬3). ومؤنث هذا الباب لا يكون له مذكر من لفظه لالتباس الواحد بالجمع. وقال يونس: فإذا أرادوا ذلك؛ قالوا: "هذه شاةٌ ذكرٌ", و"حمامةٌ ذكرٌ". * * * قال الشارح: قد تقدّم أنّ هذا الضرب من الجمع ممّا يكون واحدُه على بنائه من لفظه، وتلحقه تاء التأنيث ليُبيَّن الواحد من الجمع، فإنّه يقع الاسمُ فيه للجنس كما يقع للواحد، فإذا وصفتَه، جاز في الصفة التذكيرُ على اللفظ؛ لأنّه جنسٌ مع الإفراد، والتأنيثُ على تأويل معنى الجماعة. وذلك نحو قوله تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} (¬4) و {مُنْقَعِرٍ} (¬5). ويجوز جمع الصفة مكسَّرًا ومصحَّحًا، نحو قوله تعالى: {السَّحَابَ الثِّقَالَ} (¬6)، وقال تعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} (¬7). ويقع على الحيوان كما يقع على غيره من نحو: "حَمامةٍ"، و"حَمامٍ"، و"بَطَّةٍ"، و"بَطٍّ"، و"شاةٍ"، و"شاءٍ". ولا يُفْصَل بين مذكّره ومؤنّثه بالتاء؛ لأنّك لو قلت للمؤنّث: "حمامةٌ"، وللمذكّر: "حمامٌ"؛ لالتبس بالجمع، فتَجنَّبوه لذلك، واكتفوا بالصفة. فإذا ¬
فصل [الأبنية التي تلحقها ألف التأنيث المقصورة]
أرادوا الذكر، قالوا: "حمامةٌ ذَكرٌ"، و"شاةٌ ذكرٌ"، وكذلك إذا أرادوا الأنثى؛ قالوا: "حمامةٌ أُنْثَى"، و"شاةٌ أنثى". حكى ذلك يونسُ، فاعرفه. فصل [الأبنية التي تلحقها ألف التأنيث المقصورة] قال صاحب الكتاب: والأبنية التي تلحقها ألف التأنيث المقصورة على ضربين: مختصةٌ بها, ومشتركةٌ. فمن المختصة "فُعلى", وهي تجيء على ضربين: إسماً وصفة. فالاسم على ضربين: غير مصدر كـ "البهمى", و"الحمى", و"الرؤيا", و"حزوى"، ومصدرٌ كـ "البشرى", و"الرجعى". والصفة نحو: "حُبلى", و"خُنثى", و"رُبى". * * * قال الشارح: لمّا فرغ من الكلام على المؤنّث بالتاء، انتقل إلى الكلام على المؤنّث بالألف. وألفُ التأنيث على ضربَيْن مقصورة وممدودة. ومعنى قولنا: "مقصورة" أن تكون مفردة ليس معها ألفٌ أخرى، فتُمَدَّ، إنّما هي ألف واحدة ساكنة في الوصل والوقف، فلا يدخلها شيء من الإعراب لا رفعٌ ولا نصبٌ ولا جرٌّ، كأنّها قُصرَتْ عن الإعراب كلّه؛ من القَصْر؛ وهو الحَبْس. والألفُ تُزاد آخِرًا على ثلاثة أضرب: أحدها: أن تكون للتأنيث، والثاني: أن تكون مُلْحِقةً، والثالث: أن تكون لغير تأنيث، ولا إلحاقٍ، بل لتكثير (¬1) الكلمة وتَوْفِير لفظها. والفرقُ بين ألف التأنيث وغيرها أنّ ألف التأنيث لا تُنوَّن نكرةً، نحو: "حُبلَى"، و"دُنْيَا"، ويمتنع إدخال علم التأنيث عليها، فلا يقال: "حُبْلاةٌ"، ولا "دُنْياةٌ"؛ لئلّا يُجْمَع بين علامتَي تأنيث. والضربان الآخَران يدخلهما التنوينُ، ولا يمتنعان من علم التأنيث من نحو: "أَرْطى"، و"مِعْزى"، فـ "أَرْطى" ملحقٌ بـ "جَعْفَرٍ"، و"سَلْهَبٍ"، و"مِعْزى"، ملحق بـ "دِرْهَمٍ" و"هِجْرَعٍ". والذي يدلّ على ذلك أنّك تنوّنه، فتقول: "أرطَى" و"معزًى"، وتُدْخِلهَما تاء التأنيث للفرق بين الواحد والجمع من نحو: "أَرْطاةٍ". وأمّا الثالث فهو إلحاقُها لغير تأنيثٍ ولا إلحاقٍ، نحو: "قَبَعْثَرى"، و"كُمَّثْرى"، فهذه الألف ليست للتأنيث لأنّها منوّنة، ولا للإلحاق؛ لأنّه ليس لنا أصل "سُداسىٌّ"، فيُلْحَقَ "قبعثرى" به، فكان زائدًا لتكثير الكلمة. وأمّا الألف التي للتأنيث، فهي على ضربَيْن: ألف مفردة، وألف تُلحَق قبلها ألفٌ للمدّ، فتنقلب الآخرةُ منهما همزةً؛ لوقوعها طرفًا بعد ألف زائدة. فأمّا الألف المفردة، فإذا لحقت الاسم، لم تخل من أن تلحق بناءً مختصًّا بالتأنيث، أو بناءً مشتركًا للتأنيث ¬
وغيره. فمن المختصّ ما كان على "فُعْلَى" بضمّ الأوّل وسكون الثاني، نحو: "دُنْيَا"، و"حُبْلَى"، فهذا البناء لا يكون إلّا مؤنّثًا. والمرادُ بقولنا: "لا يكون إلّا مؤنّثًا" أن ألفه لا تكون للإلحاق ولا لغيره؛ لأنّه ليس في الكلام مثلُ "جُعْفَرٍ" بضمّ الفاء، فيكونَ هذا ملحقًا به. وزيادتها للتكثير قليلةٌ، لا يُصار إليه ما وُجد عنه مندوحةٌ، مع أنّ غالب الأمر في الزيادة لغير الإلحاق أن تكون فيما زاد على الأصول على حدّها في "قَبَعْثَرى"، و"كُمَّثْرى". هذا رأيُ سيبويه وأصحابه، فأمّا على قياس مذهب أبي الحسن، فيجوز أن يكون للإلحاق بـ "جُخْدَبٍ". وقد أجاز السِّيرافي الإلحاقَ بـ "جُخدَبٍ"، وإن لم يكن من الأصول؛ لأنّ حروفه كلّها أصولٌ، ذكر ذلك في باب الجمع فيما كان ملحقًا بالأربعة. وقد حكى سيبويه (¬1) على سبيل الشذوذ: "بُهْماةٌ"، وقياسُ ذلك عند سيبويه أن تكون الألف فيه للتكثير؛ لتعذُّّرِ أن تكون للتأنيث، إذ علمُ التأنيث لا يدخل على مثله. وهذا البناء يجيء على ثلاثة أضرب: اسمًا ليس بمصدر، ومصدرًا، وصفة. فالأوّل: نحو: "البُهْمَى" وهو نبتٌ، و"الحُمَّى"، و"الرُّؤْيَا" لما يراه في مَنامه الإنسانُ من الأَحْلام، و"حُزْوَى" موضع بالدَّهْناء من بلاد تَمِيم. ومنه "طُغْيَا" اسمٌ للصغير من بقر الوحش، حكاه الأصمعيّ بضمّ الأوّل، وحكاه ثَعْلَبٌ بفتحه. والثاني: وهو المصدر كـ "الرُّجْعَى"، بمعنى الرُّجُوع، و"البُشْرَى"، بمعنى "البِشارة". ومن ذلك "الزُّلْفَى" بمعنى "الإزْلاف"، وهي القُرْبة والمَنْزِلة من قوله تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} (¬2)، أي: إزْلافًا. ومن ذلك "الشُّورَى" بمعنى المَشْوَرَة، و"السُّوأَى"، بمعنى المساءة، و"الحُسْنَى"، بمعنى الحُسْن، و"الغُمَّى"، بمعنى الغَمّ. والثالث: وهو الصفة، نحو: "حُبْلَى" للحامل، و"خُنْثَى"، لمن أشكل أمرُه بأن يكون له ما للرجال والنساء جميعًا، مأخوذٌ من "التخنّث"، وهو الانعطاف والتكسّر، و"رُبَّى" وهي الشاة التي وضعت حديثًا، وجمعُها "رُبابٌ". * * * قال صاحب الكتاب: ومنها "فعلى", وهي على ضربين: اسم كـ "أجلى", و"دقرى", و"بردى"، وصفة كـ "جمزى", و"بشكى" و"مرطى". * * * قال الشارح: يريد من المختصّ بالمؤنّث "فَعَلَى" بفتح الفاء والعين؛ لأنّ ألفه لا تكون للإلحاق؛ لأنّه ليس في الرباعي مثلُ "جَعَفَرٍ" بفتح الفاء والعين، فكانت للتأنيث لِما ذكرنا، فمن ذلك "أجَلَى"، وَ "دَقَرَى"، وَ "بَرَدَى"، وهي أسماءُ مواضع. ¬
وقالوا في الصفة: "جَمَزَى"، و"بَشَكَى"، و"مَرَطَى"، فـ "الجمزى" من السرْعة، يُقال: "هو يعدو الجمزى"، أي: هذا الضربَ من العَدْو، وقالوا: "حِمارٌ جَمَزَى"، أي: سريعٌ. قال الشاعر [من المتقارب]: 815 - كَأنِّي وَرَحْلِي إذا رُعْتُها ... على جَمَزى جازِىءٍ بالرِّمالِ وذلك كما يُقال: "رجلٌ عَدْلٌ"، و"ماءٌ غَوْرٌ". وَ"البَشَكَى" مثله، يُقال: "عَدَا البَشَكَى"، و"ناقةٌ بَشَكَى"، أي: سريعةٌ. وكذلك "المَرَطَى" ضربٌ من العَدْو سريعٌ، قال الأصمعيّ: هو فوق التقريب ودون الإهداب. * * * قال صاحب الكتاب: ومنها فعلى كشعبى وأُربى. * * * قال الشارح: كذلك هذا البناء يختصّ بالتأنيث لامتناعِ أن يكون للإلحاق، إذ ليس فى الأُصول ما هو على هذا المثال، فـ "شُعَبَى" مكان، و"أُرَبَى" من أسماء الداهية. * * * قال صاحب الكتاب: ومن المشتركة فعلى, فالتي ألفها للتأنيث أربعة أضرب: إسم عين كسلمى ورضوى وعوى، واسم معنى كالدعوى والرعوى والنجوى واللومى، ووصف مفرد كالظمأى والعطشى والسكرى، وجمع كالجرحى والأسرى. * * * ¬
قال الشارح: المراد بالمشترَك أن يكون البناء ممّا يشترِك فيه المذكّرُ والمؤنّثُ، وذلك بأن يكون الاسمُ الذي في آخِره ألفٌ زائدةٌ على وزن الأُصُول، نحوِ: "فَعْلَى"، فإنّه يكون على مثال "جَعْفَرٍ"، فيجوز أن يكون ألفُه للإلحاق، ويجوز أن يكون للتأنيث، فيحتاج حينئذ إلى نَظَرٍ واستدلالٍ. فإن كان ممّا يسوغ إدخالُ تاء التأنيث عليه، لم تكن الألفُ في آخِره للتأنيث، وكذلك إن سُمع فيها التنوين، فليست للتأنيث؛ لأنّ ألف التأنيث لا يدخلها تنوينٌ؛ لأنّها تمنع الصرفَ. ولا يدخل عليها علمُ التأنيث، إذ علمُ التأنيث لا يدخل على مثله، وإن امتنعت من ذَيْنك؛ فهي للتأنيث. وإذا كانت للتأنيث، فلها أربعةُ مواضعَ: أحدهما: أن يكون اسمَ عين، وهو ما كان شخصًا مَرْئيًّا، نحوَ: "سَلْمَى" وهو اسم رجل، و "سَلْمَى" أحدُ جَبَلَيْ طَيِّىء، وكأنّ العَلَم منقولٌ منه. ومن ذلك "رَضْوَى" وهو اسم جبل بالمدينة، وَ"عَوَّى" من منازل القمر، وهي خمسةُ أنْجُم يُقال لها: "وَرِكُ الأسَد". الثاني: أن يكون اسمَ معنى، وهو ما كان مصدرًا كـ "الدَّعْوَى" بمعنى الادّعاء، و"الرّعْوَى" أيضًا مصدرٌ بمعنى الارْعِواء، يُقال: "ارْعَوَى عن القبيح" إذا رجع عنه، وهو حَسَنُ الرَّعْوِ والرَّعْو والرَّعْوَى. ومن ذلك "النَّجْوَى" بمعنى المُناجاة، وهي المُسارَّة، ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ هُمْ نَجْوَى} (¬1)، ولذلك وُحّد، و"هم" جماعة، لكونه مصدرًا، جُعلوا نفسَ النجوى مبالغةً، كما يُقال: "رجلٌ عدلٌ"، و"قومٌ رِضى". وكذلك "اللَّوْمَى" بمعنى اللَّوْم. أنشد أبو زيد [من الوافر]: 816 - أمَا تَنفَكُّ تَرْكَبُنِي بِلَوْمَى ... بَهِجْتَ بها كما بَهِجَ الفَصِيلُ ¬
أي: تَعْلوني باللَّوْم، إلَّا أنّه أنّث، فقال: "بها"؛ لأنّ الألف للتأنيث. الثالث: أن يكون صفةً، وهي على ضربين: تكون مفردًا، وتكون جمعًا، فالمفردُ يكون مؤنّثَ "فَعْلانَ"، وهو نظيرُ "أفْعَلَ" "فَعْلاء"، نحوِ: "أحمر"، و"حمراء" في أنّ مؤنَّثه على غير بناء مذكّره. والجمع أن يكون جمعَ "فَعِيلٍ" بمعنى "مفعول" ممّا هو آفةٌ وداءٌ، نحوَ: "جَرِيحٍ"، و"جَرْحَى"، و"أسِيرٍ"، و"أسْرَى"، و"كَلِيمٍ" و"كَلْمَى"، وقد تقدّم الكلام عليه في الجمع. * * * قال صاحب الكتاب: والتي ألفها للإلحاق, نحو: "أرطى", و"علقى" لقولهم: "أرطاة", و"علقاة". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إنّ هذا البناء يكون مذكّرًا، ويكون مؤنّثًا، فإذا امتنعت ألفُه من التنوين ودخولِ التاء عليها دلّ ذلك على أنها للتأنيث. وإذا سُمع فيها التنوين، وساغ دخولُ التاء عليها، نحوُ: "أرْطى"، و"عَلْقى"، و"أرْطاةٍ"، و"علقاةٍ"، فإنّ تنوينه يدلّ على انصرافه. ولو كان الألف فيه للتأنيث، لكان غير مصروف كـ "حُبْلَى"، و"سَكْرَى". وإذا لم تكن للتأنيث، كانت للإلحاق، وذلك لأنّه على أبنية الأُصول، والإلحاق معنى مقصودٌ، ويفيد فائدةَ ما هو مَزِيدٌ للتكثير، ولم يُرَد به الإلحاقُ؛ لأنّ كلَّ إلحاق تكثيرٌ، وليس كلُّ تكثير إلحاقًا، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: ومنها "فعلى", فالتي ألفها للتأنيث ضربان: اسم عين مفرد كالشيزى والدفلى وذفرى فيمن لم يصرف؛ وجمع كالحجلى, والظربى في جمع الحجل والظربان، ومصدر كالذكرى. والتي للإلحاق ضربان: اسم كمعزى وذفرى فيمن صرف، وصفة كقولهم رجل كيصى وهو الذي يأكل وحده وعزهى عن ثعلب وسيبويه (¬1) لم يثبته صفة إلا مع التاء نحو: "عزهاة". * * * قال الشارح: قوله: "ومنها" يريد: ومن المشترَكة "فِعْلَى" بكسر الفاء وسكون العين، فهذا البناءُ يكون أيضًا مؤنّثًا ومذكّرًا. فالمؤنّثُ ما كانت ألفُه للتأنيث، واعتبارُه ¬
[الأبنية التي تلحقها ألف التأنيث الممدودة]
بامتناع الصرف وامتناعِ علامة التأنيث من الدخول عليه. وذلك على أربعة أضرب: اسمُ عين، ومصدرٌ، وصفةٌ، وجمعٌ. فالأوّل: وهو العين، نحو: "الشِّيزَى"، وهو خشبٌ أسودُ يُتَّخذ منه القِصاع، و"الدِّفْلَى" وهو نبتٌ، وفيه لغتان: الصرف، وتركُه. فَمَن صرفه جعل ألفَه للإلحاق بـ "دِرْهَم"، ومن لم يصرفه جعله مؤنّثًا. وكذلك "ذِفْرَى"، وهو من القَفا ما وراءَ الأذُن، وهو أوّلُ ما يَعْرَق من البعير، يُقال: "ذِفْرَى أسِيلَةٌ". وفيه أيضًا لغتان: الصرف وتركه. وأما الثانّي: وهو المصدر، فقالوا: "ذكرتُه ذِكْرَى" بمعنى الذِّكْر. قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى} (¬1)، وقال: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} (¬2)، فامتناعُ تنوينه مع أنّه نكرةٌ دليلٌ على أنّ ألفه للتأنيث. الثالث: وهو الصفة، زعم سيبويه أنْ "فِعْلَى" لم يَرِد صفة إلَّا وفيه تاءُ التأنيث، نحوُ قولهم: "رجلٌ عِزْهاةٌ"، وهو الذي لا يُطْرَب للَّهْو تكبُّرًا، و"سِعْلاةٌ"، وهي أخبثُ الغُول. وحكى أحمد بن يحيى ثَعْلَبٌ: "عِزْهى" بغير تاء. وقالوا: "رجلٌ كِيصًى" للذي يأكل وحدَه. وسيبويه (¬3) منع أن يكون "فِعْلَى" صفة إذا كانت ألفُه للتأنيث، فأمّا ما ذكروه، فإنّ ألفُه للإلحاق بدليل دخول التاء عليه. وأمّا الرابع: وهو ما كان جمعًا من هذا البناء، فلم يأتِ إلَّا في حرفَيْن، قالوا: "حِجْلى" في جمع "حَجَلٍ"، و"ظِرْبَى" في جمع "ظَرِبانٍ". وقد تقدّم الكلام عليهما في الجمع. وقالوا: "الدِّفْلَى" يقع للواحد والجمع، وهو بالجنس أشبهُ منه بالجمع. * * * [الأبنية التي تلحقها ألف التأنيث الممدودة] قال صاحب الكتاب: والأبنية التي تلحقها ممدودة فعلاء، وهي على ضربين: اسم وصفة. فالاسم على ثلاثة أضرب: اسم عين مفرد كالصحراء والبيداء، وجمع كالقصباء والطرفاء والحلفاء والأشياء، ومصدر كالسراء والضراء والنعماء والبأساء. * * * قال الشارح: لمّا فرغ من الكلام على أبنية الألف المقصورة، انتقل إلى الكلام على أبنية الممدودة، وقد تقدّم بيان معنى المقصورة والممدودة. فمن أبنية الممدودة "فَعْلاءُ" بفتح الفاء منها. وهي على ضربين: اسمٌ وصفةٌ، فالاسمُ على ثلاثة أضرب: مفردٌ واقعٌ على عين، كـ "الصَّحْراء" و"البَيْداء"، فالصحراء البَرّيّة، وقيل لها ذلك لاتّساعها، وعدمِ ¬
الحائل فيها، ومنه: "لقيتُه صَحْرَةَ بَحْرَةَ" (¬1)، أي: من غيرِ حائل. والبَيْداءُ: المَفازة، مأخوذٌ من "بادَ يَبِيدُ" إذا هلك؛ لأنّها مُوحِشةٌ مُهْلِكةٌ، وقيل لها: "مَفَازةٌ" على طريق التفاؤل بالسلامة، كما قيل للمُعْوَجّ: "أحْنَفُ"، والحَنَفُ الاستقامة، وقيل: "المفازةُ" مأخوذ من قولهم: "فَوَّزَ" إذا هلك، فيكون إذًا كالبيداء. والأوّلُ أمثلُ؛ لاحتمالِ أن يكون "فَوَّزَ" مأخوذًا من "المفازة"، كأنّه رَكِبَ مفازةٌ، فهلك. وقالوا: "الجَرْباء" للسماء، كأنّهم جعلوا الكواكب كالجَرَب لها، فعلى هذا أصلُها الصفة، وإنّما غلبتْ فصارت اسمًا بالغَلَبَة. وقالوا: "الجَمَّاءُ" من قولهم: "الجَمْاءُ الغَفِيرُ"، أي: جماعتُهم لم يتخلّف منهم أحدٌ، فهو اسمٌ، وليس بمصدر. وأمّا الجمع، فنحو " القَصْباء"، و"الطَّرْفاء"، و"الحَلْفاء"، و"الأشْياء"، وهذه الأسماءُ مفردةٌ واقعةٌ على الجمع، فلفظُها لفظُ الإفراد، ومعناها الجمع. هذا مذهب سيبويه (¬2)، وحكى أبو عثمان عن الأصمعيّ أنّه قال: واحد الطرفاء طَرَفَةٌ، وواحد القَصْباء قَصَبَةٌ، وواحد الحَلْفاء حَلِفَةٌ، فهذا وحدَه مكسورُ العين، وليس الخلافُ في تكسيرها وعدم تكسيرها، إنّما مَوْضعُ الخلاف أنّ هذه الأسماء هل هي بمنزلة "القوم" و"الإبل" لا واحدَ لها من لفظها، أو هي بمنزلة الجامِل والباقِر في أنّ لها واحدًا من لفظها، وهو جَمَلٌ، وَبَقَرَةٌ. وأما "أشْياءُ"؛ فإنّ أصلها "شَيْآءُ" على زنة "فَعْلاء" كـ "قَصْباءَ" و"طَرْفاءَ" إلا أنّهم كرهوا تقارُبَ الهمزتَيْن، فحوّلوا الأُولى إلى موضع الفاء، فقالوا: "أشْيَآءُ" على زنة "لَفْعَآءَ"، والأصلُ: فَعْلآءُ. والذي يدلّ على أنّه مفردٌ تكسيرُهم إيّاه على "أشاوَى". وفيه خلافٌ (¬3) قد ذكرتُه في شرح المُلُوكيّ، وقد استقصيتُ الكلامَ فيه هناك. وأمّا المصدر؛ فنحو "السَّرّاء"، و"الضَّرّاء" بمعنى المَسَرَّة والمَضَرَّة، و"النَّعْماء" بمعنى النَّعْمَة. قال الله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} (¬4). والصواب أنّها أسماءٌ للمصادر، وليست أنفسَها، فالسرّاءُ: الرخَاءُ، والضرّاءُ: الشدّة، والنعْماءُ: النعْمة، ¬
فهي أسماءٌ: لهذه المعاني. فإذا قلنا: إِنّها مصادرُ، كانت عبارةً عن نفس الفعل الذي هو المعنى، وإذا كانت أسماءً لها، كانت عبارةً عن المحصِّل لهذه المعاني. * * * قال صاحب الكتاب: والصفة على ضربين: ما هو تأنيث أفعل، وما ليس كذلك, فالأول نحو سوداء, وبيضاء, والثاني نحو امرأة حسناء وديمة هطلاء وحلة شوكاء والعرب العرباء. * * * قال الشارح: هذه الأسماء كلّها صفاتٌ؛ لأنّها جاريةٌ على الموصوفين، نحوَ: "هذه امرأةٌ حَسْناءُ"، و"رأيت امراة حسناءَ"، و"مررت بامرأةٍ حسناءَ"، وكذلك البقيةُ. والغالبُ على هذا البناء أن يكون مؤنّثَ "أفْعَلَ"، وبابُه الألوانُ والعيوب الثابتةُ بأصل الخِلْقة، نحوُ: "أبْيَضَ"، وَ "بَيْضاءَ"، و"أسود"، و"سَوْداء"، و"أزرق"، و"زَرْقاء"، وقالوا في العيوب: "أعْمَى"، و"عَمْياءُ"، و"أعرجُ"، و"عَرْجاءُ"، و"أعورُ"، و"عَوْراء". وقد جاء لغير "أَفْعَل"، قالوا: "امرأةٌ حسناءُ" أي: جميلة، ولم يقولوا: "رجلٌ أحسنُ" حتى يَقرِنوه بـ "مِنْ"، فيقولوا: "رجلٌ أحسنُ من غيره". وقالوا: "دِيمَةٌ هَطْلاءُ"، أي: دائمةُ الهَطْلِ، ولا يكادون يقولون: "مَطَرٌ أهطلُ"، وقالوا: "حُلَّةٌ شَوْكاءُ" للجديدة، هكذا قال أبو عُبَيْدة، كأنّها تشوك لجدَّتها؛ لأنّ الجديد يوصَف بالخُشونة. وقالوا: "العَرَبُ العَرْباءُ"، أي: الخالِصة، كما يُقال: العارِبةُ. وقالوا: "امرأةٌ عَجْزاءُ" للكبيرةِ العَجُز، وإذا أرادوا المذكّر، قالوا: "رجلٌ ألِيٌّ"، ولم يقولوا: "أعْجَزُ". وقالوا: "داهِيَةٌ دَهْياءُ"، كأنّهم رفضوا "أفْعَلَ" في هذه الصفات؛ لقلّة وصف المذكّر بها. فهذا البناء أعني "فَعْلآء" المفتوحَ الأوْل على اختلاف ضروبه لا تكون الهمزةُ في آخِره إلَّا للتأنيث، فلا ينصرف لذلك، وهي بدل من ألف التأنيث بخلاف المضموم أوّله والمكسورِ، نحوِ: "قُوباءٍ"، و"عِلْباءٍ"، وذلك لأنّه ليس في الكلام "فَعْلالٌ" بفتح الَفاء، فيكونَ هذا ملحقًا به، إلَّا فيما كان مضاعفًا، نحوَ: "الزَّلْزال"، و"القَلْقال". وحكى الفرّاء: "ناقةٌ بها خَزْعالٌ"، أي: ظَلْعٌ. وروى ثَعْلَبٌ: "قَهْقارٌ" للحَجَر الصُّلْب. وزاد أبو مالك: "قَسْطالٌ" للغُبار. فإن صحّت الرواية، حُمل على أنّ المراد: "خَزْعَلٌ"، و"قَهْقَرٌ"، و"قَسْطَلٌ"، والألفُ إشباعٌ عن الفتحة قبلها على حدِّ "تَنْقادُ الصَيارِيفِ" (¬1). * * * ¬
قال صاحب الكتاب: ونحو رحضاء ونفساء وسيراء وسابياء وكبرياء وعاشوراء وبراكاء وعقرباء وبروكاء وخنفساء وأصدقاء وكرماء وزمكاء. * * * قال الشارح: وقد جاءت ألف التأنيث في أبنية مختلفة غيرِ "فَعْلاء"، فمن ذلك "الرُّحَضاءُ"، وهو عَرَقُ الحُمَّى مأخوذٌ من "رَحَضَ الثوبَ"، إذا غسله، كأنّ عرق الحمّى يغسل المحمومَ، وهو بضمّ الفاء وفتح العين، وهمزتُه للتأنيث، وليست للإلحاق؛ لأنّه ليس في الكلام مثلُ "فُعَلالٍ" فيكونَ ملحقًا به. ومثله "العُرَواءُ" وهي قِرَّةُ الحُمَّى وَمَسُّها أوّلَ ما تأخذ، مأخوذٌ من "عَرَا يَعْرُو". وقالوا: "نُفَساءُ" للمرأة حين تضع حَمْلَها، ومن ذلك "سِيَراءُ" بكسر الأوّل وفتح الثاني، وهو من البُرود، فيه خطوطٌ كالسُّيُور، وقيل: هو الذَّهَب. قال النابغة [من الكامل]: 817 - صَفْراءُ كالسِّيرَاءِ أُكْمِلَ خَلْقُها ... كالغُصْن في غُلَوائه المُتَلوِّد وقالوا: "سابياء" للمَشِيمَة التي تخرج مع الولد. وإذا كثُر نَسْلُ الغنم، فهي السابياءُ، وهو مأخوذ من "سَبَيْتُ الخَمْرَ"، إذا حملتَها من بلد إلى بلد لخروجها من مكان إلى مكان. ويجوز أن يكون من "أسابي الدم" وهو طرائقُه؛ لأنّ المشيمة لا تنفكّ من دَم. و"الكِبْرِياءُ" مصدر كالكِبْر بمعنى العَظَمَة، و"عاشُوراءُ": اليوم العاشر من المحرَّم خاصّةٌ، ¬
وهو "فاعُولاءُ" من "العَشَرَة". و"بَراكاءُ" معناه الثبات في الحرب، وهو من البُرُوك، يُقال: "بَراكِ براك" وكذلك "بَرُوكاءُ". و"العَقرَباءُ": الأُنثى من العَقارب، و"الخُنْفُساء" من حَشَرَات الأرض معروفةٌ. يُقال: "خُنْفُسٌ"، و"خُنْفُسَاءُ"، و"أصْدِقاءُ"، و"كُرَماءُ" من الجموع التي وقعت ألفُ التأنيث في آخِرها كما وقعت المقصورةُ في آخِرِ "حَبالَى"، و"سُكَارَى". وهو كثيرٌ في "فَعِيلٍ"، نحو: "شَقِيٍّ"، و"أشقِياءَ"، "وتَقِيٍّ"، و"أتْقِياءَ"، ومثلِ "كَرِيم"، "وكُرَماءَ"، و "حَنِيفٍ"، و"حُنَفاءَ"، وقالوا: "شاهدٌ"، و"شُهَداءُ"، و"صالحٌ"، و"صُلَحاءُ"، و"شاعرٌ"، و"شُعرَاءُ"، وأمّا "زِمِكّاءُ"، فهو ذنبُ الطائر. والقصرُ فيها الفاشي. * * * قال صاحب الكتاب: وأما فِعْلاءٌ وفُعْلاءٌ كعلباء وحرباء وسيساء وحواء ومزاء وقوباء فألفها للإلحاق. * * * قال الشارح: أمّا ما كان على "فِعْلاءٍ"، و"فُعْلاءٍ" بكسر الأوّل وضمّه وسكون الثاني منه، فإنّه مصروفٌ منوّنٌ؛ لأنّ همزته ليست للتأنيث، بخلاف الهمزة في نحو: "صَحْراءَ"، و"بَيْداءَ". فالمكسورُ الأوّلِ، نحوُ: "عِلْباءٍ"، و"حِرْباءٍ"، و"سِيساءٍ". و"العِلباء": عصَبُ العُنْق، يُقال منه: "عَلِبَ البعيرُ"، و"ناقةٌ مُعَلَّبَةٌ" إذا داءَ جانبا عنقها. و"الحِرْباءُ": دُوَيْبّةٌ أكبرُ من العَظاءَة تستقبل الشمسَ، وتدور معها حيث دارت، وتَتلوّن ألوانًا بحَرّ الشمس، قيل: هو ذكَرُ أُمّ حُبَيْنٍ. و"السِّيساءُ": الظَّهْر. قال أبو عمرو: "السيساء" من الفرس: الحارِكُ، ومن الحمار الظهْرُ. ومنه "القِيقاء"، و"الزِّيزاء" للأرض الغليظة. فهذا كلّه ملحق بـ "سِرْداحٍ"، ولذلك انصرف، كما أنّ "سرداحًا" منصرفٌ. والهمزةُ فيه بدلٌ من ياء، والأصلُ "عِلْبايٌ"، و"حِرْبايٌ"، و"سِيسايٌ"، فوقعت الياءُ طرفًا بعد ألف زائدة، فقُلبت ألفًا، ثمّ قُلبت الألف همزة، كما قلنا في "كِساءٍ"، و"رِداء"، بخلاف همزة "فَعْلاء"، نحوِ: "صَحْراءَ"، و"حَمْراءَ"، فإنّ الهمزة فيه بدلٌ من ألف التأنيث. فإن قيل: ما الدليل على أنّ الأصل "عِلْبايٌ"، و"حِرْبايٌ" بالياء دون أن يكون "عِلْباوًا" و"حِرْباوًا" بالواو؟ فالجواب أنّ العرب لمّا أنْثت هذا الضربَ، وأظهرتْ هذا الحرف المنقلبَ، لم تُظْهِر إلَّا ياءً، وذلك نحو: "دِرْحايَة" للضخْم القصير، و"دِعْكايَةٍ"، فظهورُ الياء في المؤنّث بالهاء دلالةٌ على أنَّ الهمزة في "حِرْباءٍ"، و"عِلْباءٍ" منقلبةٌ عن ياء لا عن واو. وكذلك المضموم الأوّلِ؛ نحو: "الحُوّاءِ"، و"المُزّاء"، و"القُوباء"، كلّه مصروف؛ لأنّه ملحق بـ "قُرْطاسٍ"، و"قُرْطاطٍ". فـ "الحُوّاء": نبتٌ يُشْبِه لونه لونَ الذئب، الواحدةُ "حُوّاءَةٌ". و"المُزّاء": من أسماء الخَمْر، يُقال: "مَزَّةٌ"، و"مُزّاءٌ" للّذِيذ الطَّعْم، وهو من
أسمائها، وليس بصفة. و"القُوباء": داءٌ معروفٌ يتقشَّر، فإذا تُفل عليه يَبْرَأُ. وفيه لغتان: "قُوَبَاءُ" بفتح العين، وقُوباءٌ بالإسكان. فمَن فتح العين، كان من باب "الرُّحَضاء" و"العُرَواء"، لا ينصرف؛ لأنّه ليس في الأبنية فُعَلالٌ بضمّ الفاء وفتح العين، فيُلْحَقَ به، فكانت همزتُه للتأنيث، فلم ينصرف لذلك. ومن أَسكن، وقال: "قُوباءٌ"، كان ملحقًا بـ "قُرْطاسٍ"، فهو منصرف لذلك. ومثله "الخُشّاء" وهو العَظم الناتىء وراءَ الأذُن. قال ابن السِّكِّيت: ليس في الكلام "فُعْلاءٌ" بضمّ الفاء وسكون العين إلَّا حرفان: "الخُشّاءُ" و"القُوباءُ"، فاعرفه.
المصغر
ومن أصناف الاسم المُصَغَّرُ [صياغته] قال صاحب الكتاب: الاسم المتمكن إذا صُغّر, ضُم صدره, وفُتح ثانية, وأُلحق ياء ساكنة ثالثة، ولم يتجاوز ثلاثة أمثلة: "فُعيْلٌ", و"فُعيعلٌ", و"فُعيعيلٌ"، كـ "فُليسٍ", و"دُريهم", و"دنينير". * * * قال الشارح: اعلم أنّ التصغير والتحقير واحدٌ، وهو خلافُ التكبير والتعظيم. وتصغيرُ الاسم دليلٌ على صِغَر مسمّاه، فهو حِلْيَةٌ وصفةٌ للاسم؛ لأنّك تريد بقولك: "رُجَيْلٌ" رجلاً صغيرًا، وإنّما اختصرتَ بحذف الصفة، وجعلتَ تغييرَ الاسم والزيادةَ عليه عَلَمًا على ذلك المعنى، كما جُعل تكسيرُ الاسم علامةً تنوب عن تَحْلِيَته بالكثرة. والذي يدل على أنّ التصغير أصلُه الصفة أنّ حُكم الصفة قائمٌ، ألا ترى أنّ مَن أعمل اسمَ الفاعل، فقال: "هذا ضاربٌ زيدًا"، لم يستحسن إعمالَه إذا صغّره، فلا يقول: "هذا ضُوَيْرِبٌ زيدًا"، كما لم يستحسن إِعماله إذا وَصَفَه؟ ولذلك لا يُصغَّر من الأعلام إلَّا ما يجوز وصفُه ممّا يُتوهّم فيه الشرْكةُ، ولذلك قال أصحابنا: إِنّه ليس البابُ أن يُصَغَّرَ الأعلام. وله ثلاثةُ معان: أحدها: تصغير ما يجوز أن يُتوهّم أنّه عظيمٌ، كقولك: "رُجَيْلٌ"، و"جُمَيْلٌ". الثاني: تقليلُ ما يجوز أن يُتوهّم أنّه كثيرٌ، كقولنا: "دُرَيْهِماتٌ"، و"دُنَيْنِيراتٌ". الثالثُ: تقريبُ ما يجوز أن يُتوهّم أنّه بَعِيدٌ، كقولهم: "بُعَيْدَ العَصْرِ"، و"قُبَيلَ الفَجْرِ"، و"السَّقْفُ فُوَيقَنا". لا يخلو معناه من هذه الأقسام الثلاثة، وأضاف الكوفيون قِسْمًا رابعًا يسمّونه تصغير التعظيم، كقول الشاعر [من الطويل]: 818 - وكلّ أُناسٍ سَوْفَ تدخل بينهم ... دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ منها الأنامِلُ ¬
فقال: "دُوَيْهِيَةٌ"، والمرّاد تعظيم الداهية، إذ لا داهية أعظمُ من الموت. وقال الآخر [من الطويل]: 819 - فُوَيْقَ جُبَيْلٍ شاهِقِ الرأْسِ لم تكن ... لِتَبْلُغَه حتَّى تَكِلَّ وَتَعْمَلا ¬
فقال: "جُبَيْلٌ"، ثم قال: "شاهق الرأس" وهو العالي، فدلّ على أنّه أراد تفخيم شأنه. وقالوا: "يا بُنَيَّ"، و"يا أُخَيَّ"، ويريدون المبالغة. وهذا ليس من أُصول البصريين. وجميعُ ما ذكروه راجعٌ إلى معنى التحقير. فأمّا قولهم: "دُوَيْهِيَةٌ"، فالمراد أنّ أصغر الأشياء قد يُفْسِد الأُصول العِظَام، فحَتْفُ النفوس قد يكون تصغير الأمر الذي لا يُؤْبَهُ له. وأمّا قوله: "فُوَيْقَ جُبَيْلٍ"، فالمراد أنّه صغيرُ العَرْض، دقيقُ الرأس، شاقُّ المصعد لطُوله وعُلُوِّه. وأمّا "بُنَيّ"، و"أُخَيّ"، فالمراد تقريبُ المنزلة ولُطْفُها؛ لأنه قد يصل بلَطافةِ ما بينهما إلى ما يصل إليه العظيمُ. فإذا صغّرتَ الاسم المتمكّن، ضممتَ أوّله، وفتحتَ ثانيه، وزدتَ عليه ياء ثالثة ساكنة، وتكسر ما قبل آخِره فيما زاد على الثلاثة. وإنما قلنا: "المتمكّن" تحرُّزًا ممّا ليس بمتمكّنِ من الأسماء، نحوِ أسماء الإشارة، مثل: "ذَا"، و"تَا"، والموصولِ، نحو: "الذِي"، و"الَّتِي"، فإنّك إذا صغّرتَ هذه الأسماء، لا تضمّ أوّلَها، بل تُبْقِيها على حالها في المُكبَّر، وسيوضَح أمرُها إذا انتهينا إليها. فإن قيل: ولِمَ كان إذا صغّروا الاسم، يُضَمّ أوّله؟ قيل: لأنّا إذا صغّرنا الاسم، فلا بدّ من تغييره بعلامةٍ تدلّ على المصغَّر، وكان الضمُّ أولى؛ لأنّ الفتحة للجمع في نحو: "مَساجِدَ"، و"ضَوارِبَ"، فلم يبق إلَّا الكسرُ والضمُّ، فاختاروا الضمّ؛ لأنّ الياء علامةٌ للتصغير، وما بعدها مكسور فيما زاد على الثلاثة، فكرهوا كسرَ الأول لثِقَل اجتماع كسرتَيْن مع الياء، وكانت عنه مندوحةٌ إلى الضمّة. وقال بعضهم: إنّما ضمّوا الأوّل من المصغّر تشبيهًا بفعلِ ما لم يُسَمَّ فاعله، فكما ضمّوا أوّلَ "ضُرِبَ"، كذلك ضمّوا الأولّ من المصغّر في نحو: "حُجَيْر". والجامعُ بينهما أنّ المكبّر يكون على أبنية مختلفة، وهو الأصل، ولم يفتقر الكلامُ معه إلى علامة تدلّ على التكبير؛ لأنّ العلامات إنّما يؤتَى بها عند تغيير الكلام عن أصله. وأمّا التصغير، فيفتقر إلى علامة؛ لانّه حادثٌ لنِيابَته عن الصفة على ما قدّمنا. وكذلك فعلُ ما لم يسمّ فاعله من حيث إن ما سُمّي فاعله على الأصل، ولا يفتقر إلى علامة تدلّ عليه، وهو على أبنية مختلفة، نحوِ: "صرَبَ"، و"عَلِمَ"، و"ظَرُفَ"، فإذا لم يسمّ فاعله، ألزموه بناءً واحدًا , وضمّوا أوّله ليدلّ التغييرُ على المعنى الحادث فيه، فقالوا: "ضُرِبَ"، و"عُلِمَ"، ¬
و"ظُرِفَ في هذا المكان". فالمكبَّرُ كالفعل المسمّى فاعلُه، والمصغَّرُ كالفعل الذي لم يسمّ فاعله. والمعتمَدُ أنّ الغرض صيغةٌ تخلُص للتصغير من غيرِ مشارَكة، ولم يوجَد سوى هذه الصيغة. فإن قيل: فلِمَ كان التصغير بزيادةِ حرف؟ وهلّا كان بنقصِ حرف، إذ الغرضُ تغييرُ صيغة المكبّر عن حاله. وكما يحصل التغييرُ بالزيادة، كذلك يحصل بالنقص، مع أنّ النقص يُناسِب معنى التصغير إذ كان التصغيرُ نقصًا. قيل عنه جوابان: أحدهما: أنّ التصغير لمّا كان صفةً وحِلْيَةً للمصغّر بالصغَر، والصفةُ إنما هي لفظٌ زائدٌ على الموصوف؛ جُعل التصغير الذي هو خَلَفٌ عنه بزيادةٍ، ولم يُجعَل بنقصٍ؛ ليُناسِب حالَ الصفة. والثاني: أنّهم لمّا أرادوا الدلالة على معنى التصغير والإيذانَ بذلك؛ جعلوا العلامة بزيادةِ لفظ, لأنّ قوّة اللفظ تُؤذِن بقوّة المعنى. ووجهٌ ثالثٌ: أنّ أكثر الأسماء ثلاثية، فلو كان التصغيرُ بنقصٍ؛ لَخرج الاسم عن منهاج الأسماء، ونقص عن البناء المعتدِل. فإن قيل: ولِمَ كان المَزِيد ياءً دون غيرها من الحروف؟ فالجواب أنّ الدليل كان يقتضي أن يكون المزيد أحدَ حروف المدّ واللين لخفّتها وكثرةِ زيادتها في الكِلَم، فَنَكَّبوا عن الألف؛ لأن التكسير قد استبَدَّ بها في نحو: "مساجد"، و"دراهم"؛ ولأنّه قد لا يخلص البناءُ للتصغير؛ لأثه يصير على "فُعَالِ" كـ"غُرابٍ"، فعدلوا إلى الياء؛ لأنّها أخفُّ من الواو. وله ثلاثة أبنية: "فُعَيْلٌ"، و"فُعَيْعِل"، و"فُعَيْعِيلٌ". والمراد بها الوزنُ لا المثالُ نفسُه؛ لأنه قد يكون المثال "أُفَيْعِلَ"، نحوَ: "أُحَيْمِدَ"، و"مُفَيْعِلٌ"، نحو: "مُكَيْرِمٍ"، و"فُعَيْلِينٌ"، نحو: "سُرَيحِينٍ." فأمّا "فُعَيْلٌ"، فهو تصغير ما كان على ثلاثة أحرف من أيّ بناء كان، كقولك في "فَلْسٍ": "فُلَيسٌ"، وفي "قَلَمٍ": "قُلَيْمٌ"، وكذلك بقيةُ أبنية الثلاثيّ. وأمّا "فُعَيْعِلٌ"، فهو تصغيرُ ما كان على أربعة أحرف من أيّ بناء كان، كقولك في "جَعْفَرٍ": "جُعَيْفِرٌ"، وفي "زِبْرِجٍ": "زُبَيْرِجٌ"، وكذلك سائرُ أبنية الرباعيّ. وسواءٌ في ذلك الأصُولُ وما فيه زيادةٌ، فكما تقول: "جُعَيْفِرٌ"، و"سُبَيْطِرٌ"، كذلك تقول في "جَهْوَرٍ": "جُهَيِّرٌ"، وفي "صَيْرَفٍ": "صُيَيرِفٌ"، وفي "غُلامٍ": "غُلَيِّمٌ"، وفي "عَجُوزٍ": "عُجَيِّزٌ". وأمّا "فُعَيْعِيلٌ"، فهو على وجهَيْن: أحدُهما: أن يكون تصغيرَ ما كان من الأسماء على خمسة أحرف، والرابعُ منها واوٌ
[تصغير الخماسي]
أو ألفٌ أو ياءٌ، فالواو نحو: "صُنْدُوقٍ"، و"صُنَيْديقٍ"، والألف نحوُ "شِمْلالٍ"، و"شُمَيلِيلٍ"، والياء نحو: "قِندِيلٍ"، و"قُنَيْدِيلٍ". لا يختلف بناءُ المصغّر وإن اختلفت أبنيةُ المكبّر. والثاني: أن تُصغر خماسيًّا, وليس رابعُه شيئًا من حروف المدّ، فيحتاج إلى أن تحذف منها حرفًا ليرجع إلى الأربعة، ثم تُصغِّره تصغيرَ ما كان على أربعة أحرف، ثمّ تُعوّض من المحذوف ياءً رابعةً، نحوَ قولك في "سَفَرْجَلٍ": "سُفَيْرِجٌ"، وإن شئت "سُفَيْرِيجٌ"، فتُعوِّض الياء من اللام المحذوفة. وكذلك نظائرُه من نحو: "فَرَزْدَقٍ"، و"فُرَيْزِدٍ"، و"فُرَيْزِيدٍ" إن شئت. هذا نصُّ سيبويه (¬1) في أصل الباب أنّ المصغّر على ثلاثة أمثلة. وقيل للخليل: لِمَ تُثْبِت التصغير على هذه الأمثلة الثلاثة؟ فقال: وَجَدْت معامَلة الناس على "فَلْسٍ"، و"درهمٍ"، و"دينارٍ"، فصار "فلسٌ" مثالًا لكلّ اسم على ثلاثة أحرف، و"درهمٌ" مثالًا لكلّ اسم على أربعة أحرف، و"دينارٌ" مثالًا لكلّ اسم على خمسة أحرف، رابعُها حرفُ علّة. * * * قال صاحب الكتاب: وما خالفهن فلعلة، وذلك ثلاثة أشياء: محقر أفعال, كأجيمال، وما في آخره ألف تأنيث كحبيلى وحميراء؛ أو ألف ونون مضارعتان ككسيران. * * * قال الشارح: قد جاءت هذه الأمثلةُ الثلاثة الأُخَر في التصغير، وهو مخالفةٌ للأمثلة المذكورة، وهي "أُفَيْعالٌ" تحقيرُ "أفْعالٍ"، نحوُ قولك في تحقير: "أجْمالٍ": "أُجَيْمالٌ"، وفي تحقير "أنْعامٍ": "أُنَيْعامٌ"، وسائرِ ما يجمع على "أفْعالٍ". وإنما لم يذكر سيبويه هذا البناء؛ لأنه جمعٌ، والتصغيرُ ليس قعيدًا في الجمع، وذلك من قِبَل أنّ المراد من الجمع الدلالةُ على الكثرة، والتصغيرِ تقليلٌ، فكان بينهما تَنافٍ. فلذلك لم يذكره إذ كان الدليلُ يأباه. والذي حسّنه ههنا أنّه من أبنية القلّة. قال السِّيرافيّ: ولو أضاف مثالًا رابعًا؛ لكان يشتمل على التصغير كلّه، وهو"أُفَيعالٌ"، نحو: "أُجَيْمالٍ". وأمّا "حُبَيلَى"، و"حُمَيْراءُ"، و"سُكَيرانُ"، فصدورُها من الأبنية المتقدّمة، والزيادةُ في اَخِرها كتاء التأنيث، فاعرفه. [تصغير الخماسي] قال صاحب الكتاب: ولا يصغر إلا الثلاثي والرباعي؛ وأما الخماسي, فتصغيره ¬
مستكره كتكسيره؛ لسقوط خامسه، فإن صُغّر قيل في فرزدق: فريزدٌ وفي "جحمرش" (¬1): "جحيمرٌ". * * * قال الشارح: اعلم أنّ التصغير إنّما هو للثلاثيّ والرباعيّ من الأسماء؛ فأمّا الثلاثيّ، فهو أقعدُ في التصغير من الرباعيّ لأنه أعدلُ الأبنية وأخفّها, ولذلك كثرت أبنيتُه، وكان له في التكسير بناءانِ: بناءُ قلّة وبناءٌ كثرة، فكان أقبلَ للتغيير وأحملَ للزيادة؛ وأمّا الرُّباعيّ، فهو متوسِّطٌ بين الثلاثيّ والخماسيْ وأثقلُ من الثلاثيّ، ولذلك قلّ التصرّفُ فيه، فلم يكن له في التكسير إلَّا بناءٌ واحدٌ، وهو للكثير والقليل. وأمّا الخُماسيّ، فثقيلٌ جدًّا لكثرة حروفه، فلم يُزَدْ ثِقَلًا بزيادة ياء التصغير، وتغييرٍ بضمّ أوّله وكسرِ ما بعد يائه، وذلك ممّا يزيده ثِقَلًا. فإذا أُريد تصغيُره، حُذف منه حرفٌ حتى يرجعَ إلى الأربعة، ثمّ يُصغَّر بمثال الرباعيّ، وهو"فُعَيْعِلٌ"؟ نحوُ: "سُفَيْرَجٍ"، كما كُسر على مثال الرباعيّ وهو"فَعَالِلُ"، نحوُ: "سَفارجَ" كـ"جَعافِرَ". فلذلك كرهوا تضغيرَه وتكسيرَه لِما يلزمه من حذف خامسه. وقيل: أصلُ الحذف في التكسير، وحُمل التصغير عليه في الحذف؛ وذلك أنّه ثقُل عليهم إذا جمعوا أن يأتوا بالحروف كلّها مع كثرتها، وثِقَلِ الجمع، وأنّه جمعٌ لا ينصرف، فحذفوا منه حرفًا تخفيفًا. وحُمل التصغير عليه؛ لأنّهما من واد واحد. وإنّما حذفوا الخامس لأنّ الثقل به حصل، ولئلاّ يصير عَجُزُ الكلمة أكثرَ من صدرها. واعلم أنّك إذا حذفت حرفًا ممّا زاد على الأربعة في التصغير أو التكسير، فإنّك تُقدِّر بناءَه علي بناءٍ من أبنية الرباعيّ، ثم تُصغِّره تصغيرَ ذوات الأربعة من نحو: "جَعْفَرٍ"، و"زِبْرِجٍ"، وسائرِ أمثلة الرباعيّ، فإذا قلت في "فَرَزْدَقٍ": "فُريْزِدٌ"، فكأنّك صغّرت " فَرْزَدًا"، نحوَ: "جعفَر"، أو"فرزِدًا"؛ نحو: "زِبْرِجٍ"، وكذلك "جحْمَرِشٌ"، تقول فيه "جُحَيْمِرٌ". * * * قال صاحب الكتاب: ومنهم من يقول "فريزقٌ", و"جحيرش" يحذف الميم؛ لأنها من الزوائد، والدال لشبهها بما هو منها وهو التاء. والأول الوجه، قال سيبويه: "لأنه لا يزال في سهولة حتى يبلغ الخامس، ثم يرتدع، فإنما حذف الذي ارتدع عنده" (¬2)، وقال الأخفش: سمعت من يقول: "سفيرجلٌ" متحركاً والتصغير والتكسير من واد واحد. * * * قال الشارح: اعلم أنّ من العرب من يقول في تصغير "خَدَرْنَقٍ" (¬3)، و"فَرَزْدَقٍ": ¬
"خُدَيْرِقٌ"، و"فُرَيْزِقٌ" فيحذف النون من "خدرنق"؛ لأنّها وإن لم تكن زائدة في "خدرنق"، فهي من حروف الزيادة، وهي مُجاوِرةٌ للطرف، وهم كثيرًا ما يُعْطُون الجارَ حكمَ مُجاوِره. ألا ترى أنّهم قالوا: "صُيَّمٌ"، و"قُيَّمٌ" في "صُوَّمٍ" و"قُوَّمٍ"، فقلبوا الواو ياءً على حدّ قلبها في "عُصِيٍّ"، وَ"دُليٍّ". ونظائرُ ذلك كثيرةٌ، فلمَّا كانت النون من حروف الزيادة، ولها حكمُ الطرف، وكانت القاف حرفًا قويًّا بعيدًا من حروف الزيادة، حذفوها كما يحذفون ما هو زائد في بنات الخمسة، نحوَ قولك في "مُغْتَسِلٍ": "مُغَيْسِلٌ"، وفي "مُقْتَدِرٍ": "مُقَيْدِرٌ"، وحذفوا الدال من "فرزدق"؛ لأنه مُجاوِرٌ للطرف ومُشابِهٌ للتاء التي هي من حروف الزيادة، فحذفوه كما يحذفون ما هو من حروف الزيادة. فأما قول صاحب الكتاب في "جَحْمَرِشٍ": "جُحَيْرِشٌ" بحذف الميم؛ فليس بصحيح، وأظنّه سَهْوًا؛ لأنّ الميم، وإن كانت من حروف الزيادة، فهي بعيدةٌ من الطرف غيرُ مجاوِرة له، فلم يحسن إلَّا حذفُ الشين، نحوُ: "جُحَيْمِرٍ"؟ لفَواتِ أحد وصفي العلّة؛ ولأنّ الميم في "جحمرش" ثالثةٌ، والثالثُ في التصغير يؤتى به ضرورة، والدالُ في "فرزدق" رابعٌ، وكذلك النون في "خَدَرْنَقٍ". وقد يكون في المصغر ما ليس له رابعٌ كالثلاثيّ، فلمّا كان الحرف الرابع قد يوجَد، وقد لا يوجد، شُبّه بالحروف الزوائد إذ كان من جنسها، فمن قال: "فُرَيْزِدٌ"، بحذف القاف، وهو القياس، قال: "خُدَيرِنٌ"، ومن قال: "فُرَيْزِقٌ"، قال: "خُدَيْرِقٌ"، وذلك شاذّ قليلٌ. فلذلك قال صاحب الكتاب: "والوجه الأوّل. قال سيبويه: لأنّه لا يزال في سُهُولة حتى يبلغَ الخامسَ، ثمّ يرتدع" إشارة إلى أنّ الثقل إنمّا حصل بالخامس، فهو الذي أوجب الحذفَ؛ لأنّ الحرفَيْن اللذَيْن في الصدر مضيا على القياس المطّرد في تصغير الثلاثيّ والرباعيّ، والحرفُ الذي بعد الياء موجودٌ في الثلاثيّ والرباعيّ، والحرفُ الرابعُ موجود في الرباعيّ والخماسيّ، وهو الذي لا نظيرَ له فيما تقدّم من التصغير، فكان أوّلى بالحذف. وذكر سيبويه عن بعض النحويين: "سُفَيْرِجِلٌ"، و"سَفارِجِلُ" (¬1). قال الأخفش: سمعتُ من يقول: "سُفَيْرِجِلٌ" متحرِّكًا يعني بتحريك الجيم، وفي الجمع "سَفارِجِلُ"، فهذا يأتي به على الأصل، ولا يُبالي الثقلَ. وقال الخليل (¬2): لو كنتُ محقِّرًا لهذه الأسماء ولا أحْذِفُ منها شيئًا، كما قال بعض النحويين؛ لسَكّنتُ الحرفَ الذي قبل الآخِر، فقلتُ: "سُفَيرجلٌ" بتسكين الجيم حتى يصيرَ بوزن "دُنَيْنِير"؛ لأنّ قبل الآخِر الياءَ ساكنةً حتى تصير الجيم مثلَ الياء الساكنة. وقوله: و"التصغير والتكسير من واد واحد" يريد أن العمل فيهما واحدٌ، وذلك أنّك تغيِّر الأوّل منهما، إلَّا أنّ تغيير أوّل المكسّر بالفتح، وتغييرَ أوّل المصغّر بالضمّ، فإذا ¬
فصل [رد الاسم المحذوف منه شيء إلي أصله في التصغير]
قلت: "مساجِدُ"، فليست الفتحة في الميم هي الفتحةَ في ميم "مَسْجِدٍ". يدلّك على ذلك أنّك تقول: "بُرْثُنٌ"، و"بَراثِنُ"، و"زِبْرِجٌ"، و"زَبَارجُ"، فكما لا تشُكّ أنّ الأول من "براثن"، و"زبارج" فتحٌ لأجل الجمع، فكذلك في "مَساجِدَ". وتزيد فيهما حرفًا من حروف المدّ ثالثًا، إلَّا أنّ المَزيد في التكسير ألفٌ، وفي التصغير ياءٌ, وتكسر ما بعد الياء في المصغّر، كما تكسر ما بعد الألف في المكسّر، فلمّا كان بينهما من المناسَبة ما ذكرنا، قيل: إنّهما من واد واحد، فاعرفه. فصل [ردّ الاسم المحذوف منه شيء إلي أصله في التصغير] قال صاحب الكتاب: وكل اسم على حرفين, فإن التحقير يرده إلى أصله حتى يصير إلى مثال فعيل. وهو على ثلاثة أضرب: ما حذف فاؤه أو عينه أو لامه، تقول في "عدةٍ", و"شيةٍ", و"كل", و"خذ" اسمين: "وُعيدة" و"وُشية" و"أُكيلٌ" و"أُخيذٌ"، وفي "مذ" و"سل" اسمين و"سهٍ": "منيذٌ", و"سُؤيل", و"سُتيهةٌ"، وفي "دمٍ" و"شفةٍ" و"حرٍ" و"فُلٍ و"فَمٍ": دمي وشفيهة وحُريح وفُلين وفُويه. * * * قال الشارح: اعلم أنه لا يجوز أن يصغر اسم على أقل من ثلاثة أحرف؛ لأنّ أدنى أبنية التصغير "فُعَيْلٌ"، وذلك لا يكون إلَّا من بنات الثلاثة؛ لأن ياء التصغير تقع ثالثة ساكنة، وأدنى ما يقع بعدها حرفٌ يكون حرفَ الإعراب، نحوَ: "رُجَيْلٍ"، و"جُمَيْل". ولو صُغر ما هو على حرفَين، لوقعت ياءُ التصغير ثالثة طرفًا، فكان يلزم تحريكها بحركات الإعراب، وهي لا تكون إلَّا ساكنة؛ لأتها رسيلةُ ألف التكسير في "رجالٍ"، و"جِمالٍ"، و"جَعافِرَ"، و"مَساجِدَ". وكان يؤدّي ذلك إلى قلب ياء التصغير ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلها أو حذْفِها إذا وقع بعدها التنوينُ، وكلُ ذلك محظورٌ لِما يلزم فيه من نقص الغرض باجتلاب ياء التصغير. فإن كان الاسم المتمكّن على حرفَيْن، وذلك إنما يكون بحذِف حرف منه، إذ أقل ما يكون عليه الأسماءُ المتمكنةُ ثلاثةُ أحرف. وذلك على ثلاثة أضرب: أحدها ما ذهبت فاؤُه، الثاني ما ذهبت عينه، الثالث ما ذهبت لامه. فالبابُ فيما كان من ذلك أن يُرَدّ الاسم في التصغير إلى أصله حتى يصير إلى مثال "فُعَيْلٍ"، وكان ردُّه إلى أصله أوْلى من اجتلاب حرف غريب. فالأولُ، نحو: "عِدَة"، و"زِنَة"، و"شِيَةٍ"، ففاءُ هذه الأسماء واوٌ محذوفةٌ، والأصلُ: "وَعْدَةٌ"، وَ"وَزْنَة"، وَ"وَشْيَة". يدل على ذلك "الوَعْد"، و"الوَزْن"، و"الوَشْي"، فإذا صغرتها، قلت: "وُعَيْدَةٌ"، و"وُزَيْنَةٌ"، وَ"وُشَيةٌ"، وإن شئت، همزتَ
فقلت: "أُعَيْدَةٌ"، و"أُزَيْنَةٌ"، و"أُشَيَّةٌ"؛ لأنّ الواو إذا انضمّت ضمَّا لازمًا؛ ساغ همزُها، نحوُ: "وُقَّتَتْ"، و"أُقتَت"، وكذلك لو سمّيت رجلًا بـ "خُذْ"، و"كُلْ"، لقلت: "أُخَيْذٌ"، و"أُكَيْل"؛ لأن الفاء همزةٌ محذوفةٌ، يدل على ذلك "الأخْذُ" و"الأكْلُ". والثاني: ما حُذف عينه؛ نحوُ: "مُذْ" و"سَه" لغةٍ في الاسْت، وذلك أن فيه ثلاثَ لغات: اسْتٌ، وسَهٌ، وسَتٌ، فمن قال: اسْتٌ، حذف اللام، وعوّض منه همزةَ الوصل، كما فعل في "ابْن"؛ ومن قال: "سَهٌ"، حذف العين؛ ومن قال: "سَتٌ"، حذف اللام. فإذا سميت رجلًا بـ "مُذْ"، ثم صَغَّرْته، قلت: "مُنَيْذٌ"؛ لأنّ أصله "مُنْذُ"، و"مُذْ" مخفَّفٌ، فإذا صغّرتَه، رددتَه في التصغير إلى أصله وحالِه التي كانت له. وكذلك لو صغّرتَ "سَها"، لقلت: "سُتَيْهَةٌ"؛ لأنّ أصله: "سَتَهٌ" بفتح التاء، يدلّ على ذلك قولُهم في التكسير: "أسْتاهٌ". ولو سمّيت رجلًا بِـ "سَل" مِن "اسْأَلْ" على تخفيف الهمزة، لقلت: "سُؤيْلٌ"، فتردّ الهمزة؛ لأنّ عينه همزةٌ محذوفةٌ. ومنهم من يجعله معتلَّ العين بالواو، ويقول: "سالَ يَسالُ"، مثلَ: "خَافَ يَخافُ"، ومنه قراءةُ من قرأ: {سالَ سَائِل} (¬1) بغير همزة في الفعل ويدلّ أنّه من الواو قولهم: "سَاوَلْتُهُ"، و"سِلْتُهُ"، منه و"مَسُولٌ" مثلُ: "خِفْتُه"، فهو "مَخُوفٌ". وقياسُ ذلك أن تقول في تصغيره: "سُوَيْلٌ"، فتردّ الواو، ويكون ردُّ الساقط للتسمية لا للتصغير؛ لأنّ من قاعدة مذهب سيبويه أنه إذا سمّى رجلًا بنحوِ "قُمْ"، و"خَفْ"، و"بعْ"، ردّ إليه ما ذهب منه قبل التسمية قبل التصغير، فيقول في المسمّى بـ "قُمْ": "هذا قُومٌ"، وفي "خَفْ": "هذا خافٌ"، وفي "بعْ": "هذا بِيعٌ"؛ لأنّ العين إنّما كانت حُذفت لسكون اللام للأمْر، فإذا سُمّي به، أُعْرب، وتحرّكت اللامُ بحركات الإعراب، فعاد ما كان حُذف لالتقاء الساكنين، وليس كذلك إذا سُمّي بـ "سَلْ" من "سألَ يَسْأَلُ" مهموزًا؛ لأن الهمزة إنما حُذفت تخفيفًا، فلم تَعُدْ في التسمية. الثالث: ما حُذفت لامه، وذلك نحو: "دَم"، و"شَفَةٍ"، و"حِر"، و"فُلٍ". فإذا صغَّرت شيئًا من ذلك، رددت المحذوف، فتقول في "دَم": "دُميٌّ"، وفي يَدٍ: "يُدَيَّة"؛ لأنّ أصلهما: "دَمي"، و"يدْيٌ". وتقول في "شفةٍ": "شُفَيْهَةٌ"؛ لأن أصله "شَفَهَةٌ" بالهاء، يدلّ على ذلك قولهم في التكسير: "شِفاهٌ"، وفي الفعل: "شافَهْتُ". فإن قيل: أنتم إنما رددتم المحذوف ضرورةَ تكميل بناء التصغير، وهو"فُعَيْلٌ"، وتاءُ التأنيث يتِمّ بها الاسمُ، ويصير على ثلاثة أحرف، فهلاّ اجتُزىء بالتاء مُكمَّلة، ولم ¬
يُرَدّ المحذوف؟ فالجواب أنّ تاء التأنيث لا يُعْتَدّ بها؛ لأنّها تُعَدّ منفصلةً بمنزلةِ اسم ضُمّ إلى اسم، فكما أنّك تُصغِّر الصدرَ من الاسمين، فتقول: "حُضَيْرَمَوْتُ"، ولا تُغيِّر الثاني، فكذلك يقع التصغيرُ على ما قبل تاء التأنيث. وقالوا في تصغير "حِرٍ": "حُرَيْحٌ"؛ لأنّ أصله "حِرْحٌ"؛ لأنّه من باب "سَلِسَ"، و"قَلِقَ"، فخفّفوه بحذف لامه. والذي يدلّ على ذلك قولُهم في التكسير: "أحْراحٌ". وتقول في تصغير "فُلٍ" من قول أبي النَّجْم [من الرجز]: في لَجةٍ أمْسِكْ فُلانًا عن فُلِ (¬1) "فُلَيْنٌ" لأنّ الذاهب منه نون، إذ أصلُه "فُلان"، وإنّما خُفِّف، فلمّا صغّروه؛ أعادوا اللام التي هي النون، ولم يُعيدوا الألف لأنها زائدة. والغرضُ يحصل بردّ اللام وحدَها. وتقول في تصغير "فَم": "فُوَيْهٌ"؛ لأنّ أصله "فَوْهٌ"، بدليل قولهم في التكسير: "أفْواهٌ". وإنّما حذفوا الهاء لَشَبَهها بحروف المدّ، كما تُحذف في "شَفَةٍ"، وأبدلوا من الواو ميمًا، فلمّا صغروه؛ أعادوه إلى أصله. وأمّا "سَنَةٌ"، فمن قال: "سَنَواتٌ"، قال في تصغيره: "سُنَيَّة"، وأمّا من قال "سانَهْتُه"، قال في التصغير: "سُنَيْهَة". وهكذا تفعل في كلّ منتقِصٍ منه من الثلاثيّ، فتقول في تصغيرِ المسمّى بـ "أن" المخفّفة من الثقيلة: "أُنَيْنٌ"، وفي المسمى بـ "بَخ": "بُخَيْخ"؛ لأنّ أصله التشديد، يدلّ على ذلك قول العَجاج [من الرجز]: في حَسَب بَخِّ وعِزِّ أقْعَسَا (¬2) وتقول في المسمى بـ "رُبّ" من قوله [من الكامل]: 820 - [أَزُهَيْرُ إِنْ يَشِبِ القذالُ فإنَّهُ] ... رُبَ هَيْضَلٍ نَجْبٍ لَفَقتُ بهَيْضَلِ ¬
"رُبَيبٌ"؛ لأنّ أصله "رُبَّ" مشددةً، فإن صُغر ما هو على حرفَيْن ممّا لا أصلَ له أو ما لا يُعرَف أصله، نحوُ: "مَنْ"، و"كَمْ" و"إن" التي للجزاء، و"إن" التي تُلْغَى مع "مَا" من قوله [من الوافر]: 821 - فَمَا إنْ طِبُّنا جُبنٌ ولكِنْ ... مَنايانَا ودَوْلَةُ آخَرِينَا فجميعُ ذلك إذا سُمّي به، ثمّ صُغر، يُتمَّم بالياء، فيقال: "مُنَيٌّ"، و"كُمَيٌّ"، و"أُنَيٌّ"؛ لأنّ أكثرَ المحذوفات من الياء والواو، نحوَ: "أبٍ"، و"أخٍ"، و"يَدٍ"، والواوُ ترجع في التصغير إلى الياء لاجتماعها مع ياء التصغير، نحوِ: "أُبَيٍّ"، و"أُخَيٍّ"، و"بُنَيٍّ"، ¬
فصل [ما لا يرد محذوفه عند التصغير]
فلمّا كانت تؤول إلى الياء، جعلوا الزائدَ ياءً من أوّلِ أمره، كما قال [من المتقارب]: 822 - رَأى الأمْرَ يُفْضِي إلى آخِر ... فَصَيرَ آخِرَهُ أوَّلا * * * فصل [ما لا يُردّ محذوفه عند التصغير] قال صاحب الكتاب: وما بقي منه بعد الحذف ما يكون به على مثال المحقر, لم يرد إلى أصله, كقولهم في "ميت" و"هار" و"ناس": مُييتٌ", و"هويرٌ" و"نويس", ولو رد, لقيل: "مُييت", و"هُويئر" و"أُنيس". * * * قال الشارح: اعلم أن الاسم إذا حُذف منه شيءٌ، وبقي بعد الحذف ما يحصل به بناءُ التصغير، وهو ثلاثةُ أحرف، لم يُرَدّ المحذوف؛ لأنّ الحذف لم يكن عن علّةٍ تزول في التصغير، إنّما كان الحذف لضرب من التخفيف في المكبَّر، وهو أحوجُ إليه في المصغّر لزيادة حروفه. فلذلك تقول في "مَيْتٍ" مخفِّفٍ من "مَيَّتٍ": "مُيَيْتٌ" بياء واحدة بعدها ياءُ التصغير، ولم تردّ المحذوف؛ لأنّ الغرض من ردّ المحذوف من نحو: "أبٍ"، و"أخٍ" تحصيلُ بناء التصغير، وهو "فُعَيْلٌ" وذلك حاصلٌ من "مَيْتٍ"، فلم يُحتَج إلى ردّ المحذوف، ولو رُدّ لقيل: "مُيَيِّتٌ" بثلاث ياءات. وكذلك تقول في "هارٍ" من قوله تعالى: {عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} (¬1): "هُوَيْرٌ"، فلا تردّ المحذوف، إذ لا حاجةَ إلى ذلك لحصول بناء التصغير؛ لأنّ الباقي بعد الحذف ثلاثةُ أحرف، وأصلُ "هارٍ": "هائرٌ"، فحُذفت العين تخفيفًا. ¬
فصل [ما ترد لامه المحذوفة عند التصغير]
وتقول في تصغير "ناسٍ": "نُوَيْسٌ"، ولو رددتَ المحذوف، لقلت "أُنَيسٌ"؛ لأنّ أصله: "أُناسٌ"، فحُذفت الفاء منه، وهي الهمزة، وصارت ألفُ "فُعَالٍ" كالعوض من المحذوف، ويدلّ أنّ أصله "أُناسٌ" قولُ الشاعر [من مجزوء الكامل]: إِنَّ المَنايَا يَطَّلِعْنَ ... على الأُناس الآمِنِينَا (¬1) هذه قاعدة مذهب سيبويه (¬2)، فعلى ذلك لو سمّى رجلًا بـ "يَضَعُ"، وَ"يَدَعُ"، ثمّ صغّر، لقال: "يُضَيْعٌ"، و"يُدَيْعٌ"، ولا يردّ المحذوف الذي هو الواو؛ لأنّ الباقي بعد الحذف يَفِي ببناء التصغير، فلم يحتج إلى ردّه. وزعم يونس (¬3) أنّ ناسًا يقولون: "هُوَيْئِرٌ". وذكر يونس (¬4) أيضًا أنّ أبا عمرو بن العَلاء كان يقول في تصغير "مُرٍ"، وهو اسم الفاعل من "أرى يُرِي": "مُرَيِّءٌ" مثلَ "مُرَيِّع". وكان أبو العبّاس، وهو قول أبي عثمان المازنيّ، يرى الردّ، ويقول: "يُوَيْضِع"، و"هوَيْئِرٌ". قال سيبويه (¬5): من قال: "هُوَيْئِرٌ" فإنّما صغّر "هائرًا" لا "هارًا"، كما قالوا: "رُوَيْجِلٌ"، كأنّهم صغّروا "راجِلًا" في معنى "رَجُلٍ"، وإن لم يُستعمل، وكما قالوا: "أُبَيْنُونَ" جاؤوا بالتصغير على ما لم يُستعمل، كأنّهم بنوا صيغة الجمع على "أفْعُلَ"، ثمّ صغروه، وجمعوه بالواو والنون. ألا ترى أنّه لو كان تصغيرُ الجمع مستعملًا؛ لم يَخْلُ إمّا أن يكون تصغير "أبْناءٍ" أو تصغير "بَنِينَ"، فلا يكون تصغير "أبناء"، إذ لو كان كذلك؛ لقيل: "أُبَيْناءٌ"، كما يُقال: "أُجَيْمالٌ"، ولو كان تصغير "بنين"؛ لقيل: "بُنَيون"، كأنّك تصغر الواحد، ثمّ تجمعه بالواو والنون. وفي بُطْلانِ ذلك دليلٌ على ما ذُكر. قال: ويلزم من قال: "يُوَيْضِع"، و"هُوَيْئِرٌ" فرَدَّ؛ أن يقول في "ميْتٍ": "مُيَيِّتٌ"، وفي "ناسٍ": "أُنَيِّس"، وفي "خيْرٍ منك"، و"شَرّ منك": "أُخَيِّرُ منك"؛ و"أُشَيْرِرُ منك" لأنّ أصلهما "أخْيَرُ منك"، و"أشَرُّ منك". وقد اتّفقوا في ذلك على "مُيَيْت"، و"نُوَيْس" من غير ردّ، وكذلك قالوا: "خُيَيْرٌ منك"، و"شُرَيْرٌ منك" من غير ردّ ولا فرقَ بينهما. فصل [ما تُردّ لامه المحذوفة عند التصغير] قال صاحب الكتاب: وتقول في "اسمٍ", و"ابنٍ": "سميٌّ" و"بنيٌّ"، فترد اللام الذاهبة، وتستغني بتحريك الفاء عن الهمزة, وفي "أُختٍ", و"بنتٍ" و"هنتٍ": "أُخيةٌ", و"بنيةٌ" و"هنيةٌ"، ترد اللام, وتؤنث وتذهب بالتاء اللاحقة. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ كلّ اسم كان في أوّله همزةُ وصل، فإنّ همزته تسقط في التصغير، سواء كان الاسم تامًّا أو ناقصًا، فمثالُ التامّ قولك في "انطلاقٍ"، و"اقتدارٍ": "نُطَيْلِيقٌ"، و"قُتَيْدِيرٌ"، ومثالُ الناقص قولك في "ابْنٍ": "بُنَيٌّ"، وفي "اسْمٍ": "سُمَيٌّ"، وفي "اسْتٍ": "سُتَيْهَةٌ". حذفت همزة الوصل للاستغناء عنها بتحريكِ ما بعدها؛ لأنّها إنّما دخلت توصُّلًا إلى النطق بالساكن، وما بعد الأوّل في التصغير يكون أبدًا محرَّكًا، فلم يحتج إلى الهمزة. ولمّا حُذفت الهمزة، رُدّ المحذوف، لأنّ الباقي لا يفي ببناء التصغير إذ كانا حرفَيْن. وأمّا نحو: "بِنْتٍ"، و"أُخْتٍ"، و"هَنْت"، فإنّ هذه الكِلَم وإن استُفيد منها التأنيث، فليست التاء فيها بعلامةِ تأنيث؛ وإنمّا قلنا ذلك لسكونِ ما قبلها. وتاءُ التأنيث لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا ما لم يكن ألفًا، وأيضًا فإنّ تاء التأنيث إذا اتّصلت بالاسم، يُبْدَل منها في الوقف هاءٌ، نحوُ: "شَجَرَة"، و"تَمْرَة"، وهذه تاءٌ في الوصل والوقف. هذا مذهب سيبويه فيها، وقد نصّ على ذلك في بابِ ما لا ينصرف، فقال: لو سمّيتَ بهما رجلًا؛ لصرفتَهما معرفةً، يعني "بِنْتًا"، و"أُختًا" ولو كانت للتأنيث؛ لَمَا انصرفتا كما لم ينصرف نحوُ "طَلْحَةَ"، و"حَمزَةَ"، فثبت بما ذكرناه أنّ التاء ليست للتأنيث، إنّما هي مبدلةٌ من اللام التي هي واوٌ، ألا ترى أنّ الأصل فيها: "أخَوَةٌ"، وَ"بَنَوَةٌ"، وَ"هَنَوَةٌ"، ووزنُها "فَعَلٌ" بفتح الفاء والعين، فنقلوها إلى "فُعْلٍ"، و"فِعْلٍ"، و"فَعْلٍ"، وألحقوها بالتاء المبدلة من لامها بوزن "قُفْلٍ"، و"عِدْلٍ"، و"فَلْسٍ"؟ فإن قيل: إذا زعمتم أن التاء ليست علامة تأنيث، وأنّ "بِنْتًا" ليست من "ابْنٍ" بمنزلة "صَعْبَةٍ" من "صَعْبٍ"، فما عَلَمُ التأنيث فيها؟ فالجوابُ أنّ الصيغة فيها علمُ التأنيث. والمراد بالصيغة نَقلُها من "فَعَلٍ" إلى "فُعْلٍ"، و"فِعْلٍ" و"فَعْلٍ"، وإبدالُ التاء من الواو، فإنّ هذا عَمَلٌ اختصّ بالمؤنّث، إلَّا أنّ التاء ههنا، وإن لم تكن علامة تأنيث، فهي جاريةٌ مجراها، إذ كان هذا الإلحاقُ مختصًّا بالمؤنّث، فلذلك لم يُعْتَدّ بها في بناء التصغير. فإذا صغرتَها، أعدتَ اللام المحذوفة معها كما تُعيدها مع التاء التي هي علامة التأنيث، من نحو: "ثُبَيَّةٍ" و"بُرَيَّةِ" في تصغر "ثُبَةٍ"، و"بُرَةٍ"، وألحقتَ التاء التي هي علامة التأنيث للإيذان بالتأنيث؛ لأنّ الصيغة الدالّة على التأنيث في "أُخْتٍ"، و"بِنْتٍ" قد زالت بالتصغير، وكانت التاء أوْلى بالعلامة هنا دون غيرها من علامات التأنيث؛ لشَبَهها بها من حيث كانت تاءً في الوصل. ومن ذلك "ثِنْتانِ"، التاءُ فيه بدلٌ من اللام التي هي ياءٌ من "ثَنَيْتُ"، وهي مُلْحِقةٌ له بـ "حِلْسٍ"، و"عِدلٍ". والتاءُ في "اثنتان" للتأنيث كما كانت في "بِنْتٍ" للإلحاق، وفي "ابْنَةٍ" للَتأنيث. ومن ذلك التاءُ في "كَيْتَ"، و"ذَيْتَ"، التاءُ فيهما بدلٌ من اللام التي هي ياءٌ في "كَيَّةَ"، و"ذَيَّةَ"، وقد تقدّم الكلام عليهما في فصل الكِنايات، فاعرفه
فصل [تصغير ما فيه حرف مبدل من غيره]
فصل [تصغير ما فيه حرف مُبدل من غيره] قال صاحب الكتاب: والبدل غير اللازم يرد إلى أصله كما يُرد في التكسير، تقول في "ميزان": "مويزينٌ"، وفي "مُتعدٍ", و"مُتَّسرٍ": "مويعد" و"مييسرٌ"، وفي "قيل" و"باب" و"ناب": قويل وبويب ونُييبٌ. وأما البدل اللازم فلا يرد إلى أصله، تقول في قائل قويئل، وفي "تخمة": "تخيمة"، وكذلك تاء "تراث" وهمزة "أدد". وتقول في "عيد": "عُييدٌ" لقولك: "أعيادٌ". * * * قال الشارح: اعلم أنّ البدل على ضربَين: لازمٌ، وغيرُ لازم، والمراد باللازم ما كان الإبدالُ فيه لضرب من التخفيف، لا لعلةٍ أوجبت ذلك له، وغيرُ اللازم ما كان البدلُ فيه لعلّة أوجبت ذلك فيه، إمّا بحركةٍ أوجبت قلبَ ما بعدها، وإمّا بحرفِ على حالةٍ تُوجب قلبَ حرف بعده. فإذا حقّرت، أو جمعت؛ تزول العلّة الموجِبةُ إمّا بزوال الحركة، أو بزوال الحالة من ذلك الحرف، فيُرَدّ إلى أصله. فمن غير اللازم: "مِيزانٌ"، و"مِيعادٌ"، و"ميقات"، والأصل: "مِوْزان"، و"مِوْعاد"، و"مِوقات"، فقلبوا الواو ياءً لسكونها وانكسارِ ما قبلها، فإذا صُغّرت أو جُمعت بحركة الواو، فعادت إلى أصلها؛ لزوال سبب القلب، وذلك نحو قولك في التصغير: "مُوَيْزِينٌ"، وفي التكسير "مَوازِينُ"، ومن العرب من لا يردها إلى الواو في الجمع. وأنشدوا [من الطويل]: 823 - حِمَى لا يُحَل الدَّهْرَ (¬1) إلَّا بإذْننا ... ولا نسْألُ الأقْوامَ عَهْدَ الميَاثِقِ ¬
وهو جمع "مِيثاقٍ" وأصلُه من "وَثِقت". ومن ذلك قولهم في تصغير "قِيلٍ": "قُوَيلٌ"؛ لأنّه من الواو، كأنهم بنوا من القول اسمًا على "فِعلٍ" مثل "عِدلٍ". ومنه قوله عليه السّلام: "نهى عن قِيلٍ وقَالٍ" (¬1)، ولذلك لو سمّيت رجلًا بـ "قِيلَ" فِعْلِ ما لم يسمّ فاعلُه، لكان هذا حكمَه في التصغير، فتقول: "قُوَيلٌ". وكذلك لو صغرت "رِيحًا"، لقلت: "روَيحَةٌ"؛ لأنّ أصلها: "رِوْحٌ". وإنما قلبوا الواو ياءً؛ لسكونها وانكسارِ ما قبلها, فإذا صغّرتها، تحرّكت وزالت الكسرة من قبلها، فبطلت العلّةُ. وكذلك تقول في الجمع: "أرواحٌ". قال الشاعر [من الطويل]: 824 - [مِنَّا الذي اختِيرَ الرّجالَ سَمَاحة ... وَجودًا] إذا هَبَّتَ ارواحُ الشتاء الزَّعازعُ ويُحكَى عن عُمارة أنَّه قال: "رِيحٌ"، و"أرياح". ويحكى أن أبا حاتم السجِسْتاني أنكر عليه ذلك، فقال أمَا ترى في المُصْحَف {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ} (¬2) كأنه قاسَهُ، فغَلِطَ. وكذلك لو صغرت نحوَ: "مُوقِنٍ"، و"مُوسِر"، لقلت:"مُيَيقنٌ"، و"مُيَيسِرٌ"، فتعيده إلى الياء, لأن أصله الياء؛ لأنه من "اليَقِينِ" و"اليُسر". وإنما قُلبت واوًا لسكونها وانضمام ما قبلها، وبالتصغير زال السكون، فعادت إلى الأصل. ¬
ومن ذلك "مُتَّعِدٌ"، و"مُتَّسِرٌ"، و"مُتَّزِنٌ"، إذا صغّرتها، قلت: "مُوَيْعِدٌ"، و"مُيَيْسِرٌ"، و"مُوَيزِنٌ"، فعُدتَ إلى الأصل؛ لأنّ "متّعدًا" من "الوَعْد"، و"متّزنًا" من "الوَزْن"، و"متّسرًا" من "اليُسْر". وإنّما قلبت الفاء تاءً منها لوقوع تاء الافتعال بعدها. فإذا صغّرتها، حُذفت؛ لكون الاسم بها خمسةَ أحرف. وإذا حذفت التاء، عادت الواو والياء إلى أصلهما؛ لأنّ القلب إنّما كان لأجل التاء، هذا مذهبُ أبي إسحاق الزجَّاج، وأمّا سيبويه (¬1)، فلا يرى ردَّها إلى أصلها، ويقول: "مُتَيْعِدٌ"، و"مُتَيْزِنٌ"، و"مُتَيْسِرٌ". وذلك لأنّ قاعدة مذهبه أنّه إذا وجب البدل في موضع الفاء والعين لعلّةٍ، ثمّ زالت العلّةُ بالتصغير، لم يُغيِّر البدل، كأنّ التصغير قام مقام العلّة، فـ "مُتعِدٌ" بمنزلة "مُغْتَسِلٍ" فإذا صُغّرت، حُذفت تاء الافتعال، وبقيت التاءُ الأُولى على حالها. والأوّلُ أقيسُ. فأمّا "بابٌ"، و"نابٌ" ونحوهما ممّا هو على ثلاثة أحرف، وثانيه ألفٌ، فإنّه إن كانت الألف فيه منقلبة عن واو، رُدّت الواو، نحوَ قولك في "باب": "بُوَيْبٌ"، وفي "مالٍ": "مُوَيْلٌ"، وفي "غارٍ": "غُوَيْرٌ". وفي المثل "عَسَى أن يكون الغوَيْرُ أبْؤُسًا" (¬2). وما كان من الياء، فإنّك تردّها إلى الياء، نحوَ قولك في "ناب": "نُيَيْبٌ"، وفي رجلِ اسمُه "غَابَ"، و"صَارَ": "غُيَيْبٌ"، و"صُيَيْرٌ". وذلك لأنّك تضمّ أول المصغّر أبدًا إذا كان اسمًا متمكنًا، والألفُ لا تثبت مع انضمام ما قبلها؛ لأنّها مَدّةٌ لا تكون حركةُ ما قبلها إلَّا من جنسها، فإن لم يُعرَف له أصلٌ في الواو والياء، قُلبت إلى الواو؛ لأنّ ذوات الواو في هذا الباب أكثرُ من ذوات الياء، فلذلك تقول في "سارٍ": "سُوَيْرٌ"، تريد: السائر، فتحذف الهمزة. وسَواءٌ في ذلك كان من "سَارَ يَسِيرُ"، أو من قولك: "سائر الناس"؛ لأن الهمزة التي هي عينٌ أو بدلٌ من عين محذوفةٌ للتخفيف، فبقي "سارٌ" على زنة "فَالٌ"، فقلبتها واوًا، كما لو لم تحذف العين في نحو: "سُوَيْئِر"، و"ذُوَيهِبٍ". وكذلك تقول في "رجل خافٍ": "خُوَيْفٌ"، سواءٌ في ذلك كان أصله "خائفًا"، ثمّ خُفّف، أو"خَوِفًا"، مثلَ "رجلٍ مال"، و"كَبْشٍ صافٍ"، فاعرفه. وأمّا البدل اللازم، فنحو الهمزة في "قائلٍ"، و"بائعٍ"، فإذا صُغّر شيء من ذلك، ¬
فصل [تصغير ما ثالثه واو وسطا]
قلت: "قُوَيْئِلٌ"، و"بُوَيْئِعٌ" بالهمز. لم يخالف في ذلك أحدٌ من أصحابنا، إلَّا أبو عمر الجَرميّ، فإنّه كان يقول: "قُوَيِّلٌ"، و"بُوَيِّعٌ" من غير همز، قال: لأنّ الهمزة في "قائل"، و"بائع" إنّما كان لاعتلال العين بوقوعها بعد ألف زائدة، وكانت مجاوِرةً للطرف، فهمزوها على حدّ الهمز في "عَطاء"، و"كِساء"، وأنت إذا صغّرت، زالت الألف، فعادت الهمزة إلى أصلها من الواو والياء على حدّ عَوْدها في "مُتعِدٍ"، و"مُتَّزِنٍ". وسيبويه وأصحابه اعتمدوا على قوّة الهمزة هنا بثبوتها في التكسير، نحوِ: "قَوائِمَ"، و"بَوائِعَ". وكل العرب تهمز الجمع، فلذلك كانت الهمزة في "قائلٍ" و"بائعٍ" لازمة، وإن كانت حدثت عن علّة. ومن ذلك التاء في "تُخَمَةٍ"، و"تُكَلَةٍ"، و"تُراثٍ"؛ البدل فيه لازمٌ يثبت في التصغير والتكسير؛ لأنّ أصله الواوف "تُخَمَة" أصله "وُخَمَةٌ"؛ لأنّه من "الوَخَامَة"، و"تُكَلَةٌ" أصله "وُكَلَةٌ"؛ لأنّه من "تَوَكلْتُ". و"تُراثٌ" أصله: "وُراثٌ" لأنّه من "وَرِثْتُ"؛ لأنّه لم يكن لعلّةٍ إنّما كان لضرب من التخفيف. والتخفيفُ كما كان مطلوبًا في المكبَّر، كذلك هو مطلوب في المصغّر، بل هو في المصغّر أجدرُ؛ لأنّ التصغير يزيده ثِقَلًا بالزيادة فيه، فلذلك تقول: "تُخَيْمَة"، و"تكَيْلَةٌ"، و"تُرَيِّثٌ"، وذلك بإجماعٍ من أصحابنا. وأما "أُدَدٌ" وهو أبو قبيلة من اليَمَن، وهو أدد بن زيد بن كَهْلانَ بن سَبَأ، فقد جاء مصروفًا، كأنّهم جعلوه من باب "نُقَبٍ"، ولم يجعلوه معدولًا، وهمزتُه بدلٌ في واو، وأصلُه: "وُدَدٌ" من "الوِدّ"، وإنّما قلَبوا واوَه همزةً لانضمامها على حدِّ "وُقَّتَتْ"، و"أُقِّتَتْ". والتصغير على البدل: "أُدَيدٌ"؛ لأنّها مضمومة أيضًا في التصغير، فالعلّةُ الموجبةُ للقلب في المكبّر موجودةٌ في المصغّر. وأمّا "عِيدٌ"، و"أعْيادٌ"، فإنّه وإن كان البدلُ فيه لعلّة، إذ أصلْه الواو؛ لأنّه من "العَوْد"، وإنّما قُلبت الواو ياءً لسكونها وانكسار ما قبلها، فكان القياس أن تعود إلى الواو في التصغير لتحرُّكها على حدّ عَودها في "مُوَيْزِينٍ"، و"مُوَيْعِيدٍ". وإنّما لزم البدلُ لقولهم في التكسير: "أعْيادٌ"، كأنّهم كرهوا "أعْوادًا"؛ لئلا يلتبس بجمع "عُودٍ"، فاعرفه. فصل [تصغير ما ثالثه واوٌ وسطًا] قال صاحب الكتاب: والواو إذا وقعت ثالثة وسطاً كواو "أسود", و"جدول"، فأجود الوجهين: "أسيد" و"جديل"، ومنهم من يظهر فيقول أسيود وجديول. * * * قال الشارح: الواو إذا وقعت حشوًا، فلا تخلو من أن تكون ثانيةً، أو ثالثةً، فإذا كانت ثانية نحوَ: "جَوْزَةٍ"، و"لَوْزَةٍ"، فإنّها لا تُغيَّر في التصغير؛ لأنّها تُحرَّك بالفتح في التحقير، وتقع الياء ساكنةٌ بعدها، فتقول: "جُوَيْزَةٌ"، و"لُوَيْزَةٌ".
[قلب الواو ياء في التصغير إذا وقعت لاما]
فإن كانت ثالثةً وَسَطًا، فلا تخلو من أن تكون ساكنة أو متحرّكة. فإن كانت ساكنة، نحو واو"عَجُوزٍ"، و"عَمُودٍ"، فإنّها تُقلَب ياءً في التصغير أبدًا، وتُدّغَم فيها ياءُ التصغير؛ لأنّه لا بدّ من وقوع ياء التصغير ثالثةً قبلها وهي ساكنةٌ، فيُجمع الواو والياء، والأوّلُ منهما ساكنٌ، فقُلبت الواو ياءً، كما قُلبت في "مَيِّتٍ"، و"سَيِّدٍ"، و"قَيِّمٍ"، والأصل: "مَيْوِتٌ"، و"سَيوِدٌ"، و"قَيْوِمٌ". وإن كانت متحرّكةً عينًا كانت أو زائدةً للإلحاق، مثالُ العين نحوُ: "أسْوَدَ"، و"أعْوَرَ"، ومثالُ الملحِقة: "جَدْوَلٌ"، و"قَسْوَرٌ"، فأنت إذا حقّرت ذلك، فلك فيه وجهان: أحدهما: القلب والادّغام، وهو الكثير الجيِّد، نحوُ قولك: "أُسَيِّدُ"، و"أُعَيِّرُ"، و"جُدَيِّلٌ"، و"قُسَيِّرٌ"، والأصل: "أُسَيْوِدُ"، و"أُعَيْوِرُ"، و"جُدَيْوِلٌ"، و"قُسَيْوِرٌ"، فعُمل فيه ما تقدّم ذكرُه من قلب الواو وادّغامِ ياء التصغير فيها على حدّ العمل في "ميتٍ"، و"سَيِّدٍ". الثاني: الإظهار، فتقول: "أُسيْوِدُ"، و"أُعَيْوِرُ"، و"جُدَيْوِلٌ"، و"قُسَيْوِرٌ". وعلّةُ هذا الوجه أنّهم حملوا التصغير هنا على التكسير، فكما قالوا "أساوِدُ"، و"جَداوِلُ" بإظهار الواو، كذلك قالوا: "أُسَيْوِدُ"، و"جُدَيْوِل"؛ لأنّ التصغير والتكسير من واد واحد. وإنما كان الوجه الأول هو المختارَ؛ لأنّ الحمل على التكسير ضعيفٌ لا يطّرِد، ألا ترى أنّهم قالوا: "مَقاوِلُ"، و"مَقاوِمُ" في "مَقامٍ"، و"مَقالٍ"، فأظهروا الواو في الجمع، ومع هذا فهم يقولون في التصغير: "مُقَيِّمٌ"، و"مُقَيِّلٌ"، فادّغموا, ولم يعتمدوا بظهورها في التكسير؟ وقيل: إنّما قالوا: "أُسَيْوِدُ"، و"جُدَيْوِلٌ" حيث قويتْ بالحركة في الواحد، ألا ترى أنّهم قالوا: "ثِيابٌ"، فقلبوا الواو ياءً في التكسير حيث سكنت في الواحد، ولم يقلبوها في "طوالٍ" حيث كانت متحرّكة في الواحد من نحو: "طَوِيلٍ"، فاعرفه. [قلب الواو ياء في التصغير إذا وقعت لامًا] قال صاحب الكتاب: وكل واو وقعت لاماً صحت أو أعلت, فإنها تنقلب ياء، كقولك: عرية ورضيًا وعشياء وعصية في عروة ورضوى وعشواء وعصا. * * * قال الشارح: متى وقعت الواو لامًا، قلبتَها ياءً في التصغير لا غيرُ، فتقول في تصغير "عُرْوَةٍ"، و"غُدْوَةٍ": "عُرَيَّةٌ"، و"غُدَيَّةٌ"، وتقول في تحقير "رَضْوَى" اسم جبل: "رُضَيَّا"، والأصل "عُرَيْوَةٌ"، و"غُدَيْوَةٌ" و"رُضَيْوَى"، فقلبت الواو ياءً لوقوع ياء اَلتصغير ساكنةً قبلها. وتقول في تحقير "عَشْواءَ": "عُشَياءٌ". وإنّما وجب في اللام القلبُ لا غيرُ، وجاز في العين إقرارُ الواو على الصفة التي ذكرناها، وذلك لضُعْف اللام بتطرُّفها، وقوّةٍ العين بتوسُّطها. ولذلك كثُر الحذف في اللام من نحو: "أخٍ"، و"أبٍ"، وقلّ في نحو "مُذْ"، و"سَهٍ". ويؤيّد ذلك أنّه متى اجتمع ياءان، أو واوان، أو ياءٌ ووَاوٌ، ووُجد في كلّ
فصل [اجتماع يائين في التصغير]
واحدة منها ما يوجب القلبَ، ولم يجز إعلالُهما معًا؛ اعتلّت اللام دون العين، نحوَ: "حَوَى" "يَحْوِي"، و"حَيَّ"، "يَحْيَا"، و"هَوَى"، و"نَوَى". قال: وكل واو وقعتْ لامًا، صحّتْ أو اعتلّتْ، فإنّها تنقلب ياءً، وذلك قولك في تصغير "عُرْوَةٍ"، وَ"رَضْوى" "عُرَيَّةٌ"، و"رُضَيَّا"، وفي تصغير "عَصًا"، و" قَفًا": "عُصَيَّةٌ"، و"قُفَيٌّ". والأصل "أُصَيْوَةٌ"، و"قُفَيْوٌ". فلمّا اجتمعت الواو والياء، والأوّل منهما ساكنٌ؛ قلبوا كما فعلوا بـ "مَيِّتٍ"، و"جَيِّدٍ"، ولم يُجيزوا التصحيح كما جوّزوه في "أُسَيْوِدَ"، و"أُعَيْوِرَ"؛ لأنّ العين أقوى من اللام، والقلبُ في المعتلّة أقوى، فاعرفه. فصل [اجتماع يائين في التصغير] قال صاحب الكتاب: وإذا اجتمع مع ياء التصغير ياءان, حذفت الأخيرة, وصار المصغر على مثال فعيل، كقولك في عطاء وإداوة وغاوية ومعاوية وأحوي: عطي وأدية وغوية ومعية وأحي غير منصرف, وكان عيسى بن عمر يصرفه، وكان أبو عمرو يقول أحي ومن قال أسيود قال أحيو. * * * قال الشارح: اعلم أنّه متى آلَ التصغير بالاسم إلى أن يجتمع في آخِره ثلاثُ ياءات، فإنّك تحذف الياء الأخَيرة لثِقَل الجمع بين الياءات، وخصّوا الأخيرة بالحذف؛ لتطرُّفها وكثرةِ تطرُّق التغيير إلى اللام على ما وصفنا. وذلك قولك في تصغير "عَطاءٍ": "عُطَيٌّ" على زنة "فُعَيْلٍ". وذلك أنّك لمّا صغّرته؛ وقعت ياءُ التصغير ثالثةٌ قبل الألف، فانقلبت الألفُ ياءً؛ لأنّ ياء التصغير لا تكون إلَّا ساكنة، والألفُ لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا، وادُّغمت في الياء المنقلبة عن الألف. ولمّا انقلبت الألف ياءً، عادت الهمزة إلى أصلها، وهو الواو؛ لأنّه من "عَطَا، يَعْطُو"؛ وذلك أنّها إنّما كانت انقلبت همزةً لوقوعها طرفًا بعد الألف الزائدة، فلمّا صارت ياءً، عادت إلى أصلها، وهو الواو، ثم قُلبت ياء للكسرة قبلها؛ لأن ياء التصغير لا يكون ما بعدها إلَّا مكسورًا، فاجتمع حينئذ ثلاثُ ياءات: ياءُ التصغير، وهي الأوُلى، والياء المبدلة من الألف المدّغَم فيها، والياء المبدلة من الواو التي كانت همزة في المكبّر، فحُذفت اللام لِما ذكرناه، وصار تصغيرُه كتصغير بنات الثلاثة، نحو قولك في "قَفًا": "قُفَيٌّ"، وفي "رَحًى": "رُحَيَّةٌ". ومثله "إداوَةٌ"، لمّا صغّرتَها، زدتَ قبل قلبها الألف ياءَ التصغير، فانقلبت ياءً، ثمّ قلبتَ الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها على حدّ قلبها في "غازِيَةٍ"، و"مَحْنِيَةٍ". وأمّا "غاوِيَةٌ"، فهو "فاعلة" من "الغَيّ"، فإذا صُغّر؛ قُلبت ألفه واوًا لانضمام الفاء
منه، ووقعت ياءُ التصغير ثالثة، بعدها الواوُ التي هي عين الكلمة متحرّكة، فقُلبت الواو ياءً، وادُّغمت فيها الياء الأوُلى، واجتمعت مع الياء الأخيرة التي هي لامٌ، فاجتمع ثلاثُ ياءات، فحُذفت الأخيرةُ على ما تقدّم. وقيل: "غُوَيَّةٌ" على منهاجِ "فُعَيْلَةَ"، ووزنُها في الحقيقة "فُوَيْعَةُ"، واللام محذوفةٌ. وأمّا "مُعاوِيَةُ"، فإنّك إذا صغرتَه، حذفت ألفَه؛ لأنّه على خمسة أحرف، وفيها زيادتان: الميم والألف، وكانت الميم مزيدة لمعنًى، والألفُ لغيرِ معنى، فحُذفت الألف كما يُفْعَل في "مُغْتَلِمٍ"، و"مُنْطَلِقٍ" إذا صغّرتهما، فإنّك تحذف التاء والنون دون الميم، وإذا حذفت الألف، وقعت ياءُ التصغير ثالثةً، فتجتمع مع الواو التي هي عين الكلمة. ومن قال: "أُسيْوِدُ"، ولم يقلب، قال: "مُعَيْوِيَةُ" من غير قلب ولا حذفِ شيء؛ لأنّه لم تجتمع ثلاث ياءات، ومن قال "أُسَيِّدُ"، قال: "مُعَيَّةُ"؛ لأنّه لمّا قُلبت الواو ياءً لاجتماعها مع ياء التصغير، وكانت الياءُ التي هي لامٌ بعدها؛ اجتمع ثلاثُ ياءات، فحُذفت اللام، وبقي "مُعَيَّةُ" على زنة "مُفَيْعَةَ". قال الشاعر [من الوافر]: 825 - وَفاءٌ يا مُعَيَّةُ من أبِيه ... لِمَنْ أوْفَى بعَهدٍ أو بعَقْدِ ومن ذلك "أحْوَى"، وهو"أفْعَلُ" من "الحُوَّة"، وهي سُمْرَةُ الشَّفَة. يُقال: "رجلٌ أحْوَى"، و"امرأةٌ حَوّاءُ"، وهو من باب "الهُوَّة"، و"القُوَّة"، عينُه ولامه واوٌ. وإنّما وقعت الواو رابعة، فانقلبت ياءً على حدّ انقلابها في "أغْزَيْت"، و"أدعَيتُ"، ثمْ قُلبت الياء ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها. فإذا صغّرته، قلت: "أُحَيٌّ" غيرَ مصروف. هذا مذهب سيبويه (¬1)، وذلك أنّك زدت ياءَ التصغير ثالثةً، فاجتمعت مع الواو التي هي عينٌ، فانقلبت ياء على ما قدّمناه، وكان بعدها الياء المبدلة من لام الكلمة، فاجتمع ثلاثُ ¬
فصل [تصغير ما ختم بتاء التأنيث]
ياءات، فحُذفت الأخيرةُ، ولم يُعْتَدّ بالنقص؛ لأنّ ما حُذف للتخفيف كان في حكم المنطوق به. وقاسَه سيبويه (¬1) على "أصَمُّ"، فإنّه لا ينصرف، وإن كان نقص عن بنيةِ "أفْعَلُ". ألا ترى الأصل "أصمَمُ"، فلمّا أريد الاِدّغامُ؛ نقلوا حركة العين إلى الفاء، ففارَقَ بناءَ "أفْعَلُ". ومع ذلك فهو لا ينصرف. وكان عيسى بن عمر يصرفه (¬2)، ويقول: "أُحَيٌّ يا فَتَى"، كأنّه اعتبر نَقْصَه وخروجَه عن زنةِ "أفْعَلُ". وفرق أبو العبّاس المبرَّد بين المسألتَين، فقال: "أُحَيّ" قد ذهبت لامه، وتَغيَّرت بنيتُه، فصار إلى زنةِ "أفَيْعٌ"، و"أصَمٌّ" لم يذهب منه شيءٌ، وإنّما نُقلت حركةُ ميمه إلى الصاد، فهي موجودة في الكلمة غيرُ محذوفة منها. وهذا القولُ ضعيف بدليلِ أنّنا لو سمّينا بـ "يَعِدُ"، و"يَضَعُ" رجلاً، فإنّه يمتنع من الصرف، وإن كان محذوفًا منه؛ كذلك ههنا. وكان أبو عمرو بن العَلاء يقول: "هو أُحَيٍّ" (¬3)، كأنَّه يجعله منقوصًا، ورَدَّ سيبويه (¬4) قولَه بقولنا: "عُطَيٌّ"، ولم نجعله منقوصًا، وإن كان في آخِره ياءٌ قبلها مكسورٌ، بل حذفنا الأخيرة لاجتماع الياءات. فأمّا من قال: "أُسَيْوِدُ"، فإنّه يقول هنا "أُحَيْوٍ" لا غيرُ، يجعله منقوصًا, ولا يحذف الياءَ؛ لأنّه لم يجتمع في آخِره ثلاثُ ياءات. فصل [تصغير ما خُتم بتاء التأنيث] قال صاحب الكتاب: وتاء التأنيث لا تخلو من أن تكون ظاهرة أو مقدرة, فالظاهرة ثابتة أبداً, والمقدرة تثبت في كل ثلاثي, إلا ما شذ من نحو: "عُريسٍ", و"عُريب". * * * قال الشارح: علامة التأنيث علامتان: التاء والألف، فالتاءُ إذا كانت ظاهرةً في الاسم تثبت في تحقيره، قلّت حروفُه، أم كثُرت؛ لأنّها بمنزلةِ اسم ضُمّ إلى اسم، نحوِ: "حَضْرَمَوْتَ". ألا ترى أنّها تدخل على المذكّر، فلا تُغيِّر بناءَه، ويكون ما قبلها مفتوحًا؟ وإذا كان ذلك كذلك؛ فالبابُ فيها أن تُصغِّر الاسم من أيِّ باب كان، ثمّ تأتي بها كما تفعل بالمركّب، وذلك قولك في "تَمْرَةٍ": "تُمَيْرَةٌ"، وفي "حَمدَةٍ" "حُمَيْدَةٌ"، وفي "قُرْقَرَةٍ": "قَرَيْقِرَةٌ"، وفي "سَفَرْجَلَةٍ": "سُفَيْرِجَةٌ". وأمّا التاء المقدّرة، فهي تظهر في تحقير كلّ اسم مؤنّث ثلاثيّ، وذلك قولك في: "قَدَمٍ": "قُدَيْمَةٌ"، وفي "يَدٍ": "يُدَيَّةٌ"، وفي "هِنْدٍ": "هُنَيْدَةُ". وإنّما لحقت التاءُ في تحقير ¬
المؤنّث إذا كان على ثلاثة أحرف؛ لأمرَيْن: أحدُهما أنّ أصل التأنيث أن يكون بعلامةٍ، والآخرُ خفّةُ الثلاثيّ. فلمّا اجتمع هذان الأمران، وكان التصغير قد يردّ الأشياءَ إلى أُصولها؛ فأظهروا العلامة المقدّرة لذلك. وقد شذّت أسماءٌ، فجاءت مصغرةٌ على حدّ مجيئها مكبَّرة من غيرِ علامة، وذلك ستّةُ أسماء، منها ثلاثةُ أسماء قد ذكرها سيبويه، وهي "الناب" للمُسِنّة من الإبل، و"الحَرْبُ"، و"الفرَسُ" فإذا حقّرتها، قلت: "نُيَيْبٌ"، و"حُرَيْبٌ"، و"فُرَيْسٌ". فأمّا "النابُ" من الإبل، فإنّما قالوا: "نُيَيْبٌ"؛ لأنّ الناب من الأسْنان مذكّرٌ، وإنّما قيل للمُسِنّة من الإبل: نابٌ، لطُول نابها، فكأنّهم جعلوها النابَ من الأسْنان. وأمّا "الحَرْب"، فمصدرٌ وُصف به، كقولهم: "رجلٌ عَدْلٌ" وكأن الأصل "مُقاتَلةٌ حَرْبٌ"، أي: حاربةٌ للمال والنفسِ، ثمّ حُذف الموصوف، وقيل: "حربٌ"، كما قيل: "عدلٌ". وأمّا "الفَرَسُ"، فاسمٌ مذكّرٌ يقع على المذكّر والأُنثى كالإنسان والبَشَر في وقوعه على الرجل والمرأة، فصُغّر على أصله، فلو أُريد الأنُثى، لم يُقَل إلا: "فُرَيْسَةٌ". فأمّا الثلاثة الأخَرُ، فحكاها أبو عمر الجَرْميّ، وهي دِرْعُ الحديد، كأنّهم لحظوا فيها معنى التذكير، فصُغّرت من غير علامة تأنيث، فالدرعُ قَمِيصٌ، والقَوسُ عُودٌ، والعُرس تَعَرِيسٌ، وَوَقْتٌ، و"العَرَبُ" مؤنّثةٌ كأنّهم ذهبوا إلى البادِيَة؛ فلذلك قالوا: "العَرَبُ العارِبَةُ"، وصغّروه من غير إلحاقِ تاء، فقالوا: "عُرَيْبٌ". قال أبو الهِنديّ [من المتقارب]: 826 - وَمَكنُ الضِّبَابِ طَعَامُ العُرَيْبِ ... ولا تَشتَهِيه نُفُوسُ العَجم كأنّهم عنوا الجِيلَ من الناس. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: ولا تثبت في الرباعي إلا ما شذ من نحو: "قُدَيديمة" و"وُريئة". * * * قال الشارح: فأمّا الاسم الرباعيّ، فإنّ تاء التأنيث لا تظهر في مصغّره إذا لم تكن ظاهرةً في مكبَّره؛ لأنها أثقلُ، والحرفُ الرابع ينزل عندهم منزلةَ عَلَم التأنيث لطُول الاسم به. ألا ترى أنه صار عدةُ "عُنَيِّقٍ"، بغير هاء، كعدّة "قُدَيْمَةٍ" و"رُجَيْلَةٍ" بالهاء. وقد شذّ اسمان من الرباعيّ، قالوا: "قُدَيْدِيمَةٌ"، و"وُرَيئَةٌ" تصغيرُ "قُدّامَ"، وَ"وَراءٍ". قال الشاعر [من البسيط]: 827 - [وَقَدْ عَلَوْتُ قُتُودَ الرَّحْلِ يَسفَعُني] ... يَوْمٌ قُدَيْدِيمَة الجَوزاءِ مَسْمُومُ وقال الآخر [من الطويل]: 828 - قُدَيْدِيمَةَ التَّجْرِيبِ والحِلْمِ إنَّنِي ... أرَى غَفَلاتِ العَيشِ قَبْلَ التَّجارِبِ ¬
[تصغير ما ختم بالألف]
وذلك لأنّ سائر الظروف مذكّرةٌ، والبابُ فيها على التذكير، فلو لم تظهر علامةُ التأنيث في التصغير، لم يكن على تأنيثٍ واحد منهما دليلٌ، فإن كان في الرباعيّ المؤنّث ما يوجب التصغيرَ بحذفِ حرف منه حتى يصيرَ على لفظ الثلاثيّ، وجب ردُّ التاء، كقولك في تصغيرِ "سَماءٍ": "سُمَيَّة"؛ لأنّ الأصل "سُمَيِّيٌ"، بثلاث ياءات، فحُذفت واحدة منها، كما قالوا في تصغير "عَطاء" "عُطَيٌّ"، بحذفِ ياء، فلمّا صار ثلاثيَّ الحروف؛ زادوا التاء، كما زادوها في "قُدَيمَةٍ"، ولذلك لو صغّرتَ "سُعادَ"، و"زينَبَ" تصغيرَ الترخيم؛ لقلت: "سُعَيْدَةُ"، و"زُنَيْبَةُ". فاعرفه. [تصغير ما خُتم بالألف] قال صاحب الكتاب: وأما الألف فهي إذا كانت مقصورة رابعة؛ تثبت نحو: "حُبيلى"، وسقطت خامسة فصاعداً, كقولك: "جحيجب", و"قريقرٌ", و"حويل", في "جحجبى", و"قرقرى", و"حولايا". * * * قال الشارح: إنّما تثبت ألف التأنيث في "حُبَيلَى"، و"بُشَيرَى"؛ لأنّ الكلمة بها على أربعة أحرف، وأنت لا تحذف في التصغير من الأربعة شيئًا؛ لأنّه لم تخرج بها عن بناء التصغير، وهو "فُعَيعِلٌ"، وصار كـ"جُخدَب"، و"جُخَيدِب"، إلا أنّهم فتحوا الحرف الذي بعد ياء التصغير، وكان القياسُ كسرَه على حد انكساره في "جُعَيفِرٍ"؛ لأنّ ألف التأنيث تَفتح ما قبلها، كما أنّ التاء كذلك، فـ"حبيلى" بمنزلة "حُبَيلَةٍ"، فلو كسروا ما قبل الألف، انقلبت ياءً. وألفُ التأنيث لا تكون منقلبةٌ؛ لأن انقلابها يُذهِب دلالتَها على التأنيث، إذ التأنيث مستفادٌ من لفظ الألف. فإن كانت الألف لغير التأنيث، انقلبت ياءً؛ لأنّك تكسر ¬
ما قبلها، كما تكسر في الرباعيّ، كقولك في "مَرْمَى": "مُرَيْم"، وفي "أرْطى": "أُرَيْطٍ". فالألفُ في "مَرْمى" لامُ الكلمة، وهي منقلبة عن ياءِ "رَمَيْتُ"، والألفُ في "أرْطًى" زائدةٌ للإلحاق، والذي يدلّ على زيادتها قولُهم: "أدِيمٌ مَأْرُوطٌ"، أي: قد دُبغ بالأرطى، وهو شجر معروف. ودليلُ كونها لغير التأنيث قولُهم: "أرْطى" بالتنوين، وألفُ التأنيث لا يدخلها تنوينٌ، وقولُهم في الواحد: "أرطاةٌ"، ولو كانت للتأنيث، لم تدخلها تاءُ التأنيث؛ لأنّ التأنيث لا يدخل على تأنيث. ومثله "مِعْزى"، و"مُعَيْزٍ" لتنوينه ودخولِ التاء في الواحدة، نحوِ "مِعْزاةٍ". فأمّا "عَلْقى"، و"ذِفْرى"، و"تَتْرى" فمن نوّنها، فالألفُ عنده للإلحاق، لا للتأنيث؛ لأنّ ألف التأنيث لا تنوَّن، فلذلك تقول في تحقيره: "عُلَيْقٍ"، و"ذُفَيْرٍ"، و"تُتَيْرٍ". ومنهم من لا يُنوِّن ويجعلها للتأنيث، فهي ثابتة في التصغير كألف "حُبْلَى"، فتقول: "عُلَيْقَى"، و"ذُفَيْرَى"، و" تُتَيْرَى". وقول الشيخ: "إذا كانت مقصورةً رابعةً"، فإنّ فيه زيادةَ قَيْدٍ لا حاجةَ به إليه, لأنّها إذا كانت رابعة لا تكون إلا مقصورةً؛ لأنّ ألف التأنيث في "حَمْراءَ" ونحوِها قبلها ألفٌ أُخرى للمدّ، ولذلك كانت ممدودة، فهي في الحقيقة خامسةٌ. وأمّا إذا وقعت الألف المقصورة خامسةً، فإنّك تحذفها في التصغير، أبدًا سواء كانت للتأنيث، أو لغير تأنيث، وذلك إذا كان قبلها أربعةُ أحرف أُصول. مثالُ ما كان ألفُه للتأنيث قولُك: "قُرَيْقِرٌ"، و"جُحَيجِبٌ" في تصغير "قَرْقَرَى"، وهو اسمُ موضع، و"جَحْجَبَى" اسمِ رجل. والذي يدلّ أنّ الألف فيهما للتأنيث امتناعُهما من الصرف، وعدمُ دخول التنوين عليهما. ومثالُ ما كان لغير التأنيث قولهم: "حُبَيْرِكٌ"، و"صُلَيْخِدٌ" في تصغير "حَبْرَكى"، وهو ضربٌ من القُراد، وقد استُعير للقصير، وتصغيرِ"صَلَخدى"، وهو الجَمَل القويّ. فهذا الضرب ألفُه زائدة للإلحاق "بسَفَرْجَلٍ"، و"شَمَرْدَلٍ". يدلّ على ذلك قولُهم للواحدة: "حَبْرَكاةٌ", وللناقة: "صَلَخْداةٌ". وأمّا "حَوْلايَا"، وهو اسم رجل، فتقول في تصغيره: "حُوَيْليٌّ"؛ لأنّك تحذف الألف الأخيرة إذا كانت ألفَ تأنيث مقصورةً، فيبقى "حَوْلايَ" على خمسة أحرف، والرابع منها ألفٌ، فلا تسقط، بل تُقلَب ياءً؛ لانكسار اللام بعد ياء التصغير، وتُدَّغم فيما بعدها، فيصير "حُوَيْلِىٌّ". والذي وقع في نُسَخ الكتاب "حُوَيْلٍ"، كأنّه حذف الألف وما قبلها، فبقي "حَوْلا"، ثم قُلبت الألف ياءً لانكسار ما قبلها، فقال: "حُوَيلٍ" منقوصًا. والصوابُ ما ذكرناه متقدمًا، وإنّما حذفوا الألف إذ وقعت خامسةً فصاعدًا في هذا الباب؛ لأنّ بناء التصغير قد انتهى دونها، والألفُ زائدةٌ، فلم تكن لِتكون بأقوى من الحرف الأصليّ، نحوِ لام
فصل [تصغير ما كان علي خمسة أحرف رابعة حرف مد زائد]
"سَفَرْجَلٍ" وما أشبهها من الأُصول، وإذا وجب حذفُ الأصل الأقوى فيما ذكرنا، كان حدفُ الزائد أوْلى لضُعْفه. فإن قيل: فهلاّ حذفتم الألف الممدودة في مثل "خُنْفَساءَ"؛ لانتهاء بناء التصغير دونها، وإلاَّ فما الفرقُ بينهما؟ قيل: الألف الممدودة مشبَّهةٌ بتاء التأنيث، فصارت لها مَزِيّةٌ، وصارت مع الأوّل كاسم ضُمّ إلى اسم، ولذلك تسقطان في التكسير، فيقال: "خُنفساء"، "وخَنافسُ"، كأنّك قلت: "خُنْفُسَةٌ"، و"خنافسُ". ومثلُها ياءُ النسبة والألف والنون الزائدتان، كقولنا: "زُعَيْفِرانٌ" في "زَعْفَرانٍ"، و"سَلْهَبِيٌّ"، و" سُلَيْهِبِيٌّ". والمقصورةُ ليست كذلك, لأنّها حرفٌ ميْتٌ للسكون الذي يلزمها، فحُذفت؛ لأنّها لا تُشْبِه الاسمَ الذي يُضَمّ إلى الاسم، بل هي متّصلةٌ بما قبلها، فتَنزَّلت منزلةَ الجزء منه، بدليل ثبوتها في التكسير، نحوِ قولك "حُبْلَى"، و"حَبالَى"، و"سَكْرَى"، و"سَكارَى". فصل [تصغير ما كان علي خمسة أحرف رابعة حرف مدّ زائد] قال صاحب الكتاب: وكل زائدة كانت مدة في موضع ياء "فعيعيلٍ", وجب تقريرها وإبدالها ياء إن لم تكنها، وذلك نحو: "مصيبيحٍ", و"كريديسٍ", و"قنيديلٍ", في "مصباحٍ", و"كردوسٍ" و"قنديلٍ". * * * قال الشارح: إذا كان الاسم على خمسة أحرف، وفيه زيادةُ حرف من حروف المَدّ واللّين، وكانت الزائدةُ رابعةً، فإنّ تلك الزيادة تثبت في التصغير على حدّ ثبوتها في التكسير، لا تحذف من الاسم شيئًا، بل إن كانت الزيادة ياءً، أقررتَها على حالها، وإن كانت ألفًا، أو واوًا، قلبتها إلى الياء؛ لانكسار ما قبلها وسكونِها في نفسها، وذلك في "قِنْدِيلٍ" "قُنَيْدِيلٌ" وفي "مِصْباح": "مُصَيْبِيحٌ"، وفي "كُرْدُوسٍ": "كُرَيْديسٌ". و"الكردوس" القِطعة من الخيل. وهذا معنى قوله: و"إبدالُها ياء إن لم تكنها"، أي: إن لم تكن المدّة ياءً، فإنّك تقلبها ياءً. وإنّما ثبتت المدّةُ الزائدةُ إذا وقعت رابعةً؛ لأنّه موضعٌ يكثر فيه زيادةُ الياء عوضًا، نحو قولك في "سَفَرْجَلٍ": "سُفَيْرِيجٌ"، وفي "فَرَزْدَقٍ": "فُرَيْزِيدٌ". وإذا كنتَ تزيدها بعد إن لم تكن، فإذا وجدتَها، كانت أحق بالثبات. [تصغير الاسم الثلاثي المزيد بحرفين وليست إحدي الزيادتين مدّة] قال صاحب الكتاب: وإن كانت في اسم ثلاثي زائدتان, وليست إحداهما إيّاها, أبقيت أذهبهما في الفائدة, وحذفت أختها، فتقول في "مُنطلقٍ", و"مُغتلمٍ" و"مُضاربٍ",
و"مقدم", و"محمر", و"مهوم": "مطيلقٌ", و"مغيلمٌ" و"مضيربٌ", و"مقيدمٌ" و"مهيم" و"محيمر". وإن تساوتا, كنت مخيرًا، فتقول في "قلنسوة" و"حبنطي": "قلينسة", أو "قليسية" و"حبينطٌ" أو"حبيط". * * * قال الشارح: قوله: "إذا اجتمع في اسم ثلاثيّ زيادتان وليست إحداهما إيّاها"، يريد: ولم يكن إحدى الزيادتَيْن المدّةَ التي تقع رابعةً، فإن تلك لا تُحذَف. فإن كانت إحدى الزيادتَيْن ألزمَ للاسم وأذهبَ في الفائدة، أبقيتَها، وحذفتَ الأخرى. وذلك قولك في "مُنْطَلِقٍ": "مُطَيْلِقٍ"، وفي "مُغْتَلِمٍ": "مُغَيْلِمٌ"، فالميم والنون في "منطلق" زائدتان؛ لأنّه من "أطلقتُه"، وكذلك الميم والتاء في "مغتلم"؛ لأنّه من "الغُلْمَة"، فلمّا صغّرتَهما، أبقيتَ الميم فيهما، وحذفتَ الزائدة الأخرى، وهي النون أو التاء. وإنّما كان إقرارُ الميم أَوْلى لأمَرْين: أحدهما أنّ الميم ألزمُ في الزيادة. ألا ترى أنّ النون والتاء لا تُزادان في الاسم إلا مع الميم، وقد تزاد الميم وحدَها في نحو "مُكْرِمٍ"، و"مُحْسِنٍ"، فكانت ألزمَ من هذه الجهة. الأمر الثاني أنّ الميم زيدت لمعنًى مُحصَّلٍ، والنونُ والتاء ليستا كذلك، فكأنّ حذف الميم يُذْهب دلالتَها. ألا ترى أنّ الميم زيدت في الاسم للدلالة على اسم الفاعل، والنون في "منطلق" والتاء في "مغتلم" إنّما جيء بهما بحُكْم جَرَيانِهما على الفعل؟ ألا ترى أنّ النون والتاء كانتا موجودتَيْن في "انطلق"، و"اغتلم"، ولم تكن الميم موجودة في الفعل، فلمّا اضطُررنا إلى حذف إحدى الزائدتَيْن؛ لئلاّ يخرج عن بِنْية التصغير، كان حذفُ ما له قَدَمٌ راسخةٌ في الزيادة وأَقَلّهما فائدةٌ أَوْلى بالحذف. وكذلك ما كان نحوهما من ذوات الثلاثة، وفيه زيادتان، وذلك نحو: "مُضارِبٍ"، و"مُقَدِّمٍ"، و"مُهَوِّمٍ"، و"مُحْمرِّ"، حُذفت من "مُضاربٍ" الألف حتى رجع إلى الأربعة، ثمّ صُغّر تصغيرَ الأربعة، و"مُقَدِّمٌ" المحذوف منه إحدى الدالين. وأمّا "مُهَوِّمٌ" فإحدى الواوَيْن زائدةٌ، فحُذفت، ثمّ زيد عليها ياء التصغير، فصارت "مُهَيومٌ"، فقُلبت الواو ياء لاجتماعها مع ياء التصغير، وادّغمت فيها ياء التصغير. وأمّا "مُحْمَرٌّ"، فالميم الأولى وإحدى الراءين زائدةٌ؛ لأنّه من "الحُمْرة"، فحُذفت الراء الزائدة، فبقي "مُحْمَرٌ" على أربعة أحرف، مثل: "جُخْدَبٍ"؛ فقيل فيه: "مُحَيْمِرٌ"، كما تقول: "جُخَيْدِبٌ". هذا إذا تَرجَّحت إحدى الزيادتَيْن على الأخرى. فأمّا إذا تَساوتا في اللزوم والفائدة، كنت مُخَيِّرًا، أيَّهما شئتَ حذفتَ، فتقول في تحقير "قَلَنْسُوَةٍ": "قُلَيْسِيَةٌ" بحذف النون، وإن شئت "قُلَيْنِسَةٌ" بإثبات النون، وحذف
[تصغير الثلاثي المزيد بثلاثة أحرف والرباعي المزيد]
الواو. وذلك أنّ الواو والنون زائدتان فيه، أمّا الواو؛ فلأنها لا تكون أصلاً في الثلاثة فصاعدًا. وأمّا النون فزائدةٌ أيضًا؛ لأنّها لا تكون ثالثة ساكنة إلا زائدةٌ، كنون "شَرَنبَث" (¬1)، و"عَصَنصَرٍ" (¬2)، ومجراهما في الزيادة واحدٌ، فلذلك كنتَ مخيَّرًا في حذفِ أيّهما شئتَ، وتقول في تحقير "حَبَنْطى"، وهو القصير: "حُبَيطٍ"، وإن شئت: "حُبَينِطٌ"؛ وذلك أنّ النون والألف زائدتان للإلحاق بـ "سَفَرْجَلٍ"، فهما سِيّانِ، لا مَزِيَّةَ لإحداهما على الأخرى. والذي يدلّ على زيادتهما أنّ النون قد اطّردت زيادتُها إذا وقعت ثالثةً ساكنةً، نحو: "شرنبث"، و"عصنصر"، و"سَجَنْجَلٍ" (¬3)؛ وأمّا الألف؛ فلأنّها لا تكون مع ثلاثة أحرف أصولٍ فصاعدًا إلا زائدةً، وسُمع فيها التنوين، فلا تكون للتأنيث، وكان الإلحاق معنًى مقصودًا، فحُملت عليه. فإذا صغّرتَه، فإن شئت حذفتَ النون وأبقيت الألف، إلا أنّك تقلب الألف ياءً؛ لانكسار الطاء قبلها، فقلت: "هذا حُبَيْطٍ"، و"مررت بحُبَيْطٍ"، و"رأيت حُبَيْطِيًا"، وإن شئت حذفت الألف، فقلت: "حُبَيْنِطٌ يا هذا". وحذفُ الألف أحبُّ إليّ لتطرُّفها. [تصغير الثلاثي المزيد بثلاثة أحرف والرباعي المزيد] قال صاحب الكتاب: وإن كن ثلاثاً, والفضل لإحداهن حذفت أختاها, فتقول في مقعنسس: "مُقيعسٌ"؛ وأما الرباعي, فتحذف منه كل زائدة, ما خلا المدة الموصوفة. تقول في "عنكبوتٍ": "عُنيكبٌ" وفي "مقشعرٌّ": "قُشيعرٌ", وفي "احرنجامٍ": "حُريجيمٌ". * * * قال الشارح: قوله: "وإن كنّ ثلاثًا" أي: إن كان في الاسم الثلاثيّ ثلاثُ زيادات، ولإحداهنّ فضلٌ ومَزيةٌ على أُخْتَيْها؛ أَبقيتَ ذاتَ المزيّة، وحذفتَ أختيها، نحو: "مُقعَنسِس"، إذا صغّرته، قلت "مُقَيْعِسٌ"، حذفتَ النون، وإحدى السينَيْن، وأبقيت الميم؛ لأنّها تدلّ على الفاعل، كما أبقيتَها في "مُغَيْلِم"، و"مُطَيْلِقٍ"، تصغير "مُغْتَلِم"، و"مُنْطَلِقٍ". هذا مذهب سيبويه (¬4). وكان أبو العبّاس المبرّد يقول: "قُعَيْسِسٌ"؛ لأنّ "مقعنسسًا" ملحقٌ بـ "مُحْرَنْجِم"، وأنت تقول في "محرنجم": "حُرَيُجِمٌ"، فكذلك في "مُقْعَنْسِسٍ" لأنّ حكم الزائد فيه حكمُ الأصل. والمذهبُ الأول هو المختار؛ لأنّ ¬
فصل [جواز التعويض وتركه فيما يحذف من الزوائد عند التصغير]
المحذوف في "مقيعس" مع النون السينُ، وهي زائدة، والمحذوف في "محرنجم" الميم الأولى وحدَها؛ لأنّ الثانية أصلٌ، فلم تُحذَف. وأمّا الرباعيّ، فإذا كان فيه زائدٌ، حذفتَه في التحقير، وتُبْقِي الأصول، فيقع التحقيرُ عليها، فتقول في "سُرادِقٍ": "سُرَيْدِقٌ"، بحذف الألف؛ لأنّها زائدة. وتقول في "جَحَنْفَلٍ": "جُحَيْفِلٍ"، بحذف النون؛ لأنّها زائدة، وتقول في "مُدَحْرِجٍ": "دُحَيْرِجٌ"، بحذف الميم؛ لأنّه ليس هناك زائدةٌ سِواه. وكذلك تقول في "عَنْكَبُوتٍ": "عُنَيْكِبٌ" بحذف الواو والتاء؛ لأنّهما زائدان، كقولك في معناه: "عَنْكَبٌ"، وتقول في "مُقْشَعِرٌ": "قُشَيْعِرٌ"؛ لأنّ الميم وإحدى الراءين زائدة. أمّا الميم فلأنّها ليست موجودة في "اقْشَعَرَّ"، وإحدى الراءين؛ لأنّ الفعل لا يكون على أكثر من أربعة أحرف. وكذلك تقول في تحقير "مُحْرَنْجِمٍ": "حُرَيْجِمٌ" لأنّ الميم زائدة، وكذلك تقول في تصغير: "احْرِنْجامٍ": "حُرَيْجِيمٌ"، فتصير حاله في حذف الزوائد كحال تصغير الترخيم، وتُخْلِد في الفرق إلى القرائن. وقوله: "ما خلا المدّةَ الموصوفةَ"، يريد أنّ المدّة إذا وقعت زائدة رابعة فإنّها تثبت، ولا تُحذَف على ما تقدّم، ألا تراك تقول في "سِرْداحٍ": "سُرَيْدِيحٌ"، وفي "جُرْمُوقٍ" (¬1): "جُرَيْمِيقٌ"، وفي "قِنْدِيلٍ": "قُنَيْدِيلٌ"؛ لأنّه لا يخرج بهذه الزيادة عن بناء "فُعَيعِيلٍ"، فاعرفه. فصل [جواز التعويض وتركُه فيما يحذف من الزوائد عند التصغير] قال صاحب الكتاب: ويجوز التعويض وتركه فيما يحذف منه هذه الزوائد, والتعويض أن يكون على مثال "فعيعلٍ"، فيُصار بزيادة الياء إلى "فعيعيلٍ". وذلك قولك في "مغيلم": "مغيليمٌ", وفي "مقيدمٌ": "مُقَيديمٌ", وفي "عنيكبٍ": "عنيكيبٌ", وكذلك البواقي. فإن كان المثال في نفسه على "فعيعيلٍ" لم يكن التعويض. * * * قال الشارح: أنت مخيَّرٌ في التعويض وتركه فيما حُذف منه شيءٌ، سواء كان المحذوف أصلًا أو زائدًا، نحو قولك في "سَفَرجَلٍ": "سُفَيْرِجٌ"، وإن شئت: "سُفَيْرِيجٌ"، وفي "مُغْتَلِمٍ": "مُغَيْلِمٌ"، وإن شئت: "مُغَيْلِيمٌ"، وفي "مْقَدمٍ": "مُقَيْدِمٌ"، وإن شئت: "مُقَيْدِيمٌ"، وفي "عَنْكَبٍ": "عُنَيْكِبٌ"، وإن شئت: "عُنَيْكِيبٌ". فالتعويضُ خيرٌ لما لحقه ¬
فصل [تصغير جمع القلة]
من الإيهان بالحذف مع الوَفاء ببناء المصغّر وعدم الخروج عنه، وتركُ التعويض جائزٌ؛ لأنّ الحذف إنّما كان لضرب من التخفيف، وفي التعويض نقصٌ لهذا الغرض. هذا إذا لم يكن المثالُ على "فُعَيعِيلٍ" فأنت تُعوِّض من المحذوف، فيصير على مثاله. فأمّا إذا كان المثال بعد الحذف على مثال "فُعَيْعِيلٍ"، فلا سبيلَ إلى التعويض؛ لأنّه يُخْرِجه عن أبنية التصغير، وذلك قولك في تحقير "عَيْطَمُوسٍ"، وهي من النساء التامّة الخَلق، وكذلك من الإبل: "عُطَيمِيسٌ"، وفي "عَيْسَجُورٍ"- وهي من النوق الصلْبة - "عُسَيجِيرٌ"؛ وذلك لأنّ الواو والياء فيهما زائدان، والاسمُ بهما على ستّة أحرف، فلو حذفت الواو، لزمك حذفُ الياء أيضًا؛ لأنّه يبقى على خمسة أحرف، وليس الرابع حرفَ مدّ، فحُذف الأوّل، وهو الياء، إذ لا يلزم حذفُ الواو؛ لأنّه يصير كـ"جُرمُوقٍ"، و"جُرَيْمِيقٍ"، وإذا صار بعد الحذف على مثال "فُعَيْعِيلٍ"، لم يكن إلى التعويض سبيلٌ؛ لأنّه يخرج به عن أبنية التصغير، فاعرفه. فصل [تصغير جمع القلة] قال صاحب الكتاب: وجمع القلة يحقر على بنائه, كقولك في "أكلب", و"أجربة", و"أجمال", و"ولدة": "أُكيلبٌ", و"أُجيربةٌ" و"أُجيمالٌ", و"وليدةٌ". * * * قال الشارح: المراد بتحقير الجمع تقليلُ عدده. والجمعُ جمعان: جمعُ تصحيح، وجمعُ تكسير. فما كان من الجمع صحيحًا بالواو والنون، نحوَ: "الزيدين"، و"العمرين"، أو بالألف والتاء، نحو: "الهندات"، و"المسلمات"، فإنّ تحقيرَ هذا وما كان نحوه على لفظه، تقول: "هؤلاء الزُّيَيْدون"، و"رأيت الزُّيَيْدِينَ"، و"هؤلاء المُسَيلِماتُ"، و"رأيت المُسَيلِماتِ"؛ وذلك لأنّا لو صغّرنا جمعًا من جموع الكثرة، لرددناه إلى الواحدة، ثم نجمعه جمعَ السلامة، فلأن يبقى ما كان مجموعًا جمعَ السلامة على لفظه في التحقير أَوْلى وأَخرَى. وأمّا ما كان جمعًا مكسّرًا، فهو على ضربَيْن: جمعُ قلّة، وجمعُ كثرة. وأبنيةُ القلّة أربعةٌ: "أَفعُلُ"، و"أَفعِلَةُ"، و"أَفعالٌ"، و"فِعلَةُ". فإذا صغرتَ شيئًا من ذلك، صغّرته على لفظه، فتقول في "أَكلُبٍ"، و"أَكعُبٍ": "أكَيلِبٌ"، و"أُكَيعِبٌ"، وفي "أَجربةٍ"، و"أَقفِزَةٍ" "أُجَيرِبَةٌ"، و"أُقَيْفِزَةٌ"، وفي "أَجْمالٍ"، و"أَعدالٍ": "أُجَيْمالٌ"، و"أُعَيْدالٌ"، وفي "وِلْدَةٍ"، و"غِلْمَةٍ": "وُلَيْدَةٌ"، و"غُلَيْمَةٌ". [تصغير جمع الكثرة] قال صاحب الكتاب: وأما جمع الكثرة, فله مذهبان: أحدهما أن يرد إلى واحده,
فيصغر عليه, ثم يجمع على ما يستوجبه من الواو والنون, أو الألف والتاء، أو إلى بناء جمع قلة إن وجد له. وذلك قولك في "فتيان": "فتيون", أو "فتيةٌ"، وفي "أذلاء": "ذليلون" أو "أذيلة"، وفي "غلمان": "غُليمون" أو "غليمة" وفي "دُورٍ": "دويرات", أو "أُديرٌ". وتقول في "شعراء": "شويعرون"، وفي "شسوعٍ": "شسيعات". * * * قال الشارح: أمّا ما كان من أبنية جمع الكثرة، وهو ما عدا ما ذكر، فلك في تحقيره مذهبان، أنت مخيَّرٌ فيهما: أحدُهما أن تردّه إلى واحده، ثمّ تصغّره، وتجمعه بالواو والنون إن كان مذكّرًا يعقل، وبالألف والتاء إن كان مؤنّثًا أو غير عاقل. وذلك قولك في تحقير "رِجالٍ": "رُجَيْلُونَ"، وفي "شُعَراءَ": "شُوَيْعِرُونَ". تردّهما إلى "رَجُلٍ"، و"شاعرٍ"، ثمّ تصغّره على "رُجَيْلٍ"، و"شُوَيْعِرٍ"، ثمّ تُلْحِقه الواوَ والنونَ؛ لأنّه مذكّرٌ ممّن يعقل. ولو صغّرت نحوَ "جِفانٍ"، و"قِصاعٍ"، و"دَراهِمٍ"، و"دَنانِيرَ"، لقلت: "جُفَيْناتٌ"، و"قُصَيْعاتٌ"، و"دُرَيهِماتٌ"، و"دُنَيْنِيراتٌ"؛ لأنّك رددتَها إلى الواحد، وواحدُ "جِفانٍ"، و"قِصاعٍ": "جَفْنَةٌ"، و"قَصْعَةٌ"، مؤنّثتان، وجمعُ المؤنّث بالألف والتاء. وواحدُ "الدراهمَ"، و"الدنانير": "دِرْهمٌ"، و"دِينارٌ"، فصغّرتهما على "دُرَيهِمٍ"، و"دُنَيْنِيرٍ"، ثمّ تُلْحِقهما الألف والتاء؛ لأنّهما لا يعقلان، وغيرُ العاقل في حكم المؤنّث. والثاني: أن تنظر، فإن كان له في التكسير بناءٌ قلّة، رددتَه إليه، فتقول في تصغيرِ "فتْيانٍ": "فُتَيَّةٌ"، رددته إلى "فِتْيَةٍ"، ثمّ صغّرته؛ لأنّه بناءٌ قلّة، وإن شئت قلت: "فُتَيُّونَ"، فتردّه إلى الواحد، وتصغّره، ثمّ تجمعه بالواو والنون. وتقول في "أذِلاّءَ": "أُذَيْلَّةٌ"، رددته إلى "أَذِلَّةٍ", لأنّه بناء قلّة من قوله تعالى: {وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} (¬1). وإن شئت: "ذُلَيِّلُونَ" تردّه إلى الواحد، وهو"ذَلِيلٌ"، وتصغّره، ثم تجمعه بالواو والنون؛ لأنّه مذكّرٌ يعقل. ومثله لو صغّرت نحو: "كِلابٍ"، و"فُلُوسٍ"، لجاز أن تقول: "كُلَيْباتٌ"، و"أكُيْلِبٌ"، و"فُلَيْساتٌ"، و"أُفَيْلِسٌ"؛ لأنّه له بناء كثرة وبناء قلّة. فإن شئت، أتيت ببناء القلّة، وإن شئت، رددته إلى الواحد، وتصغّره عليه، ثم تجمعه بالألف والتاء؛ لأنّه لا يعقل. ولو صغّرت نحو: "جَرْحَى"، و"حَمْقَى"، و"هَلْكَى"، لقلت: "جُرَيْحُونَ"، و"أُحَيْمِقُونَ"، و"هُوَيْلِكون"، إن أردت المذكّر، و"جُرَيحاتٌ"، و"حُمَيْقاواتٌ"، ¬
[تصغير اسم الجمع]
و"هُوَيْلِكاتٌ"، إن أردت المؤنّث؛ لأنّ هذا الجمع يصلح للمذكّر والمؤنّث. وإنّما لم يُصغَّر جمعُ الكثرة على لفظه؛ لأنّه بناءٌ يدلّ على الكثرة، والتصغيرُ إنّما هو تقليل العدد، فلم يجز الجمعُ بينهما لتَضادِّ مدلولهما، وتناقُض الحال فيهما، إذ كنت مُقلِّلاَ بلفظ التصغير، مُكثِّرًا بلفظ الجمع. [تصغير اسم الجمع] قال صاحب الكتاب: وحكم أسماء الجموع حكم الآحاد، تقول: "قويمٌ", و"رهيطٌ", و"نفيرٌ", و"أُبيلةٌ", و"غُنيمةٌ". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إنّ هذه الأسماء أسماءُ الجمع، وليست بجموع كُسّر عليها الواحد، فيجري حكمُها على حكم الآحاد؛ فلذلك تُصغَّر على لفظها، فتقول في "قَوم": "قُوَيْمٍ"، وفي "رَهْطٍ": "رُهَيْطٌ"، كما تقول في "فَلْسٍ": "فُلَيْسٌ"، وتقول في "نَفَرٍ": "نُفَيْرٌ"، كما تقول في "جَمَلٍ": "جُمَيْلٌ"، وتقول في "إبِلٍ": "أُبَيْلَةٌ"، وفي "غَنَمٍ": "غُنَيْمَةٌ". تُلْحِقها تاء التأنيث؛ لأنّها مؤنّثة، كما تقول في "قَدَمٍ": "قُدَيْمَةٌ". ولو جمعتَ "قَوْمًا"، و"رَهْطًا"، فقلت: "أَقْوامٌ"، و"أراهِطُ"، لقلت في التحقير: "أُقَيّامٌ"، فتصغّره على لفظه؛ لأنّه بناء قلّة، وتقديرُه: "أُقَيْوامٌ"، فتقلب الواو ياء لوقوع ياء التصغير قبلها، فيصير: "أُقَيّامٌ" بياء مشدّدة. وتقول في "أَراهِطَ": "رُهَيْطُونَ"، تردّه إلى واحده، ثمّ تجمعه بالواو والنون. وحكى ابن السّرّاج فيه: "أَرْهُطًا"، فعلى هذا يجوز تصغيرُه عليه، فتقول "أُرَيْهِطٌ"، فاعرفه. فصل [ما جاء في التصغير علي غير بناء المُكَبَّر] قال صاحب الكتاب: ومن المصغرات ما جاء على غير واحدة كـ "أنيسيان", و"رويجلٍ"، و"آتيك مغيربان الشمس وعشيانًا وعشيشية". ومنه قولهم: "أغيلمةٌ", و"أصيبيةٌ", في "غلمةٍ" و"صبيةٍ". * * * قال الشارح: هذه ألفاظٌ قد شذّت عن القياس، وجاءت على غير بناء المكّبر، فهي في التصغير كـ"المَلامِح"، و"المَذاكير" في التكسير. فمن ذلك "أُنَيْسِيَانٌ" تصغيرُ "إنسانٍ"، زادوا في المصغر ياءً لم تكن في مكبّره، كأنّهم صغّروا "إنْسِيَانًا"، و"إنسيانٌ" غير معروف. ومن ذلك قولهم: "رُوَيْجِلٌ" في تصغير "رَجُلٍ"، وقياسُه "رُجَيْلٌ"، كأنّهم صغّروا "راجِلًا" في معنى "رَجُلٍ"، وإن لم يظهر به استعمالٌ، كما قالوا: "رَجُلٌ" في معنى "راجِلٍ". قال الشاعر [من البسيط]:
فصل [تصغير الشيء لدنوه من الشيء]
829 - أَمَا أُقاتِلُ عن دِينِي على فَرَسِي ... أو هَكَذا رَجُلًا إلا بأَصْحابِي فكأنّهم صغروا لفظًا، ويريدون آخر، والمعنى فيهما واحد. وقالوا: "آتِيك مُغَيْرِبانًا، وعُشَيّانًا، وعُشَيْشِيَةً"، فأرادوا بـ "مُغَيْرِبانٍ" تصغيرَ "المَغْرِب". وليس ذلك بقياس، والقياسُ: "مُغَيْرِب". وإنّما جاؤوا به كأنّهم أرادوا "مَغْرِبانٌ". وأمّا "عُشَيانٌ"، و"عُشَيْشِيَةٌ"، فهو تصغير "عَشِيَّةٍ" على غير قياس، فـ "عُشَيانٌ" كأنّه تصغيرُ "عَشْيانٍ" مثلِ "سَعْدانٍ"، فزيدت ياء التصغير ثالثةً، وبعدها الياء التي هي لامٌ، فادّغمت فيها، فصارت ياءً مشدّدةً. وأمّا "عُشَيْشِيَةٌ"، فكأنه تصغير "عشّاةٍ"، فلمّا صُغّر، وقعت ياءٌ التصغير بين "الشينَيْن"، ثمً قُلبت الألف ياءً؛ لانكسار ما قبلها، فصار "عُشَيْشِيَةً". وقالوا: "أُغَيْلِمَةٌ"، و"أُصَيْبِيَةٌ" في تصغير "غِلْمَةٍ"، و"صِبْيَةٍ"، كأنّهم صغّروا "أَغْلِمَةً"، و"أَصْبِيَةً". وذلك أن "غُلامًا" "فُعالٌ" مثلُ "غُرابٍ"، و"صَبِيٌّ" "فَعِيلٌ" مثل "قَفِيزٍ". وبابُ "فُعالٍ" و"فَعِيلٍ" أن يُجمع في القلّة على "أفعِلَة" مثلِ "أَغْرِبَةٍ"، و"أَقْفِزَةٍ". فكأنّهم لمّا أرادوا التصغير، صغّروه على أصل الباب، إذ التصغيرُ ممّا يردّ الأشياء إلى أصولها. قال الشاعر [من الكامل]: ارْحَمْ أُصَيْبِيَتِي الذين كأنّهم ... حِجْلَى تَدَرَّجُ في الشَّرَبَّةِ وُقَّعُ (¬1) فصل [تصغير الشيء لدنوّه من الشيء] قال صاحب الكتاب: وقد يحقر الشيء لدنوه من الشيء, وليس مثله, كقولك: ¬
فصل [تصغير الفعل]
"هو أُصيغر منك". إنما أردت أن تقلل الذي بينهما, و"هو دوين ذلك"، و"فويق هذا"، ومنه "أُسيِّدُ", أي: لم يبلغ السواد. وتقول العرب: "أخذت منه مثيل هاتيًا, ومثيل هاذيًا". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِنّ التصغير تقليلٌ وتحقيرٌ، وقوله: "لدُنُوّه من الشيء"، أي: لقُرْبه ممّا أضيف إليه. وإنّما أخبرتَ أنّهما يفترقان بشيء يسير أي مُنْحَطّ عنه. وجملةُ الأمر أنّ المصغر على ثلاثة أضرب: تصغيرٌ مُبْهَمٌ، كقولك: "زُيَيْدٌ"، و"عُمَيْرٌ"، ونحوهُما من الأعلام، أخبرتَ بحَقارة المسمّى من غير إفادة ما أوجب الحقارة له. وتصغيرٌ موضِحٌ، وذلك في الصفات، كقولك: "عُوَيْلِمٌ"، و"زُوَيْهِدٌ"، تريد أنّ عِلْمه وزُهْده قليل، ومثلُه: "عُطَيْطِيرٌ"، و"بُزَيْزِيزٌ"، في تصغير "عَطارٍ"، و"بَزّازٍ"، تريد ضُعفَ صَنْعتهما في "العِطْر"، و"البَزّ". وكذلك ما كان نحوهما من الصفات، مثلُ: "أُحَيمِرُ"، و"أُسَيْوِدُ"، تريد أنَّه قد قارَبَ الحُمْرَةَ، والسوادَ، وليس بالكامل التامِّ فيه. الثالث: هو ما اشتمل عليه هذا الفصلُ، وهو تصغير الشيء لدُنُوّه من الشيء، وقُرْبه ممّا أضيف إليه على ما ذكرنا، وذلك نحو قولك: "هو أُصَيْغِرُ منك". وذلك أنّك لو قلت: "هو أصغرُ منك"، احتمل أن يكون التفاوُت بينهما يسيرًا، وأن يكون كثيرًا، فأوضحتَ بالتصغير أنّه قليل، وأنّه يكاد يكون مثله في الصغَر. وكذلك الأمكنةُ، نحو الجهات الست، كقولك: "هو فوقَ زيد، وتحتَ خالد، ودونَ بكر"، فيحتمل أن يكون بكثير، وأن يكون بقليل، فإذا قلت: "فُوَيْقَ زيد، وتُحَيْتَهُ، ودُوَيْنَهُ"، فلا يجوز أن يكون إلا بقليل. وكذلك لو قال: "آتيك قبل طلوع الشمس"، فجاءه في الليل؛ لم يكن مُخْلِفا، ولو قال: "قُبَيْلَ طلوع الشمس"، لزم أن يكون بعد طلوع الفَجْرِ ونحوه ممّا قارَبَ طلوعَ الشمس، فاعرفه. فصل [تصغير الفعل] قال صاحب الكتاب: وتصغير الفعل ليس بقياس, وقولهم: "ما أميلحه! " قال الخليل (¬1): إنما يعنون تصفه بالملح، كأنك قلت: "زيدٌ مليحٌ" شبهوه بالشي الذي تلفظ به, وأنت تعني به شيئاً آخر، نحو قولك: "بنو فلان يطؤهم الطريق", و"صيد عليه يومان". * * * ¬
فصل [ما كان من الأسماء علي بناء التصغير]
قال الشارح: إنّما كان القياس يأبى تصغيرَ الفعل؛ لأنّ الغرض من التصغير وصفُ الاسم بالصِّغَر، والمرادُ المسمّى. والأسماء علاماتٌ على المسمّيات، فصُغّرت ألفاظها، لتكون دليلاً على صِغَر المسمّيات. والأفعالُ ليست كذلك، إنّما هي إخباراتٌ، وليست بسِماتٍ كالأسماء، فلم يكن للتصغير فيها معنًى كما لم يكن لوصفها معنًى. والذي يؤيّد عندك بُعدَ الفعل من التصغير أنّ اسم الفاعل إذا كان للحال أو الاستقبال، نحو قولك: "هذا ضاربٌ زيدًا"، فإذا صغّرته، بطل عملُه، فلا ت قوله: "هذا ضوَيْرِبٌ زيدًا"؛ لبُعْده بالتصغير عن الأفعال، وغَلَبَةِ الاسميّة عليه. وإذا كان كذلك، فتصغيرُ فعل التعجّب من قوله [من البسيط]: يا ما أُمَيْلِحَ غِزْلانًا شَدَنَّ لنا ... من هؤُلَيائِكُنَّ الضَّالِ والسَّمُرِ (¬1) شاذّ خارجٌ عن القياس؛ وذلك أنّهم أرادوا تصغيرَ فاعلِ فِعْل التعجّب، وهو ضمير يرجع إلى "ما"، فلم يجز تصغيرُ الضمير؛ لأنّه مستترٌ لا صورة له، مع أنّ المضمرات كلّها لا تُصغّر، كما لا توصَف لشَبَهها بالحروف. ولم يُمْكِنهم تصغيرُ ما يرجع إليه الضميرُ، وهو"ما"؛ لكونه مبنيًّا على حرفَيْن، ولم يُسمَع العدول عنه إلى ما هو في معناه؛ لئلاّ يبطل معنى التعجّب. ولم يُصغِّروا مفعول الفعل؛ لأنّ الفعل له في الحقيقة. ألا ترى أنّك إذا قلت: "ما أَمْلَحَ زيدًا! " كأنّك قلت: "مَلُحَ زيدٌ جدًّا"؛ لأنّك لو صغّرته، ربّما تُوهِّم أنّ صِغّره لم يكن من جهة الملاحة، إنّما هو من جهة أخرى، فعند ذلك صغّروا لفظ الفعل، والمراد الفاعل. فقولُك: "ما أُمَيْلِحَ زيدًا! " كأنّك قلت: "زيدٌ مُلَيِّحٌ". وشَبَّهَه الخليلُ وسيبويه (¬2) بقولهم: "بنو فلانِ يَطَؤُهم الطريقُ"، و"صِيدَ عليه يومان"، والمراد: يطؤهم أهلُ الطريق الذين يمرّون عليه، فحذف "أهلًا" وأقام "الطريق" مُقامه. ومعنى "يطؤهم الطريق"، أي: بُيُوتُهم على الطريق، فمن جاز فيه رآهم، وثقُل عليهم. وقوله: "صِيدَ عليه يومان" معناه: صِيدَ عليه الصَّيْدُ يومَين، فحُذف "الصيد"، وأُقيم "اليومان" مقامه، وإنّما يفعلون ذلك فيما لا يُلبس، فاعرفه. فصل [ما كان من الأسماء علي بناء التصغير] قال صاحب الكتاب: من الأسماء ما جرى في الكلام مصغراً, وترك تكبيره؛ لأنه عندهم مستصغرٌ، وذلك نحو: "جميلٍ", و"كُعيتٍ", و"كُميتٍ"، وقالوا: ¬
فصل [تصغير الأسماء المركبة]
"جملان", و"كِعتانٌ" و"كُمتٌ"، فجاؤا بالجمع على المكبر, كأنها جمع "جُملٍ", و"كُعْتٍ", و"أكْمَتَ". * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذه الأسماء أسماءٌ نطقوا بها مصغّرة؛ لأنّها عندهم مستصغَرةٌ، فاكتفوا بلفظ المصغّر عن المكبّر. فمن ذلك قولهم: "جُمَيْلٌ"، وهو طائر صغير شبيهٌ بالعُصْفُور، و"كُعَيْتٌ"، وهو البُلْبُل، وقيل: شبيهٌ بالبلبل، وليس إيّاه. وقد كسّروهما على لفظ المكبّر، فقالوا: "جِمْلانٌ"، و"كِعْتانٌ"، كأنّهم قدّروا المكبّر على "فُعَلٍ"، نحو: "جُمَلٍ"، و"كُعتٍ"، كـ"صُرَدٍ"، و"نُغَرٍ"، ثمّ قالوا: "جِمْلانٌ"، و"كِعْتانٌ"، كـ"صِردانٍ"، و"نِغْرانٍ". وذلك أنّ المصغّر لا يُكسَّر علي بناء الكثرة، كما أنّ ما كُسّر علي بناء الكثرة لا يُصغَّر لما ذكرناه من أنّ بناء التكسير يدلّ على الكثرة، وتصغيرُه يدلّ على القلّة، فبينهما تَنافٍ. وإذا كُسّر، إنّما يكون التكسير للمكبّر، وإن لم يُلفَظ به. وأمّا "كُمَيْتٌ"، فهو لفظ يقع على المذكّر والمؤئث. وقد ورد مصغّرًا لا يكاد يُنطَق بمكبّره، وهو تصغيرُ الترخيم بحذف الزوائد، كما قالوا في "أَشْقَرَ": "شُقَيْرٌ"، وفي "أَسْوَدَ": "سُوَيْدٌ". والكُمْتَةُ لَوْنٌ يقصُر عن سواد الأدهم، ويزيد على حُمْرة الأشقر، وهو بين الحمرة والسواد. قال سيبويه (¬1): سألتُ الخليل عن "كُمَيتٍ"، فقال: إنّما صُغّر؛ لأنّه بين السواد والحمرة، كأنّه لم يخلُص له واحدٌ منهما، فهو قريب من كلّ واحد منهما، فصُغّر ليدلّ على ذلك المعنى، فهو كـ"دُوَينَ زيدٍ". وقد جمعوه على "كُمتٍ" في المذكّر والمؤنّث، كما قالوا: "شُقْرٌ" و"سُودٌ" في المذكّر والمؤنّث جاؤوا بالتكسير على المكبّر، كأنّهم جمعوا "أَكْمَتَ"، و"كَمْتاء"، كما قالوا: "جِمْلانٌ"، و"كِعْتانٌ"، فجاؤوا به على المكبّر، وقالوا لِما يجيء في آخِر الخيل: "سُكَّيْتٌ"، و"سُكَيْتٌ" فأمّا "سُكَّيْتٌ"، فهو "فُعَّيْلٌ" كـ"جُمَّيْزٍ"، و"عُلَّيقٍ"، وأمّا "سُكَيْتٌ"، فهو تصغيرٌ على الترخيم. فاعرفه. فصل [تصغير الأسماء المُرَكَّبة] قال صاحب الكتاب: والأسماء المركبة يُحقَّر الصدر منها, فيقال: "بُعَيْلَبَك", و"حُضَيرَمَوتُ", و"خميسة عشر". * * * قال الشارح: إذا صغّرتَ اسمًا مركبًا من اسمَيْن جُعلا اسمًا واحدًا، فالطريقُ فيه أن تصغّر الصدر، ثمّ تُتْبِعه الثاني، كما تفعل قبل التصغير من التركيب؛ وذلك لأنّ المعامَلة ¬
فصل [تصغير الاسم المرخم]
مع الأول، والثاني كالتَّتِمّة له، فمحلُّ الثاني من الأوّل محلُّ المضاف إليه من المضاف، فكما أنّك إذا حقّرت مضافًا من نحو "عَبْدِ زيد"، و"طَلْحَةِ عمرو"، إنّما تُحقِّر الأوّل دون الثاني من نحو: "عُبَيْدِ زيد" و"طُلَيْحَةِ عمرو"، كذلك تقول: "هذا بُعَيْلَبَكُّ، وحُضَيْرَمَوْتُ، ومُعَيْدِيكرِبُ", لأنّ المضاف والمضاف إليه والمركّبَيْن بمنزلة اسم واحد طويلٍ، كـ"عَنْتَرِيسٍ" (¬1)، فكما تقول: "عُنَيْتِرِيسٍ"، كذلك تقول: "حُضَيْرَمَوْتُ"، فيحُلّ "موت" من "حضر" محلَّ "ريس" من "عنتريس" من حيث كان تمامًا له. ومثله "خمسةَ عشرَ"؛ لأنّه مركّبٌ مثلُه فتقول: "هذا خُمَيْسَةَ عَشَرَ" فتُصغِّر الأوّل، وتُتْبِعه الثاني، سواءٌ في ذلك أردتَ العدد أو سمّيتَ به، وقالوا في "اثْنَا عَشَرَ"، و"اثْنَتَا عَشْرَةَ": "ثُنَيَّا عشر"، و"ثُنَيَّتَا عشرة" لأنّ محلّ "عشر" من "اثني عشر" محلُّ النون من "اثنَيْن"، وقد مضى بيانُ ذلك. فصل [تصغير الاسم المُرخَّم] قال صاحب الكتاب: وتحقير الترخيم أن تحذف كل شيء زيد في بنات الثلاثة والأربعة, حتى يصير الاسم على حروفه الأصول, ثم تُصغِّره, كقولك في "حارث": "حريثٌ" وفي "أسود": "سويد", وفي "خفيددٍ": "خفيدٌ", وفي "مُقعنسٍ": "قُعيسٌ", وفي "قرطاسٍ": "قُريطسٌ". * * * قال الشارح: معنى تصغير الترخيم أن تحذف زوائدَ الاسم في التحقير، بحيث لا يبقى إلا الأصولُ، ثلاثيًّا كان الاسمُ أو رباعيًّا، كأنّهم آثروا تخفيف الاسم بحذف زوائده؛ لما يحدث في، الاسم من الثقل بزيادة أداة التحقير، نتقول في تحقير "محمد": "حُمَيْدٌ"؟ لأنّ الميم الأولى زائدةٌ، وإحدى الميمَيْن الثانيتَيْن، فتحذفهما، فتقول في تحقير "أَحْمَدَ": "حُمَيْدٌ" أيضًا بحذف الهمزة لا غيرُ؛ لأنّها الزائدة. وتقول في تحقير "مَحْمُودٍ": "حُمَيْدٌ"، بحذف الميم والواو؛ لأنّهما زائدتان. ولا تُبالي الإلباسَ ثِقةٍ بالقرائن، فعلى هذا تقول في "حارثٍ": "حُرَيْثٌ"، حذفتَ الألف؛ لأنّها زائدة، وبقيتَ الأحرف الأصولَ التي هي الحاء والراء والثاء، فصُغّر عليها. وتقول في "أَسْوَدَ": "سُوَيْدٌ"، بحذف الهمزة؛ لأنّها هي الزائدة. ولا فرق بين أن تكون الزيادة للإلحاق أو لغير الإلحاق. ¬
فصل [ما لا يصغر]
وقالوا في "خَفَيْدَدٍ": "خُفَيْدٌ"، حذفوا الياء وإحدى الدالَيْن؛ لأنّهما زائدتان للإلحاق بـ "سَفَرْجَلٍ" والخُفيددُ: الخفيف من الظِّلْمان. وقالوا في "مُقعَنسِسٍ": "قُعَيْسٌ"، بحذف الميم والنون، وإحدى السينَين؛ لأنّها زوائدُ للإلحاق بـ "مُحْرَنْجِم". وبنات الأربعة في ذلك بمنزلة الثلاثة، تحذف الزوائدَ حتى تصير على مثال "فُعَيْعِلٍ"، فتقول في "مُدَحْرِجٍ": "دُحَيْرِجٌ"، وفي "مُحْرَنْجِمٍ": "حُرَيْجِمٌ"، وفي "جُمْهُورٍ": "جُمَيْهِرٌ". ولا فرقَ في بنات الأربعة بين تصغير الترخيم وغيره، إلا أنّ ياء العوض لا تدخل تصغيرَ الترخيم، وتدخل غيرَه، فتقول: "دُحَيْرِيجٌ"، و"حُرَيجِيمٌ"، و"جُمَيْهِيرٌ"، ولا تقوله إذا كان مرخّمًا. وقال الفرّاء في هذا التصغير: إنّ العرب إنّما تفعل ذلك في الأسماء الأعلام، كما كان الترخيم في النداء كذلك، فعلى هذا لو صغّرنا "حارثًا"، أو"أسوَدَ" عَلَمَيْن، لقلنا: "حُرَيْثٌ"، و"سُوَيْدٌ" في الترخيم، ولو صغّرناهما قبل النقل والتسمية، لم نقل: إلا "حُوَيْرِثٌ"، و"أُسَيِّدُ". ولم يفرق أصحابُنا بين هذَيْن. وذكر في بعض الأمثال؛ "عَرَفَ حُمَيْقٌ جَمَلَهُ" (¬1)، يريد تصغير "أحمَقَ"، فاعرفه. فصل [ما لا يُصَغَّر] قال صاحب الكتاب: ومن الأسماء ما لا يصغر كالضمائر, و"أين", و"متى", و"حيث", و"عند", و"مع", و"غير", و"حسب", و"من", و"ما", و"أمس", و"غدٍ", و"أول من أمس", و"البارحة", و"أيام الأسبوع", والاسم الذي بمنزلة الفعل, لا تقول: "هو ضويربٌ زيدًا". * * * قال الشارح: اعلم أنّ من الأسماء ما لا يجوز تصغيرُه، كما لا يجوز وصفُه، فمن ذلك المضمرات، نحو: "أنا"، و"أَنْتَ"، و"هُوَ". فلا تقول في "أَنَا": "أُنَيّ"، وفي "نَحْنُ": "نُحَيْن"؛ وذلك لأمورٍ: أحدُها أنّ المضمرات تجري مجرى الحروف في عدم قيامها بأنفسها وافتقارِها إلى غيرها، فلا تحقّر الحروف. ¬
والثاني: أنّ أكثر الضمائر على حرفٍ أو حرفَين، وذلك ممّا لا يُحقَّر لنَقْصه عن أبنية التحقير. الثالث: أنّ المضمرات ليست أسماء لشيء ثابت تخُصّه ولا تقع على غيره، والشيء إنّما يكون حقيرًا صغيرًا بالإضافة إلى ما له ذلك الاسمُ، وهو أكبرُ منه. فإن قيل: فقد حقّروا المبهمات، وهي مبنيات تجري مجرى الحروف، وفيها ما هو على حرفَيْن. قيل: المبهم يُشبِه الظاهرَ من حيث إنّه يوصَف، ويوصَف به، ويُبتدأ به الكلامُ، كقولك: "هذا زيدٌ"، وليس فيه شيءٌ يَتّصل بالفعل، ولا يجوز فصُله كالكاف في "ضربتُك"، والتاء في "قمتُ"، فالمبهمُ كالظاهر؛ لقيامه بنفسه، ولِما ذكرناه. ولا يُحقَّر "أَيْنَ"، ولا "مَتّى"؛ لبُعْدهما من التمكّن وتنزلُّهما منزلةَ الحروف من جهة تضمُّنهما معنى الاستفهام، ولا تُصغَّر "حَيْثُ" لعدم تمكُّنها، وافتقارها إلى مُوضِح، ومثلُها في الأزمنة "إذ"، و"إذَا". فإن قيل: فإنّ "الَّذِي"، و"الَّتِي"، يفتقران إلى مُوضِح افتقارَ "حَيْثُ"، ومع ذلك فإنّهما يُصغَّران، نحو: "اللَّذَيَّا"، و"اللَّتَيَّا"، قيل: "الّذي"، و"الّتي": أقربُ إلى التمكّن، ألا ترى أنّهما يكونان فاعلَيْن ومفعولَيْن، ويُبتدأ بهما ويوصَفان، ويوصَف بهما، فافترق الحالُ بينهما؟ ومن ذلك "عِنْدَ"، فإنّها لا تُصغَّر لعدم تمكُّنها, ولأنّ الغرض من تصغير الظرف التقريبُ كـ"تُحَيْتَ"، و"فُوَيْقَ"، وعِنْدَ في غاية القرب، فلمّا دلّ لفظُها على ما تدلّ عليه الظروفُ مصغّرة لم يُحْتَج إلى التصغير فيها. وأمّا "مَعَ"، فلا تُصغَّر أيضًا لبُعْدها من التمكّن، وكونِها على حرفَيْن، وقد اعتقد فيها الحرفيّةَ من أسكنها في قوله [من الوافر]: فَرِيشِي مِنْكُمُ وهَوايَ مَعْكُمْ (¬1) ومن ذلك "غَيْرٌ"، و"سِوى"، لا يُصغَّران بخلاف "مِثلٍ"، فإنّك تصغّره، فتقول: "هذا مُثَيْلُ هذا"، ولا تقول: "غُيَيْرُهُ". وذلك من قِبَل أن المماثَلة قد تختلف بأن تقلّ وتكثُر، ألا ترى أنّك تقول: "هذا أكثرُ مماثَلة"، و"هذا أقلُّ مماثَلة من هذا". وليست المغايَرةُ كذلك؛ لأنّ "غَيْرًا" اسمٌ لكلِّ مَن لم يكن المضافَ إليه، وليس في كونه غيرَه معنى يكون أنقصَ من معنى، فيُصغرَ الناقص كما كان في المماثَلة كذلك. وأمّا "سَوى" فالعلّةُ واحدة. ومن ذلك "حَسْبُ" لا يصغّر؛ لأنّه في معنى الفعل، فإذا قلت: "حَسْبُك درهمان"، فمعناه: "ليَكْفِك درهمان"، فكما لا يصغّر الفعل، كذلك لا يصغّر ما هو في معناه. ¬
فصل [تصغير الأسماء المبهمة]
وأمّا "مَا"، و"مَنْ"، فلا يُصغَّران؛ لأنّهما غيرُ متمكّنَيْن، وعلى حرفَيْن، وهما بمنزلة الحرف في الاستفهام والجزاء والخبرِ. وأمّا "أَمْسِ"، و"غَدٌ"، فلا يُحقَّران؛ لأنّهما لمّا كانا يتعلّقان باليوم الذي أنت فيه، صارا بمنزلة المضمرات؛ لاحتياجهما إلى حضور اليوم، كما أنّ الضمير يحتاج إلى ظاهرٍ يتقدّمه، وكذلك "أوَّلَ من أَمْسِ" حكمُه حكمُ "أَمْسِ"، ومثله "البارِحَةَ". وأمّا أيّام الأسْبُوع، نحو: "الثلاثاء"، و"الأربِعاء"، لا يحقّر شيء منها، وكذلك أسماء الشهور، نحو: "المُحَرَّم"، و"صَفَرٍ"؛ لأنّها أعلامٌ على هذه الأيّام، فلم تتمكّن تمكُّنَ "زيد"، و"عمرو"، ونحوهما من الأعلام؛ لأنّ العَلَم إنّما وُضع على شيء لا شريكَ له، وهذه الأسماء وُضعت على الشهور والأسبوع، ليُعْلَم أنّه الشهر الأوّل من السنة واليوم الأوّل، أو الثاني من الأسبوع، وذلك لا يختلف فيصغَّرَ بعضُها عن بعض. وذهب الكوفيون، وأبو عثمان المازنيّ، وأبو عمر الجرميّ إلى جواز تصغير ذلك. وأمّا "ضاربٌ" إذا كان للحال والاستقبال، وهو في نيّة التنوين، فإنّه لا يحقّر أيضًا؛ لأنّا إذا نوّنّاه ونصبنا ما بعده، فهو في مذهب الفعل، وليس التصغيرُ ممّا يلحق الأفعالَ إلا في التعجّب، فلذلك لا يجوز: "هذا ضُوَيرِبٌ زيدًا غَدًا". فأمّا إذا كان لما مضى، نحو: "هذا ضاربُ زيدٍ أَمْسٍ"، فليس في مذهب الفعل، ومجراه مجرَى "غلامُ زيدٍ"، فكما تقول: "هذا غُلَيِّمُ زيدٍ"، فكذلك يجوز: "هذا ضُوَيْرِبُ زيدٍ أمسِ". فصل [تصغير الأسماء المبهمة] قال صاحب الكتاب: والأسماء المبهمة خولف بتحقيرها تحقير ما سواها, بأن تُركت أوائلها غير مضمومة، وألحقت بأواخرها ألفاتٌ, فقالوا في "ذا", و"تا": "ذيَّا", و"تيا" وفي "أولا", و"أُولاء": "أُليَّا", و"أُلياء"، وفي "الذي", و"التي": "اللذيَّا", و"اللتيا", وفي "الذين", و"اللاتي": "اللذيون", و"اللتيات". * * * قال الشارح: اعلم أنّ القياس في الأسماء المبهمة أن لا تُصغَّر، من حيث كانت مبنيّة على حرفَيْن كـ"مَنْ"، و"مَا"، إلا أنها لمّا كان لها شَبَهٌ بالظاهر من حيث كانت تُثنَّى، وتُجمَع، وتوصَف ويوصف بها، والتصغيرُ وصفٌ في المعنى، فدخلها التصغيرُ كما دخلها الوصفُ. ولمّا كانت مُخالِفة للأسماء المتمكّنة؛ خالفوا بين تصغيرها وتصغير المتمكّنة، بأن غيّروها على غير منهاج تغيير تصغير الأسماء المتمكّنة، وصار ذلك دلالة على حقارة المشار إليه، كما كان تغييرُ الأسماء المتمكّنة، بضمّ أوائلها وبنائها على "فُعَيْلٍ"، و"فُعَيْعِلٍ" دلالة على صِغَر المسمّى. فإذا أردتَ تصغير المبهم، تركتَ أوّلَه على
حاله، وزدتَ فيه ياء التصغير على حدّ زيادتها في المتمكّنة؛ لأنّها علامةٌ، فلا يَعْرَى المصغّرُ منها، إذ لو عري منها، فلا يكون على تصغيره دليلٌ، وألحقت في آخِره ألفًا كالعوض من ضمّ أوّله تدلّ على ما كانت تدلّ عليه الضمّة؛ فتقول، في "ذَا": "ذَيَّا"، وفي "تَا": "تَيَّا". فإن قيل: فما بالُ ياء التصغير زيدت هنا ثانية، وسبيلُها أن تزاد ثالثة؟ قيل: إنّما أُلحقت ثالثةً، ولكنّك حذفت ياء لاجتماع الياءات. وذلك أن الأصل "ذَا"، و"تَا" على حرفَيْن كما ترى، فلمّا صغّروهما، احتاجوا إلى حرف ثالث، فأتوا بياء أخرى لتمام بناء التصغير، ثمّ أدخلوا ياء التصغير ثالثةً، فانقلبت الألفُ ياء لتحرُّكها بوقوع ياء التصغير بعدها، وزادوا الألفَ آخِرًا عوضًا من ضمّة الفاء، فصار: "ذَيَيَّا"، فاجتمع ثلاثُ ياءات، وذلك مستثقَلٌ، فحذفوا إحدى الياءات، فلم يكن سبيلٌ إلى حذف ياء التصغير؛ لأنّها علامةٌ، ولا إلى حذف الياء التي بعد ياء التصغير؛ لأنّه بعدها ألفٌ، ولا يكون ما قبل الألف إلا مفتوحًا، فلو حذفوها، حرّكوا ياء التصغير، وهي لا تكون متحرّكة، فحذفوا الياء الأولى، فبقي "ذَيَّا"، و"تَيَّا"، وحصلت ياء التصغير ثانيةً. وأمّا "تَيَّا"، فهو تحقيرُ "تَا". ومن قال: "ذِي"، و"ذِهِ"، قال في تحقيره: "تَيَّا"، وهو على لغةِ من قال: "هذهِ"، و"هذِي"، و"تَا"، و"تِي" أيضًا يرجع كلُّه في التصغير إلى لغةِ من يقول: "تَا"؛ لئلاّ يُلْبِس المؤنّثُ بالمذكر. وإذا قلت: "هذيَّا"، و"هاتَيَّا"، فإنّما هو "ذيَّا"، و"تَيَّا"، دخلت عليهما هاء التنبيه، وكذلك إذا قلت: "ذَيّاكَ"، و"تَيّاكَ"، فتُلحِقه علامةَ الخطاب، كما تلحق المكبَّرَ في قولك: "ذاكَ"، و"تاكَ". فأمّا "أُولا" مقصورًا وممدودًا، وهو جمعُ "ذَا" و"تَا"، فإنّه يقع على المذكّر والمؤنّث، فإذا صغرت "أُولًا" مقصورًا، فلا إشكال فيه, لأنّك تُلحِق ياء التصغير ثالثةً، وتقلب ألفَه ياء؛ لوقوعها موقع مكسور بعد ياء التصغير، ثم تزيد الألفَ أخيرًا عوضًا من ضمّة التصغير، فصار اللفظ "أولَيًّا". فإن قلت: إذا كنت إنّما تُلحِق الألف، آخِرًا عوضًا من ضمّة أوائل الأسماء المصغّرة، ونحن إذا صغّرنا "أُولًا" فنضمّ أوّلها، ونقول: "ألُيّا"، فتكون الضمّة موجودة، وإذا كانت الضمّة موجودة؛ فما وجهُ التعويض عن شيء موجود في اللفظ؟ فالجواب أنّ ضمّة أوّل "أُلَيَّا" ليست مجتلبة للتحقير بمنزلة ضمّة أوّلِ "كُلَيْبٍ"، و"جميلٍ"، وإنّما هي الضمّة التي كانت موجودة في حال التكبير في قولك: "أُولًا". والذي يدلّ على ذلك تركُهم ما هو مثله من أسماء الإشارة، واستحقاقُ البناء بحاله غير مضموم، وذلك قولك: "ذَيًّا"، و"تَيًّا". ألا ترى أن الذال والتاء مفتوحتان، كما كانتا قبل التحقير في "ذَا"، و"تَا"، فكذلك ضمّةُ همزة "أُلَيًّا"هي الضمّة في "أُلا"، فلمّا كانت الضمّة في "أُلَيَّا" هي الضمّة التي كانت موجودة في "أُلا" وليست مجتلبة للتحقير، بقيت بحالها، وعُوّض الألف في آخِرِه عن ضمّة التحقير.
وأمّا "أُولاء" ممدودةً، ففيه نظرٌ، والقولُ فيه أن "أُلاء" وزنُه "فُعَالٌ" كـ"غُرابٍ"، وقياسُ تصغيره لو صغّر على حدّ تصغير الأسماء المتمكّنة أن تقول: "هذا أُولي"، كما تقول: "عُطَيٌّ"، إلا أنّهم لمّا لم يغيّروا أوّلَه عن حاله؛ أرادوا أن يزيدوا في آخره الألف كالعوض من ضمّة التحقير في أوّله، فلم تسغ زيادتُها بعد الهمزة؛ لئلاّ يتحوّل الممدودُ عن لفظه، وقد بنوه على المدّ، فزادوا ألف العوض قبل الهمزة، فصار "أُليّاء" على لفظ "أُليّاع". هذا رأى سيبويه (¬1)، وهو مذهب المبرّد. وأمّا أبو إسحاق فإنّه كان يقدّر الهمزة في "ألاء" ألفًا في الأصل، فإذا صغّر، دخلت ياء التصغير ثالثةً بعد اللام، فتنقلب الألفُ الأولى ياء لوقوع ياء التصغير قبلها على حدّ قلبها في "غُلامٍ"، و"عَناقٍ"، فتقول: "غُلَيِّمٌ"، و"عُنَيِّقٌ"، ثمّ أدخلوا الألف المزيدة للتصغير آخِرًا، فاجتمع ألفان في التقدير، فقُلبت الثانية همزة؛ لاجتماع الألفَيْن، على حدّ قلبها في "حَمْراءَ"، و"صَحْراءَ". وهذا أقربُ إلى القياس؛ لاعتقاد زيادة ألف التصغير آخِرًا على منهاج سائر المبهمات، إلا أنّه يضعف من جهة تقدير الهمزة بالألف، فاعرفه. وأمّا "الَّذِي" و"الَّتِي"، فيُحقَّران على منهاج تحقير أسماء الإشارة؛ لأنّ مجراهما في الإبهام واحدٌ بوُقوعهما على كلّ شيء من حَيَوانٍ وجَمادٍ، كما كانت أسماء الإشارة كذلك، فتترك أوّلَهما على حاله من الفتح، وتزيد ياء التصغير ثالثةً، وتَدّغمها في الياء التي هي لامُ الكلمة، وتزيد الألفَ المزيدة للتصغير آخِرًا، فتقول "اللَّذَيَّا"، و"اللَّتَيا". قال الشاعر، أنشده أبو العباس [من الرجز]: 830 - بَعْدَ اللَّتَيَّا واللَّتَيَّا والَّتِي ... إذا عَلَتْها أَنْفُسٌ تَرَدَّتِ ¬
وقد حُكي "اللُّذَيَّا"، و"اللُّتَيَّا" بضمّ الأوّل منهما. والأولُ أقيس؛ لأنّ هؤلاء يجمعون بين العوض والمعوَّض. فإذا ثنّيتَ أو جمعتَ شيئًا من هذه الأسماء، لم تُلحِقه ألفًا في آخِره من أجل الزيادة التي لحقته، وذلك قولك في التثنية: "جاءني اللَّذَيّان قاما"، وفي الجرّ والنصب: "مررت باللّذَيَّيْنِ قاما"، و"رأيت اللّذَيَّيْنِ قاما". وتقول في الجمع: "جاءني اللّذَيِّينَ"، و"رأيت اللَّذَيِّينَ"، و"مررت باللِّذَيّينَ". ومن قال: "اللّذُونَ" في الرفع، قال: "جاءني اللّذَيُّونَ"، فيضمّ الياء المشدّدة قبل الواو، ويكسرها في الجرّ والنصب، كما يفعل في الصحيح. وكان أبو الحسن يذهب إلى أنّ الألف المزيدة للتصغير مقدّرةٌ، وإنّما حُذفت لالتقاء الساكنَيْن، وبقي ما قبلها مفتوحًا، ليدلّ على الألف المحذوفة على حدّ "المُصْطَفَيْنَ" و"الأَعْلَيْنَ"، فيقول: "جاءني اللّذَيَّوْنَ" بفتح الياء، و"رأيت اللّذَيَّيْنَ"، و"مررت باللّذَيَّيْنَ"، فيكون لفظُ الجمع فيه كلفظ التثنية، غيرَ أنّ نون التثنية مكسورةٌ، ونون الجمع مفتوحةٌ. وتقول في المؤنّث: "اللّتَيَّا"، وفي التثنية: "اللُّتَيَّانِ" في الرفع، وفي النصب والجرّ: "اللَّتَيَّيْنِ"، وفي الجمع: "اللّتَيَّاتُ" على المذهبَيْن جميعًا. وأمّا "اللاّتي"، فلا يُحقَّر على لفظه؛ لأنّه جمع كثرة، فردّوه إلى الواحد، وصغّروه، ثمّ جمعوه بالألف والتاء؛ لأنّه مؤنثٌ كما يُفعَل بالجمع من غيرِ المبهم، نحو قولهم في "جِفانٍ"، و"قِصاعٍ": "جُفَيْناتٌ"، و"قُصَيْعاتٌ". قال سيبويه (¬1) استغنوا بجمع الواحد المحقَّر السالم إذا قلت: "اللَّتَيِّاتُ"، كما استغنوا عن تحقير "القَصْر"، وهو "العَشِيُّ"، و"المَساء" بقولهم: "أتانا مُسَيَّانًا وعُشَيَّانًا" وكذلك "اللاّتي"، تقول فيها: "اللَّتَيَّاتُ". وكان الأخفش يحقّر اللاّتي على لفظه، فيقول: "اللَّوَيَّا"، كأنّه يحذف التاء من آخره؛ لئلاّ يصير الاسم المصغّر بزيادة الألف التي للتصغير على خمسة أحرف، فيخرج عن بناء التصغير، ويحتجّ بأنّه ليس بجمع "اللَّتِي" على لفظها، وإنّما هو اسمٌ للجمع، كقولك: "نَفَرٌ"، و"قَوْمٌ"، وهو القياس. وكان المازنيّ يقول: إذا آل الأمرُ إلى حذفِ حرف من أجل الألف الداخلة، فتحذف الألف التي هي بعد اللام، وهو أولى. قال: لأنّه زائد إذ كان في تقدير فاعلٍ. ¬
المنسوب
ومن أصناف الاسم المنسوب فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: هو الاسم الملحق بآخره ياء مشددة مكسور ما قبلها, علامة للنسبة إليه، كما أُلحقت التاء علامة للتأنيث، وذلك نحو قولك: "هاشمي", و"بصري". * * * قال الشارح: اعلم أنّ النَّسْبة التي يقصِدها النحويّون، ويسمّيها سيبويه (¬1) الإضافةَ، هو ما يُنْسَب إلى قبيلة أو بَلْدة أو صَنْعة أو غيرِ ذلك. يقال: "نسبتُه إلى بني فلانٍ"، إذا عَزَوْتَه إليهم، فهي إضافةٌ من جهة المعنى، وإن كانت مخالِفة لها من جهة اللفظ؛ وذلك أنّك في الإضافة تذكر الاسمَيْن، وتُضيف أحدهما إلى الآخر، نحوَ: "غلامُ زيدٍ"، و"صاحبُ عمروٍ"، وفي النَّسَب إنّما تذكر المنسوب إليه وحدَه، ثمّ تَزيد عليه زيادة تدلّ على النسب، وتكتفي بتقدُّم الموصوف عن ذكر المنسوب، وذلك أنّ يزاد في آخر المنسوب إليه ياء مشدّدةٌ، ويُكسَر ما قبل الياء فيما قلّت حروفُه أو كثُرت؛ وذلك نحو قولك في النسب إلى "هاشمٍ": "هاشِمِيٌّ"، وإلى قَيْسٍ: "قَيْسِيٌّ"، وإلى بَغْدادَ: "بغدادِيٌّ"، وإلى واسطَ: و"اسِطي"، وإلى من يَبيع الدقِيقَ: "دقيقِيٌّ"، وإلى من يبيع الثيابَ المُلْحَمَةَ: "مُلْحَمِيٌّ". والغرضُ بالنسب أنّ تجعل المنسوبَ من آل المنسوب إليه، أو من أهل تلك المدينة، أو الصنعة، وفائدتُها فائدةُ الصفة. فإن قيل: ولِمَ كانت الياء هي المَزيدةَ دون غيرها؟ فالجواب أنّ القياس كان يقتضي أنّ تكون أحد حروف المدّ واللِين لِما تقدّم من خفّتها؛ ولأنّها مألوفٌ زيادتُها، إلا أنّهم لم يزيدوا الألف؛ لئلّا يصير الاسم مقصورًا، فيمتنع من الإعراب، وكانت الياء أخفّ من الواو، فزيدت. ¬
فهذه الياء اللاحقة شبيهةٌ بالتاء اللاحقة بالمؤنّث، وذلك من قِبَل أنّ الياء علامةٌ لمعنى النسب، كما أنّ التاء علامةٌ لمعنى التأنيث. وكلُّ واحد منهما يمتزج بما يدخل عليه، حتى يصير كجُزْء منه، وينتقل الإعرابُ إليه، فتقول: "هذا رجلٌ بَصْرِيٌّ"، و"رأيت رجلًا بصريًّا"، و"مررت برجلٍ بصريٍّ"، كما تقول: "هذه امرأة قائمة"، و"رأيت امرأة قائمة"، و"مررت بامرأة قائمة". فكلُّ واحدة من الزيادتين - أعني الياء في النسب والتاء في المؤنّث - حرفُ إعراب لِما دخل فيه. وإنّما صارا بمنزلة الجزء ممّا دخلا فيه من قِبَل أنّ العلامة أحدثت في كلّ واحد من المنسوب والمؤنّث معنًى لم يكن، فصار الاسمُ بالعلامة مركبًا، والعلامةُ فيه من مُقَوّماته، فتنزّلت العلامةُ في كلّ واحدٍ منهما منزلة أداة التعريف في "الرجل" و"الغلام"، فكما أنّ الألف واللام جزءٌ ممّا دخلتا فيه، فكذلك ياء النسب وتاء التأنيث. والذي يدلّ على أنّ الألف واللام جزءٌ ممّا دخلتا فيه أنّ العامل يتخطّاهما إلى ما بعدهما من الاسم المعرَّف، فيعمل فيه. وإنما كانت ياء النسب مشدّدة لأمرَيْن: أحدُهما أنّ لا تلتبِس بياء المتكلّم، والثاني أنّها لو لحقت خفيفةً، وما قبلها مكسورٌ؛ لثقُل عليها الضمّةُ والكسرةُ، كما ثقُلتا على القاضِي والداعِي، وكانت مُعرَّضة للحذف إذا دخل عليها التنوينُ، فحصّنوها بالتضعيف، ووقع الإعرابُ على الثانية، فلم تثقل عليها ضمّةٌ ولا كسرةٌ؛ لسكون الياء الأولى. وإنّما كان ما قبلها مكسورًا لأمرَيْن: أحدُهما أنّها مدّةٌ ساكنةٌ، وإنّما ضُوعِفت خوفَ اللَّبْس، وحرفُ المدّ لا تكون حركةُ ما قبله إلا من جنسه. الأمر الثاني: أنّه لما وجب تحريكُ ما قبلها لسكونها, لم يُفتَح لئلا يلتبس بالمثنّى، فكانت الكسرة أخفَّ من الضمّة، فعدلوا إليها. فإن قيل: فهل هذه الياء حرفٌ، أو اسمٌ؟ فالجواب أنّها حرف كتاء التأنيث، لا موضعَ لها من الإعراب. وذهب الكوفيون إلى أنّها اسم في موضع مجرور بإضافة الأوّل إليه، واحتجّوا بما يُحكَى عن العرب: "رأيتُ التَّيْمِيَّ تَيْمِ عَدِيِّ" بجَرِّ "تَيْم" الثاني، جعلوه بدلًا من الياء في "التيميّ". وإذا كان بدلاً منه، كان اسمًا؛ لأنّ حكم البدل حكمُ المُبْدَل منه. وهو فاسدٌ من قِبَل أنّ الياء حرفُ معنى دالٌّ على معنى النسب، كما أنّ تاء التأنيث حرف دالّ على معنى التأنيث، وليست كنايةً عن مسمًّى؛ فيكونَ لها موضعٌ من الإعراب، مع أنّ الاسم الذي له موضعٌ من الإعراب هو الذي يَتعذّر ظهورُ الإعراب في لفظه، فيُحكَم على محلّه. وأمّا ما حكوه من قولهم: "رأيتُ التيميَّ تَيْمِ عَدِيّ"، فإن صحّت الروايةُ، فهو محمولٌ على حذف المضاف، كأنّه لمّا ذكر "التيميّ"، دلّ ذكرُه إيّاه على "صاحبٍ"، فأضمره للدلالة عليه، فكأنّه قال: "صاحب تَيْمِ عَدِيٍّ" أو"ذَا تَيْمِ عديّ"، ثم حذف المضاف، وأبقى المضاف إليه على
[النسب الحقيقي والنسب غير الحقيقي]
حاله من الإعراب، وجعله، وإن لم يُذكَر، بمنزلة الثابت الملفوظ به، ونظيرُه قوله [من المتقارب]: أَكُلَّ امْرِئٍ تَحْسِبِينَ امْرَأً ... ونارٍ تَوَقَّدُ بالليل نارًا (¬1) فإنه خفض "نارًا" على تقديرِ: وكلَّ نارٍ، ومثلُه قولهم: "ما كلُّ سَوْداءَ تَمْرَةً، ولا بَيضاءَ شَحْمَةً" (¬2)، وقد تقدّم نحو ذلك. [النَّسَب الحقيقي والنَّسَب غير الحقيقي] قال صاحب الكتاب: وكما انقسم التأنيث إلى حقيقي وغير حقيقي فكذلك النَّسَبُ, فالحقيقي ما كان مؤثراً في المعنى, وغير الحقيقي ما تعلق باللفظ فحسب، نحو: "كرسي", و"بردي". وكما جاءت التاء فارقة بين الجنس وواحده، فكذلك الياء, نحو: "رومي", و"روم", و"مجوسي", و"مجوس". * * * قال الشارح: قد أيَّدَ صاحب الكتاب بما ذكره قوّةَ المشابهة بين النسب والتأنيث، وذلك أنّ التأنيث كما يكون حقيقيًّا وغير حقيقي. فالحقيقيُّ ما كان مسمّاه مؤنّثًا، فدخلت العلامةُ في اسمه للإيذان بذلك. وغيرُ الحقيقيّ ما تَعلّق التأنيث باللفظ دون مدلوله، نحو: "قَريَةٍ"، و"غُرفَةٍ". فكذلك النسبُ قد يكون حقيقيًّا وغير حقيقيّ، فالحقيقيّ ما كان مُوْثرًا، أي: دالا على نسبه إلى جهة من الجهات المذكورة كالأب والبلدة والصناعة، نحو: "هاشِميّ"، و"بَصْريّ"، و"مُلحَميّ". وغيرُ الحقيقيّ ما لا يدلّ على نسبه إلى شيء ممّا ذُكر، بل يكون اللفظ كلفظ المنسوب بأن يكون في آخره زيادةُ النسب، كقولنا: "كُرسِيٌّ"، و"بَرْديٌّ"، و"قُمْريّ"، و"بُختيّ". ألا ترى أنّ "كُرْسًا" من "كُرْسيٍّ" ليس بأبٍ، ولا بلدةٍ، ولا شيء ممّا يُنسَب إليه، وإنّما هو شيءٌ تَعلّق باللفظ. ويؤيد ذلك عندكَ أنّ "كرسيًّا"، و"برديًّا" اسمان كما ترى، ولو كانا منسوبَين حقيقةً؛ لخرجا إلى حيّز الصفة، كما خرج "هاشِمٌ" و"قَيْسٌ" إلى حيّز الصفة في قولك: "رجلٌ هاشميّ وقيسيّ". قال: ويؤيّد عندك قوّةَ الشَّبَه بينهما أنّه كما يُفصَل بتاء التأنيث بين الواحد وجنسه في نحو: "تَمرَةٍ"، و"تَمرٍ"، و"شَعِيرةٍ"، و"شعيرٍ"، كذلك فُصل بينهما بياءي النسبة، فقالوا في الواحد: "رُومِيٌّ"، وفي الجمع: "رُومٌ"، وقالوا: "زَنْجيٌّ"، وفي الجمع: "زَنْجٌ"، و"مَجُوسيٌّ"، و"مَجُوسٌ". ¬
[التغييرات التي تحدثها النسبة في الاسم]
وإنّما قال: "بين الواحد وجنسه"، ولم يقل: "بين الواحد وجمعه" لأنّ نحو: "تَمر"، و"شعير" في الحقيقة جنسٌ دالٌ على الكثرة، وليس بتكسيرٍ، وقد تقدّم الكلام على ذلك، فاعرفه. [التغييرات التي تحدثها النسبة في الاسم] قال صاحب الكتاب: والنسبة مما طرق على الاسم لتغييرات شتى؛ لانتقاله بها عن معنى إلى معنى, وحال إلى حال. والتغييرات على ضربين: جارية على القياس المطرد في كلامهم، ومعدولة عن ذلك. * * * قال الشارح: اعلم أنّ النسب يُحْدِث في الاسم المنسوب تغييراتٍ، منها زيادةُ ياءي النسب في آخره، وكسرُ ما قبلها، وجعلُ الياءين منتَهَى الاسم وحرفَ الإعراب. فهذا أوّلُ تغييرٍ تَطرّق إلى اللفظ بسبب النسب. وإنّما تَطرّق التغييرُ إلى اللفظ لتغيير المعنى. ألا ترى أنّك إذا نسبت إلى عَلَمٍ، استحال نكرةً بحيث تدخله أداةُ التعريف كالتثنيةُ والجمع، وصار صفةً بمنزلة المشتقّ بعد الجُمود، ويرفع فاعلاً بعده، إمّا مظهرًا، وإمّا مضمَرًا، تقول: "مررت برجل تَمِيمِيٍّ أبُوه، وآخَرَ هاشِميّ أخوه". فهذا قد جَمَعَ التغييراتِ الثلاث: التنكيرَ بكونه قد صار صفة للنكرة، والصفةَ؛ بجَرَيانِه على ما قبله جَرْيَ الصفة، ورَفْعَه الظاهرَ بعده، فهو كـ"الحَسَن الوَجهُ" في أحكامه. وقوله: "لانتقاله من معنى إلى معنى" إشارةٌ إلى ما ذكرناه من تنكيره وخروجه إلى الوصفيّة. وقوله: "من حال إلى حال" إشارةٌ إلى تغيير اللفظ. وجملةُ الأمر أنّ تغيير النسب على ضربَيْن: أحدهما قياسٌ مطرِدٌ لكثرته عنهم، فيجري لذلك مجرى رفع الفاعل ونصب المفعول. والآخرُ ما لا يطّرِد فيه القياس، بل يُسمَع ما قالوه، ولا يتجاوز. وستَقِفُ علىَ ذلك مفضَّلًا مشروحًا إن شاء الله. فصل [حذف التاء ونوني التثنية والجمع في النسبة] قال صاحب الكتاب: فمن الجارية على قياس كلامهم: حذفهم التاء ونوني التثنية والجمع، كقولهم: "بصري", و"هندي", و"زيدي", في "البصرة", و"هندان", و"زيدون" اسمين. ومن ذلك: "قنسري", و"نصيبي", و"يبري", فيمن جعل الإعراب قبل النون. ومن جعله معتقب الإعراب قال: "قنسريني". وقد جاء مثل ذلك في التثنية. قالوا "خليلاني", و"جاءني خليلان" اسم رجل. وعلى هذا قوله [من الطويل]:
831 - ألا يا ديار الحي بالسُّبعانِ ... [أمل عليها بالبلي الملوان] * * * قال الشارح: اعلم أنّ حذف تاء التأنيث قد كثُر عنهم واطّرد، حتى صار قياسًا، يُسمَع ما قالوه، ويُحمَل عليه نظائرُه، فإذا نسبت إلى اسم في آخره تاء التأنيث، حذفتَها, لا يجوز غيرُ ذلك، فتقول في النسب إلى "البَصْرَة": "بَصْرِيٌّ"، وإلى "مَكَّةَ": "مَكيٌّ"، وإلى "الكُوفَة": "كُوفِيٌّ" وإلى "فاطِمَةَ" "فاطِمِيٌّ". وإنّما أُسقطت التاء من النسب؛ لأنّا لو بقّيناها في الاسم على ما كانت عليه قبل النسب، لوجب أنّ نقول: "بَصْرَتِيٌّ"، و"كُوفَتِيٌّ"، و"مَكَّتِيٌّ" في الرجل يُنسَب إلى البصرة والكوفة ومكّةَ، ولَزِمَنا أنّ نقول إذا نسبنا امرأةً إلى ما فيه تاء التأنيث: "بصرتِيَّةٌ"، و"كوفتيةٌ"، و"مكتيةٌ"، و"فاطمتيةٌ"، فكان يُجمَع في الاسم الواحد تاءان للتأنيث، وذلك لا يجوز. وأيضًا فإنّ ياءي النسب، لمّا كانت مُشابِهة لتاء التأنيث من الجهات المتقدّمة، لم يُجمع بينهما، كما لم يُجمَع بين علامتَيْ نسبةٍ. وأمّا نونا التثنية والجمع، فلا تثبتان أيضًا مع ياءي النسبة، وذلك إذا سمّينا رجلًا بمثنًّى، أو مجموع جمعَ السلامة، قلنا فيه مذهبان: ¬
أحدهما، وهو الأجودُ، أنّ تحكي الإعراب قبل التسمية، فتقول: "هذا زيدان"، و"رأيت زيدَيْن قائمًا"، و"مررت بزيدَيْن جالسًا"، فتُعْرِبه بالحروف، كما كان إعرابُه قبل التسمية بها. فعلى هذا إذا نسبت إلى شيء من ذلك، حذفت علامتَي التثنية والجمع، فتقول: "هذا زَيْدِيٌّ"، و"رأيت زيديًّا"، و"مررت بزيديّ" و"هذا مُسْلِميٌّ"، و"رأيت مسلميًّا"، و"مررت بمسلميّ". وذلك أنّك لو أبقيتَهما، وقلت: "مسلمونيٌّ"، و"مسلمانيٌّ"، لجمعتَ في الاسم الواحد بين إعرابَيْن: أحدُهما بالحروف، والآخر بالحركات الكائنة على علامة النسب. وذلك لا يجوز، معِ أنّه كان يجوز أنّ تثنّيه، وتجمعه بالواو والنون، فتقول: "مسلمانِيّانِ"، و"مسلمونِيُّون"، فيُجمَع أيضًا في الاسم الواحد إعرابان بالحروف، وكلاهما فاسد. والثاني أنّ لا تحكي الإعراب بعد التسمية، وتُجْرِي الإعراب في التثنية على النون، وتجعل قبل النون ألفًا لازمة، وتجعله من قبيل "عُثْمانَ"، و"مَرْوانَ"، فتقول: "هذا مسلمانُ"، و"رأيت مسلمانَ"، و"مررت بمسلمانَ". وتقول في الجمع: "هذا مسلمِينٌ"، و"رأيت مسلمينًا"، و"مررت بمسلمِينٍ"، وقد تقدّم ذلك. فعلى هذا، تكون النسبةُ إليه بإثبات علامة التثنية والجمع من غيرِ حذف شيء منهما، فتقول: "هذا زيدانيٌّ"، و"رأيت زيدانيّا"، و"مررت بزيدانيّ"، وتصرفه عند اتّصال ياءي النسبة به، كما تصرف نحو: "مساجِدَ" إذا اتّصل به تاء التأنيث، نحو: "صَياقِلَةٍ"، و"صَيارِفَةٍ". وقد جاء "خَلِيلانُ" اسمًا، ونسبوا إليه "خَلِيلانيٌّ". وقد جاء في أسماء الأمكنة ما هو على طريق التثنية، كما جاء فيها ما هو على طريقة الجمع، قالوا: "سَبُعان"، وهو اسمُ مكان كأنّه تثنيةُ "سَبُعٍ"، ولا يكون: "فَعُلانُ"؛ لأنّه لا نظيرَ له، وأمّا قوله [من الطويل]: ألَا يا دِيارَ الحَي بالسَّبُعانِ ... أَمَلَّ عليه بالبِلَى المَلَوانِ فإنّ الشعر لابن مُقْبِلٍ، الشاهدُ فيه أنّه أعربه بالحركات، وألزمَه الألفَ، فعلى هذا النسبةُ إليه سَبُعانِيٌّ؛ لأنّ الألف فيه ليست للدلالة على الإعراب؛ إنّما هي بمنزلة الألف في "زَغفَرانٍ"، والمعنى أنّه يتأسّف على ديار قومه بهذا المكان، ويُخْبِر أنّ المَلَوَيْن، وهما الليل والنهار أبلياها ودرساها. وأمّا نحو: "قِنَّسْرِينَ"، و"نَصِيبِينَ"، و"يَبْرِينَ" ونحوِهنّ من أسماء المواضع كـ"فِلَسْطِينَ"، و"سَيْلَحِينَ"، و"ماكِسِينَ"، فأمّا "قِنَّسْرين"، فمدينةٌ داثرةٌ بالشأم؛ وأمّا "نصيبين" فمدينة بالجَزيرة؛ وأمّا "يَبْرِين" فموضعٌ بالشام أيضًا، و"سَيْلَحون" قريةٌ بفارسَ، و"ماكسون"موضعٌ بالخابُور، فهذه الأسماءُ كلها من قبيل ما سُمّي بجمع، كأنّهم جعلوا كلَّ جهة "قنّسرًا"، و"نصيبًا"، و"يَبْرًا"، ثمّ جمعوه بالواو والنون، وسمّوا به. وفيهٍ المذهبان: منهم من يجعل الإعراب في النون، ويُلْزِمه الياء، فيقول: "هذا قنّسرينُ"، و"رأيت قنّسرينَ"، و"مررت بقنّسرينَ". فعلى هذه اللغة لا تحذف شيئًا منه إذا نسبت
فصل [النسبة إلي الاسم الثلاثي المكسور العين]
إليه، وتقول: "هذا قنّسرِينِي"، و"رأيت قنسرِينِيًّا"، و"مررت بقنّسرِينِيٍّ"، فاعرفه. فصل [النسبة إلي الاسم الثلاثي المكسور العين] قال صاحب الكتاب: وتقول في "نمر", و"شقرة", و"الدئل", ونحوها مما كسرت عينه: "نمريٌّ", و"شقري", و"دُؤلي" بالفتح قياس متلئبٌّ، ومنهم من يقول: "يثربي", و"تغلبي" فيفتح, والشائع الكسر. * * * قال الشارح: وممّا يلزم التغييرُ فيه ويطّرِد وذلك بأن يكون الاسم المنسوب إليه على ثلاثة أحرف ثانيه مكسورٌ، فإذا نسبتَ إليه. فتحتَ ثانِيَه. تقول في النسب إلى "نَمِرٍ": "نَمَرِيٌّ"، وإلى "شَقِرَةَ": "شَقَرِيٌّ"، وإلي "الدُّئِل": "دُؤَلِيٌّ". ولو سمّيت رجلًا بـ "ضُرِبَ"، ثمّ نسبت إليه، لقلت: "ضُرَبِيٌّ". ولو نسبت إلى "إبلٍ"، لقلت: "إبَلِيٌّ" بالفتح. وإنّما فتحوا العين استثقالًا لتوالي الكسرتَيْن والياءين في اسم ليس فيه حرفٌ غيرُ مكسور إلا واحدٌ. وقوله: "مُتْلَئِبٌّ"، أي: مستقيم. يقال: "طريق متلئبّ"، أي: ممتَدّ مستقيم. فأمّا مثلُ "تَغْلِبَ"، و"يَثْرِبَ" ممّا هو على أربعة أحرف، فالبابُ أنّ تأتي به على لفظه من غير تغيير، فتقول: "تَغْلِبِيٌّ"، و"يَثْرِبِيٌّ"، و"مَغْرِبِيٌّ"؛ لأنّ فيه حرفَيْن غير مكسورين: التاء من "تغلب" مفتوحة، والغينُ ساكنة. ومنهم من يفتح ويقول: "تَغْلَبيّ"، و"يَثْرَبيّ"، و"مَغْرَبيّ". ويُشبِّهون المكسور منه بالمكسور في "شَقِرَةَ"، و"نَمِرٍ"، ولم يحفِلوا بالساكن، كأنّهم نسبوا إلى "تَلِب" من "تَغْلِب"، وأهملوا الغين لسكونها، وكذلك ما كان مثله. وليس ذلك بقياس عند سيبويه والخليل (¬1)، وهو عند أبي العبّاس المبرّد قياسٌ مطردٌ، فأمّا نحو: "عُلَبِط" (¬2)، و"هُدَبِدٍ" (¬3)، فلا مقالَ في بقائه على لفظه من غير تغيير؛ لتحرُّك الحرف الثاني منه، فاعرفه. فصل [النسبة إلي "فعيلة" و"فَعولة" و"فُعيلة"] قال صاحب الكتاب: وتحذف الياء والواو من كل "فَعيلةٍ", و"فَعُولَةٍ"، فيقال ¬
فيهما: "فعليٌّ" (¬1) , نحو قولك: "حنفي", و"شنئيّ"، إلا ما كان مضاعفاً أو معتل العين, نحو: "شديدة", و"طويلة"، فإنك تقول فيهما: "شديدي", و"طويلي". ومن كل "فُعيلةٍ", فيقال فيها: "فُعليّ", نحو: "جُهنيّ", و"غُفَليّ". * * * قال الشارح: ومن التغيير اللازم حذفُ الياء والواو من "فَعِيلَةَ"، و"فُعَيْلَةَ"، و"فَعُولَةَ" وذلك إذا نسبت إلى مثل "حَنِيفَةَ"، و"رَبِيعَةَ"، و"جُهَيْنَةَ"، فتقول: "حَنَفِيٌّ"، و"رَبَعِيٌّ"، و"جُهَنِيٌّ" وتعمل ثلاثة أشياء: تحذف تاء التأنيث، ثمّ ياء "فعيلة"، وتنقُله من "فَعِلٍ" مكسورَ العين إلى "فَعَلٍ" مفتوحَ العين. أمّا حذفُ تاء التأنيث، فعلى الجادَّة، وأمّا حذفُ الياء فلأنّها في نفسها مستثقلةٌ مع كونها زائدةً، وقد حصل في الكلمة أسبابٌ أوجبت ثِقَلَها، وهو أنّه اجتمع فيها ياء "فَعِيلَةَ" أو"فُعَيْلَةَ"، مع كسرِ ما قبل عَلَم النسبة، ويائي النسبة. وكلُّ ذلك من جنس واحد، فاستُثقل اجتماعها. والنسبُ بابُ تغيير، فحذفوا الياء تخفيفًا. وذلك لأنّهم قد حذفوها من "فَعِيلٍ"، و"فُعَيْلٍ"، نحو: "ثَقَفِيٍّ"، و"سُلَميّ"، وليس في الاسم إلا تغييرٌ واحدٌ، وهو تغييرُ حركةِ آخره بالكسر للحاق يائي النسبة، وإن لم يكن ذلك بالقياس عند سيبويه (¬2). وإذا كان حذفُها فيما لا هاء فيه جائزًا، كان فيما فيه الهاء لازمًا؛ لأنّ فيه تغييرَيْن: تغييرَ حركة، وحذفَ حرف. والكلمةُ كلّما ازداد التغييرُ فيها، كان الحذف فيها ألزمَ. ولمّا حذفت الياء، بقيت الحروفُ التي كانت قبل الياء مكسورات، وهن ثَوانٍ، فبقي بعد حذف الياء والتاء "حَنِفًا"، و"رَبِعًا" مثل "نَمِرٍ"، فُفتح في النسب، قيل: "حَنَفِيٌّ"، و"رَبِعيٌّ"، كما تقول في "نَمِرٍ": "نَمَريّ"، إلا أنّ يكون مضاعفًا أو معتلَّ العين، فإنّك لا تحذف الياء منهما، نحو النسب إلى "شَدِيدَةٍ", و"طَوِيلَةٍ"، و"جَلِيلَةٍ"، فتقول: "شَدِيدِيٌّ"، و"طَوِيلِيٌّ"، و"جَلِيلِيٌّ"؛ لأنّك لو حذفت الياء، لوجب أنّ يقال: "شَدَدِيٌّ"، فيجتمع حرفان من جنس واحد، وهو ممّا يستثقلونه. وكذلك لو نسبت إلى بني طويلةَ، وبني حُوَيْزَةَ، وهم في التَّيْم، قلت: "طويلِيٌّ"، و"حُوَيْزِيٌّ". والتصريفُ يُوجب أنّ الواو إذا تحرّكت وانفتح ما قبلها، قُلبت ألفًا، كقولهم: "دارٌ"، و"مالٌ". وحذفُ التاء إنّما هو لضرب من التخفيف، فلمّا آل الحالُ إلى ما هو أبلغُ منه في الثقل، أو إلى إعلال الحرف، احتُمل ثقلُه، وأُقرّ على حاله. وقد جاء فيما فيه التاء أسماءٌ قليلةٌ بإثبات الياء، ولا يقاس عليها. فممّا جاء منه بإثبات الياء فما ¬
فصل [النسبة إلي الاسم الذي قبل آخره ياء مشددة]
حكاه سيبويه (¬1)، قالوا في "سَلِيمَةَ": "سَلِيمِيٌّ" وفي "عَمِيرَةِ" كَلْبٍ: "عَمِيرِيٌّ". قال يونس: وهذا قليل (¬2)، وقالوا في "خُرَيْبَةَ": "خُرَيْبيّ" وقالوا في النسب إلى "سَلِيقَةٍ": "سَلِيقيٌّ"، والسليقةُ: الطَّبِيعَة. وقالوا: "رماحٌ رُدَينِية"، وهي منسوبة إلى "رُدَيْنَةَ". وأمّا "فَعُولَةُ" فحكمُها في النسب عند سيبويه (¬3) حكمُ "فَعِيلَةَ"، فتسقط الواو كما سقطت الياء، ويَفتَح عين الفعل المضمومة كما فتح المكسورة، وحجّتُه في ذلك أنّه قد وُجد في "فَعُولَةَ" من الثقل ما وُجد في "فَعِيلَةَ"، فكانت مثلَها، مع أنّ العرب قد قالت في النسب إلى "شَنُوءَةَ": "شَنَئِيٌّ". وأمّا أبو العبّاس المبرّد فإنّه كان يخالِفه في هذا الأصل، ويجعل "شَنَئِيًّا" من الشاذّ، فلا يُجيز القياسَ عليه، وفرق بين الواو والياء بأشياء، منها: أنّه قال لا خلافَ بينهم أنّه يُنسَب إلى "عَدِيٌّ": "عَدَوِيٌّ"، وإلى "عَدُوٍّ": "عَدُوِّيٌّ"، ففصلوا بين الواو والياء، فأقرّوا الواو على حالها، وغيروا الياء. ومن ذلك أنّهم يقولون في النسبة إلى "سَمرَةَ": "سُمُرِيٌّ"، وإلى "نَمِرٍ": "نَمَرِيٌّ"، فغيّروا في "نمر" من أجل الكسرة، ولم يغيّروا في "سَمُرِيّ"؛ لأنّ المستثقل اجتماعُ الياءات والكسرات. فلمّا خالفت الضمّةُ الكسرةَ في "نمر"، و"سمرة"، والواو الياء في "عَدِيٍّ"، و"عَدُوٍّ"، وجب أن تخالف الياء في "فَعِيلة" الواو في "فَعُولة". وقولُ أبي العبّاس مَتِينٌ من جهة القياس. وقولُ سيبويه أشدُّ من جهة السماع، وهو قولهم: "شَنَئِيٌّ"، وهذا نَصٌّ في محلّ النزاع. فصل [النسبة إلي الاسم الذي قبل آخره ياء مُشَدَّدة] قال صاحب الكتاب: وتحذف الياء المتحركة من كل مثال, قبل آخره ياءان مدغمةٌ إحداهما في الأخرى, نحو قولك في "أُسيِّد", و"حميرٍ", و"سيِّدٍ", و"ميِّتٍ": "أُسيديٌّ", و"حُمَيريّ", و"سيديّ", و"ميتي". * * * قال الشارح: الباب في كلّ اسم قبل آخِره ياءٌ مشدّدة أنّ تفُكّ الادّغامَ، وتحذف الياء المتحرّكة، فتقول في "أُسَيِّدَ"، و"حُمَيِّرٍ"، تصغيرِ "أَسْوَدَ"، و"حِمارٍ": "أُسَيْدِيٌّ"، و"حُمَيْريّ". ومثله في النسب إلى "سَيِّدٍ"، و"هَينٍ": "سَيْدِيٌّ"، و"هَيْنيّ". وإنّما حذفوا الياء؛ لثِقَل الاسم باجتماع ياءين وكسرتَيْن بعدهما ياء الإضافة، فثقُل عليهم اجتماعُ هذه المتجانسات، فحذفوا الياء تخفيفًا، وخصّوا المتحرّكة بالحذف؛ لأنّه أبلغُ في التخفيف، ¬
لأنّ الاسم يُنقَص ياء فيخِفّ. ولو حذفوا الياء الساكنة، لبقيت الياء المكسورةُ، فتتوالى الكسرتان، ولأنّهم يقولون قبل النسبة: "مَيتٌ"، و"مَيْتٌ"، و"هَينٌ"، و"هَيْنٌ"، فيخفِّفون بحذف الياء المتحرّكة استثقالًا، فإذا نسبوا وجاؤوا بياء النسبة، لزموا التخفيف على ذلك المنهاج، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: قال سيبويه (¬1): "ولا أظنهم قالوا: "طائي", إلا فراراً من "طيئى"، وكان القياس "طيئيٌّ", ولكنهم جعلوا الألف مكان الياء؛ وأما "مهيم" تصغير "مُهَوِّم" فلا يقال فيه إلا "مهيِّيميٌّ" على التعويض، والقياس في "مُهيِّمٍ" من "هيَّمه": "مُهَيّميٌّ" بالحذف. * * * قال الشارح: القياس في النسبة إلى "طَيِّىءٍ" بوزن "طَيِّعٍ": "طَيِّئِيٌّ"، لكنّهم جعلوا مكانَ الياء ألفًا تخفيفًا؛ لأنّه أخفُّ. وله نظائر، وإن كان الجميع شاذًّا غيرَ مقيس عليه. فمن ذلك قولهم في النسب إلى "زبِينَةَ": "زَبانِيٌّ". وقالوا في "يَوْجَلُ": "يا جَلُ" كأنّهم اجتزؤوا بأحد الشرطَيْن في قلب الياء ألفًا، وهو انفتاحُ ما قبلها. وقولُ سيبويه: "لا أظنُّهم قالوا طائِيّ إلا فرارًا من طَيِّئِيٍّ"، يريد: فرارًا من اجتماع الأمثال والأشباه، وهو الياء والكسرة، وياءا النسب. وأمّا "مُهَيِّمْ" فهو على ضربَيْن: يكون تصغيرَ "مُهَوِّمٍ" من قولهم: "هَوَّمَ"، "يُهَوِّمُ" إذا نام، وذلك لأنّك لما صغّرته، حذفت إحدى الواويْن؛ لأنّها زائدةٌ يخرج بها الاسمُ عن بناء التصغير، كما تحذف إحدى الدالَيْن من "مُقَدِّمٍ"، فيصير "مُهَيومٌ"، فتقلب الواو ياءً لاجتماعها مع ياء التصغير قبلها، كما قلبتها في "أُسَيِّدَ"، ثمّ لك وجهان: إن شئت أنّ تُعوِّض، وإن شئت لا. فإذا نسبت إليه، لزم التعويضُ لتفصِل الياء الساكنة بين الياءين الثقيلتَيْن، ولم يحذفوا الياء الخفيفة؛ لئلاّ يصير إلى مثال "حُمَيْرِيّ"، فيلزمَ فيه حذفُ يائين، فتقول: "مُهَيْميّ" خفيفة. والذي فيه عندي أنّك لمّا صغرت "مُهَوِّمًا"، لم تحذف منه شيئًا, لأنّ الواو الثانية وقعت رابعةً موضعَ العوض، ولم تُحذَف، وقلت: "مُهَيِّيمٌ"، كما تقول في "كِدْيَوْنٍ": "كُدَيِّينٌ" فإذا نسبت إليه؛ قلت: "كُدَيِّينِيٌّ" فكذلك تقول: "مُهَيِّيمِيٌّ". وأمّا "مُهَيِّمٌ" من "هَيَّمَهُ الحُبُّ"، فهو اسم فاعل عى زنة "مُفَعِّلٍ"، وليس بمصغّر، فتحتاجَ فيه إلى تعويض، فإذا نسبت إليه؛ قلت: "مُهَيْمِيٌّ"، فتعمل فيه ما عملت بـ "حُمَيريّ"، فاعرفه. ¬
فصل [النسبة إلي المعتل اللام من "فعيل" و"فعيلة" و"فعيل" و"فعيلة"]
فصل [النسبة إلي المعتلّ اللام من "فَعيل" و"فعيلة" و"فُعَيل" و"فُعَيلة"] قال صاحب الكتاب: وتقول في "فَعيلٍ" و"فَعيلَةَ" و"فُعيل" و"فُعيلة" من المعتلّ اللام: "فَعليٌّ", و"فُعَليّ", كقولك: "غَنَويٌّ", و"ضَرَويّ", وقُصَويّ", و"أُمويّ". وقال بعضهم: "أُميّيٌّ", وقالوا في "تحيَّةٍ": "تحويٌّ" * * * قال الشارح: اعلم أنّ ما كان من هذا النوع فإنّه يستوي في النسب إليه ما كان فيه تاء التأنيث، وما ليست فيه، فتقول في النسب إلى "غَنِيٍّ": "غَنَوِيٌّ". و"غنيٌّ" حَيٌّ من غَطَفانَ، وإلى "ضَرِيَّةَ": "ضَرَوِيٌّ". و"ضريّة": قريةٌ لبني كِلابٍ على طريق البَصرة بالقرب من مكّة، وإلى "عَدِيٍّ": "عَدَوِيٌّ". وقالوا في النسب إلى "قُصَيٍّ": "قُصَويّ"، وإلى "أُمَيَّةَ": "أُمَويّ"، لا فرقَ بين ما فيه التاء وغيره. وذلك أنّ "غَنِيًّا" آخِرُه ياء مشدّدة، وهما ياءان في الحكم. والياء الأولى زائدة، وهي ياء "فَعِيلٍ"، والثانيةُ لام الكلمة، فإذا نسبت إليه، ألحقته ياء النسبة، وهي مشدّدة بيائين، فيتوالى في آخر الكلمة أربعُ ياءات، فتثقُل، فعمدوا إلى الياء الزائدة، فحذفوها، فبقي بعد الحذف "غَنِيٌ" مكسورَ النون بمنزلة "نَمِرٍ"، ففتحوا النون كما فتحوا الميم في "نَمَرِيّ". ولمّا انفتحت، انقلبت الياء ألفًا؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها, فصارت في التقدير "غنًى" مثلَ "رَحى"، ثمّ قُلبت الألف واوًا، كما تقلَب في النسب إلى "رَحى"، و"فَتًى"، فتقول: "غَنَوِيٌّ"، كما تقول: "رَحَويّ"، و"فَتَويّ". وكذلك إذا كان فيه تاء التأنيث؛ لأنّ التاء تُحذَف في النسب، فيصير بمنزلةِ ما لا تاء فيه. وحكم "فُعَيلٍ" و"فُعَيْلَةَ" من ذلك نحو: "قُصَيٍّ"، و"أمَيَّةَ"، كذلك تحذف ياء التصغير، والعينُ مفتوحةٌ، فتنقلب اللام ألفًا سواء كانت من ذوات الياء، أو من ذوات الواو، فتقول في النسب إلى "قُصَيّ": "قُصَويّ"، كان "فُعَلًا"، بحذف الياء للنسب كراهيةَ اجتماع أربع ياءات على ما تقدّم، ثمّ قلبت اللام ألفًا، فصار "قُصًى" مقصورًا" كـ "هُدًى"، و"رُشًا"، فقُلبت ألفه واوًا في النسب، فقالوا: "قُصَويّ"، كما قالوا: "هُدَويّ"، و"رُشويّ". وما كان فيه تاء التأنيث فكذلك؛ لأنّ التاء تحذف في النسب، فيقولون في "أُمَيَّةَ": "أُمَويّ". ومن العرب من يحتمل الثِّقَل، ويقول: "أميِّيٌّ"، و"قصَيِّيٌّ". ووجه ذلك أنّه لمّا كان يدخل الياء المشدّدة الإعرابُ، فيقال: "هذا صَبِيٌّ وعَدِيٌّ"، و"رأيت صبيًّا وعديًّا"، و"مررت بصبيٍّ وعديٍّ"، شبّهوه بالصحيح، فنسبوا إليه كما يُنسَب إلى الصحيح. وقالوا في النسب إلى تَحِيَّةٍ: "تَحويّ"، وأصله "تَحْيِيَةٌ" على "تَفعِلَةً"؛ لأنّه مصدرُ "حَيّى يُحَيِّي"، على زنةِ "فَعَّلَ"، "يُفَعِّلُ"، ومصدره يأتي على "تَفْعِلة" كـ" التَّحلِيَة"، و"التَّروِيَة"، فنقلت كسرة الياء إلى الحاء قبلها، فسكنت الياء، وأدغمت فيما بعدها،
[النسبة إلي المعتل اللام من "فعول" و"فعولة"]
فصار لفظُها كلفظ "فَعِيلَةَ"؛ لأنّ ثالثها ياء ساكنةٌ قبلها كسرة، فنسبوا إليها كما ينسبون إلى "فَعِيلَةَ" بحذف الياء الثانية، فبقي "تحِيَةٌ" مثلَ "عَمِيَةٍ" في اللفظ، فنقلوه إلى "تحاةٍ" على ما وصفنا، ثمّ يُنسَب إليها "تَحَوِيٌّ"، كما يقال: "عَمَويّ"، شبّهوا الياء الزائدة بالأصل، والياء الأصليّة بالزائدة، فاعرفه. [النسبة إلي المعتلّ اللام من "فَعول" و"فَعولة"] قال صاحب الكتاب: وفي "فعُولٍ", "فَعُوليٌّ", كقولك في "عَدُوٍّ": "عدُوِّيٌّ". وفرق سيبويه (¬1) بينه وبين "فعولة", فقال في "عدُوَّةٍ": "عدويٌّ"، كما قالوا في "شنوءة": "شنئيّ". ولم يفرق المبرد, وقال فيهما: "فَعُوليّ". * * * قال الشارح: تقول في النسبة إلى "عَدُوٍّ": "عَدُوِّيٌّ"، فلا تُغيِّره؛ لأنّه لم يجتمع فيه الياءاتُ التي اجتمعت في "عَدِيّ". وإنّما يقع الحذفُ والتغييرُ لكثرة الياءات. ألا ترى أنّه لمّا اجتمع في "عَدِيٍّ" أربعُ ياءات، استثقلوا ذلك، فحذفوا إحدى الياءات، وقلبوا الثانية واوًا لتخفيف اللفظ بالاختلاف؛ لأنّ المستثقل عندهم اجتماعُ المتجانسات. ألا ترى أنّك تقول في النسب إلى "فَتًى" و"رحًى": "فَتَوِيٌّ"، و"رَحَويّ"، فقلبتَ الألف واوًا، وإن كان أصلها الياء فرارًا من اجتماع الياءات. فإذا قدروا على الواو، فقد حصل غرضُهم على المخالفة، فلم يغيّروا اللفظ. فإن دخلت تاء التأنيث في ذلك، فنسبتَ إلى مثل "عَدُوِّةٍ"، قلت: "عَدَوِيٌّ"، فتغيّره لأجل تاء التأنيث، وكثرةِ التغيير فيه، والتغييرُ مُؤْنِسٌ بالتغيير، فتحذف الواو الزائدة، فتُبدِل من الضمّة فتحة. فسيبويه يجري في ذلك على أصله في "فَعُولَةَ"، ويَقيسة على قولهم في "شَنُوءَةَ": "شَنَئِيٌّ"، والمبرّدُ لا يرى ذلك، ويقول في "عَدُوِّةٍ": "عَدُوِّيٌّ" كالمذكّر، فاعرف ذلك إن شاء الله. فصل [النسبة إلي الاسم المقصور الذي ألفه مُنقلبة] قال صاحب الكتاب: والألف في الآخر لا يخلو من أن تقع ثالثة، أو رابعة منقلبة, أو زائدة، أو خامسة فصاعداً. فالثالثة والرابعة المنقلبة تقلبان واواً, كقولك: "عصوي", و"رحوي", و"ملهوي" و"مرموي", و"أعشوي". * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ الألف لا تكون أصلًا في الأسماء المتمكنة، ولا في الأفعال أيضًا، إنّما تكون بدلاً وزائدةً، فإذا وقعت آخِرًا؛ فلا تخلو من أنّ تكون ثالثةً أو رابعةً فصاعدًا، فما كان على ثلاثة أحرف، والثالثُ منها ألفٌ، فلا تكون إلا منقلبةٌ كالألف في "عَصًا"، و"رَحًى" و"مَنًا"، و"حَصًى"، فإنّ الألف في هذه الأسماء كلّها بدلٌ من لام الكلمة، فالألفُ في "عَصًا"، و"مَنًا" بدلٌ من الواو؛ لقولك: "عَصَوانِ"، و"مَنَوانِ"، وفي "رَحًى"، و"حَصًى" بدلٌ من ياء؛ لقولك: "رَحَيانِ"، و"حَصَيانِ"، و"حَصَياتٌ". فإذا نسبت إلى شيء من ذلك. كان كلّه بالواو سواءٌ كانت من الواو أو من الياء. تقول في "عصًا"، و"مَنًا": "عَصَويً"، و"مَنَوي"، وفي "رَحًى"، و"فَتًى": "رَحَوي"، و" فَتَوي"، وذلك لأنّك أدخلت ياءَ النسبة، ولا يكون ما قبلها إلا مكسورًا، والألفُ لا تكون إلا ساكنة، فاحتاجوا إلى حرف يُكسَر، فقلبوها واوًا، وكرهوا الياء في ذوات الياء؛ لأنّهم لو قلبوها ياءً؛ لقالوا: "رَحَيِيٌّ"، و"فَتَيِيٌّ"، فكانت تجتمع ثلاثُ ياءات وكسرةٌ في الياء الأُولى، وذلك ممّا يستثقل؛ لأنّه قرب من "أُمَيِّيٌّ" , ولم يحذفوا الألف؛ لأنّ المنسوب إليه أقلُّ الأسماء حروفًا. فإن قيل: فالثقل في "أُمَيِّيّ" أبلغُ؛ لأنّك تجمع فيه بين أربع ياءات، و"فَتَى"، و"رَحًى" إنما يجتمع فيه ثلاثُ ياءات، وبعضُ العرب يستعمل "أُمَيِّيّ" ولا نعلم أحدًا يقول: "رَحَيِيٌّ"؟ فالجواب أنّ مثل "أميّ"، و"عَدِيّ" قد استُعمل قبل النسبة، وأمّا مثلُ "رَحَي" فغيرُ مستعمل إلا في النسبة, لأنّه يلزمه قلبُها ألفًا؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فكرهَوا أنّ يتحمّلوا الثقل في لفظ غير مستعمل. فإن قيل: فأنت إذا قلت: "حَويّ"، و"مَنَويّ"، فَـ "رحَوٌ"، و"مَنَوٌ" غير مستعمل إلا في النسب، قيل: الأمرُ، وإن كان على ما ذكرتَ، فإنّ الثقل فيه أقلُّ؛ لاختلاف الحرفَيْن، إذ الثقلُ في الواو ويائي النسب أقلُّ من الثقل في الياءات مع ياء النسب. فإن كان المقصور على أربعة أحرف، والحرفُ الثاني ساكنٌ، فلا تخلو الألف في آخِره من أن تكون منقلبة، أو زائدة للتأنيث، نحوَ: "حُبْلَى"، و"سَكْرَى"، و"عَطْشى"، و"حُزْوَى". فالأجودُ في هذا حذفُ الألف، فيقال: "حبلِيٌّ"، و"سَكْريّ"، و"عَطْشيّ". وذلك أنّهم شبّهوا ألف التأنيث بتاء التأنيث في الحذف، فحذفوها كحذفها. ويجوز مَدُّها، فيقال: "حُبْلاوِيٌّ"، و"سَكْراويٌّ" تشبيهًا بالمؤنّث الممدود، نحوِ: "حَمراءَ"، و"صَفْراءَ". ويجوز قلبُ الألف واوًا، فيقال: "حُبْلَويّ"، و"سَكْرَويّ"، كما يُقال "كِسْرَويّ". شبّهوها بالمنقلبة في نحو: "مَلْهَويّ"، و"مَغْزَويّ". فهذه ثلاثةُ أوْجُه: أحدُها "حبْلي" بحذف الألف، وهو أجودُها، ثمّ "حُبْلاويّ"، ثمّ "حُبْلَويّ". فإن كانت الألف لغير التأنيث، وهو على أربعة أحرف، والرابعُ ألف مقصورة،
[النسبة إلي الاسم المقصور الذي ألفه زائدة]
وثانيها ساكنٌ، ففي المنقلبة نحو: "مَلْهًى"، و"مَغْزًى"، و"مَحْيًا"، و"أعْشَى" ثلاثةُ أوجه: أجودُها أنّ تُقلَب الألف واوًا؛ فيقُال في النسب إلى "مَلْهًى": "مَلْهَويّ"، وإلى "مَغْزًى": "مَغْزَويّ"، وإلى "مَحْيًا": "مَحْيَوي". وذلك لأنّها بدلٌ من اللام، فكان حكمُها حكمَ "عصًا"، و"رَحًى"، فكما تقول: "عَصَويّ"، و"فَتَويّ"، كذلك تقول: "مَلْهَويّ"، و"أعْشَويّ". والثاني: أنّ تمُدّ ذلك، وهو ضعيف، فتقول: "مَلْهاويّ"، و"مَغْزاويّ"، تشبيهًا بالزائدة الممدودة للتأنيث. والثالث: أنّ تحذف الألف، فتقول: "مَلْهِيٌّ"، و"مَغْزِيٌّ"، تشبيهًا بألف التأنيث المقصورة، نحوِ: "حُبْلَى"، و"سَكْرَى"، كما قالوا: "مِدْرًى"، و"مَدارَى"، فجمعوه جمعَ "حُبْلَى"، و"حَبالَى"، وإن لم يكن مثله؛ لأنّ ألف "مدرى" لامٌ، وألف "حُبْلى" زائدةٌ، فشبّهوا الأصل بالزائد. وكذلك ما كان مُلْحَقًا به من الزائد، نحوُ: "أرْطًى"، و"أرْطَوِيٌّ"، و"مِغزًى"، و"معْزَويّ" فيه الوجوهُ الثلاثة. [النسبة إلي الاسم المقصور الذي ألفه زائدة] قال صاحب الكتاب: وفي الزائدة ثلاثة أوجه: الحذف, وهو أحسنها كقولك: "حُبليّ", و"دنيي", والقلب, نحو: "حبلوي" و"دنيوي"، وأن يُفصل بين الواو والياء بألف, كقولك: "دنياوي". وليس فيما وراء ذلك إلا الحذف كقولك: "مُراميّ", و"حُباريّ" و"قبعثري", و"جمزي" في حكم "حُباريّ". * * * قال الشارح: فإن كانت الألف زائدة، نظرتَ، فإن كانت للتأنيث مثلَ "حُبْلَى"، و"سَكْرَى"، فالأجودُ حذفُها كما تحذف تاء التأنيث، لأنّها زائدة مثلُها، وفي معناها، فيقال: "حُبْليّ"، و"سَكْريّ". ويجوز من بَعْدِ ذلك وجهان آخران: أحدهما قلبُها واوًا تشبيهًا لها بالأصل، فيقال: "حُبْلَويّ"، و"سَكْرَويّ"، والآخر: "حُبْلاويّ"، و"سَكْراويّ"، وتُشبِّهها بالممدودة. وإن كانت للإلحاق، مثلَ: "أرْطًى"، و"مِعْزًى"؛ كنت مخيَّرًا: إن شئت قلبتَ، وإِن شئت حذفتَ، إلا أنّ القلب هنا أحسن منه في "حُبْلَويّ"؛ لأنّها في حكم الأصل إذ كانت ملحِقة، فتقول: "أرْطًى"، و"أرطَويّ"، و"مِعْزًى"، و"مِعْزَويّ". فأمّا إذا كانت الألف خامسة فصاعدًا، أو كانت على أربعة أحرف، والحروفُ الثلاثةُ التي قبل الألف متحرّكاتٌ، فلا يجوز إلا حذفُ الألف سواء كانت للتأنيث. أو لغير التأنيث، وذلك قولك إذا كانت للتأنيث: "شُكاعِيٌّ"، و"سُمانِيٌّ". و"الشُّكاعَى": نبتٌ يُتداوى به، و"السُّمانَى": طائرٌ. وفيما كان لغير التأنيث، وهو على ضربَيْن: أصليةٌ،
فصل [النسبة إلي الاسم المنقوص]
وزائدةٌ، فالأصليّةُ، نحو: "مُرامًى"، و"مُسامى" تقول فيه: "مُراميّ"، و"مُساميّ". وإنّما وجب الحذفُ؛ لأنّ الألف ساكنةٌ والياء الأولى من ياءَيِ النسبة ساكنةٌ أيضًا، وقد طال الاسمُ، وكثُرت حروفه، فوجب باجتماعِ ذلك الحذفُ، وإذا كانوا قد حذفوا فيما قلّت حروفُه، نحوِ: "حُبْلَى"، و"مَلْهًى"؛ ففيما كثُرت أوْلى. وأمّا الزائدة لغير التأنيث، نحوُ: "حَبَنْطًى"، و"دَلَنْطًى"، و"قَبَعْثَرًى"، فإنّك تقول فيه: "حَبَنطيّ"، و"دَلَنْظيّ"، و"قَبَعْثَريّ"، و"الحبنطى": القصير البطين، و"الدلنظى": الصلْب الشديد، الألفُ فيهما للإلحاق بـ "سَفَرْجَلٍ"، و"القَبَعْثرى": العظيم الخلْق، والألفُ فيه لتكثير الكلمة، وليست للتأنيث، ولا للإلحاق؛ لأنّه ليس في الأصول ما هو على هذه العدّة، فيكونَ ملحقًا به. وتقول في "جَمَزَى" (¬1)، و"بَشَكَى" (¬2) وما كان مثلهما: "جَمَزيّ"، و"بَشَكيّ"؛ لأنّ الألف في حكم الخامسة؛ لأنّ الحركة في الثاني بمنزلة الحرف، ألا ترى أنّ من يصرف "هِنْدًا"، و"دَعْدًا" لا يصرف "سَقَرَ"، و"قُدَمَ" عَلَمَيْن؛ لأنّ الحركة فيه صيّرتْه في حكم "زَيْنَبَ"، و"سُعادَ"، فلذلك قال: هو في حكم "حُبارَى"، يعني تصير الألفُ في آخِره في حكم الخامسة؛ لتحرُّك حرفِ ما هي فيه. فصل [النسبة إلي الاسم المنقوص] قال صاحب الكتاب: والياء المسكورة ما قبلها في الآخر لا تخلو من أن تكون ثالثة, أو رابعة, أو خامسة, فصاعداً. فالثالثة تقلب واواً, كقولك: "عموي", و"شجوي". وفي الرابعة وجهان: الحذف وهو أحسنهما، والقلب, كقولك: "قاضي", و"حاني", و"قاضوي" و"حانوي"، قال [من الطويل]: 832 - وكيف لنا بالشرب إن لم يكن لنا ... دراهم عند الحانوي ولا نقد ¬
وليس فيما وراء ذلك إلا الحذف, كقولك: "مشتري", و"مُستسقيّ", وقالوا في "مُحَيٍّ": مُحَوِيٌّ" و"مُحيّيّ"، كقولهم: "أُمويّ", و"أُميّيّ". * * * قال الشارح: اعلم أنّ ما كان في آخره ياءٌ من الأسماء المنسوبة، فإن كانت الياء ثالثةً قبلها كسرةٌ، نحوَ: "عَمٍ"، "وشَجٍ"، فإنّك تُبْدِل من الكسرة فتحةً، كما فعلت في "نَمِرٍ"، و"شَقِرَةَ"؛ لثِقَل تَوالي الكسراتَ مع ياء الإضافة، ثمّ تقِلب الياءَ ألفًا؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فيصير في حكم التقدير "عَمًا"، و"شَجًا"، ثمّ تقلب الألفَ واوًا، كقولك: "عَمَويّ"، و"شَجَوي"، كما فعلت في "عَصًا"، و"رَحًى"، فقلت: "عَصَويّ" و"رَحَويّ". فأمّا إذا كانت رابعة؛ فإنّ الباب فيه عند سيبويه (¬1) حذفُ الياء لالتقاء الساكنين، تقول في "قاضٍ"، و"رامٍ"، ورجلٍ يسمّى "يَرْمِي": "قاضيٌّ"، و"راميٌّ"، و"يَرْميٌّ". وكان الأصل أنّ تقول: "قاضِيِيٌّ"، و"رامِيِيٌّ"، و"يَرْمِيِيٌّ"، كما تقول في النسب إلى حاكِم: "حاكميّ"، وإلى "يَضْرِبَ": "يَضْرِبيّ"، غيرَ أنّهم استثقلوا الكسرة على الياء؛ المكسورِ ما قبلها فحذفوها، ثمّ حذفوا الياء لسكونها وسكون الياء الأوُلى من يائي النسب. فإن قيل: فإنّه يجوز الجمع بين ساكنَيْن إذا كان الأول حرفَ مدّ ولِين والثاني مدغَمًا، مثلَ: "دابَّةٍ"، و"شابَّةٍ" و"حيب بُّكرٌ"، قيل: الأمرُ كذلك، غيرَ أنّ الياء لا يمكن إسكانُها؛ لأنّ ياء النسبة لا يكون ما قبلها إلا مكسورًا، وكان في الجملة ثَمّ ساكنان، فحُذف لالتقاء الساكنين عند تعذُّر الإسكان. وقالوا في النسب إلى "عَرْقُوَةٍ"، و"تَرْقُوَةٍ": "عَرْقِيٌّ"، و"تَرْقِيٌّ". وذلك أنّهم لمّا حذفوا التاء للنسبة على القاعدة، بقي "عَرْقُوٌ"، و"تَرْقُوٌ"، فوقعت الواو طرفًا، وقبلها ضمّةٌ، وليس ذلك في الأسماء، فقلبوها ياءً كما قالوا: "أدْلٍ"، و"أجْرٍ"، والأصل: "أدْلُوٌ"، و"أجْرُوٌ"، ثمّ نسبوا إليه بحذف الياء، فقالوا: "عَرْقِيٌّ"، و"تَرْقِيٌّ". ويجوز: "عَرْقَوِيٌّ" بإثبات الواو, لأنّ يائي النسب يجريان مجرى تاء التأنيث. وقد تقدّم ذكرُ المشابهة بينهما. فكما ثبتت مع تاء التأنيث، فكذلك مع يائي النسبة؛ لأنّها تصير حشوًا في الكلمة. وقد حُكي عنهم أنّهم يقولون في النسب إلى "قَرْنُوَةٍ": "قَرْنَوِيٌّ". وهذا نصٌّ على جوازه، ومن قال في "تَغْلِبَ"، و"يَثْرِبَ": "تَغْلَبيّ"، و"يَثْرَبيّ"، قال في "القاضي"، ¬
و"يَرمِي": "قاضَويّ"، و"يَرْمَويّ"، فيفتح المكسورَ، ويقلب الياءَ ألفًا، ثمّ ينسب إليه، ويقلب الألفَ واوًا, ولا يحذف منه شيئًا. وحكى سيبويه (¬1): "حانَويّ" في النسب إلى "الحانَة"، و"حانِيٌّ"، وهو الموضِع يُباع فيه الخمر، وأصلُ "حانة": "حانِيَةٌ"؛ لأنّه من "الحُنُوّ"، كأنّها تحنو على من فيها لاجتماعهم فيها على اللذاذة. و"الحانوتُ" مقلوب منه وأصلُه "حَنَوُوتٌ"، فقُدّمت اللام إلى موضع العين، ثمّ قُلبت ألفًا؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فهو على وِزانِ "رَحَمُوتٍ"، و"رَهَبُوتٍ"، فوزنُه الآنَ "فَعْلُوتٌ" مقلوبٌ من "فَعَلُوتٍ". وأنشد [من الطويل]: وكيف لنا بالشرب ... إلخ البيت لعمارةَ ويروى: وكيف لنا بالشرب فيها وما لنا دَوانِيقُ ... وبعده: أنَعْتانُ أم نَدّانُ أم يَنبَرِي لنا ... أغَرُّ كنَصْلِ السَّيْفِ أبْرَزَهُ الغِمْدُ والمراد أنّه يريد شُرب الخمر، لو كان له عند الخَمّار ما يصرِفه في ثَمَنها، وقولُه: "أنعتان"، أي: نشتري بنَسِيئَةٍ من قولهم: "اعْتانَ الرجل السِّلْعةَ"، أي: اشتراها بنسيئة، من العِينَة، وادّانَ: إذا أخذه بدَيْنٍ. وينبري لنا أغرُّ، أي: نطلُب كريمًا، ويتعرّض لمعروفه، كنصل السيف أي: ماضٍ في السَّخاء، يشتري لنا الخمر. والحانيّ أجودُ؛ لأنّ الحذف عنده أجودُ اللغتَين، وأنشد في الحذف [من البسيط]: 833 - كَأسُ عَزِيزٍ من الأعنَاب عَتَّقَها ... لبَعْضِ أرْبابِها حانِيةٌ حُومُ ¬
فصل [النسبة إلي الاسم الثلاثي المنتهي بياء أو واو قبلهما ساكن]
وقيل: الموضع الذي يُبَاع فيه الخمر"حانِيَةٌ" مثل "ناحِيَةٍ". ونُسب إليه على حدّ النسب إلى "قاضٍ"، و"يَرمِي". والمشهورُ أنّ الموضع الذي يُباع فيه الخمر حانةٌ. قال الأخْطَلُ [من البسيط]: 834 - وخَمرَة من جِبالِ الرُّومِ جاء بها ... ذو حانَةٍ تاجِرٌ أعْظِمْ بها حانَا فجعل الموضعَ حانةً، والخمّارَ حانًا. فأمّا "مُحَيٍّ"، فالنسبة إليه. "مُحَوِيٌّ"، الفاعل والمفعول فيه سواءٌ، وذلك أنّ "مُحَيِّيًا" اسم فاعل من "حَيَّى" "يُحَيِّي"، فهو مُحَيٍّ، والمفعول "محيى"، ففيه ثلاثُ ياءات، فيجب حذفُ الآخرة؛ لأنّها خامسة كألف "مُرامى". فإذا نسبت إليه، اجتمع فيه أربعُ ياءات، فيحذفون الياء الأُولى من "مُحَيٍّ"، فيبقى "مُحَيٌ"، فتقلب الياء ألفًا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فيصير "مُحًى" كـ "هُدًى"، فيقولون: "محَوِيٌّ" كـ "هُدَويّ". وأمّا من قال: "أُمَيِّيِّ"، فجمع بين أربع ياءات، فإنّه يقول: "مُحَيِّيٌّ" أيضًا، واسمُ المفعول في ذلك كالفاعل، وهو مُحَيًّى، تحذف الألف الخامسة على القاعدة، ثمّ تفعل ما ذكرناه في اسم الفاعل. فصل [النسبة إلي الاسم الثلاثي المنتهي بياء أو واو قبلهما ساكن] قال صاحب الكتاب: وتقول في "غزوٍ", و"ظبيٍ", "غزويٌّ", و"ظبييّ". واختلف ¬
فيما لحقته التاء من ذلك, فعند الخليل وسيبويه (¬1) لا فضل, وقال يونس (¬2) في "ظبية", و"دمية", و"قنية": "ظبويٌّ", و"دُمويّ", و"قنويّ"، وكذلك بنات الواو كـ "غزوة", و"عروة" و"رشوة". وكان الخليل (¬3) يعذره في بنات الياء دون بنات الواو. * * * قال الشارح: إذا كان الاسم على زَنة "فَعْلٍ" ساكنَ العين معتلَّ اللام بالياء، أو الواو، وليس في آخِره تاءٌ التأنيث، نحوَ: "غَزْوٍ"، و"نَحْوٍ"، و"ظَبْي"، و"رَمْيٍ"، فالنسبةُ إليه على لفظه من غيرِ تغيير، نحوَ: "غَزْويّ"، و"نَحْويّ"، و"ظَبْييّ"، و"رَمْييّ". لا خلافَ في ذلك؛ لأنّ ما قبلها ساكن، فهي لذلك في حكم الصحيح، تتصرّف بوجوه الإعراب قبل النسب، فلم تتغيّر كما لم يتغيّر الصحيحُ، وإذا جاز أن يُقال في "أُمَيَّةَ": "أُمَيِّيٌّ"، فيُجمَع بين أربع ياءات، كان ما نحن فيه أسهلَ؛ لأنّه لم يجتمع فيه إلا ثلاثُ ياءات. فإن لحقت تاءُ التأنيث شيئًا من ذلك، نحوَ: "غَزْوَةٍ"، و"رَمْيَةٍ"، و"دُميَةٍ"، و"قِنْيَةٍ"، فالخليلُ وسيبويه يجريان في ذلك على قاعدةِ ما لا تاءَ فيه، فيقولان في "غَزْوَةٍ": "غَزْوي"، وفي "رَمْيَة": "رَمييّ"، وفي "دُمْيَةٍ": "دُمْييّ"، وفي "قِنْيَةٍ": " قِنييّ". وهو قياسٌ عندهما. وحكى يونس عن أبي عمرو مثلَ ذلك، وقالوا في بني جِرْوَةَ: "جِرْويّ"، وهو جِرْوةُ بن نَضلَةَ مكسورَ الجيم. وكان يونس يغيَّر ما فيه تاءُ التأنيث، فيفتح الحرف الساكن، وهو الثاني، فيقول في "ظَبْيَةٍ": "ظَبَويّ"، وفي "رَمْيَةٍ": "رَمَويّ"، وفي "قِنْيَةٍ": "قِنَويّ"، وقالوا في "عُرْوَةٍ": "عُرَويّ". لا فرقَ عنده بين ذوات الياء والواو. وكان الزجاج يَميل إلى هذا القول، ويحتجّ بأنّ تاء التأنيث قوّةُ التغيير فيها. وأمّا يونس فلم يرد عنه احتجاجٌ لذلك. وكان الخليل يعذره في ذوات الياء، ويحتجّ له بأنه شبّه "فِعْلَةَ" بِـ"فَعْلَةَ" مكسورَ العين. قال (¬4): لأن اللفظ "بِفَعلَةَ" و"فِعْلَةَ" إذا سكنت العين سواءٌ. والمراد بذلك أن "ظَبْيَةً"، كـ"ظَبِيَةٍ"، و"رَمْيَةً" كـ"رَمِيَةٍ"، و"قِنْيَةً" كـ"قِنِيَةٍ"، ثمّ أسكنوا للتخفيف، كما يُقال في "كَتِفٍ": "كَتْفٌ"، وفي "إبِلٍ": "إبْلٌ"، فصار لفظُ ما كان على "فَعِلَةَ" بكسر العين في الأصل بوزن "فَعْلَةَ" فَـ"عَمِيَة" على وزن لفظ "عَمْيَةٍ"، وَ"رَمِيَةٌ" على لفظ "رَمْيَةٍ" في الأصل بإسكان. فإذا نسبنا إلى ذلك، رددناه إلى الأصل؛ لأنّه بالحركة يُفِيدنا خفّةً. وذلك لأنّا إذا نسبنا إلى "عَمِيَةٍ"، و"قِنِيَةٍ"، وثوانيها مكسورةٌ، وجب فتحُها وقلبُ الياء واوًا بعد قلبها ألفًا على حد قولك في "عَمٍ": "عَمَويّ"، وفي "شَجٍ": "شَجَويّ". فيصير في اللفظ أخفَّ من "عَمَيِىِّ"، و"قِنَيِيِّ"، قال: وكذلك لو بنِتَ ¬
من ذوات الواو "فَعِلَةَ"، لصارت بهذه المنزلة تقول في "فَعِلَةَ" من "الغَزْو": "غَزِيَةٌ"، ومن "الرَّبْو": "رَبِيَةٌ"، فيصير كذوات الياء، فيصير المسكَّنُ منها عن الكسر بمنزلةِ ما أصلُه الإسكانُ. فلمّا رأوا آخرَ "فَعِلَةَ" المكسورِ يُشْبِه إذا يُخفَّف آخِرَ "فَعْلَةَ" المسكَّنِ العين في الأصل، جعلوا إضافتَها شيئًا واحدًا. هذا احتجاجُ الخليل ليُونُسَ. * * * قال صاحب الكتاب: وعلى مذهب يونس جاء قولهم: "قروي", و"زنوي", في "قريةٍ", و"بني زنية". وتقول في "طيٍّ", و"ليةٍ": "طوويٌّ", و"لوويّ", وفي "حيَّةٍ": "حيويٌّ"، وفي "دوٍّ", و"كوَّةٍ": "دوِّيٌّ", و"كوي". * * * قال الشارح: قد جاء عن العرب "قَرَوِيٌّ" في النسبة إلى "قَرْيَةٍ"، و"زِنَويٌّ" في النسبة إلى "بني زِنْيَةَ"، وهم حيٌّ من العرب، وهو شاذ عند سيبويه (¬1)، والقياس: "قَرْيِيّ"، و"زِنْيِيّ". وهو عند يونس (¬2) قياسٌ. وتقول في "طَيٍّ": "طَوَوِيٌّ"، وفي "لَيَّةٍ": "لَوَوِيّ"، وفي "حَيَّةٍ": "حَيَويّ"؛ أمّا "طَيٌّ" فمصدرُ "طَوَى يَطْوِي"، و"لَيَّةٌ" مصدرُ "لَوَى يَلْوِي"، فالعينُ واوٌ، واللام ياءٌ. والأصل فيه "طَوْيٌ"، وَ"لَوْيَةٌ". فلمّا اجتمعت الواو والياء، والسابقُ منهما ساكنٌ، قلبوا الواو ياءً. وهذه قاعدةٌ في التصريف، فلمّا نسبوا إليه، استثقلوا اجتماعَ أربع ياءات، وأرادوا التخلّص منها، فبنوا الكلمة على "فَعَلٍ"، وقد كان "فَعْلًا" ساكنَ العين، فانفكّ الادّغامُ، وعادت العين إلى أصلها، وهو الواو، ثمّ انقلبت الياءُ التي هي لامٌ ألفًا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، ثمّ نسبوا إليها، وقلبوها واوًا على القاعدة، فقالوا: "طَوَوِيٌّ"، و"لَوَويّ". وأمّا "حَيَّةٌ"، فالعين واللام ياءٌ، ولمّا بنوه على "فَعَلٍ"، انقلبت اللام ألفًا؛ لأنّ اللام أقبلُ للتغيير، ثمّ قلبوا الألف واوًا على قاعدة النسب، وقالوا: "حَيَويٌّ"، ومن قال: "أُمَيِّيٌّ"، قال: "طيِّي"، و"حَيِّيٌّ"، ولم يُبال الثقلَ. وأمّا النسب إلى "دَوٍّ"، و"كَوَّةٍ"، فإنّك لا تغيّره، بل تنسب إليه على لفظه، فتقول: "دَوِّيٌّ"، و"كَوِّيٌّ"؛ لأنّ التغيير إنّما كان لأجل اجتماع أربع ياءات، ففرّوا إلى الواو. فأمّا إذا وقع الاختلاف بحصول الواو. لم تكن حاجةٌ إلى التغيير، فأمّا قول ذي الرُّمّة [من البسيط]: 835 - داوِيَّة ودُجَى لَيْلٍ كأنّهما ... يَمٌّ تَراطَنَ في حافاتِهِ الرُّومُ ¬
فصل [النسبة إلي "مرمي"]
قال بعضهم: أراد "دَوِّيَّة"، وإنّما أبدل من الواو الأوُلى ألفًا؛ لانفتاح ما قبلها، وإن كانت ساكنة في نفسها، كأنّه استغنى بأحد الشرطَيْن كما قال عليه السلام: "ارْجِعْنَ مَأزُوراتٍ غير مَأجُوراتٍ" (¬1)، والأصل "مَوزورات". وقال سيبويه، في "آيَةٍ": إِنّه "فَعْلَةُ" كـ"شَرْبةٍ"، وإنّما أُبْدِل من الياء الأُولى ألفٌ، فيكون حينئذ "داوِيَّة" من الشاذّ. والمحقّقون يذهبون إلى أنَّه بني من "الدّوّ" اسمًا على زنة "فاعِلَةَ"، فصار في التقدير "داوِوَةً", فقُلبت الواو الثانية ياءً لانكسار ما قبلها، فصارت داوِيَةً، ثمّ نُسب إليها على حدّ نسبهم إلى "حانِيَةٍ": "حانِيٌّ". فاعرفه. فصل [النسبة إلي "مرميّ"] قال صاحب الكتاب: وتقول في "مرمى": "مرمِيٌّ" تشبيهًا بقولهم في "تميميّ" و"هجري" و"شافعي": "تميميٌّ", و"هجري", و"شافعي", ومنهم من قال: "مرمويّ", وفي "بخاتيَّ" اسم رجل: "بخاتيٌّ". * * * قال الشارح: هذا الفصل يشتمل على مسألة واحدة، وهي النسبة إلى "مَرْمِيٍّ"، والنسب إليه "مَرْمِيٌّ"، فيكون لفظه بعد النسب مثلَ لفظه قبل النسب، كأنّهم شبْهوا لفظَه بالمنسوب. وأنت إذا نسبت إلى منسوب، بقيّتَه على لفظه، نحوَ النسب إلى "تَمِيميّ"، و"هَجَريّ"، و"شافِعيّ"، فإنّك تقول فيه أيضًا: "تَمِيميّ"، و"هَجَريّ"، و"شافِعيّ"، فيكون ¬
فصل [النسبة إلي الممدود]
اللفظ واحدًا، إلا أنّ التقدير مختلفٌ، وذلك أنك إذا حذفت الياء الأُولى التي للنسب، أحدثتَ ياءً أُخرى غيرها؛ لأنّه لا يُجمَع بين علامتَيِ النسب، كما لا يجمع بين علامتي التأنيث مع ما في ذلك من ثقل اجتماع أربع ياءات. و"مَرْمِيٌّ" مشبَّهٌ بالمنسوب من حيث أن آخِره ياءٌ مشدّدةٌ قبلها مكسورٌ، ويجوز أن تقول فيه: "مَرْمَوِيٌّ"، وذلك أنّ أصله "مَرْمُويٌ" على زنة "مَفْعُولٍ" من "رَمَيْتِ". ولمّا اجتمعت الواو والياء، وقد سبق الأوُلى منهما بالسكون؛ قلبوا الواو ياءً، وادّغموا الياء الأولى في الثانية على القاعدة، ثمّ كسروا ما قبل الياء لتصحّ الياءُ. فلمّا نسبوا إليه، استثقلوا اجتماعَ أربع ياءات، فحذفوا الياء الأوُلى المبدلة من واوِ "مَفْعول" لكونها زائدةً، فصار اللفظ "مَرْمِيٌ" مثلَ "يَرْمِيُ"، فقياسُه في النسب قياسُ "يرمي"، و"تَغْلِبَ"، فتُبْدِل من الكسرة فتحة، ثم من الياء واوًا بعد أن قلبوها ألفًا، كما قالوا في "حانيٍّ": "حانَوِيٌّ"، فاعرفه. فصل [النسبة إلي الممدود] قال صاحب الكتاب: ومما في آخره ألف ممدودة. إن كان منصرفاً كـ "كساء", و"رداءٍ", و"عُلباء", و"حرباء", قيل: "كسائيٌّ", و"علبائي": والقلب جائزٌ، كقولك: "كساوي". وإن لم ينصرف, فالقلب, كـ"حمراوي", و"خنفساوي", و"معيوراوي", و"زكرياوي". * * * قال الشارح: اعلم أن الممدود كلُّ اسم في آخره همزةٌ قبلها ألفٌ زائدةٌ، وذلك على أربعة أضرب: ضربٌ همزتُه أصليّةٌ، نحوُ: "قرّاءٍ"، و"وُضّاءٍ"، وهو من "قرأت"، و"وَضُؤْت"، والوُضّاءُ: الجميل. وضربٌ همزُته منقلبة عن حرف أصليّ، نحوِ: "كِساءٍ"، و"رِداءٍ"، وأصله "كِساوٌ"، و"رِدايٌ". والواوُ والياءُ إذا وقعتا طرفًا، وقبلهما ألفٌ زائدة، قُلبتا همزتَيْن، والواوُ والياءُ في "كساء"، و"رداء" لامُ الكلمة؛ لأنّه من الكُسْوة والرِّدْية، كقولهم: "فلانٌ حسنُ الرِّدْيةِ". وضربٌ ثالثٌ همزتُه منقلبة عن ياء زائدة، نحوُ: "عِلْباءٍ"، و"حِرْباءٍ"، ويدلّ على أنّ الهمزة فيه من الياء قولهم: "دِرْحايةٌ" و"دِعْكايةٌ"، لمّا اتّصل بها تاءُ التأنيث، ظهرت الياء؛ لأنها إنّما كانت انقلبت همزةً لكونها طرفًا، فلمّا اتّصلت بها تاءُ التأنيث، وبُنيت على التأنيث؛ خرجت عن أن تكون طرفًا.
والضرب الرابع ما كانت همزته منقلبة عن ألف التأنيث، نحوُ: "حَمْراء"، و"صَفْراء"، ولذلك لا ينصرف، وينصرف الضروب الثلاثة. فإذا نسبت إلى ما كان منصرفًا من ذلك؛ فالباب فيه إقرارُ الهمزة، نحوُ: "وُضائيّ"، و"قُرّائيّ"، و"كِسائيّ"، و"رِدائيّ"، و"عِلْبائيّ"، و"حِرْبائيّ"، بإثبات الهمزة، والأصلُ من ذلك "قُرّاءٌ"، و"وُضّاءٌ"؛ لأنّ الهمزة فيهما أصلٌ بمنزلة الضاد من "حُمّاضٍ"، والقافِ من "سُمّاقٍ" فكما تقول: "حُمّاضيّ"، و"سُمّاقيّ"، فكذلك تقول: "وضّائيّ"، و"قُرّائيّ" و"كسائيّ" و"رِدائيّ" محمولٌ عليه؛ لأنّ الهمزة فيهما منقلبة عن أصلٍ، فهي لامٌ كما أنَّها لامٌ، و"عِلْبائي" محمول على "كسائيٍّ"؛ لأن الهمزة فيه ليست أصلاً إنّما هي منقلبة عن حرف ليس للتأنيث، كما أنّ "كساءً" كذلك، فعُومِل في النسب معاملتَه، فإذا الأصل في "قُرّاء"، و"وُضّاء" أقوى منه في "كساءِ"؛ لأنّ الهمزة فيه أصلٌ، وفي "كساءٍ" بدلٌ، وهي في "كسائيّ" أقوى منها في "عِلْبائيّ"؛ لأنّها في "كساء" لامٌ، وفي "علباء" زائدةٌ. فإن نسبت إلى ما لا ينصرف، نحو: "حَمْراءَ"، و"صحْراءَ"، فالباب أن تقلب الهمزةَ واوًا فيه، فتقول: "حَمْراويّ"، و"صحْراويّ". وإنما قُلبت الهمزة فيه واوًا، ولم تُقَرّ بحالها؛ لئلّا تقع علامةُ التأنيث حَشْوًا، ولم تكن لِتُحذَف؛ لأنها لازمةٌ تتحرّك بحركات الإعراب، فهي حَميَّة بالحركة. ولمّا لم يجز حذفُها، وجب تغييرُها، فقُلبت واوًا، ثم قالوا في الإضافة إلى "عِلْباء"، و"حِرْباء": "عِلْباويّ"، و"حِرْباويّ"، فأبدلوا هذه الهمزة، وإن لم تكن للتأنيث، لكنّها شابهت "حَمْراءَ"، و"صَحْراءَ" بالزيادة، فحملوها عليها، وإن لم تكن همزةُ "حمراء" قُلبت في "حَمْراويّ"؛ لكونها زائدةً، ثمّ تجاوزوا ذلك إلى أن قالوا في "كساء": "كساويّ"، وفي "رداء": "رداويّ"، فأبدلوا الهمزة واوًا حملًا لها على همزة "عِلْباء" من حيث كانت همزةُ "كساء"، و"رداء" مبدلةً من حرفٍ ليس للتأنيث. ثمّ قالوا في همزة "قُرّاءٍ"، "قُرُّاوِيٌّ"، فشبّهوا همزتَه بهمزة "كساء" من حيث كانت أصلاً غير زائدة. فكلُّ واحد من هذه الأسماء محمولٌ في القلب على ما قبله، وإن لم يَشْرَكه في العلّة، لكن لشَبَهِ لفظيٍّ، فإذَا القلبُ في "حمراويّ" أقوى منه في "علباويّ"، وهو في "علباويّ" أقوى منه في "كساويّ"، وهو في "كساويّ" أقوى منه في "قُرّاويّ"؛ فلذلك قال: فالباب فيما كان منصرفًا إقرارُ الهمزة على حالها، نحوُ: "قُرّائيّ"، و"كسائيّ"، و"علبائيّ"، والقلبُ جائزٌ، وإن لم ينصرف؛ فالقلبُ نحوُ: "حمراويّ"، و"صحراويّ". وإنّما مثّل بهذه الأسماء، نحوِ: "خُنْفَساويّ"، و"مَعْيُوراويّ". والمَعْيُوراء: جماعةُ الحُمُر، و"زَكَرِيّاويٍّ"؛ ليُريك الفَصْل بين المقصور والممدود، وأنّ الطويل من الأسماء الممدودة والقصير منها
فصل [النسبة إلي المختوم بتاء التأنيث ولامه واو أو ياء]
حكمُهما واحد، وأن كثرة حروف "خنفساء"، و"معيوراء" وما أشبههما لا يوجِب إسقاطَ شيء منه، كما كان ذلك في المقصور؛ لسكون آخِره إذ الحرف يقوى بحركته، ويمتنع حذفُه في المكان الذي يسقط فيه الساكنُ. ألا ترى أنّ من قال: "ثَقَفيّ"، و"قُرَشيّ"، و"هُذَليّ"، فحذف الياء الساكنة؛ لم يقل في النسب إلى "عِثْيَرٍ" وهو التُّراب، و"حِئْيَلٍ" وهو نبتٌ: "عِثريّ"، و"حِثَليّ"، فيحذفَ الياءَ؛ لتحرُّكها، فاعرفه. فصل [النسبة إلي المختوم بتاء التأنيث ولامُه واو أو ياء] قال صاحب الكتاب: وتقول في "سقاية", و"عظاية": "سقائيٌّ", و"عظائيّ"، وفي "شقاوةٍ": "شقاويٌّ"، وفي "راية": "راييٌّ", "راييٌّ", و"راويّ". وكذلك في "آية", و"ثاية", ونحوهما. * * * قال الشارح: اعلم أن ما كان من نحو: "سِقايةٍ"، و"عَظايةٍ" ونحوهما ممّا في آخره تاءُ التأنيث، ولامُه واوٌ أو ياءٌ، وقبلها ألفٌ زائدةٌ، فإنّه قبل النسب تصح اللام، ولا تُقلب همزةً؛ لأن الاسم بُني على التأنيث، فلم تقع الياء والواو طرفًا، فلم يلزم قلبُهما همزةٌ. فإذا نسبت إلى شيء من ذلك، أسقطت التاء، ثمّ قلبت اللامَ همزةً، فصارت النسبةُ كأنّها إلى "سِقاءٍ"، و"عَظاءٍ" بمنزلة "كساء"، و"رداء"؛ فلذلك تقول في النسب: "سِقائيّ"، و"عَظائيّ"، أي كما تقول: "كسائيّ"، و"ردائيّ". ومن قال: "كساويّ"، و"رداويّ"، قال هاهنا: "سقاويّ"، و"عظاويّ"، وكذلك قيل في النسب إلى "شاءٍ": "شاوِيٌّ". قال الشاعر [من الرجز]: 836 - لا ينفع الشاويَّ فيها شاتُهُ ... ولا حِماراةُ ولا عَلاتُهُ ¬
فإن كانت اللام واوًا، نحوَ: "شَقاوة"، و"غَباوة"، فإنّك لا تغيّرها في النسب، وتُقِرّها على حالها، فتقول فيه: "شَقاويٌّ"، و"غَباويّ"؛ لأنّا كنّا نَفِرّ إلى الواو فيما كان همزةً، وإذا ظفرنا بما قد لُفظ به واوًا، لم نعدِل عنها إلى لفظ آخر. قال جرير [من البسيط]: 837 - إذا هبطنَ سَماوِيًّا مَوارِدُه ... من نَحْوِ دُومَة خَبْتٍ قَلَّ تَعْرِيسِي نسبة إلى "سَمَاوَةَ". وأمّا نحو: "رَايةٍ"، و"آيَةٍ"، و"ثايَةٍ"، و"طايَةٍ"، فلك في النسب إليه ثلاثةُ أوجه: أقيسُها تركُ الياء على حالها ولم تُغيِّرها؛ لأنّك لو أفردتَه بعد طرح الهاء؛ لأثبتَّ الياء، وقلت: "آيٌ"، و"رايٌ"، و"ثايٌ"، و"طايٌ"، ولا تلزم الهمزةُ؛ لأنّ الألف قبل الياء، والواو أصلٌ غيرُ زائدة، والواوُ والياءُ إنّما تُهمَزان إذا كان قبلهما ألفٌ زائدةٌ، نحوَ: "كِساء"، و"رِداء". والثاني الهمز تشبيهًا بـ"كساء" و"رداء"؛ لوقوعها طرفًا بعد ألف ساكنة، والفرقُ بينها وبين الأصل الذي هو "كساءٌ" و"رداءٌ" أن باب كساء ورداء أن تقع الياء والواو بعد ألف زائدة، وما نحن فيه وقعتا بعد ألف غير زائدة. الثالث إبدالها واوًا على حدّ "كِساويّ" و"رِداويّ". ¬
فصل [النسبة إلي ما كان علي حرفين]
فصل [النسبة إلي ما كان علي حرفين] قال صاحب الكتاب: وما كان على حرفين, فعلى ثلاثة أضرب: ما يُرَدّ ساقطه، وما لا يرد، وما يسوغ فيه الأمران. فالأول نحو: "أبوي", و"أخوي", و"ضعوي". ومنه "ستهيٌّ" في "است", والثاني نحو: "عِديّ", و"زني", وكذا الباب إلا ما اعتل لامه, نحو "شية", فإنك تقول فيه: "وشوي"، وقال أبو الحسن: "وشيي" على الأصل، وعن ناس من العرب: "عدوي", ومنه "سهيٌّ" في "سهٍ". والثالث نحو "غدي", و"غدوي" و"دمي", و"دموي" و"يدي" و"يدوي", و"حري", و"حرحي". وأبو الحسن يسكن ما أصله السكون، فيقول: "غدوي", و"يديي". ومنه "ابني", و"بنوي", و"اسمي", و"سموي" بتحريك الميم, وقياس قول الأخفش إسكانها. * * * قال الشارح: اعلم أنّ ما كان على حرفَيْن من الأسماء التي يلحقها التصغيرُ والجمعُ والإعرابُ، فإنّه على ثلاثة أضرب: أحدها ما كان أصلُه على ثلاثة أحرف، وأُسْقِط منها واحد تخفيفًا، أو لعلّةٍ توجب ذلك، وذلك الحذفُ يكون من موضع اللام، وهو أكثره، ويكون من موضع الفاء، ويكون من العين، وهو أقلُّه. فإذا نسبت إلى شيء من ذلك، فهو على ثلاثة أضرب كما ذكر. أحدُها: أن تردّ الساقطَ. والثاني: أن لا تردّ. والثالث: يجوز فيه الأمران، فأمّا الأول، فهو ما كان الساقط منه من موضع اللام، ويرجع في التثنية والجمع بالألف والتاء، وذلك قولك في النسبة إلى "أبٍ": "أبَويّ"، وإلى "أخ": "أخَويّ"، وإلى "ضَعَةٍ": "ضَعَويّ"، وإلى "هَنْتٍ": "هَنَويّ"؛ لأنّك إذا ثنّيت "الأب" و"الأخ"، قلت: أبوان، وأخوان، وإذا جمعت "ضَعَة"، وهو ضربٌ من الشجر، قلت: ضَعَواتٌ، قال جرير [من الرجز]: 838 - مُتَّخِذًا من ضَعَواتٍ تَوْلَجَا ¬
وتقول من "هَنٍ": هَنَواتٌ. ومنه قول الشاعر [من الطويل]: أرَى ابنَ نِزارٍ قد جَفاني ومَلَّني ... على هَنَواتٍ شأنُها مُتتابِعُ (¬1) ومنهم من يقول: "هَنانِ" في التثنية، و"هَناتٌ" في الجمع. فمن قال: "هَنَواتٌ"، لزِمه أن يقول في النسب: "هَنَويّ". ومن قال: "هَنانِ" في التثنية، و"هَناتٌ" في الجمع، كان مخيَّرًا فيه: إن شاء ردّ، وإن شاء لم يردّ، وإنّما لزم ردُّ الذاهب هنا، لأنّا رأينا النسب قد يردّ الذاهبَ الذي لا يعود في تثنية، ولا جمعٍ، كقولك في "يَدٍ": "يَدَويّ"، وفي "دَمٍ": "دَمَويّ". وأنت تقول في التثنية "يَدانِ"، و"دَمانِ"، فلمّا قويت النسبةُ على ردِّ ما لم تردّه التثنيةُ، صار أقوى من التثنية في باب الردّ، فلمّا ردّت التثنيةُ الحرفَ الذاهبَ؛ كانت النسبةُ أولى بذلك. وأما الضرب الثاني: وهو ما لا يُرَد الساقط فيه، فهو ما كان الساقط منه فاءً أو عينًا، وذلك نحو النسب إلى "عِدَةٍ"، وَ"زِنَةٍ"، ونحوهما كـ"صِلَةٍ"، و"ثِقَةٍ"، فإنّك إذا نسبت إلى شيء من ذلك، حذفتَ تاء التأنيث، ولا تُعِيد المحذوف إلا لضرورة. وذلك قولك: "عِديّ"، و"زِني". فالذاهب منه واوٌ هي فاءٌ، وأصلُه: "وِعْدَةٌ"، و"وِزنَةٌ". وإنّما لم يردّوا الذاهب منه؛ لأنه في أوّل الكلمة، فهو بعيدٌ من ياء النسب، فلو ظهر؛ لم يكن يتغيّر بدخول ياء النسب، كما تتغيّر لامُ الكلمة بالكسر من أجل الياء. ويؤيّد ذلك أن العرب لم تردّ المحذوف إذا كان فاءً في شيء من كلامها، لا في تثنية، ولا جمع بالألف والتاء، كما ردّوا فيما ذهبت لامُه، فلم يقولوا في مثل "عِدَةٍ"، و"زِنَةٍ": "وِعْدَتان"، و"وِزْنَتان"، ولا: "وِعْداتٌ"، و"وِزْناتٌ"، كما قالوا في "سَنَةٍ": "سَنَواتٌ"، وفي تثنية "أخٍ"، و"أبٍ": "أخَوان"، و"أبَوان"، وفي جمع "أُخْتٍ": "أخَواتٌ". لا نعلم في ذلك خِلافًا. وقولنا: "إلا لضرورة" تحرّزٌ ممّا إذا كانت اللام ياءً، نحوَ: "شِية"، و"دِيَةٍ"، فإنّك تعيد المحذوف، وإن كانت فاءً ضرورةَ أن يبقى الاسم على حرفَيْن، الثاني منهما حرفُ مدّ ولين، وذلك لا يكون في اسم متمكّن، فتقول، على مذهب سيبويه (¬2) في "شِيَةٍ": "وِشَوِيٌّ"، وفي "دِيَةٍ": "وِدَوِيٌّ". وذلك أنّ أصله "وِشْيَةٌ"، و"وِدْيَةٌ"، فألقيت كسرة الواو على ما بعدها، وحذفت الواو لأن الفعل قد اعتلّ بحذفها في "يَشِي"، و"يَدِي"، فبقي "شِيَةٌ"، و"دِيَةٌ" كما ترى. فلمّا نسبت إليهما، ¬
حذفت منهما تاء التأنيث على القاعدة، فبقي الشين والياء، ولا عَهْدَ لنا باسمٍ على حرفَين الثاني منهما حرفُ مدّ ولين. ووجب زيادةُ حرف؛ ليصير إلى ما عليه الأسماءُ المتمكنةُ، فكان ردُّ المحذوف أولى من زيادة حرف غريب؛ فرُدّت الواو مكسورةً على أصلها، وبقيت العين مكسورةً أيضًا، ثمّ أبُدل من الكسرة فتحةٌ، ومن الياء ألفٌ، ثمّ قلبت الألف واوًا كما فعلت في "عَمٍ"، و"شَجٍ"، فقلت: "عَمَويّ"، و"شَجَويّ". وإنّما أبقوا الكسرة في العين؛ لأنّ قاعدة مذهب سيبويه (¬1) أن الاسم إذا دخله حذفٌ، ولزم الحرفَ المُجاوِرَ الحركةُ، ثمّ رُدّ المحذوف لعلّة أو ضرورةٍ؛ فإنّه يُبْقِي الحركة فيه، ولا يُزيلها، فتقول في "غَدٍ": "غَدَويّ"، وفي "يَدٍ": "يَدَويّ"، فتفتح العين منهما، وإن كان أصلها السكون. والذي يدلّ أن الأصل في "غَدٍ" "غَدْوٌ"، بسكون العين، قول الشاعر، وهو لَبِيدٌ [من الطويل]: 839 - وما الناس إلَّا كالدِيار وأهْلُها ... بها يَوْمَ حَلُّوها وغَدْوًا بَلاقِعُ ¬
لمّا اضطُرّ إلى ردّ اللام، أتى به ساكنَ العين. ويدلّ على أن الأصل في "يَدٍ": "يَدْيٌ" بالسكون تكسيرُهم إِيّاها على "أفْعُلَ"؛ نحوِ: "أيْدٍ"، و"أفْعُلُ" بابه "فَعْلٌ"، نحوُ: "كَلْبٍ"، و"أكْلُبٍ"، و"فَلْسٍ"، و"أفْلُسٍ". وأمّا أبو الحسن الأخفش، فإنّه يردّ الكلمة إلى أصلها عند ردِّ ما سقط منها، فكأنّه ينسب إلى "وِشَيَةٍ"، فيقول: "وِشْييٌّ"، كما تقول في "ظَبْيَةٍ": "ظَبْييّ". وحجّتُه أنّ العين أصلُها السكون، وإنما تحرّكت عند حذف الفاء منها، فإذا أُعيد ما سقط منها، عادت إلى أصلها، وهو السكون. والمذهب ما قاله سيبويه, لأن الشين متحرّكةٌ، والضرورةُ لا توجب أكثر من ردّ الحرف الذاهب، فلم تحتج إلى تغيير البناء. ومثلُ ذلك لو نسبت إلى "شاةٍ" بعد التسمية؛ لقلت: "شاهيّ"؛ لأنَّك تحذف تاء التأنيث، فبقي الاسم على حرفَيْن، الثاني منهما حرفُ مدّ ولين، وذلك لا نظيرَ له، فردّوا الساقط منه، وهو الهاء. وقوله: وعن ناسٍ من العرب: "عِدَويٍّ"، يريد أن قومًا من العرب يردّون المحذوف، وإن كان فاءً، ويؤخرونه إلى موضع اللام، فكأنّه ينقلب ألفًا، فيصير "عِدًا"، و"زِنًا"، فإذا نسبت إليه، قلبت الألف واوًا على القاعدة، فتقول: "عِدَويّ"، و"زِنَويّ"، وهو رأي الفرّاء، حكى ذلك صاحبُ الصَّحاح (¬1). وممّا لا يُرَدّ فيه الساقط: ما حُذفت عينه، نحوُ: "سَهٍ" في معنى الاسْتِ، وذلك أن فيه ثلاثَ لغات: "اِسْتٌ"، و"سَتٌ"، و"سَهٌ"، وأصلُها "سَتَةٌ"؛ وذلك لأنّك تقول في التصغير: "سُتَيْهَةٌ"، وفي التكسير: "أسْتاةٌ". فالذي قال: "اسْتٌ" و"سَتٌ"، حذف اللام، وهو الهاء، والذي قال: "سَهٌ"، حذف عين الفعل، وهو التاء. فإذا نسبت إليه على قولِ من قال. "اسْتٌ" أو"ستٌ"، فهو بمنزلة "ابْنٍ"، فإن شئت قلت: "اسْتيّ"، وإن شئت قلت: "سَتَهيّ"؛ لأنّ الساقط لا يظهر في التثنية، ولا في الجمع بالألف والتاء، ومن قال "سَهٌ"، لم يقل إلّا: "سَهِيٌّ"، كما لم يقل في "عِدَةٍ"، و"زِنَةِ" إِلّا: "عِديّ"، و"زِنيّ"، لبُعْد المحذوف من ياء النسبة. وأمّا الضرب الثالث: وهو ما يسوغ فيه الأمران، فهو ما حُذف منه لامه، ولا يظهر ذلك في تثنية، ولا جمع بالألف والتاء، وذلك قولك في النسب إلى "يَدٍ": "يَديّ"، وإن شئت: "يَدَويّ"، وفي "دَمٍ": "دَمِيٌّ"، و"دَمَويّ"، وفي "غَدٍ": "غدِيّ"، وإن شئت "غَدَويّ"، فمَن نسب إلى الحرفَيْن فعلى اللفظ؛ لأن الأصل قد رُفض، فلم يظهر في تثنية ولا جمع، ومَن ردّ المحذوف؛ فلأنّ النسبة قويّةٌ في الردّ على ما تقدّم. ¬
فصل [النسبة إلي "بنت" و"أخت" و"كلتا"]
فإن قيل: فقد ردّوا المحذوف من "دَمٍ" و"يَدٍ" في قوله [من الوافر]: فَلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا ... جرى الدَّمَيانِ بالخَبَر اليَقِينِ (¬1) وقولِ الآخر [من الكامل]: يَدَيانِ بَيْضاوانِ عند مُحَلِّمٍ ... قد تَمْنعانِكَ أن تُضامَ وتُضْهَدَا (¬2) فهلّا لزم لذلك ردُّ المحذوف في النسب إليهما؟ قيل: لا اعتدادَ بذلك, لأنّ ذلك من ضرورات الشعر، ومن ذلك النسب إلى "حِرٍ": "حِرِيٌّ"، وإن شئت "حِرْحيّ"؛ لأنّك تقول في التثنية: "حِرانِ"، ولا تُظْهِر المحذوف. ومن ذلك ما كان في أولّه همزةُ الوصل، فتقول في النسب إلى "ابنٍ": "ابْنِيٌّ"، وإن شئت: "بَنَويّ"؛ لانّك تقول في التثنية: "ابْنان". وتقول في النسب إلى "اسْمٍ": "اسْمِيٌّ"، وإن شئت: "سِمَويّ" بكسر السين وفتح الميم. أمّا كسرُ السين، فلأنّ الأصل "سِمْوٌ"؛ لقولهم في تكسيره: "أسْماءٌ"، نحوَ: "عِدْلٍ"، و"أعْدالٍ"، وأمّا فتحُ الميم، فعلى قاعدة مذهب سيبويه، وأمّا قياسُ قول الأخفش؛ فأن يُقال: "سِمْويّ" بسكون الميم؛ لأنّه الأصل. فصل [النسبة إلي "بنت" و"أخت" و"كلتا"] قال صاحب الكتاب: وتقول في "بنت", و"أخت": "بنوي", و"أخوي" عند الخليل وسيبويه (¬3)، وعند يونس (¬4): "بنتي", و"أُختي". وتقول في "كلتا": "كلتي", و"كلتوي" على المذهبين. * * * قال الشارح: اعلم أنّ التاء في "بِنْتٍ" و"أُخْتٍ" بدل من اللام فيهما، والأصل: "أخَوَةٌ" و"بَنَوَةٌ"، فنقلوا "بَنَوةً" و"أَخَوَةً"، ووزنُهما "فَعَلٌ" إلي "فِعْلٍ" و"فُعْلٍ"، فألحقوهما بالتاء المبدلة من لامها بوزن "جِذْعٍ"، و"قُفْلٍ"، فقالوا: "بِنْتٌ"، و"أُخْتٌ". وليست التاء فيهما على الحقيقة للتأنيث لسكونِ ما قبلها. هذا مذهب سيبويه، وقد نصّ عليه في باب ما لا ينصرف، فقال: لو سمّيت بهما رجلاً لصرفتهما معرفة (¬5)، وهذا نصٌّ منه، ولو كانت للتأنيث، لَما انصرفا، إلَّا أنّها، وإن لم تكن للتأنيث، فإنّها في مذهب علامة التأنيث إذ كانت لم تقع إلَّا على مؤنّثٍ. فإذا نسبت إلى واحد منهما، حذفت التاء؛ لانّها ¬
مُشبَّهةٌ بتاء التأنيث، وفي حكمها، فحذفوها كحذف التاء في "رَبَعيّ"، و"جُهَنيّ". ولمّا حذفوها، أعادوا اللام المحذوفة؛ لأنّ التاء كانت بدلاً منها. فلمّا زال البدلُ، عاد المُبْدَل منه، فلذلك تقول في "بِنْتٍ": "بَنَويّ" كالمذكّر، وفي "أُخْتٍ": "أخَويّ"، فقد صار في التاء مذهبان: مذهبُ الحروف الأصلية لِما ذكرناه من سكون ما قبلها، ومذهبُ تاء التأنيث لحذفها في النسب. ويونسُ يقول: "بنتيّ"، و"أُخْتيّ"، ويُجْرِي التاء فيهما مُجرى الأصل، فكان يلزمه أن يقول في النسب إلى "هَنْتٍ"، و"مَنْتْ": "هَنْتيّ"، و"مَنْتيّ"، ولم يقل ذلك أحدٌ. وأمّا "كِلْتَا"، فالتاء فيها بدلٌ من لامها، والألفُ فيها للتأنيث على حدّ إبدالها في "بنت"، و"أُخت". وأصلُها "كِلْوَى" كـ"ذِكْرَى". والذي يدلّ على أن اللام معتَلّةٌ قولهم في مذكّرها: "كِلَا"، و"كِلَا" فِعَلٌ، ولامُه معتلّة بمنزلة لام "حِجًا"، و"رِضًا". وأن تكون اللام واوًا أمثلُ من أن تكون ياءً, لأنّ إبدال التاء من الواو أضعافُ إبدالها من الياء، والعملُ إنّما هو على الأكثر، فعلى هذا يُنسَب إليه كما ينسب إلى "بنت"، و"أُخت"، فتقول: "كِلَويّ". فمن حيث وجب ردُّ "بنت" في النسب إلى الأصل، وجب ردّ "كلتا" إلى الأصل، وحذفت التاء، ثمّ حذفت ألف التأنيث، فقيل: "كِلَويّ". واللامُ متحرّكة؛ لأنه قد صحّ تحريكُها في "كِلَا". وقياسُ مذهب يونس أن يقول: "كِلْتَويّ"؛ لأنّ التاء بدلٌ من اللام، فهي كتاء "بنت"، و"أُخت". وقوله: "تقول كِلْتيّ وكِلْتَويّ على المذهبَيْن" يعني يونسَ وسيبويه، وليس بصحيح؛ لأنّ سيبويه يقول: "كِلَويّ"، وكان أبو عمر الجَرْمي يذهب إلى أنّها "فِعْتَلٌ" وأنّ التاء عَلَمُ تأنيثها، والنسبة إليها: "كِلَويّ"، كما يُقال في "مِلْهى": "مِلْهَويّ". ويشهَد بفَساد هذا القول أنّ التاء لا تكون علامةَ تأنيث الواحد إلَّا وقبلها فتحةٌ، نحوُ: "طَلْحَةَ"، و"قائمةٍ"، أو يكون قبلها ألفٌ، نحوُ: "سِعْلاةٍ"، و"عِزْهاةٍ". واللام في "كِلْتَا" ساكنة كما ترى. ووجهٌ ثانٍ: أن علامة التأنيث لا تكون أبدًا حَشْوًا، إنما تكون آخِرًا لا محالةَ، وَ"كِلْتَا" اسمٌ مفردٌ يُفيد معنى التثنية، بإجماع من البصريين، فلا يجوز أن تكون التاء فيه للتأنيث، وما قبلها ساكنٌ. ووجهٌ ثالثٌ: أنّ "فِعْتَلاً" مثالَ لا يُوجَد في الكلام أصلاً، فيُحْمَلَ هذا عليه، فعلى هذا، لو سمّيت رجلاً بـ"كلتا"؛ لم تصرفه على قول سيبويه معرفةً ولا نكرةً, لأن ألفها للتأنيث (¬1) بمنزلة ألف "ذِكْرَى"، وتصرفه نكرة في قول الجرميّ, لأن أقصى أحواله أن يكون كـ"قائمة" و"قاعدة"، فاعرفه. ¬
فصل [النسبة إلي المركب]
فصل [النسبة إلي المُركَّب] قال صاحب الكتاب: وينسب إلى الصدر من المركبة, فتقول: "معدي", و"حضري", و"خمسي", في "خمسة عشر" اسمًا، وكذلك: "اثني" أو "ثنوي" في "اثني عشر" إسمًا، ولا ينسب إليه وهو عدد، ومنه "تأبط شرًا", و"برق نحره", تقول: "تأبطي", و"برقي". * * * قال الشارح: إذا كان الاسمان قد رُكّبا، وجُعلا اسمًا واحدًا عَلَمًا على المسمَّى، فالوجهُ والقياس حذفُ الثاني منهما، يجعله الخليلُ (¬1) بمنزلة تاء التأنيث، فـ"حَضْرَمَوْتُ" بمنزلة "طَلْحَةَ"، وتقع النسبةُ إلى الأوّل، فتقول في النسب إلى "مَعْدِي كَرِبَ": "مَعْدِيّ"، وفي "حَضْرَمَوْت": "حَضْريّ"، وفي "خَمْسَةَ عَشَرَ": "خَمْسيّ". وذلك لأن التركيب لم يجعلهما اسمًا واحدًا على الحقيقة، ألا ترى أن من جملة المركّبات نحوُ: "شَغَرَ بَغَرَ"، وليس في الأسماء ما يتوالى فيه ستةُ متحرّكات، فعُلم أنّ منزلة الثاني من الأوّل منزلةُ علامة التأنيث ضُمّت إلى الصدر، فحُذفت في النسب، ووقعت النسبةُ إلى الصدر، ولو كانا شيئًا واحدًا على التحقيق، لوقعت النسبةُ إليهما كما تقع في "عَيْضَمُوزٍ" (¬2)، و"عَنْتَرِيسٍ" (¬3)، ونحوهما ممّا جُعل على الزيادة اسمًا. ومن ذلك "اثْنَا عَشَرَ" إذا نسبتَ إليه، وهو عَلَمٌ، قُلْتَ: "ثَنَويّ" في قولِ من قال في "ابْنٍ": "بَنَويّ"؛ لأنّ مجراهما واحد. وتقول: "اثْنيّ" في قول من قال "ابْنيّ". وذلك أنهم شبّهوا "عَشَرَ" من "اثنا عشر" بالنون في "اثنين"، كما شبّهوا "عشر" من "خمسة عشر" بتاء التأنيث؛ لأنها واقعةٌ موقعَ النون في "اثنان"، و"اثنين"، ولذلك لا تُجامِعهما. فكما تحذف النون إذا نسبت إليها، كذلك تحذف الثاني منهما، وهو"عشر"، فتقول: "اثْنِيّ"، و"ثَنَويّ". فأمّا إذا كان عددًا، فلا يُضاف إليهما؛ لأنّك لو نسبت إليهما، وجب أن تقول: "اثْنيّ"، أو "ثَنَويّ"، فكان يُلْبِس بالنسب إلى الاثنَيْن، وكذلك سائرُ الأعداد المركبة من نحو "خمسةَ عشرَ" لا يُنسَب إليها، وهي عددٌ. فإن قيل: فالنسبة إلى العَلَم قد تُوقِع لبسًا أيضًا، فلا يُعلَم هل هو مسمَّى بـ"اثنين" أو بـ"اثني عشر"؛ قيل: اللبسُ في الأعلام لا يُعتَدّ به؛ لعِلْم المخاطب بالمنسوب إليه. وقد أجاز أبو حاتم السجِسْتانِيّ النسبَ في مثل هذا إليهما مفردَيْن ¬
فرارًا من اللبس، فيقول: "ثَوْبٌ إحْدَويّ عَشْريّ"، و"إحْدَويّ". ومن قال: "إحْدَى عَشِرَةَ" بكسر الشين، قال: "إحدويّ عَشَريّ"، بفتح الشين في النسب، كما تقول في النسب، إلي "النَّمِر": "نَمَرِيٌّ". ومن ذلك: الجُمَل المحكيّة المسمّى بها من نحو "تَأبَّطَ شَرًّا"، و"بَرَقَ نَحْرُهُ"، فإنّك إذا نسبت إلى شيء من ذلك، نسبتَ إلى الأوّل، وحذفت الثاني، فتقول: "تَأبَّطيّ"، و"بَرَقيّ"، و"ذَرَّويّ" في "ذَرَّى حَبًّا". حذفت من "تأبّط شرًّا" المفعول، ونزعت الفاعلَ من الفعل، ليخرج من أن يكون جملةً، وما علمنا أحدًا نسب إلى شيء من ذلك إلَّا إلى "تأبّط شرًّا"، والباقي قياسٌ. وإنّما وجب النسب إلى الأوّل؛ لأنّ الحكاية في معنى المركّب والمضاف من حيث كان أكثرَ من اسم واحد، بل هو في الحكاية أبلغُ, لأنه قد يكون أكثرَ من اسمَيْن، فكما تقول: "حَضْريّ" في "حضرموت"، و"عَبْديّ" في "عَبْدِ القَيْس"، كذلك تقول: "تأبّطيٌّ" في "تأبّط شرًّا" وبابه، وقد قالوا: "كَوْنيّ" في النسب إلى "كُنْتُ" إذا كان يُكَثِرُ من قولِ "كُنْتُ". وذلك أنّهم حذفوا التاءَ الفاعلةَ، ثمّ نسبوا إلى "كُنْ"، وأعادوا الواو التىِ هي عين الفعل؛ لتحرُّك النون بالكسر لاجتماعها مع ياء النسب. ومنهم من قال: "كُنْتِيّ"، فنسب إلى "كُنْتُ"، لمّا اختلط ضميرُ الفاعل بالفعل ولا يُوجَد فصلُه من الفعل؛ صارا كالكلمة الواحدة، فجازت النسبةُ إليهما لذلك. وهذا أحدُ ما يدلّ على شدّةِ امتزاج الفاعل واختلاطه به. قال الشاعر [من الطويل]: فأصَبَحْتُ كُنْتِيًّا وأصبحتُ عاجِنًا ... وشَرُّ خِصالِ المَرْءِ كُنْتُ وعاجِنُ (¬1) ومنهم من قال: "كُنْتَنيّ"، فزاد نونَ الوقاية مع ضمير الفاعل، كأنّه حافظ على لفظ "كُنْتُ" فأدخل نون الوقاية، ليسلَم لفظُ "كُنْتُ" من الكسر، قال الشاعر- أنشده ثَعْلَبٌ [من الطويل]: 840 - ومَا أنتَ كُنْتِيٌّ وما أنَا عاجِنٌ ... وشَرُّ الرِّجال الكُنْتُنيُّ وعاجِنُ ¬
فصل [النسبة إلي المركب تركيبا إضافيا]
وقد عاب أبو العباس "كُنْتُنِيًّا"، وقال: "هو خطأٌ"، فاعرفه. فصل [النسبة إلي المركَّب تركيبًا إضافيًّا] قال صاحب الكتاب: والمضاف على ضربين: مضاف إلى اسم معروف يتناول مسمى على حياله, كـ "ابن الزبير", و"ابن كُراع", ومنه الكنى كأبي مسلم وأبي بكر، ومضاف إلى ما لا ينفصل في المعنى عن الاول كامرئ القيس وعبد القيس. فالنسب إلى الضرب الأول زبيري وكراعي ومسلمي وبكري, وإلى الثاني عبدي ومرئي قال ذو الرمة [من الوافر]: 841 - ويذهب بينها المرئي لغواً ... [كما ألغيت بالدية الحُوارا] وقد يصاغ منهما اسم فينسب إليه كعبدري وعبقسي وعبشمي. * * * قال الشارح: اعلم أنّ القياس في الباب أن تقع النسبةُ إلى الاسم الأوَّل, لأنّ الاسم الثاني بمنزلة تمام الاسم، وواقعٌ موقعَ التنوين، فكانت الإضافةُ إلى الأوّل لذلك، فقالوا في "عَبْدِ القيس": "عَبْديّ" وفي "امْرِئ القيس": "امْرِئِيٍّ"، و"مَرْئِيٌّ". إن شئت هذا مقتضى القياس، إلَّا أن يعرض ما يوجب العدولَ إلى الثاني، وذلك إمّا للَبْسٍ يقع، ¬
فصل [النسبة إلي الجمع]
أو لزيادةِ بيان يُتوقّع، وذلك إذا كان مضافًا إلى آخرَ من الكُنَى، وما جرى مجراها، كقولك في النسب إلى "أبي بكر": "بَكْريّ" وإلى "أبي مُسْلِم": "مُسْلِميّ". وقالوا في النسبة إلى رجل يُعرَف بابن كُراعَ: "كُراعيّ"، وإلى ابن دَعْلَج: "دَعْلَجيّ". وإنّما كان كذلك في "ابن فلانٍ"، و"أبي فلان"؛ لأنّ الكنى كلّها متشابِهةٌ في الاسم المضاف ومختلفةٌ في المضاف إليه، وباختلاف الأسماء المضاف إليها يتميز بعض من بعض، كقولك: "أبو زيد"، و"أبو جعفر"، فلو أضفنا إلى الأوّل، لصارت النسبةُ إليه كلِّه "أبَويّ"، فكان لا يتميّز بعض من بعض، وكذلك لو نسبنا إلى "الابن"، لوقع اللبس، ولم يتميز، فعدلوا إلى الثاني لذلك، والذي ذكره صاحب الكتاب مذهبُ المبرّد، فإنّه كان يقول: ما كان في المضاف يُعرَّف بالثاني، وكان الثاني معروفًا، فالقياسُ إضافته إلى الثاني، نحوُ: "ابن الزُّبَيْر"، و"ابن كُراعَ". وما كان الثاني منه غيرَ معروف؛ فالقياسُ الإضافة إلى الأوّل، مثلُ: "عبد القيس"، و"امرئ القيس"؛ لأنّ "القيس" ليس بشيء معروف أُضيف "عبدٌ" و"امرؤ" إليه. ويرُدّ عليه الكُنَى؛ لأنّ الثاني غيرُ معروف كـ"أبي مُسْلِم"، و"أبي بكر" ألا ترى أنّ "مسلمًا"، و"بكرًا" ليسا اسمَيْن معروفَيْن أُضيف الأوّل إليهما، فإنّه قد يُكْنَّى الصغير المولود، ولم يكن له ولدٌ، فبان أنّ القياس النسبة إلى الأوّل، وإنّما عُدل إلى الثاني للبس، فأمّا قول الشاعر [من الوافر]: ويذهب بينها ... إلخ البيت لذي الرُّمّة يهجو امرأ القيس، وليس الشاعرَ، بل آخرَ اسمُه ذلك، فرآه جَرِير بن الخَطَفَى، وهو يُنْشِئ، فقال: هل أُغنّيك ببَيْت أو بيتَيْن، وأنشأ [من الوافر]: يَعُدُّ الناسِبُون إلى تَمِيم ... بُيُوتَ المَجْدِ أرْبَعَةً كِبارا يَعُدّون الرِّبابَ وآلَ بَكْرٍ ... وَعَمْرًا ثُم حَنْظَلَةَ الخِيارا ويذهب بينها المَرْئيُّ لَغْوًا ... كما ألْغَيْتَ بالدِّيَةِ الحُوارا وقد يصوغون من حروف الاسمَيْن ما ينسبون إليه، فقالوا: "عَبْشَميّ" في "عبد شَمْس"، و"عَبْدَريّ" في "عبد الدار"، و"عَبْقَسيّ" في "عبد القيس"، كأنّهم أضافوا إلى "عَبْشَم"، و"عَبْدَر"، و"عَبْقَس" وذلك ليس بقياس، وإنما يُسمَع ما قالوه، ولا يُقاس عليه لقلّته. فصل [النسبة إلي الجمع] قال صاحب الكتاب: وإذا نسب إلى الجمع, رد إلى الواحد كقولك مسمعي ومهلبي وفرضي وصحفي, وأما الأنصاري والأنباري والأعرابي فلجريها مجرى القبائل كأنماري وضبابي وكلابي، ومنه المعافري والمدائني. * * *
قال الشارح: إذا نُسب الشيء إلى جمع، فهو على ضربَيْن: أحدهما أن يكون جمعًا صحيحًا مكسَّرًا عليه الواحدُ، والآخرُ أن يكون الجمع اسمًا لواحدٍ أو لجمع. فما كان من الأول ونسبتَ إليه من يلزَمه ويُمارِسه، فالبابُ أن تنسب إلى واحده، كرجلٍ يلزم المساجدَ، ويُكْثِر الاستعمال بالفرائض، والنظرَ في الصُّحُف، فإذا نسبت إلى شيء من ذلك؛ قيل فيه: "مَسْجِديّ"، و"فَرَضيّ"، و"صَحَفيّ". تردّها إلى "مَسْجِدٍ"، و"فَرِيضَةٍ"، و"صَحِيفَةٍ". وقالوا: "مِسْمَعيّ"، و"مُهَلَّبيّ" في النسبة إلى "المَسامِعة"، و"المَهالِبة"؛ لأنّه جمعٌ، والواحد مِسْمَعيّ ومُهَلَّبِيّ، فحذفتَ من الواحد ياء النسبة، ثمّ أحدثتَ ياءً للنسبة غيرَها على القاعدة. والمسامعةُ قومٌ نزلوا البصرةَ، فنُسبت إليهم المَحَلَّةُ، ومن المُحدِّثين المعروفين بها أبو يَعْلَى محمّد بن شَدّاد بن عيسى المسمعيّ، كان أحدَ المتكلّمين على مذهب العدل والتوحيد، والواحدُ من المسامعة "مِسْمَعيّ"، بكسر الميم الأولى، منسوبٌ إلى "مِسْمَعٍ"، ومنه قوله [من الطويل]: 842 - [لَقَدْ عِلمَتْ أُولَى المُغِيرَةِ أنَّنِي] ... كَرَرْتُ ولم أنْكُلْ عن الضرب مِسْمَعَا و"المَهالِبة" جمعُ "المُهَلَّبيّ"، و"المهلّبيّ" منسوب إلى المُهَلَّب بن أبي صُفْرَةَ أبي ¬
فصل [ما شذ في النسبة عن القياس]
المَهالِبة، نُسب بنوه إليه، وقالوا في النسب إلى "العَبَلات"، وهم حيٌّ من قُرَيْش: "عَبْليّ"؛ لأنّ واحده "عَبْليّ"، كأنّهم نُسبوا إلى أُمّهم عَبْلَةَ. وإنّما اختاروا النسبَ إلى الواحد دون لفظ الجمع، كأنّهم فرقوا بين ما كان اسمًا لشيء واحد، وبينه إذا لم يُرَد به إلَّا الجمعُ، وساغ لهم ذلك؛ لأن المنسوب مُلابِسٌ لكلّ واحى من آحادِ ذلك، ولفظُ الواحد أخفُّ، فنسبوا إليه، لذلك قالوا: "بَنَويّ"، و"أبْناويّ"؛ فأمّا "بنويّ" فمنسوبٌ إلى "أبناء فارِسَ"، وهم الذين استصحبهم سَيْفُ بن ذي يَزَنَ إلى اليَمَن، وأمّا "الأبْناويّ" فمنسوبٌ إلى قبائل سَعْد بن زيد مَناة. وأمّا الضرب الثاني، وهو ما كان اسمًا لواحدٍ أو لجمع؛ فإنّك تنسب إليه على لفظه من غير تغيير، فتقول في "أنْمارٍ": "أنْماريّ"؛ لأنه اسم لواحد. وقالوا في "كِلابٍ" "كِلابيّ"، وقالوا في "الضِّباب": "ضِبابيّ"؛ لأنّه اسمُ قبيلة. وقالوا "مَعافِريّ"، وهو اسم رجل يُقال له: مَعافِرُ بن مُرٍّ أخو تميم. وقالوا: "أنْصاريّ"؛ لأنّ "الأنصار" اسمٌ وقع لجماعتهم، ومن ذلك "مَدائنيّ"، و"أنباريّ". و"المَدائنُ"، و"الأنْبارُ" عَلَمان على بلدَيْن معروفَين بالعِراق. وتقول في النسب إلى "نَفَرٍ": "نَفَريّ"، وإلى "رَهْطٍ": "رَهْطيّ"؛ لأنّه اسمٌ للجمع، لا واحدَ له من لفظه. وتقول في النسب إلى نِسْوَةٍ: "نِسْويّ"؛ لأنّه اسم للجمع. فلو جمعتَ شيئًا من أسماء الجمع، نحوَ: "أراهِطَ"، و"أنْفارٍ"، و"نِساءٍ"؛ لقلت في النسب إليه: "رَهْطيّ"، و"نَفَريّ"، و"نِسْويّ"؛ لأنّ قولك: "نَفَرٌ"، و"رَهْطٌ" جمعٌ لا واحدَ له، وقولك: "أراهطُ"، و"أنفارٌ"، و"نساءٌ" لها واحد من لفظها، وهو "نفر"، و"رهط"، و"نسوة". وتقول في النسب إلى "مَحاسِنَ": "مَحاسِنيّ"؛ لأنه لا واحد له من لفظه؛ لأنّه لا يُقال "مَحْسَنٌ". وعلى هذا تقول في النسب إلى "مَشابِهَ"، و"مَذاكِيرَ": "مَشابِهي"، و"مَذاكِيريّ" لأنه لا يقال في واحدهما: "مَشْبَهٌ"، ولا "مِذْكارٌ". وتقول في "الأعْراب": "أعْرابيّ"؛ لأنّه لا واحد له من لفظه، وليس بتكسير "عَرَبٍ"، إذ ليس معنى العرب معنى الأعراب، فيكونَ تكسيرًا له؛ لأن العرب من كان من هذا الجِيل من سُكّان البُلدان والبادية، والأعرابُ من كان منهم من سكّان البادية، فاعرفه. فصل [ما شذّ في النسبة عن القياس] قال صاحب الكتاب: ومن المعدولة عن القياس قولهم بدوي وبصري وعلوي وطائي وسهلي ودهري وأموي وثقفي وبحراني وصنعاني وقرشي وهذلي قال [من الطويل]: 843 - هذيلية تدعو إذا هي فاخرت ... أباً هذلياً من غطارفة نُجدِ ¬
وفقمي وملحي وزباني وعبدي وجذمي، في فقيم كنانة، ومليح خزاعة، وزبينة وبني عبيدة، وجذيمة, وخراسي وخرسي ونتاج خرفي وجلولي وحروري في جلولاء وحروراء. وبهراني وروحاني في بهاء, وروحاء, وخريبي في خريبة, وسليمي, وعميري, في سليمة من الأزد وفي عميرة كلب, وسيلقي لرجل يكون من أهل السليقة. * * * قال الشارح: اعلم أنّ العرب قد نسبت إلى أشياءَ، فغيروا لفظ المنسوب إليه، فاستُعمل ذلك كما استعملته العربُ، ولا يُقاس عليه غيرُه، فما جاء ممّا لا نعلم مذهبَ العرب فيه، فهو على غير (¬1) القياس، وهذا الشذوذ يجيء على ضروبٍ: منها العدول عن ثقيل إلى ما هو أخفُّ منه، ومنها الفرقُ بين شيئَيْن على لفظ واحد، ومنها التشبيه بشيء في معناه. فمن ذلك قولهم في النسبة إلى البادِيَة: "بَدَويّ"، والقياس: "باديّ" أو "بادَويّ" على حدّ "قاضٍ"، و"قاضِيَةٍ"، و"غازٍ"، و"غازيةٍ"، كأنهم بنوا من لفظه اسمًا على "فَعَلٍ" حملوه على ضدّه، وهو الحَضَرُ، فقالوا: "بَدَويّ" كما قالوا: "حَضَريّ". وقالوا: "بِصْريٌّ" بكسر الباء، والقياس فتحُها، وذلك لأنّ البَصْرَة سُمّيت بهذا الاسم لحجارةٍ بيضٍ في المِرْبَد، يُتّخذ منها الجِصّ، يُقال لها بَصْرَةٌ وبَصْرٌ، فنسبوا إلى معناه. وقالوا في النسب إلى العالِيَة: "عُلْويّ"، والعالية مواضعُ في بلاد العرب، وهي ¬
الحجاز، وما والاها، كأنّهم بنوه على "فُعْلٍ"، ونسبوا إليه حملًا على ضدّه، وهو السُّفْلُ. وقالوا: "طائِيٌّ" وهو شاذ أيضًا، والقياس "طَيِّئيّ"، فحذفوا إحدى الياءَيْن على حدّ حذفها في "أُسَيِّدَ"، و"أُسَيْديّ"، ثمّ أبدلوا من الياء ألفًا، كما قالوا: "آيةٌ" وهو عند سيبويه "فَعْلَةُ". وقالوا: "داويّ" في النسبة إلى "دَوٍّ"، فقَلبوا الياء والواو ألفًا لانفتاح ما قبلهما، وإن كانتا ساكنتَيْن. وقالوا: "سُهْليّ"، و"دُهْريّ"، فالسُّهْليّ منسوب إلى السَّهْل الذي هو خلاف الحَزْن. وإذا نسبوا إلى رجل اسمه سَهْلٌ قالوا: "سَهْليّ" بالفتح، كأنّهم أرادوا الفرق بينهما، وأمّا الدَّهْرُ، فإذا نسبوا إليه رجلاً قد أتي عليه الدَّهْرُ، وطال عُمُرُه؛ قالوا: "دُهْريّ". وإذا كان رجلًا يقول بقِدَم الدهر، ولا يُؤْمِن بالمَعاد؛ قالوا: "دَهْرِيّ" بالفتح، فصلوا بينهما بذلك. وقالوا في النسب إلى "أُمَيَّةَ": "أُمَويّ" بالضمّ، وهو القياس، ومن العرب من يقول: "أَمَويّ" بفتح الهمزة، كأنّه ردّه إلى المكبّر؛ لأنّ "أُمَيّةَ" تصغير "أمَةٍ"، وأصلُ "أمَةٍ" "أَمَوَةٌ" فحذفت اللام تخفيفًا. وستَقِفُ عليه في التصريف إن شاء الله تعالى. وقالوا: "ثَقَفيّ" في النسبة إلى "ثقِيفٍ"، وهو أبو قبيلةٍ من هَوازِنَ، وهو شاذّ عند سيبويه (¬1)، والقياس: "ثَقِيفيّ"، وهو لغةُ قوم من العرب بتِهامةَ وما يقرب منها، وقد كثُر ذلك عنهم حتى كاد يكون قياسًا. وقالوا: "هُذَليّ" في النسب إلى "هُذَيْلٍ"، وهو حيٌّ من مُضَرَ بن مُدْرِكَةَ بن إلياس، وقوله [من الطويل]: هُذَيْليّة تدعو ... إلخ الشاهد فيه قوله: "هُذَيْليّة" في النسبة إلى "هُذَيْل" أنشده شاهدًا على صحّة الاستعمال، والقياسُ عند سيبويه (¬2): "هُذَيْليّ". ومنه قوله: "هذيليّة". وقالوا: "قُرَشيّ"، والقياس: "قُرَيْشيّ" نحوُ قوله [من الطويل]: 844 - بِكُلّ قُرَيْشيٍّ عليه مَهابَةٌ ... سَرِيعٍ إلى داعِي النَّدى والتكرُّمِ ¬
وقالوا: "فُقَميّ" في "فُقَيْمٍ"، وفقيم حيٌّ من كِنانةَ، وهم نَسَأةُ المشهور (¬1)، وفي "مُلَيْح خُزاعةَ": "مُلَحيّ". وقولنا: "فُقَيْمُ كِنانَةَ"؛ لأنّ في بني تميم فُقَيْمَ بن جَرِير بن دارِم، والنسبةُ إليه "فُقَيْميّ"، وقولُنا: "مُلَيْحُ خُزاعةَ"؛ لأنّ فيهم مُلَيْحَ بن الهُون، والنسبة إليه: "مُلَيْحيّ". وقالوا في "سُلَيْمٍ": "سُلَميّ"، وفي "خُثَيْمٍ": "خُثَميّ"، والداعي إلى هذا الشذوذ طلبُ الخفّة؛ لاجتماع الياء مع الكسرة وياءَي النسب. ومن الشاذّ قولهم: "بَحْرانيّ" في النسب إلى "البَحْرَيْن"، و"صَنْعانيّ" في النسب إلى "صَنْعاءَ"؛ فأمّا بَحْرانيّ فشاذ، والقياس: "بَحْريّ"، تحذف علامة التثنية في النسبة، كما تحذف تاء التأنيث، لكنّهم كرهوا اللَّبْس، ففرقوا بين النسب إلى "البَحْر", لأن النسبة إليه "بَحْريّ"، وبين ما يُنسَب إلى "البحرَيْن"، و"البَحْرَيْن": موضعٌ بعينه، والذي يقول: "بَحْرانيّ" نسبه إلى "فَعْلان"، كانّهم سمّوا به على مثال "سَعْدانٍ"، و"سَكْرانٍ"، فنسبوا إليه للفرق. وأمّا "صنعانيّ" في النسب إلى "صنعاء"، فمثلُه "بَهْرانيّ" في النسب إلى "بَهْراءَ"، وهي قبيلة من قُضَاعةَ، فهو شاذٌ، والقياس: "صَنْعاويّ"، و"بَهْراويّ"، ومن العرب من يقوله، ووجهُه أنّهم أبدلوا من الهمزة النون, لأن الألف والنون يجريان مجرى ألفَيِ التأنيث، وقالوا أيضًا في النسب إلى "رَوْحاء"، وهو بلد: "رَوْحانيّ"، والقياس: "رَوْحاويّ"، وهو أكثرُ استعمالًا. ¬
وقالوا في النسبة إلى "زَبِينَةَ"، وهي قبيلة من باهِلَةَ: "زَبانيّ"، والقياس: "زَبينيّ"، وتحتمل هذه الألف أمرَيْن: أحدهما أئه لما كان القياس حذفَ الياء مع تاء التأنيث؛ توهموا سقوطَها، وفتحوا الباء، ثمّ قلبوا الياء ألفًا للفتحة قبلها على حدّ "طائيّ"، فصار "زَبانيًّا". والأمرُ الثاني أنّهم قالوا: "زَبَنيّ" على القياس، ثمّ أشبعوا فتحةَ الياء، فنشأتِ الألفُ بعدها على حدّ "بَيْنَا" من قولهم: "بَيْنَا زيدٌ قائمٌ أقبلَ عَمروٌ". ومنه بيتُ الكتاب [من الوافر]: بَيْنَا نحنُ نَرْقُبُه أتانَا ... مُعَلِّقَ وفْضَةٍ وزِنادِ راعِ (¬1) ومنه قولهم: "آمِينَ" في لغةِ من مَدَّ، إنّما هو "أمِينَ"، زيدت الألفُ إشباعًا للفتحة، وهو كثير. ومن ذلك: "عُبَديّ"، و"جُذَميّ" في بني "عَبِيدَةَ"، و"جَذِيمَةَ". وبنو عبيدة حيٌّ من عَدِيّ، وجذيمةُ من عبد القَيْس، والقياسُ عنْدي: "عَبَديّ" و"جَذَميّ" بفتح العين والجيم، كما تقول في "حَنِيفَةَ": "حَنَفيّ"، لكنهم ضمّوا كأنّهم راموا الفرق بينه وبين غيره ممّن اسمُه عَبِيدَةُ، وجَذِيمَةُ. والذي يقول: "عُبَديّ"، و"جُذَميّ" بالضمّ قليلٌ، كأنهم صغّروه، والكثير الفتح. وقالوا في النسب إلى خُراسانَ: "خُرَاسانيّ"، وهو القياس. وقالوا: "خُراسيّ"، و"خُرْسيّ"، وهو خارج عن القياس، فمن قال "خُراسيّ"، شبّه الألف والنون في آخره بزيادة التثنية، أو بتاء التأنيث فحذفهما، ومن قال: "خُرْسيّ"، فإنّه حذف الزوائد أجمعَ، وبناه على "فُعْلٍ"؛ لأنه أحدُ الأبنية، ولم يغيّر الضمّةَ من أوّله، والقائدُ الذي يُنسَب إليه "الخُرْسيّ" من هذا منسوبٌ إلى "خُراسانَ". وقالوا: "نِتاجٌ خَرَفيّ" إذا نُتج زمنَ الخريف، والشذوذُ فيه كالشذوذ في "ثَقَفيّ"، و"هُذَليّ". وقد قالوا أيضًا: "خَرْفيّ" بسكون الراء، وهو أكثرُ في الكلام من "خرِيفيّ". و"خَرَفيّ". و"خريفيٌّ" هو القياس. ومن قال: "خَرْفيّ" بالسكون، فإنّه نسب إلى المصدر، وهو الخَرْفُ من قولك: "خرفتُ الرُّطَبَ" إذا اجتنيتَه في هذا الزمان، والمصادرُ تُستعمل بمعنى الفاعلين، كقولهم: "رجلٌ عَدْلٌ"، و"ماء غَوْرٌ"، والمراد: عادلٌ، وغائرٌ، كأنّه جعل نفسَ الزمان خارفًا، لأنّه يكون فيه، وكذلك كلُّ ما يُنسَب إلى الخريف، كقولنا: "مطرٌ خرفيّ"، و"فاكهةٌ خرفيّة". وقالوا: "جَلُوليّ"، و"حَرُوريّ" في النسب إلى "جَلُولاء" قريةٍ بناحية فارِسَ، وَ"حَرُوراءَ" وهو الموضع الذي كان فيه القتال بين عليّ عليه السَّلام والشُّراة، فنُسب ¬
الشراة إلى هذا الموضع الذي كان فيه القتالُ، فقيل لهم: "حروريّةٌ"، والواحد حروريّ، والقياس: "حَرْوراويّ"، و"جَلُولاويّ", لأنّ ما كان في آخره ألفٌ ممدودةٌ لا تُحذَف في النسب، كقولنا: "حَمْراويّ"، و"سَمْراويّ"، وما أشبه ذلك، غيرَ أنّهم أسقطوا أَلفَي التأنيث لطُول الاسم، فشبّهوهما بتاء التأنيث. وقالوا: "خُرَيْبيّ" في النسب إلى "خُرَيْبَةَ"، وهي قبيلةٌ، والقياس: "خُرَبيّ"، وقالوا: "سَلِيميّ"، و"عَمِيريّ" في "سَلِيمَةَ" من الأزْد، و"عَمِيرَةِ كَلْبٍ"، و"سَلِيقيّ" للذي يتكلّم بطَبْعه مُعْرِبًا، وقد جاء أيضًا: "رِماحٌ رُدَيْنيّة"، وهي منسوبة إلى "رُدَيْنَةَ"، وهي زوجةُ سَمْهَرٍ، كانا يُقوِّمان الرماحَ، وهذا الشذوذ خلافُ "ثَقَفيّ"، و"هُذَليّ"؛ لأنّ هناك حُذفت الياء، والدليلُ يقتضي إثباتها، وههنا أُثبت الياء، والدليل يقتضي حذفها. ووجهُه أنّه حُمل كلّ واحد منهما على الآخر تشبيهًا. وقد جاء عنهم من الشاذ أكثرُ ممّا ذكر. قالوا في النسب إلى "الأُفق": "أَفَقيّ" بالفتح, لأنّ "فُعْلًا"، و"فَعَلاً" يجتمعان كثيرًا كـ"عُجْمٍ"، و"عَجَمٍ"، وَ"عُرْبٍ"، و"عَرَبٍ". وقد قالوا: "أُفْقيّ" بالضمّ في الهمزة وسكون الفاءَ، وهو قياسٌ؛ لأنّ "فُعُلًا" يجوز أن يسكن ثانيه قياسًا مطّرِدًا. وقال بعضهم: "إبلٌ حَمَضيّةٌ" بفتح الميم، وذلك إذا أكلت الحَمْضَ، و"حَمْضِيّة" أجود. قال المبرّد: يُقال: حَمْضٌ وحَمَضٌ، فإن صحّ ما قال؛ فيكون "حَمَضيّة" قياسًا. وقالوا في "بني الحُبْلَى" وهم حيٌّ من الأنصار: "حُبَليّ" كأنّهم فتحوا الباء للفرق بينهم وبين غيرهم، وإنّما سُموا بني الحُبْلى لكِبرَ بطنه. وقالوا في النسب إلى "الشِّتاء": "شَتْويّ"، كأنّهم نسبوا إلى "شَتْوَةٍ"، وقيل: إنّ "شتاءً" جمعُ "شَتْوَةٍ" كـ"قَصْعَةِ"، و"قِصاعٍ"، و"صَحْفَةٍ"، و"صِحافٍ"، وأنت إذا نسبت إلى جمعِ؛ رددته إلى واحده، فعلى هذا يكون قياسًا. وقالوا في الطويل الجُمّةِ، وهو الشَّعْر: "جُمّانيّ"، وفي الطويل اللِّحْية: "لِحْياني". ولو كانت "لِحْيَة" اسمَ بلد أو رجلٍ؛ لم يُقَل فيه إلَّا: "لِحْييّ" عند سيبويه، وعند يونس: "لِحَويّ"، وقالوا في الغَلِيظ الرقبةِ: "رَقَبانيّ"، زادوا الألف والنون للمبالغة دلالةً على هذا المعنى، وهو خارج عن قياس النسبة، ولذلك لا يُستعمل إلَّا فيما استعملته العربُ، ولو نسبت إلى نفس الرَّقَبَة، لم تقل فيه إلَّا "رَقَبيّ". واعلم أنّ هذه الأسماء التي ذكرنا شذوذَها، إذا نسبتَ إليها في غير هذا الموضع الذي شذّت فيه، أجريتها على القياس، ولم تستعمل فيه الشذوذَ، كرجل سمّيتَه بـ"زَبِيْنَةَ"، فإنّك تقول فيه: "زَبَنيّ"، ولم يجز فيه "زَبانيّ"؛ لأنّهم تكلّموا بالشذوذ في اسم القبيلة التي يُقال لها: "زَبِينَةُ"، وكذلك إذا كان اسمه دَهْرًا؛ لم يجز في النسب إليه إلَّا
فصل [بناء علي "فعال" و"فاعل" ما فيه معني النسب من غير إلحاق اليائين]
"دَهْريّ"، بفتح الدال, لأنّ "دُهْريًا"، بضمّ الدهر، إنّما تكلّموا به في الرجل الذي يطول عُمْرُه، وتمضي عليه الدهورُ، وكذلك سائرها. فصل [بناء علي "فَعّال" و"فاعِل" ما فيه معني النسب من غير إلحاق اليائين] قال صاحب الكتاب: وقد يبنى على "فَعّالٍ", و"فاعِلٍ" ما فيه معنى النسب من غير إلحاق الياءين, كقولهم "بتات" و"عواج" و"ثواب" و"جمال" و"لابن" و"تامر" و"دارع" و"نابل". والفرق بينهما أن فعالاً لذي صنعة يزاولها ويديمها، وعليه أسماء المحترفين, وفاعل لمن يلابس الشيء في الجملة. وقال الخليل (¬1) إنما قالوا عيشة راضية أي ذات رضى، و"رجل طاعم كاس" على ذا. * * * قال الشارح: اعلم أنهم قد نسبوا على غير المنهاج المذكور، وذلك لأن لم يأتوا بياء النسبة، لكنّهم يبنون بناءً يدل على نحوِ ما دلّ عليه ياءُ النسبة، وهو قولهم لصاحب البتوت وهي الأكْسِيَة، واحدُها بتُّ: "بَتّاتٌ"، ولصاحب الثياب: "ثَوّابٌ"، و"لصاحب" البَزّ: "بَزّارٌ"، ولصاحب العاج: "عَوّاجٌ"، ولصاحب الجِمال التي يُنقَل عليها: "جَمّالٌ"، ولصاحب الحَمِير التي ينقل عليها: "حَمّارٌ"، وللصَّيْرفيّ: "صَرّافٌ"، وهو أكثرُ من أن يُحصَى، كـ"العَطَّار"، و"النَّقّاش". وهذا النحو إنما يُعْمِلونه فيما كان صَنْعَةً ومُعالَجةً، لتكثير الفعل، إذ صاحب الصنعة مُداوِمٌ لصنعته، فجُعل له البناء الدالٌّ على التكثير، وهو "فَعَالٌ"، بتضعيف العين؛ لأنّ التضعيف للتكثير. وما كان من هذا ذا شيءٍ، وليس بصنعة يُعالِجها، أتوا بها على "فاعِلٍ"، وذلك لأنّ "فاعلًا" هو الأصل، وإنّما يُعدَل عنه إلى "فَعْالٍ" للمبالغة؛ فإذا لم تُرَد المبالغة؛ جيء به على الأصل, لأنّه ليس فيه تكثيرٌ. قالوا لذي الدِّرْع: "دارعٌ"، ولذي النَّبْل: "نابلٌ"، ولذي النُّشّاب: "ناشبٌ"، ولذي اللَّبَن والتَّمْر: "لابنٌ"، و"تامرٌ". قال الحُطَيْئة [من مجزوء الكامل] 845 - وغررتَني وزعمتَ أنـ ... ـنَكَ لابِنٌ بالصَّيف تامِرْ ¬
أي: ذو لبن، وذو تمر. وقالوا لذي السِّلاح: "سالحٌ"، ولصاحب الفرس، "فارسٌ". و"فاعِلٌ" هاهنا ليس بجارٍ على الفعل، إنّما هو اسم صِيغَ لذي الشيء، ألا ترى أنّك لا تقول: "درع يدرع"، ولا "لبن يلبن". وقالوا لصاحب النَّعْل: "ناعلٌ" ولصاحب الحِذاء: "حاذٍ"، ولصاحب اللَّحْم: "لاحمٌ"، ولصاحب الشَّحْم: "شاحمٌ". وإن كان شيءٌ من هذه الأشياء صنعةً ومَعاشًا يُداوِمها صاحبُها؛ نُسب على "فَعّالٍ"، فيقال لمن يبيع اللبن والتمر: "لَبَّانٌ"، و"تَمّارٌ"، ولمن يرمي بالنَّبْل: "نَبّالٌ". قال امرؤ القيس [من الطويل]: 846 - وليس بذي رُمْحٍ فيَطْعَنَني به ... وليس بذي سَيْفٍ وليس بنَبّالِ وربّما جمعوا اللفظَيْن في شيء واحد، قالوا: "رجلٌ سائفٌ، وسَيّافٌ"، وقالوا: "رجلٌ ¬
تارسٌ، وتَرّاسٌ"، أي: معه تُرْسٌ. وقالوا: هو ملازمٌ، فأجروه مجرى الصنعة والعِلاج. وقالوا: "هَمُّ ناصبٌ"، أي: ذو نَصَب، وليس على الفعل، فهو كالدارع، والناشب، وقالوا: "رجل كاسٍ"؛ أي: ذو كُسْوة، و"طاعمٌ"، أي: ذو طَعْم، أي: آكلٌ، وهو ممّا يُذَمّ به، أي ليس له فضلٌ، غيرَ أنَّه يأكل ويشرب. قال الحُطَيئة [من البسيط]: 847 - دَعِ المَكارِمَ لا تَرْحَلْ لبُغيَتِها ... واقْعُدْ فإنّك أنْتَ الطاعِمُ الكَاسِي ومن ذلك قولهم: "حائضٌ"، و"طالق"، و"طامثٌ"، أي: ذات حَيْضٍ وطَلاقٍ وطَمْث في أصح الأقوال. فأمّا قوله تعالى: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} (¬1) فقد قال الخليل: إنّه من قبيل النسب، إلَّا أنّه يُشْكِل عليه دخولُ التاء، لأنّهم قالوا: إنما سقطت التاء من "حائضٍ"، و"طالقٍ"؛ لأنه ليس بجارٍ على الفعل، وقد ذكروا أن "عيشةً راضية" لم تجر على الفعل لأن العيشة مَرْضِية، وفعلُها "رَضِيتُ"، فحملوها على أنّها ذات رِضّى من أهلها بها، ثمّ أُثبتت الهاء فيها، فيجوز أن تكون الهاء للمبالغة على حدّها في "عَلامةٍ"، و"نَسَّابةٍ". وهذا القبيل، وإن كان كثيرًا واسعًا، فليس بقياسٍ، بل يُتْبَع فيه ما قالوه، ولا يتجاوز، فلا يُقال لبائع البُرّ: "بَرّارٌ"، ولا لصاحب الفاكِهة: "فَكّاهٌ"، ولا لصاحب الشعِير: "شَعّار"، ولا لبائع الدَّقِيق: "دَقّاقٌ"، وإنّما يُقال: "دَقِيقيّ"، وقد قيل: "دَقّاقٌ". ومثل ذلك "الكِسائيُّ" نسبٌ على قياس النسب، والفَرّاء على قياس "البَزّاز" و"العَطّار". ¬
شَرحُ المفَصَّل للزمَخشَريّ تأليف موفّق الدّين أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش الموصلي المتوفيّ سنة 643هـ قدم له ووضع هوامشه وفهارسه الدكتور إميل بَديع يعقوب الجزء الرابع منشورات محمد علي بيضون لنشر كتب السنة والجماعة دار الكتب العلمية بيروت- لبنان
جميع الحقوق محفوظة جميع حقوق الملكية الأدبية والفنية محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت -لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملا أو مجزأ أو تسجيله علي أشرطة كاسيت أو إدخاله علي الكمبيوتر أو برمجته علي اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطيا. الطبعة الأولي 1422 هـ - 2001 م دار الكتب العلمية بيروت - لبنان رمل الظريف. شارع البحتري, بناية ملكارت هاتف وفاكس: 364398 - 366135 - 378542 (9611) صندوق بريد: 9424 - 11 بيروت - لبنان
أسماء العدد
بسم الله الرحمن الرحيم ومن أصناف الاسم أسماء العدد فصل قال صاحب الكتاب: هذه الأسماء أصولها اثنتا عشرة كلمة, وهي الواحد إلى العشرة، والمائة إلى الألف، وما عداها من أسامي العدد فمتشعب منها, وعامتها تشفع بأسماء المعدودات؛ لتدل على الأجناس ومقاديرها كقولك ثلاثة أبواب، وعشرة دراهم، وأحد عشر ديناراً، وعشرون رجلاً، ومائة درهم، وألف ثوب، ما خلا الواحد والاثنين؛ فإنك لا تقول فيهما واحد رجال ولا اثنا دراهم بل تلفظ باسم الجنس مفرداً وبه مثنى كقولك رجل ورجلان، فتحصل لك الدلالتان معاً بلفظة واحدة. وقد عمل على القياس المرفوض من قال [من الرجز]: ظرف عجوز فيه ثنتا حنظل (¬1) * * * قال الشارح: اعلم أنّ العَدَد مصدرُ عددتُ الشيء أعُدُّه عَدًّا إذا أحصيتَه، والعددُ الاسمُ، وأسماؤه اثنا عشرَ اسمًا كما ذكَر: الواحدُ فما فَوْقَه إلى التسعة، والعشرةُ، والمائةُ، والألفُ؛ لأنّ كلّ مَرْتبة فيها تسعةُ عقود، فالآحادُ تسعةُ عقود، والعشراتُ تسعة عقود، والمئات تسعة عقود، والألُوفُ متشعّبةٌ منها، أي: مأخوذة من المراتب الثلاثة، فهي آحادُ أُلوفٍ، وعشراتُ أُلوف، ومئاتُ أُلوف، وأُلوف ألوف إلى ما لا نهايةَ له. فأمّا قوله: "الواحد"، فاسمٌ واقع في الكلام على ضربَيْن: أحدهما أن يكون اسمًا عَلَما على هذا المقدار، كما أنّ سائر أسماء العدد كذلك، ولا يجرى وصفًا على ما قبله جَرْيَ الصفة المشتقة، وإنما حكمُه إذا قلت: "مررت برجالٍ ثلاثةٍ أو أربعةٍ" ونحوهما من أسماء العدد، حكمُ أسماء الأجناس من نحوِ: "مررت بقاعٍ عَرْفَج كلُّه"، أي: خَشِنِ، وكذلك "مررت برجالٍ ثلاثةِ"، أي: معدودةٍ، و"بثَوْبٍ خَمْسِين ذِراعًا"، أي: طويل. وأمّا الثاني، وهو ما كان وصفًا؛ فهو أن يكون مأخوذًا من الوَحْدَة، ويجري وصفًا ¬
صريحًا، نحوَ: "مررت برجل واحد". قال الله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬1) وإذا جرى على مؤنّثٍ، أُنّث، نحوَ: "مررت بامرأة واحدة". قال الله تعالى: {إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} (¬2). وقد استعملوا "أحدًا" بمعنَى "واحد" الذي هو اسمٌ. قالوا: "أحدٌ وعشرون"، و"أحَدَ عَشَرَ" بمعنَى "واحد وعشرين"، و"واحد وعشرة". وألِفُ "أحد" هنا بدلٌ من واو، لأنّه من الوحدة، والأصلُ: "وَحَدٌ". يُقال: "واحدٌ"، و"أحَدٌ"، و"وَحَدٌ" بمعنى واحدٍ. ومنه قول النابغة [من البسيط]: 848 - كأنّ رَحْلِي وقد زالَ النَّهارُ بنا ... بذِي الجَلِيلِ على مُسْتَأنِسٍ وَحَدِ وقد انّثوا "أحدًا" على غير بنائه، قالوا: "إحْدَى"، ولا يستعملونه إلَّا مضمومًا إلى غيره، قال أبو عمرو: ولا تقول: "جاءني إحدى"، ولا "رأيت إحدى". وليست "أحدٌ" هذه التي في النفي من نحو "ما جاءني أحدٌ"؛ لأن معنى تلك العمومُ والكثرةُ بمعنى عَرِيبٍ ودَيّارِ، ولذلك لا تُستعمل في الواجب، وهمزتُها أصلٌ، ولا تُثنَّى، ولا تُجمع، لأن معناها يدلّ على الكثرة، فاستُغني به عن التثنية والجمع بخلاف "أحد" التي في العدد، فإنّها تجمع على "آحادٍ". وأمّا "حاديَ" من قولهم: "حادِيَ عَشَرَ"، و"حادِي عشرين"، فكأنّه مقلوب من "واحد"، أخّروا الفاء إلى موضع اللام، وجعلوا الزيادة بعد العين, لأن الألف لا يمكن الابتداء بها، فصار وزنُ "حادي": "عالِف"، والقلبُ كثير في كلامهم من نحو: "شاكِي السِّلاحِ"، وأصله "شائِكٌ"؛ لأنه من الشَّوْكة شُبّه الحديد بالشَّوْك لخُشونته. ¬
فصل [حكم العدد من الواحد إلي العشرة في التذكير والتأنيث]
وأمّا "اثنان"، فمحذوفُ اللام كـ"ابنين" ولامه ياء؛ لأنّه من "ثَنَيْتُ" الشيء إذا عطفتَه، وصارت الهمزة في أوّله كالعوض من المحذوف، والمؤنّثُ "اثنتان"، ألحقوا التاء للتأنيث، كما قالوا: "ابنتان"، وإن شئت قلت: "ثِنْتَيْنِ"، كـ"بِنْتَيْنِ". فإذا عددت نوعًا من الأنواع، فلا بدّ أن تضمّ إلى اسم العدد ما يدل على نوع المعدود ليُفيد المقدار والنوعَ، لكنّهم قالوا في الواحد: "رجلٌ"، و"فرسٌ" ونحوهما فاجتمع فيه معرفةُ النوع والعدد. وكذلك إذا ثنّيت، قلت: "رجلان"، و"فرسان"، فقد اجتمع فيه العدد والنوع؛ لأن التثنية لا تكون إلَّا مع سلامة اللفظ بالواحد، فاستغنوا بدلالته على المراد عن أن يشْفعوه بغيره من أسماء الأجناس. فأمّا إذا قلت: "ثلاثةُ أفراس"؛ لم يجتمع في "ثلاثة" العددُ والنوعُ، فافتقر الحال إلى أن يُضَمّ إليه ما يدلّ على نوع المعدود، ويكون تفسيرًا له. وذلك على ضربَيْن: منه ما يُفسَّر بالنكرة المنصوبة، نحو: "أحدَ عَشَرَ درهمًا، وعشْرون دينارًا"، وقد تقدّم شرحُه في باب التمييز. ومنه ما يُفسَّر بالإضافة، وهو ما كان فيه تنوينٌ, لأنّ التنوين، لمّا كان ضعيفًا لسكونه، جاز أن يُعاقِبه المضافُ إليه، وذلك من الثلاثة إلى العشرة، نحو: "ثلاثة أثْوابٍ"، و"أربعةُ غِلْمانٍ"، و"خمسةُ أرْغِفَةٍ"، ومن ذلك "مائةُ درهمٍ"، و"ألفُ دينارٍ". وكان قياسُ الواحد والاثنين أن يضاف كلّ واحد منهما إلى ما بعده من الأنواع المعدودة، فيقال: "واحدُ رجالٍ"، و"اثنا رجالٍ"، لكن لمّا أمكن أن يُذكَر النوع باسمه، فيجتمع فيه الأمران، وكان التثنية كالواحد، إذ كانت لضرب واحد؛ أمكن فيها ذلك أيضًا فقيل فيها: "رجلان" و"غُلامان"، ولم يَسُغ ذلك في الجمع, لأنّه غيرُ محصور، ولا موقوف على عدّة معينة، فلو أراد مُريدٌ في التثنية ما يريده في الجمع، لجاز ذلك في الشعر, لأنه كان الأصل, لأنّ التثنية جمعٌ من حيث هو ضمُّ شيء إلى شيء مثله. قال الشاعر [من الرجز]: كأنّ خُصْيَيْه من التَّدَلْدُل ... ظَرْفُ عَجُوزٍ فيه ثِنْتَا حَنْظَلِ (¬1) فجاء به على أصل القياس ضرورةَ، وكان قياسُ ما عليه الاستعمالُ: "حَنْظَلَتانِ"، فاعرفه. فصل [حكم العدد من الواحد إلي العشرة في التذكير والتأنيث] قال صاحب الكتاب: وقد سُلك سبيل قياس التذكير والتأنيث في الواحد والاثنين, فقيل: واحدة, واثنتان, وخولف عنه في الثلاثة إلى العشرة, فأُلحقت التاء بالمذكّر, وطُرحت عن المؤنث، فقيل ثمانية رجال وثماني نسوة وعشرة رجال وعشر نسوة. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن عدد المؤنّث من ثلاثة إلى عشرة بغير هاء، كقولك: "ثلاثُ نِسْوةٍ"، و"أربعُ جوارٍ"، و"عشرُ لَيالٍ"، وعددَ المذكّر بالهاء، نحو: "خمسة أبياتٍ"، و"سبعة دراهم"، و"عشرة دنانيرَ". وهذا عكس القاعدة؛ لأنّ القاعدة إثباتُ العلامة مع المؤنّث، وحذفُها مع المذكّر. وإنما كان الأمر في العدد على ما ذكر للفرق بين المذكّر والمؤنّث. وإنّما اختصّ المذكّرُ بالتاء؛ لأنّ أصل العدد قبل تعليقه على معدوده أن يكون مؤنّثًا بالتاء من نحو "ثلاثة"، و"أربعة"، ونحوهما من أسماء العدد، فإذا أردت تعليقَه على معدود هو أصلٌ وفرعٌ؛ جُعل الأصل للأصل، فأُثبتت العلامة؛ والفرعُ للفرع، فأُسقطت العلامة. فمن أجلِ هذا قلت: "ثلاثة رجالٍ"، وأربع نسوةٍ. قال الله تعالى: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} (¬1)، وقال: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً} (¬2)، وقال: {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} (¬3)، وقال الله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ} (¬4). والاعتبار في التذكير والتأنيث بالواحد، فإذا أضيف إلى ما واحده مذكّر، ألحق فيه الهاء، نحو: "ثمانية أيّام"؛ لأنّ الواحد "يَوْمٌ"، وهو مذكّرٌ، وإن أضيف إلى ما واحده مؤنّث، أسقط منه الهاء، نحو: "ثماني حِجَجٍ" لأن الواحد "حِجَّةٌ"، وهو مؤنّث، وقيل: لمّا أريد الفرق بين المذكّر والمؤنّث، وكان المذكّر أخفّ من المؤنّث، أسقطوا الهاء من المؤنّث لِيعتدِلا. وإنّما كان أصل العدد التأنيث للمبالغة بالإشعار بقوّة التضعيف، وذلك لأنّه لا شيء فيه من قوّة التضعيف ما في العدد فيما يظهر للعقل، فأُشعر بالعلامة أنّ له المنزلة هذه، وجرت علامةُ التأنيث في العدد مجراها في مثل "علّامةٍ"، و"نسّابةٍ"، للإشعار بقوّة المبالغة في الصفة، وتضاعُفِها في المعنى. وقيل: إنّما كان أصل العدد التأنيث من قِبَل أن كلّ اسم لا يخلو مسمّاه من أن يكون عاقلًا أو غير عاقل، ومسمَّى قولنا: "ثلاثة"، و"أربعة" ونحوهما من الأعداد إنّما هو شيءٌ في الذِّهْن مجهولٌ، فصار بمنزلةِ ما لا يعقل، والإخبارُ عن جماعةِ ما لا يعقل كالإخبار عن المؤنّث المفرد، فلذلك أُنّث. وأمّا "واحد" و"اثنان"، فقد اعتُمد فيهما قاعدةُ القياس، فأُلحقتا علامة التأنيث إذا وقعتا على مؤنّث، وأُسقطت مع المذكّر، فتقول: "واحد" في المذكّر، و"واحدة" في المؤنّث، و"اثنان" في المذكر، و"اثنتان" في المؤنّث، وإن شئت: "ثِنْتان". فمن قال: "اثنتان"، كانت التاء فيه للتأنيث بمنزلة "ابْنتان". ومن قال: "ثِنْتان"، كانت التاء فيه للإلحاق، كأنّه تثنيةُ "ثِنْت"، ملحقٌ بـ"جِذْعٍ"، فهو كـ"بنتين". وإنّما كان كذلك؛ لأنّه ¬
فصل [حكم مميز العدد]
ليس أصلهما التأنيث، كما كان في "ثلاثة" و"أربعة"، وذلك لأنّه لم يوجد فيهما من قوّة التضعيف ما وُجد في سائر الأعداد، فيحتاج إلى علامة تدل على قوّة التضعيف والمبالغة فيه، فاعرفه. فصل [حكم مميز العدد] قال صاحب الكتاب: والمميز على ضربين: مجرور ومنصوب, فالمجرور على ضربين: مفرد ومجموع, فالمفرد مميز المائة والألف، والمجموع مميز الثلاثة إلى العشرة, والمنصوب مميز أحد عشر إلى تسعة وتسعين, ولا يكون إلا مفرداً. * * * قال الشارح: تفسير العدد على ضربين: منه ما يفسَّر بالإضافة، ومنه ما يفسّر بنكرة منصوبة، فالذي يستحق التفسيرَ بالإضافة هو ما فيه تنوينٌ, لأن التنوين ضعيف لسكونه، فجاز أن يُعاقِبه المضافُ إليه. والمضاف إليه على ضربين: مفردٌ ومجموعٌ، فما كان لأدنى العدد، أضيف إلى ما بُني لجمع أدنى العدد، وأدنى العدد من "الثلاثة" إلى "العشرة"، وأدنى المجموع "أَفْعَالٌ"، و"أَفْعُلُ"، و"أَفْعِلَةُ"، و"فِعْلَةُ" والجمعُ السالم المذكّر والمؤنّث، فتقول: "عندي ثلاثةُ أَجْمالٍ، وأربعة أَفْرُخٍ، وخمسة أَرْغِفَةٍ، وتسعة غِلْمَةٍ، وعشرة أَحْمَدِينَ، وست مسلماتٍ". فإن قيل: فكيف جازت الإضافة هنا، والأوّلُ هو الثاني، ألا ترى أنّك إذا قلت: "ثلاثة أكْلُبٍ"؛ فـ"الثلاثةُ" هي "الأكلبُ"، فيكون من قبيل إضافة الشيء إلى نفسه؟ فالجواب إنَّما جازت الإضافة هنا لأنّ الثاني ليس الأوّل من كلّ وجه, لأن الأول عددٌ، والثاني معدودٌ، والعدد غيرُ المعدود، كما أن الأجزاء غيرُ المُجَّزأ، فجازت الإضافة في مثل "ثلاثة أثواب" كما جازت في مثل "كُلِّ القوم". وأمّا الضرب الثاني، وهو ما يضاف إلى مفرد، فـ"المائة" تقول: "عندي مائة درهمٍ"، والقياس أن تضاف إلى جمع الكثرة، لانّها عددٌ كثيرٌ، غير أنّها شابهت "العشرةَ" التي حكمُها أن تضاف إلى جماعة، و"العشرين" التي حكمُها أن تُميَّز بواحد منكور، فأخذت من كلّ واحد منهما حُكْمًا بالشَّبَه، فأضيفت بشَبَه "العشرة"، وجُعل ما تضاف إليه واحدًا بشَبَه "العشرين", لأنّ ما تضاف إليه نوعٌ يُبيِّنها، كما يُبيِّن النوع المميِّزُ "العشرين". ووجهُ الشبه بينهما: أمّا شبهُها بـ"العشرة"، فلانّها عَقْدُ "العشرة"، كما أنّ "العشرة" عقد "الواحد", لأنّ "المائة" عشرُ مرّات "عشرةٍ"، كما أنّ "العشرة" عشرُ مرّات "واحدٍ". وأمّا شبهُها بـ"العشرين"، فلأنّها تلى "التسعين"، فكان حكمها حكم التسعين، كما
كان حكم عشرة حكم تسعة، لانّها تليها. ألا ترى أنّك تقول: "عشرة دراهمَ"، كما تقول: "تسعة دراهمَ"، فتضيف "العشرة" كما تضيف "التسعة" كذلك ينبغي في "المائة" أن يكون حكمها حكم "التسعين"، لأنّها تليها؛ إلَّا أنّه لما أخذ شَبَهًا من شيئَيْن، أُعْطِيَ حكمًا يتجاذبانه، فأضيف بحكم شبه "العشرة"، وفُسّر بالواحد بحكم شبه "التسعين"، فاجتمع فيه ما افترق في "العشرة" و"التسعين"، وهو أحسنُ ما يكونُ من التفريع على الأصول، ليُشْعَر الفرعُ بمعنى الأصل في البناءين جميعًا. فإن ثنّيت "المائة"، أضفت كإضافة "المائة"، فتقول: "مائتَا درهمٍ"، و"مائتا ثوبٍ"، فتحذف النون للإضافة إلى مميَّزها, لأنّ النون فيه عوضٌ من الحركة والتنوين اللذيْن كانا في الواحد، فحُذفت للإضافة كحذفها في "ضاربي زيدٍ"، بخلاف النون في نحو "عشرين" و"ثلاثين", لأنه ليس لها تمكّنُ هذه، لأنّها ليست عوضًا من الحركة والتنوين على الحقيقة، لأنّها أسماءٌ جارية على منهاج المجموع، وليست بجموع على الحقيقة، وقد تقدّم نحو ذلك. وكذلك "الألْفُ" يضاف إلى الواحد، فيقال: "ألفُ درهمٍ"، كما يقال: "مائة درهم". والعلّةُ في ذلك كالعلّة في "المائة"، وذلك لانّ "الألف" على غير قياسِ ما قبله، لأنّك لا تقول: "عشرُ مائة" كما قلت: "تسع مائةٍ"، بل تأتي بلفظ آخر مرتجَلٍ يدل على العقد، كما فعلت في "المائة" لمّا وضعتَ بعد التسعين لفظًا غيرَ مأخوذ ممّا قبله، وهو "المائة". و"الألفُ" مذكّرٌ يدل على ذلك قوله تعالى: {بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ} (¬1)، فإثباتُ التاء في العدد يدل على تذكيرها، كما قلت: "ثلاثة غِلْمانٍ". وأمّا ما يفسّر بنكرةٍ منصوبة، فبعدَ المركّبات، وذلك من "أحد عشر" إلى "تسعة عشر" وبعد "العشرين" إلى "التسعين"، نحو قولك: "عندي أحدَ عشرَ درهمًا، واثنَا عشرَ دينارًا، وعشرون عبدًا، وثلاثون جاريةً"، ونحو ذلك. فأما نصبُ الاسم بعد "أحد عشر"، و"خمسة عشر" إلى "تسعة عشر"؛ فلأنّه عددٌ فيه نيّةُ التنوين، إلَّا أنّه مبنيٌّ، فكان بناؤه مانعًا من ظهور التنوين، كمَنْع ما لا ينصرف، نحو قولك: "هؤلاء حَواجُّ بيتَ الله، وضواربُ زيدًا". فلمّا كان في نيّة منوَّن؛ امتنعت لذلك إضافتُه، ووجب نصبُ مميِّزه. فإن قيل: فهلا حُذف التنوين منه، وأضيف إلى ما بعده، نحو قولك: "هذا حضرموتُ زيدٍ، وبعلبك الأميرِ"، فالجواب أنّ إضافة "حضرموت" ونظائره ليست لازمة، ¬
إنّما تقع عند تنكيره، وإرادةِ تعريفه بالإضافة، وأمّا "أحدَ عشرَ" و"خمسةَ عشرَ" ونحوُهما من الأعداد المركبة، فإنّها مبهمةٌ لازمٌ لها التفسيرُ، فكانت تكون الإضافة لازمة، وكان يؤدي إلى جعل "ثلاثة أشياء" اسمًا واحدًا، وذلك ممّا لا نظيرَ له، فإن أضفته إلى مالكه، وقلت: "هذا أحدَ عشرك، وخمسةَ عشرك"، جاز؛ لأنّ الإضافة إلى المالك ليست لازمة كلزوم المميِّز، فكان كقولك: "هذا حضرموتُ زيدٍ"، فإذا أضفته، أبقيته علي بنائه؛ لأنّ العلّة الموجِبة باقيةٌ، ومنهم من يُعْرِبه، فيقول: "هذا خمسة عشرُك"، و"مررت بخمسة عشرِك"، و"رأيت خمسة عشرَك"، ويحتجّ بأنّ الإضافة تردّ الأشياء إلى أصولها، ومن يقول: "هذه خمسة عشرَك" فيضيف، لا يقول: "هذه اثنَا عشرَك" فيضيف, لأنّ "عشر" فيه قد قام مقام النون، والإضافةُ تَحْذِف النونَ، فلم يجز أن تُجامِع ما قام مقامَها، ولا يجوز حذفُ "عشر"، فيقالَ: "اثْناك"؛ لانّه يُلْبِس بإضافة "الاثنين"، فلا يُعلَم أمُركّبًا أضفتَ، أم مفردًا. فإن قيل: فلِم كان المفسِّر واحدًا منكورًا، وهلّا كان جمعًا، فيقال: "عندي خمسةَ عشرَ غلمانًا"، كما تقول: "هو أَفْرَهُ الناس عبدًا"، وإن شئت: "عبيدًا"؟ قيل: الفرق بينهما أنّك إذا قلت: "زيدٌ أفره الناس عبدًا"، فإنّما تعني عبدًا واحدًا، وإذا قلت: "عبيدًا"، فإنّما تعني جماعة، فلولا جمعُ المفسِّر؛ لمَا عُرف مرادك. ومنه قوله تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا} (¬1)، جمع المميِّز للإيذان بأنّ خُسْرانهم إنّما كان من جهات شتّى لا من جهة واحدة. وأمّا إذا قلت: "عندي خمسة عشرَ عبدًا"، فالعدّة معلومة من العدد، ولم يبق إلا بيانُ الجنس، فأغني فيه الواحدُ عن الجمع. وإنما كان نكرةً لأنّه أخفُّ، وبه يحصل الغرضُ، فلم يُعدَل عنه إلى ما هو أثقلُ منه. وكذلك "العشرون"، و"الثلاثون" إلى "التسعين"، فإنّه يُفسَّر بالواحد المنكور، نحو قولك: "عندي عشرون درهمًا، وثلاثون عمامةً" لِما ذكرناه في المركّبات، نحو: "أحدَ عشرَ"، وهاهنا أوْلى لوقوعه بعد النون. ولعدم تمكُّنه، لم يجز حذفُ نونه وإضافتُه إلى الجنس المميز، فلم يقولوا: "عِشْرُو درهمٍ"، كما قالوا: "ضاربون زيدًا"، و"ضاربو زيدٍ"، وفي الصفة المشبَّهة، نحو: "حسنون وجوهًا"، و"حسنو وجوهٍ"؛ لأنّ "العشرين" وأخواتها لم تقو قوَّةَ اسم الفاعل ولا الصفةِ، فأُلْزِمت طريقةً واحدةً، وتُحذَف إذا أضيف إلى المالك، نحو قولك: "عِشْرُو زيدٍ"، فلذلك لم يكن التفسيرُ إلا واحدًا, لأن الواحد دالٌّ على نوعه، فإن قلت: "عندي عشرون رجالًا"؛ كنت قد أخبرت أنّ عندك عشرين، كلُّ واحد منهم جماعةُ رجالٍ، كما قالوا: "جِمالانِ"، و"إبلانِ"، فاعرفه. ¬
فصل [ما شذ عن الحكم السابق]
فصل [ما شذَّ عن الحكم السابق] قال صاحب الكتاب: ومما شذ عن ذلك قولهم: "ثلاثمائة" إلى "تسعمائة"، اجتزؤوا بلفظ الواحد عن الجمع كقوله [من الوافر]: كلوا في بعض بطنكم تعفوا ... فإن زمانكم زمن خميص (¬1) وقد رجع إلى القياس من قال [من الطويل]: 849 - ثلاث مئين للملوك وفي بها ... ردائي وجلت عن وجوه الأهاتم وقد قالوا: "ثلاثة أثواباً": وأنشد صاحب الكتاب [من الوافر]: 850 - إذا عاش الفتى مئتين عاماً ... فقد ذهب اللذاذة والفتاء ¬
وقوله عز من قائل: {ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} (¬1) على البدل، وكذلك قوله عز وجل: {اثنتي عشرة أسباطاً} (¬2). قال أبو إسحاق: ولو انتصب "سنين" على التمييز؛ لوجب أن يكونوا قد لبثوا تسعمائة سنة. * * * قال الشارح: القياس في "ثلاثمائَةٍ"، و"أربعمائة" إلى "تسعمائة" أن تُجمَع "المائة"، فيقال: "ثلاثُ مِئِينَ"، أو"ثلاثُ مئاتِ", لأنّ العدد من "الثلاثة" إلى "العشرة" يضاف إلى الجمع، نحو: "ثلاثة أقْفِزَةٍ، وأربعة دراهم". وقولُه: "وممّا شذّ عن ذلك قولهم: ثلاثمائة" يريد أنَّه شذّ عن القياس، وأمّا من جهة الاستعمال، فكثيرٌ مطّردٌ. قال سيبويه (¬3): شبّهوه بـ"عشرين"، و"أحدَ عشرَ"، يريد أنّهم يبيّنونه بواحد كما بيّنوا "عشرين"، و"أحد عشر" بواحد لِما بينهما من المشابهة والمناسبة، وذلك أنّك إذا قلت: "ثلاثين"، و"أربعين" إلى "التسعين"؛ صرت إلى عَقْدٍ ليس لفظُه من لفظ قبله، فكذلك "ثلاثمائة"، و"سبعمائة" إذا جاوزت "تسعمائة"، صرت إلى عقد يخالف لفظه لفظ ما قبله، وهو قولك: "ألْفٌ"، فلا تقول: "عشر مائة"، فأشبهت "ثلاثمائة" "العشرين"، فبُيّنت بالواحد، وأشبهت "الثلاثَ" في الآحاد، فجُعل بيانها بالإضافة. ويدل على صحةِ هذا أنّهم يقولون: "ثلاثة آلافِ درهمٍ"، فيضيفون "الثلاث" إلى الجمع؛ لأنّهم يقولون: "عشرة آلافٍ"، فلمّا كان "عشرةٌ" على منهاج "ثلاثة"، أجروه مجرى "ثلاثةِ أثواب"؛ لأنّك تقول: "عشرة أثواب". قال سيبويه (¬4): وليس بمستنكر في كلامهم أن يكون اللفظ واحدًا، والمعنى جمعًا. وهذا إنّما يكون عند عدم اللبس. وعليه قوله، أنشده سبيويه [من الوافر]: كُلُوا في بعضِ بَطْنكم ... إلخ ¬
والشاهد فيه وضع "البطن" موضعَ "البطون"، لأنّه اسمُ جنس ينوب واحدُه عن جمعه، فأفرد اجتزاءً بلفظ الواحد عن الجمع؛ لأنّه لمّا أضاف "البطن" إلى ضمير الجماعة؛ عُلم أنّه أراد الجمعَ، إذ لا يكون للجماعة بطنٌ واحدٌ. يصف شدّة الزمان وكَلَبه، يقول: "كلوا في بعض بطونكم"، أي: لا تلمؤوها حتى تعتادوا ذلك، وتَعِفُّوا عن كثرة الأكل، وتقنعوا باليسير، فإنّ الزمان ذو مَخمَصةٍ وجَدْبٍ. وقوله: "زمانكم زمنٌ خميص" كقولهم: "نهارُه صائمٌ، وليلُه قائم". فكما اجتزؤوا بالواحد عن الجمع، كذلك إذا قلت: "عشرون درهمًا" ونحوه من الأعداد المفسَّرة بالواحد، قد عُلم من العدد الجماعة، فجاز أن يُستغنى بلفظ الواحد في التفسير عن الجمع. ومثله قوله [من الرجز]: 851 - لا تُنْكِرُوا القَتْلَ وقد سُبِينَا ... في حَلْقِكم عَظْمٌ وقد شَجِينَا أفرد "الحلق"، والمراد: حلوقكم؛ لأمْن اللبس. فأمّا قوله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} (¬1)، وقوله تعالى: {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} (¬2)، فإنّما أفرد لأنّهما أُخرجا مخرج التمييز. وقد جاء في الشعر على القياس، فقالوا: "ثلاثُ مِئِينَ"، و"ثلاثُ مئاتٍ"؛ لأنّ الشُعراء يُفْسَح لهم في مُراجعة الأصول المرفوضة. قال الشاعر [من الطويل]: ثلاث مِئِين للملوك ... إلخ ¬
وقال الآخر [من الطويل]: 852 - ثلاثُ مِئِينَ قد مَرَرْنَ كَوامِلًا ... وهَا أَنَا هذا أَشْتَهِي مَرَّ أَرْبَعِ وهذا- وإن كان القياسَ- إلَّا أنّه شاذ في الاستعمال، وقد يجوز قطعُه عن الإضافة وتنوينُه، ويجوز حينئذ في التفسير وجهان: أحدهما الإتباع على البدل، نحو: "ثلاثةٌ أثوابٌ"، والنصبُ على التمييز، نحو: "ثلاثةٌ أثوابًا". وهو من قبيل ضرورة الشعر. فأمّا قوله [من الوافر]: إذا عاش الفتى مائتَيْن عامًا ... إلخ فالشاهد فيه إثباتُ النون في "مائتين" ضرورةً، ونصبُ ما بعدها على التمييز، وهو "عام"، شبّهه بـ"عشرين"، و"ثلاثين"، وكان الوجه حذفَها، وخفضَ ما بعدها، والبيت للرَّبيع بن ضبع الفَزاريّ، والمعنى أنّه يصف هَرَمَه وذَهابَ لَذّاته، وكان نَيَّفَ على المائتين، ويروى: "تسعين عامًا"، فعلى هذا لا يكون فيه شاهدٌ. ومثله قوله [من الرجز]: 853 - أَنْعَتُ عَيْرًا من حَمِيرِ خَنْزَرَهْ ... في كلّ عَيْرٍ مائتانِ كَمَرَهْ ¬
فصل [حكم مميز العشرة فما دونها]
لمّا أثبت النونَ، نصب "كمرةً" على التمييز. وأمّا قوله تعالى: {ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ} (¬1)، فإن "سنين" نصبٌ على البدل من "ثلاثمائة"، وليس بتمييز، وكذلك قوله: {اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا} (¬2) نصب "أسباطًا" على البدل، هذا رأيُ أبي إسحاق الزجّاج، قال: ولا يجوز أن يكون تمييزًا؛ لأنّه لو كان تمييزًا، لوجب أن يكون أقلُّ ما لبثوا تسعمائة سنةٍ؛ لأنّ المفسِّر يكون لكلّ واحد من العدد، وكلُّ واحد "سنون"، وهو جمع، والجمعُ أقلُّ ما يكون ثلاثةٌ، فيكونون قد لبثوا تسعمائة سنة. وأجاز الفرّاء أن يكون "سنين" تمييزًا على حدّ قوله [من الكامل]: فيها اثنتان وأَرْبَعون حَلُوبَةً ... سُودًا كخافِيَةِ الغُرابِ الأَسْحَمِ (¬3) وذلك أنّه جاء في التمييز "سُودًا"، وهو جمع؛ لأنّ الصفة والموصوف شيء واحد. والمذهبِ الأوّل؛ لأنّ الثواني يجوز فيها ما لا يجوز في الأوائل، ألا ترى أنّك تقول: "يا زيدُ الطويلُ"، ولو قلت: "يا الطويل"، لم يجز، فاعرفه. فصل [حكم مُمَيِّز العشرة فما دونها] قال صاحب الكتاب: وحق مميز العشرة فما دونها أن يكون جمع قلة, ليطابق عدد القلة، تقول: "ثلاثة أفلس"، و"خمسة أثواب"، و"ثمانية أجربة"، و"عشرة غلمة", إلا عند إعواز جمع القلة كقولهم: "ثلاثة شسوع"، لفقد السماع في أشسع وأشساع, وقد روي عن الأخفش أنه أثبت أشسعاً. وقد يستعار جمع الكثرة في موضع جمع القلة, كقوله تعالي: {ثلاثة قروء} (¬4). * * * قال الشارح: قد تقدّم أن "العشرة" فما دونها جمعُ قلّة، فوجب أن تضاف إلى بناء من أبنية القلّة، وذلك من قبل أن العدد عددان: قليلٌ وكثيرٌ، فالقليل "العشرة" فما دونها ¬
فصل [حكم الأعداد المركبة في البناء والإعراب]
إلى "الثلاثة". والجمعُ جمعان أيضًا: جمع قليل، وجمع كثير، فلمّا أريد "إضافةُ أدنى العدد إلى نوع المعدود تبيينًا له؛ أضيف إلى الجمع القليل ليُشاكِله، ويطابق معناه في العدد؛ لأنّ التفسير يكون على حسب المفسر. فإن لم يكن له بناء قلّة، أضيف إلى بناء الكثير ضرورةً، فتقول: "عندي ثلاثةُ كُتُب، وخمسة شُسُوعٍ"، و"رأيت عشرةَ مَساجِدَ"؛ لأنّه لم يُسمَع "أَكْتِبَةٌ"، ولا "أَشْساعٌ". فأمّا ما حكاه عن أبي الحسن من "أَشْسُع"، فهو شاذّ قياسًا واستعمالًا؛ فأمّا الاستعمال فما أَقَلَّهُ! وأمّا القياس، فإنّ الباب في "فِعْلٍ" بكسر الفاء، أن يجمع على "أَفْعالٍ"، نحو: "عِدْلٍ"، و"أَعْدالٍ"، فمجيئُه على "أَفْعُلَ" على خلاف القياس، فلمّا لم يكن له بناء قلّة، أضافوه إلى الكثير، وكان هذا من المواضع التي قد اتُّسع فيها، فاستُغني ببناء الكثير. وإذا جاز أن يُستغنى بلفظ الجمع القليل عن الكثير، نحو قولهم: "رَسَنٌ"، و"أَرْسانٌ"، ولم يقولوا: "رُسُونٌ"، و"قَلَمٌ"، و"أَقْلامٌ"، ولم يقولوا: "قُلُومٌ"؛ فأَحْرَى وأَوْلَى أن يستغنى بجمع الكثير عن القليل, لأنه داخل في معناه. فعلى هذا لا تقول: "عندي ثلاثةُ كِلابٍ"؛ لأنّ له بناء قلّة، وهو "أَكْلُبٌ"، إلَّا في ضرورة الشعر. قال الخليل: شبّهوه بـ"ثلاثة قُرُوءٍ"، يريد بذلك أنّهم شبّهوا ما يُستعمل فيه القليل بما لايستعمل فيه القليل. واعلم أنّك إذا قلت: "ثلاثة كِلابٍ"، كان على غير وجه "ثلاثة أَكْلُبٍ"، وذلك أنّك إذا أضفته إلى بناء من أبنية القلّة، كان عَلى إضافته من المميِّز على حد "مائة دينارٍ"، وإذا أضفته إلى الكثير، كان على حدّ إضافة البعض إلى الجنس على ما تقدّم من نحو: "ثوبُ خَزِّ"، و"بابُ ساج"، فالمراد بـ "ثلاثة كلاب" ثلاثةٌ من الكلاب، كما أنّ المراد: ثوبٌ من خزّ، وبابٌ من ساج، فأمّا قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} (¬1) فمّما استُعير فيه جمعُ الكثرة لجمع القلّة، وذلك لاشتراكهما في الجمعيّة، ولعل "القُرُوء" كانت أكثرَ استعمالًا في جمع "القُرْء" من "الأَقراء"، فأُوثر عليه، كأنّهم نزّلوا ما قلّ استعمالُه منزلةَ المُهْمَل، فيكون مثل "شُسوع". فصل [حكم الأعداد المركَّبة في البناء والإعراب] قال صاحب الكتاب: وأحد عشر إلى تسعة عشر مبني، إلا "اثني عشر". وحكم آخر شطريه حكم نون التثنية، ولذلك لا يضاف إضافة أخواته, فلا يقال: "هذه اثنا عشرك", كما قيل: "هذه أحد عشرك". * * * ¬
فصل [حكم الأعداد المركبة التي للمؤنث, وحركة شين "عشرة"]
قال الشارَح: قد تقدّم الكلام في بناء ما رُكّب من الأعداد من "أحدَ عشرَ" إلى "تسعةَ عشرَ" في المبنيّات، وذلك لتضمُّنه معنى واو العطف، إذ الأصل: أحدٌ وعشرةٌ، فحُذفت الواو، وجعل الاسمان اسمًا واحدًا اختصارًا، ما خلا "اثنَا عشرَ"، فإنّ الاسم الأول معربٌ؛ لأن الاسم الثاني حلّ منه محلَّ النون، فجرى التغييرُ على الألف مع الاسم الذي بُني معه، كما جرى التغيير عليها مع النون، ويكون ذلك الاسمُ على حاله، كما كانت النون على حالها، وليست النون محذوفة على جهة الإضافة، ويدلّ على أنّه غير مضاف أن الحكم المنسوب إلى المضاف غير منسوب إلى المضاف إليه، ألا ترى أنّك إذا قلت: "قبضتُ درهمَ زيدٍ"، كان القبضُ واقعًا بالدرهم دون زيد، وإذا قلت: "قبضت اثنَيْ عشرَ درهمًا"؛ فالقبضُ واقع بالاثنين والعشرة معًا. والذي يدلّ أن العشرة واقعةٌ موقع النون أنّك لا تضيفه إلى المالك على حدّ إضافة "خمسةَ عشرَ" وأخواته، فلا تقول: "اثنَيْ عشرَك" كما تقول: "خمسة عشرَك" لأنّ "عشر"؛ قد قام مقامَ النون والإضافةُ بحذف النون، فلا يجوز أن يثبت معها ما قام مقامَ النون، ولو أسقطنا "عشر" للإضافة؛ لم يُعلَم أأضيفت إلى "اثنين"، أم إلى "اثني عشر"، فاعرفه. فصل [حكم الأعداد المركبة التي للمؤنث, وحركة شين "عشرة"] قال صاحب الكتاب: وتقول في تأنيث هذه المركبات: إحدى عشرة، واثتنا عشرة، أو ثنتا عشرة، وثلاث عشرة، وثماني عشرة، تثبت علامة التأنيث في أحد الشطرين؛ لتنزلهما منزلة شيء واحد، وتعرب الثنتين كما أعربت الاثنين. وشين العشرة، يسكنها أهل الحجاز ويكسرها بنو تميم وأكثر العرب على فتح الياء في ثماني عشرة، ومنهم من يسكنها. * * * قال الشارح: تأنيث المركّبات من العدد يجري على منهاج المفرد، فيثبت الهاء في "الثلاثة" و"الأربعة" إذا كان مركّبًا مع "العشرة" في المذكّر، فتقول: "ثلاثة عشرَ رجلاً"، و"أربعةَ عشرَ غلامًا". تُثبِت الهاء في النَّيِّف كما تثبتها إذا لم يكن نيّفًا، وتنزعها من "العشرة" كراهيةَ أن يجمعوا بين تأنيثَيْن من جنس واحد في كلمة واحدة، فإذا أردت المؤنّث، نزعتها من الاسم الأول وأثبتها في آخِر الاسم الثاني، فكان نزعُها من الاسم الأول دليلًا على الفصل بين المذكّر والمؤنّث، وتثبت التاء في الاسم الثاني بحكم الأصل، ولم يوجد ما يوجب حذفَها، فتثبت لذلك. فإن قيل: فلِمَ قلتم: إنّ نزع التاء من الاسم الأوّل علمُ التأنيث، وهلّا كان ثبوُتها
في الاسم الثاني هو الفارقَ بين المذكر والمؤنّث على القاعدة في كل مؤنّث؟ قيل: القاعدة في العدد من "الثلاثة" إلى "العشرة" قبلَ أن يصير نيّفًا ما ذكرناه، ولم يوجد ما يوجب العدول عنه. ويؤيّد ذلك أنّك تؤنّث الاسمْ الأوّل، فإذا كان نيّفًا مع المؤنّث فيما ليس أصله التأنيث، نحو: "إحْدَى عَشْرَةَ جاريةً"، و"اثْنتَا عَشْرَةَ عِمامةً"، و"ثِنْتَا عَشْرَةَ جُبَّةً"، فتأنيثُ الاسم الأوّل، إذا عُلّق على مؤنّث، دليلٌ على ما قلناه، لأنّه لم يكن فيه تاء، فتُحذَف إذا وقعت على مؤنّث، كما كان في "ثلاثة" و"أربعة". فإن قال قائل: فما بالُكم قلتم: "إحدى عشرة"، و"إحدى" مؤنّثةٌ و"عشرة" فيها تاء التأنيث، وكذلك "اثنتا عشرة"؟ فالجواب في ذلك أن تأنيث "إحدى" بالألف، وليس بالتأنيث الذي على جهة المذكّر، نحو: "قائم"، و"قائمة". وإذا كان كذلك، لم يمتنع دخول التاء عليها, لأنّ ألف التأنيث بمنزلة ما هو من نفس الحرف، ألا ترى أنّهم قالوا: "حُبْلَى"، و"حَبالَى"، فلم يُسْقِطوا الألف في التكسير كما أسقطوا التاء في "قَصْعَة"، و"قِصاع"، و"جَفْنَة"، و"جِفان". وقالوا: "حُبْلَياتٌ"، فلم يسقطوا ألف التأنيث لاجتماعها مع التاء كما حذفوها في "مسلماتٍ" لاجتماعها مع التاء، فلذلك يسقطونها مع "ثلاثة" من "العشرة"، ولا يسقطونها من "عشرة" مع "إحدى". وأمّا "اثنتان"، و"ثنتان"، فليس تأنيث "الاثنين"، ولكنه تأنيثٌ بُني الاسم عليه، فلا ينفرد له واحدٌ من لفظه، فالتاء فيه ثابتةٌ، وإن كان أصلها أن تكون فيما واحدُه بالهاء، ألا ترى أنّهم قالوا: "مِذْرَوانِ" (¬1) لا ينفرد له واحد، ولو كان ممّا ينفرد له واحد، لم يكن إلَّا "مِذْريَانِ"، وكذلك "عقلته بثِنايَيْن" (¬2)، ولو كان فيما ينفرد الواحد منه، لم يكن إلَّا "بثنائَيْن" بالهمزة. ووجهٌ "ثان" أنّ "اثنتين" في معنى "ثِنْتَيْن"، وليست التاء في "ثنتين" لمحض التأنيث، إنّما هي للإلحاق كتاء "بِنْتٍ"، فحُملت في الثبات على أختها. فأمّا، "عشرة" من "اثنتي عشرة"، ففي شينها لغتان: كسرُ الشين وإسكانُها، فبنو تميم يفتحون العين ويكسرون الشين، ويجعلونها بمنزلة "كَلِمَةٍ"، و"ثَفِنَةٍ"، وأهلُ الحجاز يسكنون الشين ويجعلونها بمنزلة "ضَرْبَةٍ". وهذا عكسُ ما عليه لغةُ أهل الحجاز وبني تميم؛ لأن أهل الحجاز في غير العدد يكسرون الثاني، وبنو تميم يسكّنون، فيقول الحجازيون: "نَبِقَةٌ"، و"ثَفِنَةٌ"، ويقول التميميون: "نَبْقَةٌ"، و"ثَفْنَةٌ" بالسكون، فلمّا رُكب الاسمان في العدد؛ استحال الوضعُ، فقال بنو تميم: "إحدى عَشِرَةَ، وثنتا عَشِرَةَ"، إلى "تسع عشرة"، وقال أهل الحجاز: "عَشْرة" بسكونها. وذلك أنّ العدد قد نُقضت في كثير منه العاداتُ، من ذلك قولهم في "الواحد": "وَاحِدٌ"، و"أَحَدٌ"، فلمّا صاروا منه إلى ¬
فصل [حكم العقود في التذكير والتأنيث]
العدد؛ قالوا: "إحدى عشرة"، فبنوه على "فِعْلَى". ومنه قولهم: "عَشْرٌ"، و"عَشَرَةٌ"، فلمّا صاغوا منه اسمًا للعدد بمنزلة "ثلاثين"، و"أربعين"؛ قالوا "عِشْرون" بكسر أوّله. ومنه اقتصارهم من "ثلاثمائة" إلى "تسعمائة" على أن أضافوه إلى الواحد، ولم يقولوا: "ثلاثمِئات"، ولا "أربعمِئِينَ" إلَّا شاذًّا. فإن قيل: فمن أين جاءت الكسرة في الشين حين قلت: "ثلاثَ عَشِرَةَ"؟ فالجواب إن "عشر" من قولك: "عَشْرُ نسوةٍ" مؤنّثةُ الصيغة، فلم يصحّ دخول الهاء عليها، فاختاروا لفظةً أخرى يصحّ دخول الهاء عليها، فقالوا: "عَشِرَة" بكسر الشين، فخفّف أهل الحجاز ذلك على ما قلناه، وقرأ الأَعْمَش {فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} (¬1)، ففتح الشينَ على الأصل، والقياسُ عليه الجماعة، وهو المسموع. فأمّا "ثماني عشرةَ" ففيها لغتان: فتح الياء، وهو الأكثر، وتسكينها. فمن فتحها، فإنّه أجراها مجرى أخواتها من نحو "ثلاثة عشرَ"، و"أربعةَ عشرَ": لأنّ العلّة واحدة، ومن أسكن، فإنّه شبّهها بالياء في "مَعْدِي كَرِبَ"، و"قَالِي قَلَا". فصل [حكم العقود في التذكير والتأنيث] قال صاحب الكتاب: ما لحق بآخره الواو والنون, نحو العشرين والثلاثين يستوي فيه المذكر والمؤنث وذلك على سبيل التغليب كقوله [من الطويل]: 854 - دعتني أخاها بعد ما كان بيننا ... من الأمر ما لا يفعل الأخوان * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن "عِشْرِينَ" وبابه من نحو "ثلاثين" و"أربعين" إلى "التسعين" ممّا هو بلفظ الجمع، يستوي فيه المذكّر والمؤنّث، كأنّهم غلّبوا جانب المذكّر لِما علق عليهما. وهذه قاعدة أنّه إذا اجتمع المذكّر والمؤنّث؛ غُلّب المذكّر؛ لأنه الأصل. فأمّا البيت الذي أنشده وهو [من الطويل]: دعتني أخاها ... إلخ وقبله: دَعَتْني أخاها أُمُّ عَمرٍو ولم أَكُنْ ... أخاها ولم أُرْضَعْ لها بلِبانِ أنشدهما أبو العبّاس المبرّد في "الكامل"، ولم يذكر قائلَهما، والشاهد فيه أنّه غلّب المذكّر، ألا ترى أنَّه عَبَّر عن نفسه وعنها بالأخوَيْن، ولم يقل: "الأُخْتان". يريد أنّ هذه المرأة سمّتْه أخًا بعد ما كان بينهما ما لا يكون بين الأخوَيْن، يريد ما يكون بين المُحِبَّيْن. وقال قوم: إنّما كسروا العين من "عِشْرين"؛ لأنّها لمّا كانت واقعة على المذكّر والمؤنّث، كسروا أوّلها للدلالة على التأنيث، وجمعوا بالواو والنون للدلالة على المذكّر، فيكون أخذُه من كلّ واحد منهما بتأثير. وهو ضعيف؛ لأنّه يلزم عليه أن يكسروا أوّل "الثلاثين"، و"الأربعين" إلى "التسعين" للدلالة على التأنيث. ويمكن أن يقال: إنّهم اكتفوا بالدلالة على "العشرين"، وكان في ذلك دلالة على غيره من "الثلاثين" و"التسعين"، فجرى على ما جرى عليه "العشرون"، فإذا وقع "العشرون" على المذكّر والمؤنّث، وظهر فيه الفرقُ، كان "الثلاثون" مثله، واكتُفي بعلامة التأنيث في "العشرين" عن علامته في الثلاثين. وقال قوم: إنّ "ثلاثاً" من "ثلاثين" هي "ثلاث" التي للمؤنث، ويكون الواو والنون لوقوعه على الذكّر، فيكون قد جمع لفظ التذكير والتأنيث، وأخذ من كلّ واحد بنصيبٍ. وقال قوم: إنّما كسروا الأول من "عشرين", لأنّهم قالوا في "ثلاث عشرات": "ثلاثون"، وفي "أربع عشرات": "أربعون"، فكأنّهم جعلوا "ثلاثين" عَشْرَ مرار "ثلاثة"، و"أربعين" عشر مرار "أربعة"، إلى "التسعين"، فاشتقّوا من الآحاد ما يكون لعشر مرار ذلك العدد، فكان قياس "العشرين" أن يقال: "اثْنُونَ"، و"اثْنِينَ" لعشر مرار "اثنَيْن"، فكنّا ننزع "اثْنِ" من "اثنين"، ونجمعه بالواو والنون، و"إثْنٌ" لا يُستعمل إلا مثنّى، فاشتقّوه من لفظ "العشرة"، وكسروا عينه إشعارًا بإرادة لفظ "اثنين" فاعرفه. ¬
فصل [حكم العدد في التعداد وغيره]
فصل [حكم العدد في التعداد وغيره] قال صاحب الكتاب: والعدد موضوع على الوقف، تقول واحد, اثنان, ثلاثة، لأن المعاني الموجبة للإعراب مفقودة, وكذلك أسماء حروف التهجي, وما شاكل ذلك, إذا عددت تعديداً, فإذا قلت هذا واحد ورأيت ثلاثة, فالإعراب كما تقول هذه كاف، وكتبت جيماً. * * * قال الشارح: اعلم أن أسماء العدد إذا عدّدتها؛ فإنّها تكون مبنيّة على الوقف؛ لأنها لم تقع موقع الأسماء، فتكونَ فاعلة ومفعولة ومبتدأةً؛ لأن الإعراب في أصله إنّما هو للفرق بين اسمين لكلّ واحد منهما معنى يخالف معنى الآخر، فلمّا لم تكن هذه الأسماء على الحدّ الذي يستوجب الإعرابَ، سُكِّنَتْ، وصارت بمنزلة صوت تصوته، نحو: "صَهْ"، و"مهْ" فتقول: "واحدْ، اثنانْ، ثلاثهْ، أربعهْ"، بالإسكان من غير إعراب. ويؤيّد ذلك عندك ما حكاه سيبويه من قول بعضهم: "ثَلاَثهَرْبَعهْ"، فيترك الهاء من "ثلاثة" بحالها غير مردودة إلى التاء، وإن كانت قد تحرّكت بفتحة همزةِ "أربعه" دلالة على أنّ وضعها أن تكون ساكنة في العدد، حتى إنّه لمّا ألقى عليها حركة الهمزة التي بعدها؛ أقرّها في اللفظ بحالها على ما كانت عليه قبل إلقاء الحركة عليها. ولو كانت كالأسماء المعربة؛ لوجب أن تردّها متى تحرّكت تاء، فتقول: "ثلاثتربعه"، كما تقول: "رأيت طلحة يا فتى". فإن أوقعتَها موقع الأسماء، أعربتها، وذلك نحو قولك: "تَفْضُل ثلاثةَ أربعةُ بواحد"، أعربتَها لأن "ثلاثة" هاهنا مفعولة، و"أربعة" فاعلة، وتقول: "ثمانيةُ ضعفُ أربعة" أعربتها لأنّها مبتدأ، ولم تصرف للتأنيث والتعريف. وكذلك حروف المُعْجَم إذا كانت حروفَ هِجاء غيرَ معطوفة، ولا واقعةٍ موقع الأسماء، فإنّها سواكنُ الأواخر في الدرج والوقف، وذلك قولك: ألفْ ب ت ث ج ح خ د ذ ر، وفي الزاي لغتان: منهم من يقول: "زاي" بياء بعد ألف كما تقول: واو، بواو بعد ألف، ومنهم من يقول: "زَيْ" بوزن "كَيْ"، و"أيْ"، وقد حُكي فيها "زاء" ممدودةً ومقصورةً. وكذلك سائرها تُبنَى أواخرها على الوقف, لأنّها أسماء الحروف الملفوظ بها في صِيَغ الكلم، فهي بمنزلة أسماء الأعداد، نحو: "ثلاثهْ"، و"أربعهْ"، و"خمسهْ"، فلا تجد لها رافعًا، ولا ناصبًا، ولا جارًّا؛ لأنّك لم تُحدِّث عنها، ولا جعلت لها حالةً تستحق الإعرابَ بها كما قلنا في العدد، فكانت كالحروف، نحو: "هَلْ"، و"بَلْ"، وغيرهما من الحروف فلم يجز لذلك تصريفُها، ولا اشتقاقها، ولا تثنيتها، ولا جمعُها، كما أن الحروف كذلك.
ويدلّ على أنّها بمنزلة "هل"، و"بل" أنك تجد فيها ما هو على حرفَيْن، الثاني منهما حرف مدّ ولين، وذلك نحو "بَا"، "تَا"، "ثَا"، "طَا"، "ظَا"، "فَا"، "هَا"، "يَا"، ولا تجد في الأسماء المعربة ما هو على حرفين الثاني منهما حرف مد ولين، إنّما ذلك في الحروف، نحو: "ما"، وَ"لا"، و"يا"، و"أوْ"، و"أيْ "، و"كَيْ"، فلا تزال هذه الحروف مبنيّة غيرَ معربة, لأنّها أصواتٌ بمنزلة "صَهْ"، و"مَهْ"، و"إيهِ"، حتى توقعها موقعَ الأسماء، فترفعها حينئذ، وتجزها وتنصبها كما تفعل ذلك بالأسماء، وذلك قولك: "أوّلُ الجيم جيمٌ، وآخِرُ الصاد دالٌ"، و"كتبتُ جيمًا حسنةً"، و"حفظتُ قافًا صحيحةً". وكذلك العطف؛ لأنّه نظير التثنية، فتقول: "ما هِجاءُ بَكْرٍ"، فيقول المجيب: "باءٌ، وكافٌ، وراءٌ"، فيعربها لأنّه قد عطف، فإن لم يعطف بناها، وقال: "بَا كافْ را". قال الشاعر [من الرجز]: 855 - كافًا ومِيمَيْنِ وسِينًا طاسِما وقال الآخر [من الطويل]: 856 - [أهاجتك آياتٌ أبان قديمُها] ... كما بُيِّنَتْ كافٌ تَلُوحُ ومِيمُها ¬
وقال يزيد بن الحَكَم يهجو النحويّين [من الوافر]: 857 - إذا اجتمعوا على ألفٍ وياءٍ ... وواوٍ هاجَ بَينَهُمُ جدالُ وإذا جعلت هذه الحروف أسماء، وأخبرت عنها، وعطفت بعضَها على بعض؛ أعربتها على ما ذكرنا، ومددت ما كان منها مقصورًا، وشدّدت الياء من "زَيّ" في قولِ من لا يُثبِت الألف، وذلك من قِبَل أنها إذا صُيّرت أسماءً، ونُقلت إلى مذهب الاسميّة؛ فلا بدّ من أن تُجْرَى مجراها، وتُعْطَى حكمهَا، فيجوز تصريفُها وتثنيتها وجمعها وتمثيلُها بالفاء والعين واللام، والقضاءُ على ألفاتها بأنّها غير أصل، إذ قد صارت إلى حكم ما ذلك واجب فيه، ولكونِ أنّه ليس في الأسماء المفردة التي يدخلها الإعراب اسمٌ عَلى حرفَيْن الثاني من حروف المدَّ واللين، زدتَ على ألفِ "ب، ت، ث" ألفًا أُخرى لتصير ثلاثيّةً، ثمّ تقلب الألف همزة لسكونها وسكون الألف الأولى كما تقلب في "كِساءٍ"، و"رِداءٍ" وزدت على ياءٍ "زي" ياءً أُخرى، وادّغمتها فيها، كما تفعل ذلك في الحروف إذا نقلتها إلى الاسميّة، نحوَ قول زُبَيْد [من الخفيف]: 858 - لَيْتَ شِعْرِي وأيْنَ مِنِّيَ لَيْتٌ ... إن لَيْتًا وإنّ لَوًّا عَناءُ ¬
ألا ترى أنّه ضعّف الواو في "لَوْ" لمّا جعلها اسمًا حيث أخبر عنها. ومثلُه قول الآخر [من الطويل]: 859 - أُلامُ على لَوٍّ ولو كنتُ عالمًا ... بأذْنابِ لَوٍّ لم تَفُتْني أوائِلُهْ فكذلك حروف المعجم؛ لأنّها في معناها، وإنّما لم يكن في الأسماء المعربة ما هو على حرفَيْن الثاني منهما حرف مد ولين, لأنّ التنوين إذا وُجد، حُذِفَ لالتقاء الساكنين، فيبقى الاسم الظاهر على حرف واحد، فلذلك يلزم أن تزيد على حرف المدّ مثله ليصير ثلاثيًا، فاعرفه. ¬
فصل [همزة "أحد" و"إحدي" واستعمالهما]
فصل [همزة "أحد" و"إحدي" واستعمالهما] قال صاحب الكتاب: والهمزة في "أحد", و"إحدى" منقلبة عن واو, ولا يُستعمل أحد وإحدى في الأعداد إلا في المنيفة. * * * قال الشارح: اعلم أن "أحدًا" كلمةٌ قد استُعملت على ضربَيْن: أحدهما أن يُراد بها العموم والكثرة، ولا تقع إلَّا في النفي وغير الإيجاب، نحوِ: "ما جاءني من أحدٍ"، و"لا أحدَ فيها"، ولا يُقال: "فيها أحدٌ". والذي يدلّ على وقوعه على الجمع قوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (¬1) فـ"حاجزين" نعتُ "أحد"، وجمعُ الصفة مُؤْذِنٌ بإرادة الجمع في الموصوف، وعلى هذا الهمزةُ في أوّله أصلٌ، وليست بدلًا من واو، ولا غيرِه، وذلك لأنّ اللفظ على الهمزة، ولم تقم دلالةٌ بما يخالف الظاهرَ واللفظَ. وأما الضرب الآخر من ضربَيْ "أحد" فأنْ يراد به معنى "واحدٍ" في العدد، نحوَ قولك: "أحدٌ وعشرون" والمراد: واحد وعشرون، والهمزة فيه بدلٌ من الفاء التي هي واوٌ، والأصل: وَحَدٌ يُقال: "وَحَدٌ"، و"أحَدٌ"، و"أحدٌ" بمعنى "وَاحدٍ" حكى ذلك ابن الأعرابيّ، وكذلك الهمزة في "إحْدَى" بدلٌ من الواو, لأنّها تأنيث الأحد، والهمزة في "أحد" بدلٌ من الواو، فكذلك هي في مؤنّثه, لأنّه من لفظه ومعناه. والهمزةُ تُبْدَل من الواو المفتوحة والمكسورة والمضمومة، وإبدالُها من المفتوحة قليل يؤخَذ سَماعًا، ومن المضمومة كثيرٌ قياسًا مطّردًا، وفي المكسورة خلافٌ، وسنوضِح ذلك في موضعه من هذا الكتاب. فإن قيل: ولِمَ كان المؤنّث بالألف، ولم يكن بالتاء كأخواته من "ثلاثة" و"أربعة" وشِبْههما؟ فالجواب أنّ "أحدًا" اسمٌ استُعمل على ضربَيْن: وصف، واسمٌ للعدد غيرُ وصف. فأمّا الصفة، فجاريةٌ على الفعل على نحو "قائم"، و"قاعدٍ"، وتتبع الموصوفَ، وتُذكَّر وتُؤنَّث، نحوَ: "مررت برجل واحد"، و {إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬2). وتقول في المؤنّث: "مررت بامرأة واحدة"، وقال الله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} (¬3)، فهذا وصف جارٍ على الفعل ويعمل عَمَلَه من نحوِ "مررت برجلٍ واحدٍ درهمُه"، ويثنى ويجمع كما تفعل سائرُ الصفات. قال الشاعر [من الوافر]: 860 - فقدْ رَجَعُوا كَحَيٍّ واحِدِينَا ¬
فأمّا الضرب الثاني الذي هو اسمٌ، فقولهم في العدد: "واحد، اثنان" فـ"واحد" ههنا غير صفة، وإنّما قلت ذلك لأمُور؛ منها: أنّه لو كان صفة؛ لَوجب أن يكون له موصوفٌ، ولا موصوف، ومنها أنّهم قد كسّروه على "أُحْدان" من نحو قول الهُذَليّ [من البسيط]: 861 - [يحمي الصَّريمةَ] أُحْدان الرجال [له ... صَيْدٌ ومُسْتَمِعٌ باللَّيلِ هَجّاسُ] وهذا الضرب من التكسير في "فاعلٍ" إذا كان اسمًا دون الصفة، نحوَ قولك: "حاجِرٌ"، و"حُجْران"، و"غالٍّ"، و"غُلّانٍ". فأمّا قولهم: "راعٍ"، و"رُعْيانٌ"، و"صاحِبٌ"، و"صُحْبانٌ"، فإنّما كُسّر على ذلك؛ لاستعمالهما استعماَلَ الأسماء، ولم يُذكَر معهما موصوفٌ. فإن قيل: وقد قيل: "مررت برجل واحد، وبقوم ثلاثةٍ"، فتصف بالعدد، وتُجْرِي إعرابَه على الاسم الذي قبله؟ فالجواب أنّ حقيقةَ هذا أنَّه اسمٌ وعطفُ بيان لا صفةٌ، كما تقول: "مررت بأبي عبدِ الله زيدٍ". والدليل على أن "واحدًا" اسمٌ، وإِن جرى إعرابه على ما قبله، قولهم: "مررت بنسوةٍ أربعٍ" بالتنوين والصرفِ، ولو كان ¬
فصل [تعريف الأعداد]
صفة، لم ينصرف كما لا ينصرف "أوْحَدُ". و"واحدٌ" مثله في باب العدد. وهذا الضرب لا يثنّى، ولا يجمع من لفظه، فإذا أردت التثنية قلت: "اثنان"، وإذا أردت الجمع، قلت: "ثلاثة، أربعة"، فتصوغ للتثنية والجمع لفظًا من غير لفظ الواحد. وكما لم تُثنِّه من لفظه، كذلك لا تؤنّثه من لفظه, لأنه لو أُنّث من لفظه؛ لزم أن يُقال: "واحدةٌ"، فيخرج إلى مُشابَهة الصفات الجارية على أفعالها، و"واحدٌ" ليس بصفة، فكُره فيه ما يكون في الصفات. فلمّا امتنع منه هذا الضربُ من التأنيث، واحتيج إلى علامة فاصلة بين المذكّر والمؤنّث إذ كان اسمًا، قد يقع على المؤنّث كما يقع على المذكّر؛ عُدل إلى لفظ آخر بمعناه. ولمّا كان "أحدٌ" بمعنَى "واحد" في العدد، وكان اسمًا غير صفة كما أنّ "واحدًا" كذلك، وأرُيد إثباتُ العلامة؛ لم تكن بالتاء، كراهيةَ أن تكون على حد الصفة، نحو: "حسن"، و"حسنة"، كما كُره ذلك في "فاعِلٍ"؛ لأن الصفة في الموضعين واحدةٌ، فعُدل عن العلامة التي هي التاء إلى غيرها، فلم يجز مع العدول عن هذه العلامة إلَّا تغييرُ البناء؛ لأنّ العلامة التي غير التاء تُغيِّر البناءَ، وتصاغ معه على غير لفظ المذكّر، فلفا أُنّث بالألف؛ قُلب عن "فَعَلٍ" إلى "فِعْلَى"؛ فقالوا: "إحْدَى" في المؤنّث، و"أَحَدٌ" في المذكّر، فاستُغنى بتأنيث "أحد" عن تأنيثِ "واحد"؛ لأنّه في معناه. فإن قيل: ولِمَ لم يستعمل "أحد" ولا "إحدى" إلَّا نيّفًا معه شيءٌ؟ فالجواب: أمّا "إِحدى" فلا يستعمل إلَّا إذا ضُمّ إلى غيره، وجُعل معه اسمًا واحدًا، أو استُعمل فيما جاوز ذلك، فأمّا في باب الآحاد وأوائل الأعداد، فلا؛ لأنّه ليس إلى تأنيث الواحد وتذكيره كثيرُ حاجة، لأنّه لا يُضاف إلى المعدود كما يُضاف سائر الأعداد, لأنّ لفظ المعدود يُغْنِي عن ذلك، فدلالتُه على العدة والنوع جميعًا، وأمّا "أحدٌ" فهو، وإن كان بمعنَى "واحدٍ"، فله نحوٌ ليس لِـ"واحد" من الإبهام، وعدم التعيين، ألا ترى أنك إذا قلت: "جاءني أحدهما، أو أحدهم" إنّما المراد: واحدٌ من هذه العدّة غيرُ متعيِّن؟ وإذا كانت موضوعة على أن تكون مضافة ومعها غيرُها، ألزموها في العدد إذا وقعت موقعَ "واحد" أن تكون نيّفًا، نحوَ: "أحد عشر"، و"احدٌ وعشرون"؛ ليكون ما بعدها بمنزلة المضاف إليه، ولا تخرجَ عن منهاج استعمالها وموضوعِها، فاعرفه. فصل [تعريف الأعداد] قال صاحب الكتاب: وتقول في تعريف الأعداد ثلاثة الأثواب، وعشرة الغلمة، وأربع الأدؤُر وعشر الجواري، والأحد عشر درهماً، والتسعة عشر ديناراً، والإحدى عشرة والأحد والعشرون ومائة الدرهم، ومائتا الدينار،
وثلاثمائة الدارهم، وألف الرجل. وروى الكسائي الخمسة الأثواب. وعن أبي يزيد أن قوماً من العرب يقولونه غير فصحاء. * * * قال الشارح: لا يخلو العدد من أن يكون مضافًا أو مركّبًا أو مفردًا، فإذا أُريد تعريفه؛ فإن كان مضافًا، نحوَ: "ثلاثةُ أثوابٍ"، و"عَشرةُ غِلْمَةٍ"؛ فالطريقُ فيه أن تعرّف المضاف إليه بأن تُدْخِل فيه الألف واللام، ثمّ تضيف إليه العدد، فيتعرّف بالإضافة على قياس: "غلام الرجل"، و"باب الدار"، فتقول: "ثلاثة الأثواب"، و"أربعة الغلمة"، و"عشرُ الجَواري"؛ لأن المضاف يكتسي من المضاف إليه التعريفَ والتخصيصَ، كما يكتسي منه الجزاءَ والاستفهامَ، نحوَ قولك: "غلامَ مَنْ تَضْرِبْ أضْرِبْ"، و"غلامُ مَنْ أنْتَ". قال الشاعر [من الطويل]: أمَنْزِلَتَيْ مَيٍّ سَلامٌ عَلَيْكُمَا ... هَلِ الأزْمُنُ اللاتي مَضَيْنَ رَواجِعُ وهل يَرْجِعُ التسليمَ أو يَكْشِفُ العَمَى ... ثلاثُ الأثافِي والرُّسومُ البَلاقِعُ (¬1) وقال الفرزدق [من الكامل]: ما زالَ مُذْ عَقَدَتْ يَداهُ إزارَهُ ... يَسْمُو فأدْرَكَ خمسةَ الأشْبارِ (¬2) لمّا أراد التعريف، عرّف الثاني بالألف واللام، ثمّ أضاف إليه، فتَعرّف المضاف. قال أبو العبّاس المبرّد: هذا الذي لا يجوز غيرُه، وقد تقدّم الكلام عليه، وعلى الخلاف فيه بحُجَجه وعِلَله، في فصل الإضافة بما أغنى عن إعادة. وأمّا المركّب فهو من "أحدَ عشرَ" إلى "تسعةَ عشرَ"، ففيه ثلاثة مذاهب: أحدُها: مذهب أكثر البصريين: أن تُدخِل الألف واللام على الاسم الأوّل منها، فتقول: "عندي الأحدَ عشرَ درهمًا، والثلاثةَ عشرَ غلامًا"؛ لأنّهما قد جعلا بالتركيب كالشيء الواحد، فكان تعريفُهما بإدخال اللام في أولهما. الثاني: وهو مذهب الكوفيين (¬3) والأخفش من البصريين، تعريف الاسمَيْن الأوّلَيْن، نحوُ: "عندي الأحدَ العشرَ درهمًا"؛ لأنّهما في الحقيقة اسمان، والعطف مرادٌ فيهما، ولذلك وجب بناؤهما. ولو صرّحت بالعطف، لم يكن بدٌّ من تعريفهما، فكذلك إذا كان مضمَّنًا معنى العطف. الثالث: مذهبُ قوم من الكُتاب أنّهم يُدْخِلون الألف واللام على الأسماء الثلاثة. ¬
فصل [العدد الترتيبي]
وهو فاسد لِما ذكرناه من أن التمييز لا يكون إلَّا نكرة، لأنّك إذا قلت: "الخمسة عشر درهمًا" فالعدد معلوم؛ كأنك قلت: أخذت الخمسة عشر درهماً التي عرفتَ. و"الدرهم" غير معلوم مقصودٌ إليه، وإنّما هو بمنزلة قولك "كل رجل يأتيني فَلَهُ درهمٌ"، فالمراد: كل من يأتيني من الرجال واحدًا واحدًا فله درهم، ولو قلت: "كلّ الرجلِ"، استحال المعنى. وأمّا العدد المفرد، نحو: "عشرين"، و"ثلاثين" فما فوقهما إلى "تسعين"، فتعريفُه بإدخال الألف واللام على العدد، نحوِ: "العشرين" و"الثلاثين"، كما تقول: "الضاربون زيدًا"، ولا يجوز "العشرون الدرهم" إلَّا على المذهب الضعيف، ووجهُ ضَعْفِه ما ذكرناه في "الخمسة عشر درهمًا". ووجهٌ آخر أن ما بعد النون منفصلٌ ممّا قبله؛ لأن "درهمًا" بعد "عشرين" منفصلٌ من "العشرين"، فلا يتعرّف العدد بتعريفه، وليس كذلك "ثلاثة"، و"أربعة" ونحوهما ممّا يُضاف، فإن الثاني متَصلٌ بالأوّل من تمامه، فيُعرَّف المضاف بتعريف المضاف إليه، فلذلك إذا أُريد تعريف العدد المفرد، عُرّف نفسه بخلاف المضاف. فأمّا "المائة" و"الألف" فحكمهما حكمُ العقد الأول، نحو: "مائة درهم"، و"مائة الدرهم"، و"ألف درهم"، و"ألف الدرهم"؛ لأن التنوين ليس لازمًا لـ"المائة" و"الألف"، كما لم يكن لازمًا لِـ"الثلاثة" و"الأربعة" ونحوهما من العقد الأول. وهذا حكم كلّ إضافة طالت أو قصرت، فإنّك تعرّف الاسم الأخير، ويسري تعريفُه إلى الاسم الأوّل، فتقول: "ما فعلت مائةُ ألفِ الدرهمِ"، وعلى ذلك فقِسْ. فصل [العدد الترتيبي] قال صاحب الكتاب: وتقول الأول والثاني والثالث، والأولى والثانية والثالثة إلى العاشر والعاشرة والحادي عشر والثاني عشر، بفتح الياء وسكونها، والحادية عشرة والثانية عشرة والحادي قلب الواحد والثالث عشر إلى التاسع عشر، تبني الاسمين على الفتح كما بنيتهما في أحد عشر. * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذا الفصل يشتمل على اسم الفاعل المشتق من أسماء العدد، والأوَّلُ ليس من ذلك، وإنّما ذكره لأنّه يكون صفة كما يكون "ثانٍ"، و"ثالثٌ" ونحوهما صفات. فـ"الأوَّلُ" فهو من مضاعَف الفاء والعين، ولم يُشتق منه فِعْلٌ، وإنّما جاء من ذلك أسماءٌ يسيرةٌ. قالوا: "كَوْكَبٌ"، و"دَدَنٌ". والذي يدل أنه "أفْعَلُ" أنّه قد جاء مؤنّثُه على "الفُعْلَى"، نحوِ "الأُولَى"، كـ"الأكْبَر"، و"الكُبْرَى"، و"الأطْوَل"، و"الطُولَى" فالهمزة في "أوَّل" زائدةٌ بإزائها في
"أفْضَلَ". وهي في "الأُولَى" فاء بدلٌ من واو، كان ذلك لاجتماع الواوَيْن على حد "وَاقِيَةٍ"، "وأواقٍ". وهو على ضربَيْن: يكون صفة واسمًا. فإذا كان صفة لم ينصرف، نحوَ قولك: "هذا رجلٌ أوّلُ"، أي: أوّلُ من غيره فتحذف الجارَّ والمجرور تخفيفًا، وهما في تقدير الثبات، ولذلك لم تلزمه الألف واللام, لأنّ الشيء إذا كان مرادًا، كان في حكم المنطوق، ولو لفظت بالجارِّ والمجرور، لم تأتِ بالألف واللام. قال الله تعالى: {يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (¬1)، ولم يقل: و"الأخفى"؛ لأن المراد: وأخفى من السرّ. قال الشاعر [من الرجز]: 862 - يا لَيْتَهَا كانت لأهْلِي إبِلَا ... أوهُزلَتْ في جَدْبِ عامٍ أوَّلَا فلم يصرف لأنّه صفة، ومعناه: أوّل من عامك. وحذفُ الجارّ والمجرور من نحو هذا في الصفة ضعيفٌ، وهو في الخبر أكثرُ؛ لأنّ الغرض من الصفة الإيضاح والبيان، وذلك يُنافي الحذفَ. وإذا كانت اسمًا كانت منصرفة، فتقول: "ما تركتُ له أوّلًا ولا آخِرًا"، أي: لا قديمًا، ولا حديثًا. وأمّا "الثاني" و"الثالث" ونحوهما إلى "العاشر"، فإنّ العرب تشتقّها من العدد على حسب اشتقاق اسم الفاعل من الفعل في نحو "ضارِبٍ"، و"آكِلٍ"، و"شارِبٍ"، فيصير ¬
حكمها حكم اسم الفاعل، فتجري صفةً على ما قبلها، فإن كان مذكّرًا، ذكّرتها، وإن كان مؤنّثًا، أنّثتها. فتقول للرجل إذا كان معه رجلان: "هذا ثالثُ ثلاثةٍ"، وللمرأة: "هذه ثالثةُ ثلاثٍ": أسقطت التاء من "ثالث"؛ لأنّه اسم فاعل جرى على مذكّر، كـ"ضارب"، وأثبتَّها في "ثلاثة", لأنّه عدد مضاف إلى مذكّر في التقدير، إذ المعنى: ثالثُ ثلاثةِ رجالٍ، وأثبتّها في "ثالثة"، إذ جرت على مؤنّث، كما تقول: "ضارِبَةٌ". وأسقطتها من "ثلاث"؛ لأنّه عدد في تقدير المضاف إلى مؤنّث. وتقول: "هذا رابعُ أربعةٍ" إذا كان هو وثلاثُ نسوة؛ لأنّه قد دخل معهنّ، فقلت: "أربعة" بالتذكير لأنه إذا اجتمع مذكّر ومؤنّث، حُمل الكلام على التذكير, لأنّه الأصل، فإذا تجاوزت "العشرة"، فلك فيه ثلاثة أوجه: أحدُها: أن تأتي بأربعة أسماء، فتقول: "هذا حادِي عشرَ أحدَ عشرَ"، و"ثانِي عشرَ اثنَيْ عشرَ"، و"ثالثَ عشرَ ثلاثةَ عشرَ"، فالاسمان الأوّلان من هذا نظيرُ الاسم الأول من "ثالثُ ثلاثةٍ"، والاسمان الأخيران نظير الاسم الثاني منه. وإذا كان نظيره، وجب أن يُعتقد أن الاسمَيْن الثانيَيْن في موضع جرّ بإضافة الاسمَيْن الأوّلَيْن، وبذلك خرج من أن تكون قد جعلتَ أربعة أسماء بمنزلة شيء واحد. وإنّما بنيت الاسمين الأولين وجعلتهما كاسم واحد، وبنيت الاسمين الثانيين، وجعلتهما كاسم واحد، ثمّ أضفت الأوّل إلى الثاني، ولم يمنع البناء الإضافةَ. ألا ترى أنك تقول: "كم رجلٍ جاءَك"؟ فتضيف "كم" إلى "رجل"، وقال سبحانه: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} (¬1)، فأضاف "لَدُنْ" وهو مبنيّ. والثاني: أن تأتي بثلاثة أسماء، فتقول: "هذا حادِي أحدَ عشرَ"، و"ثانِي اثنَي عشرَ"، و"ثالثُ ثلاثةَ عشرَ"، كأنّهم استثقلوا أن يأتوا بأربعة أسماء، فحذفوا الاسم الثاني من الأوّل تخفيفًا. وعلى هذا الوجه يكون الاسم الأوّل معربًا يجرىِ بوجوه الإعراب؛ لأن التركيب قد زال عنه بحذف الاسم الثاني، فبقي الاسمان الثانيان علي بنائهما؛ لأنّه لم يحذف منهما شيءٌ، وهما في موضع جرّ بإضافة الاسم الأوّل إليهما، ولا يجوز في الأوّل إلَّا الإعراب؛ لأنّها ثلاثة أسماء، فلا يجوز أن تجعل في موضع اسم واحد. والوجه الثالث: أن تقول: "هذا حادِي عَشَرَ"، و"ثانِي عَشَرَ" بتسكين الياء، وفتحها. فمن سكّن الياءَ من "حادي"، و"ثاني"؛ جعله معربًا في موضع رفع، وعلى هذا تقول: "هذا ثالثُ عشرَ، ورابعُ عشرَ"؛ لأن تقديره: "حادِي أحدَ عشرَ" فحذف "أحدًا" تخفيفًا، وهو مراد، فصار كقولك: "هذا قاضِي بَغْدادَ"، ومن فتح، بناهما على الفتح حين حذف "أحدًا"، فجعل "حادي" قائمًا مقامه. وتقول في المؤنّث منه على الوجه الأوّل: "هذه حاديةَ عَشْرَةَ إحْدَى عَشْرَةَ"، وعلى ¬
فصل [إضافة اسم الفاعل المشتق من العدد]
الوجه الثاني: "هذه حاديةُ إحدَى عشرَ" بالضمّ لا غيرُ، وعلى الوجه الثالث: "هذه حادية عشرَ" بالضمّ، والفتح على ما تقدّم. وأمّا "حادي" فهو مقلوب من "واحد"، أُخّرت الفاء إلى موضع اللام، ثمّ قلبت الواو ياءً لتطرُّفها وانكسارِ ما قبلها، فصار وزنُها "عالِفًا"، وأصلها "فاعِلٌ" من الوحدة، وقد تقدّم نحوٌ من ذلك، فاعرفه. فصل [إضافة اسم الفاعل المشتق من العدد] قال صاحب الكتاب: وإذا أضفت اسم الفاعل المشتق من العدد؛ لم يخل من أن تضيفه إلى ما هو منه, كقوله تعالى: {ثاني اثنين} (¬1) , و {ثالث ثلاثة} (¬2)، أو إلى ما هو دونه كقوله عز وجل: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} (¬3)، وقوله: {خمسة سادسهم} (¬4) , فهو في الأول بمعنى واحد من الجماعة المضاف هو إليها، وفي الثاني بمعنى جاعلها على العدد الذي هو منه, وهو من قولهم: "ربعتهم", و"خمستهم". فإذا جاوزت العشرة لم يكن إلا الوجه الأول، تقول: "هو حادي إحدى عشر"، و"ثاني اثني عشر"، و"ثالث ثلاثة عشر" إلى "تاسع تسعة عشر". ومنهم من يقول: "حادي عشر أحد عشر", و"ثالث عشر ثلاثة عشر". * * * قال الشارح: قد استعمل اسم الفاعل المشتق من العدد على معنيَيْن: أحدهما: أن يكون المراد به واحدًا من جماعةٍ، والآخر أن يكون فاعلاً كسائر أسماء الفاعلين، فالأوّلُ، نحو: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}، و {ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ}. قال الله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ} (¬5)، وقال عزَّ وجلَّ: {إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ} (¬6). فما كان من هذا الضرب فإضافته محضةٌ, لأن معناه أحدُ ثلاثة، وبعضُ ثلاثة، فكما أن إضافة هذا صحيحةٌ، فكذلك ما هو في معناه، ولا يجوز فيه أن يُنوَّن وينْصِبَ في قول أكثر النحويين، لأنّه ليس مأخوذًا من فعل عامل. وأمّا الثانى: وهو ما يكون فاعلاً كسائر أسماء الفاعلين، نحوَ: "ثالثُ اثنَين"، و"رابعُ ثلاثة"، و"خامسُ أربعة"، فهذا غير الوجه الأوّل، إنّما معناه هو الذي جعل الاثنين ثلاثةً بنفسه، فمعناه الفعلُ، كأنّه قال: "الذي ثَلَثَهم، ورَبَعَهم، وخَمَسَهم"، وعلى هذا ¬
قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} (¬1)، ومثله: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ .... رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} (¬2). وعلى هذا الوجه يجوز أن ينوّن وينصب ما بعده، فتقول: "هذا ثالثٌ اثنَيْن"، و"رابعٌ ثلاثةً"؛ لانَّه مأخوذ من "ثَلثَهم"، و"رَبَعَهُم" فهو بمنزلةِ: "هذا ضاربٌ زيدًا". والأوّلُ أكثرُ. قال سيبويه (¬3): قَلَّ ما تريد العرب هذا، يعني: "خامسٌ أربعة"، فإن أضفته، فهو بمنزلة "ضارب زيد"، فتكون الإضافة غير محضة. هذا إذا أريد به الحال أو الاستقبال، فإن أُريد به الماضي، لم يجز فيه إلَّا حذفُ التنوين والإضافةُ، كما كان كذلك في قولك: "هذا ضاربُ زيدٍ أمسِ". فإذا تجاوزتَ "العشرة" على قياسِ من قال: "هذا رابعُ ثلاثة"، و"خامسُ أربعة"، ففيه خلافٌ: منهم من أجازه، فقال: "هذا خامسُ أربعةَ عشرَ" إذا كانوا رجالًا، و"هذه خامسةُ أربعَ عشرةَ" إذا كنّ نساء، فصرن بها خمسَ عشرةَ، ويَقيسون ذلك أجمعَ، وهو مذهب سيبويه (¬4) والمتقدّمين من النحويين، وكان أبو الحسن الأخفش لا يرى ذلك، ويأباه، وهو رأيُ أبي عثمان المازنيّ، وأبي العبّاس المبرّد، وقد اختاره صاحب هذا الكتاب. وهو المذهب، وذلك لأنّك إذا قلت: "رابعُ ثلاثة"، فإنّما تُجْريه مجرى "ضارب" ونحوه من أسماء الفاعلين، ويكون المعنى: كانوا ثلاثةً فرَبَعَهم، ثمّ قلت منه: "رابعٌ". ولا يجوز أن تبني من اسمَيْن مختلفَي اللفظ، نحوِ: "خمسة"، و"عشرة" اسمَ فاعل؛ لأنّ الأصل "خامسَ عشرَ أربعةَ عشرَ"، فَاعرفه. ¬
المقصور والممدود
ومن أصناف الاسم المقصور والممدود فصل [تعريف الاسم المقصور والاسم الممدود] قال صاحب الكتاب: المقصور ما في أخره ألف نحو العصا والرحي, والممدود ما في آخره, همزة قبلها ألف كالرداء والكساء, وكلاهما منه ما طريق معرفته القياس، ومنه ما لا يعرف إلا بالسماع. فالقياسي طريق معرفته أن ينظر إلى نظيره من الصحيح, فإن انفتح ما قبل آخره فهو مقصور، وإن وقعت قبل آخره ألف فهو ممدود. * * * قال الشارح: المقصور والممدود ضربان من ضروب الأسماء المتمكّنة، إذ الأفعال والحروف لا يُقال فيهما مقصور ولا ممدود، وكذلك الأسماء غير المتمكنة، نحوُ: "مَا" و"ذَا"، فإنّه لا يُقال فيهما: "مقصور"، لعدم التمكّن، وشَبَهِ الحروف؛ فأمّا قولهم في "هؤلاء"، و"هؤلا": "ممدود، ومقصور"، فتسمّحٌ في العبارة، كأنّه لمّا تَقابل اللفظان فيهما، قالوا: "مقصور"، و"ممدود" مع ما في أسماء الإشارة من شبه الظاهر، من جهة وَصْفها، والوصف بها، وتصغيرها. والمراد بالمقصور ما وقع في آخره ألفٌ، وقال بعضهم: "ما وقعت في آخره ألفٌ لفظًا"، واحترز بقوله: "لفظًا" عن مثل "رَشَإٍ"، و"خَطَإٍ"، فإنّ في آخر كلّ واحد منهما ألفًا، لكن في الخطّ وأمّا في اللفظ فهي همزةٌ. قال بعضهم: "ألفٌ ساكنةٌ"، ومن المعلوم أنّ الألف لا تكون إلا ساكنة لكن احترز عن الهمزة المتحرّكة، نحوِ ما ذكرناه من قولنا: "رشأ"، و"خطأ". وقال بعضهم: "ألفٌ مفردةٌ"، كأنّه احترز عن الممدود من نحو: "حَمْراءَ"، و"صَفْراءَ"، فإن في آخر هذا القبيل ألفَيْن، إحداهما للتأنيث زائدة بمنزلتها في "سَكرَى"، والأخرى قبلها للمدّ. وهذا كله لا حاجة إليه لأن قولنا: "ألفٌ" كافٍ في تعريف المقصور, لأن مثل
"خطإ" و"حمراء" ليس آخِرُهما ألفًا، إنما هي همزة، وليس الاعتبارُ بالخطّ، إنّما الاعتبار باللفظ. وهذه الألف التي تقع آخِرًا على ضربين: تكون منقلبة، وزائدة ولا تكون أصلاً ألبتّة في اسم متمكّن. فأمّا المنقلبة فلا يخلو انقلابها من أن يكون من واو، أو ياء، وقد جاءت منقلبة عن همزة، وذلك قولهم: "أيْدِي سَبَا"، و"أيَادِي سَبَا". فأمّا المنقلبة عن الواو والياء، فنحو: "رَجًا"، و"قفًى"، و"فتًى"، و"رحًى"؛ فـ"رجًا"، و"قفًا"، من الواو لقولهم في التثنية: "رَجَوان"، و"قَفَوان". و"الرَّجا" واحد أرْجاءِ البِئْرِ؛ و"فَتًى"، وَ"رَحًى" من الياء، لقولهم: "فتَيان"، وَ"رَحَيان". وإنّما قُلبا ألفَيْن لتحرّكهما وانفتاح ما قبلهما. وأمّا المزيدة، فتأتي على ثلاثة أضرب: أحدُها: أن تأتي ملحقة، والآخر: أن تأتي للتأنيث، والثالث: أن تكون زائدة لغير إلحاق ولا تأنيث بل لتكثير الكلمة، وتوفيرِ لفظها من غير إرادة إلحاق. فمثالُ الملحقة "أرْطى"، و"مِعْزى". والمراد بالإلحاق أن تزيد على الكلمة حرفًا زائدًا ليس من أصل البناء؛ لتبلغ بناءً من أبنية الأُصول أزْيَدَ منها، وذلك كزيادتهم الياءَ في "حَيْدَرٍ"، وكزيادتهم الواو في "حَوْقَلٍ"، والنون في "رَعْشَنٍ". ولا تكون الألف للإلحاق إلَّا في آخر الأسماء، فـ"أرْطى" ملحقٌ بالألف في آخره بوزن "جَعْفَرٍ"، و"مِعْزى" ملحق بوزن "دِرْهَمٍ". والذي يدل أن الألف هنا للإلحاق لا للتأنيث تنوينُها، ولحاقُ الهاء بها في قولهم: "أرْطاةٌ"، و"مِعْزاةٌ". وأمّا زيادتها للتأنيث، فكل ما لم ينوّن، نحوُ: "حُبْلَى"، و"جُمادَى"، فهذه وما يجري مجراها للتأنيث، ولذلك لم تنوّن، ولم تدخل عليها تاء التأنيث. وزيادتها لغير إلحاق، ولا تأنيث، فنحوُها في "قَبَعْثَرى" (¬1) و"كُمَّثْرى" (¬2)، فليست هذه الألف للتأنيث لأنّها منوّنة، ولا للإلحاق لأنّه ليس لنا أصل سُداسيّ، فيكونَ ملحقًا به. فإذا وقعت ألفٌ من هذه الألفات في آخر الاسم المتمكّن؛ سمّي مقصورًا، ولم يدخله لفظُ رفع ولا نصب ولا جرٍّ، بل يكون في الأحوال الثلاث بلفظ واحد، ولا يدخله تنوين إذا كانت الألف للتأنيث، نحوَ: "حُبْلَى"، و"سَكرَى"، ويدخله إذا كانت غير تأنيث، نحو: "أرْطى"، و"كُمَّثْرَى". وإنّما سمّي هذا الضرب مقصورًا لأحد أمرَيْن، وهو إمّا أن يكون من القَصْر، وهو الحَبْس من قوله عزَّ وجلَّ: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} (¬3). ومنه قول الشاعر [من الخفيف]: ¬
863 - قد قصَرْنا السناءَ بَعدُ عَليهِ ... [وهْو للذَّودِ أن يُقَسَّمنَ جارُ] ومنه قول الآخر [من الطويل]: 864 - وأنتِ التي حبّبتِ كل قَصِيَرةٍ ... إلىّ وإن لم تَدرِ ذاك القصائرُ عَنَيْتُ قصيراتِ الحِجالِ ولم أُرِدْ ... قِصارَ الخُطَى شَرُّ النساء البَحاتِرُ ¬
أو يكون من "قَصَرْتُه"، أي: نقصته من قَصْر الصلاة من قوله تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} (¬1)، أي: تنقُصوا من عدد رَكَعاتها، أو هَيْأتها، وإن كانا يؤولان إلى أصل واحد. ألا ترى أن قصر الصلاة إنما هو حبسُها عن التمام في الأفعال، وذلك أن الاسم المقصور كأنه حُبس عما استحقه من الإعراب، أو نقص عن الممدود الذي هو أزْيَدُ لفظًا؟ وأما الممدود، فكل اسم وقعت في آخره همزة قبلها ألف، وقد احتاط بعضهم، فقال: كل اسم وقعت في آخره همزة قبلها ألف زائدة، وذلك قَيْدٌ زائدٌ في الحقيقة، فإنّ الألف التي تكون قبل الهمزة في الممدود على ضربين: أحدهما أن تكون منقلبة عن واو أو ياء، وهو عين، والآخر أن تكون زائدة غير منقلبة. فالأول - وهو قليل- قولهم: "ماءٌ"، و"شاءٌ"، و"آءٌ"، و"راءٌ"، لضربَين من النبت، الواحدةُ "آءةٌ"، و"راءَةٌ". وقال بعضهم في "رُؤْيَةٍ": "رَاءَةٌ". فهذا أجرى الألف الأصلية مجرى الزائدة، فقلب الياءَ بعدها همزة، كما قلب في "رِدَاءٍ" لاجتماعهما في أنّهما ليسا من الأصل. وأما كونها زائدة -وهو الأكثر- فهو على ثلاثة أضرب، منه ما همزته أصليّة، نحوُ: "قِثّاءٍ"، و"حِناءٍ"، و"قُرَّاءٍ" الهمزة في هذه ونحوها أصل، والألف قبلها زائدة، لقولهم: "أقْثَأتِ الأرضُ"، و"أرضٌ مَقْثَأةٌ، ومَقْثُؤَةٌ" إذا كثُر القُثاء فيها، وقولهِم: "حَنَّأْتُ يَدِي"، و"قرأتُ القُرْآن". ومنه ما همزته منقلبة، وذلك على ضربين: أحدهما أن تكون منقلبة عن حرف أصلي، فالهمزةُ في "كِساء" بدل من الواو؛ لأنّه من "الكُسْوة"، وهي في "رِداء" من الياء لقولهم: "هو حسن الردْيَةِ". والثاني: أن تكون منقلبة عن زائدة (¬2)، وهو على ضربين: منصرف، وغير منصرف، فالمنصرف: ما كانت همزته للإلحاق، نحوُ: "حِرْباءٍ"، و"زِيزاءٍ"، وهذا ونحوه ملحق بـ"سِرداح"، و"شِمْلالٍ"، وأصلُ الهمزة فيه الياء. ألا ترى أنهم لما أنثوا نحوَ هذا بالهاء؛ ظهرت الياء التي هي الأصل. وغير المنصرف نحو: "حَمْراءَ"، و"صَفْراءَ"، وبابه الهمزة فيه بدل من ألف التأنيث في نحو"حُبْلَى"، و"عَطْشَى". والمراد ههنا معرفةُ الممدود والمقصور، والفرقِ بينهما، دون أحكامهما في الإعراب. وذلك على ضربين: ضرب منه يُدرَك قياسًا، وضرب منه يدرك سَماعًا، فأما الذي يدرك قياسًا فهو ما له نظير من الصحيح يُعتبر به. فإن كان قبل آخره ألف زائدة، كان في المعتل ممدودًا. وإن كان قبل آخره فتحةٌ. كان ¬
فصل [الأسماء المقصورة]
في المعتلّ مقصورًا. مثالُ ذلك أنك تقول: "أعْطَى إعطاءً"، و"زيدٌ مُعْطًى"، فتمد المقصور، لأن نظيره من الصحيح "أحْسَنَ إحسانًا" وتقصر المفعول؛ لأن نظيره من الصحيح "مُحْسَنٌ إليه"، فهذا وأشباهه هو الأصل المعتمَدُ عليه، وما لم يكن له نظيرٌ، فهو من باب المسموع. فصل [الأسماء المقصورة] قال صاحب الكتاب: فأسماء المفاعيل مما اعتل آخره من الثلاثي المزيد فيه والرباعي, نحو معطى ومشترى ومستلقى, مقصورات لكون نظائرهن مفتوحات ما قبل الأواخر, كمخرج ومشترك ومدحرج، ومن ذلك نحو مغزى وملهى كقولك مخرج ومدخل، ونحو العشا والصدى والطوى؛ لأن نظائرها الحول والفرق والعطش. * * * قال الشارح: إنما قدم الكلامَ على المقصور من حيث كان أصلاً، والممدود فرعٌ، ولذلك يجوز قصر الممدود في الشعر، ولا يجوز مد المقصور عندنا, لأن في قصر الممدود حذفَ زائدٍ وردًّا إلى أصله، وليس في مد المقصور ردٌّ إلى أصل. فمما يُعرَف به المقصور من جهة القياس ما كان من أسماء المفعول الذي زاد فعلُه على ثلاثة أحرف، وكان اللام منه ياء أو واوًا، وذلك، نحو: "مُعْطًى"، و"مُرْسًى" فهذا نظير "مُكْرَم"، و"مُخْرَجٍ"، فكما أن الراء من "مكرم" تلي الميم التي هي أخِرُ الكلمة، ولامُ الفعل، كَذا السين من "مُرْسى" تلي آخر الكلمة، وهي في موضعِ حركة، وقبلها فتحة، فتُقلَب ألفًا، ومثل ذلك قولهم: "جَعْبَيْتُه"، و"سَلْقَيْتُه"، فهو"مُجَعْبَى"، و"مُسَلْقًى"، فكما أن "جعبيتُه" بمنزلة "دَحْرَجْتُه"،، فكذلك "مُسَلْقي" بمنزلة "مُدَحْرَج". ومن ذلك أسماء الزمان والمكان والمصادر، نحو: "المَغْنَى"، و"المَغْزَى"، و"المَلْهى"، و"المَرْمَى"، و"المَرْسَى"، فهذا بمنزلة "المَذْهَب"، و"المَدْخَل"، و"المَضْرَب"، ولفظُ المكان والمصدرِ ممّا كان ماضيه على أربعة أحرف كلفظ المفعول به، وذلك نحو: "أرْسَى الله الجَبَلَ فهو مُرْسًى"، كقولك: "دحرجتُ الحجر فهو مُدَحْرَجٌ"، وقوله تعالى: {ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (¬1) وهما مصدران بمنزلة "إجرائها"، و"إرسائها". ومن ذلك ما كان مصدرًا لـ"فَعِلَ يَفعَلُ" والحرف الثالث منه ياءٌ أو واوٌ، واسمُ الفاعل منه على "فَعِل"، أو "أفْعَلَ"، أو"فَعْلانَ" وذلك نحو: "العَشَا"، و"الصَّدَى"، ¬
و"الطوَى"، فـ "العشا" مصدرُ "عَشِيَ يَعْشَى عَشا فهو أعْشَى"، وهو الذي لا يُبصِر في الليل، ويبصر في النهار، و"الصَّدَى" مصدر "صَديَ يَصْدَى صدًا، فهو صَدٍ، وصادٍ"، إذا عطش، و"الطوَى" مصدر "طَوى يَطوَى طَوًى فهو طَيّانٌ"، إذا جاع. قال [من الكامل]: 865 - باتَ الحُوَيْرِثُ والكِلابُ تَشُمُّهُ ... وغَدَا بأسْمَرَ كالهِلال من الطَّوَى ومثله "الغَوَى" مصدر "غَوِيَ الفصيلُ يغوي غَوى"، و"كَرى" و"هَوى"، فهذه المصادركـ"الكَسَل" في مصدر "كَسِلَ كَسَلًا فهو كَسِلٌ"، و"الفَرَق" في مصدر "فَرِقَ فَرَقًا فهو فَرِقٌ" و"عَطِشَ عَطَشًا"، و"حَوِلَ حَوَلًا". والمراد بقوله: "لكون نظائرهن مفتوحاتِ ما قبل الأواخر" يريد أن يكون الفعل على عدة أفعال هذه المصادر ووِزانها، فكما أنَّ "الفَرَق" ونحوها على ثلاثة أحرف، كلُّهما أُصول، فكذلك "الكرى"، و"الطوى"، ونحوهما ممّا ذكر على هذه العدة والزنة، إلَّا أنّه يقع الحرف الثالث الذي هو ياءٌ أو واوٌ في موضعِ حركة، وقبلها فتحة، فتنقلب ألفًا. * * * قال صاحب الكتاب: "والغراءُ" في مصدر "غري فهو غرٍ" شاذ، هكذا أثبته سيبويه (¬1)، وعن الفراء مثله، والأصمعي يقصره. ومن ذلك جمع "فُعلَةَ" و"فِعلَةَ" , نحو: عري وجزي في عروة وجزية. * * * قال الشارح: قالوا: "غَرِيَ بالشيء يَغْرَى به" إذا أُولِعَ به، فهو"غَرٍ غَرًا وغَراءً"، ¬
فصل [الأسماء الممدودة]
مقصور وممدود. فأما "الغَراء" فممدود، فهو شاذ بمنزلة "الظَّماء" من قولهم: "سنة ظَمْياءُ"، بينةُ الظَّماء، جاء على "فَعالٍ" بمنزلة "الذهاب" و"البَداء"، والقياس فيهما القصر على حد نظائرهما. هكذا نقله سيبويه ممدودًا، وعليه الفراء، وخالف في ذلك الأصمعى، ورواه مقصورًا. والقياسُ مع الأصمعي مع الرواية, فأمّا قول كُثَيرٍ [من الطويل]: 866 - إذا قيل مَهْلًا فاضتِ العَيْنُ بالبُكا ... غِراءً ومَدَّتْها مَدامِعُ نُهَّلُ بكسر الغين، كأنّه جعله مصدر "غَارَى، يُغارِي غِراءً"، وهو "فَاعَلَ"، ومصدرُ "فَاعَلَ" يأتي على "فِعَالٍ"، مثلَ: "رَامَى يُرامِي رِماءً"، ومثله من الصحيح: "قاتَلَ قِتالًا". ومما يُعرَف به المقصور أن يكون جمعًا، وواحدُه على "فُعْلَةَ" مضمومَ الأول، أو "فِعْلَةَ" مكسور الأول، فإنّه إذا كان على هذا البناء، وأُريد جمعه على التكسير؛ فما كان منه على "فُعْلَةَ"، فإنّ جمعه على "فُعَلٍ" وما كان على "فِعْلَةَ" بالكسر؛ فجمعُه على "فِعَلٍ"، نحوِ: "عُرْوَةٍ"، و"عُرى"، و"جِزْيَةٍ"، و"جِزى"؛ لأن نظيرهما من الصحيح "ظُلْمَة"، و"ظُلَمٌ"، و"كِسْرَةٌ"، و"كِسَر"، ولذلك كان نظيرُهما من المعتل مقصورًا؛ لأنّه لمّّا كان آخِرُه حرف علة وقبله فتحة، انْقَلَبَ ألفًا، فاعرفه. فصل [الأسماء الممدودة] قال صاحب الكتاب: والإعطاء والرماء والاشتراء والاحبنطاء وما شاكلهن من المصادر ممدودات؛ لوقوع الألف قبل الأواخر في نظائرهن الصحاح, ¬
كقولك: "الإكرام", و"الطلاب", و"الافتتاح", و"الاحرنجام". * * * قال الشارح: ومما يُعلَم أنه ممدود من جهة القياس ما وقعت ياؤه أو واوُه طرفًا بعد ألف زائدة، وذلك نحو: "الإعطاء"، و"الرِّماء"، فـ "الإعطاء" مصدر "أَعْطَيْتُ"، و"الرِّماء" مصدر "رَامَيْتُ"، و"أعطيت" بمنزلة "أَكْرَمْت"، و"راميت" بمنزلة "طالبت"، فكما تقول في مصدر الصحيح: "الإكرام"، و"الطلاب"، فتقع الميم من "الإكرام" والباء من "الطلاب" طرفًا بعد ألف زائدة، كذلك تقع الياء التي هي لام الكلمة في "أعطيت"، و"راميت" بعد ألف زائدة، فتنقلب همزة، وكذلك "الاشتراء"، و"الارتماء", لأنّهما بمنزلة "احتقار"، و"افتتاح". ومن ذلك "الاحبِنْطاء"، و"الاسلِنْقاء"؛ لانّهما بمنزلة "الاحرنجام". * * * قال صاحب الكتاب: وكذلك العواء والثغاء والرغاء وما كان صوتاً كقولك النباح والصراخ والصياح. وقال الخليل (¬1): مدوا البكاء على ذا، والذين قصروه جعلوه كالحزن والعلاج كالصوت نحو النزاء ونظيره القماص. ومن ذلك ما جمع على أَفعِلَةَ نحو قباء وأقبية وكساء وأكسية، كقولك قذال وأقذلة وحمار وأحمرة وقوله [من البسيط]: 867 - في ليلة من جمادى ذات أندية ... [لا يبصر الكلب من ظلمائها الطنبا] في الشذوذ كأنجدة في جمع نجد. ¬
قال الشارح: وممّا يُعلَم به أنّه ممدود أن تجد المصدرَ مضمومَ الأول، ويكون للصوت، نحو: "العُواء" وهو مصدر "عَوَى الكلبُ عُواءً"، و"الثُّغاء" وهو صوت الشاء والمَعْز، يقال: "ثَغَت تَثغُو ثُغاءً" إذا صاحت، و"الدُّعاء" مصدر "دَعَا يَدْعُو دُعاءً". ومنه "الرُّغاء"، وهو صوت ذات الخُفّ، يقال: "رَغَا البعير يَرْغُو رغاءً"، إذا ضجّ. و"الزُّقاء"، وهو الصُّياح، وقياسُه من الصحيح "الصُّراخ"، و"النباح" و"البُغام"، و"الضباح"، وهو كثير. و"البُكاء" يُمَد ويُقصَر، فمن مدّه ذهب به مذهبَ الأصوات، ومن قصر جعله كالحَزَن، ولم يذهب به مذهب الصوت، وقياسُ القصر ضعيف, لأنه لم يأت من المصادر على "فُعَلٍ" إلا "الهُدَى"، و"السُّرَى". ويكون العلاج كذلك، نحو: "النزاء"؛ لأن نظيره "القُماص"، والنُّزاء كالوُثُوب، و"القُماص" من "قَمَصَ البعير"، وهو كالجَمْز. ومما يعلم به أن واحده ممدود، ما كان في الجمعِ على مثال " أَفْعِلَةَ"، نحو: "قَباءٍ"، و"أقبِيَةٍ"، و"رِشاءٍ"، و"أَرْشِيَةٍ"، كما أن واحد "الأقْذِلَةِ" "قَذالٌ"، فدل "أَفعِلَةُ" على مدّ الواحد؛ لأن "أفعلة" إنّما هو جمع "فَعالٍ" أو"فِعالٍ"، أو"فُعالٍ"، كقولك: "قَذالٌ"، و"أَقْذِلَةٌ"، و"حِمارٌ"، و"أَحْمِرَةٌ"، و"غُرابٌ"، و"أَغرِبَةٌ". فأما "نَدَى"، و"أَنْدِيَة" فشاذ فيما ذكره سيبويه (¬1)، كأنهم جمعوا ما لم يُستعمل واحده، كما أن "حَرائِرَ"، و"كَنائِنَ"، في جمع "حُرَّةٍ"، و"كَنَّةٍ" كذلك. ومثله "مَلامِحُ"، و"مَشابِهُ"، و"مَذاكِيرُ". وقيل: إنّهم نزلوا الفتحة منزلة الألف، فصار "نداء" كـ"قَذال"، فجمعوه جمعه، كما نزّلوا الألف في "كِساءٍ"، و"رِداءٍ" منزلة الفتحة، فأعلّوا الواو والياء ألفَين، كما يفعلون في "باب"، و"ناب". وقال بعضهم: جُمع "نَدى" على "نِداء" كما قالوا: "جَمَلٌ"، و"جِمالٌ"، و"جَبَلٌ"، و"جِبالٌ"، ثم جمع "فِعالٌ"، على "أَفعِلَةَ"، فيكون "أندية" جمعَ جمع. وقول صاحب الكتاب هو في الشذوذ كـ"أَنْجِدَةٍ" في جمع "نَجْدٍ"، والنجد ما ارتفع من الأرض. ومنه قوله [من البسيط]: 868 - يَغْدُو أمامَهُمُ في كل مَرْبَأَةٍ ... طَلاعُ أَنْجِدَةِ في كَشْحِهِ هَضَمُ ¬
فقال بعضهم: هو من الجموع الشاذة التي جاءت على غير لفظ الواحد، وقال بعضهم: جُمع "نَجْدٌ" على "نُجُودٍ"، ثمّ جمع الجمع على "أَنْجِدَةٍ" نحو: "عُمُودٍ"، و"أَعْمِدَةٍ". فأمّا البيت الذي أنشده، وهو [من البسيط]: في ليلة من جمادى ... الخ وقبله: يا رَبَّةَ البَيْتِ قُومي غيرَ صاغِرَةٍ ... ضُمي إليكِ رِحالَ القَوْمِ والقُرُبَا الشعر لمُرَّةَ بن مَحْكانَ التميمي من شعراء الحَماسة، والشاهد فيه جمع "نَدى"، على "أندية"، يصف إكرامه الضيفَ وأمْرَه مَن عنده بالقيام بأمر الضيف، وإحراز رحالهم ومتاعِهم. والقِرابُ: وعاءٌ يكون فيه السيف بغِلافه وحمائله. ويصف بَرْدَ تلك الليلة، وخص "جمادى" لأن الشتاء عندهم "جُمادَى"، لجمود الماء فيه. وفي درعيّات أبي العلاء [من الطويل]: 869 - كمُغْتَسِل أعْلَى جُمادَى ببارِدِ ... [وماسجلُ ماءٍ حين يفرغ سَائحُ] ¬
ومن الممدود ما كان جمعًا لِـ"فَعْلَةَ"، و"فِعْلَةَ"، و"فُعْلَةَ". قالوا: "صَعْوَة"، و"صِعاءٌ" بالمدّ، والصعوةُ: طائر صغير، ويجمع على "صَعْو"، و"صِعاءٍ"، وقالوا: "رِكْوَةٌ"، و"رِكاءٌ" وهي التي للماء، وفي المثل: "صارت القَوْسُ رَكْوَة" (¬1). وروى أبو إسحاق الزيادّي أن أبا الحسن كان يقول في "كُوَّةٍ"، وهي ثَقْبٌ في البيت: "كُوَى" بالقصر. قال: وهو شاذ كـ "بَدْرَةٍ" و"بِدَرٍ". وقالوا: "كِواءٌ" أيضًا بالمد بمنزلة "قَصعَة"، و"قِصاع". فكما أن العين التي هي لامٌ في "قصعة" واقعةٌ بعد ألف، كذلك الواو والياء إذا وقعتا بعد مدّة الألف، انقلبتا همزة، فصارت الكلمة ممدودة، ومثل ذلك: "لَهاةٌ"، و"لِهَاءٌ"، واللهاة: الهَنَة المُطْبِقة في أقصى الفم، يقال: "لَهاةٌ"، و"لَهاءٌ"، كـ"أضاة"، و"أضاء"، و"لِهاءٌ" كـ"رَقَبَةٍ"، و"رِقاب". وقيل: "اللِّهاء" بالمدّ جمع "لَهاءٍ" كـ"أضاءٍ"، و"إضاءٍ". قال الشاعر [من الرجز]: 870 - يالك مِن تَمْرٍ ومِن شِيشاءِ ... يَنشَبُ في المَسْعَل واللَّهاءِ وقيل: القياس "لَهَى" مقصورًا، والمدُّ ضرورة، ذكره الجَوْهري. فاعرفه. ¬
فصل [المقصور والممدود السماعى]
فصل [المقصور والممدود السماعىّ] قال صاحب الكتاب: وأما السماعي, فنحو: "الرَّجا" و"الرحي" و"الخفاء" و"الإباء", وما أشبه ذلك مما ليس فيه إلى القياس سبيلٌ. قال الشارح: قد تقدّم الكلام على ما يُعلَم قصره ومدّه من جهة القياس؛ وأمّا ما يعلم من جهة السَّماع، ولا يعلم بالمَقاييس، فنحو: "الرَّجَا"، و"الرَّحَى"، و"الطَّوَى"، و"النَّوَى"، وكذلك "الخَفاء" ممدود من قولهم: "خَفِيَ الأمرُ عليه خَفاء"، ومنه "بَرِحَ الخَفاءُ"، أي: وضح. و"الإباء" ممدود أيضًا. فهذه مسموعٌ فيها القصر والمدّ، وليس للرأي فيها مَساغٌ, لأنَّها ليست بأن تكون كـ"حَجَرٍ" و"جَمَلٍ" أَوْلَى من أن تكون كـ"حِمارٍ"، و"قَذالٍ"، فاعرفه.
الأسماء المتصلة بالأفعال
ومن أصناف الاسم الأسماء المتّصلة بالأفعال فصل [تعداد الأسماء المتصلة بالأسماء] قال صاحب الكتاب: هي ثمانية أسماء: المصدر, اسم الفاعل، اسم المفعول، الصفة المشبهة، اسم التفضيل، اسما الزمان والمكان، اسم الآلة. * * * قال الشارح:: يريد بقوله: "المتصلة بالأفعال" تعلُّقها بها من جهة الاشتقاق، وأنّ فيها حروف الفعل، فكان بينهما تعلق واتصالٌ من جهة اللفظ، إذ كانت تنزع إلى أصل واحد، وليس المراد أنها مشتقة من الأفعال، وهذا الاتصال والتعلق على ضربين: أحدهما: أن لا يطرِد كـ"القُرْبَة" من "القُرْب"، ألا ترى أنه لا يقال لكلّ ما يقرب "قربة"، وكـ"الخابئة" من "الخَبْء"، ولا يقال لكل ما يَخْبَأ: "خابئة"، بل اختصّت ببعض المسمين للفرق؟ ومثل ذلك قولهم: "عِدْلٌ" لما يعادل من المتاع، و"عَدِيلٌ": لا يقال إلَّا لما يعادل من الأَناسي، فرقوا بين البناءين ليفرقوا بين المتاع وغيره، فالأصل واحدٌ، والبناءان مختلفان، وذلك كثير. والثاني: ما هو المطّرد، وهو ما ذكره من الأسماء الثمانية، ألا تراه عامًا لكل موصوف، وكل زمان ومكان، ونحوها.
المصدر
المصدر فصل [أبنية مصدر الفعل الثلاثي المجرد] قال صاحب الكتاب: أبنيته في الثلاثي المجرد كثيرة مختلفة يرتقي ما ذكره سيبويه منها إلى اثنين وثلاثين بناء, وهي "فَعْلٌ"، "فِعْلٌ"، "فُعْل"، "فَعْلَةُ"، "فِعْلةُ"، "فُعلة", "فَعْلى", "فِعْلِى"، "فُعْلي"، "فَعْلانُ"، "فِعْلان"، "فُعلان"، فَعَلان، فَعَلٌ, فِعَل، فَعِل فُعَل، فَعَلَة، فِعَلَة، فَعَال، فِعَال، فُعَال، فَعَول، فِعَالة، فُعُول، فَعِيل، فُعُولة، مَفْعَل، مَفْعِل، مَفْعِل، ومَفْعَلْة، ومَفْعِلْةْ, وذلك نحو: قتل وفسق وشغل ورحمة ونشدة وكدرة ودعوة وذكرى وبشرى وليان وحرمان وغفران ونزوان وطلب وخنق وصغر وهدى وغلبة وسرقة وذهاب وصراف وسؤال وزهادة ودراية ودخول وقبول ووجيف وصهوبة ومدخل ومرجع ومسعاة ومحمدة. * * * قال الشارح: من ذلك المصدر، وإنّما سمّي مصدرًا لأن الأفعال صدرت عنه، أي: أُخذت منه، كمصدر الإبل للمكان الذي تَرِده ثم تصدُر عنه، وذلك أحدُ ما يحتج به أهلُ البصرة في كون المصدر أصلًا للفعل، وقد تقدم الكلام عليه والخلاف فيه. وإنما نذكر أبنية المصادر المَقِيسَ منها، وغيرَ المقيس. وإنّما قدّم الكلامَ عليه لأنّه الأصل، وما عداه من الأمثلة مأخوذ منه، ولذلك لم تجر المصادرُ على سَنَن واحد، كمجيء أسماء الفاعلين وأسماء المفعولين ونحوهما من المشتقات، بل اختلفت اختلاف سائر أسماء الأجناس. ولمّا جرت مجرى الأسماء؛ كان حكمها حكم اللغة التي تُحْفَظ حِفْظًا، ولا يقاس عليها، فمن ذلك أبنية مصادر الأفعال الثلاثية المجرّدة من الزيادة، وهي كثيرة مختلفة. والأفعالُ ثلاثةُ أبنية: "فَعَلَ"، "يَفْعِلُ"، كـ"ضَرَبَ"، "يضرب"، و"فَعَلَ"، "يَفْعُلُ"، كـ "قَتَل"، "يَقتُلُ"، و"فَعِلَ"، "يَفْعَلُ"، كـ "عَلِم"، "يَعْلَمُ"، و"فَعُلَ"، "يَفْعُلُ" كـ" شَرُف"، "يَشْرُفُ". ولم يأت "فَعَلَ"، "يَفْعَلُ" بالفتح إلَّا فيما كان عينه أو لامه حرفًا من حروف الحلق، نحو: "ذَهَبَ"، "يَذهَبُ"، و"جَبَهَ"، "يَجْبَهُ". وقد استوفينا الكلام على أبنية الأفعال في كتابنا شرح تصريف المُلوكي.
والغالب على ما كان من هذه الأفعال متعديا أن يكون مصدره "فَعْلًا"، والاسم منه "فاعِلًا"؛ فأمّا "فَعَلَ" "يَفْعِلُ"، فنحو: "ضَرَبَ يَضْرِبُ ضَرْبًا فهو ضاربٌ"، و"حَبَسَ يحبِسُ حَبْسًا فهو حابسٌ"، و"فَعِلَ يَفْعَلُ"، نحو: لَحِسه يَلْحَسُه لَحْسًا، فهو لاحسٌ، ولقمه يلقمه لَقمًا، فهو لاقمٌ. الأصل في جميعها هذا، لكنّها اختلفت أبنيتها كما تختلف أبنية سائر الأسماء، ونحن نذكر ما جاء من ذلك في كلّ ضرب منها. الضرب الأول من الأفعال: ما كان على "فَعَلَ"، "يَفْعِلُ"، ويجيء على أربعة عشرَ بناءً: "فَعْلٌ"، نحو: ضرب يضرب ضَرْبًا، وهو الأصل، وعليه القياس، و"فِعْلٌ" قالوا: "عَدَلَ الشيء يَعْدِلُه عِدْلًا" إذا ماثله؛ و"فَعَلٌ" بفتح الفاء والعين، قالوا: "سَرَقَ يَسْرِقُ سَرَقًا" بالتحريك، كأنّهم حملوه على "العَمَل"، وقالوا فيه: "سَرِقَة"، جاءوا به على "فَعِلَةَ" كـ"القَطِنَة"، وقالوا: "غَلَبَ يَغْلِبُ غَلَبًا" جعلوه كـ"السَّرَق"، و"غَلَبَة"، و"غُلُبَّة" أيضًا، قال [من الكامل]: 871 - أَخَذُوا المَخاضَ من الفَصِيلِ غُلُبَّةً ... ظُلْمًا ويُكْتَبُ للأَمِيرِ أُفَيلَا وجاء على "فَعِل" أيضًا بكسر العين، قالوا: "كَذَبَ يَكذِبُ كَذِبًا". وقالوا فيه: "الكِذاب". قال الشاعر [من مجزوء الكامل]: 872 - فصَدَقْتُهُ وكَذَبْتُه ... والمَرْءُ يَنْفَعُهُ كِذابُهْ ¬
ومثله: "ضَرَبَ الفَحْلُ الناقةَ ضِرابًا"، كما قالوا: "نَكَحَها نِكاحًا"، والقياس "ضَرْبًا"، ولا يقولونه، كما لا يقولون: "نَكْحًا"؛ فأمّا "الكِذاب" بالتشديد فهو مصدر "كَذَّبَ" "يُكَذبُ". قال الله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} (¬1)؛ وقد جاء على "فِعْلَةَ"، قالوا: "حَمَيتُ المريضَ حِمْيَة"، وقالوا: "حَمَيْتُ المكان حِمايَة"، وقالوا: "دَرَيْتُه دِرْيَة" مثلَ "حميته حِمْيَة"، و"دِرايَة" مثل "حِمايَةٍ"؛ ومنها ما جاء على "فِعْلانَ"، قالوا: "حَرَمه حِرْمانًا"، و"وَجَدَ الشيء يَجِدُه وِجْدانًا"، و"عَرَفْته عِرْفانًا"؛ وقد جاء أيضًا على "فُعْلان" مضمومَ الفاء، قالوا: "غَفَرَ الله ذَنْبَه غُفْرانَا"؛ وقد جاء على "فَعْلانَ" بفتح الفاء، قالوا: "لَوَيْته بدَيْنه لَيّانًا". قال الشاعر [من الطويل]: تُطِيلِينَ لَيانِي وأَنْتِ مَلِيئَةٌ ... وأُحْسِنُ ياذاتَ الوِشاحِ التَقاضِيَا (¬2) قال أبو العبّاس: "فَعْلانُ" بفتح الفاء لا يكون مصدرًا، إنما يجيء على "فِعْلانَ"، و"فُعْلانَ"، وهذا كثير في المصادر، نحو: "العِرْفان"، و"الوِجْدان"، فكان أصله "لِيَّانًا" أو "لُيّانًا"، فاستثقلوا الكسرة والضمّة مع الياء المشدّدة، فعدلوا إلى الفتحة. وقد حكى أبو زيد عن بعض العرب: "لويته لِيّانًا" بالكسر، وهو شاهدٌ لِما قلناه. وقالوا: "هَدَيْته للدين هُدى"؛ وأما قولهم: "وَلَجْته وُلُوجًا"، فاصله: "ولجتُ فيه"، فهو غير متعدّ، فلذلك جاء مصدره على "فُعُول". وأما الضرب الثاني: وهو"فَعَلَ"، "يَفْعُلُ" بضمْ العين، فهو قريب من الأوَل في الاختلاف، من ذلك ما جاء على "فَعْلٍ"، وهو الأصل على ما تقدّم، قالوا: "قَتَلَه يَقْتُلُه قَتْلًا"، و"خَلَقَ يَخلُقُ خَلقًا"؛ وعلى "فَعَل"، قالوا: "جَلَبَ يَجْلُبُ جَلَبا"، و"طَلَبَ يَطْلُبُ طَلَبَا"؛ وعلى "فَعِل" بكسر العين، قالوا: "خَنَقَه يَخْنُقُه خَنِقًا"؛ وعلى "فُعْل" بضم الفاء وسكون العين، قالوا: "كَفَرَ يَكْفُرُ كُفْرًا"، و"شَكَرَ يَشْكُرُ شُكْرًا"؛ وعلى فِعْلٍ، نحو: ¬
"القِيل"، و"الذكر"، مصدرَى "ذَكَرَ ذِكْرًا"، و"قَالَ قِيلاً". وجاء على "فِعْلَةَ"، قالوا: "نَشَدْتُ الضالةَ نِشدَة"، أي: طلبتُها؛ وعلى "فِعالٍ"، قالوا: "كَتَبَ يَكْتُبُ كِتابًا"، و"حَجَبَ يَحْجُبُ حِجابًا"، وقالوا: "كَتْبًا" على القياس؛ وعلى "فُعْلانَ"، قالوا: "شَكَرَ شُكْرانًا"، و"كَفَرَ كُفرانًا". قال الله تعالى: {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} (¬1). الضرب الثالث: وهو "فَعِلَ" "يَفْعَلُ"، قد جاء أيضًا على أبنية، منها "فَعْلٌ" وهو الأصل، قالوا: "حَمِدَه يَحْمَدُه حَمْدًا"، و"شَمَّهُ يَشَمُّه شَمًّا"، ومنها "فِعْلٌ"، نحو: "عَلِمَ عِلمًا"، و"حَفِظَ حِفْظا"؛ ومنها "فُعْلٌ" بضم الفاء، نحو: "شَرِبَه شُرْبًا"، و"شَغَلَه شُغلًا"؛ ومنها "فَعَل"، قالوا: "عَمِلَ عَمَلًا". قال سيبويه (¬2): أجروه مجرى "الفَزَع", لأن بناء فعلَيهما واحد، فشُبه به، وذلك أن الباب في "فَعِلَ" الذي لا يتعدى إذا كان فاعلُه يأتي على "فَعِلٍ" كـ"فَرِقَ يَفْرَق فَرَقًا" فهو "فَرِقٌ"، و"فَزعَ يَفزَعُ فَزَعًا" فهو "فَزعٌ". شبّهوا ما يتعدّى بما لا يتعدّى, لأن بناءهما في الماضي والمضارع واحد. ومنها "فَعْلَةُ" كـ"رَحْمَةٍ"، و"زَحمَةٍ"، و"لقِيتُه لَقيَة"، ولا يراد به المرّة الواحدة، وقالوا فيه: "رَحَمَةٌ" جعلوه كـ"الغَلَبَة"؛ ومنها "فِعْلَةُ"، قالوا: "خِلتُه إخاله خِيلَة"، و"خِفْتُه خِيفَةَ"؛ ومنها "فِعالٌ" بكسر الفاء، قالوا: "سَفِدَ الذَّكَرُ الأنثى سِفادًا": نَزَا عليها. ومنها "فَعالٌ"، قالوا: "سَمِعتُه سَماعًا"، جاء فيه "فَعالٌ" كما جاء فيه "فَعُولٌ"، وبابُهما غير المتعدي؛ ومنها "فَعَلانُ"، قالوا: "غَشِيتُه غَشَيانًا"؛ ومنها "فُعُولٌ"، قالوا: "لَزِمَه لُزُومًا"، و"نَهِكَه نُهُوكًا". فأما "فَعَلَ يَفْعَل" مما فيه حرف من حروف الحَلْق، فعلى ثلاثة أبنية: منها "فَعالَةُ"، نحو: "نَصَحَ نَصاحَةَ"؛ و"فِعالَةُ"، قالوا: "نَكَأتُ القَرْحَةَ نِكايَة"؛ ومنها "فَعالٌ"، قالوا: "ذَهَبَ ذَهابًا"؛ و"فُعالٌ"، قالوا: "سَأَلَ سُؤالاً". وقد جاءت مصادرُ فيما يتعدّى فعله مؤنّثة بالألف، نحو: "رَجَعْته رُجْعَى"، و"ذكرته ذِكرَى"، وقالوا: "الدَّعوَى"، فـ "الرُّجْعَى" بمعنى "الرجوع"، و"الذكْرَى" بمعنى "الذكْر"، و"الدَّعْوَى" بمعنى "الدُّعاء"، أنّثوا هذه المصادر بالألف كما أنّثوا كثيرًا منها بالهاء، نحو: "العِدَة"، و"الزنَة"، و"الجَلْسَة"، و"القَعْدَة". وقد يُطْلِقون " الدَّعوَى" بمعنى ما يُدعى به، والأصل المصدر، وإنّما جاء ما ذكرناه على حد قولهم: "ضَربُ الأمير" بمعنى مَضرُوبه، و"نَسْج اليَمَن" بمعنى منسوجه، ومثل "الدعوى": "الحُذيا" و"البُقْيا"، أصلهما المصدر، وأُوقِعا على المفعول. الضرب الثاني: من الثلاثيّ غيرُ المتعدي، وتنقسم أبنيةُ فعله إلى انقسام أبنية المتعدي، ويخُصه "فَعُلَ"، "يَفعُلُ". وهذا البناء لا يكون في المتعدي البتة، ومن ذلك "فَعَلَ" "يَفْعِلُ"، ولمصدره أربعةُ أبنية: "فُعُولٌ"، قالوا: "جَلَسَ يَجْلِسُ جُلُوسًا"، وهو ¬
الكثير، وعليه القياس. وقد شبهوه بالمتعدي، فجاءت بعضُ مصادره على مصادر المتعدي. قالوا: "حَلَفَ يَحلِفُ حَلْفًا"، جاءوا به على "فَعْلٍ" حملوه على "السَّرْق" في المتعدّي. وقالوا: "عَجَزَ يَعْجِزُ عَجْزًا"، حملوه على الضَّرْب في المتعدّي، وقالوا: "سَرَى يَسرِي سُرى"، كما قالوا: "هُدى"، وليس في المصادر ما هو على "فُعَلٍ" إلَّا "الهُدى"، و"السرى". وقد كثُر في الأصوات "فَعِيلٌ"، قالوا: "الصَّهِيل"، و"النَّهِيق"، و"الضجِيج". وقد يُتعاور "فَعِيلٌ"، و"فُعالٌ"، قالوا: "شَحَجَ البغل شَحِيجًا وشُحاجًا"، و"نَهَقَ البعير نَهِيقًا ونُهاقًا"، وهو كثير. اتفقا في المصدر كما اتّفقا في الصفة من نحو "عَجِيبٍ"، و"عُجابٍ"، و"خَفِيفٍ"، و"خُفافٍ". وأما "فَعَلَ يَفْعُلُ" بالضم، فهو في غير المتعدي أكثر من "فَعَلَ" "يَفعِلُ"، بالكسر، وله أبنية، منها "فُعولٌ"، وهو الكثير والذي عليه القياس، نحو: "قَعَد يَقْعُد قُعُودًا"، و"خرج يَخرُج خروجًا"، ومنها "فَعَال"، وهو في الكثرة بعد "فُعُول"، نحو: "نَبَتَ نَباتًا"، و"ثَبَتَ ثَباتًا وثُبُوتًا"، على القياس. وقد جاء فيه أيضًا "الفُعال" بالضمّ، كما جاء "الفُعُول" و"الفَعال"، قالوا: "عَطَسَ عُطاسًا"، و"نَعَسَ نُعاسًا". وكثُر "الفُعال" فيما كان صوتًا، نحو: "الصُّراخ"، و"النُّباح". وقالوا: "سَكَتَ يَسكُتُ سَكْتًا"، جاءوا به على "فَعْلٍ"، جعلوه كـ "القَتْل" في المتعدّي، وقالوا فيه أيضًا: "سُكوتًا" على القياس، وقالوا: "المَكث"، جاءوا به على "فَعْلٍ"، جعلوه كـ "القَبْح" في المتعدي. وقالوا: "فَسَقَ يَفْسُقُ فِسْقًا"، جعلوه كـ "الذِّكْر" في المتعدّي. وقالوا: "عَمَرَ المَنزلُ عِمارَةً" جعلوه كـ "الشّكايَة" و"القِصارَة" في المتعدي. وأمّا "الحِجُّ" فذكره سيبويه (¬1) في المصادر، جعله كـ"الذِّكْر" في المتعدي، وعن أبي زيد أن "الحَج"، بالفتح المصدر، و"الحِج"، بالكسر اسم الحاج، وأنشد [من الكامل]: 873 - وكأنّ عاقِبَةَ النشُورِ عليهمِ ... حِجُّ بأَسْفَلِ ذي المَجاز نُزُولُ ¬
ورواه الجوهري (¬1): "حُجٌّ" بالضم، جعله جمع "حاج" كـ"عائِذٍ"، و"عُوذُ". وأما "فَعِلَ يَفْعلُ" في اللازم؛ فالباب فيه "فَعَلٌ"، قالوا: "غَضِبَ غَضبًا"، و"بَطِرَ بَطَرًا"، و"أَشِرَ أَشَرًا"، هذا هو الكثير والمَقِيس، وقد يُخالِف كما خالف ما قبله، قالوا: "ضَحِكَ ضَحْكًا"، و"لَعِبَ لَعْبًا"، كما قالوا: "الخَلْف"، وقالوا: "شَبعَ شِبَعًا"، و"الشِّبْع" بالإسكان اسمُ ما يُشْبِع، ونظيرُ "الشِّبَع " قولهم: "رَوِيتُ من الماء رِيًا، ورَيًّا، ورِوى"، و"رَضِيتُ عنه رِضى". وقالوا: "حَرِدَ يَحرَدُ حَرْدًا"، وقولهم في الاسم منه: "حارِدٌ" يدل أنه مُسكن خرج عن بابِ "غَضِبَ غَضَبًا، فهو غَضْبانُ" بقولهم: "حاردٌ". وأما ما كان مما لا يتعدّى مختصًّا ببناء لا يشركه فيه المتعدي، فهو "فَعُلَ"، وذلك لِما يكون خَصْلَة في الشيء غير عَمَل، ولا عِلاج. ولمصدره أبنية ثلاثة يكثر فيها، وهي: "فَعَالٌ"، و"فَعَالَةٌ"، و"فُعْلٌ". فالأول "جَمُلَ جَمالًا"، و"بَهُوَ بَهاءً". والثاني: "قَبُحَ قَباحَةً"، و"بَهُوَ بَهاءَةً"، و"شَنُعَ شَناعَةً"، و"وَسُمَ وَسامَةً". والثالث: "حَسُنَ حُسْنًا"، و"نَبُلَ نُبلًا". و"فَعالَةُ" أكثر. وقد يجيء مصدره على "فَعْل"، قالوا: "ظَرُفَ ظَرْفًا" جعلوه كـ"السَّكْت"، وعلى "فَعَلِ"، قالوا: "شَرُفَ شَرَفًا"، شبهوه بالـ "غَضَب"، و"البَطَر" لاشتراكها في عدم التعدي، وقد جاء عل "فِعَلٍ"، قالوا: "عَظُمَ عِظَمًا"، و"صَغُرَ صِغَرًا"، و"كَبُرَ كِبَرًا"، جعلوه كـ"الشِّبَع". وقالوا: "قَبُحَ قُبُوحَةً"، و "سَهُلَ سُهُولَةً"، بنوه على "فُعُولَةَ"، كما بنوه على "فَعَالَةَ" كـ"القَباحَة"؛ وربّما جاء على "فَعْلَةَ" قالوا: "كَثُرَ كَثْرَةً وكَثارَةً" على القياس. وقالوا: "كَدِرَ الماء كُدُورَةً"، و"كَدُرَ كَدَرًا"، و"كَدِرَ الطائرُ كُدْرَةً": صار لونُه كُدْرَةً، وهي غُبْرَة. وقد جاءت مصادرُ على مثال واحد في اللازم، وإن اختلفت أبنيةُ أفعالها لتقارُب معانيها، وذلك، نحو: " الغَلَيان"، و"النَّزَوان"، فـ "الغَلَيانُ" مصدرُ "غَلَى يَغْلِي" مثلِ "جَلَسَ يَجلِسُ" في الصحيح، و"النَّزَوان" مصدر "نَزَا يَنْزُو" مثلِ "قَعَدَ يَقْعُدُ". فأبنية الأفعال مختلفة، ومصادرها متفقة على "فَعَلانَ"؛ وذلك لتقاربُ معانيها. وإنما يكون ذلك لِما فيه اضطرابٌ وحركةٌ في ارتفاعٍ، نحو: "النقَزان"، و"النقَزان"، ومثله "العَسَلان"، و"الرتَكان"، وهما ضربان من العَدْو. ¬
فصل [أوزان المصدر من الثلاثي المزيد فيه والرباعي]
وأكثرُ ما يكون "الفَعَلان" في هذا الضرب ممّا فيه حركة واضطراب، ولا يجيء فعله متعدِّيَ الفاعل إلَّا أن يشُذّ شيء، نحو: "شَنِئتُه شَنَآنا"، ولا نعلمه جاء متعدّيًا إلَّا في هذا الفعل، لا غيرُ، فجميع مصادر الثلاثي اثنان وسبعون مصدرًا، وجميع أبنيتها اثنان وثلائون بناءً على ما ذكر. والأصل منها فيما كان متعدّيًا "فَعْلٌ" بفتح الفاء وسكون العين، نحو: "ضَرْبٍ"، و"قَتْلٍ"، وعليه مَدارُ الباب، وما عداه ليس بأصل لاختلافه، وطريقُه أن يُحْفَظ حِفظًا، وإنّما قلنا ذلك: لكثرة "فَعْل" في الثلاثي، واطراده فيما كان متعديًا منه، والذي يدل على ذلك أنك إذا أردت المرة الواحدة، فإنّما ترجع إلى "فَعْلَةَ" على أي بناء كان الثلاثي، وذلك قولك: "ذهبت ذَهابًا"، ثم تقول: "ذهبت ذَهْبَةٌ واحدةَ". والأصل في غير المتعدي "فُعُولٌ"، و"فَعَالٌ"، نحو: "قَعَدَ قُعُودًا"، و"خَرَجَ خُرُوجًا"، و"ثَبَتَ ثَباتًا"، و"نَبَت نَباتًا"، وما عداهما فليس بأصل، بل يحفظ، وذلك لكثرته، وكأنّهم جعلوا الزيادة في المصدر كالعوض من التعدّي؛ فأمّا "دَخَلْته دُخُولاً"، و"وَلَجتُه ولُوجًا"، فهما في الحقيقة غير متعدّيين، والمراد "دخلت فيه"، و"ولجت فيه" فحذف حرف الجر لكثرة الاستعمال، فاعرفه. فصل [أوزان المصدر من الثلاثي المزيد فيه والرباعي] قال صاحب الكتاب: ويُجري في أكثر الثلاثي المزيد فيه والرباعي على سنن واحد, وذلك قولك في أفعل: إفعال، وفي "افتعل": "افتعال"، وفي انفعل انفعال، وفي استفعل استفعال، وفي افعَلَّ وافعَالَّ افعلال وافعيلال، وفي افعول افعوال، وفي افعوعل افعيعال، وفي افعنلل افعنلال، وفي تفاعَلَ تفاعُل، وفي افعللَّ افعلال. وقالوا في فعَّل تفعيلٌ وتفعلةُ، وعن ناس من العرب فِعّال. وقالوا كلمته كلاماً، وفي التنزيل: {وكذبوا بآياتنا كذابا} (¬1) , وفي فاعل مفاعلة وفعال، ومن قال كلام قال قيتال. وقال سيبويه (¬2) في فعال كأنهم حذفوا الياء التي جاء بها أولئك في "قيتال" ونحوها, وقد قالوا ماريته مراء وقاتلته قتالا, وفي تفعَّل تفعُّل وتِفِعّال فيمن قال كلام. قالوا تحملته تحمالاً. وقال [من الطويل]: 874 - ثلاثة أحباب فحب علاقة ... وحب تملاق وحب هو القتل ¬
وفي فعلل فعللة وفِعلالٌ. قال رؤبة [من الرجز]: 875 - أيما سرهاف وقالوا في المضاعف قلقال وزلزال بالكسر والفتح، وفي تفعلَل تفعلُلٌ. * * * قال الشارح: اعلم انّ ما جاوز من الأفعال الماضية ثلاثةَ أحرف، سواء كانت بزيادة، أو بغير زيادة، فإنّ مصادرها تجري على سَنَن لا يختلف، وقياس واحد مطرد في غالب الأمر وأكثره. وذلك لأنّ الفعل بها لا يختلف، والثلاثيةُ مختلفةْ أفعالُها الماضيةُ والمضارعةُ، فلاختلاف الثلاثية اختلفت مصادرها، ولعدم اختلافِ ما زاد منها على الثلاثة، جرت على منهاج واحد لم يختلف، وجملةُ الأمر أن ما زاد على الثلاثة من الأفعال على ضربَيْن: ¬
أحدهما: بحروف كلُها أصول، ولا يكون إلّا على أربعة أحرف لا غيرُ. والثاني: بزيادة عليه، وذلك على ثلاثة أضرب: مُوازِنٌ للرباعي على سبيل الإلحاق به، وموازن له من غير إلحاق، وغير موازن له. فأما الملحق بالرباعي فحكمُه حكم الرباعي في الماضي والمضارع والمصدر، نحو: "شَمْلَلَ يُشَملِلُ شَمْلَلَة"، و "حَوْقَلَ يُحَوْقِلُ حَوْقَلَةٌ"، و"بَيطَرَ يُبَيْطِرُ بَيطَرَةٌ" كما تقول: "دَحْرَجَ يُدَحْرِجُ دَحْرَجَةَ". وأما المُوازِن من غير إلحاق، فثلاثةُ أبنية: "أَفْعَلَ"، و"فَعَّلَ"، و"فَاعَلَ"، فهذه الأبنية وإن كانت على وزن "دحرج" في حركاته وسَكَناته، فذلك شيءٌ كان بحكم الاتْفاق من غير أن يكون مقصودًا إليه، فلذلك لم يأت مصدره على نحو"الدَّحْرَجَة"، بل قالوا في "أَفْعَلَ": "إِفْعَالٌ"، نحوَ: "أَعْطَى يُعْطي إعْطاء"، و"أَكْرَمَ يُكرِمُ إكْرامًا"، وذلك أن الرباعي له مصدران: أحدهما: "الفَعْلَلَة"، نحو: "الدَّحْرَجَة"، و"السرْهَفَة"، والآخر: "الفِعْلاَلُ"، نحو: "السِّرْهاف"، و"الزِّلْزال". والأؤل أغلبُ وألزمُ، وربّما لم يأت منه "فِعلالٌ"، ألا ترى أنهم قالوا: "دَحْرَجْته دَحْرَجَة"، ولم يُسمَع فيه "دِحْراجٌ"، فجاء مصدرُ الملحق على الأغلب، نحو: "البَيْطَرَة"، و"الجَهْوَرَة"، ومصدرُ ما وازَنَ من غير إلحاق على "فِعْلالٍ"، نحو: "الإكرام"؛ ليكون قد أخذ بحكم الشَّبَه والمُوازَنة من الرباعي بنصيب. وأمّا "فَعَّلَ"، فإنَ مصدره يأتي على "التفْعِيل"، نحو: "كسّرته تَكْسِيرًا"، و"عذبته تعذيبًا". قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬1)، كأنّهم جعلوا التاء في أوّله بدلًا من العين المزيدة في "فعّل"، وجعلوا الياء قبل الآخر بمنزلة الألف التي في "الإفعال"، غيروا أوّله كما غيروا آخره كما فعلوا في "الإفعال". وقال قوم: "كلّمتُه كِلامًا"، و"حمّلته حِمّالًا". قال الله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} (¬2) كأنهم نحوا نحو"أَفعَل إفْعالًا"، فكسروا الأوّل، وزادوا قبل الآخر ألفًا. وأمّا "فَاعَلَ"، فإن المصدر منه الذي لا ينكسر أبدًا "مُفاعَلَةُ"، نحو: "قاتلتُه مُقاتَلَةً"، و"جالستُه مُجالَسَةً". جاء لفظه كالمفعول؛ لأن المصدر مفعول. قال سيبويه (¬3): جعلوا الميم عوضًا من الألف التي بعد أولِ حرف منه، والهاء عوضًا من الألف التي قبل آخر حرف منه. يعني أن في "فِعال" قد حُذفت الألف التي كانت بعد الفاء، وفي "مُفاعَلَة" حذفت الألف التي قبل الآخر، فعُوّض منها. وفي الجملة: "المُقاتَلة"، و"المُخالفة" هنا كـ"المَضْرب"، و"المَقتَل" في مصدرِ "ضَرَبَ"، و"قَتَلَ"، جاءا على غير قياس أفعالهما. ¬
ومنهم من يقول:"قاتَلْتُه قِيتالًا"، و"ضاربته ضِيرابًا"، كأنّهم يستوفون حروف "فَاعَلَ"، ويزيدون الألف قبل آخره، ويكسرون أوَّلَ المصدر على حد "إكرامٍ"، و"إخْراج"، وإذا كسروا الأول، انقلبت الألف ياء. ومنهم من يحذف هذه الياء تخفيفًا، فيقول: "قاتلتُه قِتالًا"، و"مارَيْتُه مِراءٌ"، والمصدر اللازم في "فاعلت": "المُفاعَلَةُ". وقد يدعون "الفِعالَ"، و"الفِيعال"، ولا يدعون "المُفاعَلَة"، قالوا: "جالسته مُجالَسَةً"، ولم يسمع: "جلاسًا"، ولا "جِيلاسًا"، ولا "قِعادًا"، ولا "قِيعادًا". وأمّا غير الموازن فأبنيته عشرةٌ، منها اثنتان ليس في أولهما همزةٌ، وهما "تَفَعَّلَ"، و"تَفَاعَلَ"، وثمانية قد لزمت أوّلَها همزةُ الوصل، ثلاثةٌ خُماسيةٌ، وهي "انْفَعَلَ"، و"افتَعلَ"، و"افْعَلَّ"، وخمسةٌ سُداسيةٌ، وهي "اسْتَفْعَلَ"، و"افْعَالَّ"، و"افْعَوْعَلَ"، و"افْعَوَّلَ"، و"افعَنْلَلَ". فأمّا "تَفَعَّلَ"، فبابُه "التفَعُّلُ"، نحو: "تَكَلَّمْتُ تَكَلُّمًا"، و"تَقَوَّلْتُ تَقَوُّلًا". جاءوا في المصدر بجميع حروف الفعل، وضمّوا العين، لأنّه ليس في الأسماء ما هو على "تَفَعَّل" بفتح العين، وفيها "تَفَعُّلٌ" بضمْ العين، نحو "تَنَوُّطٍ" لطائرٍ، ولم يزيدوا ياء ولا ألفًا قبل آخره، لأنّهم جعلوا التاء في أوّله، وتشديد العين عوضا مما يُزاد في المصدر. وأمّا الذين قالوا: "كِذابًا"، فإنّهم يقولون: "تَحَمَّلْتُ تِحمّالا"، أرادوا أن يُدْخِلوا الألف قبل آخره، كما أدخلوها في "أفعلت"، وكسروا الحرف الأول كما كسروا أوّل "إفْعالٍ"، وإنّما يزيدون في المصدر ما ليس في الفعل فرقًا بينهما، وخصّوا المصدر بذلك؛ لأنه اسم، والأسماء أخف من الأفعال، وأَحْمَلُ للزيادة. فأمّا البيت الذي أنشده [من الطويل]: وهو ثلاثة أَحْبابٍ ... إلخ فإن البيت أنشده ثَعْلَب في أمَالِيه عن الأعرابي، والشاهد فيه قوله: "تِملآقٌ"، جاء به على "تَمَلقَ" مطاوع "مَلَّقَ". ويروى: "فحبُّ علاقةٌ" بالتنوين وبغير تنوين، والإضافة في الموضعَيْن، جعله منقوصًا من الأجزاء الخماسيّة. يريد أنّه قد جمع أنواع المحبّة: حُبَّ علاقة، وهو أصفى المودّة، وحبّ تملاق، وهو التودد. قال سيبويه (¬1): كأنّه يحمله على أمر تخيّله عنه، يقال: "مَلِقَ له مَلَقًا وتِمِلاقًا"، وحب هو القتل، يريد الغُلُو في ذلك. وأما "تَفاعَلَ"، فمصدره "التفاعُلُ" كما كان مصدر "تَفَعَّلَ" "التفَعُّلَ", لأن الزنة، ¬
وعدّة الحروف واحدة، و"تَفاعَلْت" من "فاعَلْت"، بمنزلة "تَفَعَّلْت" من "فَعَّلْت". وضمْوا العين لأنّهم لو كسروا، لأشْبَهَ الجمعَ، نحو: "تَنضُبٍ"، و"تَناضِبَ"، ولم يفتحوه, لأنه ليس في الأسماء "تَفاعَل". وأما ما في أوّله همزةُ الوصل، فمصدره أن تأتي به على منهاج "إكْرام"، و"إخْراجٍ"، فتزيد ألفًا قبل آخره، وتستوفي حروفَ الفعل، وتثبت الهمزة موصولةً في أَوّله كما تثبت كذلك في أوّل الفعل, لأن العلة الموجبة لاجتلابها في الفعل موجودةٌ في المصدر، وهو سكون أوّله، فتقول في الخماسيّ: "انْطَلَقَ انْطِلاقًا"، و"احْتَسَبَ احْتِسابًا"، و"احْمَرَّ احْمِرارًا". وتقول في السداسي: "استخرج اسْتِخراجًا"، و"اشْهابَّ اشْهِيبَابًا" و"اغْدَوْدَنَ اغْدِيدَانًا" و"اجْلَوَّذَ اجْلِواذًا"، و"اقْعَنْسَسَ اقْعَنْساسًا". وأمّا " افْعَل"، نحو: "احْمَر احْمِرارًا"، فهو مقصور من "احْمار". وأما "فَعْلَلَ"، فهو بناء يختصّ به بنات الأربعة الأصولُ، نحو: "دَحْرَجَ يُدَحْرِجُ"، و"سَرهَفَ يُسَرْهِفُ". وله مصدران: "الفَعْلَلَةُ"، و"الفِعْلالُ"، وذلك: نحو: "دحرجته دَحرَجَةً"، و"سرهفته سَرْهَفَةَ"، جعلوا التاء عوضًا من الألف التي تزاد قبل الآخر في مثل "الإعْطاء"، و"الإكْرام". وقالوا: "السِّرْهاف"، والّغالب الأول؛ لأنّه لازمٌ لجميعها، وربّما لم يأت "فِعْلالٌ"، تقول: "دحرجتُه دَحْرَجَةً"، ولم يسمع: "دِحراجٌ". وقالوا: "زَلْزَلتُه زَلزَلَةً"، و"قلقلته قلقلة"، وقالوا: "الزلْزال"، و"القِلقال" كـ"السِّرْهاف"، وربّما فتحوا الأول في المضاعف، فقالوا: "الزَّلْزال"، و"القَلْقال" ولا يقولونه في غيره، فلا يقولون: "السَّرْهاف"، بفتح السين، كأنّهم لثقل التضعيف لم يكسروا الأوّل. وإنما حذفوا التاء، وأتوا بالألف قبل الآخر عوضًا عنها، وفتحوا الأول كما فتحوا أوّل التَّفْعِيل من نحو "كلّمته تَكلِيمًا"، ومَن كسر، جعله كـ "الكِلام"، و"الكِذاب"؛ فأمّا قوله [من الرجز]: سَرْهَفْتُه ما شئتَ من سِرْهافِ فإن صاحب الكتاب أنشده لرؤبة، وهو للعَجّاج، وقبله: والنسْرُ قد يَرْكُضُ وهو هافِ ... بُدلَ بعدَ رِيشِه الغُدافِ قنازِعًا من زَغَبٍ خَوافِ ... سَرْهَفْتُه ماشئتَ من سِرْهافِ القَنازع: جمع قُنْزُعَةِ، وهو الشَّعْر حول الرأس. والزَّغَب: الشعرات الصغَر على ريش الفَرْخ، والخوافي: ما دون الريشات العشر من مُقدَّم الجناح، وسُرْهِفَ الصبي: أُحْسِنَ غِذاؤُه. يُقالُ:"سرهفه"، و"سرعفه". والشاهد فيه قوله: "سِرْهاف"، جاء بالمصدر على "فِعْلالٍ". وما لحقته الزيادةُ من بنات الأربعة، وجاء على مثالِ "استفعلت"، فإن مصدره يجيء على "استفعال"، نحوَ: "احرَنْجَمْتُ احْرِنْجَامًا"، و"اطْمَأنَنْتُ اطْمِئْنانًا"،
فصل [المصدر على وزني اسم الفاعل واسم المفعول]
و"اقْشَعْررْتُ اقْشِعْرارًا"؛ فأمّا "الطمَأْنِينَةُ" و"القُشَعْرِيرَةُ" فاسمان، وليسا مصدرَيْن جاريَيْن على "اطمَأن"، و"اقْشَعَرَّ"، وإنّما هما بمنزلة "النبات" من "أنْبَتَ". فصل [المصدر على وزني اسم الفاعل واسم المفعول] قال صاحب الكتاب: وقد يرد المصدر على وزن اسمي الفاعل والمفعول، كقولك قمت قائماً، وقوله [من الطويل]: ولا خارجاً من في زور كلام (¬1) وقوله [من الوافر]: 876 - كفى بالنأي من أسماء كاف ... [وليس لحبها إن طال شافي] ومنه الفاضلة والعافية والكافية والدالة والميسور والمعسور, ¬
والمرفوع والموضوع والمعقول والمجلود والمفتون في قوله تعالى: {بأيكم المفتون} (¬1) , ومنه المكروهة والمصدوقة والمأوية, ولم يثبت سيبويه (¬2) الوارد على وزن مفعول والمصبح والممسي والمجرب والمقاتل والمتحامل والمدحرج. قال [من البسيط]: 877 - الحمد لله ممسانا ومصبحنا ... بالخير صبحنا ربي ومسانا وقال [من الطويل]: 878 - [وقد ذقتمونا مرة بعد مرة] ... وعلم بيان المرء عند المجرب ¬
وقال [من الطويل]: 879 - [ترادي علي دمن الحياض فإن تعف] ... فإن المندي رحلةٌ فركوب وقال [من الرجز]: 880 - إن الموقي مثل ما وقيت ¬
وقال [من الطويل]: 881 - أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا ... [وأنجو إذا حُمَّ الجبان من الكرب] وما فيه متحامل وقال [من الرجز]: 882 - كأن صوت الصنج في مصلصله * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن المصدر قد يجيء بلفظ اسم الفاعل والمفعول كما قد يجيء المصدر، ويُراد به الفاعل والمفعول من نحو قولهم: "ماء غَوْرٌ"، أي: غائرٌ، و"رجلٌ عَدْلٌ"، أي: عادلٌ. وقالوا: "درهم ضَرْبُ الأمير"، أي: مضروبُه، و"هذا خَلْقُ الله" والإشارةُ إلى المخلوق. وقالوا: "أتيتُه رَكْضًا"، أي: راكِضًا، و"قتلته صَبْرًا"، أي: مصبورًا. كذلك قالوا: "قُمْ قائمًا" فانتصب انتصابَ المصدر المؤكد، لا انتصابَ الحال، والمراد: قم قِيامًا، فأمّا قوله [من الطويل]: ألَمْ تَرَنِي عاهدتُ ربي وإنني ... لَبَيْنَ رِتاج قائم ومَقام على حِلْفَ لا أشتِمُ الدَّهْرَ مُسْلِمًا ... ولاخارِجًا من في زُورُ كَلامِ (¬1) فإئهما للفرزدق. والشاهد فيه قوله: "ولا خارِجًا"، وضعه موضعَ "خروجًا"، والتقدير: لا أشتم شَتْمًا، ولا يخرج خروجًا. وموضعُ "خارجًا" موضِعُ "خروجًا"؛ لأنّه على ذلك أقسمَ, لأنّ "عاهدت" بمعنى "أقسمت". هذا مذهب سيبويه (¬2). وكان عيسى بن عمر يذهب إلى أن "خارجًا" حالٌ، وإذا كان حالًا، فلا بد أن يكون الفعل قبله في موضع الحال، لانّه معطوف عليه، والعاملُ فيهما "عاهدت"، والتقدير: عاهدتُ ربي لا شاتمًا ولا خارجًا من فيّ زورُ كلام، أي: في هذه الحال، ولم يذكر ما عاهد عليه، وأمّا قول الآخر [من الوافر]: كَفَى بالنأْيِ من أسْماءَ كافِي ... وليس لحُبّها إذ طَالَ شافِي فيَا لكِ حاجةً ومَطالَ شَوْقٍ ... وقَطْعَ قَرِينَة بعدَ ائتِلافِ الشعر لبشْر، والشاهد فيه نصبُ "كاف" على المصدر، وإن كان لفظه لفظ اسم الفاعل، والمرَاد: "كافِيًا"، وإنّما أسكن الياء ضرورةً، جعله في الأحوال الثلاث بلفظ واحد كالمقصور، وقد جاء ذلك كثيرًا. ومنه قوله [من الطويل]: 883 - ولو أن واش باليَمامَة دارُه ... وداري بأعْلَى حَضْرَ مَوْتَ اهْتَدَى لِيَا ¬
وفاعلُ "كَفَى" ما بعد الباء ومثله {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬1). وممّا جاء من المصادر على "فَاعِل" قولهم: "الفاضلة" بمعنى الفَضل والإفضال، و"العافِيَة" بمعنى المُعافاة، يُقال: "عافاه اللهُ، وأعفاه معافاةً وعافِيَةً". و"العاقبة" من قولهم: "عَقَبَ فلان مكانَ أبيه"، أي: خَلَفَهُ، وعاقبةُ كل شيء: آخِرُه، وفي الحديث: "السَّيدُ والعاقِبُ" (¬2)، فالعاقب: من يخلُف السّيدَ، وقولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -:"أنا العاقِبُ" (¬3)، أي آخِرُ الأنبياء. و"الدالَّةُ": الدَّلّ من قولهم: "فلانةُ حسنةُ الدَّلالِ والدَّل والدالَّةِ"، وهو كالغُنجِ. و"الكاذِبَة" من قوله تعالى: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} (¬4) بمعنى الكِذب، ونحوه قوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} (¬5)، أي: من بَقَاءٍ، والحق أنها أسماء ؤضعت موضع المصادر. وأمّا ما جاء بلفظ المفعول، قولهم: "المَيسُور"، و"المعسور"، و"المرفوع"، و"الموضوع"، و"المعقول"، و"المجلود"، فأكثرُ النحويين يذهبون إلى أنّها مصادر جاءت ¬
على "مفعول"؛ لأن المصدر "مفعول"، فالميسور بمعنى اليُسر، والمعسور بمعنى العُسر، يُقال: "يُسْرٌ، ويُسُرٌ، ويَسَرٌ"، و"عُسْرٌ، وعُسُرٌ"، و"ميسور"، و"معسور"، وهما نقيضان في المعنى. يُقال: "دَعْهُ إلى ميسوره، وإلى معسوره" أي: إلى زمن يُسْرِه وعُسْرِه، كما يُقال: "مَقدَمَ الحاجِّ، وخُفُوقَ النَّجْمِ". و"المرفوع" و"الموضوع" بمعنى الرَّفْع والوضْع، وهما ضربان من السير. يُقال: "رفع البعيرُ في السير" إذا بالَغَ، قال طَرَفَةُ [من السريع]: 884 - موضوعُها زَوْلٌ ومرفوعُها ... كمَرِّصَوْبٍ لَجِبٍ وَسْطَ رِيحْ ويُقال أيضًا: "وضعتُ" الشيء من يدي موضوعًا، ووَضْعًا". ومثله "المعقول" بمعنى "العَقل"، يُقال: "ما له معقولٌ"، أي: عقلٌ. و"المجلود" بمعنى الجَلادة، يُقال: "رجل جَلْدٌ بَين الجَلادة، والمجلودِ"، وبه قالوا في قوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} (¬1)، أي: بأيكم الفِتْنةُ، وكان سيبويه (¬2) لا يرى أن يكون "مفعول" مصدرًا، ويحمل هذه الأشياء على ظاهرها، ويجعل "الميسور"، و"المعسور" زمانًا يُوسَر، ويُعْسَر فيه، كما تقول: "هذا وقت مضروب"؛ لأن الضرب يقع فيه. ومثله قوله [من الكامل]: 885 - حَمَلَت به في لَيلَةٍ مَزؤودَةٍ ... [كَرْهًا وَعَقدُ نِطاقِها لَمْ يُخلَلِ] ¬
في روايةِ من خفض، جعل الليلة مزؤودة من حيث كان الزُّؤْد فيها، فإذا قال: "دَعْهُ إلى ميسوره ومعسوره"؛ فكأنه قال: "إلى زمان يُوسَر فيه، ويُعْسَر فيه"، وجعل المرفوع والموضوع ما ترفعه وما تضعه، وجعل المعقول من "عَقَلْتُ الشيء" أي: حبسته وشددته كأنّه عقل له لُبَّه، وشَدَّ، وقيل في قوله: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}: إن الباء زائدة على حدّ زيادتها في {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (¬1) في أصحْ القولين، والمراد: فَسَتُبْصِرُ ويبصرونَ أيَّكم المفتون، واستغني بهذه المفعولات عن الفعل الذي يكون مصدرًا، لأن فيها دليلاً على الفعل، وقيل: المراد بالمفتون الجِنّيّ, لأن الجنّي مفتون، وذلك أن الكُفار قالوا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مجنون، وأن به جنّيًا، فقال سبحانه: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} (¬2) يعني الجِنّي. ومن ذلك "المكروهة"، و"المصدوقة"، و"المأويّة" على التفسير المتقدّم. فأمّا "المُصْبَح"، و"المُمْسَى" ونحوهما، فمصادرُ غيرُ ذي شكّ، وذلك أن المصدر إذا كان لفعل زائد على الثلاثة، كان على مثال المفعول؛ لأن المصدر مفعولٌ، تقول: "أدخلته مُدخَلًا"، و"أخرجته مُخرَجًا" كما قال تعالى: {أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} (¬3)، وقال اللهُ: {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (¬4)، والمفعول به "مُدْخَل"، و"مُخْرَجٌ". وكذلك لو بنيت من الفعل اسمًا للمكان والزمان، كان كلّ واحد منهما على مثال المفعول، لأن الزمان والمكان مفعولٌ فيهما، والفعلُ يعمل فيها كلّها عملًا واحدًا، فلمّا اشتركت في وصول الفعل إليها ونَصْبِها، اشتركت في اللفظ، فقالوا في المكان والزمان: "مُمْسى"، و"مُصْبَحٌ"، وكذلك إذا أرادوا المصدر. ¬
ومنه " المُجَرَّبُ"، و"المُقاتَل"، و"المُتَحامَلُ"، و"المُدَحْرَجُ"، فـ"المُفْعَل" في هذا كالمفعول في الثلاثي، إلَّا أنَّهم يضمون الأوّل فيما زاد على الثلاثة، كما ضمّوا أوّل الفعل منه، فـ"مُدْخَلٌ" كـ"يُدْخَلُ"، و"مُنْزَلٌ" كـ"يُنْزَلُ"، فأما قوله [من البسيط]: الحمد لله مُمْسانَا ومُصْبَحَنَا (¬1) ... إلخ فالبيت لأُمَيَّةَ بن أبي الصَّلْت، والشاهد فيه استعمال "الممسى"، و"المصبح" بمعنى الإمساء والإصباح، والمراد وقتَ الإمساء، ووقتَ الإصباح، كما يُقال: "أتيتُه مَقْدَمَ الحاجّ، وخُفُوقَ النجْم"، أي: وَقْتَه؛ فالممسى هاهنا، والمصبح نصبٌ على الظرف، وأمَّا قول الآخر [من الطويل]: وعِلمُ بَيانِ المَرْء عند المُجَرَّبِ (¬2) فالبيت لرجل من بني مازِن، وقد أوقعت بنو مازن بقوم من بني عَجل، فقتلوهم، فغدت بنو عجل على جار من بني مازن، فقتلوه، وصدرُ البيت: وقد ذُقْتُمونا مَرَّةً بعد مرّةٍ والشاهد فيه وضعُ "المُجَرَّب" موضعَ "التجْرِبَة"، يريد أن بالتجربة يُعْرَف ما يُحْسِنه المرءُ، وقوله [من الطويل]: فإن المُنَدَّى رِحْلَةٌ فَرُكُوبُ (¬3) الشعر لعَلْقَمَةَ بن عَبَدَةَ، وصدره: تُرادَى على دِمْنِ الحِياضِ فإنْ تَعَفْ وقبله: فأوْردتُها ماءً كأن جِمامَهُ ... من الأجْنِ حِنّاءٌ مَعًا وصَبِيبُ والشاهد فيه وضع "المُندَّى" موضعَ "التَّنْدِيَة". يُقال: "نَدَتِ الإبلُ" إذا رعت بين النَّهَل والعَلَل، تَنْدُو نَدْوًا، وأنْدَيْتُها أنا، وتَنْدِيةٌ، والمكان المُنَدَّى، وكذلك المصدر؛ يصف إبلًا ترعى على دمن المياه، فإن عافت الرَّعْيَ، استُعملت في الرحيل والركوب، فهو كقوله [من الكامل]: 886 - [بِسَوَاهِم لُحُقِ الأياطلِ شُزّبِ] ... فعَلِيقُها الإسْراجُ والإلجامُ ¬
وإنّما عَطَف "الركوب" بالفاء دون الواو، ليؤْذِن بأن ذلك متَّصل لا ينقطع، كما يُقال: "مُطِرْنا ما بين زُبالَةَ فالثَّعْلَبِيةِ"، إذا أردت أن المطر انتظم الأماكنَ التي بين هاتَيْن القريتَين، يقروها شيئًا فشيئا بلا فُرْجة، ولو قلت: "مطرنا ما بين زبالة والثعلبيّة"، فإنَّما أفدت بهذا القول أن المطر وقع بينهما، ولم ترد أنه اتّصل في هذه الأماكن من أوّلها إلى آخرها. وأمّا قول الراجز: إنْ المُوَقَّى مِثْلُ ما وُقِّيتُ (¬1) فهو لرُؤْبَةَ بن العجّاج، وقبله: يَارَبّ إنْ أخطَأت أو نَسِيتُ ... فأنْتَ لا تَنْسَى ولا تَمُوتُ الشاهد فيه استعمال "الموَقَّى" بمعنى "التوْقِيَة"، أي: أن التوقية مثلُ تَوْقِيَتِي، وكان قد وقع في أيدِي الحَرُورية، وأمّا قول الآخر [من الطويل]: أُقاتِلُ حتى لا أرَى لي مُقاتَلًا فإنّ هذا المِصْراع قد استعمله شاعران أحدهما مالك بن أبي كَعب، وتمامه: وأنْجُو إذا حُمَّ الجَبانُ من الكَرْبِ (¬2) والشاهد فيه استعمال "مُقاتَل" بمعنى القِتال، أي: حتى لا تبقى لي قُدْرةٌ على القتال، وأنجو عند الغَلَبَة بالفِرار إذا هلك الجبان، وأُحِيطَ به لعَجْزه عن الدفع والنَّجاة، والآخر زيد الخَيْلِ، وتمامه [من الطويل]: وأنْجُو إذا لم يَنْجُ إلَّا المُكَيَّسُ أي: الكَيِّس العاقل؛ لأنَّه يعرِف وجه التخلص، وأما قوله [من الرجز]: كأنّ صَوْت الصَّنْجِ في مُصَلصَلِهْ (¬3) ¬
[المصدر على "تفعال"]
الشعر، فالشاهد فيه استعمال "المصلصل" بمعنى "الصَّلْصَلَة". شبّه صَهِيل الفرس بصوت الصنج، والصنج الذي تعرفه العرب، فهو الذي يُتّخذ من صُفْر يُضرَب أحدهما بالآخر، وأمّا ذو الأوتار فهو للعَجَم. والصلصلة: الصوت، يُقال: "تَصَلصَلَ الحَلْيُ على صدر المرأة"، أي: صَوَّتَ. ويجوز أن يكون شبه عَلْكَ اللجام لجَرْيه بصوت الصنج، وصلصلةُ اللجام: صوتُه. فصل [المصدر على "تَفْعال"] قال صاحب الكتاب: و"التفعال" كالتهدار والتلعاب والترداد والتجوال والتقتال والتسيار، بمعنى الهدر واللعب والرد والجولان والقتل والسير، مما بني لتكثير الفعل والمبالغة فيه. * * * قال الشارح: هذا الفصل قد اشتمل على ما جاء مصدرُ "فَعَلْتُ" فيه على غيرِ ما يجب له، بأن زِيدَ فيه زوائدُ للإيذان بكثرة المصدر وتكريره، كما جاءت "فَعَّلْتُ" بتضعيف العين لتكثير الفعل وتكريره، وذلك قولك في "الهَدْر": "التَّهْدار". يُقال: "هَدَرَ الشَّرابُ يَهْدِرُ هَدْرًا وتَهْدارًا" إذا غَلَى، فالتهدارُ: الهَدْرُ الكثير. وقالوا في اللعْب: "التلْعاب" وفي "الصَّفْق": "التَّصْفاق" وفي "الرَّدْ": "التَّرْداد"، وفي "الجَوَلان": "التَّجْوال"، وفي "القَتْل": "التَّقْتال" وفي "السير" "التَّسْيار"، فليس في هذه المصادر ما هو جارٍ على "فَعَلَ" لكن لما أردت التكثير؛ عدلتَ عن مصادرها، وزدتَ فيها ما يدل على التكثير؛ لأنّ قوّة اللفظ تُؤذِن بقوّة المعنى، ألا ترى أنّهم يقولون: "خَشُنَ الشيءُ"، وإذا أرادوا الكثرة والمبالغة، قالوا: "اخْشَوْشَنَ"، وقالوا: "عَشُبَت الأرضُ"، وإذا أرادوا الكثرة، قا لوا: "اعْشَوْشَبَت"، فهي مصادرُ جرت على غير أفعالها. وقال الكوفيون: "التفْعال" هنا بمنزلة التَّفْعِيل، ولا بأسَ به لأنّ "التفعيل" مصدرُ "فَعَّلَ"، وهو بناءُ كثرة فلم يأتوا بلفظه؛ لئلّا يُتوهّم أنّه منه، فغيّروا الياء بالألف، وبقّوا التاء مفتوحةً. فأما "التِّبْيان"، فلم ترد التاءُ فيه للتكثير، ولو كانت كذلك، لفُتحت، لكنّها زيدت لغير علّة، و"البَيان" و"التِّبْيان" واحدٌ، وكذلك "التِّلْقاء" و"اللقاء" واحدٌ، وليس في المصادر "تِفْعالٌ" بكسر التاء إلَّا هذَيْن المصدرَيْن، وما عداهما "تَفْعالٌ" بالفتح. وقد جاءت أسماءٌ يسيرةٌ غيرُ مصادر على "تِفْعال" تبلغ نحوَ ستّةَ عشرَ اسمًا، قالوا: "تِهْواءُ"، و"تِبْراكُ"، و"تِعْشارُ"، و"تِرْباعُ" لمواضعَ، و"تِمْساحٌ" للدابّة المعروفة، و"تِمْساحٌ" للرجل الكذاب، و"تِجْفافٌ" لِما يُلْبَس الفرس عند الحرب، والجمع تَجافِيفُ، و"تِمْثالٌ" للصورة، و"تِمْرادٌ" بيت صغيرٌ للحَمام، والجمع تمارِيدُ، و"تِلْفاقٌ" ثوبان
[المصدر على "فعيلى"]
يُلْفَقان، و"تِلقامٌ" سريع اللَّقْم، و"تِضرابٌ" لوقت الضراب، و"تِلْعابَ" كثير اللَّعْب، و"تِقْصارٌ"، و"تِنْبالٌ" للقصير. * * * فصل [المصدر على "فِعّيلى"] قال صاحب الكتاب: والفعيلي كذلك، تقول كان بينهم رميا وهي الترامي الكثير، والحجيزي والحثيثي كثيرة الحجز والحث، والدليلي كثرة العلم بالدلالة والرسوخ فيها، والقتيتي كثرة النميمة. * * * قال الشارح: اعلم أن هذه المصادر جاءت على "فِعيلَى" مُضَعفةَ العين للمبالغة والتكثير، يُقالَ: "كان بينهم رميّا"، أي: تَرامٍ، ولا يريد مطلق الرَّمْي، بل الكثرة، وكذلك "الحِجِّيزَى"، و"الحِثِّيثَى" المراد كثرة الحجْز، والحَث، كما أن الرِّميَّا كذلك، ولا يكون من واحد؛ لأن المراد الترامي والتحاجُز والتحاثُث، وقد يجيء هذا الوزنُ لواحد، قالوا: "الدلِّيلَى" والمراد بها كثرة العِلْم بالدَّلالة، وقالوا: "القِتِّيتَى" بمعنى النَّميمة، و"الهِجِّيرَى" كثرة الكلام السيىء. وعن عُمَرَ، رضي الله عنه: "لولا الخِليفَى لأذنْتُ"، أي: لولا الخلافة والاشتغالُ بأمرها عن تعهُّد أوْقات الأذان، لأذنْتُ، يشير بذلك إلى فضل الأذان. وهذه الألفاظ من المصادر جاءت مؤنّثةَ بالألف، ولم تاتِ إلَّا مقصورة، نحوَ: "الدَّعْوَى" و"الرُّجْعَى" و"خَصَّه بالشيء خُصُوصًا، وخُصُوصِيةً، وخِصِّيصَى"، وحكى الكسائي: "خِصيصاءُ" بالمد، و"الأمرُ بينهم فَيضُوضَى"، والفَيْضُوضَى: الأمر المشترَك، وأجاز المدّ في جميع الباب قياسًا، وخالفه جميع البصريين في ذلك، والفرّاءُ من أصحابه. فصل [صِياغة مصدر المرّة] قال صاحب الكتاب: وبناء المرة من المجرد على فعلة تقول قمت قومة وشربت شربة, وقد جاء على المصدر المستعمل في قولهم أتيته إتيانة، ولقيته لقاءة, وهو مما عداه على المصدر المستعمل كالإعطاءة والانطلاقة والابتسامة والترويحة والتقلبة والتغافلة؛ وأما ما في آخره تاء, فلا يتجاوز به المستعمل بعينه تقول قاتلته مقاتلة واحدة، وكذلك الاستعانة والدحرجة. * * * قال الشارح: قد تقدّم أن أصل مصدر الفعل الثلاثي المجرّد من الزيادة أن يأتي على
[مصدر النوع]
"فَعْل"، فإذا أرادوا المرّة الواحدة، ألحقوه التاء، وجاؤوا به على "فَعْلَةَ"، قالوا: "ضربتُه ضَرْبَة"، و"قتلتُه قَتْلَة"، و"أتيتُه أتْيَة"، و"لقيتُه لَقيَةً"، وكذلك لو كان في المصدر زيادة، نحوُ "جلس جُلُوسًا"، و"قعد قُعُودًا"، فإنّك تُسقِط الزيادة إذا أردت المرّة الواحدة، وتأتي به على "فَعْلَةَ"، نحوِ: "جلس جَلْسَةً"، و"قعد قَعدَةً"؛ لأن الأصل "جَلْسٌ"، و"قَعْدٌ". وقولهم: "الجُلُوس"، و"الذهاب" ونحوهما ليست الزيادة فيه من الأصل, لأنّها لم تكن في الفعل، ولم تلزم الزيادةُ فيه لزومَها ما كانت موجودة في فعله، نحوَ: "الإفْعال" في باب "أفْعَلَ"، و"الاستفعال" في باب "استفعل"، فالضَّرْبُ والقَتْلُ ونحوهما جمع "فَعْلَةَ"، نحوِ: "تَمْرَةٍ"، و"تَمْرٍ"، و"نَخْلَةٍ"، و"نَخْلٍ"؛ لأن المصدر يدل على الجنس، كما أن "النخل" و"التمر" يدلان على الجنس، فـ"ضَرْبَةٌ" نظير "تمرةٍ"، و"ضَرْبٌ" نظير "تمرٍ". وقد يزيدون التاء على المصدر المزيد فيه، فيريدون به المرّة الواحدة، قالوا: "أتيتُه إتْيانَةً"، و"لقيتُه لِقاءَةً"، جاؤوا به على المصدر المستعمل، كأنّهم نزلوا الزيادة غير اللازمة منزلةَ اللازمة، فكما يقولون: "أعْطَيْتُه إعْطاءَةً"، و"استغفرتُه استغفارةً"، كذلك قالوا: "أتيته إتيانةً"، و"لقيته لقاءةً". "وهو فيما عداه على المصدر المستعمل"، يعني ما عدا الفعلَ الثلاثى المجرّدَ من الزيادة، والمرادُ أنّ ما كان من الفعل زائدًا على الثلاثة، فإنّ المرّة الواحدة تكون بزيادة الهاء على مصدره المستعمل، نحوِ قولك: "استغاث استغاثة"، و"أعْطاه إعْطاءةً"، و"كَسرَه تَكْسِيرَةً" يراد بذلك كله المرّة الواحدة، وسَواء ما كان زائدَا على الثلاثة بحروفِ كلّها أُصول، نحوُ: "الدَّحْرَجَة"، و"السَّرْهَفَة" أو بزيادة علي بنات الثلاثة، نحوِ: "أعطيتُه إعطاءةً"، و"انطَلَقَ انطِلاقةً". فإن كان فيه هاءٌ، لم يُجتلب للمرة هاءٌ، واكتُفي بالهاء التي فيه عن هاء تجتلبها، وذلك قولك: "قاتلتُه مُقاتَلَةً"، ولا تقول في المرة: "قِتالَةً"؛ لأن أصل المصدر في "فَاعَلَ" "المُفاعَلَةُ" لا "الفِعال"؛ لأنّه على وزن "الدحْرَجَة"، ومثله "أقَلْتُه إقالَةً"، و"اسْتَعَنتُ به استعانةً". ولو قيل- في قولك إذا قلت: "استعنتُ به استعانةً"، وأراد المصدر، ثم قال: "استعانةً" وأراد المرّة الواحدة- إنّ هذه التاء غير تلك التاء الأوُلى، كما أنّك إذا قلت: "يا مَنْصُ" في لغةِ من قال: "يا حارُ"، فإن الضمة فيه غير ضمة الصاد التي كانت فيه؛ لكان قولاً قويًا. فصل [مصدر النوع] قال صاحب الكتاب: وتقول في الضرب من الفعل هو حسن الطعمة والركبة,
[بناء المصدر من المعتل العين من "أفعل" والمعتل اللام من "فعل"]
والجلسة والقعدة، وقتلته قتلة سوء، وبئست الميتة، والعذرة ضربٌ من الاعتذار. * * * قال الشارح: إنّما قال: "في الضرب من الفعل"؛ لأن المصدر يدل على جنس الفعل، فإذا قلت: "ضَربٌ"، أو "قَتلٌ"، دل على الضرب والقتل الذي يتناول جميعَ أنواع الضرب والقتل، وأنت هنا لم تُرِد به الجنس ولا العدد، إنما أردت نوعًا من الجنس، فإذا قلت: "الطِّعمَة"، و"الرِّكْبَة"، و"الجِلْسَة" ونحوها، فإنّما تريد الحالة التي عليها الفاعلُ، والمراد أنّه إذا ركب؛ كان ركوبُه حسنًا، أي: ذلك عادتُه في الركوب والجلوس. وكذلك "هو حسنُ الطعْمَةِ"، المراد أن ذلك لما كان موجودًا فيه لا يُفارِقه؛ صار حالة له. والقِعْدَةُ حالةُ وقتِ قعودِه، ومثله "القِتْلة" للحالة التي قُتل عليها. و"بِئسَتِ المِيتَةُ"، أي: أنّه مات مِيتَةَ سَؤءٍ، أي: حالةُ وقت الموت كانت سيئةً. و"العِذرَةُ": حالةُ وقت الاعتذار، وهذا البناء يكون على ضربين: أحدهما للحالة على ما ذكرنا، والآخر أن يكون مصدرًا لا يُراد به الحالةُ، وذلك نحوُ: "دَرَيْتُ دِرْيَة"، و"لفلانٍ شِدَّة وبَاسٌ"، و"شَعُرْتُ بالأمر شِعْرَةً"، وقولهم: "لَيْتَ شِعْرِي"، المراد: "ليت شِعْرَتِي" أي: عِلْمِي ومَعْرِفَتِي، وإنّما حذفوا التاء تخفيفًا لكثرة الاستعمال. فصل [بناء المصدر من المعتلّ العين من "أَفْعَل" والمعتل اللام من "فَعّل"] قال صاحب الكتاب: وقالوا فيما اعتلت عينه من "أفْعَلَ", واعتلت لامه من "فَعَّلَ": إجازة وإطاقة وتعزية وتسلية، معوضين التاء من العين واللام الساقطتين, ويجوز ترك التعويض في أفعل دون فعَّل قال الله تعالى: {وإقام الصلاة} (¬1) , وتقول أريته إراء، ولا تقول تسليا ولا تعزيا, وقد جاء التفعيل فيه في الشعر، قال [من الرجز]: 887 - فهي تنزي دلوها تنزياً ... كما تنزي شهلة صبيا * * * ¬
قال الشارح: أما ما كان من الأفعال على "أفعَلَ" معتلَّ العين، نحوُ: "أجاز يُجِيزُ"، و"أطاق يطِيقُ" ونظائرهما من نحوِ "أقام"، و"أقال"، فإنّ المصدر منها على "إجازَةٍ"، و"إطاقة"، و"إقامة"، و"إقالة"، والأصل: "إجْواز"، و"إطواقٌ"؛ لأنه من "أجاز يجيز"، و"أطاق يطيق"، فهو كقولك: "أكرَمَ يُكرِمُ إكرامًا"، إلَّا أنّه لمّا اعتلّت العين من "أجاز يجيز"، و"أطاق يطيق" بقلبها ألفًا؛ أعلوا المصدر حملًا على الفعل بنقل حركتها إلى ما قبلها، ثم قلبت العين ألفًا؛ لتحرُّكها في الأصل وانفتاحِ ما قبلها الآنَ، وكانت الألف بعدها ساكنةً، فحذفت الألف لالتقاء الساكنَين، وعُوّض من المحذوف التاء. فالخليل وسيبويه يذهبان إلى أن المحذوف ألفُ "إفعال" لأنّها زائدةٌ، فهي أولى بالحذف، وأبو الحسن الأخفش والفرّاء يذهبان إلى أن المحذوف الألف المبدلة من العين، وهو القياس، ولذلك اختاره صاحب الكتاب، فقال: "معوِّضين من العين واللام"، يريد العين من "إطاقة"، واللام من "تَعْزِيَةٍ" وسيأتي الكلام على ذلك في موضعه، ومن ذلك "استَعنته استِعانةً"، و"استخار استخارةً"، والأصل: "استِعوانًا"، و"استِخيارًا". فأمّا قولهم: "أرَيْتُه إراءَةً" فإنّه، وإن لم يكن معتل العين لأن الأصل "أرْأيتُه"، عينُه همزة لأنه "أفْعَلَ" من "رَأيتُ"، فالهمزة حرف صحيح، لكنه دخله نقصٌ بتخفيف الهمزة، ولزومِ ذلك حتى صار الأصل مرفوضًا، وذلك أنّهم ألقوا حركة الهمزة على الراء، وأُسْقطت الهمزة، فأتوا بالهاء عوضًا من ذلك النقص. والذي يدلّ على أن الهاء عوضٌ من المحذوف أنك تقول: "اخترتُ اختِيارًا"، و"انقاد إنقِيادًا"، فلا تلحِق الهاء, لأنّه لم يسقط من المصدر شيءٌ؛ لأنه لم يلتق فيه ساكنان. وأجاز سيبويه (¬1) أن لا يأتوا بالعوض، واحتجّ بقوله تعالى: {وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} (¬2). والفراءُ يجيز حذفها فيما كان مضافًا، نحوِ الآية؛ فكأن الإضافة عوضٌ من التاء، وسيبويه لم يفصل بين ما كان مضافًا وغير مضاف، فهو يجيز "أقامَ إقامًا"، والفرّاء لا يجيزه. ¬
[إعمال المصدر]
وأمّا "فَعَّلَ"، فله في الصحيح مصدران: "التَّفْعِيل"، و"التَفْعِلَة"، نحوُ: "كرّمته تَكرِيمًا وتَكْرِمَةً"، و"عظّمته تعظيمًا وتعظَمة"، و"التفعيل"، هو الأصل, لأنّه هو اللازم، فأمّا إذا كان معتلّ اللام بالياء أو الواو؛ ألزموه "تَفْعِلَةَ" ولم يأتوا بالمصدر الآخر، لئلّا يجتمع في آخره ياءان قبلهما كسرةٌ، فيُحتمل ثقلٌ، وعنه مندوحةٌ إلى المصدر الآخر، وذلك قولك: "عَزيْتُه تَعْزِيَة"، و"غَذيْتُه تَغْذِيَة". قال أبو بكر بن السرّاج: الأصل "تَعْزِيا"، و"تَغْذِيًّا"، فحذفت ياءٌ من الياء المشدّدة، ودخلت التاء عوضًا من المحذوف. وكلامُ الشيخ يُصرَّح فيه بأن المحذوف اللام، وأن يكون المحذوف الياء الزائدة أوْجَهُ عندي, لأن اللام باقية في الصحيح من نحو "تَكْرِمَةٍ"، فكذلك يكون في المعتل، ولا يجوز إسقاط التاء من هذا، فيقالَ في "تغزية": "تَغْزٍ"، كما جاز في "إقامة"، فقالوا: "إقامٌ"، والفرقُ بينهما أن نحوَ "أقامَ"، و"أقالَ" و"استَحاذَ" قد استُعمل على الأصل، فقالوا: "أطْوَلْتُ إطْوالًا"، و"استحوَذْتُ استِحْواذًا". فلمّا كان قد ورد تامًّا على الأصل، جاز أن لا يعوض منه؛ فأمّا نحو"تَعْزِيَة"، و"تَغْذِيَة"، فلم يرد الأصل البتّة، فلزم العوض لذلك، وقد جاء "التَفْعيل" فيه في الشعر، قال [من الرجز]: فَهِي تُنَزي دَلْوَهَا تَنْزِيًّا ... إلخ والشاهد فيه قوله: "تَنْزِيًّا"، والقياس: "تَنْزِيَةً"، لكنه راجَعَ الأصلَ ضرورة, لأن الشاعر له مراجَعةُ الأصُول المرفوضة، يُقال: "امرأةٌ شَهْلَةٌ" إذا كانت نَصَفًا، وصار كالاسم لها بالغَلَبَة، ولا يُقال ذلك للرجل. يصف امرأة تستقي ماء، والمراد أنّها ترفع دَلْوَها كما ترفع المرأةُ الصبى عند ترقيصه. فصل [إعمال المصدر] قال صاحب الكتاب: ويعمل المصدر أعمال الفعل مفرداً، كقولك عجبت من ضربٍ زيدٌ عمراً، ومن ضربٍ عمراً زيدٌ، ومضافاً إلى الفاعل أو إلى المفعول كقولك أعجبني ضرب الأمير اللص، ودق القصار الثوب، وضرب اللص الأميرُ، ودق الثوب القصارُ, ويجوز ترك ذكر الفاعل والمفعول في الإفراد والإضافة, كقولك عجبت من ضرب زيداً، ونحو قوله تعالى: {أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً} (¬1) ومن ضربٍ عمروٌ ومن ضرب زيدٍ أي من ضرب زيد أو ضرب, ونحوه قوله تعالى: {وهم من بعد غلبهم سيغلبون} (¬2) , ومعرفاً باللام كقوله [من المتقارب]: 888 - ضعيف النكاية أعداءه ... يخال الفرار يراخي الأجل ¬
وقوله [من الطويل]: [لقد علمت أُولي المغيرة أنني] ... كررت فلم أنكل عن الضرب مسمعا (¬1) * * * قال الشارح: والمصدر يعمل عملَ الفعل المأخوذِ منه: إن كان الفعل غير متعدّ، كان المصدر غير متعدّ، فكما تقول: "قام زيدٌ"، ولا تجاوِز الفاعلَ، كذلك تقول: "أعجبني قيامُ زيدٍ". وإن كان يتعدّى إلى واحد، يتعدّى مصدره إلى واحد، فتقول: "أعجبني ضربُ زيدٍ عمرًا". وتقول: "أعجبني إعطاءُ زيدٍ عمرًا درهمًا"، فتُعدّيه إلى مفعولَيْن كما يفعل ذلك الفعلُ، نحوُ:"أعطيتُ زيدًا درهمًا". وإن كان يتعدّى فعلُه بحرِف جرّ؛ كان المصدر كذلك، فتقول: "أعجبني مرورُك بزيدٍ". وإنّما يعمل من المصادر ما كان مقدرًا بـ"أنْ" والفعلِ، نحوُ قولك: "أعجبني ضربُ زيد عمرًا"، وتقديره: أن ضَرَبَ زيدٌ عمرًا. فأمّا إذا كان مؤكدًا لفعله، أو عاملًا فيه الفعلُ الذي أُخذ منه على وجه من الوجوه، لم يعمل؛ لأنه لا يقدَّر بـ"أن" والفعلِ، وذلك نحو قولك: "ضربتُ زيدًا ضَرْبًا والضربَ الشديدَ"؛ لأنه لا يحسن أن تقول فيه: "ضربتُ زيدًا أن ضربتُ زيدًا". فأمّا قولهم في الأمر: "ضَرْبًا زيدًا"، فكثيرٌ من النحويين يقولون: العاملُ في "زيد": "ضربًا". والذي عليه المحققون أن العامل فيه الفعل الذي نصب المصدرَ، وتقديره: اضْرِبْ ¬
ضربًا زيدًا، ولا يبعد عندي أن يكون هذا المصدر عاملًا في "زيد" لنِيابته عن الفعل، لا بحكمِ أنّه مصدرٌ، وجاء كقولك: "زيدٌ في الدار قائمًا"، فالعاملُ في الحال الظرف الموجود لا الفعل العامل فيه، وذلك لنيابته عن الفعل؛ كذلك هاهنا، ويكون فيه ضميرُ فاعل نُقل إليه من الفعل، وهو ضمير المخاطب، كما نقل الضمير من الفعل إلى الظرف في "زيدٌ في الدار قائمًا". ولو أظهر الفعل، وقلت: "اضْرِب ضَربًا زيدًا"، لم يكن العامل في "زيدًا" إلَّا الفعلَ دون المصدر، كما أنّك لو أظهرت العامل في الظرف، وقلت: "زيد استقرَّ في الدار قائمًا"، لم يكن العامل في الحال إلَّا الفعلَ دون الظرف، وكان خاليًا من الضمير، ولو قلت: "أنكرتُ ضَرْبَك زيدًا"، لكان في معنَى "أنْ" والفعلِ, لأنّه يحسن أن تقول: "أنكرتُ أن تضرب"، إذ العامل فيه من غير لفظه. ولك أن تقدره بـ "أن" والفعلِ المسند إلى الفاعل، نحوَ قولك: "أعجبني ضَرْبُك زيدًا"، والتقدير: "أن ضربت زيدًا". ولك أن تقدّره بالفعل الذي لم يسمّ فاعله، نحوَ: "ساءَني ضربُك"، والتقدير: "أن ضُرِبتَ"، والفرقُ بينهما بالقرائن. وإنّما عمل المصدر إن كان على هذه الصفة, لأنّه في معنى الفعل على ما ذكرنا، ولفظُه متضمن حروف الفعل، فجرى مجرى اسم الفاعل، فعمِل عملَه، ألا ترى أنّ "أنْ" وما بعدها من الفعل، لمّا كانت في تأويل المصدر، أُعطيت حُكمَه، فوقعت فاعلةً ومفعولةً ومضافًا إليها، نحوَ قولك: "أعجبني أن قمتَ"، فـ"أنْ" وما بعدها من الفعل في موضع مرفوع بأنه الفاعل. وتقول: "أكرَهُ أن تقوم"، والمعنى: أكره قيامَك، كذلك المصدَر إذا كان مقدرًا بـ"أنْ" والفعلِ؛ كان له حكمُ الفعل من العمل. وإنما اشتُرط أن يكون لفظ المصدر العامل متضمنًا حروفَ الفعل ليدل على الفعل، فلذلك تقول: "مُروري يزيد حسنٌ، ومروري بعمرٍو قبيحٌ"، ولو قلت: "وهو بعمرو قبيحٌ"، لم يجز؛ لزوال حروف الفعل من لفظه. وهذا المصدر يعمل على ثلاثة أضرب: إذا كان مفردًا منونا، وإذا كان مضافًا، وإذا كان معرَّفًا بالألف واللام. فأمّا الأول، وهو ما كان منونًا، فهو أقيسُ الضروب الثلاثة في العمل، وذلك من قِبَل أن المصدر إنّما عمل لشَبَهه بالفعل، والتنوينُ يدّل على التنكير، فهو في المعنى موافق لمعنى الفعل، وإن كان في اللفظ من زيادات الأسماء. وأمّا المضاف، فإعمالُه في الجر بعد الأوَل, لأن الإضافة وإن كانت من خصائص الأسماء وبابُها التعريف والتخصيص، وذلك ممّا لا يكون في الأفعال، إلَّا أن الإضافة قد تقع منفصلة، فلا تفيد التعريفَ على حد وقوعها في اسم الفاعل، فلمّا كان التعريف قد يتخلّف عن الإضافة؛ لم تكن الإضافة منافِيةً لمعنى الفعل من كل وجه، إذ قد توجَد غيرَ معرّفة.
وأما ما عمِل من المصادر، وفيه الألف واللام، فهو أضعفُها؛ لأن الألف واللام لا تكون في أسماء الأجناس التي هي الأُصول إلَّا معرّفة، فلذلك ضعُف إعمالها. وإنّما قلنا: "في أسماء الأجناس" تحرزًا من الأعلام، فإن الألف واللام قد تدخلها لا لمعنى التعريف، نحوَ: "الحَسَنُ"، و"العَباس"، ونحوِ قوله [من الرجز]: باعَدَ أُمَّ العَمْرِو من أسِيرِهَا (¬1) فمثال ما عمل من المصادر منوَّنًا قولك: "أعجبني ضربٌ زيدٌ عمرًا"، وإن شئت قلت: "أعجبنى ضربٌ عمرًا زيدٌ" فتُقدّم المفعول على الفاعل، وذلك قليل في الاستعمال. وإنّما جاز أن تأتى بعد المصدر بالفاعل والمفعول، ولم يجز أن تأتي بعد اسم الفاعل إلَّا بالمفعول، وذلك من قِبَل أن المصدر غيرُ الفاعل والمفعول، فلم تستغن بذكره عن ذكرهما. وليس كذلك اسم الفاعل، فإنّه هو الفاعل، فلم تحتج إلى ذكره بعده، فلذلك لم تجز إضافتُه إلى الفاعل, لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه. وجملة الأمر أن الفرق بين اسم الفاعل والمصدر من وجوه ستّة: أوَّلُها: أن الألف واللام في اسم الفاعل تفيد التعريف مع كونها بمعنى "الذِي"، والألف واللام في المصدر تفيد التعريف لا غيرُ. الثاني: أن اسم الفاعل يتحمل الضميرَ كما يتحمّل الفعل؛ لأنه جارٍ عليه، والمصدر لا يتحمّل ضميرًا؛ لأنه بمنزلة أسماء الأجناس، والفاعل يكون معه منويا مقدَّرًا غيرمستتِر فيه. الثالث: أن المصدر يضاف إلى الفاعل والمفعول، واسمُ الفاعل لا يضاف إلَّا إلى المفعول لا غيرُ، وقد ذُكر. الرابع: أن المصدر يعمل في الأزمنة الثلاثة، واسم الفاعل يعمل عمل الفعل في الحال والاستقبال. الخامس: أن المصدر لا يتقدّم عليه ما يعمل فيه، سواء كانت فيه الألف واللام، أو لم تكن، واسم الفاعل يتقدّم عليه ما ينصبه إذا لم تكن فيه الألف واللام. السادس: أن اسم الفاعل لا يعمل حتى يعتمد على كلام قبله، والمصدر يعمل معتمدًا، وغير معتمد. فممّا جاء مُعْمَلًا من المصادر منونًا قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} (¬2)، فـ"يَتِيمًا" منصوب بالمصدر الذي هو "إطعام"، والتقدير: أو إطعامٌ هو، فيكون الفاعل مقدرًا محذوفًا. فإن صرّحت بالفعل، كان الفاعل مستترًا، نحو ¬
قولك: "أو أن أطعم يتيمًا"، ومن ذلك قول الشاعر [من الطويل]: 889 - فلولا رَجاءُ النَّصْرِ منك ورَهْبَة ... عِقابَك قد صاروا لنا كالمَوارِد فأعمل "رهبة" في "عقابك"، ومن ذلك قول الآخر [من الوافر]: 890 - بضَرْبٍ بالسُّيُوف رُؤوسَ قومٍ ... أَزَلنا هامَهُنَّ على المَقِيلِ فنصب "الرؤوس" بـ"ضرب". وأمّا إعماله وهو مضاف، فإنّه يضاف إلى الفاعل، وإلى المفعول لتعلُّقه بكل واحد منهما، فتعلّقُه بالفاعل وقوعُه منه. وتعلّقه بالمفعول وقوعه به، وإضافتُه إلى الفاعل ¬
أحسن، لأنّه له، وإضافتُه إلى المفعول حسنة لأنّه به اتّصل، وفيه حَلَّ، وذلك نحو قولك: "سَرَّني ضربُ زيد عمرًا"، إذا أضفتَه إلى الفاعل، و"ضرب زيد عمرٌو"، إذا أضفته إلى المفعول تخفض ما تضيفه إليه إن كان فاعلًا، وإن كان مفعولًا، فإن أضفته إلى الفاعل، جررت الفاعلَ، ونصبت المفعول؛ وإذا أضفته إلى المفعول، جررتَه أيضًا ورفعت الفاعل. وممّا جاء من ذلك مُعمَلًا، وهو مضاف، قوله تعالى: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} (¬1) أضافه إلى الفاعل، ونصب "الناس"؛ لأنه مفعول. ومنه قول الشاعر [من الكامل]: 891 - عَهدِي بها الحَىَّ الجميعَ وفيهِمِ ... قَبْلَ التفرُّقِ مَيسِرٌ ونِدامٌ أضاف "العهد" إلى الياء، وهو في موضع الفاعل، ونصب، "الحي" لأنه مفعول، و"عهدى": مبتدأ، وقوله: وفيهم إلى آخر البيت في موضع الحال، وقد سد مَسَدَّ الخبر، كقولك. "قيامُك ضاحكًا"، و"ضَربي زيدًا قائمًا". وقد يضاف إلى الفاعل، ولا يؤتَى له بمفعول، وذلك، نحو: "عجبت من ضربِ زيدٍ"، أي: من أن ضَرَبَ زيدٌ، أو ضُرِبَ زيدٌ. إن شئت قدّرته بما سُمّي فاعله، وإن شئت قدّرته بما لم يسمّ فاعله. ومنه قوله تعالى: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} (¬2)، أي: ¬
من بعد أن غُلِبُوا. ومن إضافته إلى المفعول قوله [من الطويل]: 892 - أمِنْ رَسْمِ دارٍ مُرْبِعٌ ومُصِيفُ ... لعينَيْك من ماء الشُّؤُونِ وَكِيفُ والتقدير أمِنْ أن رَسَمَ دارًا مربعٌ ومصيفٌ. وقد يضاف إلى المفعول من غير ذكر الفاعل نحو قوله تعالى: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} (¬1)، والأصل: من دعاء الخير هو، والتقدير: من أن يدعو الخيرَ، ومثله قوله تعالى: {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ} (¬2)، أي: بسؤال نعجتك هو، وحذف الفاعل للعلم به، ودلالةِ الحال عليه, لأن المصدر لا يتحمّل ضميرًا بخلاف الصفة. فأمّا قوله [من الطويل]: 893 - فلا تُكْثِرَا لَوْمي فإن أخاكما ... بِذكْراهُ لَيْلَى العامِريةَ مُولَعُ ¬
ففي البيت مصدران: أحدهما: "اللوم" والآخر "الذكرَى" فـ "اللوم" مضاف إلى المفعول، والمراد: لا تكثر لومَك إيّاي، و"الذكرى" مضاف إلى الفاعل، وهو الهاء، و"ليلى" المفعول في محل منصوب. وأمّا الضرب الثالث: وهو إعمال المصدر، وفيه الألف واللام، فنحو قولك: "عجبت من الضرب زيدٌ عمرًا"، أي: من أن ضرب زيدٌ عمرًا، ولا أعلمُه جاء في التنزيل. فأمّا قوله [من المتقارب]: ضعيفُ النِّكَايةِ أَعْداءَه (¬1) ... إلخ أنشده سيبويه (¬2) غُفْلًا، ولم يذكر شاعرَه، والشاهد فيه نصب "الأعداء" بـ"النكاية"، لمنع الألف واللام الإضافة كمنع التنوين، وبعضهم ينصبه بمصدر منكور منوّن محذوفٍ تقديره: ضعيفُ النكايةِ نكايةٍ أعداءه، وذلك لضعفِ إعمال المصدر، وفيه الألف واللام. يهجو رجلاً يقول: هو ضعيف عن أن يَنْكَأَ أعداءه، وجَبانٌ فلا يثبت لقِرْنه، فيلجأ إلى الفِرار، ويخاله مؤخرًا لأجله. وأمّا قول الآخر [من الطويل]: لقدْ عَلِمَتْ أُولَى المُغِيرة أنّني ... كررتُ فلم أَنْكُلْ عن الضرب مِسْمَعا (¬3) فهو في الكتاب (¬4) منسوب إلى المَرّار الأَسَدي، ورواه بعضهم في شعر مالك بن زُغبة الباهليّ، وبعده: وإنْي لأُعدِي الخَيْلَ تَعثرُ بالقَنَا ... حفاظًا على المَوْلى الحديدِ لِيُمْنَعَا ورواية البيت في كتاب سيبويه "لحقتُ" مكانَ "كررت"، والاحتجاج على رواية من روى "كررت"، فيكون "مسمع" منصوبًا بـ"الضرب"؛ وأمّا من روى "لحقت"، يجوز أن يكون "مسمع" منصوبًا به لا بالمصدر، فلا يكون فيه حجّةٌ. فإن قيل: ولا يكون أيضًا في رواية من روى "كررت" حجّةٌ؛ لاحتمالِ أن يكون المراد: كررت على مسمع، فلم أنكل عن ضربه، بحذف الجارّ؛ قيل: لا يحسن ذلك؛ لأن حذف حرف الجرّ وإعمال الفعل اللازم قبله بابٌ ضرورة، وطريقُه السماع، فلا يُحمَل عليه ما وُجد عنه مندوحةٌ. ¬
[شاهد على نصب المعطوف حملا على محل المعطوف عليه المجرور]
يقول: قد علم أوَّلُ من لقيتُ من المُغِيرين أني صرفتهم عن وجوههم هازمًا لهم، ولحقتُ عَمِيدَهم، فلم أنكل عن ضربه بسيفي. والنكولُ: الرجوع عن القِرْن جُبنًا، وكانت بنو ضُبَيعَةَ قد أغارت على باهِلَةَ، فلحقتهم باهلةُ فهزمتهم. و"المُغِيرة": اسم فاعل من "أغار". و"أُولاها" بضم الهمزة وهي مُقدمتها، وهي تأنيث "أوَّل". وقد تقدّم القول: إن إعمال المصدر وفيه الألف واللام ضعيف، ولذلك ذهب بعضهم إلى أنّك إذا قلت: "أردتُ الضرب زيدًا"؛ فإنّما تنصبه بإضمار فعل لا بـ" الضرب". وبعضُهم يقدّره بمصدر ليس فيه ألف ولام، كأنّه قال: "ضعيفُ النكايةِ نكاية أعداءه". والصوابُ أنّه منصوب بالمصدر المذكور على ضَعْفه، وذلك لأن الألف واللام بمنزلة التنوين، فعمِل وفيه الألف واللام، كما يعمل وفيه التنوين، فاعرفه. فصل [شاهد على نصب المعطوف حَمْلًا على محلّ المعطوف عليه المجرور] قال صاحب الكتاب: وبيت الكتاب [من الرجز]: 894 - قد كنت داينت بها حساناً ... مخافة الإفلاس والليّانا إنما نُصب فيه المعطوف محمولاً علي محل المعطوف عليه, لأنه مفعول، كما حمل لبيد الصفة على محل الموصوف في قوله [من الكامل]: ¬
[حتي تهجر في الرواح وهاجه] ... طلب المعقب حقه المظلوم (¬1) أي كما يطلب المعقب المظلوم حقه. * * * قال الشارح: إذا عطفت على ما خُفض بالمصدر، جاز لك في المعطوف وجهان: أحدهما: أن تحمله على اللفظ، فتخفضه، وهو الوجه. والآخر: أن تحمله على المعنى؛ فإن كان المخفوض مفعولًا في المعنى، نصبت المعطوف؛ وإن كان فاعلاً، رفعته، فتقول: "عجبت من ضرب زيدٍ وعمرو"، وإن شئت: و"عمرًا"، فهو بمنزلة قولك: "هذا ضاربُ زيدٍ وعمرٍو، وعمرًا". وإنّما كان الوجه الجرّ لتشاكُل اللفظين واتفاق المعنيين، وإذا حملته على المعنى، كان مردودًا على الاوّل في معناه، وليس مُشاكلًا له في لفظه. وإذ حصل اللفظُ والمعنى، كان أجود من حصول المعنى وحدَه، وإذا نصبت؛ قدّرت المصدر بالفعل، كأنّك قلت: "عجبت من أن ضرب أو من أن يُضْرب"، ليتحقق لفظُ الفاعل والمفعول. فأمّا قوله [من الرجز]: قد كنتَ دايَنْتَ بها حَسّانا ... مَخافَةَ الإفْلاسِ واللَّيانَا يُحْسِنُ بَيعَ الأَصْلِ والقِيانا الشعر لزِياد العَنْبَري، والشاهد فيه نصب "اللّيان" بالعطف على المعنى، وذلك كأنّه قال: "وتخافُ الليانَ". ويجوز أن يكون معطوفًا على "مخافة"، والتقدير: مخافةَ الإفلاس ومخافةَ الليّان، ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، وكذلك "القيان" هو منصوب على معنى الأصل, لأن المراد: يحسن أن يبيع الأصلَ والقيانَ. والقَيْنَةُ: الأَمَةُ مُغَنْيَة كانت أو غيرَ مغنية، يريد أنَّه دايَنَ بها -يعني الإبل- حسّان؛ لأنه مَلِيءٌ لا يُماطِل مخافَة أن يُدايِن غيرَه ممّن ليس بمَلِيء، فيُماطِل لإفلاسه. واللَّيانُ: مصدر بمعنى "اللَّي". ومنه قوله عليه السلام: "لَيُّ الغَنِي ظُلْمٌ" (¬2). والنعت في ذلك كالعطف في جواز العمل على اللفظ والمعنى، تقول فيه: "عجبت من ضرب زيدٍ الظريف" بالخفض على اللفظ، و"الظريفُ" بالرفع على المعنى. ومنه قول لَبِيد [من الكامل]: حتى تَهَجَّرَ في الرَّواح وهاجَه ... طَلَبَ المعقِّبِ حَقَّهُ المظلومُ يصف عَيْرًا، يقول: حتى تهجر في الرواح، أي: سار في الهاجِرة، وهاجه: يعني ¬
[عمل المصدر ماضيا ومستقبلا]
أثاره، أي: العيرَ، و"طلبَ" منصوب على المصدر بما دلّ عليه المعنى، أي: طَلَبَ الماء طَلَبًا مثلَ طلب المعقّب حقّه المظلوم، ثمّ حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه. والمعقِّب: المَمطول بدَينه، قيل له ذلك لأنه يتبع عَقِبَ المَدِين، و"المظلوم": نعتٌ له على المعنى. ولو خفض، لكان أجود، لو ساعدتِ القافيةُ. فصل [عمل المصدر ماضيًا ومستقبلًا] قال صاحب الكتاب: ويعمل ماضياً كان أو مستقبلاً. تقول "أعجبني ضربٌ زيدًا أمسِ"، و"أُريد إكرام عمرو أخاه غداً". * * * قال الشارح: يشير بذلك إلى الفرق بين اسم الفاعل والمصدر في العمل، وذلك لأن اسم الفاعل لا يعمل إلَّا إذا كان للحال أو الاستقبال، نحو قولك: "هذا ضاربٌ زيدًا غدًا، ومُكرِم عمرًا الساعة". ولا يعمل بمعنى المضيّ، بل يكون مضافًا إلى ما بعده، نحو: "هذا ضاربُ زيدٍ أمسِ". وسيأتي الكلام عليه مستوفى. وأمّا المصدر فإنّه يعمل على كل حال، سواءَ كان ماضيًا، أو حاضرًا، أو مستقبلًا. والعلّة في ذلك أن اسم الفاعل إنّما عمل لجَرَيانه على الفعل المضارع في حركاته وسَكَناته وعددِ حروفه على ما سيوضَح؛ فأمّا إذا كان بمعنى الماضي، فإنّه لا مشابهةَ بينه وبين الفعل الماضي، ألا ترى أن "ضَرَبَ" ثلاثةُ أحرف كلُّها متحركة، و"ضارِبٌ" أربعةُ أحرف، الثاني منها ساكنٌ، فلذلك لم يعمل إذا كان بمعنى الماضي. وأمّا المصدر، فإنّه لم يكن عملُه لِما ذكرناه في اسم الفاعل، وإنّما كان عمله لما فيه من حروف الفعل، وتقديره بـ"أن" وما بعده من الفعل، وهذا المعنى موجود في كل الأزمنة، فالمقتضى لعمل المصدر موجودٌ، سواءَ كان بمعنى الماضي، أو الحال، أو الاستقبال، وليس اسم الفاعل كذلك، فاعرف الفرق بينهما إن شاء الله تعالى. فصل [عدم تقدّم معمول المصدر عليه] قال صاحب الكتاب: ولا يتقدم عليه معموله, فلا يقال زيداً ضربُك خيرٌ له، كما لا يقال زيداً أن تضرب خيرٌ له. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن المصدر موصول، ومعموله من صلته من حيث كان المصدر مقدّرًا بـ"أن" والفعلِ، و"أنْ" موصولةٌ كـ"الذِي"، فلذلك لا يتقدّم عليه ما كان من صلته, لأنّه من تمامه، بمنزلة الياء والدال من "زيد"، بخلاف اسم الفاعل، فإنّه
يجوز تقديم معموله عليه, لأنه ليس موصولاً، ولم يكن مقدّرا بـ"أن"، إلاَّ أن يكون فيه الألف واللام، نحو: "الضارب"، فإنّه لا يجوز تقديمُ شيء من معموله عليه؛ لأن الألف واللام موصولة كـ"الذِي"، فعلى هذا لا تقول: "زيداً ضربك خيرٌ له"، فيكون "الضرب" مبتدأ، وهو مضاف إلى الفاعل، و"زيد" مفعول، و"خير له" الخبر. فإذا قدّمت "زيدًا" على المصدر، وهو من صلته إذ كان معمولا له، بطلت المسألةُ. وتقول: "أعجبَ زيدًا ركوبُ الدابّةِ عمرو" والمراد: أعجب زيداً أن ركب الدابّةَ عمرٌو، فـ"زيد" منصوب بـ"أعجب"، فهو خارج من الصلة، و"أن" وما بعدها في موضع مرفوع بأنّه فاعلُ "أعجب"، و"الدابّة"، و"عمرو"، و"ركب" من صلة "أنْ"، فلا يجوز تقديم شيء منه على "أنْ"، ولا على المصدر أيضًا, لأنه مقدر بـ"أن". وكذلك لا يُفْصَل بين المصدر، وما عمل فيه بأجنبي. والمراد بقولنا: "أجنبي" أن لا يكون للمصدر فيه عملٌ، فلو قلت: "أعجب ركوبُ الدابة زيدًا عمرٌو"، لم يجز, لأن "زيداً" أجنبي من المصدر الذي هو "الركوب"، إذ لم يكن فيه تعلّقٌ، وقد فصلت به بين المصدر، وما عمل فيه، وهو"عمرو". وتقول: "أعجبني ضربُ زيدٍ عمرًا اليوم عند جعفر"، إن جعلت الظرفَين متعلقين بالمصدر، لم يجز أن تُقدمهما عليه، وإن جعلت اليوم متعلقًا بـ"أعجبني"، وجعلت ظرف المكان متعلقًا بالمصدر، لم يجز ذلك؛ لأنّك قد فصلت بين الصلة والموصول بأجنبي منهما. فإن جعلت الظرفين متعلقين بالمصدر، جاز تقديمُ أيّهما شئت على صاحبه؛ لأئهما جميعًا من الصلة، ولا يجوز تقديمهما على المصدر؛ لأنهما من صلته، فلو علقتَهما جميعًا بـ"أعجب"، جاز تقديمهما على المصدر، وعلى الفعل أيضًا؛ لأنّهما ليسا من المصدر في شيء، فاعرف ذلك، وقِسْ عليه ما كان مثله، تُصِب إن شاء الله تعالى.
اسم الفاعل
اسم الفاعل فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: هو ما يجري على "يَفْعَلُ" من فعله كضارب، ومكرم، ومنطلق، ومستخرج، ومدحرج, ويعمل عمل الفعل في التقديم والتأخير والإظهار والإضمار، كقولك زيد ضارب غلامه عمراً، وهو عمراً مُكْرِمٌ، وهو ضارب زيد وعمراً، أي وضارب عمراً. * * * قال الشارح: اعلم أن اسم الفاعل الذي يعمل عمل الفعل هو الجاري مجرى الفعل في اللفظ والمعنى؛ أمّا اللفظُ فلأنه جار عيه في حركاته وسكَناته، ويطّرِد فيه، وذلك، نحو: "ضارب"، و"مُكْرِم"، و"منطلِق"، و"مستخرِج"، و"مُدَحْرِج"، كله جارٍ على فعله الذي هو"يضْرِب"، و"يُكْرِم"، و"ينطلِق"، و"يستخرِج"، و"يُدَحرِج". فإذا أريد به ما أنت فيه، وهو الحال أو الاستقبال. صار مثله من جهة اللفظ والمعنى، فجرى مجراه، وحُمل عليه في العمل، كما حمل فعلُ المضارع على الاسم في الإعراب لما بينهما من المُشاكلة، فاسم الفاعل إذا أريد به الحال أو الاستقبال، يعمل عمل الفعل إذا كان منوّنًا، أو فيه الألف واللام, لأنّ التنوين مانعٌ من الإضافة، والألفُ واللام تُعاقِب الإضافةَ، فتقول مع التنوين: "زيدٌ ضاربٌ غلامُه عمرًا غدًا"، فـ"زيد" مبتدأ، و"ضارب" الخبر، و"غلامه" مرتفع به ارتفاعَ الفعل، و"عمرًا" منصوب على أنّه مفعول؛ لأنّه جار مجرى "يضرِب غلامُه عمرًا". وتقول: "هذا الضارب زيدًا"، ففي "الضارب" ضميرٌ يرجع إلى مدلول الألف واللام, لأنها تدل على الذي، ولذلك كانت موصولة. وقد يحذف التنوين من اسم الفاعل تخفيفًا، وإذا زال التنوين عاقَبَته الإضافةُ، والمعنى معنى ثباتِ التنوين، ولذلك لا يكون إلَّا نكرة. قال الله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (¬1)، فلو لم يُرِد به التنوين لم يكن صفة لـ"هَدْي"، وهو نكرة. ومن ذلك قوله تعالى: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} (¬2) وصف "عارضًا" وهو نكرة بقوله: "ممطرنا". ومنه قوله ¬
تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} (¬1) و {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} (¬2). وإنّما قلنا: إن التنوين مراد, لأنّه لو لم يكن مرادًا؛ لكان معرفة، ولو كان معرفة؛ لكنت قد أخبرت عن النكرة بالمعرفة، وذلك قلبُ القاعدة، فالتقديرُ: "إلَّا آتٍ الرحمنَ عبداً"، و"كلُّ نفس ذائقة الموتَ". والتنوين هو الأصل، والإضافة دخلت تخفيفًا، ولو لم يكن التنوين هو الأصل، لما جاز دخول التنوين؛ لأنّه ثقيل. وممّا يدل على إرادة التنوين وأنفصاله ممّا أضيف إليه، أنك قد تجمع بين الإضافة والألف واللام، فتقول: "هذا الضارب الرجلِ والضاربا زيدٍ"، ولا تقول: "الغلام الرجلِ" ولا "الغلاما زيدٍ". وإذ كان التنوين مرادًا حكمًا، وهو الأصل، كانت الإضافة منفصلة، وكان المخفوض منصوبًا في الحكم, لأنّه مفعول، وذلك أن اسم الفاعل لا يضاف إلَّا إلى المفعول، ولا يضاف إلى الفاعل كالمصدر، فلا تقول: "هذا ضاربُ زيدٍ"، و"الضارب" هو"زيد", لأن الاسم لا يضاف إلى نفسه. وقوله: "يعمل عملَ الفعل في التقديم والتأخير والإظهار والإضمار" إشارة إلى قوّة عمل اسم الفاعل لقوّة مُشابَهته للفعل من الجهات التي ذكرناها. فمثالُ إعماله مقدَّمًا: "هذا ضارب زيدًا"، فـ"هذا" مبتدأ، و"ضارب" الخبر، و"زيد" منصوب بـ"ضارب"، وقد تقدّم الكلام عليه. ومثالُه مؤخرًا: "هو عمرًا مكرمٌ "؛ فأمّا إعماله مضمرًا، فقد فسّره بقوله: "هو ضاربُ زيدٍ وعمرًا" بمعنى أنّك إذا عطفته على المخفوض، كان بتقدير ناصب، فبعضهم يقدره فعلاً، أي: ويضرب عمرًا, لأن اسم الفاعل في معنى الفعل، وبعضهم يقدره اسم فاعل منونًا، يكون الظاهر دليلاً عليه. والحقُّ أن انتصاب المعطوف على معنى الأول، لأنّه مفعول والتنوين مراد، فهو كقول الشاعر في المصدر [من الرجز]: مَخافةَ الإفلاسِ واللَّيّانا (¬3) وإذا كان في اللفظ ما ينصبه؛ لم تحتج إلى تقدير محذوف، ولذلك مثّله سيبويه بقوله [من البسيط]: 895 - جِئْني بمِثْلِ بني بَدْرٍ لِقَوْمهمِ ... أو مِثْلَ أُسْرَةِ مَنْظُورِ بنِ سَيارِ ¬
[إعمال مبالغة اسم الفاعل]
قال (¬1): لأن "جئني" في معنى "هات"؛ فحمل النصب على معناه. والنصبُ في الأوّل أقوى, لأن اسم الفاعل أصله التنوين والنصب، و"جئني" أصله الجرّ؛ لأنّه لا يتعدّى إلَّا بالباء، وقد تقدّم الكلام عليه. وينبغي أن يكون إعماله مضمرًا في نحو قولك: "أزيدًا أنت ضاربُه" لما اشتغل اسم الفاعل عن مفعوله الذي هو"زيد" بضميره، لم يعمل فيه، وكان العامل مقدرًا دلّ عليه الظاهر، كأنّك قلت: "أضاربٌ زيدًا أنت ضاربُه". ومثله "أَعمرًا أنت مكرمٌ أخاه"، والتقدير: "أمكرمٌ عمرًا أنت مكرمٌ أخاه". فإن قيل: الهاء في "زيدًا أنت ضاربُه" في موضع خفض، فكيف تنصب ما ضميرهُ مجرور، قيل: لمّا كان هذا الضمير المجرور في حكم المنصوب من حيث كان التنوين مرادًا، و"ضاربٌ" في معنى الفعل، صار كقولك: "أزيدًا مررت به"، الضميرُ مجرور، وهو في الحكم منصوب. [إعمال مبالغة اسم الفاعل] قال صاحب الكتاب: قال سيبويه (¬2): وأجروا اسم الفاعل إذا أرادوا أن يبالغوا في الأمر مجراه, إذا كان على بناء "فاعل"، يريد نحو: شراب وضروب ومنحار وأنشد للقُلاخ [من الطويل]: 896 - أخا الحرب لباساً إليها جلالها ... [وليس بولاج الخوالف أعقلا] ¬
ولأبي طالب [من الطويل]: 897 - ضروب بنصل السيف سوق سمانها ... [إذا عدموا زادًا فإنك عاقرُ] ¬
وحكي عن بعض العرب إنه لمنحار بوائكها وأما العسل فأنا شراب وأنشد [من الطويل]: 898 - [بكيت أخا اللأواء يحمد يومه] ... كريم رؤوس الدارعين ضروب وجوز: هذا ضروب رؤوس الرجال وسوق الإبل. * * * قال الشارح: قد ذكرنا أن اسم الفاعل إذا أريد به الحال أو الاستقبال، إنّما أُعمل عمل الفعل المضارع، لجَرَيانه عليه في حركاته وسكناته وعدد حروفه. وقد أجروا ضَرْبًا من أسماء الفاعلين ممّا فيه معنى المبالغة مجرى الفعل الذي فيه معنى المبالغة في العمل، وإن لم يكن جاريًا عليه في اللفظ، فقالوا: "زيدٌ ضَرّابٌ عَبِيدَه، وقتّالٌ أعداءَه"، كما قالوا: "زيد يُضرب عبيدَه، ويُقتل أعداءه"، إذا كثُر ذلك منه، وكان "ضرّاب"، و"قتّال" بمنزلة "ضاربٍ"، و"قاتل"، كما كان "يضرّب"، و"يقتل" بالتشديد بمنزلةِ "يَضرِب"، و"يَقتُل" من غير تشديد؛ لأنه يريد به ما أراد بـ"فاعِل" من إيقاع الفعل، إلاَ أن فيه إخبارًا بزيادة مبالغة، وتلك الأسماء "فَعُولٌ"، و"فَعالٌ"، و"مِفْعالٌ"، و"فَعِلٌ"، و"فَعِيلٌ". فجميعُ هذه الأسماء تعمل عمل "فاعِلٍ"، وحكمُها في العمل حكم، "فاعِلٍ" من التقديم والتأخير والإظهار والإضمار، فتقول: "هذا ضَرُوبٌ زيدًا"، كما تقول:"هذا ضاربٌ زيدًا"، ¬
و"ضَرّابٌ عمرًا، ومَنْحازٌ إبلَه، وحَذِرٌ عدوَّه، ورَحِيمٌ أباه". والتقديم في ذلك كلّه والإضمار جائزٌ، كما كان في "فاعِلٍ". وتقول: "هو ضَرُوبُ زيدٍ وعمرًا"، وإن شئت "وعمرو"، كما فعلت في "ضارب"، وتقول: "أزيدًا أنت ضَرُوبُه"، كما تقول: "أزيدًا أنت ضاربُه"، فأمّا قوله [من الطويل]: أخا الحَرْب لَبّاسًا إليها جِلالَها ... وليس بَولّاجِ الخَوالِفِ أَعْقَلَا فإن البيت للقُلاخ بن حَزن التميميّ، والشاهد فيه نصب "الجلال" بـ"لَبَّاس". و"لبّاس": تكثير "لابِس". يصف رجلًا بالشجاعة، والمراد بالجلال الدُّروع، وما يُلْبَس للحرب، جعلها جلالًا. والولّاج: الكثيرُ الولوج، وأراد بالخوالف البيوت، وهو جمع خالفةٍ، وأصلها الشقّة تكون في أسفل البيت. والأعقل: الذي يضطرب رِجْلاه من الفَزَع. قال سيبويه: وسمعنا من يقول: "أمّا العَسَلَ فأنا شَرّابٌ" فنصب العسل بـ"شَرّاب" كما تقول: "أمّا العسلَ فأنا شاربٌ" فهو شاهد على الإعمال، وجواز التقديم. وأمّا قوله [من الطويل]: ضروبٌ بنَصْل السيف سُوقَ سِمانِها ... إذا عَدِمُوا زادًا فإنّك عاقِرُ البيت لأبي طالب بن عبد المُطَّلِب، والشاهد فيه إعمال "فَعُول" كإعمال "فاعل"، فنصب "سوق سمانها" بـ"ضروب" كما تنصبه بـ"ضارب"، يرثي أبا أُمَيةَ بن المُغِيرَة بن عبد الله، ويصفه بالكرم، والمراد أنّه يعقِر الإبل السمان للأضياف عند عدم الزاد وشدّة السنة. ومثله قول الآخر [من الطويل]: بَكَيْتُ أخا اللأْواءِ يُحْمَدُ يومه ... كريمٌ رُؤُوسَ الدارِعِينَ ضَرُوبُ البيت لأبي طالب، والشاهد فيه إعمال "فَعول" كـ"فاعِل"، وفيه دلالةٌ على جواز تقديم معموله عليه, لأن المراد: ضروب رؤوسَ الدارعين، ثمّ قُدّم. وحكى سيبويه عن العرب: "إنّه لَمِنْحارٌ بَوائكها"، نصب "البوائك" بـ"منحار"، وهذا نصٌّ على إعمال "مِفْعال". والبوائك: جمع بائكةٍ، وهي السمينة الفَتِيّة. قال الكسائي: باكت الناقة تبوك إذا سمِنت. وقد أنشد سيبويه في إعمال "فَعِل" [من الكامل]: 899 - حَذِرٌ أُمُورًا لا تَضِيرُ وآمِنٌ ... ما ليس مُنْجِيَهُ من الأَقْدارِ ¬
نصب "الأمور" بـ"حَذِر"، لأنّه تكثيرُ "حاذرٍ" يعمل عملَ الفعل؛ لأنّه في معناه، وإنّما غير عن بنائه للتكثير، ومنه قول ابن أحمر [من الكامل]: 900 - أو مِسْحَلٌ شَنِجٌ عِضادَةَ سَمْحَجٍ ... بِسَراتِه نَدَبٌ لها وكُلُومُ الشاهد فيه نصب عضادة بـ "شنِج"، وهو تكثير "شانجٍ". وشانجٌ: في معنى مُلازِم، وفعلُه: "شنجته" كـ"لزمته". وأنشد في إعمال "فَعِيلٍ" لساعِدةَ بن جؤيَّة [من البسيط]: 901 - حتى شَآها كَلِيلٌ مَؤهِنًا عَمِلٌ ... باتتْ طِرابًا وباتَ الليلَ لم يَنَمِ ¬
والشاهد فيه نصب الـ"موهن" بـ"كليل", لأنه بمعنى "مُكِل"، أو "كال"، وإنّما غيره للتكثير والمبالغة. وخالف سيبويه أكثر النحويين في بناءين من هذه المُثُل الخمسة، وهما "فَعِلٌ" و"فَعِيلٌ". قالوا: لأن "فَعِلًا" و"فعيلًا"، بناءان موضوعان للذات والهيئة التي يكون الإنسان عليها، لا لأن يجريا مجرى الفعل، فهما كقولك: "رجل كريم وظريف"، و"رجل عَجلٌ ولَقِنٌ"، إذا كان ذلك كالطبيعة، وحملوا ما احتجّ به من الأبيات على غير ما ذكره. فَأمّا البيت الأول فقالوا: لم يصحّ عن العرب، ورُوي عن المازني أنّ اللاحقيّ قال: سألنى سيبويه عن شاهدٍ في تعدّي "فَعِلِ"، فعملت له هذا البيت. ويروى أيضًا أن البيت لابن المقفَّع. وأما البيت الثاني. أو مسحل شنج عضادة سمحج فهو للبيد، فقالوا: انتصاب "عضادة سمحج" على الظرف لا على المفعول، ومعنى "عضادة سمحج": قوائمُها، وشنجٌ: لازم. ومسحل: هو العَيْر. وسمحجٌ: الأتان، كأنّه قال: أو عَيرٌ لازم يَمْنَةَ أتان، أو يَسْرَةَ أتان، فيكون المراد بالعضادة الناحية. وأمّا البيت الثالث وهو: حتى شآها كليل موهنًا عمل ¬
فقالوا: هو البرق الضعيف، ومنه قولهم: "رجلٌ كَلِيلٌ"، إذا كان مُعْيِيًا، من "كلّ يَكِلُّ"، فهو فعل غير متعدّ، ألا ترى أنّه لا يقال: "كل زيدٌ عمرًا"، والمَوْهِن: الساعة من الليل، فهو لا ينتصب في غير الظرف، وإذا كان انتصابه على الظرف؛ لم يكن فيه حجّةٌ. والصحيح ما ذهب إليه سيبويه، وهو القياس, لأن صفات المبالغة إذا كانت معدولة؛ جاز أن تتعدّى. فمن ذلك "فَعُولٌ"، و"مِفْعالٌ"، و"فَعّالٌ"، فهكذا سبيلُ "فَعِيلٍ" إذا كان معدولًا، كقولك: "رَحِيم" من "راحمٍ"، و"عليم" من "عالم"، فيجوز: "زيدٌ رحيمٌ عمرًا"، كما تقول: "راحمٌ عمرًا"؛ لأنه معدول عنه، هذا مع السماع؛ فأمّا قولهم عن البيت الأول، وهو: حَذِرٌ أمورًا ... إلخ فإن سيبويه رواه عن بعض العرب وهو ثقةٌ، لا سبيلَ إلى رَد ما رواه. وأمّا البيت الثاني فإنّ ما ذهب إليه سيبويه هو الظاهر، وما ذكروه تأويلٌ، وذلك أن "شنجًا" في المعنى لازم، والمراد بـ"العضادة" القوائم، وليست ظرفًا، فالمراد أنّه لازمٌ عضادة سمحج، وقد جاء عنهم هذا المعنى مصرَّحًا به في قول الآخر [من الرجز]: 902 - قالت سُلَيْمَى لَسْتَ بالحادي المُدِلْ ... مالك لا تَلْزَمُ أَعْضادَ الإبِلْ ¬
فـ"أعضادٌ" هنا بمعنى "عضادة سمحج"، وقد نصبها بـ "تلزم". و"شنج" في معنى ذلك على أنه قد جاء لزيد الخَيل [من الوافر]: 903 - أتاني أنّهم مَزِقُونَ عِرْضِي ... جحاشُ الكِرْمِلَيْن لها فَدِيدُ قال: "مزقون عرضي" كما ترى، فأجراه مجرى "مُمّزِقين"، وهذا لا يحتمل غيرَ هذا التأويل، وعليه معنى الشعر، لأنّه وصف المِسْحَل، وهو عَيْر الوحش، بالنشاط والهِياج، وشبّه ناقتَه به في هذا الحال، ولو كان المعنى على التفسير الآخر، لقصّر في وصف ناقته. وأمّا البيت الثالث، فإنّ "كليلًا" بمعنى "مُكِلٍّ"، وإنّما غُيّر عنه للتكثير، و"فَعِيلٌ" بمعنى "مُفْعِلٍ" كثيرٌ. قالوا: "عَذابٌ ألِيمٌ" بمعنى مُؤْلِمٍ، و"داعٍ سَمِيعٌ" بمعنى مُسْمِعٍ. قال عمرو بن معديكرب [من الوافر]. 904 - أَمِنْ رَيحانَةَ الداعِي السَّمِيعُ ... [يُؤَرِّقُنى وأصْحَابِي هُجُوعُ] ¬
فصل [عمل اسم الفاعل المثنى والمجموع]
أي؛ المُسْمِع، والمراد أنّه يصف وحشيًّا، وأنّها نظرت إلى برق مستمطر دالّ إلى الغَيْث يُكِل المَوْهِنَ بدَوِيه وتَوالي لَمَعانه، كما يقال: "أتعبتَ ليلتَك"، أي: سرتَ فيها سيرًا مُتعِبًا، والمَوْهِن: وقتٌ من الليل، فشآها ذلك البرقُ، أي: شاقها، وأزعجها، فباتت طَرِبَةَ إليه منقلِبةً نحوه، وهذا واضح. فصل [عمل اسم الفاعل المثنّى والمجموع] قال صاحب الكتاب: وما ثني من ذلك وجمع مصححاً أو مكسراً يعمل عمل المفرد, كقولك: هما ضاربان زيداً، وهم ضاربون عمراً، وهم قطان مكة، وهن حواج بيت الله، و [من الكامل]: 905 - [ممن حملن به وهن] عواقد ... حبك النطاق [فشب غير مهبل] ¬
وقال العجاج [من الرجز]: 906 - أوالفاً مكة من ورق الحمي وقال طرفة [من الرمل]: 907 - ثم زادوا أنهم في قومهم ... غفر ذنبهم غير فخر ¬
وقال الكميت [من البسيط]: 908 - شُمّ مهاوين أبدان الجزور مخا ... ميص العشيات لا خُور ولا قزم * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم أن اسم الفاعل محمول على الفعل في العمل، لكن اسم الفاعل يثنّى ويجمع على حسب ما يكون له من الفعل، فتكون تثنيةُ اسم الفاعل وجمعُه جاريًا مجرى الفعل. وأولى الجموع بذلك الجمعُ السالم, لأنّه يسلَم فيه لفظُ واحده، فتكون طريقته طريقةَ الواحد، والواحدُ جارٍ مجرى الفعل على ما ذكرناه، وزيادةُ التثنية والجمع تجري مجرى الزيادتَيْن اللاحقتين للفعل، فتقول: "هذان ضاربان زيدًا"، كما تقول: "يضربان زيدًا"، و"هم ضاربون زيدًا"، كما تقول: "يضربون زيدًا". ويجوز تقديم منصوبهما عليهما كما كان كذلك في الواحد، تقول: "هذان زيدًا ضاربان"، و"هؤلاء زيدًا ضاربون"، ثم أجروا الجمع المكسر مجرى الجمع السالم، إذ كانا جميعًا جمعَيْن، وإن كان التكسير في الصفات قليلًا، فقالوا: "الزيدون ضُرّابٌ عمرًا"، و"الزيدون عَمْرًا ضُرّابٌ"، و"الهِنْداتُ ضواربُ عَمْرًا"، و"عَمْرًا ضواربُ"، وقد أكثر ذلك في "فَواعِلَ" لاطراده في جمعِ "فَاعِلَةَ" اطّرادَ جمع السلامة فيه. قال أبو كَبِير الهُذَليّ [من الكامل]: مِمَّنْ حَمَلْنَ به وهن عَواقِدٌ ... حُبُكَ النطاقِ فشَبَّ غيرَ مُهَبَّل صرف "عواقد" ضرورة، ونصب به "حبك". وعواقدُ: جمع عاقدة، يريد أن أُمّه حملت به مُكْرَهَة، والعربُ تزعم أن المرأة إذا وُطئت مكرهة؛ جاء الولدُ نجيبًا؛ فأمّا ما أنشده من قوله [من الرجز]: أوالِفًا مَكةَ من وُرْقِ الحَمِي فالشعر للعَجّاج، وأوالفُ: جمع آلِفَةٍ، وصرفه ضرورةً، وصف حَمامَ مكة بأنها قد ألِفتْ مكةَ، لأمْنها فيها، ويروى: "قواطنًا" وهو جمع "قاطنة"، وهي المُقيمة الساكنة. والوُرْق: جمع وَرْقاءَ، وهي التي لونها إلى الغُبْرة نحوُ الخُضْرة، ويريد بالحَمِي: الحَمام، وإنّما حَذَفَ، ويحتمل ذلك أمرين: أحدهما: أن يكون حذف الميم على حدّ الترخيم في غيرِ النداء ضرورة، ثمّ أبدل من الألف ياءً، كما أُبدل من الياء ألف في نحو "مَدارٍ"، و"صَحارٍ". الأمر الثاني: أن يكون حذف الألف تخفيفًا لزيادتها، فاجتمع الميمان، فأبدل من الثانية ياء لكراهية التضعيف، على حدّ الإبد الذي "تَظَنَّيْتُ"، والأصل "تَظَنَّنْتُ" وفي قوله [من البسيط]: 909 - [يا ليتَما أُمُّنا شالَتْ نعامَتُها] ... أيْمَا إلى جَنَّةٍ أيْمَا إلى النار ¬
ومن ذلك قولهم. "هن حَواجُّ بيتَ الله" جمع "حاجّة"، وفيه نيّة التنوين، وإنّما سقط لأنه لا ينصرف، فكأن ما فيه من أسبابِ منعِ الصرف بمنزلة التنوين، فلذلك نصب ما بعدها، كأنك قلت: "حَواجٌّ بيتَ الله"، ويجوز "حواجُّ بيتِ الله" بالخفض، ويُنْوَى سقوط التنوين للإضافة، لا لمنع الصرف. وقالوا: "قُطّانٌ مكّةَ" حملوا "فُعّالًا" على "فَواعِلَ"؛ لأنّهما جميعًا جمعُ "فاعل" وإن كان الأوّل أكثرَ. وقد أعملوا جمعَ ما أُريد به المبالغة والتكثير كما أعملوا واحده، وكما أجروا "فَواعِلَ" مجرى "فاعل"، فقالوا: "هم غُفُرٌ ذَنبَ الجُناة، ومَهاوِينُ الأعداءَ"، أي: يغفرون ذنبَ الجناة، ويُهينون أعداءَهم. فأمّا قوله [من الرمل]: ثمّ زادوا أنّهم ... إلخ ويروى: "فُجُر" بالجيم، البيتُ لطَرَفَةَ، والشاهد فيه أنهم أجروا جمع "فَعُولٍ" وما كان للمبالغة في باب المتعدّي مجرى جمع "فاعل" في التعدّي، فـ "غُفُرٌ" جمع "غَفُورٍ"، وقد عدّوه إلى "ذنبهم" كما عدّوا "غفورًا" نفسَه، مدح قومَه بأن لهم فضلاً في الناس وزيادةً عليهم، وأنهم يغفرون ذنب المُذنِب إليهم، ولا يفخَرون بذلك سَترًا لمعروفهم، ومن روى "غيرُ فُجُر" بالجيم، فالمراد أتهم يَعِفّون عن الفواحش، والروايةُ الأُولى أصح. وأمّا قوله [من البسيط]: شمّ مهاوين أبدانَ الجزور ... إلخ ¬
فصل [شرط إعمال اسم الفاعل]
البيت للكميت، والشاهد فيه نصب "أبدان الجزور" بقوله: "مَهاوِينُ"، وهو جمع "مِهْوانٍ"، و"مِهْوانٌ" تكثير "مُهِينٍ"، كما كان "مِنْحار" تكثير "ناحرٍ"، فعمل الجمعُ عملَ واحده، كما كان اسم الفاعل كذلك، وصف قومًا بالعزّ والأنَفَة، وكنَّى عن ذلك بالشَّمَم، وهو ارتفاعُ الأنْف، كما يُقال للعزيز: "شامخُ الأنْفِ". والأبْدان: جمع "بَدَنَةٍ"، وهي الناقة المتّخَذة للنحر، يريد أنهم يهينون الإبلَ، فينحرونها للأضياف. وقوله: "مخاميص العَشياتِ"، المراد أنّهم يجوعون في العَشايا, لأنّهم يؤخرون عَشاءَهم رَغْبَةً في حضورِ ضَيْف. والخُورُ: الضعفاء. والقَزَمُ: الأرذال من الناس، ولا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث لأن أصله المصدر. فصل [شرط إعمال اسم الفاعل] قال صاحب الكتاب: ويشترط في إعمال اسم الفاعل أن يكون في معنى الحال أو الاستقبال، فلا يقال: زيد ضارب عمراً أمس، ولا وحشيٌّ قاتل حمزة يوم أحد، بل يستعمل ذلك على الإضافة إلا إذا أريدت حكاية الحال الماضية كقوله تعالي: {وكلبهم باسط ذراعيه} (¬1)، أو أدخلت عليه الألف واللام كقولك الضارب زيداً أمس. * * * قال الشارح: اعلم أن اسم الفاعل يجيء على ثلاثة أضرب: للماضي وللحال وللاستقبال، كما أن الفعل كذلك، إلَّا أن الفعل تختلف صيغتُه للزمان، وتتّفق في اسم الفاعل؛ لأن الفعل بابه التصرّف، والأسماء بابها الجُمود وعدمُ الاختلاف. وإنّما يعمل من اسم الفاعل ما كان بمعنى الحال أو الاستقبال، نحوُ: "هذا ضاربٌ زيدًا غدًا، ومكرمٌ خالدًا الساعةَ"؛ لأنّه على لفظ المضارع إذ كان جاريًا عليه في حركاته وسكناته وعددِ حروفه، وهو في معناه، فلمّا اجتمع فيه ما ذُكر؛ عمل عملَه. فأمّا إذا كان بمعنى الماضي، فإنك لا تُعْمِله، إذ لا مضارعةَ بينه وبيّن الماضي، ألا ترى أن "ضاربًا" ليس على عددِ "ضَرَبَ"، ولا مثلَه في حركاته وسكناته، فلذلك لا تقول: "زيدٌ ضاربٌ عمرًا أمس"، ولا "وحْشِىٌّ قاتل حَمْزَةَ يَوْمَ أُحُدٍ". وهذا وحشى نُوبيٌّ من سُودانِ مكة، يُكْنَى أبا دَسِمَةَ، وهو مَوْلَى طُعَيْمَةَ بن عَديّ، وقيل مولى جُبَيْر بن مُطْعِم. فلا تنصب بـ "قاتل" هنا؛ لأنّه في معنَى "قَتَلَ"، ولا بـ "ضارب"؛ لأنّه في معنى "ضرب". وقد بيّنتُ أنّه لا مضارعَةَ بين الماضي واسم الفاعل إذا كان في معناه، فلمّا لم يكن بينهما مضارعةُ ما بينه وبيّن الفعل إذا أُريد به الحال أو الاستقبال، لم يُعْمِلوه عملَه، ¬
بل يكون مضافًا إلى ما بعده بحكم الاسميّة، فتقول: "هذا ضاربُ زيد أمسِ"، و"وحشىُّ قاتلُ حمزةَ يومَ أحد"، بالإضافة، ولا يجوز تنوينه والنصب به، فهو كقولك: "هذا غلامُ زيدٍ"، ولا يجوز: "غلامٌ زيدًا" بالتنوين وإعماله في ما بعده، ولا أن تجمع فيه بين الألف واللام والإضافة، فتقول: "هذا الضاربُ الرجلِ أمس"، كما تقول إذا أردت الحال أو الاستقبال، كما لا تقول: "الغلامُ الرْجلِ". وتقول: "هؤلاء حَواجُّ بيتِ الله أمس" بالخفض لا غير، وتقول: "مررت برجل ضارباه الزيدان"، كما تقول: "أخواه الزيدان". وذهب الكسائيّ من الكوفيين إلى جواز إعمال اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي، وأن يُقال: "هذا ضاربٌ زيدًا أمس"، واحتجّ بأُمورٍ، منها قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} (¬1)، فأعمل "باسط" في "الذراعين"، وهو ماضٍ. ومن ذلك ما حكاه عن العرب: "هذا مارّ يزيد أمس"، فأعملوه في الجارّ والمجرور. ومن ذلك قولهم: "هذا مُعْطِي زيدٍ درهمًا أمس". ومن ذلك قوله سبحانه: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} (¬2). ومن ذلك: "هذا الضاربُ زيدًا أمس"، تَعْمِله إذا كان فيه الألف واللام لا محالة. والجوابُ؛ أمّا الآية الأولى، وهي قوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} (¬3) فحكايةُ حال ماضية، كقوله: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ} (¬4)، ثمّ قال: {هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ} (¬5)، والإشارة بهذَا إنّما يقع إلى حاضرٍ، ولم يكن ذلك حاضرًا وقتَ الخبر عنه. وأمّا قولهم: "هذا مارٌّ يزيد أمس"، وإنّما أعمله في الجارّ والمجرور، ولم يعمله في مفعول صريح، والجارّ والمجرور يجري مجرى الظرف، والظروفُ يعمل فيها روائحُ الأفعال. وأمّا ما فيه الألف واللام من نحوِ: "هذا الضارب زيدًا أمس"، فإنّما عمل لأنّ الألف واللام فيه بمعنى "الَّذِي"، واسم الفاعل المتّصل بها بمعنى الفعل، فلمّا كان في مذهب الفعل عمل عمله، فهو اسم لفظًا، وفعلٌ معنىً. وإنّما حُوّل لفظ الفعل فيه إلى الاسم؛ لأن الألف واللام لا يجوز دخولهما على لفظ الفعل، فكان الذي أوجب نقلَ لفظه حكمٌ أوجب إصلاح اللفظ، ومعنى الفعل باقٍ على حاله. وكان الأخفش يزعم أن المنصوب في قولك: "هذا الضارب زيدًا" إذا كان ماضيًا، إنّما ينتصب كما ينتصب: "هذا الحسنُ الوجهَ" على التشبيه بالمفعول، وليس على المفعول الصريح. ¬
فصل [ما يعتمد عليه اسم الفاعل للعمل]
والمذهب الأول، وعليه سيبويه، ولذلك استثناه صاحب الكتاب فقال: "إلَّا إذا أردت حكايته الحال، أو أدخلتَ عليه الألف واللام", لأنّه إذا أُريد حكايته الحال؛ كان في حكم الحال، ولذلك يأتي بلفظ الحال، وإذا كان فيه الألف واللام، كان في معنى الفعل إذ كان في معنى الصلة. وأمّا ما يتعدّى إلى مفعولَين من نحوِ: "هذا مُعْطِي زيدٍ درهمًا"، فإن كثيرًا من النحويين يزعمون أن الثاني ينتصب بإضمارِ فعل تقديرُه: "هذا معطِي زيدٍ أعطاه درهمًا"، وليس بالحسن، ألا ترى أنّ ممّا يتعدّى إلى مفعولين ما لا يجوز أن يُذْكَر أحدهما دون الآخر، وأنت تقول: "هذا ظان زيدٍ منطلقًا أمس"، فلو كان الثاني ينتصب بإضمار فعل؛ لكنت في الأول مقتصِرًا على مفعول واحد، وهو ما أُضيف إليه اسمُ الفاعل، وذلك لا يجوز. والجيّدُ أن يكون منصوبًا بهذا الاسم، وذلك لأن الفعل الماضي فيه بعضُ المضارعة على ما سيُذْكَر في موضعه، ولذلك بُني على حركة، فكما مُيّز الفعل الماضي بتلك المضارعة، بأن بني على حركة، كذلك أُعمل الاسم الذي في معناه عملًا دون عمل الاسم الجاري على الفعل المضارع، فكما أعطوا الفعل الماضي حظًّا بالشَّبَه، وهو بناؤه على حركة؛ كذلك أعطوا الاسم الذي في معناه حظًا من العمل، وذلك بأن أعملوه في المفعول الثاني لمّا لم تمكن الإضافة إليه, لأنّه لا يُضاف إلى اسمين، فأُضيف إلى الاسم الذي يليه، وصارت إضافته إليه بمنزلة التنوين له، فعمل في الثاني بحكمِ أنّه في معنى الفعل، وأنّه كالمنوّن. وأما قوله تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا} (¬1)، فإن أكثر النحويين يجعلون ذلك ماضيًا, لأن الفلق وَالجعلَ قد كانا، فعلى هذا يكون نصبُ "سكنًا" وما بعده بإضمارِ فعل على القول الأوّل، وبالفعل المذكور على الثاني تحجز الإضافةُ بينهما. وكان أبو سَعِيد السّيرافي يجيز أن يكون ذلك للحال والاستقبال, لأن ذلك كل يوم يحدث، وعلى هذا يكون "سكنًا" منصوبًا بالفعل المذكور، والاسمُ الأول في معنى منصوب، ويكون الشمس والقمر معطوفًا على المعنى، كما قلنا في "هذا ضاربُ زيدٍ وعمرًا غدًا"؛ وهذا القولُ يُضَغفه قوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا} (¬2)؛ لأنّه ماضٍ قد كان لا محالة، لا يتجدّد كل يوم، فاعرفه. فصل [ما يعتمد عليه اسم الفاعل للعمل] قال صاحب الكتاب: ويشترط اعتماده على مبتدأ أو موصوف، أو ذي حال، أو حرف ¬
استفهام، أو حرف نفي، كقولك: زيدٌ منطلقٌ غلامه، وهذا رجل بارع أدبه، وجاءني زيد راكباً حماراً، وأقائم أخواك، وما ذاهب غلاماك. فإن قلت بارع أدبه من غير أن تعمده بشيء وزعمت أنك رفعت به الظاهر؛ كذبت بامتناع قائم أخواك. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول بأن أصل العمل إنّما هو للأفعال، كما أن أصل الإعراب إنّما هو للأسماء، واسمُ الفاعل محمول على الفعل المضارع في العمل للمشابهة التي ذكرناها، كما أن المضارع محمول عليه في الإعراب، وإذ عُلم ذلك، فليُعْلَمْ أن الفروع أبدًا تنحط عن درجات الأصُول، فلمّا كانت أسماء الفاعلين فروعًا على الأفعال؛ كانت أضعف منها في العمل. والذي يؤيد عندك ذلك أنّك تقول: "زيد ضاربٌ عمرًا"، و"زيد ضاربٌ لعمرٍو"، فتكون مخيَّرًا بين أن تُعدّيه بنفسه، وبيّن أن تعدّيه بحرف الجرّ لضعفه، ولا يجوز مثل ذلك في الفعل، فلا تقول: "ضربت لزيدٍ". قال الله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا} (¬1)، فعدّى الفعل بنفسه، وقال تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (¬2) فعدّى الاسم باللام. قال الشاعر [من الوافر]: 910 - وَنَحْنُ التاركونَ لِما سَخِطْنا ... ونحنُ الآخِذونَ لِما رَضِينَا ولذلك من الضعف لا يعمل حتى يعتمد على كلام قبله من مبتدأ، أو موصوف، أو ذي حال، أو استفهام، أو نفي. وذلك من قِبَل أن هذه الأماكن للأفعال، والأسماءُ فيها في تقدير الأفعال، ألا ترى أن الخبر في الحقيقة إنّما يكون بالفعل, لأنّه هو الذي يجهله المخاطبُ، أو ممّا يجوز أن يجهل مثلَه, لأن الأفعال حادثةٌ منقضيةٌ، وكذلك الصفة والحال, لأنك إنّما تَحْكِيه بفعل أو ما يرجع إلى فعل. ¬
وأمّا الاستفهام فهو في موضع الأفعال, لأنّك إنّما تسأل عمّا تشُك فيه، وأنت إذا قلت: "أزيدٌ قائمٌ"؟ وإنّما تشك في قيام زيد، لا في ذاته؛ لأن ذاته معلومات معروفة، وكذلك النفي إنّما يكون للأفعال، فاسمُ الفاعل لضعفه في العمل لا يعمل أو يعتمدَ، والفعل لقوّته لا يفتقر إلى ذلك. وقد أجاز أبو الحسن أن يعمل من غير اعتماد، فتقول على مذهبه: "قائمٌ زيد"، فيكون "قائم" مبتدأ، و"زيد" مرفوع بفعله، وقد سدّ مسدَّ الخبر لحصول الفائدة به، وتمام الكلام، وذلك لقوّة شَبَه اسم الفاعل بالفعل وأنشد (¬1): .............................. ولا ضميرَ في اسم الفاعل عنده؛ لأنّه قد رفع ظاهرًا، فلا يكون له فاعلان. وسيبويه يجيز المسألة على أن يكون "زيد" مبتدأ، و"قائم" خبرًا مقدّمًا، وعلى هذا يكون فيه ضمير من "زيد" كما لو كان مؤخرًا. وإلى هذا أشار صاحب الكتاب بقوله: "فإن قلت: "بارعٌ أدَبُه" وزعمت أنك رفعتَ به الظاهرَ، كُذّبتَ بامتناعِ "قائم أخواك"، يعني أن قولهم: "قائمٌ زيدٌ" جائز عند سيبويه على تقديم الخبر لا على رفعه الظاهرَ، ومن ظنّ ذلك بطل عليه بامتناع سيبويه من جوازِ "قائمٌ أخواك", لأنّه لا يرفع "الأخوين" بـ "قائم", لأنّه لا يعمله من غير اعتماد، ولا يكون خبرًا مقدّمًا؛ لأنّه مفرد، والمفرد لا يكون خبرًا على المثنّى. واعلم أن اسم الفاعل ينقص عن الفعل بثلاثة أشياءَ: أحدها: ما تقدَّم من قولنا: إِن اسم الفاعل لا يعمل، أو يعتمدَ على كلام قبله، والفعل يعمل معتمدًا، وغيرَ معتمد، لقوّته. الثاني: أن اسم الفاعل إذا جرى على غيرِ مَن هو له، برز ضميرُه، نحوَ قولك: "زيدٌ هندٌ ضاربُها هو"، فـ "زيد" مبتدأ، و"هند" مبتدأ ثان، و"ضاربُها" خبرُ "هند"، والفعلُ لِـ "زيد"، فقد جرى على غير من هو له، فلذلك برز ضميره، وخلا اسم الفاعل من الضمير، ويظهر أثرُ ذلك في التثنية والجمع، فتقول: "الزيدان الهندان ضاربُهما هما"، و"الزيدون الهنداتُ ضاربُهنّ هم"، ولا تقول: "ضارِباهما" ولا "ضارِبوهنّ"؛ لخُلُوّه من الضمير, لأنّه جارٍ مجرى الفعل، والفعل إذا تقدّم، وُحّد، ولو كان فعلاً، لم يبرز الضمير، وكنت تقول: "زيدٌ هندٌ يضربها"، فيكون في "يضربها" ضمير مستكنّ مرفوع، و"ها" المفعول, لأن الأفعال أصلٌ في اتصال الضمير بها. الثالث: أن اسم الفاعل لا يعمل، إلَّا إذا كان للحال أو الاستقبال، ولا يعمل إذا كان ماضيًا، والفعلُ لقوّته يعمل في الأحوال الثلاث. ¬
اسم المفعول
اسم المفعول فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: هو الجاري على "يُفْعَلُ" من فعله، نحو: "مضروب"؛ لأن أصله مفعل، ومكرم ومنطلق به ومستخرج ومدحرج, ويعمل عمل الفعل تقول: زيد مضروب غلامه, ومكرم جاره، ومستخرج متاعه، ومدحرج بيده الحجر", وأمره على نحو من أمر اسم الفاعل في إعمال مثناه ومجموعه واشتراط الزمانين, والاعتماد. * * * قال الشارح: اسم المفعول في العمل كاسم الفاعل؛ لأنّه مأخوذ من الفعل، وهو جارٍ عليه في حركاته وسكناته وعدد حروفه، كما كان اسم الفاعل كذلك، فـ "مَفْعُولٌ" مثلُ "يُفْعَلُ"، كما أن "فاعلاً" مثل "يَفْعَلُ"، فالميم في "مفعول" بدل من حرف المضارعة في "يُفْعَلُ"، وخالفوا بين الزيادتَيْن للفرق بين الاسم والفعل، والواوُ في مفعول كالمَدّة التي تنشأ للإشباع، لا اعتدادَ بها، فهي كالياء في "الدَّراهِيم" ونحوِه، أتوا بها للفرق بين مفعول الثلاثي ومفعول الرباعيّ. وهو يعمل عملَ فعله الجاري عليه، فتقول: "هذا رجلٌ مضروبٌ أخوه"، فـ "أخوه" مرفوع بأنه اسمُ ما لم يسمّ فاعله، كما أنّه في "يُضْرَب أخوه" كذلك، وتقول: "محمّدٌ مستخرَجٌ متاعُه"، كما تقول: "يُستخرج متاعُه"، وكذلك بناتُ الأربعة، فتقول: "زيد مُدَحْرَجٌ بيَده الحجرُ"، كما تقول: "يُدحرَج بيده الحجر"، فـ "مُدَحْرَجٌ" جارٍ على "يدحرَج" لفظًا، و"مضروب" جار على "يُضْرَب" حكمًا وتقديرًا، وتقول "هذا مُعْطًى أخوه درهمًا"، تقيم المفعول الأول مُقام الفاعل، وتنصب الثاني على حدّ انتصابه قبل بنائه للمفعول، ولا يجوز أن يُبْنَى "مفعول"، إلَّا مما يجوز أن يبنى منه "يُفْعَل"؛ لأنَّه جار عليه، فلا تقول: "مَقُومٌ"، ولا "مقعود"؛ لأنهما لأزمان، كما لا تقول: "يُقام"، ولا "يُقْعَد"، إلَّا أن يتصل به جارٌّ ومجرور، أو ظرف، أو مصدر مخصَّص، فإنَّه يجوز حينئذ أن تبنيه لِما لم يسمّ فاعله. وشرط إِعماله كشرط إعمال اسم الفاعل في أنّه لا يعمل حتى يعتمد على ما قبله،
كاسم الفاعل لضَعْفه عن درجة الأفعال، ولا يعمل أيضًا إلَّا إذا أُريد به الحال أو الاستقبال، نحوَ قولك: "هذا مضروبٌ غلامُه الساعةَ"، و"مررت برجلِ مكرَم أخوه غدًا"، كما تقول: "هذا ضاربٌ غلامَه الساعةَ"، و"مررت برجل مكرِمٍ أخاه غدًا"، وتقول في التثنية: "هذان مضروبان"، و"مررت برجلَين مضروبَيْن"، ففي "مضروب" ضميرٌ مستكن، وهو ضمير الفاعل، والألف والياء علامة التثنية على حدّهما في قولك: "رجلان"، و"رجلين" لأنّه اسم كما أنه اسم، وتقول: "هذان مضروبٌ غلامُهما"، فترفع به الظاهرَ، ولا تُلْحِقه علامة التثنية, لأنّه لا ضمير فيه. فإن قيل: إذا كنت إنّما ثنّيته وجمعته إذا كان فيه ضميرٌ؛ فهلّا قلت: إن هذه الحروف هي الضمير، كما كانت كذلك في الفعل إذا قلت: "هذان يضربان"؟ قيل: الفرق بينهما أنّ "يضرب" فعلٌ، والفعل نفسُه لا يثنَّى، ولا يجمع، وإنّما ذلك للضمير الذي يكون فيه؛ وأما اسم الفاعل، واسم المفعول، فهما اسمان تدخلهما التثنيةُ والجمع. والذي يدلّ أن العلامة اللاحقة حرفٌ قال على التثنية والجمع، وليسا اسمين انقلابُهما وتغيرُهما للإعراب، نحوُ: "جاءني الضاربان". و"رأيت الضاربَيْن"، و"مررت بالضاربين"، كما تقول: "جاءني الرجلان"، و"رأيت الرجلين"، و"مررت بالرجلين". وإنّما لم تُلْحِقهما علامةَ التثنية والجمع إذا رفعا ظاهرًا؛ لأنهما حينئذ يكونان في مذهب الأفعال، والفعلُ إذا لم يكن فيه ضمير لم تلحقه علامة، فلذلك تقول: "هذان رجلان ضاربٌ أخوهما، ومضروبٌ غلامُهما"، فاعرف ذلك.
الصفة المشبهة
الصفة المشبهة فصل [تعريفها] قال صاحب الكتاب: هي التي ليست من الصفات الجارية, وإنما هي مشبهة بها في أنها تذكر وتؤنث, وتثنى وتجمع نحو كريم وحسن وصعب وهي لذلك تعمل فعلها، فيقال: زيد كريم حسبه، وحسن وجهه، وصعب جانبه. * * * قال الشارح: الصفة المشبّهة باسم الفاعل ضربٌ من الصفات تجري على الموصوفين في إعرابها جَرْيَ أسماء الفاعلين، وليست مثلها في جَرَيانها على أفعالها في الحركات والسكنات وعدد الحروف. وإنّما لها شَبَهٌ بها، وذلك من قِبَل أنها تُذكر، وتُؤئث، وتدخلها الألف واللام، وتُثنَّى، وتُجْمَع بالواو والنون، فإذا اجتمع في النعت هذه الأشياء التي ذكرناها أو أكثرها شبهوه بأسماء الفاعلين، فأعملوه فيما بعده، وذلك نحو: "حَسَنٌ"، وَ"شَدِيد"، و"صَعب"، و"كَرِيم". فـ "حَسَنٌ" من "حَسُنَ يَحسُنُ"، و"شديد" من "شَدَّ، يشِدّ"، و"صَعْبٌ" من "صَعُبَ، يَصْعُبُ"، وليست مثلها في حركاتها وسكناتها كما كانت أسماء الفاعلين. وإنّما لها شَبَة بأسماء الفاعلين من الجهات المذكورة، فلذلك تقول: "مررت برجلَ حسنٍ وجهُه، وزيدٍ كريم حَسَبُه، وشديدٍ ساعِدُه، وصعب جانبُه"، فترفع ما بعد هذه الصفات من الأسماء بفعلها، كما كنت صانعًا في اسم الفاعل حيث قلت: "هذا قائم أبوه، وقاعدٌ أخوه", لأنك تقول: "حسنٌ"، و"حسنة"، و"شديد" و"شديدة"، "وصعب"، و"صعبة"، و"كريم"، و"كريمة"، فتُذكّر، وتؤنث. وتقول: "الحسن"، و"الشديد"، وتُدْخِل فيهما الألف واللام. وتقول: "حسنان"، و"حسنون"، فتثتيه بالألف والنون، وتجمعه بالواو والنون، كما تقول: "ضاربٌ"، و"ضاربة"، و"ضاربان"، و"ضاربون"، و"الضارب"، و"الضاربة"، فـ "حَسَنٌ" مُشبَّه بـ "ضارب"، و"ضاربٌ" مشبّه بـ "يضرب"، و"حسنان"، مثل "ضاربان"، و"ضاربان" مثل "يضربان"، و"حسنون" مثل "ضاربون"، و"ضاربون" مثل "يضربون"، إلَّا أن "ضاربًا" و"قاتلًا" من أفعال متعدّية حقيقة، فنصبت كما تنصب أفعالُها، و"حَسَنٌ"، و"بَطَل"، و"كَرِيم" من أفعال غير متعدّية
على الحقيقة، فكان حكمها في عدم التعدّي حكم أفعالها, لأنها فروعٌ في العمل عليها، فأقصى درجاتِها أن تُساوِيَها، وأمّا أن تفوقها فلا. وإنّما تعدّيها على التشبيه لا على الحقيقة، ألا ترى أنّك إذا قلت: "زيدٌ ضاربٌ عمرًا"، فالمعنى أن الضرب وقع بعمرو، وإذا قلت: "زيدٌ حسنُ الوجهِ"، فلست تُخْبِر أن "زيدًا" فَعَلَ بالوجه شيئًا، بل "الوجهُ" فاعلٌ في المعنى, لأنّه هو الذي حسُن، ولذلك قال سيبويه: ولا تعني أنّك أوقعتَ فعلًا، وإنّما أخبرت عن "زيد" بالحسن الذي للوجه، كما قد تصفه بذلك إذا قلت: "مررت برجل حسن الوجهِ"، وكان الأصل "مررت برجلٍ حسنٍ وجهُه"، وصفتَه بحسن وجهه، وقد يوصَف الشيء بفعلِ غيره إذا كانت بينهما وُصْلَة في اللفظ بضمير يرجع إلى الموصوف، نحوَ: "مررت برجلٍ قائمٍ أبوه" حلَّيتَه بقيام أبيه للعُلْقَة التي ذكرناها، كذلك ها هنا. واعلم أن الصفات على ثلاث مراتبَ: صفة بالجاري كاسم الفاعل واسم المفعول، وهي أقواها في العمل لقربها من الفعل، وصفةٌ مشبّهةٌ باسم الفاعل، فهي دونها في المنزلة؛ لأن المشبّه بالشيء أضعفُ منه في ذلك الباب الذي وقع فيه الشبَهُ، ثمّ المشبّهة بالمشبّهة، وهي المرتبة الثالثة، وستأتي بعدُ. فلمّا كانت الصفات المشبّهة في المرتبة الثانية، وهي فروع على أسماء الفاعلين إذ كانت محمولة عليها؛ انحطّت عنها، ونقص تصرّفُها عن تصرُّف أسماء الفاعلين، كما انحطت أسماء الفاعلين عن مرتبة الأفعال، فلا يجوز تقديم معمولها عليها كما جاز ذلك في اسم الفاعل، فلا تقول: "هذا الوجْهَ حسنٌ"، كما تقول: "هذا زيدًا ضاربٌ"، ولا تُضْمِره، فلا تقول: "هذا حسنُ الوجهِ والعينَ"، فتنصبَ "العين" على تقديرِ: و"حسن العينَ"، كما تقول: "هذا ضاربُ زيدٍ وعمرًا" على تقديرِ، و"ضاربٌ عمرًا". ولا يحسن أن تفصل بين "حسن" وما يعمل فيه، فلا تقول: "هو حسن في الدار الوجهَ، وكريمٌ فيها الأبَ"، كما تقول: "هذا ضاربٌ في الدار زيدًا"، فاسمُ الفاعل يتصرّف، ويجري مجرى الفعل لقوّة شَبَهه، وجَرَيانه عليه، وهذه الصفات مشبَّهة باسم الفاعل، والمشبّه بالشيء يكون دون ذلك الشيء في الحكم، فلذلك تعمل في شيئين لا غير؛ أحدهما: ضمير الموصوف، والثاني: ما كان من سبب الموصوف. ولا تعمل في الأجنبيّ، فتقول: "مررت برجل حسن"، فيكون في "حسن" ضميرٌ يعود إلى الموصوف، وهو في موضعِ مرفوع بـ "حسن". وتقول: "مررت برجلٍ حسنٍ وجهُه" فترفع "الوجه" بـ "حسن"، وهو من سبب "رجل". ولولا الهاء العائدة على "رجل" من "وجهه"، لم تجز المسألة. ولو قلت: "مررت برجلٍ حسنٍ عمرٌو"، لم يجز, لأن الحسن لـ "عمرو"، فلا
فصل [دلالتها وإضافتها إلي فاعلها]
يجوز أن يُجْعَل وصفًا لـ "رجل" إلَّا بعُلْقَةٍ، وهي الهاء التي وصفنا. وتقول: "مررت برجل كريم أبوه، وبرجل حسنةٍ جاريتُه"، وإنّما تُؤنث "حسنة"، وهي صفةٌ لمذكر, لأنّه فعلُ "الجارية"، وإنّما وُصف به "الرجل" للعلقة اللفظية التي بينهما، فإن أردت التثنية أو الجمع، لم تُثَن الصفة ولا تَجْمَع؛ لأنها بمنزلةِ فعل متقدّم، فتقول: "مررت برجل كريمٍ أبواه، وبرجالٍ كريمٍ آباءُهم"، فاعرفه. فصل [دلالتها وإضافتها إلي فاعلها] قال صاحب الكتاب: وهي تدل على معنى ثابت فإن قصد الحدوث قيل هو حاسن الآن أو غداً، وكارم وطائل. ومنه قوله عز وجل: {وضائق به صدرك} (¬1) , وتضاف إلى فاعلها كقولك: كريم الحسب وحسن الوجه، وأسماء الفاعل والمفعول يجريان مجراها في ذلك فيقال ضامر البطن، وجائلة الوشاح، ومعمور الدار، ومؤدب الخُدّام. * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الصفات وإن كانت مشبّهة باسم الفاعل، فبينهما تبايُنٌ وطريقُهما مختلف، وذلك أن "حَسَنًا" مأخوذ من فعل ماض، وأمرٌ مستقرّ، ومع ذلك فإذا أضفته إلى معموله، فلا يتعرّف، وإن كان ما أُضيف إليه معرفة، وتصف به النكرة، فتقول: "مررت برجل حسنِ الوجهِ"، وليس كذلك اسم الفاعل إذا كان في مذهبِ "حَسُنَ" من المُضيّ، بل يكون معرفة إذا أُضيف إلى معرفة. فإن قيل: فهذا زعمتم أن هذه الصفات ونحوها في معنى الماضي؛ فما بالكم تُعْمِلونها، واسم الفاعل الذي شُبّهت به إذا كان ماضيًا؛ لا يجوز أن يعمل، وهل هذا إلا إعطاء الفرع فوق مرتبة الأصل؟ قيل: هذه الصفات، وإن كانت من أفعال ماضية، إلَّا أن المعنى الذي دلّت عليه أمر مستقرٌّ ثابت متصل بحال الإخبار، ألا ترى أن "الحسن" و"الكرم" معنيان ثابتان، ومعنى الحال أن يكون موجودًا في زمن الإخبار، فلمّا كان في معنى الحال، أُعْمِل فيما بعده، ولم يخرج بذلك عن منهاج أسماء الفاعلين. فإن قُصد الحدوث في الحال، أو في ثاني الحال؛ جيء باسم الفاعل الجاري على المضارع الدال على الحال أو الاستقبال، وذلك قولك: "هذا حاسنٌ غدًا" أي: سَيَحْسُنُ، و"كارمٌ الساعةَ". ومنه قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} (¬2)، أي: بَلغْ ما أُنْزِل إليك بصدرٍ فسيحٍ من غيرِ التفات إلى استكبارهم واستهزائهم. وعدل ¬
فصل [أوجه إعراب عبارة "حسن وجهه"]
عن "ضَيق" إلى "ضائق"؛ ليدلّ على أنه ضيْقٌ عارضٌ في الحال غير ثابت. وعلى هذا قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} (¬1)، عدل عن "عَمِينَ" إلى "عامِينَ" لهذا المعنى، وعلى هذا تقول: "زيدٌ سيّدٌ جَوادٌ"، تريد أن السيادة والجُود ثابتان له. فإذا أردت الحدوث في الحال، أو في ثاني الحال؛ قلت: "سائدٌ"، و"جائدٌ". وقد يُعامِلون اسم الفاعل معامَلةَ الصفة المشبّهة إذا كان لازمًا له غير متعدٍّ، وذلك أن اسم الفاعل يجوز أن يرفع السببَ، فتقول: "هذا رجلٌ قائم أبوه، وقاعدٌ غلامُه"، فتصفه بفعلِ غيره للعُلْقة التي بينهما، فإذا كان غير متعدّ عاملًا في السبب، شابَهَ بابَ "الحسنُ الوجهِ"، فجاز أن تنقل الفعل إلى الموصوف، ثم تضيفه إلى من كان فاعلاً على سبيل البيان، فتقول: "هذا رجل قائمُ الأبِ" فيكون في "قائم" ضمير مرتفع به يعود إلى "الرجل"، كما كان كذلك في "الحسن الوجه". يدل على ذلك قولك: "هذه امرأة قائمةُ الأبِ"، فتأنيثُ "قائمة" دليل على ما قلناه. وقد قالوا: "هذه امرأةٌ ضامرُ البطن"، والمراد ضامرٌ بطنُها، إلَّا أنهم نقلوا الفعل إلى الموصوف على ما ذكرناه. فإن قيل: فكان ينبغي أن يقال: "ضامرةُ البطن"، فيؤنّث؛ لأنّ فيه ضميرًا مؤنّثًا يعود إلى المرأة؛ قيل: جاء ذلك على سبيل النسب، كقولهم: "تامِرٌ"، و"لابنٌ"، ومنه قولهم: "امرأة حائضٌ"، و"طاهرٌ". قال الشاعر [من السريع]: عَهْدِي بها في الحَيّ قد سُرْبِلَتْ ... هَيْفاءَ مِثْلَ المُهْرَةِ الضامر (¬2) وقالوا: "امرأة جائلةُ الوِشاحِ"، والمراد: جائلٌ وشاحُها، أي: يضطرب لوفوره. والوشاح: كالقِلادة من أَدَم فيه جوهرٌ. وقالوا: "طاهرُ الذيْلِ" إذا وصفوه بالعِفّة، وقالوا في المفعول: "فلانٌ معمّورُ الدار"، والمراد: معمورة دارُه، و"مؤدَّبُ الخُدّامِ"، أي: مُؤدَّبٌ خدّامُه، أجروه مجرى "حسنُ الوجهِ". فصل [أوجه إعراب عبارة "حسن وجهه"] قال صاحب الكتاب: وفي مسألة حسن وجهه سبعة أوجه: حسن وجهه، وحسن الوجه، وحسنٌ وجهاً قال أبو زبيد [من البسيط]: 911 - هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة ... مخطوطة جدلت شنباء أنيابا ¬
وحسن الوجه قال النابغة [من الوافر]: 912 - ونأخذ بعده بذناب عيش ... أجب الظهر ليس له سنام وحسن وجه قال حميد [من الرجز]: 913 - لاحق بطن بقراً سمين ¬
وحسن وجهه قال الشماخ [من الطويل]: 914 - أقامت على ربعيهما حارتا صفاً ... كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما وحسن وجهه قال [من الرجز]: 915 - [أنعتها إني من نعاتها] ... كوم الذري وادقة سراتها * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن هذه المسألة يجوز فيها عدّةُ أوجه: فأولّها "هذا رجلٌ حسنٌ وجهُه، وكثيرٌ مالُه"، فهذا هو الأصل, لأن الحُسْن إنّما هو للوجه، والكثرة إنّما هي للمال، ولذلك ارتفعا بفعلهما, وليس فيه نقل، ولا تغييرٌ. والهاء في "وجهه"، و"ماله" هو العائد إلى الموصوف الذي هو رجلٌ. الثاني: "مررت برجل حسن الوجهِ" بالإضافة وإدخال الألف واللام في المضاف إليه، وهو المختار بعد الأول. وإنّما كان المختار من قِبَل أنّك لمّا نقلت الفعل عن "الوجه"، وأسندته إلى ضمير الموصوف الذي كان متصلًا بالوجه للمبالغة، ووجهُ المبالغة أنك جعلتَه حسن العامّة بعد أن كان الحسن مقصورًا على الوجه؛ كان المختار الإضافة وإدخال الألف واللام في المضاف إليه. أمّا اختيار الإضافة؛ فلأنّ هذه الصفات المشبّهة بأسماء الفاعلين غيرُ مُعْتَدّ بفعلها، لأنّ أفعالها غير مؤثِّرة كـ "ضارِب" و"قاتِلٍ"، وإنّما حدث لها هذا المعنى والشَّبَهُ بأسماء الفاعلين بعد أن صارت أسماءً، وَكانت غير مستغنِية عن الاسم الذي بعدها، فأضيفت إلى ما بعدها كسائر الأسماء إذا اتّصلت بأسماء، نحو: "غلامُ زيدٍ"، و"دارُ عمرٍو"، فلذلك اختير فيها الإضافة؛ وأمّا اختيار الألف واللام في "الوجه"؛ فلأنّه إنّما كان معرفة بإضافته إلى الهاء التي هي ضمير الأوّل، فلمّا نزعوا ذلك الضمير، وجعلوه فاعلًا مستكنًّا، عوّضوا عنه الألف واللام، لئلّا يخرج عن منهاج الأصل في التعريف. وأما الثالث: وهو "هذا رجلٌ حسن وجهًا"، فيحتمل نصبُ "وجه" أمرَيْن: أحدهما: أنه منصوب بِـ "حسن" على حدّ المفعول، كما يعمل "ضاربٌ" في "زيد" ¬
إذا قلت: "هذا ضاربٌ زيدًا" على التشبيه به، كما رُفع "الوجه" في قولك: "حسنٌ وجهُه" على التشبيه به. والثاني: أن يكون منصوبًا على التمييز، كما تقول: "هذا أحسنُ منك وجهًا"، و"ما في السماء موضعُ راحةٍ سَحابًا"؛ لأنّك بيّنت بِـ "الوجه" موضع الحسن، كما بين "السحابُ" نوع المقدار، وهو نكرةٌ كما أنّه نكرة. فأمّا قوله [من البسيط]: هيفاء مُقْبِلة ... إلخ البيت لأبي زُبَيْد الطائي، والشاهد فيه نصب "أنيابًا" بـ "شنباء" لِما فيه من نيّة التنوين، إلَّا أنّه لا ينصرف، فامتناعُ التنوين منه لعدم الصرف، لا للإضافة، فهو كقولك: "هؤلاء حواجُّ بيتَ الله". وصف امرأة، قال: إذا أقبلت رأيتَ لها خَصْرًا أَهْيَف- والهَيَفُ: ضُمْرُ البطن والخصر- وإذا أدبرت رأيت لها عجيزة مُشْرِفة. والمحطوطةُ: المَلْساء الظَّهْر، يريد أنّها غير متغضنةِ الجِلْد من كِبَرٍ، وجُدلت: أُحكم خَلْقُها من الجَدِيل، وهو زِمامٌ من أَدَمٍ. الرابع: قولهم: "هذا حسنُ وجه". ومنه قولهم: "هو حديثُ عَهْدٍ بالنِّعمة". وهو مثل "حسنُ الوجهِ"، إلَّا أنّهم حذفوا الألف واللام تخفيفًا، ولأنه موضعٌ أُمِنَ فيه اللبسُ لعلم السامع أنّه لا يعني من الوجوه إلَّا وجهه، ولأنّ الوجه لا يُعرَّف حَسَنًا لأنّه في نيّة الانفصال. ويدل على تنكيره مع إضافته إلى المعرفة جوازُ دخول الألف واللام عليه في قولهم: "مررت بالرجل الحسن الوجه". فأمّا قوله [من الرجز]: لاحِق بَطْنٍ بقَرًا سَمِينِ البيت لحُمَيْدٍ الأَرْقَطِ، والشاهد فيه إضافة "لاحق" إلى "البطن" مع حذف الألف واللام، فهو بمنزلة "حسنُ وجهٍ". واعلم أن قوله "لاحق بطن" وإن كان أصله اسم فاعل كـ "ضارب" و"خارج"، فإنّما ذُكر في هذا الباب لانّه أُجْرِي مجرى الصفة المشبّهة، فقُدّر بـ "لاحقٍ بطنُه"، كما قدّر "حسنُ وجه" بـ "حسنٍ وجهُه" فـ "البطنُ" فاعلٌ في المعنى كما أن "الوجه" فاعل في المعنى، واسمُ الفاعل لا يضاف إلى الفاعل. لا تقول: "هذا ضاربُ زيدٍ"، و"زيدٌ" فاعل؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه، وليس كذلك الصفة, لأنها نُقلت النقلَ الذي لا يكون في اسم الفاعل. وصف فرسًا بضُمْر البطن. واللاحقُ: الضامر، وحقيقتُه أن يلحق بطنُه ظهرَه ضُمْرًا، ثم نفى أن يكون ضُمْرُه من هُزالٍ، فقال: "بقَرًا سمينٍ". والقرا: الظَّهْر. الخامس: قولهم: "هو حسنٌ الوجهَ"، وذلك على رأي من يقول: "هو حسنٌ وجهًا"، فانتصاب "الوجه" هنا على التشبيه بالمفعول، وذلك لأنّه لما أضمر الفاعلَ في الصفة؛ جعل الثاني كالمفعول، فصار بمنزلة قولك: "هذا الضارب الرجلَ"، و"القائل
الحقَّ". حملوا هنا الصفة على اسم الفاعل، فنصبوا بها، وإن كانت غير متعدّية، كما حملوا اسم الفاعل على الصفة المشبهة، حيث قالوا: "مررت بالضارب الرجلِ". وإنّما قلنا ذلك لأنّه معرفة لا يحسن نصبه على التمييز. وقد أجاز أبو علي، ومن وافقه، أن يكون منصوبًا على التمييز، وإن كان فيه الألف واللام، وذلك أنّه قال: لا فرقَ بين دخول الألف واللام وعدمها، لو قال: "هو حسنٌ وجهًا"، وإذا قد جاء "الجَمّاء الغفير"، و"فَاهُ إلى فِيَّ"، و"أرسلها العِراكَ"، فلم يمتنع من كون مثل هذا منصوبًا على الحال؛ لأنّ فائدته فائدةُ النكرة، فلم يمتنع أن يكون هذا منه، وهو وجةٌ حسنٌ لولا شناعةٌ في اللفظ. فاقا قوله [من الوافر]: ونأخذ بعده ... إلخ فإن الشاهد فيه نصب "الظهر" مع الألف واللام بـ "أجَبَّ", لأنّه في نيّة التنوين، ولو كان في غير نيّة التنوين لانجرّ ما بعده بالإضافة. وصف النغمان بن المُنْذر، وأنّه إن هلك صار الناس بعده في أَسْوَأ حالٍ، وأضيَقِ عيشٍ، وتَمسَّكوا بمثل ذنبِ بَعِيرٍ أجبَّ، وهو الذي لا سَنَام له من الهُزال، والذِّناب والذُّنابَى: هو الذَّنَبُ. السادس: وهو قولك: "مررت برجل حسنِ وَجْهِه"، بإضافة "حسن" إلى "وجهه"، كما تقول: "حسنِ الوجهِ" أجازه سيبويه (¬1)، قال: شبهوه بـ "حَسَنِ الوجهِ"، يعني جعلوا الإضافة مُعاقبة للألف واللام. قال: وهو رديء، يعني أنه قد جاء عن العرب مع رداءته، وذلك أن الأصل "كان زيدٌ حسن وجهُه"، فالهاء تعود إلى "زيد"، فنُقلت الهاء إلى الصفة، وصارت الصفة مُسْنَدة إلى عامّة بعد أن كانت مسندة إلى خاصّة، واستكنّ الضمير في الصفة، وصار مرفوعَ الموضع بفعله، بعد أن كان مجرور الموضع بالإضافة، فلا يحسن إعادتُها مع إسناد الصفة إليها؛ لأن أحدهما كاف، فلذلك كان رديئًا. ووجهُ جوازه جعلُ الضمير مكان الألف واللام, لأنهما يتعاقبان، وبقي الضمير الأول على حاله، فعاد إلى الأوّل ضميران: أحدهما مرفوع، والآخر مجرور بمنزلة قولك: "زيد ضاربُ غلامِه"، ففي "ضارب" ضميرٌ يعود إلى "زيد" مرفوعٌ، وفي "الغلام" ضميرٌ يعود إليه مجرورٌ. وأنشد [من الطويل]: أَمِنْ دمْنَتَيْنِ عَرَّجَ الرَّكْبُ فيهما ... بحَقْلِ الرُّخامَى قد عَفَا طَلَلاهما أقامت على رَبْعَيهما جارَتا صَفًا ... كُمَيْتَا الأعَالِي جَوْنَتا مُصْطَلاهما البيتان للشمّاخ، والشاهد في البيت الثاني في قوله: "جونتا مصطلاهما" فـ "جونتا" مثنّى بمنزلة "حسنا"، وقد أضيف إلى "مصطلاهما"، فـ "مصطلاهما" بمنزلة "وجوههما" ¬
إذا قلت: "جاءني رجلان حسنًا وجوهِهما"، فالضمير الذي في "مصطلاهما" يعود إلى قوله "جارتا صفا". أعاده بعد وإسناد الصفة إليه، فلذلك كان رديئًا. يصف الأثافي، والصَّفَا: الجَبَلُ؛ لأن الأُثفِيّتَيْن تُبْنَى في أصل الجبل في موضعَيْن، والجبل الثالث. وقوله: "كميتا الأعالي" يعني أن أعالي الأثفيّتَيْن لم تسود لبُعْدها عن مباشرَة النار، فهي على لون الخَيْل. وقوله: "جونتا مصطلاهما" يعني مُسْوَدَّتَا المصطلى، وهو موضع الوقود منهما. وقد أنكر بعض النحويين هذا الاستدلالَ، وزعم أن الضمير من "مصطلاهما" غير عائد إلى "الجارتين"، إنّما يعود إلى "الأعالي"، كأنّه قال: "كميتا الأعالي جونتا مصطلَى الأعالي"، فهو بمنزلة: "زيدٌ حسن وجهِ الأخِ جميلُ وجهِ الأخ". وذلك جيد بلا خلاف. ويجوز أن تكني عن "الأخ"، فتقول: "زيد حسنُ وجهِ الاخ جميلُ وجهِه"، والهاء تعود إلى "الأخ" لا إلى "زيد"، فإن أعدته إلى "زيد"، لم يجز، وإن أعدته إلى "الأخ"؛ جاز. كذلك قوله: "كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما" إن أعدته إلى "الأعالي" جاز، وإن أعدته إلى "الجارتَيْن"، لم يجز. فإن قلت: كيف يجوز أن يعود الضمير إلى "الأعالي" وهو جمعٌ، والمضمر مثنّى، والضمير إنّما يكون على حسبِ ما يرجع إليه؟ قيل: "الأعالي" هنا في موضع "الأعْلَيَيْن"، وذلك أن الجمع في هذا النحَو معناه التثنية، كقوله تعالى: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} (¬1) والحقيقة قلبان, لأنّه لا يكون لكلّ واحد إلاّ قلبٌ واحدٌ، فجاز أن يعود إليه الضمير مثنّى على الأصل، ونحوه قول الشاعر [من الوافر]: متى ما تَلْقَني فَرْدَيْن تَرْجُفْ ... رَوانِفُ ألْيَتَيْكَ وتُستَطارا (¬2) فرد الضمير في "تستطارا" إلى "الرانفتَيْن" على الأصل. والأول: مذهب سيبويه، واستدلاله صوابٌ؛ لأنّه الظاهر، وما ذكرناه تأويلٌ على خلاف الظاهر، والأخذُ بالظاهر هو الوجه. السابع: قولهم: "مررت برجل حسنٍ وجهَهُ"، بنصب "الوجه" مع إضافته إلى ضمير الموصوف وانتصابه على التشبيه بالمفعول به، ومن نصب الوجه في قولهم: "مررت برجلٍ حسنٍ الوجهَ" على التمييز نصب هذا على التمييز، فلم يعتد بتعريفه, لأنّه قد عُلم أنّهم لا يعنون من الوجوه إلَّا وجهَ المذكور، وأنشد قولهم [من الرجز]: أَنْعَتُها إنِّيَ من نُغاتِها ... كُومَ الذُرَى وادِقةً سُرّاتِها (¬3) ¬
هكذا أنشده أبو عمر الزاهد بكسر التاء من "سرّاتها"، جعله منصوبًا بـ "وادقة"، فهو مثلُ "زيدٌ حسنٌ وجهَه". ويجوز إدخال الألف واللام على الصفة، ويجوز فيها بعدُ أكثرُ الوجوه المتقدّمة، فتقول: "مررت بالرجل الحسنِ وجهُه" برفع "الوجه" هنا كما كنت ترفعه قبلُ، و"مررت بالرجل الحسنِ الوجهِ". قال سيبويه (¬1): وليس في العربيّة مضافٌ تدخل عليه الألف واللام غير المضاف إلى المعرفة في هذا الباب، والعلّةُ في جواز ذلك أن الإضافة لا تكسوها تعريفًا ولا تخصيصًا إذ كانت في تقدير الانفصال، وإن لم تكسها الإضافةُ تعريفًا؛ لم تمنعها من دخول الألف واللام عليها إذا احتيج إلى التعريف. وتقول: "مررت بالرجل الحسن وجهًا"، فتنصب "وجهًا" على التمييز، أو التشبيه بالمفعول به، كما كان يُنْصَب قبل دخول الألف واللام مع التنوين. ولا يجوز أن تقول: "مررت بالرجل الحسنِ وجهٍ"، كما جاز "حسنِ وجهٍ"، كرهوا أن تضاف المعرفة في اللفظ إلى نكرة، إذ كان في ذلك تناقضٌ في الظاهر مع أنّه مخالِفٌ لسائر أبواب العربيّة. وتقول: "مررت بالرجل الحسنِ الوجهَ" بنصب الوجه. قال سيبويه (¬2): وهي عربية جيّدة، تنصبه مع الألف واللام كما كنت تنصبه مع التنوين إذا قلت: "حسنٌ الوجهَ"؛ لأن الألف واللام بدلٌ من التنوين. قال الشاعر [من الوافر]: 916 - فما قَوْمي بثَعْلَبَةَ بن سَعْدٍ ... ولا بفَزارَةَ الشعْرِ الرّقابَا ¬
يروى: "الشُعْرَى" بألف، وهو مؤنّث "الأشعَر" كـ "الكُبْرَى". ويروى: "الشعْرِ" بغير ألف، وهو جمع "أشعر"، كـ "أحمر وحُمْرٍ". فمن أنّث أراد القبيلة، ومن جمع أراد كلّ واحد منهم هذه صفتُه. وكانت العرب تمدح الجَلَى وخفّةَ الشَّعْر؛ كأنّه يهجوهم بكثرة شعر القَفا والوجهِ. وينشد: "الشُّعْرَى رِقابَا" من غير ألف ولام، و"الرقابا" بالألف واللام. فمن قال: "الرقابا" بالألف واللام، كان كـ "الحسن الوجهَ"، ومن قال: "رقابَا" كان كـ "الحسن وجهًا". وتقول: "مررت بالرجل الحسنِ الوجهُ" برفع "الوجه"، وفيه نظر لخُلُوّه من العائد، وهذه الصفاتُ إنّما عملُها في ضمير الموصوف، أو فيما كان من سببه، وجوازُه عند الكوفيين على تنزيل الألف واللام منزلةَ الضمير، فيكون قولهم: "الحسن الوجهُ" بمنزلِة "الحسن وجهُه". ويتأوّلون قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} (¬1) على أن المراد: مأواه، والذي عليه الأكثرُ أنَّه على حذف العائد للعلم بموضعه. والمراد: "مررت بالرجل الحسن الوجهُ منه"، وكذلك الآيةُ، أي: "المأوى له"، والعائدُ قد يحذف تخفيفًا للعلم به، وموضعُ حذفه الصلة للطول، نحوُ: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬2) وقد يحذف من الصفة من نحو ما حكاه سيبويه من قولهم (¬3): "الناس رجلان؛ رجلٌ أكرمتُ، ورجلٌ أهنتُ"، والمراد: أكرمتُه، وأهنتُه، وأنشد [من الوافر]: 917 - فما أدري أغيَّرَهم تناءٍ ... وطولُ العهدِ أم مال أصابوا ¬
أراد أصابوه، فحذف الهاء وهو يريدها. وقد يحذف من الخبر أيضًا، وهو قليل. قال الشاعر [من الرجز]: قد أصبحث أُمُّ الخِيار تَدَّعِي ... على ذَنبًا كُلُّهُ لم أَصْنَعِ (¬1) أراد: أصْنَعْهُ، والكثير حذفُه من الصلة للطول، ثمّ حذفُه من الصفة في الحُسْن بعد الأول، تُشبَّه الصفة بالصلة من حيث كانت الصفة والموصوف كالشيء الواحد، وهو في الخبر قليل. فأمّا قوله تعالى. {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} (¬2)، فقال بعضهم: إن الألف واللام أغنت عن المضمر العائد، إذ كانت مُعاقِبة للإضافة، والمراد: أبوابها. وهو ضعيف، إذ لو جاز مثل هذا، لجاز "جاءني الذي قام الغلامُ" على إرادةِ "غلامُه". وذلك لا يجوز بلا خلاف. وقال قوم -وهو رأي أكثر البصريين- إن العائد محذوف، والمراد: مفتّحةً لهم الأبواب منها. واختيارُ أبي عليّ أن تكون الصفة مسندة إلى ضمير الموصوف، فيكون على هذا في "مفتّحة" ضميرُ "الجنّات", لأنّه يقال: "فُتحت الجنّات"، إذا فُتحت أبوابُها. وفي التنزيل: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} (¬3)، وتكون "الأبواب" مرتفعة على البدل من الضمير في "مفتّحة" بدلِ البعض من الكلّ، بمنزلة قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} (¬4). وقد أنشدوا بيت امرئ القيس [من الطويل]: 918 - كبِكْرِ المُقَانَاة البَياضِ بصُفْرَةٍ ... غَذاها نَمِيرُ الماء غيرَ مُحلَّلِ ¬
على ثلاثة أوجه: الجرّ، والنصب، والرفع، فالجرّ كقولك: "الحسن الوجهِ"، والنصب كقولك: "الحسن الوجهَ " على التشبيه باَلمفعول به، والرفع كقولك: "الحسن الوجهُ" على ما ذكرناه من إرادة العائد. فاعرفه. ¬
أفعل التفضيل
أفعل التفضيل فصل [صياغته] قال صاحب الكتاب: قياسه أن يصاغ من ثلاثي غير مزيد فيه ليس مما ليس بلون ولا عيب, لا يقال في "أجاب", و"انطلق", ولا في "سَمُرَ" و"عور": هو أجوب منه وأطلق ولا أسمر منه وأعور، ولكن يتوصل إلى التفضيل في نحو هذه الأفعال بأن يصاغ أفعل مما يصاغ منه ثم يميز بمصادرها كقولك: هو أجود منه جواباً، وأسرع انطلاقاً، وأشد سمرة وأقبح عوراً. * * * قال الشارح: اعلم أن هذا البناء لاِ يكون إلّا من فعل ثلاثيّ دون ما زاد عليه، وكذلك بناء "أفْعَل" التعجّبِ، نحو: "ما أفْعَلَهُ! " و"أفْعِلْ به! " فكل ما لا يجوز فيه، "ما أفعله" لا يجوز فيه: "هذا أَفْعَلُ من هذا". وإنّما جرى "هذا أفعل من هذا" مجرى التعجّب؛ لاتّفاقهما في اللفظ وتقارُبهما في المعنى. أمّا اللفظ فبناؤهما على "أَفْعَل"، فكما لا يكون "أفعل" في التعجّب ممّا زاد على الثلاثة، فكذلك لا يكون هذا في باب "أفعل من هذا"؛ لاستحالة أن يكون هذا البناء مما زاد على الثلاثة؛ لأن ذلك إنّما يكون بهمزة زائدة أولًا وثلاثةِ أحرف أصولٍ بعدها، فلو رُمْتَ بناء مثلَ ذلك ممّا زاد على الثلاثة، لزمك أن تحذف منه شيئًا، فيكون حينئذ هَدْمًا لا بناءً؛ وأما المعنى فلأنه تفضيل كما أنّه تفضيل، ألا ترى أنّك إذا قلت: "ما أعْلَمَ زيدًا! " كنت مُخْبِرًا بأنه فاق أشكالَه، وإذا قلت: "زيدٌ أعلمُ من عمرٌو"؛ فقد قضيتَ له بالسَّبْق والسُّمُوَّ عليه. فأمّا الألوان والعُيوب، فإن الخليل (¬1) اعتل للمنع منه بأنّ الألوان والعيوب تجري مجرى الخَلْق، نحو: "اليَد" و"الرِّجْل"، فكما لا تقول: "ما أيْداه! " ولا "ما أَرْجَلَه! " لبُعْده عن الفعل، فكذلك لا تقول: "ما أَسْوَدَه! "، ولا "ما أَعْوَرَه! "؛ لأنهما معانٍ لازمةٌ تجري مجرى الخلق، وكما لا يجوز: "ما أسوده! " ولا "ما أعوره! " لا يجوز "هذا أسود من هذا" ولا "هذا أعور". وبعضهم احتجّ بأنّ أصلها يرجع إلى ما زاد على الثلاثة، نحو: ¬
فصل [ما شذ منه]
"اسْوَادَّ"، و"اسْوَدَّ"، و"اعوارّ"، و"اعورّ"، وأما "حَوِلَ"، و"عَوِرَ"، و"صَيِدَ البعيرُ" فمنقوصاتٌ من "احوالَّ"، و"اعوارّ"، فهي في الحكم زائدة على الثلاثة يدلّ على ذلك صحة الواو والياء فيها. ولولا ملاحَظةُ الأصل، لقلت: "عار"، و"حال"، و"صاد". ألا ترى أن في هذه الأفعال ما في "خاف"، و"هاب"، ونحوهما من مُوجِب القلب والإعلال. فعلى هذا لا تقول مِن "أجابَ"، و"انطلق": "هذا أَجْوَبُ من هذا"، ولا "أطلقُ منه"؛ لأن فعلَيْهما زائدان على الثلاثة، ألا ترى أن الهمزة في أوّلِ "أجاب" زائدة، والهمزة والنون من "انطلق" زائدتان. فإذا أردت التفضيل من ذلك أو التعجّب، جئت بفعل ثلاثي يفيد شدّة ذلك الأمر وثباتَه، وتنصب مصادِر تلك الأفعال المقصودة بالتفضيل أو التعجّبِ بوقوع تلك الأفعال عليها، وذلك نحو: "هذا أسرعُ انطلاقًا من غيره، وأجودُ جوابًا"، وهذا معنى قوله: "يُتوصّل إلى التفضيل بأن يصاغ أفعل ممّا يصاغ منه"، أي من الأفعال الثلاثية، "ثمّ تُميِّز بمصادرها"، أي: تُبيِّن المعنى المراد تفضيله، فتقول من الإكرام: "هو أشد إكرامًا"، ومن الكَرَم: "هو أكرمُ ". وكذلك تقول: "هو أشد سُمْرَةَ منه"، ولا تقول: "هو أسمرُ من فلان"، إلا إذا أردت معنى المُسامرة، "وهو أقبح عَوَرًا"، ولا تقول: "هو أعورُ من هذا"، وكذلك الألوان، لا تقول: "هو أحمر من هذا"، وأنت تريد الحمرة، فإن أردت معنى البَلادة، جاز، ولا تقول "هو أبيضُ من البياض"، فإن وصفتَ طائرًا بكثرة البَيْض، جاز، وعلى ذلك فقِسْ. فصل [ما شذّ منه] قال صاحب الكتاب: ومما شذ من ذلك: "هو أعطاهم للدينار والدرهم، وأولاهم للمعروف"، و"أنت أكرم لي من زيد", أي أشد إكراماً، و"هذا المكان أقفر من غيره" أي: أشد إقفاراً، و"هذا الكلام أخصر", وفي أمثالهم "أفلس من ابن المذلَّق" (¬1) , و"أحمق من هبنَّقة" (¬2). * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن سيبويه يجيز بناء "أَفْعَل" من كل فعل ثلاثي قياسًا، نحو: "ما أكرم زيدًا! " من "كرُم" و"ما أضربَ محمّدًا! " من "ضرب"، و"ما أعلم جعفرًا! " من "علم". وبعضهم يجيزه أيضًا ممّا كان من "أفْعَلَ"، وهو مذهب سيبويه، وذلك قولهم: "هو أعطاهم للدينار والدرهم، وأولاهم للمعروف"، و"أنت أكرمُ لي من زيد"، أي: أشدّ إكرامًا، و"المكانُ أقفرُ من غيره"، إنّما هو من "أَقْفَرَ". ومن ذلك المَثَل السائر: "هو أفلس من ابن المُذَلَّق"، وهو رجل من بني عبد شَمس فقيرٌ مُدْقِعٌ ما كان يحصل على بيت ليلةً، وآباؤه وأجداده كذلك، قال الشاعر [من الطويل]: 919 - فإنّك إذ تَرْجو تَمِيمًا ونَصْرَها ... كراجِي النَّدَى والعُرْفِ عند المُذَلَّقِ ومنه المثل الآخر: "أحمق من هَبَنَّقَةَ". وهبنّقةُ: لقب ذي الوَدَعات، واسمه يزيد بن ثَرْوانَ بن قَيْس بن ثَعْلَبَةَ، وكان يُضرَب به المثل في الحُمْق. قال الشاعر [من الخفيف]: 920 - عِشْ بجَدٍّ وكُنْ هَبَنَّقَةَ القَيْـ ... ـسيَّ أو مثلَ شَيْبَةَ بن الوَلِيدِ ¬
وكان أبو الحسن الأخفش يجيز بناء "أفعل من كذا" من كلّ فعل ثلاثيّ لحقته زوائد قلت أو كثُرت، كـ "اسْتَفْعَل"، و"افْتَعَلَ"، و"انْفَعَلَ"؛ لأن أصلها ثلاثة أحرف. قال: وإنّما قالوا: "ما أعطاه للمال، وأولاه للخير"؛ لأنّه ثلاثي الأصل، وهذا المعنى موجود في "انطلق"، ونحوه ممّا فيه زيادة، وتابَعَه أبو العبّاس المبرّد. وهو فاسد، وذلك من قبل أن ما في أوّله همزة يجوز استعمالُه بغير همزة، ثمّ تدخل الهمزة للنقل وغيره، نحوَ قول امرئ القيس [من الطويل]: 921 - وتَعْطُو برَخصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنّه ... أسارِيعُ ظَبْيٍ أو مَساوِيكُ إسْحِل وإذا كان أصله أن يستعمل بغير همزة، وإنّما الهمزة داخلة عليه، فجاز أن يُعتقد عدمُ دخولها، وتُقدّر الهمزة محذوفة غيرَ موجودة، وليس كذلك "استخرج"، و"انطلق"، فإن الكلمة منهما صيغت على هذا البناء، فافترق أمرُهما، فلم يجز أن يقاس على ¬
"أعطى" و"أولى"، وبابه. فعلى هذا يكون قولهم: "هو أعطاهم للدينار، والدرهم، وأولاهم للخير" شاذًّا من جهة الاستعمال لا القياس. فأمّا قول الشاعر [من الرجز]: 922 - جاريةٌ في دِرْعها الفَضفاضِ ... أَبْيَضُ من أُختِ بني إِباضِ وقول الآخر [من البسيط]: 923 - إذا الرجالُ شَتَوْا واشتَدَّ أَكلُهُم ... فأنت أَبْيَضُهم سرْبالَ طبّاخِ ¬
فصل [اسم التفضيل مما لا فعل له]
فمن اعتلّ بأنّ المانع من التعجّب من الألوان أنّها معانٍ لازمةٌ كالخَلْق الثابت، نحو: "اليَد"، و"الرِّجْل"، فهذان البيتان شاذان قياسًا واستعمالًا عنده، ومن علّل بأنّ المانع من التعجّب كونُ أفعالها زائدة على الثلاثة، فهما شاذّان عند سيبويه (¬1) وأصحابه من جهة القياس والاستعمال؛ أمَّا القياس فإن أفعالها ليست ثلاثية على "فعل"، ولا على "أفعل"، إنّما هو "افعلّ"، و"افعالّ"، وأما الاستعمال فأمرُه ظاهر. وأمّا عند أبي الحسن الأخفش والمبرّد، فإنّهما ونحوهما شاذّان من جهة الاستعمال صحيحان من جهة القياس؛ لأن أفعالها ثلاثية بزيادةٍ، فجاز تقديرُ حذف الزوائد. فصل [اسم التفضيل ممّا لا فعل له] قال صاحب الكتاب: وقد جاء "أفعلُ" ولا فِعْلَ له، قالوا: أحنك الشاتين, وأحنك البعيرين، وفي أمثالهم آبل من حنيف الحناتم (¬2). * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن "أَفْعَلُ من كذا" لا يصاغ إلَّا ممّا يصاغ منه فعلا التعجّب، وقد قالوا: "أحنك الشاتَيْن"، و"أَحنك البعيرَيْن" مشتق من "الحَنَك"، وهو ما تحت الذَّقَن، والقياسُ يأبى ذلك، والذي سوّغه أن المراد بقولهم: "أحنك الشاتين" أكثرهما أَكْلًا، فكأنهم قالوا: "آكَلُ الشاتين" لأن الآكِل يُحرِّك حنكَه، فلمّا كان المراد به حركتَه عند الأكل لا عَظْمَهما؛ استعملوه استعمالَ ما هو في معناه. وأمّا قولهم: "آبَلُ من حُنَيْفِ الحَناتِمِ"، فـ "حُنَيْفٌ" هذا رجلٌ من بني تَيْم اللات بن ثَعْلَبَةَ، فالمراد به الحِذْق في رَعْي الإبل، والعلمُ بذلك. ومن كلامه الدالّ على أبالته قوله: "من قاظ الشَّرَفَ، وتَربع الحَزْنَ، وتَشتّى الصَّمّانَ، فقد أصاب المَرْعَى". والشرف: في بلاد بني عامر، والحزن: من زُبالَةَ مُصْعِدًا في بلاد نَجْدٍ، والصمّانُ: في ¬
فصل [قياسه وشذوذه]
بلاد بني تميم. قال الجوهريّ (¬1): الصمّان موضع إلى جنب رمل عالج. وبناء "أَفْعَلُ" من هذا أسهلُ أمرًا ممّا قبله, لأنّه مأخوذ من قولهم: "أبِلَ الرجلُ" بالكسر "يَأْبَلُ" "أَبالَة" مثلِ "شَكِسَ شَكاسَةً"، فهو آبِلٌ، أي: حاذقٌ بمَصْلَحَة الإبل، فهو مأخوذ من فعل ثلاثي، كأنّهم اشتقّوا من لفظ الإبِل فعلًا، وتَصرّفوا فيه كسائر الأفعال، وأصلُ هذا المَثَلُ. فصل [قياسه وشذوذه] قال صاحب الكتاب: والقياس أن يفضل على الفاعل دون المفعول وقد شذ نحو قولهم أشغل من ذات النحيين (¬2)، وأزهى من ديك (¬3)، وهو أعذر منه وألوم وأشهر وأعرف وأنكر وأرجى وأخوف وأهيب وأحمد، وأنا أسر بهذا منك". قال سيبويه وهم ببيانه أعنى. * * * قال الشارح: قد تقدَّم القول: إنّه لا يبنى "أفعلُ من كذا" إلَّا ممّا يقال فيه: "ما أَفعَلَهُ"، و"أَفعِل به"، فلمّا لا يُتعجّب من فعل ما بُني للمفعول من الأفعال، نحو: "ضُرب"، و"شُتم"، فلا يقال: "ما أَضْرَبَهُ! " ولا "أَضْرِبْ به! " وقد وقع به الضربُ، فكذلك لا يقال: "هو أضرب من فلان"، ويكون مضروبًا؛ لأنهم لو فعلوا ذلك، لوقع لبسٌ بين التعجّب من الفاعل، وبيّن التعجّب من المفعول، ولأن التعجّب إنّما يكون مما يكثر حتى صار كالغَريزة له، والضربُ ونحوه إذا وقع بالمحلّ؛ فليس من فعل المفعول، إنّما هو للفاعل، فلا يصير فعلُ غيره غريزةً له, لأنّ الغريزة ما كان خِلْقة في المحلّ كالسواد والبياض، فإذا تكرّر الفعلُ من الفاعل، جُعل كالغريزة. والموجودُ من المضروب إنّما هو الاحتمال والتمرّن لا نفس الضرب. فإن تعجّبتَ من الاحتمال والتمرّن، جاز ¬
فصل [تعريفه بـ "أل" وتجرده منها]
لأنهما من فعله، وإن تعجّبتَ من الضرب؛ لم يجز لأنّه ليس له، ولذلك لا يبنى منه "أفعل من كذا". وقد جاء من ذلك ألفاط يسيرة تُحْفَظ حِفْظًا، ولا يقاس عليها، ولذلك قال: "القياس أن يفضَّل على الفاعل دون المفعول"، وقد شذّت ألفاطٌ يسيرة متأوَّلة؛ من ذلك قولهم في المثل: "أشغلُ من ذات النِّحْيَيْن"، وهي قِصّة خَوّات بن جُبَيْر الأنصاري مع امرأة من العرب، أتت سُوقَ عُكاظٍ، ومعها نِحْيا سمن، فاعترضها خوّاتٌ، وفتح فم أحد النحيين، وذاقَه، ودفعه إليها، فأمسكته بيَدها الواحدة، ثمّ فتح فم الآخر، ودفعه إليها، فأمسكته بيدها الأخرى، فاشتغلت يداها بتمسُّك فمَي النحيين، ثم واقَعَها، فضُرب المثل بها في الاشتغال. والذي سهّل ذلك أنّها وإن كانت مشغولة، فهي ذات شُغْل، ويجوز أن يكون المراد: أشغل من ذات النحيين ليَدَيْها، فلا يكون حينئذ شاذًا، وكذلك سائرُ ما ذكر من قوله: "أزهَى من دِيكٍ"، و"هو أعذر منه"، و"ألوَمُ"، و"أشهر"، ألا ترى أنّه ذو زَهْو، وذو عُذْر، وذو لَوْم، وذو اشتهار؟ وكذلك البقية، فاعرفه. فصل [تعريفه بـ "أل" وتجرّده منها] قال صاحب الكتاب: وتعتوره حالتان متضادتان: لزوم التنكير عند مصاحبة "من"، ولزوم التعريف عند مفارقتها, فلا يقال: "زيدٌ الأفضل من عمرو", ولا "زيدٌ أفضل", وكذلك مؤنثه وتثنيتهما وجمعهما، لا يقال فضلى ولا أفضلان ولا فُضليان ولا أفاضل ولا فضليات ولا فُضَلُ، بل الواجب تعريف ذلك باللام أو بالإضافة، كقولك الأفضل والفضلى وأفضل الرجال وفضلى النساء. * * * قال الشارح: هذا الضرب من الصفات موضوع للتفضيل، وأصله أن يكون موصولًا بـ "مِنْ"، و"مِنْ" فيه لابتداء الغاية، فإذا قلت: "زيد أفضل من عمرو"، فالمراد أن فضله ابتدأ راقيًا من فضل عمرو، وكل من كان مقدارُ فضله كفضل عمرو، فكأنّك قلت: "علا فضلُه على هذا المقدار"، فعلم المخاطب أنّه علا عن هذا الابتداء، ولم يعلم موضع الانتهاء، فصار كقولك: "سار زيدٌ من بغدادَ"، فعُلم الموضع الذي ابتدأ سيرُه منه، وتجاوزه، ولم يعلم أين انتهى، فلمّا كان معنى الباب الدلالةَ على ابتداء التفضيل؛ لم يكن بد مِن "مِنْ" ظاهرة، أو مضمرة، لإفادة المعنى المذكور، ولا يجوز تعريفه - والحالةُ هذه- لا بالألف واللام، ولا بالإضافة, لأنّه بمنزلة الفعل، والفعل لا يكون إلَّا نكرة، لأنّه موضوع للخبر، والمراد من الخبر الفائدة، فلو عُرّف لم يبق مُفيدًا.
وإنّما قلنا إنه في معنى الفعل لأمرَيْن: أحدهما: أنّك إذا قلت: "زيدٌ أفضل منك" فإنّما المراد أن فضله يزيد على فضلك، فهو عبارة عن الفعل. والأمر الثاني: أنّه متضمِّنٌ المصدر وزيادةً، فكان كالفعل الدال على الحدث والزمان، فلمّا كان الفعل لا يضاف، ولا تدخله لامُ التعريف؛ لم تدخل على ما هو في معناه، فلذلك لا تقول: "زيد الأفضل من عمرو"، ولا "الأحسن من خالد" لِما ذكرناه، ولأنّ "مِنْ" تَكْسِب ما تتّصل به من "أَفْعَلَ" هذه تخصيصًا ما. ألا ترى أن فيه إخبارًا بابتداء التفضيل وزيادة الفضل من المفضول؟ وهذا اختصاصُ الموصوف بهذه الصفة، و"من" ها هنا وقع بعد الفضل من قوله تعالى: {إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ} (¬1). فلمّا كانت "مِنْ" للتخصيص، واللامُ إذا دخلت عليه استوعبت من التعريف أكثرَ ممّا تفيده "مِنْ" من التخصيص، كرهوا الجمع بينهما، فيكون نقضًا لغرضهم وتراجعًا عما حكموا به من قوّة التعريف إلى ما هو دونه، فلمّا لم يجز الجمع بين اللام و"مِنْ" لِما ذكرناه، عاقبوا بينهما؛ فإذا وُجد أحدهما، سقط الآخر، ولم يجز أن يسقطا معًا، لئلا يذهب ذلك القدر من التخصيص المفاد من "مِنْ" والتعريفِ المفاد من الألف واللام، لا يقال: "زيد الأفضل من عمرو"، ولا "الأحسن من خالد"، ولا يقال: "زيدٌ أفضلُ". وكذلك مؤنّثه وتثنيتهما وجمعهما، لا يقال: "فُضْلَى"، ولا "أفضلان"، ولا "فُضْلَيان"، ولا "أفاضِلُ"، ولا "فُضْلَياتٌ"، ولا "فُضَل". لا بد من "مِنْ" أو التعريف بالألف واللام، أو الإضافة، لِما ذكرناه. فصل [أحكامه مع "مِنْ" وبدونها] قال صاحب الكتاب: وما دام مصحوباً بـ "مِنْ" استوى فيه الذكر والأنثى والاثنان والجمع, فإذا عرف باللام, أُنّث وثني وجمع، وإذا أضيف ساغ فيه الأمران, قال الله تعالى: {أكابر مجرميها} (¬2) , وقال: {ولتجدنهم أحرص الناس على حياة} (¬3) , وقال ذو الرمة [من الوافر]: 924 - ومية أحسن الثقلين جيداً ... وسالفة وأحسنه قذالا * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم القول: إنّ "أفعل منك" موضوع للتفضيل، وهو بمنزلة الفعل، إذ كان عبارة عنه ودالًّا على المصدر والزيادة، كدلالة الفعل على المصدر والزمان، فمنع التعريف كما لا يكون الفعل معرَّفًا، ومنع التثنية والجمع كما لا يكون الفعل مثنّى ولا مجموعًا، وكذلك لا يجوز تأنيثه، إنّما تقول: "هندٌ أفضل منك" من غير تأنيث، وذلك لأن التقدير: "هندٌ يزيد فضلُها على فضلك"، فكأن "أفعل" ينتظم معنى الفعل والمصدر، وكل واحد من الفعل والمصدر مذكّرٌ، لا طريقَ إلى تأنيثه. فإن قيل: فأنت تقول: "قامت المرأة"، و"انطلقت الجارية"، فتُلْحِق الفعلَ علمَ التأنيث، فما بالُك لا تفعل ذلك فيما كان في معناه؟ فالجواب أن الفعل نفسه لا يؤنّث، فإذا قلت: "قامت هندٌ"، فالعلامةُ إنّما لحقته لتأنيث الفاعل، بدليلِ أنّها لا تلحقه إلَّا إذا كان الفاعل مؤنّثًا للإيذان بأنّ الفعل مسندٌ إلى مؤنّث، ولو كان ذلك التأنيث للفعل نفسه، لجاز تأنيثُه مع الفاعل المذكّر، نحو: "قامت زيدٌ"، وذلك لا يقوله أحدٌ، وهذا أحدُ ما يدلّ على اتّحاد الفاعل والفعل، وأنّهما كالشيء الواحد. فأمّا إذا أدخلت الألف واللام، نحو: "زيدٌ الأفضل"، خرج عن أن يكون بمعنى الفعل، وصار بمعنى الفاعل، واستغنى عن "مِنْ" والإضافةِ، وعُلم أنّه قد بأنّ بالفضل، فحينئذ يؤئث إذا أريد المؤنّث، ويثنّى، ويجمع، فتقول: "زيد الأفضل"، و"الزيدان الأفضلان"، و"الزيدون الأفضلون، والأفاضلُ"، و"هندٌ الفُضْلَى"، و"الهندان الفُضْلَيان"، و"الهندات الفُضْلَيات"، و"الفُضَلُ" إن شئت تثني، وتجمع، وتؤنّث، كما تفعل بالفاعل، لأنه في معناه. فأمّا إذا أضيف، ساغ فيه الأمران: الإفراد في كلّ حال، تقول: "زيدٌ أفضلكم"، و"الزيدان أفضلُكم"، و"الزيدون أفضلُكم"، وتقول في المؤنّث: "هند أفضلكم"، ¬
فصل [ما حذفت منه "من" وهي مقدرة]
و"الهندان أفضلكم"، و"الهندات أفضلكم"، والتثنيةُ والجمع إذا وقع على مثنّى أو مجموع، نحو قوله تعالى: {أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا} (¬1)، والمعنى بقولنا: "زيد أفضل منكم"، و"زيد أفضلُكم" واحدٌ، إلَّا إنّك إذا أتيت بـ "مِنْ"؛ فـ "زيدٌ" منفصل ممن فضلتَه عليه، وإذا أضفته، كان واحدًا منهم. وإنّما جاز الأمران فيما أضيف, لأن الإضافة تُعاقِب الألف واللام، وتجري مجراها، فكما أنّك تؤنّث وتثنّي وتجمع مع الألف واللام، كذلك تفعل مع الإضافة التي هي بمنزلةِ ما فيه الألف واللام. وأمّا علّة الإفراد، فلأنّك إذا أضفته، كان بعضَ ما تضيفه إليه، تقول: "حمارُك خير الحَمِير"؛ لأن الحمار بعض الحمير، ولو قلت: "حمارك أفضل الناس"، لم يجز؛ لأنّه ليس منهم, لأن الغرض تفضيل الشيء على جنسه، وإذا كان كذلك، فهو مضارع للبَعْض الذي يقع للمذكر والمؤنّث والتثنية والجمع بلفظ واحد، فلم يُثَنَّ، ولم يجمع، ولم يؤنّث كما أن البعض كذلك، فأمّا قوله [من الوافر]: وميّة أحسن ... إلخ فالشاهد فيه تذكير "أفعل" وإن كان جاريًا على مؤنّث، ألا ترى أنَّه قال: "أحسن الثقلين"، وهو خبرٌ عن "ميّة"؛ فأمّا الإفراد الراجع في قوله: "أحسنه قذالا"، وإن كان ما تقدّم تثنيةً في معنى جمع؛ فذلك من قبل أنّه موضعٌ يكثر فيه استعمالُ الواحد، كقولهم: "هو أحسنُ فَتى في الناس"، وإن كان الأصل الجمع، والواحدُ واقعٌ موقعه، فتُرك الأصل، فوجب الوضعُ على الإفراد، لأنّه ممّا يُؤْلَف، وعلى ذلك يقولون: "هو أحسن الرجال، وأجملُه". واعلم أنّه متى أضيف "أفعل" على معنى "مِنْ"؛ فهو نكرة عند بعضهم، وعليه الكوفيون، وإذا أضيف على معنى اللام؛ فهو معرفة. وفي قول البصريين المتقدّمين إنّه معرفة على كل حال، إلَّا إذا أضيف إلى نكرة، والمتأخرون يجعلونه نكرة؛ لأن المضاف إليه مرفوع في المعنى، والأوّل القياس. مَيَّةُ: اسم امرأة يُشبّب بها. والثَّقَلان: الجِنّ والإنْس، والجِيد: العُنُق، والجَيَد: بالتحريك طول العنق وحُسْنُه، والسالفة: مُقدم العنق من لدن معلق القُرْط إلى الترْقُوَة، والقَذال: مُؤخر الرأس، وهو مَعْقِد العِذار من الفرس، يصف المرأة بحسن التفصيل، فاعرفه. فصل [ما حُذفتْ منه "مِنْ" وهي مقدَّرة] قال صاحب الكتاب: ومما حذفت منه "مِنْ", وهي مقدرة قوله عز وجل: {يعلم ¬
السر وأخفى} (¬1) , أي: وأخفي من السرّ, وقول الشاعر [من الرجز]: يا ليتها كانت لأهلي إبلا ... أو هزلت في جدب عام أولا (¬2) أي: أول من هذا العام, و"أول" من "أفعل" الذي لا فعل له كـ "آبل", ومما يدل على أنه "أفعلُ": الأولى والأول. ومما حذفت منه "مِنْ" قولك: الله أكبر وقول الفرزدق [من الكامل]: 925 - إن الذي سمك السماء بني لنا ... بيتاً دعائمه أعز وأطول * * * قال الشارح: اعلم أنهم قد يحذفون "مِنْ" من "أفعل" إذا أريد به التفضيل، ومعنى الفعل، وهم يريدونها، فتكون كالمنطوق بها، نحو: "زيد أكرم وأفضل"، فلم تأت بألف ولام، كما لم تأت بها مِع "مِنْ"؛ لأن الموجود حكمًا كالموجود لفظًا، ومنه قوله عزّ وجل: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (¬3) أي: أخفى منه، أي: من السرّ، وهو حديث النفس. ¬
والذي يدل على إرادةِ "مِنْ" أن "أخفى" لا ينصرف، كما لا ينصرف "آخَرُ" من قولك: "مررت برجلٍ آخرَ"، إذا أردت "مِنْ" معه، وإن لم تذكره، وهذا الحذف يكثر في الخبر، ويقل في الصفة، وذلك من قبل أن الغرض من الخبر إنّما هو الفائدة، وقد يُكتفى في حصولها بقرينةٍ. فأمّا الصفة فإنّها في الكلام على ضربَيْن: إمّا التخليص والتخصيص، وإمّا المدح والثناء، وكلاهما من مَقامات الإسهاب والإطناب، لا من مَظان الإيجاز والاختصار، وإذا كان كذلك لم يَلِق الحذفُ بها. ومن ذلك "أَوَّلُ" من قولك: "ما رأيتُه مذ عام أوّلُ"، أي: "أوّلُ من هذا العام"، فـ "أوّلُ" وصفٌ على زنة "أَفْعَلَ" فاؤه وعينه واوٌ، ولم يستعملوا منه فعلاً. والذي يدل على ما قلناه قولهم في المؤنث: "أُولَى"، والأصل: "وُولى" بواوَيْن، فقُلبت الأولى التي هي فاء همزة؛ لاجتماع الواوَين على حد "وُقِيَّةٍ"، و"أَواقٍ"، وجمعُ المؤنث "أُوَلُ" على حد "الأَصْغَر"، و"الصُّغْرَى"، و"الصُّغَر"، و"الأكبر"، و"الكبرى"، و"الكبر"، قال الله تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} (¬1) فـ "أَوَّلُ" "أَفْعَلُ"، و"أُولَى" "فُعْلَى"، و"أُوَلٌ" "فُعَلٌ"، وهو وإن كان صفة، فإنّهم قد اتسعوا فيه، واستعملوه استعمالَ الأسماء، فقالوا: "مررت بأوّل منه"، ولم يقولوا: "رجلٌ أوّل". ولم يُخْرجه هذا الاتّساعُ عن كونه وصفًا، ألا ترى أن "الأبطح"، و"الأجرع"، وإن كانا قد استُعملا استعمالَ الأسماء حتى يسري إليهما تكسيرُها، فقالوا: "الأباطح"، و"الأجارع"؛ لم يُخْرِجهما ذلك عن الوصفيّة، فلذلك لا ينصرفان كما لم ينصرف نحو "أبيض" و"أصفر"؟ فأمّا رفضهم استعمالَ الفعل منه؛ فلأنّ الفعل يتصرّف بالماضي والمستقبل، والأمر والنهي، فلو استعملوا منه فعلاً، لكان يتكرّر فيه حرف العلّة. وإذا كانوا قد تركوا تصريفَ ما لا يتكرّر فيه هذه الحروف كاستعمال ماضي "يَدَعُ"، ومضارع "عَسَى"، وقالوا: "رجلٌ آبَلُ الناس"، ولم يلفظوا منه بفعل، فإذا جاء هذا النحو من الصحيح غيرَ متصرّف؛ فأن لا يصرّفوا نحو: "أوّل" كان أَوْلى. وإذا ثبت أنه "أَفْعَلُ" صفةً؛ فالوجهُ أن يكون متصلًا بـ "مِنْ"، كما أنّ سائر ما كان مثله كذلك. فإذا حذفت "مِنْ" وأنت تريده، لم تصرف الاسم؛ لأنّه يكون في حكم الموجود، وإن حذفته -وأنت لا تريده- صرفته، وكان كسائر الأسماء، نحو: "أَفْكَلِ" لأنّه إنّما يكون صفة إذا كان معه "مِنْ". وعلى هذا لو سمّيت رجلًا بـ "أفضل"، كان كـ "أَحْمَر"، فلو نكّرته، لانصرف بلا خلاف، ولا يكون كـ "أحمر" إذا سُمّي به, لأنّه إنّما يكون صفة إذا كان معه "مِنْ" وقد استُعمل "أوّل" الذي هو صفة ظرفًا. قال سيبويه (¬2): ¬
سألتُه، يعني الخليل، عن قولهم: "مذ عام أوّل"، فقال: جعلوه ظرفًا في هذا المكان، فكأنه: "مذ عام قبلَ عامِك". وقد استُعملت أشياء من الصفات ظروفًا، نحو استعمالهم "أَسْفَلَ" ظرفًا من قوله تعالى: {وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} (¬1)، وكاستعمالهم "قَرِيبًا" في قولهم: "إن قريبًا منك زيدًا"، و"مَلِيًّا" من "النهار". فيحصل من ذلك أن "أوّل" على ثلاثة أضرب: تكون صفة على تقدير "مِنْ"، وتكون ظرفًا، وتكون اسمًا، وذلك إذا حذفت منها "مِنْ" وأنت لا تريدها، فعلى هذا يجوز أن تكون "أوّل" من قوله [من الرجز]: يا ليتها كانت ... إلخ مخفوضًا على الصفة لـ "عام" إلَّا أنّه لا ينصرف، ويجوز أن يكون منصوبًا على الظرف، وهذا المستعملُ ظرفًا هو المبني على الغاية من قولهم: "اِبْدَأ به أوّلُ"، وقوله [من الطويل]: لَعَمْرُكَ ما أَدْرِي وإنّي لأَوْجَلُ ... على أَيِّنَا تَغْدُو المَنِيةُ أَوَّلُ (¬2) إذا قدّرت فيه حذف الإضافة، ألا ترى أن مُعْظَم هذا القبيل الذي هو غاية إنّما هو ظروفٌ، وأن ما ليس بظرف ممّا قد حُذف منه المضاف إليه، لم يُبْنَ، وذلك قولهم: "جاءني كلٌّ قائمًا". وقال تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} (¬3). وذهب أبو الحسن الأخفش في قولهم: "ليس غيرُ" على أنه على حذف المضاف إليه، وكذلك قال في قول العجّاج [من الرجز] 926 - خالَطَ من سَلْمَى خَياشِيمَ وفَا ¬
فصل [حكم "آخر"]
وزعم أن منهم من ينوّن، فيقول: "ليس غيرٌ"، وإذا كانت هذه المبنيّة ظرفًا، وجب أن تكون "أوّل" المبنية ظرفًا أيضًا، ولا تكون ظرفًا حتى تكون صفةً، ولا تكون صفة حتى تكون "مِنْ" معها مرادة، أو مضافةً إلى ما يُعاقِب الإضافةَ؛ وأمّا الاسم، فهو ما حذف منه "مِنْ" وليست مرادة، نحو قولهم: "ما تركتُ له أوّلًا، ولا آخِرًا"، أي: قديمًا ولا حديثًا؛ فأمّا قوله: يا ليتها كانت .... إلخ فالشاهد فيه حذف "مِنْ" من الصفة، وهو يريدها، ولذلك لم يصرف "أوّل"، وهو مخفوض على الصفة لـ "عام"، ويجوز أن يكون منصوبًا على الظرف، أي: في جدب عامٍ قبلَ هذا العام، يتحسّر على ذهاب إبله في أخصبِ سنة، ويتمنّى لو أنها غَنِمَها أهلُه، أو هلكت في عام الجدب. وقالوا: "الله أكبرُ"، والمراد أكبر من كلّ شيء، يدل على ذلك أنّه لو لم تكن "مِنْ" مرادة؛ لوجب صرف الاسم كما وجب صرفُ "أفكَل" ونحوه ممّا هو على "أفعل"، ولا معنى للوصف فيه، وإذا لم ينصرف، دلّ على أن "مِنْ" مرادة، وأنّها كانت محذوفة من اللفظ، فهي في حُكم المُثْبَت. ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (¬1)، ويجوز أن يكون "أهون" ها هنا بمعنَى "هَيّن"؛ لأنّه سبحانه ليس عليه شيء أهونَ من شيء. فأمّا قول الفردزق: إن الذي سمك السماء ... إلخ فالشاهد فيه حذفُ "مِنْ" أيضًا، أي أعزّ من غيره، وأطول من غيره، "وأطول" ها هنا من "الطَّوْل" الذي هو الفضل، لا من "الطُّول" الذي هو ضدّ القِصَر، ودلّ على إرادة "مِنْ" امتناعه من الصرف. يصف قومه وبيته، وأنّ دعائم بيته أعزُّ دعامة وأكرمُها، فاعرفه. فصل [حكم "آخر"] قال صاحب الكتاب: ولآخر شأن ليس لأخواته, وهو أنه التزم فيه حذف "مِنْ" في حال التنكير، تقول: "جاءني زيدٌ آخر"، و"مررت به وبآخر", ولم يستو فيه ما استوى في أخواته حيث قالوا: "مررت بآخرَين, وآخرِين, وأُخرى, وأخريين, وأُخر وأخريات". * * * قال الشارح: "آخَرُ": "أفعلُ" صفةً، و"مِنْ" محذوفة منه مرادة في التقدير، ولذلك ¬
فصل [استخدام "دنيا" و"جلي" بغير "أل"]
لا ينصرف، وقضيّةُ الدليل أن يستوي فيه المذكر والمؤنّث والتثنية والجمع، كما لو كانت "مِنْ" ملفوظًا بها، إلاّ أنّهم لمّا كثرُ حذف "مِنْ" معها، وكثُر استعمالها مفْرَدةً من الموصوف، نحو: "مررت برجل كذا وبآخَرَ كذا"، أجروها مجرى الأسماء، فثنّوها، وجمعوها، وأنّثوها، فقالوا: "مررت بآخرَيْنِ، وبآخِرينَ". قال الله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} (¬1). وفي المؤنّث: "أخرى"، وفي التثنية "أُخرَيانِ"، وفي الجمع "أُخَرُ". قال الله تعالى: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} (¬2). وقالوا: "أُخْرَيات" أيضًا، قال [من البسيط]: 927 - [حتى إذا ما جلا عن وَجْهه فَلَقٌ ... هاديهِ] في أُخْرَياتِ الليلِ مُنْتَصِبُ فصار لها حكمان: حكم الصفة في منع الصرف، وحكم الأسماء في التأنيث والتثنية والجمع، وهذا معنى قوله: "ولآخَرَ شأنٌ ليس لأخواته"، أي: إنّ أخواته إذا حذفت منها "مِنْ" وهي مرادة؛ استوى فيها المذكّر والمؤنّث والمثنّى والمجموع، وإذا حذفت منها "مِنْ" ولم يريدوها؛ أجروها مجرى الأسماء في التثنية والجمع، و"آخَرُ" قد أخذ حَظًّا من الطرَفَيْن، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. فصل [استخدام "دُنيا" و"جُلّي" بغير "ألْ"] قال صاحب الكتاب: وقد استعملت "دُنيا" بغير ألف ولام, قال العجاج [من الرجز]: 928 - في سعي دُنيا طالما قد مُدت ¬
لأنها غلبت, فاختلطت بالأسماء, ونحوها جلى في قوله [من البسيط]: 929 - وإن دعوت إلى جلى ومكرمة ... [يومًا سراة كرام الناس فادعينا وأما "حسنى" فيمن قرأ {وقولوا للناس حسنا} (¬1) , و"سُوءى" فيمن أنشد [من الوافر]: 930 - ولا يجزون من حسن بسوءى ... [ولا يجزون من غلط بلين] ¬
فليستا بتأنيثي أحسن وأسوأ بل هما مصدران كالرجعى والبشرى. وقد خطيء ابن هانيء في قوله [من البسيط]: 931 - كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... [حصباء در علي أرض من الذهب] وقول الأعشى [من السريع]: ولست بالأكثر منهم حصى ... [وإنما العزة للكاثر] (¬1) ليست "مِنْ" فيه بالتي نحن بصددها, هي نحو "مِنْ" في قولك: "أنت منهم الفارس الشجاع" أي: من بينهم. * * * ¬
قال الشارح: القياس في "دُنْيَا" أن يكون بالألف واللام, لأنّه صفة في الأصل على زنةِ "فُعلَى" ومذكّره "الأدنَى"، مثلُ "الأكبر" و"الكبرى"، وهو من "دَنَوْتُ"، فقلبت الواو في "الأدنى" ألفًا؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، وذلك بعد قلبها ياء لوقوعها رابعة. وقد تقدَّم أن الألف واللام تلزم هذه الصفة، إلّا أنّهم استعملوا "دنيا" استعمالَ الأسماء، فلا يكادون يذكرون معه الموصوف، ولذلك قلبوا اللام منه ياء لضرب من التعادل والعوض، كأنّهم أرادوا بذلك الفرق بين الاسم والصفة، فلمّا غلب عليها حكمُ الأسماء؛ أجروها مجرى الأسماء، وكانت الألف واللام لا تلزم الاسم، فاستعملوها بغير ألف ولام كسائر الأسماء. فأمّا قول العجّاج [من الرجز]: يومَ ترى النفوسُ ما أَعَدَّتِ ... في سَعْيِ دُنْيَا طالَمَا قد مُدَّتِ فالشاهد استعمالها نكرة من غير ألف ولام، إجراء لها مجرى الأسماء؛ لكثرة استعمالها من غير تقدّم موصوف. يصف أمر الآخرة، ويُرغب في السعي لها، والسعي يسُتعمل في الخير، والسِّعاية في الشرّ؛ فأمّا "جُلَّى" من قوله [من البسيط]: وإن دَعَوْتِ إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ ... يومًا سَراةَ كِرامِ الناسِ فادْعِينا البيت من شعر الحماسة لبعض بني قَيْس بن ثَعْلَبَةَ، وقيل: إنّه لَبشامَةَ بن حَزْن النَّهْشَلي. والشاهد فيه قوله: "جُلَّى" من غير ألف ولام، ولا إضافه، فالجيد أن يكون مصدرًا، كـ "الرُّجعَى" بمعنى الرجوع، و"البُشْرَى" بمعنى البِشارة، وليس بتأنيث "الأجلّ" على حد "الأكبر"، و"الكبرى"؛ لأنّه إذا كان مصدرًا، جاز تعريفه وتنكيره، فتقول: "بشرته بُشرَى والبشرى"، و"رجعتُه رُجعَى والرُّجعَى"، فلذلك حملناه على المصدر، ولم نحمله على الصفة. يقول إن أشدتِ بذكر خيار الناس لجليلةٍ نابت، أو مكرمةٍ عرضتْ؛ فأشيدي بذكرنا. وظاهرُ هذا الكلام استعطافٌ لها. وسَراةُ القوم: سادتُهم، والجمع السَّرَوات، ورجلٌ سَرِيّ: بين السَّرْوِ، والكِرام هنا: الذين يحمون، ويدفعون الضَّيْم، ومثله ما حكى أن بعضهم قرأ: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} (¬1) فإن حُمل على الصفة؛ كان شاذًّا، والجيد أن يحمل على المصدر لما ذكرناه من أن المصدر يكون معرفة ونكرة، وكذلك "سُوءَى" من قول أبي الغُول الطهويّ [من الوافر]: ولا يَجْزُون من حَسَنٍ بسُوءَى ... ولا يجزون من غِلظٍ بلِينِ الشاهد فيه قوله: "بسوءى"، ويروى على ثلاثة أوجه: بسَوْءٍ، وبسَيْءٍ، وبُسوءَى، فمن رواه: "بسَوء" فهو مصدرُ "ساءَه يَسُوؤُه سَوءًا، وسُوءًا"، وهو نقيضُ "سَرَّه يَسُرَّه سُرُورًا" ومن قال: "بسَيءٍ" جعله صفة، وأصله "سَيِّىءٌ" بالتشديد على حدّ "جيّد"، و"سيّد" وإنّما خفّفه ¬
بحذف إحدى الياءين كما يقولون: "هَيْنٌ"، و"لَيْنٌ" ومن قال: "سُوءَي" ففيه نَظَرٌ: إن جعلته صفة، كان شاذًّا، وصحّةُ مَحَله أن تجعله مصدرًا على ما تقدَّم. والمعنى أنهم يجزون كُلًّا بفعله، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًا فشرٌّ، وهو خلاف قول العَنْبريّ [من البسيط]: 932 - يجزون من ظُلْمِ أهلِ الظُّلْم مَغْفِرَة ... ومن إساءة أهل السوْء إحسانَا فأمّا قول ابن هانِيء [من البسيط]: كان صُغْرَى وكُبْرَى من فَواقِعها ... حَصْباءُ دُرٍّ على أرضٍ من الذَّهَبِ فقد عابه بعضهم؛ لكونه استعملها نكرة، وهذا الضرب من الصفات لا يُستعمل إلّا معرّفًا. والاعتذار عنه أنّه استعمله استعمالَ الأسماء؛ لكثرة ما يجيء منه بغير تقدّم موصوف، نحو: "صغيرة"، و"كبيرة"، فصار كـ "الصاحب"، و"الأجرع"، و"الأبطح"، فاستعمله لذلك نكرةً. ويجوز أن يكون لم يُرِد فيه التفضيل، بل معنى الفاعل، كأنّه قال: "كأنّ صغيرة وكبيرة من فواقعها" على حد قوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} (¬1) في أحد القولَيْن. يقال: "فاقِعَةٌ وفُقاعَةٌ"، وجمع "الفُقّاعة": "الفَقاقِيعُ" وهي النفّاخات التي تكون على وجه الماء. يصف خَمْرًا، وما عليه من الحَبَب، شبّه الحبب بالدرّ، وهو اللؤئؤ، والخمرَ تحته بأرض من ذهب، ولقد أحسن. وأما قول الأعشى [من السريع]: ولستَ بالأكثرِ منهم حَصّى ... وإنّما العِزةُ للكاثرِ (¬2) فقد تَعلّق بظاهره الجاحظُ، وزعم أنّ في ذلك نقضًا لِما أصّله النحويون من امتناع الجمع بين الألف واللام و"مِنْ" في هذا الضرب من الصفات. والوجه في ذلك أن يكون "منهم" في موضع الحال من تاء "لستَ"، كقولك: "لست منهم بالكثير مالًا"، و"ما أنت ¬
فصل [عدم إعمال أفعل التفضيل]
منهم بالحسن وَجْها"، أي: لست من بينهم، وفي جملتهم بهذه الصفة، وليست "من" التي تصحب "أفعل" هذه لتخصيص, لأن لام المعرفة تُغْنِي عنها، ألا ترى أن "مِنْ" إنّما تُخصص ما يُخصص باللام، فتقول: "زيدٌ أفضل من عمرو"، فإذا قلت: "الأفضل"، دخل فيه "عمرو" وغيرُه؟ فـ "مِنْ" تقتضي تفضيلَه على المجرور بها لا غيرُ، واللام تقتضي تفضيله عليه وعلى غيره، فعلى هذا يكون العامل في "منهم" نفسَ "ليس" لا الأكثر، والحروفُ الجارّة تعمل فيها المعاني، وما ليس بفعل، وإذا كان يعمل فيها ما هو أبعدُ شَبَهَا من "ليس"، كان عملُ "ليس" فيها أَوْلى. ونظيرُ هذا تعلّقُ الظرف بـ "كَانَ" في قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا} (¬1). فقوله: "للناس" متعلّقٌ بـ "كان"، وذلك أنّه لا يخلو إمّا أن يكون متعلقًا بـ "عجبًا"، أو بـ "أوحينا"، أو بـ "كان"، فلا يجوز أن يتعلق بـ "عجبًا" نفسها, لأنّه مصدرٌ، ومعموله من صلته، فلا يتقدّم عليه، ولا يكون صفة لـ "عجبًا" على أنَّه يتعلق بمحذوف لتقدُّمه عليه، والصفةُ لا تتقدّم على الموصوف، ولا يجوز أن يتعلّق بـ "أوحينا"؛ لأنّه في صلته، ولا يجوز تقديمه عليه، وإذا بطل تعلُّقه مما ذكرنا؛ تَعين أن يكون متعلّقًا بـ "كان" نفسها، تعلقَ الظرف بالفعل، وكذلك الظرف في البيت، ويجوز أن يكون متعلّقًا بـ "الأكثر" على حد ما يتعلّق به الظرف لا على حد "هو أفضل من زيد"، كأنّه قال: "ولست بالأكثر فيهم"؛ لأن "أفعل" بمعنى الفعل أظهرُ منه في "ليس"، يدل على ذلك نصبُه الظرفَ في قوله [من الطويل]: فإنّا رأينا العِرْضَ أَحْوَجَ ساعة ... إلى الصَّوْن من رَيْطٍ يَمانٍ مُسَهَّمِ (¬2) ألا ترى أن الظرف هنا لا يتعلق إلّا بـ "أحوج"، وتعليقُ الظرف بـ "ليس" ليس بالسهل؛ لجَرْيه مجرى الحروف، بدلالة قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} (¬3). ولو كان كالفعل، لدخل بينه وبيّن "أنْ" حاجزٌ كالذي في قوله: عَلِمَ {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (¬4)، ونظائره كثيرة. و"الحَصَا" من قوله [من السريع]: ولست بالأكثر منهم حَصًا (¬5) العدد الكثير، قال يعقوب: وأصله مثل الحصا، وموضعه نصب على التمييز. فصل [عدم إعمال أفعل التفضيل] قال صاحب الكتاب: ولا يعمل عمل الفعل, لم يجيزوا: "مررت برجل أفضل منه ¬
أبوه، ولا خير منه أبوه، بل رفعوا "أفضل" وخيراً بالإبتداء وقوله [من الطويل]: 933 - [أكر وأحمي للحقيقة منهم] ... وأضرب منَّا بالسيوف القوانسا العامل فيه مضمرٌ, وهو يضرب المدلول عليه بأضرب. * * * قال الشارح: قد تقدَّم القول إن مقتضى هذه الصفات أن لا تعمل من حيث كانت أسماء، والأسماء لا تعمل في أسماء مثلها؛ فأمّا الصفة المشبّهة فإنَّها لما جرت على الموصوف، ثمّ نُقل الضمير إلى الأول، فجُعل عاملًا في اللفظ؛ ثُنّي، وجُمع، وأُنِّث على مقدار ما فيه من الضمير من نحو: "مررت برجل حسنِ الوجهِ، وبرجلَيْن حسنَي الوجهَيْن، وبرجالٍ حسنِي الوجوه، وبامرأةِ حسنةِ الوجهِ"، أشبهت اسمَ الفاعل، فعملت عملَه، كما أن اسم الفاعل الجاري على فعله في تثنيته وجمعه وتأنيثه وتذكيره صار محلّه محلَّ الفعل، فعمل عمله. فأمّا "أَفْعَلُ" هذه وبابُها، فإنه لا يثنّى ولا يجمع ولا يؤنّث، فبعُد من شَبَه اسم الفاعل، وصار كالأسماء الجوامد التي لم تُؤْخذ من الأفعال، كقولك: "مررت برجلٍ قُطْنٌ جُبَّتُه، وبرجلٍ كَتانٌ ثوبُه". ألا ترى أن "القطن" لا يثنّى ولا يجمع، وكذلك "الكتان"، وجُعلا مبتدأً وخبرًا في موضع النعت، كقولك: "مررت برجلٍ أخوك أبوه". وإنّما لم يُثنَّ "أفعل"، ولم يجمع، ولم يؤنّث؛ لِما تقدّم من أنّه قد تضمّن معنى الفعل والمصدر، وكل واحد منهما لا تصحّ تثنيتُه، ولا جمعُه، ولا تأنيثُه؛ كذلك ما كان ¬
في معناهما، أو متضمّنًا معناهما. وقد أجاز قوم من العرب: "مررت برجل أفضلَ منه أبوه، وخيرِ منه عَمُّهُ". وذلك أنّه مأخوذ من الفعل، وإن بعُد شَبَهُه بأسماء الفاعلين. قال سيبويه (¬1): وهو قليل رديء لما ذكرناه. فأمّا قوله [من الطويل]: أَكَرَّ وأحْمَى للحَقِيقَة منهمُ ... وأَضْرَبَ منا بالسُّوف القَوانِسَا فالبيت للعبّاس بن مِرْداس، والشاهد فيه نصب "القوانس" بـ "أَضربَ". وحقيقتُه نصبُه بإضمار فعلٍ دلّ عليه "أضرب"، وتقديره: ضربنا بالسيوف، أو نضرب القوانسَ، ولا يجوز أن تَتناوله "أفعلُ" هذه التي للتفضيل والمبالغة لما ذكرناه. ومثله قوله تعالى: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} (¬2) فـ "حيث" ها هنا في موضع نَصْب بأنه مفعول به، لا ظرفٌ؛ لأنّه لا تخلو حَيثُ هذه من أن تكون مجرورة أو منصوبة، فلا يجوز أن تكون مجرورة, لأنّه يلزم أن يكون "أفعل" مضافًا إليه، و"أفعلُ" إنّما يضاف إلى ما هو بعضٌ له، وذلك هنا لا يجوز، وإذا لم يكن مجرورًا؛ كان منصوبًا بفعل مضمر دلّ عليه "أَعْلَمُ"، كأنّه قال: يعلم مكان رسالته، ولا يكون انتصابه على الظرف؛ لأن عِلْمَه سبحانه لا يتفاوت بتفاوُت الأمكنة. يصف قومه بالحِفاظ والشهامة، والحقيقةُ: ما يلزم الإنسان أن يحميه، ويقال: الحقيقة: الرايَةُ، ومنه قول عامر بن الطفَيْل [من الطويل]: 934 - [لَقَدْ عَلِمَت عُليا هَوَازِنَ أنّني] ... أَنا الفارسُ الحامي حقيقةَ جَعْفَرِ ¬
والقَوانِس: جمع قَوْنَسٍ، وهو أعلى بَيْضَة الحديد، قال الشاعر [من الطويل]: 935 - بمُطرِدٍ لَدْنٍ صِحاحٍ كُعُوبُهُ ... وذي رَوْنَقٍ عَضْبٍ يَقُدُّ القَوانِسَا والقَونس أيضًا: العَظْم الناتىء بين أُذْنَي الفرس، قال طَرَفَةُ [من المنسرح]: 936 - [اضرِبَ عنكَ الهمومَ طارقَها] ... ضَرْبَكَ بالسيْف قَوْنَسَ الفَرَسِ ¬
أسماء الزمان والمكان
أسماء الزمان والمكان فصل [صياغتهما] قال صاحب الكتاب: ما بني منهما من الثلاثي المجرد على ضربين: مفتوح العين ومكسورها, فالأول بناؤه من كل فعل كانت عين مضارعة مفتوحة كالمشرب والملبس والمذهب، أو مضمومة كالمصدر والمقتل والمقام، إلا أحد عشر إسماً وهي المنسك والمجزر والمنبت والمطلع والمشرق والمغرب والمفرق والمسقط والمسكن والمرفق والمسجد. * * * قال الشارح: الغرض من الإتيان بهذه الأبنية ضربٌ من الإيجاز والاختصار، وذلك أنّك تفيد منها مكان الفعل وزمانه؛ ولولاها لزمك أن تأتي بالفعل ولفظِ المكان والزمان، فاشتقوا المكان والزمان من الثلاثيّ، ولا يكاد يكون من الرباعيّ، وذلك يجيء على مثال الفعل المضارع على "يفعل"، إلَّا أنك توقع الميم موقعَ حرف المضارعة للفصل بين الاسم والفعل، فهذا كان المضارع منه على "يَفْعَلُ" مفتوحَ العين؛ فـ "المَفْعَلُ" منه كذلك، نحوُ: "المَلْبَس"، و"المَشْرَب"، و"المَذْهَب"، وكان يلزم على هذا أن يُقال فيما المستقبلُ منه "يَفْعُلُ" بالضمّ: "مَفْعُل"، فيقال فى المكان من "قتل يقتُل": "مَقْتُلٌ"، ومن "قعد يقعُد": "مَقْعُدٌ" غيرَ أنّهم عدلوا عن هذا؛ لأنّه ليس في الكلام "مَفْعُل" إلَّا بالهاء، كقولك: "مَكْرُمَة"، و"مقْبُرَة" ونحوِهما، فعدلوا إلى أحد اللفظَيْن الآخرَيْن، وهو "مَفْعَل" بالفتح؛ لأن الفتح أخفّ. وقد جاءت عن العرب أحد عشر اسمًا على "مَفْعِلٍ" في المكان مما فعله على "يَفْعُلُ" بالضمّ، وذلك "مَنْسِكٌ" لمكان النُّسْك، وهو العبادة، وهو من "نَسَكَ ينسُك"، إذا عبد، و"المَجْزِر" لمكان جَزْر الإبل، وهو نَحْرها، يُقال: "جزرتُ الجَزُور أجزُرها" بالضمّ إذا نحرتَها، وجلّدتَها، و"المَنْبِت" لموضع النَّبات، يُقال: "نبت البقلِ ينبُت" إذا طلع، و"المَطْلِعُ" مكان الطلوع، وقد يكون مصدرًا بمعنى الطلوع، وعليه قراءةُ من قرأ: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬1). ¬
ومن ذلك "المَشْرِق"، و"المَغْرِب" لمكان الشروق والغروب، وقالوا: "المَفْرِق" لوَسَط الرأس؛ لأنّه موضع فرق الشعر، وكذلك "مَفْرِق": الطريق للموضع الذي يَتشعّب منه طريقْ آخرُ، و"المَسْقِط" موضع السقوط، يُقال: "هذا مسقط رأسي"، أي: حيث وُلدتُ، و"أنا في مسقط رأسي" أي حيث سقط. و"المَسْكِن": موضع السُّكْنَى، يُقال: "سكنتُ داري أسكُنها". والمسكِن: الموضع، والمصدر: "المَسْكَن" بالفتح. و"المَرْفِق": موضع الرفْق، والرفق: ضدّ العُنْف، يُقال: "رفقتُ به أرفُق"، والمكان "المَرْفِق"، وقالوا: "المَسْجِد"، وهو اسمٌ للبيت، وليس المراد موضع السجود، أي: موضع جَبْهَتك، إذ لو أُريد ذلك؛ لقيل: "المَسْجَد" بالفتح، كسروا هذه الألفاظ، والبابُ فيها الفتح، أدخلوا الكسر فيها؛ لأنّه أحد البناءَيْن، كما أدخلوا الفتح فيها. * * * قال صاحب الكتاب: والثاني بناؤه من كل فعل كانت عين مضارعة مكسورة كالمحبس والمجلس والمبيت والمصيف ومضرب الناقة ومنتجها، إلا ما كان منه معتل الفاء أو اللام، فإن معتل الفاء مكسور أبداً كالموعد والمورد والموضع والموجِل والموجلُ، والمعتل اللام مفتوح أبداً كالمأتى والمرمى والمأوى والمثوى، وذكر الفرّاء أنه قد جاء: مأوى الإبل بالكسر. * * * قال الشارح: أمّا ما كان عينُ المضارع منه "يَفْعِلُ" بالكسر، فالمكان والزمان منه "مَفْعِلٌ" بالكسر، كـ "المَحْبِس" و"المجلِس"، و"المبِيت"، و"المصِيف"، و"مضرِب الناقة"، و"منتِجها". فـ "المحبس" موضع الحَبْس، يُقال: "حبستُه أحْبِسُه"، أي: منعتُه الانبعاثَ. و"المجلس": موضع الجلوس؛ لأنّه من "جَلَس يجلِس"، وقالوا: "المَبِيت" للمكان يُبات فيه؛ لأنّ بات يَبِيتُ كـ "جلس يجلِس"، وأما "المَصِيف" فالمراد به الزمان، وهو من "صاف يصِيف" وكذلك "مَضْرِب الناقة" لزمن ضِرابها، يُقال: "أتى مضرب الشُّوَّل"، و"انقضى مضربها"، أي: أتى زمانه، وانقضى زمانه، وكذلك "المَنْتِج" لزمان النتاج، يُقال: "أتت الناقة على منتجها"، أي: الوقت الذي تنتِج فيه. وأمّا المعتل من هذا الضرب، فإنّه لا يخلو من أن يكون معتل الفاء أو العين أو السلام، فما كان منه معتل الفاء، فإنه يجري على منهاج واحد، لا يختلف باختلاف حركة عين المضارع منه، كما كان كذلك في الصحيح، فيجيء مكسورَ العين على كلّ حال، ¬
سواء كان مفتوح العين، أو مكسوره في المضارع، ولذلك استثناه؛ لأنّه مخالفٌ لِما تقدمه، وذلك، نحو: "المَوعِد"، و"المَوْرِد"، وهما من "وَعَدَ يَعِدُ"، وَ"وَرَدَ يَرِدُ" بالكسر، وقالوا: "المَوْجِل"، و"المَوْحِل": فكسروا أيضًا، وهو من "وَجِلَ يَوجَلُ"، و"وَحِلَ يَوْحَلُ" بالفتح. والعلّةُ في ذلك أن ما كان على "فَعَلَ"، وأولُه واوٌ، فإنّه يلزم مستقبله "يَفْعِلُ"، ويلزمه الإعلال بحذف واوه في المستقبل، نحوِ: "يَعِدُ"، و"يَرِدُ"، فكسروا المَفْعَل منه على القاعدة، ثمّ حملوا ما كان منه على "فَعِلَ يفعَل" على ذلك، فقالوا: "مَوْجِلٌ"، و"مَوْحِلٌ"، وذلك لأنّ "يوجل"، و"يوحل" في هذا الباب قد يعتلّ، فتُقلَب الواو ياءَ مرةً، نحوَ: "يَيْجَل"، و"يَيْحَل"، وألفا أخُرى، نحو: "يَاجلُ"، و"يَاحَلُ"، فلمّا كان كذلك، شبّهوها بالأول, لأنها في حال اعتلال، ولأن الواو فيها في موضع الواو من الأوّل، وهم كثيرًا ما يشتهون الشيء بالشيء، فيحملونه عليه إذا كان بينهما موافَقةٌ في شيء، وإن اختلفا من جهات اخرى. وقد حكى يونس وغيره فيما حكاه سيبويه (¬1) أن ناسًا من العرب يقولون: "مَوْجَلٌ"، وَ"مَوْحَلٌ" بالفتح حيث كان المضارع مفتوحًا في "يَوْجَل"، و"يَوْحَل"، فجروا فيه على الأصل، وهذا القول أقيسُ، والأول أفصحُ. وأمّا ما كان معتل العين، فإنَّه يجري على قياس الصحيح فما كان منه مضموم العين، فإنّ "المَفْعَل" منه مفتوح، نحوُ: "المَقام"، و"المَقال", لأنّه من "قال يقول"، و"قام يقوم"، فهوكـ "المَقْتَل"، و"المَخْرَج"، من "قتل يقتُل"، و"خرج يخرُج". وما كان مكسور العين فـ "المَفْعل" منه مكسور، نحو: "المَقِيل"، و"المَبِيت"؛ لأنّه من "بات يبِيت"، و"قال يقِيل"، كـ "ضَرَب يضرِب"، و"جلس يجلِس". وأمّا المعتل اللام، فإنَّه يأتي "مَفْعل" منه على منهاج واحد كالمعتلّ الفاء إلّا أن المعتل الفاء "مَفْعَل" منه مكسور، والمعتلّ اللام "مَفْعَل" منه مفتوح، وذلك، نحو: "المَأتَى"، و"المَرْمَى"، و"المَأْوَى"، و"المَثْوى". وذلك لأنّه معتل، فكان الألف والفتح أخفّ عليهم من الكسر مع الياء، ففرّوا إلى "مَفْعَل" بالفتح، إذ كان ممّا يُبْنَى عليه المكان والزمان، فإذا كان ذلك فيما لامه ياءٌ؛ كان في ذوات الواو أولى، نحوِ: "المَغْزَى"، و"المَدْعى"؛ لأنّه على "فعل يفعُل" بالضمّ، مثلِ "دَعَا يَدْعُو" و"غزا يَغزُو"، وفيه ما في ذوات الياء، لم يخرج من ذلك إلَّا "مَأْوِي الإبل"، فإنّه قد جاء مكسورا فيما حكاه الفرّاء، وذكرَ غيرُه: "مَأوَى الإبل" بالفتح على القياس، فاعرفه. ¬
فصل [مجيئهما علي "مفعلة" و"مفعلة", و"مفعلة"]
فصل [مجيئهما علي "مَفْعِلة" و"مَفْعَلَة", و"مَفْعُلة"] قال صاحب الكتاب: وقد يدخل على بعضها تاء التأنيث كالمزلة والمظنة والمقبرة والمشرقة وموقعة الطائر, وأما ما جاء على مفعلة بالضم كالمقبرة والمشرقة والمسربة فأسماء غير مذهوب بها مذهب الفعل. * * * قال الشارح: وقد أنّثوا بعض هذه الأسماء، كأنهم أرادوا البُقْعَة، فقالوا: "المَزِلّة" لموضع الزَّلَل، وكسروه لأن المضارع منه مكسور، وقالوا: "المَظَنَّةُ" لموضع الظَنّ، ومَأْلفه، وهو مفتوح لأنّه من "ظنّ يظُنّ" بالضمّ، و"المَقْبَرَة" لموضع القبر، و"المَشْرَقَة" لموضع شروق الشمس، وهو موضع القعود فيها، وقالوا: "مَوْقَعة الطائر"، وهو الموضع الذي يقع عليه، وهو مفتوح القاف من "وقع يَقَعُ" مفتوحٌ لمكان حرف الحلق. فأمّا ما جاء مضمومًا، نحوَ: "المَقْبُرة"، و"المَشْرُقة"، و"المَشْرُبة"، للغُرْفة، فهي أسماءٌ فالمقبرة: اسمٌ لموضع القبور، وليس لمكان الفعل، والمشرقة: اسمٌ للموضع الذي يقع فيه التشريق، وكذلك المشربة: اسمٌ للغرفة، ولو أُريد مكان الفعل، لقيل: "المَقْبَرَة"، و"المَشْرَقة"، و"المَشْرَبة" بالفتح. فصل [اشتقاقهما من الثلاثي المزيد فيه والرباعي] قال صاحب الكتاب: وما بني من الثلاثي المزيد فيه والرباعي, فعلى لفظ اسم المفعول كالمدخل والمخرج والمغار في قوله [من الطويل]: 937 - [وما هي إلا في إزار وعلقةٍ] ... مغار ابن همام على حي خثعما ¬
وقولهم فلان كريم المرَكَّبِ والمقاتل والمضطرب والمتقلب والمتحامل والمتدحرج والمحرنجم قال العجاج [من الرجز]: 938 - محرنجم الجامل والنؤي * * * قال الشارح: اعلم أن أسماء المكان والزمان ممّا زاد على الثلاثة بزيادة أو غيرها فإنّهما يكونان على زنة مفعولهما، وذلك كـ "المُدْخَل"، و"المُخْرَج"، و"المُغار". ويشمَل هذا اللفظ المكانَ والزمانَ والمصدرَ والمفعولَ. وإنّما اشتركت هذه الأشياء في لفظ واحد؛ لاشتراكها في وصول الفعل إليها، ونَصْبِه إيّاها، فلمّا اشتركت في ذلك، اشتركت في اللفظ. وأيضًا فإن اسم المكان جارِ على المضارع في حركاته وسكناته، ولذلك ضمّوا الميم منه، كما أنّ أوّل المضارع مضمومٌ، وكانت الزيادة ميمًا؛ لئلاّ يُلْبِس بالفعل، وفُتح ما قبل آخِره, لأنّه جارِ على زنة المفعول به، نحوِ: "المُدْخَل"، والمفعولُ على زنةِ ما لم يسمّ فاعله؛ نحوِ: "يُخْرَج"، وكان فعلُ ما لم يسمّ فاعله أولى به؛ لأنّه مبني للمفعول به، فهذا اللفظ يشمل اسم الزمان والمكان والمصدر، وهو على منهاج واحد لا يختلف. فإن قلت: فَلِمَ اختلف المكان في الثلاثيّ، نحو: "المَضْرِب"، و"المَقْتَل"، و"المَقْبُرَة"، ولم يختلف فيما زاد عليه؟ فالجواب أن ما يُشتق للمكان فهو مبني على لفظ المضارع، والمضارع من الثلاثي مختلف يأتي على "يفعَل" بالفتح، وعلى "يَفْعِل" بالكسر، وعلى "يفعُل" بالضمّ، فلمّا اختلف المضارع، اختلف المَفْعل التي على زنته، ولمّا كان مضارعُ ما زاد على الثلاثة على منهاج واحد لا يختلف وهو الكسر، لم يختلف اسم المكان فيه. ¬
فصل [صيغة "مفعلة" للمكان الذي يكثر فيه الشيء]
فأمّا الأبيات التي أنشدها فقد تقدّم الكلام عليها في المصادر. فأمّا "المُغار" فهو موضع الإغارة، ويستعمل في المكان والزمان والمفعول به. و"المُرَكَّب": الأصل والمَنْبِت، يُقال: "فلان كريمُ المُركب" أي: كريم الأصل والمَنْصِب. و"المُتَقَلِّب" بالتاء واللام المشدّدة بمعنى التقلّب، وَيكون موضع الفعل وزمانه. و"المُقاتَل" الموضع مِن قاتَلَ. وكذلك "المُضْطَرَب" موضع الاضطراب، فاعرفه. فصل [صيغة "مفعلة" للمكان الذي يكثر فيه الشيء] قال صاحب الكتاب: وإذا كثر الشيء بالمكان قيل فيه "مَفْعَلَةُ" بالفتح. يقال: "أرض مسبعة ومأسدة ومذأبة ومحياة ومفعاة ومقثأة ومطبخة". قال سيبويه (¬1): ولم يجيؤا بنظير هذا فيما جاوز ثلاثة أحرف من نحو الضفدع والثعلب كراهة أن يثقل عليهم؛ لأنهم قد يستغنون بأن يقولوا كثيرة الثعالب. * * * قال الشارح: اعلم أن هذا الضرب من الأسماء ممّا لزمت فيه الهاء, لأنّه ليس أسماء للمكان الذي يقع فيه الفعل، وإنّما هي صفةُ الأرض التي يكثر فيها ذلك الشيء، والأرضُ مؤنثة، فكانت صفتُها كذلك، ولم يأتِ ذلك عنهم في كل شيء إلَّا أن تَقِيس، وتعلم أن العرب لم تستعمله، ولم يجيْؤوا بمثل هذا في الرباعيّ من نحو "الضفْدع"، و"الثعْلَب"، كراهيةَ أن يثقل عليهم، وكان لهم عنه مندوحةٌ أن يقولوا: "كثيرةُ الثعالب". وإنّما اختضوا بذلك بنات الثلاثة لخفّتها، ولو قالوا من بنات الأربعة، نحوَ: "مَأْسَدَةٍ"، لقيل: "مُثَعْلَبَةٌ"؛ لأن ما جاوز الثلاثة يكون نظيرُه المَفْعل بزنة المفعول، ويستوي فيه المصدر والمكان والزمان الذي في أوّله الميم زائدة، ويكون بلفظ المفعول وليس كذوات الثلاثة، فتقول في الثلاثة: "المَضْرَب" في المصدر مفتوحًا، و"المَضْرِب" بالكسر في المكان والزمان، وفي المفعول: "مَضْرُوبٌ"، فلفظ المفعول غير لفظ المكان والزمان، وتقول فيما جاوز الثلاثة: "المُقاتَل"، و"المسرَّح"، و"المُوَقَّى" في معنى القِتال والتسريح والتوْقية، وكذلك المكان والزمان، ولفظ المفعول كذلك، فقالوا على ذلك: "أرضٌ مُعَقْرَبَةٌ ومُثَعْلَبَةٌ"، فيأتي على لفظ المفعول لمجاوَزة الثلاثة، ومن قال: "ثُعالَةُ" قال: "أرضٌ مَثْعَلَةٌ"؛ لأنّه ثلاثي كـ "مَأسَدَةٍ". وقالوا: "أرضٌ مَحْياةٌ" إذا أكثر فيها الحيات، و"أرضٌ مَفْعاةٌ" إذا كثر فيها الأفاعِي، ومذهب سيبويه (¬2) أن عين "حَيَّةٍ" ياءٌ، فهو من لفظ "حَيِيتُ". وقال غيره: العين واوٌ، ¬
فصل [عدم إعمال اسم الزمان واسم المكان]
والأصل: حَوْيَة، فقلبت ياء على حدّ قلبها في "طَوَيتُه طَيًّا"، و"لَوَيْتُه لَيًّا"، فيكون من لفظ "حَوَيتُ"، وحكى صاحب العَين (¬1): "أرضٌ مَحْواةٌ"، ويشهد لهذا القول قولُهم: "حَواءٌ" لصاحب الحيات، وسيبويه يجعل "حَوّاءً" من معنى "الحيّة"، لا من لفظها، فاعرفه. فصل [عدم إعمال اسم الزمان واسم المكان] قال صاحب الكتاب: ولا يعمل شيء منها, والمجر في قول النابغة [من الطويل]: 939 - كأن مجر الرامسات ذيولها ... عليه قضيم نمقته الصوانع مصدر بمعنى الجر، وقبله مضاف محذوف تقديره: كأن أثر جر الرامسات. * * * قال الشارح: قوله: "ولا يعمل منها شيءٌ"، أي: لا يعمل اسم المكان والزمان عملَ المصدر, لأنّه ليس في معنى الفعل؛ فأمّا قول النابغة [من الطويل]: كأن مَجَرَّ ... إلخ فلا يجوز حمله على ظاهره, لأنّه لا يخلو إمّا أن يكون مصدرًا بمعنى الجرّ، أو اسم مكان؛ فإن جعلته اسم مكان، فسد إِعمالُه ونصبُه "ذيولَها", لأنك لا تقول: "جلستُ ¬
في مَجَرِّ زيدٍ ذَيْلَه"، وأنت تريد المكان، وإنّما تقول "في مَجَرِّ ذيل زيدٍ" كما تقول: "في مكان زيد"، وإن جعلته مصدرًا، فسد من جهة المعنى؛ لأنّه شبّهه بـ "قضيم"، والقضيم: جلْدٌ أبيض يكتب فيه، وقيل: نِطعٌ منقوشٌ. وطريق صحّته على تقدير مضاف محذوف، كَأنه قال: كان أثَرَ مَجَرّ الرامسات، أو موضع مجرّ الرامسات، على معنى موضع جَرّ الرامسات. والرامساتُ: الرياح، فيكون منصوبًا بالمصدر، يصف رَسْمًا عفا بعد أهله، ولعبت به الرياح، فصار ما أبْقَتْ منه بمنزلةِ نطع حالَ عن جِدّته، وبقي أثرُ صنعته، وهو القضيم، فلذلك كان محمولًا على حذف المضاف دون ظاهره، فاعرفه.
اسم الآلة
اسم الآلة فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: هو اسم ما يعالج به وينقل, ويجيء على "مِفْعَلٍ", و"مِفْعَلَةَ", و"مِفْعالٍ", كالمقص والمحلب والمكسحة, والمصفاة والمقراض والمفتاح. * * * قال الشارح: كل اسم كان في أوّله ميم زائدة من الآلات التي يعالج بها وينقل، وكان من فعل ثلاثي، فإن ميمه تكون مكسورة، كأنهم أرادوا الفرق بينه وبيّن ما يكون مصدرًا أو مكانًا، فـ "المِقَصُّ" بالكسر ما يُقَصّ به، و"المَقَصّ" بالفتح المصدر والمكان، وأبنيتُه ثلاثة (¬1): "مِفْعَلٌ"، و"مِفْعَلَةُ"، و"مِفْعالٌ"، وذلك، نحو: "المِحْلَب"، لما يُحْلَب فيه، و"المِنْجَل" الذي يقطع به الرَّطْبة والقَت، وقالوا: "مِكْسَحَةٌ" وهي كالمِكنَسَة. يُقال: "كسحت البيت"، أي: كنسته، و"مِسَلَّةٌ" لواحدة المَسالّ، وهي الإبَرُ العظام، وقالوا. "مِطرَقَة"، و"مِطرَقَ"، وهو القضيب يضرب به الصوف، وآلةُ الحَداد والصائغ، و"مِصْفًا"، و"مِصْفاة"، وهي آلة يُصفَّى بها الشراب وغيره، أنّثوا "مِفْعلًا"، كما أنّثوا المكان، لأنّه آلة، وقد يجيء "مِفْعال"، قالوا: "مِقراض"، و"مِفْتاح"، و"مِصباح". وقيل: إن "مِفْعَلًا" مقصور عن "مِفْعال"، وإن كان "مِفْعَلٌ" أكثر استعمالًا. ويؤيد ذلك أن كل ما جاز فيه "مِفْعَلٌ"، جاز فيه "مِفعالٌ" نحوَ: "مِقْرَض"، و"مِقْراض"، و"مِفْتَح"، و"مِفْتاح"، وليس كل ما جاز فيه "مِفْعال" جاز فيه "مِفْعَل". قالوا: ولذلك صحّت العين في "مِخيَط"، و"مِجْوَلٍ"، ولم تقلب كما قلبت في "مَقال"، و"مَقام"، قالوا: لأنها مقصورة عمّا تلزم ¬
فصل [المضموم الميم والعين من أسماء الآلة]
صحته، وهو "مِخْياط"، و"مِجّوال"؛ لوقوع الألف بعدها، ونظير ذلك: "العَواوِرُ"، ولم يقلبوا الواو همزة كما قلبوها في "أَوائِلَ"، وذلك أن "العواور" مقصور عن "العَواوير"، فكما لا يلزم القلب في "العواوير" لبُعْد الواو عن الطرف، كذلك ها هنا، فاعرفه. فصل [المضموم الميم والعين من أسماء الآلة] قال صاحب الكتاب: وما جاء مضموم الميم والعين من نحو المُسعُط والمُنخُل والمُدّق والمدهن والمكحلة والمحرضة، فقد قال سيبويه (¬1): لم يذهبوا بها مذهب الفعل ولكنها جعلت أسماء لهذه الأوعية. * * * قال الشارح: هذه الأحرف شذّت عن مقتضى القياس، وما عليه الاستعمالُ بأن جاءت مضمومة، وهي ما يُعالَج به ويُنْقَل، كأنّهم جعلوها أسماءً لِما يُوعَى فيه، ولم يُراعوا فيها معنى الفعل والاشتقاقَ، كما قالوا: "المُغْفُور" لضرب من الصَّمْغ يقع على الشجر حُلْوٍ، و"المُغْرُود" (¬2) لضرب من الكَمْأة، فهذه على زنة "مُفْعُول"، وهي أسماء أشياءَ لم يُرَد فيها معنى الفعل، كذلك هذه الأحرف وهي "المُسْعُط" وهو ما يجعل فيه السَّعُوط من دواء، أو من دُهْن فيُسْعَط به العليل أو الصبي في أنفه، أي يجعل فيه. و"المُنْخُل": ما يُنْخَل به الدقيق ونحوه، وجمعه: مَناخِل، و"المُدُقّ" وهو اسمُ ما يُدَقّ به الشيء كفِهْر العطّار، ويَد الهاوُن، و"المُدْهُن" بضمّ الميم والهاء لِما يجعل فيه الدهن من زجاج وغيره، و"المُكْحُلَة" لوعاء الكُحْل زجاجًا كان، أو غيره، هذه الخمسة حكاها سيبويه (¬3)؛ فأمّا "المُحْرُضَة" فوعاء الحُرْض وهو الأشْنان، والكسر هو المشهور، ولا أعرف الضمّ فيها. ¬
الثلاثي
ومن أصناف الاسم الثُّلاثيُّ فصل [أبنية الاسم الثلاثي المجرد والمزيد] قال صاحب الكتاب: للمجرد منه عشرة أبنية أمثلتها صقر وعلم وبرد وجمل وإبل وطنب وكتف ورجل وضلع وصرد, وللمزيد فيه أبنية كثيرة, ولعل الأمثلة التي أنا ذاكرها تحيط بها أو بأكثرها. * * * قال الشارح: الأسماء المتمكّنة على ثلاثة أضرب: ثلاثيّ ورباعيّ وخماسيّ لا تكون أصلًا على أكثر من الخمسة لثقله، ولئلاّ يُتوهم أنّه مركب من ثلاثيَّيْن، وكذلك ما زاد. وذهب الفراء والكسائيّ إلى أن الأصل الثلاثي، وأن الرباعيّ فيه زيادةُ حرف، وأن الخماسيّ فيه زيادة حرفَين. والمذهب الأول وهو رأي سيبويه، ولذلك نَزِنُه بالفاء والعين واللام، ولو كان الأمر على ما ذُكر لقوبِل الزائد بمثله البتّة. وللثلاثي عشرة أبنية كما ذكر تكون أسماء وصفات. وقوله: "للمجرَّد"، أي: للمجرّد من الزيادة، فمن ذلك "فَعْل" بفتح الأول وسكون الثاني، يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "صَقْرٌ"، و"كَلْبٌ"، والصفة: "صَعْبٌ"، و"ضَخْمٌ". و"فِعْلٌ" بكسر الأول وسكون الثاني، يكون اسمًا وصفة، فالاسم منه "عِدْلٌ"، و"عِلْمٌ"، والصفة: "نِقْضٌ"، و"نِضْوٌ". و"فُعْلٌ" بضم الأول وسكون الثاني يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "بُرْدّ"، و"قُقلٌ"، والصفة: "عُبْرٌ"، و"مُرٌّ"، يُقال: "ناقة عُبْر أسْفارٍ"، أي: يسافَر عليها. و"فَعَلٌ" بفتح الأول والثاني يكون اسمًا وصفة، فالاسم "جَبَلٌ"، و"جَمَلٌ"، والصفة "بَطَلٌ"، و"حَسَنٌ". و"فَعِلٌ" بفتح الأول وكسر الثاني يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "كَبِدٌ"، و"كَتِفٌ"، والصفة: "حَذِرٌ"، و"وَجِعٌ".
و"فَعُلٌ"، بفتح الأوّل وضمّ الثاني يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "عَضُدٌ"، و"رَجُلٌ"، والصفة: "حَدُثٌ"، و"حَذُرٌ"، يُقال: "رجل حدث"، أي: حسن الحديث، و"حَذُرٌ" أي: مُتيقِّظٌ. و"فِعَل" بكسر الأول وفتح الثاني يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "ضِلَعٌ"، و"عِنَبٌ"، والصفة: قالوا: "قومٌ عِدى"، ولا نعلمه جاء صفة في غير هذا وحدَه من المعتل، وهو اسم جنس وُصف به الجمع كـ "السَّفْر" و"الرَّكْب"، وليس بتكسير لعدم نظيره في المجموع. و"فِعِلٌ" بكسر الفاء والعين يكون اسمًا وصفة، قالوا: "إبِلٌ"، قال سيبويه (¬1): وهو قليل ليس في الأسماء غيرُه، وقال أبو الحسن: يُقال للخاصِرة "إطِلٌ"، و"أيْطَلٌ". قال [من الطويل]: 940 - لها أيطَلَا ظَبْىٍ وساقا نَعامَه ... [وَإرْخاءُ سِرْحانٍ وَتَقْريبُ تَتْفُلِ] وقالوا في الصفة: "امرأة بِلِزٌ"، وهي العظيمة، وقيل القصيرة. و"فُعُلٌ" بضمّ الفاء والعين يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "طُنُبٌ"، و"عُنُقٌ"، والصفة: "ناقة سُرُحٌ وطُلُق". و"فُعَل" بضمّ الأول وفتح الثاني يكون اسمًا وصفة، فالاسم "خُزَزٌ" و"رُبَعٌ"، والصفة "حُطَمٌ" و"كُسَعٌ". قال [من الرجز]: قد لَفَّهَا الليلُ بِسَوّاقٍ حُطَمْ (¬2) فهذه الأمثلة يجمعها كلها كونُها ثلاثيّةً، وإن كانت مختلفةَ الأبنية؛ لأن وزن كلّ مثال منها غير الآخر، وليس في الأسماء "فُعِلٌ" إلَّا "دُئِلٌ" معرفة فيما حكاه الأخفش، ولم ¬
فصل [نوعا الزيادة]
يذكره سيبويه، والمعارف غير مُعوَّل عليها في الأبنية؛ لأنّه يجوز أن يسمّى الشخص بالفعل والحرف والجملة، وليس في الكلام "فِعُلٌ" بكسر الفاء وضمّ العين؛ لانّهم كرهوا الخروج من الكسر الذي هو ثقيلٌ إلى الضمّ الذي هو أثقل منه، والثلاثيّ أعدلُ الأبنية لأنّه حرفٌ يُبتدأ به لا يكون إلَّا متحرّكًا، وحرفٌ يُوقَف عليه لا يكون إلَّا ساكنا وحرفٌ يكون حَشْوا فاصِلًا بينهما، وليس المراد بالاعتدال قلّة الحروف، ألا ترى أنّ في الكلام نحوَ "مَنْ"، و"كَمْ" ولسنا نقول إنها أعدلُ الأبنية؟ فأمّا المزيد فيه، فهي كثيرة جدا تُقارَب. فصل [نوعا الزيادة] قال صاحب الكتاب: والزيادة إما أن تكون من جنس حروف الكلمة كالدال الثانية في "قُعدُدٍ", و"مَهْدَدَ"، أو من غير جنسها كهمزة أفكل وأحمر، وللإلحاق كواو جوهر وجدول، أو لغير الإلحاق كألف كاهل وغلام. * * * قال الشارح: معنى الزيادة أن يُضاف إلى الحروف الأصُول ما ليس منها ممّا قد يسقط في بعض تصاريف الكلمة، ولا يقابَل بفاء ولا عين ولا لام، وذلك يكون إمّا بتكرير حرف من نفس الكلمة، نحوِ الباء من "جَلْبَبَ"، والدال من "قُعْدُدٍ"، أو بزيادة حرف من غير جنسها من حروفِ "اليومَ تنساه"، نحو واو"جَوْهَر" وياء "صَيْرَفٍ"،، وهمزة "أفْكَلٍ"، و"أحمَرَ"، والغرض من ذلك: إمّا إفادةُ معنى لم يكن، وإمّا إلحاقُ بناء ببناء غيره، وإمّا المدُّ وتكثيرُ البناء لا غيرُ، كألف "غلام"، وواو "عجوز"، وياء "صَحِيفَة"، و"سَعِيد" ونحوها. فأمّا الأوّل، فنحو ألف "ضارِبٍ" وميم "مضروب"، ألا ترى أن الألف في "ضارب" يفيد أنّه فاعل، والميم في "مضروب" يفيد معنى المفعولية، ونحوُ حروف المضارعة يختلف اللفظُ بها لاختلاف المعنى، وأشباهُ ذلك كثيرةٌ. وأمّا الثاني، وهو المزيد للإلحاق، فنحو الدال في "قُعْدُدٍ"، و"مَهْدَدَ". فـ "قُعْدُدٌ" ملحق بـ "بُرْثُنِ"، ولذلك لم يُدّغم المثلان فيه كما ادُّغما في "حُبٍّ"، و"وُدٍّ"، و"القُعْدُدُ": القريب الآباءِ من الجدّ الأعلى، و"مَهْدَدُ" ملحق بـ "جَعْفَر"، وهو اسم امرأةٍ، وكذلك "جَوْهَر"، و"صَيْرَفٌ" أُلْحقا بالواو والياء بـ "جعفر" و"دَحْرَجٍ". وأمّا الزيادة للمدّ وتكثير البناء، فنحو واو "عَجُوزٍ"، وألف "غلام" وياء "سَعِيدٍ"، لم يُرَد بهذه الزيادة إلَّا امتداد الصوت وتكثير اللفظ, لأنّهم كثيرًا ما
يحتاجون إلى المدَّ عوضًا من شيء قد حُذف، أو للِين الصوت به. ألا ترى أن الضرب الثالث من الطويل نحوَ قوله [من الطويل]: 941 - أقِيموا بني النُّعْمانِ عَنَّا صُدُورَكم ... وإلا تُقِيموا صاغِرِينَ الرُّؤُوسَا ونحوَ قول الآخر [من الطويل]: 942 - لَعَمْرُك إنّي في الحياة لَزاهِدٌ ... وفي العَيْش ما لم ألْقَ أُمَّ حَكِيمِ إنَّما لزم الرِّدْف ليكون عوضًا من السَبَب المحذوف من "مَفاعِيلُنْ"؟ فاعرفه. ¬
فصل [الزيادة المجانسة]
فصل [الزيادة المجانسة] قال صاحب الكتاب: والزيادة المجانسة لا تخلو من أن تكون تكريراً للعين, كخفيفد وقِنَّبٍ؛ أو للام كخفيدد وخدبّ أو للفاء والعين كمرمريس ومرمريت أو للعين واللام كصمحمحٍ وبرهْرهةٍ وما عداها من الزوائد حروف سألتمونيها. * * * قال الشارح: المراد بالزيادة المجانسة أن يكون الحرف المزيد من جنس حروف أصول الكلمة، كأنهم كرّروا ما هو من نفس الكلمة، وذلك يكون بتكرير العين، قالوا: "خَفَيْفَدٌ"، وهو الظَّلِيم السريع، وهو من قولهم: "خَفَدَ الظليمُ" إذا أسرع، ألحقوه بزيادة الياء وتكرير العين بـ"سَفَرْجَل". وقالوا: "قِنَّبٌ" النون الثانية زائدة مكرّرة من غير فصل، ووزنُه "فِعَّلٌ" ملحق بـ"دِرْهَم". وقد كرَّروا اللام، قالوا: "خَفَيْدَدٌ" للظليم أيضًا، زادوا الياء وكرّروا اللام للإلحاق بـ"سفرجل" أيضًا، إلَّا أن المكرَّر ها هنا اللام من "خَفَيدَدٍ"، والعين من "خَفَيْفَدٍ". وقالوا: "خِدَبٌّ"، أي: ضَخْمٌ، ومثله "هِجَفٌّ" كرَّروا اللام من غير فصل للإلحاق بِـ"قِمَطْر"، وأمَّا الفاء، فلم تأتِ مكرّرةً في شيء من كلام العرب، إلَّا في حرف واحد، وهو"مَرْمَرِيسٌ" للداهية الشديدة في قول الراجز: 943 - جَدْباءُ مَرْمَرِيس وزنته "فَعْفَعِيلٌ" لأنه من "المراسة" وهي الشدّة، فكرّرت الفاء والعين. فأمّا "مَرْمَرِيتٌ"، فلم يحكه سيبويه، وهو الأرض المَلْساءُ التي لا نبات بها من قولهم: "مكانٌ مَرْتٌ بيّنُ المُرُوتة". وقد كرّروا العين واللام، قالوا: "صَمَحْمَحٌ" للعظيم الضخم، كرَّروا العين واللام للإلحاق بـ"سفرجل"، ومثله قالوا: "بَرَهْرَهَةٌ" للصافية اللون، كُرّرت فيه العين واللام. ¬
فصل [عدد الأحرف الزائدة ومواضعها]
وما عداها من الزوائد فمن حروف "سألتُمُونِيها"، أي: ما عدا ما ذكر من التكرير، فلا تكون الزيادة إلَّا بحروف "سألتمونيها". والأوّلُ قياس، والثاني مسموع غير قياس، فتقول في "حُرْج" إذا شئت: "حُرْجُجٌ"، و"حِرَّجٌ" قياسًا على "جَلْبَبَ"، و"قِنَّبٍ" ولا تقول: "حَرْوَجٌ"، ولا "حَيْرَجٌ" قياسًا على "جَوْهَرٍ"، و"صَيْرَفٍ"، فاعرفه إن شاء الله تعالى. فصل [عدد الأحرف الزائدة ومواضعها] قال صاحب الكتاب: والزيادة تكون واحدة وثنتين وثلاثاً وأربعاً ومواقعها أربعة: ما قبل الفاء وما بين الفاء والعين وما بين العين واللام وما بعد اللام ولا تخلو من أن تقع مفترقة أو مجتمعة. * * * قال الشارح: الزيادة في الكلمة قد تكون واحدة، نحوَ الهمزة في "أحْمَرَ"، وثنتَيْن في نحو "منطلق"، وثلاثًا في نحو "مستخرج"، وأربعة في نحو "اشْهِيباب". وذلك أكثرُ ما تنتهي إليه الزيادةُ، وتبلغ بناتُ الثلاثة بالزيادة سبعةً، فتكون الزيادة فيها أربعة أحرف، نحوَ: "اغريراق" (¬1) و"اشْهِيبابٍ"، ويبلغ ذلك بناتُ الأربعة، نحوَ: "عَبَوْثُرانٍ"، وهو نبتٌ طيّب الريح، و"احرنجَام"، فتكون الزيادة فيه ثلاثة أحرف، وأكثرُ ما تبلغ بنات الخمسة بالزيادة ستّة أحرف، نحوُ: "عَضْرَفُوطٍ" (¬2) و"قَبَعْثَرى" (¬3)، لم يتصرّفوا فيها أكثرَ من زيادة واحدة. وإنّما كثر التصرّفُ في الثلاثيّ بالزيادة لكثرته، وقَلَّ في الخماسيّ لقلّته، وإذا لم تكثر الكلمة، لم يكثر التصرّف فيها، ألا ترى أن كل مثال من أمثلة الثلاثي له أبنية كثيرة في التكسير للقلّة والكثرة، وليس للرباعيّ إلَّا مثال واحد، القليلُ والكثير فيه سواء، وهو "فَعالِلُ"، نحوُ: "حَناجر"، و"بَراثن"؛ ولم يكن للخماسيّ مثال في التكسير، لانحطاطه عن درجة الرباعيّ في التصرّف، وكان محمولًا على الرباعيّ، نحوَ: "فَرازِدَ"، و"سَفارِجَ"، ولذلك كثرت الزيادة في الثلاثيّ، وتوسّطت في الرباعيّ، وقلّت في الخماسيّ. وأمَّا مظانّ الزيادة، فما قبل الفاء، وبعد الفاء، وبين العين واللام، وبعد اللام، فسيأتي الكلام على ذلك مفصّلًا إن شاء الله. ¬
فصل [الزيادة الواحدة قبل الفاء]
فصل [الزيادة الواحدة قبل الفاء] قال صاحب الكتاب: والزيادة الواحدة قبل الفاء في نحو أجدل وإثمد وإصبع وأُصبع وأُبلُم وأكلب وتنضب وتدراء وتتفل وتحلىء ويرمع ومقتل ومنبر ومجلس ومنخل ومصحف ومنخر وهبلع عند الأخفش. * * * قال الشارح: لمّا قدّم الكلامَ على موَاقعِ الزيادة مُجْمَلًا؛ لزمه بيانُ ذلك مفصّلًا مشروحًا، فمن الزيادة أوّلًا الهمزة، نحو. "أَجْدَلٍ"، وهو الصقْر، الهمزة فيه زائدة؛ لوقوعها في أوّل بنات الثلاثة، ولأنّه من الجَدْل، وهو الفَتْل، كأنّه يفتل الضرِيبة ليصيدها. وهذا البناء يكون اسمًا وصفة، فالاسم ما ذكرناه من "أَجْدَلٍ"، و"أَفْكَل" وهو الرعْدة، والصفة: "أبيض"، "وأحمر". و"إثْمِدٌ"، بكسر الهمزة والميم، وهو حجرٌ يتكحّل به، الهمزة زائدة في أوّله لوقوعها في أوّل بنات الثلاثة. فإن قيل: فالميم أيضًا من حروف الزيادة، قيل: الميم إذا وقعت حشوًا لا يُحْكَم بزيادتها، إلَّا إذا قامت الدلالة على ذلك، فلذلك قُضي بزيادة الهمزة دون الميم. ومثله "إجْرِدٌ" وهو نبتٌ، ولا نعلمه جاء صفةً، وأمّا "إصْبَعٌ" فالهمزة في أوّلها زائدة؛ لوقوعها في أوّل بنات الثلاثة، وتذكّر وتؤنّث، وفيها خمس لغات: إصْبَعُ، بكسر الهمزة وفتح الباء، وهي أشهرها، ومثله "إبْيَنُ" وهو موضع بعَدَنَ، و"إشْفّى"، الذي للإسكاف، وهو المِخْرَز ولم يأت صفةً. وقالوا: "أُصْبَعُ" بضمّ الهمزة وفتح الباء، وقالوا: "إِصْبعٌ" بكسر الهمزة والباء، كأنّهم أتبعوا الباء الهمزةَ، في الكسرِ، وقالوا: "أُصْبُعٌ" بضمّ الهمزة والباء، أتبعوا الباء أيضًا ضمّ الهمزة، وقالوا: "أَصْبعُ" بفتح الهمزة وكسر الباء. ومن ذلك "أُبْلُمٌ"، و"أَكْلُبٌ"، الهمزة فيهما زائدة لما ذكرناه، و"الأبلم" خُوص الْمُقْل، وفيه لغات. قالوا: "أُبْلُمٌ" بضمّ الهمزة واللام، ولا نعلمه جاء صفة، وقالوا: "أَبْلَمٌ" بفتحهما، و"إبْلِمٌ" بكسرهما, والواحدة بالتاء. وأمّا "أَكْلُبٌ" فجمعُ "كَلْبٍ" وليس في الأسماء المفردة ما هو على "أَفْعُلَ" إنّما ذلك في الجمع، نحو: "أَعْبُد"، و"أَفْلُسٍ". ومن ذلك "تَنْضُبٌ" وهو شجرٌ كالنّبْع، والنبع: شجر يُتّخد منه القِسيّ، والتنضب يتّخذ منه السهام، والتاء فيه زائدة؛ لأنه ليس في الكلام "فَعْلُلٌ" مثلُ "جَعْفُرٍ" بضم الفاء، و"تُدْرأٌ"، التاء فيه زائدة, لأنه ليس في الكلام مثل "جُعْفَر" بضمّ الجيم، وهي عند الأخفش أيضًا زائدة من جهة الاشتقاق, لأنه من "الدَّرْء" وهو الدفع، و"التدرأ"، من معنى الدفع. يقال: "رجلٌ ذو تُدْرَأ"، أي: صاحب قوّةٍ على دفع الأعداء، وقد جاء في
الأسماء، قالوا: "تُرْتَبٌ"، وبعضهم يجعله وصفًا، فيقول: "أَمْرٌ تُرْتَبٌ"، أي: راتبٌ، وقال [من الطويل]: 944 - [ملكْنا ولم نُمْلكْ وقُدْنا ولمْ نُقَدْ] ... وكان لنا فَضْلٌ على الناس تُرْتَبُ وقالوا: "ناقةٌ تُحْلَبَةٌ"، أي: تُحْلَب قبل أن يضربها الفحلُ، و"تِحْلِبَةٌ"، و"تَحْلَبَةٌ" أيضًا. ومن ذلك "تَتْفُلٌ"، وهو من أسماء الثعلب بفتح التاء الأولى وسكون الثانية وضمّ الفاء، وفيه أربعُ لغات: قالوا: "تَتْفُلٌ" على ما تقدّم، و"تُتْفُلٌ"، كأنّه ملحق بـ"بُرْثُنٍ"، و"تُتْفَلٌ"، كـ "تُدْرَأ"، كأنّه بـ"جُنْدَبٍ"، و"تَتْفَلٌ"، مثل "جَعْفَرٍ" والتاء فيه زائدة, لأنه ليس في الكلام "فَعّلُلٌ" مثل "جَعّفُر"، فهو مثل "تَنْضُب". وإذا ثبت أنّها زائدة في هذه اللغة؛ كانت في لغة من قال "تُتْفُلٌ"، بالضمّ أيضًا زائدة، وإن كانت على زنة بُرْثُنٍ"؛ لأنه قد ثبت زيادتُها على لغةِ من فتح التاء، ولا تكون أصلًا في لغةٍ، زائدةً في لغة أخرى، لأن اللفظ واحد، والمعنى واحد. وأمّا "تِحْلِىءٌ" فإنّه "تِفْعِلٌ" بكسر التاء والعين، وهو مهموز من "حَلِىء الأديمُ" إذا فسد، ولا يكون إلَّا اسمًا، وهو قليل والتحْلِىءُ: فسادٌ يلحق الجلدَ من السكّين عند السَّلْحْ، وقيل: إنه بُشارة الأديم، يقال. "حَلَأْتُ الأديمَ" إذا بَشَرْتَه، فالتاء فيه زائدة للاشتقاق. و"اليَرْمَع": حجارةٌ بِيضٌ تلمع، والياء في أوّله زائدة، لأنّها لا تكون أصلًا مع بنات الثلاثة، ولم يأت هذا البناء إلَّا في الأسماء دون الصفات. ومثل "يرمع" "يَلْمَقٌ"، وهو القَباء، فارسىّ معرّب. ¬
فصل [الزيادة الواحدة بين الفاء والعين]
ولم يأت في الأسماء ولا الصفات "يُفْعِلُ" بضمّ الياء وكسر العين، وقد وقعت الميم زائدة أوّلاً في بنات الثلاثة، نحو: "مَقْتَل"، و"مِنْبَر"، و"مَجْلِس"، فـ"المقتل" يقع على المصدر والزمان والمكان، وقد تقدّم الكلام عليه، وقالوا: "مِنْبَرٌ" للآلة التي يَنْبِر عليها الخطيب، أي: يرفع صوته من "نَبَرَ يَنْبِرُ"، أي: رفع صوتَه. و"المجلس" مكان الجلوس، وإذا أريد المصدر، قالوا: "المَجْلَس" بالفتح، وقد ذُكر. ومنه "مُنْخُلٌ" اسم لآلة النَّخْل، فهو كـ"المُدْهُن" و"المُسْعُط"، وقد تقدّم شرح ذلك. ومنه "المُصْحَف" من لفظ الصحيفة، تقول: "أصحفتُه فهو مُصْحَفٌ"، أي: جعلته صحيفةٌ، وربمّا كسروا أوّله، وقالوا: "مِصْحَفٌ" يشبّهونه بالآلة. وقالوا: "مِنْخر" لموضع النَّخِير، فهو كـ"المَسْجِد"، و"المَنْبت"، وهو في الصفة قليل. وقالوا: "هِبْلَعٌ"، و"هِجْرَعٌ" الهاء فيهما زائدة عند الأخفش، لأن "هِبْلَعا" مشتقّ من "البَلْع"، و"الهجرع" من "الجَرَع"، وهو المكان السهل المنقاد، فهو من معنى الطُّول، وسيبويه (¬1) يجعل الهاء أصلًا لقلّة زيادة الهاء أوّلًا، فهو كـ"دِرْهَم". فهذه الألفاظ في أوّلها زائدٌ واحدٌ لما ذكرناه. فصل [الزيادة الواحدة بين الفاء والعين] قال صاحب الكتاب: وما بين الفاء والعين في نحو كاهل وخاتم وشأمل وضيغم وقُنْبُر وجُنْدَب وعنسل وعوسج. * * * قال الشارح: هذه الأسماء مِمّا وقعت الزيادة فيه ثانيًا بعد الفاء، من ذلك الألف، وهو موضع زيادتها؛ لأنه لا يمكن زيادتها أوّلًا لأنها ساكنة، والساكن لا يمكن الابتداء به، قالوا: "كاهِلٌ"، وهو الحارك، فالألف فيه زائدة، لأنها لا تكون مع بنات الثلاثة إلّا زائدة، ومثله "حاتِمٌ"، وهو القاضي من "حتم الأمر" إذا أحكمه، وقضاه، وهو الغُراب أيضًا، قالوا: لأنه يحتم بالفراق. وقالوا في الصفات: "ضاربٌ"، و"قاتلٌ"، الألف فيهما زائدة، لأنه من "الضرب" و"القتل". وقد زيدت الهمزة ثانية. قالوا: "شَأْمَلٌ" للريح، فالهمزة زائدة، ووزنه "فَأْعَلٌ"؛ لقولهم: "شَمَلَتِ الريحُ" إذا هبّت شَمالًا، ولا نعلمه جاء صفة، وفيه لغات: قالوا: "شَمْل" بسكون الميم، و"شَمَل"، بفتحها، و"شَمَال"، و"شَمْأَل"، و"شَأْمَل" على ما ذكرنا. ومن ذلك الياء، زيدت ثانية في الاسم والصفة، فالاسم "زَيْنَبُ"، و"غَيْلَمٌ"، والغيلم: السُّلَحْفاة، والصفة: "ضَيْغَمٌ" للأسد، قيل له ذلك لعَضّه، والضَّغْم: العَضّ، ¬
فصل [الزيادة الواحدة بين العين واللام]
وقالوا: "صَيْرَفٌ" للصَّرّاف. قال سيبويه (¬1): ولا نعلم في الكلام "فَيْعُل" بالضّم، ولا "فَيْعِل" بالكسر في غير المعتلّ. وقد زادوا النون ثانية أيضًا، قالوا: "قُنْبَرٌ"، وهو طائر معروف، ويقال له أيضًا: "القُنْبَرَاء"، و"القُبَّرَة"، والجمع: قُبَّرٌ، النون في "القنبر" زائدة؛ لأنه ليس في الأسماء "جُعْفَرٌ" بفتح الفاء، ولقولهم فيه: "قُبَّرَةٌ" بغير نون. وقالوا: "جِنْدَبٌ" لذَكَر الجَراد، وقالوا: "عَنْسَلٌ" وهي الناقة السريعة، والنون فيه زائدة؛ لأنه من "عَسَلَ" الذئبُ إذا أسرع. وقد زادوا الواو ثانية أيضًا، قالوا: "كَوْكَبٌ"، و"عَوْسَجٌ"، لضرب من الشَّوْك، فالواو فيه زائدة؛ لأنها لا تكون مع بنات الثلاثة إلَّا كذلك. فصل [الزيادة الواحدة بين العين واللام] قال صاحب الكتاب: وما بين العين واللام في نحو شمألٍ , وغزال وحمار وغلام وبعير وعثير وعُليب وعُرُند وقعود وجدول وخروع وسدوس وسلم وقنب. * * * قال الشارح: قد وقعت الزيادة في هذه الأسماء ثالثة بعد العين، قالوا: "شَمْأَلٌ" للريح في إحدى لغاتها، وقد ذكرت. ومن ذلك الألف، قالوا: "غَزال"، و"حمار"، و"غُلام"، فالألف زائدة؛ لأنها لا تكون مع الثلاثة إلّا كذلك، فـ"غَزال" "فَعال"، و"غُلام"، "فُعال" من "الغُلْمة"، وهي شَهْوَة النكاح، وإنّما قيل للصغير: "غلام" على سبيل التفاؤل بالسلامة وبلوغِ سِنّ الاحتلام، و"حِمارٌ"، "فِعال" من "الحُمْرة"؛ لأن الغالب على حُمُر الوَحْش التي هي أصلها الحمرة. وقد زادوا الياء ثالثة في الاسم والصفة، فالاسم: "بَعِيرٌ"، و"قَضِيب"، فـ"البعير" الياء فيه زائدة لوقوعها مع بنات الثلاثة، وهو يقع على الذكر والأثنى. وحُكي عن بعض العرب: "صرعتْني بعيري" أي: ناقتي، ويقال "شربت من لبن بعيري" فهو كالإنسان في وقوعه على الذكر والأثنى، والناقة كالجارية، والجَمَل كالرجل، قال الفرّاء: "الجمل زوج الناقة"، و"القضيب" واحد القُضْبان. والصفة قالوا: "طويل"، و"ظريف". وقد جاء على "فِعْيَلٍ" اسمًا وصفةً، فالاسم "عِثْيَرٌ"، وهو الغُبار، و"حِمْيَرُ" قبيلة، والصفة قالوا: "رجلٌ طِرْيَمٌ" إذا كان طويلًا، و"الطّرْيَم": السحاب الكثيف؛ وأمّا "عُلْيَبٌ" وهو اسم وادٍ، فبناءٌ نادرٌ لم يأت اسم مضموم الفاء ساكن العين مفتوح الياء غيرُه. ¬
وقالوا: "عُرُنْدٌ" النون فيه زائدة لمخالَفته الأصولَ، إذ ليس في الأصول مثل "جُعُفْر"، بضمّ الجيم والعين وسكون الفاء. وحكى سيبويه (¬1): "وَتَرٌ عرندٌ"، أي: غليظ. وقالوا أيضًا: "عَرَنْدَدٌ"، أي: صُلْبٌ، كأنه أُلحق بـ"سَفَرْجل". وقد جاءت الواو زائدة ثالثة في "فَعُول"، و"فَعْوَل"، و"فِعْوَل"، و"فُعُول"، وأمّا "فَعُول" فيكون اسمًا وصفة، فالاسم: "قَعُود"، و"خَرُوف"، والصفة: "صَدُوق"، و"صَبُور"، فـ"القعود" من الإبل البَكْر حين يُرْكَب، كأنه أمكنَ من اقتعاد ظهره، و"الخروف": الحَمَل، وربّما سمّي المُهْر خروفًا. وأمَّا "فَعْوَل" فيكون اسمًا وصفة، فالاسم: "جَدْوَل"، و"جَرْوَل"، والصفة: "جَهْوَر"، و"حَشْوَر"، يقال: "رجل جهور، وجَهْوَريُّ الصوت"، أي رفيعُه، والحشور: المنتفخُ الجنبَيْن، يقال: "فرس حشور". والجَدْوَل: النهر الصغير" والجرول: الحجارة. أمّا "فِعْوَل" بكسر الفاء وفتح الواو فهو قليل، قالوا: "خِرْوَعٌ"، و"عِتْوَرٌ". فالخروع نبت معروف، وكلّ نبت ضعيف يثَّني فهو خروع، والعتور: اسم واد، لم يأت منه إلَّا هذان الحرفان من الأسماء، ولا نعلمه جاء صفة. وأمّا "فُعُول" فقد جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "أُتِيٌّ"، و"سُدُوسٌ"، فالأُتيّ: مَسيل الماء، وبعضهم يفتح الهمزة، وأنكر الضمّ الأصمعيّ. فمن ضمّ، فهو عنده "فُعُول" لا محالة، والأصل "أُتُويٌ"، فقلبت الواو ياء لاجتماعها مع الياء على حد "طَوَيْته طَيًّا"؛ لأنه ليس في الأسماء "فُعِيل" بضمّ الفاء. ومَن فتح الهمزة، جاز أن يكون "فُعولًا"، وقُلبت الواو فيه ياءً على ما قلنا، وجاز أن يكون "فَعِيلًا". وأمّا "سُدُوس" بالضمّ فضربٌ من الطَّيالِسة الملوّنة، و"سَدُوس" بالفتح قبيلة، هذا قول أكثر أهل اللغة، وذهب الأصمعيّ إلى أن "سَدوسًا" بالفتح الطَّيْلسان، و"سُدوس"، بالضمّ القبيلة، فالواو في ذلك كلّه زائدة؛ لأنها لا تكون مع الثلاثة إلَّا كذلك. وأمّا "سُلَّمٌ" منه و"فُعَّلٌ"، وقد جاء هذا البناء اسمًا وصفة، فالاسم: "سلّم" وهو واحد السَّلالِم، و"حُمَّرٌ"، جمع "حُمَّرَةٍ"، وهو طائرٌ، والصفة قالوا: "زُمَّحٌ"، و"زُمَّلٌ"، فالزمّح بالزاي المعجمة والحاء غير المعجمة فهو اللئيم، وقيل: القصير الدميم، والزمّل: الجَبان. قال [من الرجز]: 945 - خُلِقْتُ غيرَ زُمَّلٍ ولا وَكَلْ ¬
فصل [الزيادة الواحدة بعد اللام]
وأمّا "قِنَّبٌ" فهو "فِعَّل"، ويكون اسمًا وصفة، فالاسم: "قنّب" وهو نبت معروف، و"إمَّرٌ" فهو ولد الضأْن، والصفة: "إمَّعَةٌ"، و"هِيَّخٌ"، فالإمّعة الذي لا رأي له ويتبع كلَّ قول، والهيّخ: الهائخ. فاعرفه. فصل [الزيادة الواحدة بعد اللام] قال صاحب الكتاب: وما بعد اللام في نحو علقى ومعزى وبهمى وسلمى وذكرى وحبلى ودقرى وشعبى ورعشن وفرسن وبلغن وقردد وشربب وعندد ورمدد ومعدّ وخدب وجبن وفلز. * * * قال الشارح: قد جاءت الزيادة منفردةً آخرًا كثيرًا. من ذلك الألف، وقد جاءت رابعة لا زيادةَ في الكلمة غيرها، وذلك على ضربَيْن: أحدهما أن تكون ملحِقة، والآخر أن تكون للتأنيث، وذلك؛ نحو "عَلْقى"، و"مِعْزى"، الألف فيهما زائدة للإلحاق، فـ"عَلْقَى" ملحق بـ"جَعْفر"، "ومعزي"، ملحق بـ"درهم". والعلقى: نبت، والواحدة عَلْقاة. ومثله "أَرْطًى"، وهو نبت أيضًا. و"بُهْمَى"، و"سَلْمَى"، و"ذِكْرَى" الألف فيها زائدة للتأنيث، والبهمى: نبت، وسلمى: أحد جَبَلي طَيّىء، وذِكْرَى: بمعنى الذِّكْر مصدرٌ، وألفه للتأنيث. وأمّا "ذِفْرَى" بالذال المعجمة، فهو من القَفا حيث يعرق من خلف الأذن، وألفُه زائدة للتأنيث، ولذلك لا ينصرف، وبعضهم ينوّنه، ويُلْحِقه بـ"درهم"، والأوّل الكثير. ومن ذلك "شُعَبَى"، بضمّ الشين وفتح العين، وهو موضع، وألفُه للتأنيث، ولذلك لا ينصرف. وقد زادوا النون آخِرًا مفردةً، قالوا: "رَعْشَنٌ" للذي يرتعِش، يقال: "رجلٌ رعشنٌ"، و"جمل رعشن" لاهتزازه في السير، فنونُه زائدة للإلحاق بـ "جعفر"؛ لأنه من الرَّعَش. ومثله "ضَيْفَنٌ"، وهو من لفظ "الضيْف" ومعناه. وقالوا: "فِرْسِن"، والفرسن للبعير كالحافر للدابّة، ونونه زائدة للإلحاق بـ"زِبْرِج"؛ لأنه من "فرست". وقالوا: "بِلَغْنٌ" أي: بليغ من البلاغة، بكسر الفاء وفتح العين. ومثله قولهم: "عِرَضْنٌ" للفرس تَعرّض في عَدْوها نَشاطًا، وناقةٌ عِرَضْنَةٌ. وقالوا: "قَرْدَدٌ" للأرض الغليظة، ويقال لها: "القُرْدُود" أيضًا، كرّرت فيها الدال للإلحاف بـ"جعفر"، ولذلك لم يدّغم المثلان فيها، ومثله "مَهْدَدُ" اسم امرأة. وقالوا: ¬
فصل [زيادة حرفين بينهما فاء الكلمة]
"سُرْدُدُ"، و"شُرْبُبٌ"، بضم الفاء واللام فـ"سردد" اسم موضع، و"شربب"، شجرٌ، وقيل: موضعٌ، والدال والباء زائدتان للإلحاق بـ"بُرْثُنٍ". وقالوا في الصفة: "قُعْدُدٌ"، وهو أقرب القبيلة إلى جَدّه، ومنهم من يفتحه، وذلك ممّا يقوّي بناء "جُخْدَب"، إذ لولا إرادة الإلحاق به لما فُكّ الادّغام. وقد جاء من ذلك "فِعْلِل" بكسر الفاء واللام، قالوا: "رَمادٌ رِمْدِدٌ"، أي: هالكٌ، ألحقوه بتكرير اللام بـ"زِبْرِج"، وهو قليل لم يأت إلَّا صفة. وأمّا "مَعَدّ" اسم قبيلة فإنّ ميمه أصلٌ، والدال الثانية زَائدة، لقولهم: "تَمَعْدَدَ"، إذا صار على خُلُق مَعَدٍّ، ولم يُرَد بالزيادة الإلحاق، ولذلك ادُّغما. ومثله "شَرَبَّةُ" وهو مكان. وقالوا: "خِدَبٌّ" مثل "هِجَفّ" وهو الضَّخْم الجافي. وقالوا: "جُبْنَةٌ، وجُبُنَّةٌ" لهذا المأكول، يقال: "جُبْنٌ"، و"جُبُنٌ"، وقد يضعّفونه. قال [من الرجز]: 946 - جُبُنَّةٌ من أَطْيَبِ الْجُبُنِّ ومثله "دُجُنٌّ"، والواحد "دُجُنَّةٌ"، وهو الغَيْم، وقالوا في الصفة: "قُمُدٌّ"، و"صُمُلٌّ"، أي شديدان. وقالوا: "فِلِزٌّ" لما ينفيه الكِير من خبَثِ ما يُذاب من جواهر الأرض، فالزاي الثانية زائدة. فهذه الأسماء كلها وقعت الزيادة فيها آخرًا بعد اللام، فاعرفه. فصل [زيادة حرفين بينهما فاء الكلمة] قال صاحب الكتاب: والزيادتان المفترقتان بينهما الفاء في نحو "أدابر" وأجادل وألنجج وألندد وزنهما أفنعل ومُقاتِل ومُقاتَل ومساجد وتناضب ويرامع. * * * قال الشارح: قد وقع في الأسماء ما فيه زيادتان فرق بينهما الفاء، وذلك في أسماء صالحة العِدّة. منها ما هو جمع، ومنها ما هو مفرد، فأمّا الجمع، فنحو "أجادِلَ"، و"مَساجِدَ"، و"تَناضِبَ"، و"يَرامِعَ"، فـ"أجادل" جمع "أَجْدَلٍ"، وهو الصقْر، فالهمزة في أوّله زائدة؛ لأنها كانت في أوّلِ واحدد مزيدة، والألف مزيدة للجمع، والجيم التي هي فاءٌ قد فصلت بين الزيادتين. ¬
وكذلك "مَساجِدُ" في جمع "مَسْجِدٍ"، فالميم زائدة, لأنه من "السُّجود"، والألف للجمع، والسين فاءٌ فاصلةٌ بينهما. و"تَناضِبُ"، جمع "تَنْضُبٍ"، وهو ضرب من الشجر، فالتاء فيه زائدة لِما تقدّم من مخالفة بنائه للأصول، والألف مزيدة للجمع، والنون التي هي فاءٌ، قد فصلت بين الزيادتين أيضًا. و"يرَامِعُ" جمع "يَرْمَع"، وهو الحجارة الرقاق، فالياء زائدة فيه لِما تقدّم من أنّها لا تكون أصلًا مع الثلاثة، والَألف زائدة للجمع، والراء فاصلة بينهما. وأمّا المفرد فقد جاء على "أُفاعِل" بضمّ الهمزة، قالوا: "أُجارِدُ" وهو موضع، والصفة "أُدابِرٌ"، و"أُباتِرٌ". وذكر سيبويه (¬1) "أدابر" في الأسماء، والصواب أنه صفة، يقال: "رجلٌ أُدابرٌ" للذي يقطع رَحِمَه، ولا يلوي على أحد، كأنّه يُعْرِض عنهم، ويُوَلّيهم دُبْرَه. ومثله: "أُباتِرٌ" للذي يقطع رحمه، فالألف فيه زائدة؛ لأنها لا تكون في بنات الثلاثة فصاعدًا إلَّا زائدة. وإذا ثبت زيادة الألف، كانت الهمزة في أوّله زائدة؛ لأنها لا تكون أصلاً في أوّل بنات الثلاثة، مع أنّ "أدابر"، و"أباتر" من "الدُّبْر" و"البَتْر"، وقد فصلت الفاء بين الزيادتين. وجاء أيضًا على "أَفَنْعَلِ"، قالوا في الاسم: "ألَنْجَجٌ"، وهو العُود يُتبخّر به، ويقال فيه: "يَلَنْجَجٌ"، و"ألَنْجُوجٌ"، وكذلك "ألَنْدَدٌ" اللام فاصلة بين الزيادتين التي هي الهمزة والنون، و"الألندد" بمعنى "الألَدِّ"، يقال: "خَصْمٌ ألنددٌ"، أي: خصيم، قال [من الكامل]: 947 - [يوفي على جذم الجذولِ كأَنَّهُ] ... خَصْمٌ أَبَرَّ على الْخُصُوم ألَنْدَدُ ¬
فصل [زيادة حرفين بينهما عين الكلمة]
فالنون فيهما زائدة؛ لأنها قد وقعت ثالثة ساكنة في بنات الخمسة، ولا تكون إذا كانت كذلك إلّا زائدة، نحو: "شَرَنْبَثٍ" (¬1) و"غَضنْفَرٍ"، وإذا ثبت زيادة النون؛ لم تكن الهمزة إلَّا زائدة, لأنها لا تكون في أوّل بنات الثلاثة إلَّا زائدة، وقد فُصل بين الزيادتين بالفاء التي هي اللام. وأمّا "مُقاتِل"، فهو اسم فاعل من "قَاتَلَ"، و"مُقاتَل"، مفعول منه، والميم والألف فيه زائدتان، والقاف التي هي فاء قد فصلت بينهما، ولا نعلمه جاء اسمًا. فصل [زيادة حرفين بينهما عين الكلمة] قال صاحب الكتاب: وبينهما العين في نحو عاقول وساباط وطومار وخيتام وديماس وتوراب وقيصوم. * * * قال الشارح: يريد أنه قد وقع في الأسماء ما فيه زيادتان، والعين فاصلة بينهما، فإحدى الزيادتين بعد الفاء، والأخرى بعد العين، وذلك سبعة أبنية، منها "فاعُول" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: نحو"عاقُول"، و"نامُوسٍ"، فالعاقُول: ما اعوجّ من نَهْر أو واد. والناموس: قُتْرَة الصائد التي يقعد فيها، والناموس صاحب سِرّ الإنسان، ومُوسَى كان يأتيه الناموس، وهو جَبْرائِلُ عليه السلام. وقالوا في الصفة: "حاطُومٌ" و"جارُوف"، والحاطوم: الْمُمْرِىء، يقال: "ماء حاطوم" أي: مُمْرِىء، والجارُوف: الموت العامّ، كأنه يجترف الأنفس والمال، وسيلٌ جارُوفٌ: ما يُمرّ عليه، والألف والواو فيهما زائدتان؛ لأنهما لا تكونان في بنات الثلاثة إلا كذلك، وقد وقعت الأولى التي هي الألف بعد الفاء التي هي العين، والزيادة الثانية بعد العين التي هي القاف، ففصلت العين بينهما. ومن ذلك "فاعال" قالوا: "ساباطٌ"، وهو كلّ سقيفة بين حائطَيْن تحتها طريقٌ، و"خاتام" لغة في "الخاتَم"، ولا نعلمه جاء وصفًا، فالألف فيهما زائدة، والباء والتاء اللتان هما عينان قد فصلتا بينهما. ومن ذلك "فُوعال"، قالوا: "طُومار"، و"سُولافُ"، فـ"طومار": واحد الطوامير وهي السِّجِلّات، و"سولاف": أرضٌ، ولم يأت وصفًا. ومن ذلك "فَيْعال"، ويكون اسمًا وصفة، فالاسم: "خَيْتامٌ"، و"دَيْماسٌ"، و"شَيْطانٌ"، والصفة "بَيْطارٌ"، و"غَيْداق"؛ فالخيتام: واحد "الخَواتِيم"، يقال: "خاتَمٌ"، ¬
و"خاتِمٌ"، بالفتح والكسر، و"خاتام"، و"خَيْتام"، كلّه بمعنى واحد، وقد فصلت التاء بين الزيادتين، وهما الياء والألف فيمن قال: "خَيْتام" وبين الألفيْن في "خاتام". وقالوا "دَيْمَاسٌ"، و"دِيماسٌ"، بالفتح والكسر، والديماس: سجنٌ كان للحَجّاج، وقد يقال للقَبر: "ديماس"، كأنّه من "دمستُه"، أي: دفنته، فالياء والألف زائدتان لذلك، وقد وقعت الميم التي هي عين فاصلة بينهما. وقد قالوا في جمعه: "دَيامِيسُ"، و"دَمامِيسُ". فمن قال: "دياميس" بالياء كانت الياء عنده غير منقلبة عن غيرها، والأقيس أن يكون جمع "دَيْماس" بالفتح. ومن قال: "دَمامِيسُ" كانت الياء في "ديماس" منقلبة من الميم الأولى، إذ الأصل "دِمّاسٌ" كما قالوا: "قِيراطٌ" في "قِرَّاط" لقولهم: "قَرارِيطُ". و"الشَّيْطان" معروف، والياء والألف زائدتان، وقد فصلت بينهما العين التي هي الطاء، وذلك على رأي من يأخذه من "شَطَنَ"، أي: بَعُدَ. و"البَيْطار" معروف، وهو مأخوذ من "بطرتُ"، أي: شققت، فالياء والألف زائدتان، وقد وقعت العين التي هي الطاء فاصلة بينهما. و"الغَيْداق": الرجل الكريم، وهو أيضًا من ولد الضَّبّ. وقالوا: "تَوْرابٌ" بمعنى التُّراب، ففصلوا بالراء التي هي عين بين الزائدتين، وفي "التراب" لغات، قالوا: "تُرابٌ"، و"تَوْراب"، و"تَوْرَبٌ"، و"تَيْرَبٌ"، و"تُرْبٌ"، و"ترْبَة"، و"تَرْباءُ". ومن ذلك "فَيْعُول"، وقد جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "قَيْصُومٌ"، و"حَيْزُوم"، والصفة "قَيُّومٌ، و"دَيْمُوم"، فالقيصوم: نبتٌ؛ والحيزوم: الصدر, لأنه موضع الحزام؛ والقَيُّوم: "فَيْعُول" من "قام بالأمر يقوم"، إذا تَكفّل به، وهو من صفات الله عزّ وجلّ، لأنه المتكفِّل بأرزاق العباد؛ و"الدَّيْمُوم": المَفازة التي لا ماء فيها. قال [من الرجز]: 948 - قد عَرِضَتْ دَوِّيَّةٌ دَيْمُومُ فاعرفه. ¬
فصل [زيادة حرفين بينهما لام الكلمة]
فصل [زيادة حرفين بينهما لام الكلمة] قال صاحب الكتاب: وبينهما اللام في نحو "قُصَيري", و"قرنبي", و"الجُلندي", و"بلنصي", و"حُباري", و"خفيدد", و"جرنبة". * * * قال الشارح: يريد أنه قد وقع الزائدان في الكلمة، وفصل بينهما اللام، فكان أحد الزائدين قبل اللام، والآخر بعده. فمن ذلك "القُصَيْرَى" للضلَع الآخرة الواهنة، وهو تصغير "القُصْرَى" مؤنّث "الأَقْصَر"، وقد فُصل بين الزيادتين باللام التي هي الراء، وهو بناء تصغير يكون في الأسماء والصفات، فالأسماء: "القُصَيْرَى"، و"الْعُلَّيْقَى"، والصفة: "حُبَيْلَى"، و"سُكَيْرَى". و"القَرَنبى" دويبة طويلة الرجلين شبيهة بالخنفساء أعظم منها، والنون فيه والألف زائدتان، فالنون فيه زائدة؛ لأنها وقعت ثالثة ساكنة فيما هو خمسة أحرف، والألف زائدة؛ لأنها لا تكون أصلاً مع الثلاثة فصاعدًا، والاسم ملحق فيهما بـ"سَفَرْجل". وهذا البناء كثير في الصفة، نحو: "سَبَنْتَى"، و"سَبَنْدَى"، وهو الجريء المُقْدِم من كل شيء، وَ"عَفَرْنَى" الشديد القويّ، الألفُ في ذلك كلّه زائدة للإلحاق، يدلّ على ذلك لحاقُ الهاء لها إذا أريد المؤنّث، نحو: "قَرَنْباةٍ"، و"سبنتاة"، و"عَفَرْناة". وقد اكتنف اللامَ في ذلك الزائدان النون والألف. وأمّا "الجُلَنْدَى"، بضمّ الجيم وفتح اللام، فاسمُ ملك عُمانَ، النون فيه زائدة؛ لأنه ليس في الأصول ما هو على زنة "سُفَرْجَل" بضم السين، والألفُ في آخره زائدة؛ لأنها لا تكون مع الثلاثة إلَّا كذلك. وقد فرقت بين الزائدين الدالُ التي هي لام. و"البَلَنْصَى": طيرٌ، واحده "بَلَصُوصٌ"، جاء الجمع على غير قياس، فالنون زائدة لسقوطها في "بلصوص"، والألفُ في آخره زائدة أيضًا؛ لأنها لا تكون مع بنات الثلاثة فصاعدًا أصلاً. وقد فرقت اللام التي هي الصاد بينهما. و"حُبَارى": طائر، والألفان شيه زائدتان، وقد فصل بينهما الراء التي هي لام الكلمة، وهذا البناء في الاسم كثير، نحو: "سُمانى" وهو طائر، و"شُكاعَى"، وهو نبت، والألف في آخره للتأنيث، ولذلك لا ينصرف في النكرة. وحكى أبو الحسن "شُكاعاة"، وحكى البغداديون: "سُماناة"، فعلى هذا يكون الألف لغير تأنيث، بل لتكثير الكلمة. ولا يكون هذا البناء وصفًا إلَّا أن يكون جمعًا، نحو: "كُسالَى"، و"سُكارَى". وأمّا "خَفَيْدَدٌ" فاسم الظليم، ووزنه "فَعَيْلَلٌ"، وهو السريع، ولا نعلمه جاء اسمًا، الياء فيه زائدة، وكذلك الدال الآخرة مكرّرة للإلحاق. و"الجَرَنْبَة"، العانة من حُمُر
فصل [زيادة حرفين بينهما فاء الكلمة وعينها]
الوحش، والكثير أيضًا، ويقال فيه: "جَرَبَّةٌ"، وقد فصلت اللام بين الزيادتَيْن، وهما النون والتاء، فاعرفه. فصل [زيادة حرفين بينهما فاءُ الكلمة وعينها] قال صاحب الكتاب: وبينهما الفاء والعين في نحو إعصار, وإخريط, وأسلوب, وإدرون, ومفتاح, ومضروب, ومنديل, ومغرود, وتمثال, وترداد, ويربوع, ويعضيد, وتنبيت, وتذنوب, وتنوط, وتُبُشِّر, وتهبِّط. * * * قال الشارح: يريد أنّه قد يُزاد في الكلمة زائدان: أحدهما أوّلًا قبل الفاء، والآخر قبل اللام، فيفرق بين الزائدين الفاء والعينُ، وذلك نحو من أربعة عشر بناء. الأول: "إفْعال" وذلك يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "إعْصارٌ"، و"إمْحاضٌ"، والصفة: "إسْكاف". فالإعصار: ريحٌ شديدة الهبوب تُثِير غبارًا إلى السماء، كأنه عمود نار، وقيل إن لم يكن فيها نارٌ، فليست إعصارًا، والألف زائدة؛ لأنها مع ثلاثة أحرف أصول. وإذا ثبت زيادة الألف، كانت الهمزة زائدة؛ لأنها لا تكون في أوّل بنات الثلاثة إلَّا كذلك، وقد فصل بين الزيادتين بالفاء والعين، و"الإمحاض" مصدرُ "أمحضتُه الحديثَ إمحاضًا"، إذا صدقته، والألف والهمزة زائدتان فيه؛ لأنه من "المَحْض"، وهو الخالص، و"الإسْكاف": النَّجّار، وكلّ صانع عند العرب إسكافٌ. الثاني: "إفْعِيلٌ"، ويكون اسمًا وصفة، فالاسم: "إخْرِيط"، وهو ضرب من الحَمْض، و"إكْلِيلٌ"، وهو تاج الملك، ومنزلٌ من منازل القمر. والصفة "إصْلِيتٌ"، و"إجْفِيلٌ". يقال: "سيفٌ إصليتٌ"، أي: صقيل، و"إجفيل": جَبان. و"ظليمٌ إجفيلٌ": يهرب من كل شيء. الثالث: "أُفْعُولٌ" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "أُسْلُوب"، و"أُخْدُودٌ"، والصفة: "أُمْلُودٌ"، و"أُسْكُوبٌ"، فالأسلُوب: واحد الأساليب، وهو الفُنون. والأخدود: الشقّ في الأرض، والجمع: أخادِيدُ. والأُمْلُود: الناعم. يقال: "غُصْنٌ أملود"، أي: ناعمٌ. والأسكوب: المنسكب، يقال: "ماء أسكوب" أي منسكب. قال الشاعر [من البسيط]: 949 - الطَّاعن الطَّعْنَةَ النَّجْلاء يَتْبَعُها ... مُثْعَنْجِرٌ من دَمِ الأَجوافِ أُسْكُوبُ ¬
الرابع: "إفْعَوْلٌ" بكسر الهمزة وفتح العين، جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "إدْرَوْنٌ" وهو الدَّرَن والدّنَس، يقال: "فلان يرجع إلى إدرونه"، أىِ: إلى أصله النَّجْس. وأمّا الصفة فـ"الإسْحَوْف"، و"الإزمول". والإسحوف: الواسع مَخْرَجِ الإحْلِيل، وهو مخرج البَوْل، ومخرج اللبن من الضَّرْع؛ والإزمول: الذي يزمُل، أي: يتبع غيره لضعفه. الخامس: "مِفْعال" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "مِنْقارٌ"، و"مفتاح"، والصفة: "مِضْحاك"، و"مِصْلاح". والمِنْقار: للطائر والنَّجّار. والْمِفْتاح: واحد الْمَفاتِيح، والمضحاك: الكثير الضَّحْك. والمصلاح: الكثير الصلاح، فالألف زائدة فيها؛ لأنها لا تكون أصلاً مع ذوات الثلاثة. وإذا ثبت زيادة الألف، كانت الميم زائدة؛ لأنها لا تكون أصلاً في أوّل بنات الثلاثة، وقد فُرق بينهما بالفاء والعين. السادس: "مَفْعُولٌ"، ويكون اسمًا وصفة، فالاسم: "مَعْقُولٌ" بمعنى العقل، و"محصول"، بمعنى الحاصل، وهو البقية، والصفة: "معرور"، و"مضروب". والمعرور من الإبل: الذي أصابه العَرُّ، وهو قروح كالقُوبَاء تخرج بالإبل في مشافرها، وقوائمها يسيل منها ماء أصفر، فتُكْوَى الصِّحاح لئلاّ تُعْدِيها المِراضُ. و"مضروب": مفعول من الضرب. السابع: "مِفْعِيل" قد جاء اسما وصفة، فالاسم: "مِنْدِيلٌ"، والصفة "مِسْكِينٌ". فالمنديل معروف، يقال منه: "تَندّل الرجل" إذا حمل المنديل، فالميم زائدة، والياء زائدة، وفصل بينهما بالنون والدال، وهما الفاء والعين. الثامن: "تِفْعالٌ" بكسر التاء، وقد جاء اسمًا وصفة، فالاسم "تِمْثال" للصُّورة، ويجمع على "تَماثِيل". وقالوا: "تِجْفاف"، و"تِبْيان". والتجفاف: واحد تَجافِيف الفرس، وهو ما يُلبس عند الحرب والزِينة. وتِبْيان: بمعنى البَيان، فمنهم من يجعله مصدرًا من قبيل الشاذّ؛ لأن المصادر إنّما تجيء على "تَفْعال" بالفتح، نحو: ¬
"التَّلْعاب"، و"التَّهْدار". ولم يجىء بالكسر إلَّا حرفان، وهما "تِبْيان"، و"تِلْقاء". وسيبويه (¬1) يجعلهما من الأسماء التي وُضعت موضع المصادر كـ"الغارة" وُضعت موضع "الإغارة". وقد حكى السيرافيّ منها ألفاظًا متعدّدة. وقالوا في الصفة من ذلك: "تِضْراب"، و"ضاربٌ"، وهي التي تضرب حالِبَها، فالتاء فيهنّ زائدة للاشتقاق، لأنه من المثل والجفاف والضرب، والألف زائدة لما ذكرناه من وقوعها مع ثلاثة أحرف أصول، وقد فصل بينهما بالفاء والعين. التاسع: "تَفْعالٌ" بفتح الأوّل، نحو: "التَّرْداد"، و"التهدار" بمعنى الردّ والهَدْر، وقد تقدّم الكلام عليه في المصادر. العاشر: "يَفْعُولٌ" جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "يَرْبُوعٌ"، و"يَعْقُوبٌ"، و"يَسْرُوعٌ"، والصفة: "يَحْمُومٌ"، و"يَرْقُوعٌ". واليربوع: دويبَّة شبيهة بالفأرة تستطيبها العرب، واليعقوبُ: ذكر القَبَج، واليسروع: دويبَّة حمراء تكون في البقل، ثمّ تسلَخ، فتكون كالفَراشة. واليَحْمُوم لونٌ كالكُمْتة، يقال: "فرسٌ يحمومٌ"، إذا كانت كُمْتَتُه إلى السواد، مأخوذ من الحُمّة، وهي السواد؛ واليرقوع: من صفات الجُوع، يقال: "جُوعٌ يَرْقُوعٌ"، أي: شديد. والحادي عشر: "يَفْعِيلٌ"، قالوا: "يَعْضِيدٌ"، و"يَقْطِينٌ"، فاليعضيد: بقلةٌ، وأحسبُها الطَّرْخُون؛ واليقطين: كلّ ما ليس له ساقٌ من النبات كالبِطَّيخ ونحوه، وفيهما زائدان، وهما الياءان، وقد فصل بينهما الفاء والعين. الثاني عشر: "تَفْعِيل" بالتاء المعجمة من فوق، قالوا في الاسم: "تمييز"، و"تنبيت"، ولم يأت صفة، وقد يكسر أوّله، والتاء والياء فيهما زائدتان، وقد فصل بينهما الفاء والعين. الثالث عشر: "تَفْعُولٌ" بالتاء المعجمة من فوق، قالوا: "تَعْضُوضٌ"، وهو ضرب من التمر أسود شديدُ الحلاوة يكثر بهَجَرَ، وقالوا: "تَذْنُوبٌ" للبُسْر يبدو به الإرطابُ من قِبَل ذَنَبه، يقال منه: "ذَنَّبَ البُسْرُ تَذْنِيبًا"، فالتاء في أوّله زائدة، وكذلك الواو، وقد فصلت الفاء والعين بينهما. الرابع عشر: قالوا: "تُبُشَّرٌ"، و"تُنَوِّط"، و"تهِبِّط"، على بناء ما لم يسمّ فاعله، ولم يأت صفة، فتُبُشِّرٌ: طائرٌ كأنّه سُمي بالفعل، وتُنَوِّط أيضًا طائر. قال الأصمعيّ: سمّي بذلك لأنه يُدلِّي خُيُوطًا من شجرة ثم يُفرِّخ فيها؛ وأمّا "تِهِبِّط"، فقيل إنه أرضٌ، وقال أبو عبيدة: هو طائر، فالتاء فيه زائدة، والشين الثانية من "تُبُشَّر" أيضًا زائدة، وقد فصلت الباء والشين الأولى بينهما، وكذلك أُخُتاها، فاعرفه. ¬
فصل [زيادة حرفين بينهما عين الكلمة ولامها]
فصل [زيادة حرفين بينهما عينُ الكلمة ولامها] قال صاحب الكتاب: وبينهما العين واللام في نحو: "خيزلي", و"خيزري", و"حنطأو". * * * قال الشارح: قد فُصل بالعين واللام بين الزيادتين، فمن ذلك "فَيْعَلَى"، قالوا: "خَيْزَلَى" وهو ضربٌ من المَشْي فيه تفكّكٌ كمشي النسوان. يُقال: "خَيْزَلَى"، و"خَيْزَرَى"، ومثله "الخَوْزَرَى"، قال [من الرجز]: 950 - والناشِئات الماشِيات الحَوْزَرَى ولا نعلمه جاء صفة، فالخيزلى فيه زائدان: الياء، والألف، وقد فصل بينهما العين واللام، ومثله "الخوزرى" الواو زائدة والألف، لأنهما لا تكونان أصلًا مع ثلاثة أحرف أُصول. وأمّا "حِنْطَأوٌ" فهو القصير، وقيل: العظيم البطن، و"الكِنْثَأْوُ" العظيم اللِّحْية، ولا نعلمه جاء اسمًا، فالنون فيهما زائدة؛ لقولهم في تصغيره: "حُطَيَّةٌ"، و"كثأتْ لحيتُه" إذا كثرت، قال [من الطويل]: 951 - وأنْتَ امْرُؤ قد كَثَأتْ لك لِحْيَةٌ ... كأنّك منها قاعدٌ جُوالقِ ¬
فصل [زيادة حرفين بينهما الفاء والعين واللام]
فصل [زيادة حرفين بينهما الفاء والعين واللام] قال صاحب الكتاب: وبينهما الفاء والعين واللام في نحو: "أجفلي", و"أترج", و"إرزب". * * * قال الشارح: يريد أن الزيادتين قد تقعان في الكلمة على تباعُدٍ بينهما، إحداهما في أوّل الكلمة قبل الفاء، والأُخرى آخرًا بعد اللام، فيفصل بينهما بالفاء والعين واللام، وذلك "أفْعَلَى". قالوا: "أجْفَلَى"، ولم يأتِ منه غيره، وهو اسم، وهو الدَّعْوة العامّة، يُقال: "دُعي فلان في النَّقَرَى لا في الجَفَلَى والأجفلى"، أي: في الخاصّة. قال الأصمعي: لا أعرفُ "الأجفلى" وحكاه غيره، فالألفُ الأخيرة في "الأجفلى" زائدة غير ذي شكّ؛ لأنها لا تكون أصلاً في بنات الثلاثة فصاعدًا، وإذا ثبتت زيادة الألف آخرًا، كانت الهمزة في أوّلها زائدة أيضًا؛ لأنها لا تكون في أوّل بنات الثلاثة إلَّا زائدة. ومن ذلك "أُفْعُلٌ" يكون اسمًا ولم يأتِ صفة، وذلك، نحو: "أُترُج"، و"أُسْكُفَّةٍ"، فأُتْرُجٌّ: الجيم الثانية زائدة لقولهم في معناه: "تُرُنْجٌ". وإذا كانت الجيم زائدة، كانت الهمزة أيضًا زائدة في أوّله؛ لأنها لا تكون في أوّل بنات الثلاثة إلَّا كذلك. والأسكفّةُ معروفة، وهي عَتَبَةُ الباب، والهمزة في أوّلها زائدة، والفاء الثانية. فأمّا تاء التأنيث فلا اعتدادَ بها في البناء، لأنها بمنزلة اسم ضُمّ إلى اسم. و"الإرْزَبّ" القصير، والباء الأخيرة زائدة فيه، كأنّها ألحقتْه بِـ"جِرْدَحْلٍ"، وكذلك "الإرْزَبَّةُ" من الحديد، الباء فيه زائدة لقولهم فيه: "مِرْزَبَةٌ" بالتخفيف. فصل [زيادة حرفين مجتمعين قبل الفاء] قال صاحب الكتاب: والمجتمعتان قبل الفاء في نحو منطلق ومسطيع ومهراق وإنقحل وإنقحر. * * * قال الشارح: قد تكون الزيادتان مجتمعتَيْن أوّلاً قبل الفاء وحشوًا، وآخِرًا؛ فأمّا اجتماعهما قبل الفاء، فيكون ذلك فيما كان جاريًا على الفعل من نحو "منطلق"، ¬
فصل [زيادة حرفين مجتمعين بين الفاء والعين]
و"منكسر"، الميم والنون في أوّلهما زائدتان. وقالوا: "مُسْطِيعٌ" من "اسْطاعَ، يَسْطِيعُ"، فالميم والسين زائدتان، فهو جارٍ على الفعل. وقالوا: "مُهْراقٌ" الميم والهاء زائدتان، لأنه من "أهْراقَ، يُهْرِيقُ". ومن قال: "هَراقَ، يُهَرِيقُ" كانت الهاء عنده بدلًا من همزة "أراقَ". وقد جاءت الزيادتان في أوّلِ غيرِ الجاري على الفعل، وهو قليل جدًا في لفظتَيْن، أو ثلاثٍ لا غير، قالوا: "رجلٌ إنْقَحْلٌ"، أي: مُسِنٌ يابسُ الجِلْد على العَظْم من قولهم: "قَحَلَ الشيء يقحَل" إذا يبس، فالهمزة والنون في أوّله زائدتان لِما ذكرناه من الاشتقاق، ولقولهم في معناه: "قَحْلٌ" بفتح القاف، وسكون الحاء. وقالوا رجلٌ: "إنْزَهْوٌ"، للمُزْدَهَى، فالهمزة والنون في أوّله زائدتان, لأنه من "الزَّهْو"، وهو الفَخْر. وقالوا: "إنْفَخْرٌ" وهو في معنى "إنْزَهْوٍ"، فاعرفه. فصل [زيادة حرفين مجتمعين بين الفاء والعين] قال صاحب الكتاب: وبين الفاء والعين في نحو حواجز وغيالم وجنادب ودواسر وصيهم. * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا: إن الزيادتين قد تقع حَشْوًا، وذلك بعد الفاء فيما كان جمعًا، نحوَ: "فَواعِلَ" في الاسم والصفة، فالاسم: "حاجزٌ"، و"حَواجرُ"، و"حائِط"، و"حَوائِطُ"، والصفة: "دَوْسَرٌ"، و"دَواسِرُ"، وهو الجمل الضَّخْم، و"ضارِبَةٌ"، و"ضَوارِبُ". ومن ذلك "فَناعِلُ" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "جُنْدبٌ" و"جَنادِبُ"، و"خْنْفَسٌ"، و"خَنافِسُ"، والصفة: "عَنْبَسٌ"، و"عَنابِسُ" وهو من صفات الأسد، كأنه وُصف بالعُبُوس. و"عَنْسَلٌ"، و"عَناسِلُ" للناقة السريعة، وهو من "العَسَلان" لضرب من العَدْو. ومن ذلك "فَياعِلُ" فيهما، فالاسم "غَيْلَمٌ"، و"غَيالِمُ" وهو السلَحْفاة، و"عَيْطَلٌ"، و"عَياطِلُ"، وعيطل اسم ناقة معروفة، والصفة: "صَيْرَفٌ"، و"صَيارِفُ"، و"عَيْطَلٌ"، و"عَياطِلُ"، وهِي الطويلة العُنُق من النساء والنوق والخيل. فأمّا "فَواعِلُ" فإن الواو فيه زائدة؛ لأنها بدلٌ من ألف "فاعِلٍ"، وهي زائدة، والألف بعدها مزيدة للجمع. وأمّا "فَناعِلُ"، نحو: "جَنادِب"، و"عَنابِس"، فالنون فيه زائدة، كأنّها ألحقته بـ "جُخْدُبٍ"، والألف مزيدة للجمع.
فصل [زيادة حرفين مجتمعين بين العين واللام]
وأمّا "فَياعِلُ"، فالياء فيه زائدة؛ لأنها زائدة في الواحد، نحوِ: "غَيْلَم"، و"عَيْطَل"، وَ"صَيْرَف"، لأن الياء لا تكون أصلاً في بنات الثلاثة، فهي زائدة للإلحاق بـ"جَحْفَر"، والألف مزيدة للجمع، وأمّا "صِيَّهْمٌ"، فصفةٌ ولم يأتِ اسمًا، وهو الرافع رأسَه، والياءان زائدتان بعد الفاء وقبل العين. فصل [زيادة حرفين مجتمعين بين العين واللام] قال صاحب الكتاب: وبين العين واللام في نحو كلاء وخطاف وحناء وجلواخ وجريال وعضواد وهبيخ وكديون وبطيخ وقبيط وقيّام وصوام وعقنقل وعثوثل وعجول وسبوح ومريق وحطائط ودلامص. * * * قال الشارح: قد فصل بالزيادة بين العين واللام، وذلك في عدّةِ أبنية، منها: "فَعَّالٌ" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "كَلاّءٌ"، والصفة: "شَرّابٌ"، و"لَبّاسٌ". فالكلاّء مشدّدٌ ممدودٌ موضع بالبصرة، كأنّهم يَكْلَؤون سُفُنَهم هناك، أي: يحفظونها. قال سيبويه (¬1) هو"فَعّالٌ" من كَلأ، والمعنى أن الموضع يدفع الريح عن السفن ويحفظها. ومنهم من يجعلها "فَعْلاء"، فلا يصرفها من "كَلَّ" إذا أعْيَا، لأنها تُرْفَأ فيها السفنُ، كأنّها تكِلّ فيها من الجَرْي. ونحوُه "المِيناء" بالمدّ والقصر، وهو"مِفْعالٌ" أو"مِفْعَلٌ" من "الوَنْي" وهو الفُتور، وصاحب هذا الكتاب اختار الأوّل، فالألف زائدة والعين الثانية، وهي اللام، لأن التضعيف يكون بتكرير الحرف الأوّل. ومن ذلك "فُعّالٌ" بضمّ الفاء وتضعيف العين، ويكون اسمًا وصفة، فالاسم: "خُطّاف"، و"كُلاّب"، والصفة: "حُسّانٌ"، و"عُوّارٌ"، فالخطّاف: طائر صغير، والكُلاّب والكَلوب: المِنْشال، فالطاء الأخيرة من "الخطّاف" والألف زائدتان, لأنه من الخطف، وكذلك اللام الثانية والألف في "كُلاّب" زائدتان، وقد فُصل بهما بين العين واللام. ومن ذلك "فِعّالٌ" بكسر الفاء وتضعيف العين، قالوا: "حِنّاءٌ" و"قِثّاءٌ"، ولا نعلمه صفةً، فالحِنّاء النون الثانية والألف زائدتان؛ لأنه من التَّحْنِئة، وهو خِضاب اليَد، وكذلك الثاء الثانية من "قِثّاءٍ"؛ لقولهم: "أرضٌ مَقْثَأةٌ". ومن ذلك "فِعْوال" جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "قِرْواشٌ"، و"عِصْوادٌ"، والصفة: "جِلْواخٌ"، و"قِرْواحٌ"، فالقرواش والعصواد بالصاد غير المعجمة: الأمرُ العظيم، هكذا ¬
جاء في ديوان الأدب بالكسر. وذكر السيرافىّ أنّه جاء بالضم والكسر، وكيف ما كان فالواو والألف زائدتان. والجِلْواخ: الوادي الواسع، والقِرْواح: الناقة الطويلة القوائم. وقيل لبعض العرب: ما القرواح: قال التي كأنّها تمشي على أرْماحٍ، وهو أيضًا الفَضاء البارز للشمس الذي لا ساتِرَ له. ومن ذلك "فِعْيال" في الاسم، نحو: "جِرْيالٍ"، و"كِرْياسٍ"، فالجِرْيال الذهب، وهو أيضًا صِبْغٌ أحمرُ، ولا نعلمه صفة. والكرياس: واحد الكَرايِيس، وهو الكَنِيف في أعلى السطْح. ومن ذلك "فَعَيَّلٌ"، قالوا: "هَبَيَّخٌ" بفتح الهاء والباء والياء المشدّدة، وهو صفة، يُقال: "غلامٌ هبيّخٌ"، أي: سمين، مأخوذ من "الهَبَخ"، وهو الوَرَم. ومن ذلك "فِعْيَوْل" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "كِدْيَوْنٌ" وهو عَكَرُ الزيت، والصفة: "عِذْيَوْطٌ" وهو الذي يُحْدِث عند الجِماع. ومن ذلك "فِعَّيلٌ" بكسر الفاء وتشديد العين، يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "بِطَّيخٌ" لهذا المعروف، و"خِرَّيتٌ"، بمعنى الدَّلِيل. والصفة:"سِكِّيرٌ"، و"شِرِّيبٌ"، و"خِمِّيرٌ"، فالياء والطاء الثانية زائدتان لقولهم: "مَبْطَخَةٌ" لموضع البطّيخ، وكذلك الياء والراء الثانية من "خرّيت" زائدتان؛ لأنه مأخوذ من "خَرَتَ الأرضَ" إذا عرفها، وكذلك هي في "السكّير"، و"الشرّيب"، و"الخمّير"؛ لأنه من السَّكَر والشُّرْب والخَمر. ومن ذلك "فُعَّيْل" بضمّ الفاء وتشديد العين وفتحها، جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "عُلَّيْقٌ"، و"قُبَّيْطُ"، والصفة: "زُمَّيْلٌ"، و"سُكَّيْتٌ"، فالعلّيق: شجرٌ له شَوْكٌ وثمرٌ يُشْبِه الفِرْصادَ، والقُبَّيْطُ: ضرب من الحَلْوَى، والزُّمَّيْل: الضعيف، والسُّكَّيْتُ: الذي يجيء من الخيل في الحَلْبَة من العشر المعدودات آخِرًا، وقد يخفّف، فيقال: "سُكَيْتٌ" مثل "كُمَيْت"، وهو الفِسْكِل. وما جاء بعد ذلك فلا يُعْتَدّ به. و"القَيّام" بمعنى "القَيّوم" وقُرىء: {الْحَيُّ الْقَيَّامُ} (¬1).وذكرُه في هذا الفصل كالغلط، لأن هذا الفصل يتضمّن اجتماع الزائدَيْن، وأن يفصلا بين العين واللام. و"القَيّامُ": "فَيْعالٌ"، أصله: "قَيْوامٌ"، فلمّا اجتمعت الواو والياء، وسبق الأوّل منهما بالسكون؛ قلبوا الواو ياءً، وادّغموا الياء في الياء. والصوابُ: "القَوّام" بواو مشدّدة على زنة "فَعّالٍ"، إلَّا أنّه كان يصيركـ "الكَلاّء"، وقد ذُكر هذا البناء. ومن ذلك "فُعّال" وقد جاء مفردًا اسمًا، قالوا: "حُماضٌ"، و"سُمّاق"، وفي ¬
فصل [زيادة حرفين مجتمعين بعد اللام]
الصفات، نحو: "صُوّام"، و"قُوّام"، وقد فصل الزائدان بين العين واللام. ومن ذلك "فَعَنْعَلٌ" قالوا: "عَقَنْقَلٌ"، و"سَجَنْجَلٌ"، والعقنقل: رملٌ متراكِبٌ كالجبل، والنون فيه زائدة لوقوعها ثالثةّ في الخماسيّ، والقاف بعدها زائدة مكرّرة للإلحاق بـ"سَفَرْجَلٍ"، وكذلك "سجنجل" وهي المِرْآة. ومن ذلك "فَعَوْعَلٌ"، قالوا: "رجل عَثَوْثَلٌ وعِثْوَلٌ"، الواو والثاء الثانية زائدتان، والعثوثل: الفَدْم العَيِيّ المسترخي. ومن ذلك "فِعَّوْلٌ"، يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "عِجَّوْلٌ"، و"عَجاجِيلُ"، ومثله "سِنَّوْرٌ"، و"قِلَّوْبٌ"، للذئب، والصفة: "خِنَّوْصٌ" لولد الخِنْزِير، و"سِرَّوْطٌ"، فالجيم الثانية والواو هما الزائدتان لقولهم في معناه "عَجِلٌ". ومن ذلك "فُعُّولٌ"، قالوا: "سُبُّوحٌ"، و"قُدُّوسٌ"، وهما اسمان من أسماء الله تعالى، والفتح جائرٌ فيهما وليس في الأسماء ما هو على "فُعُّولٍ" بالضّم، إلَّا "سبّوح"، و"قدّوس"، فإنّ الضمّ فيهما أكثر، وما عداهما فمفتوحٌ. ومن ذلك "فُعِّيلٌ"، قالوا: "مُرِّيقٌ" بضمّ الميم وكسر الراء وتشديدها، وهو الإحْرِيض، أي: العُصْفُر. وقالوا في الصفة: "كوكبٌ دُرِّيءٌ ودِرِّيءٌ"، والضمُّ أضعف اللغات، وهو"فُعيلٌ" مثل "مُرِّيق"،إلَّا أن "مرّيقًا" اسم، و"دِرّيء"، صفة، وهو مأخوذ من "الدَّرْء"، وهو الدفع، كأنَّ ضَوْءه متتابعٌ يدفع بعضه بعضًا. ومن ذلك "فُعائِل"، قالوا: "حُطائِط"، وهو صفة بمعنى الصغير، كأنّه من الشيء المحطوط، ومثله: "جُرائِض"، للثقيل، كأنّه من "الجَرَض"، وهو الغَصّ يَغُصّ به كلّ من يراه، فالألف والهمزة زائدتان، وقد فصلتا بين العين واللام. ومن ذلك: "فُعامِل"، قالوا: "دِرْعٌ دُلامِص"، فهو صفة بمعنى البرّاق، فالميم زائدة لقولهم في معناه: "دِلاصٌ"، فسقوط الميم دليل على أنّها زائدة هناك، والألف زائدة غير ذي شكّ؛ لكونها مع ثلاثة أحرف أُصول، وقد فصلت الزيادتان بين العين واللام. وقد أجاز المازنيّ أن تكون الميم أصلًا، ويكون "دلاص" من معنَى "دلامص"، كـ"سَبِطٍ"، و"سِبَطْرٍ" وذلك لقلّة زيادة الميم غير أوّل، فاعرفه. فصل [زيادة حرفين مجتمعين بعد اللام] قال صاحب الكتاب: وبعد اللام في نحو صهباء وطرفاء وقوباء وعلباء ورحضاء وسيراء وجفناء وسعدان وكروان وعثمان وسرحان وظربان والسبعان والسلطان وعرضني ودفقي وهبرية,
وسنبتة وقرنوة وعنصوة وجبروت وفسطاط وجلباب وحلتيت وصمحمح وذُرحرح. * * * قال الشارح: قد وقعت الزيادتان مجتمعتَيْن بعد اللام، وذلك في أبنية. منها "فَعْلاءُ" وذلك اسم وصفة، فالاسم: "ضَهْياءُ"، و"طَرْفاءُ"، والصفة: "حمراء"، و"صفراء"؛ والضهياء: الأرض التي لا نبات فيها، وقد تكون صفة بمعنى المرأة التي لا ينبت لها ثَدْيٌ، وقيل: التي لا تَحِيض. وفيها لغتان: القصر والمدّ، قالوا: "ضَهْيَأٌ" مقصورٌ، و"ضَهْياءُ"، ممدودٌ، فمَن مدّ كانت الهمزة عنده زائدة للتأنيث، لا محالةَ، ولذلك لا تنصرف، ووزنُها عنده "فَعْلاءُ". وعلى ذلك يكون قد وقع في آخرها زائدان بعد اللام، وهما الهمزة للتأنيث، والألف للمدّ قبلها. ومن قصر، وقال: "ضَهْيَأةٌ" فالهمزة عنده أيضًا زائدة، والياء أصلٌ، والكلمة مصروفة، ووزنُها "فَعْلأةُ"؛ لأنّها قد انحذفت في لغةِ من مدّ، فكانت زائدة لذلك. وأجاز أبو إسحاق أن تكون هذه الهمزة أصلًا والياء زائدة، وأنّ وزن الكلمة "فَعْيَلَةُ"، كأنّه اشتقّها من قولهم: "ضاهَأْتُ"، وذلك أنّه يُقال: "ضاهأتُ" بالهمزة، و"ضاهَيْت" غير مهموز، أي: ماثلت. قال: والضَّهْياء التي لا تحيض، وقيل: التي لا ثدي لها، وفي كلا الحالَيْن ضاهتِ الرجالَ، وهو مذهب حسن من الاشتقاق، إلَّا أنّه ليس في الكلام "فَعْيَلٌ" بفتح الفاء، إنّما هو"فِعْيَل" بكسرها. والطَّرْفاء: ضربٌ من الشجر، الواحدةُ طَرَفَةٌ، وليس بتكسير، إنّما هو اسم جنس كـ"قَصْباءَ". قال الأصمعيّ: هو جمع، والألف والهمزة بعده زائدتان، ولذلك لا ينصرف. ومنها "فُعْلاء". قالوا: "القُوباء": و"الخُشّاء"، فالقوباء: داءٌ معروف، ويُداوَى بالريق، وفيه لغتان: "قُوَباءُ" بالفتح، و"قُوباءٌ" بإسكان الواو، فمَن فتح فهمزته للتأنيث، ولذلك لا ينصرف، فهو كـ"الرُّحَضاء"، و"العُشَراء". ومَن أسكن الواو صرفه، وكانت الهمزة عنده زائدة للإلحاق بـ"قُرْطاسٍ". والخُشّاء: العَظْم الناتىء وراء الأذن، قال ابن السِّكيت: وليس في الكلام "فُعْلاء" بضمّ الفاء وسكون العين إلَّا هذان الحرفان. ومن ذلك "فِعْلاءُ"، نحو: "عِلْباءٍ" و"حِرْباءٍ" ولا نعلمه جاء وصفًا، فالعلباء عَصَب العنق، وهما عِلْباوان بينهما مَنْبِت العُرْف، وهو ملحق بـ"سِرْداحٍ"، والسرداح: الناقة الكثيرة اللحم، وحِرْباءٌ: دويبّة معروفة. ومن ذلك "فُعَلاء" بضمّ الفاء وفتح العين، ويكون اسمًا وصفة، فالاسم:
"رُحَضاءُ"، و"قُوَباءُ"، والصفة: "عُشَراءُ"، و"نُفَساءُ". والرحضاء: العَرَق في أثر الحُمى، وهذا البناء في الجمع كثير، نحو: "خُلَفاء"، و"ظرفاء"، و"شرفاء". ومن ذلك "فِعّلاء" بكسر الفاء وفتح العين، قالوا في الاسم: "السِّيَراء"، و"الخِيلاء"، ولم يأتِ صفة، والسيراء: بُرْدٌ فيه خطوطٌ. ومن ذلك "فَعَلاء" بفتح الفاء والعين، قالوا: "جَنَفاءُ"، و"قَرَماء"، فالجنفاء: ماءٌ لمُعاوية بن عامر. قال الشاعر [من الوافر]: 952 - رحلتُ إليك من جَنَفاءَ حتّى ... أنَخْتُ فِناءَ بَيْتِك بالمَطالِ وقرماء: بالقاف وتحريك العين موضع. والجوهريّ (¬1) ذكره بالفاء، وهو مُصحَّفٌ، إنّما هو بالقاف، وقالوا في الصفة: "الثأداء" بمعنى الأمَة، يُقال: "ثَأَداء"، و"دَأَثاء"، مقلوب منه. قال ابن السكّيت: ليس في الكلام "فَعَلاء" بالتحريك إلَّا حرف واحد وهو "الدَّأثاء" يعني في الصفات، فهذه الأسماءُ الألفان في آخرها زائدان. ومِمّا زيد في آخرها زائدان "فَعْلان" بفتح الفاء وسكون العين في الاسم والصفة، فالاسم: "السَّعْدان"، و"الضَّمْران"، والصفة: "الرَّيّان" و"العَطْشان"، فالسعدان: نبتٌ له شَوْك، وهو من أفضل مَراعي الإبل، وفي المثل: "مَرْعى ولا كالسَّعْدان" (¬2)، وضَمْرانٌ: بالضاد المعجمة نبتٌ أيضًا. ومن ذلك "فَعَلان" بفتح الفاء والعين فيهما، فالاسم: "كَرَوانٌ"، و"وَرَشانٌ"، ¬
والصفة: "صَميانٌ"، و"قطوان". فالكروان، والورشان: طائران؛ والصميان: الشجاع الجرِيء، يُقال: "رجلٌ صميان"، أي: شجاع جريء، والقطوان: البَطِيء في مَشْيه مع نَشاط، يُقال: "قطا يقطو فهو قطوان". ومن ذلك "فُعْلان" بضّم الفاء وسكون العين في الاسم والصفة، فالاسم نحو: "عُثمانَ"، و"ذُبْيانَ"، وهو كثير في الجمع، نحوِ "جُرْبانٍ"، و"قُضْبانٍ" تكسيرِ "جَرِيبِ"، و"قَضِيبٍ". والصفة، نحو: "عُرْيانٍ"، و"خُمْصانٍ".يُقال: "رجلٌ خُمْصانٌ"، و"امرأةٌ خُمْصانةٌ". ومن ذلك "فَعِلان" بفتح الفاء وكسر العين، نحو: "ظَرِبانٍ"، وهي في دويبّة مُنْتِنة الريح؛ و"القَطِران"، ولم يأتِ صفةً. ومن ذلك "فَعُلان" بفتح الفاء وضمّ العين، وذلك قليل، قالوا: "السَّبُعان" اسم مكان، و"الشَّبُهان"، وهو شجر من العِضاه، فهو اسم، وقيل: الثُّمام من الرَّياحِين، فعلى هذا يكون صفة، والفتح فيه أكثر. ومن ذلك "فِعِلّان" بتضعيف اللام، قالوا: "سِلِطّانٌ" ولم يأت غيره، فهذا قد اجتمع في آخره ثلاث زوائد: الطاء الثانية المضاعفة، والألف، والنون. ومن ذلك "فِعَلْنَى". قالوا: "ناقة عِرَضْنَى" للتي من عادتها أن تمشي معارِضةً للنشاط. يُقال: "عِرَضْنى"، و"عِرَضْنَةٌ"، وهو اسم، والنون والألف فيه زائدة, لأنه من الإعراض، فالنون للإلحاق بـ"سِبَطْرٍ" والألف للبناء، ولذلك تقول في التصغير: "عُرَيْضِنٌ"، فتثبت النون وتحذف الألف؛ لأنها ليست للإلحاق. ومن ذلك "فِعِلَّى" بكسر الفاء والعين فيهما، فالاسم: "زِمِكَّى"، و"زِمِجَّى" لذنب الطائر، والصفة: "كِمِرَّى"، وهو: العظيمُ الكَمَرة. ومن ذلك "فِعَلَّى" بكسر الفاء وفتح العين، قالوا: "دِفَقَّى"، وهو ضرب من المشي بسرعة، يقال: "مشى الدفقّى"، وهو اسم، ولا نعلمه صفة. ومن ذلك "فِعْلِيَةُ" بكسر الفاء وسكون العين، قالوا: "هِبْرِيَةٌ"، و"حِذْرِيَةٌ"، في الاسم، وقالوا في الصفة: "عِفْرِيَةٌ"، و"زِبْنِيَةٌ". والهبرية: شيء يقع في الشعْر كالنُّخالة، يُقال: "في رأسه هبريةٌ". والحذرية: مكان غليظ. والعفرية: الداهية. يُقال: "شيطانٌ عفريةٌ". والزبنية: واحد الزَّبانية، وهو الشديد، وفي آخرها زائدان، وهما الياء والتاء، فالياء زائدة لأنها مع ثلاثة أحرف أُصول، والتاء زائدة للتأنيث. وإنّما اعتُدّ بتاء التأنيث، وإن كانت تاء التأنيث ليست من البناء في شيء, لأن التاء لازمة لـ"فِعْلِيَة" كما لزمتْ "فَعالِيَةَ"،كـ"كَراهِيَةٍ"، و"رَفاهِيَةٍ". ومن ذلك "فَعْلَتَةُ". قالوا: "مضتّ سَنْبَتَةٌ من الدهر"، أي: قطعةٌ منه، فهو اسم،
ولم يأتِ صفة، وفي آخره زائدان، وهما التاءان: الأولى من بناء الكلمة، والثانية للتأنيث. والذي يدلّ على زيادة الأُولى قولهم في معناه: "سَنْبٌ"، و"سَنْبَةٌ"، مثل "تمر"، و"تمرة"، فسقوط التاء من "سنب"، و"سنبة"، قاطعٌ على زيادتها في "سنبتة". ومن ذلك "فَعْلُوَةُ". قالوا: "تَرْقُوَةٌ"، و"قَرْنُوَةٌ"، فالترقوة: العَظْم الناتىء بين ثُغْرة النَّحْر وبين العاتِق. والقرنوة: نبت له ورق أغْبَرُ شبيهٌ بالحَنْدَقُوق يُدْبَغ به، يُقال منه: "سِقاءٌ قَرْنَويّ" إذا دُبغ بالقرنوة، فالواو زائدة, لأنها لا تكون أصلًا مع بنات الثلاثة، وتاءُ التأنيث زائدة، لا محالة. ومن ذلك "فُعْلُوَة". قالوا: "عُنْصُوَةٌ"، و"عنفوة"، ولم يأتِ صفة. فالعنصوة: الخُصْلة من الشَّعْر، والجمع: عَناصٍ، يُقال: "في رِياض بني فلان عناصٍ من النبت" أي: قليل متفرّق، والهاء لازمة لهذه الواو، لا تُفارِقها كما كانت لازمة للياء في "حِذْرِيَةٍ". ومن ذلك "فَعَلُوت" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "جَبَرُوتٌ"، و"رَهَبُوتٌ"، و"رَحَمُوتٌ". والصفة "الحَلَبُوت"، و"التَّرَبُوت"، فالرحموت والرهبوت مصدران بمعنى الرَّحْمة والرَّهْبة. والجَبَرُوت: التجبّر. والحلبوت: الأسود، يُقال: "أسودُ حلبوتٌ"، أي: حالِكٌ. والتربوت: الذَّلول، يُقال: "جمل تربوت"، و"ناقة تربوت" الذكرُ والأنثى فيه سواءٌ، والواو والتاء في ذلك كلّه زائدة. أمّا الرحموت والرهبوت فللاشتقاق؛ وأمّا قولهم: "أسود حلبوت"، فالتاء زائدة لقولهم في معناه: "حُلْبُوبٌ"، أي: حالك، وهذا ثَبَتٌ في زيادة التاء، والواوُ أيضًا زائدة؛ لأنها لا تكون أصلًا في بنات الثلاثة فصاعدًا. ومن ذلك "فُعْلالٌ"، قالوا: "قُرْطاطٌ"، و"فُسْطاطٌ". قال سيبويه (¬1): وهو قليل في الكلام، ولا نعلمه جاء صفة، فالقرطاط: البَرْدَعَة التي تكون تحت الرَّحْل، ويُقال: "قُرْطانٌ" بالنون أيضًا. والفسطاط: البيت من الشَّعْر، يُقال: "فُسطاط"، و"فِسطاط"، والطاء زائدة مكرّرة، وكذلك الألف قبلها، وهو ملحق بـ"قُرْطاس"، و"حُمْلاق". ومن ذلك "فِعْلال" في الاسم والصفة، فالاسم: "جِلْبابٌ"، وهو المِلْحَفة. والصفة: "شِمْلالٌ" للناقة السريعة، يُقال: "ناقة شِمْلال، وشِمْلِيل" أي: سريعة. ومن ذلك "فِعْلِيل" في الاسم والصفة، فالاسم "حِلْتِيتٌ" والصفة "صِنْدِيدٌ" و"شِمْلِيلٌ"، فالحلتيت: ضربٌ من الصَّمْغ. ومن ذلك "فَعَلْعَلٌ" في الاسم والصفة، فالاسم: "الحَبَرْبَرُ"، و"التَّبَرْبَرُ"، وهما بمعنى واحد. حكى سيبويه: "ما أصاب منه حبربرًا، ولا تبربرًا ولاحَوَرْوَرًا" (¬2)،أي: ¬
فصل [زيادة ثلاثة أحرف مفترقة]
شيئًا. ويُقال: "ما في الذي تحدّثنا به حبربرٌ"، أي: شيءٌ. والصفة: "صَمَحْمَحٌ"، و"دَمَكْمَكٌ". فالصمحمح: الشديد، وقيل: القصير الغليظ؛ والدمكمك: الشديد، كرّر فيهما العين واللام، وأنكر الفرّاء أن يكون على "فَعَلْعَل"، وقال: هو فَعَلَّلٌ، مثل "سَفرَجَلٍ"، قال: ولو جاز أن يُقال: إنه "فَعَلْعَل" بتكرير لفظ العين واللام؛ لجاز أن يكون وزن "صَرْصَر"، "فَعْفَع" بتكرير لفظ الفاء والعين. والصواب الأوّل، وهو رأي سيبويه، وذلك أن الحرف لا يُحْكَم بزيادته إلَّا بزيادته بعد إحراز ثلاثة أحرف أُصول، و"صرصرٌ" وأشابهه لم يوجد فيه ذلك. ومن ذلك "فُعَلْعَلٌ" في الاسم، قالوا: "ذُرَحْرَحٌ"، و"جُلَعْلع"، ولا نعلمه صفة، فالذرحرح: واحد الذَّارارِيح، والجُلَعْلَع: الجُعَل، فهذه الأسماء كلّها في آخرها زائدان، فاعرفه. فصل [زيادة ثلاثة أحرف مفترقة] قال صاحب الكتاب: والثلاث المتفرقة في نحو: "إهجيري", و"مخاريق", و"تماثيل", و"يرابيع". * * * قال الشارح: قد زيد في الاسم ثلاث زوائد، فيكون الاسم بها على ستّة أحرف، وتلك الزوائد تكون مفترقة ومجتمعة. فالمفترقة تكون في الجمع والمفرد، فالمفرد: "إفْعِيلَى". قالوا: "إهْجِيرَى"، و"إهْجِيراه": دَأْبُه وعادته، و"الإجْرِيّاءُ" كذلك العادة، وهو من "الجَرْي"، فالهمزة زائدة، والياء الأُولى المدّغمة والألف الأخيرة. وأمّا الجمع، فمن ذلك "مَفاعِيلُ" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "مَفاتِيحُ"، و"مَخارِيقُ"، والمخاريق: جمع مِخْراقٍ، وهو المنديل يُلَفّ ليُضْرَب به، وفي الحديث: "البَرْقُ مخاريقُ الملائكة" (¬1). وقالوا في الصفة: "مَحاضِيرُ"، و"مَناسِيبُ". والمحاضير: جمع مِحْضِيرٍ، وهو الشديد العَدْوِ من الخيل، والمناسيب: جمع مَنْسُوبٍ، فالميم في أوّلها زائدة؛ لأنها في الواحد كذلك، والألف مزيدة للجمع، والياء الأخيرة زائدة, لأنها بدل من ألف زائدة. ومن ذلك "تَفاعِيلُ"، وهو بناء جمع أيضًا، قالوا في الاسم: "تَجافِيفُ"، و"تَماثِيلُ"، في جمع "تِجْفافٍ"، و"تِمْثالٍ" بمعنى الصورة، ويكون على "يَفاعِيلَ" في الاسم والصفة، فالاسم: "يَرابِيعُ" جمع "يَرْبُوع"، وهي دويبّة، و"يَعاقِيبُ" جمع ¬
فصل [زيادة ثلاثة أحرف مجتمعة قبل الفاء]
"يَعْقوبٍ"، وهو ذكر القَبَج. والصفة: "يحاميم"، و"يخاضير". فاليحاميم: جمع يَحْمُومٍ، وهو الدخان يصفون به إذا أرادوا الحُلْكَة. واليخاضير: جمع يَخْضُورٍ، وهو الأخضر، وصفوا به كما وصفوا باليحموم. فصل [زيادة ثلاثة أحرف مجتمعة قبل الفاء] قال صاحب الكتاب: والمجتمعة قبل الفاء في "مُسْتَفْعَِلٍ". * * * قال الشارح: لا يكون هذا المثال إلَّا صفة فيما كان جاريًا على الفعل، نحو: "مستخرج"، و"مستعلم" فالميم والسين والتاء زوائد, لأنها تسقط في "خرج"، و"علم". فصل [زيادة ثلاثة أحرف بين العين واللام] قال صاحب الكتاب: وبين العين واللام في "سلاليم", و"قراويح". * * * قال الشارح: قد فصلوا بهذه الزيادات الثلاث بين العين واللام، وذلك في "فَعالِيلَ" نحو: "سَلالِيمَ". وذلك أن واحده "سُلَّمٌ"، فاللام الثانية زائدة. وإذا كُسرّ للجمع، زيدت ألف الجمع بعد اللام الأُولى، وبعدها اللام الزائدة، وبعد اللام الياء للإشباع، كأنهم كسّروا "سُلاّمًا"، فكانت ثلاث زوائد بين العين واللام. ومن ذلك "فعَاوِيلُ"، نحو: "قِرْواحٍ"، و"قَراوِيحَ"، معك في الواحد الواو والألف زائدتان، وزيدت ألف الجمع قبل الواو، فاجتمع ثلاث زوائد قبل اللام. فصل [زيادة ثلاثة أحرف بعد اللام] قال صاحب الكتاب: وبعد اللام في "صِلِّيانٍ", و"عُنْفُوان", و"عِرِفّان", و"تَئِفّان", و"كبرياء", و"سيمياء", و"مرحيَّا". * * * قال الشارح: قد جاءت هذه الزيادات الثلاث آخِرًا بعد اللام. من ذلك "فِعْلِيان" بكسر الفاء، جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "صِلِّيانٌ"، و"بِلِّيان"، والصفة: "العِنْظِيان"، و"الخِرِّبان"؛ فـ"الصّلِّيان" نبتٌ؛ والبلّيان: قالوا: بلدٌ، ويُقال: "ذهب بذي بلّيانٍ"، أي: حيث لا يدري، والعنظيان: الجافي، وقيل: "الشابّ الطرىّ"؛ والخِرِّبان: الجبَان.
فصل [زيادة ثلاثة أحرف: اثنان منها مجتمعان والثالث منفرد]
ومن ذلك "فُعْلُوانٌ"، قالوا: "عُنْظُوانٌ"، و"عُنْفُوانٌ"، ولم يأتِ صفة. فالعنظوان: شجرٌ، والعنفوان: أوّل الشباب. ومن ذلك "فِعِلّان" بكسر الفاء والعين وتشديد اللام في الاسم، قالوا: "فِرِكّانٌ"، و"عِرِبّان"؛ فالفركّان: البُغض من "فركتِ المرأةُ زوجَها"، وهو اسم؛ وعرفّان: مصدر بمعنى المَعْرِفة، وهو اسم رجلٌ أيضًا. ومن ذلك "فَعِلاّن". قالوا: "تَئِفّان" وهو اسم، ومعناه أوّلُ الشيء، يُقال: "جاءنا على تئفّانِ ذلك"، أي: أوّلِه، فالألف والنون والحرف الأخير من المضاعف زوائد. ومن ذلك "فِعْلِيَاءُ" يكون اسمًا وصفة، فالاسم"كِبْرِياءُ" و"سِيمِياءُ"، والصفة: "جِرْبِياء". فالكبرياء: مصدر بمعنى الكِبْر، وفي آخره ثلاث زوائد، وهي الياء والهمزة والألف قبلها والسيمياء: العلامة. والجربياء: النُّكَيْباء من الرياح، وهي بين الشَّمال والدَّبور. ومن ذلك "فَعَلَيَّا". قالوا: "مَرَحَيَّا" وهو زَجْرٌ يُقال عند الرَّمْي؛ و"بَرَدَيَّا" وهو نهر بالشام، هكذا في كتاب سيبويه (¬1)، والمعروف "بَرَدَى"، قال الشاعر [من الكامل]: يَسْقُون مَن وَرَدَ البَرِيصَ عليهمِ ... بَرَدَى يُصفَّق بالرَّحِيق السَّلْسَلِ (¬2) فصل [زيادة ثلاثة أحرف: اثنان منها مجتمعان والثالث منفرد] قال صاحب الكتاب: وقد اجتمعت ثنتان وانفردت واحدة في نحو "أُفْعُوانٍ", وإضحيان وأرونان وأرْبعاءَ وأُرْبُعاء وقاصعاء وفساطيط وسراحين وثلاثاء وسلامان وقُراسية وقلنسوة وخُنفساء وتيَّحان وعُمُدّان وملكعان. * * * قال الشارح: هذا الفصل موافقٌ للفصل الذي قبله من جهة، ومخالفٌ من جهة أُخرى؛ فالموافقةُ أنّ في كلّ واحد من هذه الأسماء ثلاث زوائد كالفصل المتقدّم؛ وأمّا جهة المخالفة، فإنّ الزوائد في هذه الأسماء متفرّقةً، منها اثنتان مجتمعتان، وواحدة منفردةٌ، وذلك في أسماء مختلفةِ البناء أيضًا، فمنها ما هو على زنة "أُفْعُلان"، بضمّ الهمزة والعين، ويكون اسمًا وصفة. فالاسم: "أُفْعُوانٌ"، و"أُقْحُوانٌ"، والصفة: "أُسْحُلانٌ"، و"أُلْعُبانٌ"؛ فالأفعوان: ذَكَرُ الأفاعي، والهمزة في أوّله زائدة، والألف والنون ¬
في آخِره زائدتان، يدلّ على ذلك قولهم: "فعوة السّمّ". وهذا قاطعٌ على أن الفاء والعين أصلان دون الباقي. والأقحوان: نبت طيّب الريح، حوالَيْه ورق أبيضُ، وسطُه أصفر، وهو البابُونَج، الهمزة في أوله زائدة، والألف والنون في آخره زائدتان، لقولهم: "دواءٌ مَقْحُوٌ"، إذا كان فيه الأقحوان. والإسحلان: التامّ. والألعبان: اللَّعّاب. ومن ذلك "إفْعِلان" بكسر العين وكسر الهمزة، وهو قليل يكون في الاسم والصفة، فالاسم: "إسْحِمان"، والصفة "ليلةٌ إضْحِيانةٌ". فالإسحمان: جُبَيْلٌ بعينه؛ والإضحيانة: المُضِيئة. ومن ذلك "أَفْعلان" بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح العين، ولم يأتِ إلَّا صفة، قالوا: "عَجِينٌ أَنْبَجانٌ"، إذا سُقِيَ كثيرًا وأُجِيد عَجْنُه. و"أرْوَنان"، يُقال: "يومٌ أرونانٌ": أي: شديد. ومن ذلك "أفْعِلاءُ". قال سيبويه (¬1): ولا نعلمه جاء إلَّا في "الأرْبِعاء"، وقد يفتح الباء كأنّه جمع "رَبِيع"، وهو من أبنية التكسير، نحو: "شَقِىِّ" و"أشْقِياءَ"، و"صفيّ" و"أصفياء"، و"نبيّ" و"أنبياء". ومن ذلك "فاعِلاءُ"، نحو: "القاصِعاء"، و"النافِقاء"، وهما من جِحَرة اليَرْبُوع، ولا نعلمه جاء صفة. ومن ذلك "فَعَالِيلُ"، وهو من أبنية التكسير جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "ظَنابِيبُ"، و"فَساطِيطُ"، والصفة: "شماليل"، و"بهاليل". فـ"ظنابيب": جمع ظُنْبُوبٍ، وهو عَظْم الساق، والألف زائدة للجمع، والياءُ المبدلة من واو "ظنبوب" زائدة أيضًا، لأنها بدل من زائد. وإنّما صارت ياءُ لانكسار ما قبلها. والباء مكرّرة للإلحاق بـ"جُرْمُوقٍ". والفَساطِيط: جمع فُسْطاطٍ، وهو ضرب من الأبنية، والطاءُ زائدة مكرّرة للإلحاق بـ"قُرطاسٍ"، وكذلك اللام في "شِمْلالٍ" للإلحاق بـ"حِمْلاقٍ". واللام في "بُهلُولٍ" مكرّرة أيضًا للإلحاق بـ"جُرْمُوق". والشَّمالِيل: جمع شِمْلالٍ، وهي الناقة السريعة، والبهاليل: جمع بُهْلُولٍ، وهو من الرجال الضَّحّاكُ. ومن ذلك "فَعَالِين". قالوا في الاسم: "سَراحِينُ"، و"فَرازِينُ"، ولا نعلمه جاء صفة. فالسراحين: جمع سِرْحانٍ، وهو الذئب، وقد يستعمل في الأسد. والفرازينُ: جمع فِرْزانٍ. ومن ذلك "فَعالاء". قالوا في الاسم: "ثلاثاءُ"، و"براكاء"، وفي الصفة "عَياياءُ"، و"طَباقاء". فالثلاثاء من الأيّام معروف، الثاء واللام فيه أصلٌ، وما عداه زائدٌ. وبَرَاكاء: ¬
اسم الثبات في الحرب، وهو من "البُرُوك". ويُقال: "رجلٌ عياياءُ"، أي: ذو عَيٍّ في الأمر والمَنْطِق، ومثله "طَباقاءُ"، وهو من الإبل الذي لا يُحْسِن الضِّراب، وقد يوصف به الرجل الأحمق. ومن ذلك "فَعالان". قالوا: "سَلامانٌ"، و"حَماطانُ"، ولم يأتِ صفة. فالسلامان: شجر. وحماطان: موضع في قول الجَرْميّ، وأنشد [من الرجز]: 953 - يا دارَ سَلْمَى في حَماطانَ اسْلَمِي وقال ثَعْلَبٌ: هو نبتٌ. ومن ذلك "فُعالِيَة" بضمّ الفاء في الاسم والصفة، فالاسمُ: "هُبارِيَةٌ"، و"صُراحِيَةٌ"، والصفة، نحو: "العفارية"، و"القراسية". فالهباريةُ كالحَزاز في الرأس. والصراحية: كالتصريح والتلخيص للشيء. والعفارية: الشديد. والقراسية: الفَحْل العظيم، فالألف زائدة في هذه الأسماء؛ لأنّها لا تكون مع الثلاثة الأُصول إلَّا زائدة، والياء كذلك، وتاء التأنيث، وهي لازمة في هذا البناء. ومن ذلك "فَعَنْلُوَة". قالوا: "قَلَنْسُوَةٌ"، فالنون زائدة, لأنه ليس في الأسماء مثلُ "سَفَرْجُلَة" بضمّ الجيم، والواوُ أيضًا زائدة؛ لأنها لا تكون مع الثلاثة إلَّا كذلك، والتاءُ لازمة لهذه الواو. ومن ذلك "فُنْعَلاء" بضمّ الفاء وفتح العين، نحو: "خُنْفَساءَ" ولم يأتِ صفة، فالخنفساء: دويبّة وهي الخُنْفَس أيضًا. وقد حكى فيها الغُوريّ الضمَّ، فقال: "خُنْفُساءُ"، و"خُنْفُسٌ" بضمّ الفاء والعين، ووزنه فُنْعُلٌ، فالنون زائدة, لأنه ليس في الكلام "فُعْلُلٌ"، ولا "فُعْلَلٌ"، مثل: "جُخْدُبٍ". وإذا كانت زائدة في لغةِ من فتح؛ فهي زائدة في لغة من ضمّ, لأنّها لا تكون زائدة في لغة، أصلًا في أُخرى. ومن ذلك "فَيْعَلان" جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "قَيْقَبانٌ"، و"سَيْسَبانٌ"، والصفة: ¬
فصل [زيادة أربعة أحرف]
"هَيبَّانٌ"، و"تَيَّحانٌ". فالقيقبان: شجر يُتخذ من السُّروج، والسَّيْسَبان: شجر أيضًا. والهَيَّبان: الجَبان، وهو من الهَيْبَة، يُقال: "هَيَّبانٌ" بالفتح والكسر. وكذلك "تَيَّحانٌ"، يُقال: "رجل مِتْيَحٌ وتَيَّحانٌ"، إذا تَعرّض لِما لا يَعْنِيه، و"فرس مِتْيَحٌ وتيّحان" إذا اعترض في مَشْيه نشاطًا. و"فَيْعِلان" بالكسر من أبنية المعتلّ، ولا يكون منه في الصحيح، قال سيبويه (¬1): ولا نعلم في الكلام: "فَيْعِلان" بالكسر غيرَ المعتلّ. ومن ذلك "فُعُلّان" فيهما، فالاسم: "حُوُمّان"، و"الصفة" "عُمُدّانٌ"، و"جُلُبّانٌ". ومن ذلك "مَفْعَلان"، نحو: "مَلْكَعانٍ"، و"مَلأمانٍ"، وهما اسمان معرفتان لا يستعملان إلَّا في النداء، فملأمان: من اللُّؤْم، الميم في أوّله زائدة، والألف والنون في آخره زائدتان؛ و"ملكعان" كقولك: "يا لُكَعُ"، وهو بمعنى الهُجْنة. فصل [زيادة أربعة أحرف] قال صاحب الكتاب: والأربعة في نحو اشهيباب واحميرار. * * * قال الشارح: هذه غايةُ ما ينتهي إليه بنات الثلاثة في الزيادة، فيصير الاسم الثلاثيّ على سبعة أحرف، وذلك نحو: "اشْهِيباب"، و"احْمِيرارٍ" مصدر "اشهابَّ"، و"احمارّ"، والشُّهْبَةُ في الألوان: بياضٌ يغلب على السواد، يُقال: "اشْهابَّ" و"اشْهَبَّ" مقصور منه. وكذلك "احمارّ" و"احمرّ". و"الاحميرارُ": مصدر "احمارَّ" والاحمرارُ: مصدر: "احمرّ"، فالزائدُ في "اشهيباب" الهمزة الأولى، جيء بها توصُّلًا إلى النطق بالساكن، والياء التي بعد الهاء زائدة أيضًا، وهي بدل من ألف "اشهابّ"، قُلبت ياءٌ لانكسار ما قبلها، والألف بعد الباء الأُولى والباء الثانية أيضًا زائدة, لأنها مكرّرة، ألا ترى أنها ليست موجودة في "الشهبة"؟ وكذلك "احميرار", لأن الراء الثانية ليست موجودة في "الحُمْرة"، فاعرفه. ¬
الرباعي
ومن أصناف الاسم الرُّباعيُّ فصل [أبنية الاسم الرباعي المجرد] قال صاحب الكتاب: للمجرد منه خمسة أبنية أمثلها جعفر ودرهم وبرثن وزبرج وفطحل. وتحيط بأبنية المزيد فيه الأمثلة التي أذكرها, والزيادة فيه ترتقي إلى الثلاث. * * * قال الشارح: قوله: "للمجرّد منه" احتراز من المزيد فيه من الرباعيّ، وأبنيتُه خمسة. من ذلك "فَعْلَلٌ" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "جَعْفَرٌ"، و"عَنْتَرٌ"، والصفة "سَلْهَبٌ" و"خَلْجَمٌ". فجعفر نهرٌ، وقد سُمّي به. والعنتر: الذباب الأزرق، ونونه أصل، لأن الأصل عدم الزيادة، والسلهب من الخيل: الطويل. والخلجم: الطويل. ومن ذلك "فِعْلَلٌ" بكسر الفاء وفتح اللام، يكون اسمًا وصفة. فالاسم: "دِرْهَمٌ"، و"قِلْعَمٌ"، والصفة: "هِجْرَعٌ"، و"هِبْلَعٌ" عند سيبويه (¬1). فالدرهم معروف، وهو فارسيّ معرّب. والقلعم: الشيخ الكبير. والهجرع: الطويل. والهبلع: الأكُول. وسيبويه (1) يرى أن الهاء فيهما أصل، وذلك لقلّة زيادة الهاء، وأبو الحسن كان يذهب إلى أن الهاء في "هجرع"، و"هبلع" زائدة, لأنه كان يأخذه من "الجَرَع"، وهو المكان السهل المنقاد، فهو من معنى الطُّول، وهبلع من البلع. ومن ذلك "فُعْلُلٌ" بضّم الفاء واللام فيهما، فالاسم "بُرْثُنٌ"، وَ"حُبْرُجٌ"، والصفة "جُرْشُعٌ"، و"كُنْدُرٌ". فالبرثن: واحد البَراثِن، وهو من السباع والطير بمنزلة الأصابع من الإنسان، والمِخْلَبُ كالظُفْر منه. والحبرج: هو الخَرَب، وهو ذَكَرُ الحُبارَى عن أبي سَعِيد؛ والجرشع: من الإبل العظيم، والكندر القصير. ¬
فصل [زيادة حرف واحد قبل الفاء]
ومن ذلك "فِعْلِلٌ". فالاسم: "زِبْرِجٌ"، و"زِئْبِرٌ"، والصفة: "عِنْفِصٌ"، و"خِرْمِلٌ". فالزبرج: الزينة، ويُقال هو الذهب؛ والزئبر: ما يعلو الفَرْخَ والثوبَ الجديد كالخَزّ. والعنفص: المرأة البَذِيئة القليلة الحَياء. والخرمل بالخاء المعجمة: المرأة الحَمْقاء. ومن ذلك "فِعَلٌ" في الاسم والصفة، فالاسم: "فِطَحْلٌ"، و"قِمَطْرٌ"، والصفة: "هِزَبْرٌ"، و"سِبَطْرٌ". والفطحل: زمنٌ من قبل خَلْق الناس. والقمطرُ: وعاء يجعل فيه الكتب. والهزبرُ: الجريء، وهو من صفات الأسد. والسبطر: الممتدّ، يُقال: "سَبِطٌ"، و"سِبَطْرٌ". وأضاف أبو الحسن بناءً سادسًا، وهو "فُعْلَلٌ" وحكى: "جُخْدَبٌ" بفتح الدال، وسيبويه (¬1) لم يُثْبِت هذا الوزن، ويرويه: "جُخْدُبًا" بالضمّ كـ"بُرْثُنَ"، وحمل روايةَ الأخفش على أنهم أرادوا "جُخادِب"، ثمّ حذفوا، وذلك لأنهم يقولون: "جخدبًا"، و"جُخادِبًا"، كما قالوا: "عُلَبِطٌ"، و"عُلابِط"، و"هُدَبِدٌ"، و"هُدابِد". قال سيبويه: والدليل على ذلك أنه ليس شيءٌ من هذا المثال إلَّا ومثالُ "فُعالِل" جائزٌ فيه، فكما قالوا في "عُلَبِط"، و"هُدَبد": أنّه مخفّف من "علابط"، و"هدابد"، فكذلك "جُخْدَبٌ" مخفّف من "جُخادِب"،إلَّا أن جخدبًا مخفّف من جهتَيْن: بحذف الألف، وسكون الخاء، وجميعُ ما تقدّم مخفف بحذف الألف لا غير. وأرى القول ما قاله أبو الحسن, لأن الفرّاء قد حكى: "بُرْقُعٌ"، و"بُرْقَعٌ"، و"طُحْلُبٌ"، و"طُحْلَبٌ"، و"قُعْدُدٌ"، و"قُعْدَدٌ"، و"دُخْلُلٌ"، و"دُخْلَلٌ"، وهذا وإن كان المشهور فيه الضمّ، إلَّا أن الفتح قد جاء عن الثقة، ولا سبيل إلى رَدّه. ويؤيّد ذلك أنهم قد قالوا: "سُودَدٌ"، و"عُوطَطٌ"، فـ"سودد" من لفظ "سيّد"، و"عوطط" من لفظ "عائط"، فإظهارُ التضعيف فيهما دليل على إرادة الإلحاق، كما قالوا: "مَهْدَدٌ"، و"قَرْدَدٌ" حين أرادوا الإلحاق بـ"جعفر"، وعلى هذا يكون الألف في "بُهْماةٍ"، و"دُنْياةٍ" فيما حكاه ابن الأعرابيّ للإلحاق بـ"جُخْدَبٍ". وقوله: "وتُحيط بأبنية المزيد فيه الأمثلةُ التي أذكرُها"، يريد أنه قد يزاد على الرباعيّ كما قد زِيدَ في الثلاثيّ، وسنذكرُ أبنيةَ المزيد فيه مفصلًا بعدُ. وقوله: "والزيادة فيه ترتقي إلى الثلاث"، يريد أن تصرُّفهم بالزيادة في الرباعيّ ليس كتصرّفهم في الثلاثيّ، وإنّما قَلَّ تصرّفهم في الرباعيّ لقلته، وإذا لم تكثر الكلمة، لم يكثر التصرّف فيها. فصل [زيادة حرف واحد قبل الفاء] قال صاحب الكتاب: فالزيادة الواحدة قبل الفاء لا تكون إلا في نحو "مدحرج". * * * ¬
فصل [زيادة حرف واحد بعد الفاء]
قال الشارح: الزيادة في بنات الأربعة تكون على ضربَيْن: للإلحاق ولغير الإلحاق، فإذا كان على خمسة أحرف منها حرفٌ زائدٌ، وكان نظمُ متحرّكاته وسواكنه على نظم الخمسة؛ كان ملحقا، نحوَ: "عَمَيْثَلٍ" الياء فيه زائدة، و"جَحَنْفَلٍ" النون أيضًا فيه زائدة، وهما ملحقان بالياء والنون بمثال "سَفَرْجَلٍ". ألا ترى أنهما مثله في عدده وحركاته وسكناته؟ وما كان لغير إلحاق فهو ما كان فيه زائد، وخالف فيه أبنيةَ الأُصول. وقد تكون الزيادة واحدة، وتكون اثنتين، وتكون ثلاثًا، وأكثرُ ما ينتهي إليه الاسم الرباعيّ بالزيادة سبعة أحرف، فيكون المزيد فيه ثلاثة أحرف، نحوَ: "احْرِنْجام". ولا يلحق ذوات الأربعة شيءٌ من الزوائد أوّلًا، وذلك لقلّة التصرّف في الرباعيّ، وأنّ الزيادة أوّلًا لا تتمكّن تمكُنها حشوًا وآخِرًا، ألا ترى أن الواو الواحدة لا تزاد أوّلًا البتّة، وتزاد حشوًا مضاعفةٌ وغير مضاعفة، فالمضاعفة، نحو: "كَرَوَّسٍ"، و"عَطَوَّدٍ"، و"اجْلَوَّذَ"، و"اخْرَوَّطَ"، وغير المضاعفة، نحو: واو "عَجُوزٍ"، وواو"جُرْمُوقٍ"، فلذلك إذا رأيتَ همزة أو ميمًا وبعدها أربعة أحرف أُصول؛ حكمتَ على الهمزة والميم بأنهما أصلان، إلَّا أن يكون الاسم جاريًا على الفعل، نحوِ: "دَحْرَجَ"، و"سَرْهَفَ"، و"مُدَحْرِجٌ"، و"مسرهف"، فتلحق الميم اسمَ الفاعل، كما تلحق "أفْعَلْتُ" من "أكْرَمْتُ، فأنا مُكْرِمٌ". ولو كان ثلاثيَّا وفي أوّله همزةٌ، أو ميمٌ، لم تكونا إلَّا زائدتين، نحو: "أكْرَمَ"، و"أفْكَلٍ"، فلذلك قلنا: إن الهمزة في أوّل "إبراهيم"، و"إسماعيل" أصلٌ, لأنها في أوّل بنات الأربعة، وذلك لأن الباء والراء والهاء والميم أُصول، والألف والياء زائدتان, لأنهما لا تكونان مع الثلاثة فصاعدًا، إلَّا كذلك، ومثله "إسماعيل" السين والميم والعين واللام أُصول، فالهمزة إذًا أصل كذلك، فاعرفه. فصل [زيادة حرف واحد بعد الفاء] قال صاحب الكتاب: وهي بعد الفاء قنفخر وكنتأل وكنهبل (¬1). * * * قال الشارح: قد وقعت الزيادة في الرباعيّ على ضروب نحن نذكرها، فمن ذلك وقوعُها ثانية على "فَُِنْعَل" ويكون اسمًا وصفة، فالاسم: "خُنْثَعْبَةٌ" وهي الناقة، والصفة "قِنْفَخْرٌ"، و"كُنْتَأْلٌ". فالقنفخر: الفائق في نوعه، والنون فيه زائدة للاشتقاق، ألا ترى أنهم قالوا في معناه: "قُفاخِرٌ"، و"قُفاخِريّ"، فسقوط النون في "قفاخر"، و"قفاخريّ" دليل على زيادتها في "قنفخر". ولو خُلّينا والقياسَ، لكانت أصلًا, لأنها بإزاء الراء من ¬
فصل [زيادة حرف واحد بعد العين]
"جِرْدَحْلٍ" (¬1)، و"قِرْطَعْبٍ" (¬2)، لكن ورد من السماع ما أرغب عن القياس، على أنه حكي السيرافيّ: "قُنْفَخْرٌ" بضمّ القاف، فعلى هذا تكون النون زائدة للمثال, لأنه ليس في الكلام "جُرْدَحْلٌ" بضمّ الجيم. ومن ذلك "كُنْتَألٌ" وهو القصير، والنون زائدة, لأنه ليس في الكلام "فُعْلَلّ". ومن ذلك "فَنَعْلَل" قالوا: "كَنَهْبَل"، وهو شجر، فالنون زائدة, لأنه ليس في الأُصول "سَفَرْجُلٌ" بضمّ الجيم، وهو قليل. فصل [زيادة حرف واحد بعد العين] قال صاحب الكتاب: وبعد العين في نحو عذافر وسميدع وفدوكس وحبارج وحزنبل وقرنفل وعلكد وهمقع وشمخر. * * * قال الشارح: وقد جاءت الزيادة بعد العين في تسعة أبنية، من ذلك "فُعالِل"، وقد جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "جُخادِب"، و"بُرائِل"، والصفة: "فُرافِص"، و"عُذافِر"، فالجُخادِبُ والجُخْدُب: ضربٌ من الجَنادِب، وهو الأخضر الطويل الرجلين، وألفه زائدة. وبُرائلُ الديك: هو ريش رَقَبَته، يُقال: "بَرْألَ الديكُ"، إذا نفش بَرائلَه ليقاتلَ، والألف فيه زائدة. والفُرافِص: الأسد. والعُذافِرُ: الجمل الشديد. ومن ذلك "فَعَيْلَل"، ولا يكون إلَّا صفة، وذلك نحو: "سَمَيْدَعٍ"، وهو السيّد، و"عَمَيْثَلٍ"، وهو "الذيّال" بذَنَبه، ويُقال: "ناقةٌ عميثلةٌ"، أي: جسيمة. ومن ذلك "فَعَوْلَل"، يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "حَبَوْكَرٌ" و"فَدَوْكَسٌ"، والصفة: "سَرَوْمَطٌ"، و"عَشَوْزَنٌ". فالحبوكر: الداهية. والفدوكس: الأسد. والسرومط: الطويل من الإبل وغيرها. والعشوزن: الصلب الشديد، والمؤنّث عَشَوْزنةٌ. ومن ذلك "فَعالِل"، وهو بناء تكسير يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "حَبارجُ" تكسير "خبْرُجٍ"، والصفة: "قَراشِبُ"، وهو تكسير "قِرْشَبٌ" بكسر القاف، وهو المُسِنّ، وقد وقعت الزيادة فيهما بعد العين. فمن ذلك "فَعَنْلَل" بفتح الفاء والعين واللام، ولا يكون إلَّا صفة، قالوا: "جَحَنْفلٌ" ¬
للغليظ الشفة، و"حَزَنْبَلٌ" للقصير الموثوق الخَلْق، والنون زائدة فيه بعد العين، ألحقتْه بـ"شَمَردَلٍ"؛ لأنها لا تكون ثالثة ساكنة في الخمسة إلَّا زائدة، وذلك لكثرِة ما ظهر من ذلك بالاشتقاق من نحو: "حَبَنْطَى"، و"دَلَنْظَى"، ثمّ حمل غير المشتقّ على المشتقّ. ومن ذلك "فَعَنْلُل" بضمّ اللام في الاسم، وهو قليل، قالوا: "عَرَنْتُنٌ"، و"قَرَنْفُلٌ". فالعرنتن: نبت يدبغ به. والقرنفل: نبت وهو من طِيب العرب، والنون فيه زائدة لما ذكرناه، ولأنه ليس في الأُصول ما هو على مثال "سَفَرْجُلٍ" بضمّ الجيم. ومن ذلك "فِعَّلٌ" بكسر الفاء وفتح العين مضاعفةٌ، ولا نعلمه جاء إلَّا صفة، قالوا: "عِلَّكْدٌ"، و"هِلَّقْسٌ". فالعلكد: الغليظ، وقال المبرّد: العجوز المُسِنّة. والهلّقس: الشديد من الجمال والناس، واللام الثانية التي هي عين مضاعفة زائدة. ومن ذلك "فُعَّلِلٌ" بضمّ الفاء، وفتح العين مضاعفة وكسر اللام الأوُلى، قالوا في الاسم: "هُمَّقِعٌ"، وفي الصفة: "زُمَّلِقٌ". الهمّقع: نبتٌ. قال الجَرْميّ: هو ثمرُ التَنْضُب، فعلى هذا هو اسم. قال الفرّاء: قال لي شُبَيْلٌ: هو الأحمق، فعلى هذا يكون صفة، والأوّلُ مضمون كلامِ سيبويه (¬1). والزُّمَّلِق: الذي يُنْزِل قبل أن يُجامِع، وقيل: الذي ينسُك، ويخرج من بين القوم، يُقال: "زُمَّلِقٌ"، و"زُمَلِقٌ"، مثل "هُدَبِدٍ". ومن ذلك "فُعَّلَّ" بضمّ الفاء وتشديد العين وإسكان اللام الأُولى، قالوا: "شُمَّخْرٌ"، و"ضُمَّخْزٌ"؛ فالشمّخر: العظيم من الإبل والناس، والضمّخز: المتعظّم، قال رُؤبة [من الرجز]: 954 - أنا ابنُ كل مُصْعَبٍ شُمّخْزِ ... سامٍ على رُغْمِ العِدَى ضُمَّخْزِ يا أيّها الجاهِلُ ذو التَنَزي ... لا تُوعِدَنَّ حَيَّةً بالنَّكْزِ ¬
فصل [زيادة حرف واحد بعد اللام الأولي]
والزيادة في ذلك كلّه وقعت ثالثة بعد العين. فصل [زيادة حرف واحد بعد اللام الأولي] قال صاحب الكتاب: وبعد اللام الأولى في نحو قنديل وزنبور وغرنيق وفردوس وقربوس وكنهور وصلصال وسرداح وشفلح وصفرق. * * * قال الشارح: قد جاءت الزيادة رابعة بعد اللام الأُولى في أسماء صالحةِ العدّة، تُقارِب عشرةَ أبنية، من ذلك "فِعْلِيل" وذلك في الاسم والصفة، فالاسم: "قِنْدِيلٌ"، و"بِرْطِيلٌ". والصفة: " شِنْظِيرٌ"، و"هِمْهِيمٌ". فالقنديل: معروف، والبرطيل: حجر طويل قدرُ الذراع. والشنظير: السيّىء الخُلْق. والهمهيم: الذي يُردّد ويُهَمْهِمْ، ويقال: "حِمارٌ هِمْهِيمٌ"، أي: في صوته ترديد من الهَمْهَمَة. ومن ذلك "فُعْلُول" في الاسم والصفة، فالاسم: "عُصْفُورٌ"، و"زُنْبُورٌ"، والصفة: "سُرْحُوبٌ"، و"قُرْضُوبٌ". فالعصفور والزنبور معروفان، والسرحوب: الطويل. والقرضوب: السيف القاطع. والقرضوب: الفقير، وهو من أسماء السيف، وربّما قيل للِّصّ قرضوب. ومن ذلك "فُعْلَيْل" بضمّ الفاء وسكون العين وفتح اللام الأُولى، قالوا في الصفة: "غُرْنَيْقٌ"، وهو الرفيع السيّد، والغرنيق من طيور الماء طويل العنق. قال الهذليّ يصف غَوّاصًا [من الطويل]: 955 - [أجاز إليها لُجَّة بعد لُجَّةٍ] ... أزَلُّ كغُرْنَيق الضُّحُولِ عَمُوج ¬
الضحول: جمع ضَحْلٍ، وهو الماء القليل، والعَموج: الاعوجاجِ، يُقال: "سهمٌ عَموجٌ": يلتوي. قال الجوهريّ (¬1): وإذا وصف به الرجال؛ قالوا: "غِرْنيْق" بكسر الفاء، و"غُرْنيْقٌ" بالضمّ، والجمع: غَرانِقُ بالفتح، وغرانيق. ومن ذلك "فِعْلَوْل" جاء في الاسم والصفة، فالاسم "فِرْدَوْسٌ"، و"حِرْذَوْنٌ"، والصفة "عِلْطَوْسٌ". فالفردوس: هو البستان، ويقال هو حَدِيقة في الجنّة، والحرذون: دويبة كالقَطاة. والعلطوس: الناقة الفارهة. ومن ذلك: "فَعَلُول" في الاسم والصفة، فالاسم: "قَرَبُوسٌ"، وَ"زَرَجُون"، والصفة: "قَرَقُوسٌ" و"حَلَكُوكٌ". فالقربوس: للسَّرْج معروف، و"الزَّرَجُون": الخَمْر، سمّيت بذلك للونها، وأصلها بالفارسيّة "زركون": الزر: الذهب، والكون: اللون، وقال أبو عمر الجرميّ: هو صِبْغٌ أحمر. ومن ذلك "فَعَلْوَل" بفتح الفاء والعين وسكون اللام وفتح الواو، قالوا: "كَنَهْوَرٌ"، و"بَلَهْوَر"، والكنهور: السحاب العظيم، والبَلَهْوَر: من ملوك الهند، يُقال لكلّ ملك عظيم منهم: بلهور، ولا نعلمه اسمًا. ومن ذلك "فَعْلال"، ولا يكون في الكلام إلَّا في المضاعف من ذوات الأربعة، يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "الزَّلْزال"، و"الحَثْحاث"، والصفة: "الصلصال"، و"القسقاس". فالزَّلْزال: مصدر كالزَّلْزَلَة، والحثحاث: بمعنى الحثحثة، يُقال: "حثثتُه"، و"حثحثتُه". والصلصال: الطين الحرّ، خُلط بالرمل، فصار يتصلصل إذا جفّ، فإن طُبخ، فهو الفَخّار. والقسقاس: الدليل الهادي. وقد جاء حرف واحد على "فَعْلال" غيرُ مضاعف، قالوا: "ناقة بها خَزْعالٌ"، وهو سُوءُ مَشْي من داء. ومن ذلك "فِعْلال" بكسر الفاء يكون اسمًا وصفة، فالاسم، نحو: "سِرْبالٍ"، و"حِمْلاق"، والصفة: "سرْداح"، و"هِلْباج".والسِّرْبال: القميص، والحملاق: ما تغطّيه الأجفان من العين، والسِّرداح: الأرض الواسعة، والهلباج: الكثير العيوب. ¬
فصل [زيادة حرف واحد بعد اللام الأخيرة]
ومن ذلك "فَعَلَّل" بفتح الفاء والعين، وتضعيف اللام الأُولى، يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "شَفَلَّحٌ"، و"همرَّجة"، والصفة: "العَدَبَّس"، و"العملّس" فالشفلّح: هنا ثمر الكَبَر، وقد يكون صفة بمعنى الغليظ الشفة. والهمرّجة: الاختلاط، يُقال: "همرجتُ عليه الخَبَرَ"، أي: خلطته. والعدبّس: الضَّخْم، والعملّس: الخفيف، وقيل للذئب: عملّس. ومن ذلك "فُعُلُّل" بضمّ الفاء والعين، وسكون اللام، وهو قليل، قالوا: "الصُّفُرُّق"، و"الزُّمرّد" وهما اسمان. فالصفرّق: نبت، والزمرّد: من الجوهو معروف، والصُعُرُّر. فصل [زيادة حرف واحد بعد اللام الأخيرة] قال صاحب الكتاب: وبعد اللام الأخيرة في نحو: "حَبَرْكي", و"جحجبي", و"هربذي", و"هندبي", و"سبطري", و"سبهلل", وقِرشب", و"طُرْطُب". * * * قال الشارح: قد وقعت الزيادة الواحدة آخرًا أيضًا بعد اللام، فمن ذلك "فَعَلَّى" بفتح الفاء والعين وسكون اللام الأُولى، قالوا: "حَبَرْكى"، و"جَلَعْبى"، ولا نعلمه إلَّا صفة، فالحبركى: الطويل الظهر القصير الرجلين، فهو صفة، وقد يكون القُرادَ، الواحدةُ: حَبَرْكاةٌ، وألفُه للإلحاق بـ"سفرجل"، يدلّ على ذلك دخولُ تاء التأنيث عليه، ولو كانت للتأنيث، لم يدخل عليها علامة التأنيث. والجلعبى: هو الغليظ الشديد، يُقال: "رجلٌ جلعبى العين"، أي: شديد البَصَر. ومن ذلك "فَعْلَلَى" بفتح الفاء وسكون العين وفتح اللام الأوُلى، وذلك في الأسماء دون الصفات، قالوا: "جَحْجَبَى"، و"قرقرى". فجحجبى: حىٌّ من الأنصار، وقرقرى: موضع، والألف في آخره زائدة للتأنيث، ولذلك لا ينصرف. ومن ذلك "فِعْلِلَى" بالكسر، قالوا: "هِرْبِذَى" وهي مِشْية. ومن ذلك "هِنْدَبَى" وهو اسم هذه البقلة. ومن ذلك "فَعَلَّى"، وهو قليل، قالوا: "سِبَطْرَى"، وهي مشية فيها تبختُر، و"الضَّبَغطَى" وهو شيء يُفزَّع به الصبيان، ولم يأتِ صفة. ومن ذلك "فَعَلَّل" قالوا: "سَبَهْلَلٌ"، و"قَفَعْدَد"، ولم يأتِ صفة. فالسبهلل: الفارغ، وفي الحديث قال عمر رضي الله عنه: "إنّي لأكْرَهُ أن أرى أحدكم سبهللًا لا في عمل دنيا ولا في عمل آخِرة" (¬1). والقفعدد: القصير. ومن ذلك "فِعْلَلّ" في الاسم والصفة، فالاسم: "عِرْبَدُّ"، والصفة: "قِرْشَبٌ". ¬
فصل [زيادة حرفين مفترقين]
فالعربدّ: حيّةٌ تنفخ، ولا تضرّ، ومنه اشتقاق "المُعَرْبد". والقرشبّ: المُسِنّ، والباء الأخيرة زائدة مكرّرة للإلحاق بـ"قِرْطَعْبٍ". ومن ذل "فُعْلُلّ". قالوا: "طُرْطُبٌّ"، و"قُسْقبّ"، ولا نعلمه اسمًا. فالطرطُبُّ: الثدي الطويل، و"امرأةٌ طرطبّةٌ"، أي: ذات ثدي كبير. والقسقبّ: الضخم، والباء في آخره زائدة لتكرُّرها، وليس المراد بذلك الإلحاقَ, لأنه ليس في الأصُول ما هو على هذه الزنة، فيكونَ ملحقًا به. فصل [زيادة حرفين مفترقين] قال صاحب الكتاب: والزيادتان المفترقتان في نحو "حبوكري", و"خيتعور", و"منجنون" و"كنابيل", و"جحنبار". * * * قال الشارح: وقد وقع في الأسماء الرباعيّة زيادتان مفترقتان، كما كان ذلك في الثلاثيّة، فمن ذلك "فَعوْلَلَى"، ولا يكون إلَّا اسمًا ولا يكون صفة، فالاسم: "حَبَوْكَرَى"، كأنهم أنّثوا "حَبَوْكَرا" بمعنى الداهية، فالواو زائدة للإلحاق بـ"سفرجل"، والألف للتأنيث، وقد فصل بين الزيادتَيْن اللامان. ومن ذلك "فَيْعَلُول" في الاسم والصفة، فالاسم: "خَيْتَعُورٌ"، و"خَيْسَفوج"، والصفة: "عَيْسَجور"، و"عَيْطَموس". فالخيتعور: أيضًا الداهية، وقيل: كلّ ما يغُرّ ويخدع كالسَّراب ونحوه، والدنيا خيتعور, لأنها لا تدوم. والخيسفوج: قيل شجرٌ، قال ابن فارس: الخيسفوجة سُكّان السفينة. والعيسجور من النوق: الصلبة. والعيطموس من النساء: التامّة الخلق، وكذلك من الإبل، وجمعه "عَطامِيسُ". ومن ذلك "فَنْعَلُول"، وهو قليل، قالوا في الاسم: "مَنْجَنُونٌ"، وفي الصفة: "حندقوق". فالمنجنون: الدولاب الذي يُستقى عليه. والحندقوق: الطويل المضطرب، وقيل: هو شبيه بالمنجنون لإفراط طوله واضطرابه. وأمّا هذا النبت الذي تسمّيه العامّةُ حندقوقًا، فهو الذُّرَق عند العرب. وأمّا المنجنون، فلا أرى هذا الفصل موضعَ ذكره، وذلك لأنه ضمّنه أن يذكر فيه ذوات الزيادتين المفترقتين من الرباعيّ، و"منجنون" فيه قولان: أحدهما: أنه من ذوات الثلاثة، والنون الأُولى فيه زائدة، والواو وإحدي النونين الاخيرتين زائدتان، ويجمع على هذا على "مَجانِينَ"، ويكون من الثلاثة، وفيه ثلاث زوائد، وموضعه ما تقدّم. والثاني: أنه رباعيّ، والنون الأوُلى أصل، والواو زائدة، وإحدى النونين، ويجمع حينئذ على "مَناجِينَ"، وهو المسموع من العرب، فعلى هذا، وإن كان
فصل [زيادة حرفين مجتمعين]
رباعيًّا، وفيه زيادتان؛ فليستا مفترقتين على ما شُرِط في هذا الفصل. ومن ذلك "فُعالِيلُ" بضمّ الفاء، وهو قليل لم يأتِ إلَّا في اسم واحد، قالوا: "كُنابِيلُ"، وهو اسم أرض معروفة، والألف والياء زائدتان، وهما مفترقتان على ما ترى. ومن ذلك "فِعِنْلال" بكسر الفاء والعين، وهو قليل لم يأتِ إلَّا صفة، قالوا: "جِحِنْبار"، و"جِعِنْبَار". والجحنبار: الضخم العظيم الخَلْق، والجعنبار كذلك. فصل [زيادة حرفين مجتمعين] قال صاحب الكتاب: والمجتمعتان في نحو "قندويل", و"قمحدوة", و"سلحفية", و"عنكبوت", و"عرطليل", و"طرماح", و"عقرباء", و"هندباء", و"شعشعان", و"عقربان" و"حندمان". * * * قال الشارح: هذا الفصل يشتمل على ما فيه زيادتان مجتمعتان من الرباعيّ، فمن ذلك "فَعْلَوِيل" جاء في أسماء قليلة، قالوا: "قَنْدَوِيلٌ"، و"هندويل"، فالواو والياء فيهما زائدتان, لأنهما لا تكونان في ذوات الثلاثة فصاعدًا إلَّا كذلك، ولم يأتِ صفة، فالقندويل: العظيم الرأس مأخوذ من القَنْدَل، وهو العظيم الرأس. والهندويل: الضخم. ومن ذلك "فَعَلُّوَة". قالوا: "قَمَحْدُوَةٌ"، ونظيره من الثلاثيّ "قَلَنْسُوَةٌ". فالقمحدوة من الرأس: مؤخّره، والميم أصل؛ لأنها لا تكون حشوًا زائدة إلَّا بثَبتٍ من الاشتقاق، والواو زائدة, لأنها لا تكون مع الثلاثة فصاعدًا إلَّا كذلك، والتاء لازمة هنا، ولذلك اعتُدّ بها في البناء، فقد تَوالى فيها زائدان: الواو والتاء. ومن ذلك "فُعَلَّيَة". قالوا: في الاسم "سُلَحْفِيَة"، و"سُحَفْنِيَةٌ"، ونظيره من الثلاثيّ "بُلَهْنِيَةٌ". فالسلحفية: دابّة تكون في الماء جِلْدها عِظام، وقد توالى فيها زائدان: الياء وتاء التأنيث، فهي لازمة لهذه الياء، كما لزمت واوَ "قَمَحْدُوَةٍ". والبلهنية: عيشٌ لا كَدَرَ فيه. ومن ذلك "فَعْلَلُوت". قالوا: "عَنْكَبُوتٌ"، و"تَخْرَبوت"، ولم يأتِ صفة. فالعنكبوت: معروفة، وهي دويبّة تنسج لها بيتًا من خيوط واهية. والتخربوت: الناقة الفارهة، والواو والتاء في آخرهما زائدان، زيدا في آخر الرباعيّ كما زيدا في آخر الثلاثيّ من نحو "مَلَكُوتٍ"، و"رَهَبُوتٍ". ومن ذلك "فَعْلَلِيل"، مضاعفًا صفةً. قالوا: "عَرْطَلِيلٌ"، و"قَمْطَرير"، ولا نعلمه جاء اسمًا. العرطليل: الطويل، وقيل: "الغليظ". والقمطرير: الشديد، واللام في آخره مكرّرة زائدة، والياء قبلها.
فصل [زيادة ثلاثة أحرف]
ومن ذلك "فِعِلاَّلٌ" في الاسم والصفة، فالاسم: "جِنِبّارٌ"، والصفة: "الطَّرِمّاح". ونظيره من الثلاثيّ "الجِلِبّاب". فالجنبّار: فرخ الحُبارَى. والطَّرِمّاح: الطويل. والجلبّاب: القميص، فالألف فيها وما قبلها من اللام المضاعفة زوائد. ومن ذلك "فَعْلَلاء" بفتح الأول وسكون الثاني. قالوا: "بَرْنَساءُ"، و"عَقْرَباءُ"، ولا نعلمه جاء صفة. فالبرنساء: الناس، وفيه لغتان: بَرْنَساءُ مثل عَقَرباء، وبَرْناساء. قال ابن السكّيت: يُقال: "ما أدري أيّ البرنساء هو"، و"أيّ البرناساء هو"، أي: أيّ الناس. والعقرباء: الأُنثى من العَقارب، وفي آخرها زائدان، وهما الألفان: ألف التأنيث المبدلة همزةٌ، وألف المدّ قبلها، ولذلك لا تنصرف كـ"صَحْراءَ" و"طَرْفاءَ". ومن ذلك "فِعْلِلاء" بكسر الفاء وإسكان العين. قالوا في الاسم: "هِنْدَباءُ,"، ولم يأتِ صفة. والهندباء بفتح الدال ممدود: اسم لهذه البقلة، وفي آخره ألف التأنيث، كما ترى، ولذلك لا ينصرف، وقد يُقْصَر، فيقال: "هِنْدِبَا". قال أبو زيد: "الهندبا" بكسر الدال يمدّ ويقصر. ومن ذلك "فَعْلَلان"، وهو قليل. قالوا: "شَعْشَعانٌ"، وهو صفة، وفي الاسم: "زَعْفَرانٌ". يُقال: "رجلٌ شعشعانٌ، وشعشاعٌ"، أي: حسن طويل، فالألف والنون في آخره زائدتان لقولهم في معناه "شعشاع". ومن ذلك، فُعْلُلان" جاء اسمًا وصفة، فالاسم: "عُقْربُانٌ"، و"عرقصان"، والصفة: "قردمان"، و"رقرقان". فالعقربان: ذَكَر العقارب، وقيل: هو دَخّال الأذُن. والعرقصان: الحَنْدَقُوق. والقردمان: القَباء المحشوُّ كالكِبْر للحرب. والرَّقرقان: البَرّاق الذي يترقرق، ففي آخر كلّ واحد من هذه الأسماء زيادتان، وهما الألف والنون. ومن ذلك "فِعْلِلان" يكون اسمًا وصفة، وهو قليل في الكلام؛ فالاسم: "حِنْدِمانُ"، والصفة: "حدرجان". فالحندمان: اسم قبيلة. والحدرجان: القصير، والألف والنون فيهما زائدتان أيضًا. فصل [زيادة ثلاثة أحرف] قال صاحب الكتاب: والثلاث في نحو: "عبوثران" (¬1) , و"عُريقصان", و"جُخادباء", و"برنساء", و"عُقْرُبّانٍ". * * * قال الشارح: هذا الفصل يشتمل على ما اجتمع فيه ثلاث زوائد من الرباعيّ، وهو ¬
غايةُ ما ينتهي إليه زيادته، فيكون على سبعة أحرف، كأنّ ذلك لنقص تصرُّفه عن تصرّف الثلاثيّ، فزيد في الثلاثيّ أربع زوائد، نحو: "اشهيباب" ولم يزد في الرباعيّ إلَّا ثلاث زوائد، فمن ذلك "فَعَوْلُلان" يكون اسمًا، قالوا: "عَبَوْثُرانٌ" وهو نبت، ولا نعلمه جاء صفة، وقد اجتمع فيه ثلاث زوائد: الواو بعد العين والألف والنون آخرًا. ومن ذلك "فُعَيْلَلان". قالوا: "عُرَيْقِصان"، و"عَبَيْثَران" ولا نعلمه جاء صفة. فالعريقصان: لغة في "العَرَقْصان" وهو الحنْدَقُوق. والعبيثران: لغة في "العَبَوْثَران"، وهو نبت، وفيه ثلاث زوائد: الياء بعد العين والألف والنون آخرًا، ويُقال: عَبيثُران أيضًا. ومن ذلك "فُعالِلاءُ"، وهو قليل. قالوا: "جُخادِباءُ"، وهو ضرب من الجَنادِب، ويُقال: إنه دابّة شبيهة الحِرْباء، يُقال: "جُخادِباءُ"، و"جُخادِبٌ"، و"جُخْدُبٌ". ومن ذلك "فَعْلَالاءُ". قالوا: "بَرْناساءُ"، وهو لغة في "البَرْنَساء"، بمعنى الناس. ومن ذلك "فُعْلُلّان" بضمّ الفاء، وإسكان العين، وضمّ اللام الأوُلى، وتضعيف اللام الثانية. قالوا: "عُقْرُبّان" لغة في "العُقْرُبان" بالتخفيف، وفي "العقربّان" ثلاث زوائد: الباء الثانية المضاعفة والألف والنون.
الخماسي
ومن أصناف الاسم الخُماسيُّ فصل [أبنية الاسم الخماسيّ المُجَرَّد] قال صاحب الكتاب: للمجرد منه أربعة أبنية, أمثلتها "سفرجل", و"جحمرش", و"قُذعمل", و"جردحل". * * * قال الشارح: هذا الفصل جامعٌ لأصُول الخماسيّ، كما كان ما قبله جامعًا لأُصول الرباعيّ، ووزنُ كلّ واحد من هذه الأبنية غير وزن الآخر، لكنّها يجمعها كونُها خماسيّة، فمن ذلك "فَعَلَّلٌ" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "سَفَرْجَلٌ"، و"فرزدق"، والصفة: "شمردل"، و"همرجل". فالشمردل بالدال المهملة: السريع من الإبل وغيره، والناقة: همرجلة. ومن ذلك "فُعَللٌ" في الاسم والصفة، فالاسم: "قُذَعْمِلٌ"، والصفة: "خُبَعْثِن". فالقذعمل: الشيء التافهِ، يُقال: "ما عنده قُذَعْمِلةٌ"، أي: شيء، ولا يستعمل إلَّا منفيًّا، ويكون صفة بمعنى المرأة القصيرة الخسيسة، ويُقال للناقة الشديدة: قُذَعْمِلة. ومن ذلك "فَعْلَلِلٌ" قالوا: "جَحْمَرِشٌ"، و"صَهْصَلِق" ولم يأتِ صفة. فالجحمرش: العجوز المُسِنّة. والصهصلق: الصوت، والصهصلق: العجوز الصَّخّابة. ومن ذلك "فِعْلَلٌّ" يكون اسمًا وصفة، فالاسم "قِرْطَعْبٌ"، و"حِنْبَتْر"، والصفة: "جِرْدَحْلٌ"، و"حِنْزَقْرٌ". فالقِرْطعب: السحاب. يُقال: "ما في السماء قرطعبٌ، ولا قرطعبةٌ"، أي: سحابة. وقال ثعلبٌ: قرطعبٌ دابّةٌ. والحنبتر: الشدّة. والجردحل: الضخم الشديد. والحِنْزقْر: القصير الدميم. وقد ذكر محمَّدّ بن السَّريّ بناء خامسًا، وهو "هَنْدَلِعٌ" لبقلة، وأحسبُه رباعيًا، والنون فيه زائدة. ولو جاز أن يجعل "هندلع" بناء خامسًا، لجاز أن يجعل "كَنَهْبَلٌ" بناء سادسًا، وهذا يؤدّي إلى خرق متّسع. فهذه أُصول الأسماء المجرّدة من الزيادة.
فصل [أبنية الاسم الخماسي المزيد]
وقد ذهب الفرّاء والكسائيّ إلى أن الأصل في الأسماء كلّها الثلاثيّ، وأن الرباعيّ فيه زيادة حرف، والخماسيّ فيه زيادة حرفين. والمذهب الأوّل، ولذلك نزنه بالفاء والعين واللام، ولو كان الأمر على ما ذكرا، لقُوبِل الزائد بمثله، وإنّما لم يكن للسداسيّ أصلٌ, لأنه ضعْفُ الأصل الأوّل، فيصير كالمركّب من ثلاثيَّيْن، مثلِ "حَضْرَمَوْتَ"، فافهمْه. فصل [أبنية الاسم الخماسي المزيد] قال صاحب الكتاب: وللمزيد فيه خمسة ولا تتجاوز الزيادة فيه واحدة وأمثلتها خندريس وخزعبيل وعضرفوط ومنه يستعور وقِرطبوس وقبعثري. * * * قال الشارح: لم يتصرّفوا في الاسم الخماسيّ بأكثر من زيادة واحدة، كأنّ ذلك لقلّتها في نفسها، فلمّا قلّت؛ قلّ التصرّفُ فيها، فكأنهم تَنكَّبوا كثرةَ الزوائد لكثرة حروفها، فمن ذلك "فَعْلَلِيل" في الاسم والصفة، فالاسم: "سَلْسَبِيلٌ"، و"خَنْدَرِيسٌ"، والصفة: "دردبيس"، و"علطميس". فالسلسبيل: الليّن الذي لا خُشونةَ فيه. والخندريس: من أسماء الخمر. والدردبيس: الداهية، وهي العجوز المُسِنّة، وخَرَزَةٌ تُحبِّب المرأة إلى زوجها. والعلطميس: المرأة الشابّة. ومن ذلك "فُعَليلٌ" يكون اسمًا وصفة، فالاسم: "خُزَعْبِيل"، والصفة "قُذَعْميل" فالخُزَعبيل: الباطل من كلام ومُزاح. والقذعميل: في معنى "قُذَعْمِلٍ"، وقد فسّرناه. ومن ذلك "فِعْلَلُول"، نحو: "عَضْرَفُوطٍ"، و"قِرْطَبُوس"، و"يَسْتَعُور". فأمّا عضرفوط فالواو فيه زائدة، وهو دابّة، قيل: هو ذكر العَظاء، وكذلك الواو في "قرطبوس". والقرطبوس: الداهية. ويستعور: بلدٌ بالحجاز، والياء في أوّله أصل, لأن الزيادة لا تقع في أوّل بنات الأربعة إلَّا ما كان جاريًا على فعله، نحوُ: "مدحرج"، فـ"يستعور" بمنزلة "عضرفوط". ومن ذلك "فَعَلّلى"، وهو قليل قالوا: "قَبَعْثَرى"، و"ضَبَغْطَرى"، وهما صفتان، فالقبعثرى: الجمل الضخم؛ والضبغطرى: الشديد، والألف في آخرهما زائدة لتكثير الكلمة على حدّها في "كُمَّثْرًى"، وليست للتأنيث, لأنه قد سمع فيهما التنوين، ولو كانت للتأنيث؛ لم يجز صرفهما، ولا للإلحاق؛ لأنه ليس في الأُصول ما هو على هذه العدّة، فتلحقَ به، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني في الأفعال
بسم الله الرحمن الرحيم القسم الثاني في الأفعال فصل [تعريف الفعل] قال صاحب الكتاب: الفعل ما دل على اقتران حدث بزمان, ومن خصائصه صحة دخول "قد"، وحرفي الاستقبال، والجوازم، ولحوق المتصل البارز من الضمائر، وتاء التأنيث الساكنة؛ نحو قولك: "قد فعل", و"قد يفعل", و"سيفعل", و"سوف يفعل", و"لم يفعل", و"فعلت" و"يفعلن" و"افعلي" و"فعلت". * * * قال الشارح: لمّا فرغ من الكلام على القسم الأوّل في الأسماء، وجب أن ينتقل إلى الكلام على القسم الثاني في الأفعال. وهذا الفصلُ يشتمل منه على شيئين: ما هو في نفسه، وما علاماتُه. فأمّا الفعل فكلُّ كلمة تدلّ على معنى في نفسها مقترنةٍ بزمان، وقد يضيف قومٌ إلى هذا الحدّ زيادةَ قَيْد، فيقولون: بزمان محصَّل، ويرومون بذلك الفرقَ بينه وبين المصدر، وذلك أن المصدر يدلّ على زمان، إذ الحَدَثُ لا يكون إلَّا في زمان، لكنّ زمانه غير متعيّن كما كان في الفعل. والحقُّ أنّه لا يُحتاج إلى هذا القيد، وذلك من قبل أن الفعل وُضع للدلالة على الحدث وزمان وجوده، ولولا ذلك، لكان المصدر كافيًا، فدلالتُه عليهما من جهة اللفظ، وهي دلالةُ مطابقة. وقولنا: "مقترن بزمان" إشارة إلى أن اللفظ وُضع بإزائهما دفعة واحدة وليست دلالة المصدر على الزمان كذلك، بل هي من خارح؛ لأن المصدر تُعْقَلُ حقيقته بدون الزمان، وإنّما الزمان من لوازمه، وليس من مقوّماته بخلاف الفعل، فصارت دلالة المصدر على الزمان التزامًا، وليست من اللفظ، فلا اعتدادَ بها، فلذلك لا يحتاج إلى الاحتراز عنه. وقول صاحب الكتاب في حدّه: "ما دلّ على اقتران حدث بزمان" رديءٌ من وجهَيْن: أحدهما: أن الحدّ ينبغي أن يُؤْتَى فيه بالجنس القريب، ثمّ بالفصل الذاتيّ، وقوله:
"ما دلّ" فـ"مَا" من ألفاظ العموم، فهو جنس بعيد، والجيّد أن يُقال: "كلمة"، أو "لفظة"، أو نحوهما؛ لأنهما أقربُ إلى الفعل من "مَا". فإن قلت: "مَا" ها هنا وإن كان عامًّا؛ فالمراد به الخصوص، ووضعُ العامّ موضع الخاصّ جائزٌ، قيل: حاصلُ ما ذكرتم المَجازُ، والحدّ المطلوب به إثباتُ حقيقة الشيء، فلا يستعمل فيه مجازٌ ولا استعارةٌ. والآخر: قوله "على اقتران حدث بزمان", لأن الفعل لم يوضع دليلًا على الاقتران نفسه، وإنمّا وضع دليلاً على الحدث المقترن بالزمان، والاقترانُ وُجد تَبَعًا، فلا يُؤْخَذ في الحدّ على ما تقدّم. ثمّ هذا يُبْطَل بقولهم: "القتالُ اليومَ"، فهذا حدثٌ مقترنٌ بزمان، وليس فعلاً، فوجب أن يؤخذ في الحدّ "كلمةٌ" حتى يندفع هذا الإشكال. وأمّا "خصائصه" فجمعُ "خصيصة"، وهي لوازمه المختصّة به دون غيره، فهي لذلك من علاماته. والفرقُ بين العلامة والحدّ أن العلامة تكون بالأُمور اللازمة، والحدّ بالذاتيّة. والفرق بين الذاتيّ واللازم أن الذاتيّ لا تُفْهَم حقيقةُ الشيء بدونه، ولو قدّرنا انعدامَه في الذهْن، بطلت حقيقةُ ذلك الشىِء، وليس اللازم كذلك، ألا ترى أنّا لو قدّرنا انتفاء الحدث أو الزمان، لبطلت حقيقةُ الفعل؟ وليس كذلك العلامات من نحو"قد" والسين، وسوف، فإنّ عدم صحّة جواز دخول هذه الأشياء عليها لا يقدح في فِعْليّتها، ألا ترى أن فعل الأمر والنهي لا يحسن دخول شيء ممّا ذكرنا عليهما، وهما مع ذلك أفعالٌ؟ فمن خصائص الفعل صحّةُ دخول "قَدْ" عليه، نحوِ: "قد قام"، و"قد قعد"، و"قد يقوم"، و"قد يقعد"، وحرفَي الاستقبال، وهما السين وسَوْفَ، نحوُ: "سيقوم"، و"سوف يقوم". وإنمّا اختصّت هذه الأشياء بالأفعال؛ لأن معانيها في الأفعال، فـ"قَدْ" لتقريب الماضي من الحال، والسين وسوف لتخليص الفعل للمستقبل بعينه، فهي في الأفعال بمنزلة الألف واللام في الأسماء، وكذلك حروف الجزاء، نحوُ: "إن تقم أقم"؛ لأن معنى تعليق الشيء على شرط إنّما هو وقوفُ دخوله في الوجود، على دخول غيره في الوجود، والأسماءُ ثابتة موجودة، فلا يصحّ هذا المعنى فيها؛ لأنها موجودة، ولذلك لا يكون الشرط إلَّا بالمستقبل من الأفعال، ولا يكون بالماضي، ولا الحاضر؛ لأنهما موجودان. وقوله: "ولحوق المتّصل البارز من الضمائر" إنّما قيّد بالبارز تحرُّزًا من الصفات، نحو: "ضارب"، و"مضروب"، و"حَسَنٍ"، و"شديد"، فإنّ هذه الأسماء تتحمّل الضمائر كتحمّل الأفعال، إلَّا أن الضمير لا تبرز له صورةٌ كما يكون في الأفعال، نحوِ: "ضربتُ"، فالتاء فاعلةٌ، وهو ضمير المتكلّم، و"يَفْعَلْنَ" ضمير جماعة المؤنّث، و"افْعَلِي" ضمير المؤنّثة المخاطَبة، وهو بارز غير مستتر، كما يكون في "ضارب" من قولك: "زيدٌ
ضاربٌ". ألا ترى أنّ في "ضارب" ضميرًا يرجع إلى "زيد"، إلَّا أنه ليس له صورة بارزة، وذلك لقوّة الأفعال الذي اتّصالها بالفاعلين، وكونِها الأصل في تحمُّل الضمير. وهذه الأسماءُ إنمّا تحمّلت الضمير بحكم جَرَيانها على الأفعال، وكونها من لفظها. وأمّا تاء التأنيث، فنحو: "قامت"، و"ضربت"، وإنمّا قَيَّدَ ذلك بكونها ساكنة؛ للفرق بين التاء اللاحقة للأفعال، وبين التاء اللاحقة للأسماء، وذلك أن التاء إذا لحقت الفعل، فهي لتأنيث الفاعل لا لتأنيث الفعل، فهي في حكم المنفصلة من الفعل، ولذلك كانت ساكنة، وبناءُ الفعل قبلها على ما كان، والتاءُ اللاحقة بالأسماء لتأنيثها في نفسها، فهي كحرف من حروف الاسم، فلذلك امتزجت بها، وصارت حرف إعراب الاسم، تتحرّك بحركات الإعراب، فلذلك جعلها إذا كانت ساكنة من خصائص الأفعال. فإن قيل: ولِمَ لُقّب هذا النوع فعلًا، وقد علمنا أن الأشياء كلّها أفعال الله تعالى؟ قيل: إنمّا لُقّب هذا القبيل من الكلم بالفعل؛ للفصل بينه وبين الاسم والحرف، وخُصّ بهذا اللقب؛ لأنه دالّ على المصدر، والمصدر هو الفعل الحقيقيّ، فلقّب بما دلّ عليه. فإن قيل: فإنّه يدلّ على الزمان أيضًا، فهلّا لقّب به. قيل: الفعل مشتقّ من لفظ المصدر، وليس مشتقًّا من لفظ الزمان، فلمّا اجتمع فيه الدلالة على المصدر، وأنّه من لفظه؛ كان أخصّ به من الزمان.
ومن أصناف الفعل
ومن أصناف الفعل الماضي فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: وهو الدال على اقتران حدث بزمان قبل زمانك, وهو مبني على الفتح, إلا أن يعترضه ما يوجب سكونه, أو ضمه, فالسكون عند الإعلال ولحوق بعض الضمائر, والضم مع واو الضمير. * * * قال الشارح: لمّا كانت الأفعال مُساوِقة للزمان، والزمان من مقوِّمات الأفعال توجَد عند وجوده وتنعدم عند عدمه؛ انقسمت بأقْسَام الزمان. ولمّا كان الزمان ثلاثةً: ماضٍ وحاضر ومستقبل، وذلك من قبل أن الأزمنة حركات الفَلَك، فمنها حركةٌ مضت، ومنها حركة لم تأتِ بعدُ، ومنها حركة تفصل بين الماضية والآتية؛ كانت الأفعال كذلك: ماض، ومستقبل، وحاضر. فالماضي ما عُدم بعد وجوده، فيقع الإخبار عنه في زمان بعد زمان وجوده، وهو المراد بقوله: "الدالّ على اقتران حدث بزمان قبل زمانك"، أي: قبل زمان إخبارك. ويريد بالاقتران وقت وجود الحدث لا وقت الحديث عنه، ولولا ذلك؛ لكان الحدّ فاسدًا. والمستقبل ما لم يكن له وجود بعدُ، بل يكون زمان الإخبار عنه قبل زمان وجوده؛ وأمّا الحاضر فهو الذي يصل إليه المستقبل، ويسري منه الماضي، فيكون زمان الإخبار عنه هو زمان وجوده. وقد أنكر بعض المتكلّمين فعل الحال، وقال: إن كان قد وُجد، فيكون ماضيًا، وإلا فهو مستقبل، وليس ثمّ ثالثٌ. والحقُّ ما ذكرناه، وإن لطُف زمان الحال لما ذكرناه. وقال: "وهو مبنيّ على الفتح". وللسائل أن يسأل، فيقول: لِمَ بُني الفعل الماضي على الفتح؟ فالجواب أن أصل الأفعال كلّها أن تكون ساكنةَ الآخر، وذلك من قبل أن العلّة التي من أجلها وجب إعراب الأسماء غير موجودة فيها, لأن العلّة الموجبة لإعراب الأسماء الفصلُ بين فاعلها ومفعولها، وليس ذلك في الأفعال إلَّا أن الأفعال انقسمت
ثلاثةَ أقسام: قسمٌ ضارع الأسماءَ مضارَعةٌ تامّةٌ، فاستحقّ به أن يكون معربًا، وهو الفعل المضارع الذي في أوّله الزوائد الأربع، وسيوضح أمر ذلك. والضرب الثاني من الأفعال ما ضارع الأسماء مضارعة ناقصة، وهو الفعل الماضي. والضرب الثالث ما لم يضارع الأسماء بوجه من الوجوه، وهو فعل الأمر. فإذّا قد تَرتّبت الأفعال ثلاثَ مراتبَ: أوّلها: الفعل المضارع، وحقّه أن يكون معربًا، وآخِرُها فعل الأمر الذي ليس في أوّله حرف المضارعة الذي لم يضارع الاسم ألبتّة، فبقي على أصله، ومقتضى القياس فيه السكون. وتَوسّط حال الماضي، فنقص عن درجة الفعل المضارع، وزاد على فعل الأمر؛ لأن فيه بعض ما في المضارع، وذلك أنه يقع موقع الاسم، فيكون خبرًا، نحو قولك: "زيد قام"، فيقع موقعَ "قائمٌ"، ويكون صفة نحو: "مررت برجلٍ قام"، فيقع موقعَ "مررت برجل قائم". وقد وقع أيضًا موقعَ الفعل المضارع في الجزاء، نحو قولك: "إن قمتَ قمتُ"، والمراد "إن تقمْ أقمْ"، فلمّا كان فيه ما ذكرنا من المضارعة للأسماء والأفعال المضارعة، مُيّز بالحركة على فعل الأمر لفضله عليه، إذ كان المتحرّك أمكنَ من الساكن، ولم يُعْرَب كالمضارع لقصوره عن مرتبته، فصار له حكمٌ بين حكم المضارع وحكم الأمر. فإن قيل: ولِمَ كانت الحركة فتحة؟ فالجواب أن الغرض بتحرُّكه أن يجعل له مزيّةٌ على فعل الأمر، وبالفتح تصل إلى هذا الغرض كما تصل بالضمّ، والكسر. والفتُح أخفّ، فوجب استعماله. ووجهٌ ثان وهو أن الجرّ لما مُنع من الفعل، وهو كسرٌ عارضٌ، فالكسر اللازم أوّلى أن يمنع، فلهذا لم يجز أن يبنى على الكسر، ولم يجز أن يبنى على الضمّ؛ لأن بعض العرب يجتزىء بالضمّة عن الواو، فيقول في "قامُوا": "قامُ"، كما قال [من الوافر]: 956 - فلَوْ أنّ الأطبَّا كانُ حَوْلِي ... وكانَ مَعَ الأطبّاءِ الأُساةُ ¬
فلو بُني على الضمّ، لالتبس بالجمع في بعض اللغات، فعُدل عن الضمّ مخافةَ الإلباس والكسرِ لما ذكرناه، فلم يبق إلَّا الفتح، فبُني عليه. وقوله: "إلَّا أن يعترضه ما يوجب سكونه أو ضمّه"، فالسكون عند الإعلال أو لحوقِ بعض الضمائر"؛ أمّا عند الإعلال فنحوُ "غَزَا"، و"رَمَى" ونحوهما مِمّا اعتلّت لامه من الأفعام الماضية. والأصل: "غَزَوَ"، وَ"رميَ" فتحرّكت الواو والياء، وقبلهما مفتوح، فقُلبتا ألفَين، والألف لا تكون إلَّا ساكنة، فهذا معنى قوله: "عند الإعلال". وأمّا "لحوق بعض الضمائر" فيريد ضمير الفاعل البارز، نحوَ: "ضربْتُ"، و"ضربْنَا"، و"ضربْتَ"، و"ضربْتُمَا"، و"ضربْتُمْ"، فإنّ لام الفعل تُسكَّن عند اتّصاله به، وذلك لئلاّ يتوالى في الكلمة الواحدة أربع حركات لوازم، نحوَ قولك: "ضَرَبَتُ" لو لم تسكَّن. وقولنا: "لوازم" تحرّزٌ من ضمير المفعول، نحو: "ضَرَبَكَ"، و"ضَرَبَهُ"؛ لأن ضمير المفعول يقع كالمنفصل من الفعل، وقد تقدّم الكلام على ذلك وعلّةِ اختصاص السكون بالآخِر. وأمّا ضمّه، فعند اتّصاله بالواو التي هي ضمير جماعة الفاعلين المذكّرين، نحوِ: "ضربوا"، و"كتبوا"؛ لأن الواو هنا حرف مدّ، لا يكون ما قبلها إلَّا مضمومًا. فإن قيل: وقد يُقال: "رَمَوْا"، و"غَزَوْا"، فيكون ما قبلها مفتوحًا، قيل: الأصل "رمَيُوا"، و"غَزَوُوا"، فتحرّكت الياء والواو، وانفتح ما قبلهما، فقُلبا أَلفَين، ثمّ وقعت الواو التي هي ضمير الفعل بعدها، فحذفت الألف لالتقاء الساكنين، وبقيت الفتحة قبلها تدلّ على الألف المحذوفة. فالفتح في الأفعال الماضية هو الأصل، والإسكان والضمّ عارض فيها لِما ذكرنا، فاعرفه. ¬
المضارع
ومن أصناف الفعل المضارع فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: وهو ما يعتقب في صدره الهمزة والنون والتاء والياء, وذلك قولك للمخاطب أو الغائبة: "تَفْعَلُ"، وللغائب: "يَفْعلُ", وللمتكلم: "أفْعَلُ", وله إذا كان مع غيره واحداً أو جماعة: "نَفْعَل", وتسمى الزوائد الأربع. ويشترك فيه الحاضر والمستقبل. واللام في قولك: "إن زيداً ليفعل" مخلصة للحال كالسين أو سوف للاستقبال, وبدخولهما عليه قد ضارع الاسم, فأُعرب بالرفع والنصب, والجزم مكان الجر. * * * قال الشارح: هذا القبيل من الأفعال يسمِّيه النحويون المضارع، ومعنى المضارع: المُشابِه، يُقال: "ضارعته، وشابهته، وشاكلته، وحاكيته" إذا صرتَ مثله. وأصلُ المضارعة تقابلُ السَّخْلَيْن على ضَرْع الشاة عند الرضاع، يُقال: "تَضارع السخلان"، إذا أخذ كلّ واحد بحَلَمَة من الضرع، ثمّ اتُّسع، فقيل لكلّ مشتبهَيْن: متضارعان، فاشتقاقُه إذا من "الضرع" لا من "الرضع". والمراد أنه ضارَعَ الأسماءَ، أي: شابهها بما في أوّله من الزوائد الأربع، وهي الهمزة والنون والتاء والياء، نحوُ: "أقوم" و"نقوم"، و"تقوم"، و"يقوم"، فأُعرب لذلك، وليست الزوائد هي التي أوْجبت له الإعرابَ، وإنّما لَمّا دخلت عليه، جعلتْه على صيغة صار بها مشابهًا للاسم، والمشابهةُ أوجبت له الإعراب. فإن قيل: فمن أين أشبه الاسم؟ فالجواب من جهات: أحدها: أنّا إذا قلنا: "زيدٌ يقوم"، فهو يصلح لزمانَيِ الحال والاستقبال، وهو مبهمٌ فيهما، كما أنك إذا قلت: "رأيت رجلًا"، فهو لواحد من هذا الجنس مبهم فيهم، ثمّ يدخل على الفعل ما يُخلِّصه لواحد بعينه، ويقصره عليه، نحوُ قولك: "زيدٌ سَيقوم، وسوف يقوم"، فيصير مستقبلًا لا غير بدخول السين وسوف، كما أنك إذا قلت: "رأيت الرجل"، فأدخلتَ على الواحد
فصل [إعراب الفعل المضارع الذي من الأفعال الخمسة]
المبهم من الأسماء الألف واللام، قصراه على واحد بعينه، فاشتبها بتعيينهما ما دخل عليهما من الحروف بعد وقوعهما أولاً مبهمَيْن. ومنها أنه يقع في مواقع الأسماء، ويؤدّي معانيها، نحوَ قولك: "زيدٌ يضرب"، كما تقول: "زيد ضاربٌ"، وتقول في الصفة: "هذا رجلٌ يضرب" كما تقول: "هذا رجلٌ ضاربٌ"، فقد وقع الفعل هنا موقع الاسم، والمعنى فيهما واحد. والثالث: أنها تدخل عليه لام التأكيد التي هي في الأصل للاسم؛ لأنها في الحقيقة لام الابتداء، نحوَ قولك: "إنّ زيدًا ليَقوم"، كما تقول: "إنّ زيدًا لَقائمٌ". ولا يجوز دخولها على الماضي لبُعْدِ ما بينه وبين الاسم، فلا يُقال: "إنّ زيدًا لَقَامَ" على معنى هذه اللام. فلمّا ضارع الاسمَ من هذه الأوجه؛ أُعرب لمضارَعة المعرب. وإعرابُه بالرفع والنصب والجزم، ولا جرّ فيه كما لا جزمَ في الأسماء، وهذا معنى قوله: "والجزم مكان الجرّ". وسنذكر علّةَ ذلك بعدُ، فاعرفه. فصل [إعراب الفعل المضارع الذي من الأفعال الخمسة] قال صاحب الكتاب: وهو إذا كان فاعله ضمير اثنين, أو جماعة, أو مخاطب مؤنث, لحقته معه في حال الرفع نون مكسورة بعد الألف, مفتوحة بعد أختيها, كقولك: هما يفعلان، وأنتما تفعلان، وهم يفعلون، وأنتم تفعلون، وأنت تفعلين. وجعل في حال النصب كغير المتحرك، فقيل "لن يفعلا"، و"لن يفعلوا"، كما قيل "لم يفعلا", و"لم يفعلوا". * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأمثلة أعني "يفعلان"، و"تفعلان"، و"يفعلون"، و"تفعلون"، و"تفعلين" ليست تثنية للفعل، ولا جمعًا له في الحقيقة, لأن الأفعال لا تُثنَّى، ولا تجمع, لأن الغرض من التثنية والجمع الدلالة على الكثرة، ولفظُ الفعل يُعبَّر به عن القليل والكثير، فلم تكن حاجة إلى التثنية والجمع. وذلك نحو قولك: "قام زيدٌ"، و"ضرب زيدٌ عمرًا"، فيجوز أن يكون قد قام مرّة، ويجوز أن يكون قد قام مرارًا، وكذلك الضرب. ولو وجبت تثنيةُ الفعل أو جمعُه إذا أُسند إلى فاعلَيْن أو جماعةٍ، لجازت تثنيته إذا أُسند إلى واحد، وتكرّر الفعلُ منه، فكان يُقال: "قَامَا زيدٌ" وذلك فاسد. فإذا كان الفعل نفسُه لا يثنّى ولا يجمع؛ فالتثنيةُ في قولك: "يفعلان"، والجمع في قولك: "يفعلون" إنمّا هي للفاعل لا للفعل، والألفُ في قولك: "يضربان" اسمٌ، وهي
ضمير الفاعل، وليست كالألف في "الزيدان"؛ لأن الألف في "الزيدان" حرفٌ، وهي في "يضربان" اسمٌ. وكذلك الواو في "يضربون" ونحوه إنّما هي ضمير الفاعل، وليست كالواو في "الزيدون"؛ لأن الواو في "الزيدون" حرف، وهي في "يضربون" اسم. وكذلك الياء في "تضربين". وكان سيبويه (¬1) يذهب إلى أن هذه الحروف لها حالتان: حالٌ تكون فيها أسماء، وذلك إذا تقدّمها ظاهرٌ، نحوَ قولك: "الزيدان قاما"، و"الزيدون قاموا"، فالألف في "قاما" اسمٌ، وهو ضمير، والواو في "قاموا" اسم، وهو ضمير، وإذا قلت: "قاما الزيدان"، فالألف في "قاما" علامةٌ مُؤذِنةٌ بأنّ الفعل لاثنين، وكذلك الواو في "الزيدون قاموا" اسمٌ؛ لأنه ضمير الفاعل، وإذا قلت: "قاموا الزيدون"، فالواو حرف، وعلامة مؤذنة بأنّ الفعل لجماعة، وعلى ذلك يحمل قولهم: "أكلُوني البَراغِيثُ"، ومنه قوله [من المتقارب]: يَلُومونني في اشتراء النَّخِيـ ... ـل قومي فكلُّهمُ يَعْذُلُ (¬2) ونظير ذلك نون جماعة المؤنّث إذا قلت: "الهندات قُمْنَ"، فالنون ضمير، فإذا قلت: "قُمْنَ الهندات"، فالنون حرف مؤذن بأن الفعل لمؤنّث بمنزلة التاء في "قامت هندٌ". ومنه قول الفرزدق [من الطويل]: ولكِنْ دِيافِيٌّ أبوه وأُمُّه ... بحَوْرانَ يَعْصِرْنَ السَّلِيطَ أقارِبُهْ (¬3) وكان أبو عثمان المازنيّ وجماعة من النحويين يذهبون إلى أن الألف في "قاما"، و"يقومان" حرف مؤذن بأنّ الفعل لاثنين، والواو في "قاموا"، و"يقومون" حرف مؤذن بأنّ الفعل لجماعة، وأنّك إذا قلت: "الزيدان قاما"، و"الزيدون قاموا"، فالفاعل ضمير مستتر في الفعل كما كان كذلك في الواحد من نحوِ: "زيد قام"، إلَّا أن مع الواحد لا يُحتاج إلى علامة، إذ قد عُلم أن الفعل لا يخلو من فاعل؛ فأمّا إذا كان لاثنين أو جماعة، افتقر إلى علامة، إذ ليس من الضرورة أن يكون الفعل لأكثر من واحد. والصحيح المذهب الأوّل، وهو رأي سيبويه؛ لأنك إذا قلت: "الزيدان قاما"، فقد حلّت هذه الألف محلَّ "غلامُهما" إذا قلت: "الزيدان قام غلامُهما"، فلمّا حلّت محلَّ ما لا يكون إلَّا اسمًا، قضي بأنّها اسم. فأمّا الياء في "اضْرِبي"، و"اخْرُجِي" ونحو ذلك، فإنّها اسم أيضًا، وهو ضمير فاعلٍ مؤنّثٍ. وكثيرٌ من النحويين يذهبون إلى أنها حرف علامة تأنيث، والفاعلُ مستكنّ كما كان في المذكّر كذلك، نحوَ: "قُمْ"، و"اذْهَبْ". والصحيح المذهب الأوّل؛ لأنها تسقط ¬
في حال التثنية، نحوِ: "اضْرِبَا"، و"اخرجا". ولو كانت علامة، لم تسقط بضمير التثنية كما لم تسقط في "قامَتَا"، و"ضَرَبتَا". والنون لحقت علامة للرفع في هذه الأمثلة الخمسة، وجعلوا سقوطها علامةً للجزم. والنصبُ محمول عليه كما حُمل النصب على الجرّ في تثنية الأسماء وجمعها, لأن الجرّ والجزم نظيران، وهذا معنى قوله: "وجُعل في حال النصب كغير المتحرّك" يريد بغير المتحرّك: المجزومَ. فإن قيل: ولِمَ كان إعراب هذه الأفعال بالحروف؟ قيل: المقتضي لإعراب هذه الأفعال قبل اتّصال هذه الضمائر بها موجودٌ قائمٌ، فوجب إعرابها لذلك، وكان حرف الإعراب من هذه الأفعال قد تَعذّر تحمّله حركاتِ الإعراب لاشتغاله بالحركات التي يقتضيها ما بعده. ألا ترى أن الألف في نحو "يضربان" لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا، فلا يمكن إعرابه؛ لأنّك لو أعربته، ومن جملة الإعراب الجزمُ الذي هو سكون، فكان يلتقي ساكنان، فكان يؤدّي إلى حذف الألف التي هي ضمير الفاعل، فكانت الألف أيضًا تنقلب واوًا في حال الرفع لانضمام ما قبلها، وكذلك الواو كان يلزم أن تسقط في الجزم. فلمّا نبا حرفُ الإعراب عن تحمُّل حركات الإعراب، ولم يمكن أن تكون في هذه الحروف التي هي ضمائر, لأنها أجنبيّة في الحقيقة من الفعل، فجُعل ما بعدها وهو النون، إذ كان الفاعل يتنزل منزلةَ الجزء من الفعل، وإذا كان ضميرًا متصلًا، اشتدّ اتّصالُه بالفعل وامتزاجُه به، فلم يُعْتَدّ به فاصلًا. وإنّما خُصّت النون بذلك, لأنها أقرب الحروف إلى حروف المدّ واللين، وكانت مكسورة مع ضمير الاثنين، نحوَ: "يضربانِ"، و"تضربانِ"، وذلك لالتقاء الساكنين كما كان كذلك في ثنية الأسماء، لا فرق بينها. وكانت مع الواو والياء في مثل "يضربونَ"، و"تضربينَ" مفتوحة؛ لثقل الكسرة بعد الياء والواو، كما كان كذلك في الجمع، نحو: "الزيدون"، و"العمرين". فإذا قلت: "يضربان"، و"تضربان"، و"يضربون" و"تضربون"، و"تضربين"، كان مرفوعًا لا محالةَ، ولا تحذف هذه النون إلَّا لجزمٍ ونصبٍ، ولا تثبت إلَّا لرفع. فأمّا ما أنشده أبو الحسن من قول الشاعر [من البسيط]: 957 - لولا فوارسُ من نُعْمٍ وأُسْرَتُهُمْ ... يَوْمَ الصُّلَيْعاء لم يُوفُون بالجارِ ¬
فشاذّ، فسبيله عندنا على تشبيه "لَمْ" بـ"لَا". ومثله قول الآخر [من مجزوء الكامل]: 958 - أن تَهْبِطِينَ بِلادَ قو ... مٍ يَرْتَعُونَ من الطّلاحِ فهذا على تشبيه "أن" بـ"مَا" المصدريّة. وهذا طريق الكوفيين؛ فأمّا البصريون فيحملونه وأشباهَه على أنها المخفّفة من الثقيلة، وتخفيفها ضرورة، والضمير فيها ضمير الشأن والحديثِ، والمراد: أنه تهبطين، فاعرفه. ¬
فصل [بناء المضارع]
فصل [بناء المضارع] قال صاحب الكتاب: وإذا اتصلت به نون جماعة المؤنث, رجع مبنيًا، فلم تعمل فيه العوامل لفظاً، ولم تسقط كما لا تسقط الألف والواو والياء التي هي ضمائر, لأنها منها, وذلك قولك: "لم يضربن", و"لن يضربن". ويبنى أيضاً مع النون المؤكدة, كقولك: "لا تضربَنَّ" و"لا تضربَنْ". * * * قال الشارح: اعلم أن هذه النون تلحق آخرَ الفعل علامةً للجمع والضميرِ في نحو قولك: "الهندات قُمْنَ، ويَقُمْنَ"، وعلامة للجمع مجرّدة من الضمير في نحو "قمن الهندات" على ما تقدّم شرحه. فإذا تقدّم الظاهر، كانت النون اسمًا وضميرًا. وإذا تقدّم الفعل، كانت حرفًا مؤذنًا بأنّه لجماعة مؤنّثة، إلَّا أنها إذا اتّصلت بفعل مضارع، أعادته مبنيًا على حاله الأوّل من البناء على السكون، وإن كانت العلّة الموجبة للإعراب، وهي المضارَعة قائمة موجودة، حملًا له على الفعل الماضي من نحو: "جلسْتُ"، و"ضربْتُ". فكما أُسْكن ما قبل الضمير، وهو لام الفعل، كذلك أسكن في المضارع تشبيهًا له به، لأنه فعلٌ كما أنه فعل، وآخِرهُ متحرّكٌ كما أن آخر "فَعَلَ" متحرّك. قال سيبويه (¬1):وليس ذلك فيها بأبعد إذ كانت هي و"فَعَلَ" شيئًا واحدًا مِن "يَفْعَلُ"، إذ جاز فيها الإعراب حين ضارعت الأسماءَ، وليست بأسماء. يعني أنه ليس حملُ المضارع في تسكين آخِره على الماضي، وهما حقيقة واحدة من جهة الفعليّة، بأبعد من حمل الأفعال المضارعة على الأسماء في الإعراب، وهما حقيقتان مختلفان. وتفتح هذه النون؛ لأنها نون جمع كما تفتح نون الجمع في قولك: "الزيدون"، و"العمرون". فإذا قلت: "هنّ يَضْرِبْنَ"، كان الفعل في محلّ رفع، وإذا قلت: "لن يَضْرِبْنَ"، كان في موضع نصب، وإذا قلت: "لم يضربن"، كان في محلّ مجزوم، وذلك لأن موجب الإعراب موجود، وذلك لأن المضارعة قائمة، وإنّما وُجد مانعٌ منه، فحُكم على محلّه بالإعراب. ولا تسقط هذه النون لجزم ولا لنصب كما سقطت تلك النون, لأنها ضمير كالواو في "يضربون"، والألف في "يضربان". فكما لا تسقط الواو والألف هناك، كذلك لا تسقط ها هنا. قال الله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} (¬2)، فأثبت النون لأنها ضمير، وليست علامة رفع كالتي في "لم يضربوا"، و"لن يضربوا". ¬
ونظير هذه النون في بناء الفعل عند اتّصالها به نونُ التأكيد الخفيفة والثقيلة في نحو: "واللهِ لَيقومَنَّ، وليضربَنَّ، وليقومَنْ، وليضربَنْ". وذلك من قبل أن الأصل في الأفعال أن تكون مبنيّة، وإنّما أُعْرِب منها ما أُعرب للشَّبَه بالاسم. فإذا دخلت عليها نون التأكيد، أكّدتْ معنى الفعليّة، ومكّنتْه، فغلب جانبُ الفعل، وبعُد من الاسم، فعاد إلى أصله. ونحوه ما لا ينصرف، إنمّا مُنع من الصرف لشَبَه الفعل، فإذا دخلت عليه الألف واللام، أو أُضيف، بَعُد من الفعل، وتَمكّنت فيه الاسميّةُ، فعاد إلى أصله من دخول الجرّ والتنوين اللذَيْن كانا له في الأصل، هذا مع ما في التركيب من الخروج عن التمكّن، وسيوضح أمرُ ذلك في الحروف، إن شاء الله.
ذكر وجوه إعراب المضارع
ذِكر وجوه إعراب المضارع فصل [وجوه إعراب الفعل المضارع] قال صاحب الكتاب: هي الرفع والنصب والجزم, وليست هذه الوجوه بأعلام على معان كوجوه إعراب الإسم، لأن الفعل في الإعراب غير أصيل, بل هو فيه من الاسم بمنزلة الألف والنون من الألفين في منع الصرف, وما ارتفع به الفعل وانتصب وانجزم, غير ما استوجب به الإعراب, وهذا بيان ذلك. * * * قال الشارح: لَمّا وجب للأفعال المضارِعة أن تكون معربة بالحمل على الأسماء والشبَهِ لها، وكان الإعرابُ جنسًا تحته أنواعٌ؛ كان القياس أن يدخلها جميع أنواعه من الرفع والنصب والجرّ كما كان في الاسم كذلك، إلَّا أن الجرّ امتنع من الأفعال لأمرَيْن: أحدهما: أن الجرّ يكون بأدواتٍ يستحيل دخولها على الفعل، وهي حروف الجرّ والإضافةِ، فحروف الجرّ لها معان من التبعيض والغاية والمِلْك وغير ذلك مِمّا لا معنى له في الأفعال؛ وأمّا الإضافة فالغرض بها التعريف أو التخصيص، والأفعال في غاية الإبهام والتنكير، فلا يحصل بالإضافة إليها تعريفٌ، ولا تخصيص، فلم يكن في الإضافة إليها فائدة. الأمر الثاني: أن الفعل يلزمه الفاعل، ولا يفارقه، والمضاف إليه داخل في المضاف ومن تمامه، وواقعٌ موقع التنوين منه، ولا يبلغ من قوّة التنوين أن يقوم مقامه شيئان قويّان. فإن قيل على الوجه الأوّل: كما أن الجرّ لا يكون إلَّا بأدوات يستحيل دخولها على الأفعال، فكذلك الرفع والنصب في الأسماء، إنما هما للفاعل والمفعول، ولا يكونان إلَّا بالأفعال وحروفٍ يستحيل دخولُها على الأفعال، ومع ذلك فقد دخلا الأفعالَ على غير ذَيْنك الحدّين بأدوات غير أدواتهما في الأسماء، فهلّا كان الجرّ كذلك يدخل الأفعال على غير منهاجه في الأسماء وبأدوات غير أدواته في الأسماء؟ فالجواب: أن الرفع والنصب في الأسماء، الأصلُ فيهما أن يكونا للفاعلين
والمفعولين، وقد يكونان لغيرهما على سبيل الشبَه بهما، ويكون لهما أدوات مَجازية، ولا يصير المرفوع بها فاعلًا حقيقةً، ولا المنصوب مفعولاً حقيقة، وذلك في نحوِ: "كان زيد قائمًا"، ألا ترى أن "زيدًا" ها هنا ليس بفاعل وقع منه فعلٌ، ولا "قائمًا" مفعول وقع به فعل، وإنما ذلك على سبيل التشبيه اللفظي؟ وكذلك "إنّ زيدًا قائم" مشبَّهان بالفاعل والمفعول، وكذلك المبتدأ والخبر يُرفعان على التشبيه بالفاعل، وعاملُهما معنى غير لفظ، وليس كذلك الجرّ، فإنه لا يكون إلَّا بحروف الجرّ أو بالإضافة. فلمّا كان الرفع والنصب قد تُوسّع فيهما في الأسماء، وجاءا على غير منهاج الفاعل والمفعول على سبيل التشبية؛ جاز أن يكونا في الأفعال المشابِهة للأسماء، وجُعل لهما أدوات غير أدوات الأسماء، ولم يكن الجرّ كذلك, لأن أدواته في الأسماء على منهاج واحد لا تختلف، فلمّا لم يتسعوا فيه اتساعَهم في الرفع والنصب، امتنع دخوله في الأفعال، ولم يُجعل له أدوات غير تلك الأدوات، فجُعل الجزم فيها مكانه، وساغٍ دخوله عليها إذ كان حذفًا وتخفيفًا، إذ الأفعال ثقيلة، فلذلك صار إعراب الأفعال ثلاثة: رفعًا ونصبًا وجزمًا. وقوله: "وليست هذه الوجوه بأعلام على معان كوجوه إعراب الاسم" يعني أن الإعراب في الاسم إنما كان للفصل بين المعاني، فكلُّ واحد من أنواعه أمارةٌ على معنى، فالرفعُ علم الفاعليّة، والنصب علم المفعوليّة، والجرّ علم الإضافة، وليس في الأفعال كذلك، وإنما دخل فيها لضرب من الاستحسان ومضارَعةِ الاسم، ولم يدلّ الرفع فيها على معنى الفاعلية، ولا النصب على معنى المفعولية، كما كان في الأسماء كذلك. وقوله: "بل هو فيه من الاسم بمنزلة الألف والنون من الألفَيْن في منع الصرف" يعني أن منزلة دخول الإعراب في الأفعال المضارِعة بمنزلة الألف والنون في "سكرانَ"، و"عطشانَ"؛ لأن الألف والنون إنما منعتا الصرف لشبههما بألفي التأنيث في نحو: "بَيْضاءَ"، و"حمراء"، وإن كان منعُ الصرف في ألفي التأنيث إنما هو للتأنيث ولزومه، وليس منع الصرف في نحو "سكران"، و"عطشان" كذلك، بل بالحمل على ألفي التأنيث، كما كان دخول الإعراب في الأسماء لحاجة الأسماء إليه في الفصل بين المعاني، وفي الأفعال على غير هذا المنهاج. وقوله: "وما ارتفع به الفعل وانتصب وانجزم غيرُ ما استوجب به الإعرابَ"، يريد أن الرفع فيه بعامل، وهو وقوعه مع الاسم، والنصب بالنواصب، والجزم بالجوازم؛ فأمّا الإعراب فيه، وهو استحقاقه لدخول هذه الأنواع عليه، فبالمضارعة، فاعرفِ الفرق بين موجِب الرفع وغيره من أنواع الإعراب، وبين موجب الإعراب نفسه، ولا تغلطْ، وسيوضح أمر العوامل بعدُ، إن شاء الله تعالى.
[المضارع] المرفوع
[المضارع] المرفوع فصل [عامل رفع المضارع] قال صاحب الكتاب: هو في الإرتفاع بعامل معنوي نظير المبتدأ وخبره, وذلك المعنى وقوعه بحيث يصح وقوع الاسم كقولك: "زيدٌ يضرب" رفعته, لأن ما بعد المبتدأ من مظان صحة وقوع الأسماء, وكذلك إذا قلت: "يضرب الزيدان", لأن من ابتدأ كلاماً منتقلاً إلى النطق عن الصمت, لم يلزمه أن يكون أول كلمة تفوه بها إسماً أو فعلاً، بل مبدأ كلامه موضع خبره في أي قبيل شاء. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن عامل الرفع في الفعل المضارع المرفوع إنما هو وقوعُه موقع الاسم، وموجبُ الإعراب مضارَعة الاسم فيهما غيران، والمعنى بوقوعه موقع الاسم أنه يقع حيث يصح وقوع الاسم، ألا ترى أنه يجوز أن تقول: "يضربُ زيدٌ"، فترفع الفعل إذ يجوز أن تقول: "أخوك زيد", لأنه موضع ابتداءِ كلام، وليس من شرطِ من أراد كلامًا أن يكون أوّلُ ما ينطق به فعلًا أو اسمًا، بل يجوز أن يأتي فيه بأيّهما شاء. ولذلك قال: "هو موضع خيرة"، أي كان المتكلم بالخِيار إن شاء أتى بالاسم، وإن شاء أتى بالفعل، هذا مذهب سيبويه (¬1). وقد تَوهّم أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلبُ أن مذهب سيبويه؛ أن ارتفاعه بمضارَعة الاسم، ولم يعرف حقيقة مذهبه، وتَبِعَه على ذلك جماعة من أصحابه. والصحيحُ من مذهبه أن إعرابه بالمضارَعة، ورفعه بوقوعه موقع الاسم على ما ذكرنا. وذهب جماعة من البصريين إلى أن العامل في الفعل المضارع الرفع إنّما هو تَعَرّيه من العوامل اللفظيّة مطلقًا. وذلك ضعيف؛ لأنّ التعزّي عدمُ العامل، والعاملُ ينبغي أن يكون له اختصاص بالمعمول، والعدمُ نسبتُه إلى الأشياء كلّها نسبةً واحدةً، لا اختصاصَ له بشيء دون شيء، فلا يصحّ أن يكون عاملً. وزعم الفرّاء من ¬
الكوفيين (¬1) أن العامل فيه الرفع إنما هو تجرّده من النواصب والجوازم خاصّة، وهو أيضًا ضعيف لأمرَيْن: أحدهما: أنه تعليل بالعلم المحض، وقد أفسدناه. والثاني: أن ما قاله يقضىِ بأن أوّل أحوال الفعل المضارع النصبُ والجزمُ، والأمر بعكسه. وذهب الكسائيّ منهم أيضًا إلى أن العامل فيه الرفع ما في أوّله من الزوائد الأربع. قال: لأنه قبلها كان مبنيًّا، وبها صار مرفوعًا، فأُضيف العمل إليها ضرورة، إذ لا حادثَ سواها. وهو قول واهٍ أيضًا, لأنّ حرف المضارعة إذا دخل الفعلَ، صار من نفس الفعل كحرف من حروفه، وجزءُ الشيء لا يعمل في باقيه, لأنه يكون عاملاً في نفسه. ووجه ثان أن الناصب يدخل عليه، فينصبه، والجازم يجزمه، وحروف المضارعة موجودة فيه، فلو كانت هي العاملةَ الرفعَ؛ لم يجز أن يدخل عليها عاملٌ آخر، كما لم يدخل ناصبٌ على جازم، ولا جازمٌ على ناصب. فإن قيل: فأنت قد تقول: "إنْ لم يفعل فلان كذا وكذا، فعلتُ كذا وكذا" فتُدْخِل حرف الشرط على "لم" وهىِ جازمة مثلُه، وغلب أحدهما على الآخر، فكذلك حرف المضارعة يعمل الرفع في الفعل، فإذا دخل عليه ناصب أو جازم؛ غلب فصار العمل له؟ فالجواب أن الفرق بينهما أن "إن" الشرطيّة بطل عملُها بعامل بعدها لقربه من المعمول، وفيما نحن فيه يبطل بعامل قبله، وكلاهما لفظي، فبان الفرق بينهما. فإن قيل: فإذا قلتم: إنه يرتفع بوقوعه موقعَ الاسم، فما بالكم ترفعونه بوقوعه موقع مرفوع ومنصوب ومخفوض في قولك: "زيدٌ يضربُ"، و"ظننتُ زيدًا يضربُ"، و"مررت يزيد يضربُ"، وهلّا اختلف إعراب الفعل بحسب اختلاف إعراب الاسم الواقع موقعه؟ فالجواب أن عامل الرفع في الفعل إنما هو وقوعه بحيث يصح وقوع الاسم، وذلك شيء واحد لا يختلف؛ وأمّا اختلاف إعراب الاسم، فبحسب اختلاف عوامله، وعواملُ الاسم لا تأثير لها في الفعل، فلا يختلف إعراب الفعل باختلافها. فإن قيل: ولِمَ كان وقوعه موقع الاسم يوجب له الرفع دون غيره من نصب أو جزم؟ قيل: من قبل أن وقوعه موقع الاسم ليس عاملًا لفظيًّا، فأشبه الابتداءَ الذي ليس بعامل لفظي، فعمل مثل عمله، فاعرفه. ¬
فصل [استعمال الفعل المضارع في مواضع لا يستعمل الاسم فيها]
فصل [استعمال الفعل المضارع في مواضع لا يُستعمل الاسم فيها] قال صاحب الكتاب: وقولهم: "كاد زيد يقوم", و"جعل يضرب", و"طفق يأكل"، الأصل فيه أن يقال قائماً وضارباً وآكلاً ولكن عدل عن الاسم إلى الفعل لغرضٍ, وقد استعمل الأصل فيمن روى بيت الحماسة [من الطويل]: 959 - فأُبتُ إلى فهم وما كدت آئبًا ... [وكم مثلها فارقتها وهي تصفرُ] * * * قال الشارح: كاْنّ صاحب الكتاب لمّا قرّر أن الفعل يرتفع بوقوعه موقع الاسم، اعترض على نفسه بقولهم: "كاد زيد يقوم"، و"جعل يضرب"، و"طفق يأكل"، فإن هذه الأفعال مرتفعة في هذه المواضع، ولا يستعمل الاسم فيها، فلا يُقال: "كاد زيد قائمًا"، و"طفق آكلًا"، ولا "جعل ضاربًا"، ثم أجاب عن ذلك بأن قال: الأصل في "كاد زيدٌ ¬
يقوم" أن يُقال: "قائمًا" وفي "جعل يضرب": "ضاربًا"، وفي "طلق يأكل": "آكلًا"، وإنما عُدل عن الاسم إلى لفظ الفعل لغرض. وذلك الغرض إرادةُ الدلالة على قرب زمن وقوعه والالتباسِ به، فإذا قلت: "كدتُ أفعل"، كأنّك قلت: "مقارِبًا لفعله آخِذًا في أسباب الوقوع فيه"، ولستَ بمنزلةِ من لم يَتعاطه، بل قربتَ من زمنه حتى لم يبق بينك وبينه شيء إلَّا مواقَعتُه. وهذا معنى لا يستفاد من لفظ الاسم. والذي يدلّ على صحّة ذلك أنك تحكم على موضع هذه الأفعال بالإعراب، فتقول هي في محل نصب، والمراد أنها واقعة موقع مفرد حقه أن يكون منصوبًا، ونظيرُ ذلك "عَسَى"، نحوُ قولك: "عسى زيدٌ أن يقوم"، والتقدير: عسى زيد القيامَ، وإن كان المصدر غير مستعمل. ونظائرُ ذلك كثيرة، فأمّا بيت الحماسة [من الطويل]: فأُبْتُ إلى فَهْم وما كِدْتُ آئِبًا ... وكم مثلِها فارقتُها وهي تَصْفِرُ فالبيت لتأبط شرًا، ويروى: "ولم أكُ آئِبًا". فمن قال: "ولم أكُ آئبًا"، لم يكن فيه شاهد ولا شذوذ، والمراد: ولم أك آئبًا في نظرهم, لأنهم كانوا قد أحاطوا به. ومن روى: "وما كدت آئبًا"، وهي الرواية الصحيحة المختارة، فالشاهد أنه استعمل الاسم الذي هو الأصل المرفوض الاستعمالِ موضعَ الفعل الذي هو فرعٌ، وذلك أن قولك: "كدتُ أقوم"، أصله: "كدت قائمًا"، والمعنى: وما كدتُ أؤُوب إلى أهلي، وهم بنو فهم, لأنه أحيط بي، وأشفيتُ على التَّلَف، وقاربتُ أن لا أرجع إليهم. ومثله في مراجَعة الأصل المرفوض قوله [من الرجز]: 960 - أكثرتَ في العَذْل مُلِحًّا دائِمَا ... لا تُكْثِرَنْ إنّي عَسَيْتُ صائمَا ¬
ومن ذلك: "عَسَى الغُوَيْرُ أبْؤُسًا" (¬1)، فاستعمل الاسم موضع الفعل. ووجه ثان في ارتفاع الفعل بعد "كاد" أن الأصل في "كاد زيدٌ يقومُ": "زيدٌ يقومُ"، فارتفع الفعل بوقوعه موقع الاسم في خبر المبتدأ، ثم دخلت "كاد" لمقاربة الفعل، ولم يكن لها عملٌ في الفعل، فبقي على حاله من الرفع. ¬
[المضارع] المنصوب
[المضارع] المنصوب فصل [نصب المضارع] قال صاحب الكتاب: انتصابه بـ "أن" وأخواته، كقولك: "أرجو أن يغفر الله لي"، و {لن أبرح الأرض} (¬1)، و"جئت كي تعطيني"، و"إذن أُكرمك". * * * قال الشارح: قد تقدّم الكلام في إعراب الفعل، وأنّه يدخله الرفع والنصب والجزم، وقد استوفيتُ الكلام على رفعه؛ فأمّا النصب فيه فبعواملَ لفظية، وهي "أنْ"، و"لَن"، و"كَي"، و"إذَنْ". هذه الأربعة تنصب الفعل بأنفسها، وما عداها فبإضمارِ "أن" معها على ما سيأتي بيانه. والأصلُ من هذه الأربعة "أن"، وسائر النواصب محمولة عليها. وإنما عملت لاختصاصها بالأفعال كما عملت حروف الجرّ في الأسماء لاختصاصها بها، وأمّا عمل النصب خاصة فلشَبَه "أنِ" الخفيفة بـ"أنَّ" الثقيلة الناصبة للاسم. ووجهُ المشابهة من وجهين: من جهة اللفظ والمعنى: فأمّا اللفظ فهما مثلان، وإن كان لفظ هذه أنقص من تلك، ولذلك يستقبحون الجمع بينهما، كما يستقبحون الجمع بين الثقيلتَين، فلا يحسن عندهم "إنّ أنْ تقوم خيرٌ لك"، كما يستقبحون "إنّ أنَّ زيدًا قائم يُعجِبني" في معنى "إن قيام زيد يعجبنى". وأمّا المعنى فمن قبل أنّ "أن" وما بعدها من الفعل في تأويل المصدر، كما أنَّ "إنّ" المشدّدة وما بعدها من الاسم والخبر بمنزلة اسم واحد، فكما كانت المشدّدة ناصبة للاسم، جُعلت هذه ناصبة للفعل. فإن قيل: فهلّا ينصبون بـ"مَا" المصدريّة في قولك: "يعجبنى ما تصنع"، وهي مع ما بعدها مصدرٌ كما كانت "أنَّ" كذلك؟ فالجواب أنَّ الفرق بينهما مْن وجهَين: أحدهما: أنّ "أنْ" نصبت لمشابهةِ "أنَّ" الثقيلة بعد استحقاق العمل بالاختصاص؛ فأمّا "مَا" فلم تستحق به العملَ, لأنه لا اختصاص لها بالفعل، ألا ترى أنه يقع بعدها الفعل والاسم، فكما يُقال: "يعجبني ما تصنع" بمعنى صَنِيعُك، فكذلك يُقال: "يعجبني ما أنت صانعٌ" في معنى صنيعك أيضًا، فلمّا لم يكن لها اختصاص واستحقاق لنفس العمل، لم يؤثر فيها شَبَهُ "أنْ" ¬
والوجه الثاني: أنَّ "أن" المخفّفة أشبهت "أنّ" الثقيلة من وجهين: من جهة اللفظ، ومن جهة المعنى على ما تقدّم. وأمّا "مَا" فإنّها أشبهت من جهة واحدة، وهي كونها مع ما بعدها مصدرًا كما أنَّ تلك كذلك، فلم تستحقّ العملَ من جهة واحدة، على أنّ من العرب من يُلْغِي عمل "أنَّ" تشبيهًا بـ"مَا"، وعلى هذا قرأ بعضهم: {أنّ يُتِمُّ الرَّضَاعَةَ} (¬1) بالرفع. ومنه قوله [من البسيط]: 961 - أنَّ تَقْرَآنِ على أسْماءَ وَيْحَكُما ... مني السَّلامَ وأن لا تُشْعِرَا أحدَا والذي يُلْغِي "أن" عن العمل لمشابهةِ "مَا"، فإنّه لا يُعْمِل "ما" لمشابهة "أن"، لعدم اختصاصها، فاعرفه. وأمّا "لَنْ" فحرف ناصب عند سيبويه (¬2)، وهو نقيض "سوف"، وذلك أن القائل إذا قال: "سوف يقوم زيد"؛ فنفيُ هذا "لن يقومَ زيد". ويجوز أن يتقدّم عليها ما عملتْ فيه من الفعل المنصوب، نحوَ قولك: "زيدًا لن أضربَ" بخلافِ "أن", لأن "أن" وما بعدها مصدر، فلا يتقدّم عليه ما كان في حيّزه، وليس كذلك "لن"، لأنها إنما تنصب لشَبَهها بـ"أنْ". ووجهُ الشبه بينهما اختصاصها بالأفعال ونَقْلها إيّاها إلى المستقبل كما كانت "أن" كذلك. ¬
وكان الخليل (¬1) يذهب في إحدى الروايتَين عنه إلى أن الأصل في "لن" "لَا أنَّ"، ثمّ خفّفت لكثرة الاستعمال، كما قالوا: "أيْش"، والأصل: "أيُّ شيءٍ"، فخفّفت، وكما قالوا: "كَينُونَةٌ"، والأصل "كَيّنونة". وهو قول يضعف، إذ لا دليلَ يدل عليه، والحرفُ إذا كان مجموعُه يدلّ على معنى، فإذا لم يدلّ دليل على التركيب؛ وجب أن يُعتقد فيه الإفراد، إذ التركيب على خلاف الأصل. وردّ سيبويه هذه المقالة لجواز تقدم معموله عليه، ولو كانت مركّبة من "لَا أنّ"، لكان ذلك ممتنعًا كامتناعِ "زيدًا لا أن أضربَ". وللخليل أن يقول: إنّهما لما رُكّبا، زال حكمُهما عن حال الإفراد. وكان الفراء يذهَب إلى أن الأصل في "لن"، و"لم"، "لا"، وإنّما أبدل من ألفِ "لا" النون في "لَن"، والميم في "لَمْ". ولا أدري كيف اطّلع على ذلك، إذ ذلك شيء لا يُطلع عليه إلَّا بنَصّ من الواضع. وأمّا "إذَن"، فحرف ناصب أيضًا لاختصاصه، ونقلِه الفعل إلى الاستقبال، كـ"لن"، وهي جواب وجزاء، فيقول القائل: "أنا أزورُك"، فتقول: "إذن أُكرِمَك". فإنّما أردت إكرامًا توقِعه في المستقبل، وهو جواب لكلامه وجزاءُ زيارته، ولها ثلاثة أحوال: أحدها: أن تدخل في الفعل في ابتداء الجواب، فهذه يجب إعمالُها لا غير، نحوُ قولك: "إذن أُكرمَك" في جوابِ: "أنا أزورك". قال الشاعر، وهو عبد الله بن محمد الضبي [من البسيط]: 962 - اُزدُدْ حِمارَك لا يَرْتَع برَوْضَتِنا ... إذَنْ يُرَدَّ وقَيْدُ العَيْرِ مَكْرُوبُ ¬
والثاني: أن يكون ما قبلها واوًا أو فاءً، فيجوز إعمالها وإلغاؤُها، وذلك قولك: "زيدٌ يقوم، وإذن يذهبُ"، فيجوز ها هنا الرفع والنصب باعتبارين مختلفَيْن: وذلك أنك إن عطفت، "وإذن يذهب" على "يقوم" الذي هو الخبر، ألغيتَ "إذن" من العمل، وصار بمنزلة الخبر، لأنّ ما عُطف على شيء صار واقعًا موقعه، فكأنّك قلت: "زيد إذن يذهبُ"، فيكون قد اعتمد ما بعدها على ما قبلها, لأنه خبر المبتدأ. وإن عطفته على الجملة الأولى كانت الواو كالمستأنَفة، وصار في حكم ابتداء كلام، فأُعمل لذلك، ونُصب به قال الله تعالى: {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} (¬1)، وفي قراءة ابن مسعود "وإذًا لا يلبثوا" بالنصب على ما ذكرنا، وقال تعالى: {فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا} (¬2). وأمّا الحالة الثالثة: فأن تقع متوسّطة لا محالةَ، معتمِدًا ما بعدها على ما قبلها، أو كان الفعل فعلَ حال غيرِ مستقبل، وذلك في جواب من قال: "أنا أزورك": "أنا إذن أكرمُك"، فترفع هنا, لأنّ الفعل معتمد على المبتدأ الذي هو "أنا". وكذلك لو قلت: "إن تكرمْني إذن أكرمْك"، فتجزم لأنّ الفعل بعد "إذن" معتمد على حرف الشرط، وإنما أُلغيتْ في هذه الأحوال؛ لأنّ ما بعد "إذن" معتمد على ما قبلها، وما قبلها محتاج إلى ما بعدها، وهي لا تعمل إلَّا مبتدأة، ولا يصح أن تُقدَّر مبتدأةً لاعتمادِ ما بعدها على ما قبلها، وكانت ممّا قد يُلْغَى في حال، فأُلغيت هنا، فأمّا قول الشاعر [من الرجز]: 963 - لا تَتْرُكَنِّي فِيهِمُ شَطِيرَا ... إنِّي إذَنْ أهْلِكَ أو أطِيرَا ¬
فإنه شاذ، وإن صحت الرواية، فهو محمول على أن يكون الخبر محذوفًا، وابتدأ "إذَنْ" بعد تمام الأول بخبره. وساغ حذف الخبر لدلالة ما بعده عليه، كأنه قال: "لا تتركنّي فيهم غريبًا بعيدًا إِني أذِلُّ، إذًا أهلكَ أو أطيرا"، أو يكون شبّه "إذن" هنا بـ "لَنْ" فلم يُلغِها, لأنهما جميعًا من نواصب الأفعال المستقبلة، ويشبّه "إذن" من عوامل الأفعال بأفعال الشك واليقين, لأنها أيضًا تُعْمَل وتُلْغَى، إلَّا أن أفعال الشك، إذا تأخّرت أو توسّطت، يجوز أن تعمل، و"إذن"، إذا توسّطت بين كلامَيْن أحدُهما محتاج إلى الآخر، لم يجز أن تعمل لأنها حرف، والحروف أضعف في العمل من الأفعال، فلذلك جاز في أفعال اليقين والشكّ الإعمال إذا توسّطت، أو تأخرت، ولم يجز إعمال "إذن" في الموضع الذي ذكرناه. وأمّا "كَيْ" فللعرب فيها مذهبان: أحدهما: أن تكون ناصبة للفعل بنفسها بمنزلةِ "أنْ"، وتكون مع ما بعدها بمنزلةِ اسم، كما كانت "أن" كذلك. والآخر أن تكون حرف جرّ بمنزلة اللام، فينتصب الفعل بعدها بإضمار "أنْ" كما ينتصب بعد اللام. فماذا كانت بمنزلة "أن"، جاز دخول اللام عليها. قال الله تعالى: {لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ} (¬1)، و {لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا} (¬2). وقياسُ "كَيْ" هذه أن تكون بمنزلة "أنْ"، ولولا ذلك، لم يجز دخول اللام عليها، لأنّ حرف الجرّ لا يدخل على مثله، فأمّا قول الشاعر [من الوافر]: 964 - فلا واللهِ لا يُلْفَى لِما بي ... ولا لِلِما بهم أبَدًا دَواءُ ¬
فصل [نصب المضارع بـ"أن" مضمرة]
فشاذّ لا يحمل عليه غيره ممّا كثر وفَشَا. وإذا كانت حرف جرّ، جاز دخولها على الأسماء كدخول حرف الجرّ، من ذلك قول بعض العرب: "كَيْمَه"، فأدخل "كي" على "ما" في الاستفهام، كما يدخل عليها حروف الجرّ، نحوُ: "لِمَ"، و"بِمَ"، و"عَمَّ" فحذف الألف كما يحذفها مع حروف الجرّ، وأُدخل عليها هاء السكت في الوقف، فقال. "كَيمَهْ"، كما يُقال: "فِيَمْه"، و"عَمَّهُ". فإذا قلت: "جئتُ لكي تُكرِمَني"، لم تكن إلَّا الناصبة بنفسها لدخول اللام عليها. وإذا قلت: "جئت كي تكرمني" من نحو قوله تعالى: {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} (¬1)، جاز فيه الأمران جميعًا. على أنه قد حُكي عن الخليل أنه لا ينتصب بشيء إلا بـ"أنْ" إمّا أن تكون ظاهرة أو مقدّرة، وهذا يقتضي أن يكون النصب بعد "كَيْ"، و"إذَنْ"، بإضمار "أن"، فاعرفه. فصل [نصب المضارع بـ"أنْ" مضمرة] قال صاحب الكتاب: وينتصب بـ "أن" المضمرة بعد خمسة أحرف وهي: "حتى"، واللام، و"أو" بمعنى "إلى"، وواو الجمع، والفاء، في جواب الأشياء الستة الأمر والنهي والنفي والاستفهام والتمني والعرض. وذلك قولك: "سرت حتى أدخلها"، وجئتك لتكرمني، ولألزمنك أو تعطيني حقي، ولا تأكل السمك وتشرب اللبن، وإيتني فأكرمك، و {ولا تطغوا فيه فيحل عليكم غضبي} (¬2)، و"ماتأتينا فتحدثنا"، و {فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا} (¬3) , و {يا ليتني كنت معهم فأفوز} (¬4) , و"ألا تنزل فتصيب خيراً". * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن الفعل ينتصب بعد هذه الأحرف التي ذكرها، وهي خمسة، منها اثنان من حروف الجرّ، وثلاثة من حروف العطف، وهما "حَتَّى"، واللام، وذلك قولك: "سرت حتى أدخلَها"، و"جئتك لتكرمَني"، فالفعل بعد هذه الحروف ينتصب بإضمار "أنْ" لا بها نفسها. فإن قيل: ولِمَ قلتم: إن "أن" مقدّرة بعد هذه الحروف، ولم تكن مقدّرة بعد "إذَنْ"، و"لَن"، و"كَيْ"؟ قيل: إن "إذن"، و"لن"، و"كي" في أحد وجهَيْها تلزم الأفعالَ، وتُحْدِث فيها معانِيَ، فصارت كـ"أنْ" في لزومها الفعلَ، فحُملت عليها، وعملت عملها لمشارَكتها إيّاها على ما وصفنا؛ فأما اللام و"حَتَّى"، فهما حرفا جرّ، وعواملُ الأسماء لا تعمل في الأفعال، فإذا وُجد الفعل بعدهما منصوبًا، كان بغيرهما. فإذا قدّرتَ "أنْ" صارت اللام، و"حتى"، عاملتَيْن في اسم على أصلهما، لأنّ "أن" والفعل في تأويل الاسم. وإنما ساغ حذفُ "أن" والنصب بهما, لأنّ "حتى"، واللام صارتا عوضين منها، فكانت كالموجودة لوجود العوض منها. وقال الكوفيون (¬1): النصب في قولك: "جئتُ لأكرمَك"، و"سرت حتى أدخلَ المدينة"، إنما هو باللام، و"حتى"، فاللامُ هي الناصبة لـ"أكرمك"، وهي بمنزلةِ "أن"، وليست هي لام الخفض التي في الأسماء، ولكنها لام تفيد الشرطَ، وتستعمل على معنى "كَيْ". وإذا أتت اللام مع "كَيْ"؛ فالنصب باللام، و"كي"، مؤكِّدة لها. وإذا انفردت "كي"، فالعمل بها، وإن جاءت "أنْ" مظهرةً بعد "كَي"، فهو جائز عندهم، وصحيح أن يُقال: "جئتك لكي أن تكرمني"، ولا موضع لـ"أن", لأنها توكيد لـ"كَيْ" كما أكدتْها في قوله [من الطويل]: 965 - أردتُ لِكَيْمَا أن تَطِيرَ بِقرْبتي ... وتَتْرُكَها شَنَّا ببَيداءَ بَلْقَعِ ¬
ولذلك أجازوا ظهورها بعد "حتى" كظهورها بعد "كي"، والنصبُ عندهم بـ"حتى" كالنصب بـ"أنْ"، فإذا قلت: "لأسِيرَنَّ حتى أن أُصَبِّحَ القادِسيَّةَ"، فهو جائز، والنصب بـ "حتى"، و"أنْ"، توكيد لـ"حتى" كما كانت توكيدًا لـ"كي". وقال ثعلب قولاً خالف فيه أصحابَه والبصريين، وذلك أنه قال في "جئت لأكرمك"، و"سرت حتى أدخل المدينة": إن المستقبل منصوب باللام و"حتى"، لقيامهما مقام "أنْ "، فخالف أصحابَه, لأنهم يقولون: إن النصب بهما بطريق الأصالة، ولم يوافق البصريين, لأنه يقول: إن النصب بهما لا بمضمر بعدهما. وما احتجّ به الكوفيون أنهم قالوا: لو كانت اللام الداخلة على الفعل هي اللامَ الخافضةَ، لجاز أن تقول: "أمرتُ بِتُكْرِمَ" على معنَى "أمرت بأن تكرم"، والجواب أن حروف الجرّ لا تتساوى في ذلك, لأنّ اللام قد تدخل على المصادر التي هي أغراض الفاعلين في أفعالهم، وهي شاملة، يجوز أن يسأل بها عن كل فعل، فيقال: "لِمَ فعلت"؟ فيقال: لـ"كذا"؛ لأنّ لكل فاعل غرضًا في فعله، وباللام يخبر عن جميعِ ذلك، و"كَيْ"، و"حَتَّى" في معناها، فكأنها دخلت على "أنْ" والفعل, لأنهما مصدر لإفادةِ "أَنْ" ذلك الغرضَ من إيقاع الفعل المتقدّم، ثم حُذفت "أنْ" تخفيفًا، فصارت هذه الحروف كالعوض منها، ولذلك لا يجوز ظهورُها، وليس ذلك بأوّلِ ما حذف لكثرة الاستعمال. فإن قيل: ولِمَ كانت "أنْ" أوْلى بالإضمار من سائر الحروف؟ قيل: لأمرَيْن: أحدهما: إن "أنْ" هي الأصل في العمل، لِما ذكرناه من شَبَهها بـ"أن" المشدّدة، فوجب أن يكون المضمر "أنْ" لقوّتها في بابها، وأن يكون ما حُمل عليها يلزم موضعًا واحدًا، ولا يتصرّف. والأمر الآخر: أن لها من القوّة والتصرْف ما ليس لغيرها، ألا ترى أنّ "أنْ" يليها الماضي والمستقبل بخلاف أخواتها، فإنّها لا يليها إلَّا المستقبل؟ فلمّا كان لها من التصرّف ما ذُكر، جُعلت لها مزيّة على أخواتها بالإضمار، فاعرفه. ¬
وأمّا "حتى"، فإذا نصبت الفعل بعدها؛ فهي فيه حرف جرّ على ما ذكرنا، فإذا قلت: "سرت حتى أدخلَها"، فالفعل منتصب بـ"أنْ" مضمرة، و"أنْ" والفعل في تأويل مصدر، والمصدرُ في محل مخفوض بـ "حتى"، و"حتى" وما بعدها من المصدر في موضع نصب بالفعل، كما أن الجار والمجرور كذلك في قولك: "مررت يزيد"، و"نزلت على عمرو". ولها في النصب معنيان: أحدهما: أن تكون غاية بمعنَى "إلى أن"، والمراد بالغاية أن يكون ما قبلها من الفعل متصلًا بها حتى يقع الفعل الذي بعدها في منتهاه، كقولك: "سرت حتى أدخلَها"، فيكون السير والدخول جميعًا، قد وقعا، كأنك قلت: "سرت إلى دخولها"، فالدخولُ غاية لسيرك، والسير هو الذي يؤدّي إلى الدخول، ومنه قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} (¬1) بالنصب، أي: زلزلوا إلى أن قال الرسول. والثاني: أن تكون بمعنى "كَيْ"، فيكون الفعل الأوّل في زمان، والثاني في زمان آخر غيرَ متصل بالأوّل، وذلك نحو قولك: "كلّمتُه حتى يأمرَ لي بشيء"، والمراد: كلمته كي يأمر لي بشيء، وكذلك "أسلمتُ حتى أدخلَ الجنّة". ولـ"حَتَّى" مواضع أخر قد ذُكر بعضها في العطف، وسيذكر الباقي في موضعه، إن شاء الله تعالى. وأمّا اللام، فهي من حروف الجرّ، ومعناها الغرض، وأن ما قبلها من الفعل علّةٌ لوجود الفعل بعدها، كما كانت "كي" كذلك، وقد تقدّم الكلام عليها. وأمّا حروف العطف، فـ"أوْ"، و"الواو"، و"الفاء"، فهذه الحروف أيضًا ينتصب الفعل بعدها بإضمار "أنْ"، وليست هي الناصبة عند سيبويه (¬2)، وذلك من قبل أنها حروف عطف، وحروف العطف تدخل على الأسماء والأفعال. وكلُّ حرف يدخل على الأسماء والأفعال لا يعمل في أحدهما، فلذلك وجب أن يقدّر "أنْ" بعدها ليصحّ نصب الفعل، إذ كانت هذه الحروف ممّا لا يجوز أن يعمل في الأفعال. وذهب الجرميّ إلى أنها هي الناصبة بأنفسها، وذهب الفرّاء من الكوفيين إلى أن النصب في هذه الأفعال لا بهذه الحروف بل هي منتصبة على الخلاف, لأنها عطفت ما بعدها على غيرِ شَكْله، وذلك أنه لمّا قال: "لا تَظْلِمْني فتَنْدَمَ"، دخل النهي على الظلم، ولم يدخل على الندم. فحين عطفت فعلاً على فعل لا يشاكله في معناه، ولا يدخل عليه حرف النهي كما دخل على الذي قبله، استحقّ النصبَ بالخلاف، كما استحق ذلك الاسمُ المعطوفُ على ما لا يشاكله في قولهم: "لو تُرِكْتَ والأسدَ لأكَلَك". قال: وذلك من قبل أن الأفعال فروع للأسماء، فإذا كان الخلاف في الأصل ناصبًا، وجب أن يكون في الفرع كذلك. والخلاف الموجب للنصب في الأسماء عندهم في ¬
أشياء، منها نصبُ الظروف بعد الأسماء، نحوُ: "زيدٌ عندَك"، و"زيدٌ خلفَك". لمّا خالفتْ هذه الظروفُ ما قبلها، نُصِبَتْ على الخلاف. والمذهبُ الأول؛ فأما قول الجرميّ إنها هي الناصبة، فقد أبطله المبرّد بأنّها لو كانت ناصبة بأنفسها؛ لكانت كـ "أن"، وكان يجوز أن تدخل عليها حروف العطف كما تدخل على "أنْ"، فكان يلزم أن يجوز عنده أن يُقال: "ما أنت بصاحبي فأُحدِّثَك، وفأُكرِمَك" لأنّ الفاء هي الناصبة، وكان يجوز أن يُقال: "لا تأكلِ السَّمَكَ وتشربَ اللبنَ" لأنّ الواو هي الناصبة، ألا ترى أن الواو في القَسَم، لما كانت هي العاملة للخفض مكان الباء، ساغ دخول حرف العطف عليها، وجاز أن يُقال: "والله ووالله". ولمّا كانت واوُ "رُبَّ" أصلها العطفُ، لم يجز دخول حرف العطف عليها، فلا يقال في مثلِ [من الرجز]: وبَلْدَةٍ ليس لها أنِيسُ (¬1) "ووبلدة". كذلك ها هنا، لو كانت هذه الحروف هي الناصبة أنفسها؛ لجاز دخول حرف العطف عليها، كما جاز دخوله على واو القسم. ولمّا امتنع منها ذلك، دلّ على أن أصلها العطف كواو "رُبَّ". وبذلك احتجّ سيبويه في دفع هذه المقالة. فأمَّا "أوْ" فأصلها العطف حيث كانت، وتستعمل في النصب على وجهين: أحدهما: أن يتقدّم فعل منصوبٌ بناصبٍ من الحروف، ثمّ يعطف عليه بـ"أوْ"، كما يعطف بسائر الحروف، وذلك نحوُ: "مدحتُ الأميرَ كي يَهَبَ لي دينارًا، أو يحملَني على دابّةٍ"، ومعناها أحد الشيئين. وهذا الوجه يقع فيه المرفوع والمجزوم إذا تقدّم مرفوع أو مجزوم، وليس بحَتم أن يقع فيه منصوب، فتقول في المرفوع: "أنا أكرمُك، أو أخرجُ"، وتقول في المجزوم "لِيَخْرُجْ زيد إلى البصرة أو يُقِمْ في مكانه". والوجهُ الآخر ما نحن بصدده، وهو أن يُخالِف ما بعدها ما قبلها، ويكون معناها "إلَّا أنْ". والفرق بين هذا الوجه والأول أن الأول لا تعلُّقَ فيه بين ما قبل "أوْ" وبين ما بعدها، وإنما هي لأحد الأمرَين، وليس بينهما ملابسة، إنما هو إخبارٌ بوجود أحدهما، ألا ترى أنه لا ملابسة بين قوله {تُقَاتِلُونَهُمْ} (¬2) وبين {يُسْلِمُونَ} (¬3)، فهو كعطف الاسم على الاسم بـ"أوْ"، نحوِ قولك: "جاءَني زيدٌ أو عمرٌو". والوجه الثاني: أَنْ يكون الفعل الأول كالعامّ في كلِّ زمان، والثاني كالمُخْرِج له عن عمومه، ألا ترى أنك إذا قلت: "لألْزَمَنَّك" أن ذلك عامّ في كلّ الأزمنة، فإذا قلت: "أو ¬
تقضيَني حَقي"؛ فقد أخرجت بعض الأزمنة المستقبلة من ذلك، وجعلته ممتدا في جميع الأوقات سوى وقت القضاء، ففي الأوّل كان مطلقًا، وبالثاني صار مقيَّدًا، وهو في الوجه الأوّل عطف ظاهر، وفي الثاني عطف متأوَّل, لأنك في الأوّل تعطف ما بعدها على ما قبلها، وتُشرِكه في إعرابه وظاهرِ معناه. والنصبُ بعد "أوْ" هذه ليس بإضمارِ "أنْ"، إنما هو بالناصب الذي نصب ما قبلها، ثمّ عُطف عليه بحرف العطف المُشرِك بينهما في العامل، وأمّا العطف المتأوَّل فنحو: "لألزمنّك، أو تُعْطِيَنِي حقّي"، فهذا لا يريد فيه العطف الظاهر, لأنه لم يُرِد إيجاب أحدهما، إنما يريد إيجاب اللزوم ممتدًّا إلى وقت الإعطاء، فلمّا لم يرد فيه العطف الظاهر، تأوَّلوه بـ"أن"، وتَوهموا المصدرَ في الأوّل؛ لأنّ الفعل يدلّ على المصدر، ونصبوا الثاني بإضمارِ "أنْ", لأن "أنْ" والفعل مصدرٌ، وصارت "أوْ" قد عطفت مصدرا في التأويل على مصدر في التأويل، ولذلك لا يجوز إظهار "أنْ"، لئلا يصير المصدر ملفوظًا به، فيؤدّي إلى عطف اسم على فعل، وذلك لا يجوز. ومما يؤكّد عندك الفرق بينهما أنك إذا قلت: "ستُكلِّم زيدًا، أو يَقْضِيَ حاجتَك"، فتنصب "يقضي" على معنى: "إلَّا أنْ يقضي"، فقد جعلت قضاء حاجتك سببًا لكلامه. وإذا عطفت، فإنّما تُخبِر بأنه سيقع أحد الأمرين من غير أن يدخله هذا المعنى، ويوضِح ذلك لك أن الفعلين اللذَيْن في العطف نظيران، أيهما شئت قدّمته فيصحّ به المعنى، فتقول: "سيقضي حاجتَك زيدٌ أو تكلّمه"، إذا عطفت، فأيّهما قدّمت كان المعنى واحدًا، وإذا نصبت اختلف المعنى، فدل على السبب كما بيّنت لك، ولا يصحّ على هذا "سيقضي حاجتك زيدٌ أو تكلِّمَه"، إلَّا أن تريد أن تجعل الكلام سببًا لإبطال قضاء حاجته، فيجوز حينئذ كأنّه يكره كلامَه، فهو يقضي حاجته إن سكت، وإن كلّمه، لم يقضها. فإن قيل: وأيُّ مناسبة بين "أوْ" و"إلَّا أنْ" حتى كانت في معناها؟ قيل: بينهما مناسبة ظاهرة، وهو العدول عن ما أوجبه اللفظ الأوَّل، وذلك أنّا إذا قلنا: "جاءني القومُ إلَّا زيدًا"، فاللفظ الأول قد أوجب دخول "زيد" فيما دخل فيه القوم؛ لأنه منهم، فإذا قلت: "إلَّا"، فقد أبطلت ما أوجبه الأوّل، وإذا قلت: "جاءني زيد أو عمرو"، فقد أوجبت المجيء لزيد في اللفظ قبل دخول "أوْ". فلمّا دخلت، بطل ذلك الوجوبُ، ولأجل هذه المخالفة احتيج إلى تقدير الفعل الأوّل مصدرًا، وعطفِ الثاني عليه على التقدير الذي مضى. ومن النحويين من يقدّر "أوْ" هذه بـ"إلَى"، ويجعل ما بعد "أوْ" غايةً لما قبلها، وإيّاه اختار صاحب هذا الكتاب. والوجه الأوّل، وهو اختيار سيبويه (¬1) , لأنّ قوله: "لألزمنّك" يقتضي التأبيد في جميع الأوقات، فوجب أن يُستثنى الوقت الذي يقع ¬
فيه انتهاؤُه، فلذلك قدّروه بـ"إلَّا"، فيكون المعنى أن الفعل الأول يقع، ثمّ يرتفع بوجود الفعل الواقع بعد "أوْ"، فيكون سببًا لارتفاعه، وعلى قِيلهم يكون ممتدًا إلى غاية وقوع الثاني، فمن ذلك قول امرئ القيس [من الطويل]: 966 - فقلتُ له لا تَبْكِ عَيْنُك إنّما ... نُحاوِلُ مُلْكًا أو نَمُوتَ فنُعْذَرَا والقوافي منصوبة، والتقدير فيه ما قدمناه. ولو رفع، لجاز على تقديرَيْن: أحدهما على الوجه الأول، وهو أن يكون معطوفًا على "نحاول"، أو يكون مستأنَفًا، كأنه قال: "أو نحن نموتُ، فنُعْذَرُ". ومن ذلك قوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (¬1) بالرفع على الاشتراك بين الثاني والأوّل، أو على الاستئناف، كأنه قال: "أو هم يسلمون". وقد وُجد في بعض المصاحف، "أو يُسْلِمُوا" بحذف النون للنصب على الوجه الثاني. والفرقُ بينهما أن مَن رفع كان المراد أن الواقع أحد الأمرين: إمّا القتال، وإمّا الإِسلام، وعلى الوجه الثاني يجوز أن يقع القتال، ثمّ يرتفع بالإِسلام. وأمّا الواو، فتنصب الأفعالَ المستقبلةَ إذا كانت بمعنى الجمع، نحوَ قولهم: "لا ¬
تأكلِ السمك وتشربَ اللبن" أي: لا تجمعْ بينهما، ومنه قول الأخْطَل [من الكامل]: 967 - لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتَأتِيَ مِثْلَه ... عارٌ عليك إذا فعلتَ عظيمُ فالمراد: لا تجمعْ بين أكل السمك وشربِ اللبن، ولا تجمع بين نَهْيك عن شيء وإتيانك مثلَه، والنصب في ذلك كله بإضمار "أنْ" بعد الواو عندنا، كما كان بعد "أوْ"، وحملِه على الفعل الأول، ألا ترى أنهم لم يريدوا بقولهم: "لا تأكلِ السمك وتشرب اللبن" النهيَ عن أكل السمك منفردًا، وشربِ اللبن منفردًا، وإنما المراد أن ينهاه عن الجمع بينهما، لِما في ذلك من الفساد والضرر؟ ولو جزمه بالعطف على ما تقدّم، لكان داخلاً في حكم الأوّل، وكان التقدير: لا ¬
تنه عن خلق، ولا تأتِ مثلَه. ولو كان قال ذلك، لكان قد نهاه أن ينهى عن شيء، ونهاه أن يأتي شيئًا من الأشياء، وهو محال. فلمّا استحال، حَمَلَ الثاني على الأول، كأئَّه تَخيّل مصدرَ الأوّل إذ كان الفعل دالاً عليه مع موافَقة المعنى المرادِ، فصار كأنّه قال: "لا يكن منك نَهيٌ"، ثمّ أضمر "أنْ" مع الثاني، فصار مصدرًا في الحكم، ثمّ عطف مصدرًا متأوَّلاً على مصدر متأوّل، ولذلك لا يجوز إظهارُ "أنْ" فيه، لئلّا يصير المصدر مصرَّحًا به، ثم تعطفه، فتكون قد عطفت اسمًا صريحًا على فعل صريح. فلو كان الأول مصدرًا صريحًا، لجاز لك أن تُظْهِر "أنْ" في الثاني، نحوَ قوله [من الوافر]: 968 - لَلُبْسُ عَباءَةٍ وتَقِرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليّ من لُبْسِ الشُفُوفِ ولو قال: "وأن تقرّ عيني"، لجاز؛ لأنّ الأول مصدرٌ، فـ "لبس عباءة" مبتدأٌ، و"تقرّ عيني" في موضع رفع بالعطف عليه، "وأحبّ إليّ" الخبرُ عنهما. والمعنى أن لبس الخَشِن من الثياب مع قُرّة العين أحبّ إليّ من لبس الشفوف، وهو الرقيق من الملبوس، فالتفضيلُ لهما مجتمعين على لبس الشفوف، ولو انفرد أحدهما، بطل المعنى الذي أراده، إذ لم يكن مراده أن لبس عباءة أحبّ إليه من لبس الشفوف، فلمّا كان المعنى يعود إلى ضمِّ "تقرّ عيني" إلى "لبس عباءة"، اضطُرّ إلى إضمارِ "أنْ" والنصب. وقد حُكي عن الأصمعي أنه قال: لم أسمعه إلَّا "وتأتي مثلَه" بإسكان الياء يجعَله مرفوعًا على ¬
الاستئناف، أو يجعله حالاً، أي: لا تنه عن خلقِ وأنت تأتي مثلَه"، أي: في حال إتيانك مثلَه. وهذا قريب من معنى النصب. فأمَّا قوله تعالى: {يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، فقد قُرئت على وجهَين: برفع الفعلَين الآخِرين، وهما "لا نكذب" و"نكون"، وبنصبهما. وأمّا الرفع، فكان عيسى بن عمر يجعلهما متمنّيين معطوفين على "نردّ"، ويقول: إِن الله تعالى: أكذَبهم (¬2) في تمنِّيهم على قولِ من يرى التمنّي خبرًا. وكان أبو عمرو بن العَلاء يرفعهما لا على هذا الوجه، بل على سبيل الاستئناف، وتأويلِ: "ونحن لا نكذّبُ بآيات ربّنا، ونكونُ من المؤمنين إن رُددنا"، فالفعلان الأخيران خبران غير متمنّيين، ولذلك أكذبهم الله، ولم يكن يرى التمنّي خبرًا. فأمّا النصب -وهو قراءة حمزة وابن عامر وحفصٍ- فعلى معنى الجمع، والتقدير: يا ليتنا يُجْمَع لنا الردّ وتركُ التكذيب والكونُ من المؤمنين، ويكون المعنى كالوجه الأول في دخولهما في التمني، ويكون التكذيب على رأي من يرى التمني خبرًا، فاعرفه. فأمّا "الفاء" فينتصب الفعل بعدها على تقديرِ "أنْ" أيضًا، وذلك إذا وقعت جوابًا للأشياء التي ذكرناها، وهي: الأمر، والنهي، والنفي، والاستفهام، والتمني، والعَرْض. ومنهم من يضيف إليها الدعاء، ويجعلها سبعةً، ومنهم من يجتزىء عن كلّ ذلك بالأمر وحدَه لأنّ اللفظ واحد، فالأمر، نحو قوله: "إيتِني فأكرِمَك". ومنه [من الرجز]: 969 - يا ناقَ سِيري عَنَقًا فَسِيحَا ... إلى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَرِيحَا ¬
ومثال النهي "لا تأتِ زيدًا فيُهِينَك". قال الله تعالى: {وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} (¬1)، وقال تعالى: {لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} (¬2). ومثال النفي. "ما تأتيني فَتُحَدِّثَنِي". قال زياد [من البسيط]: 970 - وما أُصاحِبُ من قَوْمِ فأذْكُرَهم ... إلا يَزيدُهُمُ حُبًّا إليَّ هُمُ ¬
وأمّا الاستفهام، فنحو قولك: "أيْنَ بيتُك فأزُورَك". قال الله تعالى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا} (¬1). وقال الشاعر [من البسيط]: 971 - هل مِن سَبِيلٍ إلى خَمْرٍ فأشرَبَها ... أم هل سبيلٌ إلى نَصْرِ بن حَجّاج والتمنّي: "ليت لي مالاً فأُنفِقَه". قال الله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬2). والعَرض: "ألا تنزلُ فتُحدِّثَ". فهذه الأفعال تُنْصَب بعد هذه الفاء بإضمار "أنْ" إذا كانت جوابًا. وإنّما أضمرت "أنْ" ها هنا، ونُصب بها من قبل أنهم تَخيَّلوا في أوّل الكلام معنى المصدر، فإذا قال: "زُزني فأزُورَك"، فكأنه قال: "لِتكنْ منك زيارةٌ"، فلمّا كان الفعل الأول في تقدير المصدر، والمصدر اسمٌ، لم يسغ عطف الفعل الذي بعده عليه, لأنّ الفعل لا يعطف على الاسم، فإذا أضمروا "أنْ" قبل الفعل، صار مصدرًا، فجاز لذلك عطفُه على ما قبله، وكان من قبيل عطف الاسم على الاسم. وإنما تَخيَّلوا في الأوْل مصدرًا لمخالفة الفعل الثاني الفعلَ الأولَ في المعنى، ولذلك إذا قلت: "ما تَزُورُني فتُحَدِّثَنِي"، لم ترد أن تنفيهما جميعًا، إذ لو أردت ذلك لَرفعت الفعلَيْن معًا، ولكنّك تريد: ما تزورني مُحدِّثًا، أي: قد تزورُني ولا حديثَ، فأثبت له الزيارة، ونفيتَ الحديثَ. فلمّا اختلف الفعلان، ولم يجز العطف على ظاهر ¬
فصل [معنيا الجملة المتضمنة فاء السببية]
الفعل الأول، عدلوا عن الظاهر، وأضمروا مصدره، إذ الفعل يدل على المصدر، فاضطُروا لذلك إلى إضمار "أنْ" لِما ذكرت لك. وأمّا مجيئه بعد غير الفعل فهو أسهل في اعتقاد المصدر, لأنه ليس هناك فعل يجوز عطف هذا الفعل المتأخر عليه، ألا ترى أنك إذا قلت: "أيْنَ بيتُك؟ " ليس هناك فعل يعطف عليه "أزورك"، فحمل على المعنى؛ لأنّ معناه "ليكنْ تعريفُ بيتك منك فزيارةٌ منِّي"؛ لأنّ معنَى "أين بيتك": "عَرِّفْنِي". واعلم أن هذه الفاء التي يجاب بها تعقد الجملة الأخيرة بالأولى، فتجعلهما جملة واحدة، كما يفعل حرفُ الشرط، ولو قلت: "ما تزورُني، فتحدّثُني"، فرفعتَ "تحدّثني"، لم يكن الكلام جملة واحدة، بل جملتين, لأنّ التقدير: "ما تزورُني، وما تحّدثُني"، فقولك: "ما تزورني" جملة على حِيالها، و"ما تحدّثني" جملة ثانية كذلك. والكوفيون يقولون في مثل هذا وأشباهه: إنه منصوب على الصرف، وهذا الكلام، إن كان المراد به أنّه لمّا لم يُرَد فيه عطف الثاني على لفظ الفعل الأول، صُرف عن الفعليّة إلى معنى الاسميّة بأن أضمروا "أنْ"، ونصبوا بها، فهو كلام صحيح. وإن كان المراد أن نفس الصرف الذي هو المعنى عامل، فهو باطل, لأنّ المعاني لا تعمل في الأفعال النصبَ، إنما المعنى يعمل فيها الرفع، وهو وقوعه موقعَ الاسم كما كان الابتداء الذي هو معنى عاملاً في الاسم، فاعرفه. فصل [معنيا الجملة المتضمّنة فاء السببيّة] قال صاحب الكتاب: ولقولك: "ما تأتينا فتحدثنا" معنيان أحدهما "ما تأتينا فكيف تحدثنا" أي "لو أتيتنا لحدثتنا, والآخر "ما تأتينا أبدًا إلا لم تحدثنا", أي منك إتيان كثير ولا حديث منك وهذا تفسير سيبويه (¬1). * * * قال الشارح: إذا قلت: "ما تأتينا فتُحدِّثَنا"، فيجوز في الفعل الثاني النصب والرفع، فالنصب يشتمل على معنيَيْن يجمعهما أن الثاني مخالف للأوّل. فأحدُ المعنيين: ما تأتينا مُحدّثًا، أي: ما تأتينا إلَّا لم تُحدّثْنا، أي: قد يكون منك إتيانٌ، ولا يكون منك حديث. والوجه الآخر: ما تاتينا، فكيف تحدّثنا؟ فهذا معنى غير المعنى الأوّل, لأنّ معناه: لو زُرْتَنا، لَحدّثتَنا، فأنت الآنَ نافٍ للزيارة، ومُعْلِمٌ أن الزيارة لو كانت، لكان الحديثُ. وأمّا الرفع، فعلى وجهين أيضًا: ¬
فصل [ظهور "أن" مع لام "كي"]
أحدهما: أن يكون الفعل الآخِر شريكًا للأول داخلاً معه في النفي، كأنّك قلت: ما تأتينا، وما تحدّثُنا، فهما جملتان مَنفِيتان. والوجه الثاني: أن يكون معنى: "ما تأتينا فتحدّثُنا"، أي: ما تأتينا فأنت تحدّثُنا، كقولك: "ما تُعْطِيني، فأشكرُك"، أي: ما تعطيني، فأنا أشكرك على كلّ حال. ومثلُه في الجزم: "لم تُعْطِني فأشكرُك"، أراد: لم تعطني، فيكون شكرٌ. فإن أراد العطف على الأول؛ قال: "لم أُعْطِك، فتشكرْني" بالجزم؛ فأمّا قوله تعالى: {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} (¬1)، فهو على قولك: "لا تأتيني، فأُعْطِيَك"، على أن تكون "لا" نافية، أي: لو أتيتَني، لأعْطَيْتُك؛ فأمّا قوله تعالى: {يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (¬2) فالرفعُ لا غير؛ لأنه لم يجعل "فيكون" جوابًا من هذا الباب؛ لأنه ليس ها هنا شرط. فصل [ظهور "أنْ" مع لام "كي"] قال صاحب الكتاب: ويمتنع إظهار "أن" مع هذه الأحرف، إلا اللام إذا كانت لام "كي"، فإن الإظهار جائز معها، وواجب إذا كان الفعل الذي تدخل عليه داخلة عليه "لا"، كقولك: "لئلا تعطيني"؛ وأما المؤكدة فليس معها إلا التزام الإضمار. * * * قال الشارح: قد تقدّم الكلام على هذه الحروف، وأنَّها ليست الناصبة بأنفسها، وإنما النصب بإضمار "أن" بعدها، وأتينا على العلّة في امتناع ظهور "أنْ" بعدها؛ فأما اللام، فإن الفعل ينتصب بعدها بإضمار "أنْ"، كقوله تعالى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} (¬3) و {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ} (¬4). ويجوز ظهورُ "أنْ" بعدها، فتقول: "جئتُك لأنّ تُكرِمَني"، و"قصدتُك لأن تزورَني". ولا خلاف بين أصحابنا في صحة استعمال ذلك، ولا أعلمُه جاء في التنزيل، وإنما جاز ظهورُ "أنْ" بعد اللام في الموجب, لأنّ "أنْ" والفعل مصدرٌ، واللام تدخل على المصادر التي هي أغراضُ الفاعلين، وهي قابلةٌ أن يسأل بها عن كل فعل، فيقال: "لِمَ فعلتَ"؟ فتقول: "لكذا"؛ لأنّ لكلّ فاعل غرضًا في فعله، وباللام يُتوصل إلى ذلك، ولذلك كنت مخيَّرًا بين حذفها وإظهارها. فأمّا مع "لا" النافية، فيجب ظهورُ "أنْ"، ولا يحسن حذفها، كقوله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} (¬5). والعلّةُ في ذلك أن هذه اللام هي اللام في قوله: {لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} (¬6)، لكنّها في الموجب باشرتْ لفظَ الفعل، وأصلُها أن تدخل على الاسم، إذ ¬
كانت حرف جرّ، وحروفُ الجرّ مختصة بالاسم، فباشروا باللام هنا لفظَ الفعل؛ لأنّ "أنْ" حاجزٌ مقدر بينهما مع أن الفعل مُشابِهٌ للاسم وخصوصًا المضارعُ، وتالٍ له في المرتبة، فلم يجيزوا دخولَه على الحرف لبُعْده من الاسم، بخلاف لفظ الفعل. ووجه ثان، وهو أنهم كرهوا أن يباشروا باللام لفظَ "لا"، فيتوالى لامان، وذلك مستثقَل، فأظهروا "أنْ" ليزول ذلك الثقلُ, لأنّ حذف "أنْ" إنما كان لضرب من التخفيف، فلمّا أدّى إلى ثقل من جهة أُخرى؛ عادوا إلى الأصل، وكان احتمال الثقل مع موافقة الأصل أوْلى من احتمال الثقل مع مخالفة الأصل بحذف "أنِ" الناصبة. وأمّا المؤكّدة، وهي لام الجحود، فهي تكون مع النفي في باب "كَانَ" الناقصة، كقوله تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} (¬1). وهذه اللام هي اللام في قولك: "جئتُ لتُعْطِيَنِي"، وهي التي أجازوا معها إظهارَ "أنْ". فلمّا اعترض الكلامَ النفيُ، وطال شيئًا، لزم الإضمارُ مع النفي؛ لأنه جوابٌ، ونفيٌ لإيجاب فيه حرفٌ غير عامل في الفعل، فوجب أن يكون بإزائه حرفٌ غير عامل، فقولك: "سيفعل زيدٌ"، أو "سوف يفعل"، فإنّ نَفْيه "ما كان زيد لِيفعلَ". ومنه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} (¬2)، فيُباشِر الفعلَ في حال النفي حرفٌ غير عامل فيه، كما كان كذلك في حال الإيجاب. ووجه ثان، وهو أنه إنما قبح ظهورُ "أنْ" بعد لام الجَحْد, لأنه نقيضُ فعل ليس تقديره تقديرَ اسم، ولا لفظه لفظَ اسم، وذلك أنّا إذا قلنا: "ما كان زيد لِيخرجَ"، فهو قبل الجحد كان "زيد سيخرج، وسوف يخرج". فلو قلنا: "ما كان زيد لأنْ يخرج" بإظهارِ "أنْ"؛ لكُنّا قد جعلنا مُقابِلَ "سوف يخرج"، و"سيخرج" اسمًا، فكرهوا إظهار "أنْ" لذلك؛ لأنّ النفي يكون على حسب الإثبات. وقال الكوفيون (¬3) لام الجحد هي العاملة بنفسها، وأجازوا تقديم المفعول على الفعل المنتصب بعد اللام، نحوَ قولك: "ما كنتُ زيداً لأضربَ"، وأنشدوا [من الطويل]: 972 - لقد وعدتْنِي أُمُّ عمرو ولم أكُنْ ... مَقالَتَها ما كنتُ حَيًّا لأسْمَعَا ¬
ولا دليل في ذلك؛ لأنّا نقول إنه منصوب بإضمار فعل، كأنه قال: "ولم أكن لأسمع مقالتَها" ثم بينَ ما أضمر بقوله: "لأسمع"، كما في قوله [من الطويل]: 973 - [وإنّي امرُؤٌ مِنْ عُصْبَةٍ خِنْدفِيَّةٍ] ... أبَتْ للأعادِي أنْ تَذِلَّ رِقابُها التقدير: أبت أن تذل رقابها للأعادي، ثمّ كرّر الفعل بيانًا للمضمر، فاعرفه. ¬
فصل [النصب والرفع بعد "حتى"]
فصل [النصب والرفع بعد "حتى"] قال صاحب الكتاب: وليس بحتم أن ينصب الفعل في هذه المواضع بل للعدول به إلى غير ذلك معنى وجهة من الإعراب مساغ, فله بعد "حتى" حالتان هو في إحديهما مستقبل, أو في حكم المستقبل, فينصب، وفي الأخرى حال أو في حكم الحال فيرفع, وذلك قولك: "سرت حتى أدخلها"، و"حتى أدخلها". تنصب إذا كان دخولك مترقبًا لما يوجد، كأنك قلت "سرت كي أدخلها"، ومنه قولهم أسلمت حتى أدخل الجنة، وكلمته حتى يأمر لي بشيء". أو كان مقتضيًا إلا أنه في حكم المستقبل من حيث أنه في وقت وجود السير المفعول من أجله كان مترقبًا. * * * قال الشارح: ليس النصب لازمًا في هذه الأشياء بحيث لا يجوز غيره، بل يجوز فيها العطف على ظاهر الفعل المتقدّم، فيشاركه في إعرابه، إن رُفعا، وإن جُزما. ألا ترى أنك إذا قلت: "لا تأكلِ السمكَ وتشربِ اللبنَ" بجزم الثاني؛ كنت قد عطفت الثاني على الأول، ويكون المعنى أنك نهيتَه عن كل واحد على الانفراد حتى لو أكل السمك وحده، كان عاصيًا، ولو شرب اللبن وحده؛ كان عاصيًا. فإذا أُريد النهي عن الجمع لا عن كل واحد منهما، عدل إلى النصب، فهذا معنى قوله: "بل للعدول به إلى غير ذلك من معنى وجهة من الإعراب مساغ"، أي: إذا أُريد غير معنى العطف الصريح، وكان له مساغٌ؛ عدلوا إليه. فمن ذلك "حَتّى" وقد تقدّم الكلام عليها والخلافُ فيها، وهي إذا دخلت على الفعل كانت مذهبَيْن: أحدهما أن يقع الفعل بعدها منصوبًا، والآخر أن يكون مرفوعًا، وذلك على تقديرَيْن: فإذا نصبت الفعل بعدها؛ كان بإضمار "أنْ"، وكانت "حتى" هي الجارّة للاسم من نحو قوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬1)، كما أن اللام كذلك. وظاهرُ أمرها الغايةُ، وأصل معنى الغاية لـ"إلى"، و"حتّى" محمولةٌ في ذلك عليها، فهي حرف جرّ مثلُها، ولذلك جرّت كما جرّت تلك في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} (¬2)، وكلاهما غاية كما ترى، إلَّا أن "حَتى" تُدخِل الثاني فيما دخل فيه الأول من المعنى، فمعناها إذا خفضتْ كمعناها إذا نُسق بها، فلذلك خالفتْ "إلى". فإذا قلت: "أكلتُ السمكة حتى رأسِها" بالخفض، كان المعنى أنّني لم أُبْقِ منها شيئًا كما لو كانت العاطفة، وإذا كانت الجازة على ما قرّرنا، فجارُّ الاسم ليس بناصب للفعل، فهذا انتصب الفعل بعدها، فيكون بإضمار "أنْ"، و"أنْ" والفعل مصدرٌ مجرور ¬
بـ "حتى"، و"حتى" وما عملت فيه في موضع نصب بالفعل المتقدّم، أو ما هو في حكم الفعل ممّا يتعلق به "حتى". ويكون النصب بـ"حتى" هذه على وجهين: ضربٌ يكون الفعل الأول سببًا للثاني، فتكون "حتى" بمنزلة "كَي"، وذلك قولك: "أطِعِ اللهَ حتى يُدخِلَك الجنةَ"، و"كلّمته حتى يأمرَ لي بشيء"، فالصَّلاةُ (¬1) والكلامُ سببان لدخول الجنّة، والأمرِ له بالشيء، ولا يلزم امتداد السبب إلى وجود المسبَّب. والثاني أن لا يكون سببًا للثاني، فيكون التقدير "إلَى أنْ"، وذلك قولك: "سرتُ حتى تطلعَ الشمس"، فهذه لا تكون إلَّا بمعنَى "إلى أن"؛ لأن طلوع الشمس لا يؤدّيه فعلُك، ومثله: "لأنْتَظِرَنَّهُ حتى يَقدَمَ" فالانتظارُ متصل بالقدوم، لأنّ المعنى "إلى أن يقدم"، فكلُّ ما اعتوره هذان المعنيان فالنصب له لازم. وقول صاحب الكتاب: "هو في إحداهما مستقبلٌ، أو في حكم المستقبل فيُنصَب" يريد أن العوامل الظاهرة لا تعمل في فعل الحال, لأنه يُشْبِه الأسماء لدَوامه، فلم تعمل فيه عوامل الأفعال الظاهرةُ كما لم تعمل في الأسماء، ولا تعمل إلَّا في المستقبل، فإذا رأيت الفعل منصوبًا، كان مستقبلاً، أو في حكم المستقبل. مثالُ الأوّل: "أطِع الله حتى يُدْخِلَك الجنةَ"، فالسببُ والمسبّبُ معًا مستقبلان, لأنّ الطاعة لم تُوجَد بعد، ودخولُ الجنة لم يتحقق بعدُ، وإنما هو منتظَر مترقَّب، وقوله: "كلّمتُه حتى يأمرَ لي بشيء" فالسببُ قد وُجد، والمسبَّب لم يتحقق بعدُ إذ قد تَحقق منه الكلام، والأمرُ بشيء مترقب. ومثالُ الثاني "سرتُ حتى أدخلَها"، فالسببُ والمسبّب جميعًا وإن كانا قد وُجدا، إلَّا أن الأول هو المفعول من أجل وجود الثاني، وهو السبب، وكان مترقّبًا منتظرًا، فهو في حكم المستقبل الآن، فالسببُ في كلا الوجهين مستقبل إما حقيقةً وإمّا حكمًا. * * * قال صاحب الكتاب: وترفع إذا كان الدخول يوجد في الحال كأنك قلت: "حتى أنا أدخلها الآن". ومنه قولهم "مرض حتى لا يرجونه"، و"شربت الإبل حتى يجيء البعير يجر بطنه", أو تقضى, إلا أنك تحكي الحال الماضية, وقريء قوله تعالى: {وزلزلوا حتى يقول الرسول " (¬2) منصوبًا ومرفوعًا. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن "حَتَّى" يرتفع الفعل بعدها، وهي التي تكون حرف ابتداء، فيرتفع الاسم بعدها على الابتداء والخبرِ من نحو قوله [من الطويل]: [سَريْتُ بهمْ حَتى تكِلَّ مَطِيُّهُمْ] ... وحتّى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بأرْسانِ (¬1) فهي فيه بمنزلة "أمّا"، و"إنَّمَا"، و"إذَا" وليست الخافضةَ كما كانت إذا انتصب الفعل بعدها، فالرفعُ بعدها على وجهين يرجعان إلى وجه واحد، وإن اختلفت مواضعُها، وذلك أن يكون ما قبلها موجبًا لِما بعدها، ولكن ما يوجبه قد يجوز أن يكون عقيبًا له ومتصلاً به، وقد يجوز أن لا يكون متصلاً به، ولكن يكون مُوَطّأً مُسَهَّلاً بالفعل الأول، وذلك نحوُ: "سرت حتى أدخلُها"، أي: كان منّي سيرٌ فدخولٌ، فليس في هذا معنَى "كَيْ" ولا معنَى "إلى أنْ"، وإنّما أخبرتَ بأن هذا كذا وقع منك، فالسببُ والمسبَّبُ جميعًا قد مضيا. والوجه الآخر أن يكون السير متقدمًا غير متصل بما تُخْبِر عنه، ثمّ يكون مؤديًا إلى هذا، كقولك: "مرض حتى لا يرجونه"، أي: هو الآن كذلك. وقالوا: "شربت الإبل حتى يجيءُ البعير يجرّ بطنه"، أي: وُجد الشرب فيما مضى، وهو الآن يجرّ بطنه، فهو منقطع من الأول، ووجودُه إنما هو في الحال كما ذكرت لك بأنهما يرجعان إلى شيء واحد. فإن قيل: فكيف يرجعان إلى شيء واحد والفعل الواقع بعد "حتى" في الوجه الأول ماضٍ، وفي الثاني حالٌ؟ قيل: وإن كان ماضيًا متقضِّيًا، إلا أنك تحكي الحال التي كان عليها، فصار وإن كان قد تَقضّي في حكم الحال. وقولُنا: "إنهما يرجعان إلى شيء واحد" نعني به أن الفعل الذي قبل "حتى" موجِبٌ ما بعدها، والفعل الذي بعدها حالٌ أو في حكم الحال على ما بيّنّا، فإذا نصبتْ، كانت بمعنى الغاية، أو بمعنى "كَيْ"، وإذا رفعتْ كان ما قبلها موجبًا لِما بعدها. فأمّا قوله تعالى: {وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ} (¬2)، فقد قُرىء برفع الفعل الذي هو "يقول" ونصبِه، فالنصب على وجهين؛ وهو أن يكون القول غاية للزلزال، والمعنى: وزلزلوا فإذَا الرسولُ في حالِ قول، والآخرُ أن تكون "حتّى" بمعنَى "كَيْ"، فتكون الزلزلة علّة للقول، كأنه لمّا آلَ إلى ذلك؛ صار كأنه علّة له. والرفع على وجهين أيضًا: أحدهما: أن يكون "الزلزال" اتصل بالقول بلا مُهلة بينهما, لأنّ القول إنما كان عن الزلزلة غيرَ منقطع، والآخرُ أن يكون "الزلزال" قد مضى، والقولُ واقع الآن، وقد انقطع "الزلزال". * * * قال صاحب الكتاب: وتقول: "كان سيري حتى أدخلها", بالنصب ليس إلا, فإن زدت ¬
فصل [أوجه إعراب الفعل المضارع بعد "أو"]
"أمس" وعلقته بـ "كان" أو قلت: "سيرًا متعبًا", أو أردت "كان" التامة؛ جاز فيه الوجهان, وتقول: "أسرت حتى تدخلها" بالنصب, و"أيهم سار حتى يدخلها" بالنصب والرفع. * * * قال الشارح: إذا قلت: "كان سيري حتى أدخلَها"، لم يحسن فيه إلَّا النصب، ولا يسوغ الرفع؛ لأنك إذا رفعت ما بعد "حتى"، كانت حرف ابتداء كـ"إذاً" و"أمَّا"، يقع بعدها الجملة، والجملةُ إذا لم يكن فيها عائدٌ إلى الأولى، وقعت منقطعة منها أجنبيّة، فلا يسوغ أن يكون خبرًا، كما لو قلت: "كان سيري فإذَا أنا أدخلُها"، لم يجز؛ لأنك لم تأتِ لـ"كَانَ" بخبر. وإذا نصبت، كانت حرف جرّ في موضع الخبر، كما تقول: "كان زيد من الكرام". فإن زدت "أمس"، وقلت: "كان سيري أمس حتى أدخلها"، جاز النصب والرفع، وذلك على تقديرَيْن: إن جعلت "أمس" خبرًا، جاز الرفع لحصول الخبر. وهذا معنى قوله: "وعلّقته بكان"، أي: جعلته خبرًا. وإنّما حقيقةُ تعليقه بمحذوف إذا وقع خبرًا، وإن علّقته بالمصدر الذي هو السير، وجب النصب، ولم يجز الرفع, لأنك لم تأتِ بخبر، وكذلك لو قلت: "كان سيري سيرًا مُتعِبًا حتى أدخلها"، جاز الرفع؛ لأنك جئت لـ"كَانَ" بخبر، وهو قولك: "سيرًا متعبًا". وكذلك إن جعلت "كانَ" التامّةَ؛ جاز الرفع والنصب, لأنها لا تفتقر إلى خبر إذ كانت المكتفية بفاعلها. وأما قولهم: "أسرتَ حتى تدخلَها"؟ فلا يجوز فيه إلَّا النصب؟ لأنه قد تقدّم من قولنا إن الرفع بعد "حتى" يوجب أن يكون ما قبلها سببًا لما بعدها وموجبًا له، فلا بد أن يكون واجبًا، وأنت إِذا استفهمت، كنت غير موجِب، فلا يصلح أن يكون سببًا، فبطل الرفع، وتعيَّنَ النصب؛ لأنّ النصب قد يكون الثاني فيه غاية للأوّل غير مسبَّب عنه، وإن كان السبب والغاية يتقاربان في اشتراكهما في اتصالِ ما قبلهما بما بعدهما. فأمّا إذا قلت: "أيّهم سار حتّى يدخلها"، فإنّه يجوز معه الأمران, لأنّ السؤال إنما وقع عن فاعل السير وتعيينِه؛ فأمَّا السير فمتحقِّقٌ، فجاز أن يكون سببًا وموجِبًا، فحينئذ يجوز الرفع؛ لأنه سبب، والنصب على الغاية أو معنَى "كَيْ". فصل [أوجه إعراب الفعل المضارع بعد "أو"] قال صاحب الكتاب: وقريء قوله تعالى: {تقاتلونهم أو يسلمون} (¬1) بالنصب على ¬
إضمار "أن"، والرفع على الإشتراك بين "يسلمون" و"تقاتلونهم" (¬1) أو على الإبتداء, كأنه قيل "أو هم يسلمون". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن أصلَ "أو" العطف، ومعناها أحد الأمرَيْن، وهي تكون على ضربَيْن: أحدهما: أن تجري على مقتضى العطف، فإن كان ما قبلها مرفوعًا؛ رفعت ما بعدها، نحوَ قولك: "أنا أكرمُك، أو أخرجُ معك"، أي: يكون منّي أحد الأمرين، وكذلك إن كان ما قبلها فعلاً منصوبًا أو مجزومًا، فمثال النصب قولك: "أُريد أن تُعْطِيَنِي دينارًا، أو عشرةَ دراهَم"، وتقول في الجزم: "ليخرجْ زيد أو يقمْ عندنا". والثاني: أن يخالف ما قبلها ما بعدها، ويكون معناها "إلَّا أنْ". والفرقُ بين الوجه الأول والثاني أن الأول لا يُعلِّق بين ما قبل "أوْ" وبين ما بعدها، وإنّما هو دلالة على أحد الأمرين، كعطف الاسم على الاسم بـ"أوْ"، نحوِ قولك: "جاءني زيد أو عمرو"، وعلى الثاني الفعلُ الأوّلُ كالعام في كلّ زمان، والثاني كالمُخْرِج له عن عمومه، ولذلك صار معناه "إلَّا أنْ". فأما قوله تعالى: {سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (¬2)، فالثاني فيه عطفٌ على الأول، والذي يقع من ذلك أحدُ الأمرين: إمّا القتال، وإمّا الإِسلام، فهو خبرٌ بوجود أحدهما من غير تعيين. وقال الزجّاج: هو استئناف، أي: هو خبرُ مبتدأ محذوف، تقديره: أو هم يسلمون، فهو عطف جملة على جملة. وحكى سيبويه (¬3) أنه رأى في بعض المصاحف: "أو يسلموا"، وقيل: هي قراءةٌ لأُبَىٍّ. فـ"يسلموا" هذا ينتصب على معنَى "إلَّا أن"، فيجوز أن يقع القتال، ثمّ يرتفع بالإِسلام. وقال الكسائيّ: معناه: حتى يسلموا، وعلى هذا يكون خبرًا بوقوع القتال والإِسلام، ويكون القتال سببًا للإسلام، أو يكون الإِسلام غاية ينتهي القتالُ عند وجوده. قال صاحب الكتاب: وتقول "هو قاتلي أو أفتدي منه"، وإن شئت ابتدأته على "أو أنا أفتدي". وقال سيبويه (¬4) في قول امريء القيس [من الطويل]: فقلت له لا تبك عينك إنما ... نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا (¬5) ¬
فصل [جواز النصب والجزم بعد الواو في بعض الأساليب العربية]
ولو رفعت لكان عربياً جائزاً على وجهين: على أن تشرك بين الأول والآخر كأنك قلت "إنما نحاول, أو إنما نموت"، وعلى أن يكون مبتدأ مقطوعاً من الأول بمعني "أو نحن ممن يموت". * * * قال الشارح: اعلم أن هذه المسألة على منهاج الآية يجوز: فيها النصب والرفع، فالنصب على معنَى " إلَّا أن"، والمعنى: "يَقْتُلُني، أو أفْتَدِيَ" والمراد أن القتل قد يكون، ويرتفع بالفدية. ولو رفعت، جاز على معنَى: أو أنا ممّن يَقتَدِي. ومثله بيت امرئ القيس [من الطويل]: فقلت له لا تبك ... إلخ يجوز فيه الوجهان: النصب على معنَى "إلَّا أن نموتَ، فنُعْذَرَا" ويجوز أن يكون "أوْ" ها هنا بمعنى "حَتَّى"، كأنه قال: "حتى نموت، فنعذرا". ويكون المراد بالمحاولة على هذا طَلَبَه قبل الظَّفَر به، وسِياسته بعد بلوغه، فيكون المعنى إنّنا نَجِدُّ في الطلب حتى إذا متنا على طلب معالي الأُمور؛ كنّا معذورين. والرفع على الإشراك (¬1) بين الثاني والأوّل. قال سيبويه (¬2): هو عربي جيّد، والمراد: لا تبك عينك، فإنّه لا بد من أحد هذين الأمرين. ويجوز أن يكون على القطع والاستئناف بمعنَى: أو نحن ممّن يموت، فنعذر، إلَّا أن القوافي منصوبة. ويروى "فنُعْذِرا" بكسر الذال، أي: نبلغ العُذْرَ، يُقال: "أعْذَرَ الرجلُ" إذا أتى بعُذْرٍ. قال هذا لعمرو بن قميئةَ (¬3) اليَشكُريّ حين استصحبه في سيره إلى قَيصَرَ. * * * فصل [جواز النصب والجزم بعد الواو في بعض الأساليب العربية] قال صاحب الكتاب: ويجوز في قوله عز وجل: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق} (¬4) أن يكون "تكتموا" منصوباً ومجزوماً كقوله [من الطويل]: 974 - ولا تشتم المولى وتبلغ أذاته ... [فإنك إن تفعل تُسفَّه وتجهل] ¬
وتقول زرني وأزورك بالنصب تعني لتجتمع الزيارتان. كقول ربيعة بن جشم [من الوافر]: 975 - فقلت ادعي وأدعو إن أندى ... لصوت أن ينادي داعيان وبالرفع تعني زيارتك علىَّ علي كل حال, فلتكن منك زيارة ,كقولهم دعني ولا أعود, وإن أردت الأمر, أدخلت اللام, فقلت و"لأزرك", وإلا فلا محمل لأن تقول: "زرني وأزرك"؛ لأن الأول موقوف. * * * ¬
قال الشارح: أمّا قوله تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ} (¬1)، فيجوز أن يكون "تكتموا" مجزومًا بالعطف على لفظِ "لا تلبسوا"، فيُشاركه في إعرابه، ويكون النهيُ عن كلّ واحد منهما، وتقديره: ولا تلبسوا الحق بالباطل، ولا تكتموا الحقّ. ويجوز أن يكون منصوبًا، وحذفُ النون من "تكتموا" علامة النصب، ويكون النهي عن الجمع بينهما على حدّ "لا تأكل السمك وتشربَ اللبن": أي لا تجمعْ بينهما. وجرت هذه المسالةُ يومًا في مجلس قاضي القُضاة بحَلَبَ، فقال أبو الجرْم المَوْصِلي: لا يجوز النصب في الآية, لأنه لو كان منصوبًا، لكان من قبيل "لا تأكل السمك وتشرب اللبن"، وكان مثله في الحكم يجوز تناوُلُ كل واحد منهما كما يجوز ذلك في "لا تأكل السمك وتشرب اللبن"، فقلتُ: يجوز أن يكون منصوبًا ويكون النهي عن الجمع بينهما، ويكون كل واحد منهما مَنهيًّا عنه بدليل آخر. ونحن إنما قلنا في قولهم: "لا تأكل السمك وتشرب اللبن": إِنه يجوز تناوُل كل واحد منهما, لأنه لا دليل إلَّا هذا، ولو قدّرنا ثَمَّ دليلاً آخر للنهي عن كل واحد منهما منفردًا، لكان كالآية، فانقطع عند ذلك، وأما قول الشاعر [من الطويل]: ولا تَشْتُمِ المولى وتَبْلُغْ أذاتَهُ ... فإنّكَ إن تَفْعَلْ تُسَفَّهْ وتَجهَلِ (¬2) فالبيت لجرير، والشاهد فيه جزم "تبلغ" لدخوله في النهي، والمعنى: لا تشتمْه، ولا تبلغ أذاتَه، والمولى هنا ابن العمّ. وتقول: "زُرْني، وأزُورَك" بالنصب، ولا يجوز الجزم؛ لأنه لم يتقدّم ما تحمله عليه؛ لأنّ الذي تقدّم فعلُ أمر مبني على السكون، فلا يصح عطف المضارع المعرب ¬
عليه, لأنّ حرف العطف يُشْرِك في العامل، والأوّلُ بلا عامل، فلم يمكن حمله عليه. ولا يصحّ إرادة الأمر في الثاني؛ لأنّ المتكلّم إذا أمر نفسَه؛ لم يكن ذلك إلَّا باللام, لأنّ أمر المتكلم نفسَه كأمر الغائب، لا يكون إلَّا باللام، ولو جاز أن يكون معطوفًا على الأمر بغير لام؛ لجاز أن تقوله مْبتدِئًا: "أزُرْكَ"، وتريد الأمر، وذلك ممّا لا يجوز إلَّا في ضرورة الشعر، كقوله [من الوافر]: 976 - محمّدُ تَفدِ نفسَك كلُّ نفسٍ ... إذا ما خِفتَ من أمْرٍ تَبالَا وإذا امتنع الجزم، نصب على تقدير "أن"، ويكون المراد الجمع، أي: لتجتمع الزيارتان: زيارةٌ منك، وزيارةٌ مني، فيصح المعنى واللفظ. ويجوز الرفع، فيكون المعنى: إن زيارتك علي واجبة على كلّ حال، فَلْتكن منك زيارة، ولم يُرَد معنى الجمع، وأمّا قوله [من الوافر]: فقلت ادعي ... إلخ فالبيت أنشده صاحب الكتاب، وعزاه إلى رَبيعةَ بن جُشَمَ، وقيل هو للأعشى، وقيل: للحُطَيئَة، والشاهد فيه أنه كالمسألة المتقدّمة: لما امتنع عطف الثاني إلى الأوّل لِما ¬
ذكرناه؛ نَصَبَه بإضمارِ "أنْ"، والمعنى: ليكن منّا أن تَدْعِيَ، وأدْعُوَ، ويروى: و"أَدْعُ" على الأمر بحذف اللام، وأنْدَى: أبعدُ صوتًا، والنَدَى: بُعْدُ الصوت. * * * قال صاحب الكتاب: وذكر سيبويه (¬1) في قول كعب الغنوي [من الطويل]: 977 - وما أنا للشيء الذي ليس نافعي ... ويغضب منه صاحبي بقؤول النصب والرفع. وقال الله تعالى: {لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء} (¬2) أي: ونحن نقر. * * * قال الشارح: روى سيبويه هذا البيت منصوبًا ومرفوعًا، فالنصب بإضمار "أنْ" عطفًا على قوله: "للشيء الذي ليس نافعي"، وتقديره: "وما أنا بقَؤُولٍ للشيء غير النافعي، ولا لغَضَب صاحبي بقؤول". والمراد: بقؤولٍ لِما يكون سببًا لغضبه, لأنه لا يقول الغضبَ. وأما الرفع، فبالعطف على موضعِ "ليس"؛ لأنها من صلةِ "الَّذِي"، و"الَّذِي" تُوصَل بالجمل الابتدائية، ولا يكون لها موضعٌ من الإعراب، فإذا عطفت عليها فعلاً مضارعًا، ¬
فصل [جواز الرفع بعد فاء السببية]
كان في حكم المبتدَأ به، فلا يكون إلَّا مرفوعًا. والرفعُ هنا أوْجَهُ الوجهين؛ لأنه ظاهرُ الإعراب صحيحُ المعنى، والنصب على ظاهره عْيرُ صحيح؛ لأنك تعطفه على الشيء، وليس بمصدر، فيسهلَ عطفُه عليه. وإذا عطفتَه عليه، كان في حكم المخفوض باللام؛ لألْه معطوف على ما خُفض باللام، فيصير التقدير: وما أنا لغضب صاحبي بقؤول. والغضبُ ليس مقولاً، فيفتقر إلى التأويل الذي قدّرناه. وقد ردّ أبو العبّاس المبرّد على سيبويه تقديمَه النصبَ على الرفع هنا، وسيبويه لم يُقدِّم النصب, لأنه أحسن من الرفع، وإنما قدّمه لِما بني عليه البابَ من النصب بإضمار "أنْ". وقوله تعالى: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} (¬1)، لم يأت "ونقرّ"، إلَّا مرفوعًا على الابتداء والاستئناف، كانه قال: و"نحن نقرُّ في الأرحام". ولو نصب، لاختل المعنى، إذ كان بعدُ إذ ذلك لِنبيّن لكم القدرةَ على البَعْث, لأنه إذا كان قادرًا على ابتداع هذه الأشياء بعد أن لم تكن، كان أقدَرَ على إعادتها إلى ما كانت عليه من الحياة, لأنّ الإعادة أسهل من الابتداع. فصل [جواز الرفع بعد فاء السببيّة] قال صاحب الكتاب: ويجوز ما تأتينا فتحدثنا الرفع على الإشراك, كأنك قلت ما تأتينا فما تحدثنا ونظيره قوله تعالى: {ولا يوذن لهم فيعتذرون} (¬2) , وعلى الابتداء كأنك قلت ما تأتينا فأنت تجهل أمرنا. ومثله قول العنبري [من الخفيف]: 978 - غير أنا لم يأتنا بيقين ... فنرجي ونكثر التأميلا ¬
أي: فنحن نرجي, وقال [من الطويل]: 979 - ألم تسأل الربع القواء فينطق ... وهل يخبرك اليوم بيداء سملق قال سيبويه (¬1): لم يجعل الأول سبب الآخر، ولكنه جعله ينطق على كل حال, كأنه قال فهو مما ينطق، كما تقول إيتني فأُحدثك، أي فأنا ممن يحدثك على كل حال, وتقول ودَّ لوا تأتيه فتحدثه, والرفع جيد كقوله تعالى: {ودوا لو تدهن ¬
فيدهنون} (¬1) , وفي بعض المصاحف "فيدهنوا" (¬2) وقال ابن أحمر [من الوافر]: 980 - يعالج عاقراً أعيت عليه ... ليلقحها فينتجها حوارا كأنه قال "يعالج فينتجها", وإن شئت على الابتداء. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول في نحوِ "ما تَأتِينَا فَتُحدِّثُنَا": إنه يجوز في الثاني النصب والرفع، فالنصب من وجهين، وقد تقدّم الكلام عليهما، والرفع أيضًا من وجهين: أحدهما: أن تريد بالثاني ما أردت بالأوّل، وتُشْرِك بينهما، فتعطف، "تحدّثني" على "ما تأتيني"، ويكون النفي قد شملهما، كأنه قال: "ما تأتينا، وما تحدّثُنا"، فهو عطف فعل على فعل. ومثله قوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (¬3)، أي: فلا يعتذرون. ¬
والوجه الثاني: أن يكون الإتيان منفيًّا، والحديث مُوجَبًا، ويكون فيه عطف جملة على جملة، كأنه قال: "ما تأتيني فأنت تحدّثني على كل حال"، وليس أحدهما متعلِّقًا بالآخر، ولا هو شرطٌ فيه. ومثله قول الشاعر [من الخفيف]: غير أنا لم ... إلخ البيت لبعض الحارثيّين، والشاهد فيه قطعُ ما بعد الفاء ورفعُه، ولو أمكنه النصبُ على الجواب، لكان أحسن، فهذا لا يكون إلا على الوجه الثاني، كأنه قال: "فنحن نُرَجي، ونكثِرُ التأميلا"، فهو خبر مبتدأ. ولم يجز الوجه الأوّل؛ لأنْ الأول مَجْزُوم. ومنه قول الآخر وهو جميل بن مَعْمر [من الطويل]: ألم تسأل الربع ... إلخ فالشاهد فيه قطعُ "ينطق" ممّا بعده، ورفعُه على الاستئناف، أي: فهو ينطق على كلّ حال. ولا يجوز الوجه الأوّل, لأنّ الفعل الأوّل مجزوم، ولو أمكنه النصبُ، لكان أحسن، لكن القوافي مرفوعة. والقَواء: القَفْر، وجعله ناطقًا للاعتبار، أي: يُجِيب اعتبارًا، لا حِوارًا لدُروسه، وتغيرِه. ثمّ يُراجِع كالمُنكِر على نفسه بأن الربْع لا يجيب حقيقةً، فقال: "وهل يُخْبِرَنْك اليومَ بَيداءُ سَمْلَقُ". والبيداء: القفر، والسملق: التي لا شيء فيها. قال سيبويه (¬1): لم يجعل الأول سببًا للآخر، أي: لو أراد ذلك، لَنصب، قال: ولكنّه جعله ينطق على كل حال على ما ذكرنا. ومثله "إيتِني فأُحَدّثُك" بالرفع، قال الخليل (¬2): لم ترد أن تجعل الإتيانَ سببًا للحديث، ولكنّك أردتَ: إِيتني، فإنّني ممّن يحدّثك البتّة جئتَ أو لم تجىء. وتقول: "وَدَّ لو تأتينا وتُحَدِّثَنا" بالنصب والرفع، فالنصبُ على معنى التمنّي, لأنّ معناه: ليتك تأتينا، فتحدّثَنا، فتنصب مع "وددت" كما تنصب مع "لَيْتَ"؛ لأنها في معناها، والرفعُ جيّد أيضًا بالعطف على لفظِ "تأتينا"؛ لأنه مرفوع، ويكون التقدير: وددت لو تأتينا، ووددت لو تحدّثُنا. ومثله قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (¬3)، الثاني مرفوع بالعطف على لفظ الأوّل, لأنه شريكه في معناه. وحكى سيبويه (¬4) أنها في بعض المصاحف، "فيدهنوا" بالنصب على معنى التمنّي. وأنشد [من الوافر]: يعالج عاقرًا ... إلخ ¬
فصل [جواز العطف على المضارع المنصوب بالرفع]
البيت لابن أحْمَرَ، والشاهد فيه رفعُه "فينتجُها" إمّا بالعطف على "يعالج" كأنه قال: "يعالج فينتج" أو على القطع عما قبله والابتداء به، كذا الروايةُ، ولو نصبت؛ لجاز بالعطف على المنصوب قبله، وهو أجود, لأنه إذا رفع؛ فقد أوجب وجوده ونتاج العاقر، والمعنى أن هذا يُحاوِل مَضَرّته، ولا يقدر على ذلك، فهو بمنزلةٍ من يحاول نتاجَ ما لا يُلْقَح، والحُوار: ولد الناقة. فصل [جواز العطف على المضارع المنصوب بالرفع] قال صاحب الكتاب: وتقول: "أريد أن تأتيني ثم تحدثني" ويجوز الرفع. وخير الخليل (¬1) في قول عروة العذري [من الطويل]: 981 - وما هو إلا أن أراها فُجاءة ... فأبهت حتى ما أكاد أجيب ¬
بين النصب والرفع، في "فأبهت". ومما جاء منقطعاً قول أبي اللحام التغلبي [من الطويل]: 982 - على الحكم المأتي يوماً إذا قضى ... قضيته أن لا يجوز ويقصد أي عليه غير الجور وهو يقصد، كما تقول عليه أن لا يجوز، وينبغي له كذا. قال سيبويه (¬1): ويجوز الرفع في جميع هذه الحروف التي تشرك على هذا المثال. * * * قال الشارح:: اعلم أن هذه الحروف من حروف العطف أعني الواو، والفاء، و"ثم"، إذا عطفت أدخلت الثاني في حكم الأول، وأشركته في معناه، فإذا قلت: "أُريد أن تأتِيَنِي ثمّ تحدّثني"، جاز النصب بالعطف على الأوّل، ويكون الثاني داخلاً في الإرادة كالأوّل، كأنك قلت: "أُريد أن تأتيَنِي ثم أُريد أن تحدّثَنِي" ويجوز الرفع على القطع والاستئناف، كأنك قلت: "أُريد أن تأتيني، ثمّ أنت تحدّثُني". قال سيبويه، وسألت الخليل عن قول الشاعر [من الطويل]: وما هو إلَّا أن أراها ... إلخ ¬
فقال: أنت في "فأبهت" بالخيار. إن شئت حملتها على "أنْ"، وإن شئت، لم تحملها عليها، فرفعت. البيت لعُرْوَةَ العُذْريّ، وقيل: هو لبعض الحارثيّين. والشاهد فيه جواز الرفع والنصب، فالنصب بالعطف على أن المراد المصدر، والتقدير: فما هو إلَّا الرؤية فأُبْهَتَ، على نحو قوله [من الطويل]: فإن المُنَدَّى رِحْلَةٌ فَرَكُوبُ (¬1) والرفع على القطع والاستئناف، والمعنى: فإذًا أنا مبهوت، وأمّا قول الآخر [من الطويل]: على الحَكَم المَأْتِيّ يومًا إذا قَضَى ... قَضِيَّتَه أن لايَجُورَ ويَقْصِدُ البيت لعبد الرحمن بن أُمّ الحَكَم، وقيل: هو لأبي اللَّحّام التَّغْلِبيّ، وقبله: عَمِرْتُ وأكْثَرْتُ التَّفَكُرَ خالِيًا ... وساءَلْتُ حتّى كاد عُمْرِيَ يَنْفَدُ فأضْحَتْ أمُورُ الناس يَغْشَيْن عالِمًا ... بما يُتقى منها وما يُتعمَّدُ جدِيرٌ بأنّ لا أسْتَكِينَ وَلَا أُرَى ... إذا حَل أمرٌ ساحَتي أتَبَلَّدُ والشاهد فيه رفعُ "يقصد" وقطعه عمّا قبله، فههنا لا يصح النصب بالعطف على الأول؛ لأنه يُفْسِد المعنى, لأنه يصير عليه غيرَ الجَوْر وغير القصد، وذلك فاسد. والوجه الرفع على الابتداء، والمراد: عليه غير الجور، وهو يقصد، والقصد: العَدْل، فهو خبرٌ، ومعناه الأمرُ على حد قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬2)، أي: ينبغي لهنّ ذلك فَلْيَفْعَلْنَ ذلك. ومثله "أريدُ أن تأتيني، فتشتمُني" لا يجوز النصب ها هنا؛ لأنك لم ترد الشتيمةَ، ولكن المراد: كلّما أردتُ إتيانَك تشتمُني، فهو منقطع من "أنْ"، ونحوه قول الراجز: 983 - [الشعرُ صَعْبٌ وطويلٌ سلَّمُه ¬
إذا ارتقى فيه الذي لا يَعْلَمُه زلَّتْ به إلى الحضيضِ قَدَمُه] يُرِيدُ أن يُعْرِبَهُ فَيُعْجِمُهْ فإنّه رفع على الاستئناف وإرادةِ "فهو يعجمُه"؛ لأنه لو نصبه، لكان داخلاً في الإرادة، وليس المعنى عليه. قال سيبويه: ويجوز الرفع في جميع هذه الحروف التي تشرك على هذا المثال، والمراد أن الرفع جائزٌ في كلِّ ما يجوز أن يَشْرَكه الأوّلُ من نصب أو جزم إذا تقدّم ناصبٌ أو جازمٌ على القطع والاستئناف، ويكون واجبًا فيما لا يجوز حمله على الأوّل نحو ما ذكرناه. ¬
[المضارع] المجزوم
[المضارع] المجزوم فصل [جوازم المضارع] قال صاحب الكتاب: تعمل فيه حروف وأسماء، نحو قولك لم يخرج، ولما يحضر، وليضرب، ولا تفعل، وإن تكرمني أكرمك، وما تصنع أصنع, وأياً تضرب أضرب، وبمن تمرر أمر به. * * * قال الشارح: اعلم أن عوامل الجزم على ضربين: حروف وأسماء كما ذكر، فالحروف خمسة، وهي "إنْ"، و"لَمْ"، و"لَمَّا"، و"لام الأمر"، و"لا" في النهي، فهذه الأُصول في عمل الجزم. وإنّما عملت لاختصاصها بالأفعال دون الأسماءَ. والحرفُ إذا اختصّ، عمل فيما يختص به. وهذه الحروف قد أثّرتْ في الأفعال تأثيرَيْن، وذلك أن "إنْ" نقلت الفعلَ إلى الاستقبال والشرطِ، و"لَمْ" نقلته إلى الماضي والنفي، و"لَمَّا" كذلك، إلَّا أن "لَمَّا" لنفي فعل معه "قَدْ"، و"لَمْ" لنفي فعل ليس معه "قَدْ"، فإذا قال القائل: "قام زيد"؛ قلت في نفيه: "لم يقم"، وإذا قال: "قد قام"، قلت في نفيه: "لما يقم". ولامُ الأمر نقلته إلى الاستقبال، والأمرُ والنهي كذلك. فإن قيل: ولِمَ كان عمل بعض الحروف المختصة بالأفعال الجزم، وبعضها النصب، فالجواب عن ذلك أن ما نقله إلى معنى لا يكون في الاسم، عمل فيه إعرابًا لا يكون في الاسم، ولمّا كان الشرط والأمر والنهي لا يكون إلَّا في الأفعال، عملت أدواتُه فيها الجزمَ الذي لا يكون إلَّا في الأفعال. وأمّا "لَمْ"، وَ"لَمَّا"، فإنهما ينقلان الفعل الحاضر إلى الماضي على حدّ لا يكون في الاسم, لأنّ الحدّ الذي يكون في الاسم إنما يكون بقرينة الوقت، كقولك: "زيدٌ ضاربٌ أمسِ"، ولا يجوز "زيدٌ يضرب أمس"، فتنقل الفعل المضارع إلى المُضيّ بقرينة، كما فعلتَ في الاسم، ويجوز "لم يضرب أمس"، فلمّا نقلتْه على حدّ لا يجوز في الاسم، عملتْ فيه إعرابًا لا يكون في الاسم، فلذلك كانت جازمة. فإن قيل: فالحروف الناصبة، نحو: "أنْ"، و"لَنْ"، و"إذَنْ"، و"كَيْ" قد أحدثت في الفعل ما لا يكون في الأسماء، فهلّا كانت جازمة؟ قيل: لَعَمْري لقد كان القياس فيها ما
ذكرتَ، غيرَ أنه عرض فيها شَبَهٌ من "أنَّ" الثقيلة، فعملت عملها على ما سبق، فلذلك تقول: "لم يخرجْ زيد"، فتُدْخِلها على لفظ المضارع والمعنى معنى الماضي. ألا ترى أنك تقول: "لم يقم زيد أمس"، ولو كان المعنى كاللفظ؛ لم يجز هذا كما لم يجز "يقوم زيد أمس". وكذلك "لَمَّا" بمنزلة "لَمْ" في الجزم. قال الله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} (¬1)، فجزمتْ كما تجزم "لَمْ"، إلَّا أن الفرق بينهما أن "لَمْ" لا تكتفي بها في الجواب، لو قال قائل: "قام زيد"، لم يجز أن تقول في جوابه: "لَمْ" حتى تقول: "لم يقم". وإذا قال: "قد قام"، جاز أن تقول: "لَمَّا"؛ لأنها بزيادةِ ما عليها والتركيب قد خرجت إلى شَبَه الأسماء، فجاز أن تكتفي بها في الجواب، كما تكتفي بالأسماء، ولَذلك وقع بعدها مثال الماضي في قولك: "لما جئتَ جئتُ". وأمّا لام الأمر، فنحو قولك: "لِيضربْ زيدٌ عمرًا"، إذا كان للغائب. قال الله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (¬2)؛ وأمّا إذا كان المأمور حاضرًا، لم يُحْتَجْ إلى اللام من قبل أن المواجهة تُغني عنها، وربّما جاءت اللام مع فعل المخاطب، نحوَ قوله تعالى في قراءة أُبَىٍّ: {فَبذَلِكَ فَلْتَفرَحُوا} (¬3). وقد جاء في بعض كلام النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في غَزاةٍ: "لِتَأخُذُوا مَصافَّكم" (¬4). وتقول في النهي: "لا تضربْ"، فهذه الحروف هي الجازمة لِما بعدها بلا خلاف. وأمّا "إن" الشرطية، فتجزم ما بعدها، وهي أُمّ حروف الشرط، ولها من التصرّف ما ليس لغيرها، ألا تراها تُستعمل ظاهرة، ومضمرةَ مقدَّرةً، ويحذف بعدها الشرط، ويقوم غيره مقامه، وتليها الأسماء على الإضمار؟ فأمّا عملها ظاهرةً، فنحو قولك: "إن تكرمْنِي أكرمْك". قال الله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} (¬5). وأمّا عملها مقدّرة، فبعد خمسة أشياء: الأمر، والنهي، والاستفهام، والعَرْض، والتمني، وهو كالجواب بالفاء إلَّا الجَحْدَ، فإنّه لا يجاب بالجزم، وسيوضح ذلك إن شاء الله تعالى. واعلم أنك إذا قلت في الشرط: "إن تكرمْنِي أكرمْك" مَثَلاً، فالفعل الأوّل مجزوم ¬
بـ"إِنْ" بلا خلاف فيما أعلم، وهو الشرط. ومعنى الشرط العَلامة والأمارة، فكان وجود الشرط علامة لوجود جوابه، ومنه أشراطُ الساعة، أي: علاماتها. قال الله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} (¬1). وأمّا الجَزاء، فيُختلف فيه، فذهب أبو العبّاس المبرد إلى إن الجازم للشرط "إن"، و"إنْ" وفعلُ الشرط جميعًا عملا في الجزاء، فهو عنده كالمبتدأ والخبر، فالعامل في المبتدأ الرافع له الابتداء، والابتداء والمبتدأ جميعًا عملا في الخبر، وكذلك "إنْ" هي العاملة فيما بعدها من فعل الشرط، وفعلُ الشرط وحرف الشرط جميعًا عملا في الجزاء؛ لأنّ الجزاء يفتقر إلى تقدُّمهما افتقارًا واحدًا، وهما المقتضيان لوجود الجواب، فليس نسبةُ العمل إلى أحدهما بأولى من نسبته إلى الآخر. وهذا القول، وإن كان عليه جماعة من حُذاق أصحابنا، فإنه لا ينفك من ضَعْف، وذلك لأنّ "إنْ" عاملة في الشرط لا محالة، وقد ظهر أثرُ عملها فيها. وأمّا الشرط فليس بعامل هنا, لأنه فعلٌ، والجزاء فعلٌ، وليس عملُ أحدهما في الآخر بأولى من العكس. وإذا ثبت أنه لا أثر له في العمل، فإضافةُ ما لا أثر له إلى ما له أثر لا أثر له. ويمكن أن يُقال: إِن الشيء قد يؤثّر بانفراده أثرًا، فإذا انضاف إلى غيره، ورُكّب معه، حصل له بالتركيب حكمٌ لم يكن له قبلُ. والذي عليه الأكثرُ أنّ "إنْ، هي العاملة في الشرط وجوابِه؛ لأنه قد ثبت عملها في الشرط، فكانت هي العاملة في الجزاء، إلَّا أن عملها في الشرط بلا واسطة، وفي الجزاء بواسطة الشرط، فكان فعل الشرط شرطًا في العمل لا جزْءًا من العامل. وكذلك تقول في المبتدأ والخبر: إن الابتداء عامل في المبتدأ بلا واسطة، وفي الخبر بواسطة المبتدأ. وقد شبّه بعض النحويين ذلك بالماء والنار، فقال: إذا وضعت الماء في قِدْر، وسخّنتَه بالنار، فالنار هي المؤثّرة في القدر والماء الإسخانَ، إلَّا أن تأثيرها في القدر بلا واسطة، وفي الماء بواسطة القدر. ويحكى عن أبي عثمان أنه كان يقول: إِن فعل الشرط وجوابه ليسا مجزومَيْن معربَيْن، وإنّما هما مبنيان؛ لأنهما لّما وقعا بعد حرف الشرط، فقد وقعا موقعًا لا يصلح فيه الأسماءُ، فبعُدا من شَبَهها، فعادا إلى البناء الذي كان يجب للأفعال، وهذا القول ظاهرُ الفَساد، وبأدْنَى تأمُّل يضِحُ؛ وذلك لأنه لو وجب له البناء بدخول "إنْ" عليه، لوجب له البناء بدخول النواصب وبقيةِ الجوازم, لأنّ الأسماء لا تقع فيها فاعرفه. أمّا الأسماء، فأحد عشر اسمًا فيها معنى "إن"، لذلك بُنيت، وقد تقدّم الكلام على بنائها في المبنيات من فصل الاسم، وهي على ضربين: أسماء، وظروف، فالأسماء: ¬
"مَن"، و"مَا"، و"مَهْمَا"، و"أي"، والظروف "أنَّى"، و"أيْنَ"، و"مَتَى"، و"حَيْثُمَا"، و"إذْمَا"، و"إذَامَا"، فجميعُها تجزم ما بعدها من الأفعال المستقبلة، كما تجزم "إن". وإنّما عملت من أجل تضمُّنها معنى "إنْ"، ألا ترى أنها إذا خرجت عن معنى "إنْ" إلى الاستفهام، أو معنَى الذي؛ لم تجزم، نحو قولك في الاستفهام: "مَن يقومُ؟ "، و"أعجبني من تكرمُه" إذا أردت معنَى الذي تكرمه. فأمَّا "مَنْ" فهو لمن يعقل من الثَّقَلَيْن والملائكة، نحوِ قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} (¬1). وأمّا "مَا"، فلِما لا يعقل. قال الله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا} (¬2)، وإذا كان الجواب بالفاء، فما بعده جملةٌ مستقلّةٌ، والفاء ربطتْها بالأوّل. وأمّا "مَهْمَا"، فمن أدوات الشرط تُستعمل فيها استعمالَ "مَا". تقول: "مَهْمَا تفعلْ أفعلْ مثلَه". قال الله تعالى: {وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} (¬3). وقد اختلفوا فيها، فذهب قوم إلى أنها اسم بكمالها يُجازَى به، قالوا: لأنّ التركيب على خلاف الأصل، فلا يُقْدَم عليه إلَّا بدليل، فلو وُزنت، لكانت "فَعْلَى"، وقد أفادت معنى الشرط فيما بعدها. والغَالبُ في إفادة المعاني إنما هي الحروف، فكانت متضمّنة لمعنى الحرف، وعَوْدُ الضمير إليها يدل على اسميّتها. وقال الخليل (¬4): هي مركّبة، كان الأصل "ما" الشرطية التي في قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} (¬5)، زيدت عليها "ما" أُخرى توكيدًا، و"ما" تزاد كثيرًا مع أدوات الشرط. ألا ترى أنها قد زيدت مع "إنْ"، وادُّغمت النون في الميم لسكونها، لأنّ النون الساكنة تُدّغم في الميم، فقالوا: "إمّا تأتِني آتِك". قال الله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} (¬6). وزادوها أيضًا مع "متى"، و"أيْنَ"، فقالوا: "متى ما تأتِني آتِك"، و"أينَمَا تكنْ أكن"، فصار اللفظ بها "ماما"، وكرهوا توالي لفظَيْن، حروفُهما واحدةٌ، فأبدلوا من ألفِ "ما" الأوُلى هاءً لقرب الهاء من الألف في المَخْرج، وكانت ألفُ "مَا"، الأوُلى أجدر بالتغيير من الثانية، لأنها اسم. والأسماء أقبلُ للتغيير والتصرّف من الحروف لقُرْبها من الأفعال. وقال قوم: هي مركبة من "مَهْ" بمعنى "اكْفُفْ"، و"مَا"، فاللفظ على هذا لم يدخله تغييرٌ، لكنّه مركب من كلمتَيْن بقيتا على لفظهما. وحكى الكوفيون في أدوات الشرط ¬
"مَهْمَن" وهذا يقوّي القول الثالث, لأنّ هذه "مَهْ" ضُمّت إلى "مَن" كما أن تلك "مَهْ" ضُمّت إلى "مَا"، فاعرفه. والوجه قول الخليل؛ لأنه به يلزم أن يكون كل موضع جاء فيه "مهما" أُريد فيه معنى الكفّ، وما أظن القائل [من الطويل]: 984 - [أَغَرَّكِ مِني أَنَّ حُبَّكِ قاتلى] ... وأَنَّكِ مَهْمَا تَأمُرِي القَلْبَ يَفْعَل أراد: وإنّك اكففى ما تأمري القلب يْفعل، ولذلك تُكْتَب بالألف. ولو كانت كلمة واحدة، لكتبت بالياء لأن الألف إذا وقعت رابعةً، كُتبت ياءً. والدليل على أنّ "مهما" فيها معنَى "ما" أنّه يجوز أن يعود إليه الضمير، والضمير لا يعود إلَّا إلى الاسم، كقولك: "مهما تعمل من مَصالِحَ تجازَ عليه"، فالهاءُ في "عليه" تعود إلى "مهما"، وقال الشاعر [من المتقارب]: 985 - إذا سُدْتَه سُدْتَ مِطْواعَةً ... ومَهْمَا وَكَلْتَ إليه كَفاه ¬
فالهاء في "كفاه" تعود إلى "مَهْمَا" كما تعود إلى "ما". ومما يؤيّد قول الخليل أنه قد استُفهم بـ"مَهْمَا" كما يُستفهم بـ"ما"، نحوَ قول الشاعر، أنشده أبو زيد في نوادره [من السريع]: 986 - مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَه ... أوْدَى بنَعْلَيَّ وسِرْبالِيَه ¬
يريد: ما لي. وأمّا "أيٌّ"، فإنها اسم مبهم منكور، وهي بعضُ ما تُضاف إليه: إن أضفتها إلى الزمان، فهي زمان، وإن أضفتها إلى المكان، فهي مكان، إلى أي شيء أضفتَها، كانت منه. ويُجازَى بها كأخواتها مضافةً ومفردة. تقول: "أيهم يأتِني آتِه"، و"أيّهم يُحْسِنْ إليّ أحسنْ إليه"، ترفع "أيًّا" بالابتداء وما بعدها من الشرط والجزاء الخبرُ, لأنّ "أيًّا" هنا الفاعل في المعنى, لأنّ المبتدأ إذا تقدّم؛ امتنع أن يكون فاعلاً صناعيًّا، وارتفع بالابتداء، وأُسْنِد فعل الشرط إلى ضميره. وتقول: "أيُّهم تضربْ أضربْ"، تنصب "أيًّا" بـ"تضرب"؛ لأنه واقع عليه في المعنى، والمفعولُ يجوز تقديمه على الفعل بخلاف الفاعل. والفعلُ في باب الجزاء ليس بصلة لِما قبله، كما أنّ ما بعد الاستفهام ليس بصلة لِما قبله، فجاز أن يتقدّم معموله. والفعل إذا كان مجزومًا يعمل عَمَلَه غيرَ مجزوم. قال الله تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (¬1)، فـ "أيًّا" منصوب بـ"تدعوا"، وكذلك حكمُ "مَن"، و"ما" في العمل. وأما الظروف، فمنها "أنَّى"، وأصلها الاستفهام، تأتي تارة بمعنَى "مِن أيْنَ"، وتارة بمعنَى "كيف". قال الله تعالى: {أَنَّى لَكِ هَذَا} (¬2)، أي: من أين لك هذا؟ وقال تعالى: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ} (¬3)، وقال: {أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} (¬4)، وقال: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} (¬5)، ويجازى بها، فيقال: "أنّى تكن أكن". قال الشاعر [من الطويل]: فأصْبَحْتَ أنى تأتِها تَلْتَبِس بها ... كِلا مَرْكَبَيْها تحت رِجلَيْك شاجِرُ (¬6) جزمت "تأتي" بـ"أنّى"، وهو شرط، و"تلتبسْ" لأنه جزاء، والمعنى أنه يخاطب رجلاً قد وقع في مُعْضِلة وقضيّة صَعْبة، فقال: كيف أتيتَ هذه المعضلةَ من قدّام أو من خلف. وشاجرٌ: داخل تحت الرجْل، ويروى: "رَحْلك" بالحاء، ورِجلك بالجيم، وكل شيء دخل بين شيئين، ففرجهما، فقد شجرهما، ومركبَيْها يعني المعضلة. وأمّا "أينَ"، فاسم من أسماء الأمكنة مبهمٌ يقع على الجهات الستّ، وكلّ مكان يُستفهم بها عنه، فيقال: "أين بيتُك"؟ "أين زيدٌ؟ " وتنقل إلى الجزاء، فيقال: "أين تكن أكن"، والمراد: إنْ تكن في مكانِ كذا أكن فيه، والأكثرُ في استعمالها أن تكون مضمومة ¬
إليها "ما"، نحوَ قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ} (¬1)، وليس ذلك فيها بلازم، بل أنت مخير فيها. قال الشاعر [من الخفيف]: أينَ تَصرِفْ بها العُداةَ تَجِدْنا ... نَصْرِفُ العِيسَ نَحوَها للتَّلاقي (¬2) وأمّا "مَتَى تخرج؟ " فاسم من أسماء الزمان، يستفهم به عن جميعها، نحوَ قولك: "متى تقوم؟ " "متى تخرج؟ " قال الله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} (¬3)، فهي في الزمان بمنزلةِ "أينَ" في المكان، وتنقل إلى الجزاء كـ "أين". قال الشاعر [من الطويل]: متى تَأتهِ تَعْشُو إلى ضَوْءِ ناره ... تَجِدْ خيرَ نارٍ عندها خيرُ مُوقِدِ (¬4) وقال طَرفة [من الطويل]: 987 - متى تَأتِنَا أصْبَحْكَ كاسًا رَوِيَّةً ... وإن كنتَ عنها غانِيًا فاغْنَ وازدَدِ ¬
وَلَكَ استعمالُها في الجزاء مضمومًا إليها "مَا" وغيرَ مضموم إليها، إن شئت، قلت: "متى تذهبْ أذهبْ"، و"متى ما تذهبْ أذهبْ". وأمّا "حَيثُ" و"إذْ"، و"إذَا" فظروفٌ أيضًا، فـ"حيث" ظرف من ظروف الأمكنة مبهم، يقع على الجهات الستّ، و"إذ"، و"إذا" ظرفا زمان، فـ "إذْ" لِما مضى، و"إذا" لِما يُستقبل، وكل الظروف التي يجازى بها يجوز أن يجازى بها من غير أن يضمّ إليها "ما" ما خلا "حَيثُمًا" وأُختيها، وذلك لأنها مبهمة تفتقر إلى جملة بعدها تُوضِحها وتُبيّنها، فتَنزّلت الجملة منها منزلة الصلة من الموصول، فكانت في موضع جرّ بإضافتها إليها متنزلةً منها منزلةَ الجزء من الكلمة، فلمّا أرادوا المجازاة بها، لزِمهم إبهامُها، وإسقاطُ ما يوضحها، فألزموها "ما" كما ألزموا، "إنَّما"، و"كأنما"، و"رَبَّمَا" وجعلوا لزومَ "ما" دلالةً على إبطال مذهبها الأولِ، فجعلوا "حيثما" بمنزلة "أينَ" في الجزاء، ولم تزل عن معناها الأول، فتقول: "حيثما تكن أكن"، كما تقول: "أين تكن أكن"، و"حيثما تقم يُحْبِبك أهلُها". قال الله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} (¬1)، فـ "كنتم" في موضع مجزوم، ولذلك أجابه بالفاء، وجعلوا "إذما"، و"إذاما" بمنلةِ "متى"، فقالوا: "إذما تأتِني آتِك"، و"إذا ما تُحسِنْ إليّ أشكرْك"، قال العبّاس بن مِرْداس [من الكامل]: إذ ما أتَيتَ على الرَّسُول فَقُل له ... حَقًّا عليك إذا اطْمأنَّ المَجْلِسُ (¬2) وقال عبد الله السَّلُوليّ [من الطويل]: 988 - إذما تَرَيْني اليومَ أُزجِي مَطِيَّتِي ... أُصعدُ سَيْرًا في البلاد فأفرعُ [فإني من قومٍ سِواكُم وإنما ... رجاليَ فَهمٌ بالحِجازِ وأَشْجَعُ] ¬
فـ"أتَيتَ" في موضع جزم بـ"إذما" إلًّا أنه مبني، إذ كان ماضيًا فلا يظهر فيه الإعراب، وتقول في "إذَا مَا": "إذا ما تأتني أُحسِنْ إليك". قال ذو الرُمّة [من البسيط]: تُصْغِي إذا شَدَّها للرَّحْل جانِحَةً ... حتى إذا ما اسْتَوَى في غَرْزها تَثِبُ (¬1) وربَّما جُوزى بـ"إذا" من غير "ما"، وهو قليل لا يكون إلًّا في الشعر. قال قَيْس بن الخَطِيم [من الطويل]: إذا قَصُرَتْ أسيافُنا كان وَصْلُها ... خُطانا إلى أعْدائنا فنُضارِبِ (¬2) وقال الفرزدق [من البسيط]: 989 - يَرْفَعُ لِي خِنْدِفٌ والله يرفعُ لي ... نارًا إذا خَمَدَث نِيرانُهم تَقِدِ ¬
فصل [الجزم بـ"إن" مضمرة]
فإن قيل: "إذ" ظرف زمان ماضٍ، والشرطُ لا يكون إلًّا بالمستقبل، فكيف تصح المجازاة بها؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنّ "إذ" هذه التي تستعمل في الجزاء مع "ما" ليست الظرفيّة، وإنما هي حرف غيرها ضُمّت إليها "ما" فرُكبا للدلالة على هذا المعنى كـ"أإنمَّا". والثاني: أنها الظرف، إلًّا أنها بالعقد والتركيب غُيّرت ونُقلت عن معناها بلزومِ "ما" إيّاها إلى المستقبل، وخرجت بذلك إلى حيّز الحروف، ولذلك قال سيبويه (¬1). ولا يكون الجزاء في "حيث" ولا في "إذ" حتى يضمّ إلى كل واحد منهما "ما"، فتصير "إذ" مع "ما" بمنزلة "إنّما"، و"كأنما" وليست "ما" فيهما بلَغو، ولكنّ كلّ واحد منهما مع "ما" بمنزلة حرف واحد. فأمّا"إذاما" فإن سيبويه لم يذكرها في الحروف، والقياسُ أن تكون حرفاً كـ"إذما"، ولذلك لا يعود إليها ضميرٌ ممّا بعدها كما يعود إلى غيرها ممّا يجازى به من نحو "مَنْ"، و"ما"، و"مَهما"، فاعرف ذلك إن شاء الله تعالى. فصل [الجزم بـ"إن" مضمرةً] قال صاحب الكتاب: ويُجزم بـ "إن" مضمرة إذا وقع جواباً لأمر, أو نهي, أو استفهام أو تمن أو عرض، نحو قولك: "أكرمني أكرمك"، و"لا تفعل يكن خيراً لك"، وألا تأتني أحدثك، وأين بيتك أزرك؟ وألا ماء أشربه، وليته عندنا يحدثنا، وألا تنزل تصب خيراً, وجواز إضمارها لدلالة هذه الأشياء عليها, قال الخليل (¬2): إن هذه الأوائل كلها فيها معنى "إن" فلذلك انجزم الجواب. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن الأمر والنهي والاستفهام والتمنّي والعرض يكون جوابها مجزومًا، وعند النحويين أنّ جزمه بتقدير المجازاة، وأنّ جواب الأمر والأشياء التي ذكرناها معه هو جواب الشرط المحذوف في الحقيقة؛ لأنّ هذه الأشياء غير مفتقرة إلى الجواب، والكلامُ بها تامّ. ألا ترى أنك إذا أمرت، فإنّما تطلب من المأمور فعلاً؟ وكذلك النهي، وهذا لا يقتضي جوابًا, لأنك لا تريد وقوفَ وجود غيره على وجوده، ولكن متى أتيتَ بجواب، كان على هذا الطريق، فإذا قلت في الأمر: "إيتِني أكرمْك"، و"أحْسِنْ إلىّ أشكرْك"، فتقديره بعد قولك: "إيتني إن تأتني أكرمك"، كأنك ضَمِنْت الإكرامَ عند وجود الإتيان، ووعدت بإيجاد الإكرام عند وجود الإتيان، وليس ذلك ضَمانًا مطلقًا، ولا وَعدًا واجبًا إنما معناه: إن لم يُوجَد لم يجب، وهذه طريقة الشرط والجزاء. والنهي قولك: "لا تَزُرْ زيدًا يُهِنْك" على تقديرِ: إن لا تزره يهنك، ولذلك قال النحويون: إِنه لا يجوز أن تقول: "لا تَدْنُ من الأسد يأكلْك"؛ لأنّ التقدير: "لا تدن من الأسد إن لا تدن من الأسد يأكلك"، وهذا محال؛ لأنّ تباعُده لا يكون سببًا لأكله؛ لأنه يُعاد لفظُ الأمر والنهي، ويُجْعَل شرطًا وجوابه ما ذكر بعد الأمر والنهي، وإذا قلنا: "أكرمْ زيدًا يكرمْك"، فالذي تضمره من الشرط "إن تكرم زيدًا". ولو قلت: "لا تدن من الأسد يأكلُك بالرفع"، جاز؛ لأن معناه: يأكلُك إن دنوت منه، وكذلك لو قلت: "لا تدن من الأسد فيأكلَك" بالفاء والنصب؛ لأنه يكون تقديره: "لا يكن دُنُوٌّ فأكلٌ". والاستفهام: "أين بيتُك أزُرْك؟ " كأنه قال: "أين بيتك؟ إن أعْلَم مكانَ بيتك أزرْك"، وتقول: "أأتَيْتَنَا أمس نُعْطِك اليومَ؟ " معناه: أأتيتنا أمس؟ إن كنت أتيتنا أمس أعطيناك اليوم. وإن كان قولك: "أأتيتنا أمس" تقريرًا، ولم يكن استفهامًا، لم يجز الجزم؛ لأنه إذا كان تقريرًا، فقد وقع الإتيان، وإنما الجزاء في غير الواجب. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} (¬1)، ولمّا انقضى ذكرُها، قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬2) جزم؛ لأنه جوابُ "هَلْ". وقال الزجّاج: {يَغْفِرْ لَكُمْ} جواب قوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} (¬3) الآيةَ، فهو أمرٌ بلفظ الخبر، وليس جوابَ "هل"؛ لأنّ المغفرة لا تحصل بالدلالة على الإيمان, إنما تحصل بنفس الإيمان والجِهادِ، ويؤيّد ذلك قراءة عبد الله بن مسعود: "آمِنوا بالله" مكانَ "تؤمنون". والأظهرُ الوجه الأول، وهو أن يكون جوابَ "هل"؛ لأن "تؤمنون" إنّما هو تفسيرٌ للتجارة على معناها لا على لفظها، ولو فسّرها على لفظها، لقال: "أن تؤمنوا"؛ لأنّ "أن ¬
فصل [الجزم بما فيه معنى الأمر والنهي]
تؤمنوا" اسمٌ، و"تجارة" اسمٌ، والاسم يُبْدَل من الاسم، ويقع موقعه. وقوله: "تؤمنون" كلام تامّ قائم بنفسه، وفيه دلالةٌ على المعنى المراد، فمن حيث كان تفسيًرا للتجارة، فهو من جملةِ ما وقع عليه الاستفهامُ بـ"هل"، والاعتمادُ في الجواب على "هل"، و"هل" في معنى الأمر, لأنه لم يقصد إلى الاستفهام عن الدلالة على التجارة المُنْجِية: هل يدلّون، أو لا يدلّون عليها، وإنما المراد الأمر والدعاء والحثّ على ما يُنْجِيهم. ومثله قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (¬1)، فإن المراد: انتهوا، لا نفس الاستفهام. وأمّا التمني، فقولك: "ليت زيدًا عندنا يُحَدِّثْنا"، فـ "يحدّثْنا" جزمٌ لأنه جواب، والتقدير: إِن يكن عندنا. ومنه قولهم: "ألا ماءً أشْرَبْه"، فهذا أيضًا معناه التمنّي، وهي "لا" النافية دخلت عليها همزة الاستفهام، وقد عملت في النكرة، فأحدث دخولُها معنى التمنّي، فـ "لا" مع ما بعدها في موضع نصب بما دل عليه "ألا" من معنى التمني. وقال أبو العبّاس المبّرد: هو على ما كان، ويُحْكَم على موضعه بالرفع على الابتداء، وثمرةُ الخلاف تظهر في الصفة، فتقول على مذهب سيبويه: "ألا ماءَ بارداً" بنصب الصفة, لأن موضعها نصبٌ، وأبو العباس يرفع النعت، ويقول: "ألا ماء باردٌ"، وإذا كان قد حدث بدخول همزة الاستفهام معنى التمنّي، جاز أن يجاب بالجزم، فيقال: أشْرَبه، كما لو صرّحت بالتمنّي، وقلت: "ليت لي ماءً أشربْه". وأمّا العرض، فقولك: "ألا تنزل عندنا تُصِبْ خيرًا"، فقولك: "ألا تنزل" هو العرض، يقول الرجل للآخر: "ألا تفعل كذا وكذا" يَعرِضه عليه، و"تصب خيرًا" جوابه، وهو داخل في جواب الاستفهام، إلا أنّه لمّا كان القصد فيه إلى العرض، وإن كان لفظه استفهامًا، سمّاه عرضًا، وتقديره: إن تنزل عندنا تصب خيرًا. وهذه الأشياء إنما أضمر حرف الشرط بعدها, لأنها تُغْنِي عن ذكره، وتكتفي بذكرها عن ذكره؛ إذ كانت غير واجبة، وصار الثاني مضمونَ الوجود إذا وُجد الأوّل. فلذلك قال الخليل (¬2): هذه الأوائل كلّها فيها معنى "إنْ"، ولذلك انجزم الجواب. فصل [الجزم بما فيه معنى الأمر والنهي] قال صاحب الكتاب: وما فيه معنى الأمر والنهي بمنزلتهما في ذلك, تقول: "اتقي الله امرؤ وفعل خيراً يثب عليه"، معناه ليتق الله وليفعل خيراً, وحسبك ينم الناس. * * * ¬
فصل [الجزاء شرط الجزم]
قال الشارح: قد تقدّم من كلامنا أن الأمر والنهي قد يُجابان بالجزم، على تقدير إضمار حرف الشرط بعدهما؛ لِما بينهما من المشاكلة. فكذلك ما كان في معنى الأمر والنهي إذا أُجيب يكون مجزومًا, لأنّ العلّة في جزم جواب الأمر إنما كانت من جهة المعنى لا من جهة اللفظ، وإذا كان من جهة المعنى، لزم في كلِّ ما كان معناه معنى الأمر. فمن ذلك قولهم: "اتقى الله امرؤٌ وفعل خيرًا يُثَبْ عليه"؛ لأنّ المعنى: لِيَتَّقِ الله، ولِيَفْعَلْ خيرًا. وليس المراد الإخبار بأنّ إنسانًا قد اتقى الله، وإنما يقوله مَثَلاً الواعظُ حاثًّا على التُّقَى والعمل الصالح. ويُقدَّر بعده حرف الشرط كما كان يقدر بعد الأمر الصريح. والخبرُ قد يستعمل بمعنى الأمر، نحوَ قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} (¬1)، أي: لِيرضعن، ومن ذلك قولهم في الدعاء: "رَحِمَه اللهُ" لفظُه لفظ الخبر، ومعناه الأمر. ومن ذلك قولهم: "حَسْبُك يَنَم الناسُ"، معنى "حسبك" هنا الأمرُ، أي: اكْتَفِ، واقْطَعْ، ومثله: "كَفْيُك"، و"شَرْعُك" كلّها بمعنى واحد، وكذلك "قَدْكَ"، و"قَطْكَ" كلّه بمعنَى "حسبُ". وقولهم: "حسبُك ينم الناس" كأنّ إنسانًا قد كان يُكْثِر الكلام ليلاً، ويَصِيح بحيث يُقْلِق من يسمعه، فقيل له ذلك، أي: اكتفِ واقطعْ من هذا الحديث، فإن تفعلْ ينمِ الناس، ولا يَسْهَروا. و"حسبُك" هنا مرفوع بالابتداء، والخبرُ محذوف لعلم المخاطب به، وذلك أنه لا يقال شيء من ذلك إلَّا لمن كان في أمر قد بلغ منه مَبْلغًا فيه كفايةٌ، فيقال له هذا ليَكُفّ ويكتفي بما قد علمه المخاطبُ، وتقديرُ الخبر: "حسبُك هذا، أو حسبُك ما قد علمتَه"، ونحوُ ذلك، فاعرفه. فصل [الجزاء شرط الجزم] قال صاحب الكتاب: وحق المضمر أن يكون من جنس المظهر, فلا يجوز أن تقول: "لا تدن من الأسد يأكلك"، بالجزم؛ لأن النفي لا يدل على الإثبات، ولذلك امتنع الإضمار في النفي, فلم يقل: "ما تأتينا تحدثنا"، ولكنك ترفع على القطع, كأنك قلت: "لا تدن منه فإنه يأكلك". وإن أدخلت الفاء ونصبت, فحسن. * * * قال الشارح: اعلم أن المعنى إذا كان مرادًا، لم يجز حذف اللفظ الدالّ عليه, لأنه يكون إخلالاً بالمقصود، اللهُمَّ إلا أن يكون ثَمَّ ما يدل على المعنى، أو على اللفظ ¬
الموضوع بإزاء ذلك المعنى، فيحصُل العلم بالمعنى ضرورةَ العلم بلفظه. وههنا إنما ساغ حذف الشرط وأداته لتقدُّمِ ما يدلّ عليه من الأمر والنهي والاستفهام والتمني والعرض، فيلزم أن يكون المضمر من جنس الظاهر، إذ لو خالَفَه لَما دلّ عليه، فإذا كان الظاهر موجَبًا، كان المضمر موجبًا، وإذا كان نفيًا كان المضمر مثله. والأمرُ كالموجب من حيث كان طَلَبَ إيجاب، والنهيُ كالنفي من حيث كان طلب نفي، فلذلك كان حكم الأمر كحكم الموجب، فكما يكون الموجب بأداة وبغير أداة، نحوَ: "إن زيدًا قائمٌ"، و"زيدٌ قائمٌ"، كذلك يكون الأمر بأداة وبغير أداة، نحوَ: "ليَقُمْ زيدٌ"، و"قُمْ يا زيدُ". وكما لا يكون النفي إلا بأداة، كان النهي كذلك، نحوَ: "لا تَقُمْ". فإذا كان الظاهر أمرًا، كان المضمر فعلاً موجبًا، وذلك إذا قلت: "أكْرِمْني أكرِمْك"، كان التقدير: "إن تكرمْني أكرمْك"، وإذا قلت: "لا تَعْصِ الله يُدْخِلْك الجنّةَ"، كان المعنى: إن لا تَعْصِه يدخلْك الجنّة. قال النحويون: إنه لا يجوز أن تقول "لا تَدْنُ من الأسد يَأْكُلْك" بالجزم؛ لأنّ التقدير عندهم أن يُعاد لفظ الأمر والنهي، فيُجْعَل شرطًا جوابُه ما ذُكر بعد الأمر والنهي، فيصير التقدير: إن لا تدن من الأسد يأكْلك، وهذا محال. قال: ولذلك امتنع: "ما تأتينا تحدّثْنا" بالجزم، يشير إلى أن المانع من جواز الجزم مع النفي من حيث امتنع مع النهي, لأنه يصير التقدير: "ما تأتينا إن لا تأتنا تحدّثْنا"، وذلك محال. وليس الأمر على ما ظنّ؛ لأنّ النهي يجوز في موضع، ويمتنع في آخر: ألا ترى أنك إذا قلت: "لا تَعْصِ الله يُدْخِلْكَ الجنةَ"، كان صحيحًا؛ لأنّ التقدير "إن لا تعصه" وهذا كلام سديد، ولو قلت: "لا تَعْصِ الله يُدْخِلْك النارَ"، كان محالاً؛ لأنّ عدم المَعْصية لا يوجب النارَ. وأنت في طرف النفي لا تُجوِّز الجواب بالجزم بحالٍ، فعُلم أن العلّة المانعة في طرف النفي غير العلّة المانعة في طرف النهي. وإنما لم يجز الجواب مع النفي بالجزم؛ لأنه ليس فيه معنى الشرط، إذ كان النفي فيه يقع على القطع، نحوَ قولك: "ما يقوم زيد"، فقد قطع بأنّه ليس يقوم، فالأمرُ والنهي والاستفهام والتمنّي والعرض، فليس فيه قطعٌ بوقوع الفعل، فمِن هنا تَضمّن معنى الشرط. قال: ولكنّك ترفع على القطع، يريد إذا رفعت الفعل في جواب النهي، جاز على الاستئناف، لا على أنه جواب، كأنك قلت: "لا تدنُ من الأسد، إنّه ممّا يأكلُك فاحذَرْه". ومثله "لا تذهبْ به تُغلَبُ عليه" الجزْمُ فاسدٌ، والرفع جيّد. فإن جئت بالفاء ونصبت، كان حسنًا, لأنّ الجواب بالفاء مع النصب تقديره تقدير العطف، فكأنه قال: "لا يكن منك دنوٌ فأكلٌ"، وكذلك الرفع، فاعرفه.
فصل [أوجه الرفع إن لم يقصد الجزاء]
فصل [أوجه الرفع إن لم يُقصد الجزاء] قال صاحب الكتاب: وإن لم تقصد الجزاء, فرفعت, فكان المرفوع على أحد ثلاثة أوجه: إما صفة كقوله تعالى: {فهب لي من لدنك وليا يرثني} (¬1)، أو حالاً, كقوله تعالى: {ونذرهم في طغيانهم يعمهون} (¬2)، أو قطعاً واستئنافاً, كقولك: "لا تذهب به تغلب عليه"، و"قم يدعوك". ومنه بيت الكتاب [من البسيط]: 990 - وقال رائدهم أرسوا نزاولها ... [فكل حتف امرئ يجري بمقدار] ومما يحتمل الأمرين: الحال والقطع قولهم: "ذره يقول ذاك"، و"مره يحفرها", وقول الأخطل [من البسيط]: 991 - كروا إلى حرتيكم تعمرونهما ... [كما تكر إلي أوطانها البقر] ¬
وقوله عزّ وجل: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} (¬1). * * * قال الشارح: يريد أن هذه الأشياء التي تجزم على الجواب في الأمر والنهي وأخواتهما، إذا لم تقصد الجواب والجزاء، رفعت. والرفع على أحد ثلاثة أشياء: إمّا الصفة إن كان قبله ما يصح وصفه به؛ وإمّا حالاً إن كان قبله معرفة؛ وإمّا على القطع والاستئناف. مثالُ الأوّل قولك: "أعْطِني درهمّا أُنْفِقه"، إذا لم تقصد الجزاء، رفعت على الصفة، ومنه قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي} (¬2)، فقُرىء بالجزم والرفع، فالجزمُ على الجواب، والرفغ على الصفة، أي: هب لي من لدنك وليا وارثًا. والرفع هنا أحسن من الجزم، وذلك من جهة المعنى، والإعراب؛ أمّا المعنى فلأنه إذا رفع فقد سأل وليا وارثًا؛ لأن من الأولياء من لا يرث. وإذا جزم، كان المعنى إن وهبته لي، ورثني، فكيف يُخْبِر الله سبحانه بما هو أعلمُ به منه. ومثله قوله تعالى: {رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} (¬3) بالرفع والجزم. ¬
ومثال الثاني: "خَلِّ زيدًا يمزَحُ" أي: مازحًا, لأنه لا يصلح أن يكون وصفًا لما قبله لكونه معرفة، والفعلُ نكرة، ومثله قوله تعالى: {ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (¬1) فهو حالٌ من المفعول في "ذرهم" ولا يكون حالاً من المضمر في "خوضهم" لأنه مضاف، والحالُ لا يكون من المضاف إليه. والثالث: أن يكون مقطوعًا عما قبله مستأنفًا، كقولك: "لا تذهب به تُغلبُ عليه". وذلك أن الجزم ها هنا على الجواب لا يصح لفساد المعنى، إذ يصير التقدير: إن لا تذهب به تُغلَب عليه، فيصير عدمُ الذهاب به سببَ الغَلَب عليه، وليس المعني عليه، فكان مستأنفًا، كأنك أخبرت أنه ممن يُغْلَب عليه على كل حال. وكذلك "قُمْ يَدعُوك"، أي: إنه يدعوك، فأمرتَه بالقيام، وأخبرته أنه يدعوه ألبتة، ولم ترد الجواب على أنه إن قام دعاه، وأمّا بيت الكتاب وهو [من البسيط]: وقال رائدُهم أرسوا نُزاوِلُها ... فكُلُّ حَتْفِ امْرِىءٍ يُقْضَى بِمقْدارِ البيت للأخطل، والشاهد فيه رفعُ "نزاولُها" على القطع والاستئناف، ولو أمكنه الجزمُ على الجواب، لجاز. يصف شَرْبًا ذهب رائدُهم في طلب الخمر، فظفر بها، فقال لهم: "أرسوا"، أي: انزلوا نشربها. نُزاوِلها، أي: نُخاتِل صاحبها عنها، فكل حتف امرئ يُقْضى بمقدار، أي: الموت لا بد منه، فلنحصل على لذة النفس قبل الموت. قال: وممّا يحتمل الأمرَين: الحال والقطع: "ذَرْهُ يقول ذاك". يجوز الرفع في "يقول" على الحال، أي: ذره قائلاً، ويجوز أن يكون مستأنفًا، كأنه قال: ذَرهُ فإنّه ممْن يقول ذاك. وأما قولهم: "مُرْهُ يَحْفِرها"، فيجوز فيه الجزم والرفع، فالجزم من وجه واحد، وهو الجواب، كأنه قال: "إن أمرتَ يحفرْها"، وأما الرفع فعلى ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون "يحفرها" على معنَى "فإنّه ممن يحفرها"، كما كان في "لا تدنُ من الأسد يأكلُك". والثاني: أن يكون على الحال، كأنه قال: "مُرْه في حال حَفْرها"، ولو كان اسمًا لَظهر النصب فيه، فكنتَ تقول: "مُره حافرًا لها". والثالث: أقلّها، وذلك أن تريد: "مُرْه أن يحفرها"، فتحذف "أنْ"، وترفع الفعل، لأنّ عامله لا يضمر، وقد أجاز بعض الكوفيين النصب على تقديرِ "أنْ"، وعليه قوله [من الطويل]: ألا أيُّهذا الزاجري أحْضُرَ الوَغَى ... وأن أشْهَدَ اللَّذّاتِ هل أنت مُخلِدِي (¬2) ¬
فصل [إعراب المضارع الداخل بين الشرط والجزاء]
والجزم أظهر، ومنه قول الأخطل [من البسيط]: كُرّوا إلى حَرَّتيكم تَعمرونَهما ... كما تَكرُّ إلى أوْطانها البَقَرُ (¬1) الشاهد فيه رفع "تعمرونهما" إمّا على الاستئناف، وقَطْعه عمّا قبله، وإمّا على الحال، كأنه قال: "عامرين"، أي: مقدرين ذلك وصائرين إليه. ولو أمكنه الجزمُ على الجواب، لجاز. الحرّة: أرضٌ ذاتُ حجارة سود، وكأنّه يعيّرهم بنزولهم في الحرّة لحَصانتها، وهي حرّة بني سُلَيْم، وثَنّاها لحرّةٍ أُخرى تُجاوِرها. وأما قوله تعالى: {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى} (¬2)، فيجوز أن يكون رفعُ "لا تخاف"، و"لا تخشى" على الحال من الفاعل في "اضربْ لهم طريقًا في البحر غيرَ خائف دركًا ولا خاشِيًا". ويُقوي رفعَ "لا تخاف" إجماعُ القُرّاء على رفعِ "ولا تخشى"، وهو معطوف على الأوّل، ويجوز أن يكون رفعه على القطع والاستئناف، أي: أنت لا تخاف دركًا. ويجوز أن يكون صفة لـ"طريق"، والتقدير: لا تخاف فيه دركًا، ثمّ حذف حرف الجرّ، فوصل الفعل، فنصب الضمير الذي كان مجرورًا، ثم حذف المفعول اتّساعًا، كقوله تعالى: {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} (¬3)، والتقدير: لا يجزي فيه. ومن جزم "لا تخاف"، جعله جوابًا لقوله: "واضربْ لهم"، على تقديرِ: إن تضرب لا تَخَفْ دركًا ممن خَلْفَك، ويرفع "تخشى" على القطع، أي: وأنت غير خاشٍ، فاعرفه. فصل [إعراب المضارع الداخل بين الشرط والجزاء] قال صاحب الكتاب: وتقول: "إن تأتني تسألني أعطك", و"إن تأتني تمشي أمش معك"، ترفع المتوسط, ومنه قول الحطيئة [من الطويل]: متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ... تجد خير نار عندها خير موقد (¬4) وقال عبيد الله بن الحر [من الطويل]: 992 - متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ... تجد حطباً جزلاً وناراً تأجَّجا فجزمه على البدل. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنه قد دخل الفعل المضارع بين الشرط والجزاء، ويكون على ضربَيْن: أحدهما: مرفوع لا غير، والآخر: يدخل بين المجزومَين، وتكون أنت مخيّرًا بين الجزم على البدل من الأوّل، وبين الرفع على الحال. فأما ما يكون رفعًا لا غير فأن يكون الفعل الداخل بين المجزومين ليس في معنى الفعل، فلا يكون بدلاً منه، وذلك "إن تأتِنا تسألُنا نُعْطِك"، و"إن يأتِني زيدٌ يضحكُ أُكرِمْه". لا يحسن في ذلك غير الرفع، لأنّ "يضحك" و"تسأل" ليس من الإتيان في شيء، فهو في موضع الحال، كأنه قال: "إن يأتني زيد ضاحكًا"، و"إن تأتني سائلاً". فإن أبدلته منه على أنه بدلُ غَلَط، لم يمتنع، كأنك أردت الثاني، فسبق لسانُك إلى الأول، فأبدلته منه، وجعلت الأول كاللغو على حد "مررت برجل حمار". ولا يكون في الفعل من البدل إلا بدلُ الكل، وبدل الغلط، ولا يكون فيه بدل بعض، ولا اشتمال، ولو قلت: "إن تأتني تمشي أمْشِ معك" جاز أن ترفع "تمشي"، فيكون معناه: "إن تأتني ماشِيًا أمشِ معك"، وجاز أن تجزم على البدل من الأول؛ لأنّ "تأتني" في معنَى "تمشِ" لأنّ المَشْي ضرب من الإتيان والضحكُ والسؤال ليسا من جنس الإتيان. فأما قوله [من الطويل]: متى تأته تعشو ... إلخ الشاهد فيه رفعُ "تعشو" على أنه حال، والمراد: متى تأته عاشيًا، أي: قاصدًا في الظلام، يُقال: "عشوتُه" أي: قصدتُه ليلاً، ثمّ اتسع، فقيل لكل قاصد: "عاشٍ. وعَشَوتُ النارَ أعشُو إليها إذا استدللت عليها ببَصَبر ضعيف. تجد خيرَ نار، أي: تجدها مُعَدّة للضيف الطارق. وأما قول الآخر [من الطويل]: متى تأتنا تلمم ... إلخ ¬
فصل [جواز الجزم والرفع في المعطوف على الجواب المجزوم]
فالشاهد فيه الجزم؛ لأنه بدل من قوله: "تأتنا"، لأن الإلمام ضرب من الإتيان، فهو على حد قولك في الأسماء: "مررت برجلٍ عبدِ الله"، فسّر الإتيان بالإلمام، كما فسّر الاسم الأول بالاسم الثاني، ولو رفع على الحال، لجاز في العربية، لولا انكسارُ وزن البيت. وقوله: "تأجّجًا" يجوز أن يكون تثنية على الصفة للحطب والنار، وذكر الراجعَ لأنّ الحطب مذكر، فغلّب جانبَه، ويجوز أن يكون مفردّا من صفة الحطب، لأنه أهمُ، إذ النار به تكون، ويجوز أن يكون من صفة النار، وذُكر على معنى شِهاب، أو على إرادة النون الخفيفة، وأبدل منها ألفًا في الوقف. يمدح في هذا البيت بَغِيضًا، وهو من بني سعد بن زيد مَناةَ. وبعد هذا البيت [من الطويل]: إذا خرجوا من غَمْرَه رَجَعوا لها ... بأسْيافهم والطعْنُ حِينَ تَفَرجَا (¬1) فصل [جواز الجزم والرفع في المعطوف على الجواب المجزوم] قال صاحب الكتاب: وتقول: "إن تأتني آتك فأحدثك" بالجزم، ويجوز الرفع على الإبتداء, وكذلك الواو, وثم, قال الله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم} (¬2) وقرىء: {ويذرهم} (¬3) , وقال: {وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم} (¬4)، وقال: {وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا ينصرون} (¬5). * * * قال الشارح: اعلم أنك إذا عطفت فعلاً على الجواب المجزوم؛ فلَكَ فيه وجهان: الجزمُ بالعطف على المجزوم على إشراك الثاني مع الأول في الجواب، والرفع على القطع والاستئناف. وذلك قولك: "إن تأتِني آتِك فأُحدثك"، كأنه وعده إن أتاه، فإنه يأتيه فيحدّثُه عقيبَه، ويجوز الرفع بالقطع واستئناف ما بعده، كما قال [من الرجز]: يُريد أن يُعرِبَهُ فَيعجِمُهْ (¬6) أي: فهو يُعْجِمُهُ على كل حال. ومثله قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ ¬
تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (¬1)، قُرىء: "فيغفِر" جزمًا ورفعًا (¬2) على ما تقدّم، ولا فرقَ في ذلك بين الفاء، والواو، و"ثم"، من حروف العطف، حكم الجميع واحد في ذلك. وأمّا قوله تعالى: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} (¬3) فقد قُرىء "ويذرهم" جزمًا ورفعًا (¬4)، فالجزم بالعطف على الجزاء وهو "فلا هادي له" لأنّ موضعه جزمٌ. والمراد بالموضع أنه لو كان الجواب فعلاً، لكان مجزومًا. والرفع على القطع والاستئناف على معنَى "وهو يذرُهم في طُغْيانهم"، فعَطف هنا بالواو كما عطف في الآية قبلها بالفاء. وأما قوله تعالى: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (¬5) , وقوله {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} (¬6) ففيهما شاهد على العطف بـ"ثُمَّ" كما عطف بالفاء إلا أنه جزم في الأُولى، ورفع في الثانية، وكل جائز صحيح، وحكمُ الجميع واحد، إلّا الفاءَ، فإنه قد أجاز بعضهم فيه النصبَ، وقرأ الزعْفراني: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (¬7). وقد استضعفه سيبويه (¬8)، لأنه موجب، فصار من قبيلِ [من الوافر]: 993 - [سَأَترُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَميم] ... وألْحَقُ بالحِجاز فأسْترِيحَا ¬
فصل [العطف بالجزم على جواب الأمر المنصوب على توهم سقوط فاء السببية]
والذي حسّنه قليلاً كونُه معطوفًا على الجزاء، والجزاء لا يجب إلّا بوجوب الشرط، وقد يتحقق، وقد لا يتحقق، فاعرفه. فصل [العَطْف بالجَزم على جواب الأمر المنصوب على تَوَهُّم سقوط فاء السَّبَبيّة] قال صاحب الكتاب: وسأل سيبويه الخليل (¬1) عن قوله عز وجل: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬2) , فقال هذا كقول عمرو بن معد يكرب [من الكامل]: 994 - دعني فأذهب جانبَا ... يومًا وأكفك جانبَا ¬
وكقوله [من الطويل]: بدا لي إني لست مدرك ما مضي ... ولا سابق شيئاً إذا كان جائيَا (¬1) أي: كما جروا الثاني, لأن الأول قد تدخله الباء, فكأنها ثابتة فيه فكذلك جزموا الثاني, لأن الأول يكون مجزومًا, ولا فاء فيه, فكأنه مجزوم. * * * قال الشارح: "لَوْلا" معناه الطلب والتحضيض، فإذا قلت: "لولا تُعطيني"، فمعناه: أعْطِني، فإذا أُتي لها بجواب، كان حكمُه حكم جواب الأمر إذ كان في معناه، وكان مجزومًا بتقدير حرف الشرط على ما تقدّم. وإذا جئت بالفاء، كان منصوبًا بتقديرِ "أن". فإذا عطفت عليه فعلاً آخر، جاز فيه وجهان: النصب بالعطف على ما بعد الفاء، والجزم على موضع الفاء، لو لم (¬2) تدخل، وتقدير سقوطها. ونظيرُ ذلك في الاسم "إن زيداً قائم وعمرٌو وعمرًا"، إن نصبت؛ فبالعطف على ما بعد "إنَّ" وإن رفعت؛ فبالعطف على موضعِ "إن" قبل دخولها، وهو الابتداء. فأمّا قول عمرو بن مَعدِيكَرِبَ [من مجزوء الكامل]: دَعنِي فأذْهَبَ ... إلخ فالشاهد فيه أنّه عطف على جواب الأمر، واعتقد سقوط الفاء، فجزم على المعنى؛ لأنه لو لم تدخل الفاء، لكان مجزومًا. وقد شبّهه الخليل بقول الآخر [من الطويل]: بدا لي أني ... إلخ البيت لصِرْمَةَ الأنصاري، وقيل: لزُهَيْر، والشاهد فيه أنه خفض "سابق" بالعطف على خبرِ "ليس" على توهم الباء؛ لأنّ الباء تدخل في خبر "ليس" كثيرًا. فلمّا كان خبرها مَظِنةَ الباء، اعتقد وجودها، فخفض المعطوف عليه، وهو قوله: "ولا سابق"، ومثله [من الطويل]: مَشائِيمُ ليسوا مُصْلِحين عَشِيرَة ... ولا "ناعِب" إلا ببَيْن غُرابُها (¬3) ¬
فصل [اجتماع الشرط والقسم]
بجر "ناعب" على توهُم الباء في الخبر الذي هو "مصلحين". وقريبٌ من ذلك قوله [من الرجز]: أُمُ الحُلَيْس لَعَجوز شَهْرَبَهْ ... تَرْضَى من اللحْم بعَظْمِ الرَقَبَهْ (¬1) فإنه توهم "إن"، فاَدخلَ اللام في الخبر، حتى كأنه قال: "إن أمّ الحليس"، إذ كان ذلك مما يستعمل كثيرًا. وعكسُ ذلك قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} (¬2)، قدّر حذفَ "إنْ" عند سيبويه (¬3)، ثم أدخل الفاء في خبرِ "الذين". وحاصلُه أنه غلط، فاعرفه. فصل [اجتماع الشرط والقسم] قال صاحب الكتاب: وتقول: "والله إن أتيتني لا أفعل" بالرفع، و"أنا والله إن تأتني لا آتك" بالجزم، لأن الأول لليمين والثاني للشرط. * * * قال الشارح: اعلم أن اليمين لا بدّ لها من جواب، لأن القسم جملة تؤكّد بها جملة أُخرى، فإذا أقسمت على المجازاة، فالقسم إنما يقع على الجواب، لأن جواب المجازاة خبرٌ يقع فيه التصديق والتكذيب، والقسمُ إنما يؤكد الإخبارَ. ألا ترى أنك لا تقول: "والله هل تقوم"، ولا "والله قم"؛ لأن ذلك ليس بخبر، فلمّا كان القسم معتمدًا به الجوابُ؛ بطل الجزم، وصار لفظه كلفظه لو كان في غير مجازاة، فتقول: "واللهِ إن أتيتني لا أفعلُ" بالرفع، لأنه جواب القسم، والشرطُ مُلْغى، كأنك قلت: و"الله لا أفعل إن أتيتَنِي"، وصار الشرط معلّقا على جواب اليمين، كما كان معلّقًا عليه الظرف من نحوِ إذا قلت: "والله لا أفعل يومَ الجمعة". وتقول: و"اللَه إن أتيتني آتيك"، والمراد: لا آتيك، فـ "لا" تُحْذَف من القسم في الجحد للعلم بموضعها، إذ لو كان إيجابًا، لزمتْه اللامُ والنونُ، نحوُ: "والله لآتِيَنكَ". ومنه قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (¬4)، أي: لا تفتؤ. ولو جزمت الشرط، وقلت: و"الله إن تأتِني لا آتيك" لم يحسن؛ لأن حرف الشرط لا يجزم ما لا جوابَ له، والجوابُ هنا للقسم. فإن تقدّم القسمَ شيء، ثم أتى بعده المجازاة، اعتمدت المجازاة ¬
على ذلك الشيء، وأُلْغِي القسم، نحوُ قولك: "أنا والله إن تأتني لا آتِك"، اعتمد الشرط والجزاء على "أنا"، وصار القسم حشوًا مُلْغى، كأنه ليس في اللفظ. ألا ترى أنك تقول: "زيدٌ والله منطلقٌ"، ولو قدّمت القسمَ، لزمك أن تأتي باللام، فتقول: و"الله لَزيد منطلقٌ"؟ فبانَ الفرق أن القسم إذا وقع حشوا أُلْغي، وكان من قبيل الجمل المعترِضة في الكلام، فـ "أنا" مبتدأ، والشرط وجوابه خبر المبتدأ، والقسم اعترض بين المبتدأ وخبره لا حكمَ له، فاعرفه.
مثال الأمر
ومن أصناف الفعل مِثالُ الأمْرِ فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: وهو الذي على طريقة المضارع للفاعل المخاطب لا يخالف بصيغته صيغته، إلا أن تنزع الزائدة, فتقول: في "تضع": "ضع"، وفي "تُضارِبُ": "ضارب"، وفي "تدحرج", "دحرج"، ونحوها مما أوله متحرك. فإن سكن, زدت لئلا تبتدئ بالساكن همزة وصل, فتقول في "تضرب": "اضرب"، وفي "تنطلق", و"تستخرج": "انطلق" و"استخرج". والأصل في "تُكرم": "تؤكرم" كـ "تدحرج", فعلى ذلك خرج "أكرم". * * * قال الشارح: اعلم أن الأمر معناه طلب الفعل بصيغيةٍ مخصوصة، وله ولصيغته أسماءٌ بحسب إضافاته، فإن كان من الأعلى إلى مَن دونه، قيل له: "أمر"، وإن كان من النظير إلى النظير قيل له: "طلبٌ"، وإن كان من الأدنى إلى الأعلى، قيل له: "دعاءٌ"، وأما قول عمرو بن العاص لمُعاوِيَةَ: [من الطويل] أمرتُك أمْرًا جازمًا فعَصَيْتَنِي (¬1) فيحتمل أن يكون عمرو يرى نفسه فوق معاوية من جهة الرأي والإصابة في المَشْوَرة مع أن الشعر موضعُ ضرورة، فجاز أن يستعير فيه لفظ الأمر في موضع الطلب والدعاء. وأمّا صيغته فمن لفظ المضارع يُنْزَع منه حرفُ المضارعة، فإن كان ما بعد حرف المضارعة متحرّكًا، أبقيته على حركته، نحوَ قولك في "تُدَحْرِجُ": "دَحْرِجْ"، وفي "تُسَرْهِفُ": "سَرْهِفْ"، وفي "تَرُدُّ": "رُدَّ"، وفي "تَقُومُ": "قُمْ". وإن كان ساكنًا، أتيتَ بهمزة الوصل ضرورةَ امتناع النطق بالساكن. ¬
وتلك الهمزة تكون مكسورة لالتقاء الساكنين، إلّا أن يكون الثالث منه مضمومًا، فإنه يضم إتباعًا لضمته، وكراهيةَ الخروج من كسر إلى ضمّ، والحاجزُ بينهما ساكن غير حصين فهو كلًا حاجز. والكوفيون (¬1) يذهبون إلى أن همزة الوصل في الأمر تابعة لثالثِ المستقبل، إن كان مضمومًا ضممتها، وإن كان مكسورًا كسرتها، ولا يفعلون ذلك في المفتوحة لئلا يلتبس الأمر بإخبار المتكلم عن نفسه، نحوَ: "اعلم"، و"أعْلَمُ". فإن قيل: ولِمَ حذفت حرف المضارعة من أمر الحاضر، قيل: لكثرته في كلامهم، فآثروا تخفيفَه. لأنّ الغرض من حرف المضارعة الدلالة على الخطاب، وحضورُ المأمور وحاضرُ الحال يدلان على أن المأمور هو المخاطب، ولأنه ربما التبس الأمر بالخبر لو تُرك حرف الخطاب على حاله. فإن قيل: ولِمَ كان لفظ الأمر من المضارع دون غيره؟ قيل: لمّا كان زمنُ الأمر المستقبلَ؛ أُخذ من اللفظ الذي يدل عليه، وهو المضارع. وقوله: والأصل في "تُكرِم": "تُؤَكُرِمُ" كـ"تُدَحرِجُ"، كأنه جواب دَخل مقدرّ، كأنه قيل: لِمَ قالوا في الأمر من "تُكْرِمُ"، و"تُخْرِجُ" ونظائرهما: "أكْرِمْ"، و"أخْرِجْ" بهمزة مفتوحة مقطوعة، وهلا جاؤوا فيه بهمزة الوصل لسكونِ ما بعد حرف المضارعة كما فعلوا في "تَضْرِبُ"، و"تَخرُجُ" حين سكن ما بعد حرف المضارعة؟ فالجواب أن الأصل "تُؤَكْرِمُ" بهمزة مفتوحة بعد حرف المضارعة، وذلك أن الماضي "أكرم"، و"أخرج" بهمزة التَعْدِية على وزانِ "دَحْرَجَ"، فالهمزة بإزاء الدال، فإذا رددتَه إلى المضارع، زدتَ في أوّله حرف المضارعة، وكان القياس "تُؤَكْرِمُ"، نحوَ: "تُدَحْرِجُ"؛ لأنّ حرف المضارعة إنما تزاد على لفظ الماضي من غير حذف شيء منه، إلّا أنهمِ حذفوا الهمزة من أوله كراهيةَ اجتماع همزتين في فعل المُخْبِر عن نفسه، نحوِ: "أأكرِمُ"، ثمّ حملوا عليه سائر المضارعة، ليجري البابُ على منهاج واحد في الحذف، ولا يختلف كما فعلوا ذلك في "يَعِدُ"، و"تَعِدُ"، و"نَعِدُ"، و"أعِدُ"، وإن لم يقع الواو بين ياء وكسرة، وإذا أمرت منه، حذفت حرف المضارعة. وإذا زال حرف المضارعة، عادت الهمزة، فقلت: "أَكْرِمْ"، و"أَخْرِجْ"، وذلك لأمرَيْن أحدهما. أن الموجِب لحذفها قد زال، وهو حرف المضارعة. والآخر أنه لما حذف حرف المضارعة، وكان ما بعده ساكنًا. احتيج إلى همزة الوصل، وكان رد ما حذف منه أولى فاعرفه. ¬
فصل [الأمر باللام]
فصل [الأمر باللام] قال صاحب الكتاب: وأما ما ليس للفاعل, فإنه يؤمر بالحرف داخلاً على المضارع دخول "لا" و"لم"، كقولك: "لتضرب أنت"، و"ليضرب زيدٌ"، و"لأضرب أنا", وكذلك ما هو للفاعل, وليس بمخاطب, كقولك: "ليضرب زيدٌ", و"لأضرب أنا". * * * قال الشارح: الأصل في الأمر أن يدخل عليه اللام، وتلزمه لإفادة معنى الأمر، إذ الحروف هي الموضوعة لإفادة المعاني كـ"لا" في النهي، و"لَمْ" في النفي، إلّا أنهم في أمر المخاطب حذفوا حرف المضارعة لِما ذكرناه من الغُنْية عنه، بدلالة الحال وتخفيفًا لكثرة الاستعمال. ولمّا حذفوه، لم يأتوا بلام الأمر, لأنها عاملة، والفعل بزوال حرف المضارعة منه خرج عن أن يكون معربًا، فلم يدخل عليه العامل. وما عدا المخاطب من الأفعال المأمور بها تلزمها اللام، لأنه لم يجز حذف حرف المضارعة منه، لئلا يُلبِس، ولعدم الدليل عليه. فمن ذلك ما ليس للفاعل، وهو فعلُ ما لم يسمّ فاعلُه، إذا أمرت به، لزمتْه اللام، نحوُ: "لتُعْنَ بحاجتي"، و"لتُوضَعْ في تجارتك"، و"لتُزْهَ علينا يا رجلُ". فهذا القبيل لا بد فيه من اللام، وإن كان مخاطبًا حاضرًا؛ لأنّ هذا الفعل قد لحقه التغييرُ بحذف فاعله وتغييرِ بنيته، فلم تحذف منه اللام أيضًا وحرف المضارعة لئلا يكون إجحافًا به، وإذا لم يجز الحذف مع المخاطب، فان لا يجوز مع الغائب أولى. فلذلك تقول: "لِتُضْرَبْ يا زيدُ"، و"ليُضْرَبْ هو"، وكذلك لو كان الأمر لغائب أو متكلّم، لم يكن بد من اللام، نحوَ: "لِيَقُمْ"، و"لِيَخْرُجْ بكرٌ"، و"لأقُمْ"، و"لأخرجْ". وذلك من قبل أن حرف المضارعة يلزم هنا للدلالة على المقصود منه، وإذا لزم حرف المضارعة، وجب الإتيانُ بلام الأمر لإفادة معنى الأمر، وكان المحل قابلاً من حيث كان معربًا لِما فيه من حروف المضارعة، وربما حذفوا هذه اللام في الشعر، وجزموا بها، أنشد أبو زيد [من الطويل]: 995 - فتُضْحِي صَرِيعًا لا تقومُ لحاجةِ ... ولا سْمَع الداعي ويسمِعْكَ مَن دَعًا ¬
وأنشد سيبويه [من الطويل]: 996 - على مِثْلِ أصحاب البَعُوضَةِ فاخْمُشِي ... لَكِ الوَيْل حُرَ الوَجْهِ أو يَبْكِ من بَكَى وأنشد أيضًا [من الوافر]: محمّدُ تَفْدِ نَفْسَك كل نفسٍ ... إذا ماخِفْتَ من شيءٍ تَبالا (¬1) أي: لِتَفْدِ، وهو قليل. ¬
فصل [أمر الفاعل المخاطب بالحرف]
فإن قيل: ولِمَ زعمتم أن أمر الحاضر أكثرُ من أمر الغائب حتى دَعَتِ الحالِ إلى تخفيفه؟ قيل: لأنّ الغائب لبُعْده عنك إذا أردت أن تأمره، أمرتَ الحاضر أن يؤدي إليه أنك تأمره، نحوَ قولك: "يا زيدُ قُلْ لعمرو قُمْ"، ولا تحتاج في أمر الحاضر إلى مثل ذلك، فكان أكثرَ؛ لأنك تحتاج في أمر الغائب إلى أمر الحاضر، ولا يلزم من أمر الحاضر أمرُ الغائب. ومما يؤكّد عندك قوَّةَ الحاضر وغَلَبَتَه الغائبَ أنك لا تأمر الغائب بالأسماء المسمّى بها الفعلُ في الأمر، نحوِ "صَهْ"، و"مَهْ"، و"إيه"، و"إيها"، و"دُونَكَ"، "عِنْدَكَ". لا تقول: "دونه زيدًا"، ولا "عليه بكرًا"، ولهذا المعنى غلب ضميرُ الحاضر ضميرَ الغائب، فتقول: "أنت وهو فعلتَها"، ولا تقول: "فَعَلًا". وإذا صاغوا لهما اسمًا كالتثنية، صار على لفظ الحضور، نحو قولك: "أنتما فعلتما"، ولا تقول: "هما فعلا"، فاعرفه. فصل [أمر الفاعل المخاطب بالحرف] قال صاحب الكتاب: وقد جاء قليلاً أن يؤمر الفاعل على المخاطب بالحرف ومنه قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {فبذلك فلتفرحوا} (¬1). * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِن أصل الأمر أن يكون بحرف الأمر، وهو اللام، فإذا قلت: "اضربْ"، فأصله "لِتَضرِبْ"، و"قُم" أصله "لِتَقُمْ" كما تقول للغائب: "ليضربْ زيدٌ"، و"لتذهب هندُ"، غيرَ أنها حُذفت منه تخفيفًا ولدلالة الحال عليه، وقد جاءت على أصلها شاذة. فمن ذلك القراءة المعزُوة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهي قوله تعالى: {فبذلك فلتفرحوا}، وقرأ بها أيضًا عثمان بن عَفانَ، وأُبَي بن كَعْب، وأنسُ بن مالك (¬2)، وروي عنه في بعض غَزَواته: "لِتَأخُذُوا مَصافكُمْ" (¬3)، أي: خذوا مصافكم، وإنّما أدخل اللام مراعاة للأصل. فصل [بناءُ الأمر] قال صاحب الكتاب: وهو مبني على الوقف عند أصحابنا البصريين, وقال الكوفيون هو مجزوم باللام مضمرة (¬4) , وهذا خلف من القول. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن فعل الأمر على ضربَيْن: مبني ومعرب، فإذا كان للحاضر مجرّدًا من الزيادة في أوّله، كان مبنيًا عندنا، خِلافًا للكوفيين. وإنما قلنا ذلك؛ لأنّ أصل الأفعال كلها أن تكون مبنية موقوفةَ الآخِر، وإنما أُعْرب الفعل المضارع منها بما في أوّله من الزوائد الأربع وكينونتِه على صيغة ضارَعَ بها الأسماءَ، فإذا أمرنا منه، ونزعنا حرف المضارعة من أوّله، فقلنا: "اضْرِبْ"، "اذْهَبْ"، فتتغيّر الصورة والبنية التي ضارع بها الاسمَ، فعاد إلى أصله من البناء استصحابًا للحال الأولى. وذهب الكوفيون إلى أنه معرب مجزوم بـ"لام" محذوفة، وهي لام الأمر، فإذا قلت: "اذهب"، فاصله "لِتذهبْ"، وإنما حذفت اللام تخفيفًا، وما حُذف للتخفيف فهو في حكم الملفوظ به، فكان معربًا مجزومًا بذلك الحرف المقدّر. ويؤيّد عندك أنه مجزوم أنك إذا أمرت من الأفعال المعتلّة نحوِ "يَرْمِي"، و"يَغزُو"، و"يَخْشَى"، حذفت لاماتها، كما تفعل في المجزوم من نحو "لِيَغْزُ"، و"لِيَرْمِ"، و"ليَخْشَ". والبناءُ لا يوجب حذفُاً. والجواب عن كلام الكوفيين: أمّا قولهم: "إنه معرب"، فقد تقدّم القول: إِن أصل الأفعال البناءُ، وسببُ إعراب المضارع ما في أوّله مَن الزوائد، وقد فُقدت هنا. وقولهم: إِنه مجزوم بلام محذوفة فاسدٌ, لأنّ عوامل الأفعال ضعيفة، فلا يجوز حذفُها وإعمالها، كما لم يجز ذلك في "لَمْ" و"لَنْ" ونظائرهما، وذلك لأنّ عوامل الأفعال أضعف من عوامل الأسماء، لأنّ الأفعال محمولة على الأسماء في الإعراب، فكانت الأسماء أمكن، وعواملُ الأصل أقوى من عوامل الفرع. وعواملُ الأسماء على ضربين: أفعالٌ وحروفٌ، فما كان من الأفعال، فقد يجوز حذفه وتبقية عمله، نحوُ: "لولا زيد"، و"هَلَا عمرٌو"، ويجوز: "زيدًا ضربتَه" وأشباهُ ذلك. وما كان من الحروف، نحوِ: "إن" وأخواتها وحروف الجرّ، فإنه لا يجوز حذفُ شيء من ذلك وتبقيةُ عمله، فكان ذلك في الفرع الذي هو أضعف أولى بالامتناع، مع أنا نقول لو كان فعل الأمر مجزومًا بـ "لام" محذوفة، لبقي حرف المضارعة كما بقي في قوله [من الوافر]: محمدُ تَفْدِ نَفْسَك كل نفسٍ (¬1) وكما قال [من الطويل]: أو يَبْكِ مَن بَكي (¬2) لفظ حذف حرف المضارعة، وتغيرت بنيةُ الفعل؛ دلّ على ما قلناه. وأما حذف حرف العلة من نحوِ "ارْمِ"، و"اغْزُ"، و"اخْشَ"، فلأنه لمّا استوى لفظ المجزوم والمبني في الصحيح، نحوِ: "لم تذهبْ" و"اذْهَبْ"، أرادوا أن يكون مثل ذلك في المعتل، فحذفوا آخِرَه في البناء؛ ليوافق آخره آخرَ المجزوم، فاعرفه. ¬
المتعدي وغير المتعدي
ومن أصناف الفعل المتعدي وغير المتعدّي فصل [أنواعُهما] قال صاحب الكتاب: فالمتعدي على ثلاثة أضرب: متعد إلى مفعول به, وإلى اثنين وإلى ثلاثة. فالأول نحو قولك: "ضربت زيداً"، والثاني نحو كسوت زيداً جبة، وعلمت زيداً فاضلاً. والثالث نحو أعلمت زيداً عمراً فاضلاً وغير المتعدي ضربٌ واحد وهو ما تخصص بالفاعل كذهب زيد ومكث وخرج ونحو ذلك. * * * قال الشارح: اعلم أن الأفعال على ضربين: متعدّ وغير متعدّ، فالمتعدّي ما يفتقر وجودُه إلى محل غير الفاعل. والتعدي التجاوُز، يُقال: "عدا طَوْرَه"، أي: تَجاوز حَدّه، أي: إن الفعل تجاوز الفاعلَ إِلى محل غيره، وذلك المحلّ هو المفعول به، وهو الذي يحسن أن يقع في جواب: "بمَن فعلتَ؟ " فيقال: "فعلتُ بفلان"، فكل ما أنْبأ لفظُه عن حلوله في حيزٍ غير الفاَعل، فهو متعدّ، نحوُ: "ضرب"، و"قتل". ألا ترى أن الضرب والقتل يقتضيان مضروبًا ومقتولاً، وما لم يُنْبِىءْ لفظُه عن ذلك، فهو لازمٌ غير متعدّ، نحوُ: "قام"، و"ذهب". ألا ترى أن القيام لا يتجاوز الفاعلَ، وكذلك الذهاب؟ ولذلك لا يقال: "هذا الذهابُ بمن وقع" وكذلك القيام، بخلافِ "ضرب" وأشباهه، فإنّه لا يكون ضربا حتى يوقِعه فاعلُه بشخص. والمتعدّي على ثلاثة أضرب: متعدّ إلى مفعول واحد، يكون عِلاجًا، وغير علاج، فالعلاجُ ما يفتقر في إيجاده إلى استعمالِ جارحة أو نحوها، نحوُ: "ضربت زيدًا"، و"قتلت بكرًا". وغيرُ العلاج ما لم يفتقر إلى ذلك، بل يكون ممّا يتعلّق بالقلب، نحوُ: "ذكرت زيدًا"، و"فهمت الحديثَ"، وذلك على حسب ما يقتضيه ذلك الفعلُ، نحوُ: "أكرمتُ زيدًا"، و"شربت الماءَ"، و"أرْوَى أخاك الماءُ". ومن المتعدي إلى مفعول واحد أفعالُ الحواسّ، كلُها يتعدى إلى مفعول واحد،
نحوُ: "أبصرته"، و"شممته"، و"ذُقته"، و"لمسته"، و"سمعته". وكل واحد من أفعال الحواس يقتضي مفعولًا ممّا تقتضيه تلك الحاسةُ، فالبصر يقتضي مُبْصَرًا، والشمّ يقتضي مشمومًا، والسمع يقتضي مسموعًا، فكل واحد من أفعال هذه الحواس يتعدّى إلى مفعول مما تقتضيه تلك الحاسّةُ، تقول: "أبصرت زيدًا"؛ لأنه مما يُبْصَر، ولو قلت: "أبصرتُ الحديث أو القيام"، لم يجز؛ لأنّ ذلك ممّا ليس يُدرَك بحاسّة، وكذلك سائرها. وذهب أبو علي الفارسي إلى أن "سمعت" خاصة يتعدّى إلى مفعولين، ولا يكون الثاني إلا ممّا يُسْمَع، كقولك: "سمعتُ زيدًا يقول ذاك". ولو قلت: "سمعت زيدًا يضربُ" لم يجز, لأنّ الضرب ليس مما يسمع، فإن اقتصرت على أحد المفعولين، لم يكن إلّا مما يسمع، نحوَ: "سمعت الحديث والكلام". ولا أراه صحيحًا؛ لأنّ الثاني من قولنا: "سمعتُ زيدًا يقول" جملةَ، والجملُ لا تقع مفعولة إلّا في الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر، نحوِ: "ظننت"، و"علمت"، وأخواتهما. و"سمعت" ليس منها، والحق أنه يتعدّى إلى مفعول واحد كأخواته، ولا يكون ذلك المفعول إلّا ممّا يُسْمَع، فإن عدّيته إلى غير مسموع، فلا بد من قرينة بعده من حال أو غيره تدل على أن المراد ما يسمع منه، فإذا قلت: "سمعت زيدًا يقول"، فـ "زيدٌ" المفعول على تقدير حذف مضاف، أي: قولَ زيد، و"يقول" في موضع الحال، وبه عُلم أن المراد قوله. ومن ذلك قوله تعالى: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} (¬1)، فالمفعول الضمير المتّصل به وهو ضمير المخاطَبين، وحسُن ذلك بقوله: "إذ تدعون"؛ لأنّ به عُلم أن المراد دعاؤهم. فأمّا قوله تعالى: {إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} (¬2)، فلا إشكالَ فيه، لأنّ الدعاء مما يسمع. فأمّا "دخلتُ البيتَ"، فقد اختلف العلماءُ فيه: هل هو من قبيلِ ما يتعدّى إلى مفعول واحد، أو من اللازم؟ وسببُ الخلاف فيه استعمالُه تارة بحرف جرّ، وتارةً بغيره، نحوُ: "دخلت البيتَ" و"دخلت إلى البيت". والصوابُ عندي أنه من قبيل الأفعال اللازمة. وإنما يتعدّى بحرف الجرّ، نحوَ: "دخلت إلى البيت". وإنما حذف منه حرف الجرّ توسّعًا لكثرة الاستعمال. والذي يدلّ على ذلك أن مصدره يأتي على "فُعُولٍ"، نحوِ: "الدُخُول"، و"فُعُول" في الغالب إنما يأتي من اللازم، نحو: "القعود"، و"الجلوس"، وأن مثله وخلافه غير متعدّ، فـ "دَخَلْت" مثلُ "غبرت"، فكما أن "غبرت" غير متعدّ، فكذلك "دخلت". وخلافُه "خرجت"، وهو لازم أيضًا. وقلّ ما نجد فعلًا متعديا إلّا وخلافُه ومضادّه كذلك، ألا ترى أن "تَحركَ" لازم وضده "سَكَنَ"، وهو كذلك؟ و"اسود" و"ابيضّ" كذلك. ¬
ومثلُ "دخلتُ البيتَ" "ذهبتُ الشأمَ" أمرُهما واحد، ولا يُقاس عليهما غيرُهما؛ لقلة ما جاء من ذلك. واعلم أنه يجوز تقديم المفعول على الفاعل وعلى الفعل نفسه، نحوَ قولك: "ضرب زيدًا عمرو"، و"عمرًا ضرب زيدٌ"، كل ذلك عربي جيد، وذلك إذا لم يلتبس؛ لأن الإعراب يفصل بين الفاعل والمفعول، فإن لزم من ذلك لبس بأن يكون الاسمان مبنيين، أو لا يظهر فيهما الإعرابُ لاعتلال لامَيْهما، نحوِ: "ضرب هذا ذاك"، و"أكرم عيسَى موسَى"، فحينئذ يلزم حفظُ المرتبة؛ ليُعْرَف الفاعل بتقدّمه، والمفعول بتأخره. وأمّا ما يتعدّي إلى مفعولَيْن، فهو على ضربين: أحدهما ما يتعدّي إلى مفعولَين، ويكون المفعول الأول منهما غير الثاني. والآخر أن يتعدّي إلى مفعولين، ويكون الثاني هو الأولَ في المعنى. فأما الضرب الأوّل، فهي أفعال مَؤَثرة تنفذ من الفاعل إلى المفعول، وتؤثر فيه، نحوَ قولك: "أعطى زيد عبدَ الله درهما"، و"كسا محمّد جعفرًا جبة"، فهذه الأفعالُ قد أثرت اعطاءَ الدرهم في عبد الله، وكسوَةَ الجبة في جعفر. ولا بد أن يكون المفعول الأول فاعلًا بالثاني، ألا ترى أنك إذا قلت: "أعطيت زيدًا درهمًا" فـ"زيدٌ" فاعلٌ في المعنى لأنه آخذ الدرهم؟ وكذلك "كسوتُ زيدًا جبة"فـ"زيدٌ" هو اللابس للجبة. ومن هذا الباب ما كان يتعدّي إلى مفعولين، إلّا أنه يتعدّي إلى الأول بنفسه من غير واسطة، وإلى الثاني بواسطة حرف الجرّ، ثم اتسع فيه، فحذف حرف الجرّ، فصار لك فيه وجهان، وذلك نحو قولك: "اخترْتُ الرجالَ بكرًا"، وأصله: "من الرجال". قال الله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} (¬1)، أي: من قومه. ومنه "استغفرت الله ذنبًا، أي: من ذنب. قال الشاعر [من البسيط]: 997 - أستغفرُ الله ذنبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... [رب العِبادِ إِليهِ الوجهُ والعَمَلُ] ¬
ومن ذلك: "سميتُه بزيد"، و"كنيته بأبي بكر"، فإنه يجوز التوسّع فيه بحذف حرف الجر بقولك: "سمّيته زيدًا"، و"كنيته أبا بكر". وكل ما كان من ذلك فإنه يجوز فيه التقديم والتأخير، نحوُ: "أعطيت زيدًا درهمًا"،و"أعطيت درهمًا زيدًا"، و"زيدًا أعطيت درهمًا". كل ذلك جائز؛ لأنه لا لبس فيه من حيث كان الدرهم لا يأخذ زيدًا. فإن كان الثاني ممّا يصح منه الأخذُ، نحوَ: "أعطيت زيدًا عمرًا"، وجب حفظُ المرتبة؛ لأنّ كل واحد منهما يصح منه الأخذُ. وأما الثاني وهو ما يتعدّي إلى مفعولين، ويكون الثاني هو الأول في المعنى، وهذا الصنفُ من الأفعال لا يكون من الأفعال التي تنفذ منك إلى غيرك، ولا يكون في الأفعال المؤثرة، إنما هي أفعالٌ تدخل على المبتدأ والخبر، فتجعل الخبرَ يقينًا أو شكًّا. وتلك سبعةُ أفعال، وهي: حسبت، وظننت، وخِلْت، وعلمت، ورأيت، ووجدت، وزعمت. فـ"حسبت"، و"ظننت"، و"خلت" متواخيةٌ؛ لأنها بمعنى واحد، وهو الظنّ، و"علمت"، و"رأيت"، و"وجدت" متواخية؛ لأنّها بمعنى واحد، وهو اليقين، و"زعمت" مفردٌ؛ لأنه يكون عن علم وظن، وذلك قولك: "حسبت زيدًا أخاك"، و"ظنّ زيد محمدًا عالمًا"، و"خلت بكرًا ذا مالٍ"، و "علمت جعفرًا ذا حفاظ"، و"وجدت اللهَ غالبًا"، و"زعمت الأمير عادلًا". فهذه الأفعال المفعولُ الثاني من مفعولَيها هو الأول في المعنى، ألا ترى أن زيدًا هو الأخ في قولك: "حسبت زيدًا أخاك"، وكذلك سائرها. وإنما كان كذلك؛ لأنها داخلة على المبتدأ والخبر، وخبرُ المبتدأ إذا كان مفردًا، كان هو المبتدأ في المعنى، والذي يدل أنها داخلة على المبتدأ والخبر أنك لو أسقطت الفعل والفاعل، لعاد الكلام إلى المبتدأ والخبر، نحوِ قولك: "زيدٌ أخوك"، و"محمّدٌ عالمٌ" بخلافِ "أعطيت زيدًا درهما"؛ لأنّ المفعول الثاني في "أعطيت" غير الأول، فلا يكون خبرًا. ولكونها داخلة على المبتدأ والخبر، لم يجز الاقتصار على أحدهما دون الآخر، وذلك أنك إذا قلت: "ظننت زيدًا منطلقًا"، فإنّما شككت في انطلاق زيد، لا ¬
فصل [تعدية الفعل اللازم]
فيه؛ لأنّ المخاطَب يعرف زيدًا كما يعرفه المخاطِب، فالمخاطَب والمخاطِب في المفعول الأول سواءٌ، وإنما الفائدةُ في المفعول الثاني، كما كان في المبتدأ والخبر الفائدة في الخبر، ولذلك من المعنى لم يجز الاقتصار على أحد المفعولين دون الآخر، فلا تقول: "زيدًا" حتى تقول: "قائمًا"، ولا تقول: قائمًا حتى تقول: "زيدًا"؛ لأنّ الظنْ يتعلّق بالقيام ونحوه، إلّا أنك لو اقتصرت عليه، لم يُعْلَم القيام لِمَنْ هو، فاحتجتَ إلى ذكر المخْبَر عنه ليعلم أن القيام له، فصار بمنزلة قولك: "قائمٌ" في أنه لا فائدة فيه إلّا بعد تقدم المبتدأ، وبانَ بما ذكرنا تعلقُ هذه الأفعال بالمبتدأ والخبر. وأمّا ما يتعدّي إلى ثلاثة، فهو أفعال منقولة مما كان يتعدّى إلى مفعولين، نحو: "أعلمت زيدًا عمرًا فاضلًا"، و"أرَيْتُ محمدًا خالدًا ذا حفاظ"، فـ"أعلم" منقول من "عَلِمَ"، وقد كان ممّا يتعدّي إلى مفعولين، الثاني منهما هو الأول، وصار بعد نقله بالهمزة يتعدّي إلى ثلاثة، وكذلك "أرَى". وسيأتي الكلام على هذا الفصل بأوْضَحَ من هذا بعدُ، إن شاء الله. فصل [تعدية الفعل اللازم] قال صاحب الكتاب: وللتعدية أسباب ثلاثة, وهي الهمزة, وتثقيل الحشو, وحرف الجر, تتصل ثلاثتها بغير المتعدي, فتصيره متعدياً، وبالمتعدي إلى مفعول واحد فتصيره ذا مفعولين, نحو قولك أذهبته، وفرحته، وخرجت به، وأحفرته بئرًا، وعلمته القرآن، وغصبت عليه الضيعة, وتتصل الهمزة بالمتعدي إلى اثنين, فتنقله إلى ثلاثة نحو: "أعلمت". * * * قال الشارح: قد ذكرنا أن الأفعال على ضربين، منها ما هو لازم للفاعل غيرُ متجاوز له إلى مفعول، ويُقال له: "غير متعد"، ومنها ما يتجاوز الفاعلَ إلى مفعول به، ويُقال له: "المتعدي". فإذا أردت أن تُعديَ ما كان لازمًا غير متعد إلى مفعول، كان ذلك بزيادة أحد هذه الأشياء الثلاثة، وهي الهمزة، وتضعيف العين، وحرف الجرّ. فأمّا الأول، وهو زيادة الهمزة في أوّله، فنحوُ: "ذهب"، و"أذهبتُه"، و"خرج"، و"أخرجته".قال الله تعالى: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ} (¬1)، وقال: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} (¬2). ألا ترى أنه حدث بدخول الهمزة تعَد لم يكون قبلُ؟ ولهذا البناء معانٍ أُخر تُذْكَر بَعْدُ، إِلا أن الغالب عليه التعدية. ¬
فصل [أنواع الأفعال المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل]
وأما التضعيف، فنحو قولك: "فرِح زيدٌ"، و"فرحته"، و"غرِم"، و"غرّمته"، و"نبُل"، و"نبلته"، و"نزل"، و"نزلته". والمراد: حملته على ذلك وجعلته يفعله، ولذلك صار متعديًا بعد أن لم يكن كذلك. وهذا البناءُ يُشارِك "أفْعَلَ" في أكثرِ معانيها، إلّا أن أحدهما قد يكثر في معنى، ويقل في معنى آخر على ما سنذكر. وأما حروف الجرّ، فنحو قولك: "مررت يزيد"، و"نزلت على عمرو"، فهذه الحروف إنما دخلت الاسمَ للتعدية، وإيصال معنى الفعل إلى الاسم؛ لأنّ الفعل قبلها لا يصل إلى الاسم بنفسه، لأنها أفعال ضعُفتْ عُرْفًا واستعمالًا، فوجب تقويتُها بالحروف الجارّة، فيكون لفظه مجرورًا، وموضعه نصبًا بأنه مفعول، ولذلك يجوز فيما عُطف عليه وجهان: الجرّ والنصب، نحوُ قولك: "مررت بزيد وعمرو، وعمرًا"، فالجر على اللفظ، والنصب على الموضع. وذلك من قبل أن الحرف يتنرل منزلةَ الجزء من الفعل من جهةِ أنّه به وصل إلى الاسم، فكان كالهمزة في "أذهبته"، والتضعيف في "فرّحته". وتارة يتنزل منزلة الجزء من الاسم المجرور به، ولذلك جاز أن يعطف عليهما بالنصب، فالجزُ على الاسم وحدَه، والنصب على موضع الحرف والاسم معًا، وكما تُعدي هذه الأشياء الثلاثة غيرَ المتعدي إلى مفعول، نحوَ قولك: "أذهبت زيدًا"، فكذلك تزيد في تعديةِ ما كان متعديًا منها، فإذا كان يتعدّي إلى مفعول واحد، وأتيتَ بالهمزة، أو أخْتَيها صار يتعدّي إلى مفعولَيْن، نحوَ: "أضربتُ زيدًا عمرًا"، أي: حملته على الضرب، فصار الفاعل مفعولًا. وإن كان يتعدّى إلى مفعولين، صار يتعدّي إلى ثلاثة، نحوَ قولك فىِ "علمت زيدًا قائمًا"، و"رأيت عمروًا عالمًا": "أعلمني بكر زيدًا قائمًا"، و"أراني عبدُ الله عمرًا عالمًا". كان المتكلم قبل النقل فاعلاً، فصار بعد النقل بالهمزة مفعولًا، وليس وراء الثلاثة متعدى (¬1) إِليه. واعلم أنّه متى عديت الفعل بالهمزة، أو التضعيف، لم تجمع بين واحد منهما وحرف الجرّ, لأنّ الغرض تعديةُ الفعل، فبايّ شيء حصل أغنى عن الآخر، ولا حاجة إلى الجمع بينهما، فتقول: " أدخلت زيدًا الدارَ"، و"أذهبت خالدًا"، و"دخلت يزيد الدارَ"، و"ذهبت به". قال الله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (¬2)، ولا يجوز "أدخلت يزيد الدارَ"، ولا "أذهبت به"، فتجمع بين الهمزة والباء لِما ذكرت لك، فاعرفه. فصل [أنواع الأفعال المتعدية إلى ثلاثة مفاعيل] قال صاحب الكتاب: والأفعال المتعدية إلى ثلاثة علي ثلاثة أضرب: ضربٌ منقول بالهمزة عن المتعدي إلى مفعولين، وهو فعلان: "أعلمت", و"أريت"، وقد أجاز الأخفش ¬
أظننت وأحسبت وأخلت وأزعمت. وضرب متعد إلى مفعول واحد وقد أُجري مجرى أعلمت لموافقته له في معناه, فعدى تعديته، وهو خمسة أفعال: أنبأت ونبأت وأخبرت وخبرت وحدثت. قال الحارث بن حلزة [من الخفيف]: 998 - [إن منعتم ما تُسألون] فمن ... حدثتموه له علينا العلاء وضربٌ متعد إلى مفعولين وإلى الظرف المتسع فيه, كقولك: "أعطيت عبد الله ثوباً اليوم"، و"سرق زيدٌ عبد الله الثوب الليلة". ومن النحويين من أبي الاتساع في الأفعال ذات المفعولين. * * * قال الشارح: اعلم أن هذا الباب منقول من باب "ظننت" وأخواتها، نحوَ: "أعلم"، و"أرَى"، فهذان الفعلان منقولان من "علمت"، و"رأيَت"، وهما من الأفعال المتعدّية إلى مفعولَيْن لا يجوز الاقتصار على أحدهما. كان الأصل قبل النقل: "علم زيدٌ عمرًا قائمًا" و"رأى بكرٌ محمدًا ذا مال"، فلمّا نقلته من "فَعَل" إلى "أفْعَل"، صار الفاعل مفعولاً، ¬
فاجتمع معك ثلاثةُ مفاعيل، نحو قولك: "أعلمت زيدًا عمرًا قائمًا"، و"أريتُ بكرًا محمّدًا ذا مال"، فالمفعولُ الأول هنا كان فاعلاً قبل النقل، وذلك أنك إذا قلت: "علم زيد عمرًا قائمًا"، جاز أن يكون ذلك العلم بمُعْلِمٍ، فإذا ذكرته، صار هو الفاعل من حيث كان مُعْلِمًا، و"زيدٌ"، الذي كان فاعلًا عالمًا مفعولٌ من حيث كان مُعْلَمًا. وهذا النقلُ مقصور على هذَيْن الفعلين دون أخواتهما، وهو المسموع من العرب، فبعضُهم يقف عند المسموع ولا يتجاوزه إلى غيره. وكان أبو الحسن الأخفش يَقيس عليهما سائرَ أخواتهما، فيُجِيز: "أظَن زيدٌ عمرًا أخاك قائمًا"، و"أزعم بكرٌ محمدًا جعفرًا منطلقًا". والمذهبُ الأول لقلّة ذلك. وأما الضرب الثاني: فما كان في معنى العلم، وهي خمسة أفعال: "أخْبَرَ"، و"أنْبأ"، و"خبرَ"، و"نبأ"، و"حَدّثَ"، فهذه الأفعال الخمسة معناها الإخبار والحديث، والإخبارُ إعلامٌ. فلما كانت في معنى الإعلام، تَعدت إلى ثلاثة مفاعيل كما يتعدّي "أعلم"، فتقول: "أخبرتُ زيدًا عمرًا ذا مال"، و"أنبأت محمدًا جعفرًا مقيمًا" و"نبأتُ أباك أخاك منطلقًا"، و"أخبرت زيدًا الأميرَ كريمًا"، و"حدثت محمّدًا أخاه عالمًا"؛ فأما قول الحارِث بن حِلزَةَ اليَشْكري [من الخفيف]: إنْ مَنَعْتُمْ ما تُسْالُونَ فَمَنْ حُدِثْتُموه ... له علينا العَلاءُ فأنشده شاهدًا على صحة الاستعمال، وأنه متعد إلى ثلاثة مفعولِين: فالتاء والميم المفعول الأول، وقد أقيم مُقام الفاعل، والهاء المفعول الثاني، و"له علينا العلاءُ" جملةٌ في موضع المفعول الثالث. والمعنى: إن منعتم ما تسألون من الإنصاف، فمَن حُدثتم عنه أنه قهرنا؟ وحقيقةُ تعدي هذه الأفعال بتقدير حرف الجرّ، فإذا قلت: "أنبأت زيدًا خالدًا مقيمًا"، فالتقدير: عن خالد؛ لأنّ "أنبأت" في معنَى "أخبرت"، والخبر يقتضي "عَن" في المعنى، فهو بمنزلةِ "أمرتُك الخيرَ"، والمراد: بالخير؛ لأنّ الفعل في كل واحد منهما لا يتعدّي إلّا بحرف جرّ. فإذا ظهر حرفُ الجرّ، كان الأصلَ، وإذا لم يذكر، كان على تقدير وجوده واللفظِ به؛ لأنّ المعنى عليه، واللفظ مُحْوجٌ إليه، وليس ذلك كالباء، ولا كـ"مِنْ" في قولك: "ليس زيد بقائم"، و"ما جاءني من أحد"؛ لأنّ اللفظ مستغنٍ عنهما، فأدخلوهما زائدتَين لضرب من التأكيد. فإذا لم يذكرا، لم يكونا في نية الثبوت، وليس كذلك "عَنْ" في قولك: "أخبرت زيدًا عن عمرو" لأنّ حرف الجرّ هنا دخل, لأنّ اللفظ مُحْوِجٌ إليه، فإذا حذفته، كان في تقدير الثبوت، إذ لا يصح اللفظ إلّا به، مع أن "عَنْ" لم ترد قط إلّا بمعنَى يحوِج الكلام إليه. فإذا وجدناها في شيء، ثم فقدناها منه، علمنا أنها مقدّرة.
واعلم أن هذه الأفعال لا يجوز إلغاؤها كما جاز فيما نُقلت عنه؛ لأنك إذا قلت: "علمت"، أو"ظننت" ونحوَهما؛ فهي أفعالٌ ليست واصلة، ولا مؤثرة، إنما ذلك شيءٌ وقع في نفسك، لا شيءٌ فعلتَه. وإذا قلت: "أعلمت"، فقد أثرت أثرًا أوقعته في نفس غيرك، ومع ذلك فإن "علمت"، و"ظننت"، من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر، فإذا أُلغيت، عاد الكلام إلى أصله من المبتدأ والخبر؛ لأنّ المُلْغَى نظير المحذوف، فلا يجوز أن يُلْغَى من الكلام ما إذا حذفته بقي الكلام غيرَ تام. وأنت إذا قلت: "زيد طننتُ منطلقٌ" بإلغاء "ظننت"، كان التقدير: "زيد منطلق"، فدخل الظنّ، والكلام تامٌ. ولو أخذتَ تُلْغِي "أعلمت"، و"أرَيتُ"، ونحوَهما في قولك: "أعلمت بِشْرًا خالدًا خيرَ الناس"، لبقي "بشرٌ خالد خيرُ الناس"، وهو كلام غير تامّ ولا منتظم، لأن "زيدًا" يبقى بغير خبر. واعلم أنه يجوز الاقتصار في هذه الأفعال المتعدّية إلى ثلاثة مفعولين على المفعول الأول، وأن لا يذكر الثاني، ولا الثالث؛ لأنّ المفعول الأول كان فاعلاً في بابِ "علمت" قبل النقل، فكما يجوز الاقتصار على الفاعل في باب "علمت"، كذلك يجوز الاقتصار على المفعول الأول. في باب "أعلمت"، ولا يجوز على الثاني ولا الثالث، كما لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول دون الثاني، وعلى الثاني في باب "علمت"، و"رأيت"، وهذا لا خلاف فيه. والظاهرُ من كلام سيبويه أن لا يجوز الاقتصار على المفعول الأول (¬1). والصوابُ ما ذكرناه، ويُحمَل كلام سيبويه على القُبْح، لا على عدم الجواز. وأما الضرب الثالث، فما كان من الأفعال متعديًا إلى مفعولَين، ثمّ تعدى إلى الظرف، ويجعل الظرف مفعولاَ على سعة الكلام، وقولُك: "أُعطيت عبدَ الله ثوبًا اليومَ"، و"سرق زيد عبدَ الله الثوبَ الليلةَ"، فـ "أعطيت" فعلٌ وفاعلٌ، و"عبد الله" مفعولٌ أولٌ، و"ثوبًا"، مفعول ثان، و"اليوم"، مفعول ثالث لا تجعله ظرفًا، كان الفعل وقع به لا فيه. وأمّا "سرق زيدٌ عبدَ الله الثوبَ الليلةَ"، فأصله أن يتعدّي إلى مفعول واحد، وهو "الثوب" مَثَلاً، و"عبد الله" منصوب على تقدير حرف الجرّ، والأصل "من عبد الله"، و"الليلةَ" ظرفٌ جُعل مفعولًا على الاتساع. وأما قوله "ومن النحويين من يأبى الاتساع في الظروف في الأفعال ذات المفعولين"، فذلك من قبل أن الفعل إذا كان لازمًا، وعديته إلى الظرف، نحوَ: "قمت اليومَ"، فتنصب "اليوم" على أنّه مفعول به اتّساعًا، وتُشبهه من الأفعال بما يتعدّي إلى ¬
فصل [عمل الفعل المتعدي وغير المتعدي في نصب ما عدا المفعول به من المفاعيل الأربعة]
مفعول. وإذا كان الفعل يتعدّي إلى مفعول واحد، وجئت بالظرف، وجعلته مفعولًا به على السعة، صار كالأفعال المتعدّية إلى مفعولَيْن. وإذا كان الفعل يتعدّي إلى مفعولين، وجئت بالظرف، وجعلته مفعولًا به، صار كالأفعال المتعدّية إلى ثلاثة. فإذا كان الفعل يتعدّي إلى ثلاثة مفعولين، ثمّ جئت بالظرف، فمن النحويين من يأبى الاتساع في الظرف حينئذ, لأنّ الثلاثة نهايةُ التعدي، وليس وراءَها ما يُلْحَق به. ومنهم من أجاز ذلك؛ لأنه لا يخرج عن حكم الظرفية، بدليل جواز تعدّي الفعل اللازم، والمنتهى في التعدي إليه، فاعرف ذلك. فصل [عمل الفعل المتعدي وغير المتعدي في نصب ما عدا المفعول به من المفاعيل الأربعة] قال صاحب الكتاب: والمتعدي وغير المتعدي سيّان في نصب ما عدا المفعول به من المفاعيل الأربعة، وما ينصب بالفعل من الملحقات بهن كما تنصب ذلك بنحو: ضرب وكسا وأعلم تنصبه بنحو ذهب وقرب. * * * قال الشارح: يريد أن الفعل الذي لا يتعدّى الفاعلَ والذي يتعدّاه جميعًا يشتركان في التعدّي إلى المفاعيل الأربعة، وهي: المصدر، والظرف من الزمان، والظرف من المكان، والحال، نحوَ قولك في اللازم: "قام زيد قيامًا يومَ الجمعة عندك ضاحكًا"، وتقول في المتعدي: "أكرم زيد عمرًا اليومَ خلفَك مستبشرًا". وإنما اشتركا في التعدي إلى هذه الأربعة, لأنّ المتعدي إذا انتهى في التعدي، واستوفى ما يقتضيه من المفاعيل، صار بمنزلةِ ما لا يتعدّي، وكل ما لا يتعدّى يعمل في هذه الأشياء لدلالته عليها، واقتضائه إياها. وما يدل عليه صيغةُ الفعل أقوى مما لا يدل عليه الصيغة، فَتَعدّيه إلى المصدر أقوى من ظرف الزمان؛ لأنّ الفاعل قد فعله، وأحدثه، ولم يفعل الزمانَ، إنما فعل فيه. والزمان أقوى من المكان, لأنّ دلالة الفعل على الزمان دلالةٌ لفظية، ولذلك يختلف الزمان باختلاف اللفظ، فدلالتُه عليه تضمين، ودلالته على المكان ليست من اللفظ، وإنما هي من خارج، فهي التزام، ودلالةُ التضمين أقوى، فأنت إذا قلت: "ذهب"، فهذا اللفظ بُني ليدل على حصول الذهاب في زمن ماض، وإذا: قلت: "يذهب"، فهو موضوع للذهاب في زمن غير ماض، وليس كذلك المكان، فإن لفظ الفعل لا يدل عليه، ولا يُحَصل لك مكانًا دون مكان. ولذلك يعمل الفعل في كل شيء من الزمان عَمَلَه، ولا يعمل في كل شيء من المكان هذا العمل.
ثم المكان أقوى من الحال، لأنهما وإن كانت دلالةُ الفعل عليهما من خارج، إلّا أن الحال محمول على المكان، وفي تأويله، ألا ترى أنك إذا قلت: "جاء زيد ضاحكًا"، فمعناه: في هذه الحال؟ ولتقاربهما في المعنى، جاز عطف أحدهما على الآخر في قوله تعالى: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ وَبِاللَّيْلِ} (¬1)، فعطف "وبالليل" على الحال؛ لأنّ المعنى: في الصباح، وفي الليل. وقوله: "وما ينصَب بالفعل من الملحَقات بهن"، يريد الملحق بهذه الأشياء الأربعة من نحو المفعول معه، والمفعول له. وإنما قلنا: إن المفعول له والمفعول معه محمولان على هذه الأشياء الأربعة، وليسا منها، وإن كان أكثرُ النحويين لا يفصلهما عن هذه الأربعة؛ لأنّ الفعل قد يخلو من المفعول له، والمفعولِ معه، بخلاف المصدر والزمان والمكان والحال. ألا ترى أن إنسانًا قد يتكلّم بكلام مُفيد، وربما فعل أفعالًا منتظمة، وهو نائمٌ أوساهٍ، فلم يكن له فيه غرضٌ، فلم يكن في فعله دلالة على مفعول له، وكذلك قد يفعل فعلًا لم يُشارِكه فيه غيرُه، فلم يكن فيه مفعول معه. والمفعولُ له أقوى من المفعول معه؛ لأنّ الفعل أدل عليه، إذ الغالبُ من العاقل أن لا يفعل فعلاً إلّا لغرض، ما لم يكن ساهيًا أو ناسيًا، وليس كذلك المفعول معه؛ لأنه ليس من الغالب أن يكون للفاعل مشاركٌ في الفعل. ولِما ذكرنا من قوّة المفعول له تعدى إلى المفعول له تارة بحرف الجرّ، وتارة بغير حرف جرّ، ولم يتعد إلى المفعول معه إلّا بواسطة حرف لا غير، فاعرفه. ¬
المبني للمفعول
ومن أصناف الفعل المبني للمفعول فصل [تعريفه] قال صاحب الكتاب: هو ما استغنى عن فاعله, فأقيم المفعول مقامه وأسند إليه معدولاً عن صيغة "فَعَلَ" إلى "فُعِلَ"، ويسمى فعل ما لم يسم فاعله. والمفاعيل سواء في صحة بنائه لها، إلا المفعول الثاني في باب علمت، والثالث في باب أعلمت (¬1)، والمفعول له والمفعول معه (¬2). تقول ضرب زيد، وسير سير شديد، وسير يوم الجمعة، وسير فرسخان. * * * قال الشارح: اعلم أن المفعول الذي لم يسمّ فاعله يجري مجرى الفاعل في أنه بُني على فعل صِيغَ له على طريقةِ "فُعِلَ"، كما يُبْنَى الفاعل عل فعل صيغ له على طريقةِ "فَعَلَ"، ويُجْعَل الفعل حديثًا عنه كما كان حديثًا عن الفاعل في أنه يصحّ به وبفعله الفائدةُ. ويحسن السكوت عليه، كما يحسن السكوت على الفاعل، ويُصاغ لمن وقع منه، ويُقال له؛ فعلُ ما لم يسمّ فاعله، فـ "مَا" ها هنا موصولة بمعنَى "الذي"، والتقدير: فعلُ المفعول الذي لم يسمّ فاعله, لأنّ الذي صيغ له قد كان مفعولاً، وكان له فاعلٌ مذكورٌ. فكل فعل يبنى لما لم يسمّ فاعله، فلا بد فيه من عملِ ثلاثة أشياء: حذفِ الفاعل، وإقامةِ المفعول مقامه، وتغييرِ الفعل إلى صيغةِ "فُعِلَ". أمّا حذف الفاعل، فلأمورٍ منها: الخَوْفُ عليه، نحو قولك: "قُتل زيد"، ولم تذكر فاعله خَوْفا من أن يؤخَذ قولك شهادةَ عليه، أو لجلالته، نحو قولك: "قُطع اللص"، ¬
و"قُتل القاتل"، ولم تقل: "قَطع الأميرُ"، ولا "قَتل السلطانُ" ونحوَ ذلك، تُرك ذكره لجلالته. قال الله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} (¬1)، والمراد: قتل اللهُ الخراصِين. وقد لا يذكر الفاعل لدَناءته، نحوَ قولك: "عُمل الكَنِيف"، و"كُنس السُّوق". وقد يكون للجَهالة به. وقد يُتْرَك الفاعل إيجازًا واختصارًا، كأن يكون غرض المتكلم الإخبارَ عن المفعول لا غير، فتُرك الفاعل إيجازًا للاستغناء عنه. فإذا حذف الفاعل، وجب رفعُ المفعول، وإقامتُه مقام الفاعل، وذلك من قبل أن الفعل لا يخلو من فاعل حقيقة، فإذا حذف فاعله من اللفظ؛ استُقبح أن يخلو من لفظ الفاعل، فلهذا وجب أن يُقام مقامه اسمٌ آخر مرفوع، ألا ترى أنهم قالوا: "مات زيدٌ"، و"سقط الحائطُ"، فرفعوا هذين الاسمين، وإن لم يكونا فاعلين في الحقيقة. وشيءٌ آخرُ، وهو أن المفعول إذا لم يذكر مَن فعل، صار الفعل حديثًا عنه، كما كان حديثًا عن الفاعل، ألا ترى أنك إذا قلت: "ضُرب"، فالمحدّثُ عنه هو المفعول كما أنك إذا قلت: "قام زيد"، فالمحدّث عنه هو الفاعل لاكتفاء الفعل بهما عن غيرهما، فلمّا شارك هذا المفعول الفاعلَ في الحديث عنه، رُفع كما رفع. ولا يلزم إذا حُذف المفعول أن يُقام غيره مقامه, لأنه فضلة لا يُحْوِج انعقادُ الكلام إليه. وأمّا تغيّره فبنَقْله من "فَعَلَ" إلى "فُعِلَ". وجملةُ الأمر أن الفعل، إذا بُني لما لم يسمّ فاعله، فلا يخلو من أن يكون ماضيًا أو مضارعًا، فإن كان ماضيًا، ضُم أوّله، وكُسر ما قبل آخره ثلاثيًا كان أو زائدًا عليه، نحوَ قولك: "ضُرِبَ زيد"، و"دُحرِجَ الحجر"، و"استُخْرِجَ المال". وإن كان مضارعًا؛ ضُم أوله، وفتح ما قبل آخره، نحوَ قولك: "يُضْرَبُ زيد"، و"يُدَحْرَجُ الحجر"، و"يُسْتَخْرَجُ المال"، هذا إذا كان الفعل صحيحًا. فإن كان معتلًا، نحوَ: "قالَ، و"باع"، فما كان من ذلك من ذوات الواو، فإن واوه تصير ياء في أعلى اللغات، فتقول: "قِيلَ القول"، و"صِيغَ الخاتَم"، وكان الأصل: "قُوِل"، بضم القاف وكسر الواو على قياس الصحيح، فأرادوا إعلاله حملًا على ما سُمي فاعله، فنقلوا كسرة الواو إلى القاف بعد إسكانها، ثم قلبوا الواو لسكونها وانكسارِ ما قبلها ياء، فصار اللفظ بها "قِيلَ" بكسرة خالصة وياء خالصة، فاستوى فيه ذوات الواو والياء. وتقول في اللغة الثانية: "قِيلَ" بإشمام القاف شيئًا من الضمة حِرْصًا على بيان الأصل. ¬
وتقول في اللغة الثالثة: "قُولَ القَولُ"، فتُبْقِي ضمة القاف حرصًا علي بناء الكلمة، فعلى هذا تكون قد حُذفت كسرة الواو حذفًا من غير نقل. وما كان من ذوات الياء، ففيه ثلاثةُ أوجه أيضًا: أحدها: "بِيعَ المتاع"، والأصل: "بيعَ" بضم الباء وكسر الياء، فنقلت الكسرة من الياء إلى الباء من غير قلب. وتقول في الوجه الثاني: "بِيعَ" بإشمام الباء شيئًا من الضمة. وقرأ الكسائي {وَغِيضَ الْمَاءُ} (¬1) بالإشمام، وقرأ غيره من القُراء بإخلاص الكسرة على الوجه الأوّل. وفي الوجه الثالث: "بُوعَ المتاع"، كاتك أبقيتَ ضمةَ الباء (¬2) إشعارا بالأصل، ومحافَظة على البناء، وحذفت كسرة الياء على ما ذكرنا في الواو، فصار اللفظ "بُوعَ المتاع"، فتستوي ذوات الياء والواو، وأنشد ابن الأعرابي [من الرجز]: 999 - لَيتَ وما ينفَع شيئًا لَيْتُ ... لَيْتَ شَبابًا بوعَ فاشْتَرَيْت فإن قيل: ولِمَ وجب تغيير الفعل إذا لم يسم فاعله؟ قيل: لأنّ المفعول يصح أن يكون فاعلاً للفعل، فلو لم يُغير الفعل، لم يُعلَم هل هو فاعل حقيقي، أو مفعول أقيم مقام الفاعل، ولهذا وجب تغييره. فإن قيل: ولِمَ وجب التغيير إلى هذا البناء المضمومِ الأول المكسورِ ما قبل الآخر؟ قيل: لأنّ الفعل لما حُذف فاعله الذي لا يخلو منه، جعل لفظ الفعل علي بناء لا يشركه فيه بناء آخر من أبنية الأسماء والأفعال التي قد سمي فاعلوها خوف الإشكال، وقيل: إنما ضُم أوّله؛ لأنّ الضم من علامات الفاعل، فكان هذا الفعل دالا على فاعله، فوجب أن يحرك بحركةِ ما يدل عليه. ¬
فإن قيل على الوجه الأول: هلا عُدل إلى "فِعُل" بكسر الأول وضمّ الثاني؛ لأنه أيضًا بناء لا نظيرَ له؟ قيل: كِلًا البناءين وإن كان لا نظيرَ له، إلّا أنّ الأول أوْلى؛ لأنه أخف عندهم؛ لأنّ الخروج من ضم إلى كسر أخف من الخروج من الكسر إلى الضمّ؛ لأنه إذا بُدِىء بالأخف وثُني بالأثقل، كانت الكُلْفة فيه أثقل من الابتداء بالأثقل، ثمّ يؤتى بالأخف، فلذلك بُني على هذه الصيغة، ألا ترى أنه لو فُتح ثانيه، أو سُكن، أو ضُم، لم يخرج عن الأمثلة التي تقع في الاستعمال؟ وأمّا قوله: "معدولاً عن صيغة فَعَلَ إلى فُعِل" إشارة إلى أن هذه الصيغة مُنْشأة ومركبة من باب الفاعل، وعليه الأكثر من النحويين. ومنهم من يقول: إن هذا الباب أصل قائمٌ بنفسه، وليس معدولًا من غيره، واحتجّ بأن ثَم أفعالاً لم يُنْطَق بفاعليها، مثلَ: "جُن زيد"، و"حم بكرٌ". والمذهبُ الأوّل لقولهم: "بُويعَ زيدٌ"، و"سُويِرَ خالد" وموضعُ الدليل أنه قد عُلم أنه متى اجتمعت الواو والياء، وقد سبق الأول منهما بالسكون، فإن الواو تقلب ياء، ويدغم الأول في الثاني، نحوَ: "طَوَيْتُه طَيًا"، و"شَوَيتُه شَيًّا"، وههنا قد اجتمعتا على ما ترى، ومع ذلك لم تقلب وتدغم؛ لأنّ الواو مَدة منقلبة من ألفِ "سايَر" و"بايَعَ"، فكما لا يصح الادغام في "ساير"، و"بايع"، فكذلك لا يصحّ في "فُوعِلَ" منه مراعاة للأصل، وإيذانًا بأنه منه. وأما إقامة المفعول مقام الفاعل في هذا الباب، فلأن لا يبقى الفعل حديثًا عن غير محدثٍ عنه، فإذا كان الفعل يتعدّي إلى مفعول واحد، نحوَ: "ضرب زيدٌ عمرًا"، حذفت الفاعل، وأقمت المفعول مقامه، فقلت: "ضُرب عمرو"، فصار المفعول يقوم مقام الفاعل، إذ كان الكلام يتم، وبقي بلا منصوب؛ لأنّ الذي كان منصوبًا قد ارتفع. وإن كان الفعل يتعدّي إلى مفعولَيْن، نحوَ: "أعطيت زيدًا درهمًا"، فرددته إلى ما لم يسم فاعله، قلت: "أُعطِيَ زيد درهمًا"، فقام أحد المفعولين مقام الفاعل، وبقي منصوبٌ واحدٌ تعدى إليه هذا الفعل, لأنّ الفعل إذا رفع فاعلاً في اللفظ، فجميعُ ما يتعلّق بالفعل سواه يكون منصوبًا، فلذلك نصبت "الدرهم" هنا، وصار منصوبًا بفعل المفعول، كما كان المفعولان منصوبين بفعل الفاعل. وكذلك إن كان يتعدّي إلى ثلاثة مفعولين، نحوَ: "أعلم الله زيدًا عمرًا خيرَ الناس"، فإن لم يسم الفاعل، قلت: "أُعلم زيدٌ عمرا خيرَ الناس"، فقام أحد المفاعيل مقام الفاعل، وبقى معك مفعولان. فهذا حكم الباب: إن كان الفعل يتعدّي إلى مفعول واحد، ورددته إلى ما لم يسم فاعله، صار من قبيل الأفعال اللازمة. وإن كان يتعدّي إلى مفعولَيْن، ورددته إلى ما لم يسمّ فاعله، صار من قبيلِ ما يتعدّي إلى مفعول واحد. وكذلك إن كان يتعدّي إلى ثلاثة،
وبنيته لما لم يسمّ فاعله، صار يتعدّي إلى مفعولين. فهذا عكسُ ما تقدّم من نقلِ "فَعَلَ" إلى "أفْعَلَ" لأنك في ذلك تزيد واحدًا واحدًا، وفي هذا الباب تُنْقِصُ واحدًا واحدًا. وقوله: "والمفاعيل سواءٌ في صحة بنائه لها" يريد أن المفاعيل متساوية في صحة بناء الفعل لما لم يسمّ فاعله، وإقامةِ أي المفاعيل شئت مقام الفاعل، سواء كان مفعولًا به من نحوِ: "ضُرب زيدٌ"، و"أُعطي عمرٌو درهمًا"، و"أُعطي درهمٌ عمرًا"، و"أُعلم زيد عمرًا خيرَ الناس"، أو مصدرًا من نحو: "سِيرَ بزيدٍ سير شديدٌ" إذا لم يكن معه مفعولٌ به، أو ظرفَ زمان، أو ظرف مكان، من نحو: "سِيرَ به يومُ الجمعة"، و"سير به فرسخان"، إلّا ما استثناه، وهو المفعول الثاني في باب "علمت"، والثالث في باب "أعلمت"؛ لأنّ المفعول الثاني في باب "علمت" قد يكونَ جملة من حيث كان في الأصل خبر المبتدأ, لأنّ هذه الأفعال داخلة على المبتدأ والخبر، فالمفعولُ الأول كان مبتدأ، والمفعول الثاني كان خبزا للمبتدأ. فلذلك كل ما جاز أن يكون خبرًا جاز أن يكون مفعولاً ثانيًا، من نحو المفرد والجملة والظرف، فالمفردُ نحو: "ظننت زيدًا قائمًا"، والجملة نحو: "ظننت زيدًا قام"، و"ظننت زيدًا أبوه قائم"، والظرف "ظننت زيدًا في الدار". والفاعل لا يكون جملة، فكذلك ما وقع موقعه؛ لأنّ ما وقع موقع الفاعل يجري مجراه في جواز إضماره وتعريفه، والجملُ لا تكون إلّا نكرات، ولذلك لا يصح إضمارها، مع أنه ربما تَغير المعنى بإقامة الثاني مقام الفاعل، ألا ترى أنك إذا قلت: "ظننت زيدًا أخاك" فالشك إنما وقع في الأخوة، لا في "زيد"، كما أنك إذا قلت: "ظننت زيدًا قائمًا" فالشك إنما وقع في قيام زيد، فلو قدمت "الأخ"، وأخرت "زيدًا"، لصارت الأُخوة معلومة، والشك واقع في التسمية، فإذا كان الفعل يتغير بالتقديم، فبإسناد الفعل إليه أولى؛ لأنه يكون في الحكم مقدمًا. وكذلك المفعول الثالث لا يُبنى الفعل له؛ لأنه المفعول الثاني في باب "علمت"، وقد تقدّم القول في المنع من إقامته مقام الفاعل، وكذلك الحال والتمييز والمفعول له والمفعول معه، لا يقام شيء منها مقام الفاعل. فأمّا الحال والتمييز، فلا يجوز أن يجعل شيء منهما في موضع الفاعل، فإذا قلت: "سير بزيد قائمًا"، و"تَصيب بَدَنُ عمرو عَرَقا"، فلا يجوز أن تُقِيم "قائمًا"، أو"عرقًا" مقام الفاعل؛ لأنهما لا يكونان إلّا نكرتين، والفاعلُ وما قام مقامه يُضْمَر كما يُظْهَر، والمضمر لا يكون إلّا معرفة. وكذلك المفعول له، لا يجوز أن تردّه إلى ما لم يسمّ فاعله، لا يجوز "غُفر لزيد ادخارُه" على معنَى: لادّخاره, لأنك لما حذفت اللام على الاتّساع، لم يجز أن تنقله إلى مفعول به، فتتصرفَ في المَجاز تصرُفًا بعد تصرُف؛ لأنه يبطل المعنى بتباعدُه عن الأصل.
وأما المفعول معه، فلا يجوز أيضًا أن يقوم مقام الفاعل فيما لم يسمّ فاعله, لأنهم قد توسّعوا فيه، وأقاموا واو العطف فيه مقامَ "مَعَ"، فلو توسّعوا فيه، وأقاموه مقامَ الفاعل، لبعُد عن الأصل، وبطلت الدلالة على المصاحبة، ويكون تراجُعًا عمّا اعتزموه، ونقضًا للغرض الذي قصدوه. فإن كان الفعل غير متعدّ إلى مفعول به، نحوَ: "قام". و"سار"، لم يجز ردّه إلى ما لم يسمّ فاعله؛ لأنه إذا حذف الفاعل، يُصاغ الفعل للمفعول، وليس لهذا الفعل مفعولٌ يقوم مقام الفاعل، فأيُ شيء يقوم مقام الفاعل فيما لم يسمّ فاعله، فإن كان معه حرفُ جرّ من الحروف المتصلة بالفعل، أو ظرفٌ من الظروف المتمكنة زمانًا كان أو مكانًا، أو مصدر مخصوصٌ، فحينئذ يجوز أن تبنيه لما لم يسمّ فاعله, لأنّ معك ما يقوم مقام الفاعل، فتقول: "سرتُ يزيد فرسخَيْن يومَيْن سيرًا شديدًا". فإن بنيته لِما لم يسمّ فاعله، جاز أن تقيم أيّ هذه المفاعيل شئت مقام الفاعل، وهي مستويةٌ في ذلك، فتقول: "سِيرَ يزيد فرسخين يومين سيرًا شديدًا"، فتقيم الجار والمجرور مقام الفاعل؛ لأنه في تقدير المفعول به؛ لأنّ الباء في تعدية الفعل بمنزلة الهمزة، فقدلُك: "قام زيد" و"أقمته" بمنزلةِ "قمتُ به" و"ذهب زيد"، و"أذهبتُه" بمنزلةِ "ذهبتُ به". قال الله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} (¬1)، والمعنى: لأذهبَ سمعَهم وأبصارَهم. فلمّا كانت الباء بمنزلة الهمزة في تعدية الفعل، تعدّى إلى ما تعلّقت به الباءُ، فيجوز على هذا "قيم يزيد"، و"ذُهب بعمرو"، كما تقول: "أُذهب زيد"، و"أُقيم عمرو". ولا يجوز على هذا أن تُقدم "بزيد"على "سِيرَ"؛ لأنه فاعلٌ. ويجوز أن تقول: "سير يزيد فرسخان يومَيْن سيرًا شديدًا"، فتقيم "الفرسخين" مقام الفاعل، ولذلك رفعته. فإن أقمت "اليومين" مقام الفاعل؛ جاز أيضًا، ورفعته، فتقول: "سير يزيد فرسخين يومان سيرًا شديدًا"، فإن أقمت المصدر مقام الفاعل، قلت: "سير يزيد فرسخين يومين سيرٌ شديدٌ"، ترفع الذي تقيمه مقام الفاعل، وتنصب سائر إخواته. واعلم أن المصادر، والظروف من الزمان والمكان لا يجعل شيء منها مرفوعًا في هذا الباب حتى تُقدر فيه أنّه إذا كان الفاعل معه أنّه مفعول صحيح، كأن الفعل وقع به كما يقع بالمفعول الصحيح، فحينئذ يجوز أن يُقام مقام الفاعل إذا لم يذكر الفاعل، فإذا كان كذلك، فالمصادر تجيء على ضربين: منها ما يُراد به تأكيد الفعل من غير زيادةِ فائدة، ومنها ما يُراد به إبانةُ فائدة. فما أُريد به تأكيد الفعل فقط لم تجعله مفعولاً على سعة الكلام، ولا يُقام مقام الفاعل، وما كان فيه فائدةٌ جاز أن تجعله مفعولاً على السعة، ¬
فصل [بقاء المفعول به الثاني والثالث على انتصابهما إذا بني الفعل للمجهول]
وأن تقيمه مقام الفاعل، فتقول: "قمت القيامَ"، و"قِيمَ القيامُ"، إلّا أن لا يكون متمكنًا، فإذا لم يكن متمكنًا، لم يقم مقام الفاعل، نحوَ: "سبحانَ الله"، فتقول: "سُبح في هذا الدار تسبيح كثير لله". ولا يجوز أن تقول: "سُبح في هذه الدار سبحانُ الله"، وإن كان معناه معنى التسبيح، وكذلك لا يجوز أن تقيم من الظروف مقام الفاعل إلّا ما يجوز أن تجعله مفعولًا على السعة، نحوَ: "اليوم"، و"الليلة"، و"المكان"، و"الفرسخ" وما أشبهها من المتمكنة؛ فأمّا غير المتمكنة نحو: "إذْ"، و"إذَا"، و"عِنْدَ"، و"مُنْذُ"، فلا يجوز التوسع فيها وجعلُها مفعولًا على السعة، فلا يجوز إقامتُها مقام الفاعل، فاعرفه. فصل [بقاء المفعول به الثاني والثالث على انتصابهما إذا بُني الفعل للمجهول] قال صاحب الكتاب: وإذا كان للفعل غير مفعول فبني لواحد بقي ما بقي على انتصابه كقولك أعطي زيد درهماً، وعلم أخوك منطلقاً، وأعلم زيد عمراً خير الناس. * * * قال الشارح: يريد أن الفعل إذا كان يتعدّي إلى مفعولَين أو أكثرَ، ثمّ رددتَه إلى ما لم يسمّ فاعله، أقمت المفعول الأول مقام الفاعل، ورفعته، وتركت ما بقي منها منصوبًا على حد انتصابه قبل البناء لِما لم يسمّ فاعله. وذلك أن الفعل إذا ارتفع به فاعل ظاهرٌ، فجميعُ ما يتعلق به بعدُ سوى ذلك الفاعل منصوب، وكذلك إذا صُغْته للمفعول، فرفعته به، فجميعُ ما يتعلق به سواه منصوب. فلذلك وجب في قولك: "أُعطي عبدُ الله المال"، و"عُلم أخوك منطلقًا" نصبُ "المال"، و"منطلقًا"، لأنّ "عبد الله"، و"أخاك" قد ارتفعا بالفعلين، وصيغا له، وتعلّق المال والانطلاق بالفعلين، فوجب نصبهما، فصار فعل المفعول يتعدّي إلى مفعول واحد، كما كان فعل الفاعل فيهما يتعدّي إلى مفعولين، وكذلك لو كان الفعل يتعدّي إلى ثلاثة، ونقلته لِما لم يسمّ فاعله، صار فعل المفعول يتعدّي إلى اثنين. كقولك: "أُعلم زيدٌ عمرًا خيرَ الناس"، وقد كان: "أعلم اللهُ زيدًا عمرًا خيرَ الناس". ومن النحويين من يقول: إن هذا مبنى على الخلاف الذي ذكرناه، فمن قال إن فعلَ ما لم يسمّ فاعله منقول من الفعل المبني للفاعل، قال إن "الدرهم" في قولك: "أُعطي زيدٌ درهمًّا" منصوب بذلك الفعل بقي على حاله، ومن قال: إنه بابٌ قائم بنفسه غير منقول من غيره، كان منصوبًا بهذا الفعل نفسه، فاعرفه.
فصل [أولوية المفعول به في النيابة عن الفاعل على سائر ما بني له الفعل]
فصل [أولوِية المفعول به في النيابة عن الفاعل على سائر ما بُني له الفعل] قال صاحب الكتاب: وللمفعول به المتعدي إليه بغير حرف من الفضل على سائر ما بني له أنه متى ظفر به في الكلام, فممتنع أن يسند إلى غيره، تقول: "دُفع المال إلى زيد"، و"بُلغ بعطائك خمسمائة" برفع المال وخمس المائة. ولو ذهبت تنصبهما مسنداً إلى زيد وبعطائك قائلاً دفع إلى زيد المال وبلغ لعطائك خمسمائة، كما تقول منح زيد المال وبلغ عطاؤك خمسمائة، خرجت عن كلام العرب. * * * قال الشارح: الفعل المتعدّي إنما جيء به للحديث عن الفاعل والمفعول، فهو حديث عن الفاعل بان الفعل صدر عنه، وعن المفعول بأن الفعل وقع به، إلّا أنه حديثٌ عن الفاعل على سبيل اللزوم وعدمِ الاستغناء عنه، وعن المفعول على سبيل الفضلة. فإذا أُريد الاقتصار على الفاعل منه، حُذف المفعول، لأنه فضلة، فلم يُحْتَج إلى إقامة شيء مقامه. ومتى أُريد الاقتصار على المفعول، حذف الفاعل، وبقي الفعل حديثًا عن المفعول به لا غير، فوجب تغييرُه وإقامته مقام الفاعل، لئلا يخلو الفعل من لفظِ فاعل على ما تقدّم، فلكَوْن الفعل حديثًا عن المفعول به في الأصل متى ظُفر به، وكان موجودًا في الكلام؛ لم يقم مقام الفاعل سواه ممّا يجوز أن يقوم مقام الفاعل عند عدمه من نحو المصدر والظرف من الزمان والمكان, لأنّ الفعل صيغ له، وما تُقيمه مقام الفاعل غيرَه، فإنما ذلك على جَعْله مفعولًا به على السعة على ما تقدّم. وقوله: "المتعدى إليه بغير حرف جرّ" تَحرّز به مما يتعدّى إليه بحرف الجرّ، نحوِ: "سرت بزيد"، فإن الجارّ والمجرور هنا متعلق بالفعل تعلقَ المفعول به بالفعل. فإذا انفرد، أقيم مقام الفاعل على ما ذكرنا، فإن اجتمع معه مفعول صحيح، لم يقم مقام الفاعل سواه, لأنّ الفعل وصل إليه بغير واسطة، فكان تعدّي الفعل إليه أقوى، فإذا قلت: "دفعتُ المالَ إلى زيد"، فـ "المال" مفعول به صحيحٌ، والجارّ والمجرور في موضع المفعول به أيضًا، فلذلك تلزم إقامةُ المفعول الصحيح مقام الفاعل. فتقول: "دُفع المالُ إلى زيد"، فترفع "المال" لإقامتك إياه مقام الفاعل، والجارُ والمجرور في موضع نصب، فبقي على حاله. وكذلك تقول: "بَلَغَ الأميرُ بعَطائك خمسَ مائة"، فـ "خمس مئة" مفعول صحيح، والجارُّ والمجرور متأوَّلٌ، فإذا بنيته لما لم يسمّ فاعله، لم يقم مقام الفاعل إلّا المفعول الصحيح. فتقول: "بُلغ بعطائك خمسُ مائة" برفع "خمس مائة" لا غير. ولو عكست، وأقمت الجارّ والمجرور مقام الفاعل، ونصبت المفعول الصحيح، فقلت: "دُفع إلى زيد المالَ" بنصب "المال" وإقامة الجارّ والمجرور
مقام الفاعل، لم يجز، وكنت قد خرجت عن كلام العرب. والغرضُ بالنحو أن ينحو المتكلّمُ به كلامَ العرب. وسبيلُ ما يجيء من ذلك أن يُتأول، ويحمل على الشذوذ، فمن ذلك قوله تعالى في قراءة أبي جعفر يزيد بن القَعْقاع: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} (¬1)، فليس على إقامة الجارّ والمجرور مقام الفاعل ونصبِ "الكتاب" على أنه مفعول به، وإنما الذي أُقيم مقام الفاعل مفعول به مضمر في الفعل يعود على "الطائر" في قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} (¬2). و"كتاب" منصوب على الحال، والتقديرُ: ويُخْرَج له يومَ القيامة طائرُهُ - أي: عملُه- كتابًا، أي: مكتوبًا، وهو محذوف في قراءة الجماعة، ونُخْرِجُ له يومَ القيامة كتابًا، أي: ونخرج له طائرَه -أي: عملَه- كتابًا، ويؤيد ذلك قراءةُ يعقوب (¬3): "ويَخرُجُ -أي: يخرج عملُه- كتابًا". فأما قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (¬4)، ففيه إشكالٌ، وذلك أنه أقام المصدر مقام الفاعل لدلالة الفعل عليه، وتقديره: ليجزى الجزاءُ قومًا بما كانوا يكسبون، وهو شاذ قليل. فأما قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} (¬5)، فقال قوم: إنه كالآية المتقدّمة، والتقدير: نجّي النجاءُ المؤمنين، والصواب أن يكون "نجى" فعلاً مضارعًا، والأصل "نُنْجِي" بنونَيْن، فأُخفيت النون الثانية عند الجيم، فظنّها قومٌ إذعامًا، وليس به، ويؤيّد ذلك إسكانُ الياء. وأما قول الشاعر [من الوافر]: 1000 - فلو ولدت قُفيرةُ (¬6) جِرْوَ كَلْب ... لَسُبّ بذلك الجِرْوِالكِلابَا ¬
فقد حمله بعضهم على الشذوذ من إقامة المصدر مقام الفاعل مع وجود المفعول به، وهو "الكلاب"، وقد تأوله بعضُهم بأن جعل "الكلاب" منصوبًا بـ"ولدت"، ونصب "جرو كلب" على النداء. وحينئذ يخلو الفعل من مفعول به، فحسن إقامة المصدر مقام الفاعل، ويكون التقدير: فلو ولدت فقيرةُ الكلاب، يا جروَ كلبٍ، لَسُب السب بذلك. * * * قال صاحب الكتاب: ولكن إن قصدت الاقتصار على ذكر المدفوع إليه, والمبلوغ به, قلت: "دُفع إلى زيد" و"بُلغ بعطائك"، وكذلك لا تقول: "ضُرب زيداً ضربٌ شديدٌ, ولا يوم الجمعة, ولا أمام الأمير", بل ترفعه (¬1) وتنصبها. * * * قال الشارح: يريد أن الفعل المتعدّي إلى مفعول أو أكثرَ، إذا كان معه جارّ ومجرور، جاز أن تقتصر على المجرور، ولا تذكر المفعول الصحيح، نحوَ قولك: "دَفَعَ عمرٌو إلى زيد"، فإذا بنيته لما لم يسمّ فاعله، جاز أن تقيم الجارّ والمجرور مقام الفاعل، نحوَ قولك. "دُفع إلى زيد"، و"بُلغ بعطائك"، وكذلك لو كان معك ظرفٌ أو مصدرٌ، جاز أن تقيم كل واحد منهما مقام الفاعل، نحوَ: "ضُرب اليومُ"، و"ضُرب الضربُ الشديدُ"؛ لأنْك إذا لم تذكر المفعول، كان بمنزلة الفعل اللازم. * * * قال صاحب الكتاب: وأما سائر المفاعيل فمستوية الأقدام لا تفاضل بينها إذا اجتمعت في الكلام في أن البناء لأيها شئت صحيح غير ممتنع, تقول استخف بزيد استخفافاً شديداً يوم الجمعة أمام الأمير إن أسندت إلى الجار مع المجرور، ولك أن تسند إلى يوم الجمعة أو إلى غيره وتترك ما عداه منصوباً. * * * قال الشارح: يريد أن ما عدا المفعول به ممّا ذكرنا من الجارّ والمجرور، والمصدر، والظرف من الزمان، والظرف من المكان، متساويةٌ في جواز إقامة أيها شئت ¬
فصل [ما ينوب عن الفاعل عند وجود مفعولين متغايرين]
مقام الفاعل، إذا بنيت الفعل لما لم يسمّ فاعله. لا يمتنع إقامة شيء منها مقام الفاعل، كما كان ذلك مع المفعول به، فهذا ما لا خلاف فيه, لأنّ فيه فائدة، إنما الخلاف في الأولى منها، فذهب قوم إلى أن الاختيار إقامة الجارّ والمجرور؛ لأنه في مذهب المفعول به، فإذا قلت: "سرتُ بزيدٍ"، فالسير وقع به، وقال قومٌ: الظرف أولى لظهور الإعراب فيه. فإن قيل: فالإعراب أيضًا يظهر في المصدر كما يظهر في الظرف، قيل: ذاك صحيح، إلّا أن الظرف فيه زيادةُ فائدة, لأنّ الفعل دال على المصدر، وليس بدال على الظرف. وقولنا: "مستوية الأقدام" يحمل على التساوي في الجواز فاعرفه. فصل [ما ينوب عن الفاعل عند وجود مفعولين متغايرين] قال صاحب الكتاب: ولك في المفعولين المتغايرين أن تُسند إلى أيهما شئت, تقول أعطي زيد درهماً، وكُسي عمرو جُبة، وأُعطي درهمٌ زيداً، وكسيت جبة عمراً إلا أن الإسناد إلى ما هو في المعنى فاعل أحسن وهو زيد، لأنه عاط وعمرو لأنه مكتسٍ. * * * قال الشارح: اعلم أن الفعل الذي يتعدّي إلى مفعولَيْن على ضربَيْن: أحدهما: ما كان داخلًا على المبتدأ والخبر بعد استيفاء فاعله، فَنَصَبَهما جميعًا، واعتبارُ ذلك بأن يكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى، نحوَ: "ظننت" وأخواتها، تقول: "ظننت زيدًا قائمًا"، فتجد القائمَ هو زيد، وزيدٌ هو القائم. والثاني: ما كان المفعول الثاني فيه غير الأوّل، نحوُ: "أعطيت زيدًا درهمًا"، و"كسوت بكرًا جبة"، فما كان من الضرب الثاني، وبُني لما لم يسمّ فاعله، كان لك أن تقيم أيهما شئت مقام الفاعل، فتقول: "أُعطي زيدٌ درهمًا"، إذا أقمت الأول مقام الفاعل، فإن شئت قلت: "أُعطي درهمٌ زيدًا"، فتقيم الثاني مقام الفاعل؛ لأنّ تعلقهما بالفعل تعلق واحدٌ، فكان حكمُهما واحدًا، إلّا أن الأوْلى إقامةُ الأول منهما مقام الفاعل من حيث كان فاعلًا في المعنى؛ لأنه هو الآخِذ للدرهم، فلما اضطُررنا إلى إقامة أحدهما مقام الفاعل، كان إقامةُ ما هو فاعل مقام الفاعل أولى، وهذا معنى قوله: "لأنه عاطٍ"، أي: آخِذٌ، من "عَطَا يَعطُو" إذا تَناول. واعلم أن صاحب الكتاب قد أطلق العبارة من غير تقييد، والصوابُ أن يُقال: "ما لم يكن هناك لَبسٌ أو إشكالٌ، فإن عرض في الكلام لبسٌ أو إشكالٌ، امتنع إقامة الثاني
مقام الفاعل، وذلك إذا قلت: "أَعطى زيدٌ محمّدًا عبدَه"، أو نحوَه مما يصحّ أخذُه، فإن هذا ونحوه ممّا يصحّ منه الأخذُ، إذا بنيته لما لم يسمّ فاعله، لم تُقِم مقام الفاعل إلّا المفعول الأول، فتقول: "أُعطي محمد عبدًا"، ولا يجوز إقامة "العبد" مقام الفاعل، فتقولَ: "أُعطي عبدٌ محمدًا"؛ لأن "العبد" يجوز أن يأخذ "محمدًا" كما يجوز لمحمّد أن يأخذ العبدَ، فيصير الآخذُ مأخوذًا. فأمّا "أُعطي درهمٌ زيدًا" فحسن؛ لأن "الدرهم" لا يأخذ زيدًا، فإن رُفع؛ فلا تتوهّم فيه أنه آخذٌ لزيد. وما كان من الضرب الأوّل، وهو ما كان داخلاً على المبتدأ والخبر، نحوُ: "ظننت" وأخواتها؛ فإنك إذا بنيت من ذلك فعلَ ما لم يسمّ فاعله، لم تُقِم مقام الفاعل إلَّا المفعول الأوّل، نحوَ: "ظُن زيد قائمًا". ولا تقيم المفعول الثاني مقام الفاعل؛ لأن المفعول هنا قد يكون جملة من حيث كان في الأصل خبرًا لمبتدأ، نحوَ قولك: "علمتُ زيدًا أبوه قائمٌ". والفاعلُ لا يكون جملة، فكذلك ما يقع موقعه، ولأنه قد يتغير المعنى بإقامة الثاني مقام الفاعل، ألا ترى أنك إذا قلت: "ظننت زيدًا أخاك"، فالشكُّ واقعٌ في الأُخوّة لا في "زيد"، كما أنك إذا قلت: "ظننت زيدًا قائمًا"، فالشك إنما وقع في قيام زيد، فلو قدّمت "الأخ"، وأخرت "زيدًا"، لصارت الأخُوة معلومة، والشك واقعٌ في التسمية، فلذلك لا يجوز إقامة المفعول الثاني مقام الفاعل لتغيّر المعنى. وقد أجاز ابن دُرُسْتَوَيْهِ: "ظُن خارجٌ زيدًا"، فيُقيم المفعول الثاني من مفعولَيْ "ظننت" مقام الفاعل إذا كان نكرة مفردًا، وذلك لزَوال الإشكال، قال: لأن هذه الأفعال داخلة على المبتدأ والخبر، والمتبدأُ لا يكون نكرة، وكذلك المفعول الأوّل لا يكون نكرة. وأما ما يتعدّى إلى ثلاثة مفعولين فيلزمه إقامة المفعول الأوّل مقام الفاعل إذا بني لما لم يسمّ فاعله، لأنه فاعلٌ في المعنى. ألا ترى أنك إذا قلت: "علم زيدٌ عمرًا خيرَ الناس" أنّ زيدًا هو العالم بحال عمرو، ثُمّ قلت: "أعلم الله زيدًا عمرًا خيرَ الناس" فيصير زيدٌ مفعولاً؟ فإذا لم يسمّ الفاعل، وجب أن يُقام مَن هو فاعلٌ في المعنى مقام الفاعل، وهو المفعول الأوّل. ولو أقمت الثاني، لتَغير، ولم يُعْلَم أنه الفاعل في الأصل، أو المفعولُ، فلذلك لم تكن بالخيار. ولا يجوز إقامة المفعول الثالث مقام الفاعل لِما تقدم ذكره من أنه قد يكون جملة، وربما أشكل على ما وصفنا في بابِ "ظننت"، فاعرفه.
أفعال القلوب
ومن أصناف الفعل أفعالُ القلوب فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: وهي سبعةٌ: ظننت وحسبت وخلت وزعمت وعلمت ورأيت ووجدت، إذا كن بمعنى معرفة الشيء على صفة, كقولك: علمت أخاك كريماً، ورأيته جواداً ,ووجدت زيداً ذا الحافظ. تدخل على الجملة من المبتدأ والخبر إذا قصد إمضاؤها على الشك أو اليقين، فتنصب الجزئين على المفعولين وهما على شرائطهما وأحوالهما في أصلهما. * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأفعال أفعال غير مؤثّرة ولا واصلةٍ منك إلى غيرك، وإنما هي أُمورٌ تقع في النفس، وتلك الأمُورُ علمٌ وظن وشكّ. فالعلم هو القطع على شيء بنَفْي أو إيجاب، وهذا القطع يكون ضروريًا وعقليًا، فالضروريُ كالمُدرَك بالحواس الخمس، نحوُ: "علمنا بأن السماء فوقنا، والأرض تحتنا، وأنّ الاثنين أكثر من واحد، وأقل من الثلاثة". ويقرب من ذلك الأمُورُ الوِجْدانية كالعلم بالألَم واللذة ونحوِهما. وأمّا العقليّ، فما كان عن دليل من غير مُعارِض، فإن وُجد معارضٌ من دليل آخر، وتَردد النظرُ بينهما على سَواء، فهو شك. وإن رجح أحدُهما، فالراجح ظن، والمرجوح وهْمٌ. والأفعال الدالة على هذه الأمور سبعةٌ: "علمت"، و"رأيت"، و"وجدت"، و"ظننت"، و"حسبت"، و"خلت"، و"زعمت". فالثلاثةُ الأول متواخية, لأنها بمعنى العلم. والثلاثةُ التي تَلِيها متواخية، لأنها بمعنى الظن. و"زعمت" مفردٌ لأنه يكون عن غير علم وظن والغالبُ عليه القول عن اعتقاد. والاعتمادُ بهذه الأفعال على المفعول الثاني الذي كان خبرًا للمبتدأ، وذلك أنك إذا قلت: "علمت زيدًا منطلقًا"، فإنما وقع علمُك بانطلاقه إذ كنت عالمًا به من قبلُ، فالمخاطب والمخاطِب في المفعول الأول سواءٌ، وإنما الفائدة في المفعول الثاني كما كان في المبتدأ والخبر الفائدة في الخبر لا في المبتدأ.
فصل [استعمال "أرى" و"أقول" بمعنى "ظننت"]
وهذا معنى قوله: "إذا كن بمعنى معرفةِ شيء على صفة" يعني أن المخاطَب قد كان يعرفه لا متصفًا بهذه الصفة، وفائدةُ الإخبار الآنَ اتصافُه بصفة كان يجهلها، وذلك متعلق بالخبر، والضمير في قوله: "إذا كنّ" يعود إلى الثلاثة الأواخر، وهي "رأيت"، و"علمت"، و"وجدت"؛ لأنها بمعنى العلم والمعرفةِ، وسائرُ أخواتها شك وظن، ولمّا كانت هذه الأفعال داخلة على المبتدأ والخبر ومعناها متعلقٌ بهما جميعًا لا بأحدهما: أمّا تعلّقها بالخبر، فلأنه موضع الفائدة، وبالمبتدأ فللإيذان بصاحب القصة المشكوك فيها أو المتيقنةِ، وجب أن تنصبهما جميعًا؛ لأنّ الفعل إذا اشتَغل بفاعل ورَفَعَه، فجميعُ ما يتعلق به غيرَه يكون منصوبًا, لأنه يصير فضلة. وقوله: "إذا قُصد إمضاؤها على الشكّ واليقين" تحرّز ممّا إذا قُصد إلغاؤها، فإنها لا تعمل شيئًا. وقوله: "وهما على شرائطهما وأحوالهما في أصلهما" يعني شرائط المبتدأ والخبر وأحواله، لا تتغيّر ذلك بدخول هذه الأفعال عليهما. فصل [استعمال "أُرى" و"أقول" بمعنى "ظننت"] قال صاحب الكتاب: ويستعمل "أُريتُ" استعمال "ظننتُ"، فيقال: "أُريتُ زيداً منطلقاً"، و"أُرى عمراً ذاهباً"، و"أين ترى بشراً جالساً", ويقولون في الإستفهام خاصة: "متى تقول زيداً منطلقاً؟ " و"أتقول عمراً ذاهباً؟ " و"أكل يوم تقول عمراً منطلقاً؟ " بمعنى "تظن". قال [من الوافر]: 1001 - أجُهالاً تقول بني لؤي ... لعمر أبيك أم متجاهلينا
وقال عمر بن أبي ربيعة [من الكامل]: 1002 - أما الرحيل فدون بعد غد ... فمتى تقول الدار تجمعنا وبنو سليم يجعلون باب "قلت" أجمع مثل "ظننت". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول إن "أُرَى" ممّا يتعدّي إلى ثلاثة مفعولين، وهو منقول من "رأيتُ"، و"رَأى"، إذا كان من رؤية القلب، له معنيان: أحدهما العلم، والآخر الحِسْبان والظن. فإذا بني لما لم يسمّ فاعله، أُقيم المفعول الأول مقام الفاعل، ونُصب ما بقي من المفاعيل، فتقول: "أُرِيتُ عمرًا منطلقًا"، أي: ظننت ¬
عمرًا منطلقًا. فإذا أظَنّه غيرُه، فقد ظنّ، فلذلك تقول: "أُرَى زيدًا منطلقًا" بمعنيَ "ظننتُ"، و"أيْنَ تُرَى بشرًا جالسًا"، والمراد: أين تظن؟ لأنه ظانّ إذا أظنه غيرُه، وأكثرُ ما يُستعمل ذلك مع المتكلم. وقد يُجرون القَوْلَ مجرى الظن، فيُعْمِلونه عملَه، فإذا دخل على المبتدأ والخبر، نصبهما؛ لأنّ القول يدخل على جملة مُفيدة فيتصوّرها القلبُ، ويترجّح عنده، وذلك هو الظنّ والاعتقاد، والعبارةُ باللسان عنه هو القول، فأجروا العبارة على حسب المعبّر عنه. ألا ترى أنه يُقال: "هذا قولُ فلان"، و"مذهبُ فلان"، و"ما تقول في مسألةِ كذا؟ " ومعناه: ما ظنك؟ وما اعتقادُك؟ فمنهم من يعمله عملَ الظنّ مطلقًا، نحوَ: "قال زيدٌ عمرًا منطلقًا"، و"يقول زيدٌ عمرًا منطلقًا"، من غير اشتراطِ شيء، كما أن الظن كذلك، وهي لغة بني سُلَيْم. ومنهم من يشترط أن يكون معه استفهامٌ، وأن يكون القول فعلاً للمخاطب، وأن لا يفصل بين أداة الاستفهام والفعل بغير الظرف. فأمّا اشتراط الاستفهام؛ فلأن بابه أن يقع محكيّا، ولا يدخل في باب الظنّ إلّا مع الاستفهام، لأنّ الغالب أن الإنسان لا يُسأل عن قوله، إذ ذاك ظاهرٌ، إنما يسأل عن ما يَجُنّه ويعتمَده لخَفائه. وأما اشتراط الخطاب، فلأن الإنسان لا يُسأل عن ظنّ غيره، إنما يسأل عن ظنّ نفسه، فلذلك تقول: "متى قلتَ زيدًا منطلقًا؟ " و"أتقول زيدًا قائمًا؟ " ولا يجوز بياء الغيبة، فلا تقول: "متى يقول زيدًا قائمًا؟ " ولا يفصل بينه وبين أداة الاستفهام بغير الظرف، فلا يجوز: "أأنت تقول زيدًا قائمًا؟ " لأنك تفصل بالاسم المبتدأ بين أداة الاستفهام والفعل، فخرجتْ "تَقُولُ" عن الاستفهام، وعادت إلى حكمها من الحكاية، كما تقول: "أأنت زيدٌ مررتَ به؟ " فترفع، والاختيارُ النصب؛ لأنّ الاستفهام لم يقع على الفعل، فأما قوله [من الوافر]: أجهّالًا تقول ... إلخ فإن البيت للكُمَيْت، والشاهد فيه إعمالُ "تقول" عملَ "تظن"؛ لأنها بمعناها، ولم يرد قولَ اللسان، وإنما أراد اعتقاد القلب. ولم يفصل الاسمُ هنا؛ لأنه مفعول مؤخر في الحكم. والتقديرُ: أتقول بني لؤي جهالًا، أي: أتظنهم كذلك، وأراد ببني لؤي قُرَيْشًا؛ لأنها تنتمي إلى لؤيّ بن غالب بن فِهْر بن مالك بن النضْر بن كِنانة، والنضر أبو قريش. وهذا البيت من قصيدة يفخَر بها على اليَمَن، ويذكر فضل مُضَرَ عليهم، فيقول: أتظنّ قريشًا جاهلين أو متجاهلين حين استعملوا اليَمانين على وِلايتهم، وآثروهم على
فصل [المعاني الأخرى لأفعال القلوب]
المُضَريين مع فضلهم عليهم. والمتجاهل الذي يستعمل الجهلَ، وإن لم يكن من أهله، ألا ترى إلى قول الآخر [من الرجز]: 1003 - إذا تَحْازَزتُ وما بي مِن خَزَر وأما قول الآخر [من الكامل]: أمّا الرحيل ... إلخ فالبيت لعمَرَ بن أبي رَبِيعة المَخزومي، والشاهد فيه نصب الدار بـ "تقول" لِما ذكرناه من خروجها إلى معنى الظن كما تقدّم. يقول: قّد حان رحيلنا عمن نُحِب، ومفارقتُنا في غدٍ، وعبّر عنه بقوله: دون بعد غد، فمتى تجمعنا الدارُ بعد هذا الافتراق فيما تظنُّ، وتعتقد؟ فصل [المعاني الأخرى لأفعال القلوب] قال صاحب الكتاب: ولها ما خلا "حسبت" و"خلت" و"زعمت" معان أخر, لا تتجاوز عليها مفعولاً واحداً. وذلك قولك ظننته من الظنة وهي التهمة. ومنه قوله عز وجل: {وما هو على الغيب بظنين} (¬1)، وعلمته بمعنى: عرفته * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنه قد توجّه بعض هذه الأفعال إلى معانٍ أُخر، فلا تفتقر إلى مفعولَين، وتكتفى بمفعول واحد، فمن ذلك "ظننت" وهي تُستعمل على ثلاثة أضرب: ضربٌ على بابها، وهو بإزاء ترجح أحد الدليلَين المتعارضَيْنْ على الآخر، وذلك هو الظن، وهي، إذا كانت كذلك، تدخل على المبتدأ والخبر، ومعناها متعلق بالجملهْ على ما تقدم. وقد يقوى الراجحُ في نظر المتكلّم، فيذهب بها مذهبَ اليقين، فتجري مجرى "علمت"، فتقتضي مفعولين أيضًا. من ذلك قوله تعالى: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} (¬1)، فالظن ها هنا يقينٌ، لأن ذلك الحين ليس حين شك. ومنه قول الشاعر [من الطويل]: 1004 - فقلت لهم طنوا بألْفَي مُدجّجٍ ... سراتُهُم في الفارسي المسرّدِ والمراد: اعلموا ذلك وتَيقنوه؛ لأنه أخرجه مخرج الوعيد، ولا يحصل ذلك إلّا مع اليقين. وقد يقوى الشك بالنظر إلى المرجوح، فتصير في معنى الوهم، فتقول. "ظننتُ زيدًا" في معنَى اتهمُته، أي. أتخذته مكانًا لوَهْمي، فهي لذلك تكتفي بمفعول واحد. ومه قوله تعالى: {وما هو على الغيب بظنين} (¬2)، أي: بمتهم، و"ظنينٌ" هنا بمعنَى مظنون، وفيه ضميرٌ مرفوعٌ كان مفعولًا، فأقيم مقام الفاعل. ¬
وأما من قرأ "بِضَنِين"، فإته أراد ببَخِيل. و"فَعِيلٌ" ها هنا بمعنى فاعِل، أي: باخل، لأنه لازم، لا يُننَى منه مفعولٌ، فلذلك لا يصحّ أن يقدر "ضنين" به. ومن ذلك "علمت" إذا أُريد به معرفة ذات الاسم، ولم يكن عارفًا به قبلُ ولا بد فيه من شيء من إدراك الحاسّة، فتقول: "علمت زيدًا" أي: عرفته شخصَه، ولم تكن عرفته قبل، وليس بمنزلة قولك: "علمت زيدًا عالمًا" إذا أخبرت أنك علمته متصفًا بهذه الصفة، ولم تكن عرفته قبلُ بذلك، وإن كنت عارفًا بذاته مجرّدة من هذه الصفة. * * * قال صاحب الكتاب: ورأيته بمعن أبصرته، ووجدت الضالة إذا أصبتها، وكذلك أريت الشيء بمعنى بصرته, أو عرفته. ومنه قوله عز وجل: {أرنا مناسكنا} (¬1) , و"أتقول إن زيداً منطلق؟ " أي: أتفوه بذلك. * * * قال الشارح: رأيت" تجيء على ضربين: أحدهما بمعنى إدراك الحاسّة، تقول: "رأيت زيدًا"، أي: أبصرته، فتتعدّى إلى مفعول واحد. ولا يكون ذلك المفعول إلّا ممّا يُبْصَر. قال الله تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} (¬2)، فَـ "تَرى" ها هنا بمعنى: بَصَرِ العين، والهاء والميم به مفعولٌ، و"ينظرون إليك" في موضع الحال. والثاني أن تكون من رؤية القلب، فتتعدّى إلى مفعولَين. وله معنيان: الحِسبان والعلم، قال الله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا} (¬3)، أي: يحسبونه بعيدًا، ونراه قريبًا، أي: نعلمه، لأنّ القديم سبحانه عالم بالأشياء من غير شك ولا حسبان. ومن ذلك "وجدت"، فلها أيضًا معنيان: أحدهما وجود القلب بمعنى العلم، فتتعدّى إلى مفعولَيْن كما يتعدّي العلم إليهما، فتقول: "وجدت زيدًا عالمًا"، أي: علمت ذلك منه. وتكون بمعنى الإصابة، فتكتفي بمفعول واحد، كقولك: "وجد زيدٌ ضالته"، أي: أصابها. وأمّا "أُرِيتُ"، فقد تقدّم من قولنا أنها تستعمل على ضربين: أحدهما أن تكون من رؤية القلب، فتتعدّى إلى مفعولين، والثاني أن تكون من رؤية العين، فتكتفي بمفعول واحد، فعلى هذا الثاني إذا نقلتها بالهمزة، صارت تتعدّى إلى مفعولين، نحوَ قولك: "أرَيْتُ زيدًا عمرًا"، أي: جعلته يراه. قال الله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} (¬4)، فعدّاها إلى مفعولين. فإذا بنيتها لما لم يسمّ فاعله، فقلت: "أرِيتُ الشيءَ"، أقمت المفعول الأول مقام الفاعل فرفعته، وهو التاء، ¬
فصل [الاقتصار على أحد المفعولين]
وتركت الثاني على حاله منصوبًا، فقد صارت "أُرِيتُ" لها معنيان: أحدهما أن تكون من رؤية القلب، فتتعدّي إلى مفعولين. وأصلها قبل بنائها لما لم يسمّ فاعله أن تتعدّى إلى ثلاثة مفاعيل. والثاني أن تكون من رؤية العين، فتكتفي بمفعول واحد، وأصلها قبل بنائها لما لم يسمّ فاعله أن تتعدّى إلى مفعولين، ولذلك ذكرها ها هنا؛ لأنها على معنيَيْن. وأمّا "أتقول أن زيدًا منطلقٌ؟ " فإنه يجوز في "أن" الكسر والفتح، لكن على تقديرَيْن: إن جعلت القول على بابه من الحكاية، كانت "إن" بعد الفعل مكسورة، نحوَ قولك: "قال زيدٌ إن عمرًا منطلقٌ"؛ لأنك إنما تحكي قولَه ولفظَه مبتدِئًا بكسرِ "إن"؛ ولذلك قال: "أتَفُوهُ بذلك"، يريد أنه من عَملِ اللسان، لا من فعل القلب. وإن اعتقدت أنه بمعنى الظن، فتحت "أن"، وقلت: "أتقول أن زيدًا منطلقٌ"، كما تقول: "أتَظُن أن زيدًا منطلق"، ويكون من فعل القلب، ليس للسان فيه حظٌ، وتكون "أنّ" واسمها وخبرها قد سدّت مسدّ مفعولَيْه. وأمّا على رأي بني سُلَيْم، فيجوز فتحُ "أن" بعد جميع أفعال القول؛ لأنهم يُجرون بابَ القول أجمعَ مجرى الظنّ. فأمًّا "خال"، و"حسب"، و"زعم"، فليس لها إلّا قِسمٌ واحدٌ، وهو معنى الشكّ، ولذلك استثناها في أوّل الفصل. فصل [الاقتصار على أحد المفعولين] قال صاحب الكتاب: ومن خصائصها أن الاقتصار على أحد المفعولين في نحو: كسوت وأعطيت مما تغاير مفعولاه غير ممتنع, تقول أعطيت درهماً ولا تذكر من أعطيته، وأعطيت زيداً ولا تذكر ما أعطيته. وليس لك أن تقول حسبت زيداً ولا منطلقاً وتسكت، لفقد ما عقدت عليه حديثك. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن الأفعال المتعدّية إلى مفعولَيْن على ضربَيْن: ضرب لا يكون الفعل فيه (¬1) من أفعال الشكّ واليقين، ولا يدخل (¬2) على مبتدأ وخبر، نحوُ: "أَعطيت"، و"كسوت". تقول: "كسوت زيدًا ثوبًا"، و"أعطيته درهمًا"، فالمفعولُ الأول مُغايِر للمفعول الثاني من طريق المعنى، وهو فاعل، ألا ترى أن زيدًا يكتسي الثوبَ، أنّه آخِذ للدرهم، وليس الدرهم بزيدٍ، ولا زيدٌ بالثوب؟ ألا ترى أنك لو أسقطت الفعل والفاعل، لم يجز أن تقول: "زيدٌ ثوبٌ" ولا "زيد درهمٌ" لأنّ الثاني ليس ¬
الأوّل؟ فلذلك قال: "ممّا تَغاير فيه المفعولان". وإذا كان ذلك كذلك، جاز في هذه المسألة ثلاثة أوجه: منها الاكتفاء بالفاعل مع الفعل، فتقول: "أعطيت"، و"كسوت"؛ لأنّ الفعل والفاعل جملةٌ يحسن السكوت عليها، ويحصل بها فائدةٌ للمخاطب. وذكرُ المفعول فائدة أُخرى تزيد على إفادة الجملة، فإن ذكرت المفعولَيْن، كان تناهِيًا في البيان والفائدةِ بذكر المُعْطِي وهو الفاعل، ومن أُعطي، وهو المفعول الأوّل، وما أُعطي، وهو المفعول الثاني. ولك أن تقتصر على أحد المفعولين، ويكون توسُطًا في البيان والفائدة. فتقَول: "أعطيت درهمًا"، فأفدت المخاطبَ جنسَ ما أعطيت من غير تعيينِ مَن أعطيت. وأما الضرب الآخر، فإنه يتعدّي إلى مفعولين، وهو من أفعال الشكّ واليقين، وتدخل على المبتدأ والخبر، نحوُ: "ظننت زيدًا قائمًا"، و"حسبت بكرًا منطلقًا"، وقد تقدّم ذكرها قبلُ. فما كان من هذه الأفعال، فليس لك أن تقتصر على أحد المفعولين فيها دون الآخر، وذلك لأنها تدخل على المبتدأ والخبر، ولا بد لكل واحد منهما من صاحبه؛ لأنّ بمجموعهما تتمّ الفائدةُ للمخاطب، فالمفعولُ الثاني معتمَدُ الفائدة، والمفعول الأوّل معتمد البيان. ألا ترى أنك إذا قلت: "ظننت زيدًا قائمًا" فالشك إنما وقع في قيام زيد، لا في ذاته؟ وإنما ذكرت المفعول الأوّل لبيان مَن أُسْنِد إليه هذا الخبرُ، فلمّا كانت الفائدة مرتبطةً بهما جميعًا، لم يجز إلّا أن تذكرهما معًا، فلو قلت: "ظننت زيدًا"، وسكتّ، أو "ظننت قائمًا"، لم يجز كما جاز في "أعطيت" لِما ذكرناه. وهذا معنى قوله: "لفقد ما عقدت عليه حديثك"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: فأما المفعولان معاً فلا عليك أن تسكت عنهما في البابين. قال الله تعالى: {وظننتم ظن السوء} (¬1)، وفي أمثالهم: "من يسمع يخل" (¬2) , وأما قول العرب ظننت ذاك، فـ "ذاك" إشارة إلى الظن, كأنهم قالوا ظننت فاقتصروا. وتقول ظننت به إذا جعلته موضع ظنك كما تقول ظننت في الدار. فإن جعلت الباء زائدة بمنزلتها في ألقى بيده لم يجز السكوت عليه. * * * ¬
قال الشارح: أما باب "أعطى"، و"كسا"، فقد تقدّم الكلام عليه في جواز السكوت على الفاعل؛ لأنها جملة من فعل وفاعلٍ يحصل للمخاطب منها فائدةٌ، وهو وجود الإعطاء والكسوة، إذ قد يجوز أن يوجَد منه ذلك. وأمّا أفعال القلوب، وهي باب "ظننت" وأخواتها، فقد اختلف النحويون في جواز السكوت على الفاعل. فامتنع قومٌ من جوازِ ذلك، وقالوا: لأنه لا فائدة فيه؛ لأنه قد عُلم أن العاقل لا يخلو من ظن أو علم. فإذا قلت: "ظننت"، أو"علمت"، لم يجز؛ لأنك أخبرتَه بما هو معلوم عنده. والوجهُ جوازُه؛ لأنك إذا قلت: "ظننت"، فقد أفدت المخاطب أنه ليس عندك يقين. وإذا قلت: "علمت"، فقد أخبرت أنه ليس عندك شك. وكذلك سائرها، وهذا فيه من الفائدة ما لا خَفاءَ فيه، وعليه أكثر النحويين. قال الله تعالى: {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} (¬1)، فأتي بالمصدر المؤكد، وكأنّه قال: "وظننتم"؛ لأنّ التأكيد كالتكرير. ومن أمثال العرب "مَنْ يَسْمَعْ يَخَلْ"، ففي "يخل" ضمير فاعل، ولم يجىء بالمفعولَيْن، فعلى هذا تقول: "ظننت ظَنًا"، و"ظننت يومَ الجمعة"، و"ظننت خَلفَك". كل ذلك جائز، وإن لم تذكر المفعولين. وأما قول العرب: "ظننت ذاك"، فإنما يعنون ذلك الظن، فيكون "ذا" إشارة إلى المصدر لدلالة الفعل عليه. وقد جاز أن تقول: "ظننت" من غير مفعولين. وإذا جئت بـ"ذاك" وأنت تعني المصدر؛ فإنمّا أكدت الفعل، ولم تأتِ بمفعول يُحْوِج إلى مفعول آخر، فـ "ظننت" ها هنا يعمل في "ذاك" عملَه في الظنّ، كما يعمل "ذهبت" في "الذهاب". وتقول: "ظننت به" إذا جعلته موضعَ ظنك، كما تقول: "نزلت به"، و"نزلت عليه" مجراه ها هنا مجرى الظرف، فلا يحوج إلى ذكر مفعول آخر. فإن جعلت الباء زائدة، كان الضمير مفعولاً، ولم يكن بد من ذكر المفعول الثاني؛ لأنك ذكرت المفعول الأوّل، وصار التقدير: "ظننت زيدًا"، كما كان التقدير في "ألْقَى بيَده": ألْقَى يَدَه. والباءُ تزاد مع المفعول كثيرًا. قال الله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬2)، و {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (¬3). ولو لم تكن الباء زائدة، لَما جاز أن يكون الاسم معها فاعلًا في نحو قوله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬4). والتقدير: كفى الله. والذي يدل على زيادتها أنها إذا حذفت، يرتفع الاسم بفعل، نحوَ قول الشاعر [من الطويل]: كَفَى الشيْبُ والإِسلامُ للمَرْء ناهِيًا (¬5) ¬
فصل [جواز إعمال أفعال القلوب وإلغائها]
فصل [جواز إعمال أفعال القلوب وإلغائها] قال صاحب الكتاب: ومنها أنها إذا تقدمت أعملت ويجوز فيها الإعمال والإلغاء متوسطة أو متأخرة قال [من البسيط]: 1005 - أبالأراجيز يا ابن اللؤم توعدني ... وفي الأراجيز خلت اللؤم والخور ويلغى المصدر إلغاء الفعل, فيقال متى زيد ظنك ذاهب، وزيد ظني مقيم، وزيد أخوك ظني وليس ذلك في سائر الأفعال. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول عن ضُعْف إعمال هذه الأفعال في المفعولين لكَوْنها غير مؤثرة، ولا نافذة منك إلى غيرك، وإنما هي أشياءُ تهجُس في النفس من يقين أو شكّ من غير تأثير فيما تعلق بها. وإنما أعملت؛ لأنّ فاعلها قد تعلق ظنّه أو علمُه بمظنون أو معلوم، كما أن قولك: "ذكرت زيدًا" يتعدّي إلى "زيد"؛ لأنّ الذكر اختص به، وإن لم يكن مؤثرًا فيه، ¬
فلذلك تعدّت هذه الأفعال، وإن لم تكن مؤثرة، لتعلُّقها بما ذكرنا واختصاصِها به. ولأجل كونها ضعيفة في العمل، جاز أن تُلْغى عن العمل. وهذه الأفعال لها أحوال ثلاثة: تكون متقدّمة على المبتدأ والخبر، وتكون متوسّطة بينهما، وتكون متأخرة عنهما. فإذا تقدمت، لم يكن بد من إِعمالها؛ لأنّ المقتضى لإعمالها قائم لم يوجد ما يُوهِي الفعل، ويسوّغ إبطال عمله، فوَرَدَ الاسم، وقد تقدّم الشَكّ في خبره، فمَنَعَه ذلك التقدم من أن يجري على لفظه قبل دخول الشك. فأما إذا توسطت، أو تأخرت، فإنه يجوز إلغاؤُها؛ لأنها دخلت على جملة قائمة بنفسها. فإذا تقدمت الجملة أو شيء منها، جرت على منهاجها ولفظها قبل دخول الشك، وصُيّر الفعل في تقدير ظرف له، كأنك قلت: "زيدٌ منطلقٌ في ظنّي"، مع أن الفعل يضعف عملُه إذا تقدّمه معموله بإبعاده عن الصدر. ألا ترى أن قولك: "ضربتُ زيدًا" أقوى في العمل من قولك: "زيدًا ضربت"؛ ولذلك يجوز تقويةُ الفعل بحرف الجرّ إذا تقدّم معموله عليه، فتقول: "لزيد ضربت"، ولا يحسن ذلك مع تأخُّره؟ فكذلك إذا قلت: "زيدٌ أظن منطلقٌ" يجوز الإعمال والإلغاء، نحو قولك: "زيدٌ حسبت منطلقٌ"، و"زيدًا حسبت منطلقًا"، و"زيد منطلق حسبت". فإِذا ألغيت، كان الفعل في تقدير ظرف متعلق بالخبر، كأنك قلت: "زيد منطلق في حِسْباني وظنّي". وإذا أعملت، كان الفعل في حكم الأفعال المؤثّرة، نحوِ: "أبصرت"، و"ضربت"، و"أعطيت". واعلم أنه كلّما تَباعد الفعل عن الصدر، ضعُف عمله، فإذًا قولك: "زيدًا حسبت قائمًا" أقوى من قولك: "زيدًا قائمًا حسبت"؛ و"زيدًا قائمًا حسبت" أقوى من قولك: "زيدًا قائمًا اليوم حسبت". كلّما طال الكلام ضعُف الإعمال مع التأخر. فأما قوله [من البسيط]: أبالأراجيز ... إلخ البيت للّعِين المِنْقَريّ يهجو الحجّاج. والشاهد فيه إلغاءُ "خلت" حين قدم الخبرُ، وهو الجارّ والمجرور، وتوسّط الفعلُ. فاللؤم مبتدأ، و"الخور" معطوف عليه، و"في الأراجيز" الخبز، و"خلت" مُلْغَى لتوسُّطه، والمعنى: أتُهدِّدني بالهجاء والأراجيز، وذلك من أفعال اللُّؤَماء والنَّوَكَة، ومَن لا قدرة له؟ وكذلك المصدر حكمه حكم الفعل، فيجوز إلغاؤه حيث جاز إلغاء الفعل، ومعنى إلغائه إبطال عمله لا إبطال إعرابه، فتقول: "متى زيدٌ ظنك ذاهبٌ؟ " و"زيدٌ ذاهبٌ ظنّي"، فـ "زيدٌ" مرتفع بالابتداء، وخبرُه "ذاهب"، و"متى" ظرفٌ للذهاب، و"ظنّك" مصدر منصوب بفعل مضمر مُلغى، كأنك قلت: "متى زيدٌ تظنّ ظَنَّك منطلقٌ". وهذا تمثيلٌ؛ لأنه قبيحٌ أن يؤكَّد الفعل الملغى. وإنما جاز مع المصدر إذا كان منفردًا, لأنه قد صار
فصل [تعليقها]
كالبدل من الفعل، فلمّا كان في تقدير الفعل، جاز إلغاؤُه، كما يلْغَى الفعل إذا توسّط بين المبتدأ والخبر، وكذلك إذا تأخّر، نحوَ قولك: "زيدٌ ذاهبٌ ظّني أو في ظنّي أو ظَنَّا منّي". والإلغاءُ هنا أحسن إذ كان متأخّرًا، كما كان الفعل كذلك، فإن بدأتَ بالمصدر، وقلت: "ظنّي زيدٌ ذاهبٌ اليوم"، كان الإلغاء قبيحًا ممتنعًا، كما كان في الفعل كذلك إذا قلت: "أظُن زيد ذاهبٌ"؛ لأنّ تقديره تقدير الفعل. فإن تقدمه ظرفٌ أو نحوه من الكلام، نحوُ قولك: "متى ظَنّي زيدٌ ذاهبٌ؟ " و"أينَ ظني زيدٌ ذاهبٌ؟ " جاز الإلغاء؛ لأن قبله كلامًا، فصار الفعل كأنه حشوٌ، فإن نصبت الاسمين، وقلت: "متى ظنك زيدًا ذاهبًا؟ " رفعت المصدر على الابتداء، والظرفُ خبره, لأنّ ظروف الزمان تقع أخبارّا عن الأحداث، وقد أعملت المصدر إعمال فعله، وهو أحسن هنا من الإلغاء. وقوله: "وليس ذلك بسائر الأفعال"، يريد في باقي أخواتِ "ظننت" لا يجوز: "زيد حسباني ذاهبٌ"، وذلك لكثرة استعمال "ظننت"، فاعرفه. فصل [تعليقها] قال صاحب الكتاب: ومنها إنها تعلق وذلك عند حروف الابتداء والاستفهام والنفي كقولك ظننت لزيد منطلق، وعلمت أزيد عندك أم عمرو وأيهم في الدار, وعلمت ما زيد بمنطلق. ولا يكون التعليق في غيرها. * * * قال الشارح: اعلم أن التعليق ضرب من الإلغاء، والفرقُ بينهما أن الإلغاء إبطال عمل العامل لفظًا وتقديرًا، والتعليق إبطال عمله لفظًا لا تقديرًا، فكل تعليق إلغاءٌ، وليس كل إلغاء تعليقًا. ولمّا كان التعليق نوعًا من الإلغاء، لم يجز أن يُعلَّق من الأفعال إلَّا ما جاز إلغاؤُه، وهي أفعال القلب، وهي "علمت" وأخواته. وإنما تُعلَّق إذا وَلِيَها حروفُ الابتداء، نحوِ الاستفهام وجوابات القَسَم، فيُبْطَل عملها في اللفظ، وتعمل في الموضع، فتقول: "قد علمت أزيدٌ في الدار، أم عمرٌو"، و"علمت إنّ زيدًا لقائمٌ"، و"إخال لَعمرو أخوك"، و"أحْسِبُ لَيقومنّ زيدٌ". قال الله تعالى: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا} (¬1)، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (¬2). ومن النحويين من يجعل "ما"، و"لا"، كـ"إنّ" واللام، فيقول: "أظُنُّ ما زيدٌ منطلقٌ"، و"أحسبُ لا يقوم زيدٌ"، فلا يُعْمِل في اللفظ شيئًا، بل يحكم على الموضع ¬
بالنصب؛ لأنّ "ما"، و"لا" يجاب بهما في القسم، فتقول: "وَاللهِ ما زيدٌ منطلقٌ، و"تاللهِ لا يقوم زيدٌ". وإنّما علّقت هذه الأشياءُ العاملَ؛ لأنّ لها صدرَ الكلام، فلو أُعمل ما قبلها فيها أو فيما بعدها، لخرجت عن أن يكون لها صدرُ الكلام؛ وأمّا حروف الجرّ، فيجوز أن تعمل فيها، نحو قولك: بـ"مَن مررت"، و"إلى أيّهم ذهبت"، وذلك من قبل أنّ الجارّ والمجرور بمنزلة الشيء الواحد؛ فأما قوله تعالى: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} (¬1)، فـ "أيّ" هنا منصوبٌ بالفعل بعده، وهو"ينقلبون" لا بـ"سيعلم". وقوله: "ولا يكون التعليق في غيرها"، أي: لا يكون إلَّا في الأفعال التي تُلْغَى، نحوِ: "ظننت"، و"علمت"؛ لأنّ التعليق نوع من الإلغاء على ما ذكرنا، فلذلك لا تقول: "لأضربن أيهم قام"؛ لأنه فعلٌ مؤثرٌ لا يجوز إلغاؤه، فلا يجوز تعليقه؛ وأما قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} (¬2)، فإن الخليل (¬3) كان يحمل ذلك على الحكاية وإضمارِ قولٍ، تقديرُه: لننزعنّ من كلّ شيعة الذي يُقال فيه: "أيّهم أشدّ"، فـ "أيُّهم" هنا عنده استفهامٌ مرفوع بالابتداء رَفعَ إعراب، و {أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} الخبر على حدّ قوله [من الكامل]: فأبِيتُ لا حَرِجٌ ولا محرومُ (¬4) أي: بالذى يُقال فيه ذلك؛ وأما سيبويه (¬5) فكان يذهب إلى أنه اسمٌ موصولٌ بمعنَى "الّذِي"، وقد حذف العائد من صلته، وأصله: "أيّهم هو أشدُّ"، فحذف "هُو" العائد المرفوع، ومثله قراءةُ من قرأ: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} (¬6)، والمراد: الذي هو أحسن، وحين حذف العائد من صلته، أشبه الغاياتِ من نحوِ "قبلُ، و"بعدُ". فإنه لّما حذف منها المضاف إليه، بنيت على الضمّ، كذلك "أيهُم"، لمّا حذف من صلتها العائد الذي هو من تمامها وبه إيضاحُها، صار كحذف المضاف إليه، فبُنيت على الضمّ لذلك، وموضعها نصبٌ بالفعل الذي هو"لننزعن". ومثله "أضربُ أيّهم أفضلُ". أنشد الخليل (¬7) [من المتقارب]: إذا ما أتَيْتَ بني مالِكٍ ... فسَلمْ على أيُّهم أفضلُ (¬8) ¬
والكوفيون (¬1) لا يعرفون هذا الأصل، ويُجرون " أيًّا" مجرَى "مَنْ"، و"ما" في الاستفهام والجزاء، فإذا وقع الفعل عليها، وهي بمعنَى "الذي"، نصبوها لا محالةَ، فيقولون: " أضربُ أنهم أفضل". ولا فرقَ عندهم بين "أيّهم هو أفضل" وبين "أيّهم أفضل"، وحكى هَارُونُ (¬2) عنهم أنّهم قرؤوا الآية بالنصب. ويؤيد ذلك ما حكاه الجرمي، قال: خرجتُ من الخَنْدَق - يعني خندق البصرة - حتى صرتُ إلى مكة، فلم أسمع أحدًا يقول: "اضرب أيُّهم أفضل"، أي: كلّهم ينصب، ولم يذكر الكوفيون "أيّهم أفضل"، وحكاه البصريون. فأما الآية ورفعُها، فلهم فيها أقوالٌ: أحدُها: -وهو قول الكسائي والفرّاء- أن الفعل اكتفى بالجارّ والمجرور عن مفعول صريح، كما يُقال: "قتلت من كل قبيل"، و"أكلت من كل طعام"، فكذلك وقعت الكفايةُ بقوله: "لننزعنّ من كل شيعة"، وابتدأ بقوله: "أيّهم أشدّ على الرحمن عتيًا". الثاني: وهو أن العامل في الجملة فعلٌ دلّ عليه "شيعةٌ"؛ لأنّ الشيعة الأعوان، والمعنى: ثمّ لننزعن من كل قوم تَشايعوا لينظروا أيهم أشدّ. والنظرُ والعلمُ من أفعال القلب، يجوز تعليقهما وإسقاط عملهما إذا وليهما استفهامٌ. وكان يونس (¬3) يرى تعليقَ "لننزعنّ" وما كان نحوه من غير أفعال القلوب، نحوَ: "اضرب أيّهم أفضل" على تعليق العامل، وشبهه بـ"أشهدُ إنك لَرسولُ الله". وقد تقدّم إفسادُ ذلك، وأنه لا يكون إلَّا في أفعال القلب. والوجهُ ما ذهب إليه سيبويه, لأنّ نظيرَ "أيهم"، "مَن"، و"ما"، وهما مبنيّان، وكان حق "أيهم" أن يكون مبنيًّا كأخواته لوقوعه موقعَ حرف الاستفهام، أو الجزاء، أو موقعَ "الذي"، فلمّا سقط أحدُ جُزءي الجملة من الصلة، وهو العائد، نقص، فعاد إلى الأصل، وهو البناء. وأمّا مذهب الخليل وإرادةُ الحكاية وإضمارُ القول، فهو شيء بابُه الضرورة، والشعرُ أجملُ به، فلا يُصار إليه، وعنه مندوحة. قال سبيويه (¬4): ولو اتسع هذا في الأسماء، لقيل: "أضربُ الفاسقُ الخبيثُ" (¬5) على الذي يُقال له: "الفاسق الخبيثُ". وأما قول يونس وتشبيهُه إياه بـ"أشهد إنك لرسولُ الله"، فلا يُشبِهه؛ لأنّ ما بعد "أشهد" كلامٌ مستقل قائم بنفسه، وليس كذلك "أيّهم أفضل". ¬
فصل [اجتماع ضميري الفاعل والمفعول فيها]
فصل [اجتماع ضميري الفاعل والمفعول فيها] قال صاحب الكتاب: ومنها أنك تجمع فيها بين ضميري الفاعل والمفعول فتقول علمتني منطلقًا، ووجدتك فعلت كذا، ورآه عظيمًا. قال الشارح: اعلم أن الأفعال المؤثرة إذا أوقعها الفاعل بنفسه، لم يجز أن يتعدّي فعلُ ضميره المتّصل إلى ضميره المتّصل، فلا يُقال: "ضربتُني"، ويكون الضميران للمتكلّم، ولا "ضربتَك"، ويكون الضميران للمخاطب، ولا نحوُ ذلك. فإذا أرادوا شيئًا من ذلك، قالوا: "ضربتُ نفسي"، و"أكرمتُ نفسي"، ونحوَ ذلك. وإنّما امتنع ذلك؛ لأنّ الغالب من الفاعلين إيقاعُ الفعل بغيرهم، وأفعالُ النفس هي الأفعال التي لا تتعدّى، نحوُ: "قام زيدٌ"، و"جلس بكرٌ"، و"ظرُف محمّدٌ"، ونحوِ ذلك. فإذا اتّحد الضميران، فقد اتّحد الفاعل والمفعول من كلّ وجه. وكان أبو العبّاس يحتجّ لذلك بأن الفاعل بالكلّية لا يكون المفعول بالكلّيّة. وهذا معنى قولنا: لأنه لا بدّ من مغايَرة ما؛ ألا ترى أنه يجوز "ما ضربني إلا أنا"؛ لأنّ الضميرَيْن قد اختلفا من جهةِ أن أحدهما متصلٌ، والآخر منفصلٌ، فلم يتّحدا من كل وجه؟ قال الزجّاج: استغنوا عن "ضربتُني" بـ"ضربتُ نفسي"، كما استغنوابـ "كِلَيْهما" عن تثنيةِ "أجْمَعَ"، فلَم يقولوا: "قام الزيدان أجمعان"، وإن كانوا قد جمعوه، فقالوا: "قام القوم أجمعون". كذلك لم يقولوا: "ضربتُني". استغنوا عنه بـ"ضربتُ نفسي"؛ لأن النفس كغيره ألا ترى أن الإنسان قد يخاطب نفسه، فيقول: "يا نفسُ لا تفعلي" (¬1) كما يخاطب الأجنبى؟ فكان قوله: "ضربتُ نفسي" بمنزلةِ "ضربتُ غلامي". وأما أفعال القلب التي هي "ظننت" وأخواتها، فإنه يجوز ذلك فيها، ويحسن، فيتعدّى ضمير الفاعل فيها إلى ضمير المفعول الأول دون الثاني، فتقول: "ظننتُني عالمًا"، و"حسبتَك غنيًا". وذلك لأنّ تأثير هذه الأفعال إنما هو في المفعول الثاني، ألا ترى أن الظنّ والعلم إنما يتعلّقان بالثاني, لأنّ الشك وقع فيه، والأوّلُ كان معروفًا عنده، فصار ذكرُه كاللغْو؟ فلذلك جاز أن يتعدّي ضمير الأوّل إلى الثاني؛ لأنّ الأول كالمعدوم، والتعدّي في الحقيقة إلى الثاني. وقوله: و"رَآهُ عظيمًا" في المثال، يريد إذا كان المفعول الأوّل هو الفاعل المضمر في "رَأى"، فاعرفه. ¬
قال صاحب الكتاب: وقد أجرت العرب "عدمت", و"فقدت" مجراها, فقالوا عدمتني وفقدتني. وقال جران العود [من الطويل]: 1006 - لقد كان لي عن ضرتين عدمتني ... وعما ألاقي منهما متزحزح ولا يجوز ذلك في غيرهما فلا تقول شتمتني ولا ضربتك، ولكن شتمت نفسي وضربت نفسك. * * * قال الشارح: قد أجرت العرب "عدمت"، و"فقدت" مجرى "ظننت" ونحوه من الأفعال التي يجوز إلغاؤُها فيما حكاه الفراء، فيقولون: "عدمتُني"، و"فقدتُني". وذلك لأنّ معناهما يؤول في التحصيل إلى معناها. ألا ترى أن معنَى "عدمت الشيءَ: علمتُه" غيرَ موجود. وإذ كانا في معنى العلم، أُجريا مجراها مع أن النّظَر يُحِيل "عدمتُني". ألا ترى أنك إذا قلت: "عدمتني"، فمعناه علمتُني غيرَ موجود، ومحالٌ أن تعلم شيئًا، وأنت غير موجود؛ لأنك إذا علمت كنت موجودًا، وصحّتُه على الاستعارة، وأصلُه: عَدِمَني غيري، وإنما استُعير إلى المتكلّم، وأما قوله [من الطويل]: لقد كان لي عن ضرّتين ... إلخ وبعده: هما الغُولُ والسّعْلاةُ حَلْقِيَ منهما ... مُخدّشُ مابَيْنَ التراقِي مُكَدّحُ الشاهد فيه "عدمتني" باتحاد الضميرين المتّصلين، والمعنى: أنه كان له امرأتان ضَرَبَهما، فخدّشتا وجهَه، والضرّتان: المرأتان، فاعرفه. ¬
الأفعال الناقصة
ومن أصناف الفعل الأفعالُ الناقصةُ فصل [تعدادها، وعملها، وعلّة تسميتها] قال صاحب الكتاب: وهي "كان" و"صار" و"أصبح" و"أمسى" و"أضحى", و"ظل" و"بات", و"ما زال" و"ما برح" وما انفك وما فتئ وما دام وليس. يدخلن دخول الأفعال القلوب على المبتدأ والخبر، إلا أنهن يرفعن المبتدأ وينصبن الخبر, ويسمى المرفوع اسمًا، والمنصوب خبرًا. ونقصانهن من حيث أن نحو ضرب وقتل كلام متى أخذ مرفوعه، وهؤلاء ما لم يأخذن المنصوب مع المرفوع لم يكن كلاماً. * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأفعال من العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر، ومجراها في ذلك مجرى "ظننت" وأخواتِها، و"إنّ"، وأخواتها، في كونها من عوامل المبتدأ والخبر، إلَّا أنْ شَبَهها بأفعال القلوب كـ"ظننت" وأخواتها، أخصُ من حيث كانت أفعال القلوب تفيد اليقين أو الشك في الخبر، و"كَانَ" تفيد زمان وجود الخبر، فاشتركا في دخولهما على المبتدأ والخبر، وتعلُّقِهما بالخبر. ولذلك قال سيبيويه (¬1) في التمثيل تقول: "كان عبد الله أخاك"، فإنما أردت أن تخْبِر عن الأخوّة، وأدخلت "كَانَ" لِتجعل ذاك فيما مضى، وذكرت الأول كما ذكرت الأوّل في "ظننت". وهذا معنى قول صاحب الكتاب: "يدخلن دخولَ أفعال القلوب". وتسمّى أفعالًا ناقصة، وأفعالَ عبارة. فأما كونها أفعالًا، فلتصرّفها بالماضي والمضارع والأمرِ والنهيِ والفاعلِ، نحوِ قولك: "كان"، "يكون"، "كُنْ"، "لا تكنْ"، و"هو كائن". وأمّا كونها ناقصة فإن الفعل الحقيقيّ يدل على معنى وزمان، نحوَ قولك: ¬
فصل [ما يلحق بها]
"ضَرَبَ"، فإنه يدلّ على ما مضى من الزمان، وعلى معنى الضرب. و"كَانَ" إنمّّا تدلّ على ما مضى من الزمان فقط، و"يَكُونُ"، تدلّ على ما أنت فيه، أو على ما يأتي من الزمان، فهي تدلّ على زمان فقط. فلمّا نقصت دلالتُها، كانت ناقصة. وقيل: "أفعال عبارة" أي: هي أفعال لفظيةٌ لا حقيقيةٌ, لأنّ الفعل في الحقيقة ما دلّ على حَدَث، والحدثُ الفعل الحقيقى، فكأنه سُمّي باسمِ مدلوله. فلمّا كانت هذه الأشياء لا تدل على حدث، لم تكن أفعالاً إلَّا من جهة اللفظ والتصرّف؛ فلذلك قيل: "أفعال عبارة"، إلَّا أنها لمّا دخلت على المبتدأ والخبر، وأفادت الزمان في الخبر، صار الخبرُ كالعوض من الحدث، فلذلك لا تتمّ الفائدةُ بمرفوعها حتى تأتي بالمنصوب. وحيث كانت داخلة على المبتدأ والخبر، وكانت مُشْبِهة للفعل من جهة اللفظ، وجب لها أن ترفع المبتدأ، وتنصب الخبر تشبيهًا بالفعل إذ كان الفعل يرفع الفاعلَ، وينصب المفعولَ، فقالوا: "كان زيد قائمًا"، و"أصبح البرد شديدًا". وحيث كان المرفوع ها هنا والمنصوب لحقيقة واحدة، ولم يكونا كالفاعل والمفعول الحقيقيّيْن اللذَيْن هما لحقيقتَيْن مختلفتَين؛ أفرد الكلامَ عليه في باب منفرد، ولم يذكر في باب الفاعل والمفعول، ولذلك قيل لمرفوعها: "اسمٌ" ولمنصوبها "خبرٌ"، فرقوا بينهما وبين الفاعل والمفعول. والذي يدلّ أن أصلها المبتدأ والخبر أنك لو أسقطت هذه الأفعالَ، عاد الكلام إلى المبتدأ والخبر، نحوِ قولك في "كان زيدٌ قائمًا" إِذا أسقطت "كان": "زيد قائم". فصل [ما يلحق بها] قال صاحب الكتاب: ولم يذكر سيبويه (¬1) منها إلا كان وصار وما دام وليس، ثم قال وما كان نحوهن من الفعل مما لا يستغني عن الخبر. ومما يجوز أن يلحق بها عاد وآض وغدا وراح. وقد جاء بمعنى صار في قول العرب ما جاءت حاجتك. ونظيره قعد في قول الأعرابي: أرهف شفرته حتى قعدت كأنها حربة. * * * قال الشارح: سيبويه لم يأتِ على عِدّتها، وإنما ذكر بعضها، ثمّ نبه على سائرها بأن قال: "وما كان نحوهن من الفعل ممّا لا يستغني عن الخبر". يريد ما كان مجرّدًا من الحَدَث، فلا يستغني عن منصوب يقوم مقام الحدث. وهي على ما ذكر: "كَانَ"، و"أمْسَى"، و"أصْبَحَ"، و"ظَل"، و"أضْحَى"، و"مَا دَامَ"، و"مَا زَالَ"، و"صَارَ"، و"بَاتَ"، ¬
و"لَيسَ". فـ"كَانَ" مقدّمةٌ؛ لأنها أُمّ الأفعال لكثرة دَوْرها، وتشعُب مواضعها. و"أصبح"، و"أمسى"، أُختان؛ لأنهما متقابلان في طَرَفَي النهار. و"ظلَّ"، و"أضحى"، أُختان لاتفاقهما في المعنى، إذ كانا لصدر النهار. و"مَا دام"، و"ما زال"، و"ما انفك"، و"ما فَتِىءَ"، و"ما بَرِحَ" أخوات لانعقادها بما في أوّلها. و"بات"، و"صار" أُختان لاشتراكهما في الاعتلال. و"لَيْسَ" منفردةٌ؛ لأنها وحدها من بين سائر أخواتها لا تتصرّف، وأمّا "آضَ"، و"عَادَ"، فقد يجوز أن يلْحَقا بها، ويعملا عملَها، وذلك أنّ "آضَ" "يئِيضُ" بمعنَى "عَادَ" "يَعُودُ"، ومنه قولهم: "وَقَالَ أيْضًا". وقد يستعمل بمعنَى "صَارَ". قال زُهَيْر ذكر أرضًا قطعها [من الطويل]: 1007 - قطعتُ إذا ما الآلُ آضَ كأنه ... سُيُوفْ تَنَحّى ساعَة ثُمَّ تَلْتَقِي وأمّا "غَدَا" و"رَاحَ"، فقد يجريان هذا المجرى، فيقال: "غدا زيدٌ ماشِيًا"، و"راح محمّدٌ راكبًا"، يريد الإخبار عنهما بهذه الأحوال في هذه الأزمنة. فالغَدوَةُ: من حين صلاة الغداة إلى طلوع الشمس، والرّواحُ نقيضُ الغُدُوّ، وهو اسمٌ للوقت من بعد الزوال إلى الليل. والذي يدلّ أن المنصوب بهما في مذهب الخبر، وليس بحالٍ، وقوعُ المعرفة في نحوِ قولك: "غدا زيد أخاك"، و"راح محمّدٌ صديقَك"، كما تقول: "كان زيدٌ أخاك". وأما قولهم: "ما جاءتْ حاجتَك "، فـ "جاء" فعلٌ استُعمل على ضربين: متعدّ، وغير متعدّ. تقول: "جاء زيد إلى عمرو"، و"جاء زيد عمرًا"، كما يقال: "لَقِيَ زيدٌ عمرًا"، ¬
فصل [أحكام اسمها وخبرها]
ويكون الفاعل فيه غير المفعول كسائر الأفعال. وقد قالت العرب:"ما جاءت حاجتَك"، بتأنيثِ "جاء"، وإلحاقِه التاءَ، ونصب "حاجتك". وأوّلُ من تكلّم به الخَوارجُ حين أتاهم ابن العبّاس يدعوهم إلى الحقّ من قَبَل عليّ -عليه السّلام- فأجروا "جاء" ها هنا مجرَى "صار"، وجعلوا لها اسمًا وخبرًا. ويكون المنصوب هو المرفوع كما يكون ذلك في "كَانَ" لما بينهما من الشّبَه. وذلك أن قولك: "جاء زيد إلى عمرو" كقولك: "صار زيدٌ إلى عمرو"؛ لأنّ في "جاء" من الانتقال مثلَ ما في "صار". فلمّا كانت في معناها، أُجريت مجراها، فـ"ما" اسم مبتدأٌ مرفوعُ الموضع، و"جاءت" فعلٌ ماضٍ فيه ضميرٌ مرفوعٌ يعود إلى "ما"، وأُنّث حملًا على المعنى؛ لأنّ "ما" هو الحاجة في المعنى، والتقديرُ: أيُ حاجةٍ جاءت حاجتك؟ و"حاجتك" منصوبة لأنها الخبر، والجملةُ خبرُ "ما". ونظيرُ ذلك "مَن كانت أُمَّك؟ " فالضمير في "كانت"، وإن عاد إلى "مَنْ"، إلَّا أنّه "أُنّث" حملًا على المعنى، إذ التقدير: أيّ امرأةٍ كانت أُمّك، ولم يُسْمَع هذا المَثَل إلا بالتأنيث، ولا عهد لنا بـ "جاء" في معنى "صار" إلا في هذا المثل. قال: ونظيره "قَعَدَ" في قول الأعرابي: "أرهف شفرته حتى قعدت كأنّها حربة"، ففي "قعدت" ضميرٌ يعود إلى الشفرة، و"كأنّ" واسمها وخبرها في موضعِ نصب خبرِ "قعدت". وليس المراد القعودَ الذي هو في معنى الجلوس، وإنما المراد الصَيْرُورة والانتقال، فلذلك ضاهت "صَارَ"، فاعرفه. فصل [أحكام اسمها وخبرها] قال صاحب الكتاب: وحال الاسم والخبر مثلها في باب الإبتداء من أن كون المعرفة اسماً والنكرة خبراً حد الكلام. ونحوه قول القطامي [من الوافر]: 1008 - [قفي قبل التفرق يا ضُباعا] ... ولا يك موقفٌ منك الوداعا ¬
وقول حسان [من الوافر]: 1009 - [كأن سبيئة من بيت رأس] ... يكون مزاجها عسلٌ وماء وبيت الكتاب [من الوافر]: 1010 - [فإنك لا تبالي بعد حولٍ] ... أظبي كان أمك أم حمار ¬
من القلب الذي يشجع عليه أمن الإلباس. ويجيئان معرفتين معاً، ونكرتين, والخبر جملة ومفرداً وجملة بتقاسيمها. * * * قال الشارح: اعلم أنه إذا اجتمع في هذا الباب معرفة ونكرة، فالذي يُجْعَل اسم "كانَ" المعرفةُ؛ لأن المعنى على ذلك؛ لأنه بمنزلة الابتداء والخبر، ألا ترى أنك إذا قلت: "كان زيدٌ قائمًا"، فـ"قائمٌ" هنا خبرٌ عن الاسم الذي هو"زيد"، كما كان في الابتداء كذلك. وقولُ النحويين: خبرُ "كان" إنما هو تقريبٌ وتَيْسِيرٌ على المبتدىء، لأن الأفعال لا يُخْبَر عنها. ولو قلت: "كان رجل قائمًا"، أو"كان إنسانٌ قائمًا"، لم تُفِد المخاطبَ شيئًا؛ لأن هذا معلومٌ عنده أنه قد كان، أو قد يكون، والخبر موضوعٌ للفائدة. فإذا قلت: "كان عبدُ الله"، فقد ذكرت له اسمًا يعرفه، فهو يتوقع الفائدةَ فيما تُخْبِر به عنه، ولذلك لَو قرّبتَ النكرة من المعرفة بالأوصاف، لجاز أن تُخْبِر عنها؛ لأن فيها فائدة، وذلك نحو قولك: "كان رجل من بني تميم عندي"؛ لأن هذا ممّا يجوز أن لا يكون، فيجوز ها هنا كما يجوز في الابتداء، نحو قولك: "رجلٌ من بني تميم عندي"؛ لأنه بالصفة قد تخصّص، فقَرُب من المعرفة. وربّما اضطُرّ شاعرٌ فقلب، وجعل الاسم نكرة، والخبر معرفة. وإنما حَمَلَهم على ذلك معرفتُهم أن الاسم والخبر يرجعان إلى شيء واحد، فأيّهما عرّفتَ تَعرّفِ الآخرُ. وهذا معنى قول صاحب الكتاب: "الذي شجّعهم على ذلك أمْنُ الإلباس". فأما الأبيات التي أنشدها شاهدة على صحة الاستعمال، فمن ذلك قوله [من الوافر]: قِفِي قبل التفرّق يا ضُباعَا ... ولا يَكُ مَوقِفٌ مِنْكِ الوَداعا ¬
البيت للقُطاميّ، واسمه عُمَيْر بن شُيَيْم، والشاهد فيه رفع "الموقف"، وهو نكرة، ونصب "الوداع"، وهو معرفة. وحسّن ذلكَ وصفُ الموقف بالجارّ والمجرور الذي هو "مِنْكِ"، والتقدير: موقفٌ كائن منك. والنكرةُ إذا وُصفت قربت من المعرفة، وقد رُوي: "ولا يك موقفي" بالإضافة، وهذا لا نَظَرَ فيه إذ لا ضرورةَ. وضُباعَا: ترخيم ضُباعةَ اسمَ امرأة، وهي ضباعةُ بنت زُفَرَ بن الحارث الكِلابيّ. ومن ذلك قول حسّان بن ثابتٍ الأنصاريّ رضي الله عنه [من الوافر]: كأنّ سَبِيئَةً من بَيْتِ رَأسٍ ... يكون مِزاجَها عَسَلٌ وماءُ الشاهد فيه نصب "المزاج" بأنّه خبرُ "يكون"، وهو معرفة، ورفعُ "العسل" و"الماء" بأنه اسمُها، وهو نكرة ضرورة كون القافية مرفوعةً. وهو في هذا البيت أسهل من الذي قبله من حيث كان "المزاج" مضافًا إلى ضميرِ "سبيئة"، وهي نكرة. وضميرُ النكرة لا يفيد المخاطبَ أكثرَ ممّا يفيده ظاهرُها، وإن كان المضمر معرفة من حيث يعلم المخاطب أنه عائدٌ إلى المذكور، إلا أن المذكور غير متميّز، فكانَ حكمه حكم النكرة مع أنّ "عسلًا" و"ماءً" جنسان، ولا فرقَ بين تعريف الجنس وتنكيره من حيث لم يكن لأجزائه لفظٌ يخصّه، بل يُعبَّر عنه بلفظ الجنس. فإذًا لا فَرْقَ بين قولك: "عسلٌ"، و"العسلُ"، إذا أُريد الجنس. ألا ترى أنك تقول: "عندي عسلٌ"، و"عندك درهمٌ منه"، و"عندي عسلٌ"، و"عندك كثيرٌ". وقد رواه أبو عثمان المازنيّ "يكون مزاجُها عسلًا وماءُ" برفع "المزاج" على أنه اسمُ "يكون" وهو معرفة، و"عسلًا" الخبر، وهو نكرة على شرط الباب. و"ماءٌ" مرفوع حَمْلًا على المعنى, لأنّ كلّ شيء مازَجَ شيئًا، فقد مازَجَه الآخرُ، فصار التقدير: ومازَجَهُ ماءٌ، أي: خالَطَهُ. والسبيئة: الخمر، سُمّيت بذلك لأنها تُسْبأ، أي: تُشترى. ويروى: "سُلافةً"، والسلافة من الخمر: ما جرى من غير اعتصار، واشتقاقُها من "سلف"، إذا تقدّم. وبيت رأس: موضع بعينه بالشام، وقيل: رأس: اسمُ خَمّار معروف بجُودة الخمر. ووصفها بالمزاج لأنها شأميّةٌ إن لم تُمْزَج قَتَلَتْ، وأما بيت الكتاب [من الوافر]: فإنّك لا تُبالِي بعد حَوْلٍ ... أظَبْيٌ كان أُمَّك أم حِمارُ فإن الشعر لخِداش بن زُهَيْر، والشاهد فيه جعلُ اسمِ "كان" نكرةً، والخبرِ معرفة؛ لأنها أفعالٌ مشبّهة بالأفعال الحقيقيّة، وفي الأفعال الحقيقية يجوز أن يكون الفاعل نكرة، والمفعول معرفة، فأُجريت هذه الأفعال مجراها في ذلك عند الاضطرار. قال سيبويه (¬1): وهو ضعيف مع ما تقدّم, لأنهما لعين واحدة، فإذا عُرف أحدهما ¬
يُعرَف الآخر؛ لأنه هو في المعنى، فإذا ذكرت "زيدًا"، وجعلته خبرًا، عُلم أنه صاحب الصفة. وقد ردّ أبو العباس المبرد على سيبويه الاستشهادَ بهذا البيت، وقال اسمُ "كان" هنا مضمرٌ في "كانَ" يعود إلى "الظبي"، والمضمراتُ كلّها معارفُ، و"أُمّك" الخبر، فحصل من ذلك أن الاسم والخبر معرفتان، وذلك جائز، نحوُ: "كان عبد الله أخاك". وسيبويه كأنّه نظر إلى المعنى من كون ضمير النكرة في التحصيل، لا يزيد على ظاهره، إذ لا يُميِّز واحدًا من واحد، وإن كان من حيث علم المخاطب بأنّه يعود على المذكور معرفةً، وقد تقدّم نحو ذلك. وقد ذهب بعضهم إلى أن "ظبيًا" في قولك: "أظبي كان اُمَّك أم حمار" مرتفع بـ "كانَ" مضمرة تُفسِّرها "كانَ" هذه الظاهرةُ؛ لأنّ الاستفهام يقتضي الفعل، فعلى هذا يكون الاسم نكرة والخبر معرفة. ولا يحسن ذلك عندي؛ لأنّ الاسم إذا وقع بعد همزة الاستفهام، وإن كان خبرُه فعلًا، فارتفاعُه بالابتداء. ولا يحسن ارتفاعُه بفعل محذوف، إلّا مع "هَلْ"، وقد تقدّم نحو ذلك. والمعنى أنه يصف إضراب الناس عن الشَّرَف بالأنساب، وأنّه إذا حصل للإنسان الاستغناءُ بنفسه، لم يُبالِ إلى من انتسب من الأُمّهات. وضرب "الظبي" و"الحمار" مَثَلًا لفضل "الظبي"، ونقصِ "الحمار". وذكر الحولَ لذِكْر "الظبي" و"الحمار"؛ لأنهما بعد الحول يستغنيان بأنفسهما. فتَقرّر بما ذكرناه أنّ بابَ "كان" القياس فيه أن يكون اسمها معرفة والخبر نكرة، ولا يحسن عكسُ ذلك إلّا عند الاضطرار. وقد يجوز أن يكون الاسم والخبر معرفتين، نحوَ قولك: "كان زيدٌ أخاك"، وإن شئت قلت: "كان أخوك زيدًا". أنت في ذلك مخيَّر، وعليه قوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} (¬1)، وَ {مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا} (¬2). وإن شئت رفعت الأوّل. وإذا نصبت الأوّل، كان "أنّ" مع الفعل في تأويلِ اسم مرفوع. وإذا رفعت الأوّل، كان في تأويل اسم منصوب؛ لأنّ "أنْ" والفعل في تأويلِ معرفة، إذ "أَنْ" والفعل في تأويلِ مصدر مضاف إلى فاعلِ ذلك الفعل، والتقديرُ: "إلّا قولهم"؛ ولذلك يحسن الابتداءُ به، فتقول: "أنْ ذهبتَ خيرٌ لك" على معنى: ذهابُك خير لك، ومثله قوله [من الطويل]: 1011 - لقد عَلِمَ الأقوامُ ما كان داءها ... بثَهْلانَ إلّا الخِزْيُ ممّن يَقُودُها ¬
لك في "الخزي" الرفع والنصب على ما تقدّم. وممّا يدلّك أنّ "أنْ" والفعل مصدرٌ معرفةٌ امتناعُ دخول لام التعريف عليه. وقد يكونان نكرتَيْن، نحوَ قولك: "ما كان أحدٌ مثلَك"، و"ما كان أحد مُجتَرِئًا عليك"، وإنّما جاز الإخبار عن نكرة هنا, لأنّ "أحدًا"، في موضع "الناس". والمراد أن يعرّفه أنّه فوق الناس كلّهم حتى لا يوجد له مثل، أو دونهم حتى لا يوجد له في الصفة مثلٌ. وهذا معنَى يجوز أن يُجهَل مثله، فيكون في الإخبار فائدة. وكذلك إذا قلت: "ما كان أحد مجترئًا عليك"، فالمراد أنه ليس في الناس واحد فما فوقه مجترىء عليه. فقد صار فيه فائدةٌ لِما دخله من العموم. وتقول: "ما كان فيها أحد مجترئًا عليك"، فيجوز فيه وجهان: أحدهما رفُع "مجترىء" على أنه صفةُ "أحد"، و"فيها" الخبر، وقد تقدّم. والآخر نصبُه على الخبر، ويكون الظرف مُلغى من متعلّقات الخبر. واعلم أن الظرف، إذا كان خبرًا، فالأحسنُ تقديمه، وإذا كان لغوًا، فالأحسن تأخيره، مع أن كلّا جائزٌ، وهما عربيّان. ومنه قوله تعالى في: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (¬1): {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬2)، فـ "لَهُ" لغوٌ هنا والخبر "كفؤًا". فإن قُلْت: فالقرآن يُتخير له لا عليه، قيل. "لَهُ" الظرف هنا وإن لم يكن خبرًا فإنّ سقوطه يُخِلّ بمعنى الكلام الأوّل، ألا تراك لو قلت: "ولم يكن كفؤًا أحدٌ" لم يصح الكلام إذ كان معطوفًا على الخبر الذي هو "لَمْ يَلِدْ"؟ والخبرُ إذا كان جملة، افتقر إلى عائدٍ، فلمّا لزم الإتيانُ به، ولم يجز سقوطُه؛ صار كالخبر الذي يتوقّف المعنى عليه، فقُدّم لذلك، فأما قول الشاعر [من الرجز]: لَتَقْرُبِنَّ قَرَبًا جُلْذِيَّا ... ما دَامَ فيهن فَصِيلٌ حَيّا ¬
فصل [أوجه "كان"]
وقد دَجا اللَّيلُ فَهَيّا هَيّا (¬1) فإنه قدّم الجارّ والمجرور مع أنه لغوٌ؛ لأنه شعرٌ، والشاعرُ له أن يأتي بالجائز، وإن لم يكن المختار، مع أنه قد أفاد بقوله "فيهنّ" المعنى المراد. ولو حذف "فيهنّ"، لكان على معنى آخر، وهو التأبيد، كقولك: "لا أُكَلِّمُك ما طار طائرٌ، وما طلعت الشمسُ". فلمّا كان المعنى يقتضي وجودَ "فيهنّ"، إذ المعنى عليه، ولو أُسقط لتغيّر المعنى، فصار في لزومه ومَسِيسِ الحاجة إليه كالخبر، فلذلك قدّمه. فإذا كانا نكرتَيْن، جاز الإخبار بأحدهما عن الآخر؛ لأنهما قد تَكَافآ كما لو كانا معرفتَين. وأما إذا كان أحدهما معرفة والآخر نكرة، لم يجز الإخبار فيه عن النكرة؛ لأنه قَلْبُ الفائدة. وأما قوله: "والخبر مفردًا وجملةً بتَقاسِيمهما"، فإنه يريد أن خبر هذه الأفعال كأخبار المبتدأ، والخبرِ من المفرد والجملة. وقوله: "بتقاسيمهما" يريد تقاسيم المفرد والجملة؛ لأنّ الخبر، إذا كان مفردًا، ينقسم إلى قسمَيْن: قسم خالٍ من الضمير، نحو: "زيدٌ أخوك"، وقسم يتحمّل الضميرَ، نحو: "زيدٌ منطلقٌ". وهو في خبرِ "كانَ" كذلك، نحو: "كان زيدٌ اخاك"، و"كان زيد منطلقًا". وأما الجملة، فعلى أربعة أضرب: فعليّةٌ، نحو: "زيدٌ ذهب"، واسميّةٌ، نحوُ: "زيد ذاهِبٌ"، وشرطيّة، نحو: "زيد إن تُحْسِنْ إليه يَشْكُرْك"، وظرفيّة، نحو: "زيدٌ عندك". وكذلك تقع هذه الأشياءُ أخبارًا عن هذه الأفعال، فتقول: "كان زيدٌ يخرج"، إلّا أنه لا يحسن وقوعُ الفعل الماضي في أخبارِ "كان" وأخواته؛ لأنّ أحد اللفظَيْن يُغْنِي عن الآخر. وتقول في الاسمية: "كان زيد قائمًا"، وفي الشرطيّة: "كان زيد إن تحسن إليه يشكرك"، وفي الظرف: "كان زيدٌ من الكرام"، فاعرف ذلك. فصل [أوجه "كان"] قال صاحب الكتاب: و"كان" على أربعة أوجه ناقصة كما ذكر، وتامة بمعنى "وقع" و"وجد"، كقولهم كانت الكائنة والمقدورة كائن، وقوله تعالى: {كن فيكون} (¬2). * * * قال الشارح: اعلم أن "كانَ" أُمُّ هذا الباب، وأكثرُها تصرّفًا، فلها: أربعةُ مواضع ¬
كما ذكر. أحدها: أن تكون ناقصة، فتفتقر إلى الخبر، ولا تستغني عنه؛ لأنها لا تدل على حَدَثٍ، بل تفيد الزمان مجرَّدًا من معنى الحدث، فتدخل على المبتدأ والخبر، لإفادة زمان الخبر، فيصير الخبر عوضًا من الحدث فيها، فإذا قلت: "كان زيدٌ قائمًا"، فهو بمنزلة قولك: "قام زيدٌ" في إفادة الحدث والزمن. واعلم أن "كانَ" قد اجتمع فيها أمران، كلُّ واحد منهما يقتضي جواز حذف الخبر، ومع ذلك فإن حذفه لا يجوز. وذلك أنّ هذه الأفعال داخلة على المبتدا والخبر، وحذفُ خبر المبتدأ يجوز من اللفظ إذا كان عليه دليلٌ من لفظٍ أو غيره، نحوُ قولك: "زيدٌ قائمٌ وعمرٌو"، والمراد: و"عمرٌو قائمٌ"، وكذلك تقول لمن قال: "مَن عندك": "زيدٌ"، والمراد: "زيدٌ عندي". ولا يجوز مثلُ ذلك مع "كانَ". والآخرُ: أن هذه الأفعال جارية مجرى الأفعال الحقيقية وفاعلِها ومفعولِها، والمفعول يجوز إسقاطه، وأن لا تأتي به، ولا يجوز ذلك في خبر هذه الأفعال، وإن كانت مشبّهة بتلك. والعلّةُ في ذلك ما ذكرناه من أن الخبر قد صار كالعوض من الحدث، والفائدةُ منوطة به، فكما لا يجوز إسقاط الفعل في "قام زيدٌ"، فكذلك لا يجوز حذف الخبر؛ لأنه مثله. واعلم أن هذه الأفعال، لمّا كانت متصرّفة تصرُّفَ الأفعال الحقيقية ومشبّهة بها، جاز في خبرها ما هو جائز في المفعول من التقديم والتأخير، فتقول: "كان زيد قائمًا"، و"كان قائمًا زيد"، و"قائمًا كان زيد". كل ذلك حسن. قال الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬1)، فـ "حقًا" خبر مقدّم. وتقول: "من كان أخوك"، و"من كان أخاك"، إن رفعت "الأخ"، فَـ"مَنْ" في موضعِ منصوب بأنّه الخبر، وقد تقدّم، وإن نصبته فـ "مَن" في موضع رفع بالابتداء، فأما قوله تعالى: {وَبَاطِلًا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (¬2) في قراءةِ مَن نصب، ففيها دلالةٌ على جواز تقديم خبر "كانَ" عليها, لأنك قدّمت معمول الخبر؛ لأنّ "ما" زائدة للتأكيد على حدّها في قوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} (¬3)، و"باطلًا" منصوب بـ"يعملون"، وقد قدّمه، وتقديمُ المعمول يُؤْذِن بجواز تقديم العامل؛ لأنّ مرتبة العامل قبل المعمول، فلا يجوز تقديم المعمول، حيث لا يجوز تقديم العامل، وكذلك سائر أخواتها، يجوز فيها التقديم والتأخير. الموضع الثاني: أن تكون تامّة بمعنى الحدوث، وقيل لها تامّة لدلالتها على ¬
الحدث، نحوِ قولك: "كان الأمرُ" بمعنى: حدث ووقع. ويُقال: "كانت الكائنة" أي: حدثت الحادثة. ومنه قولهم: "المقدور كائنٌ"، المراد ما يقضيه الله ويقدّره كائنٌ، أي: حادث وواقع، لا رادّ له. ومنه قوله تعالى: {كُن فَيَكُونُ} (¬1)، أي احْدُث فيَحْدُثُ، وكذلك قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} (¬2)، أي: تقع تجارة. ومنه بيت الكتاب وهو لمَقّاس [من الطويل]: 1012 - فِدى لبنى ذُهلِ بن شَيبانَ ناقَتِي ... إذا كان يومٌ ذو كَواكِبَ أشْهَبُ أي: إذا حدث. وتسمّى هذه التامّة؛ لدلالتها على الحدث واستغنائِها بمرفوعها، فهي في عِداد الأفعال اللازمة. وتسمّى الأوُلى ناقصة لافتقارها إلى منصوبها. * * * قال صاحب الكتاب: وزائدة في قولهم: "إن من أفضلهم كان زيداً" وقال [من الوافر]: 1013 - جياد بني أبي بكر تسامي ... على كان المسومة العراب ¬
ومن كلام العرب: "ولدت فاطمة بنت الخرشب الكلمة من بني عبس لم يوجد كان مثلهم". والتي فيها ضمير الشأن. * * * قال الشارح: الوجه الثالث من وجوه "كانَ": أن تكون زائدة؛ دخولُها كخروجها، لا عملَ لها في اسم ولا خبرٍ. وذهب السيرافيُّ إلى أن معنى قولنا: "زائدة" أن لا يكون لها اسمٌ ولا خبرٌ، ولا هي لوقوعِ شيء مذكور، ولكنّها دالّةٌ على الزمان، وفاعلُها مصدرها، وشبّهها بـ "ظننت" إذا أُلغيت، نحوَ قولك: "زيدٌ ظننتُ منطلقٌ"، فالظن مُلْغى هنا لم تُعْمِلها، ومع ذلك فقد أخرجتِ الكلام من اليقين إلى الشكّ، كأنّك قلت: "زيدٌ منطلقٌ في ظنّي". والذي أراه الأوّلُ، وإليه كان يذهب ابن السَّرّاج. قال في أُصوله: وحقُّ الزائد أن لا يكون عاملًا، ولا معمولًا، ولا يُحْدِث معنَى سوى التأكيد. ويؤيّد ذلك قول الأئمة في قوله سبحانه وتعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (¬1): إنّ: "كَانَ" في الآية زائدة، وليست الناقصة، إذ لو كانت الناقصة، لأفادت الزمانَ. ولو أفادت الزمان، لم يكن لعيسى عليه السَّلام في ذلك مُعْجِزةٌ؛ لأنّ الناس كلّهم في ذلك سواءٌ. فلو كانت الزائدةُ تفيد معنى الزمان، لكانت كالناقصة، ولم يكن للعُدول إلى جعلها زائدةٌ فائدةٌ. فمن مواضع زيادتها قولهم: "إنّ من أفضلهم كان زيدًا"، والمراد: إنّ من أفضلهم زيدًا. و"كانَ" مزيدة لضربٍ من التأكيد إذ المعنى أنَّه في الحال أفضلهم، وليس المراد: ¬
أنّه كان فيما مضى، إذ لا مَدْحَ في ذلك؛ ولأنّك لو جعلت لها اسمًا وخبرًا، لكان التقدير: إن زيدًا كان من أفضلهم، وكنت قد قدّمت الخبر على الاسم، وليس بظرف، وذلك لا يجوز, لأنّ زيدًا يكون اسمَ "إن"، و"كانَ" وما تَعلّق بها الخبر، فلذلك قيل: إنّ "كانَ" هنا زائدة. فأما قول الشاعر [من الوافر]: سَراةُ بني أبي بكر تسامى ... إلخ فالشاهد فيه زيادة "كانَ". والمراد: على المسوّمة العراب. وقال قوم: إنّ "كانَ" إذا زيدت، كانت على وجهَيْن: أحدهما: أن تُلْغَى عن العمل مع بقاء معناها. والآخر: أن تلغى عن العمل والمعنى معًا، وإنما تدخل لضرب من التأكيد. فالأوّلُ نحو قولهم: "ما كان أحسنَ زيدًا"، المراد: أن ذلك كان فيما مضى مع إلغائها عن العمل، والمعنى: ما أحسن زيدًا أمْسِ. وهي في ذلك بمنزلةِ "ظننت"، إذا أُلغيت بَطَل عملُها لا غير، نحوَ قولك: "زيد ظننتُ منطلقٌ". ألا ترى أن المراد: في ظنّي؟ وأما الثاني فنحو قوله [من الوافر]: على كان المسوّمةِ العرابِ ومنه قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (¬1)، والمراد: كيف نكلّم من في المهد صبيًا؟ ولو أُريد فيها معنى المُضِيّ، لم يكن لعيسى عليه السلام في ذلك معجزة؛ لأنه لا اختصاص له بهذه الحكم دون سائر الناس. وأما قولهم: "ولدت فاطمة بنت الخرشب الكملة لم يوجد كان مثلُهم"، فالمراد بالكملة: الجماعة، وهو جمع "كامِلٍ"، كـ"حافِدٍ"، و"حَفَدَةٍ"، و"خائنٍ"، و"خَوَنَةٍ". والمراد: أن هذه المرأة ولدت الجماعة المشهورين بالكمال الذين لم يوجد مثلهم في الكمال والفضل، و"كانَ" زائدةٌ، وهؤلاء الكملة هم بنو زيد العَبْسيّ، وأُمّهم فاطمة بنت الخرشب الأنْماريّة، وهي إحدى المُنْجِبات، ولدت ربيعًا وعمارةَ وأنَسًا، وكل واحد منهم أبو قبيلة، وقيل لها يومًا: أيُّ بَنِيك أفضلُ؟ فقالت: ربيعُ الواقعةُ، بل عمارةُ الواهبُ، بل أنسُ الفوارس، ثَكِلتُهم إن كنتُ أدري أيّهم أفضل. وكانت رأت في مَنامها أن قائلًا قال لها: "أعشرةُ هَذَرَةٍ أحبُّ إليك أم ثلاثة كعشرةٍ؟ " فلما انتبهت، قصّت رُؤْياها على زوجها، فقال لها: إن عاوَدَك فقُولي: ثلاثةٌ كعشرة، فولدت بنين ثلاثة. وفيهم يقول قيس بن زُهَير [من الوافر]: 1014 - لَعَمْرُك ما أضاعَ بنو زِيادٍ ... ذِمارَ أبِيهِمِ فِيمَن يُضِيعُ ¬
والوجه الرابع: أن تكون بمعنى الشَأْن والحديثِ، وذلك قولك: "كان زيدٌ قائمٌ"، ترفع الاسمَيْن معًا. قال الشاعر [من الطويل]: إذا مُتّ كان الناسُ نِصْفان: شامِتٌ ... وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصْنَعُ (¬1) يروى: نصفان، ونصفَيْن، فمن نصب، جعلها الناقصة، ومن رفع جعلها بمعنى الشأن والحديث. وعادةُ العرب أن تُصدِّر قبل الجملة بضمير مرفوع، ويقع بعده جملةٌ تُفسِّره، وتكون في موضع الخبر عن ذلك المضمر، نحوَ قولك: "هو زيد قائمٌ"، أي: الأمرُ زيدٌ قائمٌ. وإنما يفعلون ذلك عند تفخيم الأمر وتعظيمه. وأكثرُ ما يقع ذلك في الخُطَب والمَواعظ؛ لِما فيها من الوعد والوعيد، ثمّ تدخل العواملُ على تلك القضيّة، فإن كان العامل ناصبًا، نحوَ "إنَّ" وأخواتها، و"ظننت" وأخواتها؛ كان الضمير منصوبًا، وكانت علامته بارزةٌ، نحوَ قولك: "إنّه زيد قائمٌ"، فتكون الهاء ضمير الشأن والحديث. وبرز لفظُها؛ لأنها منصوبة، والمنصوبُ يبرز لفظه، ولا يستتر. قال الله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} (¬2). وربّما جعلوا مكان الأمر والحديث القصّةَ، فأنّثوا، فيقولون: "إنّها قامت جاريتُك". قال الله تعالى: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ} (¬3). وأكثرُ ما يجيء إضمارُ القصة مع المؤنّث، وإضمارُها مع المذكر جائزٌ في القياس. وتقول: "ظننتُه زيد قائمٌ"، والمراد: ظننت الأمرَ والحديثَ زيد قائمٌ، فالهاء المفعول الأوّل، والجملة المفعول الثاني. فإذا دخلتْ "كانَ" عليه صار الضمير فاعلًا، واستتر, لأنّ الفاعل متى كان مضمرًا واحدًا لغائب، لم تظهر له صورة، وتقع الجملة بعده للخبر. وهي كالمفسّرة لذلك الضمير، ويسمّيه الكوفيون الضمير المجهول؛ لأنه لا يعود إلى مذكور. وكان الفرّاء يجيز "كان قائمًا زيد" و"كان ¬
قائمًا الزيدان" و"كان قائمًا الزيدون"، فيجعل "قائمًا" خبرَ ذلك الضمير، وما بعده مرتفع به. والبصريون لا يجيزون أن يكون الخبر عنه إلّا جملةً من الجمل الخبرية. وهذا القسم من أقسام "كانَ" يؤول إلى القسم الأوّل، وهي الناقصة من حيث كانت مفتقرة إلى اسم وخبر. وإنما أفردوها بالذكر وجعلوها قسمًا قائمًا بنفسه؛ لأنّ لها أحكامًا تنفرد بها وتُخالِف فيها الناقصةَ، وذلك أن اسمَ هذه لا يكون إلّا مضمرًا، وتلك يكون اسمها ظاهرًا ومضمرًا. والمضمرُ هنا لا يعود إلى مذكور، ومن تلك يعود إلى مذكور، ولا يُعْطَف على هذا الضمير، ولا يُؤكد ولا يُبْدَل منه بخلاف تلك. ولا يكون الخبر ها هنا إلّا جملة على المذهب، وتلك يكون خبرها جملة ومفردًا. والجملةُ في خبرِ هذه لا تفتقر إلى عائد يعود منها إلى المخبر عنه، وفي تلك يجب أن يكون فيها عائدٌ. فلمّا خالفتها في هذه الأحكام، جُعلت قسمًا قائمًا بنفسه. وقد كان ابن دُرُسْتَوَيْهِ يذهب إلى أن هذا القسم من قبيل التامّة التي ليس لها خبرٌ، ولا تفتقر إلى مرفوع، قال: لأنّ هذه الجملة التي بعدها مفسرة لذلك المضمر، فإذا كانت مفسرة للاسم كانت إيّاه، فيكون حكمها كحكمه، ولا يصحّ أن تكون خبرًا مع كونها مفسّرة. والقول الأوّل، وهو المذهب؛ لأنّا لا نقول إنها مفسّرة على حدّ تفسيرِ "زيدًا ضربتُه". وإنما هي خبرٌ عن ذلك الضمير على حدّ الإخبار بالمفرد عن المفرد من حيث كانت الجملة هي ذلك الضميرَ في المعنى، لأنك إذا قلت: "كان زيدٌ قائمٌ"، فالمعنى: كان الحديثُ زيدٌ قائمٌ، فالحديثُ هو زيدٌ قائمٌ، كما أنك إذا قلت: "كان زيدٌ أخاك"، فالأخ هو زيدٌ. فلمّا كانت الجملة هي الضميرَ، فسرته وأوضحته لا أنها أُنيبت مُنابَه، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وقوله عز وجل: {لمن كان له قلب} (¬1) يتوجه على الأربعة, وقيل في قوله [من الطويل]: 1015 - بتيهاء قفرٍ والمطي كأنها ... قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها ¬
إن "كان" فيه بمعنى "صار". * * * قال الشارح: أما قوله تعالى: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} (¬1)، فيجوز أن تكون الناقصة الناصبة للخبر، ويكون "قلبٌ" هو الاسمَ، والجارّ والمجرور هو الخبرَ، وقد تقدّم. والنكرةُ يجوز الإخبار عنها إذا كان الخبر جارًا ومجرورًا وتقدّم على النكرة، نحوَ قولك: "كان فيها رجلٌ"، و"كان تحت رأسي سرجٌ". ويجوز أن تكون التامّة التي تكتفي بالاسم، ولا تحتاج إلى خبر، ويكون "قلبٌ" اسمها، والجارّ والمجرور في موضع الحال، كأنه كان صفة النكرة، وقد تقدّم عليها. الوجه الثالث: أن تكون زائدة، دخولُها كخروجها، والمراد: لِمَن له قلبٌ، ويكون "له قلب" جملة في موضع الصلة، أي: لمن له قلبٌ. الوجه الرابع: أن تكون بمعنى "صارَ"، أي: لمن صار له قلبٌ، وأما قوله [من الطويل]: بتيهاء قفر ... البيتَ، فإنه لابن كَنْزَةَ، والشاهد فيه استعمالُ "كان" بمعنى "صار". والعربُ تستعير هذه الأفعال، فتوقع بعضَها مكانَ بعض، فأوقعوا "كانَ" هنا موقعَ "صار"؛ لِما بينهما من التقارُب في المعنى؛ لأنّ "كانَ" لِما انقطع وانتقل من حال إلى حال، ألا تراك تقول: "قد كنتُ غائبًا، وأنا الآنَ حاضرٌ"؟ فـ "صارَ" كذلك تفيد الانتقال من حال إلى حال، نحوَ قولك: "صار زيدٌ غنيًّا"، أي: انتقل من حال إلى هذه الحال، كما استعملوا "جاءَ" في معنَى "صار" في قولهم: "ما جاءت حاجتَك"؛ لأنّ "جاءَ" تفيد الحركَة والانتقالَ، كما كانت "صارَ" كذلك. يصف سَيْرَه في فلاة مُوحِشة أعْيَت المطيُّ فيها وهزلت. شبّه مطيّتَه لسرعة مَشْيها ¬
وعدم لبنها بالقطا؛ لأنها إذا فَرَّخَتْ لا تستقرّ، بل تُسْرع الطيرانَ لطلب النُّجْعة. والتيهاء: القَفْر المَضَلّة، ليس بها عَلَمٌ يُهتدى به، كأنّه يُتاهُ فيها. والقَفْر: الخالية. والحَزْن: ما غلظ من الأرض. وقد حمل بعضهم "كانَ" في قوله تعالى: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} (¬1) على أنها بمعنى "صار". ومنه قول العجّاج [من الرجز]: 1016 - والرأسُ قد كان له شَكِيرُ أي: قد صار. والشكير: ما ينبت حول الشجرة من أصلها. قال الشاعر [من الطويل]: 1017 - [إذا ماتَ مِنْهم مَيِّتٌ سَرقَ ابنهُ] ... ومِن عِضَةٍ ما يَنْبُتَنَّ شكيرُها ¬
فصل [معني "صار"]
فصل [معني "صار"] قال صاحب الكتاب: ومعنى "صار" الانتقال وهو على ذلك على استعمالين: أحدهما قولك: "صار الفقير غنياً, والطين خزفاً", والثاني "صار زيد إلى عمرو". ومنه "كل حي صائرٌ إلى الزوال". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن "صارَ" معناها الانتقال والتحوّل من حال إلى حال، فهي تدخل على الجملة الابتدائيّة، فتُفيد ذلك المعنى فيها بعد أن لم يكن، نحوَ قولك: "صار زيد عالمًا"، أي: انتقل إلى هذه الحال، و"صار الطين خَزَفًا"، أي: استحال إلى ذلك، وانتقل إليه. وقد تستعمل بمعنى "جاءَ"، فتتعدّى بحرف الجرّ، وتفيد معنى الانتقال أيضًا، كقولك: "صار زيد إلى عمرو"، و"كل حي صائرٌ للزوال". فهذه ليست داخلة على جملة. ألا تراك لو قُلْتَ: "زيدٌ إلى عمرو" لم يكن كلامًا، وإنما استعمالُها هنا بمعنى "جاء"، كما استعملوا "جاء" بمعنى "صار" في قولهم: "ما جاءت حاجتَك"، أي: ما صارت، ولذلك جاء مصدرُها "المَصِير"، كما قالوا: "المَجِيء". قال الله تعالى: {وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} (¬1). فصل [معاني "أصبح", و"أمسي", و"أضحي"] قال صاحب الكتاب: و"أصبح", و"أمسى", و"أضحى" على ثلاث معانٍ: أحدهما أن تقرن مضمون الجملة بالأوقات الخاصة التي هي الصباح والمساء والضحى على طريقة "كان". والثاني: أن تفيد معنى الدخول في هذه الأوقات, كـ "أظهر" و"أعتم". وهي في هذا الوجه تامة يسكت على مرفوعها. قال عبد الواسع بن أسامة [من الطويل]: 1018 - ومن فعلاتي أنني حسن القري ... إذا الليلة الشهباء أضحى جليدها * * * ¬
قال الشارح: قد استعملت هذه الأفعال على ثلاثة معانٍ كما ذكر: أحدها: أن تدخل على المبتدأ والخبر لإفادة زمانها في الخبر، فإذا قلت: "أصبح زيد عالمًا"، و"أمسى الأمير عادلًا"، و"أضحى أخوك مسرورًا"، فالمراد: أنّ علم زيد اقترن بالصباح، وعدل الأمير اقترن بالمساء، وسرور الأخ اقترن بالضحى. فهي كـ"كانَ" في دخولها على المبتدأ، وإفادةِ زمانها للخبر، إلّا أن أزمنة هذه الأشياء خاصة، وزمانُ "كانَ" يعُمّ هذه الأوقات وغيرَها، إلّا أن "كانَ" لِما انقطع، وهذه الأفعال زمانُها غير منقطع، ألا ترى أنك تقول: "أصبح زيد غنيًّا"، وهو غنيّ وقتَ إخبارك غيرَ منقطع. الثاني: أن تكون تامّة تجتزىء بمرفوع لا غير، ولا تحتاج إلى منصوب، كقولك: "أصبحنا"، و"أمسينا"، و"أضحينا"، أي: دخلنا في هذه الأوقات، وصِرْنا فيها، ومنه قولهم: "أفْجَرْنا"، أي: دخلنا في وقت الفجر. قال الشاعر [من الطويل]: 1019 - فما أفْجَرَت حتّى أُهِبّ بسُحْرَةٍ ... عَلاجِيمُ عِينِ ابنِي صَباحٍ يُثِيرُها ¬
ومثله قول الآخر [من الطويل]: 1020 - فأصبحوا والنَّوَى عالِي مُعَرَّسِهم ... وليس كُل النَّوَى تُلْقِي المَساكينُ أي: أصبحوا وهذه حالهم. ومنه "أشْمَلْنا"، و"أجنبنا"، و"أصْبَيْنا"، أي: دخلنا في أوقات هذه الرياح، وكذلك يُقال: "أدنف"، كأنه دخل في وقت الدَّنَف. وأكثرُ ما يستعمل ذلك في وقت الأحيان. فأما قوله [من الطويل]: ومن فعلاتي ... إلخ البيت لعبد الواسع بن أُسامَةَ، والشاهد فيه قوله: "أضحى جليدها"، والاكتفاءُ بالمرفوع، أي: صار جليدُها في وقت الضحى. يصف نفسه بالكرم، وأنه حسنُ القرى للأضياف حتى عند عزّة الطعام والجَدْبِ، وأراد بالليلة الشهباء المُجْدِبة الباردة التي ¬
أضحى جليدُها، أي: دخل جليدها في وقت الضحى. يريد أنه طال مَكْثُه لشدّة البرد، ولم يَذُبْ عند ارتفاع النهار. والجليد: ما جمد من النَّدى. * * * قال صاحب الكتاب: والثالث أن يكون بمعنى "صار", كقولك: "أصبح زيد غنياً وأمسى فقيراً". وقال عدي [من الخفيف]: 1021 - ثم أضحوا كأنهم ورقٌ جفف ... فألوت به الصبا والدبور * * * قال الشارح. الوجه الثالث: أن تستعمل بمعنى "كان"، و"صار"، من غير أن يُقصد بها إلى وقت مخصوص، نحوَ قولك: "أصبح زيدٌ فقيًرا، وأمسى غنيًا"، تريد به أنه صار كذلك مع قطع النظر عن وقت مخصوص. ومنه قول عديّ بن زيد [من الخفيف]: ثمّ أضحوا كأنّهم ورق ... إلخ يريد أنهم صاروا إلى هذه الحال. شبّه أحِبّاءَه وانقراضَهم بورق الشجر وتغيُّرِه وجَفافِه، وذكر الصبا والدبور- وهما ريحان- لأنّ لهما تأثيرًا في الأشجار. ومثله قول الآخر [من المنسرح]: 1021 - أصبحتُ لا أحْمِلُ السِّلَاح ولا ... أمْلِكُ رَأسَ البعير إنْ نَفَرَا ¬
فصل [معنيا "ظل" و"بات"]
فصل [معنيا "ظلَّ" و"باتَ"] قال صاحب الكتاب: و"ظل", و"بات" على معنيين, أحدهما: اقتران مضمون الجملة بالوقتين الخاصين على طريقة "كان". والثاني: كينونتهما بمعنى "صار". ومنه قوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً} (¬1). * * * قال الشارح. حكم هذَيْن الفعلين كحكمِ "أصبح" و"أضحى". يكونان ناقصَيْن، فيدخلان على المبتدأ والخبر، لإفادة الوقت الخاص في الخبر، فتقول: "ظلّ زيدٌ يفعل كذا" إذا فعله في النهار دون الليل، و"بات خالدٌ يفعل كذا" إذا فعله ليلًا، والجملة بعده في موضع الخبر. ومنه قوله تعالى. {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} (¬2). و"ظلت" مخففٌ من "ظَلِلتُ" بكسر اللام، كأنه حذف منه اللام المكسورة، يُقال: "ظَلِلْتُ أفعلُ كذا، أظَلُّ ظُلُولًا". قال الشاعر [من الكامل]: 1023 - ولقد أبِيتُ على الطَّوَى وأظَلُّهُ ... حتى أنالَ به كَرِيمَ المأكَلِ ¬
فصل [معني الأفعال الناقصة التي أوائلها الحرف النافي]
وقد يستعملان استعمالَ "كان"، و"صار"، مع قطع النظر عن الأوقات الخاصّة، فيقال: "ظلّ كَئبًا"، و"بات حزينًا"، وإن كان ذلك في النهار؛ لأنه لا يُراد به زمانٌ دون زمان. ومنه قوله سبحانه: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا} (¬1)، والمراد أنه يَحْدُث به ذلك، ويصير إليه عند البِشارة، وإن كان ليلًا. وقد تستعمل "باتَ" تامّةً تجتزىء بالمرفوع، فيقال: "بات زيدٌ" بمعنى أنه دخل في المَبِيت. يقال منه: "بَاتَ يَبِيتُ ويَباتُ بَيتُوتَةً". فصل [معني الأفعال الناقصة التي أوائلها الحرف النافي] قال صاحب الكتاب: والتي أوائلها الحرف النافي في معنى واحد, وهو استمرار الفعل بفاعله في زمانه. ولدخول النفي فيها على النفي جرت مجرى "كان" في كونها للإيجاب، ومن ثم لم يجز: "ما زال زيدٌ إلا مقيماً"، وخطيء ذو الرمة في قوله [من الطويل]: 1024 - حراجيج ما تنفك إلا مناخة ... [علي الخسف أو نرمي بها بلدًا قفرا] * * * ¬
قال الشارح: أمّا ما في أوّله منها حرفُ نفي، نحوُ: "ما زال"، و"ما بَرِحَ"، و"ما انفكُّ"، و"ما فَتِىءَ"، فهي أيضًا كأخواتها تدخل على المبتدا والخبر، فترفع المبتدأ، وتنصب الخبرَ، كما أنّ "كانَ" كذلك، فيقال: "ما زال زيدٌ يفعل". قال الله تعالى: {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ} (¬1). وكذلك أخواتها. ومعناها على الإيجاب، وإن كان في أوّلها حرفُ النفي. وذلك أن هذه الأفعال معناها النفي، فـ "زال"، و"برح"، و"انفكّ"، و"فتىء" كلُها معناها خلاف الثبات. ألا ترى أن معنَى "زال": "برح"؟ فإذا دخل حرفُ النفي، نُفي البَراح، فعاد إلى الثبات وخلافِ الزَّوال. فإذا قلت: "ما زال زيدٌ قائمًا"، فهو كلامٌ معناه الإثبات، أي: هو قائمٌ، وقيامُه استمرّ فيما مضى من الزمان، فهو كلامٌ معناه الإثبات، ولهذا المعني لم تدخل إلّا على الخبر، فلا يجوز: "لم يزل زيد إلّا قائمًا"، كما لم يجز: "ثبت زيدٌ إلّا قائمًا"؛ لأنّ معنَى "ما زال": ثبت. فأما قول ذي الرُّمّة [من الطويل]: حَراجِيجُ مَا تَنْفَكُّ إلا مُناخةً ... على الخَسْفِ أو نَرْمِي بها بَلَدًا قَفرَا فإن الأصمعي والجَرْمي قالا: أخطأ ذو الرُّمّة، ووجهُ تَخطِئته أن يكون "مناخة" الخبر، وتكون "إلّا" داخلةً عليه، وذلك خطأٌ على ما تقدّم. قال المازنيّ: "إلّا" فيه زائدة، والمراد: ما تنفكّ مناخة. وقيل: الخبر: "عَلَى الخسف"، و"مناخةً" حالٌ. والمراد: ما تنفكّ على الخسف إلّا مناخةً، فما تكون "إلّا" قد دخلت على الخبر. وقيل: ¬
إنّ "إلّا" واقعة في غير موقعها، والنيّةُ بها التأخير، والمراد: "ما تنفكّ مناخة إلّا على الخسف". ومثله في وقوع "إِلا" في غير موقعها قوله تعالى: {إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} (¬1)، وقول الشاعر [من المتقارب]: 1025 - [أَحَلَّ لَهُ الشيْبُ أثْقالَهُ] ... وما اغْتَرَّهُ الشَّيْبُ إلّا اغْتِرارَا ألا ترى أنك لو حملت الكلام على هذا الظاهر الذي هو عليه، لم يكن فيه فائدةٌ، لأنه: لا يُظَنّ إلّا الظن، ولا يغترّه الشيبُ إلّا اغترارًا، فإذ كان كذلك، علمت أن المعنى والتقدير: إنْ نحن إلّا نظنُّ ظَنًا، وما اغترّه إلّا الشيبُ اغترارًا. فإن قيل: ما ذكرتَه من وقوعِ "إلا" في غير موضعها، إنما أُخّرت عن موضعها، ومعناه التقديم، وما ذكرتَه "إلّا" فيه مقدّمةٌ، وأنت تنوي بها التأخير، وذلك خلافُ ما ذكرتَه. فالجواب: أنه إذا جاز التأخير، جاز التقديم, لأنه مثله في أنه واقع في غير موقعه. ويجوز أن يكون الشاعر راعى اللفظ, لأنه منفيّ، ولم ينظر إلى المعنى، فأدخل "إلّا" لذلك، ومثله كثيرٌ. قال الله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (¬2)، فأَدخل الباء في الخبر لوجود لفظ النفي؛ لأنّ الباء إنما تزداد لتأكيد النفي، والمعنى فيها على الإيجاب. ومثله قوله تعالى: {إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} (¬3) في قول بعضهم: إنّ "إنْ" هنا بمعنى "نَعَمْ"، ودخلت اللام لوجود لفظِ، "إنْ"، وإن لم يكن المعنى معناها. ¬
واعلم أنّ "زالَ" من قولهم: "ما زال يفعل" وزنُه "فَعِلَ" بكسر العين، وإنما قلت ذلك؛ لقولهم في المضارع: "يَزالُ" على "يَفْعَل" بالفتح، و"يفعَل" مفتوحَ العين إنما يأتي من "فَعِلَ" بكسر العين دون غيره، إلّا أن تكون العين أو اللام حرفًا حلقيَّا، نحوَ: "سَألَ، يَسألُ"، و"قَرَأ، يَقْرَأ"، وعينُه من الياء، وليس من لفظِ "زال"، "يزول"؛ لقولهم: "زَيَّلْتُه، فزال، وزايلته". وهذه دلالة قاطعةٌ تشهد أنه من الياء. فإن قيل: يجوز أن يكون "زيّلته": "فَيْعَلْتُه"، مثلَ "بَيْطَرْتُه". وإذا جاز أن يكون كذلك، فلا يكون فيه دليلٌ. قيل: لو كان "فيعلته"، لجاء مصدره "زَيّلَةً" على وزن "فَيْعَلَةَ"، وحيث لم يجىء، دلّ ذلك على أنه "فَعَّلَ" لا "فَيْعَلَ". ومما يدلّ على ذلك قولهم: "لم يَزَلْ" بالفتح، ولو كان من "زال"، "يَزُولُ"، لقيل: "لم يَزُلْ" بالضمّ. وأصلُ "زال" ها هنا أن يكون لازمًا غير متعدّ، نحوَ قولك: "زال الشيءُ"، أي: فاتَ، وَبَرِحَ، إلّا أنه جُرّد من الحدث لدلالته على الزمان، وأُدْخل على المبتدأ والخبر، كما كانت "كانَ" كذلك. وأمّا "بَرِحَ" من قولهم: "ما برح"، فهو بمعنى "زال"، و"جاوز". ومنه قيل للّيلة الخالية: "البارحة"، وكذلك قيل: "أبرحتَ رَبًّا، وأبرحت جارًا"، أي: جاوزتَ ما يكون عليه أمثالُك من الخِلال المرضيّة. فقالوا: "ما برح يفعل" بمعنى: "ما زال". وقد فرّق بعضهم بين "ما زال" و"ما برح"، فقال: "برح" لا يستعمل في الكلام إلّا ويُراد به البَراحُ من المكان، فلا بدّ من ذكر المكان معه، أو تقديرِه. وذلك ضعيف؛ لأنه قد جاء في غير المكان. قال الله تعالى: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ} (¬1)، فـ "لا أبرح" هذه لا يجوز أن يُراد بها البراح من المكان؛ لأنه من المُحال أن يبلغ مجمع البحرين، وهو في مكانه لم يبرح منه. وإذا لم يجز حملُه على البراح، تَعيّن أن يكون بمعنى "لا أزالُ". وأما "انفكّ" من قولهم: "ما انفكّ يفعل"، فهي أيضًا بمعنى "زال" من قولك: "فككت الشيءَ من الشيء"، إذا خلّصته منه. وكلّ مشتبِكَين فصلتَ أحدهما عن الآخر فقد فككتَهما. وفَكَّ الرَّقبةَ: أعتقها. ثمّ جُرّدت من الدلالة على الحدث، ثمّ أُدْخلت على المبتدأ والخبر، كما فُعل بـ"كانَ". وأما "فَتِىءَ" من قولهم: "ما فتىء يفعل"، فهو أيضًا بمعنى "زال". يُقال منه: "فَتِىءَ" و"فَتأ" بالكسر والفتح، ويُقال منه: "ما أفْتَأتَ تفعل"، فاعرفه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: وتجيء محذوفًا منها حرف النفي. قالت امرأة سالم بن قحفان [من الطويل]: 1026 - تزال حبالٌ مبرماتٌ أعدها ... [لها ما مشي, يومًا, علي خُفهِ جملْ] وقال امرؤ القيس [من الطويل]: 1027 - فقلت لها والله أبرح قاعدًا ... [ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي] ¬
وقال [من مجزوء الكامل]: 1028 - تنفك تسمع ما حييت ... بهالك حتى تكونه وفي التنزيل: {تالله تفتؤ تذكر يوسف} (¬1). * * * قال الشارح: قد ذكرنا أن هذه الأفعال لا تستعمل إلّا ومعها حرفُ الجحد، نحوَ: "ما زال"، و"لم يزل"، و"لا يزال". وذلك من قبل أن الغرض بها إثبات الخبر واستمراره. وذلك إنما يكون مع مقارنَة حرف النفي؛ لأنّ استعمالها مجرّدة من حرف ¬
النفي يُنافي هذا الغرض, لأنها إذا عرِيَتْ من حرف النفي، لم تفد الإثبات، والغرضُ منها إثبات الخبر. ولا يكون الإيجاب إلّا مع حرف النفي على ما تقدّم، إلّا أن حرف النفي قد يحذف في بعض المواضع، وهو مرادٌ. وإنما يسوغ حذفه إذا وقع في جواب القَسَم، وذلك لأمن اللبس، وزوال الإشكال. فمن ذلك [من الطويل]: تزالُ حِبالٌ مُبْرَماتٌ أُعِدُّها ... لها ما مشى يومًا على خُفِّهِ جَمَلْ والمراد: والله لا تزال، فحذف "لا". والحبالُ: العُهود. والمبرمات: المُحْكَمات. أعدها لها، أي: للمحبوبة مدّةَ مَشْي الجمل على خفّه، كما يُقال: "ما طار طائرٌ"، و"ما حَنّتِ النّيبُ". ودل على إرادة القسمَ حذفُ حرف النفي، فلولا القسم، لَما ساغ الحذف، ولا يجوز أن يحذف من هذه الحروف غيرُ "لا"، نحوَ: و"الله أقومُ"، والمراد: لا أقوم. وإنما لم يجز حذفُ غيرها؛ لأنه لا يجوز حذف "لَمْ"، و"ما"؛ لأنّ "لَمْ" عاملة فيما بعدها، والحرف لا يجوز أن يحذف ويعمل. وكذلك "ما" قد تكون عاملة في لغة أهل الحجاز. ولا يكون هذا الحذف إلّا في القسم؛ لأنه لا يُلْبِس بالموجب، إذ لو أُريد الموجب، لأُتِيَ بـ"إنَّ" واللام، والنون، وهو كثير. قال امرؤ القيس [من الطويل]: فقلتُ لها تالله أبْرَحُ قاعدًا ... ولو قطعوا رَأسِي لَدَيكِ وأوْصالِي أي: لا أبرحُ. وقال أيضًا [من مجزوء الكامل]: تنفكّ تسمع ... إلخ وقال [من البسيط]: 1029 - تالله يبقى على الأيام مُبْتَقِلٌ ... جَوْنُ السَّراةِ رَباعٍ سِنُّهُ غَرِدُ ¬
فصل [معني "ما دام"]
ومنه قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} (¬1)، أي: لا تزال تذكر يوسف حتى تكون حرضًا، أي: ذا حرضٍ، وهو الحُزْن. فصل [معني "ما دام"] قال صاحب الكتاب: و"ما دام" توقيت للفعل في قولك: "أجلس ما دمت جالساً"، كأنك قلت: "أجلس دوام جلوسك"، نحو قولهم: "آتيك خفوق النجم, ومقدم الحاج". ولذلك كان مفتقراً إلى أن يشفع بكلام؛ لأنه ظرف لا بد له مما يقع فيه. * * * قال الشارح: أمّا "ما دام" من قولك: "ما دام زيدٌ جالسًا"، فليست "ما" في أوّلها حرف نفي على حدّها في "ما زال"، و"ما برح"، إنّما "ما" ها هنا مع الفعل بتأويل المصدر، والمراد به: الزمان. فإذا قلت: "لا أُكَلمُك ما دام زيد قاعدًا"، فالمراد: دوامَ قعوده، أي: زمنَ دوامه، كما يُقال: "خفوقَ النجم"، و"مقدمَ الحاجّ". والمراد: زمنَ خفوق النجم، وزمنَ مقدم الحاجّ. وممّا يدلّ على أن "ما" مع ما بعدها زمانٌ، أنها لا تقع أوّلًا، فلا يُقال: "ما دام زيد قائمًا"، ويكون كلامًا تامًّا، ولا بد أن يتقدّمه ما يكون مظروفًا، وليس كذلك "ما زال" وأخواتها، فإنك تقول: "ما زال زيدٌ قائمًا"، ويكون كلامًا مفيدًا تامًّا. و"ما" من قولك: "ما دام" تقع لازمةٌ لا بد منها، ولا يكون الفعل معها إلّا ماضيًا، وليس كذلك "ما زال"، فإنّه يجوز أن يقع موقعَ "ما" غيرُها من حروف النفي، ويكون الفعل مع النافي ماضيًا ومضارعًا، نحوَ: "ما زال"، و"لم يزل"، و"لا يزال". فصل [معني "ليس"] قال صاحب الكتاب: و"ليس" معناه نفي مضمون الجملة في الحال، تقول: "ليس زيد قائماً الآن"، ولا تقول: "ليس زيد قائماً غداً". والذي يصدق أنه فعل لحوق الضمائر وتاء التأنيث ساكنة به وأصله "ليس" كـ "صيد البعير". * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ "لَيْسَ" فعلٌ يدخل على جملة ابتدائية، فينفيها في الحال، وذلك أنك إذا قلت: "زيد قائمٌ"، ففيه إيجاب قيامه في الحال، وإذا قلت: "ليس زيدٌ قائمًا"، فقد نفيت هذا المعنى. فإن قيل: فمِن أيْنَ زعمتم أنها فعلٌ، وليس لها تصرّفُ الأفعال بالمضارع واسمِ الفاعل كما كان ذلك في "كانَ" وأخواتها، وإنما هي بمنزلةِ "ما" في دلالتها على نفي الحاضر؟ قيل: الدليل على أنها فعل اتصالُ الضمير الذي لا يكون إلّا في الأفعال بها، على حدّ اتصاله بالأفعال، وهو الضمير المرفوع، نحوُ قولك: "لستُ"، و"لسنا"، و"لستَ"، و"لستُما"، و"لستُمْ"، و"لستِ"، و"لستُنّ"، ولأن آخرها مفتوحٌ كما أواخر الأفعال الماضية. وتلحقها تاءُ التأنيث ساكنة وصلًا ووقفًا، نحوَ: "ليستْ هندٌ قائمة"، كما تقول: "كانت هندٌ قائمة". وليس كذلك التاء اللاحقة للأسماء، فإنها تكون متحرّكة بحركات الإعراب، نحوَ: "قائمةٍ"، و"قاعدةٍ"، فلمّا وُجد فيها ما لا يكون إلّا في الأفعال، دلّ على أنها فعلٌ. فإن قيل: الأفعال بابُها التصرّف، و"لَيسَ" غير متصرّفة، فهلّا دَلَّكم ذلك على كونها حرفًا. قيل: عدمُ التصرّف لا يدلّ على أنها ليست فعلًا، إذ ليس كل الأفعال متصرّفة، ألا ترى أن "نِعْمَ"، و"بِئْسَ"، وَ"عَسَى"، وفعل التعجّب كلّها أفعالٌ، وإن لم تكن متصرّفة؟ وأمّا كونها بمنزلةِ "ما" في النفي، فلا يُخْرِجها أيضًا عن كونها فعلًا؛ لأنه يدلّ على مشابةٍ بينهما، وهو الذي أوجب جمودَها، وعدمَ تصرّفها، وأما أن يدلّ أنها حرفٌ، فلا، إذ الدلالة قد قامت على أنها فعلٌ. وممّا يدلّ أنها فعل وليست حرفًا، أنها تتحمّل الضميرَ كما أنّه يتحمّل الضمير، فتقول: "زيدٌ ليس قائمًا"، فيستكِنّ في "لَيْسَ" ضميرٌ من "زيد". ولا يكون مثلُ ذلك في "ما"، فلا يُقال: "زيدٌ ما قائمًا"، فيجعلَ في "ما" ضميرُ "زيد". وأيضًا فإنّ "لَيْسَ" لا يُبْطِل عملَها دخولُ "إلّا" في خبرها، فتقول: "ليس زيدٌ إلّا قائمًا"، ولا يكون مثلُ ذلك في "ما"، لا تقول: "ما زيدٌ إلّا قائمًا". ومن المانع "لَيْسَ" من التصرّف أنك تقول: "كان زيدٌ"، فتفيد المُضيّ، وتقول: "يكون زيد"، فتفيد الاستقبالَ، وأنت إذا قلت: "ليس زيدٌ قائمًا الآنَ"، فقد أدّتْ "لَيْسَ" المعنى الذي يكون في المضارع بلفظ الماضي، واستُغني عن زيادةِ حرف مضارعة فيها. وقوله: "لا تقول ليس زيد قائمًا غدًا"، يريد أنها لا تكون إلّا لنفي الحاضر لا غير، ولا يُنْفَى بها في المستقبل. وقد أجازه أبو العبّاس المبرّد وابن دُرُسْتَوَيْهِ. فإن قيل: وزنُه "فَعْلَ" ساكنَ العين كـ"لَيْتَ"، وليس في الأفعال الماضية ما هو على هذه الزنة، فهلّا دَلَّكم ذلك على أنها حرف. قيل: لمّا مُنع التصرّف لِما ذكرناه، ولم يُبْنَ بناءَ الأفعال من بنات الياء، نحوِ: "باعَ"، و"سارَ"، مُنع ما للأفعال من الإعلال والتغيير؛ لأنّ الإعلال والتغيير ضربٌ من التصرّف.
فصل [نوعا الأفعال الناقصة من حيث تقديم خبرها عليها]
والأصلُ في "لَيْسَ": "لَيِسَ" على زنةِ "حَرِجَ"، و"صَعِدَ". وإنما قلنا ذلك؛ لأنه قد قامت الدلالة على أنه فعلٌ. فالأفعالُ الماضية الثلاثية على ثلاثة أضرب: "فَعَلَ"، كـ"ضَرَبَ"، و"قَتَلَ"، و"فَعِلَ"، كـ"عَلِمَ"، و"سَلِمَ"، و"فَعُلَ"، كـ"ظَرُفَ"، و"شَرُفَ"، وليس فيها ما هو على زنةِ "فَعْلَ" بسكون العين. وإذا كان كذلك، وجب أن لا يخرج عن أبنية الأفعال، فلذلك قلنا: إن أصله "لَيِسَ" على "فَعِلَ" بكسر العين، فيكون من قبيل "صَيِدَ البعيرُ" إذا رفع رأسه من داء. وكان قياسه أن تقلب الياء فيه ألفًا؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها على حدّ "باعَ" و"سارَ"، إلّا أنّهم لمّا لم يريدوا تصرُّف الكلمة، أبقوها على حالها، ثمّ خفّفوها بالإسكان على حدّ قولهم في "كَتِفٍ": "كَتْفٌ"، وفي "فَخِذٍ": "فَخْذٌ"، وألزموها التخفيفَ؛ لعدم تصرّفها ولزومِ حالة واحدة. وإنما قلنا إن أصله "فَعِلَ" بالكسر؛ لأنه لا يخلو من أن يكون على "فَعَلَ" أو "فَعُلَ" أو "فَعِلَ" على ما ذكرنا، فلا يجوز أن يكون على "فَعَلَ" بالفتح؛ لأنه لو كان مفتوحًا، لم جرّ إسكانه؛ لأنّ الفتحة خفيفة. ألا ترى أنهم لا يخففون نحوَ "قَلَمٍ"، و"جَبَلٍ"، بالسكون؟ ولا يجوز أن يكون على "فَعُلَ" بالضمّ, لأنّ هذه البناء لم يأتِ من بناته الياء، فلمّا امتنع أن يكون على "فَعَلَ"، و"فَعُلَ"، تَعيّن أن يكون "فَعِلَ" بالكسر، وصُحح كما صُحّح "صَيِدَ البعيرُ". وليس المراد أن العلّة واحدة وإنما ذلك لإبداء النظير، وذلك لأنّ العلّة في تصحيح "لَيْسَ" إرادةُ عدم التصرّف، والعلّة في تصحيح "صَيِدَ" إنما هو لأنه في معنَى "أصيَدَ" كـ"عَوِرَ"، و"حَوِلَ"، إذ كانا في معنى "أعْوَرَ"، و"أحوَلَ". فصل [نوعا الأفعال الناقصة من حيث تقديم خبرها عليها] قال صاحب الكتاب: وهذه الأفعال في تقديم خبرها على ضربين, فالتي في أوائلها "ما" يتقدم خبرها على اسمها لا عليها، وما عداها يتقدم خبرها على اسمها وعليها, وقد خولف في "ليس" فجعل من الضرب الأول. والأول هو الصحيح. * * * قال الشارح: قد تقدّم أن هذه الأشياء لما كانت داخلة على المبتدأ والخبر، وكانت مقتضية لهما جميعًا، وجب من حيث كانت أفعالًا بالدلائل المذكورة، أن يكون حكمُ ما بعدها كحكم الأفعال الحقيقية، وكانت الأفعال الحقيقية ترفع فاعلًا، وتنصب مفعولًا، فرفعت هذه الاسمَ، ونصبت الخبرَ ليصير المرفوع كالفاعل، والمنصوب كالمفعول من نحوِ: "كان زيدٌ قائمًا"، كما تقول: "ضرب زيد عمرًا". ولمّا كان المرفوع فيها كالفاعل، والفاعلُ لا يجوز تقديمه على الفعل، لم يجز تقديم أسماء هذه الأفعال عليها. ولمّا كان المفعول يجوز تقديمُه على الفاعل، وعلى
الفعل نفسه، جاز تقديم أخبار هذه الأفعال على أسمائها، وعليها أنفسِها ما لم يمنع من ذلك مانعٌ، فلذلك تقول: "كان زيد قائمًا". قال الله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (¬1)، وقال: {وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} (¬2)، وتقول: "كان قائمًا زيدٌ"، فتُقدَّم الخبر على الاسم، قال الله تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} (¬3)، وقال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا} (¬4)، فقوله: "حقًا" خبرٌ، وقد تقدّم على الاسم الذي هو "نصر المؤمنين"، و"عجبًا" خبرٌ أيضًا، وقد تقدّم على الاسم الذي هو "أن أوحينا"؛ لأنّ "أنْ" والفعل في تأويل المصدر، ذلك المصدرُ مرفوع بأنه اسمُ "كان". وتقول: "قائمًا كان زيدٌ"، فتُقدِّم الخبر على الفعل نفسه. قال الله تعالى: {وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ} (¬5)، فلولا جوازُ تقديم الخبر على نفس الفعل، لَما جاز تقديم معموله عليه، وذلك أن "أنفسهم" معمولُ "يظلمون"، وهو الخبر، وقد تقدّم أنه لا يُقدَّم المعمول حيث لا يتقدّم العامل. ألا ترى أنه لا يجوز "القتالُ زيدًا حِينَ يأتي" حيث لم يجز تقديم عامله الذي هو "يأتي"؛ لأنّ المضاف إليه لا يتقدّم المضافَ؟ وكذلك باقي أخواتها. فأمّا ما في أوّله حرف النفي، وحروف النفي أربعة: "ما"، و"لَمْ"، و"لَنْ"، و"لا"، فإن كان النفي بـ"ما"، نحوَ: "ما زال"، و"ما انفكّ"، و"ما فتىء"، و"ما برح"، فمذهبُ سيبويه والبصريين أنه لا يجوز تقديم أخبارها عليها، فلا يُقال: "قائمًا ما زال زيدٌ"، وإليه ذهب أبو زكرياء يحيي بن زياد الفراء. وذلك أن "ما" للنفي، وأنّه يُستأنف بها النفي، ولذلك يُتلقى بها القَسَمُ كما يتلقى بـ"إن" واللام في الإيجاب، فجرت في ذلك مجرى حرف الاستفهام، فكان له صدرُ الكلام، وإنّما صار للاستفهام صدرُ الكلام. لأنه جاء لإفادةِ معنى في الاسم والفعل، فوجب أن يأتي قبلهما لا بعدهما، كما أن حروف الاستفهام لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، كذلك هنا. ألا ترى أنك لو قلت في الاستفهام: "زيدًا أضربتَ؟ " لم يجز، كذلك ها هنا لو قلت: "قائمًا ما زال زيدٌ"، لم يجز؛ لأنك تُقدِّم ما هو متعلّقٌ بما بعد حرف النفي عليه، ويجوز ذلك مع "لَمْ"، و"لَنْ"، و"لا"، فتقول: "قائمًا لم يزل زيد"، و"منطلقًا لن يبرح بكرٌ"، و"خارجًا لا يزال خالدٌ". وإنما ساغ ذلك مع "لم"، و"لن"، و"لا" ولم يسغ مع "ما"؛ لأنّ "لم"، و"لن"، لمّا اختصّتا بالدخول على الأفعال، صارتا كالجزء منها، فكما يجوز تقديمُ منصوب الفعل عليه، كذلك يجوز التقديم مع "لم"، و"لن"؛ لأنهما كأحد حروفه، وأيضًا فإن "لم أفعل" نفيُ "فعلتُ"، و"لن أفعل" نفيُ "سأفعلُ". وحكمُ النفي حكم إيجابه، فكما يسوغ في ¬
الإيجاب التقديمُ، فكذلك مع النفي، فجرى النفي هنا مجرى الإيجاب، كما جرى مجراه في "لَنْ" إذ لم يُتلق به القَسَم. ألا ترى أنك لا تقول: و"الله لن أضربَ"، كما لا تقول: "والله سأضرب"؟ وكذلك لا تقول: "والله لم أضرب" كما لا تقول: "والله ضربتُ". وأمّا "لا"، وإن كانت قد يُتلقى بها القسم، وتدخل على الأسماء والأفعال، فإنّها تصرَّفت تصرّفًا ليس لغيرها بدخولها على المعرفة والنكرة، وأنّه يتخطاها العاملُ، فيعمل فيما بعدها، نحوَ قولك: "خرجت بلا زادٍ"، و"عُوقبتُ بلا جُرْم"، فكما يعمل ما قبلها فيما بعدها، فكذلك يعمل ما بعدها فيما قبلها. وأجاز ذلك الكوفيون (¬1)، وإليه ذهب أبو الحسن بن كَيْسان، فيقولون: "قائمًا ما زال زيد"، وكذلك ما كان في معناها من أخواتها، فإنّهم يشبّهونها بـ"لمْ". وأمّا "ما دامَ"، فإنّها لا تستعمل إلّا بلفظ الماضي كما كانت "لَيْسَ" كذلك. ولا يتقدّمها إلّا فعلٌ مضارع، نحوُ: "لا أُكلِّمك ما دام زيدٌ قائمًا". ولا يتقدّم عليها نفسِها، لأنّ "ما" فيها مصدريَّةٌ لا نافيةٌ، وذلك المصدرُ بمعنى ظرف الزمان. ألا ترى أنك إذا قلت: "لا أفعلُ هذا ما دام زيدٌ قائمًا"، كان التقدير فيه: زمنَ دوامِ قيامِ زيد، كقولك: "جئتُك مَقْدَمَ الحاجّ، وخفوقَ النجم"، أي: زمنَ خفوق النجم، وزمنَ مقدم الحاجّ؟ إلّا أنه حذف المضاف الذي هو الزمان للعلم به، وأُقيم المصدر المضاف إليه مقامه. وإذا كانت "ما" في "ما دام" بمنزلة المصدر، كان ما يتعلق بها من صلتها وتمامِها، فلا يتقدّم عليها. وأمّا تقديم أخبارها على أسمائها، فجائزٌ بلا خلاف, لأنّ المقتضى لجواز ذلك موجود، وهو كون العامل فعلاً، ولا مانعَ هناك، فلذلك جاز أن تقول: "ما زال قائمًا زيدٌ"، و"ما انفكّ عالمًا بكرٌ". وأمّا "لَيْسَ"، ففيها خلافٌ، فمنهم من يُغلّب عليها جانبَ الحرفية، فيُجريها مجرى "ما" النافية؛ فلا يُجيز تقديمَ خبرها على اسمها، ولا عليها، لا يقولون: "ليس قائمًا زيدٌ"، و"لا قائمًا ليس زيدٌ". وعليه حمل سيبويه (¬2) قولَهم: "ليس الطيبُ إلّا المسكُ"، و"ليس خَلْقُ الله أشْعَرُ منه". أجراها مجرَى "ما". ومنهم من أجاز تقديمَ خبرها عليها نفسِها، نحوَ: "قائمًا ليس زيدٌ"، وهو قول سيبويه (¬3) والمتقدّمين من البصريين (¬4)، وجماعةٍ من المتأخرِين كالسيرافيّ، وأبي عليّ، ¬
فصل [تفصيل سيبويه في تقديم الظرف وتأخيره بين اللغو منه والمستقر]
وإليه ذهب الفرّاء من الكوفيين. واحتجّوا لذلك بالنصّ والمعنى. أمّا النصّ فقوله تعالى: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} (¬1)، ووجهُ الدليل أنه قدّم معمولَ الخبر عليها، وذلك أن "يَوْمَ" معمولُ "مصروفًا" الذي هو الخبر، وتقديمُ المعمول يُؤذِن بجواز تقديم العامل؛ لأنه لا يجوز أن يقع المعمول حيث لا يقع العامل؛ لأنّ رتبة العامل قبل المعمول. وأمّا المعنى فإنّه فعل في نفسه. وإنما مُنع المضارعَ؛ للاستغناء عنه بلفظ الماضي، وهذا المعنى لا ينقص حكمَها، وصار كـ"يَدَعُ"، و"يَذَرُ"، لمّا منعنا لفظَ الماضي منهما استغناء عنه بـ"تَرَكَ"، لم ننقص من حكم عملهما. ومنهم من منع من تقديم خبرها عليها مع جواز تقديمه على اسمها، وهو مذهب الكوفيين، وأبي العبّاس المبرد. وقال السيرافيّ وأبو عليّ: لا خلاف في تقديم الخبر على اسمها، إنما الخلاف في تقديم الخبر عليها. وحكى ابن درستويه في كتاب الإرشاد أن فيه خلافًا على ما تقدّم. وقوله: "وقد خولِف في "لَيْسَ" فجُعل من الضرب الأوّل"، يريد الذي لا يجوز تقديم خبره عليه، وهو ما كان في أوّله "ما"، فيه إشارةٌ إلى أن من مذهبه جوازَ تقديم خبرها عليها. وقوله: "والأول هو الصحيح"، يريد الأوّل من القولَيْن، وهو جواز تقديم خبرها عليها، وهو الذي أفتى به. والثاني ما حكاه من قول المخالِف، وهو عدم جواز تقديمه. فصل [تفصيل سيبويه في تقديم الظرف وتأخيره بين اللغو منه والمستقرّ] قال صاحب الكتاب: وفضل سيبويه (¬2) في تقديم الظرف وتأخيره بين اللغو منه والمستقر، فاستحسن تقديمه إذا كان مستقراً نحو قولك: "ما كان فيها أحد خير منك"، وتأخيره إذا كان لغواً نحو قولك: "ما كان أحدٌ خيراً منك فيها"، ثم قال: وأهل الجفاء يقرؤون (¬3): {ولم يكن كفؤاً له أحد} (¬4). * * * قال الشارح: سيبويه كان يسمّي الظرف والجارّ والمجرور متى وقع واحدٌ منهما خبرًا مستقَرًا؛ لأنه يُقدَّر بـ"استقرّ". ومتى لم يكن خبرًا، سمّاه لَغْوًا. وذلك نحو قولك: "زيدٌ فيها قائمًا"، الظرف ها هنا مستقر؛ لأنه الخبر، والتقدير: "زيد استقر فيها"، و"قائما" حال، فإن رفعت "قائمًا" وجعلته الخبرَ، فقلت: "زيدٌ فيها قائمٌ" كان الظرف لغوًا, لأنه ¬
ليس بخبرٍ، إنما الخبر "قائمٌ" والظرف من متعلّقات الخبر الذي هو "قائمٌ". ومتى جعلته خبرًا، كان ظرفًا، ووِعاءً للاستقرار. ومتى جعلته لغوًا، كان ظرفًا للقيام. فإذا فهمت القاعدةَ، فسيبويه يختار تقديم الظرف إذا كان مستقرًا؛ لأنه مضطرٌّ إليه، وتأخيرَه إذا كان لغوًا؛ لأنه فضلة. وذلك نحو قولك: "ما كان فيها أحد خيرٌ منك"، فـ "أحدٌ" اسمُ "كان"، و"خيرٌ منك" صفته، والظرف الخبر، ولذلك قدَّمه، فإن نصبت "خيرًا" وجعلته الخبرَ، أخّرت الظرف, لأنه ملغًى، نحوَ قولك: "ما كان أحد خيرًا منك فيها" فـ "أحد" الاسم، و"خيرًا منك" الخبر، و"فيها لغوٌ" من متعلقات الخبر، وتقديم الظرف وتأخيره إذا كان مستقرًا جائز، قال سيبويه: كل عربيٌّ جيْدٌ كثيرٌ، وإنما اختار تقديمه إذا كان مستقرًا، ولا كلامَ في جواز تأخيره. فإن قيل: فما تصنع بقوله سبحانه: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} (¬1)، فقدّم الجارّ والمجرور مع أنه لغوٌ؟ قيل: لمّا كانت الحاجة ماسّة، والكلامُ غيرَ مستغن عنه؛ صار كأنّه خبرٌ، فقُدّم لذلك، ألا ترى أن قوله تعالى: {اللَّهُ الصَّمَدُ} (¬2) مبتدأ وخبر، وقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (¬3) خبرٌ ثانٍ، وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} معطوف عليه. وما عُطف على الخبر، كان في حكم الخبر، فلذلك لم يكن بد من العائد في قوله: {لَّهُ}؛ لأنّ الجملة إذا وقعت خبرًا، افتقرت إلى العائد. قال: وأهل الجفاء يقرؤون: "ولم يكن كفؤًا له أحدٌ"، فيؤخرون الجارّ والمجرور لقوّة التأخير في المُلْغَى عندهم. والمرادُ بأهل الجفاء: الأعراب الذين لم يبالوا بخطّ المُصحَف، أو لم يعلموا كيف هو. فأما قول الشاعر [من الرجز]: لَتَقْرُبِنَّ قَرَبًا جُلْذِيَّا ... ما دام فيهنّ فَصِيلٌ حَيَّا (¬4) فإنّه قدَّم الظرف هنا، وإن لم يكن مستقرًا، وذلك أنّ "فصيل" اسمُ "ما دام"، و"حيَّا"، الخبر، و"فيهنّ"، ظرفٌ للخبر. وذلك لجواز التقديم عنده مع أنه قد تدعو الحاجةُ إليه. ولا يسوغ حذفه، إذ لو حذف، لتغير المعنى، ويصير بمعنى الأبد، كما يُقال: "ما طلعت الشمسُ"، و"ما حنّت النيبُ". فلمّا كان المعنى متعلّقًا به، صار كالمستقرّ، فقدّمه لذلك. والجُلْذِيّ: السَّيْر الشديد، ويجوز أن يكون اسم ناقته، ثمّ ناداها مُرخّمًا، فاعرفه. ¬
أفعال المقاربة
ومن أصناف الفعل أفعالُ المقاربة فصل [أحكام "عسي"] قال صاحب الكتاب: منها "عسى", ولها مذهبان: أحدهما أن تكون بمنزلة "قارب"، فيكون لها مرفوع ومنصوب، إلا أن منصوبها مشروط فيه أن يكون "أن" مع الفعل متأولاً بالمصدر, كقولك: "عسى زيد أن يخرج" في معنى: قارب زيد الخروج. قال الله تعالى: {فعسى الله أن يأتي بالفتح} (¬1). والثاني أن يكون بمنزلة "قرب"، فلا يكون لها إلا مرفوع، إلا أن مرفوعها "أن" مع الفعل في تأويل المصدر, كقولك: "عسى أن يخرج زيد" في معنى قرب خروجه. قال الله تعالى: {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} (¬2). * * * قال الشارح: معنى قولهم: "أفعال المقاربة"، أي: تفيد مقاربةَ وقوع الفعل الكائن في أخبارها. ولهذا المعنى كانت محمولة على باب "كان" في رفع الاسم ونصب الخبر. والجامعُ بينهما دخولهما على المبتدأ والخبر، وإفادةُ المَعنى في الخبر. ألا ترى أنّ "كانَ" وأخواتها إنما دخلت لإفادة معنى الزمان في الخبر، كما أن هذه الأفعال دخلت لإفادة معنى القرب في الخبر؟ فمن ذلك "عَسى"، وهو فعل غير متصرّف، ومعناه المقاربة على سبيل الترجّي. قال سيبويه (¬3): معناه الطمَع والإشفاق، أي: طمعٌ فيما يستقبل، وإشفاقُ أن لا يكون. واعلم أن أصل الأفعال أن تكون متصرّفة من حيث كانت منقسمة بأقسام الزمان، ولولا ذلك، لأغنت المصادرُ عنها. ولهذا قال سيبويه (¬4): فأمّا الأفعال فأمثلة أُخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبُنيت لِما مضى، ولما يكون، ولما هو كائن لم ينقطع. وهذه "عَسَى" قد خالفت غيرَها من الأفعال، ومُنعت من التصرّف، وذلك لأُمور؛ منها: أنهم أجروها مجرى "لَيْسَ"، إذ كان لفظها لفظ الماضي، ومعناها المستقبل, لأنّ ¬
الراجي إنما يرجو في المستقبل لا في الماضي، فصارت كـ"لَيْسَ" في أنها بلفظ الماضي، ويُنْفَى بها الحال، فمُنعت لذلك من التصرّف كما منعت "لَيْسَ". الثاني: أنها تَرَجٍّ، فشابهت "لَعَلّ". وقد استضعف بعضُهم هذا الوجهَ من التعليل، قال: وذلك أنّ شَبَه الحرف معنَى مُضعفٌ للاسم لا للفعل، ألا ترى أن أكثر الأسماء المبنيّة نحوَ "كَمْ"، و"مَنْ"، إنما كان يُشبه الحروفَ؛ فأمّا الفعل فإنّه، إذا أشبه بمعناه الحرفَ، فإنّه لا يُمْنَع التصرّفَ، وذلك لأَن معاني هذه الحروف مستفادة ومكتسَبة من الأفعال، ألا ترى أن "إلّا" في الاستثناء نائبةٌ عن "أستثنى"، والهمزة في الاستفهام نائبة عن "أستفهم" و"ما"، النافية نائبة عن "أنْفِي"؟ والشيءُ إنما يُعْطَى حكمًا بالشبه إذا أشبهه في معناه، وأمّا إذا أشبهه في معنَى هو له، أو يُساويه فيه، فلا. ولو جاز أن يُمْنَع التصرّفَ "عَسَى"؛ لأنها في معنَى "لَعَلَّ"، لجاز أن يمنع "استثنى" التصرّف لمشارَكةِ "إلّا"، ولجاز أن يمنع "أنْفِي" التصرّف لمشاركةِ "ما". وذلك قولُ من قال: إِنّ "لَيْسَ" ممنوعةُ التصرّف لمشاركةِ "ما" في معناها. والآخر: أنها لمّا دلت على قُرْب الفعل الواقع في خبرها؛ جرت مجرى الحروف لدلالتها على معنى في غيرها، إذ الأفعال تدل على معنًى في نفسها، لا في غيرها، فجمدت لذلك جمودَ الحروف. فإن قيل: ما الدليل على أنها أفعالٌ مع جمودها جمودَ الحروف، وعدمِ تصرّفها؟ فالجواب أنه يتصل بها ضمير الفاعل على حدّ اتصاله بالأفعال، نحوَ قولك: "عَسَيْتُ أن أفعلَ كذا"، و"عَسِيتُ" بالكسر أيضًا، وهما لغتان. قال الله تعالى: {فَهَلْ عَسَيتُمْ} (¬1)، وقُرىء بالكسر، والمؤنّث "عَسَتْ"، فتؤنّثه بالتاء الساكنة وصلًا ووقفًا على ما يكون عليه الأفعالُ. ولمّا كانت فعلاً، افتقرت إلى فاعلٍ ضرورةَ انعقاد الكلام. وهي في ذلك على ضربين: أحدهما: أن تكون بمنزلة "كان" الناقصة، فتفتقر إلى منصوب ومرفوع، ويكون معناها "قارَبَ". والضرب الثاني: أن تكون بمنزلةِ "كان" التامّة، فتكتفي بمرفوع، ولا تفتقر إلى منصوب، وتكون بمعنى "قَرُبَ". فالأوّل نحو قولك: "عسى زيدٌ أن يقوم"، ولا يكون الخبر إلّا فعلاً مستقبلًا مشفوعًا بـ"أن" الناصبة للفعل. قال الله تعالى: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ} (¬2) بِالْفَتحِ، فـ"زيدٌ" اسمُ "عسى"، وموضعُ "أنْ" مع الفعل نصبٌ؛ لأنه خبرٌ. والذي يدلّ على ذلك قولهم في المثل: "عسى الغُوَيْرُ أبْؤُسًا" (¬3)، والمراد: أن يَبْأسَ، فقد ¬
انكشف الأصلُ كما انكشف أصلُ "أقام"، و"أطال" بقوله [من الطويل]: صددتِ فأطوَلْتِ الصُّدُودَ وقَلَّما ... وِصالٌ على طُولِ الصُّدُودِ يَدُومُ (¬1) وأبْؤُسٌ في المثل (¬2) جمع "بَأسٍ", لأنّ "فَعْلًا" يجمع على "أفْعُلٍ"، نحوَ "كَلْبٍ"، و"أكلُبٍ"، ومِما يدلّ أن خبرها في موضع اسم منصوب، وإن لم يُنْطَق به، أن الفعل في خبرها، إذا تَجرّد من "أنْ"، كان مرفوعًا، والفعل إنما يُرْفَع بوقوعه موقع الاسم، نحوِ قوله [من الطويل]: 1030 - عَسَى الله يُغنِي عن بِلادِ ابن قادِرٍ ... بمُنهمِرٍ جَوْنِ الرَّبابِ سَكُوبِ وقول الآخر [من الوافر]: 1031 - عسى الكَرْبُ الذي أمْسَيتَ فيه ... يكونُ وَراءَه فَرَجٌ قَرِيبُ ¬
فارتفاعُ "يُغْنِي"، و"يَكُونُ"، عند تجرّدهما من الناصب دليلٌ على ما قلناه. فإن قيل: فلِمَ لزم أن يكون الخبر "أنْ" والفعلَ؟ قيل: أمّا لزوم الفعل؛ فلأنّه لمّا مُنع لفظَ المضارع، واجتزىء عنه بلفظ الماضي؛ عُوّض المضارع في الخبر. وأيضًا فإنّه لمّا كانت "عَسَى" طَمَعًا، وذلك لا يكون إلّا فيما يستقبل من الزمان؛ جعلوا الخبر مثالًا يفيد الاستقبال، إذ لفظ المصدر لا يدلّ على زمان مخصوص. وأمّا لزوم "أن" الخبرَ؛ فلِما أُريد من الدلالة على الاستقبال، وصرِف الكلام إليه؛ لأن الفعل المجرد من "أنْ" يصلح للحال والاستقبال، و"أنْ"، تخْلِصه للاستقبال. والذي يؤيّد ذلك أن الغرض بـ"أنْ" الدلالةُ على الاستقبال لا غيرُ. وأمّا قول الشاعر [من الطويل]: 1032 - عسى طَيِّىءٌ من طَيِّىءٍ بعدَ هذه ... ستُطْفِىءُ غُلّاتِ الكُلَى والجَوانحِ ¬
فصل [أحكام "كاد"]
لمّا كانت السين كـ"أنْ" في الدلالة على الاستقبال، وضعها موضعَها، وإن اختلفت من حيث إن الفعل لا يكون معها في تأويل المصدر. والضرب الثاني: أن تكتفي بالمرفوع من غير افتقارٍ إلى منصوب، وتكون "عسى" بمعنَى "قَرُبَ"، إِلا أن مرفوعها لا يكون إلّا "أن" والفعل، نحوَ قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬1)، فـ "أنْ تكرهوا" بموضعِ رفع بأنّه فاعلٌ، ووقعت الكفايةُ به لتضمّنه معنى الحدث الذي كان في الخبر. ويجوز في قولك: "عسى أن يقوم زيدٌ" أن يكون "زيدٌ" مرفوعًا بـ"عَسَى"، و"أن يقوم" في موضعِ نصب بأنّه خبر مقدّم، ويكون في الفعل على هذا التقدير ضميرٌ من "زيد" يظهر في التثنية والجمع، نحوَ قولك: "عسى أن يقوما الزيدان"، و"عسى أن يقوموا الزيدون"؛ لأنّ التقدير: "عسى الزيدان أن يقوما"، و"عسى الزيدون أن يقوموا". فيجوز لك في ذلك وما كان نحوه وجهان أبدًا: أحدهما أن يكون "أنْ" والفعل في موضع مرفوع، وأن يكون في موضع منصوب بأنّه خبرٌ مقدّمٌ. فأمّا قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (¬2)، فلا يجوز فيه إلّا وجه واحد، وهو أن يكون "ربّك" فاعلَ "يبعث"، و"أنْ" مع ما بعدها في موضعِ رفع بـ"عَسَى". ولا يجوز أن يكون "أنْ" في موضع نصب على الوجه الآخر؛ لأنه يؤدي إلى الفصل بين الصلة والموصول بالأجنبيّ؛ لأنّ "مقامًا محمودًا" منصوبة بـ"يبعث"، فلا يكون "الربّ" مرتفعًا إلّا به، وإلَّا كان أجنبيًا، إذ لم يكن عاملا فيه. فصل [أحكام "كاد"] قال صاحب الكتاب: ومنها "كاد" ولها اسم وخبر, وخبرها مشروط فيه أن يكون فعلاً مضارعاً متأولاً باسم الفاعل, كقولك: "كاد زيدٌ يخرج". وقد جاء على الأصل [من الطويل]: [فأبت إلي فهم] وما كدت آئبًا (¬3) ... [وكم مثلها فارقتها وهي تصفر] كما جاء "عسى الغوير أبؤسًا" (¬4). قال الشارح: قوله: "ومنها" يعني من أفعال المقاربة "كادَ". تقول: "كاد زيدٌ يفعلُ"، أي: قارَبَ الفعلَ، ولم يفعل، إلّا أن "كاد" أبلغُ في المقاربة من "عَسَى"، فإذا قلت: "كاد زيدٌ يفعل"، فالمراد قرُب وقوعُه في الحال، إلّا أنه لم يقع بعدُ؛ لأنك لا ¬
تقوله إلّا لمَن هو على حدّ الفعل كالداخل فيه، لا زمانَ بينه وبين دخوله فيه. قال الله تعالى: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ} (¬1). ومن كلام العرب: "كاد النعامُ يطير". وهي ترفع الاسم وتنصب الخبر حملًا لها على "كانَ"؛ لدخولها على المبتدأ والخبر وإفادةِ معناها في الخبر. واشترطوا أن يكون الخبر فعلاً؛ لأنهم أرادوا قربَ وقوع الفعل، فأتوا بلفظ الفعل ليكون أدلّ على الغرض، وجُرّد ذلك الفعل من "أن"؛ لأنهم أرادوا قرب وقوعه في الحال، وإن تَصرّف الكلام إلى الاستقبال، فلم يأتوا بها لتدافُع المعنيَين. ولمّا كان الخبر فعلاً محضًا مجرّدًا من "أنْ"، قدّروه باسم الفاعل, لأنّ الفعل يقع فى الخبر موقعَ اسم الفاعل، نحو: "زيدٌ يقوم"، والمراد. قائمٌ، ودل على أنه منصوب قول الشاعر [من الطويل]: فأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كِدْتُ آئِبًا كما دلّ قولهم: "عسى الغُوَيْرُ أبُؤُسًا" على أنّ موضعَ "أن يَبْأسَ" نصبٌ. فأما البيت، فهو لتأبّط شرًّا، ويروى: "ولم أكُ آئبًا"، فلا يكون فيه شاهدٌ. والرواية الأوُلى أقيسُ من جهة المعنى؛ لأنّ المراد: رجعت إلى فهم- وهي قبيلة- وكدتُ لا أؤُوبُ لمشارَفتي التَّلَفَ. قال ابن الأعرابىّ الرواية: ما كدت آئبًا، وروايةُ من روى: "ولم أكُ آئبًا" خطأ. وأرى أنها جائزةٌ، والمعنى: ولم أك في نظري واعتقادي أنّنى أسلمُ. وقصّته معروفة. وأما قولهم في المثل: "عسى الغوير أبؤسًا"، قال الأصمعيّ: إنه كان غارٌ فيه ناسٌ، فانهارَ عليهم، أو أتاهم فيه عدوٌّ، فقتلوهم، فصار مثلًا لكلّ شيء يُخاف أن يأتي منه شرٌّ. قال ابن الكَلْبيّ: الغوير ماءٌ لكَلْب. وهذا المثلُ تَكلّمت به الزبّاءُ لمّا تَنكّب قَصِيرٌ اللَّخميُّ بالأجمال الطريقَ المَهْيَعَ، وأخذ على الغُوَيْر. فإن قيل: فهلّا منعتم "كَادَ" من التصرّف كما فعلتم ذلك بـ"عسى"، إذ معناهما واحدٌ قيل: له جوابان: أحدهما: أن "كَادَ" قد يُخبَر بها عن المقاربة فيما مضى وفيما يستقبل، نحوَ قولك: "كاد زيدٌ يقوم أمس"، و"يكاد يخرج غدًا". فلمّا أُريد بها معنى المُضيّ والاستقبال، أُتي لها بالأمثلة التي تدلّ على الأزمنة، وهو بناء الماضي والمضارع. ولمّا كانت "عَسَى" طمعًا، والطمع يختصّ بالمستقبل فقط، اختير له أخفُّ الأبنية، وهو مثال الماضي، ولم تكن حاجة إلى تكلُّف زيادة المضارع. والجواب الثاني: أنهم قد غالوا في "عَسَى"، فاستعملوها موجبةً، ولم تأتِ في ¬
الكتاب العزيز إلّا موجبةً، إلّا في موضع واحد، وهو قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} (¬1). قال: ومنه قول الشاعر [من الكامل]: 1033 - ظَنّي بهم كَعَسَى وهُمْ بتَنُوفَةٍ ... يَتنازعون جَوائِزَ الأمثالِ والمراد: ظنّي بهم كاليقين. فلمّا تناهت "عَسى" في بابها، وكان فيها ما ليس في "كاد"، أخرجت عن بابها وبابِ الفعل إلى حيّز الحروف وجمودها. وأما قول حسان [من الكامل]: 1034 - وتكاد تَكْسَلُ أن تجيء فِراشَها ... في جِسْمِ خَرْعَبَةٍ وحُسْنِ قَوامٍ فإنّه قد قيل: إنّ "تكاد" فيه زائدةٌ، والمراد أنها تكسل أن تجيء فراشها لدَلالها. ¬
فصل [تشبيه "كاد" بـ "عسي", والعكس]
فصل [تشبيه "كاد" بـ "عسي", والعكس] قال صاحب الكتاب: وقد شبه "عسى" بـ "كاد" من قال [من الوافر]: عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب (¬1) و"كاد" بـ"عسى" من قال: [من الرجز] 1035 - قد كاد من طول البلى أن يمصحا * * * قال الشارح: قد تقدّم القول أن الأصل في "عسى" أن يكون في خبرها "أنْ" لِما فيها من الطمع والإشفاق، وهما معنيان يقتضيان الاستقبال، و"أنْ" مؤذنةٌ بالاستقبال، وأصل "كاد" أن لا يكون في خبرها "أنْ"؛ لأنّ المراد بها قوب حصول الفعل في الحال، إلّا أنه قد تشبه "عسى" بـ"كاد"، فْيُنْزَع من خبرها "أنْ". فأما قوله [من الوافر]: عسى الهَمُّ الذي أمسيت فيه ... إلخ ¬
فصل [تصريف "عسي"]
فالبيت لهُدْبَةَ بن الخَشْرَم، والشاهد فيه إسقاط "أنْ" من الخبر، ورفع الفعل على التشبيه بـ"كاد". يقول هذا لرجل من قومه أُسِرَ. وقد تُشبَّه "كاد" بـ"عسى"، فيُشْفَعَ خبرها بـ"أنْ"، فيقال: "كاد زيدٌ أن يقوم". وقد جاء في الحديث: "كاد الفُقرُ أن يكون كُفرًا" (¬1)؛ فأما قولهم [من الرجز]: قد كاد من طُول البِلَى أن يَمْصَحَا فالبيت لرُؤْبة، وقبله: رَبْعٌ عَفاهُ الدَّهرُ طُولًا فانْمَحَى والشاهد فيه دخول "أنْ" على "كاد" تشبيهًا لها بـ"عسى"، والوجهُ سقوطها. وصف منزلًا بالقِدَم وعَفْوِ الأثر. ويَمْصَحُ: في معنَى "يَذهَب"، يُقال: "مصح الظلّ" إذا انتعله الشخصُ عند قيام الظَّهِيرة. فحملوا كلّ واحد من الفعلَيْن على الآخر لتقارُب معنيَيْهما. وطريقُ الحمل والمقاربةِ أن "عَسَى" معناها الاستقبال، وقد يكون بعض المستقبل أقربَ إلى الحال من بعض، فإذا قال: "عسى زيدٌ"، فكأنّه قَرُبَ حتى أشْبَهَ قرب "كاد". وإذا أدخلوا "أنْ" في خبر "كاد"، فكأنّه بعُد عن الحال حتى أشبه "عسى". ومن قال: "عسى زيدٌ يفعل"، فقد أجرى "عسى" مجرى "كانَ"، ويجعل الفعل في موضع الخبر، كأنه قال: "عسى زيدٌ فاعلاً". وقد صرّح الراجز عند الضرورة بذلك، فقال [من الرجز]: أكثَرْتَ في العَذل مُلِحًّا دائمَا ... لا تُكثِرَنّ إنّي عَسَيتُ صائِما (¬2) كما صرّحوا في المَثَل، فقالوا: "عسى الغُوَيْرُ أبُؤُسًا" (¬3). فصل [تصريف "عسي"] قال صاحب الكتاب: وللعرب في "عسى" ثلاثة مذاهب: أحدها أن يقولوا: "عسيت أن تفعل", و"عسيتما" إلى "عسيتن"، و"عسى زيد أن يفعل", و"عسيا إلى عسين"، و"عسيت", و"عسينا". والثاني أن لا يتجاوزوا "عسى أن يفعل", و"عسى أن يفعلا" و"عسى أن يفعلوا". والثالث أن يقولوا عساك أن تفعل كذا إلى عساكن، وعساه أن يفعل إلى عساهن، وعساني أن أفعل، وعسانا. * * * قال الشارح: اعلم أن "عسى" في اتصال الضمير بها على ثلاثة مذاهب: أحدها: أن تكون كـ"لَيْسَ" في اتصال الضمير بها واستتاره فيها، فتقول: "عسيتَ ¬
أن تفعل كذا يا هذا"، فالتاء ضمير المخاطب، وهو الفاعل، والياء قبلها بدلٌ من الألف التي كانت في "عَسَى"؛ لأنها في موضعِ متحرّك. ولمّا اتّصل الضمير بها، سكن، فعادت الياء إلى أصلها كما كانت. وتقول في التثنية: "عسيتما"، وفي الجمع: "عَسَيتم"، كما تقول: "لَسْتَ" و"لستما"، و"لستم". وتقول في المتكلّم: "عسيتُ أن أفعل"، وفي التثنية والجمع: "عسينا"، وتقول في الغائب: "زيدٌ عسى أن يفعل"، فـ "زيدٌ" مبتدأ، و"عسى" وما بعدها الخبر، وفي "عسى" ضميرٌ يرجع إلى "زيد"، ويظهر ذلك الضمير في التثنية والجمع، فتقول: "الزيدان عَسَيَا أن يقوما"، وفي الجمع: "الزيدون عَسَوْا أن يقوموا"، وفي المؤنث: "عَسَتْ"، وفي التثنية: "عَسَتَا"، وفي الجمع: "عَسَيْنَ أن يقمن". الثاني: أن تكون في موضع رفع فاعله، فتقول: "زيدٌ عسى أن يفعل"، فـ "أن يفعل" في موضع رفع بأنّه الفاعل، والجملةُ في موضعِ خبر المبتدأ. وتقول في التثنية: "الزيدان عسى أن يفعلا"، وفي الجمع: "الزيدون عسى أن يفعلوا". وتقول في المؤنّث: "هندٌ عسى أن تقوم"، و"الهندان عسى أن تقوما"، و"الهندات عسى أن يقمن"، فـ"عسى" في هذا الوجه منحطة عن درجةِ "لَيْس". ألا ترى أنّ "لَيْسَ" تتحمّل الضميرَ، ويظهر في التثنية والجمع، فتقول. "زيدٌ ليس قائمًا"، و"الزيدان ليسا قائمَيْن"، و"الزيدون ليسوا قيامًا". وليست "عسى" في هذا الوجه كذلك، فإنّها لا تتحمّل الضمير، ولذلك لا يظهر في تثنية، ولا جمع، وذلك لغلبة الحرفيّة عليها وجمودِها، وعدم تصرّفها لفظًا وحكمًا. أمّا اللفظ فظاهرٌ، ؤأمّا الحكم، فإنّها لزمت طريقةً واحدةً بأن لا يكَون منصوبها إلّا فعلًا، ولا يقع اسمًا إلّا ضرورةً، فتقول: "عسى زيدٌ أن يفعل"، ولا تقول: "عسى زيدٌ الفعلَ". وليست "ليْسَ" كذلك، فإنه يقع خبرُها فعلًا واسمًا، نحوَ: "ليس زيدٌ قائمًا"، وإن شئت "يَقُومُ". فلمّا انحطّت عنها مع الظاهر، انحطّت عنها مع المضمر. وأما الوجه الثالث. وهو قولهم: "عساك أن تفعل"، و"عساكما أن تفعلا"، و"عساكم أن تفعلوا"، ومنه قول رؤْبة [من الرجز]: يا أبَتَا عَلَّكَ أو عَساكَ (¬1) فذهب سيبويه (¬2) إلى أن الكاف موضع نصب، وأنَّ خَبرَ "عسى" هنا مرفوع محذوف (¬3)، وأنّ "عسى" هنا بمنزلةِ "لعلّ" تنصب الاسمَ وترفع الخبرَ، والخبر محذوف، كما أن "علّك" في قولك "علّك أو عساك" خبرُه محذوفٌ مرفوعٌ، والكاف اسمها، وهي ¬
فصل [تصريف "كاد"]
منصوبة. والذي يدلّ على ذلك أنك إذا رددت الفعل إلى نفسك، قلت: "عساني". قال عِمران بن حطان الخارجيّ [من الوافر]: ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ... تنازِعُني لَعَلّي أو عَسانِي (¬1) فالنون والياء فيما آخرُه ألفٌ لا يكون إلّا نصبًا، وكان لـ"عَسَى" في الإضمار هذه الحالُ، كما كان لـ"لَوْلا" في قولهم: "لَوْلايَ"، و"لَوْلاكَ" حالٌ ليست لها مع الظاهر، وكما كان لـ"لَدُنْ" مع "غُدْوَة" حالٌ ليست لها مع غيرها من الأسماء. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى أن الكاف والياء والنون في موضعِ رفع، وحجّتُه أن لفظ النصب استعير للرفع في هذا الموضع، كما استعير لفظ الجرّ في "لولاي"، و"لولاك". والقول الثالث: قول أبي العبّاس المبرّد: إن الكاف والنون والياء في "عساك" و"عساني" في موضع نصب بأنّه خبرُ "عسى"، واسمُها مضمرٌ فيها مرفوعٌ، وجعله من الشاذ الذي جاء الخبر فيه اسمًا غير فعل، كقولهم: "عسى الغوير أبؤسًا" (¬2). وحُكي عنه أيضًا أنه قدَّم الخبر لأنه فعل، وحذف الفاعل لعلم المخاطب، كما قالوا: "لَيْسَ إلّا"، فاعرفه. فصل [تصريف "كاد"] قال صاحب الكتاب: وتقول: "كاد يفعل" إلى "كدن"، و"كدت تفعل"، إلي "كدتن" , و"كدت أفعل"، و"كدنا". وبعض العرب يقولون: "كدت" بالضم. * * * قال الشارح: يشير بذلك إلى الفرق بين "كاد"، و"عسى"، وإن كان تصرّفُهما يجري على منهاج واحد كسائر الأفعال المتصرّفة، فتقول: "زيدٌ كاد يفعل"، فيكون في "كاد" ضميرٌ مرفوعٌ يعود إلى "زيد"، كما كان ذلك في "كانَ" من قولك: "زيدٌ كان قائمًا"، و"الزيدان كادا يقومان"، و"الزيدون كادوا يقومون"، كما تقول ذلك في "كانَ". وتقول في المؤنّث: "هندٌ كادت تقوم" كما تقول: "كانت". وفي التثنية: "كادتا"، وفي الجمع: "كِدْنَ". لمّا سكنت اللام لاتّصال ضمير الفاعل به. سقطت الألف لالتقاء الساكنين، وكذلك مع المخاطب والمتكلّم. واعلم أنهم قد اختلفوا في ألف "كاد": أمن الواو هي أم من الياء؟ والأمثلُ أن تكون من الواو، وأن تكون من باب "فَعِلَ يَفْعَلُ" مثلِ "علم يعلم". ونظيرُه من المعتلّ. "خِفْت أَخاف". وإنما قلتُ: إنها مَن الواو لأُمورٍ، منها أن انقلاب الألف إذا كانت عينًا ¬
فصل [الفرق بين معني "عسي" ومعني "كاد"]
عن الواو أضعافُ انقلابها عن الياء، والعملُ إنما هو على الأكثر. الثاني قولهم في مصدره: "كَوْدٌ". رْعم الأصمعيّ أنه سمع من العرب من يقول: "لا أفعلُ ذلك ولا كَوْدًا"، فقولهم: "كودٌ" في المصدر دليلٌ أنه من الواو، كما أن "القَوْلَ" دليل أنّ ألفَ "قالَ" من الواو. وقولُهم في المضارع: "يكاد" دليل أن ماضيه "فَعِلَ" بالكسر، نحوَ: "خاف يخاف"، و"نام ينام". فإذا اتّصل ضمير المتكلّم أو المخاطب، قلت: "كِدْتُ" بكسر الفاء لأنهم نقلوا كسرة العين إلى الفاء؛ ليكون ذلك أمارة على تصرّفه، ودليلا على المحذوف. ألا ترى أنهم لما لم يريدوا في "لَيْسَ" التصرّف، لم يغيّروا حركة الفاء، بل أبقوها مفتوحةً على ما كانت؟ وليس في كسر الفاء دليل أنّه من الياء كما لم يكن في "خِفْتُ" و"نِمْتُ" دلالة أنه من الياء. وتقول: "كِدْنا"، فيستوي لفظ الاثنين والجمع. وحكى سيبويه (¬1) عن بعض العرب. "كُدْتُ" بالضمّ، كأنه جعله "فَعَلَ يَفْعَلُ" بالفتح في الماضي والمستقبل، مثلَ: "رَكَنَ يَرْكَنُ"، و"أبَى يأبَى". وفي ذلك دلالةٌ أنه من الواو أيضًا؛ لأنّ النقل إلى "فَعُلَ" بالضمّ إنما يكون من الواو لا من الياء، فاعرفه. فصل [الفرق بين معني "عسي" ومعني "كاد"] قال صاحب الكتاب: والفصل بين معنيي "عسى", و"كاد" أن عسى لمقاربة الأمر على سبيل الرجاء والطمع، تقول: "عسى الله أن يشفي مريضك"، تريد أن قرب شفائه مرجو من عند الله تعالى مطموع فيه, و"كاد", لمقاربته على سبيل الوجود والحصول، تقول:"كادت الشمس تغرب"، تريد أن قربها من الغروب قد حصل. * * * قال الشارح: قد تقدّم الكلام على الفرق بين "عسى"، و"كاد"، بما أغنى عن إعادته. فصل [استعمال "كاد" منفيَّة"] قال صاحب الكتاب: وقوله عز وجل: {إذا أخرج يده لم يكد يراها} (¬2) على نفي مقاربة الرؤية، هو أبلغ من نفي نفس الرؤية, ونظيره قول ذي الرمة [من الطويل]: 1036 - إذا غير الهجر المحبين لم يكد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح * * * ¬
قال الشارح: قد اضطربت آراءُ الجماعة في هذه الآية، فمنهم مَن نظر إلى المعنى، وأعرض عن اللفظ، وذلك أنه حمل الكلام على نفي المقاربة, لأنّ "كاد" معناها "قارَبَ"، فصار التقدير: لم يُقارِب رُؤْيَتَها، وهو اختيار الزمخشريّ. والذي شجّعهم على ذلك ما تضمّنته الآيةُ من المبالغة بقوله: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ} (¬1). ومنهم من قال: التقدير: لم يَرَها، ولم يكد. وهو ضعيف؛ لأنّ "لَمْ يَكَدْ" إن كانت على بابها، فقد نُقض أوّلُ كلامه بآخره، وذلك أن قوله: "لم يرها" يتضمّن نفي الرؤية، وقوله: "ولم يكد" فيه دليلٌ على حصول الرؤية، وهما متناقضان. ومنهم من قال: إنّ "يكد" زائدةٌ، والمراد: لم يرها، وعليه أكثر الكوفيين. والذي أراه أنّ المعنى أنه يراها بعد اجتهاد ويَأسٍ من رؤيتها. والذي يدلّ على ذلك قول تأبّط شرًا [من الطويل]: فأُبْتُ إلى فَهْمٍ وما كدتُ آئِبًا (¬2) والمراد: ما كِدتُ أؤُوبُ، كما يُقال: "سلمتُ وما كدتُ أسْلَمُ". ألا ترى أن المعنى: أنه آبَ إلى فهم، وهي قبيلةٌ، ثمّ أخبر أنّ ذلك بعد أن كاد لا يؤوب؟ وعلّةُ ذلك أنّ "كادَ" دخل لإفادة معنى المقاربة في الخبر، كما دخلت "كانَ" لإفادة الزمان في الخبر. فإذا دخل النفي على "كاد" قبلها كان أو بعدها، لم يكن إلّا لنفي الخبر، كأنك قلت: "إذا أخرج يده يكاد لا يراها"، فـ"كاد" هذه إذا استُعملت بلفظ الإيجاب، كان الفعل غيرَ واقع، وإذا اقترن بها حرفُ النفي، كان الفعل الذي بعدها قد وقع، هذا ¬
فصل [استعمال "أوشك"]
مقتضى اللفظ فيها، وعليه المعنى، والقاطعُ في هذا قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} (¬1)، وقد فعلوا الذبحَ بلا رَيبٍ. فأما قول ذي الرُّمّة [من الطويل]: إذا غيّر النأي المحبّين ... إلخ فقد قيل: إنه لمّا أنشده، أُنكر عليه، وقيل له: "فقد برح حُبّها"، فغَيَّرَه إلى قوله: "لم أجِدْ رسيسَ الهوى"، وعليه أكثرُ الرُّوَاة. وإن صحّت الرواية الأُولى، فصحّتُها مَحْمَلُها على زيادةِ "يكاد"، والمعنى: لم يبرح رسيسُ الهوى من حبّ ميّة. فهذا عليه أكثر الكوفيين، والشاعرُ لا يتقيّد بمذهب دون مذهب. ومثله قوله [من الكامل]: وتكاد تَكْسَلُ أن تجيءَ فِراشَها (¬2) "تكاد" فيه زائدة، فاعرفه. فصل [استعمال "أوشك"] قال صاحب الكتاب: ومنها "أوشك" يستعمل استعمال عسى في مذهبيها، واستعمال "كاد". تقول: "يوشك زيد أن يجيء"، و"يوشك أن يجيء زيد"، و"يوشك زيد يجيء". قال [من المنسرح]: 1037 - يُوشك من فرَّ من منيته ... في بعض غراته يوافقها * * * ¬
فصل [استعمال أفعال الشروع]
قال الشارح: اعلم أنّ "أوْشَكَ" يستعمل استعمالَ "عسى" في المقاربة، فيقال: "أوْشَكَ زيد أن يقومَ"، فـ "زيدٌ" فاعلٌ، و"أن يقوم" في موضع المفعول، والمراد: قارب زيدٌ القيامَ. ويُقال: "أوشك أن يقوم زيدٌ"، فتكون "أن" وما بعدها في موضع مرفوع كما كانت "عسى" كذلك، وقد أُسقط من خبرها "أنْ" تشبيهًا بـ"كاد"، نحوَ قولكَ: "أوشك زيدٌ يقوم". قال الشاعر [من المنسرح]: يوشك من فرّ ... إلخ البيت لأمُيَّةَ بن أبي الصَّلْت، والشاهد فيه إسقاط "أنْ" بعد "يوشك" تشبيهًا بـ"كاد"، كما أسقطت بعد "عسى" تشبيهًا بـ"كاد". ومعنَى "يوشك": يُقارِبُ، يُقال: "أوشك فلان أن يفعل كذا" إذا قارَبَه. وهو من السرعة من قولهم: "خرج وَشِيكًا"، أي: سريعًا، ومنه: "وُشْكُ البين"، أي: سرعة الفراق. فقولهم: "يوشك أن يفعل"، أي: يُسْرع. وضدُّه يُبطِئُ، أي: يُبعِد، ومعنَى "أنْ" فيه صحيحٌ؛ لأنه في معنَى يقرب أن يفعل. والغِرّةُ: الغَفْلة عن الدهر، ووقوعِ صروفه، أي: لا ينجِي من المنيّة شيءٌ، فاعرفه. فصل [استعمال أفعال الشروع] قال صاحب الكتاب: ومنها كرب وأخذ وجعل وطفق يستعملن إستعمال كاد. تقول: كرب يفعل، وجعل يقول ذاك، وأخذ يقول. وقال الله عز وجل: {وطفقا يخصفان} (¬1). * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأفعال تستعمل بمعنى المقاربة استعمالَ "كاد". تقول: "كَرَبَ يفعل"، كما تقول: "كاد يفعل" بمعنَى "قرب". ولا يكون الخبر إلّا فعلاً صريحًا، ولا يقع الاسم فيه كما لا يقع في خبر "كاد". ولم يسمع فيه "أنْ" ولا يمتنع معناه من ذلك، إذ كان معناه "قرب". وأنت لو قلت: "قرب أن يفعل"، لكان صحيحًا على معنَى: قرب فعلُه. وهو من قولهم: "كرب الشيءُ"، أي؛ دَنَا، و"إناءٌ كَرْبانُ": إذا قارب الامتلاء، ومنه "كربت الشمسُ"، أي: دنت للغروب. ¬
و"أخذ"، و"جعل"، و"طفق" كلّها بمعنى واحد، وهو مقاربةُ الشيء، والدخول فيه. ولا يكون الخبر فيها إلّا فعلاً محضًا. ولا يحسن دخولُ "أنْ" عليه؛ لأنهم أخرجوا الفعل فيه مُخْرَجَ اسم الفاعل، ولم يذهبوا به مذهبَ المصدر. فإذا قلت: "أخذ يفعل"، أو "جعل يفعلُ"، كان المعنى أنه داخلٌ في الفعل، فهو بمنزلةِ "زيدٌ يفعل" إذا كان في حالِ فعل، و"أخذ"، و"جعل" لتحقيق الدخول فيه، يقال: "طَفِقَ يفعل كذا" بمعنى: أخذ في فعله، قال الأخفش: وبعضهم يقول: "طَفَقَ" بالفتح، فاعرفه.
فعلا المدح والذم
ومن أصناف الفعل فعلا المدح والذم فصل [تعدادهما ولغاتهما] قال صاحب الكتاب: هما نعم وبئس، وُضعا, للمدح العام والذم العام، وفيهما أربع لغات: فعل بوزن حمد وهو أصلهما قال [من الرمل]: 1038 - [ما أقلت قدمٌ ناعلها] ... نعم الساعون في الأمر المبر و"فَعْل وفِعل بفتح الفاء وكسرها وسكون العين, و"فِعِلَ", بكسرهما. وكذلك كل فعل أو اسم على "فِعِلَ" ثانية حرف حلق كـ "شهد" و"فخذ", ويستعمل ساء استعمال بئس قال الله عز وجل: {ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا} (¬1). * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ "نعم"، و"بئس"، فعلان ماضيان، فـ "نعم" للمدح العامّ، و"بئس"، للذم العام. والذي يدلّ أنهما فعلان أنك تُضمِر فيهما، وذلك أنه إذا قلت: "نعم رجلًا زيدٌ". و"نعم غلامًا غلامُك" لا تضمر إلّا في الفعل. وربّما برز ذلك الضمير واتصل بالفعل على حدّ اتصاله بالأفعال. قالوا: "نِعْما رجلَيْن"، و"نِعْمُوا رجالاً" كما، تقول: "ضربا"، و"ضربوا". حكى ذلك الكسائيّ عن العرب. ومن ذلك أن تلحقها تاءُ التأنيث الساكنةُ، وصلاً ووقفًا كما تلحق الأفعالَ، نحوَ: "نِعْمَتِ الجاريةُ هندٌ"، و"بِئْسَتِ الجاريةُ جاريتُك"، كما تقول: "قامت هندٌ"، و"قعدت". وأيضًا فإنّ آخِرهما مبنيّ على الفتح من غيرِ عارض عرض لهما، كما تكون الأفعال الماضية كذلك، إلّا أنهما لا يتصرّفان، فلا يكون منهما مضارع، ولا اسمُ فاعل. والعلّةُ في ذلك أنهما تضمّنا ما ليس لهما في الأصل. وذلك أنهما نُقلا من الخبر إلى نفس المدح والذمّ، والأصل في إفادة المعاني إنما هي الحروف، فلمّا أفادت فائدةَ الحروف، خرجت عن بابها، ومُنعت التصرّفَ كـ"لَيسَ"، و"عسى". هذا مذهب البصريين والكسائي من الكوفيين، وذهب سائر الكوفيين (¬1) إلى أنهما اسمان مبتدآن، واحتجّوا لذلك بمفارَقتهما الأفعالَ بعدم التصرّف، فإنّه قد تدخل عليهما حروف الجرّ، وحكوا: "ما زيد بنِعمَ الرجلُ"، وأنشدوا لحَسان بن ثابت [من الطويل]: 1039 - ألَستُ بنِعْمَ الجارُ يُؤْلَفُ بَيتُه ... أخا قِلَّةٍ أو مُعْدِمَ المالِ مُضرِما ¬
وحكى الفرّاء أن أعرابيًا بُشّر بمولودة، فقيل له: "نعمَ المولودةُ مولودتُك"، فقال: "والله ما هي بنِعْمَ المولودةُ". وحكوا:"يا نِعْمَ المَوْلَى، ونِعْمَ النصيرُ". فنداؤُهم إيّاه دليل على أنه اسمٌ. والحقّ ما ذكرناه. وأمّا دخول حرف الجرّ، فعلى معنى الحكاية، والمراد: ألست بجارٍ مقولٍ فيه: "نِعْمَ الجارُ"، وكذلك البواقي. وأمّا النداء فعلى تقدير حذف المنادَى، والمعنى: يا مَنْ هو نعم المولى ونعم النصيرُ، كما قال سبحانه: {ألَا يَا اسْجُدُوا} (¬1)، والمراد: ألا يا قومُ اسجدوا، أو يا هؤلاء اسجدوا. وفيها أربع لغات: "نَعِمَ" على زنة "حَمِدَ" و"عَلِمَ"، وهو الأصل، و"نِعِمَ" بكسر الفاء والعين، و"نَعْمَ" بفتح الفاء، وسكون العين، و"نِعْمَ" بكسر الفاء وسكون العين. وليس ذلك شيئًا يختصّ هذَيْن الفعلَيْن، وإنّما هو عمل في كلّ ما كان على "فَعِلَ" ممّا عينه حرفُ حلق، اسمًا كان أو فعلًا، نحوَ: "فَخِذٍ"، وَ"شَهِدَ"، فإنّه يسوغ فيهما، وفي كلِّ ما كان مثلهما أربعةُ أوجه. والعلّةُ في ذلك أن حرف الحلق يُستثقل إذا كان مستفِلًا وإخراجُه كالتهوّع، فلذلك آثروا التخفيفَ فيه، وكلُ ما كان أشدّ تسفّلًا، كان أكثرَ استثقالًا. فمن قال: "نَعِمَ"، وَ"بَئِسَ"، بكسر العين وفتح الفاء، فقد أتى بهما على الأصل، وقد قرأ: {فَنِعِمَّا هِيَ} (¬2) ابنُ عامر وحمزةُ والكسائيّ (¬3)، والذي يدلّ أن هذا البناء هو الأصل أنه يجوز فيه أربعة أوجه. وذلك إنما يكون فيما كان على "فَعِلَ" ممّا عينه حرف حلق، وأيضًا فإنّه لا يخلو من أن يكون "فَعَلَ"، أو "فَعِلَ"، أو"فَعُلَ"، فلا يكون "فَعَلَ" بالفتح، إذ لو كان مفتوح العين، لم يجز إسكانُه لخفّة الفتحة، ألا ترى أنهم لم يقولوا في نحو "جَبَلٍ"، و"حَمَلٍ": "جَبْلٌ"، و"حَمْلٌ"، كما قالوا: "كَتْفٌ"، و"عَضْدٌ" في "كَتِفٍ"، و"عَضُدٍ"؛ وكسرُ أوّلهما دليلٌ على أنه "فَعِلَ" دون "فَعُلَ" بالضمّ؛ لأنّ الثاني لو كان مضمومًا، لم يجز كسرُ الأوّل؛ لأنه لا كسرةَ بعده. فيكسرَ الأوّل للكسرة التي بعده، وليس في أبنية الثلاثيّ من الأفعال الماضية التي تسمّى فاعلوها، إلّا هذه الأقسام الثلاثة، فصحّ بما ذكرناه أنّه "فَعِلَ" مثلُ "عَلِمَ". ¬
ومن قال. "نِعِمَ" بكسر الفاء والعين، أتبع الكسر الكسرَ؛ لأن الخروج من الشيء إلى مثله أخفّ من الخروج إلى ما يخالفه. ومن ذلك: "مِنتِنٌ"، و"مِنْخِرٌ"، بكسر الميم إتباعًا لِما بعدها. وعليه قراءةُ زيد بن عليّ، والحسن ورُؤْبة: {الْحَمْدِ لِلَّهِ} (¬1) بكسر الدال. ومن قال: "نَعْمَ" بفتح النون وسكون العين، فإنه أسكن العين تخفيفًا، كما قالوا في "كَتِفٍ"، "كَتْفٌ"، وفي "فَخِذٍ": "فَخذٌ". وقد قرأ يحيى بن وثاب {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (¬2). ومنه قول الشاعر [من الطويل]: 1040 - فإنْ أهَجُهُ يَضجَرْ كما ضَجْرَ بازِلٌ ... مِنَ الأُدْمِ دَبْرَتْ صَفْحَتاه وغارِبُهْ أراد: ضَجِرَ، وَدَبِرَتْ، فأسكن تخفيفًا، ومن قال: نِعْمَ بكسر النون وسكون ¬
العين، وهي اللغة الفاشية، فإنه أسكن بعد الإتباع، كما قالوا في "إبِلٍ": "إبْلٌ"، وعليه أكثر القُرّاء. وقد يستعمل "ساءَ" استعمالَ "بِئْسَ" بمعنى الذمّ، فيقال: "ساءَ رجلًا زيدٌ"، كما تقول: "بئس رجلاً زيدٌ"، فيكون في "ساء" ضمير مستتر يفسّره الظاهرُ، كما يكون في "بئس". وهو من "ساءَه الشيءُ يَسُوؤه" ضدُّ "سَرَّه". فإذا نقلته إلى معنَى "بئس"، نقلته إلى "فَعُلَ" بضمّ العين، وصار لازمًا بعد أن كان متعدّيًا، فيصير تقديره: "سَوُءَ"، مثلَ: "فَقُهَ"، و"شَرُف". وإنما قلبت الواو ألفًا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها على حدّ "طال". قال الله تعالى: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} (¬1). وقال قوم: لك أن تذهب بسائر الأفعال إلى مذهب "نعم" و"بئس"، فتُحوّلها إلى "فَعُلَ"، فتقول: "عَلُمَ الرجلُ زيدٌ"، و"جادَ الثوبُ ثوبُه"، و"طَابَ الطعامُ طعامُه". وإذا تعجّبتَ، فهو مثلُ: "نعم الرجلُ زيدٌ" تَمْدَح، وأنت متعجّبٌ، وحكي عن الكسائيّ أنه كان يقول في هذا: "قَضُوَ الرجل"، و"دَعُوَ الرجل"، إذا أجاد القضاء وأحسن الدعاء. قال الله تعالى: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} (¬2)، وقال: {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} (¬3). وكلُّ ما كان من ذلك بمعنى "نعم"، و"بئس"، يجوز نقلُ حركة وسطه إلى أوّله، وإن شئت، تركت أوّلَه على حاله، وسكّنت وسطه، فتقول: "ظُرْفَ الرجلُ زيدٌ"، و"ظَرْفَ الرجلُ زيد"، فمن قال: "ظُرْفَ"، فأصله: "ظَرُفَ" نقل الضمّة إلى الظاء للإيذان بالمراد والأصلِ، ومن قال: "ظَرْفَ" بفتح الظاء، لم ينقل، وتركها على حالها ثقة بدليل الحال، كما قال [من الطويل]: 1041 - فقلتُ اقْتُلُوها عَنْكُمُ بِمِزاجِها ... وحُبّ بها مَقتُولَةٌ حينَ تُقْتَلُ ¬
فصل [أحكام فاعلهما وما بعده]
يروى بفتح الحاء وضمّها. ولا تنتقل حركةُ وسطه إلى أوّله، إلّا إذا كان بمعنى "نعم" و"بئس". فصل [أحكام فاعلهما وما بعده] قال صاحب الكتاب: وفاعلهما إما مظهر معرف باللام، أو مضاف إلى المعرف به، وإما مضمر مميز بنكرة منصوبة. وبعد ذلك اسم مرفوع هو المخصوص بالذم أو المدح. وذلك قولك: نعم الصاحب أو نعم صاحب القوم زيد، وبئس الغلام أو بئس غلام الرجل بِشرٌ، ونعم صاحبا زيدٌ وبئس غلاماً بشر. * * * قال الشارح: قد ثبت بما ذكرناه كونُ "نعم"، و"بئس" فعلَيْن. وإذا كانا فعلين، فلا بدّ لكلّ واحد منهما من فاعل ضرورةَ انعقاد الكلام واستقلالِ الفائدة. وفاعلاهما على ضربَيْن: أحدهما: أن يكون الفاعل اسمًا مظهرًا فيه الألف واللام، أو مضافًا إلى ما فيه الألف واللام. والضرب الآخر: أن يكون مضمرًا، فيفسّر بنكرة منصوبة. مثالُ الأوّل "نعم الرجلُ عبدُ الله"، و"بِئسَتِ المرأةُ هندٌ"، والمضاف إلى ما فيه الألف واللام، نحو: "نعم غلامُ الرجل عمرٌو"، و"بئس صاحبُ المرأة بشرٌ". فالألف واللام هنا لتعريف الجنس، وليست للعهد، إنما هي على حدّ قولك: "أهلَكَ الناسَ الدرهمُ والدينارُ"، و"أخافُ الأسدَ والدُّبَّ". ولست تعني واحدًا من هذا الجنس بعينه، إنما تريد مطلقَ هذا الجنس من نحو قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (¬1). ألا ترى أنه لو أراد معيَّنًا، لَمَا جاز الاستثناء منه ¬
بقوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} (¬1). ولو كان (¬2) للعهد، لم يجز وقوعُه فاعلاً لِـ"نعم"، أو "بئس"، لو قلت: "نعم الرجلُ الذي كان عندنا"، أو "نعم الذي في الدار"، لم يجز. وقول صاحب الكتاب: "وفاعلهما إمّا مظهر معرّف باللام أو مضاف إلى المعرّف به"، يريد تعريف الجنس لا غير؛ وأمّا إطلاقُه فليس بالجيّد. فإن قيل: ولِمَ لا يكون الفاعل إذا كان ظاهرًا إلّا جنسًا؟ قيل: لوجهَيْن: أحدهما: ما يحكى عن الزجّاج أنّهما لمّا وُضعا للمدح العامّ والذمّ الْعامّ؛ جُعل فاعلُهما عامًّا ليُطابِق معناهما، إذ لو جُعل خاصًّا، لكان نقضًا للغرض؛ لأنّ الفعل إذا أسند إلى عامّ، عَمّ، وإذا أسند إلى خاصّ، خَصّ. وقد تقدّم نحو ذلك في الخطبة. الوجه الثاني: أنهم جعلوه جنسًا ليدلّ أن الممدوح والمذموم مستحِق للمدح، والذمّ في ذلك الجنس، فإذا قلت: "نعم الرجلُ زيدٌ"، أعلمت أن زيدًا الممدوح في الرجال من أجل الرُّجُوليّة، وكذلك حكم الذمّ. وإذا قلت: "نعم الظريفُ زيدُ"، دللت بذكر "الظريف" أنّ زيدًا ممدوحٌ في الظراف من أجل الطَّرْف. ولو قلت: "نعم زيدٌ". لم يكن في اللفظ ما يدلّ على المعنى الذي استحقّ به زيدٌ المدحَ؛ لأنّ لفظ "نعم" لا يختصّ بنوع من المدح دون نوع، ولفظُ "زيد" أيضًا لا يدلّ إذ كان اسمًا عَلَمًا وُضع للتفْرِقة بينه وبين غيره، فأسند إلى اسم الجنس ليدلّ أنه ممدوح، أو مذموم في نوع من الأنواع. والمضافُ إلى ما فيه الألف واللام بمنزلةِ ما فيه الألف واللام، يعمل "نعم" و"بئس" فيه كما يعمل في الأوّل، وإنما ذكرنا اسم الجنس، على عادة النحويين إذ كانوا لا يفرقون بين الجنس والنوع؛ لأنهم يقصدون بهما الاحتواء على الأشخاص، وهما في هذا الحكم واحد. الثاني: وهو ما كان فاعله مضمرًا قبل الذكر، فيفسّر بنكرة منصوبة، نحوُ قولك: "نعم رجلًا زيدٌ"، و"بئس غلامًا عمرٌو"، ففي كلّ واحد من "نعم"، و"بئس" فاعلٌ أُضْمر قبل أن يتقدّمه ظاهرٌ، فلزم تفسيرُه بالنكرة؛ ليكون هذا التفسير في تبيِينه بمنزلة تقدم الذكر له. والأصلُ في كلّ مضمر أن يكون بعد الذكر، والمضمرُ ها هنا الرجل في "نعم رجلًا"، و"الغلامُ" في "بئس غلامًا" استُغني عنه بالنكرة المنصوبة التي فسّرتْه؛ لأنّ كل مبهم من الأعداد إنّما يفسّر بالنكرة المنصوبة. ونصبُ النكرة هنا على التمييز، وقيل: على التشبيه بالمفعول؛ لأنّ الفعل فيه ضميرُ فاعل، وإنّما خصّوا بهذا أبوابًا معيّنةً. فإن قيل: فلِمَ خُصَّت "نعم"، و"بئس"، بهذا الإضمار فيهما؟ قيل: لأنّ المضمر قبل الذكر على شريطة التفسير فيه شِبْةٌ من النكرة، إذ كان لا يُفْهَم إلى من يرجع حتى ¬
يُفسَّر. وقد بيّنّا أن "نعم" و"بئس" لا تليهما معرفةٌ محضةٌ، فضارَعَ المضمرُ هنا ما فيه الألف واللام من أسماء الأجناس. فإن قيل: فما الفائدةُ في هذا الإضمار؟ وهلّا اقتصروا على قولهم: "نعم الرجلُ زيدٌ"، قيل: فيه فائدتان: إِحداهما التوسّع في اللغة، والأُخرى التخفيف، فإنّ لفظ النكرة أخفّ ممّا فيه الألف واللام. وقد جاء فاعل "نعم" و"بئس" على غير هذَيْن المذهبَيْن، قالوا: "نعم غلامُ رجلٍ زيدٌ"، فرفعوا بـ"نعم" النكرة المضافة إلى ما لا ألف ولا لام فيه. زعم الأخفش أن بعض العرب يقول ذاك، وأنشد لحسّان بن ثابتٍ، وقيل هو لكَثِير بن عبد الله النَّهشليّ [من البسيط]: 1042 - فنِعْمَ صاحبُ قَومٍ لا سِلاحَ لهم ... وصاحبُ الرَّكْبِ عثمانُ بن عَفّانا قال أبو عليّ: وذلك ليس بالشائع، ولا يجوز ذلك على مذهب سيبويه؛ لأنّ المرفوع بـ"نعيم" و"بئس" لا يكون إلّا دالًا على الجنس، لو قلت: "أهلكَ الناسَ شاةٌ وبعيرٌ"، لم يدلّ على الجنس كما يدلّ عليه الشاة والبعير. ولو نصبت "صاحب قوم" في غير هذا البيت على التفسير، لجاز كما تنصب النكرة المفردة في نحو قولك: "نعم رجلًا"، لكنّه ضعيفٌ ها هنا؛ لعطفك في قولك: "وصاحب الركب عثمان". والمرفوعُ لا يعطف على المنصوب. وكان الذي حسّن ذلك في البيت قوله: "وصاحب الركب"، لمّا عطف عليه ما فيه الألف واللام، دلّ على أنهما في المعطوف عليه مرادُه؛ لأنّ المعنى واحد، فاعرفه. ¬
فصل [الجمع بين فاعلهما وتمييزهما]
فصل [الجمع بين فاعلهما وتمييزهما] قال صاحب الكتاب: وقد يجمع بين الفاعل الظاهر وبين المميز تأكيداً, فيقال نعم الرجل رجلاً زيد. قال جرير [من الوافر]: 1043 - تزود مثل زاد أبيك فينا ... فنعم الزاد زاد أبيك زادا * * * قال الشارح: قد اختلف الأئمّة في هذه المسألة، فمنع سيبويه من ذلك، وأنّه لا يُقال: "نعم الرجلُ رجلًا زيدٌ"، وكذلك السيرافيّ، وأبو بكر بن السرّاج. وأجاز ذلك المبرّد وأبو علي الفارسيّ. واحتجّ في ذلك سيبويه بأن المقصود من المنصوب والمرفوع الدلالة على الجنس، وأحدُهما كافٍ عن الآخر. وأيضًا فإنّ ذلك ربما أوْهَمَ أن الفعل الواحد له فاعلان، وذلك أنك رفعت اسمَ الجنس بأنّه فاعلٌ، وإذا نصبت النكرة بعد ذلك، آذنتَ بأنّ الفعل فيه ضميرُ فاعل, لأنّ النكرة المنصوبة لا تأتي إلّا كذلك. وحجّةُ المبرّد في الجواز الغُلُوُّ في البيان والتأكيدِ. والأوّل أظهرُ، وهو الذي أراه لِما ذكرناه. فأما بيت جرير وهو [من الوافر]: تزوّد مثل ... إلخ ¬
فإنّه أنشده شاهدًا على ما ادّعى من جواز ذلك، فإنّه رفع "الزاد" المعرّف بالألف واللام بأنّه فاعلُ "نعم"، و"زاد أبيك" هو المخصوص بالمدح، و"زادًا" تمييزٌ وتفسيرٌ. والقولُ عليه: إنّا لا نُسلِّم أنّ "زادًا" منصوب بـ"نعم"، وإنما هو مفعول به لـ"تَزَوَّدْ"، والتقدير: تزوّدْ زادًا مثلَ زاد أبيك فينا. فلمّا قدَّم صفتَه عليه، نصبها على الحال. ويجوز أن يكون مصدرًا مؤكّدًّا محذوفَ الزوائد، والمراد: تزوّد تَزَوُّدًا، وهو قول الفرّاء. ويجوز أن يكون "الزاد" تمييزا لقوله: "مثل زاد أبيك فينا"، كما يُقال: "لي مثلُه رجلاً". وعلى تقديرِ أن يكون العامل فيه "نعم"، فإنّ ذلك من ضرورة الشعر، هكذا قال أبو بكر بن السرّاج، وما ثبت للضرورة يتقدّر بقدر الضرورة، ولا يجعل قياسًا. ومثله قول الأسود بن شَعُوب [من الوافر]: 1044 - ذَراني أصْطَبِحْ يا بَكْرُ إنّي ... رأيتُ الموتَ نَقَّبَ عن هِشامِ تَخَيَّرَهُ ولم يَعْدِلْ سِواهُ ... ونِعْمَ المَرْءُ مِن رَجُلٍ تَهامِ ¬
فصل [فاعل "نعم" ومميزه في قوله تعالي: {فنعما هي}]
فقوله: "من رجل تهام" كقوله: "رجلًا"؛ لأنّ "من" تدخل على التمييز، وذلك كلّه من ضرورة الشعر، فاعرفه. فصل [فاعل "نِعْم" ومميزه في قوله تعالي: {فنعمّا هي}] قال صاحب الكتاب: وقوله تعالى: {فنعما هي} (¬1): "نعم" فيه مسند إلى الفاعل المضمر، ومميزه "ما", وهي نكرة لا موصولة ولا موصولة، والتقدير فنعم شيئاً هي. * * * قال الشارح: اعلم أنّ "ما" قد تستعمل نكرةً تامّةً غير موصوفة، ولا موصولة على حدّ دخولها في التعجّب، نحوِ: "ما أحسن زيدًا"، والمراد: "شيءٌ أحسنه"، ولذلك من الاستعمال قد يفسّر بها المضمرُ في باب "نعم"، كما يفسّر بالنكرة المحضة، فيقال: "نعم ما زيدٌ"، أي: "نعم الشيءُ شيئًا زيدٌ". وقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} (¬2)، فـ "ما" هنا بمعنى شيء، وهي نكرة في موضع نصب على التمييز مُبيَّنة للضمير المرتفع بـ"نعم"، والتقدير: "نعم شيئًا هي"، أي: نعم الشيءُ شيئًا هي. فـ "هِيَ" ضميرُ "الصدقات"، وهو المقصود بالمدح. ومثله قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} (¬3)، فـ "ما" في موضع نصب تمييز للمضمر، و"يعظكم به" صفة للمخصوص بالمدح، وهو محذوف، والتقدير: "نعم الشيءُ شيئًا يعظكم به"، أي: نعم الوَعْظُ وعظًا يعظكم به. وحذف الموصوف على حدّ قوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} (¬4) والمعنى: قوم يحرّفون، {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} (¬5)، أي: قوم. وكان الكسائيّ يجيز "نعم الرجلُ يقومُ، وقامَ، وعِنْدَكَ"، والمراد: رجلٌ يقوم، ورجلٌ قام، ورجلٌ عندك. ومنع ابنُ السرّاج من ذلك وأباه، واحتجّ بأن الفعل لا يقوم مقام الاسم، وإنما تُقام الصفاتُ مقام الأسماء لأنها أسماءٌ يدخل عليها ما يدخل على الأسماء، وإن جاء من ذلك شيءٌ، فهو شاذّ عن القياس، فسبيلُه أن يُخفَظ ولا يُقاس عليه. فصل [مذهبا رفع الاسم المخصوص] قال صاحب الكتاب: وفي ارتفاع المخصوص مذهبان: أحدهما أن يكون مبتدأ خبره ما تقدمه من الجملة، كأن الأصل "زيدٌ نعم الرجل" والثاني أن يكون خبر مبتدأ ¬
محذوف تقديره: "نعم الرجل هو زيد", فالأول على كلام والثاني على كلامين. * * * قال الشارح: اعلم أن المخصوص بالمدح أو الذمّ "عبد الله" مَثَلاً من قولك: "نعم الرجلُ عبدُ الله" مرفوع (¬1) وفي ارتفاعه وجهان: أحدهما أن يكون مبتدأ، وما تقدّم من قولك: "نعم الرجل" هو الخبر، وإنّما أُخّر المبتدأ، والأصل: "عبدُ الله نعم الرجلُ"، كما تقول: "مررت به المسكينُ"، تريد: "المسكينُ مررتُ به". وأمّا الراجع إلى المبتدأ، فإن "الرجل" لمّا كان شائعًا ينتظم الجنسَ، كان "عبدُ الله" داخلًا تحته، إذ كان واحدًا منه، فارتبط به. والقصدُ بالعائد ربطُ الجملة التي هي خبرٌ بالمبتدأ؛ ليعلم أنها حديثٌ عنه، فصار دخولُه تحت الجنس بمنزلة الذكر الذي يعود عليه، فأجروا الذكرَ المعنويّ مجرى الذكر اللفظيّ. ومثله قول الشاعر [من الطويل]: 1045 - فأمّا صُدُور لا صدورَ لجَعْفَرٍ ... ولكن أعْجازًا شديدًا ضَرِيرُها (¬2) فالصدور مبتدأ، وقوله: "لا صدورَ لجعفر" جملة في موضع الخبر. ولمّا كان النفي عامًّا شمل "الصدورَ" الأوّلَ، ودخل الأوّلُ تحته، فصار لذلك بمنزلة الذكر العائد. ونحوه قول الآخر [من الطويل]: 1046 - فأمّا القِتالُ لا قِتالَ لَدَيْكُمُ ... ولكنّ سَيْرًا في عِراض المَواكِبِ ¬
فصل [حذف المخصوص]
وإنما أُخّر المبتدأ، وحقّه أن يكون مقدّمًا لأمرَيْن: أحدُهما: أنّه لمّا تضمّن المدحَ العامّ أو الذّمّ، جرى مجرى حروف الاستفهام في دخولها لمعنى زائد. فكما أن حروف الاستفهام متقدّمة، فكذلك ما أشبهها. الأمر الثاني: أنه كلامٌ يجري مجرى المثل، والأمثالُ لا تُغيَّر، وتحمل على ألفاظها، وإن قاربتِ اللَّحْنَ. والوجه الثاني من وجهَي رفع المخصوص أن يكون "عبد الله" في قولك: "نعم الرجلُ عبدُ الله" خبرَ مبتدأ محذوف، كأنّه لمّا قيل: "نعم الرجل"، فُهِمَ منه ثناءٌ على واحد من هذا الجنس، فقيل: "مَن هذا الذي أُثْنِيَ عليه؟ " فقال: عبدُ الله، أي: هو عبد الله. وهذا من المبتدآت التي تُقدَّر ولا تُظهر. فعلى الوجه الأوّل يكون "نعم الرجلُ" له موضعٌ من الإعراب، وهو الرفع بأنّه خبرٌ عن "عبد الله"، ويكون الكلام جملة واحدة من مبتدأ وخبر. وعلى الوجه الآخر يكون جملتَين: جملة أُولَى فعليّة لا موضع لها من الإعراب، وجملة ثانية اسميّة كالمفسْرة للجملة الأولى. وليست إحداهما متعلّقة بالأُخرى تعلُّقَ الخبر كما كانت الأولى كذلك، فالأُولى على كلام واحد، والثانيةُ على كلامَيْن. فصل [حذف المخصوص] قال صاحب الكتاب: وقد يحذف المخصوص إذا كان معلوماً, كقوله تعالى: ¬
فصل [تأنيث الفعل وتثنية فاعلهما وجمعه]
{نعم العبد} (¬1) , أي: "نعم العبد أيوب"، وقوله تعالى: {فنعم الماهدون} (¬2) أي فنعم الماهدون نحن. * * * قال الشارح: الأصل أن يُذْكَر المخصوص بالمدح أو الذمّ للبيان، إلَّا أنه قد يجوز إسقاطه وحذفُه إذا تقدّم ذكره، أو كان في اللفظ ما يدل عليه. وأكثرُ ما جاء في الكتاب العزيز محذوفًا. قال الله تعالى: {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} (¬3)، والمراد: أيُّوبُ عليه السلام، ولم يذكره لتقدّم قصّته. وقال: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} (¬4)، أي: فنعم الماهدون نحن. وقال تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (¬5) أي: نحن. وقال: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ} (¬6)، أي: دارهم. وقال: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} (¬7)، أي: عقباهم. وقد جاء مذكورًا، قال: {بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا} (¬8)، فـ "أن يكفروا" في موضع رفع بأنّه المخصوص بالذمّ، أي: كُفْرُهم. وفي جواز حذفه دلالةٌ على قوةِ مَن اعتقد أنه مرفوع بالابتداء، وما تقدّم الخبر؛ لأن المبتدأ قد يحذف كثيرًا إذا كان في اللفظ ما يدلّ عليه، وأمّا حذف المبتدأ والخبر جميعًا فبعيدٌ، فاعرفه. فصل [تأنيث الفعل وتثنية فاعلهما وجمعه] قال صاحب الكتاب: ويؤنث الفعل ويثنى الاسمان ويجمعان نحو قولك: "نعمت المرأة هند", وإن شئت, قلت: "نعم المرأة". وقالوا: "هذه الدار نعمت البلد"، لما كان البلد الدار كقولهم: "من كانت أمك". وقال ذو الرمة [من البسيط]: 1047 - أو حرة عيطل ثبجاء مجفرة ... دعائم الزور نعمت زورق البلد ¬
وتقول: "نعم الرجلان أخواك"، و"نعم الرجال أخوتك"، و"نعمت المرأتان هند ودعد"، و"نعمت النساء بنات عمك". * * * قال الشارح: اعلم أن "نعم" و"بئس" إذا وَلِيَهما مؤنّثٌ، كنت مخيَّرًا في إلحاق علامة التأنيث بهما وتركِها، فتقول: "نعمتِ الجاريةُ هندٌ"، و"بئستِ الأمَةُ جاريتُك"، وإن شئت قلت: "نعم الجاريةُ هندٌ"، و"بئس الأمَةُ جاريتُك". فإن قيل: فمن أين حسن إسقاطُ علامة التأنيث من "نعم" و"بئس" إذا وليهما مؤنّثٌ، ولم يحسن ذلك في غيرهما من الأفعال؟ قيل: أمّا مَن ألحق علامة التأنيث، فأمرُه ظاهرٌ، وهو الإيذان بأنّه مسند إلى مؤنّثٌ قبل الوصول إليه، كما يكون في سائر الأفعال كذلك، من نحوِ: "قامت هندٌ". ومن أسقطها، فعلّةُ ذلك أن الفاعل هنا جنس، والجنس مذكر. فإذا أُنّث، اعتُبر اللفظ، وإذا ذُكّر، حُمل على المعنى. وعلى هذا تقول: "هذه الدارُ نِعْمَتِ البَلَدُ"، فتؤنّث؛ لأنك تعني دارًا، فهو من العمل على المعنى. ومثله قولهم: "مَن كانت أُمَّك؟ " فتؤنّث ضميرَ "مَنْ"؛ لأنّه في المعنى الأُمُّ؛ فأمّا قوله [من البسيط]: أو حرّة عيطل ... إلخ فالشاهد فيه قوله: "نعمت زورقُ البلد" أنّث الفعل مع أنه مسندٌ إلى مذكّر، وهو "زورق البلد", لأنه يريد به الناقة، فأنّث على المعنى، كما أنّث مع "البلد" في قوله: "نعمت البلدُ" حين أراد به الدار. والحرّةُ: الكريمة، والعيطل: الطويلة العنق، وثَبْجاءُ: عظيمةُ السَّنام، والمجفرة: العظيمة الجنب، يُقال: "فرسٌ مجفرٌ"، و"ناقة مجفرةٌ" إذا كانت عريضة المَحْزِم، ودعائمُ الزَّوْر: قوائمها، وصفها بأنّها عظيمة القوائم، وكنى عن ذلك بدعائم الزور. والزورُ: أعلى الصدر. وانتصب "دعائم الزور" على التشبيه بالمفعول ¬
فصل [مطابقة المخصوص والفاعل]
به، فهو من باب "الحَسَنُ الوجهَ". وقيل: انتصابه على التمييز، وهو ضعيف؛ لأنه معرفة، والتمييزُ لا يكون معرفة. وقيل: إنما حسن إسقاطُ علامة التأنيث من "نعم" و"بئس"، إذا وليهما المؤنّثُ من قبل أن المرفوع بهما جنس شامل، فجرى مجرى الجمع. والفعلُ إذا وقع بعده جماعةُ المؤنّث، جاز تذكيرُ الفعل كقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ} (¬1)، فصار قولك: "نعم المرأةُ" بمنزلةِ "نعم النساءُ"، فلهذا حسن التذكير في هذين الفعلين، ولم يحسن في غيرهما من الأفعال. وتقول: "نعم الرجلان أخواك"، و"نعم الرجالُ إخْوَتُك"، فالرجلان فاعلُ "نعم"، وهو جنسٌ. وليست الألف واللام للعهد، والمراد: نعم هذا الجنسُ إذا مُيزوا اثنين اثنين، ونعم هذا الجنس إذا ميزوا جماعة جماعة. وكذلك تقول: "نعمت المرأتان هندٌ ودعدٌ"، و"نعمت النساءُ بناتُ عَمّك". وإذا قلت: "نعم رجلَيْن"، أو"نعم رجالاً"، كان منصوبًا على التمييز، والفاعلُ مضمر كقولك: "نعم رجلاً". وهذا إنما يُصْلِحه ويُفْسِده التقديرُ والاعتقادُ، فإن اعتُقد في الألف واللام العهدُ، امتنع ذلك؛ لأن فاعلَ "نعم" و"بئس" لا يكون خاصًّا، وإن اعتقد فيهما الجنس والشمول، جاز. وعلى ذلك تقول: "نعم العُمَرُ عمرُ بن الخَطاب"، و"بئس الحَجّاجُ حجّاجُ بن يوسف"، تجعل "العمر" جنسًا لكل من له هذا الاسمُ، وكذلك "الحجاج"، فاعرفه. فصل [مطابقة المخصوص والفاعل] قال صاحب الكتاب: ومن حق المخصوص أن يجانس الفاعل. وقوله عز وجل: {ساء مثلاً القوم الذين كذبوا بآياتنا} (¬2) على حذف المضاف, أي ساء مثلاً مثل القوم. ونحوه قوله تعالى: {بئس مثل القوم الذين كذبوا} (¬3) ,أي مثل الذين كذبوا, ورئي أن يكون محل "الذين" مجروراً صفة للقوم، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً، أي بئس مثل القوم المكذبين مثلهم. * * * قال الشارح: حقُّ المخصوص بالمدح أو الذّم أن يكون من جنس فاعله؛ لأنه إذا لم يكن من جنسه، لم يكن به تعلق، والمخصوصُ إمّا أن يكون مبتدأ وما قبله الخبر، فيلزم أن يكون من جنسه ليدل عليه بعُمُومه، ويكون دخولُه تحته بمنزلة الذكْر الراجع إليه، وإما أن يكون خبرَ مبتدأ محذوف، فيكون كالتفسير للفاعل. وإذا لم يكن من ¬
فصل [أحكام "حبذا"]
جنسه، لم يصح أن يكون تفسيرًا له مع أن المراد بـ "نعم الرجلُ زيدٌ" أنه محمودٌ في جنسه. وإذا قلت: "بئس الرجلُ خالدٌ"، كان المراد به أنه مذموم في جنسه. وإذا كان كذلك، لم يكن بد من حذف المضاف في قوله: {سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ} (¬1)، أي: مَثَلُ القوم، فحذف المضاف، وأُقيم المضاف إليه مقامه، وذلك أن "ساءَ" ها هنا بمعنى "بئس"، وفيها ضميرٌ فسّره "مثلاً"، فيلزم أن يكون المخصوصُ بالذم من الأمثال، وليس القوم بمَثَل، فوجب أن يكون هناك مضاف محذوف. والتقديُر: ساء مثلاً مثلُ القوم، فيكون المخصوصُ من جنس المرفوع. فأما قوله تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا} (¬2) فيجوز أن يكون "الذين" هو المخصوص بالذمّ، وأن يكون في موضع رفع. ولا بدّ من تقديرِ مضاف محذوف، معناه: مَثَلُ الذين كذّبوا، ثمّ حذف المضاف، كما تقدّم في الآية المتقدّمة. ويجوز أن يكون "الذين" صفةً للقوم، ويكون في موضعِ خفض، والمخصوصُ محذوف تقديره: بئس مَثَلُ المُكذبين مَثَلُهم. فصل [أحكام "حبَّذا"] قال صاحب الكتاب: و"حبذا" مما يناسب هذا الباب. ومعنى "حب": صار محبوباً جداً, وفيه لغتان: فتح الحاء وضمها. وعليها روي قوله [من الطويل]: وحُبَّ بها مقتولة حين تقتل (¬3) وأصله حبب، وهو مسندٌ إلى اسم الإشارة، إلا أنهما جريا بعد التركيب مجرى الأمثال التي لا تغير، فلم يضم أول الفعل، ولا وضع موضع ذا غيره من أسماء الإشارة، بل التزمت فيهما طريقة واحدة. * * * قال الشارح: اعلم أن "حَبَّذَا" تُقارِب في المعنى "نِعْمَ"؛ لأنها للمدح كما أن "نعم" كذلك، إلَّا أنَّ "حبّذَا" تفضُلها بأنّ فيها تقريبًا للمذكور من القَلْب، وليس كذلك "نعم"، و"حبّذا"، مركّبةٌ من فعلٍ وفاعلٍ، فالفعلُ "حَبَّ" وهو من المضاعف الذي عينه ولامه من واد واحد، وفيه لغتان: "حَبَبْتُ"، و"أحْبَبْتُ". و"أحببت" أكثرُ في الاستعمال، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (¬4)، فهذا مِن "أحَبَّ". وقال سبحانه: {هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ} (¬5). وقال عليه السلام: "مَن أحبّ لِقاءَ الله أحبّ اللهُ ¬
لقاءَه" (¬1)، وقال: "أحْبِبْ حَبِيبَك هَونًا ما" (¬2)، فأمّا "حببت" فمتعدٍّ في الأصل، ووزنه "فَعَلَ" بفتح العين. قال الشاعر [من الطويل]: 1048 - فَواللهِ لولا تَمْرُه ما حَبَبتُه ... ولوكان أدْنَى من عُبَيْدٍ ومِشْرَقِ فإذا أُريد به المدح، نُقل إلى "فَعُلَ" على ما تقدّم فتقول. "حُبَّ زيدٌ"، أي: صار محبوبًا، ومنه قوله [من الطويل]: وَحُبَّ بها مَقتُولَةَ حِينَ تُقْتَلُ فضمُّ الفاء منه دليل على ما قلناه، وكذلك قول الآخر [من الكامل]: 1049 - هَجَرَت غَضُوبُ وَحُبَّ مَن يتجنّبُ ... [وَعَدَت عواد دونَ وَليك تشْعَبُ] ¬
وقد ذهب الفراء إلى أنّ "حَبَّ" أصله "حَبُبَ" على وزن "فَعُلَ" مضمومَ العين كَـ "كرُمَ"، واستدلّ بقولهم: "حَبِيبٌ"، و"فَعِيلٌ"، بابُه (¬1) "فَعُلَ" كـ "ظريف" من "ظُرف"، و"كريم"، من "كرُم". والصواب ما ذكرناه؛ لأنه قد جاء متعدّيًا، و"فَعُلَ" لا يكون متعدّيًا. فأمّا قولهم: "حَبِيبٌ"، فلا دليلَ فيه, لأنه هنا مفعول، فـ "حبيبٌ" و"محبوبٌ" وا حد، فهو كـ "جريح" و"قتيل"، بمعنى "مجروح"، و"مقتول". و"حبيب" مِن "حبّ" إذا اْريد به المدح فاعلٌ كـ "ظريفٍ"، و"حبّ" فعل متصرّف، لقوله منه: "حَبَّهُ يَحِبّه" بالكسر. وهو من الشاذّ؛ لأن "فَعَلَ" إذا كان مضاعفًا متعدّيًا، فمضارعُه "يفعُل" بالضمّ، نحوُ: "رَدَّه يَرُدّه"، و"شَدَّه يشُدّه". وقالوا في المفعول: "محبوبٌ"، وقيل "حابٌّ" وكثُر "مُحِبٌّ" في اسم الفاعل، وقيل "مُحَبٌّ" (¬2). ولمّا نُقل إلى "فَعُلَ" لأجل المدح والمبالغة كما قالوا: "قَضوَ الرجلُ"، و"رَمو" إذا حذق القضاء , وأجاد الرمي, منع التصرف؛ لمضارعته بما فيه من المبالغة والمدح باب التعجب. و"نعم", و"بئس", و"حبّذا", لزم طريقة واحدة, وهو لفظ الماضي. وفاعله "ذَا"، وهو من أسماء الإشارة يستعمل هنا مجرّدًا من حرف التنبيه؛ وذلك لأنهم لما ركبوا الفعل والفاعل، وجعلوهما شيئًا واحدًا، لم يأتوا بحرف التنبيه؛ لئلّا تفسير ثلاثة أشياء بمنزلة شيء واحد، وليس ذلك من كلامهم، وجعلوا ذلك الاسم مفردًا مذكّرًا إذ كان المفرد أخفَّ، والمذكر قبل المؤنّث، فهو كالأصل له، فلذلك تقول: ¬
"حبّذا زيد"، و"حبّذا هندٌ"، و"حبّذا الزيدان"، و"حبّذا الزيدون". ولا يُقال: "حَبَّذِهِ" في المؤنّث، ولا "حَبَّذِي". قال الشاعر [من الرجز]: 1050 - يا حبّذا القَمْراءُ والليلُ الساجْ ... وطُرُقٌ مِثْلُ مُلاءِ النَّسّاجْ وقال آخر [من البسيط]: 1051 - لا حبّذا أنْتِ يا صَنْعَاءُ من بَلَدٍ ... ولا شَعُوبُ هَوًى منّي ولا نُقُمُ ¬
وذلك من قبل أن "حبّذا" لمّا رُكّب الفعل فيه مع الفاعل، لم يجز تأنيث الفعل، ولا تثنيته، ولا جمعه؛ لأنه قد صار في منزلةِ بعض الكلمة، وبعضُ الكلمة لا يجوز فيه شيء من ذلك. والذي يدل أنهما بُنيا، وجُعلا شيئًا واحدًا، أنه لا يجوز أن يفصل بين الفعل فيه وبين "ذَا" بشيء، ولا يُقال: "حَبَّ في الدار ذَا"، ولا "حَبَّ اليومَ ذا". فإن قيل: لِمَ خُصّ "حبّ" بالتركيب مع "ذا" من بين سائر الأسماء؟ قيل: لأن "ذا" اسم مبهم يُنْعَت بالأجناس، وحكمُ "حبّ" هنا كحكمٍ "نعم"، فركبوه مع "ذا" لينوب عن أسماء الأجناس، إذ لا يُنْعَت إلَّا بها، والنعتُ والمَنعوتُ شيء واحد أيضًا، فإن "ذَا" مبهم، فصار بمنزلة المضمر في "نعم"؛ ولذلك فُسّر بالنكرة كما يفسّر في "نعم"، فتقول: "حبّذا رجلًا"، كما تقول: "نعم رجلًا"، فقياسهما واحدٌ. فلمّا صار "حبّذا" في الحكم كلمة واحدة؛ غلّب عليها بعضُهم جانبَ الاسمية، واعتقدوا أنه اسمٌ له موضع من الإعراب. وموضعُه هنا رفعٌ بالابتداء وما بعده من الاسم المرفوع الخبرُ. وليس في العربّية فعلٌ وفاعلٌ جُعلا في موضعِ مبتدأ إلَّا "حبّذا"، لا غير. فإن قيل: ولِمَ غلّب هؤلاء معنى الاسمية فيه؟ قيل: لأن الاسم أقوى من الفعل، والفعلُ أضعف، فلمّا رُكّبا، وجُعلا شيئًا واحدًا، غُلّب جانب الاسم لقوّته وضُعْف الفعل، واستدلّوا على اسميّته بكثرة نحوِ قولهم: "يا حبّذا". قال الشاعر [من البسيط]: 1052 - يا حبّذا جَبَلُ الرَّيانِ مِن جَبَلٍ ... وحبّذا ساكِنُ الرّيانِ مَن كانا وقال الآخر [من الرجز]: يا حبّذا القَمْراءُ والليلُ الساجْ ... وطُرُقٌ مِثلُ مُلاءِ النَّسّاجْ (¬1) وهو كثير. ¬
ومنهم من غلّب جانب الفعل، ويجعل الاسم كالمُلْغَى، ويرفع الاسمَ بعده رَفْعَ الفاعل، فإذا قلت: "حبّذا زيدٌ"، فـ "حبّذا" فعلٌ، و"زيد" فاعل، و"ذَا" لَغْوٌ. وإنما غلّبوا جانبَ الفعل هنا؛ لأنه أسبقُ لفظًا. ويدلّ على ذلك أنهم قد صرفوه، فقالوا: "لا يُحَبِّذُهُ بما لا ينفعه". والأوّلُ أمثل. وقولهم: "لا يحبّذه"، كأنهم اشتقوا فعلًا من لفظ الجملة، كقولهم: "حَمْدَلَ" في حكايةِ "الحمدُ لله"، و"سَبْحَلَ" في حكايته "سبحانَ الله"، فهذان وجهان عربيان كما ترى. ومنهم من لا يغلّب أحدهما على الآخر، ويُجْريهما على ظاهرهما، وهو المذهب المشهور، فيجريهما مجرى "نعم"، و"بئس"، ويكون "حَبَّ" فعلًا ماضيًا، و"ذَا" فاعلٌ في موضعِ رفع، والاسمُ الأخير يرتفع من حيث يرتفع بعد "نعم" من الوجهَيْن المذكورَيْن، فيكون "زيد" مَثَلا من قولك: "حبّذا زيدٌ" إمّا مبتدأ، و"حبّذا" الخبر، كما كانت في "نعم" كذلك، وإمّا أن يكون في موضعِ خبرِ مبتدأ محذوف، أي: هو زيدٌ. ويُضاف إليه الوجوه التي ذكرناها، وهو أن يكون خبرَ "حبذا" على رأيِ من يجعل "حبّذا" مبتدأ، وأن يكون فاعلاً على رأيِ من يجعل "حبّذا" فعلًا، ويُلْغِي الاسم الذي هو"ذا"، وأن يكون بدلًا من "ذا"، فقد صار ارتفاع "زيدٍ" في قولك: "حبّذا زيدٌ" من خمسة أوجه. وقوله: "حبّذا ممّا يُناسِب هذا البابَ" يعني بابَ "نعم" و"بئس"؛ لِما فيها من معنى المدح والمبالغة. وقوله: "وفيه لغتان: فتح الفاء، وضمّها" يعني "حبّ" إذا أُريد بها المدح من غير إسنادها إلى "ذا"، وذلك أنك إذا قلت: "حبّ رجلًا"، فمعناه: صار محبوبًا جدًّا، وأصله "حَبُبَ" مضمومَ الباء؛ لأنه منقول من "حَبَبَ" مفتوحَ الباء لِما أُريد فيه من المبالغة على ما ذكرناه في قوله تعالى: {سَاءَ مَثَلًا} (¬1)، حين أُريد به المبالغة في الذمّ، وإجرائه مجرَى "بئس"، إلَّا أنّ منهم من ينقل حركة العين إلى الفاء عند الإدّغام إيذانًا بالأصل. ومنهم من يحذف الضمّ حذفًا، ويُبْقِي الفاء مفتوحةً بحالها، وعليه قوله [من الطويل]: فقلتُ اقْتُلُوها عَنْكُمُ بمزاجها ... وحُبَّ بها مقتولةٌ حينَ تُقْتَلُ (¬2) البيت لحسّان (¬3)، والشاهد فيه قوله: "وحبّ بها مقتولة"، فإنّه قد رُوي بفتح الحاء وضمّها, لمِا ذكرناه، يصف الخَمْر. فأمّا إذا رُكّبت مع "ذا"؛ فإنّ الحاء لا تكون إلَّا مفتوحة, لأنه لمّا أسند إلى "ذا"، ولزم المعنى، جرى مجرى الأمثال، فلم تُغيَّر الأمثالُ، ¬
بل يُؤْتَى بها على لفظها، وإن قارَبَتِ اللَّحْنَ، نحوَ قولهم: "الصَّيْفَ ضَيَّعْتِ اللَّبَنَ" (¬1)، تقوله للمذكر بكسر التاء على التأنيث؛ لأن أصله للمؤنّث، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وهذا الاسم في مثل إبهام الضمير في "نعم"، ومن ثم فسر بما فُسّر به، فقيل: "حبذا رجلاً زيدٌ" كما يقال: "نعم رجلاً زيدٌ", غير أن الظاهر فضل على المضمر بأن استغنوا معه عن المفسر، فقيل: "حبّذا زيدٌ" ولم يقولوا: "نعم زيدٌ"، ولأنه كان لا ينفصل المخصوص عن الفاعل في "نعم", وينفصل في "حبذا". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن "ذا" من "حبّذا" يجري مجرى الجنس من حيث إنها اسمٌ ظاهرٌ، يكون وُصْلَة إلى أسماء الأجناس، ولذلك لا يوصف إلَّا بها. ومجرى المضمر في "نعم" من جهة إبهامه ووقوعِه على كل شيء كما كان المضمر على شريطة التفسير كذلك، ولذلك فُسِّر بالنكرة، فقيل: "حبّذا رجلًا"، كما تقول: "نعم رجلًا"، إلَّا أنه في "حبّذا" يجوز أن لا تأتي بالمفسِّر، وتقول: "حبّذا زيدٌ"، ولا يجوز ذلك في "نعم"، فلا تقول: "نعم زيدٌ". وذلك لأن "ذا" اسمٌ ظاهرٌ يجري مجرى ما فيه الألف واللام من أسماء الأجناس على ما ذكرنا، فاستغنى عن المفسِّىر لذلك، فكما تقول: "نعم الرجلُ زيدٌ"، ولا تأتي بمفسِّرٍ، كذلك تقول: "حبّذا زيدٌ"، ولا تقول: "نعم زيدٌ". وأيضًا فإنّه ربّما ألبَسَ في "نعم" لو قيل (¬2)، ولا يُلْبِس في "حبّذا". وذلك أنّ "حَبَّ" فعلٌ عمل في "ذا" واستوفى ما يقتضيه، فإذا وقع بعده المخصوص بالمدح مرفوعًا، لا يُشْكِل بأن يُتوهّم أنه فاعل؛ لأن الفعل لا يكون له فاعلان، وليست "نِعُم" كذلك؛ لأن فاعلها مستترٌ لا يظهر، فافتقر إلى تفسير. فلو لم تأتِ بالمفسّر، وأوليتَه المخصوص بالمدح مرفوعًا؛ لجاز أن يظنّ ظانٌّ أنه فاعلُ "نعم"، وأنّه ليس في "نعم" فاعلٌ. وهذا معنى قوله: "ولأنه كان لا ينفصل المخصوص عن الفاعل"، يعني في "نعم"، فاعرفه. ¬
فعلا التعجب
ومن أصناف الفعل فعلا التعجُّب فصل قال صاحب الكتاب: هما نحو قولك: "ما أكرم زيدًا! "، و"أكرم بزيدٍ! ". ولا يُبنيان إلا مما يبنى منه أفعل التفضيل, ويتوصل إلى التعجب مما لا يجوز بناؤهما منه بمثل ما يُتوصل بها إلى التفضيل، إلا ما شذ من نحو: "ما أعطاه", و"ما أولاه للمعروف! " ومن نحو: "ما أشهاها! " و"ما أمقته! ". وذكر سيبوبه (¬1) أنهم لا يقولون: "ما أقيله" استغناء عنه بـ "ما أكثر قائلته! " كما استغنوا بـ "تركت" عن "وذرت". * * * قال الشارح: اعلم أن التعجّب معنًى يحصل عند المتعجِّب عند مشاهدةِ ما يُجْهَل سببُه، ويقل في العادة وجودُ مثله. وذلك المعنى كالدَّهَش والحَيْرة. مثالُ ذلك أنّا لو رأينا طائرًا يطير، لم نتعجّب منه لجَرْي العادة بذلك، ولو طار غيرُ ذي جناح، لوقع التعجُّب منه؛ لأنه خرج عن العادة، وخفي سببُ الطيَران، ولهذا المعنى لا يصحّ التعجّب من القديم سبحانه, لأنه عالمٌ لا يخفى عليه شيء. فأمّا قراءةُ من قرأ: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ} (¬2) بضمّ التاء، فتأوّلُه على ردّ الضمير إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، أي: قُلْ: "بل عجبت ويسخرون"، أو أنه أُخرج مخرج العادة في استعمال المخلوقين تعظيمًا لأمره وتفخيمًا له. وإتما قال: "فِعْلا التعجّب" بلفظ التثنية، والتعجّبُ معنًى واحدٌ، لأنَّه يكون بلفظَين: أحدُهما "أَفْعَلَ"، ويُبْنَى على الفتح لأنه ماض، نحوُ: "أكرم"، و"أخرج"، والثاني: "أفْعِل"، ويبنى على الوقف، لأنه على لفظ الأمر. فأمّا الضرب الأول، وهو "أفْعَلَ"، فلا بدّ أن يلزمه "ما" من أوّله، فتقول: "ما ¬
أحسن زيدًا! " و"ما أجمل خالدًا! " وهي جملة مركّبة من مبتدأ وخبر، فـ "ما" اسمٌ مبتدأٌ في موضع رفع، وهي هنا اسم غير موصول، ولا موصوف بمعنى "شَيْء"، كأنّك قلت: "شيءٌ حسن زيدًا"، ولم تُرِد شيئًا بعينه، إنما هي مبهمة، كما قالوا: "شيءٌ جاء بك"، أي: ما جاء بك إلَّا شيءٌ، ونحوَ قوله تعالى: {فَنِعِمَّا هِيَ} (¬1)، أي: نعم شيئًا هي. ولمّا أُريد بها الإبهام، جُعلت بغير صلة، ولا صفة، إذ لو وُصفتْ، أو وُصلتْ، لكان الأمر معلومًا. فإن قيل: ولِمَ خصّوا التعجّبَ بـ "ما" دون غيرها من الأسماء؟ قيل: لإبهامها، والشيءُ إذا أبهم، كان أفخم لمعناه، وكانت النفس متشوفةً إليه، لاحتماله أُمورًا. فإن قيل: فإذا قلتم: إِن تقديرَ "ما أحسن زيدًا" "شيءٌ أحسنه، وأصاره إلى الحسن"، فهلا استعمل الأصل الذي هو"شيْءٌ"؟ فالجواب: أنه لو قيل: "شيءٌ أحسن"، لم يُفْهَم منه التعجّب؛ لأن "شَيْئا"، وإن كان فيه إبهامٌ، إلَّا أن "ما" أشد إبهامًا، والمتعجَّبُ مُغظِمٌ للأمر، فإذا قال: "ما أحسن زيدًا! " فقد جعل الأشياءَ التي يقع بها الحسنُ متكاملِة فيه. ولو قال: "شيء أحسن زيدًا"، كان قد قصر حسنَه على جهة دون سائر جهات الحسن؛ لأن الشيء قد يستعمل للقليل. وأمّا "أفْعَلَ" في التعجّب، ففعلٌ ماضٍ غيرُ متصرّف، لا يستعمل إلَّا بلفظ الماضي، ولا يكون منه مضارعٌ، ولا أمرٌ، ولا اسمُ فاعل، فلا تقول في "ما أحسن زيدًا": "ما يُحْسِن زيدًا"، ولا نحوَه من أنواع التصرّف. وقد خالف الكوفيون (¬2) في ذلك، وزعموا أنّ "أفْعَلَ" في التعجّب بمنزلةِ "أفعل" في التفضيل، واحتجوا بجواز تصغيره نحوِ قوله [من البسيط]: يا ما أُمَيْلِحَ غِزلانًا شَدَنَّ لنا ... مِن هؤُلَيائِكُنَّ الضالِ والسَّمُرِ (¬3) والأفعال لا يصغر شيء منها. قالوا: وأيضًا فإنّه تصح عينُه في التعجّب، نحوَ: "ما أقْوَلَهُ! " و"ما أبْيَعَهُ! " وهذا التصحيح إنما يكون في الأسماء، نحوِ: "زيدٌ أقْوَمُ من عمرو، وأبْيَعُ منه". ولو كان فعلًا، لاعتلّ بقلب عينه ألفًا، نحوَ: "أقال"، و"أباع". والحقُّ ما ذهب إليه البصريون، وذلك لأُمور، منها أنه قد يدخل عليها نونُ الوقاية، نحو: "ما أحْسَنَنِي عندك! " و"ما أظرفني في عينك! " و"ما أعلمني في ظنك! " ونونُ الوقاية إنما تدخل على الفعل، لا على الاسم، فتقول: "أعْلَمَني"، ولا تقول: "مُعْلِمُنِي"، وتقول: "ضَرَبَني", ولا تقول: "ضارِبُني". ¬
فإن قلت: "فقد جاء ضارِبُني". قال [من البسيط]: 1053 - [ألا فتى مِن بني ذبيانَ يحملني] ... وليس حاملُني إلَّا ابنَ حَمّال فقليلٌ من الشاذ الذي لم يُلتفت إليه، مع أن الرواية الصحيحة: "وليس يَحْمِلُني". وأمْا قولهم: "قَدْني"، و"قَطْني"، فشاذّ أيضًا، مع أنهم قد قالوا: "قَدِي" من غير نون. قال [من الرجز]: قَدْنِيَ مِن نَصْرِ الخُبَيْبَيْنِ قَدِي (¬1) ولم يقولوا في التعجّب: "ما أحسَنِي"، فافترق الحال فيهما. والذي حسّن دخول نون الوقاية في "قدني"، و"قطني"، كونُهما أمرًا في معنى "اكْتَفِ"، و"اقْطَعْ". الأمر الثاني: أنه ينصب المعارفَ والنكراتِ، نحوَ قولك: "ما أحسن زيدًا! "، و"ما أجمل غلامًا اشتريته! ". و"أفْعَلُ"، إذا كان اسمًا، لا ينصب إلَّا نكرة على التمييز، نحوَ: "زيدٌ أكثرُ منك مالًا وأكرم منك أبًا". ولو قلت: "زيدٌ أكثرُ منك المالَ والعلمَ"، لم يجز. ولمّا جاز "ما أكثرَ عِلْمَه! " و"ما أكبرَ سِنَّه! " دل على ما قلنا من أنه فعلٌ. الأمر الثالث: أنه مبني على الفتح من غير مُوجِب دل على ما قلناه. وأمّا الجواب عمّا تَعلّق به الكوفيون: أمّا عدمُ التصرّف، فلا يدل على اسميته؛ لأنّ ثمَّ أفعالًا لا رَيبَ فيها، وهي غير متصرّفة، نحوُ: "عَسَى"، و"لَيْسَ". والذي منع فعلَ التعجّب من التصرّف أنه تَضمّن ما ليس له في الأصل، وهو الدلالة على معنى زائدٍ على معنى الفعل، وهو التعجّب. والأصلُ في إفادة المعاني إنما هو الحروفُ، فلمّا أفاد فائدة الحروف؛ جمد جمودَها، وجرى في امتناع التصرّف مجراها. ¬
ووجة ثانٍ أن المضارع يحتمل زمانَيْن الحال والاستقبال، والتعجّبُ إنما يكون ممّا هو موجودٌ مشاهَدٌ، والماضي قد يُتعجّب منه؛ لأنه شيءٌ قد وُجد، وقد يتَّصل آخِرُه بأوّل الحال، ولذلك جاز أن يقع حالًا إذ اقترن به. فلو استُعمل لفظُ المضارع، لم يُعْلَم التعجّب ممّا وقع من الزمانَيْن، فيصير اليقين شكًّا. وأمّا التصغير فإنما دخله - وإن كانت الأفعالُ لا تُصغَّر- من قبل أنه مُشابِهٌ للاسم من حيث لزم طريقةً واحدةً، وامتنع من التصرّف، وكان في المعنى "زيدٌ أحسنُ من غيره"، فلذلك من الشبَه حُمل عليه في التصغير. فإن قيل: ولِم اختصّ هذا الفعل ببناءِ "أفْعَلَ"؟ فالجواب لأنه منقول من الفعل الثلاثي للتعدية، فهو بمنزلةِ "ذَهَبَ"، و"أذهبتُه". فإذا قلت: "ما أحسن زيدًا! " فأصلُه: حَسُنَ زيدٌ، فأردت الإخبارَ بأن شيئًا جعله حسنًا، فنقلتَه بالهمزة، كما تقول في غير التعجّب: "زيدٌ أحسنَ عمرًا"، إذا أخبرت أنه فعل به ذلك. ولا يكون هذا الفعل إلَّا من الأفعال الثلاثية، نحوِ: "ضرب"، و"علِم"، و"ظرُف". فإذا تعجّبتَ منها، قلت: "ما أضرَبَهُ! " و"ما أعلمه! "، و"ما أظرفه! " لا يكون الفعل إلَّا من الثلاثة. فإن قيل: إذا زعمتم أن هذه همزةُ التعدية، وهمزةُ التعدية أبدًا تزيد مفعولًا، وأنتَ في التعجّب إذا قلت: "ما أضربَ زيدًا"، فما زاد تعدية؛ لأنه بعد النقل يتعدّى إلى مفعول واحد على ما كان عليه قبل النقل، بل إذا قلت: "ما أعلم زيدًا! " فإنّه ينقص بهذا التعدّي؛ لأنه قبل التعجّب قد كان ممّا يتعدّى إلى مفعولَيْن، وفي التعجّب صار يتعدّى إلى مفعول واحد لا غير، فما بالُ ذلك كذلك؟ فالجواب أن التعجّب بابُ مبالغةِ مدحٍ أو ذمٍّ، وذلك لا يكون إلَّا بعد تكرُّر ذلك الفعل منه حتى يصير كالطبيعة والغريزة، فحينئذ تنقله في التقدير إلى "فَعُلَ" بالضم، فيصير "ضَرُبَ"، و"عَلُمَ"، كما قالوا: "قَضُوَ الرجلُ"، و"رَمُوَ" حين اْرادوا المدح والمبالغة، وهذا البناء لا يكون متعدّيًا. فإذا أُريد التعجّب منه، نقلوه بالهمزة، فيتعدّى حينئذ إلى مفعول واحد؛ لأنه قبل النقل كان غير متعدّ. فإن قيل: ولِمَ لا يكون هذا النقل إلَّا من فعل ثلاثي، ولا يكون ممّا زاد على الثلاثي؟ قيل: النقل في التعجّب كالنقل في غير التعجّب بزيادة الهمزة في أوّل الثلاثي، نحوِ: "دخل زيد الدارَ"، و"أدْخَلَهُ غيرُه"، و"حسُن زيد"، و"أحسنه اللهُ"، فجروا في ذلك على عادة استعمالهم. وأيضًا فإن فعل التعجّب محمول على "أفْعَلَ" في التفضيل؛ لأن مجراهما واحدٌ في المبالغة والتفضيل، و"أفْعَل" هذا لا يكون إلَّا من الثلاثة، نحوَ قولك: "زيدٌ أفضل، وأكرم، وأعلم". ولذلك قال صاحب الكتاب: "لا يُبْنَى إلَّا ممّا يبنى منه أفعلُ التفضيل".
وجملة الأمران الأفعال التي لا يجوز أن تستعمل في التعجّب على ضربَيْن: أحدهما: ما زاد سواءٌ كانت الزيادةُ على الثلاثة أصلًا، أو غير أصل، والآخرُ الأفعال المشتقة من الألوان والعيوب؛ لأن فعلها زائد على الثلاثة أصلًا، وغيرَ أصل. فلو زِدْتَ عليه همزة التعدّي، لخرج عن بناءِ "أفْعَلَ". وقد قالوا: "ما أعطاه الدرهمَ، وأوْلاه للخير! " فهذا ونحوه مقصور على السماع عند سيبويه لا يُجيز منه إلَّا ما تكلّمت به العربُ. فالتعجّبُ مِن "فَعَلَ" قياسٌ مطردٌ، ومن "أفْعَلَ" مسموعٌ لا يُجاوز ما ورد عن العرب. وزعم الأخفش: أن ذلك في في فعل ثلاثي دخلته زوائدُ كـ "استفعل"، و"افعل"، و"انفعل"؛ لأن أصلها ثلاثة أحرف، وقاسَه على "ما أعطاه"، و"ما أولاه" كأنه يحذف الزوائد، ويردّه على الثلاثة. وتابَعَه أبو العبّاس المبرد على ذلك، وأجازه. وذلك ضعيف؛ لأن العرب لم تقل: "ما أعطاه" إلَّا والفعل للمُعْطِي؛ لأنه منقول من "عَطَوْتُ"، و"عطوت" للآخِذ. قال امرؤ القيس [من الطويل]: وَتَعْطُو برَخْصٍ غيرِ شَثْنٍ كأنّه ... أساريعُ ظَبْيٍ أو مَساوِيكُ إسْحِلِ (¬1) وكذلك: "ما أوْلاه! " إنما هو للمُولِي لا لمن وَلِيَ شيئًا. وإنما ساغ ذلك في "أفعل" عند سيبويه دون غيره من الأبنية المَزيد فيها، لأن "أفعل" أمرُه ظاهرٌ، فلولا ظهور المعنى وعدم اللبس، لَمَا ساغ التعجّب منه. وأمّا غيره من الأفعال المزيد فيها من نحو "اقتطع"، و"انقطع"، و"استقطع"، فلو تعجّبنا بشيء منها بحذف الزيادة، لم يُعْلَم أيَّ المعاني نريد. وكذلك لو وقع التعجّبُ من "اضطرب"، وقيل: "ما أضْرَبَهُ! " لم يعلم: أضاربٌ هو أم مضطرِبٌ في نفسه. وأمّا الألوان والعيوب فنحوُ الأبيض والأصفر والأحول والأحور، فلا يُقال: "ما أبْيَضَ هذا الطائرَ! " ولا "ما أصفره! " إذا أُريد البياض والصُّفْرة، فإن أُريد كثرة البَيْض والصَّفِير، جاز. وكذلك لا تقول: "ما أسْوَدَ فلانًا! " من "السواد" الذي هو اللون، فإن أردت السُّود جاز. وكذلك "ما أحمره" إِن أردت الحُمْرة، لم يجز، وإن أردت البَلادة، جاز. وذلك لأن أفعالها تزيد على الثلاثة من نحو: "ابْيَضَّ"، و"اصفرّ"، و"احمرّ"، و"اسودّ"، و" ابيَاضَّ"، و"اصفارَّ"، و"احمارَّ"، و"اسوادّ". وكذلك العيوب الخَلْقية، لا يُقال في شيءٍ منها: "ما أعْوَرَهُ! " ولا "ما أحْوَلَهُ! " لِما ذكرناه من أن أفعالها زائدةٌ على الثلاثة، فهي كالألوان، نحوُ: "اعورّ"، و"احولّ"، و"اعوارّ"، و"احوالّ". فإن قيل: فقد يُقال: "عَوِرَ"، و"حَوِلَ"، فقُلْ على هذا: "ما أحْوَلَهُ! " و"ما أعوره! " فالجواب أن هذا غير جائز؛ لأنه منقول "افْعَلَّ". والدليلُ على أنه منقول منه صحةُ عينه، إذ لو كان أصلًا غير منقول من غيره، لاعتلّت عينه، فكنت تقول: "عارتْ"، و"حالتْ"، ¬
فصل [معني أسلوبي التعجب]
كـ "قالت"، و"قامتْ". وقال الخليل (¬1): إنه ما كان من هذا لونًا، أو عيبًا فقد ضارَع الأسماء، وصار خِلْقة كاليَد والرِّجْل ونحوهما، فلا تقول فيه: "ما أفعله"، كما لم تقل: "ما أيْدَاهُ! "، و"ما أرْجَلَهُ! ". فإن قيل: فقد جاء في الكتاب العزيز: {وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} (¬2)؟ قيل: يحتمل ذلك أمرَيْن أحدهما: أن يكون من عَمَى القلب، وإليه يُنْسَب أكثرُ الضلال. والثاني: أن يكون من عمى العين ولا يُراد به التفضيل، وَلكنّه أعمى كما كان في الدنيا كذلك، وهو في الآخرة أضلّ سبيلًا. فإذا أريد التعجّبُ من شيء من ذلك، فحكمُه في التعجّب أن تبنى "أفْعَلَ" من الكثرة، أو القلّة، أو الشدّة، أو نحوِ ذلك، ثمّ تُوقِع الفعل على مصادر هذه الأفعال، كقولك: "ما أكثرَ دَحْرَجَةَ زيد! " و"ما أشَد حُمْرَةَ عمرو! " و"ما أقل حَوَلَه! " وإنما بُنيت "أفعل" من هذه الأشياء خاصّةً من أجلِ أن المتعجَّب منه لا يخلو من كثرة، أو قلّة، أو شدّة خارجةِ عمّا عليه العادةُ، ولذلك وجب التعجّب، فتكون هذه الأشياء ونحوها عبارةً عما لا يمكن التعجّبُ منه من الأفعال، إذ كانت الأفعال كلها غير منفكّة من هذه المعاني، كما عُبّر بـ "كَانَ" عن الأحداث كلّها. فصل [معني أسلوبي التعجب] قال صاحب الكتاب: ومعنى "ما أكرم زيداً! ": شيء جعله كريماً، كقولك: "أمرٌ أقعده عن الخروج", و"مهم أشخصه عن مكانه" تُريد أن قعوده وشخوصه لم يكونا إلا لأمر, إلا أن هذا النقل من كل فعل؛ خلا ما استُثنى منه مختص بباب التعجب, وفي لسانهم أن يجعلوا لبعض الأبواب شأناً ليس لغيره لمعنى. * * * قال الشارح: معنى "ما أكرم زيدًا": "شيءٌ جعله كريمًا"، فـ "مَا" ها هنا بمعنى شَيْء، وهو اسمٌ منكورٌ في موضعِ رفع بالابتداء، وقد تقدّم الكلام على "ما" والخلافِ فيها بما فيه مقنعٌ. والمراد ها هنا إبداء النظير لجواز الابتداء بالنكرة، وإنما جاز الابتداء هنا لأنه في تقدير النفي، وذلك أن المعنى في قولك: "ما أحسن زيدًا! " شيء جعله حسنًا. والمراد: ما جعله حسنًا إلَّا شيءٌ، كما قالوا: "شَرٌّ أَهَرَّ ذا نابٍ" (¬3)، أي: ما أهرّه إلَّا شرٌّ. ومنه ¬
"أمرٌ أقعده عن الخروج"، و"مُهِمٌّ أشخصه عن مكانه". والمراد أن قعوده وشخوصه لم يكونا إلَّا لأمر، فساغ الكلام؛ لأنه في معنى النفي، والنكرةُ في تأويل الفاعل، فلذلك جاز الابتداء به. وأمّا قوله: "إلَّا أن هذا النقل من كل فعل خلا ما استُثني منه"، فالغرضُ من ذلك أنّ نقل الفعل الثلاثي بالهمزة في غير التعجّب موقوف على السماع، غير مطرد في القياس، لأنه قد يكون بتشديد العين. ألا ترى أنك تقول: "عرف زيدٌ الأمرَ"، و"عرّفته إيّاه"، ولم يقولوا: "أعرفتُه". وقالوا: " غَرِمَ زيدٌ"، و"غرّمته"، ولم يقولوا: "أغرمته"، فلا يسوغ النقل بالهمزة إلَّا فيما استعملتْه العربُ، وهو في باب التعجّب قياسٌ مطردٌ بالهمزة في جميع الأفعال الثلاثيّة، إلَّا ما استُثني، وهو ما كان من الألوان والعيوب. والألوان، نحو: "سَمُرَ" من السُّمْرة، و"حَمِرَ"، من الحُمْرة، و"شَهُبَ"، من الشُّهْبة، و"سَوِدَ من السَّواد". والعيوبُ نحو: "عَوِرَ"، و"حَوِلَ". كل ذلك لا يُنْقَل بالهمزة في التعجّب، ولا غيره، فلا تقول في شيء منها: "أفْعَلَ"، فلا يُقال: "ما أسمره"، ولا "ما أحمره" ونحوُهما من الألوان، ولا "ما أعوره" ولا "ما أحوله" ونحوهما من العيوب. والكوفيون (¬1) يجيزون التعجّب من البياض والسواد خاصّةً، ويحتجون بقول الشاعر [من الرجز]: جارِيَةٌ في دِرْعها الفَضْفاضِ ... أبْيَضُ من أُخْتِ بني إباضِ (¬2) ووجهُ الاستدلال به أنه قال: "أبيض من أُخت بني إباض". و"أفعلُ من كذا"، و"ما اْفْعَلَهُ" مجراهما واحدٌ في أن لا يستعمل أحدُهما إلَّا حيث استُعمل الآخر. والجوابُ عنه أنه شاذّ معمول على فسادٍ للضرورة، فلا يجعل أصلًا يُقاس عليه مع أنه يحتمل أن تكون "أفعل" ها هنا التي مؤئثُها "فَعْلاءُ"، نحوَ: "حمراء"، و"أحمر". وليس الكلام في ذلك إنما الكلام في "أفعل" التي معناها التفضيل، وتكون مِنْ صفة متعلّقة بمحذوف وتقديرُه: "كائنةٌ من أُخت بني اْباض" كما قال [من الطويل]: 1054 - [لَمَّا دَعَانِي السَّمْهَريُ أجَبْتُهُ] ... بأبْيَضَ مِن ماءِ الحديدِ صَقِيلِ ¬
أي: كائن من ماء الحديد. فإن قيل: لو كان الأمر كما قلتم، لقيل: "بَيضاءُ"؛ لأنه من صفة "الجارية"؟ قيل: إنما قال: "أبيض"؛ لأنه أراد: في درعها الفضفاض جسدٌ أْبيضُ، فارتفاعُه بالابتداء، والجارُّ والمجرور قبله الخبرُ، والجملة من صفة "الجارية". وإنما اختاروا النقل بالهمزة في التعجّب, لأنها أكثرُ في النقل، ولزم هذا اللفظُ الواحدَ، ولم يتجاوزوا إلى غيره، وإن كان غيره مستعملًا في باب النقل، وذلك حين مُنع فعله من التصرّف، وإن كان أصله التصرّف. وهذا معنى قوله: "وفي لسانهم أن يجعلوا لبعض الاْبواب شأنًا ليس لغيره لمعنًى". وذلك نحوُ: "ما"، و"لا"، و"لاتَ" ألا ترى أنّ "ما"، و"لا"، و"لاتَ" تُشبَّه بـ "لَيسَ"، فتعمل عملَها من رفع الاسم ونصب الخبر، كما أنّ "لَيسَ" كذلك، فلم يتصرّفوا في "ما" كتصرّفهم في "لَيْسَ"، فمنعوا من تقديم الخبر على الاسم فيها، ومن دخولِ "إلَّا" على الخبر، وقصروا "لا" على العمل في النكرة دون المعرفة، وقصروا "لاتَ" على العمل في الأحيان دون غيرها، وإن كان مجرى الجميع في الشبَه واحدًا، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وأما "أكرم بزيد", فقيل: أصله: "أكرم زيدٌ", أي صار ذا كرم، كـ "أغد البعير" أي: صار ذا غُدة، إلا أنه أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر، كما أخرج على لفظ الخبر ما معناه الدعاء في قولهم:"رحمه الله". والباء مثلها في "كفي بالله", وفي هذا ضرب من التعسف. وعندي أن أسهل منه مأخذاً أن يقال إنه أمر لكل أحد بأن يجعل زيداً كريماً، أي بأن يصفه بالكرم, والباء مزيدة مثلها في قوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم} (¬1) للتأكيد والاختصاص، أو بأن يصيره ذا كرم, والباء للتعدية. هذا أصله, ثم ¬
جرى مجرى المثل, فلم يغير عن لفظ الواحد في قولك: "يا رجلان أكرم بزيد", و"يا رجال أكرم بزيد". * * * قال الشارح: اعلم أن هذا الفعل منقول من "أفْعَلَ" التي للصيرورة حين أرادوا المبالغة والمدح بذلك الفعل، من قولهم: "أنْحَزَ الرجل" إذا صار ذا مال فيها النُّحاز، و"أجْرَبَ" إذا كان ذا إبل فيها الجَرَب، و"أغَدَّ البعير" إذا صار ذا غُدَّةٍ. فكذلك لمّا أرادوا التعجّبَ من الكَرَم والحُسْن، نقلوه إلى "أكْرَمَ" و"أحسن"، ثمّ تَعجّبوا منه بصيغة الأمر، فقالوا: "أكْرِمْ"، و"أحْسِنْ". اللفظُ لفظ الأمر في قطع همزته وإسكانِ آخِره، ومعناه الخبر. فالنقلُ هنا نظير النقل في "ما أكرم زيدًا! " ألا ترى أنك ما عدّيتَه بالهمزة إلَّا بعد أن نقلتَه إلى "أفْعَلَ" التي معناها المبالغة؛ لأن التعجّب لا يكون إلَّا فيما قد ثبت واستقرّ حتى فاق أشكالَه، وخرج عن العادة، فلا يُقال لمن أنفق درهمًا: "ما أكرمه! " ولا لمن ضرب مرة: "ما أضربه! " إنما يُقال ذلك لمن قدُمَ تكرُّر الفعل منه حتى صار كالطبيعة والغريزة، وذلك قولك: "يا زيدُ أكْرِمْ بعمرو"، و"يا هندُ أكرم بعمرو"، و"يا رجلان أكرم بعمرو". وكذلك جماعةُ الرجال والنساء؟ قال الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (¬1)، والمعنى: ما أسْمَعَهم، وما أبْصَرَهُم، وحّدتَ لفظ الفعل، وذكرته، لأنك لست تأمر المخاطَبين الذين تُحدِّثهم، ولا تسألُهم أن يُكْرِموا أحدًا، إنما تُخْبِرهم أن عمرًا كريمٌ. وقولك: "يا زيدُ" إنما هو تنبية له على استماع كلامك وحديثِك. والفعلُ الذي هو "أكْرِمْ" ليس لزيد، فيتأنّثَ بتأنيثه، ويتذكرَ بتذكيره، ويُثنَّى له، ويُجمَعَ، وإنما هو لعمرو. والمجرورُ بالباء فموضعُه رفعٌ، والباء زائدة على حد زيادتها في {وَكَفَى بِاللهِ} (¬2) والمراد: وكَفى الله، والذي يدلّ على ذلك أنك إذا أسقطت الباء، ارتفع الاسمُ. قال [من الطويل]: كفى الشيبُ والإِسلامُ للمَرْء ناهِيا (¬3) وإنّما قلنا: إن المجرور في "أحسنْ بزيد" هو الفاعل؛ لأنه لا فِعْلَ إلَّا بفاعلٍ، وليس معنى ما يصلح أن يكون فاعلًا إلَّا المجرورُ بالباء، وهو الذي قد كرم وحسن، فاللفظُ محتمِلٌ والمعنى عليه. ولزمت الباء هنا لتُؤْذِن بمعنى التعجّب بمخالَفة سائر الأخبار. فإن قيل: فكيف صار الفاعل هنا المتعجَّب منه فاعلاً, وهو في قولك: "ما أكرم زيدًا" مفعول؟ فالجواب أن الفاعل هنا ليس شيئًا غير المفعول، ألا ترى أنك إذا قلت: "ما أحسن زيدًا"، فتقديره: شيءٌ حسّن زيدًا، وذلك الشيء ليس غير زيد؟ فإن الحسن لو ¬
فصل ["ما" التعجبية]
حَلَّ في غيره، لم يحسن هو، فكأن ذلك الشيء مَثَلًا عينُه أو وجهُه، وليسا غيره. فلذلك جاز أن يكون مفعولًا في ذلك اللفظ، وفاعلًا في هذا اللفظ، إذا المعنى واحدٌ. فإن قيل: فما وجه استعمال التعجّب على لفظ الأمر وإدخالِ الباء معه؟ قيل: أرادوا بذلك التوسّعَ في العبارة، والمبالغةَ في المعنى. أمّا التوسّع فظاهرٌ؛ لأن تأدِيَةَ المعنى بلفظَين أوسعُ من قصره على لفظ واحد. وأمّا دخول الباء؛ فلِما ذكرناه من إرادة الدلالة على التعجّب، إذ لو أُريد الأمرُ، لكان كسائر الاْفعال، ويتعدّى بما يتعدّى تلك الأفعالُ، فكنت تقول في "أحْسِنْ بزيد": "أحسن إلى زيد"؛ لأنك تقول: "أحسنتُ إلى زيد"، ولا تقول: "أحسنت بزيد". فأمّا قول صاحب الكتاب: "وفي هذا ضربٌ من التعسف وعندي أن أسهلَ مَأْخَذًا منه أن يُقال إِنّه أمرٌ لكل أحد بأن يجعل زيدًا كريمًا" إلى آخر الفصل، فإن المذهب الأول مذهب سيبويه والجماعةِ. وهذا الذي زعم أنه أسهلُ مأخذًا، وعزاه إلى نفسه، فهو شيٌ يُحْكَى عن أبي إسحاق الزجاج. وذكر في الباء وجهَين: أحدهما: أن تكون مزيدة للتأكيد على حدّها في قوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬1)، والمراد: أيْدِيَكم. والوجه الثاني: أن تكون للتعدية، ويكون معنى "أكرم بزيد": صَيِّرِ الكَرَمَ في زيد، كما يُقال: "نزلتُ بالجبل"، أي: في الجبل. وذلك بعيدٌ من الصواب، وذلك لأُمور: منها أنه وإن كان بلفظ الأمر، فليس بأمرٍ، وإنما هو خبرٌ محتمِلٌ للصدق والكذب، فيصحّ أن يُقال في جوابه: "صدقتَ"، أو"كذبتَ"؛ لأنه في معنى "حسُن زيدٌ جدًّا". ومنها أنه لو كان أمرًا، لكان فيه ضميرُ المأمور، فكان يلزم تثنيتُه وجمعُه وتأنيثُه على حسب أحوال المخاطَبين. ومنها أنه كان يصح أن يُجاب بالفاء كما يصح ذلك في كل أمر، نحوَ: "أكْرِمْ بعمرو فيشكرَك"، و"أجمِلْ بخالدٍ فيُعْطِيَك" على حد قولك: "أعْطِني فأشكرَك". فلمّا لم يجز شيءٌ من ذلك، دل على ما ذكرناه، فاعرفه. فصل ["ما" التعجبية] قال صاحب الكتاب: واختلفوا في "ما", فهي عند سيبويه (¬2) غير موصولة ولا موصوفة، وهي مبتدأ ما بعد خبره, وعند الأخفش موصولة, صلتها ما بعدها, وهي مبتدأ محذوف الخبر, وعند بعضهم فيها معنى الاستفهام, كأنه قيل: "أي شيء أكرمه؟ " * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم القول في "ما" هذه التي للتعجب، وأنّ مذهب سيبويه والخليل فيها أنها اسم تامّ غير موصول، ولا موصوف، وتقديرها: بشَيْءٍ، والمعنى فيها "شيءٌ حسّن زيدًا"، أي: جعله حسنًا، وهي في موضعِ مرفوع بالابتداء، و"أحْسَنَ" فعلٌ ماضٍ غير متصرّف، وفيه ضميرٌ يرجع إلى "ما"، وَ"زَيْدًا"، مفعول به، والجملةُ في موضع الخبر، كما تقول: "عبدُ الله أحسن زيدًا". وأما الأخفش فإنه استبعد أن تكون اسمًا تامًّا غير استفهام، ولا جزاء، فاضطرب مذهبُه فيها، فقال -وهو المشهور من مذهبه- إنها اسم موصول بمعنى "الذي"، وما بعدها من قولك: "أحسن زيدًا" الصلة، والخبر محذوف، وتقديره: الذي أحسن زيدًا شيءٌ، وعليه جماعةٌ من الكوفيين. واحتجّ من يقول ذلك بقولهم: "حَسْبُك"، فهو اسم مبتدأٌ لم يؤتَ له بخبرٍ؛ لأن فيه معنى النَّهْي، فكانت "ما" كذلك. وحكى ابن درستويه أن الأخفش كان يقول مرة: "ما" في التعجّب بمعنى "الذي"، إلَّا أنه لم يُؤْتَ لها بصلةٍ، ومرةَ يقول: هي الموصوفة، إلَّا أنه لم يؤت لها بصفة، وذلك لما أُريد فيها من الإبهام، والفعلُ بعدها وما اتصل به في موضع الخبر. وهذا قريبٌ من مذهب الجماعة. وأما الأوّل فضعيف جدًا، وذلك لأُمورِ: منها أنه يعتقد أن الخبر محذوف، والخبرُ إنما ساغ حذفه إذا كان في اللفظ ما يدل عليه، ولا دليلَ ها هنا، فلا يسوغ الحذف. ومنها أنهم يقدّرون المحذوف بشَيْءٍ، والخبرُ ينبغي أن يكون فيه زيادةُ فائدة، وهذا لا فائدةَ فيه؛ لأنه معلومٌ أن الحُسْن ونحوه إنما يكون بشيء أوْجَبَهُ، فقد أُضمر ما هو معلوم، فلم يكن فيه فائدةٌ. الثالث أن باب التعجّب بابُ إبهام، والصلةُ مُوضحةٌ للموصول، ففيه نقضٌ لما اعتزموه في باب التعجّب من إرادة الإبهام. وكان ابن درستويه يذهب في "ما" هذه إلى أنها التي يُستفهم بها في قولك: "ما تصنع؟ " و"ما عندك؟ " فهي بمنزلةِ "مَن" و"أي" في الإبهام. قال: وإنما وُضع هذا في التعجّب؛ لأجل أن التعجّب فيه إبهامٌ، وذلك أن التعجّب إنما يكون فيما جاوز الحدَّ المعروفَ، وخرج عن العادة، وصار كأنّه لا يُبْلَغ وَصْفه، ولا يُوقَف على كُنهه، فقولُك: "ما أحسن زيدًا! " في المعنى كقولك: "أيُّ رجل زيدٌ" إذا عنيتَ أنه رجلٌ عظيمٌ، أو جليلٌ ونحوَ ذلك. وهو مذهب الفرّاء من الكوفيين، إلَّا أن الفراء كان يذهب إلى أن "أفْعَلَ" بعدها اسمٌ حقُّه أن يكون مضافًا إلى ما بعده. والمذهبُ الأول، وما ذكره من أن "ما" استفهامٌ فبعيدٌ جدًا؛ لأن التعجّب خبرٌ محضٌ يحسن في جوابه صدقٌ أو كذبٌ، والمتكلّمُ لا يسأل المخاطب عن الشيء الذي جعله حسنًا، وإنما يُخْبره بأنه حسنٌ. ولو كانت "ما" استفهامًا، لم يسغ فيها صدقٌ أو كذبٌ؛ لأن الاستفهام ليس بخبرٍ، فاعرفه.
فصل [عدم التصرف في الجملة التعجبية]
فصل [عدم التصرف في الجملة التعجبية] قال صاحب الكتاب: ولا يُتصرف في الجملة التعجبية بتقديم, ولا تأخير, ولا فصل, فلا يقال: "عبد الله ما أحسن"، ولا: "ما عبد الله أحسن"، ولا "بزيد أكرم"، ولا "ما أحسن في الدار زيدًا"، ولا "أكرم اليوم بزيد". وقد أجاز الجرمي الفصل, وغيره من أصحابنا. وينصرهم قول القائل: "ما أحسن بالرجل أن يصدق! ". * * * قال الشارح: صيغة التعجّب تجري على منهاج واحد لا يختلف، فلا يجوز تقديم المفعول فيه على "ما" ولا على الفعل، فلا يجوز: "زيدًا ما أحسن"، ولا "ما زيدًا أحسن"، كما يجوز ذلك في غير التعجّب من نحوِ: "زيدًا عبدُ الله أكرم"، و"عبدُ الله زيدًا أكرم". ذلك لضُغفِ فعل التعجّب، وغَلَبَةِ شَبَه الاسم عليه لجواز تصغيره، وتصحيح المعتل منه من نحوِ "ما أُمَيلحَهُ! " و"ما أقْوَمَهُ! " فأمّا الفصل بين فعل التعجّب والمتعجَّب منه بظرفٍ أو نحوِه، فمختلَفٌ فيه. فذهب جماعةٌ من النحويين المتقدمين وغيرهم كالأخفش والمبرد إلى المنع من ذلك، واحتجّوا بأن التعجّب يجري مجرى الأمثال للزومه طريقة واحدةً، والأمثالُ الألفاظُ فيها مقصورة على السماع، نحوُ قولهم: "الصيفَ ضيّعتِ اللبنَ" يُقال ذلك بلفظ التأنيث، وإن كان المخاطب مذكّرًا. وذهب آخرون كالجَرْمي وغيره إلى جواز الفصل بالظرف، نحوِ قولك: "ما أحسن اليومَ زيدًا! " و"ما أجمل في الدار بكرًا! " واحتجّوا بأن فعل التعجّب وإن كان ضعيفًا، فلا ينحطّ عن درجةِ "إنَّ" في الحروف. وأنت تجيز الفصل في "إنَّ" بالظرف من نحوِ: "إنّ في الدار زيدًا"، و"لَيتَ لِي مِثلَك صديقًا". وإذا جاز ذلك في الحروف، كان في الفعل أجْوَزَ، وإن ضَعُفَ؛ لأنه لا يتقاصر عن الحرف. فأمّا سيبويه فلم يُصرِّح في الفعل بشيء، وإنما صرّح بمَنْع التقديم، فقال: ولا يجوز أن تُقدِّم "عبد الله"، وتؤخر "ما"، ولا أن تُزيل شيئًا عن موضعه، فظاهرُ اللفظ أنه أراد تقديمَ "ما" في أوّل الكلام، وإيلاء الفعل وتأخيرَ المتعجَّب منه بعد الفعل، ولم يتعرض للفصل بالظرف. وقولهم: "ما أحسنَ بالرجل أن يَصْدُقَ"، فشاهد على جواز الفصل, لأنّ "أن يصدق" في موضع المفعول المتعجَّب منه، وقد فصل بالجاز والمجرور الذي هو "بالرجل" بينه وبين الفعل. والجوابُ عنه أن هذا، وإن كان قد ورد عن العرب، فقد فارق ما نحن فيه. وذلك أن التعجّب، وإن كان واقِعًا في اللفظ على "أتى" وصلتِها، فيرجع التعجّبُ في المعنى إلى "الرجل" المجرور، وذلك أنّ "أنْ" وصلتها مصدرٌ، والمصادرُ واقعةٌ من فاعليها، والمدحُ والذمّ إنما يلحقان الفاعلين. فلمّا كان يرجع التعجّبُ إلى "الرجل"، لم يقبح الفصلُ به إذ كان المستحق أن يلي فعلَ التعجّب في الحقيقة.
فصل [زيادة "كان" في التعجب للدلالة علي المضي]
وإنما اختصّ التعجّب بلفظ الماضي، لأن التعجّب مدحٌ، ولا يُمْدَح الإنسان إلَّا بما ثبت فيه، وعُرف به، فاعرفه. فصل [زيادة "كان" في التعجب للدلالة علي المضيّ] قال صاحب الكتاب: ويقال: "ما أحسن زيداً" للدلالة على المضي, وقد حكي "ما أصبح أبردها", و"ما أمسى أدفأها" والضمير للغداة. * * * قال الشارح: اعلم أنه قد تدخل "كانَ" في باب التعجّب زائدةً على معنى إلغائها عن العمل وإرادةِ معناها، وهو الدلالةُ على الزمان، وذلك نحو قولك: "ما كان أحسن زيدًا! " إذا أُريد أن الحسن كان فيما مضى. فـ "ما" مبتدأةٌ على ما كانت عليه، و"أحسن زيدًا" الخبر، و"كانَ" ملغاةٌ عن العمل مفيدةٌ للزمان الماضي، كما تقول: "من كان ضرب زيدًا؟ " تريد: "من ضرب زيدًا؟ " و"من كان يُكلِّمك؟ " تريد: "من يكلِّمك؟ " فـ "كانَ" تدخل في هذه المواضع، وإن أُلغيت من الإعراب، فمعناها باقٍ، وهي ها هنا نظيرةُ "ظننتُ" إذا أُلغيت، فإنه يُبطَل عملها، ومعنى الظنّ باقٍ. وذلك أن الزيادة على ضربَيْن: زيادةٌ مُبْطَلةُ العمل مع بقاء المعنى على ما ذكرناه، وزيادةٌ لا يُراد بها أكثر من التأكيد في المعنى، وإن كان العمل باقيًا، نحوُ: "ما جاءني من أحدٍ"، والمراد: ما جاءني أحدٌ. ومثله قولهم: "بحَسبك زيدٌ"، والمراد: حَسْبُك، و {وَكَفَى بِاللهِ} (¬1) والمراد: كفى الله. وكان السيرافيّ يذهب إلى جوازِ أن تكون "كانَ" ها هنا غير زائدة، وتكون خبرَ "ما"، وفيها ضميرٌ من "ما"، و"أحسن زيدًا" خبرُ "كانَ". وقد حكاه الزجّاجيّ، وفيه بُعدٌ؛ لأن فعل التعجّب لا يكون إلَّا "أفْعَلَ" منقولًا من "فَعَلَ"، فجَعْلُه على غير هذا البناء عديمُ النظير. وقد قالوا: "ما أحسن ما كان زيدٌ! " ترفع "زيدًا" هنا لا غير، و"كانَ" تامّةٌ هنا. و"زيدٌ" فاعلٌ، و"ما"، مع الفعل مصدرٌ، والتقدير: "ما أحسنَ كونَ زيد! " وجاز التعجّبُ من الكون، وهو في الحقيقة لزيدٍ, لأنّ كونه ملتبسٌ به، ألا ترى إلى قول الشاعر [من الطويل]: 1055 - [وتَشرُقُ بالقولِ الذي قد أذَعْتَهُ] ... كما شَرِقَتْ صدرُ القَناةِ من الدَّمِ ¬
كيف أنّث الفعل، وهو للصَّدْر، إذ كان صدر القناة ملتبسًا بالقناة؟ ولا يجوز نصبُ "زيد" هنا، لأنه إذا نُصب، كان خبرًا، لـ "كانَ"، ويكون اسمُها مضمرًا فيها، وذلك المضمر هو"زيدٌ" في المعنى، لأنه مفردٌ. والخبر إذا كان مفردًا كان هو الأول في المعنى، وذلك الضميرُ راجع إلى "ما"، و"ما" لا يعقل، و"زيدٌ" يعقل، فكان يتنافى المعنيان، فاعرفه. ولا يزاد في باب التعجّب إلَّا "كانَ" وحدَها دون غيرها من أخواتها، وذلك لأنها أُمُّ الأفعال لا ينفك فعلٌ من معناها. وقد قالوا: "ما أصبح أبرَدَها! " و"ما أمْسَى أدْفَأها! " حكى ذلك الأخفش، ولم يحكه سيبويه. وأنّث الضمير، لأنه أراد الغداة والعشية. وفي ذلك بُعْدٌ؛ لأنهم جعلوا "أصبح"، و"أمس" بمنزلةِ "كانَ"، وليسا مثلها؛ لأنهما لا يكونان زائدين بخلافِ "كان". ومن الفرقان بينهما أن "كانَ" لا تدلّ على شيءٍ في الحال، وإنما تدلّ على ماضٍ، نحوِ قولك: "كان زيدٌ قائمًا". وليس كذلك "أصبح"، و"أمسى"، فإنّهما يدلاّن على وجود الأمر في الحال، نحوَ قولك: "أصبح زيد غنيًا" أي: هو في الحال كذلك. وْاعلم أن "كانَ" في حال زيادتها لا اسم لها، ولا خبر، ولا فاعل، لأنها ملغاة عن العمل، هذا مذهب المحقّقين كابن السرّاج وأبي عليّ. وكان السيرافيّ يذهب إلى أنه لا بدّ لها من فاعلٍ بحكم الفعلية، وذلك الفاعلُ معنويٌّ يُقدَّر بالمصدر، ولفظُ "كانَ" يدلّ عليه على حدّ قولهم: "مَن كذب كان شرًّا له"، أي: كان الكذبُ، فاعرفه. ¬
الثلاثي
ومن أصناف الفعل الثُّلاثِيُّ فصل [أبنية الفعل الثلاثي المجرَّد] قال صاحب الكتاب: للمجرد منه ثلاثة أبنية: "فعَلَ", و"فعِلَ" و"فَعُلَ". وكل واحد من الأولين على وجهين: متعد وغير متعد, ومضارعه على بناءين: مضارع "فَعَلَ" على "يَفْعِلُ" و"يفعُل"، ومضارع "فَعِلَ" على "يفعَل" و"يفعِل", والثالث على وجه واحد غير متعد, ومضارعه على بناء واحد, وهو "يفعُل". فمثال "فَعَلَ": "ضربه" "يضربه"، و"جلس" ,"يجلس"، و"قتله", "يقتله"، و"قعد", "يقعد". ومثالُ "فَعِلَ": "شرِبه", "يشربه"، و"فرِح", "يفرَح"، و"ومِقه", "يمقه"، و"وثق", "يثق". ومثال "فَعُلَ": "كرُم", "يكرُم". * * * قال الشارح: اعلم أن الأفعال على ضربين: ثلاثيّة ورباعية لا غير، كأنها نقصت عن درجة الأسماء؛ لقوّة الأسماء، واستغنائِها عن الأفعال، وحاجةِ الأفعال إليها، ففضلت الأسماءُ بأن جُعلت ثلاثيّة ورباعية وخماسيّة، والأفعالُ لا تكون إلَّا ثلاثيّة ورباعيّة. فأمّا الثلاثيّ، فيكون مجرّدًا من الزيادة، وغير مجرّد منها، فالمجرّدُ ثلاثةُ أبنية: "فَعَلَ" بفتح العين، و"فَعِلَ"، بالكسر، و"فَعُلَ" بالضمّ، وأمّا "فُعِلَ" بضمّ الفاء وكسر العين، فبناءُ ما لم يسمّ فاعلُه، وليس بأصل في الأبنية، إنما هو منقول من "فَعَلَ"، أو"فَعِلَ". وقد تقدّم الكلام عليه، والخلاف فيه مستقصى، وليس في الثلاثيّ "فَعْلَ" ساكنَ العين. إنما ذلك من أبنية الأسماء، نحوِ: "فَلْسٍ"، و"كَعْبٍ". فأمّا قوله الشاعر [من الطويل]: فإن أهْجُهُ يَضْجَرْ كما ضَجْرَ بازلٌ ... مِنَ الأُدْمِ دَبْرَتْ صَفْحَتاه وغارِبُهْ (¬1) ¬
فإنه أراد "ضَجِرَ" بالكسر، و"دَبِرَت"، وإنّما أسكن تخفيفًا، كما قالوا في "عَلِمَ": "عَلْمَ"، وفي "شَهِدَ": "شَهْدَ". وقالوا في الاسم: "كَتْفٌ" في "كَتِفٍ"، وَ"فَخْذٌ" في "فَخِذٍ". فأفا قول الآخر [من الطويل]: 1056 - وما كان مُبْتاعٌ ولو سَلْفَ صَفْقُهُ ... يُراجِعُ ما قد فاتَهُ بِرَدادِ فإنه أراد "سَلَفَ" بالفتح، وإنما أسكن ضرورة، فإسكانُ المفتوح ضرورةٌ، وإسكانُ المضموم والمكسور لغةٌ. فما كان من الأفعال "فَعَلَ" بفتح العين، فإنه يجيء على ضربين: متعدّ وغيرُ متعدّ. فالمتعدّي "ضَرَبَهُ"، و"قتله"، وغيرُ المتعدّي "قَعَدَ"، و"جَلَسَ". والمضارع منه يجيء على "يَفْعِلُ"، و"يَفْعُلُ"، بالكسر والضمّ. ويكثُران فيه حتى قال بعضهم: إنه ليس لأحدهما أوْلى من الآخر. وقد يكثر أحدُهما في عادة ألفاظ الناس، حتى يُطْرَح الآخر ويقبح استعمالُه. وقال بعضهم: إذا عُرف أن الماضي "فَعَلَ" بفتح العين، ولم يُغرَف المستقبل، فالوجهُ أن يكون "يَفْعِلُ" بالكسر؛ لأنه أكثر، والكسرُ أخفُّ من الضمّ. وقيل: هما سواءٌ فيما لا يُعْرَف. وقيل: إِن الأصل في مضارع المتعدّي الكسر، نحوُ: "يَضرِبُ"، وإن الأصل في مضارعِ غير المتعدّي الضمّ، نحوُ: "سَكَتَ"، "يَسْكُتُ"، و"قَعَدَ"، "يَقعُدُ". يُقال: هذا مقتضى القياس، إلَّا أنهما قد يتداخلان، فيجيء هذا في هذا. وربّما تَعاقبا على الفعل الواحد، نحوِ: "عَرَشَ"، ¬
"يَعْرُشُ"، و"يَعْرِشُ"، و"عَكَفَ"، و"يَعْكُفُ"، و"يَعْكِفُ"، وقد قُرىء بهما (¬1). وما كان "فَعِلَ" بكسر العين، فإنّه على ضربين: متعدّ وغيرُ متعدّ، فالمتعدّي، نحو: "شَرِبَهُ"، و"لَقِمَهُ"، وغيرُ المتعدي، نحو: "سَكِرَ"، و"فَرِقَ". والمضارع منهما على "يَفْعَلُ" بالفتح، نحوِ: "يَشْرَبُ"، و"يَلْقَمُ"، و"يَسْكَرُ"، و"يَفْرَق". وقد شَذَّ من ذلك أربعةُ أفعال جاءت على "فَعِلَ"، "يَفْعِلُ"، بالكسر في المضارع والماضي، وبالفتح في المضارع أيضًا، قالوا: "حَسِبَ"، "يَحْسِبُ"، و"يَحْسَبُ"، و"يَئِسَ"، "يَيْئِسُ"، وَ"يَيْأسُ"، و"نَعِمَ"، "ينْعِمُ"، و"يَنْعَمُ"، و"بَئِسَ"، "يَبئِسُ"، وَ"يَبْأسُ". قال سيبويه (¬2): سمعنا من العرب من يقول [من الطويل]: 1057 - [ألَا عِمْ صَبَاحًا أَيُّها الطَّلَلُ البَالي] ... فَهَلْ يَنْعِمَنْ من كان في العُصُر الخالي والفتح في هذا كله هو الأصل، والكسر على التشبيه بـ "ظَرُفَ"، "يَظْرُفُ". وقد ¬
يكثر في المعتل "فَعِلَ"، "يَفْعِل" بكسر العين في الماضي والمضارع على قلّته في الصحيح، نحو: "وَرِثَ"، "يَرِثُ"، و"وَلِيَ"، "يَلِي"، و"وَرِمَ"، "يَرِمُ". والعلّةُ في ذلك كراهيتُهم الجمعَ بين واو وياء لو قالوا: "يَوْلَى"، و"يَوْرَثُ"، فحملوا المضارع علي بناءٍ يسقط الواو فيه. وربما جاء منه شيء على "فَعِلَ"، "يَفْعُلُ"، بكسر العين في الماضي وضمّها في المستقبل، قالوا: "فَضِلَ يَفْضُل"، وهو قليل شاذّ على ما سيوضح أمرُه بعدُ إن شاء الله. وأمّا البناء الثالث -وهو "فَعُلَ" مضمومَ العين- فلا يكون إلَّا غير متعدّ، نحو: "كَرُمَ"، و"ظَرُفَ". قال سيبويه (¬1): وليس في الكلام "فَعُلْتُه" متعدّيًا. ولا يكون مضارعه إلَّا مضمومًا، نحوَ: "يَكرُمُ"، و"يَظرُفُ"، لأنه موضوعٌ للغرائز والهَيْئة من غيرِ أن يفعل بغيره شيئًا، بخلافِ "فَعَلَ" و"فَعِلَ" اللذين يكونان لازمَيْن ومتعدّيين، ولم يشذّ منه شيءٌ إلَّا ما حكاه سيبويه (¬2) من أنّ بعضهم قال: "كُدْت" "أكادُ"، والقياس "أكُودُ". * * * قال صاحب الكتاب: وأما "فعَل" "يفعَل" فليس بأصل ومن ثم لم يجيء إلا مشروطاً فيه أن يكون عينه أو لامه أحد حروف الحلق: الهمزة والهاء والحاء والخاء والعين والغين إلا ما شذ من نحو "أبى" "يأبى" و"ركن" "يركن". * * * قال الشارح: -أدام الله أيامه- أمّا "فَعَلَ" "يَفْعَلُ"، فلم يأتِ عنهم إلَّا أن تكون العين أو اللام أحد حروف الحلق، وليس ذلك بالأصل، إنما هو لضرب من التخفيف بتجانُس الأصوات. وحروف الحلق ستّة: الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء. هذا ترتيبُها، فالهمزةُ والهاء من أوّلِ مَخارج الحلق ممّا يلي الصدرَ، فأقصاه الهمزة، ثمّ يليه الهاء والحاء والعين من وَسَط الحلق، والحاء قبل العين والغين، والخاء من الجانب الآخر ممّا يقرب من الفم، والغين قبل الخاء لا على ما رتبها صاحب الكتاب. وذلك نحو:"قَرَأ"، "يَقْرَأُ"، "وجَبَهَ"، "يَجْبَهُ"، و"قَلَعَ"، "يَقْلَعُ"، و"ذَبَحَ"، "يَذبَحُ". وقالوا فيما كان فيه هذه الحروف عينًا: "سَألَ"، "يَسْألُ"، و"بَعَثَ"، "يَبْعَثُ"، و"نَغَرَ"، "يَنْغَرُ"، و"فَخَرَ"، "يَفْخَرُ". وإنما فعلوا ذلك، لأن هذه الحروف الستّة حلقيْة مستفِلة، والضمّة والكسرة مرتفعتان من الطَّرَف الآخر من الفم، فلمّا كان بينهما هذا التباعدُ في المَخْرَج، ضارعوا بالفتحة حروف الحلق؛ لأن الفتحة من الألف، والألفُ أقرب إلى حروف الحلق لتناسُب الأصوات، ويكون العملُ من وجه واحد. وقد جاء شيء من هذا النحو على الأصل، ¬
قالوا: "بَرَأ"، "يَبْرُؤُ"، و"هَنَأ"، "يَهْنُؤُ"، و"زَأرَ"، "يَزْئِزُ"، و"نَأمَ"، "يَنْئِمُ"، و"نَهَقَ"، "يَنْهِقُ". والأصلُ في الهمزة والهاء أقلّ؛ لاْنهما أدخلُ في الحلق. وكلَّما سفِل الحرفُ، كان الفتح له ألزمَ، وقالوا: "نَزَعَ" "يَنْزعُ"، و"رَجَعَ" "يَرْجِعُ"، و"نَطَحَ" "يَنْطِحُ"، و"جَنَحَ" "يَجْنِحُ". والأصل في العين أقل منه في الحاء؛ لأنها أقرب إلى الهمزة من الحاء، والأصل في العين والحاء والغين والخاء أحسن من الفتح؛ لأنها أشدّ ارتفاعًا إلى الفم، وذلك نحو: "نَزَعَ" "يَنْزعُ"، و"صَبَغَ" "يَصْبُغُ"، و"نَفَخَ" "يَنْفُخُ"، و"طَبَخَ" "يَطْبُخُ". فإن كانت هذه الحروف فاءاتٍ، نحوَ: "أمَرَ" "يَأمُرُ"، لم يلزم الفتح فيه لسكون حرف الحلق في المضارع. والساكنُ لا يوجب فتحَ ما بعده لضُعْفه بالسكون، وقالوا: "اْبَى" "يَأْبْى"، و"قَلَى" "يَقْلَى" و"غَسَا الليلُ" "يَغْسَى"، و"سَلَا" "يَسْلَا". وقالوا: "رَكَنَ" "يَرْكَنُ"، و"هَلَكَ" "يَهْلَكُ". وقرأ الحسن {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ} (¬1). فكان محمّد بن السَّريّ يذهب في ذلك كلّه إلى أنها لغاتٌ تداخلت، وهو فيما آخِرُه ألفٌ أسهلُ، لأن الألف تُقارِب الهمزةَ، ولذلك شبّه سيبويه (¬2) "أبَى" "يَاْبَى"، بـ "قَرَأ" "يَقْرَأُ"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وأما "فَعِل", "يفعُل" نحو: "فضِل" "يفضُل" ومت تموت فمن تداخل اللغتين وكذلك "فعُل" "يفعَل" نحو "كُدْتَ" "تكاد". وللمزيد فيه خمسة وعشرون بناء تمر في أثناء التقاسيم بعون الله تعالى, والزيادة لا تخلو إما أن تكون من جنس حروف الكلمة أو من غير جنسها كما ذكر في أبنية الأسماء. * * * قال الشارح: لم يأتِ عنهم "فَعِلَ"، "يَفْعُلُ" بكسر العين في الماضي، وضمّها في المستقبل إلَّا أحرفٌ يسيرة، لا اعتدادَ بها لقلّتها وندرتها، قال أبو عثمان: أنشدني الأصمعي [من الطويل]: 1058 - ذكرتُ ابنَ عَبْاسٍ ببابِ ابن عامرٍ ... وما مَرَّ من يَوْمِي ذكرتُ وما فَضِلْ ¬
وقد منع من ذلك أبو زيد، وأبو الحسن، وقد جاء عن غير سيبويه "حَضِرَ"، "يَحْضُرُ". وقالوا في المعتل: "مِت" "تَمُوتُ"، و"دِمْتَ" "تَدُومُ، وذلك كلّه من لغاتٍ تداخلت. والمراد بتداخُل اللغات أن قومًا يقولون: "فَضَلَ" بالفتح "يَفْضُلُ" بالضمّ، وقومًا يقولون: "فَضِلَ" بالكسر "يَفْضَلُ" بالفتح. ثمّ كثُر ذلك حتى استُعمل مضارع هذه اللغة مع ماضي اللغة الأخُرى، لا أن ذلك أصلٌ في اللغة. وأمّا "فَعُلَ" مضمومَ العين في الماضي فبناءٌ لا يكون إلَّا لازمًا غير متعدّ؛ لأنه بناءٌ موضوعٌ للغرائز والهيئة التي يكون الإنسانُ عليها من غيرِ أن يفعل بغيره شيئًا، ولا يكون مضارعه إلَّا مضمومًا، بخلافِ "فَعَلَ" و"فَعِلَ" اللذين يكونان لازمين ومتعدّيين. ولم يشذّ منه شيءٌ إلَّا ما حكاه سيبويه من أن بعضهم قال: "كُدْتُ" بضمّ الكاف، "أكادُ"، وهو من تداخُل اللغات. فهذه جملة الأفعال الثلاثية المجرّدة من الزيادة. فأمّا ذواتُ الزيادة، فمعنى الزيادة إلحاق الكلمةِ ما ليس منها إمّا لإفادةِ معنى، وإمّا لضرب من التوسّع في اللغة، فهي نَيفٌ وعشرون بناءً على ما سيأتي الكلامُ عليها شيئًا فشيئًا. والزيادةُ اللاحقة للأفعال ضربان: أحدهما: ما يكون بتكرير حرف من أصل الفعل، نحوُ قولهم: "جَلْبَبَ"، و"شَمْلَلَ"، كُرّرت اللام فيها لتُلْحَق ببناء "دَحْرَجَ"، كما فعلوا ذلك في الاسم من نحو: "مَهْدَدٍ" (¬1)، و"قَرْدَدٍ" (¬2)، وذلك قياس مطرد، لك أن تقول مِن "ضرب": "ضَرْبَبَ"، ومن "خرج": "خَرْجَجَ"؛ إذا أردت إلحاقه بـ "دَحْرَج"، كما فعلوا ذلك بـ "جَلْبَبَ"، و"شَمْلَل". الضرب الثاني: أن تكون الزيادة من جملة حروف الزيادة التي يجمعها "اليومَ تَنْساه" من نحو: "جَهْوَرَ" و"بَيْقَر"، زِيدَ فيهما الواو والياء لتُلْحَقا بـ "دَحْرَج". وذلك مسموع يوقَف عند ما قالوه من غير مجاوَزةِ له إلى غيره، فاعرفه. ¬
فصل [أبنية الفعل الثلاثي المزيد]
فصل [أبنية الفعل الثلاثي المزيد] قال صاحب الكتاب: وأبنية المزيد على ثلاثة أضرب: موازن للرباعي على سبيل الإلحاق، وموازن له على غير سبيل الإلحاق، وغير موازن له. فالأول على ثلاثة أوجه ملحق بدحرج نحو شملل وحوقل وبيطر وجهور وقلنس وقلسي. وملحق بتدحرج نحو تجلبب وتجورب وتشيطن وترهوك وتمسكن وتغافل وتكلم. وملحق باحرنجم نحو اقعنسس واسلنقي. ومصداق الإلحاق اتحاد المصدرين. والثاني نحو أخرج وجرب وقاتل يوازن دحرج غير أن مصدره مخالف لمصدره. والثالث نحو انطلق واقتدر واستخرج وأشهاب وأشهب وأغدودن واعلوَّط. * * * قال الشارح: اعلم أن أبنية المزيد فيه من الثلاثي على ثلاثة أضرب: موازن للرباعي على طريق الإلحاق، وذلك أن يكون الغرض من الزيادة تكثير الكلمة لتلحق بالرباعي لا لإفادةِ معنى توسُّعًا في اللغة. والثاني موازن لا على سبيل الإلحاق. وذلك أن الموازنة لم تكن الغرضَ، وإنما الزيادة لمعنًى آخر، والموازنةُ حصلت بحكم الاتّفاق. وغيرُ موازن. فالأول يكون على ضربَيْن: ضربٌ بتكريرِ حرف من نفس الكلمة لتلحق بغيرها، والآخر يكون بزيادة حرف من غير جنس حروفها. وهذا إنما يكون من حروف الزيادة، وذلك، نحو: "شَمْلَلَ" و"جَلْبَبَ"، إحدى اللامَين فيه زائدة، لأنه من "الجلب" و"الشمل". وإنما كُرّرت اللام للإلحاق بـ "دَحْرَجَ"، و"سَرْهَفَ"، فصار موازنًا له في حركاته وسكناته، ومثلَه في عدد الحروف. ولا يدغم المثلان فيه كما ادغما في "شَدَّ"، و"مَدَّ"، لئلا تبطل الموازنةُ، فيكون نقضًا للغرض من الإلحاق. وهذا القبيل من الإلحاق مطّرد ومَقيس، حتى لو اضُطرّ ساجعٌ أو شاعرٌ إلى مثلِ "ضَرْبَبَ" و"خرجج"، جاز له استعمالُه، وإن لم يسمعه من العرب؛ لكثرةِ ما جاء عنهم من ذلك. وأما الثاني: وهو ما أُلحق بزيادة من حروف الزيادة التي هي "اليوم تنساه"، فنحوُ الواو في "جَهْوَرَ"، و"حَوْقَلَ"، ونحو الياء في "شَيْطَنَ"، و"بَيْطَرَ"، والألف في نحو "سَلْقَى" (¬1)، و"قَلْسَى" (¬2)، والنون في "قَلْنَسَ" (¬3). فهذا كلّه أيضًا ملحق بـ "دحرج"، و"سرهف". ¬
ويكون متعدّيًا وغير متعدّ، فالمتعدّي نحو "صَوْمَعْتُه"، و"بَيْطَرْتُه"، وغيرُ المتعدّي، نحو: "حوقل، و"بيقر"، يُقال: "حوقل الشيخ" إذا أدبر عن النساء، و"بيقر" إذا هاجر من موضع إلى موضع. وهذا القبيلُ مقصور على السماع لقلّته. ومضارعُ هذه الأفعال كمضارع الرباعي، نحوُ: "يُشَمْلِلُ"، و"يُجَلْبِبُ"، و"يُحَوْقِلُ"، و"يُبَيطِرُ"، ومصدره "الشَّمْلَلَةُ"، و"الجلببة"، و"الحوقلة"، و"البيطرة" كمصدر الرباعيّ، نحوِ: "الدَّحْرَجَة"، و"الزلزلة"، و"القلقلة". وربّما جاء على "فِيعال" نحو: "حِيقال". قال الشاعر [من الرجز]: 1059 - يا قومُ قد حَوْقَلْتُ أو دَنَوْتُ ... وشَرُّ حِيقال الرجالِ الموتُ فـ "فِيعالٌ" هنا ملحق بـ "فِعْلالٍ"، نحو: "السِّرْهاف". وقالوا: "سَلْقَيتُه سِلْقاء"، فهو "فِعْلاءٌ" ملحق بِـ "فِعْلال" كـ "السِّرْهاف"، و"االزِّلْزال". واعتبارُ الإلحاق بالمصدر الأوّل، لأنه أغلبُ في الرباعيّ وألزمُ، وربّما لم يأتِ منه "فِعْلال"، قالوا: "دحرجته دَحْرَجَةً"، ولم يسمع "الدِّخراج"، ولذلك قال سيبويه (¬1): تقول: "دحرجتُه دَحْرَجَة واحدة"، و"زلزلتُه زلزلةً واحدة"، تجيء بالواحد على المصدر، لأنه الأغلبُ الأكثرُ. فأما قوله في "تَجَلْبَبَ"، و"تَجَوْرَبَ"، و"تَشَيْطَنَ"، و"تَرَهْوَكَ" أنها ملحقاتٌ بـ "تدحرج"، فكلامٌ فيه تسامحَ؛ لأنه يُوَهِّم أن التاء مزيدةٌ فيها للإلحاق، وليس الأمر كذلك؛ لأن حقيقةَ الإلحاق في "تجلبب" إنما هي بتكرير الباء ألْحَقَتْ "جلبب" بـ "دَحْرج"، والتاءُ دخلت لمعنى المطاوعة، كما كانت كذلك في "تدحرج" لأن الإلحاق لا يكون من أوّل الكلمة، إنما يكون حشوًا، أو آخِرًا، وكذلك "تَجَوْرَبَ"، و"تَشَيطَنَ"، و"تَرَهْوَكَ"، الإلحاقُ بالواو والياء، لا بالتاء على ما ذكرنا. ¬
وأمْا "تَمَسْكَنَ"، و"تَغافَلَ"، و"تَكَلَّم"، فليست الزيادة فيها للإلحاق، وإن كان على عدة الأربعة. فقولُهم: "تمسكن" شاذ من قبيل الغلط، ومثله قولهم: "تَمَدْرَعَ"، و"تمندل"، والصواب "تَسَكَّنَ"، و"تَدَرَّعَ"، و"تندّل". وكذلك "تَغافَلَ" ليست الألف للإلحاق؛ لأن الألف لا تكون حشوًا مُلْحِقةً، لأنها مَدّةٌ محضةٌ، فلا تقع موقعَ غيرها من الحروف، إنما تكون للإلحاق إذا وقعت آخرًا لنقص المدَّ فيها، مع إن حقيقة الإلحاق إذا وقع آخرًا إنما هو بالياء، لكنّها صارت ألفًا لوقوعها موقعَ متحرّك، وقبلها فتحةٌ. و"تَكَلَّمَ" كذلك، تضعيفُ العين لا يكون ملحِقًا، فإطلاقُه لفظَ الإلحاق هنا سَهوٌ. وأمّا "احْرَنْجَمَ"، ففعلٌ رباعيٌ، والنون فيه للمطاوعة، فهو في الرباعي بمنزلةِ "انْفَعَلَ" في الثلاثي، نحوِ: "حسرتُه فانحسر"، و"كسرتُه، فانكسر". و"اسْحَنْكَكَ"، و"اقْعَنْسَسَ" ثلاثي ملحق بـ "احرنجم". وحقيقةُ الإلحاق بتكرير اللام، ولذلك لا يدغم المثلان فيه، والنون مزيدة لمعنى المطاوعة، ولذلك لا يتعدّى. وأما الضرب الثاني، وهو الموازن من غير إلحاق، فهي ثلاثة أبنية: "أفْعَلَ"، و"فَعَّلَ"، و"فَاعَلَ"، نحو: "أخرج"، و"أكرم"، و"جرّب"، و"كسّر"، و" قاتل"، و"حارب". فهذه الأبنية، وإن كانت على وزنِ "دحرج" في حركاته وسكناته، فذلك شيءٌ كان بحكم الاتفاق، وليست الموازنة فيها مقصودة. والذي يدل على ذلك أنك تقول: "أكرم إكرامًا"، و"كَسَّرَ تكسيرًا"، و"قاتل مُقاتَلة وقِتالاً"، فلم تأتِ مصادرها على نحو "الدَّحْرَجَة"، و"الزلْزَلَة"، فلمّا خالفت مصادرَ الرباعيّ، علم أنها ليست للإلحاق، وإن اتّفقت في المضارع؛ لأن الاعتبار بالمصادر التي هي أصلها. وأمر آخر يدل على ما ذكرنا أنّ ما زِيدَ للإلحاق ليس الغرضُ منه إلَّا إتباعَ لفظٍ للفظٍ لا غير، نحوَ: واو"جَوْهَرَ" و"جَهْوَرَ" دخلت لإلحاق هذا البناء الثلاثيّ ببناء "دحرج" الرباعي. فهو شيءٌ يخصّ اللفظَ من غير أن يُحْدِث معنى. وهكذا الأبنية الثلاثة التي هي "أفْعَلَ"، و"فَعَّلَ"، و"فَاعَلَ"، فالزيادةُ في كل واحد منها أفادت معنَى لم يكن قبلُ، وقد استقصيتُ معانيها في كتابي في شرح المُلوكيّ في التصريف. وأما غير الموازن، فهو سبعة أبنية على ما ذكر، وذلك نحو: "انطلق"، و"اقتدر"، و"استخرج"، و"اشْهَابَّ" (¬1)، و"اشهَبَّ" (¬2)، و"اغْدَوْدَنَ" (¬3)، و"اعْلَوَّطَ"، فهذه الأبنية قد لزم أوّلَها همزةُ الوصل، وذلك لسكون أوّلها. وإنما سكن كراهيةَ أن يتوالى فيها أكثرُ من ¬
فصل [معاني "فعل" و"فعل" و"فعل"]
ثلاث متحرّكات. ألا ترى أنا لو حرّكنا النون من "انطلق"، والطاءُ واللام والقاف متحرّكات؛ لَتوالى فيها أربع متحرّكات، وذلك مفقود في كلامهم. وكذلك "افتعل" نحوُ: "اقتدر"، وسائرُها محمول على ما ذكرنا. فصل [معاني "فَعَلَ" و"فَعِلَ" و"فَعُلَ"] قال صاحب الكتاب: فما كان على "فَعَلَ" فهو على معان لا تضبط كثرة وسعة. وباب المغالبة مختص بـ "فَعَلَ يَفْعُلُ",كقولك: "كارمني, فكرمته, أكرمه"، و"كاثرني, فكثرته, أكثره". وكذلك: "عازني فعززته"، وخاصمني فخصمته، وهاجاني فهجوته, إلا ما كان معتل الفاء كوعدت أو معتل العين أو اللام من بنات الياء كبعت ورميت, فإنك تقول فيه: "أفْعِلُه" بالكسر، كقولك: خايرته فخرته أخيره. وعن الكسائي أنه استثنى أيضًا ما فيه أحد حروف الحلق وإنه يقال فيه "أفعَلُه" بالفتح. وحكى أبو زيد "شاعرته, أشعره"، وفاخرته أفخره بالضم. قال سيبويه (¬1): وليس في كل شيء يكون هذا، ألا ترى أنك لا تقول: نازعني فنزعته استغنى عنه بغلبته. * * * قال الشارح: يريد أنّ "فَعَلَ" مفتوح العين يقع على معانٍ كثيرة لا تكاد تنحصر توسّعًا فيه لخفّة البناء واللفظ، واللفظُ إذا خفّ، كثُر استعماله واتسع التصرّفُ فيه، فهو يقع على ما كان عَمَلًا مَرْئيًّا. والمرادُ بالمرئيّ ما كان متعدّيًا فيه علاجٌ من الذي يُوقِعه بالذي يُوقَع به، فيُشاهَد، ويُرَى، وذلك نحوُ: "ضَرَبَ"، و"قَتَلَ"، ونحوِهما ممّا كان علاجًا مرئيًّا. وقالوا في غير المرئي: "شَكَرَ"، و"مَدَحَ". وقالوا في اللازم: "قَعَدَ"، و"جلس"، و"ثبت"، و"ذهب". وقالوا: "نطق الإنسان"، و"هدل الحَمام"، و"صهل الفرس، وضبح" ونحوَ ذلك ممّا معناه الصوت. وقالوا في خلافه: "سكت"، و"همس"، و"صمت". وقالوا في القطع: "جدع أنْفَه"، و"صرب النباتَ"، و"صرم الصديقَ". وقالوا: "نعس"، و"هجع"، و"رقد"، و"هجد"، ونحوَ ذلك ممّا معناه النوم. وقالوا: "أكل الإنسانُ"، و"رتع الفرسُ، ورَعَى" كلُّه أكْلٌ، وقالوا: "نكح"، و"ضربها الفَحْلُ"، و"قرعها"، كلُّه بمعنى الجِماع. وممّا لا يكون إلَّا فَعَلَ إذا كان الفعل بين اثنين كـ "قاتلته"، و"شاتمته". فإذا غلب أحدُهما، كان فعله على "فعَل يفعُل" بفتح العين في الماضي، والضمّ في المستقبل، ¬
نحوِ: "كارَمَنِي، فكَرَمْته، أكْرُمه"، و"خاصمني، فخصمته، أخصُمه"، و"هاجاني، فهجوته، أهجوه". وإنما كان كذلك؛ لأن "فَعَلَ" أخفّ الأبنية، ولأن الكسر يغلب عليه الأدواءُ والأحزان، والمغالبةُ موضوعة للفَلْج والظَّفَرِ، فتَحاموه لذلك. ولم يُبْنَ على "فَعُلَ" بالضمّ؛ لأنه بناءٌ لازمٌ، لا يكون منه "فعلتُه"، وفعلُ المغالبة متعدّ، فلم يأتِ عليه. ومضارعُه مضمومٌ, لأنه يجري مجرى الغرائز، إذ كان موضوعًا للغالب، فصار كالخصلة له، إلَّا أن يكون لامه أو عينه ياءً، أو فاؤُه واوًا، فإنه يلزم مضارعَه الكسرُ، نحوَ: "خايَرَني، فخِرْته، أخِيرُه"، و"راماني، فَرَمَيْتُه، أرْمِيه"، و"واعدني، فوعدتُه، أعِدُه"، و"واحلني، فوحلتُه، أحِلُه"؛ لأن الكسر له في الوصل قياسًا مستمرًّا لا ينكسر، فجاؤوا به هنا على مِنْهاجه، وليس كذلك ما تقدّم من الأبنية؛ لأنّ مضارعها مختلف. وحُكي عن الكسائيّ أنه استثنى ما فيه أحدُ حروف الحلق، وأنْه يُقال فيه: "أفْعَلُه". والحقُّ غيره؛ لأنّ ما فيه حرفُ الحلق قد لا يلزم طريقةً واحدةً، ويأتي على الأصل، نحوَ: "بَرَأ، يبرؤ"، و"هَنَأ، يَهْنَأ"، و"نَهَقَ، يَنْهَق"، و"نَزَعَ، يَنْزع" على ما سيأتي بيانه بعدُ، وليس كما ذكرناه ممْا يلزم فيه الكسر لا غير. وقد حكى أبو زيد: "شاعرتُه، أشعُره"، أي: غلبته في الشعْر، و"فاخرته، أفخُره" بالضمّ. وهذا نصٌّ على أنه لا يلزم فيه الفتح، ولا يكون ذلك في كل شيء. ألا ترى أنّه لا يُقال: "نازعني، فنزعته"؟ كأنّهم استَغْنَوا عنه بـ "غلبته"، كما استغنوا عن "ودعته"، "ووذرته"، بـ "تركته"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: و"فَعِلَ" يكثر فيه الأعراض من العلل والأحزان وأضدادها, كـ "سقم" و"مرض" و"حزن" و"فرح" و"جذل" و"أشر" والألوان كـ "أدم" و"شهب" و"سود". و"فعُل", للخصال التي تكون في الأشياء, كحسُن وقبُح وصغُر وكبُر. * * * قال الشارح: وأمّا "فَعِلَ" بالكسر، فقد استُعمل أيضًا في معانٍ متّسعةٍ، نحوِ: "شَرِبَ الدَّواءَ"، و"سمِع الحديثَ"، و"حَذِرَ العدوّ"، و"عَلِمَ العِلْمَ"، و"رَحِمَ المسكينَ". ويكثر فيما كان داءً، نحوَ: "مرِض"، و"سقِم"، و"حبِط البعيرُ، وحبِج"، وهو أن ينتفخ بطنُه من أكلِ العَرْفَج. وقالوا: "غرِث"، و"عطِش"، و"ظمِىء"؛ لأنها أدواءُ. وقالوا: "فزِع"، و"فرِق"، و"وجِل"؛ لأنه داءٌ وصل إلى فؤاده. وقالوا: "حزِن"، و"غضِب"، و"حرِد"، و"سخِط"؛ لأنها أحزان وأدواء في القلب، وقالوا فيما يُضادّ ذلك: "فرِح"، و"بطِر"، و"أشِر"، و"جذِل". وقد جاء في الألوان، قالوا: "أدِم الرجلُ أُدْمَةَ"، وهي الشُّقْرة، و"شهِب الشيءُ
فصل [معني "تفعلل"]
شُهْبَةً"، وهو بياضٌ غلب على السواد، يُقال منه: "أشهب الرأسُ"، أي: كثر بياضُ شعره، وقالوا: "سَوِدَ الرجلُ" بمعنى "اسودّ" قال نُصيْبٌ [من الطويل]: 1060 - سَوِدتُّ ولم أمْلِكْ سَوادي [وتحته ... قميصٌ مِن القُوهيِّ بِيضٌ بنائِقُه] وأمّا "فعُل" بالضمّ، فبناؤُه موضوع للغرائز والخصال التي يكون عليها الإنسان من حُسْنٍ وقبح ونحوهما، فمن ذلك "حَسُنَ الشيءُ يحسُن"، و"ملُح يملُح"، و"وسُم يوسُمُ"، و"جمُل يجمُلُ"، و"قبُح يقبُح"، و"سهُم وجهُه يسهُم". وقالوا في معناه: "شنُع، يشنُع، فهو شَنِيع"، و"جهُم وجهُه جُهومةً"، وقالوا: "شَرُف"، و"ظرُف"، و"سهُل سُهولةً"، و"صعُب صُعوبةً". وقالوا: "عظُم الشيءُ"، و"ضعُف"، إلى غير ذلك ممّا لا يكاد ينحصر، وبابُه ما ذكرناه، فاعرفه. فصل [معني "تفعلل"] قال صاحب الكتاب: و"تفعلل" يجيء مطاوع "فعلل" كـ "جوربة, فتجورب", ¬
فصل [معاني "تفعل"]
و"جلببه فتجلبب" وبناء مقتضياً كـ "تسهوك" (¬1) , و"ترهوك" (¬2). فصل [معاني "تَفَعَّلَ"] قال صاحب الكتاب: و"تَفَعَّلَ" يجيء مطاوع "فَعَّلَ" نحو: "كسرته, فتكسر، وقطعته فتقطع, وبمعنى التكلف نحو تشجع وتصبر وتحلم وتمرأ. قال حاتم [من الطويل]: 1061 - تحلم عن الأذنين واستبق ودهم ... ولن تستطيع الحلم حتى تحلما قال سيبويه (¬3) وليس هذا مثل "تجاهل"؛ لأن هذا يطلب أن يصير حليمًا. ومنه تقيس وتنزر، وبمعنى استفعل كـ "تكبر", وتعظم وتعجل الشيء, وتيقنه وتقصاه وتثبته وتبينه، وللعمل بعد العمل في مهلة كقولك تجرعه وتحساه وتعرفه, وتفوقه ومنه تفهم وتبصر وتسمع، بمعنى اتخاذ ¬
فصل [معاني "تفاعل"]
الشيء نحو تديرت المكان, وتوسدت التراب. ومنه تبناه وبمعنى التجنب كقولك تحوب وتأثم وتهجد وتحرج أي تجنب الحوب والإثم والهجود والحرج. فصل [معاني "تفاعل"] قال صاحب الكتاب: و"تفاعل", لما يكون من اثنين فصاعداً نحو تضاربا وتضاربوا. ولا يخلو من أن يكون من فاعل المتعدي إلى مفعول أو المتعدي إلى مفعولين. فإن كان من المتعدي إلى مفعول كضارب؛ لم يتعد, وإن كان من المتعدي إلى مفعولين نحو نازعته الحديث وجاذبته الثوب وناسيسته البغضاء تعدي إلى واحد، كقولك تنازعنا الحديث وتجاذبنا الثوب وتناسينا البغضاء. ويجيء ليريك الفاعل أنه في حال ليس فيها نحو تغافلت وتعاميت وتجاهلت. قال [من الرجز]: إذا تخازرت وما بي من خزر (¬1) وبمنزلة فعلت كقولك توانيت في الأمر وتقاضيته وتجاوز الغاية, ومطاوع فاعلت نحو باعدته فتباعد. فصل [معاني "أفْعَلَ"] قال صاحب الكتاب: و"أفْعَلَ" للتعدية في الأكثر, نحو: "أجلسته" و"أمكثته". وللتعريض للشيء وأن يجعل بسبب منه نحو أقتلته وأبعته إذا عرضته للقتل والبيع. ومنه أقبرته وأشفيته وأسقيته إذا جعلت له قبراً وشفاء وسقيا وجعلته بسبب منه من قبل الهبة أو نحوها. أو لصيرورة الشيء ذا كذا نحو أغد البعير إذا صار ذا غدة، وأجرب الرجل وأنحز وأحال صار ذا جرب ونحاز (¬2) وحيال (¬3) في ماله. ومنه "ألام" (¬4) و"أراب" (¬5) و"أصرم النخل" (¬6) وأحصد ¬
فصل [معاني "فعل"]
الزرع (¬1) , وأجزّ" (¬2). ومنه "أبشر" و"أفطر" و"أكبّ", و"أقشع الغيم". ولوجود الشيء على صفة حو أحمدته أي وجدته محموداً، وأحييت الأرض أي وجدتها حية النبات. وفي كلام عمرو بن معد يكرب لمجاشع السلمي: "لله دركم يا بني سليم, قاتلناكم فما أجبناكم وسألناكم فما أبخلناكم وهاجيناكم فما أفحمناكم". وللسلب نحو: "أشكيته", و"أعجمت الكتاب" إذا أزلت الشكاية والعجمة. ويجيء. بمعنى "فعلت" تقول قلت البيع وأقلته وشغلته وأشغلته وبكر وأبكر. فصل [معاني "فَعَّلَ"] قال صاحب الكتاب: و"فَعَّلَ" يؤاخي "أفْعَلَ" في التعدية نحو فرحته وغرمته، ومنه خطأته وفسقته وزنيته وجدعته وعقرته. وفي السلب نحو فزعته وقذيت عينه وجلدت البعير وقردته، أي أزلت الفزع والقذي والجلد والقراد. وفي كونه بمعنى "فَعَلَ" كقولك زلته وزيلته وعضته وعوضته ومزته وميزته. ومجيئه للتكثير هو الغالب عليه, كقولك قطعت الثياب {وغلقت الأبواب} (¬3)، وهو يجول ويطوف أن يكثر الجولان والطواف وبرك النعم وربض الشاء وموت المال (¬4) ولا يقال للواحد. فصل [معاني "فاعَلَ"] قال صاحب الكتاب: و"فَاعَلَ" لأن يكون من غيرك إليك ما كان منك إليه، كقولك ضاربته وقاتلته، فإذا كنت الغالب قلت فاعلني ففعلته. ويجيء مجيء فعلت كقولك سافرت, بمعنى أفعلت نحو عافاك الله، وطارقت النعل, وبمعنى فعّلت نحو ضاعفت وناعمت. فصل [معاني "انفعل"] قال صاحب الكتاب: و"انفعل", لا يكون إلا مطاوع "فَعَلَ", كقولك: كسرته فانكسر، وحطمته فانحطم، إلا ما شذ من قولهم: أقحمته فانقحم، وأغلقته فانغلق، وأسفقته فانسفق، وأزعجته فانزعج. ولا يقع إلا حيث يكون علاج ¬
وتأثير، ولهذا كان قولهم "انعدم" خطأ. وقالوا قلته فانقال؛ لأن القائل يعمل في تحريك لسانه. * * * قال الشارح: فأمّا "انفعل"، فهو بناء مطاوع لا يكون متعدّيًا ألبتّة. وأصله الثلاثة، ثمّ تدخل الزيادة عليه من أوّله، نحوَ: "قطعته، فانقطع" و"شرحته، فانشرح"، و"حسرته، فانحسر". وقالوا: "طردته، فذهب" ولم يقولوا: "انطرد"، استغنوا عنه بـ "ذهب". فأمّا "انطلق"، فإنه لم يستعمل فعله الذي هو مطاوعه، ومثله: "أزعَجْته، فانزعج"، و"أغلقت البابَ، فانغلق"، كأنهم طاوعوا به أفْعَلَ. ومنه قوله [من البسيط]: 1062 - [لا خطوتي تَتَعاطَى غيرَ موضعِها] ... ولا يَدِي في حَمِيتِ السَّكْنِ تَنْدَخِلُ جاء به على: "أدخلته، فاندخل"، وهذا شاذ. ولا يكون "فَعَلَ" الذي "انفعل" مطاوعٌ له إلَّا متعدّيًا، نحوَ: "كسرته، فانكسر"؛ فأمّا قول الشاعر [من الطويل]: وكم منزلٍ لولايَ طِحْتَ كما هَوَى ... بأجْرامه من قُلّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي (¬1) فإنّه استعمله من "هَوَى، يَهوِي"، وهو غير متعدّ كما ترى ضرورة، مع أن هذا البيت من قصيدة وقع فيها اضطرابٌ. واعلم أنه لا يستعمل "انفعل" إلَّا حيث يكون علاجٌ وعمل، فلذلك استُضعف "انعدم الشيءُ"، وقالوا: "قلت الكلام فانقال"؛ لأن القول له تأثيرٌ في إعمال اللسان وتحريكه. ¬
فصل [معاني "افتعل"]
فصل [معاني "افتعل"] قال صاحب الكتاب: و"افْتَعَلَ" يُشارك "انفعل" في المطاوعة, كقولك: "غممته, فاغتم"، وشويته فاشتوى، ويقال: "انغم" و"انشوى". ويكون بمعنى تفاعل نحو اجتوروا واختصموا والتقوا وبمعنى الاتخاذ نحو اذَّبح واطّبخ واشتوى إذا اتخذ ذبيحة وطبيخاً وشواء لنفسه. ومنه اكتال واتزن. وبمنزلة "فَعَُِل" نحو قرأت واقترأت وخطف واختطف. وللزيادة على معناه كقولك اكتسب في كسب، واعتمل في عمل. قال سيبويه (¬1): أما "كسبت", فإنه يقول: أصبت، وأما اكتسبت فهو التصرف والطالب، والاعتماد بمنزلة الإضراب. * * * قال الشارح: أمّا "افتعل"، فهو بمنزلةِ "انفعل" في العدّة، ومثله في حركاته وسكناته. وله معانٍ، أغلبُها الاتّخاذ، يُقال: "اشتوى القوم اللحمَ" إذا اتخذوه شِواءً. وأمّا "شَوَيْت" فكقولك: "أنْضجت"، وكذلك "اختبز العجينَ، وخَبَزَهُ". وله معانٍ أُخَرُ: أحدها: أن يُستعمل بمعنى المطاوعة، فيُشارِك "انفعل"، ولا يتعدّى، كقولك: "غممته، فانغمّ، واغتمّ"، و"شَوَيْته، فانشوى، واشتوى"، وهو قليل. الثاني: أن يكون بمعنى "تَفاعل"، نحو: "اضطربوا"، والمراد: تضاربوا، و"اقتتلوا" في معنى "تقاتلوا"، ومنه "اعتونوا"، و"اجتوروا" في معنى "تعاونوا"، و"تجاوروا". الثالث: أن يجيء بمعنى "فَعَُِلَ"، لا يُراد به زيادةُ معنى، وتلزمه الزيادةُ، نحوَ: "افتقر" في معنى "فَقُرَ"؛ ولذلك تقول في الفاعل منه: "فَقِير". جاؤوا به على المعنى. ومن ذلك "اشتد"، فهو "شديد"، و"استلم الحجرَ". ولا يستعمل "سَلَمَ" ولا "يَسْلُمُ". وأمّا قولهم: "كسب"، و"اكتسب"، قال سيبويه: فرق بينهما: "كسب" بمعنى: أصاب مالًا، و"اكتسب": تصرّف، واجتهد، فهو بمنزلة الاضطراب. وقال غيره: لا فرق بينهما. قال الله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (¬2)، والمعنى واحد. فصل [معاني "استَفْعَل"] قال صاحب الكتاب: و"استفعَلَ" لطلب الفعل، تقول "استخفه" و"استعمله", ¬
واستعجله إذا طلب عمله وخفته وعجلته, و"مر مستعجلاً" أي مر طالباً ذلك من نفسه مكلفها إياه. ومنه "استخرجته", أي لم أزل أتلطف به وأطلب حتى خرج. وللتحول نحو استتيست الشاة (¬1)، واستنوق الجمل (¬2)، واستحجر الطين، وإن البغاث بأرضنا يستنسر (¬3). وللإصابة على صفة نحو استعظمته واستسمنته واستجدته أي أصبته عظيماً وسميناً وجيداً. وبمنزلة "فَعَلَ", نحو: "قرّ" و"استقرّ", و"علا قرنه واستعلاه". * * * قال الشارح: أمّا "استَفْعَل"، فهو على ضربين: متعدّ وغير متعدّ. فالمتعدّي قولهم: "استحقّه"، و"استقبحه". وغير المتعدي: "استقدم"، و"استأخر". ويكون فعلٌ منه متعدّيًا، وغير متعدّ. فالمتعدّي، نحو: "عَلِمَ"، و"استعلم"، و"فَهِمَ"، و"استفهم". وغير المتعدّي، نحو: "قَبُحَ"، و"استقبح"، و"حَسُنَ"، و"استحسن". وله معانٍ: أحدها: الطلب والاستدعاء، كقولك: "استعطيت"، أي: طلبت العطية، و"استعتبته"، أي: طلبت إليه العُتبَى. ومنه "استفهمت"، و"استخبرت". الثاني: أن يكون للإصابة، كقولك: "استجدته"، و"استكرمته"، أي: وجدته جيدًا وكريمًا. وقد يكون بمعنى الانتقال والتحوّل من حال إلى حال، نحوَ قوله: "استَنوَقَ الجمل"، إذا صار على خُلُق الناقة، و"استَتْيَسَت الشاة"، إذا أشبهت التَّيْسَ. ومنه: "استحجر الطين"، إذا تَحوّل إلى طَبْع الحجر في الصَّلابة. وقد يكون بمعنى "تَفعّل" لتكلّف الشيء وتعاطيه، نحوَ: "استعظم" بمعنى "تَعظّم"، و"استكبر" بمعنى "تكبّر"، كقولهم: "تشجّع"، و"تجلّد". وربّما عاقَبَ "فَعَلَ"، قالوا: "قَرّ في المكان، واستقرّ"، و"عَلَا قِرْنَه، واستعلاه". قال الله تعالي: {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} (¬4)، أي: يسخرون، و"يَسْتَرْؤُونَ"، أي: يَرْؤَوْنَ. والغالبُ على هذا البناء الطلب والإصابة، وما عدا ذَيْنك فإنه يُحْفَظَ حِفْظًا، ولا يُقاس عليه. ¬
فصل [معني "افعوعل"]
فصل [معني "افْعَوْعَلَ"] قال صاحب الكتاب: و"افْعَوْعَلَ" بناء مبالغة وتوكيد, فـ "اخشوشن", و"اعشوشبت الأرض", و"احلولى الشيء" مبالغات في "خشن", و"أعشبت" و"حلا". قال الخليل (¬1) في "اعشوشبت": إنما يريد أن يجعل ذلك عاماً قد بالغ. * * * قال الشارح: أمّا "افْعَالَّ"، فأكثرُ ما يكون في الألوان، نحوِ: "اشْهَابَّ"، و"ابياضَّ". ولا يكون متعدّيًا. وهو، إذا لم يُدَّغم، بزنةِ "استفعل" في حركاته وسكناته، وقد يُقصَّر "افْعَالَّ" لطوله، فيرجع إلى "افْعَلَّ". قال سيبويه: وليس شيء يُقال فيه "افعالّ"، إلَّا ويُقال فيه "افعلّ"؛ إلَّا أنه قد تقلّ إحدى اللغتين في الكلمة، وتكثر في الأخُرى، فقولهم: "ابيض"، و"احمرّ"، و"اصفرّ"، و"اخضرّ" أكثر من "ابياضّ"، و"احمارّ"، و"اصفارّ"، و"اخضارّ". وقوله: "اشهابّ" و"ادهامَّ"، أكثر من "اشهبّ"، و"ادهمّ". وقد يأتي "افعالّ" في غير الألوان، قالوا: "اقْطارَّ النبتُ" إذا وَلَّىِ وأخذ يَجِفُّ، و"ابِهارّ الليلُ" إذا أظْلَمَ. وقد يأتي الألوان على "فَعُلَ"، قال: "أدُمَ، يأدُمُ"، وَ"شَهُبَ، يَشْهُبُ" وَ"قَهِبُ، يَقْهَبُ"، وهو سوادٌ يضرب إلى حمرة. وقالوا: "كَهُبَ، يَكهُبُ"، و"سَوِدَ يَسْوَدُ". قال نُصَيْبٌ [من الطويل]: سَوِدتُّ ولم أمَلِك سَوادِي وتَحْتَهُ ... قميصٌ مِن القُوهيّ بِيضٌ بَنائِقُهْ (¬2) وربَّما ضمّوا ذلك جميعَه. وذكر بعض النحويين أن "فَعُلَ" مخفّف عن "افْعَالَّ"، واستدلّ على ذلك بتصحيح العين، نحوِ: "عَوِرَ"، و"حَوِل". قال: صحّت الواو هنا حيث صحّت في "اعوارّ"، إذ كان هو الأصل. وأمّا "افعَوْعل"، فبناء موضوع للمبالغة، قالوا: "خشُن المكان" إذا حزُن. فإذا أرادوا المبالغة والتوكيد؛ قالوا: "اخشَوْشَنَ". وقالوا: " أعْشَبَتِ الأرضُ"، فإذا أرادوا العموم والكثرة، قالوا: "اعْشَوْشَبَتْ" لِما فيه من تكرير العين، وزيادة الواو، فمعنى "خشن"، و"أَعشب" دون معنى "اخشوشن"، و"اعشوشب". وقوّةُ اللفظ مؤذنةٌ بقوة المعنى، إذ الألفاظ قَوالب المعاني. وقد جاء متعدّيًا، قالوا "احْلَوْلَيْتُه"، أي: استطيَبْتُه، قال حُمَيْد [من الطويل]: 1063 - فلمّا مضى عامان بعد انفصاله ... عن الضَرْع واحْلَوْلَى دِماثًا يَرُودُها ¬
وربما بُني الفعل على الزيادة، ولم تفارِقه، نحوُ: "اعرَوْرَيتُ الفَلُوَّ"، إذا ركبتَه عُرْيا، وهو مخالفٌ لِما قبله من "افْعَالَّ"؛ لأن المكرّر هنا العين، وما قبله المكرّر فيه اللام، فزيادةُ الواو هنا كزيادة الألف فيما قبله. وقالوا: "اذْلَوْلَى الرجل" إذا أسرع، ألحقوه بـ "اعرورى"، وبنوه على الزيادة، ولم تفارقه. وأما "افعَوَّلَ"، نحوُ "اجْلَوَّذَ" إذا أَسرع، و"اخرّوط السيرُ" إذا امتدّ، و"اعلوّط البعيرَ" إذا ركب عنقَه، ومعناه المبالغة كـ "افعَوْعَلَ"؛ لأنه على زنته إلَّا أن المكرّر هناك العين، وهنا الواو الزائدة. ¬
الرباعي
ومن أصناف الفعل الرُّباعيُّ [أبنية المجرّد والمزيد منه] قال صاحب الكتاب: للمجرد منه بناء واحد "فَعْلَلَ", ويكون متعدياً نحو دحرج الحجر، وسرهف الصبي. وغير متعد نحو دربخ وبرهم, وللمزيد فيه بناءان "افعنلل" نحو احرنجم وافعلل نحو: "اقشعر". * * * قال الشارح: اعلم أن الرباعيّ له بناءٌ واحدٌ، وهو "فَعْلَلَ". وهو على ضربين: متعدّ وغير متعدّ. فالمتعدّي، نحو: "سرهفتُه"، إذا أصلحتَ غِذاءَه، و"دحرجتُه". وغير المتعدّي، نحو: "دربختِ الحَمامةُ"، إذا خضعت لذَكرها، و"بَرْهَمَ"، أي: أدام النظرَ، وأسكن طَرْفَه. وللمزيد فيه بناءان: "افْعَنْلَلَ"، نحو: "احرنجم" بمعنى الازدحام والتجمّع، والمراد به هنا: المطاوعة، فهو في الرباعيّ كـ "انْفَعَلَ" في الثلاثي. والثاني "افْعَلَلَّ"، كـ "اقشعرّ" و"اطمأنّ"، وهو كـ "احمرّ" و"اصفرّ"، في الثلاثي، ولذلك لا يتعدّى، و"اسْحَنْكَك" (¬1)، و"اقعنسس" (¬2)، و"احْرَنْبَأ" (¬3) كل ذلك ملحق بـ "احرنجم"، وأصله الثلاثة، والكاف الثانية والسين الثانية مكررتان، ولذلك لا يدّغم المثلان فيه كما لا يدغم نحو: "جلبب"، و"شملل". فصل [مزيدات الرُّباعي] قال صاحب الكتاب: وكلا بنائي المزيد فيه غير متعد وهما في الرباعي نظير ¬
"انفعل", و"افعلَّ", في الثلاثي. قال سيبويه (¬1): وليس في الكلام أحرنجمته؛ لأنه نظير انفعلت في بنات الثلاثة، زادوا نوناً وألف وصل كما زادوهما في هذا. وقال (¬2): وليس في الكلام أفعللته ولا افعاللته، وذلك نحو احمررت واشهاببت. ونظير ذلك من بنات الأربعة اطمأننت واشمأززت * * * قال الشارح: قد تقدّم القول على هذَيْن البناءيْن، وأنّ بناءَ "احرنجم" بناءُ مطاوعةٍ، فهو بمنزلة "انفعل" في الثلاثي، ولذلك لا يتعدّى؛ لأنه إذا طاوَعَ لا يفعل بغيره شيئًا. وكذلك "افعللتُ"، و"افعاللتُ"، لا يتعدّى شيء من ذلك، فلا يُقال: "احرنجمته"، ولا "احمررته"، ولا "اشهاببته"؛ لأنها مختصّة بالألوان، فهي جارية مجرى الخُلْق، فلا تتجاوز الفاعلَ، فاعرفه. ¬
القسم الثالث في الحروف
القسم الثالث في الحُروف فصل [تعريف الحرف] قال صاحب الكتاب: الحرف ما دل على معنى في غيره, ومن ثم لم ينفكَّ من اسم أو فعل يصحبه. * * * قال الشارح: لمّا فرغ من الكلام على قسمَيِ الاسم والفعل، انتقل إلى الكلام على الحرف. والحرف كلمة دلّت على معنى في غيرها. فقولُنا: "كلمة" جنسٌ عامٌّ يشمل الاسمَ والفعلَ والحرفَ، وقولُنا: "دلّت على معنى في غيرها" فصل ميزه من الاسم والفعل، إذ معنى الاسم والفعل في أنفسهما، ومعنى الحرف في غيره، ألا تراك إذا قلت: "الغلام" فُهم منه المعرفة، ولو قلت: "أل" مفردةً، لم يُفْهَم منه معنًى؟ فإذا قُرن بما بعده من الاسم، أفاد التعريف في الاسم، فهذا معنَى دلالته في غيره. وقولهم: "ما دل على معنى في غيره" أمثلُ من قولِ من يقول: "ما جاء لمعنى في غيره"؛ لأن في قولهم: "ما جاء لمعنى في غيره"؛ إشارةً إلى العلّة، والمراد من الحدّ الدلالة على الذات، لا على العلّة التي وُضع لأجلها، إذ علّةُ الشيء غيرُه. وقولنا: "كلمة" أسدٌّ من قوله: "ما دل"؛ لأن الكلمة أقرب من الحرف، فهي أدلُّ على الحقيقة. وقد زعم بعضهم أن هذا الحدّ يفسُد بـ "أيْنَ"، و"كَيْفَ"، ونحوِهما من أسماء الاستفهام، و"مَنْ"، و"ما" ونحوِهما من أسماء الجزاء، فإن هذه الأسماء تفيد الاستفهام فيما بعدها، وتفيد الجزاء، فتُعلِّق وجودَ الفعل بعدها على وجود غيره، وهذا معنى الحروف. والجوابُ عن هذا الإشكال أن هذه الأسماء دلّت على معنى في نفسها بحكم الاسمية، فـ "أيْنَ" دلّت على المكان، و"كَيْفَ"، دلّت على الحال، وكذلك أسماء الجزاء، فـ "مَن" دلّت على من يعقل، و"ما"، دلّت على ما لا يعقل. وأمّا دلالتهما على الاستفهام والجزاء، فعلى تقدير حرفَيْهما، فهما شيئان دلّا على شيئَيْن، فالاسم دلّ على مسمّاه، والحرفُ أفاد في غيره معناه. ويؤيد ذلك بناؤها لتضمُّنها معنى الحرف، وإنما يلزم أن لو كانت هذه الأسماء باقية على بابها من الاسميّة والتمكّنِ، وقد دلّت على هاتَيْن الدلالتَيْن، ليكون كاسرًا للحدِّ. وربما احترز بعضهم من ذلك، فقال: "ما دلّ على معنى في غيره
فقط"، فيفصل بقوله: "فقط" بين هذه الأسماء، والحروف، إذ هذه الأسماءُ قد دلّت دلالتَيْن: دلالةَ الأسماء، ودلالة الحروف. ومنهم من يضيف إلى هذا الحدّ، "ولم يكن أحدَ جزءَي الجملة"، كأنه يفصل بذلك بين هذه الأسماء والحروف، فإن هذه الأسماء، وإن دلت على معنى في غيرها من الجهة المذكورة، فقد تكون أحد جزءي الجملة، ألا ترى أن "أيْنَ" و"كَيْفَ" يكون كل واحد منهما جزءًا لجملةٍ من نحوِ "أيْنَ زيدْ؟ " و"كَيْفَ عمروٌ؟ " فـ "زيدٌ" مبتدأ، و"أيْنَ" الخبر، وكذلك "عمروٌ؟ " مبتدأ و"كيف" الخبر. وتقول: "مَن عندك؟ " فيكون "مَنْ" مبتدأ، و"عندك" الخبر، فهذه الأشياء قد تكون أحد جزءي الجملة، أي: مبتدأ، أو خبرَ مبتدأ، وليس كذلك الحروف، فإنه لا يُخْبَر بها، ولا عنها، تقول: "إلى قائمٌ" على أن يكون "إلى" مبتدأ، و"قائمٌ" الخبر، كما تقول: "زيدٌ قائمٌ"؛ ولا: "عَن ذاهبٌ". كما تقول: "زيدٌ ذاهبٌ" ... وقد صرّح ابن السرّاج بهذا المعنى في تحديد الحرف، فقال: هو الذي لا يجوز أن يُخْبَر عنه، ولا يكون خبرًا. قال أبو علي الفارسيّ: مَن زعم أن الحرف ما دل على معنى في غيره، فإنّه ينبغي أن تكون أسماءُ الأحداث كلّها حروفًا؛ لأنها تدلّ على معان في غيرها، فإن قال: فإن القيام يُتوهّم منفردًا من القائم، قيل له: فإن الإلصاق والتعريف الذي يدل عليهما باءُ الجرّ ولامُ المعرفة قد يُتوهّمان منفردَيْن عن الاسمَيْن. ولو كان هذا كما قال، لوجب أن يكون "هُوَ" الذي للفصل حرفًا، لأنه يدل على معنى في غيره. ألا ترى أنّها تجيء لتدلّ على أن الخبر معرفة، أو قريبٌ من المعرفة، أو لتُؤذِن أن الاسم الذي بعدها ليس بوصفٍ لِما قبلها؟ ويلزم أن تكون أسماءُ التأكيد حروفًا؛ لأنها تدلّ على تشديد المؤكَّد وتبيينه، ألا ترى أنّ منها ما لا يتقدّم على ما قبله مثلَ "أكْتَعِينَ"، "أبْصَعِينَ"؟ وينبغي أن تكون الصفات كذلك أيضًا؛ لأنها تدلّ على معان في غيرها. وينبغي أن تكون "كَمْ" في الخبر في نحوِ: "كم رجل" حرفًا, لأنها تدلّ على تكثير في غيرها، وهو تكثير الرجال. وينبغي أن تكون "مِثل" حرفًا؛ لأنها تدلّ على تشبيه في غيرها. وينبغي أن لا تكون "ما" حرفًا في قولهم: "إنّك ما وَخَيْرًا"؛ لأنها لا تدلّ على معنى في غيرها، وكذلك "ما حاجبَيْهِ"؛ وأن لا تكون "ما" في قوله: "إمّا لا" حرفًا؛ لأنها لا تدلّ على معنى في غيرها، وإنّما تدلّ على الفعل المحذوف. وكذلك "أمّا أنت منطلقٌ انطلقتُ". وكذلك قولُ من قال: إِنّه الذي لا يجوز أن يكون خبرًا، ولا مُخْبَرًا عنه فاسدٌ، لأن الأسماء المضمرة المجرورة، والأسماء المضمرة المنصوبة المتّصلة والمنفصلة لا تكون أخبارًا، ولا مخبرًا عنها، وكذلك الفَصْل نحوُ "هُوَ" لا يكون خبرًا، ولا مخبرًا عنه، انتهى كلامُ أبي عليّ. قال الشارح: كأنّ أبا على أورد هذه التشكيكاتِ للبَحْث، وإذا أنعم النظر، كانت غير لازمة. أمّا أسماء الأحداث، فكلها أسماءٌ يُخْبَر عنها كما يخبر عن الأعيان، نحوَ
قولك: "العلمُ حسنٌ"، و"الجهلُ قبيح"؛ لأن العلم والجهل ونحوهما سِمَاتٌ على مُسَمّياتِ معقولةٍ متوهَّمةٍ منفصلةٍ عن مَحالّها، وإن كانت لا تنفصل بالوجود من حيث كانت أعراضًا، والعرضُ لا يقوم بنفسه. وأمّا قوله: إن الباء تدلّ على الإلصاق، واللام تدلّ على التعريف، والإلصاقُ والتعريفُ يُتوهّمان منفردَيْن، فالقولُ في ذلك: إن الإلصاق والتعريف اسمان يُتوهّمان منفردَيْن، لا فرقَ بينهما وبين غيرهما من الأحداث. ولا كلامَ فيهما، إنما الكلام في الباء نفسها، فإنها لا تدلّ على الإلصاق حتى تضاف إلى الاسم الذي بعدها، لا أنّه يتحصّل منها مفردة، وكذلك القولُ في لام التعريف ونحوها من حروف المعاني. وأمّا الأسماء المضمرة التي تكون فصلًا، من نحوِ "كنتُ أنا القائمَ"، و"كنّا نحن القائمين"، وقوله تعالى: {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} (¬1)، فهي أسماءٌ قد سُلبت دلالتَها على الاسميّة، وسُلك بها مذهبَ الحروف بأن أُلغيتْ. ومعنَى إلغاء الكلمة أن تأتي لا موضعَ لها من الإعراب، وأنها متى أُسْقطت من الكلام، لم يختل الكلامُ، ولم يتغيّر معناه، وتصير كالحروف الملغاة من نحو "ما" في قوله تعالى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (¬2)، والمراد: مثلًا بعوضةً، وقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (¬3). فلولا إلغاءُ "ما"، لم يَتخط الخافضُ، وعمِل فيها بعدها، فتجري هذه الأسماء مجرى الحروف. وكونها قد صارت في مذهبها، لم يخبر عنها كما لم يخبر عن سائر الحروف، فاعرفه. وأمّا أسماء التأكيد، فإنها أسماء دالّة على معانٍ في أنفسها. ألا ترى أنك إذا قلت: "جاءني زيدٌ نفسُه، فالنفسُ دلّت على ما دل عليه زيدٌ، فصار ذلك كتكرار اللفظ، نحوِ قولك: "زيدٌ زيدٌ". فزيدٌ الثاني لم يدل على أكثر ممّا دل عليه الأول، والتأكيدُ والتشديدُ معنى حصل من مجموع الاسمَيْن، لا من أحدهما. وأمّا الصفات من نحوِ "جاء زيد العاقلُ"، فإن الصفة التي هي العاقل لم تدلّ على معنى في الموصوف، وإنما دلت على معنى في نفسها، نحوِ: "العاقل"، فإنه دل على ذاتٍ باعتبار العقل. فإذا جمعتَ بين الصفة والموصوف، نحوَ قولك: "زيدٌ العاقلُ"، حصل البيان والتعريف من مجموع الصفة والموصوف، لا من أحدهما، فبان لك أن الصفة لم تدلّ على معنى في غيرها، وإنما دلت على معنى تحتها. وأمّا "مِثْلٌ" فأمرُها كأمر الصفة، لأنها بمعنى "مُشابِهٍ" و"مُماثِلٍ"، وذلك معنى معقول في نفس الاسم. وأمّا كونها تقتضي مماثلًا, فليس ذلك بذاتيّ لها، ولا من مُقوِّماتها، وإنما ذلك من لوازمها. وأمّا "كَمْ" في الخبر، فهي اسمٌ بمعنى العدد والكثيرِ، وأمّا كونها تدلّ على كثرة ¬
الرجال مثلًا إذا قلت: "كم رجلٍ"، فإنّ الكثرة لم تُفِدْها "كَمْ" في الرجال، وإنما "كم" لعددٍ مبهمٍ يقع على القليل منه والكثير. فإذا أُضيفت إلى ما بعدها، بَيَّنَ أن المراد الكثير، فجرى مجرى الألفاظ المُجْمِلة المترّدّدة بين أشياءَ، وبَيَّنها غيرُها من قرينة حالٍ أو لفظٍ. ولا يُخْرِجها ذلك عن أن تكون دالة على ذلك الشيء. وأمّا الحروف الزائدة، فإنها وإن لم تُفِدْ معنى زائدًا، فإنها تفيد فضلَ تأكيدٍ وبيانٍ، بسبب تكثير اللفظ بها. وقوّةُ اللفظ مؤذنة بقوة المعنى، وهذا معنًى لا يتحصّل إلَّا مع كلام. وأمّا إفسادهم قولَ من عرّف الحرف بأنه الذي لا يجوز أن يكون خبرًا، ولا مخبرًا عنه بالأسماء المضمرة المجرورة، والأسماء المضمرة المنصوبة المتّصلة والمنفصلة، فالقولُ أن امتناع الإخبار عن هذه الأسماء وبها، لم يكن لأمرٍ راجعٍ إلى معنى الاسم، وإنما ذلك لأنها صِيغ موضوعةٌ بإزاءِ اسم مخفوض أو منصوب. فلو أُخبر عنها، وجب أن ينفصل الضمير المجرور، ويصير عِوَضَه ضميرٌ مرفوعُ الموضع، نحوُ: "أنْتَ"، وشِبْهِه. وكذلك الضمير المنصوب لو أُخبر به أو عنه، لتَغيّر إعرابُه، ووجب تغييرُ صيغة الإعراب. فامتناعُ الإخبار عن هذه الأشياء لم يكن إلَّا من جهة الإعراب. قال الزمخشري: لو كان الحرف يدلّ على معنى في نفسه، لم يُفْصَل بين "ضَرَبَ زيدٌ"، و"ما ضرب زيدٌ"؛ لأنه كان يبقى معنى النفي في نفسه. وقوله: "ومن ثمّ لا ينفك من اسم أو فعل يصحبه"، يريد: ولكونه لا يدل على معنى إلَّا في غيره، افتقر إلى ما يكون معه ليفيده معناه فيه. وجملةُ الأمر أنه دخل الكلامَ على ثلاثة أضرب لإفادةِ معنى فيما يدخل عليه، ولتعليقِ لفظ بلفظ آخر ورَبْطِه به، ولزيادةِ ضرب من التأكيد. فالأولُ ثلاثةُ مواضع: أحدها: أن يدخل على الاسم، نحوِ: "الرجل"، و"الغلام"، فالألفُ واللام أفادت معنى التعريف فيهما؛ لأنهما كانا نكرتين. الثاني: أنه يدخل الفعلَ، نحوَ: "قَدْ"، و"السين"، و"سَوْفَ"، نحوَ قولك: "قد قام"، و"سيقوم"، و"سوف يقوم". فهذه الحروف أحدثت بدخولها على الفعل معنى لم يكن قبلُ، فَقَدْ قرّبته من الحاضر، والسينُ وسوف مختصّة بالاستقبال، وخلّصتْه له بعد أن كان شائعًا في الحال والاستقبال. فهذه الحروفُ في الأفعال نظيرةُ الألف واللام في الأسماء. الثالث: أن يدخل على الكلام التامّ والجملةِ المفيدة، نحوَ قولك: "أزيدٌ عندك؟ " و"ما قام خالدٌ". فلمّا دخلت الهمزةُ، أحدثت فيه معنى الاستفهام، وقد كان خبرًا، وكذلك "ما" أحدثت معنى النفي، وقد كان موجَبًا. وأمّا الضرب الثاني من القسمة الأُولى: فهو في أربعة مواضع: أحدُها: أن يدخل
لرَبْط اسم باسم، وهو معنى العطف، نحوَ قولك: "جاء زيدٌ وعمروٌ". الثاني: أن يدخل لربط فعل بفعل، نحوَ: "قام زيدٌ وقعد". الثالث: أن يدخل لربط فعل باسم، نحو قولك: "نظرتُ إلى زيد"، و"انصرفت عن جعفر"، وهو معنى التعدية. الرابع: أن يدخل لربط جملة بجملة، نحو قولك: "إن تُعْطِنِي أشْكُرْك"، وكان الأصل: "تُعْطِينِي أشْكُرُك"، وليس بين الفعلَيْن اتصالٌ، ولا تعلّقٌ، فلمّا دخلت "إنْ" علّقتْ إِحدى الجملتين بالأُخرى، وجعلتِ الأوُلى شرطًا والثانية جزاءً. وأما الضرب الثالث: وهو أن يدخل زائدًا لضرب من التأكيد، نحوُ قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} (¬1)، ونحو قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} (¬2). ألا ترى أنّ "ما" لو كان لها موضعٌ من الإعراب، لَمَا تَخطّاها الباءُ، وعمِل فيما بعدها، وكذلك "لا" من قولهم: "ما قام زيدٌ ولا عمروٌ"، والواو هي العاطفة، و"لا"، لَغْوٌ كأنهم شبّهوها بـ "ما"، فزادوها. ومن ذلك "إن" الخفيفة المكسورة، في نحو قوله [من الوافر]: فما إنْ طِبُّنا جُبُنٌ [ولكِنْ ... مَنايانا ودَوْلةُ آخرينا] (¬3) والمراد: "فما طبنا". وكذلك المفتوحة في نحو قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ} (¬4). فهذه الحروف ونحوها لا موضع لها من الإعراب، ولا معنى لها سوى التأكيد. * * * قال صاحب الكتاب: إلا في مواضع مخصوصة حذف فيها الفعل واقتصر على الحرف فجرى مجرى النائب، نحو قولك: "نعم" و"بلى" و"إي" و"إنه" و"يا" و"زيد" و"قد" في قوله [من الكامل] 1064 - [أرف الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا] وكأن قد * * * ¬
قال الشارح: لمّا اشترط في الحرف أن يكون مصحوبًا بغيره، إذ لا معنى له في نفسه، استثنى منه حروفًا قد حُذف الفعل منها، وبقي الحرفُ وحده مفيدًا معنى، فربما ظنّ ظانٌّ أن تلك الفائدة من الحرف نفسه، والفائدةُ إنما حصلت بتقدير المحذوف. وتلك الحروفُ التي يجاب بها، وهي: "نَعَمْ"، و"بَلَى"، و"إي"، و"إنَّه"، بمعنَى "نعم" من قوله [من مجزوء الكامل]: بَكَرَ العَواذِلُ في الصَّبُو ... ح يَلُمْنَنِي وألُومُهُنَّهْ ويَقُلْنَ شَيْبٌ قد عَلَا ... كَ وقد كَبِرْتَ وقلتُ إنَّهْ (¬1) أي: نَعَمْ قد علاني الشيب، فهذه الأشياءُ قد يُكتفى بها في الجواب، فيقال: "أقام زيدٌ؟ " فيقال في جوابه: "نَعَمْ"، أي: نعم قد قام. فـ "نعم" قد أفادت إيجاب الجملة بعدها، إلَّا أنها قد حذفت لدلالة الجملة المستفهَم عنها قبلها. واللفظُ إذا حُذف، وكان عليه دليلَ، وهو مرادٌ، كان في حكم الملفوظ، وكذلك سائرها. ألا ترى أنه قد ساغت الإمالةُ في "بَلى" و"لا" لوقوع الكناية بهما في الجواب بنيابتهما عن الجمل المحذوفة، فكذلك "يا" في النداء من نحوِ "يا زيدُ"، فـ "يا" قد ثابت هنا منابَ "أدْعُو"، و"أُنادِي". وقد ذَهب بعضهم إلى أنها قد دخلت لمعنى التنبيه، والفعلُ مراد بعدها، والعملُ في الاسم بعدها إنما هو لذلك الفعل لا لها. وقال آخرون: إنما العملُ لها بالنيابة، ¬
ولذلك ساغت فيها الإمالة. والذي يدل أن العمل لها دون الفعل المحذوف أنّ ما حُذف فيه الفعل إذا ظهر الفعل، لم يتغير المعنى، وأنت لو أظهرت "أدعو" و"أُنادي" لتغير المعنى، وصار خبرًا، والنداءُ ليس بخبر. الأمر الثاني: أن العرب قد أوصلت حروف النداء إلى المنادَى تارة بأنفسها، وأُخْرَى بحرف الجرّ، وذلك نحوُ: "يا زيدُ"، و"يا لَزيدٍ"، و"يا بكرُ"، و"يا لَبكرٍ"، فجرى ذلك مجرى "جئتُ زيدًا"، و"جئت إليه"، و"سُمِّيت زيدًا"، و"سمّيت بزيدٍ". ويؤيد ذلك جوازُ الإمالة فيه كما جاز في "بَلى" و"لا". هو في "بَلى" أسهلُ لتمام اللفظ ومجيئها على عدّة الأسماء، وضُعْفِ "يا"، و"لا"، لنقص لفظهما. فإن قيل: ولِمَ جيء بالحروف؟ وما كانت الحاجةُ إليها؟ فالجواب أن حروف المعاني جُمَعَ جيء بها نيابةً عن الجمل، ومفيدةً معناها من الإيجاز والاختصار. فحروفُ العطف جيء بها عوضًا عن "أعطِفُ"، وحروفُ الاستفهام جيء بها عوضًا عن "أستفهمُ"، وحروفُ النفي إنما جاءت عوضًا عن "أنفي"، وحروف الاستثناء جاءت عوضًا عن "أستثني" أو "لا أعني"، وكذلك لامُ التعريف ثابت عن "أُعَرِّفُ"، والتنوينُ ناب عن "خَفَّ"، وحروفُ الجز جاءت نائبة عن الأفعال التي هي بمعناها، فالباء ثابت عن "أُلصِقُ"، والكاف نابت عن " أُشَبِّهُ"، وكذلك سائر الحروف. ولذلك من المعنى لا يحسن حذف حروف المعاني كحروف الجرّ ونحوها؛ لأن الغرض منها الاختصار، واختصارُ المختصَر إجحافٌ. فإن قيل: فإذا كانت هذه الحروف نائبةً عن الأفعال على ما زعمتم، والأفعالُ معناها في نفسها، لِمَ كانت الحروف معناها في غيرها، والخَلَفُ لا يُخالِف الأصلَ في حقّ الحكم؟ فالجواب أن كلّ فعل متعدِّ بنفسه وبواسطةٍ، فإنّما هو عبارة ولفظٌ دالّ على فعلٍ واصلٍ إلى المفعول، فإذا قلت: "أدعو غلامَ زيد"، فـ "أدعو" ليس واصلًا بنفسه إلى غلام زيد، وإنّما هو دالّ على الدعاء الواصلِ إلى الغلام. فحروفُ "أدعو" عبارة عن حروف الدعاء، وليس كذلك قولك: "يا غلامَ زيد"، فإنّ إضافةَ "يا" إلى ما بعدها فُهم منها معنى الدعاء الدال عليه "أدعو"، فأنت إذا قلت: "يا غلام زيد"، فهو نفس الدعاء، وإذا قلت: "أدعو" كان إخبارًا عن وقوع الدعاء، وكذلك إذا قلت: "أستفهمُ"، كان عبارة عن طلب الفهم، وإذا قلت: "أقام زيدٌ؟ " كان نفس الطلب. فلمّا افترق معناهما، افترق حكمُهما، فافْهَمْه، ففيه لُطْفٌ.
ومن أصناف الحرف
ومن أصناف الحرف حروفُ الإضافة فصل [تسميتها] قال صاحب الكتاب: سميت بذلك لأن وضعها على أن تُفضي بمعاني الأفعال إلى الأسماء, وهي فوضى في ذلك, وإن اختلفت بها وجوه الإفضاء. * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الحروف تسمّى حروف الإضافة؛ لأنها تضيف معاني الأفعال قبلها إلى الأسماء بعدها، وتسمّى حروف الجرّ؛ لأنها تجرّ ما بعدها من الأسماء، أي: تخفضها. وقد يسمّيها الكوفيون حروف الصفات, لأنها تقع صفاتٍ لِما قبلها من النكرات. وهي متساويةٌ في إيصال الأفعال إلى ما بعدها وعَمَلِ الخفض، وإن اختلفت معانيها في أنفسها، ولذلك قال: "هي فَوْضَى في ذلك"، أي: متساوية، يُقال: "قومٌ فَوْضَى"، أي: متساوون لا رئيس لهم. قال الشاعر [من البسيط]: 1065 - لا يَصْلُحُ الناسُ فَوْضَى لا سَراةَ لهم ... ولا سَراة إذا جُهّالُهم سادوا ¬
فلمّا كانت هذه الحروف عاملة للجرّ، من قبل أن الأفعال التي قبلها ضعُفت عن وُصولها وإفضائها إلى الأسماء التي بعدها كما يُفْضِي غيرُها من الأفعال القوية الواصلة إلى المفعولين بلا واسطةِ حرف الإضافة، ألا تراك تقول: "ضربتُ عمرًا"، فيُفْضِي الفعلُ بعد الفاعل إلى المفعول، فينصب, لأن في الفعل قوّةً أفضتْ إلى مباشرة الاسم. ومن الأفعال أفعالٌ ضعُفت عن تجاوُز الفاعل إلى المفعول، فاحتاجت إلى أشياءَ تستعين بها على تناوُله والوصول إليه، وذلك نحوُ: "عجبتُ"، و"مررت"، و"ذهبت". لو قلت "عجبت زيدًا"، أو "مررت جعفرًا"، أو "ذهبت محمّدًا"، لم يجز ذلك لضعف هذه الأفع الذي العُرْف والاستعمال عن إفضائها إلى هذه الأسماء. على أن ابن الأعرابيّ قد حكى عنهم: "مررت زيدًا"، كأنه أعمله بحسب اقتضائه، ولم ينظر إلى الضعف، وهو قليل شاذّ. وأنشدوا [من الوافر]: 1066 - تَمُرّون الديارَ ولم تَعُوجُوا ... كلامُكُمُ عَلَيَّ إذًا حَرامُ ¬
فلما ضعفت هذه الأفعال عن الوصول إلى الأسماء رفدت بحروف الإضافة، فجعلت موصلة لها إليها. فقالوا: "عجبتُ من زيد"، و"نظرتُ إلى عمرو"، وخُص كلّ قبيل من هذه الأفعال بقبيل من هذه الحروف، وقد تَداخلت، فيُشارِك بعضُها بعضًا في هذه الحروف الموصلة، وجُعلت تلك الحروف جارّةً، ولم تُفْضِ إلى الأسماء النصبَ من الأفعال قبلها؛ لأنهم أرادوا الفصل بين الفعل الواصل بنفسه وبين الفعل الواصل بغيره؛ ليمتاز السببُ الأقوى من السبب الأضعف. وجُعلت هذه الحروف جارّةً؛ ليخالف لفظُ ما بعدها لفظَ ما بعد الفعل القويّ. ولمّا امتنع النصب لِما ذكرناه، لم يبق إلَّا الجرّ؛ لأن الرفع قد استبدّ به الفاعلُ، واستولى عليه، فلذلك عدلوا إلى الجرّ؛ لأن الجرّ أقرب إلى النصب من الرفع؛ لأن الجرّ من مَخْرج الياء، والنصب من مخرج الألف، والألفُ أقرب إليها من الواو. فإن قيل: فإذا قلتم: إن هذه الحروف إنما أُتي بها لإيصال معاني الأفعال إلى الأسماء، فما بالهم يقولون: "زيدٌ في الدار"، و"المالُ لخالدٍ" فجيء بهذه الحروف، ولا فعلَ قبلها؟ فالجواب أنه ليس في الكلام حرفُ جر إلَّا وهو متعلّقٌ بفعل، أو ما هو بمعنى الفعل في اللفظ أو التقدير. أمّا اللفظ، فقولك: "انصرفت عن زيد"، و"ذهبت إلى بكرٍ"، فالحرف الذي هو "إلى" متعلّقٌ بالفعل الذي قبله. وأمّا تعلُّقه بالفعل في المعنى، فنحو قولك: "المالُ لزيد"، تقديرُه: المال حاصلٌ لزيد. وكذلك "زيدٌ في الدار" تقديره: زيدٌ مستقرٌّ في الدار، أو يستقرّ في الدار، فثبت بما ذكرناه أن هذه الحروف إنما جيء بها مُقوِّيةَ ومُوصِلةً لِما قبلها من الأفعال، أو ما هو في معنى الفعل إلى ما بعدها من الأسماء. فإن قيل: فما لهم لا يخفضون بالواو في المفعول معه، نحو "استوى الماءُ والخَشَبَةَ"، و"جاء البَرْدُ والطَيالِسَةَ"، وبـ "إلَّا" في الاستثناء، نحو: "قام القومُ إلَّا زيدًا"، وكل واحد منهما إنما دخل مُقوِّيًا للفعل قبله، ومُوصِلًا له إلى ما بعده كما كانت حروف الجرّ كذلك، وفي عدم اعتبارِ ذلك دليلٌ على فساد العلّة؟ فالجواب أن حروف الجرّ إنّما عملت لشَبَهها بالأفعال واختصاصِها بالأسماء، واختضت بعمل الجرّ دون غيرها، لِما ذكرناه من العلّة. فأمّا واو المفعول معه، و"إلَّا" في الاستثناء فلم يستحقّا أصلَ العمل لعدم اختصاصهما، فلم يعملا جرًّا ولا غيرَه. وأمّا الواو، فلأنّ أصلها العطف، وحرفُ العطف لا عملَ له لعدم اختصاصه بالأسماء دون الأفعال. والذي يدلّ على ذلك أنها لا تستعمل بمعنى "مَعَ" إلَّا في الموضع الذي يجوز أن تكون فيه عاطفةً، نحوِ قولك: "قمتُ وزيدًا"، أي: مع زيد؛ لأنه يجوز أن تقول: "قمتُ وزيدٌ"، فترفع "زيدًا" بالعطف على موضع التاء. وكذلك: "لو تُركت الناقةُ وفصيلَها" بمعنى: مع فصيلها، فإنّه قد كان يجوز أن تقول: و"فصيلُها"، بالرفع بالعطف على "الناقة".
ولو قلت: "مات زيدٌ والشمسَ"، أي: مع الشمس، لم يصحّ؛ لأنه لا يصحّ عطف "الشمس" على "زيد" المُسْنَدِ إليه الموتُ، إذ لا يصحّ فيها الموت. وكذلك لو قلت: "لانتظرتُك وطلوعَ الشمس"؛ لم يصحّ؛ لأنك لو رفعت بالعطف على الفاعل، لم يجز؛ لأن "الشمس" لا يصحّ منها الانتظارُ. هذا مع أن أبا الحسن الأخفش كان يذهب إلى أن انتصاب المفعول معه انتصابُ الظرف، يعمل فيه روائحُ الأفعال، فلا يحتاج إلى مُقَوٍّ للفعل. وأمّا "إلَّا" في الاستثناء، فكذلك لا اختصاص لها بالأسماء، ولا يصحّ إعمالها فيما بعدها، ألا تراك تقول: "ما جاء زيدٌ قطّ إلَّا يضحك"، و"ما مررت به إلا يُصلِّي"، و"لا رأيتُه قطّ إلَّا في المسجد"؟ فلمّا كانت تدخل على الأفعال والحروف على حدّ دخولها على الأسماء؛ لم يكن لها عملٌ، لا جرٌّ، ولا غيره. كيف وأبو العبّاس المبرد كان يذهب إلى أن الناصب للمستثنى فعلٌ دلّ عليه مجرى الكلام، تقديرُه: "أستثني"، أو"لا أعني" ونحوُه، فلا تكون "إلَّا" مُقوِّيةً. فافترق حالُ هذين الحرفين، أعني الواو و"إلَّا"، وحال حروف الجّر. واعلم أن حرف الجرّ إذا دخل على الاسم المجرور، فيكون موضعُ الحرف الجارّ والاسمِ المجرور نصبًا بالفعل المتقدّم. يدلّ على ذلك أمران: أحدهما: أنّ عِبْرة الفعل المتعدّي بحرف الجرّ عبرةُ ما يتعدّى بنفسه إذا كان في معناه، ألاَّ ترى أن قولك: "مررت بزيد" معناه كمعنى "جُزْت زيدًا"، و"انصرفتُ عن خالدٍ" كقولك: "جاوزتُ خالدًا؟ " فكما أنّ ما بعد الأفعال المتعدّية بأنفسها منصوبٌ، فكذلك ما كان في معناها ممّا يتعدّى بحرف الجرّ؛ لأن الاقتضاء واحدٌ، إلَّا أن هذه الأفعال ضعُفت في الاستعمال، فافتقرت إلى مُقَوٍّ. والأمر الآخر: من جهة اللفظ، فإنّك قد تنصب ما عطفتَه على الجار والمجرور، نحوَ قولك: "مررت بزيد وعمرًا"، وإن شئت: "وعمروٍ" بالخفض على اللفظ، والنصب على الموضع. وكذلك الصفةُ، نحوُ: "مررت بزيدٍ الظريفَ (بالنصب) والظريفِ (بالخفض) ". فهذا يؤذن بأن الجارّ والمجرور في موضع نصب. ولذلك قال سيبويه (¬1): إنك إذا قلت: "مررت بزيد"، فكأنّك قلت: "مررت زيدًا". يريد أنه لو كان ممّا يجوز أن يستعمل بغير حرف جرّ، لكان منصوبًا. وجملةُ الأمران حرف الجرّ يتنزّل منزلةَ جُزْء من الاسم من حيث كان وما بعده في موضع نصب، وبمنزلةِ جُزْء من الفعل من حيث تَعدّى به، فصار حرفُ الجرّ بمنزلة الهمزة والتضعيف من نحوِ "أذهبتُ زيدًا"، و"فرّحته"، فاعرفه. ¬
[أنواعها]
[أنواعها] قال صاحب الكتاب: وهي على ثلاثة أضرب: ضرب لازم للحرفية, وضرب كائن إسماً وحرفا, وضرب كائن حرفاً وفعلاً. فالأول: تسعة أحرف: "من", و"إلى" و"حتى" و"في" و"الباء" و"اللام" و"رُبَّ" و"واو القسم" و"تاؤه". والثاني خمسة أحرف: "على" و"عن" و"الكاف" و"مُذْ" و"منذ". والثالث ثلاثة أحرف: "حاشا", و"خلا", و"عدا". * * * قال الشارح: قد قسم حروفَ الجرّ إلى هذه ثلاثة الأقسام: قسمٌ استعملته العربُ حرفًا فقط، ولم تُشرِكه في لفظ الاسم والفعل، ولم يُجْروه في موضع من المواضع مجرى الأسماء، ولا مجرى الأفعال. وقسمٌ آخر يكون اسمًا وحرفًا. وقسمٌ ثالثٌ: وهو ما يستعمل حرفًا وفعلًا. والمراد بذلك أن يكون اللفظ مشترَكًا، لا أن الحرف بنفسه يكون اسمًا أو فعلًا، هذا محالٌ. فأما القسم الأول: وهو الحروف التي استعملت حروفًا فقط، وهي تسعةٌ "مِنْ"، و"إلى"، و" حَتَّى"، و"فِي"، و"الباء"، و"اللام"، و"رُبَّ"، و"واو القسم"، و"تاؤه". فهذه لا تكون إلَّا حروفًا؛ لأنها تقع في الصلات وقوعًا مطردًا من غيرِ قُبْح، نحو قولك: "جاءني الذي من الكرام"، و"رأيت الذي في الدار"، وكذلك سائرها. ولو كانت أسماءٌ، لم يجز وقوعها هنا في الصلات؛ لأن الصلة لا تكون بالمفرد، ولأنها لا تقع موقع الأسماء فاعلةً ومفعولةً ولا يدخل على شيء منها حرفُ الجرّ، ولا تكون أفعالاً, لأنها تقع مضافة إلى ما بعدها، والأفعالُ لا تضاف، وسيأتي الكلام على كل حرف منها مفضّلًا. وأما القسم الثاني: وهو ما استعمل حرفًا واسمًا، وهي خمسة: "عَلى"، و"عَنْ"، و"الكاف"، و"مُذْ"، و"مُنْذُ". فهذه تكون حروفًا، وقد تُشارِكها في لفظها الأسماءُ على ما سيأتي بيانُه مشروحًا. وكذلك القسم الثالث: يكون حروفًا وأفعالًا، وهي ثلاثة "حَاشا"، و"عَدا"، و"خَلا"، وسيأتي الكلام عليها إن شاء الله. فصل [معاني "مِنْ"] قال صاحب الكتاب: فـ "مِنْ" معناها ابتداء الغاية, كقولك: "سرت من البصرة", وكونها مبعضة نحو: "أخذت من الدراهم"، ومبينة في نحو: {فاجتنبوا الرجس من
من الأوثان} (¬1)، ومزيدة في نحو: "ما جاءني من أحد" راجع إلى هذا. ولا تزاد عند سيبويه إلا في النفي، والأخفش يجوز الزيادة في الواجب, ويستشهد بقوله تعالي: {يغفر لكم من ذنوبكم} (¬2). * * * قال الشارح: قد صدّر صاحب الكتاب كلامَه وابتدأه بـ "مِنْ"، وهي حريَّةٌ بالتقديم؛ لكثرة دَوْرها في الكلام، وسعةِ تصرُّفها ومعانيها، وإن تَعدّدت فمُتلاحِمةٌ، فمن ذلك كونها لابتداء الغاية مُناظِرةً لِـ "إلى" في دلالتها على انتهاء الغاية؛ لأن كل فاعلٍ أخذ في فعل فلفعله ابتداءٌ منه يأخذ، وانتهاءٌ إليه ينقطع، فالمبتدأُ تُباشِره "مِنْ"، والانتهاءُ تُباشِره "إلى"، والغالبُ على استعمالِ "مِنْ" في هذا المعنى، ولا تكون "مِنْ" عند سيبويه (¬3) إلَّا في المكان، وأبو العبّاس المبرّد يجعلها ابتداءَ كلّ غاية، وإليه يذهب ابنُ درستويه، وغيره من البصريين، فتقول: "خرجتُ من الكوفة"، و"عجبتُ من فلان"، وفي الكتاب (¬4): "مِن فلان إلى فلان". قال الله تعالى: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} (¬5) أي: من دار أهلك، وقال تعالى: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ} (¬6)، وقال: {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ} (¬7)، فـ "مِنْ" في "الشجرة" و"الشاطئ" لابتداء غاية النداء. وقد أجاز الكوفيون (¬8) استعمالها في الزمان، وهو رأي أبي العبّاس المبرد، وابن درستويه من أصحابنا، كـ "مُذْ"، و"مُنْذُ"، واحتجّوا بقوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} (¬9)، وبقول الشاعر [من الكامل]: لِمَنِ الدِيارُ بقُنّةِ الحِجْرِ ... أقْوَيْنَ مِن حِجَجٍ ومِن دَهْرِ (¬10) ومن لا يرى استعمالها في الزمان يتأوّل الآية بأن ثَمّ مضافًا محذوفًا تقديره: من تأسيسِ أوّل يوم، ومِن مَز حجج ومرّ دهر. فهذا فيه دلالةٌ على استعمالها في غير المكان؛ لأن التأسيس والمرّ مصدران، وليسا بزمانَين، وإن كانت المصادرُ تُضارع الأزمنةَ من حيث هي منقضيةٌ مثلها. وأما كونها للتبعيض، فنحوُ قولك: "أخذت درهمًا من المال" فدلّتْ "مِنْ" على أن الذي أخذتَ بعضَ المال، وفيه معنى الابتداء أيضًا؛ لأن مَبْدَأ أخذك المالُ. قال الله ¬
تعالي: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} (¬1)، أي: بعضَها، ومنه: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} (¬2). قال أبو العبّاس المبرّد: وليس هو كما قال سيبويه عندي، لأن قوله: "أخذت من ماله" إِنَّما جعل ماله ابتداءَ غايةِ ما أخذ، فدلّ على التبعيض من حيث صار ما بقي انتهاءً له، والأصلُ واحد. وكونها لتجيين الجنس، كقولك: "ثوبٌ من صُوفٍ"، و"خاتمٌ من حديدٍ". وربما أوهم هذا الضربُ التبعيضَ، ولهذا قلنا: إِنّ مَرْجِعَها إلى شيء واحد. ومنه قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} (¬3). وذلك أنّ سائر الأرجاس يجب أن تُجتنب، وبين المقصودَ بالاجتناب من أيّ الأرجاس، واعتبارُه أن يكون صفة لِما قبله، وأن يقع موقعَه "الَّذِي"، ألا ترى أن معناه: فاجتنبوا الرجسَ الذي هو وثنٌ. وقد حمل بعضُهم الآية على القلب، أي: الأوثان من الرجس. وفيه تعسّفٌ من جهة اللفظ، والمعنى واحدٌ. وقد قيل في قول سيبويه: "هذا باب عِلْمِ ما الكَلِمُ من العَرَبيّة" (¬4) أنّه من هذا الباب؛ لأن الكلم قد تكون عربية، وغير عربية، فبَئنَ جنسَ الكلم بأنّها عربيّةٌ. وتكون "مِنْ" زائدة، كقوله [من البسيط]: وما بالرَّبْع مِن أحدِ (¬5) وإنما تزاد في النفي مُخلَّصة للجنس، مؤكّدةً معنى العموم، وقد اشترط سيبويه (¬6) لزيادتها ثلاثةَ شرائط: أحدها: أن تكون مع النكرة. والثاني: أن تكون عامّة. والثالث: أن تكون في غير الموجَب، وذلك نحوُ: "ما جاءني من أحدٍ". ألا ترى أنه لا فرق بين قولك: "ما جاءني من أحد"، وبين قولك: "ما جاءني أحدٌ"؛ لأن "أحدًا" يكون للعموم. فأمّا قولك: "ما جاءني من رجل"، فقال الأكثر: لا تكون زائدة على حد زيادتها مع "أحد"؛ لأنها قد أفادت استغراق الجنس، إذ قد يُقال: "ما جاءني رجل"، ويُراد به نفيُ رجل واحد من هذا النوع، وإذا قال: "من رجل" استغرق الجميعَ. وعندي يجوز أن يُقال: "ما جاءني من رجل"، على زيادةِ "مِنْ"، كما يكون كذلك في "ما جاءني من أحد". وذلك أنّه كما يجوز أن يُقال: "ما جاءني رجلٌ"، ويُراد به نفيُ واحد من النوع، كذلك يجوز أن يُقال: "ما جاءني رجلٌ"، ويُراد به نفي الجنس، كما تنفيه ¬
بقولك: "ما جاءني أحد". فإذا أُدخل "مِنْ"، فإنما تُدْخِلها توكيدًا؛ لأن المعنى واحد. وإنّما يزاد "مِنْ"؛ لأن فيه تناوُلَ البعض، كأنّه ينفي كل بعض للجنس الذي نفاه مفردًا، كأنه قال: "ما جاءني زيدٌ، ولا بكرٌ، ولا غيرهما من أبعاض هذا الجنس"، فالنفيُ بـ "مِنْ" مفصَّلًا، وبغير"مِنْ "مُجْمَلًا". فإذا قلت: "ما جاءني رجل" وأردت الاستغراق، ثمّ قلت: "ما جاءني من رجل"، كانت "مِنْ" زائدة. فأمّا إذا قلت "ما جاءني من أحد"، فـ "مِنْ" زائدة لا محالةَ للتأكيد، لأن "مِنْ" لم تفد الاستغراق، لأن ذلك كان حاصلًا من قولك: "ما جاءني أحدٌ". ولذلك لا يرى سيبويه زيادةَ "مِنْ" في الواجب، لا تقول: "جاءني من رجل"، كما لا تقول: "جاءني من أحد"؛ لأن استغراق الجنس في الواجب محال، إذ لا يُتصوّر مجيءُ جميع الناس، ويتصوّر ذلك في طرف النفي. وقد أجاز الأخفش زيادتها في الواجب، فيقول: "جاءني من رجلٍ"، واحتجّ بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬1)، والمراد: ما أمسكن عليكم، وبقوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬2)، والمعنى: سيّآتِكم، يدل على ذلك قوله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬3). والجواب عمّا تَعلّق به، أمّا قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} (¬4) فـ "مِنْ" هنا غير زائدة، بل هي للتبعيض، أي: كلوا منه اللحم دون الفَرْث والدَّمِ، فإنّه محرَّم عليكم؛ وأما قوله تعالى: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬5)، فإن "مِنْ" للتبعيض أيضًا, لأن الله عزّ وجلّ وعد على عمل ليس فيه التوبةُ، ولا اجتنابُ الكبائر تكفرَ بعض السيّآت، وعلى عمل فيه توبةٌ، واجتنابُ الكبائر تمحيصَ جميع السيّآت. يدل على ذلك قوله تعالى في الآية الأخُرى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ} (¬6)، فجيء بـ "مِنْ" ها هنا، وفي قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} (¬7) لم يأتِ بـ "مِنْ"؛ لأنه سبحانه وعد باجتناب الكبائر تكفيرَ جميع السيّآت، ووعد بإخراج الصدقة على ما حَدَّ فيها تكفيرَ بعض السيّآت، فاعرفه. وقول صاحب الكتاب: "وكونُها مُبغِّضةً ... وزائدةً ... راجعٌ إلى هذا"، المعنى: إلى ابتداء الغاية، فإن ابتداء الغاية لا يُفارِقها في جميع ضروبها، فإذا قلت: "أخذتُ من الدراهم درهمًا"، فإنّك ابتدأت بالدرهم، ولم تَنْتَهِ إلى آخر الدراهم، ¬
فالدرهم ابتداء الأخذ إلى أن لا يبقى مته شيءٌ، ففي كل تبعيض معنى الابتداء، فالبعضُ الذي انتهاؤه الكلُّ. وأمّا التي للتبيين، فهي تخصيص الجملة التي قبلها كما أنها في التبعيض تخصيص الجملة التي بعدها، فكان فيها ابتداء غايةِ تخصيص كما كان في التبعيض. وأمّا زيادتها لاستغراق الجنس في قولك: "ما جاءني من رجل"، فإنّما جعلتَ "الرجل" ابتداءَ غايةِ نفيِ المجيءِ إلى آخِر الرجال، ومن ها هنا دخلها معنى استغراق الجنس. وقد أضاف بعضهم إلى أقسامها قسمًا آخر، وهو أن تكون لانتهاء الغاية، وذلك بأن تقع مع المفعول، نحوَ: "نظرت من داري الهِلالَ من خَلَل السحاب"، و"شممت من داري الرَّيْحانَ من الطريق "، فـ "مِن" الأُولى لابتداء الغاية. والثانية لانتهاء الغاية، قال ابن السرّاج: وهذا خَلْط معنى "مِنْ" بمعنى "إلى"، والجيّدُ أن تكون "مِن" الثانيةُ لابتداء الغاية في الظهور، وبدلًا من الأولى. فإن قلت: فقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ} (¬1)، فقد تكرّرت "مِنْ" في ثلاثة مواضع، فما معناها في كل موضع منها؟ قيل: إنّ الأُولى لابتداء الغاية، والثانيةُ يجوز فيها وجهان: أحدهما التبعيض على أن "الجبال" بَرَدٌ تكثيرًا له، فينزّل بعضَها. والآخر: على أن المعنى من أمثال الجبال من الغَيْم، فيكون هذا المعنى لابتداء الغاية، كقولك: "خرجت من بغدادَ من داري إلى الكوفة". وأما الثالثة فتكون على وجهَيْن: التبعيض والتبيين؛ أمّا التبعيض فعلى معنى ينزّل من السماء بعضَ البرد؛ وأمّا التبيين فعلى أنّ الجبال من بردٍ. وهذا على رأي سيبويه، ومن لا يرى زيادةَ "مِنْ " في الواجب، وأمّا على رأي أبي الحسن، ومن يرى رأيَه، فيحتمل ثلاثةَ أوجه: أحدها: أن تكون "مِنْ" الأُوُلى لابتداء الغاية، وموضعُها نصب على أنه ظرفٌ، والثانية زائدةٌ على أنه مفعول به، فتكون "الجبال" على هذا تعظيمًا لِما ينزل من السماء من البرد والمطر، و"فِيها" من صفة "الجبال"، وفيه ضميرٌ من الموصوف. و"مِن" الثالثةُ لبيان الجنس، كأنّه بين من أي شيء هو المُكثَّر، كما تقول: "عندي جبالٌ من مالٍ"، فتُكثِّر ما منه عندك، ثمّ تُبيِّن المُكثَّر بقولك: "من المال". ويجوز أن تكون "مِن" الثالثةُ زائدة، وموضعها رفيع بالظرف الذي هو"فِيهَا"، ولا يكون فيه ضميرٌ على هذا, لأنه قد رفع ظاهرًا، وذلك في قول سيبويه والأخفش جميعًا؛ لأن سييويه لا يُعْمِل الظرف حتى يعتمد على كلام قبله، وههنا قد اعتمد على الموصوف، والأخفشُ يُعْمِله معتمدًا وغيرَ ¬
فصل [معاني "إلي"]
معتمد، ويكون التقدير: وينزّل من السماء جبالًا، أي: أمثالَ الجبال فيها بردٌ. ويجوز أن يكون "برد" مبتدأ، و"قِيها" الخبر، والجمله في موضع الصفة. وأمّا الوجه الثاني: فأن يكون موضعُ "مِن" الثانيةِ نصبًا على الظرف، وتكون الثالثة زائدة في موضع نصب على المفعول به، أي: وينزّل من السماء من جبالٍ فيها بردًا. والوجه الثالث: أن تكون "مِن" الأُولى لابتداء الغاية، والثانية نصبًا على الظرف، والثالثة لبيان الجنس، وفي ذلك دلالةٌ على أن في السماء جبالَ برد، وكأنّه على هذا التأويل ذكر المكانَ الذي يُنزِّل منه، ولم يذكر المُنَزَّلَ للدلالة عليه، ووضوحِ الأمر فيه، فاعرفه. فصل [معاني "إلي"] قال صاحب الكتاب: و"إلى" معارضة لـ "من" دالة على انتهاء الغاية, كقولك: "سرت من البصرة إلى بغداد"، وكونها بمعنى المصاحبة في نحو قوله عز وجل: {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} (¬1) راجع إلى معنى الانتهاء. * * * قال الشارح: اعلم أنّ "إلى" تدلّ على انتهاء الغاية كما دلّت "مِنْ" على ابتدائها، فهي نقيضتها، لأنها طَرَفٌ بإزاء طَرَف "مِنْ "، ولذلك قال: إنها مُعارِضةُ "مِنْ"، أي: مُجانِبةٌ، ومضادّةٌ لها. ولا تختصّ بالمكان كما اختصّت "مِنْ" به، كقولك: "خرجت من الكوفة إلى البصرة"، فـ "إلى" دلت أن منتهى خروجك البصرة، وكذلك إذا قلت: "رَغِبْت إلى الله"، دللت به على أن منتهى رَغْبتك اللهُ عَزَّ وَجَلَّ. وإذا كتبتَ، فقلت: "من فلان إلى فلان"، فهو النهاية، فـ "مِنْ " للابتداء، و"إلى" للانتهاء. وجائزٌ أن تقول: "سرت إلى الكوفة"، وقد دخلت الكوفةَ، وجائزٌ أن تكون قد بلغتَها، ولم تدخلها؛ لأنّ "إلى" نهايةٌ، فجائزٌ أن تقع على أوّل الحدّ. وجائزٌ أن تتوغّل في المكان، ولكن تُمْنَع من مجاوَزته؛ لأن النهاية غايةٌ، وما كان بعده شيء لم يُسَمَّ غايةً. وتحقيقُ ذلك أنها لانتهاء غاية العمل، كما أن "مِنْ" لابتداء غاية العمل، إلَّا أنه قد يُلابِس الابتداءُ موضعًا من المواضع، فيكون من أجل تلك الملابسة ابتداءً للغاية، وقد يلابس انتهاءُ الغاية موضعًا من المواضع، فيكون من أجل تلك الملابسة انتهاءً للغاية، وذلك نحوُ: "خرجت من بغداد إلى الكوفة"، فعلى هذا تكون "المَرافِق" داخلةً في الغَسْل عن قول الله عزّ وجلّ: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬2). ¬
ولا يُعْدَل عن هذا الأصل إلَّا بدليل، وإذا قلت: "كِتابي إلى فلان"، فمعناه أنه غاية الكتابة، إذ لا مطلوبَ بعده، وليس هناك عملٌ يتّصل إلى فلان كما يتّصل عملُ السير والخروج وما أشبهه من النزول وغيره. ومنه قوله تعالى: {انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} (¬1)، وقوله: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} (¬2)، وقوله: {أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} (¬3) و {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} (¬4)، فالثمر غايةٌ للنظر، والأب غايةٌ للرجوع، والله تعالى غايةٌ لصعود الكلم ينتهي عنده، وليس في ذلك عملٌ يتّصل بالغاية. فأمّا قولُ من جعلها بمعنى "مَعَ" وبمعنى غيرها من الحروف، فيحتجّ بقوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬5)، وقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬6)، ويحمل عليه قولَه تعالى: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬7)، قالوا: لأنه لا يُقال: "نصرتُ إلى فلان"، بمعنى: "نصرتُه"، ولا "أكلتُ إلى مال فلان"، بمعنى: "أكلتُه"، وإنّما المعنى يعود إلى أن يكون بمعنى "مَعَ"، ولذلك دخلت "المرافق" في الغسل. والتحقيقُ في ذلك أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخرَ، وكان أحدُهما يصل إلى معموله بحرفٍ، والآخرُ يصل بآخر؛ فإن العرب قد تتّسع، فتُوقِع أحدَ الحرفَيْن موقعَ صاحبه إيذانًا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، وذلك كقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} (¬8)، وأنت لا تقول: "رفثت إلى المرأة"، إنما يُقال: "رفثت بها"، لكنّه لمّا كان الرفث هنا في معنى الإفضاء، وكنتَ تُعدِّي "أفضيتُ" بـ "إلى"؛ جئت بـ "إلى" إيذانًا بأنه في معناه. وكذلك قوله تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} (¬9)، لمّا كان معناه: مَن يُضاف في نَصْري إلى الله؛ جاز لذلك أن تأتي بـ "إلى" ها هنا. وكذلك قوله عزّ اسمُه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ} (¬10)، لمّا كان معنى الأكل ها هنا الضمّ والجمع لا حقيقة المَضْغ والبَلْع، عدّاه بـ "إلى"، إذ المعنى: لا تجمعوا أموالهم إلى أموالكم. فأمّا قوله تعالى: {إِلَى الْمَرَافِقِ} (¬11)، فقد ذكرنا الوجه في دخول "المرافق" في الغسل. وفيه وجهٌ ثانٍ أنّ "إلى" هنا غايةٌ في الإسقاط، وذلك أنه لمّا قال: "اغسلوا وجوهكم وأيديكم"؛ تَناول جميعَ اليد، كما تناول جميع الوجه، واليَدُ اسمٌ للجارحة من رأس الأنامل إلى الإبْط، فلمّا قال: "إلى المرافق"؛ فصار إسقاطًا إلى المرافق، فالمرافق غايةٌ في الإسقاط، فلم تدخل في الإسقاط، وبقيتْ واجبةَ الغسل. ولو كانت "إلى" ¬
فصل [معاني "حتي"]
بمعنى "مَعَ"، لساغ استعمالُها في كلّ موضع بمعنى "مَعَ". وأنت لو قلت: "سرتُ إلى زيد" تريد: مع زيد؛ لم يجز؛ إذ لم يكن معروفًا في الاستعمال، ولذلك قال صاحب الكتاب: "وكونها بمعنى المصاحبة راجع إلى معنى الانتهاء"، فاعرفه. فصل [معاني "حتي"] قال صاحب الكتاب: و"حتى" في معناها, إلا أنها تفارقها في أن مجرورها يجب أن يكون آخر جزء من الشيء, أو ما يلاقي آخر جزء منه، لأن الفعل المعدى بها الغرض فيه أن يتقضى ما تعلق به شيئاً فشيئاً حتى يأتي عليه، وذلك قولك "أكلت السمكة حتى رأسها" و"نمت البارحة حتى الصباح"، ولا تقول: "حتى نصفها, أو ثلثها", كما تقول: "إلى نصفها, وإلى ثلثها". ومن حقها أن يدخل ما بعدها فيما قبلها, ففي مسألتي "السمكة" و"البارحة", فقد أكل الرأس, ونيم الصباح. ولا تدخل على مضمر, فتقول: "حتاه", كما تقول: "إليه". وتكون عاطفة, ومبتدأ ما بعدهما في نحو قول امريء القيس [من الطويل]: [سريت بهم حتي تكل مطيهم] ... وحتى الجياد ما يُقدن بأرسان (¬1) ويجوز في مسألة "السمكة" الوجوه الثلاثة. * * * قال الشارح: اعلم أن "حَتَّى" من عوامل الأسماء الخافضة، وهي حروف كاللام لا تكون إلَّا حرفًا. ومعناها منتهى ابتداء الغاية بمنزلةِ "إلى"؛ ولذلك ذكرها بعدها، إلَّا أنّ "حَتَّى" تُدْخِل الثاني فيما دخل فيه الأول من المعنى، ويكون ما بعدها جزءًا مما قبلها، ينتهي الأمرُ به. فهي إذا خفضتْ، كمعناها إذا نُسق بها. فـ "حتى" تُخالِف "إلى" من هذه الجهة، وذلك قولك: "ضربتُ القومَ حتى زيدٍ"، و"دخلت البلادَ حتى الكوفةِ"، و"أكلت السمكةَ حتى رأسِها" فـ "زيدٌ" مضروبٌ كالقوم، و"الكوفةُ" مدخولة كالبلاد، و"السمكةُ" مأكولة جميعًا، أي: لم أُبْقِ منها شيئًا. وهذا معنى قوله: ""أكلت السمكة حتى رأسِها"، و"نمتُ البارحةَ حتى الصباحِ" ... قد أُكل الرأس، ونِيمَ الصباحُ". وإنّما وجب أن يكون ما بعدها جزءًا ممّا قبلها من قبل أن معناها أن تستعمل لاختصاصِ ما تقع عليه: إمّا لرِفّعته، أو دَناءتِهِ، كقولك: "ضربت القومَ"، فالقوم عند من تخاطبه معروفون، وفيهم رفيعٌ ودَنِيءٌ. فإذا قلت: "ضربت القومَ حتى زيد"، فلا بد من أن يكون "زيد" إمّا أرفعَهم، أو أدناهم، لتدلّ بذكره أن الضرب قد انتهى إلى الرُّفعاء، أو الوضعاء. فإن لم يكن زيدٌ هذه صفتُه، لم يكن لذكره فائدةٌ، إذ ¬
كان قولك: "ضربت القوم" يشتمل على "زيد" وغيره، فلمّا كان ذِكْرُ "زيد" يفيد ما ذكرناه، وجب أن يكون داخلًا في حكم ما قبله، وأن يكون بعضًا ممّا قبله، فيُستدلّ بذكره أن الفعل قد عمّ الجميعَ، ولذلكَ لا تقول: "ضربت الرجالَ حتى النساء"؛ لأن النساء ليست من جنس الرجال، فلا يُتوهّم دخولهنّ مع الرجال. وإنما يذكر بعد "حَتى" ما يشتمل عليه لفظُ الأول. ويجوز أن لا يقع فيه الفعلُ لرفعته أو دناءته، فيُنبَّه بـ "حَتَّى" أنه قد انتهى الأمر إليه. وربّما استُعملت غايةً، ينتهي الأمر عندها كما تكون "إلى" كذلك، وذلك نحو قولك: "إن فلانًا ليصوم الأيامَ حتى يومِ الفِطْر"، والمراد أنه يصوم الأيام إلى يوم الفطر، ولا يجوز فيه على هذا إلَّا الجرّ؛ لأن معنى العطف قد زال؛ لاستعمالها استعمالَ "إلى"، و"إلى" لا تكون عاطفة، فلا يجوز أن ينتصب "يوم الفطر" لأنه لم يَصُمْهُ، فلا يعمل الفعل فيما لم يفعله، وكذلك إذا خالف الاسم الذي بعدها ما قبلها، نحوَ قولك: "قام القوم حتى الليل"، والتأويل: قام القوم اليومَ حتى الليل، فعلى هذا إذا قلت: "نِمْتُ البارحةَ حتى الصباحِ"، لم يلزمه نومُ الصباح، لأنه ليس من جنسه، ولا جزءًا منه. قال: ولا تدخل على مضمر، ولا تقول: "حَتّاهُ"، ولا: "حتّاك". قال سيبويه (¬1): استغنوا عن الإضمار في "حَتَّى" بقولهم: "دَعْهُ حتى ذاك"، وبالإضمار في "إلى"، كقولهم: "دَعْهُ إليه"؛ لأن المعنى واحد. يريد: إلى ذلك. فذَلِكَ اسمٌ مبهمٌ، وإنّما يُذْكَر مثلُ ذلك إذا ظنّ المتكلّمُ أن المخاطَب قد عرف مَن يَعْنِي، كما يكون المضمر كذلك. ولذلك لا يرى سيبويه الإضمار مع كاف التشبيه، ولا مع "مُذْ"، ولا يجيز "كَهُ"، ولا "كِي". قال: استغنوا عن ذلك بـ "مِثْلُهُ"، و"مِثْلِي"، وعن "مُذْهُ"، بـ "مُذْ ذاك". هذا رأي سيبويه، وكان أبو العبّاس المبرّد يرى إضافَةَ ما منع سيبويه إضافتَه إلى المضمر في هذا الباب، ولا يمنع منها، ويقول إذا كان بعد "حَتَّى" منصوبًا: "إيّاه" (¬2)، وإذا كان مرفوعًا: "حتى هو"، وإذا كان مجرورًا: "حتّاهُ"، و"حتّاك". ويقول في "منذ ذلك"، إذا كان ما بعدها مرفوعًا: "مُذْ هو" وإذا كان مجرورًا: "مُذهُ"، و"مُذْكَ". والصحيحُ ما ذهب إليه سيبويه لموافَقته كلامَ العرب. وربما جاء في الشعر بعضُ ذلك مضمرًا، نحوَ قوله [من الرجز]: 1067 - [خَلَى الذنَابَاتِ شِمَالًا كَثْبَا] ... وأُمُّ أوْعالٍ كَهَا أو أقْرَبَا ¬
أنشده سيبويه للعجّاج، وهو ضرورةٌ. واعلم أنهم قد اختلفوا في الخافض لِما بعد "حَتَّى" في الغاية (¬1)، فذهب الخليل وسيبويه إلى أن الخفض بـ "حَتَّى"، وهي عندهما حرف من حروف الجرّ بمنزلة اللام، وذهب الكسائي إلي أن خفضَ ما بعدها بإضمارِ "إلى"؛ لأنها نفسها نص على ذلك في قوله تعالى: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬2)، فقال: إن الخفض بـ "إلى" المضمرِة. وقال الفراء: "حَتَّى" من عوامل الأفعال مجراها مجرى "كَيْ"، و"أنْ"، وليس عملها لازمًا في الأفعال، ألا تراك تقول: "سرتُ حتى أدخلُها"، و"وقعتُ حتى وصلتُ إلى كذا" فلا تعمل ها هنا شيئًا؟ ثُمَّ لما نابت عن "إلى"، خفضت الأسماءَ لنيابتها وقيامِها مقامَ "إلى". وهو قولٌ واهٍ فيه بُعْدٌ؛ لأنه يؤدّي إلى إبطال معنى "حتّى". وذلك أن بابَ "حَتَّى" في الأسماء أن يكون الاسم الذي بعدها من جملةِ ما قبلها وداخلًا في حكمه ممّا يُستبعد وجوده في العادة، كقولنا: "قاتلتُ السِّباعَ حتى الأُسودِ"، فقتالُه الأسدَ أبعدُ من قتاله لغيره، وكذلك "اجترأ على الناسُ حتى الصبيانِ"؛ لأن اجتراء الصبيان أبعدُ في النفوس من اجتراء غيرهم، ولو جعلنا مكانَ "حَتَّى" "إلى"؛ لَمَا أدَّى هذا المعنى. فإن قيل: ولِمَ قلتم إِنّ "حَتَّى" هي الخافضة بنفسها؟ قيل: لظهور الخفض بعدها في نحوِ {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬3). ولم تقم الدلالة على تقدير عامل غيرها، فكانت هي العاملة. وممّا يؤيْد ذلك قولُهم: "حَتَّامَ؟ " وأمّا كونها عاطفةَ، فنحو قولك: "قام القوم حتى زيدٌ"، أي: وزيدٌ، و"رأيت القومَ حتى زيدًا"، و"مررت بالقوم حتى زيدٍ"، أجروها في ذلك مجرى الواو. ¬
فإن قيل: ولِمَ قلتم: إِن أصلها الغاية، وِإنها في العطف محمولة على الواو؟ فالجواب: إنّما قلنا إن أصلها الجرّ؛ لأنها لما كانت عاطفةً، لم تخرج عن معنى الغاية. ألا ترى أنك إذا قلت: "جاءني القوم حتى زيدٍ" بالخفض؛ فزيدٌ بعضُ القوم، ولو جعلتَ "حَتى" عاطفة؛ لم يجز أن يكون الذي بعدها إلَّا بعضا للّذي قبلها. وهذا الحكمُ تقتضيه "حَتَّى" من حيث كانت غايةً على ما تقدّم بيانُه. ولو كان أصلها العطفَ، لجاز أن يكون الذي بعدها من غير نوع ما قبلها، كما تكون الواو كذلك. ألا ترى أنه يجوز أن تقول: "جاءني زيدٌ وعمرٌو"، ولا يجوز أن تقول: "جاءني زيد حتى عمرٌو"، كما لا يجوز ذلك في الخفض، فدلّ ما ذكرناه على أن أصلها الغايةُ. فإن قيل: فمن أين أشبهت "حَتَّى" الواوَ حتى حُملت عليها؟ قيل: لأن أصل "حَتَّى"، إذا كانت غايةً، أن يكون ما بعدها داخلًا في حكم ما قبلها، كقولك: "ضربتُ القوم حتى زيدًا" (¬1)، فـ "زيد" مضروب مع القوم كما يكوَن ذلك في قولك: "ضربت القومَ وزيدًا". فلمّا اشتركا فيما ذكرنا، حُملت على الواو. وأمّا القسم الثالث: فأن تكون حرفًا من حروف الابتداء ليستأنف بعدها الكلامُ، ويُقْطَعَ عمّا قبله كما يستأنف بعد "أمَّا"، و"إذا" التي للمفاجأة، و"إنَّمَا"، و"كَأنَّمَا"، ونحوها من حروف الابتداء، فيقع بعدها المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، من نحو قولك: "سرّحتُ القومَ حتى زيدٌ مُسَرَّحٌ " و"أجلست القومَ حتى زيدٌ جالسٌ ". قال جرير [من الطويل]: 1068 - فما زالتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِماءَها ... بدِجْلَةَ حتى ماءُ دجلةَ أشكَلُ ¬
فقوله: "ماء" رفعٌ بالابتداء، و"أشكلُ" الخبر، وقال الفرزدق [من الطويل]: 1069 - فَيَا عَجَبًا حتى كُلَيْبْ تَسُبُّنِي ... كأنّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشِعُ والمراد: يسبّني الناسُ حتى كُلَيْبٌ تسبّني، فوقع بعدها المبتدأ والخبر، وأمّا البيت الذي أنشده، وهو [من الطويل]: سَرَيْتُ بهم حتّى يكلُّ مَطِيُّهم ... وحتى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بأرْسانِ (¬1) البيت لامرىء القيس، والشاهد فيه قوله: "وحتى الجياد ما يقدن بأرسان" فـ "حَتَّى" حرف ابتداء، ألا ترى أنها ليست حرف خفض لوقوع المرفوع بعدها. وليست حرف عطف لدخول حرف العطف عليها، وهو الواو، فكانت قِسْمًا ثالثًا. ولذلك وقع بعدها ¬
المبتدأ والخبر، ولم تعمل فيما بعدها. والمعنى أنه يسري بأصحابه حتى يكل المطيّ، وينقطع الخيل وتُجْهَد، فلا تحتاج إلى أرسانٍ. فـ "حَتَّى" هذه يقع بعدها الجملة من المبتدأ والخبر والفعلِ والفاعلِ. فأمّا المبتدأ والخبر فقد ذُكر، وأمّا الفعل فقد يكون مرفوعًا ومنصوبًا، فإذا نصبتْه، كانت حرف جرّ بمنزلةِ "إلى"، وانتصابُ الفعل بعدها بإضمارِ "أنْ"، فإذا قلت: "سرت حتى أدخلَها"، فالتقدير: حتى أن أدخلَها، فـ "أدخلها" منصوب بتقديرِ "أن" المضمرةِ، و"أنْ" والفعلُ في تأويل المصدر، والمعنى: حتى دخولِها، فَـ "حَتَّى" وما بعدها في موضعِ نصب بالفعل المتقدّم. وإذا ارتفع ما بعدها، كانت حرف ابتداء تقطع ما بعدها عمّا قبلها على ما تقدّم. وقد أنشدوا بيتًا جمعوا فيه الباب أجمعَ، وهو [من الكامل]: 1070 - ألقَى الصَّحِيفَةَ كَي يُخَففَ رَحْلَه ... والزادَ حتى نَعْلُهِ ألقاها ¬
فصل [معني "في"]
يروى برفع "النعل" ونصبها وجرّها. فمَن جرّها، جعلها غايةً، وكان "ألْقَاهَا" تأكيدًا، لأن ما بعد "حتى" يكون داخلًا فيما قبلها، فيصير "ألقاها" حينئذٍ تأكيدًا؛ لأنه مستغنّى عنه. وأمّا مَن رفع "النعل" فبالابتداء، و"ألقاها" الخبرُ، فهو معتمَدُ الفائدة. وأمّا من نصب "النعل"، فعلى وجهَيْن: أحدهما: أن تكون "حتى" حرف عطف بمعنى الواو، عَطَفَ "النعل" على الزاد، وكان "ألقاها" أيضًا توكيدًا مستغنى عنه. والآخر: أن تكون "حَتَّى" أيضًا حرف ابتداء تقطع الكلام عما قبله، وتنصب الفعل بإضمار فعل دلّ عليه "ألقاها"، كأنه قال: "حتى ألقى نعلَه ألقاها"، على حدِّ "زيدًا ضربتُه". ومثله مسألة "السمكة" إذا قلت: "أكلتُ السمكة حتى رأسها"، جاز في "الرأس" ثلاثة أوجه: الجرّ على الغاية، والنصب على العطف، والرفع على الابتداء. وفي الأوجه الثلاثة: الرأسُ مأكولٌ. أمّا في الجرّ فلأنّ ما بعد "حتّى" في الغاية يكون داخلًا في حكم الأوّل. وأمّا النصب، فلأنّه معطوف على "السمكة"، وهي مأكولةٌ، فكان مأكولًا مثلَها. وأمّا الرفع فعلى الابتداء، والخبرُ محذوف، والتقدير: رأسُها مأكولٌ، وساغ حذفُه لدلالةِ "أكلتُ" عليه. فصل [معني "في"] قال صاحب الكتاب: و"في" معناها الظرفية كقولك: "زيدٌ في أرضه"، والركض في الميدان، ومنه نظر في الكتاب، وسعي في الحاجة، وقولهم في قول الله عز وجل: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (¬1): إنها بمعنى "على" عمل على الظاهر، والحقيقة أنها على أصلها لتمكن المصلوب في الجذع تمكن الكائن في الظرف فيه. * * * قال الشارح: أمّا "فِي"، فمعناها الظرفية والوعاء، نحوُ قولك: "الماءُ في الكَأْس"، و"فلانٌ في البيت"، إنما المراد أن البيت قد حواه، وكذلك الكأس. وكذلك "زيدٌ في أرضه"، و"الرَّكْضُ في الميدان"، هذا هو الأصل فيها، وقد يُتّسع فيها، فيقال: "في فلانٍ عَيْبٌ"، و"في يَدِي دارٌ"، جعلت الرجل مكانًا للعيب يحتويه مجازًا أو تشبيهًا. ألا ترى ¬
أن "الرجل" ليس مكانًا للعيب في الحقيقة، ولا اليد مكانًا للدار. وتقول: "أتيته في عُنفُوانِ شَبابه، وفي أمْره ونَهْيِه"، فهو تشبيةٌ، وتمثيلٌ، أي: هذه الأُمور قد أحاطت به. وكذلك: "نَظَرَ في الكتاب"، و"سَعَى في الحاجة"، جعل "الكتاب" مكانًا لنَظَره، و"الحاجة" مكانًا لسَعْيه، إذ كان مختصًّا بها. ومن ذلك قولهم: "في هذا الأمر شَكٌّ"، جُعل "الأمر" كالمكان لاشتماله على الشكّ. ومنه قوله تعالى: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ} (¬1) رَاجعٌ إلى ما ذكرنا، أي: شكّ مختصٌّ به، وإنّما أُخرج على طريق البلاغة هذا المُخْرَجَ، فكأنّه قيل: "أفي صفاته شكٌّ؟ " ثمَّ أُلغيت الصفات للإيجاز. وإنما قلنا هذا، لأنه لا يجوز عليه سبحانه تشبيةٌ لا حقيقةً، ولا بلاغةً، ولهذا كان على تقديرِ: أفي صفاته الدالّةِ عليه شك. وأما قوله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} (¬2)، فليست في معنى "عَلى" على ما يظنّه مَن لا تحقيقَ عنده، وإنّما لمّا كان الصلب (¬3) بمعنى الاستقرار والتمكّن، عُدّي بـ "في" كما يُعدَّى الاستقرار، فكما يُقال: "تمكّن في الشجرة"، كذلك ما هو في معناه، نحوُ قول الشاعر [من الكامل]: 1071 - بَطَلٌ كأنّ ثِيابَه في سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعالَ السِّبْتِ ليس بتَوْأمِ ¬
فصل [معاني الباء]
لأنه قد عُلم أنّ الشجرة لا تُشَقّ، وتُستودع الثيابَ، وإنّما المراد استقرارُها في سرحه، فهو من قبيل الفعلَيْن: أحدهما في معنى الآخر. والسرحةُ واحدة السَّرْح، وهو الشجر العُظام الطُّوال. ومثله قول امرأة من العرب [من الطويل]: 1072 - وَنَحْنُ صَلَبْنَا الناسَ في جِذْع نَخْلَةٍ ... ولاعطِبتْ شَيبانُ إلَّا بأجْدَعا (¬1) فصل [معاني الباء] قال صاحب الكتاب: و"الباء" معناها الإلصاق, كقولك: "به داء", أي: التصق به, وخامره، و"مررت به" وارد على الاتساع والمعنى التصق مروري بموضع يقرب منه. ويدخلها معنى الاستعانة في نحو كتبت بالقلم، ونجرت بالقدوم، وبتوفيق الله حججت، وبفلان أصبت الغرض. ومعنى المصاحبة في نحو خرج بعشيرته، ودخل عليه بثياب السفر، واشترى الفرس بسرجه ولجامه. * * * قال الشارح: اعلم أن الباء أيضًا من حروف الجرّ، نحوَ: "مررت بزيد"، و"ظفرت ¬
بخالدِ" وهي مكسورة، وكان حقّها الفتح؛ لأن كلّ حرف مفرد يقع في أوّل الكلمة حقُّه أن يكون مفتوحًا، إذ الفتحة أخفُّ الحركات، نحوَ: واو العطف، وفائه، إلَّا أنهم كسروا باء الجرّ حملًا لها على لام الجرّ، لاجتماعهما في عمل الجرّ، ولزومِ كلّ واحد منهما الحرفيّةَ بخلافِ ما يكون حرفًا واسمًا، وكونِهما من حروف الذَّلاقة. ويسمّونها مرّةً حرف إلصاق، ومرّةً حرف استعانةٍ، ومرّةً حرف إضافةٍ. فأمّا الإلصاق، فنحوُ قولك: "أمسكتُ زيدًا" ويحتمل أن تكون باشرتَه نفسَه، ويحتمل أن تكون منعتَه من التصرّف من غير مباشرة له، فإذا قلت: "أمسكت بزيد"؛ فقد أعلمت أنك باشرتَه بنفسك. وأمّا الاستعانة، فنحو قولك: "ضربته بالسيف"، و"كتبت بالقلم"، و"نجرت بالقدوم"، و"بتوفيق الله حججت". استعنت بهذه الأشياء على هذه الأفعال. وأمّا الإضافة، فنحو قولك: "مررت يزيد"، أضفتَ مرورك إلى زيد بالباء، كما أنك إذا قلت: "عجبت من بكرٍ"، أضفتَ عَجَبَك منه إليه بـ "مِنْ". واللازمُ لمعناها الإلصاقُ، وهو تعليق الشيء بالشيء، فإذا قلت: "مررت يزيد"، فقد علقتَ المرور به، فـ "زيدٌ" متعلَّقُ المرورِ. وذلك على ثلاثة أوجه: اختصاصِ الشيء بالشيء، وعملِ الشيء بالشيء، واتصالِ الشيء بالشيء. فتعليقُ الذكر بالمذكور الغائب تعليقُ اختصاص، وتعليق الفعل بالقدرة أو الآلة تعليق عمل وُصل إليه بذلك الشيء. فعلى هذا يجري أمرُ الباب. فمن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} (¬1)، فالمعنى: من يُرِدْ أمرًا من الأمور بإلحاد، أي: بمَيْل عنه، ثمّ قال: بظلم، فبَيَّنَ أن ذلك الإلحاد الذي قد يكون بظلم، وغير ظلم إذا وقع، فهذا حكمّه. فالباء الأُولى على تقدير عمل الشيء بالشيء، والثانية على تقدير تخصيص الشيء بالشيء. وإنّما قلنا: إن الأُولى على تقدير عمل الشيء بالشيء من أجل أنَّ الإلحاد فيه هو العمل الذي دل على النهي عنه، إلَّا أنه أُخْرِج مخرجَ ما أُضيف إليه ممّا هو غيره من أجل أنه على خلاف معناه. وأمّا كونها بمعنى المصاحبة، ففي قولهم: "خرج بعشيرته"، و"دخل عليه بثياب السفر"، و"اشترى الفرس بسرجه ولجامه"، والتقدير: خرج وعشيرتُه معه. فهي جملةٌ من مبتدأ وخبر في موضع الحال، والمعنى: مُصاحِبًا عشيرتَه. فلمّا كان المعنى يعود إلى ذلك؛ لقّبوا الباء بالمصاحبة، وكذلك "دخل بثياب السفر"، و"اشترى الفرس بسرجه ولجامه"، أي: وثياب السفر عليه، والسرجُ واللجامُ معه. ومن ذلك قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (¬2) في قول المحقّقين من أصحابنا، وتأويلُه: تُنْبِت ما تُنْبِته، والدهنُ فيه، فهو ¬
فصل [زيادة الباء]
كقولك: "خرج بثيابه". ونحوُه قول الشاعر أنشده الأصمعي [من المتقارب]: 1073 - ومُسْتَنَّةٍ كاسْتِنانِ الخَرُو ... فِ قد قَطَعَ الحَبْلَ بالمِرْوَدِ أي: ومرودُه فيه. والخروف: المُهْر له ستةُ أشهر أو سبعة. فصل [زيادة الباء] قال صاحب الكتاب: وتكون مزيدة في المنصوب كقوله تعالى: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (¬1)، وقوله: {بأيكم المفتون} (¬2) , وقوله [من البسيط]: 1074 - [هن الحرائر لا ربَّاتُ أخمرةٍ] ... سود المحاجر لا يقرأن بالسور ¬
وفي المرفوع كقوله تعالى: {كفى بالله شهيدا} (¬1) , و"بحسبك زيد", وقول امريء القيس [من الطويل]: 1075 - ألا هل أتاها والحوادث جمة ... بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا ¬
قال الشارح: قد تزاد الباء في الكلام، والمراد بقولنا: "تزاد" أنها تجيء توكيدًا، ولم تُحْدِث معنى من المعاني المذكورة، كما أن "ما" في قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ} (¬1)، و {عَمَّا قليل} (¬2) و {مِنْ خَطَايَاهُمْ} (¬3) كذلك. وتقديره: فبنَقْضهم، وعن قليلِ، ومن خطاياهم. وجملةُ الأمران الباء قد زيدت في مواضع مخصوصة، وذلك مع المبتدأ والخبر، ومع الفاعل والمفعول، وفي خبرِ "لَيْسَ"، و"ما" الحجازيةِ. فأمّا زيادتها مع المبتدأ، ففي موضع واحد، وهو قولهم: "بحَسْبك أن تفعل الخيرَ"، معناه: حَسْبُك فَعْلُ الخير، فالجارُ والمجرور في موضعِ رفع بالابتداء. قال الشاعر [من المتقارب]: بحَسْبِك في القَوْم أن يَعْلَموا ... بأنَّكَ فيهم غَنِيّ مُضِرْ (¬4) فقولك: "بحسبك" في موضع رفع بالابتداء، و"أن يعلموا" خبره، كأنّه قال: "حسبُك عِلْمُهم". ولا يُعْلَم مبتدأ دخل عليه حرفُ جر في الإيجاب غيرُ هذا الحرف؛ فأمّا في غير الإيجاب، فقد جاء غير الباء. قالوا: "هل من رجل في الدار؟ " و"هل لك من حاجة؟ "، قال الله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (¬5)؟ فالجارّ والمجرور في موضع رفع بالابتداء. وأمّا زيادتها مع الخبر، ففي موضع واحد أيضًا في قول أبي الحسن الأخفش، وهو قوله تعالى: {جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} (¬6). زعم أن المعنى: جزاءُ سيّئة مِثْلُها، ودلّ على ذلك قوله تعالى في موضع آخر: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} (¬7). ولا يبعد ذلك؛ لأن ما يدخل على المبتدأ قد يدخل على الخبر، نحوَ لام الابتداء في قول بعضهم: "إن زيدًا وَجْهُه لَحسنٌ". وقد جاء في الشعر. قال [من الرجز]: أُمُّ الحُلَيْسِ لَعَجُوز شَهْرَبَهْ (¬8) وزيادة الباء في الخبر أقوى قياسًا من زيادتها في المبتدأ نفسه، وذلك أن خبر المبتدأ يُشْبِه الفاعلَ من حيث كان مستقلاً بالمبتدأ، كما كان الفاعل مستقلاً بالفعل، والباء تزاد مع الفاعل على ما سنذكر، وكذلك يجوز دخولها على الخبر. وأمّا زيادتها مع الفاعل، ففي موضعَيْن: أحدهما: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬9)، والآخر: "أحسِنْ به" في التعجّب. قال الله تعالى: {كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا}، وقال الشاعر [من الطويل]: كفى الشَّيبُ والإِسلامُ للمَرْء نَاهِيَا (¬10) ¬
لمّا لم يأتِ بالباء، رَفَعَ. وقد زيدت في التعجّب، نحوِ قولك: "أحْسِنْ بزيدٍ"، وقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (¬1). وقد تقدّمْت الدلالة على زيادتها فيه في فصل التعجّب، وأمّا قول امرئ القيس [من الطويل]: ألا هل أتاها ... إلخ فالشاهد فيه زيادة الباء مع الفاعل المرفوع المحل. والمراد أنّ امرأ القيس بيقر. يقال: بيقر الرجلُ. إذا أقام بالحَضَر، وترك قومَه، وقيل: إذا ذهب إلى الشأم، والمعنى ألا هل أتاها ذهابُ امرئ القيس بن تملك. ومنه قول الآخر [من الوافر]: 1076 - ألَمْ يأتيك والأنْباءُ تَنْمِي ... بما لاقَتْ لَبُونُ بني زِيادِ ¬
فصل [معني اللام]
الباء زائدة، والمراد: ما لاقت لبونُ بني زيادٍ. ويجوز أن يكون الفاعلُ في النيّة، والمراد: ألا هل أتاها الإنباءُ، فعلى هذا تكون الباء مزيدة مع المفعول. وأمّا زيادتها مع خبر "لَيْسَ" مؤكدة للنفي، فنحو قولك: "ليس زيدٌ بقائم". وفي التنزيل: {لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} (¬1)، فالباءُ الأُولى متعلّقة باسم الفاعل، والثانّية التي تصحَب "لَيْسَ". وأمّا زيادتها في خبرِ "ما" الحجازيّة، فنحو قولك: "ما عمرٌو بخارحٍ". قال الله تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} (¬2) {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} (¬3)، والمعنى: مخرجين وغائبين، وليست متعلّقة بشيء. وأمّا زيادتها مع المفعول، وهو الأكثر، فقولُه تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬4)، فالباء فيه زائدة، والمعنى: لا تلقوا أيْدِيَكم. والذي يدلّ على زيادتها هنا قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (¬5)، وقال سبحانه: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} (¬6). ألا تر ى أن الفعل قد تعدّى بنفسه من غير وَساطة الباء. ومن ذلك {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (¬7)، الباء زائدةٌ لقوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬8) من غيرِ باء. ويجوز أن تكون الباء في قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (¬9) زائدة، والمعنى: تنبت الدهنَ، فيكون "الدهنُ" المفعول، والباء على هذا زائدة، ومَن جعلها في موضع الحال، فلا تكون زائدة، لأنها أحدثت معنى، فيكون المفعول محذوفًا، والمعنى تُنْبِت ما تُنبِته أو ثمرةً، ودُهْنُها فيها، فاعرفه. فصل [معني اللام] قال صاحب الكتاب (¬10): واللام للاختصاص, كقولك: "المال لزيد"، و"السرج للدابة"، و"جاءني أخ له وابن له", وقد تقع مزيدة قال الله تعالى: {ردف لكم} (¬11). * * * قال الشارح: اعلم أن اللام من الحروف الجارّة لا تكون إلَّا كذلك، وذلك نحو قولك: "المالُ لزيد"، و"الغلامُ لعمرو". وموضعُها في الكلام الإضافة. ولها في الإضافة معنيان: المِلْكِ، والاستحقاق، وإنما قلنا الملك، والاستحقاق؛ لأنها قد تدخل على ما لا يُمْلَك، وما يملك، وذلك نحو قولك: "الدارُ لزيدٍ"، فالمراد أنه يملك الدارَ، وكذلك ¬
"الغلام لعمرو"؛ لأنهما ممّا يُمْلَك. وتقول: "السرجُ للدابّة"، و"الأخُ لعمرو" فالمراد بذلك الاستحقاق بطريق الملابسة. والمعنى بالاستحقاق: اختصاصه بذلك. ألا ترى أن "السرج" مختصّ بالدابّة، وكذلك "الأخ" مختصّ بعمرو، إذ لا يصحّ مِلْكُه. وقيل: أصل ذلك الاختصاصُ واستعمالُها في الملك لِما فيه من الاختصاص، لأن كلّ مالكٍ مختصٌّ بالمال. وقال بعضهم: معنى اللام المِلْكُ خاصةً في الأسماء، وما ضارَعَ الملكَ في الأسماء، وغير الأسماء. واللامُ أصل حروف الإضافة، لأن أخلص الإضافات وأصحّها إضافة الملك إلى المالك، وسائرُ الإضافات تُضارع إضافةَ الملك، فالملكُ نحوُ: "المالُ لزيد"، وما ضارع الملك مثلُ قولك: "اللجامُ للدابّة"، و"الرأيُ لزيد" و"البياض للثَّلْج"، وقولُك في الفعل: "أكْرَمْتُك لزيد"، فالمعنى أنَّكَ ملّكتَه الإكرامَ، واعتقدتَ أنه ملك ذلك منك. فأمّا اللام الداخلة على الأفعال الناصبةُ لها نحوُ: "جئتُ لأكرِمَك"، وقوله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} (¬1) و {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ} (¬2)، فإنها حرف الجرّ، وليست من خصائص الأفعال كلام الأمر وغيرِها ممّا هو مختصّ بالأفعال. وحقيقةُ نصب الفعل بعدها إنَّما هو بـ "أنْ" مضمرةً، والتقديرُ: جئتُك لأنْ أُكْرمك. و"أنْ" والفعل مصدرٌ، وذلك المصدر في موضعِ خفض باللام، والجازُ والمجرور في موضع نصب بالفعل. ومعناها الاختصاص، والمراد أن مجيئه مختصّ بالإكرام، إذ كان سببه. واعلم أن أصل هذه اللام أن تكون مفتوحة مع المُظْهَر؛ لأنها حرف يُضطرّ المتكلّم إلى تحريكه، إذ لا يمكن الابتداء به ساكنًا، فحُرّك بالفتح؛ لأنه أخفّ الحركات، وبه يحصل الغرضُ، ولم يكن بنا حاجةٌ إلى تكلُّف ما هو أثقلُ منه. وإنما كُسرت مع الظاهر؛ للفرق بينها وبين لام الابتداء، ألا تراك تقول: "إنّ هذا لَزيدٌ" إذا أردت أنه هو، و"إنّ هذا لِزيدٍ" إذا أردت أنه يملكه؟ فإن قيل: الإعراب يفصل بينهما، إذ بخفضِ ما بعد لام الملك يُعْلَم أنه مملوكٌ، وبرفعِ ما بعد لام التأكيد يعلم أنّه هو؛ قيل: الإعراب لا اعتدادَ بفصله، فإنّه قد يزول في الوقف، فيبقى الإلباسُ إلى حين الوصل، فأرادوا الفصل بينهما في جميع الأحوال، مع أنّ في الأسماء ما هو غير معرب، وفيها ما هو معرب، غيرَ أنّه يتعذّر ظهورُ الإعراب في لامه لاعتلاله، وذلك قولك: "إن زيدًا لِهَذا". فـ "هَذا" مبنيٌّ لا إعرابَ فيه، فلولا كسرُ اللام وفتحُها؛ لَما عُرف الغرض، فلَالْتبس فيما لا يظهر فيه الإعراب. ولذلك تقول: "إنّ الغلام لَعِيسَى" إذا أردت أنه هو، و"إنّ الغلام لِعيسى" إذا أردت أنه يملكه. فهذه اللام مكسورة مع الظاهر أبدًا لِما ذكرناه من إرادة الفرق. ¬
فصل [معني "رب" وأحكامها]
فأمّا مع المضمر، فلا تكون إلَّا مفتوحةً، نحوَ قولك: "المالُ لَكَ ولَهُ"، جاؤوا بها على الأصل ومقتضى القياس، ودْلك لأمرَيْن: أحدُهما: زوالُ اللبس مع المضمر؛ لأن صيغة المضمر المرفوع غيرُ صيغة المضمر المجرور. ألا ترى أنك إذا أردت الملك؛ قلت: "هذا لك"، وإذا أردت التأكيد؛ قلت: "إنّ هذا لأنْتَ". فلمّا كان لفظ المجرور غير لفظ المرفوع؛ اكتفوا في الفصل بنفس الصيغة. الثاني: أنَّ الإضمار ممّا يردّ الأشياءَ إِلى أُصولها دي أكثر الأحوال، فلمّا كان الأصل في هذه اللام أن تكون مفتوحة؛ تُركت هذه اللام الجارّة مع المضمر مفتوحة. وقد شبه بعضهم المظهرَ بالمضمر، ففتح معه لامَ الجرّ، فقال: "المالُ لزيدٍ" وقد قرأ سَعِيد بن جُبَير: {وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} (¬1) بفتح اللام، كأنَّه يردّها إلى أصلها، وهو الفتح. وحكى الكسائيّ عن أبي خزم العُكليّ: "ما كنتُ لآتِيَكَ" بفتح اللام، وربّما كسروها مع المضمر تشبيهًا للمضمر بالمظهر. والأوّل أقيسُ؛ لأن فيه ردًّا إلى الأصل، وفي الثاني ردُّ أصل إلى فرع. وربما شُبّهت الباء باللام، فقيل: "بَهُ"، و"بَكَ"، فاعرفه. فصل [معني "ربّ" وأحكامها] قال صاحب الكتاب: و"رُبَّ" للتقليل, ومن خصائصها أن لا تدخل إلا على نكرة ظاهرة, أو مضمرة, فالظاهرة يلزمها أن تكون موصوفة بمفردٍ, أو جملةٍ, كقولك: "ربّ رجلٍ جوادٍ"، و"ربّ رجل جاءني"، و"ربّ رجل أبوه كريمٌ". * * * قال الشارح: "رُبَّ" حرفٌ من حروف الخفض، ومعناه تقليل الشيء الذي يدخل عليه، وهو نقيضُ "كَمْ" في الخبر، لأنّ "كَمِ" الخبريّة للتكثير، و"رُبَّ"، للتقليل. تقول: "ربّ رجلٍ لقيتُه"، أي: ذلك قليلٌ. وهي تقع في جوابِ من قال، أو قدّرتَ أنه قال: "ما لقيتَ رجلًا"، فقلت في جوابه: "ربّ رجلٍ لقيته". قالَ أبو العبّاس المبرّد: "رُبَّ" تبيينٌ عمّا أوقعتَها عليه أنّه قد كان، وليس بالكثير، ولذلك لا تقع إلَّا على نكرة، إلَّا أن الفرق بين "رُبَّ" وبين "كَمْ" في الخبر أنّ "كَم" اسمٌ، و"رُبَّ"، حرفٌ. والذي يدلّ على ذلك أُمورٌ، منها: أنّ "كَمْ " يُخبَر عنها، يقال: "كم رجلٍ أفضلُ منك"، فيكون "أفضل" خبرًا عن "كَمْ"، كما يكون خبرًا عن "زيد" إذا قلت: "زيدٌ أفضل منك". حكى ذلك يونس، ¬
وأبو عمرو عن العرب في رواية سيبويه (¬1) عنهما. ولا يجوز مثلُ ذلك في "رُبَّ". لا تقوله: "ربّ رجلٍ أفضلُ منك" على أن تجعل "أفضل" خبرًا لـ "رُبَّ"، كما يكون خبرًا لـ "كَمْ". ألا تراك تقول "كم غلام لك ذاهبٌ"، و"كم منهم شاهدٌ" فـ "ذاهبٌ"، و"شاهدٌ" خبوان لـ "كَمْ ". ولو نصبت "ذاهبًا"، و"شاهدًا"، فقلت: "كم غلام لك ذاهبًا"؛ لم يتمّ الكلام، وكنت تفتقر إلي خبر. ولا يجوز في "ربَّ" ذلك، لا تقول: "ربّ غلام لك ذاهبٌ "، و"لا ربّ رجل قائمٌ ". و"رُبَّ" حرفٌ، والذي يدلّ على ذلك أنّ "رُبَّ" معناه في غيره، كما أن معنى "مِنْ" في غيرها. فكما أنك إذا قلت: "خرجت من بغداد"؛ فقد دلّتْ "مِنْ" على أن "بغداد" ابتداء غاية الخروج، فكذلك إذا قلت: "ربّ رجلٍ يقول"؛ دلّت "رُبَّ" على معنى التقليل في "الرجل" الذي يقول ذلك. وليست "كَمْ" كذلك، لأنها قد دلّت على معنى في نفسها، وهو العدد. ومنها أنّ "كَمْ" يُخبَر عنها، تقول: "كم رجلٍ أفضل منك"، فيكون "أفضل" خبرًا عن "كم"، كما يكون خبرًا عن "زيد"، إذا قلت: "زيدٌ أفضلك منك". ومنها أنْ "كَمْ" يدخل عليها حرفُ الجرّ، فتقول: "بكم رجل مررتَ"، ولا يجوز مثل ذلك في "ربَّ". ويلي "كم" الفعلَ، ولا يليه "ربَّ"، فتقول: "كم بلغ عَطاؤُك أخاك"، و"كم جاءَك رجلٌ"، ولا يجوز مثل ذلك في "ربّ". ومن الدليل على كون "ربّ" حرفًا أنّها تُوصِل معنى الفعل إلي ما بعدها إيصالَ غيرها من حروف الجرّ، فتقول: "ربّ رجل عالم أدركتُ"، فـ "رُبَّ" أوصلت معنى الإدراك إلى "الرجل"، كما أوصلت الباء الزائدة معنى المرور إلى "زيد" في قولك: "مررت بزيد" قال سيبويه (¬2): إذا قلت: "ربّ رجلٍ يقول ذاك"؛ فقد أضفت القول إلي "الرجل" بـ "رُبَّ". وإذا قال: "ربّ رجلٍ ظريفٍ"؛ فقد أضاف الظَّرْفَ إلى "الرجل" بـ "ربّ". وهذا فيه نَظَرٌ؛ لأن اتّصال الصفة بالموصوف يُغنِي عن الإضافة. وحروفُ الجرّ إنَّما توصل معاني الأفعال إلى معمولها لا معنى الصفة إلى الموصوف. وقد ذهب الكسائي ومَن تابَعَه من الكوفيين (¬3) إلي أن "ربّ" اسمٌ مثلُ "كَمْ"، واعتلّوا بما حكوه عن بعض العرب أنهم يقولون: "ربّ رجلٍ ظريفٌ" برفع "ظريف" على أنه خبرٌ عن "رُبَّ". وقالوا: إِنها لا تكون إلَّا صدرًا، وحروفُ الجرّ إنما تقع متوسّطةّ؛ ¬
لأنها لإيصال معاني الأفعال إلى الأسماء. والصوابُ ما بدأنا به، وهو مذهب البصريين، لِما ذكرناه من الأدِلّة. وأما ما تعَلّقوا به من قول بعض العرب: "ربّ رجل ظريفٌ" برفع "ظريف"، فهو شاذّ. قال ابن السرّاج: هو من قبيل الغلط والتشبيه، يريد التشبيه بـ "كَمْ". وأمّا كونها تقع أولاً في صدر الكلام، فلِمَا نذكره بعدُ إن شاء الله. وممّا يؤيد كونها حرفًا أنها وقعت مبنيّةً من غير عارضٍ عَرَضَ، ولو كانت اسمًا؛ لكانت معربةً، وكانت من قبيل "حُبٍّ"، و"دُرٍّ" في الإعراب. وأمّا كونها لا تدخل إلَّا على نكرة؛ فلأنّها تدخل على واحد يدلّ على أكثر منه، فجرى مجرى التمييز. ألا ترى أن معنى قولك: "ربّ رجلٍ يقول ذلك": قَلَّ من يقول ذلك من الرجال؟ فلذلك اختصّت بالنكرة دون غيرها، ولأنها نظيرة "كَمْ" على ما سبق، إذ كانت "كَمْ" للتكثير، و"رُبَّ"، للتقليل، والتكثيرُ والتقليلُ لا يُتصوَّران في المعارف. واعلم أن هذه النكرة المخفوضة بـ "رُبَّ" إمَّا أن تكون اسمًا ظاهراً، أو مضمرًا. فالظاهرُ نحوُ ما ذكرناه، وتلزمه الصفةُ. وهذه الصفة تكون بالمفرد نحو: "ربّ رجل جواد"، و"رب رجل عالم"، وبالجمله، فالجملة إما فعل وفاعل وإما مبتدأ وخبر فالجملة من الفعل والفاعل، نحوُ قولك: "ربّ رجلٍ لقيته"، فقولك: "لقيته" جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ في موضعِ خفض على الصفة لِـ"رجل". وأمّا الجملة من المبتدأ والخبر، فقولك: "ربّ رجلٍ أبوه قائمٌ"، فـ "أبوه قائمٌ" مبتدأٌ وخبرٌ في موضعِ جرّ على النعت لِـ "رجل". وإنّما لزم المجرورَ هنا الوصفُ؛ لأن المراد التقليل، وكونُ النكرة هنا موصوفةً أبلغُ في التقليل، ألا ترى أن رجلاً جوادًا أقلُّ من رجلٍ وحدَه؟ فلذلك من المعنى لزمت الصفةُ مجرورَها، ولأنهم لما حذفوا العامل، فكثُر ذلك عنهم؛ ألزموها الصفةَ؛ لتكون الصفة كالعوض من حذف العامل. * * * قال صاحب الكتاب: والمضمرة حقها أن تُفَسَّر بمنصوب كقولك "ربَّه رجلاً". ومنها أن الفعل الذي تسلطه على الاسم يجب تأخره عنها، وأنه يجيء محذوفاً في الأكثر, كما حُذف مع الباء في "بسم الله". قال الأعشي [من الخفيف]: 1077 - رُبّ رفدٍ هرقته ذلك اليوم ... وأسرى من معشر أقيال ¬
فـ "هرقته", و"من معشر" صفتان, لـ "رفد", و"أسرى", والفعل محذوف. * * * قال الشارح: اعلم أنّهم قد يُدْخِلون "رُبَّ" على المضمر. وإذا فعلوا ذلك؛ جاؤوا بعده بنكرة منصوبة تُفسِّر ذلك المضمرَ، فيقولون: "رُبَّهُ رجلًا"، فالمضمر هنا يُشبَّه بالمضمر في "نِعْمَ"، و"بِئْسَ"، نحوِ قولك: "نعم رجلًا زيدٌ"، و"بِئْسَ غلامًا عبدُ الله"، إلَّا أن الفرق بينهما أنّ المضمر في "نعم" مرفوع لا يظهر؛ لأنه فاعلٌ، والفاعل المضمر إذا كان واحدًا يستكنّ في الفعل، ولا تظهر له صورة، والمضمر مع "رُبَّ" مجرورٌ، وتظهر صورته. وهذا إنما يفعلونه عند إرادة تعظيم الأمر وتفخيمه، فيكنون عن الاسم قبل جَرْي ذكره، ثمّ يفسّرونه بظاهرٍ بعد البيان. وليس ذلك بمطّردٍ في الكلام، وإنما يخصّون به بعضًا دون بعض. وهذه الهاءُ على لفظ واحد، وإن وليها المذكّر، أو المؤنّث، أو اثنان، أو جماعةٌ، فهي موحّدةٌ على كل حال. ويسمّي الكوفيون هذا الضمير المجهول؛ لكونه لا يعود إلى مذكور قبله، وقد أطلق عليه صاحب هذا الكتاب التنكيرَ. وغيرُه لا يرى ذلك من حيث كان مضمرًا، والمضمرات لا تنفكّ من التعريف، ولذلك لا يوصَف كما لا يوصف سائر المضمرات، وإنما هو في حكم المنكور، إذ كان المعنى يؤول إلى النكرة، وليس بمضمرِ مذكورٍ تقصده، ولذلك ساغ دخولُ "رُبَّ" عليه، و"رُبَّ" مختصّة بالنكرات. وإنما وجب لـ "رُبَّ" أن يتقدّم الفعلَ العاملَ، وحقّها أن تتأخّر عنه من حيث كانت حرف جرّ، وحقُّ حرف الجرّ أن يكون بعد الفعل؛ لأنه إنما جيء به لإيصال الفعل إلى المجرور به، نحو: "مررت بزيد"، و"دخلت إلى عمرو"، ولكن، لمّا كان معناها التقليل؛ كانت لا تعمل إلَّا في نكرة، وصارت مقابِلةَ "كَمِ" الخبريّةِ. و"كم" الخبريّةُ يجب تصدّرُها لشِرْكتها "كم" الاستفهاميّةَ. وقيل: إنها لمّا دخلت على مفرد ¬
منكور، ويراد به أكثرُ من ذلك، وكان معناها التقليل، والتقليلُ نفيُ الكثرة؛ فضارعت حرفَ النفي إذ كان حرفُ النفي يليه الواحدُ المنكورُ، ويُراد به الجماعة، فجُعل صدرًا، كما كان حرف النفي كذلك. ولا بدّ له من فعل يتعلّق به كالباء وغيرِها من حروف الجرّ، تقول: "ربَّ رجل يقول ذلك لقيتُ أو أدركتُ"، فموضعُ "رُبَّ" وما انجرّ به نصبٌ، كما يكون الجارّ والمجرور في موضع نصب في قولك: "بزيدٍ مررت"، و"يَقُولُ ذلِكَ" صفة لـ "رجلٍ". ولا يكاد البصريون يُظْهِرون الفعل العامل، حتّى إِن بعضهم قال لا يجوز إظهاره إلَّا في ضرورة الشعر. وإنما حُذف الفعل العامل فيها كثيرًا؛ لأنها جوابٌ لمن قال لك: "ما لقيتَ رجلاً عالمًا"، أو قدّرتَ أنه يقول، فتقول في جوابه: "رُبَّ رجلٍ عالمٍ"، أي: لقد لقيتُ، فساغ حذفُ العامل إذ قد عُلم المحذوف من السؤال، فاستُغني عن ذكره بذلك. وحُذف ها هنا كحذف الفعل العامل في الباء من "بسم الله"، والمراد: "أبْدَأُ بسم الله"، أو "بدأتُ بسم الله"، فتُرك ذكره لدلالة الحال عليه، فأمّا قوله [من الخفيف]: ربّ رفد هرقته ... إلخ فإنّ البيت للأعشى، والشاهد فيه لزومُ الصفة للنكرة. فالرَّفْدُ بالفتح: القدح العظيم، ويروى بالكسر، وهو مَثَلٌ، ولم يُردْ في الحقيقة رفدًا. والأسْرَى: جمع أسِيرٍ. والأقْتالُ: جمع قِتْلٍ وهو العدوّ. وقوله: "هرقته" في موضع الصفة، لـ"رفد" المخفوض بـ "رُبَّ". والذي يتعلّق به "رُبَّ" محذوفٌ تقديره: "سبيتُ"، أو"ملكتُ". وقوله: "مِن معشر أقتال" في موضع الصفة لـ "أسْرَى"، فيتعلّق الجارّ والمجرور بمحذوف، ولا يتعلّق بنفسِ "أسرى"؛ لأن المخفوض بـ "رُبَّ" لا بدّ له من الصفة. * * * قال صاحب الكتاب: ومنها أن فعلها يجب أن يكون ماضياً، تقول: "ربّ رجلٍ كريمٍ قد لقيت"، ولا يجوز "سألقى", أو "لألقين". وتكف بـ "ما", فتدخل حينئذ على الاسم والفعل, كقولك: "ربما قام زيدٌ"، و"ربما زيدٌ في الدار", قال أبو دؤاد [من الخفيف]: 1078 - ربما الجامل المؤبل فيهم ... وعناجيج بينهن المهار ¬
وفيها لغات: "رُبُ" الراء مضمومة, والباء مخففة مفتوحة, أو مضمومة, أو مسكنة، و"رَبَّ" الراء مفتوحةٌ, والباء مشددةٌ, ومخففة، و"ربت" بالتاء, والباء مشددة أو مخففة. * * * قال الشارح: حكم "رُبَّ" أن يكون الفعل العامل فيها ماضيًا، نحوَ قولك: "ربّ رجل كريم قد لقيتُ"، و"ربّ رجلٍ عالمٍ رأيتُ"؛ لأنها موضوعة للتقليل، فأولوها الماضِيَ؛ لأنه قد يُحقِّق قلّتَها، فلذلك لاّ يجوز: "ربَّ رجلٍ عالمٍ سَألْقَى، أو لألْقَيَنَّ"؛ لأن السين تفيد الاستقبال، والنون تفيد التأكيد، وتصرف الفعل إلى الاستقبال. وقد تدخل "ما" في "ربّ" على وجهَيْن: أحدهما أن تكون كافّةً، والآخر أن تكون ملغاةً. فأمَا دخولها كافّةً؛ فلأنّها من عوامل الأسماء، ومعناها يصح في الفعل، وفي الجملة. فإذا دخلت عليها "ما"، كفّتْها عن العمل، كما تُكَفّ "إنَّ" في قولك: "أإنَّمَا"، ثمّ يُذْكَر بعدها الفعل والجملة من المبتدأ والخبر، نحوُ قولك: "إنّما ذهب زيد"، و"إنّما زيدٌ ذاهبٌ". فكذلك "رُبَّ" إذا كُفّت بـ "ما" عن العمل، صارت كحرف الابتداء يقع بعدها الجملة من الفعل والفاعل، والمبتدأ والخبر، قال الشاعر [من الخفيف]: ربَّما تَجْزَعُ النُّفُوسُ من الأمر ... له فَرْجَة كحَل العِقالِ (¬1) فأوقع بعدها جملةً من الفعل والفاعل كما ترى، فأمّا قوله [من الخفيف]: ربّما الجامل المؤبّل ... إلخ فالبيت لأبي دُؤادٍ الإياديّ، والشاهد فيه وقوع المبتدأ والخبر بعدها حيث كُفّت بـ "ما"، فـ "الجامل" مبتدأ، و"المؤبّل" نعته و"فيهم" الخبر. والجامل: القطيع من ¬
الإبل مع رُعاتها. والمُؤَبَّلُ: المُعَدّ للقِنْية، يُقال: إبلٌ مؤبّلةٌ، إذا كانت للقنية. والعَناجِيج: جياد الخيل. والمِهارُ: جمع مُهْرٍ. يريد أنهم ذوو يَسارٍ، عندهم الإبلُ والخيل، وبينها أولادُها. وأمّا الملغاة، فمؤكِّدةٌ كتأكيدها في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (¬1)، و {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (¬2) فتقول على هذا: "ربّما رجلٍ عندك"، ويكون دخولُها كخروجها. وفيها لغاتٌ، قالوا: "رُبَّ" الراءُ مضمومة، والباءُ مشدّدة، وهو الأصل فيها، إذ لو كان أصلها التخفيف، لم يجز التشديد فيها إلَّا في الوقف، أو ضرورةِ الشعر، نحوِ قوله [من الرجز]: مِثْلَ الحَرِيقِ صادَفَ القَصَبَّا (¬3) وليس الأمر في "ربّ" كذلك، فإنّها تُستعمل مشدّدةً في حال الاختيار وسعة الكلام، وفي الوصل، والوقف. وقالوا: "رُبَ" بضمّ الراء، وفتح الباء خفيفةً. ويحتمل ذلك وجوهًا. أحدها: أنهم حذفوا إحدى البائين تخفيفًا كراهيةَ التضعيف، وكان القياس إذا خُفّفت تسكين آخرها؛ لأنه لم يلتقِ فيها ساكنان، كما فعلوا بـ "أنَّ" ونظائرها حين خفّفوها، إلَّا أنّ المسموع "رُبَ" بالفتح، نحوُ قول الشاعر [من الكامل]: أزُهَيْرُ إنْ يَشِبِ القَذالُ فإنّه ... رُبَ هَيْضَلٍ لجب لفقتُ بهيضل (¬4) كأنّهم أبقوا الفتحة مع التخفيف دلالةً وأمارةً على أنها كانت مثقّلة مفتوحةً. ومثلُه قولهم: "أُفَ"، لمّا خفّفوها، أبقوا الفتحة دلالة وتنبيهًا على الأصل. ومثلُه قوله: "لا أُكلِّمُ جَرِي دهرٍ" ساكنةَ الياء في موضع النصب في غير الشعر؛ لأنهم أرادوا التشديد في "جريّ". فكما أنه لو ادُّغم الياء الأوُلى في الثانية؛ لم تكن الأُولى إلَّا ساكنة، فكذلك إذا حُذفت الثانية، تبقى الأُولى على سكونها دلالةً وتنبيهًا على إرادة الادّغام. ويمكن أن يكون إنما فُتح الآخر من "رُبَ"؛ لأنه لمّا لحقه الحذف، وتاءُ التأنيث؛ أشبهت الأفعالَ الماضيةَ، ففُتحت كفَتْحها. وقيل: إِنهم لمّا استثقلوا التضعيف، حذفوا الحرف الساكن لضعفه بالسكون. وقد قالوا "رُبْ" بالتخفيف، وسكون الباء على القياس، حذفوا المتحرّكَ؛ لأنه أبلغ في التخفيف ولتطرُّفه، وأبقوا الساكن على حاله. ¬
وقالوا: "رُبَّتَ"، فألحقوه تاء التأنيث، كما قالوا: "ثُمَّتَ"، قال الشاعر [من السريع]: 1079 - ماوِيَّ يا رُبَّتَمَا غارةٍ ... شَعْواءَ كاللَّذْعَةِ بالمِيسَمِ وقال الآخر [من الرجز]: 1080 - يا صاحبا رُبَّتَ إنسانٍ [حَسَنْ ... يسألُ عنكِ اليومَ أو يسألُ عَنْ] وهذه التاء تلحق "رُبَّ" ساكنة كما تلحق الأفعالَ، ومتحرّكةَ كما تلحق الأسماءَ، فتقول: "رُبَّتْ" بالسكون، و"رُبَّتَ" بالفتح. فقياسُ مَن أسكنها أن يقف عليها بالتاء، كما يقف على "ضَرَبَتْ". وقياسُ من حرّكها أن يقف عليها بالهاء، كما يقف على "كَيهْ"، و"ذَيهْ". وربما قالوا: "رُبُّ" بضمّ الراء والباء، كأنهم أتبعوا الضمّ الضَّمَّ، وربما قالوا: "رَبَّ"، ففتحوا الراء إتباعًا لفتحة الباء، كما قالوا: "الحَمْدِ لله" فأتبعوا الكسر الكسر مخفّفةً ومشدّدةً على ما تقدّم، فاعرفه. ¬
فصل [واو القسم]
فصل [واو القسم] قال صاحب الكتاب: و"واو القسم" مبدلة عن الباء الإلصاقية في "أقسمت بالله"، أبدلت عنها عند حذف الفعل، ثم التاء مبدلة عن الواو في "تالله" خاصة, وقد روى الأخفش "ترب الكعبة", فالباء لأصالتها تدخل على المضمر والمظهر, فتقول: "بالله, وبك, لأفعلن". والواو لا تدخل إلا على المظهر لنقصانها عن الباء، والتاء لا تدخل من المظهر إلا على واحد؛ لنقصانها عن الواو. * * * قال الشارح: أصل حروف القسم الباء، والواو مبدلةٌ منها، وإنما قلنا ذلك؛ لأنها حرف الجرّ الذي يُضاف به فعلُ الحَلْف إلى المحلوف، وذلك الفعل "أحْلِفُ"، أو "أُقْسِمُ"، أو نحوُهما، لكنّه لمّا كان الفعل غير متعدّ؛ وصلوه بالباء المعدّية، فصار اللفظ "أحلفُ بالله"، أو"أُقسمُ بالله". قال الله تعالى: ({وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} (¬1). قال الشاعر [من السريع]: 1081 - أُقْسِمُ بالله وآلائِهِ ... والمَرْءُ عَمّا قال مَسْؤُولُ وقال [من الطويل]: 1082 - فأقسمتُ بالبيت الذي طاف حَولَهُ ... رِجالٌ بَنَوْه من قُرَيْشٍ وجُرْهُمِ ¬
وإنّما خصّوا الباءَ بذلك دون غيرها من حروف الجرّ لأمرَيْن، أحدهما: أنها الأصل في التعدية. والثاني: أن الباء معناها الإلصاق. والمراد إيصال معنى الحلف إلى المحلوف، فلذلك كانت أوْلى، إذ كانت مفيدةً هذا المعنى. والذي يؤيّد عندك أن الباء الأصل في حروف القسم أنها تدخل على المضمر، كما تدخل على المظهر، فتقول: "بالله لأقُومنّ"، و"به لأفعلنّ". والواوُ لا تدخل إلَّا على المظهر ألبتّة، تقول: "واللهِ لأقومنّ". ولو أضمرتَ؛ لقلت: "به لأفعلنّ"، ولا تقول: "وَهُ"، ولا "وَكَ"، فرجوعُك مع الإضمار إلى الباء يدلّ أنها هي الأصل؛ لأن الإضمار يردّ الأشياء إلى أُصولها. قال الشاعر [من الوافر]: 1083 - رَأى بَرْقًا فأوْضَعَ فوقَ بَكْرٍ ... فلا بِكَ ما أسألَ ولا أغاما ¬
وقال الآخر [من الوافر]: 1084 - ألا نادَت أُمامةُ باحْتِمالِ ... لتَحْزُنَني فلا بِكِ ما أُبالِي لمّا كنى عن المُقْسَم به، عاد إلى الباء. ولمّا كثُر استعمالُ ذلك في الحلف؛ آثروا التخفيف، فحذفوا الفعل من اللفظ، وهو مرادٌ؛ ليُعلَّق حرف الجرّ به، ثمّ أبدلوا الواو من الباء توسُّعًا في اللغة، ولأنّها أخفُّ، لأن الواو أخفّ من الباء، وحركتُها أخفّ من حركة الباء. وإنما خصّوا الواو بذلك لأمرَيْن، أحدهما: أنها من مَخْرَجها من الشفتَيْن، والآخر: من جهة المعنى، وذلك أن الباء معناها الإلصاق، والواو معناها الاجتماع. والشيءُ إذا لاصَقَ الشىءَ؛ فقد جاء معه. وأمّا التاء فمبدلةٌ من الواو، لأنه قد كثُر إبدالها منها في نحو: "تُكَأةٍ"، و"تُراثٍ"، و"تَوْراة"، و"تُخَمَةٍ"، لشَبَهها بها من جهة اتّساع المخرج. وهي من الحروف المهموسة، ¬
فناسَبَ هَمْسُها لِينَ حروف اللين. ولمّا كانت الواو بدلًا من الباء، والبدلُ ينحط عن درجة الأصل، فلذلك لا تدخل إلَّا على كلّ ظاهر، ولا تدخل على المضمر؛ لانحطاط الفرع عن درجة الأصل، لأنه من المرتبة الثانية. والتاءُ لمّا كانت بدلًا من الواو، وكانت من المرتبة الثالثة، انحطّت عن درجة الواو، فاختصّت باسم الله تعالى؛ لكثرة الحلف به. وإلى هذا يُشِير صاحب هذا الكتاب، وهو مذهب أكثر أصحابنا. ومنهم من يقول: إِن البدل يجري مجرى المُبْدَل منه في جميع أحكامه، ولا يتقاصر عن الأصل لقُرْبه منه، ألا تراهم يقولون: "صرفتُ وُجُوهَ القوم، وأُجُوهَ القوم"، فيُبْدِلون الهمزة من الواو، ويوِقعونها في جميع مواقعها قبل البدل. وقالوا أيضًا: "وُسادة، وإسادةٌ"، و"وِعاءٌ، وإعاءٌ". وقرأ سَعيد بن جُبَيْر، {ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ} (¬1). فكلُّ واحد من هذا يجري في البدل مجرى صاحبه، ولا يلزم انحطاطُه عن درجة الأصل. فأمّا إذا كان بدلًا من بدلٍ؛ فقد تَباعد عن الأصل، وصار في المرتبة الثالثة، فوجب انحطاطُه عن درجة الأصل، وأن لا يُساويه. فلذلك اختصّت التاء باسم الله، ولم تدخل على غيره ممّا يُحْلَف به. فإن قلت: فأنت تزعم أن الواو في "واللهِ" بدل من الباء في "بالله"؛ ولذلك لا تقع في جميع مواقعها. ألا ترى أنها لا تدخل على المضمر، ولا تقول: "وَهُ"، ولا "وَكَ"، كما تقول: "بك لأفعلنّ"، و"به لأفعلنّ"، فقد تَقاصر الفرع عن درجة الأصل كما ترى. فالجواب أن الواو لم يمتنع دخولُها على المضمر لانحطاطها عن درجة الباء، إنّما ذلك من قِبَلِ أن الإضمار يردّ الأشياء إلى أُصولها. ألا ترى أنّ من يقول: "أعطيتُكم درهمًا"، فحذف الواو، وسكّن الميم تخفيفًا، فإنّه إذا أضمر المفعول؛ قال: "أعطيتُكموه" ويردّ الواو لأجل اتّصال الفعل بالمضمر؟ فلذلك جاز أن تقول: "به لأفعلنّ"، و"بك لأفعلنّ"، ولم يجز شيء من ذلك في الواو. وقد حكى أبو الحسن: "تَرَبِّ الكعبة لأفعلنّ"، يريدون: "وربّ الكعبة"، وهو قليل شاذّ، كأنهم جعلوا الواو أصلًا لكثرة استعمالها، وغَلَبَتها على الباء، فالتاءُ تدخل على طريق الاختصاص بالاسم الذي يكون القَسَمُ به أكثر، وقد يكون فيها معنى التعجّب. قال الله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (¬2) على طريق التعجّب، وقال الله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (¬3)، فاعرف ذلك. * * * ¬
[أصل "م الله"]
[أصل "م الله"] قال صاحب الكتاب: وقولهم: "م الله" أصله "من الله" لقولهم: "من (¬1) ربي إنك لأشرٌ", فحذف النون لكثرة الاستعمال، وقيل أصله "ايم" ومن ثم قال: "من ربي" بالضم, ورأي بعضهم أن تكون الميم بدلاً من الواو لقرب المخارج. * * * قال الشارح: وقد قالوا في القسم: "مُ الله لأفعلنّ"، فقال بعضهم: أرادوا "من الله" بحذف النون تخفيفًا, لأن النون الساكنَة تُشبَّه بحروف العلّة، فتُحْذَف تارةً لالتقاء الساكنين، نحوَ قوله [من المنسرح]: 1085 - أبْلِغْ أبَا دُخْتَنوسَ مَأْلَكَةً ... غيرَ الذي قد يُقال مِ الكَذِبِ يريد "مِنْ" فحذف النون لالتقاء الساكنين. وقال الآخر [من الطويل]: 1086 - [لليلى بذاتِ البيْنِ دارٌ عَرَفْتُها ... وأُخرى بذاتِ الجيشِ آياتُها عُفْرُ] كأنهما مِ الآنَ لم يَتغيّرا ... وقد مَرَّ للدارَيْن من بَعْدِنا عَصْرُ ¬
أراد: "من الآن" فحذف، والقياسُ التحريك لالتقاء الساكنين، وقد حذفوها لا لالتقاء الساكنين، بل لضربٍ من التخفيف. قال [من الرجز]: مِن لَدُ شَوْلا وإلى إتلائِها (¬1) فحذف نونَ "لَدُنْ" تخفيفًا. واستدلّوا على أن أصلها "مِنْ" بقول العرب: "مِن ربِّي لأفعلنّ" ولا يُدْخِلون "مِنْ" في القسم إلَّا على "رَبِّي"، فلا يقولون: "مِن الله" كأنهم اختصّوا بعضَ الأسماء ببعض الحروف، وذلك لكثرة القسم، تَصرّفوا فيه هذا التصرّفَ. ومن العرب مَن يقول: "مُن ربي" بضمّ الميم، ولا يستعملون "مُنْ" بضمّ الميم إلَّا في القسم، وذلك أنهم جعلوا ضمَّها دلالةً على القسم، كما جعلوا الواو مكانَ الباء دلالةً على القسم. ومنهم من يجعل "مِنْ" من قولك: "من ربّي لأفعلنّ" مخفّفة من "أيْمُنٍ". و"ايمنٌ" عن سيبويه (¬2) اسمٌ مفردٌ، وُضع للقسم مشتقّ من "اليَمِين"، وهو البَرَكَة، وألفُ "ايْمُنٍ" وصلٌ، ولم تجىء في الأسماء ألفُ وصل مفتوحة إلَّا هذا الحرفُ. قال الشاعر [من الطويل]: 1087 - فقال فَرِيقُ القَوْمَ لمّا نشدتُهم ... نَعَمْ وفَرِيق لَيْمُنُ اللهِ ما نَدْرِي ¬
فحذف الهمزة حين استغنى عنها باللام المؤكّدة، وهو مرفوع بالابتداء، وخبرُه محذوف، والتقدير: "لايْمُنُ الله ما أُقْسِمُ به". وكثُر استعماله في القسم، فتَصرّفوا فيه بأنواع التخفيف، فحذفوا نونَه تارةً، وقالوا: "ايْمُ الله". ومنهم من يكسر الهمزة حملًا لها على نظائرها من همزات الوصل. ومنهم من يحذف الياء، ويقول: "امُ اللهِ لأفعلنّ". ومنهم من يُبْقِي الميم وحدها، فيقول: "مُ اللهِ". ومنهم من يكسر الميم؛ لأنها لمّا صارت على حرف واحد، شبّهها بالباء، فكسرها، لأنها قَسَمٌ يعمل في الجرّ، فأجراها مجراها. وذهب قوم من الكوفيين (¬1) إلى أن "ايمن" جمع "يَمِينٍ"، وعليه ابن كَيْسان، وابن درستويه. وأجاز السِّيرافيّ أن يكون كذلك، والألفُ على هذا عندهم قطعٌ، وإنما حُذفت في الوصل لكثرة الاستعمال. قالوا: جمعوا "يَمِينًا" على "أيْمُنٍ"، كما جمعوا عليه في غير القسم، كما قالوا [من الرجز]: يَسْرِي لها من أيْمُنٍ وأشْمُلِ (¬2) وقال زُهَيْر [من الوافر]: 1088 - فتُجْمَعُ أيْمُنٌ منّا ومنكم ... بمُقْسَمَةٍ تَمُورُ بها الدِّماءُ ¬
فصل [معني "علي"]
وكانوا يحتلفون باليمين. قال امرؤ القيس [من الطويل]: فقلتُ يمينَ الله أبْرَحُ قاعِدًا .... ولو قطعوا رأسي لَدَيْكِ وأوْصالِي (¬1) ثمّ احتلفوا بالجمع كما يحتلفون بالمفرد، فقالوا: "ايْمُنَ اللهِ لا أفعلُ". ويؤيّد هذا غَرابةُ البناء، لأنه ليس في الأسماء الآحاد ما هو على "أَفْعُل" إلَّا "آنكٌ" وهو الرَّصاص، و"أشُدٌّ"، إلَّا أنّه يضعف من كثرة الحذف وبقائه على حرف واحد، ولم يُعتمد نحو ذلك في المجموع. وقد ذهب قومٌ إلى أن الميم في "م الله" بدلٌ من الواو، وقالوا: لأنها من مَخْرجها، وهو الشفة، وقد أبدلت منها في "فَمٍ"، فافهمْه. فصل [معني "علي"] قال صاحب الكتاب: و"على" للاستعلاء, تقول: "عليه دين" و"فلان علينا أمير"، وقال الله تعالى: {فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك} (¬2)، وتقول على الاتساع: "مررت عليه" إذا جزته, وهو اسمٌ في نحو قوله [من الطويل]: 1089 - غدت من عليه بعد ما تم ظمؤها ... [تصلُّ وعن قيضٍ بزيزاء مجهل] أي: من فوقه. * * * ¬
قال الشارح: هذا من الضرب الثاني، وهو ما يكون حرفًا واسمًا، وهي خمسةٌ على ما ذكرنا: "عَلى"، و"عَنْ"، والكاف، و"مُذْ"، و"مُنْذْ". فأمّا "عَلى" فكان أبو العبّاس يقول. إنها مشترَكةٌ بين الاسم والفعل والحرف، لا أنَّ الاسم هو الفعل والحرف، ولكن يتّفق الاسم والفعل والحرف في اللفظ، فإذا كانت حرفًا؛ دلّت على معنى الاستعلاء فيما دخلت عليه، كقولك: "زيدٌ على الفرس"، فـ "زيد" هو المستعلِي على الفرس، و"عَلى" أفادت هذا المعنى فيه. ومن ذلك "على زيدٍ دَيْنٌ"، كأنه شيءٌ قد علاه فالمُسْتعلى عليه "زيدٌ". وكذلك: "فلانٌ علينا أميرٌ" لاستعلائه من جهة الأمر. ومنه قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} (¬1)، وقوله تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} (¬2)، المراد الركوب عليه، والاستواء فوقه. فأمّا قولهم: "مررت عليه" فاتّساغٌ، وليس فيه استعلاءٌ حقيقةً، إنما جرى كالمثل. ويجوز أن يكون المراد مروره على مكانه، فيكون فيه استعلاءٌ. فأمّا قولهم: "أُمررتُ يَدِي عليه"، ففيه استعلاءٌ، لأن المراد فوقه. وأمّا إذا كانت اسمًا، فتكون ظرفَ مكان بمعنى الجهة، ويدخل عليها حرف الجرّ كما يدخل على غيرها من ¬
الجهات، نحوَ قول بعض العرب: "نهضتُ من عليه"، أي: من فوقه، كقول الشاعر [من الطويل]: 1090 - غَدَت مِن عليه تَنْفُضُ الطَّلَّ بَعْدَما ... رأتْ حاجِبَ الشَّمْسِ استَوَى فتَرَفَّعَا فأمّا البيت الذي أنشده صاحب الكتاب، وهو [من الطويل]: غَدَتْ مِن عليه بعدما تَمَّ ظِمْؤُها ... تَصِلُّ وعن قيْضٍ بزِيزاءِ مَجْهَلِ البيت لمزاحم بن الحارث العُقَيْلِيّ، وقبله: قطعتُ بشَوْشاءٍ كأنّ قُتُودَهْا ... على خاضبٍ يَعْلُو الأماعِزَ مُجْفِلِ أذلك أمْ كُدْرِيَّةٌ ظَلَّ فَرْخُها ... لَقى بشَرَوْرَى كالَيتِيم المُعَيَّلِ فالشَّوْشاءُ: الخفيفة، والخاضب: ذَكَر النَّعام، والأمعز: أرضٌ غليظةٌ، ومُجْفِل: سريعُ الذهاب، وقوله: "أذلك" إشارة إلى الظليم، أي: أذلك الظليمَ تُشْبِه ناقتي في خفّتها وسرعتها؛ أم كدريّةً، يعني قطاةً هذه صفتُها. وشَرَوْرَى: جبلٌ معروفٌ، والمُعيَّل: المُهمَل، والظِّمْء: ما بين الشرْبَتَيْن، وتَصِلُّ: تُصوِّت، وإنّما يصوّت حَشاها من بَين العطش، فنقل الفعل إليها، لأنها إذا صوّت حشاها، فقد صَوَّتَتْ، وإنما يُقال لصوتِ جناحها: "الحَفِيفُ". ويروى: خِمْسُها، وهو الذي يرد الماءَ في خامس يوم، سُمّي بيوم الوُرود. ¬
فصل [معاني "عن"]
والقَيْض: قِشْر البَيْض الأعلى الخالي عن الفَرْخ. والزِّيزاء: الأرض الغليظة المستوية التي لا شجر فيها، واحدتها: زِيزاءَةٌ، وقيل: هي المفازة التي لا أعلام فيها، وهمزتُه للإلحاق بنحو "حِمْلاقٍ"، و"سِرْداح". وهي في الحقيقة منقلبة عن ألفٍ منقلبةٍ عن ياء يدلّ على ذلك ظهورها في "دِرْحايةٍ". لمّا بنيت على التأنيث؛ عادت إلى الأصل، ولغةُ هُذَيْل "زَيْزاء" بفتح الزاء كـ"القَلْقال"، وهمزته على هذا منقبلة عن ياء، ووزنُه "فَعْلالٌ"، والأوّل "فِعْلاءٌ". وقولهم في الجمع: "زَيازٍ" دليل على أن العين ياءٌ. وروى سيبويه (¬1): "ببَيْداءَ" وهي الأكَمَةُ ذات الحجارة، والجمع: بيدٌ، والمَجْهَل: القَفْر الذي لا علامة فيه، وهي صفة لبَيْداء. ومن روى: زيزاء أضافه إلى المجهل، وقدر حذفَ الموصوف، أي: مكان مجهل. والشاهد فيه قوله: "مِن عَلَيْهِ"، أي: من على الفرخ، فَـ "عَلَى" هنا اسمٌ بمعنى "فَوْقٍ" لدخول "مِنْ" عليه. والفرقُ بينها إذا كانت اسمًا، وإذا كانت حرفًا، أنها إذا كانت حرفًا، دلّت على معنى في غيرها، وتوصِل الثاني بالأوّل على جهةِ أن معنى الثاني اتّصل بالأول بمُوصِل بينهما من غيرِ أن يكون له معنى في نفسه. وهذا شرطُ حرف الإضافة. وأمّا إذا كانت اسمًا، فإنّها تدلّ على معنًى في نفسها، وهو معنى الظرفيّة، كما يدلّ "فَوْقٌ" على ذلك. وأمّا إذا كانت فعلًا، فهي تدلّ على حدث وزمان معيَّنٍ، وتُصَرَّف، كقولك: "عَلَا، يَعْلُو"، فهذا يدلّ على العُلُوّ في زمنٍ ماضٍ أو غيرِه، وتكثر في بابها. وليست منهما في شيء أكثرَ من الاشتراك اللفظي. فأمّا التي هي اسمٌ، فمختلَفٌ فيها، فذهب أبو العبّاس وجماعةٌ أنها على الاشتراك اللفظيّ فقط، لأن الحرف لا يُشتقّ، ولا يُشتقّ منه، فكلُّ واحد من الثلاثة مُبايِنٌ لصاحبه، إلَّا من جهة اللفظ. قال قومٌ: إِن الأصل أن تكون حرفًا، وإنما كثُر استعمالُها، فشُبّهت في بعض الأحوال بالاسم، فأُجريت مجراه، وأُدخل عليها حرف الجرّ، كما يُشبَّه الاسم بالحرف، ويجري مجراه من نحو: "كَمْ"، و"كَيْفَ". فصل [معاني "عن"] قال صاحب الكتاب: و"عن" للبعد والمجاوزة, كقولك: "رمى عن القوس"؛ لأنه يقذف عنها بالسهم, ويبعده، و"أطعمه عن الجوع"، و"كساه عن العري"؛ لأنه يجعل الجوع العري متباعدين عنه, و"جلس عن يمنيه", أي متراخياً عن بدنه في المكان الذي بحيال يمينه, وقال الله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره} (¬2) , وهو اسم في نحو قولهم: "جلست من عن يمينه", أي: من جانبها. * * * ¬
قال الشارح: وأمّا "عَنْ" فمشترَكةٌ بين الحرف والاسم؛ فأمّا الحرف فنحو قولك: "انصرفت عن زيد"، و"أخذت عن خالد"، فـ "عَنْ" حرفٌ؛ لأنها أوصلت معنى الفعل قبلها إلى الاسم الذي بعدها. قال أبو العبّاس: إذا قلت: "على زيد نزلت"، و"عن عمرو أخذت"، فهما حرفان يُعْرَف ذلك من حيث أنهما أوصلا الفعل إلى زيد، كما تقول: "بزيدٍ مررت"، و"في الداو نزلت"، و"إليك جئتُ". ومعناها المجاوَزة، وما عدا الشيءَ. وأمّا كونها اسمًا، فيكون بمعنى ألجهة والناحية، فتقوله: "جلست مِن عن يمينه"، أي: من ناحية يمينه، وتَبيّن ذلك بدخول حرف الجرّ عليه؛ لأن حرف الجرّ لا يدخل على حرفٍ مثلِه. قال الشاعر [من الكامل]: 1091 - فَلَقَدْ أراني للرِّماح دَرِيئَةً ... مِنْ عَن يميني تارةً وأمامِي وقال الآخر [من الطويل]: 1092 - وقلتُ اجْعَلِي ضَوْءَ الفَراقِد كلِّها ... يَمِينًا ومَهْوَى النَّجْمِ من عن شِمالِكِ ¬
أي: من ناحية الشمال، وكذلك قال الآخر، وهو القُطاميّ [من البسيط]: 1093 - فقلتُ للرَّكْب لمّا أنْ عَلَا بهمِ ... من عن يَمِينِ الحُبَيَّا نَظْرَةٌ قَبَلُ الحُبَيَّا: موضعٌ، جعل "عَنْ" اسمًا، ولذلك أدخل حرف الجرّ عليه. والفرقُ بينهما إذا كانت اسمًا، وإذا كانت حرفًا، أنّه متى اعتُقد فيها الاسميّة، فأُدْخِل عليها حرف الجرّ، وقيل: "جلست من عن يمينه"، كانت بمعنى الناحية، ودلّت على معنى في نفسها، وهو المكان، كأنّك قلت: "جلست من ناحيةِ يمينه ومكانِه". وإذا لم تُدْخِل عليها "مِنْ"، فإنّما تفيد أنّ اليمين موضعٌ لجلوسك على شرط الحرف، وإذا كانت اسمًا كانت هي الموضع. ¬
فصل [معني الكاف]
وتقول: "أطْعَمَه من جُوع، وعن جوع"، فإذا جئت بـ "مِنْ"؛ كانت لابتداء الغاية؛ لأنّ الجُوع ابتداء الإطعام، وإذا جئت بـ "عَنْ"؛ فالمعنى أن الإطعام صرفَ الجوع؛ لأن "عَنْ" لِما عدا الشيءَ. فصل [معني الكاف] قال صاحب الكتاب: والكاف للتشبيه كقولك: "الذي كزيد أخوك", وهو اسم في نحو قوله [من الرجز]: 1094 - [بيضٌ ثلاث كنعاجٍ جُم] ... يضحكن عن كالبرد المنهم ولا تدخل على الضمير استغناء بـ "مثل". وقد شذ نحو قوله [من الرجز]: [خلي الذنابات شمالاً كثبا] ... وأم أوعال كها أو أقربا (¬1) * * * قال الشارح: أمّا الكاف الجارّة، فمعناها التشبيه، وهي أيضًا تكون حرفًا من الحروف الجارّة، وتكون اسمًا بمعنى "مِثْلِ"، وذلك قولك: "أنت كزيدٍ" الكافُ حرف ¬
جرّ عند سيبويه (¬1) وجماعةِ البصريين، والذي يدل على ذلك أنها لا تقع موقع الأسماء، وذلك في الصلات، نحو قولك: "مررت بالذي كزيد"، فالكاف هنا حرف لا محالةَ، ولذلك مثّل به صاحبُ الكتاب؛ لأن ذلك ليس من مواضع المفردات. فإن قلت: فتكون الكاف اسمًا في موضع رفعِ خبرِ مبتدأ محذوف، والتقدير: "بالذي هو كزيدٍ"، على حدّ قولهم: "ما أنا بالذي قائل لك شيئًا"، والمراد: بالذي هو قائلٌ؛ قيل: لا يحسن حملُه عليه، إذ كان ذلك موضعَ قبح لحذف العائد المرفوع. فلمّا ساغ أن تقول: "مررت بالذي كزيد" من غير قبح، وأجمعوا على استحسانه، واستقباحِهم: "مررت بالذي مِثْلُ زيد"، أو"مررت بالذي شِبْهُ جعفرٍ"، دلّ على أن الكاف حرف جرّ بمنزلته في قولك: "مررت بالذي في الدار"، و"ضربت الذي من الكرام"، بذلك استدلّ سيبويه (¬2). وأمّا التي في تأويل الاسم فالتي تقع موقع الاسم المفرد، كقول الشاعر [من مشطور السريع]: 1095 - وصالِياتٍ كَكَمَا يُؤْثَفَيْنْ ¬
فدخول الكاف الأُولى على الثانية دليلٌ أنها اسمٌ، وأنّ المعنى: كمِثْلِ ما يؤثفين. جَمَعَ بين الكاف، و"مثل"، وإن كان معناهما واحدًا مبالغةً في التشبيه. وعُلم بدخول الأُولى على الثانية أنها ليست حرفًا؛ لأن حروف الجرّ لا تدخل إلَّا على الأسماء. فإن قيل: فما تصنع بقوله [من الوافر]: فلا واللهِ لا يُلفى لِما بي ... ولا لِلْمَا بهم أبَدًا دَواءُ (¬1) فقد أدخل اللام على لام مثلِها، ومع هذا لم يقل أحدٌ: إِن اللام الثانية اسمٌ كما كانت مع الكاف؟ فالجواب أنه لم يثبت في موضع سوى هذا أنّ اللام اسمٌ، كما ثبت أن الكاف اسم. وإذا كان ذلك كذلك؛ فإحدى اللأمَيْن زائدة مؤكّدة، والقياسُ أن تكون الزائدة الثانية دون الأوُلى، لأن حكم الزائد أن لا يُبتدأ به، وليست الكاف كذلك، فإنه قد ثبت أنها اسمٌ في مواضع، منها قول الأعشى [من البسيط]: 1096 - هل تَنْتهون ولَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كالطعْن يَهْلِكُ فيه الزيْتُ والفُتُلُ ¬
فالكاف هنا اسم بمنزلة "مِثْل"؛ لأنها فاعلُ "ينهى"، ولا يصحّ أن يكون الفاعل حرفًا. وقد قيل: إن الفاعل ها هنا موصوف محذوف، والتقدير: "ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطحن"، ثمّ حذف الموصوف. وذلك ضعيف؛ لأنه لا يصلح حذفُ الموصوف إلَّا حيث يجوز إقامة الصفة مقامه، بحيث يعمل فيه عاملُ الموصوف، والموصوف ها هنا فاعلٌ، والصفة جملةٌ، فلا يصح حذف الموصوف فيها، وإسناد الفعل إلى الجملة؛ لأن الفاعل لا يكون إلَّا اسمًا محضًا. فإن قيل: فما تصنع بقوله [من الطويل]: فحُقَّ لِمِثلِي يا بُثَيْنَةُ يَجْزَعُ (¬1) فإنّ الفعل فيه مسندٌ إلى فعل محضٍ, فهو "يجزع"، قيل: المراد "أن يجزع"، و"أنْ" والفعل مصدرٌ، وهو الذي أُسند الفعل إليه، لا إلى الفعل نفسه؛ فأما قوله [من الرجز]: يَضْحَكْنَ عن كالبرد المنهمّ (¬2) البيتَ، فالشاهد فيه قوله: "عن كالبرد"، فإدخال حرف الجرّ على الكاف دليلٌ على اسميّتها. والمنهمّ: المُذاب، يصف نسوةً بصَفاء الثَّغْر، وأن أسنانهنّ كالبرد الذائب لصفائها ورقّتها. وذهب سيبويه (¬3) أن هذه الكاف لا تدخل على مضمر، تقول: "رأيتُ كزيد"؛ ولم يجز: "رأيت كَهُ". وقال: استغنوا عنه بمِثْل وشِبْهٍ، فتقول: "رأيت مثلَ زيد، ومثلَه"، والمعنى فيهما واحدٌ، ومثلُ ذلك في "حَتَّى"، و"مُذْ". قال أبو العبّاس محمَّد بن بزيد: وقد خُولف في الكاف، و"حَتَّى"، فأجازه قومٌ. وقد احتجّ أبو بكر لامتناع الإضمار في هذه الحروف بضُعْفِ تمكُّنها في بابها، لأن الكاف تكون اسمًا، وتكون حرفًا، ولا تضيفها إلى مضمر لبُعْد تمكُّنها وضعفِ المضمر. فأمّا قوله [من الرجز]: نَحَّى الذناباتِ شِمالاً كَثَبَا ... وأُمَّ أوْعالٍ كها أو أقْرَبَا (¬4) فالبيت للعَجّاج، والشاهد فيه إدخال الكاف على المضمر، وهو عندنا من قبيل ضرورة الشعر، وحملُها في ذلك على "مِثْل"؛ لأنها في معناها. والذناباتُ: موضع بعينه. وأُمّ أوعال: هَضْبةٌ، ففي "نحّى" ضميرٌ يعود إلى حمار وَحْشيّ ذَكَرَه، ومعنَى "نحّى": مضى في عَدْوه ناحيةً من الذنابات، فكأنه نحّاها عن طريقه شمالَه، بالقرب من ¬
فصل [معني "مذ" و"منذ"]
الموضع الذي عدا فيه. وقوله: "كَهَا"، أي: كالذنابات، أو أقربَ إليه منها، وإن مال إلى أُمّ أوعال، صارت أقرب إليه من الذنابات. وأُم أوعال: رفعٌ بالابتداء، و"كَها" الخبر، والمحفوظُ: و"أُمَّ أوعال" بالنصب. فصل [معني "مُذْ" و"مُنْذُ"] قال صاحب الكتاب: و"مذ", و"منذ", لابتداء الغاية في الزمان, كقولك: "ما رأيته منذ يوم الجمعة", و"مذ يوم السبت", وكونهما اسمين ذُكر في الأسماء المبنية. * * * قال الشارح: وأمّا "مُذ"، و"مُنْذ"، فيكونان اسمين، ويكونان حرفين، والفرقُ بينها إذا كانت اسمًا، وبينها إذا كانت حرفًا من جهة اللفظ، أنها إذا كانت اسمًا؛ رفعت ما بعدها، وإذا كانت حرفًا؛ جرّت ما بعدها. ووجهٌ ثانٍ من الفرق بينهما أنها إذا كانت حرفًا، كانت متعلّقة بما قبلها، وكان الكلامُ بها جملة واحدة، وإذا كانت اسمًا؛ رفع ما بعدها، نحوَ قولك: "ما رأيته مذ يومان"، كان الكلام جملتَيْن: الجملُة الأولى فعلية، والثانية اسمية، يصح أن تصدُق في إِحداهما وتكذِب في الأُخرى. فهذا المعنى مستحيلٌ فيها إذا كانت حرفًا، لأنها تكون حرف إضافة، نحوَ: "زيدٌ قائمٌ في الدار"، فهذا لا يجوز أن تصدق في أنه قائمٌ، وتكذب في أنه في الدار، لأنه خبرٌ واحدٌ. وأمّا الفرق بينهما من جهة المعنى، فإنّ "مُذ" إذا كانت حرفًا؛ دلّت على أن المعنى الكائن فيما دخلت عليه لا فيها نفسها، نحوَ قولك: "زيدٌ عندنا مُذْ شَهْرٍ" على اعتقادِ أنها حرفٌ وخفضِ ما بعدها. فالشهرُ هو الذي حصل فيه الاستقرارُ في ذلك المكان، بدلالةِ "مُذْ" على ذلك؛ وأمّا إذا كانت اسمًا، ورفعت ما بعدها؛ دلّت على المعنى الكائن في نفسها، نحوَ قولك: "ما رأيتُه مذ يومُ الجمعة"، فالرؤيةُ متضمَّنةُ "مُذْ"، وهو الوقت الذي حصلت فيه الرؤيةُ، وهو يوم الجمعة، كأنك قلت: "الوقتُ الذي حصلت فيه الرؤيةُ يومُ الجمعة". وقد ذهب قوم من أصحابنا إلى أنهما لا يكونان إلَّا اسمين على كلّ حال، فإذا رفعا ما بعدهما، كان التقدير على ما مرّ، وإذا خفضا ما بعدهما، كانا في تقدير اسمَيْن مضافَيْن، وإن كانا مبنيَّيْن، كقوله تعالى: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} (¬1). ألا ترى أن "لَدُن" مضاف إلى "حكيم عليم"، وإن كان مبنيًّا؟ و"مُنْذ" مركّبةٌ عند الكوفيين. قال قوم منهم: إِنها مركّبةٌ مِنْ "مِنْ"، و"إذ"، وإنما ¬
غُيّرا عمّا كانا عليه في الإفراد بأن حُذفت الهمزة، ووصلت "مِنْ" بالذال، وضُمّت الميم، فصارت "مُنْذُ". وفرقوا بذلك بين حال الإفراد والتركيب. والذي حملهم على ذلك قولُ بعض العرب في "مُنْذُ": "مِنْذُ" بكسر الميم، يدلّ أن الأصل "مِنْ". وذهب الفرّاء منهم إلى أنها مركّبة من "مِنْ"، و"ذُو"، التي بمعنَى "الَّذِي"، وهي لغة طَيِّىءٍ، نحوُ قول الشاعر [من الوافر]: فإنّ الماء ماءُ أبي وجَدِّي ... وبِئْرِي ذُو حَفَرْتُ وذُو طَوَيْتُ (¬1) ثمّ حذف الواو تخفيفًا، وبقيت الضمّة تدل عليها. والصواب ما ذكرناه من أنها مفردة غير مركّبة عَمَلًا بالظاهر. ونحن إذا شاهدنا ظاهرًا يكون مثلُه أصلًا؛ قضينا بالشاهد، وإن احتمل غيرَ ذلك، إذا لم تقم بيّنةٌ على خلافه. ألا ترى أن سيبويه حكم على الياء في "سِيدٍ" وهو الذئْب بأنّها أصلٌ، وجعلها من باب "فِيل"، و"دِيكٍ"، ولم يجعلها من باب "رِيحٍ"، و"عِيدٍ"، مع أنه ليس لنا كلمةٌ مركّبة من "س ي د" عملًا بالظاهر؟ فلا يجوز تركُ حاضرٍ متيقَّنٍ له وجةٌ من القياس إلى أمرٍ محتمَل مشكوك فيه لا دليلَ عليه. فأمّا كسر الميم من "منذ"، فلا دليل فيه؛ لأنه لغةٌ كالضمّ، وإن كان الضمّ أشهرَ. وممّا يُبْطِل قول الفراء أنّ "ذُو" بمعنَى "الذي" إنّما يستعملها بنو طيِّىء لا غير، و"مُنْذُ" يستعملها جميع العرب، فكيف يركّبون كلمة يستعملها جميعُهم من كلمةٍ مختلَفٍ فيها بينهم. واعلم أنهم قد اختلفوا في ارتفاع الاسم الواقع بعد "مُنْذُ"، و"مُذْ"، فذهب قوم من الكوفيين (¬2) إلى أن الاسم يرتفع بعدهما بإضمار فعل، قالوا: لأن "منذ" مركبة من "مِنْ" و"إذْ"، و"إذ" تُضاف إلى الفعل والفاعل كثيرًا، نحوَ قولك: "إذ قام زيدٌ"، و"إذ قعد بكرٌ". ومنه قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} (¬3)، وقوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ} (¬4)، وقوله: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ} (¬5). فلذلك كان الاسم المرتفع بعدها بتقدير فعل، والمراد: "مذ مضى يومان"، و"مذ مضت ليلتان". قالوا: ولذلك يُستعمل الفعل بعدها، فتقول: "ما رأيته مذ وُجد"، و"مذ كان كذا وكذا"، باعتبارِ "إذْ"، والخفضُ باعتبارِ "مِنْ". قالوا: ولذلك كان الخفض بـ "مُنْذُ" أكثر منه بـ "مُذْ"؛ لظهور نون "مِنْ". ¬
وذلك ضعيفٌ، لأن "منذ" لابتداء الغاية في الزمان، فلا يقع بعدها إلَّا الزمان، فإذا وقع بعدها فعلٌ، فإنّما هو على تقدير زمانٍ محذوفٍ مضافٍ إلى الفعل. فإذا قلت: "ما رأيتُه مذ كان كذا"، فالتقدير: مذ زمانُ كان كذا، فحذف المضاف، وأُقيم الفعل مقامه خبرًا. ولذلك قال سيبويه: وممّا يُضاف إلى الفعل قوله: "منذ كان كذا"، وليس مراده أنّ "مُذْ" مضافة إلى الفعل، لأن الفعل لا يُضاف إليه إلَّا الزمان. فلو كانت "إذْ" مضافة إلى الفعل؛ لكانت اسمًا، و"مُذْ"، إذا كانت اسمًا؛ لم تكن إلَّا مبتدأً، ولذلك لم يُجِز أبو عثمان الإخبار عن "مُذْ"؛ لأن الإخبار عنها يجعلها خبرًا، و"مُذْ" لا تكون إلَّا مبتدأً. وقال الفرّاء: الاسم يرتفع بعد "مُذْ" بأنّه خبر مبتدأ محذوف. قال: لأن "منذ" مركّبةٌ كما قدمناه من "مِنْ"، و"ذُو"، التي بمعنَى "الذي"، و"الَّذِي" توصَل بالمبتدأ والخبرِ، وقد يحذف في المبتدأ العائدُ، والتقدير: "ما رأيته مذ هو يومان"، على نحو قولهم: "ما أنا بالذي قائل لك شيئًا". والمراد: "بالذي هو قائلٌ". ومنه قوله تعالى: {تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ} (¬1) في قراءةِ من رفع "أحسن"، وقوله تعالى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (¬2)، أي: التي هي بعوضةٌ. وهذان قولان بُنيا على أصل فاسد، وهو القول بالتركيب، وقد أبطلناه، مع أن "إذ" تُضاف إلى المبتدأ كما تُضاف إلى الفعل والفاعل، فليس تقدير المحذوف فِعْلًا بأوْلى من أن يكون اسمًا مبتدأً. وأمّا قولهم: إنه يستعمل بعدها الفعل كثيرًا، نحوَ: "ما رأيته مذ قَدِمَ"، ونحوِ ذلك، فهو عندنا على حذفِ مضاف. و"ذُو" في لغةِ طَيىء تُوصَل بالفعل والفاعل كما توصل بالمبتدأ والخبر، فليس تقدير المحذوف مبتدأً بأوْلى من أن يكون فعلًا، فتعيينُ الصلة مبتدأ وخبرًا دون الفعل تحكّمٌ، مع أن حذف المبتدأ إذا كان صلة، وهو العائد قبيحٌ. إنما جاز منه ألفاظٌ شاذّةٌ تُسْمَع، ولا يُحْمَل عليها ما وُجد عنه مندوحةٌ. والصواب ما ذهب إليه البصريون من أنّ ارتفاعه بأنّه خبرٌ، والمبتدأ "مُنْذُ"، و"مُذْ". فإذا قلت: "ما رأيتُه مذ يومان"، كالك قلت: "ما رأيتُه مذ ذلك يومان"، فهما جملتان ¬
على ما تقدّم. وإنما قلنا: إِنّ "مُذْ" في موضعِ مرفوع بالابتداء؛ لأنه مقدّرٌ بالأمَد، والأمد لو ظهر، لم يكن إلَّا مرفوعًا بالابتداء، فكذلك ما كان في معناه. وذهب الزجّاجيّ إلى أن "مُذْ" الخبر، وما بعده المبتدأ، واحتج بأن معنَى "مذ" هنا معنى الظرف، فإذا قلت: "ما رأيته مذ يومان"، كان المعنى: بيني وبين لقائه يومان، فكما أن الظرف خبرٌ، فكذلك ما كان في معناه. وله في الرفع معنيان: تعريفُ ابتداء المدّة من غير تعرُّض إلى الانتهاء، والآخر تعريف المدّة كلها. فإذا وقع الاسم بعدهما معرفة، نحوَ قولك: "ما رأيتُه مذ يومُ الجمعة" ونحوه؛ كان المقصود به ابتداء غاية الزمان الذي انقطعت فيه الرؤيةُ وتعريفَه، والانتهاءُ مسكوتٌ عنه، كأنّك قُلْتَ: "وإلى الآنَ"، ويكون في تقديرِ جواب "مَتَى". وإذا وقع بعده نكرةٌ، نحوُ: "ما رأيته مذ يومان" ونحوِ ذلك؛ كان المراد منه انتظَام المدّة كلّها من أوّلها إلى آخِرها، وانقطاع الرؤية فيها كلِّها. فإن خفضت ما بعدهما معرفةً كان أو نكرةً؛ كان المراد الزمان الحاضر، ولم تكن الرؤية وقعت في شيء منه. والغالب على "مُنْذُ" الحرفيّةُ والخفض بها، والغالب على "مُذ" الاسميّة للنقص الذي دخلها، إذ الأصل "مُنْذُ"، و"مُذْ" مخفّفةٌ منها بحذف عينها. والحذف ضربٌ من التصرّف، وبابه الأسماء والأفعال؛ لتمكُّنها ولحاقِ التنوين بها، ولم يأتِ في الحروف إلَّا فيما كان مضاعَفًا من نحو"أن" و"رُبَّ". وإنّما قلنا: إن "مُذْ" مخفّفة من "مُنْذُ"؛ لأنها في معناها، ولفظُهما واحدٌ. ولذلك قال سيبويه (¬1): لو سمّيتَ بـ "مُذْ"، ثمّ صغَرتها؛ لقلت: "مُنَيْذٌ"، تردّ المحذوف، وكذلك لو كسّرت؛ لقلت: "أمْناذٌ". وهما مبنيّان حرفَيْن. ويكونان اسمَيْن. فإذا كانا حرفين؛ فلا مقالَ في بنائهما؛ لأن الحروف كلها مبنيّةٌ. وإذا كانا اسمين، فهما في معنى الحرف، وينوبان عنه، فيُبْنيان كبنائه، وحقُّهما السكون، لأن أصل البناء أن يكون على السكون. فأمّا "مُذْ" فجاءت على الأصل، ولم يُوجَد فيها ما يُخْرِجها عن الأصل. وأمّا "مُنْذُ"، فحقها أيضًا أن تكون ساكنة الآخِر إلَّا أنه التقى في آخِرها ساكنان النون والذال، فوجب التحريك لالتقاء الساكنين، وخُضت بالضمّ إتباعًا لضمّة الميم، ولم يُعتدّ بالنون حاجزًا لسكونه. فإن لَقِيَ "مُذْ" ساكنٌ من كلمةٍ بعدها، ضُمّت، نحوَ قولك: "لم أرَه مُذُ الليلة، ومُذُ الساعة"، وذلك إتباعًا لضمّة الميم. وإذا ساغ لهم الإتباعُ مع الحاجز؛ فلأن يجوز مع عدم الحائل كان أوْلى. فإن شئت أن تقول: إنّا لما اضطُررنا إلى التحريك لالتقاء الساكنين، حُرّك بالحركة التىِ كانت له في الأصل، ولكونهما يكونان اسمَيْن، ذُكرا في الأسماء المبنية، فاعرفه. ¬
فصل [معني "حاشا"]
فصل [معني "حاشا"] قال صاحب الكتاب: و"حاشا" معناها التنزيه. قال [من الكامل]: حاشا أبي ثوبان إن به ... ضنّا عن الملحاة والشتم (¬1) وهو عند المبرد يكون فعلاً في نحو قولك: "هجم القوم حاشا زيداً", بمعنى: جانب بعضهم زيداً، "فاعل" من "الحشا" وهو الجانب, وحكى أبو عمرو الشيباني عن بعض العرب: "اللهم اغفر لي, ولمن سمع, حاشا الشيطان, وابن الأصبغ" بالنصب, وقوله تعالى: {حاش لله} (¬2) بمعنى براءة لله من السوء. * * * قال الشارح: اعلم أنّ "حَاشا" عند سيبويه (¬3) حرفٌ يجرّ ما بعده كما يجرّ "حتى" ما بعده، وفيه معنى الاستثناء، فهو من حروف الإضافة يدخل في باب الاستثناء لمضارَعةِ "إلَّا" بما فيه من معنى النفي، إذ كان معناه التنزيه والبراءة. ألا ترى أنك إذا قلت: "قام القوم حاشا زيدٍ"، فالمراد أن زيدًا لم يقم، فأُدْخِل حرف الجرّ هنا في باب الاستثناء، إذ كان معناه النفي، كما أُدخل "لَيْسَ" و"لا يَكُونُ"، و"خَلا"، و"عَدا" لِما فيها من معنى النفي، فتقوله: "أتاني القوم حاشا زيدٍ"، بمعنى: "إلَّا زيدًا"، فموضعُ "حاشا" ها هنا نصبٌ بما قبله من الفعل، يدل على ذلك أنه لو وقع موقعه اسمٌ؛ كان منصوبًا، نحو: "غَير". والفرقُ بينها إذا كانت استثناءَ، وبينها إذا كانت حرف إضافة غيرَ استثناء، أنها إذا كانت استثناء منضمنةً لجملةٍ تُخرِج منها بعضًا، وإذا كانت حرف إضافة، فليست كذلك، تقول: "حاشا زيدٍ أن ينالَه السُّوءُ"، كأنك قلت: حاشاه نَيلُ السوء ومَسُّ السوء. وفيه معنى الاستقرار على طريق النفي، كأنّه قال: "حاشاه أن يستقرّ له مسُّ السوء"، إلَّا أنه لكثرة الاستعمال كالمَثَل الذي لا يُغيَّر عن وجهه. فأمّا البيت الذي أنشده، وهو [من الكامل]: حاشا أبي ثوبان ... إلخ هكذا أنشده أبو العبّاس المبرّد والسيرافيّ وغيرهما من البصريين. وفيه تخليطٌ من جهة الرواية. وذلك أنه ركّب صدره على عجزِ غيره. وهذا البيت للجُمَيّح، وهو مُنْقِذ بن الطَّمّاح بن قيس بن طَرِيف، أورده المُفَضَّل الضّبّيّ في مفضَّليَّاته، وأوّلُه: يا جارَ نَضْلَةَ قد أنَى لك أن ... تَسْعَى بجارك في بني هِدمِ متنظِّمِين جوار نَضْلَةَ يا ... شاهَ الوُجوهُ لذلك النَّظْمِ ¬
وبنو رَواحَةَ ينظرون إذا ... نَظَرَ النَّدِيُّ بآنُفِ خُثْمِ حاشا أبي ثَوْبانَ إنّ أبَا ... قابوسَ ليس ببُكْمَةٍ فَدْمٍ عمرَو بن عبد الله إنَّ به ... ضِنَّا عن المَلْحاة والشَّتْمِ الشاهد فيه جرّ "أبي ثوبان" بـ "حاشا". وسببُ هذه الأبيات أن نضلة بن الأشتر كان جارًا لبني هدم بن عَوف، فقتلوه غَدْرًا، فَنَعَى عليهم جميحٌ ذلك. شاهت: قبُحت، والشَّوْهُ: قُبْحُ الخِلْقة. وقوله: "متنظّمين"، أي: في سِلْكٍ واحدٍ. وبنو رَواحَةَ: فَخِذٌ من بني عَبْسٍ. والنادي، والنَّدِيُّ: المَجْلِس. والمراد: أهْلُ النديّ. والآنُفُ الخُثْمُ: العِراضُ ليست بشُمّ. وقوله: "إنّ به ضِنًّا" أي: يضِنّ بنفسه عن الملحاة والشَّتْمِ. والمَلْحاةُ: المَفْعَلة من "لَحَوْتُ الرجلَ"، إذا ألححتَ عليه باللائمة. وعمرو بن عبد الله بدلٌ من "أبا قابوس"، ومُنع "قابوس" من الصرف ضرورةً لِما فيه من التعريف. ولم يَحْكِ سيبويه في "حاشا" إلَّا الجرَّ، ولم يُجِز النصب بها. وقد خالَفَه جماعةٌ من الفريقَيْن في ذلك، فذهب أبو العبّاس المبرّد، وهو قول أبي عمرو الجَرْميّ والأخفش إلى أنها تكون حرف خفض كما ذكر سيبويه، نحوَ قولك: "أتاني القوم حاشا زيدٍ"؛ لأن المعنى: "سِوَى زيدٍ". وقد تكون فعلًا من "حاشَيْتُ"، فتنصب ما بعدها بمنزلة "خَلا"، و"عَدا"؛ لأنك إذا قلت: "أتاني القوم"، وقع في نفس السامع أن زيدًا فيهم، فأردت أن تُخْرِج ذلك من نفسه، فقلت: "حاشا زيدًا"، أي: جاوَزَ مَن أتاني زيدًا، فيكون في "حاشا" ضميرُ فاعل لا يُثنَّى، ولا يُجْمَع، ولا يؤنّث، و"زيدٌ" لم يأتك لأنه استثناءٌ من موجَب. وكذلك إذا قلت: "لقيت القومَ حاشا خالدًا"، فخالدٌ لم تلقه. وإذا قلت: "ما مررت بالقوم حاشا خالدًا" فخالدٌ ممرورٌ به؛ لأنه استثناءٌ من منفيّ. والحجّة للقول بأنّها فعلٌ أنها تتصرّف تصرُّفَ الأفعال، فتقول: "حاشَيْتُ، أُحاشِي"، كما تقول: "رامَيْتُ أُرامِي". قال النابغة [من البسيط]: وَلَا أرَى فاعِلًا في الناس يُشْبِهُهُ ... ولا أُحاشِي من الأقْوامِ من أحدِ (¬1) هذا استدلال أبي العباس، قال: فإذا قلت: "حاشا لزيدٍ"، فلا يكون "حاشا" إلَّا فعلًا؛ لأنه لو كان حرفًا؛ لم يدخل على حرف مثله. وكذلك "حاشا لله"، فإذا استُعمل بغير لام؛ جاز أن تكون فعلًا، فتنصب، وجاز أن تكون حرف خفض. قالوا: وممّا يؤيّد كونها فعلًا قولُهم: "حَاشَ"، بغير ألف، نحوُ قوله تعالى: {حَاشَ لِلَّهِ} (¬2) في قراءة ¬
الجماعة ما عدا أبا عمرو (¬1)، والحذفُ لا يكون في الحروف، إلَّا فيما كان مضاعفًا، نحوّ: "إنَّ"، و"رُبَّ". وقد جاء في الأفعال كثيرًا، وفي الأسماء، نحوَ: "غَدٍ"، و"يَدٍ". والذي حسّنه هنا كونُ الألف منقلبةً عن الياء، والياءُ ممّا يسوغ حذفُه. وممّا يؤيد ذلك ما حكاه أبو عمرو وغيره أنَّ العرب تخفض بها، وتنصب، حُكي عنهم: "اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، ولِمن سمع حاشا الشيطانَ، وابنَ الأصْبَغِ". وهذا نصٌّ. وابن الأصبغ بالصاد غير المعجمة والغين المعجمة كان يُسْتَيْطِعُ. وقال الزجّاج: "حاشا لله" في معنى "بَراءةً لله"، وهي من قولهم: "كنت في حَشَى فلانٍ"، أي: في ناحيةِ فلان. قال الشاعر [من الطويل]: بأيً الحَشَا أمْسَى الخَلِيطُ المُبايِنُ (¬2) فإذا قال: "حاشى لفلانٍ"، فكأنّه قال: "تَنحّى زيدٌ من هذا المكان، وتَباعد"، كما أنّك إذا قلت: "تَنَحّى من هذا المكان"، فمعناه: صار في ناحيةٍ منه أُخرى. والصواب ما ذهب إليه سيبويه، وذلك أنها لو كانت فعلًا بمنزلةِ "خَلا"، وَ"عَدا"؛ لَجاز أن تقع في صلةِ "ما"، فتقول: "أتاني القوم ما حاشى زيدًا"، كما تقول: "ما خلا زيدًا"، و"ما عدا عمرًا". فلمّا لم يجز ذلك؛ دلّ أنها حرفٌ. وأمّا قوله [من البسيط]: وما أُحاشِي من الأقوام من أحد (¬3) فيجوز أن يكون تصريفَ فعل من لفظ "حاشا" الذي هو حرفٌ يُستثنى به، ولا يقع الاستثناء بـ "حَاشَى يُحاشِي"، فنزلّ "حاشى يحاشي" منزلةَ "هَلَّلَ" من "لَا إلهَ إلَّا اللهُ"، و"سَبْحَلَ" من "سُبْحانَ الله"، و"حَمْدَلَ" من "الحمدُ لِله"، فيكون المراد أنه لفظٌ بـ "لَا إله إلَّا اللهُ"، و"سبحان الله"، و"الحمد للهِ"، وكذلك يكون التصرّف في قوله: "أُحاشِي"، أي: لا أستثني بحاشا أحدًا. وأمّا دخول لام الجرّ، فعلى سبيل الزيادة والعوض من لام الفعل؛ وأمّا حذف الآخِر منه فلضربٍ من التخفيف وطول الكلمة. وكان الفرّاء من الكوفيين يزعم أن "حاشا" فعلٌ، لا فاعلَ له، فإذا قلت: "حاشا لله"، فاللام موصلةٌ لمعنى الفعل، والخفضُ بها. فإذا قلت: "حاشا اللهِ"، بحذف اللام، فاللام مرادةٌ، والخفضُ على إرادتها، وهذا ضعيف عجيب أن يكون فعلٌ بلا فاعل. وأمّا قوله بأن الخفض بها وتقديرِها، فضعيفٌ؛ لأن حرف الجرّ إذا حُذف لا يبقى عملُه إلَّا على نَدْرةٍ، فاعرفه. ¬
فصل ["عدا" و"خلا"]
فصل ["عدا" و"خلا"] قال صاحب الكتاب: و"عدا", و"خلا" مر الكلام فيهما في الاستثناء. * * * قال الشارح: قد تقدّم الكلام فيهما، ولا بدّ من تبنيةِ جملةٍ عليهما، وذلك أنهما يكونان فعلَيْن، فينصبان ما بعدهما، ويُضْمَر الفاعل فيهما، ويجريان مجرَى "لَيْس" و"لا يَكُونُ" في الاستثناء، فتقول: "أتاني القومُ خلا زيدًا" على تقديرِ: "خلا بعضهم زيدًا"، و"ما أتاني القوم عدا بكرًا" على معنى: "عدا بعضهم بكرًا"، كأنّك قلت: "جاوز بعضهم زيدًا". فإذا دخلتْ "ما" عليهما؛ كانا فعلَيْن لا محالةَ، وكانت مع ما بعدها مصدرًا في موضع الحال، كأنّك قلت: "مُجاوَزتَهم زيدًا"، أي: مُجاوِزين زيدًا، وخالين من زيد. وتكون من قبيلِ "رجع عَوْدَه على بَدْئه" ونظائرِه. ويكونان حرفين، فيجرّان ما بعدهما، نحوَ قولك: "أتاني القوم خلا زيدٍ". ولا خلاف بين البصريين والكوفيين في جواز الخفض بـ "خَلا". ولم يذكر أحدٌ من النحويين الخفض بـ "عَدا" إلَّا أبو الحسن الأخفش، فإنّه قرنها مع "خلا" في الجرّ، فاعرفه. فصل ["كَيْ"] قال صاحب الكتاب: و"كَيْ", في قولهم: "كيمه" من حروف الجر بمعنى "لمه". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول في "كَيْ" بما أغنى عن إعادته، غيرَ أنّا نذكرها هنا لغةً تختصّ بهذا الفصل، وذلك أنّ "كَيْ" حرفٌ يُقارِب معناه معنى اللام؛ لأنها تدلّ على العلّة والغرض، ولذلك تقع في جوابِ "لِمَهْ"، فيقول القائل: "لِمَ فعلتَ كذا؟ " فتقول: "ليكونَ كذا". وهذا المعنى قريبٌ من قولك: "فعلت ذلك كَيْ يكونَ كذا"؛ لدلالتها على العلّة، إلَّا أنّها تستعمل ناصبة للفعل كـ "أنْ"، فلذلك تدخل عليها اللام، فتقول: "جئت لِكَيْ تقومَ"، كما تقول: "لأنْ تقومَ". وقد تُستعمل استعمالَ حرف الجرّ، فيُدْخِلونها على الاسم، قالوا: "كَيْمَهْ"، والأصل: "ما" الاستفهاميةُ، فأدخلوا عليها "كَيْ"، كما يُدْخِلون اللام، ثمّ حذفوا الألف، وأتوا بهاء السَّكْت في الوقف، فقالوا: "كَيْمَهْ"، كما قالوا: "لِمَهْ". فقال بعضهم: إنها حرفٌ مشترَكٌ تكون حرفًا ناصبًا للفعل كـ "أنْ"، وتكون حرفًا جارًّا. فإذا قلت: "جئت لكي تقومَ"، كانت الناصبهَ للفعل؛ لدخول اللام؛ لأن حرف الجرّ لا يدخل على مثله. وإذا قلت: "كَيْمَهْ"، كانت الجارّة لدخولها على الاسم. فإذا قلت: "جئت كي تقوم" من
فصل [حذف حروف الجر]
غير قرينة، جاز أن تكون الناصبة للفعل، وجاز أن تكون الجارّة، ويكون النصبُ بتقديرِ "أنْ"، كما يكون كذلك مع اللام. قال ابن السرّاج: ويجوز أن تكون "كَيْ" حرفًا ناصبًا على كل حال؛ وأمّا دخولها على "ما" فلشَبَهها باللام لتقارُب معنيَيْهما، فاعرفه. فصل [حذف حروف الجر] قال صاحب الكتاب: وتحذف حروف الجر, فيتعدى الفعل بنفسه, كقوله تعالى: {واختار لموسى قومه سبعين رجلاً} (¬1) , وقوله [من الطويل]: منا الذي اختير الرجال سماحة ... [وجوداً إذا هبَّ الرياح الزعازع] (¬2) وقوله [من البسيط]: أمرتك الخير فافعل ما أُمرت به ... [فقد تركتك ذا مال وذا نشب] (¬3) وتقول: "أستغفر الله ذنبي"، ومنه "دخلت الدار". وتحذفت مع "أنّ", و"إنْ", كثيراً مستمراً. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِن الأفعال المقتضية للمفعول على ضربين: فعلٌ يصل إلى مفعوله بنفسه، نحوُ: "ضربتُ زيدًا"، فالفعلُ هنا أفضى بنفسه بعد الفاعل إلى المفعول الذي هو "زيدٌ" فنصبه؛ لأنّ في الفعل قوّةً أفضت إلى مباشَرة الاسم. وفعلٌ ضعُف عن تجاوُز الفاعل إلى المفعول، فاحتاج إلى ما يستعين به على تناوُله والوصول إليه، وذلك نحوُ: "مررت"، و"عجبت"، و"ذهبت". لو قُلْتَ: "عجبت زيدًا"، و"مررت جعفرًا"؛ لم يجز ذلك؛ لضعف هذه الأفعال في العُرْف والاستعمال عن الإفضاء إلى هذه الأسماء. فلمّا ضعُفت، اقتضى القياسُ تقويتَها لتصل إلى ما تقتضيه من المفاعيل، فرفدوها بالحروف، وجعلوها موصِلةً لها إليها، فقالوا: "مررت بزيد"، و"عجبت من خالد"، و"ذهبت إلى محمّد". وخصّ كلُّ قبيل من هذه الأفعال بقبيل من هذه الحروف. هذا هو القياس، إلَّا إنهم قد يحذفون هذه الحروف في بعض الاستعمال تخفيفًا في بعض كلامهم، فيصل الفعلُ بنفسه، فيعمل. قالوا من ذلك: "اخترت الرجالَ زيدًا"، و"استغفرت اللهَ ذنبًا"، و"أمرت زيدًا الخيرَ". قال الله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} (¬4)، فقولهم: "اخترت الرجالَ زيدًا"، أصله: "من الرجال"؛ لأنّ "اختار" فعل يتعدّى إلى مفعول واحد بغير حرف ¬
الجرّ، وإلى الثاني به. والمُقدَّم في الرتبة هو المنصوب بغير حرف جرّ، فإن قدّمت المجرور؛ فلضربٍ من العناية للبيان، والنيّةُ به التأخير. قال الشاعر [من البسيط]: أمرتُكَ الخيرَ فافْعَلْ ما أُمِرْتَ به ... فقد تَرَكْتُك ذا مالٍ وذا نَشَبِ والمراد: "بالخير"، فحذف حرف الجرّ. وقال الآخر [من البسيط]: أسْتَغْفِرُ الله ذَنْبًا لستُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العِبادِ إليه الوَجْهُ في العَمَل (¬1) والمراد: "من ذنبٍ"، وهو في البيت الأوّل أسهل منه ها هنا؛ لأن "الخَيْر" مصدرٌ، والمصدر مقدّرٌ بـ "أنْ" والفعلِ، وحرفُ الجرّ يحذف كثيرًا مع "أنْ"، فساغ مع ما كان مقدّرًا به. وأمّا قوله [من الطويل]: ومِنّا الذي اخْتِيرَ الرجالَ سَماحةً ... وَجُودًا إذا هَبَّ الرِّياحُ الزَّعازعُ (¬2) فالبيت للفرزدق، والشاهد فيه حذف "مِنْ"، والمراد: "من الرجال"، فحُذف، وعُدّي الفعل بنفسه. وفي تقديم المفعول على المجرور بـ "مِنْ" دلالةٌ على أنّه مفعول ثان، وليس ببدلٍ، إذ البدل لا يسوغ تقديمه. يصف قومه بالجود والكرم عند اشتداد الزمان وهبوبِ الرياح، وهي الزعازع. وإنّما أراد زمن الشتاءِ؛ لأنه مَظِنَّةُ الجَدْب. وهذا الحذف، وإن كان ليس بقياس، لكن لا بدّ من قَبُوله؛ لأنّك إنما تنطق بلغتهم، وتَحْتَذِي في جميعِ ذلك أمثلتَهم، ولا تَقيس عليه، فلا تقول في "مررت بزيد": "مررت زيدًا"، على أنّه قد حكى ابن الأعرابيّ عنهم: "مررت زيدًا"، وهو شاذّ. ومن ذلك: "دخلت الدارَ"، فالمراد: "في الدار"؛ لأنه فعلٌ لازمٌ، وقد تقدّم الكلام عليه قبلُ. وقد كثُر حذفها مع "أن" الناصبة للفعل، و"أنَّ" المشدّدة الناصبةِ للاسم، نحوَ: "أنا راغبٌ في أنْ ألقاك"، ولو قلت: "أن ألقاك" من غير حرف جرّ؛ جاز. وكذلك تقول في المشدّدة: "أنا حريصٌ في أنّك تُحْسِنُ إليّ" ولو قلت: "أنّك تحسن إليّ" من غير حرف جرّ؛ جاز. ولو صرّحت بالمصدر، فقلت: "أنا راغبٌ في لِقائك، وحريصٌ في إحسانك إليّ"، لم يجز حذفُ حرف الجرّ، كما جاز مع "أنْ"، و"أنَّ"؛ لأنّ "أن" وما بعدها من الفعل، وما يتعلّق به، والاسم والخبر ومتعلّقاته بمعنى المصدر، فطال، فجوّزوا معه حذف حرف الجرّ تخفيفًا، كما حذفوا الضمير المنصوب من الصلة، نحوَ قوله تعالى: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا} (¬3)، ولم يُجوِّزوا مع المصدر المحض، فاعرفه. ¬
فصل [إضمار حروف الجر]
فصل [إضمار حروف الجر] قال صاحب الكتاب: وتضمر قليلاً. ومما جاء من ذلك إضمار "رُبَّ" والباء في القسم, وفي قول رؤبة: "خيرٍ" إذا قيل له: "كيف أصبحت", واللام في "لاه أبوك". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول على حروف الجرّ، وأنّها قد تحذف في اللفظ اختصارًا واستخفافًا إذا كان في اللفظ ما يدلّ عليها، فتجري لقوّة الدلالة عليها مجرى الثابت الملفوظ به، وتكون مرادة في المحذوف منه. وذلك لا يُبْنَى الاسم المحذوف منه، وهي في ذلك على ضربين: أحدهما: ما يحذفُ ثمّ يوصَل الفعل إلى الاسم، فينصبه كالظروف إذا قلت: "قمت اليومَ"، وأنت تريد: "في اليوم"، ونحوُ: "اخترتُ الرجالَ زيدًا"، و"استغفرت اللهَ ذنبي" ونظائره. والثاني: ما يحذف ولا يوصل الفعل، فيكون الحرف المحذوف كالمُثْبَت في اللفظ، فيجرّون به الاسم، كما يجرّون به وهو مثبتٌ ملفوظٌ به. وهو نظير حذف المضاف وتبقيةِ عمله، نحوِ: "ما كل سَوْداءَ تَمْرَةً ولا بَيْضاءَ شَحْمَةً" (¬1)، وكقوله [من المتقارب]: أكُلَّ أمرىءٍ تَحْسِبِينَ امْرَأً ... ونارٍ تَوَقدُ بالليل نارَا (¬2) على إرادة "كلّ". ومن ذلك قول الآخر [من الخفيف]: رَسْمِ دارٍ وقفتُ في طَلَلِهْ ... كِدْتُ أقْضِي الحياةَ من جَلَلِهْ (¬3) أراد: "رُبَّ رسم دار"، ثمّ حذف لكثرة استعمالها، ومن ذلك قوله [من الرجز]: 1097 - وَبَلَد مالُه مُؤَزَّرٌ ¬
وقوله [من الرجز]: وبَلْدَةٍ ليس بها أنِيسُ ... إلَّا اليَعافِيرُ وإلا العِيسُ (¬1) كلّ ذلك مخفوض بإضمار "رُبَّ". وذلك أنّه لا يخلو الانجرارُ من أن يكون بالحرف الجارّ، أو بحرف العطف، إذ قد صار بدلًا منه، فلا يكون بحرف العطف؛ لأنه قد انجرّ حيث لا حرف عطف، وذلك فيما تقدّم، وفي قول الآخر [من الوافر]: فإمّا تعْرِضِنَّ أمَيْمَ عَنّي ... وَينْزَغُكِ الوُشاةُ أُولو النِّباط فَحُورٍ قد لَهَوْتُ بهنّ عِيْنٍ ... نَواعِمَ في المُروط وفي الرياطِ (¬2) ألا ترى أن الفاء هنا ليست حرف عطف، وإنّما هي جواب الشرط، وإذا كانت الفاء جواب "إنِ" الشرطيّة؛ حصل الجرّ بإضمار الحرف لامحالةَ. ومن ذلك قولهم في القسم في الخبر لا الاستفهامِ في ما حكاه سيبويه (¬3): "اللهِ لأقومنّ" يريد: بالله ثمّ حذف. وحكى أبو العبّاس أن رؤبة قيل له: "كيف أصبحتَ"؟ فقال. "خَيْرٍ عافاك اللهُ"، أي: بخيرٍ، فحذف الباء لوضوح المعنى. ومن ذلك ما ذهب إليه بعض متقدّمي البصريين في قوله عزّ وجلَّ: {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ} (¬4)، على تقديرِ "في"؛ لئلاّ يلزم منه العطف على عاملَيْن، وعليه حمل بعضُهم قراءةَ حَمْزةَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (¬5)، على تقديرِ: "وبالأرحام"؛ لأنّ العطف على المكنيّ المخفوض لا يسوغ إلَّا بإعادة الخافض، ومن ذلك قولهم: "لاهِ أبُوك"، يريدون: "للهِ أبوك"، قال الشاعر [من البسيط]: 1098 - لاهِ ابنُ عَمك لا أفضَلت في حَسَبٍ ... عَنَّا ولا أنت ديَّانِي فَتَخزوني ¬
والمراد. "لله ابن عمّك"، و"عَنْ" هنا بمعنى "عَلى"، وتخزونى من قولهم: "حزَوْته"، أي: سُسْته، فاللامُ المحذوفة لامُ الجرّ، والباقية فاء الفعل، يدلّ على ذلك فتحُ اللام. ولو كانت الجارّة؛ لكانت مكسورة. وقد قالوا: "لَهْي أبوك"، فقلبوا العين إلى موضع اللام، وبُني على الفتح لتضمُّنه لامَ التعريف، كما بُنيت "آمِينَ" كذلك، يدلّك أن الثانية فاءُ الكلمة. وليست الجارّة فتحُها، وليس بعدها ألفٌ ولامٌ، ولامُ الجرّ مع الظاهر مكسورة في اللغة الفاشية المعمول بها. ¬
الحروف المشبهة بالفعل
ومن أصناف الحرف الحروفُ المشبَهةُ بالفعل فصل [تعدادُها] قال صاحب الكتاب: وهي "إن", و"أن", و"لكن", و"كأن", و"ليت", و"لعل", وتلحقها "ما" الكافة, فتعزلها عن العمل, ويبتدأ بعدها الكلام. قال الله تعالى: {إنما إلهكم إله واحد} (¬1) , وقال: {إنما ينهاكم الله} (¬2) , وقال ابن كراع [من الطويل]: 1099 - تحلل وعالج ذات نفسك وانظرن ... أبا جعل لعلما أنت حالم ¬
وقال [من الطويل]: 1100 - أعد نظراً يا عبد قيس لعلما ... أضاءت لك النار الحمار المقيدا ومنهم من يجعل "ما" مزيدة, ويعملها, إلا أن الإعمال في "كأنما", و"لعلما", و"ليتما" أكثر منه في "إنما", و"أنما" و"لكنما". وروى بيت النابغة [من البسيط]: 1101 - قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ... [إلي حمامتنا ونصفهُ فقد] على وجهين. * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم الكلام على هذه الحروف قبلُ مفصَّلًا، ونحن نُشِير إلى طَرَفٍ منه مُجْمَلًا، فنقول: هذه الحروف تنصب الاسم وترفع الخبر؛ لشَبَهها بالفعل. وذلك من وجهَين: أحدهما من جهة اللفظ، والآخر من جهة المعنى. فأمّا الذي من جهة اللفظ، فبناؤُها على الفتح كالأفعال الماضية. وأمّا الذي من جهة المعنى، فمن قبل أن هذه الحروف تطلب الأسماءَ وتختصّ بها، فهي تدخل على المبتدأ والخبر، فتنصب المبتدأ، وترفع الخبر؛ لِما ذكرناه من شَبَه الفعل، إذ كان الفعل يرفع الفاعل، وينصب المفعول. وشُبّهت مِنْ الأفعال بما تقدّم مفعوله على فاعله، فإذا قلت: "إنّ زيدًا قائمٌ"، كان بمنزلةِ "ضرب زيدًا عمرٌو". وقد تدخل "ما" على هذه الحروف، فتكفّها عن العمل، وتصير بدخول "ما" عليها حروفَ ابتداء، تقع الجملةُ الابتدائية والفعلية بعدها، ويزول عنها الاختصاص بالأسماء، ولذلك يبطل عملُها فيما بعدها. وذلك نحو قولك: "إنَّما"، و"أنَّما"، و"كَأنَّما"، و"لَيْتَما"، وَ"لَعَلَّما". فأمّا "إنَّما"، و"أنَّما"، فحكمُهما حكم "إنَّ"، و"أنَّ": تفتحها في الموضع الذي تفتح فيه "أنَّ"، وتكسرها في الموضع الذي تكسر فيه "إنَّ"، فتقول: "حَسِبْتُك إِنّما أنت عالمٌ". ولا تكون "إنّما" ها هنا إلَّا مكسورة؛ لأنه موضعُ جملةٍ. ولا تقع المفتوحة ها هنا؛ لأن المفتوحة مصدرٌ. والمفعولُ الثاني من مفعولَيْ هذه الأفعال ينبغي أن يكون هو الأوّلَ إذا كان مفردًا، وليس المصدر بالكاف في "حسبتك"، لأن الكاف ضمير المخاطب، و"أنَّمَا"، المفتوحةُ مصدرٌ، فهو غير المخاطب. ومن ذلك قول كُثَيِّرٍ [من الطويل]: 1102 - أرانى ولا كُفرانَ لله إنّما ... أُواخِي من الإخوانِ كُلَّ بَخِيلِ ¬
فـ "إنَّما" هنا لا تكون إلَّا المكسورة، لأنها في موضع المفعول الثاني، لـ"أرَى"، وهو فتح، "إنَّما" ها هنا، لم يستقم، لِما ذكرناه. وأمّا قوله تعالى في قراءةِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ} (¬1)، بفتحِ "أنَّمَا"، فضعيفةٌ ممتنعةٌ على قياس مذهب سيبويه، وقد أجازها الأخفش على البدل على حدّ قوله [من الطويل]: فما كان قَيْسٌ هُلْكُه هُلْكَ واحدٍ (¬2) فأمّا "إنَّما" المكسورة فتقديرها تقديرُ الجمل كما كانت "إنَّ" كذلك، و"ما"، كافّةٌ لها عن العمل، ويقع بعدها الجملة من المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل. وهي مكفوفةُ العمل على ما ذكرنا، ومعناها التقليل، فإذا قلت: "إنّما زيدٌ بَزّازٌ"؟ فأنت تُقلل أمره، وذلك أنك تسلبه ما يُدّعى عليه غيرَ البَزّ، ولذلك قال سيبويه (¬3) في "إنَّما سرتُ حتى أدخلها": أنك تُقلِّل. وذلك أنّ "إنَّما" زادت "إنَّ" تأكيدًا على تأكيدها، فصار فيها معنى الحَصر، وهو إثبات الحكم للشيء المذكور دون غيره، فإنّ معنى "إنَّما اللهُ إلهٌ واحدٌ"، أي: ما الله إلَّا إله واحد، نحو: "لا إله إلا الله"، وكذلك {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ} (¬4)، أي: ما أنت إلَّا منذرٌ، ومن ها هنا قال أبو عليّ في قوله [من الطويل]: إنما يُدافِع عن أحسابهم أنا أو مِثْلِي (¬5) ¬
والمراد: ما يدافع عن أحسابهم إلَّا أنا، فـ "أنَا" ههنا في محل رفع بأنّه فاعلُ "يدافع"، لا تأكيد الضمير في الفعل. ويجوز أن تجعل "ما" زائدةً مؤكّدةً على حدّ زيادتها في قوله لْعالى: {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (¬1) و {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (¬2)، فلا يبطل عملها، فتقول: "إنما زيدًا قائمٌ"، كما تقول: "إنّ زيدًا قائمٌ". وأمّا المفتوحة فهي تُقدَّر تقديرَ المفردات، وهي مع ما بعدها في تأويل المصدر كما كانت "أنَّ" كذلك، فتفتحها في كلّ موضع يختصّ بالمفرد، نحوِ قوله تعالى: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬3)، فتفتح "أنّما" ههنا، لأنَّها في موضعِ رفعِ ما لم يسمّ فاعله. ومن ذلك قول الشاعر [من الخفيف]: 1103 - أبْلِغِ الحَارِثَ بنَ ظَالِم المُو ... عِدَ والناذِرَ النُّذورَ عَلَيَّا أنمَا تَقْتُلُ النِّيامَ ولا تَقْتل ... يَقْظانَ ذا السِّلاحِ كَمِيَّا لا تكون "أنَّما" ههنا أيضًا إلَّا مفتوحة؛ لأنها في موضع المفعول الثاني لـ "أبْلِغْ"، فهي في موضع المصدر؛ لأن المراد: أبْلِغه هذا القولَ. ¬
والفرق بين "أنَّ"، و"أنَّما"، وإن كان كلّ واحد منهما مع ما بعده مصدرًا، أنّ "أنَّ" عاملةٌ فيما بعدها، و"أنَّمَا" غير عاملة، فقد كفّتْها "ما" عن العمل، وصار يليها كلُّ كلام بعد أن كان يليها كلامٌ مخصوصٌ. والفرق بين "إنَّما"، و"أنَّما"، أنّ "إنَّما" المكسورة إذا كُفّت بـ "ما"؛ كانت بمنزلةِ فعل مُلْغَى؛ لأنها بمنزلة الفعل. فإذا كُفّت بـ "ما"، لم يبق لها اسمٌ منصوبٌ، فصارت بمنزلة الفعل الملغى، نحوِ: "زيدٌ ظننتُ منطلقٌ"، و"أشهدُ لَزيدٌ قائمٌ". و"أنَّما" المفتوحةُ، إذا كُفّت، كانت بمنزلة الاسم. ويجوز أن تكون "ما" زائدةً مؤكّدةً، فتنصب ما بعدها على ما ذكرناه في "إنَّما" المكسورة، وكذلك سائر الحروف، نحوُ: "لَكِنَّما"، و"كَأنَّما"، و"لَيْتَما"، وَ"لَعَلَّما"، تقول: "لكنّما زيدٌ قائمٌ". قال الشاعر [من الطويل]: ولكنّما أهْلِي بوادٍ أنِيسُه ... ذِئابٌ تَبغَّى الناسَ مَثْنَى ومَوْحَدُ (¬1) وأولاها المبتدأ والخبرَ حين كفّها عن العمل، وإن شئت؛ قلت: "لكنّما قال زيدٌ"، فيليها الفعلُ والفاعلُ. قال امرؤ القيس [من الطويل]: ولكنّما أسْعَى لمَجْدٍ مُؤَثلِ ... [وقد يُدْرِكْ المَجْدَ المؤثَّل أَمْثَالِي] (¬2) وكذلك "كأنّما". قال الله تعالى: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} (¬3). وكذلك "لَعَلَّ". تقول: "لَعَلَّمَا زيدٌ قائمٌ"، وإن شئت: "لعلّما قائمٌ زيدٌ". وأنشد [من الطويل]: أعِدْ نَظَرًا يا عبدَ قَيْسٍ لَعَلَّمَا ... إلخ (¬4) البيت للفرزدق، والشاهد فيه قوله: "لعلّما أضاءت". لمّا كفّها بـ "ما" عن العمل؛ أولاها الفعلَ الذي لم يلها قبلُ. ولا تكون "ما" ههنا بمعنى "الَّذِي"؛ لأن القوافي منصوبة. ولا يجوز أن تكون "لعلّ" بمعنى الشأن، وتكون "ما" نافيةُ، و"الحمار" اسمها، و"أضاءت" الخبر؛ لأنّ "ما" لا يتقدّم خبرُها على اسمها. والمعنى أنهم أهل ذِلَّةٍ وضُعْفٍ، لا يأمَنون من يطرُقهم ليلًا، فلذلك قيّدوا حمارهم، وأطفؤوا نارهم. وعكسُ هذا المعنى قول الآخر [من الطويل]: 1104 - وكلُّ أُناسٍ قارَبُوا قَيَدَ فَحْلِهم ... ونحنُ خَلَعْنا قَيْدَه فَهْوَ سارِبُ ¬
وأمّا البيت الآخر الذي أنشده، وهو [من الطويل]: تحلّلْ وعالجْ (¬1) ... إلخ فهو لسُوَيْد بن كُراع العُكْلّى، والشاهد فيه قوله: "لعلّما أنت حالِمُ"، فإنه أولى "لعلّما" المبتدأ والخبرَ، ولم يُعْمِلها فيهما لزوال الاختصاص، وجعلها من حروف الابتداء، كأنّه يَهْزَأ برجل أوعده، ويُهدِّده، أي. إنّك كالحالم في وعيدك ويمينك في مَضرّتي. قال: تَحَلَّلْ، أَي: استثنِ، وعالِجْ ذاتَ نفسك من ذهاب عقلك بتعاطيك ما ليس في وِسْعك. ومن ذلك: "لَيْتَمَا" الإلغاءُ فيها حسنٌ، والإعمال أحسنُ لقوّة معنى الفعل فيها، وعدمِ تغيُّر معناها. ألا ترى أن الاستدراك والتشبيه والتمنّي والترجّي على حاله في "لكنّما"، و"كأنّما"، و"لَيْتَمَا"، و"لعلّما"، ولم يتغيّر كما يتغيّر في "إنّما"، فأمّا قوله [من البسيط]: قالت ألَا ليتما هذا الحَمامُ لنا ... إلى حمامتنا ونِصفُه فَقَدِ (¬2) البيت للنابغة الذُّبْيانيّ، والشاهد فيه قوله: "ألا ليتما هذا الحمام لنا"، وأنّه قد رُوي على وجهين: بالنصب والرفع. فالنصبُ من وجهين: أحدهما: على إعمالِ "ليت" على ¬
فصل [معني "إن" و"أن" والفرق بينهما]
ما وصفنا لبقاء معناها. والآخر: أن تكون "ما" زائدة مؤكّدة على ما ذكرناه. وقد كان رُؤْيَةُ ينشده مرفوعًا. ورفعُه من وجهين أحدهما أن تكون "ما" موصولة بمعنى "الّذِي"، وما بعدها صلةٌ، والتقديرُ: ألا ليت الذي هو الحمامُ، على حد: "ما أنا بالذي قائل لك شيئًا". والآخر على إلغاء "ليت"، وكفّها عن العمل. يصف زَرْقاءَ اليمامةِ بحدّة البَصَر، وأنّها رأت حمامًا طائرًا، فأحصت عدّتَها في حال طَيَرانها. فصل [معني "إنّ" و"أن" والفرق بينهما] قال صاحب الكتاب: "إن", و"أن", هما تؤكدان مضمون الجملة, وتحققانه, إلا أن المكسورة الجملة معها على استقلالها بفائدتها، والمفتوحة تقلبها إلى حكم المفرد, تقول: "إن زيداً منطلقٌ" وتسكت, كما سكت على "زيدٌ منطلقٌ"، وتقول: "بلغني أن زيداً منطلقٌ"، و"حقٌ أن زيداً منطلقٌ"، فلا تجد بداً من هذا الضميم كما لا تجده مع الإنطلاق ونحوه. وتعاملها معاملة المصدر حيث توقعها فاعلة ومفعولة ومضافاً إليها في قولك: "بلغني أن زيداً منطلقٌ"، و"سمعت أن عمراً خارجٌ", و"عجبت من طول أن بكرًا واقفٌ". ولا تصدر بها الجملة كما تصدر بأختها, بل إذا وقعت في موقع المبتدأ التزم تقديم الخبر عليها, فلا يقال: "أن زيداً قائم حق". * * * قال الشارح: يشير في هذا الفصل إلى فائدةِ "إنَّ" و"أنَّ"، وطَرَفٍ من الفرق بينهما. فأمّا فائدتهما، فالتأكيدُ لمضمون الجملة، فإنّ قول القائل: "إنّ زيدًا قائمٌ" ناب منابَ تكرير الجملة مرتَيْن، إلَّا أن قولك: "إن زيدًا قائمٌ" أوْجَزُ من قولك: "زيدٌ قائمٌ زيدُ قائمٌ"، مع حصول الغرض من التأكيد. فإن أدخلتَ اللام، وقلت: "إنّ زيدًا لَقائمٌ"، ازداد معنى التأكيد، وكأنّه بمنزلة تكرار اللفظ ثلاثَ مرّات. وكذلك "أنَّ" المفتوحة تفيد معنى التأكيد كالمكسورة، إلَّا أن المكسورة الجملة معها على استقلالها بفائدتها، ولذلك يحسن السكوت عليها؛ لأن الجملة عبارةٌ عن كلّ كلام تامّ قائم بنفسه مفيدٍ لمعناه، فلا فرق بين قولك: "إنّ زيدًا قائمٌ"، وبين قولك: "زيدٌ قائمٌ" إلَّا معنى التأكيد. ويؤيّد عندك أن الجملة بعد دخول "إنَّ" عليها على استقلالهما بفائدتها، أنّها تقع في الصلة كما كانت كذلك قبلُ، نحوَ قولك: "جاءني الذي إنّه عالمٌ". قال الله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ} (¬1)، وليست "أنَّ" المفتوحةُ كذلك، بل تقلب معنى الجملة إلى الإفراد، وتصير في مذهب المصدر المؤكَّد. ¬
فصل [مواضع كسر همزة "إن" ومواضع فتحها]
ولولا إرادة التأكيد؛ لكان المصدر أحقَّ بالموضع، وكنت تقول مكان "بَلَغَني أن زيدًا قائمٌ": "بلغني قيامِ زيد". والذي يدلّك على أنّ "أنَّ" المفتوحة في معنى المصدر، وأنّها تقع موقع المفردات، أنّها تفتقر في انعقادها جملةً إلى شيء يكون معها، ويُضَمّ إليها؛ لأنها مع ما بعدها من منصوبها ومرفوعها بمنزلة الاسم الموصول، فلا يكون كلامًا مع الصلة إلَّا بشيء آخر من خبرٍ يأتي به، أو نحوِ ذلك. فكذلك "أنَّ" المفتوحة, لأنها في مذهب الموصول، إلَّا أنها نفسها ليست اسمًا كما كانت "الّذِي" كذلك. ألا ترى أنها لا تفتقر في صلتها إلى عائدٍ كما تفتقر في الأسماء الموصولات إلى ذلك؟ وإذا ثبت أنها في مذهب المفرد، فهي تقع فاعلة ومفعولة ومبتدأةً، ومجرورة. مثالُ كونها فاعلةً قولك: "بلغني أنّ زيدًا قائمٌ"، فموضعُ "أنَّ" وما بعدها رفعّ بأنّه فاعلٌ، كأنّك قلت: "بلغني قيامُ زيد". ومثالُ كونها مفعولة قولك: "كرهتُ أنّك خارجٌ"، أي: خروجَك. ومثال كونها مبتدأة قولك: "عندي أنّك خارجٌ"، أي: عندي خروجُك، كما تقول: "عندي غلامُك". وتقول في المجرورة "عجبت مِن أنّك قادمٌ"، أي: من قدومك، فلذلك قال: "تعاملها معاملة المصدر حيث تُوقِعها فاعلةً ومفعولةً ومضافًا إليها". وقوله: "لا تُصدَّر بها الجملة"، يريد أنها إذا وقعت مبتدأةً، فلا بد من تقديم الخبر عليها. ولا تُصدّر بالمبتدأة على قاعدة المبتدآت، فلا تقول: "أنّك منطلقٌ عندي"، وكذلك لو كانت مفعولة، فإنّك لا تُقدّمها، تقول: "أنّك منطلقٌ عرفتُ"، تريد: عرفت أنّك منطلقٌ، وإن كان يجوز "انطلاقَك عرفتُ". وإنّما لم تصدّر بها الجملة لأمرَيْن: أحدهما: لأن "إنَّ" المكسورة و"أنَّ" المفتوحة مجراهما في التأكيد واحدٌ، إلَّا أن المفتوحة تكون عاملة ومعمولًا فيها، فأُخّرت للإيذان بتعلُّقها بما قبلها، ومُفارَقتِها المكسورةَ التي هي عاملةٌ غيرُ معمول فيها. وجوّزوا تقديم المكسورة؛ لأنها تتنزّل عندهم منزلةَ الفعل الملغى، نحوِ: "أشهدُ لَزيدٌ قائمٌ"، و"أعلمُ لَمحمّدٌ منطلقٌ". والأمر الآخر: أنها إذا تقدّمت؛ كانت مبتدأةً، والمبتدأ مُعَرَّضُ لدخولِ "إنَّ" عليه، وكان يلزم أن تقول: "إنَّ أنَّ زيدًا قائمٌ بلغني"، فتجمع بين حرفَيْن مؤكِّدَيْن. وإذا كانوا منعوا من الجمع بين اللام و"إنَّ" لكونهما بمعنى واحد، وإن اختلف لفظُهما؛ فأن يمنعوا الجمعَ بين "إنَّ"، و"أنَّ"، وهما بلفظ واحد، كان ذلك أولى. فصل [مواضع كسر همزة "إن" ومواضع فتحها] قال صاحب الكتاب: والذي يميز بين موقعيهما "أن" ما كان مظنة للجملة؛ وقعت فيه المكسورة, كقولك مفتتحاً: "إن زيداً منطلقٌ"، وبعد "قال", لأن الجمل تحكى بعده،
وبعد الموصول, لأن الصلة لا تكون إلا جملة. وما كان مظنة للمفرد وقعت فيه المفتوحة نحو مكان الفاعل، والمجرور، وما بعد "لولا"؛ لأن المفرد ملتزم فيه في الاستعمال، وما بعد "لو"؛ لأن تقدير "لو أنك منطلق لانطلقت": "لو وقع أنك منطلقٌ", أي: لو وقع انطلاقك، وكذلك "ظننت أنك ذاهبٌ" على حذف ثاني المفعولين, والأصل: ظننت ذهابك حاصلاً. * * * قال الشارح: لما كان معنى "إنَّ" المكسورة مخالِفًا لمعنَى "أنَّ" المفتوحة، إذ كانت المفتوحة تؤدّي معنى الاسم، والمكسورة لا تؤدّي ذلك، وكانت عواملُ الأسماء تعمل في موضع المفتوحة، إذ كانت في تأويل الاسم، ولا تعمل في موضع المكسورة, لأنها في تأويل الجملة، وكان الخَطَأُ يكثر في وقوع كلّ واحد منهما موضع الآخر؛ لم يكن بدٌّ من ضابط يُميِّز موضعَ كلّ واحد منهما، فقال: ما كان مظنّة للجملة وقعتْ فيه المكسورة. وذلك بأن يتعاقب في الموضع الابتداءُ والفعلُ، فإن وقعت في موضع لا يكون فيه إلَّا أحدُهما؛ كانت المفتوحة، ولم يجز أن تقع فيه المكسورة؛ لأن المكسورة لا يعمل فيها عاملٌ، ولا تكون إلَّا مبتدأة. ومتى تَعاقب على الموضع الاسمُ والفعلُ؛ لم يكن معمولًا لعاملٍ, لأن العامل ينبغي أن يكون له اختصاصٌ بالمعمول. فإذا اختصّ المكانُ بأحد القبيلَيْن؛ كان مبنيًا على ما قبله، وكان معمولًا له، أو في حكم المعمول، فلذلك يجب أن تكون المفتوحة؛ لأنها معمولةٌ لما قبلها، إذ كانت في حكم المصدر. فإذا وقعت "أنَّ" بعد "لولا"؛ كانت المفتوحة من نحو قوله تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} (¬1). وذلك أن الموضع، وإن كان جملة من حيث كان مبتدأ وخبرًا، فإن الخبر، لمّا لم يظهر عند سيبويه، صار كأنّ الموضع للمفرد من جهة اللفظ والاستعمال، وإن كان في الحكم والتقدير جملةً, لأنّ "أنَّ" واسمها وخبرها اسم مبتدأٌ، والخبر محذوفٌ، كما كان الاسم بعد "لَوْلا" من نحوِ: "لولا زيدٌ لأتيتُك"، والمراد: لولا زيدٌ عندك أو نحوُ ذلك لأتيتُك؛ وأمّا على مذهبِ من يرى أنه مرفوعٌ بتقدير فعلٍ، فالأمرُ ظاهرٌ من حيث كان مفردًا معمولًا. وأما إذا وقعت بعد "لَوْ"، فتكون مفتوحة أيضًا، نحوَ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} (¬2)، وقوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ} (¬3)، فعلى مذهب أبي العبّاس محمّد بن يزيد، فإنها فاعلةٌ في موضعٍ مرفوع بفعل محذوف. فإذا قال: "لو أنّ زيدًا جاء لأكرمتُه"، فتقديره: "لو وقع مجيءُ زيد، لأكرمتُه". وهو رأي صاحب هذا الكتاب, لأن الموضع ¬
فصل [مواضع جواز فتح همزة "إن" وكسرها]
للفعل، فإذا وقع فيه اسمٌ أو ما هو في حكم الاسم؛ كان على إضمار فعل وتقديرِه. وكان السيرافيّ يقول: لا حاجة هنا إلى تقدير فعل، ويجعلها مبتدأ، وقد نابت عن الفعل، إذ كان خبرها فعلًا، وأجاز: "لو أنّ زيدًا جاءني"، ومنع "لو أنّ زيدًا جاءٍ". وكذلك إذا وقعت بعد "ظننتُ" تكون مفتوحة؛ لأنها في موضع المفعول، فسيبويه يقول (¬1): إنّ "أنَّ" واسمها وخبرها سدّت مسدَّ مفعولَيْ "ظننتُ". والأخفش يقول: إنَّ "أنَّ" وما بعدها في موضع المفعول الأوّل، والمفعولُ الثاني محذوفٌ، فإذا قلت: "ظننتُ أنك قائمٌ"، فالتقديرُ: ظننتُ انطلاقَك كائنًا أو حاضرًا. فصل [مواضع جواز فتح همزة "إنّ" وكسرها] قال صاحب الكتاب: ومن المواضع ما يحتمل المفرد والجملة فيجوز فيه إيقاع أيتهما شئت نحو قولك "أول ما أقول أني أحمد الله". إن جعلتها خبراً للمبتدأ, فتحت، كأنك قلت: "أول مقولي حمد الله", وإن قدرت الخبر محذوفاً كسرت حاكياً ومنه قوله [من الطويل]: وكنت أرى زيداً كما قيل سيداً ... إذا إنه عبد القفا واللهازم (¬2) تكسر لتوفر على ما بعد "إذا" ما يقتضيه من الجملة، وتفتح على تأويل حذف الخبر، أي فإذا العبودية حاصلة و"حاصلة" محذوفة. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إنَّ كلّ موضع يتعاقب فيه الاسم والفعل تكون "إنَّ" فيه مكسورة، وكلّ موضع يختصّ بأحدهما تكون مفتوحة، فإذا ساغ في موضع المكسورةُ والمفتوحةُ، كان ذلك على تأويلَيْن مختلفَين. فمن ذلك قولك: "أوَّلُ ما أقولُ: أإنِّى أحمدُ اللهَ"، إنَّ شئت فتحتَ ألفَ "أنّي" وإن شئت كسرتَ. فإن فتحتَ؛ كان الكلّام تامًا غير مفتقر إلى تقديرِ محذوفِ، فالكلّام مبتدأٌ وخبرٌ، فالمبتدأ "أوّل" وما بعده إلى "أقول" من تمامه. وهو حَدَثٌ؛ لأن "أفْعَلَ" بعضُ ما يُضاف إليه، وقد أُضيف إلى المصدر، فكان في حكم المصدر، و"أنَّ" المفتوحه واسمها وخبرها في حكم الحدث، إذ هي واسمها وخبرها في تأويلِ مصدر من لفظ خبرها مضافٍ إلى اسمها، فكأنّك قلت: "أوَّلُ قولى: الحمدُ لله". وإذا كسرت، كان الخبر محذوفًا، ويكون "أوّل" مبتدأ، وما بعده إلى قوله: "اللهَ" ¬
من تمامه؛ لأن قوله: "إنّي أحمدُ اللهَ" جملةٌ محكيّةٌ بالقول، فهي في موضعِ نصب به، فيكون من تمام الكلام الأوّل، والخبرُ محذوف، والتقدير: "أوَّلُ قولي كذا ثابتٌ، أو حاضرٌ". والقول يعني المقُول، والمراد: أوّلُ مَقالي. ومن ذلك: "مررت به فإأذَا أنَّه عبدٌ" بالفتح والكسر. فإذا فتحت، أردت المصدر، كأنّك قلت: "فإذا العبوديّةُ واللُّؤْمُ"، كأنّه رأى نَوَى العبد. وإذا كسر، كان قد رآه نفسَه عبدًا، ويكون بمعنى الجملة، كأنّه قال: فإذا هو عبدٌ. قال الشاعر [من الطويل]: وكنت أرى زيدًا ... إلخ روى هذا البيت سيبويه (¬1) بالفتح والكسر على ما تقدّم، فالكسرُ على نيّة الجملة من المبتدأ والخبر، لأنّ "إذا" هذه يقع بعدها المبتدأ والخبر، والتقدير: فإذا هو عبدُ القفا. فإن قيل: فقد قرّرتم أنّ "إنَّ" إنما تُكْسَر في كلّ موضع يتعاقب فيه الاسم والفعل، وههنا لا يقع الفعل، إنما يقع الاسم المبتدأ لا غير؛ قيل "إذا" ظرفُ مكان في الأصل دخله معنى المفاجأة، فالدليلُ يقتضي إضافتها إلى الجملة من المبتدأ والخبر، أو من الفعل والفاعل، كما كانت "حَيْثُ" كذلك، إلَّا إنه لمّا دخلها معنى المفاجأة؛ مُنعت من وقوع الفعل بعدها، وذلك أمرٌ عارضٌ. فإذا وقعت "أنَّ"، كانت المكسورة عملًا بالأصل. وأمّا الفتح في "أنَّ" بعد "إذا" في اليت، فعلى تأويل المصدر المبتدأ، والخبرُ عنه "إذا"، كما تقول: "أمّا في القِتال فتِلْقائي العبوديّةُ". ويجوز أن يكون في موضع المبتدأ، والخبرُ محذوفٌ، والتقدير: فإذا العبوديّة شأنُه. ويكون "إذَا" حرفا دالا على معنى المفاجأة. وإذا كانت كذلك؛ لم تكن خبرًا. ومعنى قوله: "عبد القفا واللهازم" يعني: إذا نظرت إلى قفاه ولهازمه؛ تَبيّنتَ عبوديّته ولؤمَه؛ لأنهما عُضْوان يصونهما الأحرارُ، ويبذُلهما العبيدُ والأرذالُ، فهما موضع الضَّفْع واللَّكْز. واللِّهْزِمَةُ: مَضِيغَةٌ في أصل الحَنَك الأسفل. وقوله: "تكسر لتُوفّر على ما بعد "إذا" ما يقتضيه من الجملة". يريد أنّ "إذا" المكانيّة تكون على ضربين: أحدهما: أن تكون ظرفًا مبهمًا كـ "حَيْثُ"، إلَّا أنّ "حَيْثُ" يقع بعدها الجملة من المبتدأ والخبر، والفعل والفاعل، وهذه لا يقع بعدها إلَّا المبتدأ والخبر لمكان المفاجأة، إذ لا تصحّ مفاجأةُ الأفعال. والثاني: أن تكون حرف ابتداء معناه المفاجأة، فيقع بعدها أيضًا المبتدأ والخبر. ¬
فصل [حكم همزة "إن" بعد "حتي"]
فعلى هذا إذا كسرت "إنَّ" بعدها فقد وفّرتَ عليها ما تقتضيه من الجملة، وإذا فتحت "أنَّ" كانت مفردة في موضع رفع بالابتداء، والخبرُ محذوف على ما ذكرنا. وقد يجعلها بعضُهم بمعنى الحضرة والمكان، فلا تقتضي جملةً، فإذا وقع بعدها مفردٌ كان مبتدأ، وكانت "إذا" الخبر، نحوَ: "خرجتُ فإذا زيدٌ"، أي: "بحَضْرتي زيدٌ". فإذا وقع بعدها الجملة؛ كانت "إذا" من متعلّقات الخبر، نحوَ: "خرجت فإذا زيدٌ قائمٌ"، أي: "بحَضْرتي زيدٌ قائم"، فالظرفُ يتعلّق بـ "قائم"، فاعرفه. فصل [حكم همزة "إنّ" بعد "حتي"] قال صاحب الكتاب: وتكسرها بعد "حتى" التي يبتدأ بعدها الكلام, فتقول: "قد قال القوم ذلك حتى إن زيداً يقوله", وإن كانت العاطفة, أو الجارة, فتحت, فقلت: "قد عرفت أمورك حتى أنك صالحٌ". * * * قال الشارح: "حَتَّى" تكون على ثلاثة أضرب: تكون جارّةً بمعنى الغاية، نحوَ قوله تعالى: {سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬1). وتكون عاطفة بمعنى الواو، نحو قولك: "قام القومُ حتى زيدٌ"، أي: و"زيدٌ"، ويكون إعرابُ ما بعدها كإعرابِ ما قبلها. وتكون حرف ابتداء يُستأنف بعدها الكلامُ، فتقع بعدها الجملة من المبتدأ والخَبر والفعلِ والفاعل، نحوُ قوله [من الطويل]: فَيَا عَجَبًا حتّى كُلَيْبٌ تَسُبُّني ... كأنّ أباها نَهْشَلٌ أو مُجاشِعُ (¬2) فأولاها الجملةَ من المبتدأ والخبر، وتقول: "مَرِضَ حتى لا يَرْجُونه"، فتدخل على الفعل، فإن وقعت "أنَّ" بعد "حَتَّى"، فإن كانت الجارّة، أو العاطفة؛ لم تكن إلَّا المفتوحة، نحوَ ما مَثَّلَه من قوله: "عرفتُ أُمورَك حتى أنّك صالحٌ"، أي: "حتى صلاحَك"؛ لأن "حتى" في العطف لا يكون ما بعدها إلَّا من جنس ما قبلها، والصلاحُ من جملة الأُمور، وتقول في الجارّة: "عجبتُ من أحوالك حتى أنّك تُفاخِرني"، أي: "حتى المفاخرةِ"، أي: إلى هذه الحال. وإن وقعتْ بعد التي للابتداء، لم تكن إلَّا مكسورةً, لأنه موضعٌ تَعاقب عليه الاسم والفعل على ما ذكرنا، فهو موضع جملة، فاعرفه. ¬
فصل [دخول لام الابتداء علي خبر "إن"]
فصل [دخول لام الابتداء علي خبر "إنَّ"] قال صاحب الكتاب: ولكون المكسور للابتداء, لم تجامع لامه إلا إياها, وقوله [من الطويل]: 1105 - [يلومونني في حبِّ ليلي عواذلي] ... ولكنني من حبها لعميد على أن الأصل: و"لكن إنني", كما أن أصل قوله تعالى: {لكنا هو الله ربي} (¬1): لكن أنا. * * * قال الشارح: اعلم أنه قد تدخل لام الابتداء في خبر "إنَّ" مؤكِّدة دون سائر أخواتها، نحوَ قولك: "إنَّ زيدًا لقائمٌ"، و"إنَّ عَمْرًا لأخوك". قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} (¬2). وحقُّ هذه اللام أن تقع أوّلًا من حيث كانت لام الابتداء، ولامُ الابتداء لها صدرُ الكلام، نحوَ قولك: "لَزيدٌ قائمٌ"، ونحو قوله تعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ ¬
عَزْمِ الْأُمُورِ} (¬1)، وقوله: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} (¬2). وكان القياس أن تقدّم اللام، فتقول "لإنَّ زيدًا قائمٌ" في "إنَّ زيدًا لَقائمٌ". وإنّما كرهوا الجمع بينهما؛ لأنّهما بمعنى واحد، وهو التأكيد، وهم يكرهون الجمع بين حرفَيْن بمعنى واحد. وذلك أن هذه الحروف إنَّما أُتي بها نائبةً عن الأفعال اختصارًا، والجمعُ بين حرفَيْن بمعنى واحد يُناقِض هذا الغرضَ. وإنما وجب اللام أن تكون متقدّمة على "إنَّ"، ومجراهما في التأكيد واحدٌ، لأمرَيْن: أحدهما أنّ "إنَّ" عاملةٌ وحقُّ العامل أن يليه معمولَه، واللامُ ليست عاملة. والثاني أنّ العرب قد نطقت بها نُطْقًا، وذلك مع إبدال الهمزة هاءً في نحو قولك: "لَهِنَّك قائمٌ"، إنما أصلُه: "لإِنّك قائم"، لكنّهم أبدلوا الهمزة هاءً كما أبدلوها في نحو: "هَرَقْتُ الماءَ"، و"هَنَرْتُ الثوْبَ". فلمّا زال لفظُ الهمزة، دخلت مكانها الهاءُ، وبتغيُّر لفظِ "إنَّ"، صارت كأنّها حرف آخر، فسهل الجمعُ بينهما. قال [من الطويل]: 1106 - ألا يا سَنَا بَرْقٍ على قُلِلِ الحِمى ... لَهِنَّكَ مِن بَرْقٍ عَلَيَّ كَرِيمُ ¬
وهذه اللام لا تدخل إلَّا في خبر المكسورة, لأنها أُختها في المعنى، وذلك من جهتَيْن: إحداهما: أنَّ "إنَّ" تكون جوابًا للقسم، واللام يُتلّقى بها القسمُ. والجهة الثانية: أنَّ "إنَّ" للتأكيد، واللام للتأكيد، فلمّا اشتركا فيما ذكرنا؛ ساغ الجمع بينهما لاتّفاق معنيَيْهما. فإن قيل: فقد قرّرتم أنّهم لا يجمعون بين حرفين بمعنى واحد، فكيف جاز الجمع بينهما ههنا؟ وما الداعي إلى ذلك؟ قيل: إنّما جمعوا بينهما مبالغةً في إرادة التأكيد، وذلك أنّا إذا قلنا: "زيدٌ قائمٌ"، فقد أخبرنا بأنّه قائمٌ لا غير، وإذا قلنا: "إنّ زيدًا قائمٌ"، فقد أخبرنا عنه بالقيام مؤكَدًا، كأنّه في حكم المكرَّر، نحوِ: "زيدٌ قائمٌ، زيدٌ قائمٌ". فإن أتيت باللام، كان كالمكرّر ثلاثًا، فحصلوا على ما أرادوا من المبالغة في التأكيد وإصلاح اللفظ بتأخيرها إلى الخبر. ولا تدخل هذه اللام في سائر أخواتها من "كَأنَّ"، وَ"لَعَلَّ"، و"لكِنَّ"، فلا تقول: "كأنَّ زيدًا لَقائمٌ"، ولا "لعلّ بكرًا لَقادمٌ"، ولا "لكنّ خالدًا لَكريمٌ"؛ لأن هذه الحروف قد غيّرت معنى الابتداء، ونقلتْه إلى التشبيه، والترجّي، والاستدراك. وهذه اللامُ لام الابتداء، فلا تدخل إلَّا عليه، أو ما كان في معناه. وقد ذهب الكوفيون إلى جواز هذه اللام في خبرِ "لكِنَّ" (¬1)، واستدلّوا على جوازه بقول الشاعر، أنشده حميد بن يحيى [من الطويل]: [يَلُومُونَنِي في حُبِّ لَيْلَى عَوَاذِلِي] ... ولكنّني من حبِّها لعميد ويقولون: "لَكِنَّ"، أصلها "إنَّ" زيدت عليها اللام والكاف، وذلك ضعيف. وذلك أنّا إنما جوّزنا دخول اللام في خبرِ "إنَّ" لاتّفاقهما في المعنى، وهو التأكيد، وأنّها لم تُغيِّر معنى الابتداء، فجاز دخول اللام عليها كما يجوز مع الابتداء المحض في نحوِ: "لَزيدٌ قائمٌ". وأمّا "لكِن" فقد أحدثت استدراكًا، وليس ذلك في اللام. والتأكيدُ وَفْقُ المؤكَّد، فهي تُخالِفه بزيادةٍ أو نقصٍ خرج عن التأكيد. وأمّا القول بأنّها مركّبة، فليس ذلك بالسهل ولا دليل عليه. وأمّا البيت الذي أنشده فشاذّ قليل، وصحّةُ مَحْمَله على أنّه أراد "لكِن" الخفيفةَ، فأتي بـ "إنَّ" بعدها، والتقدير: ولكنْ إنّني، فحذفت الهمزة تخفيفًا، وادّغمت النون في النون، فقيل: "وَلكِنَّنِي" على حدّ قوله تعالى: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ} (¬2)، والأصل: "لكن أنا هو الله"، ¬
فحذف، وادّغم، ويجوز أن تكون اللام هنا زائدة مثلَ إنشاد بعضهم [من البسيط]: 1107 - مَرّوا عُجالَى فقالوا كَيْفَ صاحبُكم ... فقال الذي سَألُوا أمْسَى لمَجهودَا ومن ذلك قوله تعالى: {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ} (¬1) بفتح "أنَّ" في قراءة سَعِيد بن جُبَيْر. فاللامُ ههنا زائدةٌ بمنزلة الباء مع الفاعل في قوله تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا} (¬2)، وقوله: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬3)، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: ولها إذا جامعتها ثلاثة مداخل, تدخل على الاسم إن فُصل بينه وبين "إن", كقولك: "إن في الدار لزيداً", وقوله تعالى: {إن في ذلك لعبرة} (¬4)، وعلى الخبر كقولك: "إن زيداً لقائمٌ", وقوله تعالى: {إن الله لغفور} (¬5)، وعلى ما يتعلق بالخبر إذا تقدمه كقولك: "إن زيداً لطعامك آكلٌ" و"إن عمراً لفي الدار جالسٌ", وقوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬6) وقول الشاعر [من البسيط]: 1108 - إذا امرأً خصني عمداً مودته ... على التنائي لعندي غير مكفور ¬
ولو أخرت, فقلت: "آكل لطعامك", أو "غير مكفور لعندي", لم يجز؛ لأن اللام لا تتأخر عن الاسم والخبر. * * * قال الشارح: قوله: "ولها إذا جامعتها ثلاثة مداخل"، يعني إذا جامعت اللامُ "إنَّ"، أي: اجتمعا في كلام واحد. ومَداخِلُ: جمعُ مَدْخَل، وهو المكان الذي يُدْخَل فيه، وذلك في الخبر والاسم وفضلة الخبر. فمثالُ كونها في الخبر: "إنّ زيدًا لقائمٌ"، وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} (¬1) و {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (¬2). وحقُّها الصدر، إلَّا أنهم كرهوا الجمع بين حرفَيْن بمعنى واحد، ففرقوا بينهما بأن خلّفوا اللام إلى الخبر. والثاني: أن تدخل على الاسم إذا فُصل بينه وبين "إنَّ" بأن يكون الخبر ظرفًا، أو جارًا ومجرورًا، ثمّ يُقدَّم على الاسم، فحينئذ يجوز دخولها على الاسم، وذلك نحو قولك: "إنَّ في الدار لزيدًا". وفي التنزيل: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً} (¬3)، و {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً} (¬4) و {إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا} (¬5)، و {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} (¬6) و {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} (¬7)؛ لأن الغرض قد حصل وهو الفصل بينهما بتقديم الخبر. ¬
الموضع الثالث: أن تدخل على معمول الخبر، وذلك إذا تقدّم بعد الاسم، نحوَ قولك: "إنّ زيدًا لَطعامَك آكِلٌ"، فالطعامُ معمول الخبر الذي هو "آكِلٌ"، ولمّا تقدّم عليه؛ وقع موقع الخبر، فجاز دخول اللام عليه؛ لأنه وقع موقعَ ما في مَظِنّتها وهو الخبر، فأمّا قول الشاعر [من البسيط]: إنّ امرأ خصّني ... إلخ هذا البيت أنشده سيبويه (¬1) لأبي زُبَيْد الطائيّ، والشاهدُ فيه دخول اللام على الظرف الذي هو "عِنْدِي"، والظرف يتعلق بـ "مكفور"، لكنّه لمّا تقدّم عليه، حسن دخول اللام عليه. والمعنى: على التنائي لغيرُ مكفور عندي، والمراد: لا أجحدُ مودّةَ مَن وَدَّني غائبًا. وذلك أن هذا الشاعر يمدح الوليد بن عُقْبَةَ، وصف نعمة اختصّه بها مودّةً على تَنائيه وبُعْدِه عنه. ومن هذا المعنى قول الآخر [من الطويل]: فليس أخِي مَن وَدَّني رَأْيَ عَيْنِه ... ولكنْ أخي مَن وَدَّنِي وهو غائِبُ (¬2) فإن قيل: الظرف منصوب بـ "مكفور" مخفوض بإضافةِ "غَيْر" إليه، ومعمولُ المضاف إليه لا يتقدّم على المضاف؛ فالجواب عنه من وجهَيْن: أحدهما: أنَّه ظرفٌ، والظروفُ قد اتُّسع فيها ما لم يُتسع في غيرها، حتى أجازوا الفصلَ بها بين المضاف والمضاف إليه، نحوَ [من السريع]: لله درُّ اليومَ مَن لامَها (¬3) والمراد: "مَن لامَها اليوم". والوجه الثاني: أنّه إنما جاز ذلك, لأنّ "غَيْرًا" في معنى "لا" النافية، فكأنّه قال: على التنائي لَعندي "مكفورٌ" وما بعد "لا"، و"لَنْ"، و"لَمْ" من حروف النفي يجوز تقديمُ معمولِ منفيها عليها، وعلى هذا أجازوا: "أنت زيدًا غيرُ ضاربٍ" ولم يجيزوا "أنت زيدًا مثلُ ضاربٍ". قال: ولو أخّرت الفضلة، فقلت: "آكِلْ لَطعامَك"، أو "إنّ زيدًا قائمٌ لَفي الدار"، لم يجز؛ لأن الفضلة تأخرت عن الجملة. وموضعُ اللام صدرُ الجملة، وإنّما أُخّرت إلى الخبر وما يقع موقعَ الخبر، فلا تؤخّر عن جميع الجملة رأسًا، فيكون بمنزلة اطراحها. ولو قلت: "إنّ زيدًا في الدار لقائمٌ"، جاز؛ لأن اللام لم تتأخر عن الجملة, لأنها داخلةٌ ¬
فصل [تعليق العامل بلام الابتداء]
على الخبر، ومثلُه: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} (¬1)، فدخلت اللام الخبرَ مع تأخيرها عن معمولها، وهو الجارّ والمجرور والظرف، فاعرفه. فصل [تعليق العامل بلام الابتداء] قال صاحب الكتاب: وتقول: "علمت أن زيداً قائم", فإذا جئت باللام؛ كسرت, وعلقت الفعل, قال الله تعالى: {والله يعلم أنك لرسوله والله يشهد أن المنافقين لكاذبون} (¬2) , ومما يحكى من جراءة الحجاج على الله تعالى أن لسانه سبق في مقطع "والعاديات" إلى فتحة {إنَّ} (¬3) , فأسقط اللام. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول إِن حق هذه اللام أن تقع صدرَ الجملة، وإنّما أُخّرت لضرب من استحسان، وهو إرادة الفصل بينها وبين "إنَّ" لاتّفاقهما في المعنى. وهم يكرهون الجمع بين حرفَين بمعنى واحد، فأُخّرت اللام إلى الخبر لفظًا، وهي في الحكم والنيّة مقدّمةٌ، والموجودُ حكمًا كالموجود لفظًا، فلذلك تُعلِّق العاملَ مؤخَّرةَ كما تُعلِّقه إذا كانت مصدَّرةً، فتقول: "قد علمت أنّ زيدًا قائمٌ" فتفتح "أنَّ" لتعلّقها بما قبلها. فإذا أُدخلت اللام؛ علّقت العاملَ، وأبطلت عمله في اللفظ، وأتيتَ بالمكسورة، نحوَ قولك: "قد علمت إنَّ زيدًا لَقائمٌ". قال الله تعالى: {أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} (¬4)، ومن ذلك {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (¬5)، فعلّق العامل في ثلاثة مواضع. والتعليقُ ضربٌ من الإلغاء؛ لأنه إبطال عمل العامل لفظًا لا محلًا، والإلغاء إبطال عمله بالكلّية، فكلُّ تعليق إلغاءٌ، وليس كلّ إلغاء تعليقًا. ويحكى أن الحجّاج بن يوسف قرأ: "أن ربّهم بهم يومئذ خبيرٌ"، بفتح "أنَّ" نَظَرًا إلى العامل، فلمّا وصل إلى الخبر؛ وجد اللام، فأسقطها تعمُّدًا لِيقالَ: إنّه غالطٌ ولم يلحَن, لأن أمر اللحن عندهم أشدُّ من الغلط، وإن كان في ذلك إقدامٌ على كلّام الله تعالى. وتُحْكَى هذه الحكاية عن بعض العرب، وقيل: إنّه ابن أخي ذي الرمّة، فاعرفه. ¬
فصل [العطف علي محل "إن" واسمها]
فصل [العطف علي محل "إن" واسمها] قال صاحب الكتاب: ولأن محل المكسورة وما عملت فيه الرفع, جاز في قولك: "إن زيداً ظريف وعمراً"، و"إن بشراً راكب لا سعيد أو بل سعيداً"، أن ترفع المعطوف حملاً على المحل. قال جرير [من الكامل]: 1109 - إن الخلافة والنبوة فيهم ... والمكرمات وسادة أطهار * * * قال الشارح: تقول: "إنَّ زيدًا ظريفٌ وعمرًا"، فتعطف بالواو على لفظ "زيد"، فجمعتَ بين الثاني والأول في عمل العامل، والمراد: "وإن عمرًا ظريفٌ"، فحذفت خبر الثاني لدلالة خبر الأوّل عليه. وحكمُ المعطوف أن يجوز حذفُ خبره إذا وافق خبرَ الأوّل، فإن خالفه، لم يجز الحذف؛ لأنه لا يدلّ عليه كما يدلّ على مُوافِقه، إذ الموافق له واحدٌ. والمخالفُ أشياءُ كثيرة، فلا تصحّ دلالته على واحد بعينه كما تصحّ دلالته على ما وافقه، لا فرقَ بين أن يكون حرف العطف موجِبًا للثاني معنى الأوّل كالواو والفاء وثُمَّ، وغير موجب كـ "لا" و"بَلْ" ونحوهما. فإذا قلت: "قام زيدٌ لا عمرٌو"، فقد نفيتَ عنه القيامَ الذي أثبتّه للأوّل، ولو أردت أن تنفي عن الثاني القيامَ، لم يجز إلَّا أن تذكره. وكذلك العطف بـ "بَلْ" إذا قلت: "إنَّ بشرًا راكبٌ بل سعيدًا"، فقد أثبتّ الركوب لسعيد، ويكون المراد الإخبار بذلك عن الثاني، وجَرْيُ الأوّل كالغلط. ويجوز الرفع بالعطف على موضع "إنَّ"؛ لأنها في موضع ابتداء. وتحقيقُ ذلك أنّها لمّا دخلت على المبتدأ والخبر لتحَقيق مؤدّاه وتأكيدِه من غير أن تُغيِّر معنى الابتداء؛ صار المبتدأُ ¬
كالملفوظ به، وصار "إنّ زيدًا قائمٌ"، و"زيدٌ قائمٌ" في المعنى واحدًا، فجاز لذلك الأمران: النصب والرفع، فالنصبُ على اللفظ، والرفع على المعنى. وقول صاحب الكتاب: و"لأنّ محلّ المكسورة وما عملتْ فيه الرفع جاز في قولك: إنَّ زيدًا ظريفٌ وعمرًا ... أن ترفع المعطوف" ليس بسديد؛ لأنّ "إنّ" وما عملتْ فيه ليس للجميع موضعٌ من الإعراب؛ لأنه لم يقعْ موقع مفرد، وإنّما المراد موضعُ "إنَّ" قبل دخولها، على تقديرِ سقوط "إنَّ" وارتفاعِ ما بعدها بالابتداء، وهو شبيهٌ بقوله [من الطويل]: ولا ناعِبٍ إلَّا ببَيْنٍ غُرابُها (¬1) على توهُّم دخول الباء في المعطوف عليه، إذ كان تقع فيه كثيرًا، كما تُوهّم سقوطُ "إنَّ" ههنا، فأما قوله [من الكامل]: إنّ الخلافة ... إلخ البيت لجرير، والشاهد فيه رفع "المكرمات" حملًا على موضعِ "إنَّ"؛ لأنها بمنزلة الابتداء, لأنها لم تُغيِّر معناه، فقدّرها محذوفةً، كأنّه قال: "الخلافةُ والنبوّةُ فيهم، والمكرماتُ وسادةٌ أطهارٌ". والنصب جائز على اللفظ. * * * قال صاحب الكتاب: وفيه وجه آخر ضعيفٌ, وهو عطفه على ما في الخبر من الضمير. * * * قال الشارح: يريد أن العطف على الضَمير المرفوع من غير تأكيده ضعيفٌ قبيحٌ، وقد تقدّمت قاعدةُ ذلك. * * * قال صاحب الكتاب: و"لكن" تشايع "إن" في ذلك دون سائر أخواتها. وقد أجرى الزجاج الصفة مجرى المعطوف, وحمل عليه قوله: {قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب} (¬2). وأباه غيره. وإنما يصح الحمل على المحل بعد مضي الجملة فإن لم تمض لزمك أن تقول "إن زيداً وعمراً قائمان" بنصب "عمرو" ولا غير. * * * قال الشارح: ويجوز العطف على موضعِ: "لكِنَّ" بالرفع، كما جاز في "إنَّ"، تقول: "لكنّ زيدًا قائمٌ وعمرٌو". و"لكِنَّ" لا تُغيِّر معنى الابتداء، فهي وسيلةُ "إنَّ" في ذلك أكثرَها ¬
في الأمر أنّ فيها معنى الاستدراك، والاستدراكُ لا يُزيل معنى الابتداء والاستئنافِ، فجاز أن يُعْطَف على موضعها كـ "إنَّ"؛ لأنّ "إنَّ" إنما جاز أن يعطف على موضعها دون سائر أخواتها, لأنها لم تُغيِّر معنى الابتداء بخلافِ "كأنّ"، و"ليت"، و"لعلّ". ومن النحويين من لم يجز العطف على موضعِ "لكنّ"، ويدّعي زوالَ معنى الابتداء، لإفادة معنى الاستدراك فيها. والمذهب الأوّل, لأن الاستدراك ليس معنًى يرجع إلى الخبر، وإنما هو رجوعٌ عن معنى الكلام الأوّل إلى كلام آخر، وتدارُكُه. وذلك أمرٌ لا يتعلّق بالخبر. وقوله: "ولكِنَّ" تشايع "إنَّ" في ذلك"، يريد: تُصاحِبها في ذلك وتُتابِعها، وهو من قولهم: "حَياكم اللهُ، وأشاعَكم السلامَ"، أي: أصحبَكم، وأتبعَكم. وقوله: "وقد أجرى الزجّاج الصفة مجرى المعطوف" يريد صفة الاسم المنصوب بـ "إنَّ". وذلك أنّ سيبويه (¬1) ومن يرى رأيَه كان يجوّز العطف على موضعه بالرفع، ولا يجوّز ذلك في الصفة، لو قلت: "إنَّ زيدًا العاقلُ في الدار" لم يجز عنده، وتقول: "لا رجلَ ظريفٌ في الدار" فتصف المنفيّ على الموضع. والفرقُ بينهما أنّ "لا" مع الاسم الذي دخلتْ عليه بمنزلة شيء واحد، إذ قد بُنيا معًا كبناء "خمسةَ عشرَ" في تركيب أحدهما مع الآخر، وليس كذلك اسمُ "إنَّ"؛ لأنه منفصلٌ. يدلّ على ذلك جوازُ تقديم الخبر إذا كان ظرفًا، كقولك: "إنَّ في الدار زيدًا"، ولا يجوز مثلُ ذلك في "لا رجلَ" للبناء. فأمّا جواز العطف على الموضع، فلأنّ المعطوف منفصلٌ من المعطوف عليه، إذ ليس من اسمه، وقد فصله حرفُ العطف منه، والصفةُ من اسم الموصوف؛ لأنهما يرجعان إلى شيء واحد. وقد أجاز ذلك الزجّاج وغيره من النحويين، وقاسه على العطف، وحمل عليه قولَه تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (¬2). والمذهب الأوّل. فأمّا قوله تعالى: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، فهو محمول على البدل من المضمر في "يقذف"، أو على أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي: هو علّامُ الغيوب، أو خبرٌ بعد خبر. ويجوز نصبه على أن يكون حالًا من المضمر في الظرف، والنيّةُ في الإضافة الانفصال، والمراد به الحال. وقوله: إنّما يصحّ الحمل على المحلّ بعد مضيّ الجملة، فالمراد أن العطف على الموضع لا يجوز قبل تمام الكلام, لأنه حملٌ على التأويل، ولا يصحّ تأويل الكلام إلَّا بعد تمامه، فعلى هذا تقول: "إنَّ زيدًا وعمرًا منطلقان"، ولا يجوز الرفع في "عمرو" بالعطف على الموضع؛ لأن الكلام لم يتمّ، إذ الخبر متأخّر عن الاسم المعطوف، ولكن ¬
لو قلت: "إنَّ زيدًا وعمرو منطلقٌ" على التقديم والتأخير، جاز، كأنّك قلت: "إنّ زيدًا منطلقٌ وعمرٌو". قال ضابِىءُ بن الحارث البُرْجُميّ [من الطويل]: فمَن يَكُ أمْسَى في المدينة رَحْلُه ... فإنّي وقَيّارٌ بها لَغَرِيبُ (¬1) والمراد: فإنّي لَغريبٌ بها، وقيّارٌ أيضًا، فإنّك لو عطفت على الموضع قبل التمام، لاستحال، إذ الخبر قد يكون خبرًا عن منصوبٍ ومرفوعٍ قد عمل فيهما عاملان مختلفان، فيجيء من ذلك أن يعمل في الخبر عاملان مختلفان، وهذا محالٌ. وقد أجاز ذلك الكوفيون (¬2). فأمّا أبو الحسن من أصحابنا والكسائيّ، فأجازاه مطلقًا على كلّ حال، سواءٌ كان يظهر فيه عملُ العامل، أو لم يظهر، نحوَ قولك: "إنّ زيدًا وعمرٌو قائمان"، و"إنّك وبكرٌ منطلقان". وذهب الفرّاء من الكوفيين إلى أن ذلك إنما يجوز إذا لم يظهر عملٌ، نحوَ قولك: "إنّك وزيدٌ ذاهبان"، واحتجّوا لذلك بقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} (¬3)، فـ "الصابئون" رفعٌ بالعطف على موضع "إنَّ" ولم يأت بالخبر الذي هو"مَن آمن بالله". وروي عن بعض العرب: "إنّك وزيدٌ ذاهبان" وهذا نصٌّ على ما ذهبوا إليه. * * * قال صاحب الكتاب: وزعم سيبويه (¬4) أن ناساً من العرب يغلطون فيقولون: "إنهم أجمعون ذاهبون", و"إنك وزيد ذاهبان". وذلك أن معناه معنى الابتداء، فيرى أنه قال "هم", كما قال [من الطويل]: ولا سابق شيئاً [إذا كان جائيا] (¬5) قال: وأما قوله تعالى: {وَالصَّابِئُونَ} (¬6). فعلى التقديم والتأخير, كأنه ابتدأ {وَالصَّابِئُونَ} , بعد ما مضى الخبر. وأنشد [من الوافر]: 1110 - وإلا فاعلموا أنّا وأنتم ... بُغاةٌ ما بقينا في شقاق * * * ¬
قال الشارح: كأنّه أخذ في الجواب عن شُبَهٍ تَعلّق بها الخَصمُ. فأمّا قولهم: "إنّهم أجمعون ذاهبون"، فشاهدٌ للزجّاج في جوازٍ حملِ النعت على موضع "إنَّ"؛ لأن التأكيد والنعت مجراهما واحدٌ. وقولهم: "إنَّك وزيدٌ ذاهبان"، فشاهدٌ لمذَهب الكوفيين في جواز حمل العطف على موضع "إنَّ" قبل الخبر، وكذلك الآية. فحمل سيبويه قولهم: "إنّهم أجمعون ذاهبون" على أنه غلطٌ من العرب، فقال: واعلمْ أنْ ناسًا من العرب يغلطون، فقولون: "إنّهم أجمعون ذاهبون"، و"إنّك وزيدٌ ذاهبان". ووجةُ الغلط أنهم رأوا أنّ معنَى "إنّهم ذاهبون" هُمْ ذاهبون، فاعتُقد سقوط "إنَّ" من اللفظ، ثمّ عطف عليه بالرفع كما غلط الآخر في قوله [من الطويل]: ولا ناعب إلَّا ببَيْنٍ غُرابُها (¬1) فقدّر ثبوت الباء في الأول، إذ كانت الباء تدخل في خبر "لَيْس". كثيرًا. ومثلُ الأوّل قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬2)، كأنّه اعتقد سقوطَ الفاء، فعطف عليه بالجزم؛ لأنه لولا الفاء، لكان مجزومًا، وقال بعضهم: إنّ وجه الغلط أنّ لفظَ "هُمْ" المتّصلِ مع "إنَّهُمْ" المنصوبِ الموضع قد يكون منفصلًا مرفوعَ الموضع، فجعل "إنَّهُمْ" في تقدير "هُمْ أجمعون". ¬
فصل [دخول "إن" علي "أن"]
وكذلك اعتُقد سقوطُ "إنَّ" في قولك: "إنّك وزيدّ ذاهبان"؛ لأن معناهما واحدٌ. فأمّا قوله تعالى: {وَالصَّابِئُونَ} (¬1)، فيحتمل أُمورًا: أحدها أن يكون المراد التقديم والتأخير، ويكون المعنى: الذين آمنوا والذين هادوا مَن آمن بالله واليومِ الآخر منهم، فلا خوفَ عليهم ولا هم يحزَنون. و"الصابئون والنصارى" مبتدأً، وخبرُه هَذا الظاهر. ويجوز أن يكون الظاهر خبرَ "إنَّ" يكون في النيّة مقدّمًا، ويكون "الصابئون والنصارى" رفعا بالابتداء، كأنّه كلامٌ مستأنَفٌ. والمراد: "والصابئون والنصارى كذلك"، على حدّ قوله [من الطويل]: غَدَاةَ أحَلَّتْ لابْن أصْرَمَ طَعْنَةٌ ... حُصَيْنٍ عَبِيطاتِ السَّدائفِ والخَمْرُ (¬2) أي: والخمرُ كذلك، وهو كثيرٌ. فأمّا قول الشاعر [من الوافر]: وإلَّا فاعلموا ... إلخ البيت لبِشْر بن أبي خازم، والشاهد فيه رفع "بغاة" على خبرِ "أنَّ"، والنيّةُ به التقديم، ويكون "أنْتُمْ" ابتداءً مستأنَفًا، وخبرُه محذوف دلّ عليه خبرُ "أنَّ". ويجوز أن يكون خبرِ "أنَّ" هو المحذوف، و"بغاةٌ" الظاهرُ خبرَ "أنتم". وساغ حذفُ الأوّل لدلالة الثاني عليه. والبُغاة: جمعُ باغ، وهو الباغي بالفَساد، وأراه من "بَغَى الجُرْحُ" إذا وَرِمَ، وتَرامى إلى فسادٍ. والشقاق: الخِلاف، وأصله من المَشقّة، كأنّ كلّ واحد منهما يأتي بما يشُقّ على الآخر، أو من الشِّقّ، وهو الجانب، كأنّ كلّ واحد يكون في شِقٍّ غيرِ شقّ الآخر. فصل [دخول "إنّ" علي "أنَّ"] قال صاحب الكتاب: ولا يجوز إدخال "إن" على "أن" فيقال: "إنّ أنّ زيداً في الدار", إلا إذا فُصل بينهما, كقولك: "إن عندنا أن زيداً في الدار". * * * قال الشارح: قد تقدّم الكلام على "أنَّ" المفتوحة، وأنها لا تقع أوّلاً، ولا تكون إلَّا مبنيّة على كلام. ولا تدخل "إنَّ" المكسورةُ عليها، وإن كانت في تقديرِ اسم مفرد لاتّفاقهما في المعنى، وهم لا يجمعون بين حرفَيْنِ بمعنى واحد. فإذا أُريد ذلك؛ فصلوا بينهما، فقالوا: "إنَّ عندنا أنَّ زيدًا في الدار". فـ "أنَّ" واسمها وخبرها في تأويلِ اسم "إنَّ"، والظرفُ خبرٌ. وإذا كانوا امتنعوا من الجمع بين اللام و"إنَّ"، مع تبايُنِ لفظَيْهما؛ فلأن لا يجمعوا بين "إنَّ" المكسورة والمفتوحة مع اتّحاد ¬
فصل [تخفيف "إن" و"أن"]
اللفظ والمعنى كان ذلك أوْلى. وربّما أوهم اجتماعُ "إنّ" المكسورة والمفتوحة تقصيرَ إِحداهما عن تفخيم المعنى. وليس الأمر كذلك، إذ اللام تُفخِّم المعنى، إذا قلت: "لَزيدٌ خيرٌ منك"، كما تفخّم "إنَّ" في قولك: "إنّ زيدًا خيرٌ منك". فسبيلُ اجتماعهما في الكلام سبيلُ اجتماع "إنَّ" واللام، وليس كذلك التأكيدُ لتمكين المعنى، نحوِ: "زيدٌ زيدٌ"، أو لإزالة الغلط في التأويل، نحوِ: "أتاني القومُ كلّهم أجمعون". فصل [تخفيف "إن" و"أن"] قال صاحب الكتاب: وتخففان, فيبطل عملهما. ومن العرب من يعملهما. والمكسورة أكثر إعمالاً. ويقع بعدهما الاسم والفعل. والفعل الواقع بعد المكسورة يجب أن يكون من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر. وجوّز الكوفيون غيره. وتلزم المكسورة اللام في خبرها, والمفتوحة يُعوَّض عما ذهب منها أحد الأحرف الأربعة: حرف النفي, و"قد" و"سوف", والسين. تقول: "إن زيدٌ لمنطلقٌ". وقال الله تعالى: {وإن كل لما جميع لدينا محضرون} (¬1) وقرىء: {وإن كلا لما ليوفينهم} (¬2) على الإعمال. وأنشدوا [من الطويل]: 1111 - فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ... فراقك لم أبخل وأنت صديق ¬
وقال الله تعالى: {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} (¬1) , وقال: {وإن نظنك لمن الكاذبين} (¬2) , وقال: {وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين} (¬3). وأنشد الكوفيون [من الكامل]: 1112 - بالله ربك إن قتلت لمسلمًا ... وجبت عليك عقوبة المتعمد ورووا: "إن تزينك لنفسك, وإن تشينك لهيه", وتقول: "علمت أن زيدٌ منطلقٌ", والتقدير: "أنه زيدٌ منطلقٌ". وقال الله تعالى: {وآخر دعواهم إن الحمد لله رب العالمين} (¬4). ¬
وقال [من البسيط]: 1113 - في فتية كسيوف الهند قد علموا ... أن هالكٌ كُلُّ من يحفى وينتعل وعلمت: "أن لا يخرج زيدٌ, وأن قد خرج, وأن سوف يخرج, وأن سيخرج". قال الله تعالى: {أيحسب أن لم يره أحد} (¬1) , وقال: {علم أن سيكون منكم مرضى} (¬2). * * * قال الشارح: اعلم أن الحذف والتغيير في الحروف ممّا يأباه القياسُ، وقد جاء ذلك قليلًا، وأكثرُه فيما كان مضاعفًا من نحو "أإنَّ" وأخواتها، و"رُبَّ"، ولم يأتِ في "ثُمَ"؛ لأنه إنّما ساغ فيما ذكرنا لثقل التضعيف مع شَبَهها بالأفعال من جهة اختصاصها بالأسماء، وليس ذلك في "ثُمَّ". فأمّا "أإنَّ"، فهي على ضربَيْن: مكسورة ومفتوحة، وقد جاء التخفيف فيهما جميعًا. فأمّا المكسورة إذا خُفّفت؛ فلك فيها وجهان: الإعمال والإلغاء، والإلغاء فيها أكثر، وذلك لأنها وإن كانت تعمل بلفظها وفتحِ آخرِها؛ فهي إذا خُفّفت؛ زال اللفظ. ولا يلزم ¬
مثلُ ذلك في الفعل إذا خُفّف بحذف شيء منه؛ لأن الفعل لم يكن عملُه للفظه بل لمعناه، فإذا أُلغيت؛ صارت كحرف من حروف الابتداء، يليها الاسمُ والفعلُ، ويلزمها اللامُ فصلًا بينها وبين "إن" النافيةِ، إذ لو قلت: "إنّ زيدٌ قائمٌ"، لالتبس الإيجابُ بالنفي. فمثالُ الاسم قولك: "إنْ زيدٌ لَقائمٌ"، ومثله قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (¬1)، المعنى: لَعليها حافظٌ، و"ما" زائدةٌ. ومنه قوله تعالى: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (¬2)، أي: لَجميعٌ لدينا محضرون. ومثال دخولها على الفعل قوله تعالى: {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (¬3)، وقال: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} (¬4). ولا تكون هذه الأفعال الواقعة بعدها إلَّا من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر، لأن "إنَّ" مختصّةٌ بالمبتدأ والخبر، فلمّا أُلغِيَتْ، ووليها فعلٌ؛ كان من الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر, لأنّها وإن كانت أفعالًا، فهي في حكم المبتدأ والخبر؛ لأنها إنما دخلت لتعيين ذلك الخبر، أو الشكّ فيه لا لإبطال معناه. وقد أجاز الكوفيون وقوعَ أيٍّ الأفعال شئت بعدها، وأنشدوا [من الكامل]: بالله ربّك إن قتلت ... إلخ وذلك شاذّ قليل. وأمّا إعمالها مع التخفيف، فنحوُ: "إنْ زيدًا منطلقٌ". حكى سيبويه (¬5) ذلك في كتابه، قال: حدّثنا مَن نَثِقُ به أنّه سمع من العرب وقُرّاءِ أهل المدينة، {وإن كلا لما جميع لدينا محضرون} (¬6) يُجْرونها على أصلها، ويشبّهونها بفعل حُذف بعض حروفه، وبقي عملُه، نحوِ: "لم يَكُ زيد منطلقًا"، و"لم أُبَلْ زيدًا". والأكثرُ في المكسورة الإلغاءُ. قال سيبويه (¬7): وأمّا اْكثرُهم فأدخلوها في حروف الابتداء بالحذف كما أدخلوها في حروف الابتداء حين ضمّوا إليها "ما" في قولك: "إنّما زيدٌ أخوك". وإذا أُعْمِلت، لم تلزمها اللام؛ لأن الغرض من اللام الفصل بين "إن" النافيةِ وبين ¬
التي للإيجاب، وبالإعمال يحصل الفرقُ، وإن شئت أَدخلت اللام مع الإعمال، فقلت: "إنْ زيدًا لقائمٌ". وأهل الكوفة (¬1) يذهبون إلى جواز إعمال "إن" المخفّفة، ويرون أنها في قولهم: "إنْ زيدًا لَقائمٌ" بمعنى النفي، و"إنْ" واللام بمعنى "إلَّا"، فالمعنى: ما زيدٌ إلَّا قائمٌ. والصواب مذهب البصريين؛ لأنه وإن ساعَدَهم المعنى، فإنه لا عَهْدَ لنا باللام تكون بمعنَى "إلَّا". ولو ساغ ذلك ههنا، لجاز أن يُقال: "قام القوم لَزيدًا" على معنى: "إلَّا زيدًا". وذلك غير صحيح، فاللام هنا المؤكدة دخلت لمعنى التأكيد، ولزمتْ للفصل بينها وبين "إنْ" التي للجحد. والذي يدلّ على ذلك أنها تدخل مع الإعمال في نحو "إنْ زيدًا لَقائمٌ"، وإن لم يكن ثمّ لبسٌ. وأمّا المفتوحة، فإذا خُفّفت، لم تُلْغَ عن العمل بالكلّيّة، ولا تصير بالتخفيف حرفَ ابتداء، إنما ذلك في المكسورة، بل يكون فيها ضمير الشأن والحديثِ، نحوَ قوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} (¬2)، وقوله: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (¬3)، والمراد: أنّهُ، أي: أنّ الأمر والشأن، وهو الجيّد الكثير، فإن لم يكن فيه ضميرٌ، أعملته فيما بعده، نحوَ قوله [من الطويل]: فلو أنك في يوم الرخاء ... إلخ فـ "الكاف" في موضعِ نصبِ اسمِ "أنْ". قال سيبويه (¬4): وليس هذا بالجيّد ولا بالكثير كالمكسورة، يعني إعمالها ظاهرًا فيما بعدها. وإنما أجازوا في "أن" الإضمارَ من قبل أن اتصال المكسورة باسمها وخبرها اتّصالٌ واحدٌ، واتّصال المفتوحة بما بعدها اتّصالان؛ لأن أحدهما اتّصال العامل بالمعمول، والآخر اتّصال الصلة بالموصول. ألا ترى أن ما بعد المفتوحة صلةٌ لها، فلمّا قوي مع الفتح اتّصالُ "أنّ" بما بعدها؛ لم يكن بدّ من اسم مقدر محذوف تعمل فيه. ولمّا ضعُف اتّصال المكسورة بما بعدها؛ جاز إذا خُفِّفت أن تُفارِق العملَ، وتخلُص حرفَ ابتداء. ووجهٌ ثانٍ أنها إذا كانت مفتوحة، لم تقع أوّلًا في موضع الابتداء، فيُجْعَلَ ما يليها مبتدأً، وتُلْغَى هي كـ "إنْ" إذا كسرتها، وخفّفتَ؛ لأن المكسورة تدخل على المبتدأ، وتؤكّده، ومعنى الجملة باقٍ. فإذا أُلغيت، ولم تعمل فيما بعدها، فالمبتدأُ واقعٌ موقعَه، وليس ¬
كذلك المفتوحة, لأنها وإن كانت تدخل على المبتدأ، إلَّا أنها تُحِيل معنى الجملة إلى الإفراد، وتكون مبنيّة على ما قبلها. فلو أُلغيث، لَوقع بعدها الجملة، وليس ذلك من مواضع الجُمَل. ثمّ نعود إلى تفسير هذا الفصل من كلّامه حرفًا حرفًا، وإن كنّا قد بيّنّا قوله: "وتخفّفان فيبطل عملهما"، يريد: ظاهرًا، إلَّا أن المفتوحة لا يبطل عليه جملةُ عملها بالكلّيّة، فهذا أُلغي عملها في الظاهر؛ كانت مُعْمَلةً في الحكم والتقديرِ لِما ذكرناه من الفرق بين المكسورة والمفتوحة. قوله: "ومن العرب من يُعْمِلها"، يريد: في الظاهر، نحوَ قوله [من الطويل]: فلو أنك في يوم الرخاء ... إلخ إنّما ذلك في "إنَّ" المكسورة على ما ذكرنا، على أن الكوفيين قد ذهبوا إلى أنه لا يجوز إعمال "إن" الخفيفة النصبَ في الاسم بعدها، واحتجّوا بأنّه قد زالت المشابهةُ بينها وبين الفعل بنقص لفظها. وما ذكرناه من النصوص يشهد عليهم. وقوله: "وتلزم المكسورةَ اللامُ في خبرها"، قد ذكرنا أن هذه اللام هي لام التأكيد التي تأتي في خبر المشدّدة، وليست لامًا غيرها أُتي بها للفصل. يدّل على ذلك دخولها مع الإعمال في "إنَّ زيدًا لقائمٌ"، ولو كانت غير مؤكّدة؛ لم تدخل إلَّا عند الحاجة إليها، وهو الفصلُ، ندخول اللام كان للتأكيد. وأمّا لزومها الخبرَ، فكان للفصل، فاعرفه. قوله: "والمفتوحة يُعوَّض عمّا ذهب منها أحد الأحرف الأربعة: حرفِ النفي، وقَدْ، وسَوْفَ، والسين"، فإنّه أطلق اللفظ، وفيه تفصيلٌ. وذلك أنه لا يخلو بعد التخفيف من أن يليها اسمٌ أو فعل. فإن وليها اسمٌ؛ لم تحتج إلى العوض, لأنها جاءت على مقتضى القياس فيها، وذلك نحو قوله [من البسيط]: في فتية كسيوف الهند ... إلخ والمراد أنْه هالك، فالهاء مضمرة مرادة، و"هالكٌ" مرفوعٌ لأنه خبر مقدّم، والتقدير: كلّ من يحفى وينتعل هالكٌ. ومن ذلك قوله تعالى: {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا} (¬1) {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ} (¬2) فيمن قرأ بتخفيف النون والرفعِ. والمراد: أنَّهُ ¬
غَضَبُ الله عليها، ولا يجوز أن تكون "أنّ" بمعنَى "أيْ" كالّتي في قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} (¬1). قال سيبويه (¬2): لأنّها لا تأتي إلَّا بعد كلام تامّ، وليس الخامسة وحدها بكلام تامّ، فتكونَ بمعنى "أيْ". فأمّا إذا وليها فعلٌ؛ أُتي بالعوض، كأنّهم استقبحوا أن تلي "أنَّ" المخفّفةُ الفعلَ إذا حُذفت الهاء، وأنت تريدها، كأنّهم كرهوا أن يجمعوا على الحرف الحذفَ، وأن يليه ما لم يكن يليه، وهو مُثقَّلٌ، فأتوا بشيء يكون عوضًا من الاسم، نحوِ: "لا"، وقَدْ"، والسين، و"سَوْفَ"، نحوَ قولك: "قد عرفت أنْ لا يقومُ زيدٌ، وأنْ سيقومُ زيدٌ، وأنْ قد قام زيدٌ". ومنه قوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (¬3)، وقوله: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} (¬4). فمنهم من يجعل هذه الأشياء عوضًا من الاسم، ومنهم من يجعلها عوضًا عن توهينها بالحذف، وإيلائها ما لم يكن يليها من الأفعال قبلُ. والآيات التي أوردها شواهدُ على الأحكام التي ذكرها. فأمّا قوله تعالى في يس: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} (¬5) فـ "كلٌّ" رفع بالابتداء، لا أعلمُ في ذلك خلافًا؛ وأمّا التي في سورة هُود، فقد قُرىء {وَإِنْ كُلٌّ} (¬6) بالرفع، {وَإِنَّ كُلًّا} بالنصب. وقد تقدّم الكلام عليها. وقد قرئ: "لَمَّا" بالتشديد (¬7)، ويحتمل أن تكون "لمَّا" بمعنى "إلَّا" للاستثناء، نحوَ قولهم: "عزمتُ عليك لمّا ضربتَ كاتبَك"، يريد: إلَّا ضربتَ كاتبَك. و"إن"، نافية، والتقدير: وما كلّ إلَّا لَيُوَفُيَنَّهُمْ. ويجوز أن تكون "إنَّ" المخفّفة من الثقيلة، و"لَمَّا" بمعنى "إلَّا"، وهي زائدة؛ لأنّ "إلَّا" تُستعمل زائدةً، نحوَ قول الشاعر [من الطويل]: 1114 - أرَى الدَّهْرَ إلَّا مَنْجَنُونًا بأهْلِه ... وما صاحبُ الحاجات إلَّا معذَّبَا ¬
وأمّا قول الشاعر [من الطويل]: فلو أنك في يوم الرخاء (¬1) ... إلخ البيت ذكره محمّد بن القاسِم الأنباريّ عن الفراء. الشاهدُ فيه إعمال "أن" المخفّفة في الظاهر, لأن الكاف في موضع نصب، وقد حكى بعضُ أهل اللغة: "أظنُّ أنْكَ قائمٌ، وأحسبُ أنْهُ ذاهبٌ". وقال الشاعر [من المتقارب]: 1115 - بأنْكَ رَبِيعٌ وغَيْثٌ مَرِيعٌ ... وأنْكَ هناك تكون الثّمالَا ¬
وهو قليل شاذّ. وأما قوله [من الكامل]: بالله ربّك إنَّ قتلت (¬1) ... إلخ فأنشده الكوفيون شاهدًا على إيلاء "إن" المكسورة فعلًا من غير الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر، وقد أنشده ابن جِنّي في سِرّ الصناعة [من الكامل]: شلَّتْ يمينُك إنْ قتلتَ لَمُسْلِمًا (¬2) ومثله ما حُكي عن بعض العرب: "إنْ تَزِينُكَ لَنَفْسُكَ، وإنْ تَشينُك لَهِيَهْ". والبيت شاذ نادرٌ وهو من أبيات لعاتِكَةَ وقبله: يا عمرُو لو نَبَّهْتَه لَوجدتَه ... لا طائشًا رَعِشَ الجَنانِ ولا اليَدِ وكذلك الحكاية. وقال الفرّاء: هو كالنادر؛ لأن العرب لا تكاد تستعمل مثلَ هذا إلَّا مع فعل ماض، وذلك أنّ "إن" المخفّفة لمّا تُشاكِل التي للجزاء، استوحشوا أن يأتوا بها مع المضارع ولا يُعْمِلوها فيه، فأتوا بها جمع لفظ الماضي؛ لأنها لا عَمَلَ لها فيه، فلذلك كانت هنا كالنادر، ثمّ أعْلَمَك أنّ "أنْ"، إذا وليها الاسم وأُلغيت عن العمل ظاهرًا، لا يأتون بعوضٍ، نحوَ: "علمت أنْ زيدٌ قائمٌ"، والتقدير: أنّه زيدٌ قائمٌ. ومنه قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3)، أي: أنَّهُ، فـ "أنْ" وما بعدها في موضع رفع بأنّه خبر المبتدأ الذي هو "آخِرُ دعواهم"، فلا تكون "أنْ" ههنا بمعنَى "أيْ" للعبارة؛ لأنه يبقى المبتدأ بلا خبر. ونحوُه قوله: في فتية كسيوف الهند (¬4) ... إلخ فأمّا إذا وليها الفعل، فلا بدّ من العوض على ما ذكرنا، نحوِ: "علمت أنْ لا يخرجُ زيدٌ، وأنْ قد خَرَجَ". قال أبو صَخْر الهُذَليّ [من الكامل]: 1116 - فتَعَلَّمِي أنْ قد كَلِفْتُ بِكُمْ ... ثُمَّ افْعَلِي ماشئتِ عن عِلْمِ ¬
فصل [مشاكلة الفعل الذي يدخل علي "إن" لها في التحقيق]
و"أنْ سوف يخرجُ". و"أنْ سيخرجُ". قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} (¬1)، وقال: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (¬2)، فعوّضت مع الفعل ولم تعوّض مع الاسم, لأنه مع الاسم لحِقها ضربٌ واحدٌ من التغيير، وهو الحذف، ومع الفعل ضربان: الحذف ووقوع الفعل بعدها، فاعرفه. فصل [مشاكلة الفعل الذي يدخل علي "إنّ" لها في التحقيق] قال صاحب الكتاب: والفعل الذي يدخل على المفتوحة مشددة أو مخففة يجب أن يشاكلها في التحقيق, كقوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬3) , قوله تعالى: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} (¬4) , فإن لم يكن كذلك, نحو: "أطمع", و"أرجو" و"أخاف" فليدخل على "أن" الناصبة للفعل كقوله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي} (¬5) , وكقولك: "أرجو أن تحسن إليَّ, وأخاف أن تسيء إليَّ". وما فية وجهان كـ "ظننت", و"حسبت", و"خلت", فهو داخل عليهما جميعاً تقول: "ظننت أن تخرج وأنك تخرج وأنك ستخرج", وقريء قوله تعالى: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬6) بالرفع والنصب (¬7). * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم أن "أنّ" المفتوحة معمولةٌ لِما قبلها، وأنّ معناها التأكيد والتحقيق، مجراها في ذلك مجرى المكسورة، فيجب لذلك أن يكون الفعل الذي تُبْنَى عليه مطابقًا لها في المعنى بأن يكون من أفعال العلم واليقين ونحوِهما، ممّا معناه الثبوت والاستقرار؛ ليَطابَق معنيا العامل والمعمول، ولا يتناقضا. وحكمُ المخفّفة من الثقيلة في التأكيد والتحقيق حكم الثقيلة؛ لأن الحذف إنما كان لضرب من التخفيف، فهي لذلك فهي حكم المثقّلة، فلذلك لا يدخل عليها من الأفعال إلَّا ما يدخل على المثقّلة، فتقول: "تيقّنتُ أنْ لا تفعلُ ذاك"، كأنّك قلت: "أنَّك لا تفعل ذاك". قال الله تعالى: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} (¬1)، وقال: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬2)، وقال: {أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا} (¬3)، وهو من رؤية القلب بمعنى العلم، فـ "أَنْ" ههنا المخفّفة من الثقيلة، واسمها منويٌّ معها. ولا يقع قبلها شيء من أفعال الطَّمَع والإشفاق، نحوِ: "اشتهيتُ"، و"أردتُ"، و"أخافُ"؛ لأنّ هذه الأفعال يجوز فيها أن يوجَد ما بعدها وأن لا يوجد، فلذلك لا يقع بعدها إلَّا "أن" الخفيفة الناصبة للأفعال، لأنَّه لا تأكيد فيها ولا مضارَعةَ لِما فيه تأكيدٌ، فتقول: "أرجُو أنْ تًحْسِنَ إليّ، وأخافُ أنْ تُسيءَ إليّ". قال الله تعالى: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي} (¬4)، فهذا كلّه منصوب لا يجوز رفعه، وإذا قلت: "علمت أنْ سيَقُومُ"، فإنّه مرفوع لا يجوز نصبه؛ لأنّ ذلك ليس من مواضع الشكّ. ومن الأفعال ما قد يقع بعدها "أن" المشدّدة والمخفّفة منها بمعناها، ويقع بعدها أيضًا الخفيفة الناصبة للأفعال المستقبلة، وهي أفعال الظنّ والمَحْسَبة، نحوُ: "ظننت"، و"حسبت"، و"خِلْت"، فهذه الأفعال أصلها الظنّ. ومعنى الظنّ أن يتعارض دليلان، ويترجّح أحدُهما على الآخر، وقد يقوى المُرْجَحُ فيستعمل بمعنى العلم واليقين، نحوَ قوله: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} (¬5). وربما ضعُف، فصار ما بعدها مشكوكًا في وجوده، يحتمل أن لا يكون كأفعال الخوف والرجاء، فعلى هذا تقول إذا أُريد العلم: "ظننت أنّ زيدًا قائمٌ"، و"أظنُّ أنْ سيقومُ زيدٌ". قال الله تعالى: {فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا} (¬6)، وقال: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} (¬7)، والمراد بالظنّ هنا العلم؛ لأنه وَقْتُ رفعِ الشُّكوك. وقد قرئ: {وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ} (¬8) رفعًا ونصبًا (¬9)؛ فالرفع على أن ¬
فصل ["إن" بمعني "أجل" و"أن" بمعني "لعل"]
الحِسْبان بمعنى العلم، و"أن" المخفّفة من الثقيلة العاملة في الأسماء، و"لا" عوضٌ من الذاهب، والتقديرُ: وحسبوا أنَّهُ لا تكون فتنة. والنصب على الشكّ بإجرائه مجرى الخوف، و"أن" العاملة في الفعل النصبَ. فصل ["إنّ" بمعني "أجلْ" و"أنّ" بمعني "لعلَّ"] قال صاحب الكتاب: وتخرج "إن" المكسورة إلى معنى "أجل". قال [من مجزوء الكامل]: ويقُلنَ: شيبٌ قد علا ... ك وقد كبرت, فقلت: إنه (¬1) وفي حديث عبد الله بن الزبير: "إن وراكبها" (¬2). وتخرج المفتوحة إلى معنى "لعل", كقولهم: "إيت السُّوق أنك تشتري لحماً", وتبدل قيس وتميمٌ همزتها عيناً, فتقول: "أشهد عن محمداً رسول الله". * * * قال الشارح: وقد تستعمل "إنَّ" في الجواب بمعنى "أجَلْ"، فتقول في جوابِ من قال: "أجاءك زيدٌ": "إنَّهْ"، أي: نَعَمْ قد جاءني. والهاء للسكت أُتي بها لبيان الحركة، وليست ضميرًا، إنما تريد: "إنَّ"، إلَّا أنّك ألحقتَها الهاء في الوقف، والمعنى بمعنى "أجَلْ". والذي يدلّ على ذلك أنّها لو كانت للإضمار، لَثبتت في الوصل كما تثبت في الوقف، وأنت إنما تقول: "إنَّ يا فَتى"، كما تقول: "أجَلْ يا فتى"، فأما قوله [من مجزوء الكامل]: ويقلن شيب (¬3) ... إلخ وقبله: بَكَرَ العَواذِلُ في الصَّبُو ... ح يَلُمْنَني وألومُهُنَّهْ ويروى: بكرتْ عليّ عَواذلي ... يَلْحِيْنَني وألومُهُنّهْ فالشعر لابن قيس الرُّقَيّات، والشاهد فيه قوله: "إنَّهْ" بإلحاق الهاء محافَظة على ¬
الحركة، لئلّا يُذْهِبها الوقف، فيجتمعَ ساكنان، إذ كانوا لا يقفون إلَّا على ساكنٍ. بكر العواذل أي: أخذ العواذل في اللَّوْم في هذا الوقت الذي هو بُكْرةٌ، وإنما كثُر ذلك حتى يُقال: "وإنْ بَكَرْتُمْ بُكْرَةٌ". والصَّبُوح: الشُّرْب صباحًا، أي: يلمنني على ذلك بعد المَشِيب، فقلت: نَعَمْ هو كذلك. وإنّما خرجتْ "إنَّ" إلى معنَى "أجَلْ"؛ لأنّها تحقيق معنى الكلام الذي تدخل عليه في قولك: "إنَّ زيدًا راكبٌ". فلفا كانت تُحقِّق هذا المعنى؛ خرجت إلى تحقيق معنى الكلام الذي يتكلّم به المخاطبُ القائلُ، كما كانت تُحقِّق معنى كلام المتكلّم، فصارت تارةً تُحقّق كلام المتكلّم، وتارةً تحققّ معنى كلام غيره. وأمّا حديث عبد الله بن الزَّبِير فقد ذكرناه في فصلِ المنصوب بـ "لا". وقد تستعمل "أنَّ" المفتوحة بمعنى "لَعَلَّ". يُقال: "إيتِ السُّوقَ أنّك تشتري لنا كذا"، أي: لَعَلَّكَ. وقيل في قوله تعالى: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬1) على "لعلّها". ويؤيّد ذلك قراءةُ أُبَىّ (¬2): {لَعَلَّهَا}، كأنّه أبْهَمَ أمرُهم، فلم يُخْبِر عنهم بالإيمان ولا غيرِه. ولا يحسن تعليقُ "أنَّ" بـ "يشعركم"؛ لأنّه يصير كالعُذْر لهم، قال حُطائطُ بن يَعْفُرَ [من الطويل]: 1117 - أرِيني جَوادًا ماتَ هَزْلًا لعلَّني ... أرَى ما تَرَيْنَ أو بَخِيلًا مُخَلَّدا ¬
قال المَرْزُوقيّ: هو بمعنَى "لَعَلَّ"، وقد روي: "لَعَلِّنِي أوى ما ترين". ومنه بيت أبي النَّجْم [من الرجز]: 1118 - واعْدُ لأنَّا في الرّهان نُرْسِلُهْ ويروى: "لَعَنَّا"، وهي لغةٌ في "لَعَلَّ"، وقال امرؤ القيس [من الكامل]: 1119 - عُوجُوا على الرَّبْع المُحِيلِ لأنَّنَا ... نَبْكِى الدّيارَ كما بكى ابنُ خَذامِ (¬1) ¬
وقُرىء: {رَبِيّ} (¬1) بالكسر على الاستئناف، كأنّه أخبر أنّها إذا جاءت لا يؤمنون، ويكون الكلام قد تمّ قبلها، أي: وما يُشْعِركم ما يكون منهم. وقد تُبْدَل همزةُ "أنَّ" عينًا، فتقول: "أشهدُ عَنَّ محمّدًا رسولُ الله". ويروى في بيت ذي الرُّمّة، وهو [من البسيط]: 1120 - أأنْ تَرَسَّمْتَ من خَرْقاءَ منزلةً ... [ماءُ الصَّبابَةِ مِنْ عينيكَ مَسْجومُ] ¬
فصل [لكن]
أعَنْ ترسّمتَ. ومنه قول الآخر [من الطويل]: 1121 - فعَيْناكِ عَيْناها وجِيدُكِ جِيدُها ... سِوَى عَنَّ عَظْمَ الساقِ مِنْكِ دَقِيقُ وهي عَنْعَنَةُ بني تميم، وقد استوفيتُ هذا الموضع في شرح المُلوكيّ. فصل [لكن] قال صاحب الكتاب: "لكنَّ" هي للاستدراك توسطها بين كلامين متغايرين نفياً وإيجاباً، فيستدرك بها النفي بالإيجاب بالنفي وذلك قولك: "ما جاءني زيد لكن عمراً جاءني"، و"جاءني زيد لكن عمراً لم يجيء". * * * قال الشارح: أمّا "لكِنَّ"، فحرفٌ نادرُ البناء لا مثالَ له في الأسماء والأفعال. وألفُه أصلٌ: لأنّا لا نعلم أحدًا يُؤخَذ بقوله ذهب إلى أن الألفات في الحروف زائدةٌ، فلو سمّيت به لصار اسمًا، وكانت ألفه زائدة، ويكون وزنه فَاعِلاَّ؛ لأن الألف لا تكون أصلًا في ذوات الأربعة من الأفعال والأسماء. ¬
فصل [التغاير في المعني بمنزلته في اللفظ]
وذهب الكوفيون إلى أنها مركّبة، وأصلُها "إنَّ" زيدت عليها "لا" و"الكافُ". وهو قول حسن لندرة البناء، وعدم النظير، ويؤيّده دخولُ اللام في خبره، كما تدخل في خبرِ "إنَّ" على مذهبهم. ومنه [من الطويل]: ولكنّني مِن حُبّها لَعَمِيدُ (¬1) والمذهب الأوّل لضُعْف تركيب ثلاثة أشياء وجَعْلِها حرفًا واحدًا. ومعناها الاستدراك، كأنك لمّا أخبرتَ عن الأوّل بخبرٍ، خفت أن يُتوهّم من الثاني مثلُ ذلك، فتداركتَ بخبره إن سَلْبًا أو إيجابًا. ولابدّ أن يكون خبر الثاني مخالفًا لخبر الأوّل لتحقيق معنى الاستدراك، ولذلك لا تقع إلَّا بين كلامَيْن متغايرَيْن في النفي والإيجاب، فهي شبيهةٌ بـ "أنَّ" المفتوحة في كونها لا تقع أوّلًا، إلَّا أنّ "أنَّ" في تقديرِ مفرد، و"لكِنَّ" في تقديرِ جملة. ولهذا يُعْطَف على موضعها بالرفع، كما يعطف على موضع "إنَّ" المكسورة، فاعرفه. فصل [التغاير في المعني بمنزلته في اللفظ] قال صاحب الكتاب: والتغاير في المعنى بمنزلته في اللفظ كقولك: "فارقني زيدًا لكن عمراً حاضرٌ"، و"جاءني زيدٌ لكن عمراً غائبٌ"، وقوله عز وجل: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} (¬2) على معنى النفي, وتضمن: ما أراكهم كثيراً. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إنّ "لكِنّ" المشدّدة والخفيفة سِيّان في الاستدراك، وأنّ ما بعدهما يكون مخالفًا لِما قبلهما. فالخفيفةُ يُوجَب بها بعد نفي، ويُشْرَك الثاني والأوّل في عمل العامل, لأنها عاطفةٌ مفردًا على مفرد، كقولك: "ما جاءني زيدٌ لكنْ عمرٌو"، فتُشْرِك بينهما في الإعراب الذي أوجبه العاملُ. وليس كذلك المشدّدة، فإنّها تدخل على جملة تصرفها إلى الاستئناف. ولشَبَهها بالخفيفة لا يكون ما بعدها إلَّا مخالفًا لِما قبلها مُغايِرًا له. وتقع بعد النفي والإثبات، فإن كان ما قبلها موجبًا؛ كان ما بعدها منفيًا. وإن كان ما قبلها منفيًا؛ كان ما بعدها موجبًا؛ لأن ما بعدها كلامٌ مستغنٍ، فمعناه يُنْبِىء عن المغايَرة، ولا حاجةَ إلى الأداة النافية، بل إن كان؛ فحسنٌ، وإن لا؛ فلا ضرورةَ إليه. ¬
فصل [تخفيف "لكن"]
قال الله تعالى في النفي: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (¬1)، وقال: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} (¬2)، وقال: {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} (¬3). وتقول: "فارقني زيدٌ لكنّ عمرًا حاضرٌ"، فكلّ واحدة من الجملتين إيجابٌ، إلَّا أنّ معناهما متغايِرٌ، فاكتُفي بمعنى الخبر الثاني عن تقدُّم النافي. ونظائرُ ذلك كثيرةٌ. قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} (¬4)، فيحتمل أمرَيْن، أحدهما: ما ذكره وهو أن قوله تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ} في معنى: ما أراكهم كثيرًا لوجودِ السلامة ممّا ذكر. والثاني أنّه أتي به موجبًا؛ لأنّ الأوّل منفىٌّ؛ لأنّ ما بعد "لَوْ" يكون منفيًا، فصار المعنى: ما أراكهم كثيرًا، وما فشلتم ولا تنازعتم، ولكن الله سلم. فصل [تخفيف "لكن"] قال صاحب الكتاب: وتخفف, فيبطل عملها كما يبطل عمل "إن", و"أن". وتقع في حروف العطف على ما سيجيء بيانها إن شاء الله تعالى. * * * قال الشارح: اعلم أنهم قد يخفّفون "لكِنَّ" بالحذف لأجل التضعيف، كما يخفّفون "إنْ"، و"أنّ"، فيسكن آخِرُها، كما يسكن آخرُهما؛ لأن الحركة إنما كانت لالتقاء الساكنين، وقد زال أحدهما، فبقي الحرف الأوّل على سكونه. ولا نعلمها أُعْملت مخفّفةً كما أعملتْ "إنْ"، وذلك أنّ شَبَهَها بالأفعال بزيادة لفظها على لفظ الفعل؛ فلذلك لمّا خُفّفت وأُسكن آخِرها، بطل عملُها، إلَّا أنّ معنى الاستدراك باقٍ على حاله. ولذلك دخلت في باب العطف، إذ كان حكمُها أن تقع بين كلامَيْن متغايِرَيْن، وهي في العطف كذلك. قال أبو حاتم: إذا كانت "لكن" بغير واو في أوّلها؛ فالتخفيف فيها هو الوجه، نحوُ: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} (¬5) ونحوِه؛ لأنها بمنزلةِ "بَل" من جهةِ أنها لا تدخل عليها الواو؛ لأنها من حروف العطف. وإذا كانت الواو في أوّلها، فالتشديد فيها هو الوجه، وإن كان الوجهان جائزَيْن فيها. وكان يونس يذهب إلى أنّها إذا خُفّفت لا يبطل عملها، ولا تكون حرف عطف، بل تكون عنده مثلَ "إنْ"، و"أنْ"، فكما أنّهما بالتخفيف لم يخرجا عمّا كانا عليه قبل ¬
فصل ["كأن"]
التخفيف، فكذلك "لكِنْ". فإذا قلت: "ما جاءني زيدٌ لكنْ عمرٌو"؛ فـ "عمرٌو" مرتفعٌ بـ "لكن"، والاسم مضمرٌ محذوف كما في قوله [من الطويل]: 1122 - [فلو كنتَ ضَبِّيَّا عَرَفْتَ قرابتي] ... ولكِنّ زَنْجِيٌّ عظيمُ المَشافِرِ وإذا قلت: "ما ضربتُ زيدًا لكنْ عمرًا"، ففيها ضميرُ القصّة، و"عمرًا" منصوب بفعل مضمر. وإذا قال: "ما مررت يزيد لكن عمرو"، فـ "عمرو" مخفوض بباء محذوفة، وفي "لكن" ضمير القصّة أيضًا، والجارّ والمجرور متعلّق بفعل محذوف دلّ عليه الظاهرُ، كأنه قال: "لكنّه مررت بعمرو". والمذهبُ الأوّل، فاعرفه. فصل ["كأن"] قال صاحب الكتاب: "كأن" هي للتشبيه، ركبت الكاف مع "إن", كما رُكبت مع "ذا" و"أي" في "كذا" و"كأين". وأصل قولك:"كأن زيدًا الأسد": إن زيداً كالأسد، فلما قدمت الكاف؛ فتحت لها الهمزة لفظاً, والمعنى على الكسر. والفصل بينه وبين الأصل إنك ههنا بان كلامك على التشبيه من أول الأمر، وثم بعد مضي صدره على الإثبات. * * * ¬
قال الشارح: وأمّا "كَأنَّ"، فحرفٌ معناه التشبيه، وهو مركّبٌ من كاف التشبيه و"إنَّ". فأصلُ قولك: "كأنّ زيدًا الأسدُ": إنَّ زيدًا كالأسد. فالكاف هنا تشبيةٌ صريحٌ، وهي في موضع الخبر تتعلّق بمحذوف تقديره: إنَّ زيدًا كائن كالأسد. ثمّ إنّهم أرادوا الاهتمام بالتشبيه الذي عقدوا عليه الجملةَ، فأزالوا الكاف من وسط الجملة، وقدّموها إلى أوّلها لإفراط عنايتهم بالتشبيه. فلمّا أدخلوا على "إنَّ"، وجب فتحُها؛ لأن المكسورة لا يقع عليها حروفُ الجرّ، ولا تكون إلَّا أوّلًا. وبقي معنى التشبيه الذي كان فيها متأخّرةً، فصار اللفظ: "كأنّ زيدًا أسدٌ"، إلَّا أن الكاف لا تتعلّق الآنَ بفعل ولا معنى فعل، لأنّها أُزيلت عن الموضع الذي كان يمكن أن تتعلّق فيه بمحذوف، وقُدّمت إلى أوّل الجملة، فزال ما كان لها من التعلّق بخبرِ "إنَّ" المحذوفِ، وليست الكاف هنا زائدة على حدّ زيادتها في "كَذَا"، و"كأيِّ". فأمّا قوله: "رُكّبت الكاف مع "إنَّ" كما ركّبت مع "ذَا" و"أيٍّ""، فإنّ المراد الامتزاج وصَيْرورتهما كالشيء الواحد، لا أنّها زائدةٌ على حدّ زيادتها فيهما. ألا ترى أن التشبيه في "كأنّ" باقٍ، ولا معنى للتشبيه في "كذا"، و"كأيّ"؟ فإن قيل: فإذا لم تكن الكاف زائدة، فهل لها عملٌ هنا؟ فالجواب أنّ القياس أن تكون "أنَّ" من "كَأنَّ" في موضع جرّ بالكاف. فإن قيل: الكاف هنا ليست متعلّقة بفعل؛ قيل: لا يمنع ذلك عملَها، ألا ترى إلى قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (¬1)، فإنّ الكاف غير متعلّقة بشيء، وهي مع ذلك جارّةٌ. وكذلك "هل من أحدٍ عندك" فـ "مِنْ" جارّةٌ، وليست متعلّقة بفعل، ولا غيرِه. وكذلك قولك: "بحَسْبك زيدٌ"، الباء خافضةٌ وإن لم تتعلّق بفعل. وُيؤيِّد عندك أنها في موضعِ مجرور فتحُها عند دخول الكاف عليها، كما تُفْتَح مع غيرها من العوامل الخافضة وغيرِها من نحوِ: "عجبتُ من أنّك منطلقٌ"، و"أعطيتُك لأنك مستحِقٌّ"، و"أظنُّ أنّك منطلقٌ"، و"بَلَغَني أنّك كريمٌ"، فكما فُتحت "أنَّ" لوقوعها في هذه الأماكن بعد عاملٍ قبلها، كذلك فُتحت بعد الكاف؛ لأنها عاملةٌ. فإن قيل: فما الفرق بين الأصل والفرع في "كَأنَّ"؟ قيل: التشبيه في الفرع أقعدُ منه في الأصل. وذلك إذا قلت: "زيدٌ كالأسد"، فقد بنيت كلامك على اليقين، ثمّ طَرأ التشبيهُ بعدُ، فَسَرَى من الآخِر إلى الأوّل. وليس كذلك في الفرع الذي هو قولك: "كأنّ زيدًا أسدٌ"؛ لأنّك بنيتَ كلامك من أوّله على التشبيه، فاعرفه. ¬
فصل [تخفيف "كأن"]
فصل [تخفيف "كأن"] قال صاحب الكتاب: وتخفَّف فيبطل عملها. قال [من الهرج]: 1123 - ونحرٍ مشرق اللون ... كأن ثدياه حقان ومنهم من يعملها. قال [من الرجز]: 1124 - كأن وريديه رشاءا خلب ¬
وفي قوله [من الطويل]: 1125 - [ويومًا تُوافينا بوجهٍ مقسمٍ] ... كأن ظبيةٌ تعطو إلى وارق (¬1) السَّلمْ ثلاثة أوجه: الرفع والنصب والجر على زيادة "أن". * * * قال الشارح: حكمُ "كَأنَّ" كحكم "أنَّ" المفتوحة. إذا خُفَّفت ففيها وجهان: ¬
أجودُهما إبطال عملها ظاهرًا، وذلك لنقص لفظها بالتخفيف، فتقول: "كأن زيدٌ أسدٌ"، والمراد: كأنّه زيدٌ أسدٌ، أي: الشأن والحديث. وقوله: يبطل عملها، يريد: ظاهرًا، فأمّا قوله [من الهزج]: ونحر مشرق اللون ... إلخ فالشاهد فيه رفعُ "ثدياه"، و"ثدياه" رفيع بالابتداء، و"حقّان" الخبر، والجملة خبرُ "كَأنْ"، والضمير في "ثدياه" يعود إلى "النحر" أو"الوجهِ"، والمراد به صاحبُه. ويجوز إعماله، فيقال: "كأنْ ثَدْيَيْه". وقد روي كذلك. قال الخليل (¬1): وهذا يُشْبه قولَ الفرزدق [من الطويل]: فلو كنتَ ضَبّيًا عرفتَ قَرابَتي ... ولكِنّ زَنْجِيٌّ عَظيمُ المَشافِرِ (¬2) والمراد: ولكنّه زنجىٌّ لا يعرف قرابتي. قال (¬3): والنصب في هذا كلّه أكثرُ. قال السيرافيّ: مَن نصب جعله الاسمَ وأضمر الخبر، كأنه قال: ولكنّ زنجيَّا. ومَن رفع أضمر الاسم، وكان الظاهر الخبرَ، تقديره: ولكنّك زنجىٌّ، وأما قوله، أنشده سيبويه [من الرجز]: كأنْ وريديه رشاءا خلب البيت، فالشاهد فيه نصب "وريديه" على إِعمالها مخفّفةً. والوَرِيدان: حَبْلا العنق من مُقدّمه، والرشاءُ: الحبل. والخُلْب: اللّيف. وأمّا قول الآخر - وهو ابن صريم اليَشْكُريّ -[من الطويل]: ويومًا تُوافِينا بوَجْهٍ مُقَسَّمٍ ... كأنْ ظَبْيَةٌ تَعْطو إلى وارِقِ السَّلَمْ فيروى على ثلاثة أوجه: الرفع والنصب والجرّ. فمَن رفع، فعلى الخبر، واسمُها محذوف مقدّر، والمعنى: كأنّها ظبيةٌ تعطو. ومن نصب، فعلى أنه اسمها، والخبر محذوف منويّ، كأنّه قال: كأن ظبيةً هذه المرأةُ، فهذه المرأة الخبرُ. وأمّا الجرّ، فعلى إعمال حرف الجرّ، وهو الكاف، و"أنْ" مزيدةٌ، والمعنى: كظبيةٍ. وصف امرأةً حسنةَ الوجه، فشبّهها بظبيةِ مُخْضِبَةٍ. والعاطيةُ: التي تَتناول أطرافَ الشجر مُرْتَعِيَةً. والوارق: المُورِق، يُقال: ورقت الشجرةُ وأورقت، وأورقت أكثرُ. ويجوز أن يكون المراد وارق الشجر من الخُضْرة والنَّضْرة من الورَاق وهي الأرض الخَضِرة المُخْصِبة، فليس من لفظ الوَرَق، فاعرفه. ¬
فصل ["ليت"]
فصل ["ليت"] قال صاحب الكتاب: "ليت" هي للتمني, كقوله تعالى: {ياليتنا نُرَدُّ} (¬1). ويجوز عند الفراء أن تجري مجرى "أتمنى", فيقال: "ليت زيداً قائماً", كما يقال: "أتمنى زيداً قائماً", والكسائي يجيز ذلك على إضمار "كأن". والذي غرهما منها قول الشاعر [من الرجز]: يا ليت أيام الصبا رواجعا (¬2) وقد ذكرت ما هو علته عند البصريين. * * * قال الشارح: "لَيْتَ" حرف ثلاثيُّ البناء، مثلُ "إنَّ" و"أنَّ"، وحقّه أن يكون موقوف الآخر، إلَّا أنه حُرّك لالتقاء الساكنين، وفُتح طلبًا للخفّة، كأنّهم استثقلوا الكسرة بعد الياء، كما فعلوا ذلك في "أيْنَ" و"كَيفَ". ومعناها: أتَمَنَّى. وتعمل عملَ أخواتها من نصب الاسم ورفع الخبر، نحوَ قولك: "ليت زيدًا قائمٌ". قال الله تعالى: {يَالَيْتَنَا نُرَدُّ} (¬3)، فالنون والألف في موضعِ منصوب بأنّه اسم "لَيْتَ"، و"نردّ" في موضع الخبر. وتقديره: مردودون. وقال سبحانه: {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ} (¬4)، فالنون والياء في موضع نصب، و"مِتُّ" في موضع رفع، أي: مَيْتٌ. وقد أجاز الفَرّاء أن تنصب لها الاسمَيْن جميعًا، فقال: "ليت زيدًا قائمًا"، على معنَى "ليت"، فكأنه قال: "أتمنّى زيدًا قائمًا"، أو"تمنّيتُ زيدًا قائمًا"، كأنّه يلمَح الفعلَ الذي ناب الحرفُ عنه فيُعْمِله. وأجاز الكسائيّ نصب الاسمين معًا، لكن على غير هذا التقدير، وإنّما يُضْمِر "كانَ"، والتقدير عنده: "ليت زيدًا كان قائمًا". قال: لأنّ "كانَ" تستعمل هنا كثيرًا، نحوَ قوله تعالى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} (¬5)، وقوله تعالى: {يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} (¬6)، واعتمادُهم على قوله [من الرجز]: يا ليت أيّام الصبا رواجعا (¬7) فليس على ما تَوهّموه، إنّما هو على حذف الخبر. والتقديرُ: يا ليت أيّام الصّبا ¬
فصل [وقوع "أن" بعد "ليت"]
رواجعَ لنا، أو أقبلتْ رواجعَ. وذلك لأنه لم يُرِد معنى الخبر، وإنّما هو في حال تَمَنّ لنفسه، أو لمن حَلَّ عنده هذا المَحَلَّ، فلذلك ساغ الحذف لدلالة هذا المعنى على "لَنا" في هذا الكلام، كما دلّت حالُ الافتخار في قوله [من المنسرح]: إنَّ مَحَلا وإنّ مُرْتَحَلا (¬1) على معنَى: لَنا، فاعرفه. فصل [وقوع "أنّ" بعد "ليت"] قال صاحب الكتاب: وتقول:"ليت أن زيداً خارجٌ" وتسكت, كما سكتَّ على "ظننت أن زيداً خارجٌ". * * * قال الشارح: تقول "ليت أنّ زيدًا خارجٌ"، وتكتفي بـ "أنَّ" مع صلتها عن أن تأتي بخبرِ "لَيْتَ"؛ لأنها تدلّ على معنى الاسم والخبر لدخولها على المبتدأ والخبر، كما كانت "ظننت" وأخواتها كذلك، فجاز أن تقول: "ليت أنّ زيدًا خارجٌ"، كما تقول: "ظننت أن زيدًا خارجٌ"، ولا تحتاج إلى خبر؛ لأنّ الصلة قد تضمّنت الاسمَ والخبرَ، كما لم تحتج إلى ذلك المفعول الثاني؛ لأنك قد أتيتَ بذكرِ ذلك في الصلة، إذ المعنى: ظننت انطلاقًا من زيد. وقياسُ مذهب الأخفش وتقديرِه مفعولًا ثانيًا من "ظننت" أن تُقدِّر في "ليت" خبرًا، ولا يجوز "ليت أن يقوم زيدٌ" وتسكت، حتى تأتي بخبر، فتقول: "ليت أن يقوم زيد خيرٌ له"؛ لأنها إنما تدخل على الفعل، وتعمل فيه، ولا تدخل على المبتدأ والخبر، ولذلك لم تَنُبْ عنهما بخلافِ "أنَّ" المشدّدةِ، فاعرفه. فصل ["لعل"] قال صاحب الكتاب: "لعل" هي لتوقع مرجو أو مخوف، وقوله عز وجل: {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (¬2) و {لعلكم تفلحون} (¬3) ترج للعباد، وكذلك قوله عز وجل: {لعله يتذكر أو يخشى} (¬4) , ومعناه: اذهبا أنتما على رجائكما ذلك من فرعون. * * * قال الشارح: "لَعَلَّ" تَرَجّ. قال سيبويه (¬5): "لَعَلَّ" و"عَسَى" طَمَعٌ وإشفاقٌ، وهي ¬
تنصب الاسم وترفع الخبر كـ "إنَّ"، إلَّا أنّ خبرها مشكوكٌ فيه، وخبرُ "إنَّ" يقينٌ. تقول في الترجّي: "لعلّ زيدًا يقوم"، وفي الإشفاق: "لعلّ بكرًا يضرب". وهذا معناها ومقتضى لفظها لغةً، إلَّا أنّها إذا وردت في التنزيل؛ كان اللفظ على ما يتعارفه الناس، والمعنى على الإيجاب بمعنى "كَيْ"؛ لاستحالة الشكّ في أخبار القديم سبحانه. فمن ذلك قوله تعالى: {اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} (¬1)، أي: كَيْ تَتَّقُوا. هكذا جاء في التفسير ومثلُه قوله تعالى: {لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} (¬2)، والمعنى على أن الله أمر بالعدل والعمل بالشرائع قبل أن يُفاجِىء اليومُ الذي لا رَيْبَ في حصوله. فـ "لَعَلَّ" ههنا إِشفاقٌ. فأمّا تذكير "قريب" وإن كان خبرًا عن مؤنث؛ فإنّ الساعة في معنى البعث والنشور، وكلاهما مذكّرٌ، وعلى إرادة حذف مضاف، أي: مجىء الساعة. وكذلك قوله تعالى: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} (¬3)، أي: اذهبا على رَجائكما وطَمَعِكما من فرعون، فالرجاءُ لهما، أي: باشروا أمرَه مباشرةَ من يرجو ويطمع في إيمانه، مع العلم بأن فرعون لا يؤمن، لكنْ لإلزام الحُجّة وقَطع المَعْذِرة. وكذلك قوله تعالى: {وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (¬4)، معناه: كي تفلحوا، أي: مَن عمل بالطاعة وانتهى إلى أوامر الله، كان الفَلاحُ مرجوًا له، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وقد لمح فيها معنى التمني من قرأ: {فأطلع} (¬5) بالنصب وهي في حرف (¬6) عاصم. * * * قال الشارح: قد قُرئت هذه الآية: {فَاطَّلَعَ} بالرفع عطفًا على {أَبْلُغَ}، وبالنصب كأنّه جوابُ "لَعَلَّ" إذ كانت في معنى التمنّي، كأنّه شبّه الترجّي بالتمنّي، إذ كان كلّ واحد منهما مطلوبَ الحصول مع الشكّ فيه. والفرقُ بينهما أنّ الترجّي توقُّعُ أمر مشكوك فيه أو مظنونٍ، والتمنّي طلبُ أمر موهوم الحصول، وربما كان مستحيلَ الحصول، نحوَ قوله تعالى: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} (¬7)، و {يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا} (¬8)، وهذا ¬
فصل [وقوع "أن" بعد "لعل"]
طلبُ مستحيل، إذ كان الواقع بخلافه. ويجوز أن يكون النصب في قوله: "فَأطَّلِعَ"؛ لأنه جواب الأمر، أي: ابْنِ لي فَاطَّلِعَ. فصل [وقوع "أنَّ" بعد "لعلّ"] قال صاحب الكتاب: وقد أجاز الأخفش: "لعل أن زيداً" قاسها على "ليت". وقد جاء في الشعر [من الطويل]: 1126 - لعلك يوماً أن تلم ملمةٌ ... عليك من اللائي يدعنك أجدعا قياساً على "عسى". * * * قال الشارح: لا يحسن وقوعُ "أنَّ" المشدّدة بعد "لَعَلَّ" إذ كانت طمعًا وإشفاقًا، وذلك أمرٌ مشكوكٌ في وقوعه، و"أنَّ" المشدّدة للتحقيق واليقين، فلا تقع إلَّا بعد العلم واليقين، نحوَ "علمت أنّ زيدًا قائمٌ"، و"تيقّنتُ أنّ الأمير عادلٌ". وقد أجاز الأخفش ذلك على التشبيه بـ "لَيْتَ" إذ كان الترجّي والتمنّي يتقاربان على ما ذكرناه آنِفًا، فأمّا قول الشاعر [من الطويل]: لعلّك يومًا ... إلخ ¬
فصل [لغات "لعل"]
فالبيت لمُتمَّم بن نُوَيْرةَ اليَرْبُوعيّ يرثي أخاه مالكًا، وفيه بُعْدٌ من حيث أنّ "لَعَلَّ" داخلةٌ على المبتدأ والخبرُ، والخبرُ، إذا كان مفردًا، كان هو المبتدأ في المعنى، والاسمُ ههنا جُثًةٌ؛ لأنّه ضمير المخاطب، و"أنْ" والفعلُ حَدَثٌ، فلا يصحّ أن تكون خبرًا عنه. وإنّما ساغ ههنا؛ لأنها بمعنَى "عَسَى" إذ كان معناهما الطَّمع والإشفاق؛ فلذلك جاز دخولُ "أنْ" في خبرها. فصل [لغات "لعل"] قال صاحب الكتاب: فيها لغاتٌ: "لعلَّ", و"علَّ", و"عن", و"أن", و"لأن", و"لعنَّ", و"لَغَنَّ". وعند أبي العباس أن أصلها "عل" زيدت عليها لام الابتداء. * * * قال الشارح: اعلم أن العرب قد تَلعّبتْ بَهذا الحرف كثيرًا لكثرته في كلّامهم, لأنّ معناه الطمع، ولا يخلو إنسانٌ من ذلك، فقالوا: "لَعَلَّ"، و"عَلَّ". وقد اختلفوا فيها، فذهب أبو العبّاس المبرّد وجماعةٌ من البصريين (¬1) إلى أن الأصل "عَلَّ"، واللام في "لعلّ" زيادةٌ على حدّ زيادتها في قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} (¬2) في قراءةِ من فتح، وهي قراءة سَعيد بن جُبَيْر، وعلى حد قول الشاعر [من البسيط]: مَرُّوا عُجالَى فقالوا كيف صاحبُكم ... قال الَّذي سَألُوا أمْسَى لَمَجْهُودَا (¬3) واحتجّوا لزيادة اللام بأنها قد حُذفت كثيرًا. قال الشاعر [من البسيط]: 1127 - عَلَّ الهَوَى من بَعِيدٍ أن يُقَرِّبَه ... أَمُّ النُّجُومِ ومَرُّ (¬4) القَوْمِ بِالعِيسِ ¬
وقال الآخر [من الرجز]: يا أبَتا عَلَّكَ أو عَساكا (¬1) وقال الآخر [من الطويل]: 1128 - ولَسْتُ بلَوّامٍ على الأمر بَعْدَما ... يَفُوتُ ولكنْ عَلَّ أنّ يَتقدّما وهو كثير. فلمّا كانت ممّا تسقط في بعض الاستعمال، كانت زائدة، والكوفيون (¬2) يزعمون أن اللام أصلٌ، وأنّهما لغتان، وأنّ الذي يقول: "لَعَلَّ" غيرُ الذي يقول: "عَلَّ". وحجّتُهم أن الزيادة نوعُ تصرّفٍ، وهو بعيد في الحروف. وهذا القولُ قد جنح إليه جماعة من متأخّري البصريين، وهو قول سديد لولا ندرةُ البناء في الحروف، وعدمُ النظير. وقد قالوا أيضًا: "لَعَنَّ"، و"عَنَّ"، كأنّهم أبدلوا من اللام الآخرة نونًا؛ لأن النون أخفّ من اللام، وهي أقرب إلى حروف المدّ واللين، واللامُ أبعدُ، ولذلك استضعف الجرمىُّ أن تكون من حروف الزيادة. ¬
وقد قالوا: "لَغَنَّ" بالغين المعجمة، كأنّهم أبدلوا العين غينًا؛ لأنها تقرب منها في الحلق ليس بينهما إلَّا الحاء، وهي أخفّ من العين؛ لأن العين أدخلُ في الحلق، وكُلّما استفل الحرفُ، كان أثقل. وقالوا أيضًا: "أن"، و"لأنَّ" بمعنى "عَنَّ"، و"لَعَنَّ"، كأنهم أبدلوا من العين همزةً، كما أبدلوا من الهمزة عينًا. وقالوا: "أشهدُ عنّ محمّدًا رسولُ الله"، وقد تقدّم نحوُ ذلك. ولا يفعلون ذلك إلَّا في الهمزة المفتوحة دون المكسورة، فلا يقولون: "عِنَّ زيدًا قائمٌ" في "إنَّ زيدًا قائمٌ". ولم يأتِ في التنزيل العزيز من لغاتها إلَّا "لَعَلَّ"، وهذا الحرفُ، أعني {أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ} (¬1)، فاعرفه. ¬
شَرْحُ المفَصَّل للزمَخّشَري تأليف موفّق السدّين أبي البقاء يعيش بن علي بن يعيش الموصلي المتوفيّ سنة 643 هـ قدّم له ووضع هوامشه وفهارسه الدكتور إيميل بَديع يعقوب الجزء الخامسّ منشورات محمد عَلي بيضون لِنشر كُتبِ السُنة والجمَاعَة دار الكتب العلمية بيروت - لبنان
دار الكتب العلمية جميع الحقوق محفوظة جميع حقوق الملكية الادبية والفنية محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملًا أو مجزأً أو تسجيله علي أشرطة كاسيت أو إدخاله علي الكمبيوتر أو برمجته علي اسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطيا. الطبعة الأولي 1422هـ - 2001م دار الكتب العلمية بيروت - لبنان رمل الظريف. شارع البحتري, بناية ملكارت هاتف وفاكس: 364398 - 366135 - 378542 (9611) صندوق بريد: 9424 - 11 بيروت - لبنان
حروف العطف
بِسمِ اللهِ الرَّحَمنِ الرَّحِيمِ ومن أصناف الحرف حروفُ العَطْف فصل [نوعا العطف وحروفه] قال صاحب الكتاب: العطف على ضربين: عطف مفرد وعطف جملة على جملة, وله عشرة أحرف: فـ "الواو" و"الفاء", و"ثم", و"حتى", أربعتها على جمع المعطوف والمعطوف عليه في حكم. تقول: "جاءني زيدٌ وعمرو"، و"زيد يقوم ويقعد"، و"بكر قاعد وأخوه قائمٌ"، و"أقام بشر وسافر خالدٌ", فتجمع بين الرجلين في المجيء، وبين الفعلين في إسنادهما إلى زيد، وبين مضموني الجملتين في الحصول, وكذلك "ضربت زيداً فعمراً"، و"ذهب عبد الله ثم أخوه"، و"رأيت القوم حتى زيداً". ثم إنها تفترق بعد ذلك. * * * قال الشارح: يقال: "حروف العَطْف" و"حروف النَّسْق"، فالعطف من عبارات البصريين، وهو مصدرُ عطفت الشىءَ على الشىء إذا أملته إليه، يقال: "عَطَفَ فلانٌ على فلان"، و"عطفتُ زِمَامَ الناقة إلى كذا"، و"عطف الفارسُ عِنانَه"، أي: ثَناهُ وأماله. وسُمّي هذا القبيل عطفًا؛ لأن الثاني مَثْنيّ إلى الأوّل، ومحمول عليه في إعرابه. والنسق من عبارات الكوفيين، وهو من قولهم: "ثَغْرٌ نَسَقٌ"، إذا كانت أسنانه مستوية، وكلامٌ نَسَقٌ إذا كان على نظام واحد. فلمّا شارك الثاني الأوّلَ وساواه في إعرابه، سمي نسقًا. وهو من التوابع، فالأوّلُ المتبوع المعطوف عليه، والثاني التابع المعطوف. وهذا الضربُ من التوابع يُخالِف سائرَ التوابع, لأنها تتبع لغير واسطة، والمعطوفُ لا يتبع إلَّا بواسطة. وإنّما كان كذلك؛ لأن الثاني فيه غير الأوّل، ويأتي بعد أن يستوفي العاملُ عملَه، فلم يتّصل إلَّا بحرف بخلافِ ما الثاني فيه الأوّلُ، كالنعت وعطف البيان والتأكيد والبدل، وإن كان يأتي في البدل ما الثاني فيه غير الأوّل، إلَّا أنه بعضُه أو معنى يشتمل عليه، فكأنّه هو هو، فلذلك لم يحتج إلى واسطةِ حرف.
فإن قيل: فإذا كان العطف إنما هو اشتراكُ الثاني في إعراب الأوّل، فيلزم من هذا أن تسمّي سائر التوابع عطفًا؛ لمشاركتها الأوّلَ في الإعراب، قيل: لَعَمْرِي لقد كان يلزم ذلك، إلَّا أنهم خضّوا هذا البابَ بهذا الاسم للفرق، كما قالوا: "خابئَةٌ"؛ لأنه يُخبَأ فيها، ولم يُقَل ذلك لغيرها ممّا يُخْبَأ فيه، وكما قيل لإناء الزُّجاج: "قارُوَرَةٌ", لأنّ الشيء يقرّ فيها، ولا يُقال لكلِّ ما استقرّ فيه شيءٌ: "قارورة". واعلم أنهم قد اختلفوا في العامل في المعطوف، فذهب سيبويه وجماعة من البصريين إلى أن العامل فيه العامل في الأوّل، فإذا قلت: "ضربت زيدًا أوعمرًا"، فزيدٌ وعمرٌو جميعًا انتصبا بـ "ضربت"، والحرفُ العاطف دخل بمعناه، وشرّك بينهما. ويؤيّد هذا القولَ اختلافُ العمل لاختلاف العامل الموجود، ولو كان العمل للحرف لم يختلف عملُه؛ لأن العامل إنما يعمل عملًا واحدًا إمّا رفعًا، وإمّا نصبًا، وإمّا خفضًا، وإمّا جزمًا. وذهب قوم إلى أن العامل في الأوّل الفعل المذكور، والعامل في المعطوف حرف العطف؛ لأن حرف العطف إنما وُضع لينوبَ عن العامل، ويُغْنِيَ عن إعادته، فإذا قلت: "قام زيدٌ وعمرٌو"؛ فالواو أغنت عن إعادةِ "قَامَ" مرّةً أخرى، فصارت ترفع كما ترفع "قَامَ". وكذلك إذا عطفت بها على منصوب، نحوَ قولك: "إنَّ زيدً وعمرًا منطلقان"، فالواو تنصب كما تنصب "إنَّ". وكذلك في الخفض إذا قلت: "مررت بزيدٍ وعمرٍو"، فالواو جرّت كما جرّت الباء. وهو رأي ابن السرّاج، وقد تقدّم وجه ضُعْفه، مع أن العامل ينبغي أن يكون له اختصاصٌ بالمعمول، وحرفُ العطف لا اختصاص له؛ لأنه يدخل على الاسم والفعل، فلم يصح عمله في واحد منهما. وذهب قومٌ آخرون إلى أن العامل الفعل المحذوف بعد الواو؛ لأن الأصل في قولك: "ضربت زيدًا وعمرًا": "ضربت زيدًا، وضربت عمرًا"، فحُذف الفعل بعد الواو لدلالة الأوّل عليه. واحتجّ هؤلاء بأنّه يجوز إظهارُه، فكما أنّه إذا ظهر كان هو العامل، فكذلك يكون هو العامل إذا كان محذوفًا من اللفظ مرادًا من جهة المعنى. وهذا رأي أبي عليّ الفارسيّ، ورأي أبي الفتح عثمان بن جِنِّي، وإن كان ابن بَرْهانَ قد حكى في شرحه أن العامل في المعطوف الحرف العاطف، والذي نصّ عليه أبو عليّ في الإيضاح الشعْريّ، وكذلك ابن جنّي في سِرّ الصناعة أنّ العامل في المعطوف ما ناب عنه الحرفُ العاطف لا العاطفُ نفسه. وأرى ما ذهب إليه ابن جنّي من القول بأنّ العامل في المعطوف الفعل المحذوف لا ينفكّ عن ضعفٍ، وإن كان في الحُسْن بعد الأوّل, لأن حذفه إنما كان لضرب من الإيجاز والاختصار، وإعمالُه يؤذن بإرادته، وذلك نقضٌ للغرض مِن حذفه. وحروف العطف عشرة على ما ذكر، وهي: "الواو"، و"الفاء"، و"ثُمَّ"، و"حَتَّى"، و"أوْ"، و"أمْ"، و"إمَّا"، مكسورةً مكرَّرةُ، و"بَلْ"، و"لكِنْ"، و"لا". فالأربعة الأوَل
متواخيةٌ؛ لأنها تجمع بين المعطوف والمعطوف عليه في حكم واحد، وهو الاشتراك في الفعل، كقولك: "قام زيدٌ وعمرٌو"، و"ضربت زيدًا وعمرًا"، فالقيام قد وجب لهما، والضرب قد وقع بهما، وكذلك "الفاء"، و"ثمّ"، و"حتّى" يجب بهنّ مثلُ هذا المعنى، نحوُ: "ضربت زيدًا فعمرًا". وكذلك "ثُمَّ"، نحوَ: "ذهب عبد الله ثمّ أخوه". وكذلك "حَتَّى"، نحوَ: "رأيت القومَ حتى زيدًا"، إلَّا أنها تفترق في معانٍ أُخرَ من جهة الاتّصال والتراخي والغاية على ما سيُذكَر من معنى كلّ حرف منفردًا إن شاء الله. والثلاثة التي تليها في العدّة متواخيةٌ، وهي "أوْ"، و"أمْ"، و"إمَّا" من جهةِ أنّها لأحد الشيئَين أو الأشياء، وإن انفصلت أيضًا من وجوه أُخر. و"بَلْ" و"لكِنْ" متواخيتان, لأن الثاني فيهما على خلاف معنى الأوّل في النفي والإثبات، و"لا" مفردةٌ. فأمّا حَصْرها عشرةً، فعليه أكثرُ الجماعة، وقد ذهب قوم إلى أنها تسعةٌ، وأسقطوا منها "إمَّا"، وهو رأيُ أبي عليّ، قال: لأنها لا تخلو إمّا أن تكون العاطفة الأولى أو الثانيةَ. ولا يجوز أن تكون الأُولى؛ لا العطف إمّا أن يكون مفردًا على مفرد، وإمّا جملةً على جملة، وليس الأمر فيها كذلك. ولا تكون الثانية لأن الواو قد صحبتْها، ولا يجتمع حرفان بمعنى واحد. وذهب آخرون إلى أنها ثمانيةٌ، وأسقطوا منها "حَتَّى". قالوا: لأنها غايةٌ. وذهب ابن دُرُسْتَوَيْهِ إلى أن حروف العطف ثلاثة لا غير: "الواو"، و"الفاء"، و"ثُمَّ". قال: لأنّها التي تُشْرِك بين ما بعدها وما قبلها في معنى الحديث والإعراب. وليس كذلك البواقي، لأنّهن يُخْرِجن ما بعدهنّ من قصّةِ ما قبلهنّ. والمذهبُ الأول لِما قدّمناه من أنّ معنى العطف حملُ الثاني على الأوّل في إعرابه وإشراكه في عمل العامل، وإن لم يَشْرَكْه في معناه، وذلك موجودٌ في جميعها. فأمّا اختلاف المعاني، فذلك أمرٌ خارجٌ عن معنى العطف. ألا ترى أن حروف الجرّ تجتمع كلّها في إيصال معاني الأفعال، وإن اختلفت معانيها من نحو ابتداء الغاية، وانتهاء الغاية، والإلصاق، والمِلْك، وغير ذلك؟ واعلم أن العطف على ثلاثة أضرب: عطفُ اسم على اسم إذا اشتركا في الحال، كقولك: "قام زيدٌ وعمرٌو". ولو قيل: "مات زيدٌ والشمسُ"، لم يصحّ؛ لأن الموت لا يكون من الشمس، وعطفُ فعل على فعل إذا اشتركا في الزمان، كقولك: "قام زيدٌ وقعد". ولو قُلْتَ: "ويقعد"، لم يجز لاختلاف الزمانَيْن. وعطفُ جملة على جملة، نحوُ: "قام زيدٌ، وخرج بكرٌ"، و"زيدٌ منطلقٌ، وعمرٌو ذاهبٌ". والمراد من عطف الجملة على الجملة ربطُ إحدى الجملتَيْن بالأُخرى، والإيذانُ
فصل [الواو]
بحصول مضمونهما، لئلّا يظنّ المخاطب أن المراد الجملة الثانية، وأن ذِكْرَ الأولى كالغلط، كما تقول في بدل الغلط: "جاءني زيدٌ عمرٌو"، و"مررت برجل ثوب"، فكأنّهم أرادوا إزالةَ هذا التوهّم بربط إحدى الجملتين بالأُخرى بحرف العطف، ليصير الإخبار عنهما إخبارًا واحدًا. وقوله: "ثمّ تفترق بعد ذلك"، يريد أنّها تشترك في العطف، وهو الاتّفاق في عمل العامل، ثمّ تفترق بعدُ في معان أُخر على حسب اختلاف معاني العطف على ما سيأتي مفصَّلًا حرفًا حرفًا إن شاء الله. فصل [الواو] قال صاحب الكتاب: فالواو للجمع المطلق من غير أن يكون المبدوء به داخلاً في الحكم قبل الآخر، ولا أن يجتمعا في وقت واحد، بل الأمران جائزان، وجائز عكسهما, نحو قولك: "جاءني زيد اليوم وعمرو أمس"، و"اختصم بكر وخالد"، و"سيان قعودك وقيامك". قال الله تعالى: {وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة} (¬1)، وقال: {وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً} (¬2) والقصة واحدةٌ. قال سيبويه (¬3): ولم تجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه يكون أولى بها من الحمار, كأنك قلت مررت بهما. * * * قال الشارح: لمّا ذكر عدّة حروف العطف، أخذ في الكلام على معانيها وتفسيرِها مفصّلةً، وإنّما فُسِّرت معانيها ليتحصّل حكمُها في العطف، ألا ترى أن قولك: "جاءني زيدٌ وعبدِ الله"، إذا أردت القسمَ، لم يجز العطف بها؟ فعلمتَ أنّه لا بدّ من مُراعاة معاني هذه الحروف حتى يجب الحكمُ بالعطف. فلذلك ذُكرت معانيها في كُتُب النحو، وإن لم تكن كتبَ تفسيرِ غريبٍ. فمن ذلك الواو، وهي أصل حروف العطف. والدليل على ذلك أنها لا توجب إلَّا الاشتراكَ بين شيئين فقط في حكم واحد، وسائرُ حروف العطف توجب زيادة حكم على ما توجبه الواوُ. ألا ترى أن الفاء توجب الترتيب، و"أوْ" الشكَّ وغيرَه، و"بَلْ" الإضرابَ. فلمّا كانت هذه الحروف فيها زيادةُ معنى على حكم الواو، صارت الواو بمنزلة الشيء المفرد، وباقي حروف العطف بمنزلة المركّب مع المفرد. فلهذا صارت الواو أصل حروف العطف، فهي تدلّ على الجمع المطلق، إلَّا أن دلالتها على الجمع أعمُّ من ¬
دلالتها على العطف. والذي يدلّ على ذلك أنّا لا نجدها تعرى من معنى الجمع. وقد تعرى من معنى العطف، ألا ترى أن واو المفعول معه في قولك: "استوى الماءُ والخشبةَ"، و"جاء البَرْدُ والطَيالسةَ" قد نجدها تفيد معنى الجمع؛ لأنها نائبةٌ عن "مَعَ" الموضوعة لمعنى الاجتماع؟ فكذلك واو القسم ليست عارية من معنى الجمع؛ لأنها نائبةٌ عن الباء. ومعنى الباء الإلصاق، والشيءُ إذا لاصق الشيءَ، فقد جاء معه، وكذلك واو الحال في قولك: "جاء زيدٌ وَيدُه على رأسه"، ونحوِ قوله تعالى: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} (¬1) غيرُ عارية من معنى الجمع. ألا ترى أن الحال مصاحبةٌ لذي الحال؟ فقد أفادت معنى الاجتماع، ولا نعلم أحدًا يوثَق بعربيَّته يذهب إلى أن الواو تفيد الترتيب. والذي يؤيّد ما قلنا أن الواو في العطف نظيرُ التثنية والجمع: إذا اختلفت الأسماء احتيج إلى الواو، وإذا اتّفقت جرت على التثنية والجمع، تقول: "جاءني زيدٌ وعمرٌو" لتعذُّر التثنية، فإذا اتّفقت قلت: "جاءني الزيدان والعمران". والواو الأصل، وإنّما زادوا على الاسم الأوّل زيادةً تدل على التثنية، وكان ذلك أوجز وأخصر من أن تذكر الاسمَيْن، وتعطف أحدهما على الآخر، فإذا اختلف الاسمان؛ لم تمكن التثنية، فاضطُرّوا إلى العطف بالواو. والذي يدلّ على ذلك أنّ الشاعر إذا اضطُرّ عاوَدَ الأصلَ، فقال [من الرجز]: كأنّ بين فَكِّها والفَكِّ ... فَأرَةَ مِسْكٍ ذُبِحَتْ في سُكِّ (¬2) وممّا يدلّ على ذلك أيضًا أنّها تستعمل في مواضعَ لا يسوغ فيها الترتيب، نحوِ قولك: "اختصم زيدٌ وعمرٌو"، و"تَقاتل بكرٌ وخالدٌ"، فالترتيب ههنا ممتنعٌ؟ لأن الخصام والقتال لا يكون من واحد، ولذلك لا يقع ههنا من حروف العطف إلَّا الواو، ولا يجوز "اختصم زيدٌ فعمرٌو"، ولا "تقاتل بكرٌ فخالدٌ"؛ لأنك إذا أتيت بالفاء، أو"ثُمَّ"، فقد اقتصرت على الاسم الأوّل؛ لأن الفاء توجب المُهْلَةَ بين الأوّل والثاني. وهذه الأفعالُ إنما تقع من الاثنين معًا، ومن ذلك قولهم: "سِيّان قيامُك وقعودُك"؛ فقولك: "سيّان" أي: مثلان؛ لأن الشيء الممثَّل والمُماثِل لا يكونْ من واحد؛ لأن الشيء لا يماثل نفسَه، فأما قول الشاعر [من البسيط]: وكان سِيّانِ ألّا يَسْرَحُوا نَعَمًا ... أو يَسْرَحُوه بها واغْبَرَّت السُّوحُ (¬3) وقول الآخر [من الطويل]: 1129 - فسِيّانِ حَرْبٌ أو تَبُوءُ بِمثلِهِ ... وقد يَقْبَلُ الضَّيْمَ الذليلُ المُسَيَّرُ ¬
فإنّه استعمل "أوْ" ههنا بمعنى الواو، وهو من الشاذّ الذي لا يُقاس عليه. والذي أنّسه بذلك أنّه رآها في الإباحة، نحوِ: "جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سِيرِينَ"، تُبيح مجالستَهما، فتَدرّج إلى استعمالها في مواضع الواو البتّة. وتقول: "جمعت زيدًا وعمرًا"، و"المالُ بين زيد وعمرو"، ولا يجوز بالفاء. وإذا ثبت أنها تستعمل في مواضع لا يكون فيها إلَّا الجمع المطلق؛ امتنع استعمالها مُرتِّبةً؛ لأن ذلك يُودِي بالاشتراك، وهو على خلاف الأصل. وممّا يدلّ أيضًا على أنها للجمع المطلق من غير ترتيب قولُك: "جاءني زيدٌ وعمرٌو بعده"، فلو كانت للترتيب، لكان قولك: "بعده" تكريرًا، ولكان إذا قلت: "جاءني زيدٌ اليومَ وعمرٌو أمسِ" متناقِضًا؛ لأن الواو قد دلّت على خلافِ ما دلّت عليه "أمس" من قِبَلِ أن الواو ترتيب الثاني بعد الأول، و"أمس" تدل على تقدّمه. ومن ذلك قوله تعالى في البقرة: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} (¬1)، وفي الأعراف: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا} (¬2)، والقصّةُ واحدة. ومن ذلك قوله تعالى: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ} (¬3)، وشرعُها يُقدِّم الركوعَ على السجود. ومن ذلك قول أبي النَّجْم [من الرجز]: 1130 - تُعِلُّهُ من جانبٍ وتُنْهِلُهْ ¬
والعَلَل لا يكون إلَّا بعد النَّهَل. يُقال. نَهِلَ يَنْهَلُ إذا شرب أوَّلَ شَرْبة. قال الجَعْديّ [من الرمل]: 1131 - [فشَرِبنا غيرَ شربٍ واغلٍ] ... وَشَرِبْنا عَلَلاً بعدَ نَهَلْ ومن ذلك أيضًا قول لِبيد [من الكامل]: 1132 - أُغلي السِّباءَ بِكلِّ أدْكَنَ عاتِقٍ ... أو جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتامُها ¬
والجونة: الخابئة المَطلية بالقار. وقُدحت: غرفُت، وقيل: مُزجت، وقيل: بُزلت. وفضّ ختامها: أي كسر طِينها. ومعلوم أنه لا يُقَدَح إلَّا بعد فضّ ختامها. مع أنا نقول أنها لو كانت الواو للترتيب؛ لكانت كالفاء، فلو كانت كالفاء؛ لوقعتْ موقعَها في الجزاء، وكان يجوز أن تقول: "إن تُحسِنْ إليّ واللهُ يُجازِيك"، كما تقول: "فالله يجازيك". فلما لم يجز ذلك؛ دلّ على ما قلناه. فأمّا ما حكاه سيبويه، وذلك أته قد منع في عدةِ مواضع من كتابه، منها في هذا الباب، قال (¬1): تقول: "مررت برجلٍ وحمارٍ"، فالواو أشركت بينهما، فلم تجعل للرجل منزلة بتقديمك إياه على الحمار، إذ لم تُرِد التقديم في المعنى وإنما هو شيء في اللفظ، كقولك: "مررت بهما". ولهذا قال (¬2): وليس في هذا دليل على أنه بدأ شيءٌ قبل شيء. وقال قوم: إنها ترتيب، واستدلوا بما رُوي عن ابن عباس أنه أمر بتقديم العُمرة، فقال الصحابة: لِمَ تأمرنا بتقديم العمرة وقد قدّم الله الحَج عليها في التنزيل؟ فدلّ إنكارهُم على ابن عباس أنهم فهموا الترتيب من الواو. وكذلك لما نُزل قوله تعالى. {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} (¬3) قال الصحابة: بِمَ نبدأ يا رسولَ الله؟ فقال: ابدؤوا بما بدأ الله بذِكره. فدل ذلك على الترتيب. وزوي أن بعض الأعراب قام خطيبًا بين يدي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال في خُطبته: "من أطاع الله ورسولَه؛ فقد رشد، ومن عصاهم؛ فقد غَوَى" (¬4). فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: بئس خطيبُ القوم أنتَ، هلا قلت ومن عصى الله ورسولَه. قالوا: فلو كانت الواو للجمع المطلق، لَمَا افترق الحال بين ما علمه الرسول، عليه الصلاة والسلام، وبين ما قال. ¬
وتَعلّقوا أيضًا بما جاء في الأثَر أن سُحَيْمًا عبد بني الحَسْحاس أنشد عند عُمَرَ بن الخطاب رضي الله عنه [من الطويل]: عُمَيْرَةَ وَدّعْ إنْ تَجَهزْتَ غاديَا ... كَفَى الشيْبُ والإِسلامُ للمَرْء ناهِيَا (¬1) فقال عمر: لو كنت قدمت "الإِسلام" على "الشيب" لأجزتُك. فدل إنكاره على أن التأخير في اللفظ يدل على التأخير في المرتبة. وما ذكروه لا دلالةَ فيه قاطعةً. أمّا الآية فنقول إن إنكار الجماعة معارَضٌ بأمر ابن عباس، فإنّه، مع فضله، أمر بتقديم العمرة، ولو كانت الواو تُرتب، لَما خالف. وقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} (¬2)، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -، لم يأمر بتقديم "الصفا"؛ لأن اللفظ كان يقتضي ذلك، وإنما بين عليه الصلاة والسلام المرادَ لِما في الواو من الإجمال. ويدلّ على ذلك سُؤال الجماعة: بِمَ نبدأ؟ ولو كانت الواو لترتيب، لَفهموا ذلك من غير سؤال؛ لأنهم كانوا عربًا فُصحاءَ، وبلغَتهم نُزّل القرآن، فدل أنها للجمع من غير ترتيب. وأما رد النبي، - صلى الله عليه وسلم -، على الخطيب، فما كان إلَّا لأن فيه تَرْكَ الأدَب بترك إفراد اسم الله بالذكر. وكذلك إنكار عمر رضي الله عنه لتَرْك تقديم الإِسلام في الذكر، وإن كان لا فرق بينهما. واعلم أن البغداديين قد أجازوا في الواو أن تكون زائدة، واحتخوا بأنها قد جاءت في مواضع كذلك، منها قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (¬3). قالوا: معناه: ناديناه أن يا إبراهيم، والواو زائدةٌ. ومنها قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} (¬4)، تقديره: حتى إذا جاؤوها فتحت أبوابُها، واحتجّوا أيضًا بقول الشاعر [من الكامل]: 1133 - حَتى إذا امْتَلأتْ بطُونُكُمُ ... ورأيتُمُ أبنَاءَكُمْ شبوا وقَلَبْتُمُ ظَهْرَ المِجَن لَنَا ... إن الغَدُورَ الفاحش الخبُّ ¬
فصل [الفاء و"ثم" و"حتي"]
قالوا: معناه قلبتم ظهر المجنّ لنا. وأمّا أصحابنا، فلا يرون زيادة هذه الواو، ويتأوّلون جميعَ ما ذُكر وما كان مثله بأن أجْوِبَبها محذوفةٌ لمكان العلم بها، والمراد: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} (¬1)، أدرك ثوابَنا ونال المنزلةَ الرفيعةَ لدينا. وكذلك قوله: {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} (¬2)، تقديره: صادفوا الثواب الذي وُعدوه، ونحوُه. وكذلك قول الشاعر: حتى إذا امتلأت بطونكم وكان كذا وكذا، تَحقق منكم الغدرُ، واستحققتم اللَّوْم، ونحوُ ذلك مما يصلح أن يكون جوابًا، فاعرفه إن شاء الله. فصل [الفاء و"ثمَّ" و"حتي"] قال صاحب الكتاب: و"الفاء" و"ثم" و"حتى" تقتضي الترتيب، إلا أن الفاء توجب وجود الثاني بعد الأول بغير مهلة، و"ثم" توجبه بمهلة, ولذلك قال سيبويه (¬3): "مررت برجل ثم امرأة"، فالمرور ههنا مروران، ونحو قوله تعالى: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا} (¬4). وقوله: {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى} (¬5) محمول على أنه لما أهلكها حكم بأن البأس جاءها، وعلى دوام الاهتداء وثباته. * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن هذه الحروف الثلاثة تُوافِق الواوَ من جهة، وتُفارِقها من جهة أخرى. فأمّا جهة الموافَقة، فاشتراكُهن في الجمع بين شيئيْن أو أشياءَ في الحكم، وأمّا المخالفة فمن جهة الترتيب، فالواوُ لا تُرتب. وهذه الثلاثةُ ترتب، وتوجِب أن الثاني بعد الأوّل. فمن ذلك الفاء، فإنها ترتب بغير مهلة، يدل على ذلك وقوعها في الجواب، وامتناعُ الواو و"ثُم" منه، فامتناعُ "ثُم" منه إنما هو لأنها ترتب بمهلة، فعُلم بما دْكرناه أنّ الفاء موضوعة لدخول الثاني فيما دخل فيه الأوَّل متصِلاً. وجملة الأمر أنّها تدخل الكلامَ على ثلاثة أضرب: ضربُ تكون فيه مُتبِعة عاطفة، وضربٌ تكون فيه مُتْبِعة مجرَّدة من معنى العطف، وضرب تكون فيه زائدة دخولها كخروجها، إلَّا أن المعنى الذي تختص به وتُنسَب إليه هو معنى الإتباع، وما عدا ذلك فعارضٌ فيها؛ فأمّا الأوّل فنحو قولك: "مروت بزيدٍ فعمرو"، و"ضربتُ عمرًا فأوجعتُه"، و"دخلت الكوفةَ فالبصرةَ"، أخبرتَ أنّ مرورَ عمرو كان عقيب مرور زيد بلا مهلة. ولذلك قال سيبويه: فالمرور مروران، يريد أن مروره بزيد غيرُ مروره بعمرو، وأنّ إيجاع زيد كان عقيب الضرب، وأن البصرة داخلة في الدخول كالكوفة على سبيل الاتصال. ومعنى ذلك أنه لم يقطع سيرَه الذي دخل به الكوفةَ حتى اتصل بالسير الذي دخل به البصرةَ من غير فتور ولا مهلةٍ. ولهذا من المعنى (¬1) وقع ما قبلها علّة وسببًا لِما بعدها، نحوَ قولك: "أعطيتُه فشكر"، و"ضربته فبكى"، فالإعطاءُ سبب الشكر، والضرب سبب البكاء، والمسبَّبُ يقع ثانيَ السبب وبعده متصلاً به، فلذلك اختاروا لهذا المعنى الفاء، فاعرفه. وأما الضرب الثاني: وهو الذي يكون الفاء فيه للإتباع دون العطف، ففي كل موضع يكون فيه الأول علة لوجود الآخِر، ولا يشارِك الأوّلَ في الإعراب. وهذا نحوُ جواب الشرط، كقولك: "إن تُحْسِن إليّ، فاللهُ يجازيك"، فالفاءُ هنا للإتباع دون العطف. ألا ترى أن الشرط فعلٌ مجزوم، والجواب بعد الفاء جملةٌ من مبتدأ وخبر لا يسوغ فيها الجزم؟ وإنما أتي بالفاء ههنا توصلاً إلى المجازاة بالجمل المركّبة من المبتدأ والخبر، فإنه لولا الفاءُ، لَما صح أن تكون جوابًا، فلمّا كانَ الإتباع لا يفارقها والعطفُ قد يفارقها، كان الإتباع أصلاً فيها. وأما الضرب الثالث: وهو زيادتها، فاعلمْ أن الفاء قد تزاد عند جماعةِ من النحويين المتقدمين كأبي الحسن الأخفش وغيره، فإنّه يجيز: "زيدٌ فقائمٌ"، على معنى: "زيدٌ قائمٌ". وحكى: "زيدٌ فوجد" بـ "زيْد وجد"، وأجاز: "زيدًا فاضْرِبْ، وعمرًا فاشْكرْ" ومنه قوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} (¬2)، أي: كَبرْ، وطَهر، واهجُر. ومن ¬
ذلك ما ذهب إليه أبو عثمان المازني في قولهم: خرجتُ فإذَا زيدٌ قائمٌ": أنّ الفاء زائدة. ومن ذلك قول الشاعر [من الطويل]: وقائِلَةٍ خَولانُ فانْكِحْ فَتاتَهمْ ... وأكْرُومَةُ الحَيينِ خِلْوٌ كما هِيَا (¬1) قالوا: الفاء فيه زائدة؛ لأنه في موضع الخبر، وسيبويه (¬2) لا يرى ذلك، ويتأوّل ما جاء من ذلك ممّا يرده إلى القياس. وأمّا ثُمّ"، فهي كالفاء في أن الثاني بعد الأوّل، إلَّا أنها تفيد مهلهً وتَراخيًا عن الأول، فلذلك لا تقع مواقعَ الفاء في الجواب، فلا تقول: "إنْ تُعْطِنِي ثم أنا أشكرُك"، كما تقول: "فأنا أشكرُك"؛ لأن الجزاء لا يَتراخى عن الشرط. فعلى هذا تقول: "ضربتُ زيداً يومَ الجمعة، ثم عمرًا بعد شهرٍ"، و"بعث اللهُ آدمَ ثم محمدًا"، صلى الله عليهما وسلم. ولا تقول مثلَ ذلك في الفاء؛ لأنه لما تراخى لفظها بكثرة حروفها تراخى معناها؛ لأن قوّة اللفظ مؤذنة بقوة المعنى. والكوفيون أيضًا يرون زيادةَ "ثم" كزيادة الفاء والواو عندهم. قال زهَيْر [من الطويل]: 1134 - أرانى إذا ما بِتُ بِتُّ على هَوى ... فَثم إذا أصبحتُ أصبحتُ غادِيا ¬
وعلى ذلك تأوّلوا قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا} (¬1). * * * قال صاحب الكتاب: و "حتى" الواجب فيها أن يكون ما يعطف بها جزءًا من المعطوف عليه إما أفضله كقولك: "مات الناس حتى الأنبياء", أو أدونه, كقولك: "قدم الحاج حتى المشاة". * * * قال الشارح: اعلم أن "حَتى" قد تكون عاطفة تُدْخِل ما بعدها في حكمِ ما قبلها كالواو والفاء، وهو أحدُ أقسامها. ولها في العطف شرائطُ: أحدها أن يكون ما بعدها من جنسِ ما قبلها، وأن يكون جُزءًا له، وأن يكون فيه تحقيرٌ أو تعظيمٌ، وذلك نحوُ: "قدم الحاج حتى المشاةُ"، فهذا تحقير، و"مات الناس حتى الأنبياء"، وهذا تعظيم. ولذلك قال: إِما أفْضَلَهُ أو أدوَنَهُ. ولو قلت: "قدم الحاج حتى الحِمارُ"، لم يجز؛ لأنه ليس من جنس المعطوف عليه، وكذلك لو قلت: "قدم زيدُ حتى عمرو"، لم يجز؛ لأن الثاني، وإن كان من جنس الأول، فليس بعضًا له. وكذلك لو قلت: "رأيت القومَ حتى زيدًا"، وكان زيد غير معروف بحَقارة أو عِظَم، لم يجز أيضًا، وإن كان بعضًا له. واعلمْ أن حَتى إنما يتحقق العطفُ بها في حالة النصب لا غير، نحوِ قولك: "رأيت القومَ حتى زيدًا"، فالاسمُ بعد "حتى" داخل في حكم ما قبلها، ولذلك تبِعه في الإعراب، فأمّا إذا قلت: "قدِم القوم حتى زيدٌ"، فإنّه لا يتحقق هاهنا العطفُ لاحتمالِ أن تكون حرف ابتداء، وهو أحد وجوهها، وما: عدها مبتدأٌ محذوفُ الخير. وكذلك إذا خفضت ربّما يُتوهم فيها الغايةُ، على نحو قوله: {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} (¬2)، ولذلك لم يُمثل الفارسي في العطف إلَّا بصورة النصب، فقال: نحوَ قولك: "ضربتُ القومَ حتى زيدًا"، ثم عضد ذلك بالنقل؛ لئلا يمنع المخالفُ هذه الصورةَ، فقال: وقد رواه سيبويه وأبو زيد وغيرهما، وكذلك رواه يونسُ. وفي الجملة "حَتى" غيرُ راسخة القَدَم في باب العطف، ولا متمكنة فيه؛ لأن الغرض من العطف إدخال الثاني في حكم الأول، وإشراكه في إعرابه إذا كان المعطوف غير المعطوف عليه، فأما إذا كان الثاني جزءا من الأول؛ فهو داخل في حكمه؛ لأن ¬
فصل ["أو" و"إما" و"أم"]
اللفظ يتناول الجميع من غير حرفِ إشراك. ألا ترى أنك إذا قلت: "ضربت القومَ"، شمل هذا اللفظ زيدًا وغيرَه ممن يعقل، فلم يكن في العطف فائدةٌ سوى إرادة تفخيم وتحقير وذلك يحصل بالخفض على الغاية. فصل ["أو" و"إمّا" و"أمْ"] قال صاحب الكتاب: و"أو"، و"إمَّا"، و"أم" ثلاثتها لتعليق الحكم بأحد المذكورين، إلا أن "أو" و"إما" تقعان في الخبر والأمر والاستفهام نحو قولك: "جاءني زيد أو عمرو"، و"جاءني إما زيد وإما عمرو"، و"اضرب رأسه أو ظهره"، و"اضرب إما رأسه وإما ظهره"، و"ألقيت عبد الله أو أخاه", و"ألقيت إما عبد الله وإمّا أخاه". * * * قال الشارح: يريد أنّ هذه الحروف الثلاثة تجتمع في أن الحكم المذكور مَسندٌ بها إلى أحد الاسمَين المذكورَيْن لا بعينه، و"أوْ"، و"إما" تقعان في الخبر والأمر والاستفهام. ولذلك يكون الجواب عن هذا الاستفهام "نَعَمْ"، إن كان عنده واحدٌ منهما، أو"لا" أن لم يكن، إذ المعنى: ألقيتَ أحدَهما؟ والذي يدل أن أصلهما أحد الشيئين، أنه إذا لم يكن معك في الكلام دليل يوجب زيادةَ معنى على هذا المعنى، لم يُحْمَل في التأويل إلَّا عليه. * * * قال صاحب الكتاب: و"أم" لا تقع إلا في الاستفهام إذا كانت متصلة، والمنقطعة تقع في الخبر أيضًا. تقول في الاستفهام: "أزيدٌ عندك أم عمرو" وفي الخبر: "إنها لإبل أم شاءٌ". * * * قال الشارح: وأما "أم" فتكون على ضربَين: متصلة وهي المعادِلة لهمزة الاستفهام، ومنقطعة. فأما المتصلة، فتأتي على تقدير: "أي"؛ لأنها لتفصيلِ ما أجملتْه "أي"، وذلك أن السؤال على أربع مراتب في هذا الباب: الأول: السؤال بالألف منفردةَ، كقولك: أعندك شىءٌ ممّا تحتاج إليه؟ فيقول: نَعَمْ. فتقول: ما هو؟ فيقول: متاعٌ. فتقول: أيُّ المتاعِ؟ فيقْول: "بَزٌّ" فتقول: أكَتانٌ هو أم مَرْوي؟ فيكون الجواب حينئذ اليقينَ. فالجوابُ مرتب على هذه المراتب المذكورة، فأشدُّها إبهامًا السؤالُ الأوَّل: لأنه ليس فيه ادعاءُ شيء عنده. ثم الثاني: لأن فيه ادعاءَ شيء عنده، إذا قلت: "ما الشيءُ الذي عندك؟ ". ثم السؤال الثالث: وهو بـ "أي" وهو لتفصيلِ ما أجملتَه.
ثم السؤال الرابع: بالألف مع "أم"، وهو لتفصيلِ ما أجملتْه "أيّ"، فتقول: "أزيد عندك أم عمرو؟ " و"أزيدًا لقيتَ أم بشرًا؟ " فمعناه: أيهما عندك؟ وأيهما لقيتَ؟ ولا تُعادَل أم هذه إلَّا بالهمزة، وينبغي أن يجتمع في "أمْ" هذه ثلاثُ شرائط حتى تكون متصلة. أحدها: أن تُعادِل همزةَ الاستفهام، والثاني: أن يكون السائل عنده علمُ أحدهما، والثالث: أن لا يكون بعدها جملة من مبتدأ وخبر، نحوُ قولك: "أزيدٌ عندك أم عمرو عندك"؟ فقولك بعدها: "عمرو عندك" يقتضي أن تكون منفصلة، ولو قلت: "أَم عمرو"، من غير خبر، كانت متصلة. وتقول: "أأعطيتَ زيدًا أم حرمتَه"؟ فتكون متصلة أيضًا؛ لأن الجملة بعدها إنما هي فعل وفاعل، وليست ابتداء وخبرًا. والجواب عن هذا السؤال، إن كان قد فعل واحدًا منهما، التعيينُ؛ لأن الكلام بمنزلةِ "أيهما"، و"أيهم"، ولا يكون "لا"، ولا "نَعَمْ"؛ لأن المتكلّم مُدعٍ أن أحد الأمرَين قد وقع، ولا يدري أي الأمرين هو، ولا يعرفه بعينه، فهو يسأل عنه من يعتقد أن عِلمَ ذلك عنده ليُعرفه إياه عينًا. فإن كان الأمر على غير دَعْواه؛ كان الجواب: "لم أفعلْ واحدًا منهما". وقيل لها: "متصلة" لاتصال ما بعدها بما قبلها وكَوْنِه كلامَا واحدًا، وفي السؤال بها معادَلة وتسوية؛ فأمّا المعادلة فهي بين الاسمَيْن، جعلت الاسم الثاني عديلَ الأول في وقوع الألف على الأول، و"أمْ" على الثاني، ومذهبُ السائل فيهما واحدٌ. فأما التسوية فهي أن الاسمَيْن المسؤول عن تعيين أحدهما مستويان في علم السائل، أي الذي عنده في أحدهما مثلُ الذي عنده في الآخر. فمن ذلك قوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} (¬1)، فهذا على التقدير والتوضيح. ومثله قوله تعالى: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} (¬2)، فهو من الناس استفهام، ومن القديم سبحانه توقيفٌ وتوبيخٌ للمشركين خرج مخرجَ الاستفهام، ولا خيرَ في واحد منهم، إئما هو على ادّعاءهم أن هناك خيرًا، فقُرّعوا بهذا على هذه الطريقة، فاعلم. وأمّا الضرب الثاني من ضربَيْ "أم"، وهي المنقطعة، فإنما قيل لها: "منقطعة"؛ لأنها انقطعت مما قبلها خبرًا كان أو استفهامًا، إذ كانت مقدرةَ بـ "بَل" والهمزِة على معنى "بَلْ أكَذا". وذلك نحو قولك فيما كان خبرًا: "إنّ هذا لزيدٌ أم عمرو"، كأنك نظرت إلى شخص، فتوهّمتَه زيدًا، فأخبرتَ على ما توهمتَ، ثم أدركك الظن أنه عمرو، فانصرفتَ عن الأول، وقلت: "أم عمرٌو" مستفهمًا على جهة الإضراب عن الأول. ومثلُ ذلك قول العرب: "إنها لإبِلٌ أم شاءٌ" أي: بل أهي شاءُ. فقوله: "إنها لإبلٌ" إخبارُ، وهو كلامُ تام، وقوله: "أم شاء" استفهامٌ عن ظَن وشَك عرض له بعد الإخبار. فلا بد من إضمارِ ¬
فصل [الفرق بين "أو" و"أم"]
"هِيَ"؛ لأنه لا يقع بعد "أم" هذه إلَّا الجملةُ؛ لأنه كلامُ مستأنَفٌ، إذ كانت "أم" في هذا الوجه إنما تعطف جملةً على جملة، إلَّا أن فيها إبطالًا للأوّل وتراجُعًا عنه من حيث كانت مقدرةَ بـ "بَل" والهمزةِ على ما تقدم. فـ "بَل" للإضراب عن الأول، والهمزةُ للاستفهام عن الثاني. وليس المراد أنها مقدرة بـ "بَلْ" وحدَها، ولا بالهمزة وحدها؛ لأن ما بعد "بَل" متحقق، وما بعد "أم" هذه مشكوك فيه مظنونٌ، ولو كانت مقدرة بالألف وحدها، لم يكن بين الأول والآخر عُلقةٌ. والدليل على أنها ليست بمنزلةِ "بَلْ" مجرَّدةً من معنى الاستفهام قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ؟} (¬1)، وقوله تعالى: {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ؟} (¬2)، إذ يصير ذلك متحقّقًا، تَعالى الله عن ذلك. فصل [الفرق بين "أو" و"أَمْ"] قال صاحب الكتاب: والفصل بين "أو", و"أمْ" في قولك: "أزيد عندك أو عمرو؟ " و"أزيد عندك أم عمرو؟ " وأنك في الأول لا تعلم كون أحدهما عنده, فأنت تسأل عنه، وفي الثاني تعلم أن أحدهما عنده إلا أنك لا تعلمه بعينه, فأنت تطالبه بالتعيين. * * * قال الشارح: قد تقدّم الفصل بين "أو" و"أم"، وذلك أنّ "أو" لأحد الشيئين، فإذا قال: "أزيدٌ عندك أو عمرو؟ " فالمراد: أأحدُ هَذَين عندك؟ فأنت لا تعلم كونَ أحدهما عنده، فأنت تسأله ليُخبِرك، ولذلك يكون الجواب "لا"، إن لم يكن عنده واحدٌ منهما، أو"نَعَمْ" إذا كان عنده أحدهما. ولو قال الذي الجواب "زيدٌ" أو"عمرٌو"، لم يكن مُجيبًا بما يُطابِق السؤالَ صريحًا، بل حصل الجواب ضِمْنًا وتَبَعًا, لأن في التعيين قد حصل أيضًا علمُ ما سأل عنه. وأمّا "أم " إذا كانت متصلة، وهي المعادَلة بهمزة الاستفهام، فمعناها معنَى "أي". فإذا قال: "أزيدٌ عندك أم عمرو؟ " فالمراد: أيهما عندك؟ فأنت تدري كونَ أحدهما عنده بغير عينه، فأنت تطلب تعيينه، فيكون الجواب "زَيدٌ"، أو"عمرو". ولا تقول: "نَعَم"، ولا "لا"؛ لأنه لا يريد السائل هذا الجوابَ على ما عنده، فقد تَبين أن السؤال بـ "أو" معناه: أأحدهما؟ وبـ "أم" معناه أيهما؟ فإذا قال: "أزيدٌ عندك أو عمرو؟ " فأجبتَ بـ "نَعَم"، عَلِمَ أن عنده أحدَهما. وإذا أراد التعيين، وضع مكانَ "أوْ" "أمْ" واستأنف بها السؤالَ، وقال: "أزيدٌ عندك أم عمرو؟ " فيكون حينئذ الجواب "زيدٌ"، أو "عمرو"، فاعرفه. ¬
فصل [معاني "أو" و"إما"]
فصل [معاني "أو" و"إمّا"] قال صاحب الكتاب: ويقال في "أو" و"إما" في الخبر أنهما للشك، وفي الأمر إنهما للتخيير والإباحة, فالتخيير كقولك أضرب زيداً أو عمراً، وخذ إما هذا وإما ذلك, والإباحة (¬1) كقولك: "جالس الحسن أو ابن سيرين"، و"تعلم إما الفقه وإما النحو". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إن الباب في "أوْ" أن تكون لأحد الشيئين أو الأشياء في الخبر وغيرِه، تقول في الخبر: "زيدٌ أو عمرو قام" والمراد أحدهما، وتقول في الأمر: "خُذْ دينارًا أو ثوبًا"، أي: أحدَهما، ولا تجمع بينهما. ولها في ذلك معانٍ ثلاثةٌ: أحدها الشك، وذلك يكون في الخبر، نحوِ قولك: "ضربت زيدًا أو عمرًا"، و"جاءني زيدٌ أو عمرو"، تريد أنك ضربت أحدهما، وأن الذي جاءك أحدهما. والأكثرُ في استعمالٍ "أوْ" في الخبر أن يكون المتكلم شاكا لا يدري أيّهما الجائي، ولا أيّهما المضروب، والظاهرُ من السامع أن يحمل الكلامَ على شك المتكلم، وقد يجوز أن يكون المتكلم، غيرَ شاك، وإنما أراد تشكيك السامع بأمرِ قصده، فأبْهَمَ عليه وهو عالمُ، كقولك: "كلمتُ أحدَ الرجلَيْن"، و"اخترتُ أحدَ الأمرَين" تقول، وأنت عارفٌ به، ولا تُخبِر. ومنه قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} (¬2) وقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} (¬3). ومنه قول لَبيدٍ [من الطويل]: 135 - تَمنى ابْنَتايَ أنْ يَعِيش أبوهما ... وما أنا إلامن رَبِيعَةَ أومُضَرْ ¬
وقد علم لبيد أنّه من مضر وليس من ربيعة، وإنما أراد: من إحداهما بين القبيلتين، كأنه أبهم عليهما. يُعزّى ابنتَيْه في نفسه بأنه من إحدى هاتين القبيلتين، وقد فنوا، ولا بد أن يصير إلى مَصيرهم. وإنما خصّ القبيلتين لعِظَمهما، ولو زاد في الإبهام؛ لكان أعظم في التعزية. والمعنى الثاني: أن تكون للتخيير، نحوَ قولك: "خُذْ ثوبًا" أو دينارًا، أو عشرةَ دراهم"، فقد خيرتَه أحدَهما، وكان الآخر غير مباح له؛ لأنه لم يكن للمخاطب أن يتناول شيئًا منها قبل، بل كانا محظورَيْن عليه، ثم زال الحَظْرُ من أحدهما، وبقى الآخر على حظره، قال الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} (¬1)، فأوجب أحدَ هذه الثلاثة، وزمامُ الخِيرة بيد المكلَّف، فأيهما فعل؛ فقد كَفرَ، وخرج عن العُهدة، ولا يلزمه الجمعُ بينهما. وأمّا الثالث: فهو الإباحة، ولفظها كلفظ التخيير، وإنما كان الفرق بينهما أن الإباحة تكون فيما ليس أصله الحظر، نحوَ قولك: "جالِسِ الحسنَ أو ابنَ سِيرِينَ"، و"البس خَزًّا أو كَتانًا"، كأنه نبه المخاطبَ على فضل أشياءَ من المباحات، فقال: "إن كنتَ لابسًا، فالبس هذا الضربَ من الثياب المباحة، وإن كنتَ مُجالِسًا، فجالِسْ هذا الضرب من الناس". فإن جالَسَ أحدَهما، فقد خرج عن العُهْدة؛ لأن "أو" تقتضي أحدَ الشيئين. وله مجالستُهما معًا لا لأمرٍ راجع إلى اللفظ، بل لأمرٍ خارجٍ، وهو قرينةٌ انضمت إلى اللفظ، وذلك أنه قد علم أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لِما في ذلك من النفْع والحَظ، وهذا المعنى موجود في ابن سيرين. ويجري النهىُ في ذلك هذا المجرى، نحوَ قولك للابس: "لا تلبسْ حريرًا، أو مُذهبا"، المعنى: لا تلبس حريرًا ولا مذهّبًا، ومنه قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (¬2)، فهذه "أو" هي التي تقع في الإباحة؛ لأن النهى قد وقع على الجمع والتفريق، ولا يجوز طاعةُ الآثم على الانفراد، ولا طاعة الكفور على الانفراد، ولا جمعُهما في الطاعة، فهو ههنا في النهي بمنزلة الإيجاب، نحوِ: "جالسِ الحسنَ أو ابنَ سيرين". ¬
فصل [الفرق في العطف بين "أو" و"إما"]
ومجرَى "إما" في الشك والتخيير والإباحة بمنزلةِ "أوْ"، ودْلك قولك في الخبر: "جاءني إما زيدٌ وإمّا عمرو"، أي: أحدُهما، وكذلك وقوعهما في التخيير، تقول: "اضرب إما عمرًا وإذا خالدًا"، فالآمرُ لا يَشُك، ولكنه خيّر المأمورَ كما كان ذلك في "أوْ". ونظيرُه قوله عز وجل: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} (¬1)، وقوله: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬2). وتقول في الإباحة: "تَعلمْ إما الفِقْهَ وإما النحوَ"، و"جالسْ إما الحسنَ وإمّا ابنَ سيرين". حالُها في ذلك كله كحالِ "أو". ولِما بينهما من المناسبة، جاءت في الشعر مُعادِلةً لـ "أوْ"، نحوَ: "ضربت إمّا زيدًا أو عمرًا"، فإن تقدمتْ "إمَّا" وتبعتها "أوْ"، كان المعنى لـ"إما" دونها لتقدمها؛ ولذلك يُبْنَى الكلام معهما على الشك من أوّله بخلاف "أو" إذا كانت منفردةً، فاعرفه. فصل [الفرق في العطف بين "أو" و"إما"] قال صاحب الكتاب: وبين "أو" و"إما" من الفصل إنك مع "أو" يمضي أول كلامك على اليقين, ثم يعترضه الشك، ومع "إمَّا" كلامك من أوله مبني على الشك. * * * قال الشارح: لما كانت "إمَّا" كـ"أوْ" في أنهما لأحد الأمرَيْن، وبأن شدةُ تناسُبهما، أخذ في الفصل بينهما. وجملة ذلك أن الفصل بينهما من جهة المعنى والذات، فأمّا المعنى، فإنك إذا قلت: "ضربتُ زيدًا، أو اضرب زيدًا"، جاز أن تكون أخبرته بضرْبك زيدًا، فأنت متيقن، أو أمرتَه بضَرْبه، أو أبَحتَه، ثم أدركك الشك بعد ما كنت على يقين، و"إما" في أوّل ذِكرها تؤذن بأحد من أمرَين، فافترق حالاهما من هذا الوجه. وأمّا الفصل من جهة الذات، فإن "أو" مفردةٌ، و"إما" مركبة من "إن"، و"ما". فعلى هذا، لو سمّيت بـ "أوْ" أعربت، ولو سميت بـ "إمَّا " حكيت كما تحكي إذا سمّيت بـ "إنما"، و"كَأنما". والذي يدل على أن أصل "إما" "إن " ضُمت إليها "ما" ولزمتها للدلالة على المعنى، أن الشاعر لما اضطُر إلى إلغاء "ما" منها، عادت إلى أصلها، وهو "إن"، نحوَ قول الشاعر [من الوافر]: 1136 - لَقَد كَذَبَتْك نَفْسُك فاكذِبَنْهَا ... فإن جَزَعا وإنْ إجمالَ صَبرِ ¬
فهذا على معنى: فإما جزعًا وإمّا إجمالَ صبر؛ لأن الجزاء لا معنى له هاهنا، وليس كقولك [من البسيط]: إنْ حَقًا وإنْ كَذِبا (¬1) ولكن على حد قوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (¬2) قال سيبويه (¬3): ألا ترى أنك تُدْخِل الفاء؟ فجعل دخولَ الفاء على "إنْ" مانِعًا من كونها للجزاء. ووجهُ ذلك أنّها هاهنا، لو كانت للجزاء، لاحتجتَ لها إلى جواب؛ لأن ما تقدّم لا يصح أن يسد مسد الجواب بعد دخول الفاء؛ لأن الشرط لا يتعقب الجزاءَ، إنما الجزاءُ هو الذي يتعقب الشرطَ، وليس كذلك "إنْ حقًّا وإن كذبا"، فإنه لا فاء فيه، فأمّا قول الآخر، وهو النمِر بن تَولَبٍ [من المتقارب]: 1137 - سَقَتهُ الرواعِدُ من صيفٍ ... وإن من خَرِيفٍ فلَنْ يَعدَما ¬
فقد حمله سيبويه (¬1) على إرادةِ "إما" أيضًا، و"إنْ" فيه محذوفةٌ من "إما"، يريد: وإما من خريف. ولا يجوز طرح "ما" من "إمَّا" إلَّا في ضرورة. وقدر ذلك أبو العباس المبرد من الغلط، فقال: "ما" لا يجوز إلغاؤُها إلَّا في غاية من الضرورة. ولا يجوز أن يُحمَل الكلام على الضرورة ما وُجد عنه مندوحةٌ، مع أن "إما" يلزمها أن تكون مكررة، وهاهنا جاءت مرةً واحدةً. قال أبو العباس: لو قلت: "ضربتُ إمّا زيدًا"، لم يجز؛ لأن المعنى: إما هذا، وإما هذا. وصحةُ مَحْمَله على ما ذهب إليه الأصمعى أنها "إن" الجزائية. والمراد: وإن سقته من خريف، فلن يعدم الري، ولم يحتج إلى ذكرِ "سقته" مرة ثانية؛ لقوله: "سقته الرواعد من صيف"، كأنه اكتفى بذكره مرة واحدة. ولا يبعد ما قاله سيبويه، وإن كان الأول أظهرَ، فيكون اكتفى بـ "إِمَّا" مرة واحدة، وحذف بعضها، كأنه حملها على "أوْ" ضرورة، وتكون الفاء عاطفة جملة على جملة، وعلى القول الأول جوابَ الشرط. ونظيرُ استعماله "إما" هنا من غير تكرير قولُ الفرزدق [من الطويل]: 1138 - تُهاضُ بدار قد تَقادم عَهْدُها ... وإما بأمْوات ألَم خَيالُها * * * ¬
قال صاحب الكتاب: ولم يعد الشيخ أبو علي الفارسي "إمَّا" في حروف العطف؛ لدخول العاطف عليها, ووقوعها قبل المعطوف عليه. * * * قال الشارح: قد كنا ذكرنا أن أبا علي لم يعد "إما" في حروف العطف، وذلك لأمرَيْن: أحدهما أنها مكررةٌ، فلا تخلو العاطفة من أن تكون الأُولى أو الثانية، فلا يجوز أن تكون الأوُلى؛ لأنها تُدْخِل الاسمَ الذي بعدها في إعراب الاسم الذي قبلها وليس قبلها ما تعطفه عليه. ولا تكون الثانية هى العاطفة؛ لدخول واو العطف عليها، وحرفُ العطف لا يدخل على مثله. قال ابن السرّاج: ليس "إمَّا" بحرف عطف؛ لأن حروف العطف لا يدخل بعضُها على بعض، فإن وجدت شيئًا من ذلك في كلامهم، فقد خرج أحدهما من أن يكون حرف عطف، نحوَ قولك: "ما قام زيدٌ لا عمرو"، فـ "لا" في هذه المسألة ليست عاطفة، إنما هي نافية. ونحن نجد "إمَّا" هذه لا يُفارِقها حرفُ العطف، فقد خالفتْ ما عليها حروفُ العطف. والثاني من الأمرَين ابتداؤك بها من نحو قوله تعالى: {إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} (¬1). وذلك أن موضع "أنّ" في كلا الموضعين رفعٌ بالابتداء، والتقديرُ: إمّا العذابُ شأنُك أو أمرُك، وإمّا اتّخاذُ الحسن. وحكى سيبويه (¬2): "إمّا أن يقوم وإما أن لا يقوم"، فموضعُ "أنْ" فيها رفعٌ، ومثلُ ذلك أجازه سيبويه في البيت الذي أنشده، وهو [من الوافر]: لقد كَذَبَتك نفسُك فاكذِبَنها ... فإن جَزَعًا وإنْ إجمالَ صَبْرِ (¬3) قال (¬4): ولو رفعت، فقلت: "فإنْ جَزَعٌ، وإن إجمالُ صبر"، لكان جائزًا، كأنك ¬
فصل ["لا" و"بل" و"لكن"]
قلت: "فإما أمري جزعٌ وإمّا إجمالُ صبر". وإذا جاز الابتداء بها لم تكن عاطفة؛ لأن حروف العطف لا تخلو من أن تعطف مفردًا على مفرد، أو جملةً على جملة، فكلا الأمرين لا يُبتدأ به. وقوله: "لدخول العاطف"، يريد لدخول الواو على "إمَّا" الثانية. وقوله: "لوقوعها قبل المعطوف عليه" يريد أن الأُولى لا تكون عاطفة لوقوعها أوّلاً قبل ما عُطف عليه، وحرت العطف لا يتقدم على ما عُطف عليه. ولا تكون الثانية عاطفة للزوم حرف العطف، وهو الواو لها، وحرفُ العطف لا يدخل على مثله. فصل ["لا" و"بل" و"لكن"] قال صاحب الكتاب: و"لا"، و"بل"، و"لكن" أخوات في أن المعطوف بها مخالف للمعطوف عليه, فـ "لا" تنفي ما وجب للأول, كقولك: جاءني زيد ولا عمرو, و"بل" للإضراب عن الأول منفياً أو موجباً, كقولك: جاءني زيد بل عمرو, وما جاءني بكر بل خالد, و"لكن" إذا عطف بها مفرد على مثله, كانت للاستدراك بعد النفي خاصة كقولك: "ما رأيت زيداً لكن عمراً", وأما في عطف الجملتين, فنظيرة "بل", تقول: "جاءني زيد لكن عمرو لم يجيء"، و"ما جاءني زيد لكن عمرو قد جاء". * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الأحرف الثلاثة متواخية لتقارب معانيها من حيث كان ما بعدها مخُالِفًا لِما قبلها على ما سيوضَح، وليس في حروف العطف ما يُشارِك ما بعده ما قبله في المعنى، إلَّا الواو، والفاء، و"ثُم"، و"حَتى"، فأما "لا" فتُخْرِج الثاني ممّا دخل فيه الأوّل. وذلك قولك: "ضربت زيدًا لا عمرًا"، و"مررت برجل لا امرأةٍ"، و"جاءني زيدُ لا عمرو". ولا تقع بعد نفي، فلا تقول: "ما قام زيدُ لا عمرو"؛ لأنها لإخراج الثاني ممّا دخل فيه الأوَّلُ، والأولُ لَم يدخل في شيء، فإذا قلت: "هذا زيدٌ لا عمرو"، فقد حققت الأولَ، وأبطلت الثاني، كما قال الثقَفي [من البسيط]: 1139 - هذِي المَفاخِرُ لا قَعْبانِ من لَبَنٍ ... شِيبَا بماءٍ فعادَا بَعْدُ أبْوالَا ¬
واعلم أنها إذا خَلَتْ من واوٍ داخلةٍ عليها، كانت عاطفةً نافيةً، كقولك: "جاء زيدٌ لا عمرٌو". فإذا دخلت عليها الواو نحوَ قوله تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} (¬1)، وقوله سبحانه: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} (¬2)، تجردت للنفي، واستبدّت الواوُ بالعطف، لأنها مشتركة تارةً تكون نفيًا وتارةً مؤكدةً للنفي. ووجهُ الحاجة إلى تأكيد النفي أنها قد تُوقِع إبهامًا بدخولها لِمَا سبق إلى النفس في قولك: "ما جاء زيدٌ وعمرو" من غير ذكرِ "لا". ودْلك أنك دللت بها حين دخلتِ الكلامَ على انتفاء المجيء منهما على كل حال مصطحبَين ومفترقَيْن. ومع عدمها كان الكلام يُوهِم أن المجيء انتفى عنهما مصطحبين، فإنّه يجوز أن يكون مجيئهما وقع على غير حال الاجتماع، فالواوُ مستبِدّةٌ بالعطف؛ لأنه لا يجوز دخول حرف العطف على مثله، إذ من المحال عطفُ العاطف. فإن قيل: فهل يجوز العطف بـ "لَيْسَ" لِما فيها من النفي كما جاز بـ "لا"، فتقولَ: "ضربت زيدًا ليس عمرًا؟ قيل: لا يجوز ذلك على العطف, لأنها فعلٌ، وإنما يُعْطَف بالحروف. فإن قيل: فهل يجوز بـ "ما"؛ لأنها حرفٌ؟ قيل: لا يجوز ذلك بالإجماع، فلا تقول: "ضربت زيدًا ما عمرًا"؛ لأن "ما" لها صدرُ الكلام، إذ كان يُستأنف بها النفيُ كما يُستأنف بالهمزة الاستفهامُ، فلم يُعْطَف بها؛ لأن لها صدر الكلام كالاستفهام. وحرفُ العطف لا يقع إلا تابعًا لشيء قبله، فلذلك من المعنى لم يجز أن يعمل ما قبلها فيما بعدها، كما لم يجز ذلك في الاستفهام. وأمّا "بَل"، فللإضراب عن الأول وإثباتِ الحكم للثاني، سواءٌ كان ذلك الحكم إيجابًا أو سَلْبًا، تقول في الإيجاب: "قام زيدٌ بل عمرو"، وتقول في النفي: "ما قام زيد بل عمروٌ"، كأنك أردت الإخبار عن عمرو، فغلطتَ، وسبق لسانُك إلى ذكر "زيد"، ¬
فأتيت بـ "بَل" مُضْرِبًا عن زيد، ومُثْبِتًا ذلك الحكم لعمرو. قال أبو العباس محمّد بن يزيد المبرد: إذا قلت: "ما رأيتُ زيدًا بل عمرًا"، فالتقدير: بل ما رأيت عمرًا، لأنك أضربت عن موجب إلى موجب. وكذلك تُضْرِب عن منفيّ إلى منفيّ. وتحقيقُ ذلك أن الإضراب تارةً يكون عن المُحدَّث عنه، فتأتى بعد "بَلْ" بمحدّث عنه، نحوَ: "ضربتُ زيدًا بل عمرًا"، و"ما ضربت زيدًا بل عمرًا"، وتارةً عن الحديث، فتأتي بعد "بَلْ" بالحديث المقصود إليه، نحوَ: "ضربت زيدًا بل أكرمتُه"، كأنّك أردت أن تقول: "أكرمت زيدًا"، فسبق لسانُك إلى "ضربت"، فأضربتَ عنه إلى المقصود، وهو "أكرمته". وتارةً تُضْرِب عن الجميع، وتأتي بعد "بَل" بالمقصود من الحديث، والمُحدَّث عنه، وذلك نحوُ: "ضربتُ زيدًا بل أكرمتُ خالدًا"، كأنك أردت من الأول أن تقول: "أكرمت خالدًا"، فسبق لسانك إلى غيره، فأضربت عنه بـ "بَل"، وأتيتَ بعدها بالمقصود. هذا هو القياس. وقولُ النحويين: إنك تُضرِب بعد النفي إلى الإيجاب، فإنما ذلك بالحمل على "لكِنْ"، لا على ما تقتضيه حقيقةُ اللفظ، ومن قال من النحويين أن "بَل" يُستدرك بها بعد النفي كـ "لكِنْ"، واقتصر على ذلك، فالاستعمال يشهد بخلافه. واعلم أن الإضراب له معنيان: أحدهما إبطالُ الأول والرجوع عنه، إما لغلطٍ أو نِسْيانٍ على ما ذكرنا، والآخر: إبطالُه لانتهاءِ مدّةِ ذلك الحكم، وعلى ذلك يأتي في الكتاب العزيزنحوَ قوله تعالى: {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} (¬1)، ثم قال: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} (¬2) كأنّه انتهتْ هذه القصةُ الأوُلى، فأخذ في قصة أُخرى، ولم يُرِد أن الأول لم يكن. وكذلك قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (¬3)، وهو كثير في القرآن والشعر. وذلك أن الشاعر إذا استعمل "بَل" في شعر، نحوِ قوله [من الرجز]: بَل جَوزِ تَيْهاءَ كظَهْرِ الحَجَفتْ (¬4) ونحو [من الرجز]: 1140 - بَلْ بَلَدٍ مِلْءِ الفِجاجِ قتمُهْ ¬
فإنّه لا يريد أن ما تقدم من قوله باطلٌ، وإنما يريد أن ذلك الكلام انتهى، وأخذ في غيره، كما يذكر الشاعر معانِيَ كثيرةً، ثم يقول: فعُدْ عن ذا، ودَعْ ذا، وخُذْ في حديثٍ غيره، فاعرفه. وأمّا "لكِنْ"، فحرفُ عطف أيضًا، ومعناه الاستدراك، وإنما تعطف عندهم بعد النفي، كقولك: "ما جاء زيدٌ لكن عمرو"، و"ما رأيت بكرًا لكن بشرًا، و"ما مررت بمحمدٍ لكن عبدِ الله"، فتُوجب بها بعد النفي. ولا يجوز: "جاءني زيدٌ لكن عمرو"؛ لأنه يجب أن الثاني فيها على خلاف معنى الأول من غير إضراب عن الأول، فإذا قلت: "جاءني زيدُ"، فهو إيجابُ، فإذا وصلته، فقلت: "لكن عمرو"، صار إيجابًا أيضًا، وفسد الكلام، ولكن تقول في مثل هذا: "جاءني زيد لكن عمرو لم يأتِ" حتى يصير ما بعدها نفيًا، والذي قبل إيجابًا لتحقيق الاستدراك. ولو قلت في هذا: "لكن لم يقم زيدٌ"، أو "لكن ما قام عمرو"، لأدَّيْتَ المعنى، لكن الاستعمال له يقِل لتَنافُره، لأن الأول عطف جملة على جملة في صورة عطف مفرد على مفرد؛ لأن الاسم الذي بعدها يلي الاسمَ الذي قبلها. ولو قلت: "تكلّم زيد لكن عمرو سكت" جاز، لمخالفة الثاني الأوّلَ في المعنى، فجرى مجرى النفي بعد الإثبات. وذلك أن "لكِنْ" إئما تُستعمل إذا قدر المتكلمُ أن المخاطب يعتقد دخولَ ما بعد "لكِنْ" في الخبر الذي قبلها، إمّا لكونه تبَعًا له، وإذا لمخالَطةِ موجب ذلك، فتقول: "ما جاءني زيدٌ لكن عمرو"، فتخرِج الشك من قبل المخاطب إذ جاز أَن يعتقد أن عمرًا لم يأتِ مع ذلك، فإذا لم يكن بين "عمرو" وبين "زيد" عُلْقَةٌ تجوِّز المشاركةَ؛ لم يجز استعمالُ "لكِنْ"؛ لأن الاستدراك إئما يقع فيما يُتوهم أنّه داخل في الخبر، فيستدرك المتكلمُ إخراجَ المستدرَك منه. فإن قيل: فلِمَ لا يجوز: "جاءنى زيد لكن عمرو" على معنى النفي؟ قيل: لأن النفى لا يكون إلَّا بعلامةِ حرف النفى، وليس الإيجابُ كذلك، فاستغنيت في الإيجاب ¬
عن الحرف، ولم تستغنِ في النفي عن الحرف لِما بيّنّا، وقياسُه كقياسِ "زيدٌ في الدار"، و"ما زيدٌ في الدار"، فهو في النفي بحرف، وفي الإيجاب بغير حرف. واعلم أنّ "لكِن" قد وردت في الاستعمال على ثلاثةِ أضرب: تكون للعطف والاستدراك، وذلك إذا لم تدخل عليها الواو، وكانت بعد نفى، فعطفتْ مفردًا على مثله ولمجرد الاستدراك، وذلك إذا دخلت عليها الواو. وتكون حرف ابتداء يُستأنف بعدها الكلام، نحوَ "إنما"، و"كأنما"، و"لَيْتَما"، وذلك إذا دخلت على الجملة. وكان يونس فيما حكاه عنه أبو عمرو يذهب إلى أن "لكن" إذا خُفّفت كانت بمنزلةِ "إنَّ"، و"أنَّ". وكأنّهما إذا خُفّفا لم يخرجا عمّا كانا عليه قبل التخفيف، فكذلك تكون "لكن" إذا خُفّفت، فإذا قال: "ما جاءنى زيدٌ لكن عمرو"، كان الاسم مرتفعًا بـ "لكن"، والخبر مضمز. وإذا قال: "ما ضرْبت زيدًا لكن عمرًا"، كان في "لكن" ضميرُ القصة، وانتصب "زيدٌ" بفعل مضمر. وإذا قال: "ما مررت برجل صالح لكن طالح"؛ فـ"طالح" مجرورٌ بباء محذوفة، والتقدير: لكن الأمرُ مررت بطالح. كأنه لما راى لفظَ "لكن" المخففةِ موافقَ لفظِ الثقيلة، ومعناهما واحدٌ في الاستدراك، جعلها منها، وقاسها في أخواتها من نحو "أنَّ"، و"كَأنَّ" إذا خُففتا. وفيه بُعْدُ، لاحتياجه في ذلك إلى إضمار الشأن والحديث، والقولِ: إنها محذوفة منها، وليس الباب في الحروف ذلك, لأنه قبيل من التصرّف، والحق أنها أصلٌ برأسه، فإنّ الشيئين قد يتقاربان في اللفظ والمعنى، وليس أحدهما من الآخر، كقولنا: "سَبِطٌ"، و"سِبَطرٌ"، و"لؤلؤٌ"، وَ"لَألٌ" و"دمِثٌ"، و"دمَثْرٌ". وقوله صاحب الكتاب: "لكن" إذا عُطف بها على مفرد كانت للاستدراك، فهو ظاهر على ما تقدّم. وقوله: و"أما في عطف الجملتَيْن فنظيرةُ "بَل"، فالمراد أنها إذا عطفت بها مفردًا على مفرد، كان معناها الاستدراك، وكانت مخالفةً لـ"بَل"؛ لأن "بَل" يعطف بها بعد الإيجاب والنفي، و"لكِنْ" لا يعطف بها إلَّا (¬1) بعد النفي على تقدم. وإذا عطف بها جملةٌ تامةٌ على جملة تامَة؛ كانت نظيرةَ "بل" في كونها لا (¬2) يعطف بها إلَّا بعد النفي والإثبات كـ "بَلْ"، وليس المراد أنهما في المعنى واحدٌ، إذ الفرق بينهما ظاهرٌ. وذلك أن ¬
"لكِنْ" لا بدّ فيها من نفي وإثباتٍ. إن كان قبلها نفىٌ، كان ما بعدها مُثْبتًا، وإن كان قبلها إيجابٌ، كان ما بعدها منفيًا. وهذا الحكم لا يُراعَى في "بَل"؛ لأنّه رجوعٌ عن الأول حتى يصير بمنزلةِ ما لم يكن، وما لم يُخبَر عنه بنفي ولا إثباتٍ، فالعطفُ بـ "بَلْ" فيه إخبارٌ واحدٌ، وهو بما بعدها لا غيرُ، وما قبلها مُضرَبٌ عنه. والعطفُ بـ "لكِنْ" فيها إخباران: بما قبلها -وهو نفيٌ- وبما بعدها وهو إيجابٌ، فاعرفه.
حروف النفي
ومن أصناف الحرف حروفُ النفْي فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: وهي "ما" و"لا" و"لم" و"لما" و"لن" و"إن". فـ "ما" لنفي الحال في قولك: "ما يفعل", و"ما زيدٌ منطلقٌ أو منطلقاً" على اللغتين (¬1) , ولنفي الماضي المقرب من الحال في قولك: "ما فعل". قال سيبويه (¬2): أما "ما" فهي نفيٌ لقول القائل: "هو يفعل" إذا كان في فعل الحال, وإذا قال: "لقد فعل", فإن نفيه: "ما فعل" فكأنه قيل "والله ما فعل". * * * قال الشارح: اعلم أن النفي إنما يكون على حسب الإيجاب؛ لأنه إكذابٌ له، فينبغي أن يكون على وَفق لفظه لا فرقَ بينهما، إلَّا أن أحدهما نفىٌ، والآخر إيجابٌ. وحروف النفي ستّةٌ: "ما"، و"لا"، و"لَمْ"، و"لَمَّا"، و"لَن"، و"إن". فأما"ما" فإنها تنفى ما في الحال، فإدْا قيل: "هو يفعل" وتريد الحال، فجوابُه ونفيُه "ما يفعل"، وكذلك إذا قرّبه وقال: "لقد فعل"، فجوابُه ونفيُه: "ما فعل"؛ لأن قوله: "لقد فعل" جوابُ قَسَم، فإذا أبطلته وأقسمتَ، قلت: "ما فعل"؛ لأن "ما" يُتلقى بها القسم في النفي، وتقديره: "واللهِ ما فعل". فإن قيل: فهلّا كان جوابه: "لا يفعل", لأن "لا" ممّا يُتلقى به القسمُ أيضًا في النفي؟ قيل: "لا" حرفٌ موضوعٌ لنفي المستقبل، فلا يُنْفَى بها فعلُ الحال. وتقول أيضًا: "ما زيدٌ منطلقٌ"، فيكون جوابًا ونفيًا لقولهم: "زيدٌ منطلقٌ"، إذا أرُيد به الحال. وإن شئت أعملت على لغة أهل الحجاز، فقلت: "ما زيدٌ منطلقًا". وقد تقدم الكلام على إعمالِ "ما". ¬
واعلم أن "ما" تكون على ضربَيْن اسمًا، وحرفًا، فإذا كانت اسمًا، فلها أربعةُ مواضع: تكون استفهامًا كقولك: "ما عندك"؟ وكقوله تعالى: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} (¬1) وتكون خبرًا كقوله تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} (¬2). وتكون موصولة، نحوَ قوله سبحانه: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} (¬3). وتكون نكرة موصوفة، كقوله تعالى في أحد الوجهين: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} (¬4). وإذا كانت حرفًا، فلها خمسةُ مواضعَ: تكون نافية على ما شُرح من أمرها، وتكون كافّةً، نحوَ: "إنما"، و"كَأنمَّا"، فإن "ما" كفّتْ هذه الحروف عن العمل، وصرفتْ معناها إلى الابتداء، قال الله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬5). الثالث: أن تكون مُهيَّئةً، نحوَ "حَيثُ ما" و"إذما" و"رُبما"، هيأت "مِا" "حَيثُ" و"إذ" للجزاء، وهيأتْ "رُبَّ" لأن تِليِها الأفعالُ بعد أن لم تكن كذلك. الرابع: أن تكون مع الفعل في تأويل المصدر، وهذا مذهب سيبويه (¬6) فيها، كأنّه يعتقد أنها حرفٌ كـ "أَن"، إلَّا أنها لا تعمل عملَ "أنْ"، والفرقُ بينهما عنده أن "أنْ" مختصةٌ بالأفعال لا يليها غيرُها، و"ما"، إذا كانت مصدريةً، فإنه يليها الفعلُ والاسمُ، فالفعلُ قولك: "يُعجِبني ما تصنع"، أي: يعجبني صنيعُك، والاسمُ قولك: "يعجبني ما أنت صانعٌ"، أي: صنيعُك. وكل حرف يليه الاسمُ مرّةً والفعلُ أُخرى، فإنّه لا يعمل في واحد منهما. فكان الأخفش لا يجيز أن تكون "ما" إلَّا اسمًا، وإذا كانت كذلك؛ فإن كانت معرفة، فهي بمنزلةِ "الذِي"، والفعلُ في صلتها كما يكون في صلةِ "الذِي"، وإن كانت نكرة، فهي في تقدير شَيءٍ، ويكون ما بعدها صفةً لها، ويرتفع ما بعدها كما يرتفع إذا كانت صفة لشَيْء، ولا تكون حرفًا عنده. الخامس: أن تكون صلةً مؤكدةً لا تفيد إلَّا تمكينَ المعنى وتوفيرَه بتكثير اللفظ، وذلك نحو قولك: "غضبت من غيرِ ما جُرْمٍ"، أي: من غير جرمٍ. ومنه قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (¬7) فَـ "ما" زائدةٌ، والمعنى: فَبِرَحْمةٍ من الله، والجارّ والمجرور متعلّق بـ "لنت". ومن ذلك قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (¬8)، وَ"ما" لَغْوٌ مؤكدةٌ، ومثله {مَثَلًا مَا بَعُوضَةً} (¬9) فـ "بعوضة" منتصب على البدل من "مَثَلٍ"، و"ما" مؤكدةٌ، فاعرفه. ¬
فصل ["لا"]
فصل ["لا"] قال صاحب الكتاب: و"لا" لنفي المستقبل في قولك: "لا يفعل". قال سيبويه (¬1): وأما "لا" فتكون نفياً لقول القائل: "هو يفعل", ولم يقع الفعل. وقد نفي بها الماضي في قوله تعالى: {فلا صدق ولا صلى} (¬2) , وقوله [من الرجز]: فأي أمر سييءٍ لا فعله (¬3) وينفي بها نفياً عاماً في قولك: "لا رجل في الدار", وغير عام في قولك: "لا رجل في الدار ولا امرأة", و"لا زيدٌ في الدار ولا عمروٌ", ولنفي الأمر في قولك: "لا تفعل" ويسمى النهي, والدعاء في قولك: "لا رعاك الله". * * * قال الشارح: وأمّا "لا"، فحرفٌ نافٍ أيضًا موضوع لنفي الفعل المستقبل، قال سيبويه: وإذا قال: "هو يفعل"، ولم يكن الفعل واقعًا؛ فنفيُه: "لا يفعل"، فـ "لا" جوابُ "هو يفعل" إذا أُريد به المستقبل، فإذا قال القائل: "يقوم زيدٌ غدًا"، وأُريد نفيُه، قيل. "لا يقوم"؛ لأن "لا" حرفٌ موضوعٌ لنفي المستقبل، وكذلك إذا قال: "لَيَقعَلَنَّ"، وأُريد النفي، قيل: "لا يفعل"؛ لأن النون تصرف الفعلَ للاستقبال، وربما نفوا بها الماضي، نحوَ قوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} (¬4)، أي: لم يصدق، ولم يصل. ومنه قوله تعالى أيضًا: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} (¬5) أي: لم يقتحم، وكذلك قوله [من الرجز]: فأي أمر سيّئ لا فعله (¬6) حملوا "لا" في ذلك على "لَمْ"، إلَّا أنهم لم يغيروا لفظ الفعل بعد "لا"كما غيروه بعد "لَمْ"؛ لأن "لا" غير عاملة، و"لَمْ" عاملة، فلذلك غيروا لفظَ الفعل إلى المضارع، ليظهر فيه أثرُ العمل. وقد تدخل الأسماءَ، فيُنفَى بها نفيًا عامًا، نحوَ: "لا رجلَ في الدار"، و"لا غلامَ لك"، وغير عامّ، نحو قولك: "لا رجلٌ عندك ولا امرأة" و"لا زيدٌ عندك ولا عمرو"، كأنّه جوابُ: "هل رجلٌ عندك أم امراةٌ"، وهل "زيدٌ عندك أم عمرو؟ " ولذلك لا يكون الرفع إلا مع التكرار. وقد شرحنا ذلك فيما تقدم وخلاف أبي العباس فيه بما أغنى عن إعادته. ¬
فصل ["لم" و"لما"]
وقد تكون نَهيًا فتجزم الأفعالَ نحوَ قولك: "لا ينطلق بكرٌ، ولا يخرجْ عمرو". قال الله تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} (¬1) وقال: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} (¬2) {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} (¬3)، وهو كثيرٌ جدًّا. وقوله: "ولنفي الأمر"، يريد النهي؛ لأنه بإزاء الأمر في قولك: "لِينطلقْ بكرٌ، ولِيخرجْ عمرو". وذلك أن النهي عكسُ الأمر وضِدُّه. وقد تكون دعاءً في نحو قولك: "لا رعاك اللهُ"، و"لا قام زيدٌ ولا قعد"، يريد الدعاء عليه، وهو مَجاز من قبل وضعِ الماضي موضعَ المضارع، وحقُّ هذا الكلام أن تكون نفيًا لقيامه وقعوده. وتكون زائدة مؤكدة كما كانت "ما" كذلك. قال الله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (¬4)، إنما هو: أُقسمُ، وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (¬5) إنما هو: أقسمُ. والذي يدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (¬6). وكذلك قال المفسّرون في قوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬7)، إنما هو أقسمُ، والجواب: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (¬8). فإن قيل: الزيادة إنما تقع في أثناء الكلام وأواخره ولا تقع أوّلًا، قيل القرآن كلُّه جملةٌ واحدةٌ كالسورة الواحدة، فاعرفه. فصل ["لم" و"لمّا"] قال صاحب الكتاب: و"لم", و"لما" لقلب معنى المضارع إلى الماضي ونفيه, إلا أن بينهما فرقاً, وهو أن "لم يفعل" نفيُ "فَعَلَ". و"لما يفعل" نفي "قد فَعَلَ". وهي "لمْ" ضمت إليها "ما", فازدادت في معناها أن تضمنت معنى التوقع والانتظار, واستطال زمان فعلها, ألا ترى أنك تقول: "ندم ولم ينفعه الندم", أي عقيب ندمه, وإذا قلته بـ "لما", كان على معنى أن لم ينفعه إلى وقته؟ ويسكت عليها دون أختها في قولك: "خرجت ولما" أي: ولما تخرج, كما يسكت على "قد" في [من الكامل]: كأن قد (¬9) * * * ¬
قال الشارح: اعلم أن "لَم" و"لَمَّا" أُختان, لأنهما لنفي الماضي؛ ولذلك ذكرهما معًا. فأما "لَمْ"، فقال سيبويه (¬1): هو لنفي "فَعَلَ"، يريد أنه موضوع لنفي الماضي، فإذا قال القائل: "قام زيدٌ"، كان نفيُه: "لم يقَم". وهو يدخل على لفظ المضارع، ومعناه الماضي. قال بعضهم: إن "لَم" دخلت على لفظ الماضي، ونقلته إلى المضارع ليصحّ عملُها فيه. وقال الآخرون دخلت على لفظ المضارع، ونقلت معناه إلى الماضي. وهو الأظهرُ؛ لأن الغالب في الحروف تغيير المعاني لا الألفاظِ نفسها، فقالوا: قلبتْ معناه إلى الماضي منفيًا، ولذلك يصحّ اقتران الزمان الماضي به، فتقول: "لم يقم زيدٌ أمس"، كما تقول: "ما قام زيدٌ أمس". ولا يصح أن تقول: "لم يقم غدًا"، إلَّا أن يدخل عليه "إن" الشرطيةُ، فتقلبه قلبًا ثانيًا؛ لأنها ترد المضارع إلى أصل وَضْعه من صلاحيّة الاستقبال، فتقول: "إن لم تقم غدًا لم أقم". وذلك من حيث كانت "لَمْ" مختضة بالفعل غير داخلة على غيره، صارت كأحد حروفه. ولذلك لم يجز الفصل بينها وبين مجزومها بشيء. وإن وقع ذلك، كان من أقبح الضرورة. ويؤيد شدّةَ اتصالها بما بعدها أنهم أجازوا: "زيدًا لم أضْرِبْ"، كما يجوز "زيدًا أضرب". وقد عُلم أنه لا يجوز تقديم المعمول حيث لا يجوز تقديم العامل. فإن قيل: فما الحاجة إلى "لَمْ" في النفي؟ وهلّا اكتُفي بـ "ما" من قولهم: "ما قام زيدٌ"، قيل: فيها زيادةُ فائدة ليست في "ما". وذلك أن "ما" إذا نفتِ الماضي، كان المراد ما قرب من الحال، ولم تنفِ الماضي مطلقًا، فاعرفِ الفرق بينهما إن شاء الله تعالى. وأمّا "لَما"، فهي "لَمْ" زيدت عليها "ما"، فلم يتغير عملُها الذي هو الجزم. قال الله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ} (¬2). وتقع جوبًاونفيًا لقولهم: "قد فعل". وذلك أنك تقول: "قام"، فيصلح ذلك لجميع ما تَقدمك من الأزمنة، ونفيُه: "لم يقم" على ما تقدم. فإذا قلت: "قد قام"، فيكون ذلكَ إثباتًا لقيامه في أقربِ الأزمنة الماضية إلى زمن الوجود. ولذلك صلح أن يكون حالًا، فقالوا: "جاء زيدٌ ضاحكًا"، و"جاء زيد يضحك"، و"جاء زيدٌ قد ضحك". ونفيُ ذلك: "لَما يقم"، زدتَ على النافي، وهو "لَمْ"، "ما"، كما زدت في الواجب حرفًا، هو "قَد"؛ لأنّهما للحال، ولِما فيه تطاول، يُقال: "ركب زيدٌ وقد لبس خُفهُ"، و"ركب زيدٌ ولما يلبس خفه". فالحالُ قد جمعهما. وكذلك تقول: "ندم زيدٌ ولم ينفعه ندمُه"، أي: عقيبَ ندمه انتفى النفعُ. ولو قال: "ولما ينفعه ندمُه" امتد وتَطاول. لأن "ما" لما رُكبت مع "لَمْ"، حدث لها معنًى بالتركيب لم يكن لها، وغيرتْ معناها كما غيرت معنى "لَو" حين قلت "لَوْما". ومن ذلك أنهم قد يحذفون الفعل الواقع بعد "لَمَّا"، فيقولون: "يريد زيدٌ أن يخرج ¬
ولما"، أي: ولما يخرجْ، كما يحذفونه بعد "قَدْ" في قول الشاعر [من الكامل]: أفِدَ الترَحلُ غيرَ إنَّ رِكابَنا ... لَما تَزَل بِرِحالنا وكأنّ قَدِ (¬1) أي: وكأن قَد زالتْ، كأنهم اتسعوا في حذف الفعل بعد "قَدْ" وبعد "لما"؛ لأنهما لتوقُعِ فعل؛ لأنك تقول: "قد فعل" لِمن يتوقع ذلك الخبرَ، وتقول: "فَعَلَ" مبتدِئًا من غير توقعه، فساغ حذفُ الفعل بعد "لما"، و"قَدْ" لتقدم ما قبلهما، ولم يسغ ذلك في "لَمْ"، إذ لم يتقدّم شيءَ يدل على المحذوف. وإنما شبهوا "لمْ" بـ "لَما"، وحذفوا الفعل بعدها، كما أنشدوا [من الرجز]: 1141 - يارُبَّ شَيْخٍ مِن لُكَيز ذى غَنَم ... في كَفّه زَيْغٌ وفي فِيهِ فقَمْ أجلَحَ لْم يَشمَط وقد كَادَ وَلَمْ ¬
فصل [لن]
فصل [لَنْ] قال صاحب الكتاب: و"لن" لتأكيد ما تعطيه "لا" من نفي المستقبل. تقول: "لا أبرح اليوم مكاني". فإذا وكدت وشددت, قلت: "لن أبرح اليوم مكاني". قال الله تعالى: {لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين} (¬1) , وقال تعالى: {فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي} (¬2). وقال الخليل (¬3): أصلها "لا أن", فخففت بالحذف, وقال الفراء: نونها مبدلة من ألف "لا", وهي عند سيبويه (¬4) حرف برأسه, وهو الصحيح. * * * قال الشارح: اعلم أن "لَنْ" معناها النفي، وهي موضوعة لنفي المستقبل، وهي أبلغ في نفيه من "لا"؛ لأن "لا" تنفي "يَفْعَلُ" إذا أُريد به المستقبل، و"لَنْ" تنفي فعلاً مستقبْلًا قد دخل عليه السين وسَوْفَ، وتقع جوابًا لقول القائل: "سيقوم زيدٌ"، و"سوف يقوم زيدٌ". والسين وسوف تفيدان التنفيس في الزمان، فلذلك يقع نفيُه على التأبيد وطُولِ المُدّة، نحوِ قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} (¬5)، وكذلك قول الشاعر [من البسيط]: 1142 - ولن يُراجِعَ قَلبي حُبَّها أبدًا ... زَكِنْتُ من بُعْضهم مثلَ الذي زكنوا ¬
فصل [إن]
فذكر الأبد بعد "لَن" تاكيدًا لِما تُعطيه "لَنْ"من النفى الأبَدي. ومنه قوله تعالى: {لَنْ تَرَانِي} (¬1)، ولم يلزم منه عدم الرؤية في الآخرة؛ لأن المراد أنّك لن تراني في الدنيا، لأن السؤال وقع في الدنيا، والنفيُ على حسب الإثبات. واعلمْ أنهم قد اختلفوا في لفظِ "لَنْ" فذهب الخليل إلى أنها مركبة من "لا" و"أنْ" الناصبة للفعل المستقبل، نافية كما أن "لا" نافية، وناصبةُ للفعل المستقبل، كما أن "أنْ" كذلك، والمنفى بها فعل مستقبل، كما أن المنصوب بـ "أنْ" مستقبلٌ، فاجتمع في "لَنْ" ما افترق فيهما، فقُضي بأنّها مركبةٌ منهما، إذ كان فيها شيءٌ من حروفهما. والأصلُ عنده: "لا" "أن، فحُذفت الهمزة تخفيفًا لكثرة الاستعمال، ثم خذفت الألف لالتقاء الساكنين، وهما الألف والنون بعدها، فصار اللفظ "لن". وكان الفراء يذهب إلى أنّها "لا"، والنون فيها بدلٌ من الألف، وهو خلاف الظاهر، ونوعٌ من علم الغَيب. وسيبويه يرى أنها مفردة غير مركبة من شيء عملًا بالظاهر، إذ كان لها نظيرٌ في الحروف، نحوُ: "أنْ"، و"لَمْ"، و"أم". ونحن إذا شاهدنا ظاهرًا يكون مثلُه أصلاً، أمضينا الحكمَ على ما شاهدنا من حاله، وإن أمكن أن يكون الأمر في باطنه على خلافه. ألا ترى أن سيبويه ذهب إلى أن الياء في "السَّيد" الذي هو الذِئب أصلٌ. وإن أمكن أن تكون واوًا، انقلبت ياء لسكونها وانكسار ما قبلها على حد "قِيل"، و "عِيدٍ" وجعله من قبيل "فِيلٍ"، و"ديكٍ"، وصغّره على"سُيَيدٍ" كـ "دِيكٍ"، و"دُيَيكٍ"، و"فِيلٍ"، و"فُيَيلٍ"، وإن كان لا عهدَ لنا بتركيب اسم من (س ي د)، عملًا بالظاهر على أن يوجَد ما يستنزلنا عنه، وقد أفسد سيبويه (¬2) قولَ الخليل بأن "أن" المصدرية لا يتقدم عليها ما كان في صلتها، ولو كان أصلُ "لَنْ" "لا أنْ"، لم يجز: "زيدًا لن أضربَ" لأنّ "أضرب" من صلةِ "أنِ" المركبةِ، وما أحسنَه من قولٍ! ويمكن أن يُقال أن الحرفَين إذا رُكبا، حدث لهما بالتركيب معنى ثالثٌ، لم يكن لكل واحد من بَسائطِ ذلك المركب، وذلك ظاهر، فاعرفه. فصل [إن] قال صاحب الكتاب: و"إن" بمنزلة "ما" في نفي الحال, وتدخل على الجملتين الفعلية والاسمية, كقولك: "إن يقوم زيدٌ" و"إن زيدٌ قائمٌ". قال الله تعالى: {إن ¬
يتبعون إلا الظن} (¬1) , وقال: {إن الحكم إلا لله} (¬2) , ولا يجوز إعمالها عمل "ليس" عند سيبويه, وأجازه المبرد (¬3). * * * قال الشارح: اعلم أنّ "إن" المكسورة الخفيفة قد تكون نافية، ومجراها مجرى "ما" في نفي الحال، وتدخل على الجملتَيْن: الفعلية والاسمية، نحوَ قولك: "إن زيدٌ إلَّا قائم". قال الله تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} (¬4)، وتقول في الفعل: "إنْ قام زيدٌ" أي ما قام زيد، قال الله تعالى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} (¬5). وتقول: "إن يقوم زيد". قال الله تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} (¬6)، وقال تعالى: {إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (¬7). وكان سيبويه لا يرى فيها إلَّا رفعَ الخبر؛ لأنها حرفُ نفي دخل على الابتداء والخبر، والفعلِ والفاعل كما تدخل همزة الاستفهام، فلا تُغيِّره، وذلك كمذهب بني تميم في "ما". وغيرُه يُعْمِلها عملَ "لَيسَ"، فيرفع بها الاسم، وينصب الخبر، كما فعل ذلك في "ما". وقد أجازه أبو العباس المبرّد، قال: لأنه لا فَضلَ بينها وبين "ما"، والمذهبُ الأول, لأن الاعتماد في عملِ "ما" على السماع، والقياسُ يأباه، ولم يُوجَد في "إن" من السماع ما وُجد في "ما". وجملةُ الأمر أنّ "إنْ" لها أربعة مواضع: فمن ذلك الجزاءُ، نحو قولك: "إنْ تأتني آتِك"، وهي أصل الجزاء، كما أن الألف أصل الاستفهام. الثاني: أن تكون نافية على ما تقدم. الثالث: أن تكون مخففة من الثقيلة، وقد تقدم الكلام عليها. والرابع: أن تدخل زائدةً مؤكدة "ما"، فتردّها إلى المبتدأ والخبرِ، نحوَ قولك: "ما إنْ زيدٌ قائمٌ". ولا يكون الخبر إلا مرفوعًا، نحوَ قول الشاعر [من الوافر]: فما إن طِبُّنا جُبُنٌ ولكِن ... مَنايَانا ودولةُ آخَرِينَا (¬8) فاعرفه. ¬
حروف التنبيه
ومن أصناف الحرف حروفُ التنبيه فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: وهي "ها", و"ألا" و"أما". تقول: "ها أن زيداً منطلق"، و"ها افعل كذا"، و"ألا إن عمراً بالباب"، و"أما إنك خارج"، و"ألا لا تفعل", و"أما والله لأفعلن". قال النابغة [من البسيط]: 1143 - ها إن تا عذرة إن لم تكن نفعت ... فإن صاحبها قد تاه في البلد ¬
وقال [من الطويل]: 1144 - نحن اقتسمنا المال نصفين بيننا ... فقلت لهم: هذا لها ها وذا ليا وقال [من الطويل]: 1145 - ألا يا اصبحاني قبل غارة سنجال ... [وقبل منايا عاديات وآجال] ¬
وقال [من الطويل]: 1146 - أما والذي أبكى وأضحك والذي ... أمات وأحيا والذي أمره الأمر * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الحروف معناها تنبيهُ المخاطب على ما تُحدِّثه به، فإذا قلت: "هذا عبد الله منطلقًا"، فالتقدير: انظر إليه منطلقًا، أو انْتَبِهْ عليه منطلقًا. فأنت تُنبه المخاطب لعبد الله في حال انطلاقه، فلا بد من ذكرِ "منطلقًا"؛ لأن الفائدة به تنعقد، ولم ترد أن تُعرِّفه إياه، وهو يُقدر أنّه يجهله، كما تقول: "هذا عبد الله". وتقول: "ها إنّ ¬
عبد الله منطلقٌ"، و"ها افعل كذا"، كأنّه تنبيه المخاطَب للمُخبَر أو المأمورِ. وأمّا البيت الذي أنشده، وهو [من البسيط]: ها إِن تا عذرة ... إلخ ويروى "إن لم تكن قُبلت"، وهو للنابغة. الشاهد فيه إدخالُ "ها" التي للتنبيه على "إن". والعُذْرُ والمَعْذِرة والعُذرَى واحد، والعِذرهْ بالكسرة كالرِّكْبة والجِلسة بمعنى الحالة. قال الشاعر [من الوافر]: 1147 - تَقبلَ عِذْرَتي وحَبَا بدُهْمٍ ... يُصِم حَنينُها سَمْعَ المنادَى وأما قول الآخر [من الطويل]: نحن اقتسمنا المال ... إلخ فإن البيت للَبِيد، والشاهد فيه قوله: "هذا لها ها وذا ليا". يريد: وهذا ليا. وإنما جاز تقديم "ها" على الواو؛ لأنك إذا عطفت جملة على أُخرى، صارت الأُولى كالجُزء من الثانية، فجاز دخول حرف التنبيه عليها، نحو قولك. "ألا وإن زيدًا قائمٌ"، "ألا وإن عمرًا مُقِيمٌ". وأمّا "ألا"، فحرفٌ معناه التنبيه أيضًا، نحو قولك: "ألَا زيدٌ قائم"، و"ألا إِن زيدًا قائم". قال الله تعالى: {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (¬1). وهي مركّبة من الهمزة و"لا" النافية، مغيَّرةً عن معناها الأولِ إلى التنبيه، ولذلك جاز ¬
أن تليها "لا" النافية في قوله [من الوافر]: 1148 - ألَا لَا يَجْهَلَنْ أحدٌ علينا ... [فنجهَلُ فوقَ جَهلِ الجاهلينا] وصار يليها الاسمُ والفعل والحرف، نحوَ قولك: "ألا زيدٌ منطلقٌ"، و"ألا قام زيدٌ"، و"ألا يقومن"، فأما قوله [من الطويل]: ألا يا أصبحاني قبل غارة سنجال فالبيت للشَّمَّاخ وتمامه: وقَبْلَ مَنْايا غادياتٍ وآجالِ (¬1) سِنْجالٌ بكسر السين غير المعجمة والجيم: موضغ بعينه بأذرْبَيْجان. وأمّا "أمَا"، فتنبية أيضًا، وتُحقق الكلامَ الذي بعدها، والفرقُ بينها وبين "ألا" أن "أمَا" للحال، و"ألا" للاستقبال، فتقول: "أمَا إن زيدًا عاقلٌ"، تريد أنّه عاقل على الحقيقة لا على المجاز، فأما قوله [من الطويل]: أما والذي أبكى ... إلخ فإن البيت لأبي صَخر الهُذَلي، والشاهد فيه قوله: "أمَا والذي أبكى" وإدخالُه "أما" على حرف القسم كأنَّه يُنبه المخاطبَ على استماع قسمه، وتحقيقِ المُقسَم عليه. وقد ¬
فصل [دخول "ها" علي أسماء الإشارة والضمائر]
تكون "أما" بمعنَى "حَقّا"، فتفتح "أن" بعدها، تقول: "أما أنه قائمٌ". ولا تكون هاهنا حرفَ ابتداء، ولكنها في تأويل الاسم. وذلك الاسم مقدرُ، وتُقدُر النظرف، أي: أفي حق أنّك قائمٌ، وتكون "أن" وما بعدها في موضعِ رفع بالظرف عند أبي الحسن، وعند سيبويه في موضعِ مبتدأ في هذا الموضع، فاعرفه. فصل [دخول "ها" علي أسماء الإشارة والضمائر] قال صاحب الكتاب: وأكثر ما تدخل "ها" على أسماء الإشارة والضمائر, كقولك: "هذا", و"هذه", و"ها أنا ذا", و"ها هو ذا", و"ها أنت ذا" و"ها هي ذه", وما أشبه ذلك. * * * قال الشارح: قد تقدم أن "ها" لتنبيه المخاطب على ما بعدها من الأسماء المبهمة لينتبه لها، وتصير عنده بمنزلة الأسماء الظاهرة، وذلك لأنّها مبهمةٌ لوقوعها على كل شيء من حيوان وجَماد، فافتقرت إلى تنبيه المخاطب لها، كما افتقرت إلى الصفة. وقال الرُّماني: إنما كثُر التنبيه في هذَا ونحوه من حيث كان يصلح لكل حاضر، والمراد واحدٌ بعيمه، فقوي بالتنبيه لتحريك النفس على طَلَبه بعينه، إذ لم تكن علامةُ تعريف في لفظه، وليس كذلك "أنْتَ"؛ لأنه للمخاطب خاصّةً لاشتماله على حرف الخطاب. فإن قيل: فأنت قد تقول: "ها هو ذا"، وليس فيه علامة تعريف، قيل: تقدمُ الظاهر الذي يعود إليه هذا الضمير بمنزلة أداة التعريف، فلذلك تقول: "هذَا" فيها تنبيهُ، أي: انظر، وانتبهْ. وهي تُستعمل للقريب، و"ذا" إشارة إلى مذكّر، و"ذهِ" إشارة إلى مؤنث. وليست الهاء في "ذه" بمنزلة الهاء في "طلحةَ"، و"قائمة"، وإنما هي بدل من ياء "هذِي". والذي يدل أن الياء أصل قولك في تصغيرِ و"ذا" الذي للمذكر؛ "ذَي". و"ذِي، تأنيث "ذَا" من لفظه، فكما أن الهاء لا حَظ لها في المذكر، فكذلك هي في المؤئث. وإنما دخلت هاء التنبيه على المضمر لِما بينهما من المشابهة، وذلك أن كل واحد منهما ليس باسم للمسمّى لازم له، وإنما هو على سبيل الكناية، على أن أبا العباس المبرد قال: علاماتُ الإضمار كَلّها مبهمة إذ كانت واقعة على كل شيء، والمبهمُ على ضربَين، فمنه ما يقع مضمرًا، ومنه ما يقع غيرَ مضمر. وقال علي بن عيسى: المبهم من الأسماء ما افتقر في البيان عن معناه إلى غيره، فتقول: "ها أنا ذا"، فـ "ها" داخلة عند سيبويه على المضمر الذي هو"أنا" لِما ذكرناه من شَبَهه بالمبهم، وعند الخليل أنه داخل على المبهم تقديرًا، والتقديرُ: ها ذا أنا (¬1)، فأوقعوا "أنا" بين التنبيه والمبهم، وهذا إنما ¬
فصل [لغات "أما"]
يقوله المتكلّمُ إذا قدّر أن المخاطب يعتقده غائبًا، فيقول: "ها أنا ذا"، أي. حاضرٌ غيرُ غائب، وكذلك "ها هو ذا"، فسيبويه يرى أن دخولها على المضمر كدخولها على المبهم. والخليل يعتقد دخولها على المبهم، وإنما قدموا التنبيهَ، والتقديرُ: هذا هو. ونحوُه: "ها أنت ذا" وها هي ذه"، فاعرفه. فصل [لغات "أما"] قال صاحب الكتاب: ويحذفون الألف من "أما" فيقولون: "أم والله", وفي كلام هجرس بن كليبٍ: "أم وسيفي وزريه، ورمحي ونصليه، وفرسي وأذنيه، لا يدع الرجل قاتل أبيه، وهو ينظر إليه". ويبدل بعضهم من همزته هاء فيقول: "هما والله", و"هم والله", وبعضهم عيناً, فيقول: "عما والله", وعم والله". * * * قال الشارح: حكى محمد بن الحسن عن العرب: "أمَ واللهِ لأفعلن" يريدون: أما والله، فحذفوا الألف تخفيفًا. وذلك شاذ قياسًا واستعمالًا، أمّا شذوذُه في الاستعمال، فما أقَلَّه! وأما القياس فمن جهتَين: إحداهما: أن الألف خفيفة غيرُ مستثقَلة، ألا ترى أن من قال: {مَا كُنَّا نَبْغِ} (¬1)،و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (¬2)، فحذف الياءَ تخفيفًا في الوقف لم يحذف الألف في قوله: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} (¬3)، لخفتها. والجهة الثانية: أنّ الحذف في الحروف بعيدُ جدًّا؛ لأنه نوع من التصرّف، والحروفُ لا تصرُّفَ لها لعدم اشتقاقها. والأمر الآخر أن هذه الحروف وُضعت اختصارًا نائبةً عن الأفعال دالّةً على معانيها، فهمزةُ الاستفهام أغنتْ عن "أستَفهمُ"، و"ما" النافيةُ أغنت عن "أنفى". فلو اختصرتَ هذه الحروف وحذفت منها شيئًا لكان اختصارًا لمختصَرٍ، وذلك إجحافُ، فلذلك بعُد الحذف فيها، ووجب إقرارها على ما هي عليه لعدم الدلالة على المحذوف. والذي حسنه قليلًا هنا بقاءُ الفتحة قبلها دلالةَ على الألف المحذوفة، إذ لو لم يكن ثَم محذوف لكانت الميم ساكنة، نحوَ: "أم" في العطف، و"هَل"، "بَلْ". فلما تحرّكت من غير علّة، عُلم أن ثم محذوفًا، فيُراد هذا مع ما في حذفها من التخفيف، فإن الألف، وإن كانت خفيفة، فلا إشكالَ في كونِ حذفها أخفّ من وجودها، هذا مع ما في القسم بعدها من الدلالة عليها، إذ كانا يتصاحبان كثيرًا. وقد حمل أبو الفتح بن جني ¬
قوله تعالى في قراءة علي وزيد: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا} (¬1) على أن المراد: لا تُصيبَنَّ، على حد قراءة الجماعة. ومن ذلك قوله تعالى: {يا أبتا] (¬2)، بفتح التاء في أحد الوجهين أن يكون المراد: "يا أبَتَا" بالألف، ثمّ حذفت تخفيفًا، وبقيت الفتحة دلالةً على الألف المحذوفة، وذلك قليل. وأمّا الحكاية عن هِجرَسِ بن كُلَيب، فإنّه كانت جليلةُ أُخت جَساس بن مُرَّةَ تَحْتَ كُلَيْب، فقتل أخوها زوجَها، وهي حُبلَى بهجرس بن كُليب فلمّا شَبَّ، قال [من الطويلَ]: أصاب أبي خالي وما أنا بالذي ... أُمَيِّلُ أمرِي بين خالي ووالدي وأُورِثُ جَسّاسَ بنَ مُرَّةَ غُصَّةً ... إذا ما اعترتْني حَرُّها غيرُ بارِد ثم قال [من البسيط]: يا لَلرّجالِ لِقلبِ ما له آسِ ... كيف العَزاءُ وثَأْري عند جَساسِ ثم قال. أمَ وسيفي وزرّيه، ورمحي ونصليه، وفرسي وأُذنيه، لا يدع الرجل قاتل أبيه، وهو ينظر إليه، ثمّ طعنه فقتله، وقال [من الوافر]: ألَم تَرَنِي ثَأرتُ أبي كُلَيْبًا ... وقد يُرجَى المُرَشحَ للذُّحولِ غسلتُ العارَ عن جُشَم بن بَكر ... بجَسّاسِ بن مُرَّةَ ذي التْبُولِ جدعت بقَتله بكَرًا وأهل ... لَعَمرُ اللهِ للجَدْع الأصِيلِ ¬
حروف النداء
ومن أصناف الحرف حروفُ النِّداء فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: وهي "يا", و"أيا", و"هيا", و"أي", والهمزة و"وا". فالثلاثة الأول: لنداء البعيد أو من هو بمنزلته من نائم أو ساهٍ، فإذا نودي بها من عداهم فلحرص المنادى على إقبال المدعو عليه, ومُفاطنته لما يدعوه له, و"أي" الهمزة: للقريب, و"وا": للندبة خاصة. * * * قال الشارح: قد تقدم أنّ النداء التصويت بالمنادى لِيعطف على المنادِي. والنداءُ مصدرُ يُمَدّ ويُقصَر، وتُضَم نونُه وتُكْسَر. فَمَن مد جعله من قبيل الأصوات كالصُّراخ والبُكاء والدّعاء والرُّغاء، وكذلك مَن ضم؛ لأن غالب الأصوات مضمومٌ. ومَن قصره جعله كالصوت، والصوتُ غير ممدود. ومَن كسر النون ومَدَّ، جعله مصدَر "نَادى" كالعِداء والشراء مصدرِ"عَادَى"، و"شَارَى". وهو مشتق من قولهم: "نَدا القومُ يندو"، إذا اجتمعوا، فتشاوروا، أو تَحدثوا. ومنه قيل للموضع الذي يُفعَل فيه ذلك: "نَدِيٌّ" و"نادٍ"، وجمعُه: أندِيَةٌ، وبذلك سُمِّيت دارُ الندوَة بمَكةَ. وحروف النداء ستة، وهي: "يا"، و"أيا"، و"هَيا"، و"أي"، والهمزةُ، و"وا". والخمسةُ يُنبه بها المدعو، فالثلاثةُ الأوُلُ يستعملونها إذا أرادوا أن يمدوا أصواتَهم للمتراخي عنهم، أو الإنسانِ المُغرِض، أو النائمِ المستثقل، و"أي" والهمزةُ تُستعملان إذا كان صاحبك قريبًا، وإنما كان كذلك من قبل أن البعيد والمتراخي والنائم المستثقل والساهي يُفتقر في دعائهم إلى رفعِ صوت ومَدّه. وهذه الأحرفُ الثلاثة التي هي "يا"، و"أيا"، و"هَيا" أواخرهن ألفاتٌ، والألفُ مُلازِمة للمد، فاستُعملت في دعائهم لإمكان امتداد الصوت ورَفعِه بها، وليست الياءُ هنا في "أي" كذلك؛ لأنها ليست مدة من حيث كان ما قبلها مفتوحًا. وذلك لا يكون مدةً إلَّا إذا سكنت، وكان حركةُ ما قبلها من جنسها، والهمزةُ ليست من حروف
المدَّ، فاستُعملت للقريب. وقد يستعملون الحروف الموضوعة للمدّ موضعَ "أيْ" والهمزةِ، أعني للقريب، ولمن كان مُقبِلًا عليك توكيدًا. ولا يستعملون الهمزةَ و"أيْ" في مواضع الثلاثة الأول، أعني للبعيد. وأصلُ حروف النداء "يا"؛ لأنها دائرةٌ في جمع وجوده؛ لأنها تُستعمل للقريب والبعيد والمستيقظِ والنائم والغافل والمُقبِل، وتكون في الاستغاثة والتعجب. وقد تدخل في النُّدبة بدلاً من "وا". فلما كانت تدور فيه هذا الدوَرانَ، كانت لأجل ذلك أُم الباب والأصلَ في حروف النداء، فإذا "أيا"، وَ"هَيا" أُختان؛ لأنهما للبعيد ولكل ما أُريد مدُّ الصوت به. وقد اختلف العلماء في "أيا" و"هَيا"، فقال الأكثرُ: هما أصلان، وليس أحدهما بدلًا من الآخر. وذهب ابن السكيت إلى أن الأصل في "هَيا": "أيا"، والهاءُ بدلٌ من الهمزة على حد قولههم في "إياكَ"، "هِياكَ". قال الشاعر [من الطويل]: 1149 - فَهِيَّاكَ والأمرَ الذي إنْ تَوسعتْ ... مَوارِدُهُ ضاقَتْ عليك مَصادِرُهْ وقول الآخر [من الرجز]: 1150 - فانصرفت وَهي حَصان مُغْضَبَه ... ورفعتْ بصَوْتِها هَيَا أبَهْ ¬
أنشدهما ابن السكيت، وقال: أراد: أيَا أبَةْ، وإنّما أبدل من الهمزة هاءً. ولا يبعد ما قاله لأنّ "أيا" أكثرُ استعمالًا من"هَيا"، فجاز أن يُعتقد أنها أصلٌ. وقال أخرون هي "يا" أدخل عليها هاءُ التنبيه مبالغةً، كما قال الشاعر [من الطويل]: 1151 - ألَا يا صَبَا نَجْدٍ متى هِجْتِ من نَجْدِ ... لقد زادَنِي مَسراكِ وَجْدًا على وَجْدِ ¬
فجمع بين "ألا"، و"يا"، وكلاهما للتنبيه. وأما "وا"، فمختصٌّ به النُّدْبَةُ؛ لأن الندبة تفجعٌ وحُزْنٌ، والمرادُ رفيع الصوت ومدُّه لاستماع جميع الحاضرين. والمدُّ الكائنُ في الواو والألف أكثرُ من المدّ الكائن في الياء والألف. وأصلُ النداء تنبيهُ المدعو ليُقْبِل عليك، وتُؤثر فيه الندبةُ والاستغاثةُ والتعجبُ، وهذه الحروفُ لتنبيه المدعوّ، والمدعوُّ مفعولٌ في الحقيقة، ألا ترى أنّك إذا قلت: "يا فلانُ"، فقيل لك: "ماذا صنعتَ به؟ " فقلتَ: "دعوتُه"، أو"ناديتُه"، وكان الأصل أن تقول فيه: "يا أدعوك"، و"أناديك"، فيُؤْتَى بالفعل وعلامةِ الضمير, لأن النداء حالُ خطاب، والمخاطَبُ لا يُحدث عن اسمه الظاهرِ، لئلا يتوهم أن الحديث عن غيره، ولأن حضوره يُغْنِي عن اسمه، ولكنهم جعلوا في أوّل الكلام حرف النداء، وهو قولهم: "يا"، ليفصلوا بين الخطاب الذي ليس بنداءٍ وبينه، ويخاطبوا بذلك القريبَ والبعيدَ. وكان ذلك بحرِف لين ليمتدّ به الصوتُ، وعُرف بالنداء حتى استُغني عن ذكرِ الفعل، وحُذف اختصارًا مع أمن اللبس، فقالوا: "يا فلانُ"، ولم يقولوا: "يا أدعو فلانًا". وكان حقُّه أن يقولوا: "يا أدعوك"، إلَّا أن الفعل حُذف لِما ذكرنا، ووُصْع الاسم الظاهر موضعَ المضمر؛ لئلا يظن كلُّ سامع النداء أنه هو المنادى والمعني بعلامة الإضمار. واختص باسمه الظاهر دون كلّ من يسمعه، وجرى ذلك له إذا كان وحده، كما يجري عليه إذا كان في جماعةٍ؛ لئلا يختلف، فيلتبسَ، كما لزم ذلك الفاعلَ في إعرابه. ألا ترى أنك ترفع الفاعل للفرق بينه وبين المفعول، ومع هذا فإنك ترفعه حيث لا مفعولَ، نحوَ: "قام زيدٌ وظرُف خالدٌ"؟ واعلم أنهم قد اختلفوا في العامل في المنادى، فذهب قومٌ إلى أنه منصوب بالفعل المحذوف لا بهذه الحروف، قال: وذلك من قبل أن هذه الحروف إنما هي تنبيهُ المدعوّ، وهي غيرُ مختصة، بل تدخل تارة على الجملة الاسمية، نحوَ قول الشاعر [من البسيط]: يَا لَعْنَةُ اللهِ والأقْوامُ كُلُّهُمُ ... والصالحون على سِمْعانَ مِن جارِ (¬1) وتارةً على الجملة الفعلية، نحوَ قوله تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا} (¬2) وما هذا سبيلُه فإنه لا يعمل، ولا يُقال بأنه عمل بطريق النيابة عن الفعل الذي هو" أدعو"؛ لأنّا نقول: ¬
فصل [النداء الذي لا تنبيه فيه]
نيابتُها عن الأفعال لا توجب لها العملَ؛ لأن عامّة حروف المعاني إنما أُتي بها عوضًا من الأفعال لضرب من الإيجاز والاختصار، فالواوُ في "جاء زيدٌ وعمرو" نائبٌ عن "أعطفُ"، و"هَل" نائبٌ عن "أستفهمُ"، و"ما" نائبُ عن "أنفي". ومع ذلك فإنه لا يجوز إعمالُها، ولا تعلقُ الظرف بها ولا الحالِ؛ لأن ذلك يكون تراجُعًا عمّا اعتزموه من الإيجاز، وعَوْدًا إلى ما وقع الفِرارُ منه؛ لأن الفعل يكون ملحوظا مرادًا، فيصير كالثابت. وإذا كان كذلك، فلا يجوز لهذه الحروف أن تعمل. وإذا لم تكن عاملة، كان العمل للفعل المحذوف. وذهب الأكثرون إلى أن هذه الحروف هي العاملة أنفسُها دون الفعل المحذوف؛ لنيابتها عن الفعل الذي هو "أُنادي"، أو"أدعو"، ولذلك تصل تارة بأنفسها، وتارة بحرف الجز، نحوَ قولك: "يازيدُ"، و"يا لَزيدٍ"، و"يا بكرُ"، و"يا لبَكرٍ". وجرت مجرى الفعل الذي يتعدّى تارة بنفسه، وتارة بحرف الجرّ، نحوِ: "جئتُ زيدًا"، و"جئتُ إلى زيد" و"سميتُه بكرًا"، و"سمّيتُه ببكرٍ". والفرقُ بينها وبين سائر حروف المعاني، أن حروف المعاني غيرُ حروف النداء. وذلك أن حروف المعاني نائبةٌ عن أفعالِ هي عبارةٌ عن غيرها, نحوَ: "ضربتُ زيدًا، وقتلتُه، وأكرمتُه"، فهذه الألفاظُ غيرُ الأفعال المُؤثرة الواصلةِ منك إلى زيد. وليس كذلك حروف النداء؛ لأن حقيقةَ فعلك في النداء إنما هو نفسُ قولك: "يا زيدُ" هذه التي تلفظ بها, ولا فرقَ بين قولك: "أدعو" وبين قولك: "يا"، كما أن بين لفظك بـ "ضربتُ" وبين نفس ذلك الفعل الذي هو الضربُ في الحقيقة فرقًا، فجرت "يا" نفسها في العمل مجرى "أدعو". كما جرى "أُنادي" مجراه، وصار "يا"، و"أدعو"، و"أُنادي" من قبيل الألفاظ المترادفة. ولم تكن "يا" عبارة عما وصل إليه، كما جرتْ "ضربتُ" ونحوُها عبارةً عن الأثر والملاصَقة. فلما اختص "يا" من بين حروف المعاني بما وصفنا، وجرت مجرى "أدعو" و"أُنادي" في المعنى؛ تَولّت بنفسها نصب المنادى، كما لو ظهر أحدُ الفعلَين هنا لَتَولى بنفسه النصبَ. ويُؤيِّد ما ذكرناه من جَرْيها مجرى الفعل جوازُ إمالتها مع الامتناع من إمالة الحروف من نحوِ "ما" و"لا"، و"حَتى"، و"كَلا". وقد حمل بعضَهم ما رأى من قوّةِ جَرْي هذه الحروف مجرى الأفعال، ونَصْبِها لما بعدها، وتعلّقِ حروف الجر بها وجوازِ إمالتهَا، إلى أن قال: إنها من أسماء الأفعال من نحوِ: "صَهْ"، و"مَة". والحق أنها حروف؛ لأنها لا تدل على معنى في أنفسها، ولا تدل على معنى إلَّا في غيرها، فاعرفه. فصل [النداء الذي لا تنبيه فيه] قال صاحب الكتاب: وقول الداعي: "يا رب", و"يا الله" استقصار منه لنفسه، وهضم لها, واستبعادٌ عن مظان القبول والاستماع، وإظهار للرغبة في الإستجابة بالجوار. * * *
قال الشارح: أمّا قولهم: "يا اللهُ"، أو"يا مالكَ المُلْك"، أو"يا ربُ اغفِر لي"، فإن هذا لا يجوز أن يُقال إنه تنبيهٌ للمدعو كما تقدم، ولكنه أُخْرِج مُخرَجَ التنبيه، ومعناه الدعاءُ لله عر وجل، ليُقْبِل عليك بالخير الذي تطلبه منه. والذي حسّن إخراجَه مخرج التنبيه البيانُ عن حاجة الداعي إلى إقبال المدعوّ عليه بما يطلبه. فقد وقف في ذلك موقفَ مَن كأنه مغفولٌ عنه، وإن لم يكن المدعوُّ غافلاً. ألا ترى أنك تقول: "يا زيدٌ اقْضِ حاجتي" مع العلم أنه مُقبِل عليك؟ وذلك لإظهاو الرَّغْبة والحاجةِ، وأنه قد صارت منزلته منزلةَ من غفل عنه.
التصديق والايجاب
ومن أصناف الحرف حروفُ التصديق والايجاب فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: وهي "نعم", و"بلى", و"أجل", و"جير", و"إي", و"إن". فأما "نعم", فمصدقة لما سبقها من كلام منفي أو مثبت. تقول إذا قال: "قام زيدٌ أو لم يقم": "نعم" تصديقاً لقوله, وكذلك إذا وقع الكلامان بعد حرف الاستفهام, إذا قال: "أقام زيدٌ؟ " أو "ألم يقم زيد؟ " فقلت: "نعم", فقد حققت ما بعد الهمزة. و"بلى" إيجاب لما بعد النفي. تقول لمن قال: "لم يقم زيد", أو "ألم يقم زيد؟ ": "بلى", أي: قد قام. قال الله تعالى: {بلى قادرين} (¬1) , أي نجمعها. و"أجل" لا يصدق بها إلا في الخبر خاصة. يقول القائل: "قد أتاك زيد", فتقول: "أجل". ولا تستعمل في جواب الاستفهام, و"جير" نحوها بكسر الراء، وقد تفتح. قال [من الطويل]: 1152 - وقلن على الفردوس أول مشرب ... أجل جير أن كانت أُبيحت دعاثره ¬
ويقال: "جير لأفعلن" بمعنى: حقاً. و"إن" كذلك. قال [من مجزوء الكامل]: ويقلن شيبٌ قد علا ... ك وقد كبرت, فقلت إنه (¬1) و"أي" لا تُستعمل إلا مع القسم، إذا قال لك المستخبر: "هل كان كذا؟ " قلت: "إي والله"، و"إي والله"، و"إي لعمري"، و"إي ها الله ذا". * * * قال الشارح: اعلم أن هذه الحروف التي يُجاب بها، فمنها "نَعَمْ"، و"بَلى". وفي الفرقَ بينهما نوعُ إشكال، ولذلك يكثر الغلطُ فيهما، فتوضَع إِحداهما موضعَ الأخُرى. وجملة القول في الفرق بينهما أن "نَعَمْ" عِدَة وتصديقٌ كما قال سيبويه (¬2)، فإذا وقعت بعد طلبٍ كانت عدةً، وإذا وقعت بعد خبر، كانت تصديقًا نفيًا كان أو إيجابًا. وأمّا "بلى"، فيُوجَب بها بعد النفي، فهي توفع النفيَ وتُبطِله. وإذا رفعته؛ فقد أوجبت نقيضَه. وهي أبدًا تُوجِب نقيض ذلك المنفي المتقدّم، ولا يصح أن تُوجِب إلَّا بعد رفعِ النفي وإبطالهِ. وأما "نَعَمْ"، فإنّها تُبقِى الكلامَ على إيجابه ونَفيه؛ لأنها وُضعت لتصديقِ ما تقدّم من إيجابٍ أو نفي، من غيرِ أن ترفع ذلك وتُبْطِله. مثالُه إذا قال القائل: "أخَرَجَ زيدٌ"، وكان قد خرج، فإنّك تقول في الجواب: "نَعَمْ"، أي: نَعَم قد خرج، فإن لم يكن خرج. قلتَ في الجواب: "لا"، أي: لم يخرج. فإن قال: "أما خرج زيدٌ؟ " وكان لم يخرج، فإنّك له في الجواب: "نَعَم"، أي: نعم ما خرج، فصدقتَ الكلام على نفسه باطّراح حرف الاستفهام، كما صدّقته على إيجابه، ولم ترفع النفيَ وتُبطِله بخلافِ "بَلى". وإن كان قد خرج، قلت في الجواب: "بَلى"، أي: بلى قد خرج، فرفعتَ ذلك النفى، وحدث في بعضه إثباتُ نقيضه، بخلافِ "نَعَمْ" التي تُبْقِي الكلام على حاله، ولا ترفعه. قال الله ¬
تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ بَلَى قَادِرِينَ} (¬1)، أي: بلى نجمعها قادرين، وقال تعالى: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قَالَ بَلَى} (¬2). ولو قال:"نعم"، لكان كُفْرًا هذا قول النحويين المتقدمين من البصريين. وقد ذهب بعض المتأخرين إلى أنه يجوز أن يقع "نعم" موقعَ "بلى"، وهو خلافُ نص سيبويه. وأحسنُ ما يُحمَل عليه كلامُ هذا المتأخر أنّ "نعم" إذا وقعتْ بعد نفيٍ قد دخل عليه الاستفهامُ، كانت بمنزلةِ "بلى" بعد النفي، أعني للإثبات؛ لأن النفي إذا دخل عليه الاستفهامُ رُدّ إلى التقرير وصار إيجابًا، ألا ترى إلى قوله [من الوافر]: 1153 - ألَسْتُمْ خَيرَ مَن رَكِبَ المَطايا ... وأندى العالَمِين بُطُونَ راحِ فإنه أخرجه فخرَجَ المدح، ويُقال: إن الممدوح اهتزّ بذلك. فعلى ذلك لا يقع "نعم" في جوابِ ما كان من ذلك إلا تصديقًا لفَحْواه، كما يقع في جواب الإيجاب، فاعرفه وأمّا "أجَل"، فأمرها كأمر "نَعَمْ" في التصديق. قال الأخفش: إلَّا أن استعمالَ "أجل" مع غير الاستفهام أفصحُ. ¬
وأمّا "جَيرَ"، فحرفٌ معناه "أجَلْ"، و"نَعَم". وإنما جُمع بينهما للتأكيد. قال الشاعر، أنشده الجَوْهري [من الطويل]: وقلن على الفردوس ... إلخ الفِرْدَوْس: البُسْتان. والدَّعاثِرُ: جمع دَعْثَرَةٍ، وهو الحَوْض المتثلم. وأكثرُ ما يُستعمل مع القسم، يُقال: "جيرِ لا أفعلن"، أي: نَعَمْ واللهِ. وهو مكسورُ الآخر، وربما فُتح، وحقه الإسكان كـ "أجَل"، و"نَعَمْ". وإنما حُرك آخره لالتقاء الساكنين: الراء والياء كـ "أينَ" و"كَيفَ"، و"لَيتَ". والكسرُ فيه على أصل التقاء الساكنين، والفتحُ طلبًا للخفة لثِقَل الكسرة بعد الياء. فإن قيل: فما بالهم فتحوا في "أينَ"، و"كَيفَ"، و"لَيْتَ"، وكسروا "جَيرِ" وفيها من الثقل ما في "لَيتَ" وأخواته؟ قيل: على مقدار كثرة استعمال الحرف يختار تخفيفُه، فلما كثُر استعمالُ "أين"، و"كيف"، و"ليت" مع العلّة التي ذكرناها من اجتماع الكسرة والياء؛ آثروا الفتحةَ لذلك. ولما قل استعمالُ "جَيرِ"، لم يحفِلوا بالثقل، وأتوا فيه بالكسر الذي هو الأصل، فاعرفه. وأما "إيْ"، فحرفٌ يجاب به كـ "نَعَم" و"جَيرِ" ولا يُستعمل إلَّا في القسم، تقول لمن قال: "أقام زيدٌ؟ ": "إيْ واللهِ"، و"إي ورَبي"، و"إي لَعَمرِي". قال الله تعالى: {قُلْ إِي وَرَبِّي} (¬1)، وهمزتُها مكسورةٌ، والياءُ فيها ساكنةٌ، إذ لم يلتق في آخرها ساكنان بقيت ساكنةً على ما يقتضيه البناءُ. فأما "إن"، فيكون جوابًا بمعنَى "أجَل"، فإذا قال: "قد أتاك زيدٌ"، فتقول: "إنه" أي: أجل، والهاءُ للسَّكت، والمرادُ "إنّ"، إلَّا أنك الحقتَها الهاءَ في الوقف، والمعنى معنى: "أجل". ولو كانت الهاء هاءَ الإضمار؛ لثبتت في الوصل كما تثبت في الوقف. وليس الأمر كذلك، إنما تقول في الوصل: "إن يا فتى" بحذف الهاء، قال الشاعر [من مجزوء الكامل]: بَكَرَ العَواذِلُ في الصَّبوح ... يَلُمنَنِي وألُومُهُنَّة ويَقُلنَ: شَيبٌ قد عَلَا ... ك وقد كَبِرتَ فقلتُ إنهْ (¬2) وإنما ألحقوا الهاءَ كراهيةَ أن يجمعوا في الوقف بين ساكنين، لو قالوا: "إن"، فألحقوها الهاء لبيان الحركة التي تكون في الوصل، إذ كانوا لا يقفون إلَّا على ساكن. وأما خروجُ "إنَّ" إلى معنى "أجَل"، فإنها لمّا كانت تُحقّق معنى الكلام الذي تدخل عليه في قولك: "إنَّ زيدًا لَراكبٌ"، فتُحقَّق كلامَ المتكلم، حُقق بها كلامُ السائل إذ كان معناها التحقيق، فحصل من أمرها أنها تحقق تارةً كلامَ المتكلم، وتارةً كلامَ غيره على سبيل الجواب، فاعرفه. ¬
فصل [لغات "نعم"]
فصل [لغات "نعمْ"] قال صاحب الكتاب: وكنانة تكسر العين من "نعم", وفي قراءة عمر بن الخطاب وابن مسعود رضي الله عنهما قالوا: "نعم". وحكى أن عمر سأل قوماً عن شيء فقالوا: "نعم" بالفتح، فقال عمر: إنما النعم الإبل، فقالوا: نعم. وعن النضير بن شميل أن: "نحم" بالحاء لغة ناس من العرب. * * * قال الشارح: الفتح في "نَعَم" والكسر لغتان فصيحتان، إلَّا أن الفتح أشهر في كلام العرب، وقد جاء الكسر في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وجماعه من الصحابة، منهم عمر وعلي والزبَير وابن مسعود، رضي الله تعالى عنهم. وذكر الكسائيُّ أن أشياخ قُرَيش يتكلّمون بها مكسورةَ. وحُكي عن أبي عمرو قال: لغةُ كنانة "نَعِم" بالكسر. وربما أبدلوا الحاء من العين، فقالوا: "نَحَمْ" في "نَعَمْ"؛ لأتها تليها في المَخرَج، وهي أخف من العين؛ لأنها أقربُ إلى حروف الفم. حكى ذلك النَّضر بن شُمَيل، فاعرفه. فصل [لغات "إي" إذا وليها "أن"] قال صاحب الكتاب: وفي "إي الله" ثلاثة أوجه: فتح الياء، وتسكينها، والجمع بين ساكنين هي ولام التعريف المدغمة وحذفها. * * * قال الشارح: قد ذكرنا أن الياء من "إي" ساكنة كالميم من"نَعَمْ"، واللام من" أجَلْ". وإذا لقيها لامُ المعرفة من نحوِ "إي الله"، فإن لك فيه ثلاثةَ أوْجُه: فتحَ الياء، تقول: "إيَ الله"، وهو أعلاها، فتفتح لالتقاء الساكنين كما تفتح نونَ "مِن"، في قولك: "مِنَ الرجل". ولم يكسروها استثقالًا للكسرة بعد كسرة الهمزة. وإذا كانوا قد استثقلوا الكسرة على النون للكسرة قبلها مع أنّ النون حرف صحيح؛ فلأنْ يستثقلوها على الياء المكسور ما قبلها كان ذلك أحرَى وأوْلى. ومنهم من يقول:"إي الله"، فيُشْبع مدّةَ الياء، ويجمع بين الساكنين لوُجود شرطَي الجمع بين ساكنين وهما: ان يكون الساكن الأول حرفَ مد ولين، والثاني مُدغَمًا، كـ "داَبةٍ"، و"شابَّه". والثالث، وهو أقلّها، أن يقولوا: "اللهَ"، فيحذفوا الياء لالتقاء الساكنين؛ لأن همزة الوصل محذوفة للوصل، فبقي اللفظُ "إللَّهَ" بكسر الهمزة. ولا يكون في "إللَّهَ" من قولك: "إي اللهَ" إلَّا النصبُ. ولو قلت: "هَا اللهِ"لخفضتَ؛ لأن "إي" ليست عوضًا عن حروف القسم، إنما هي جوابٌ لِمن سأل عن الخبر، فقلت: "إي واللهِ لقد كان كذا، بخلافٍ: "ها" فإنهه عوضٌ عن الواو، ولذلك يُجامِعها.
حروف الاستثناء
ومن أصناف الحرف حروفُ الاستثناء فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: وهي "إلَّا", و"حاشا", و"عدا", و"خلا" في بعض اللغات. * * * قال الشارح: قد تقدم الكلام على الاستثناء وحروفه في فصل الاسم بما أغنى عن إعادته.
حرفا الخطاب
ومن أصناف الحرف حرفا الخِطاب فصل [تعدادهما] قال صاحب الكتاب: وهما الكاف والتاء اللاحقتان علامة للخطاب في نحو "ذاك", و"ذلك", و"أولئك", و"هناك", و"هاك", و"حيهلك", و"النجاك", و"رويدك", و"أرأيتك", و"إياك" وفي "أنتَ", و"أنتِ". * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذين الحرفين يدلان على الخطاب، وهما في ذلك على ضربين: يكونان اسمين، ويكونان حرفين مجرَّدين من معنى الاسمية. فمن ذلك الكافُ، فإنها تكون اسمًا لخطاب المذكر والمؤنث، فكافُ المذكر مفتوحةٌ، نحو: "ضربتُكَ يا رجلُ". وكافُ المؤنث مكسورة، نحوُ: "ضربتُكِ يا امرأةُ"، فالكافُ هنا اسمُ، وإن أفادت الخطابَ. يدل على ذلك دخولُ حرف الجرّ عليها من نحوِ: "بِكَ" و"بِكِ". وأمّا التي هي حرفٌ مجرّدٌ من معنى الاسمية، فجميعُ ما ذكره، فمنه أسماءُ الإشارة، نحوُ: "ذلك"، و"ذاك"، و"تلك"، و"أُولئك"، فالكاف معها حرفُ لا محالةَ، وذلك لأنه لو كان اسمًا، لكان له موضعُ من الإعراب مِن رفع أو نصب أو جرّ، ولا يجوز أن يكون موضعه رفعًا؛ لأن الكاف ليست من ضمائر المرفوع. ولا يجوز أن تكون منصوبة؛ لأنّك إذا قلت: "ذلِكَ" فلا ناصبَ هنا للكاف. ولا يجوز أن تكون مجرورة؛ لأن الجرّ إنما يكون بحرف جرّ أو بإضافة، ولا حرفَ جرّ هاهنا، فبقي أن تكون مجرورة بالإضافة. ولا تصح إضافةُ أسماء الإشارة؛ لأنها معارفُ، ولا يُفارِقها تعريفُ الإشارة، ولا يسوغ تعريفُ الاسم إلا بعد تنكيره. ولا يجوز تنكيرُ هذه الأسماء ألبتة، فلا تجوز إضافتُها، وكذلك لا تجوز إضافةُ الأسماء المضمرة. ويؤيّد عندك أن ذلك ليس مضافًا إلى الكاف أنك تقول في التثنية: "ذانِك"، ولو كان مضافًا، لحُذفت النون لإضافة الكاف. وكذلك الكاف في "هَاكَ"، فإنها حرفٌ مجردٌ من معنى الاسمية، وهو من أسماء الأفعال، نحوُ: "خُذ"، و"تَناولْ". والذي يدل على أن الكاف فيه حرفُ أنهم يستعملون
فصل [لحوقهما التثنية والجمع والتذكير والتأنيث]
موضعَ الكاف للخطاب الهمزةَ، فيقولون: "هاءَ" للمذكر بفتح الهمزة، و"هاءِ" للمؤنث. فلما وقع موقعَ الكاف ما لا يكون إلَّا حرفًا، عُلم أنها حرفٌ. وربما قالوا: "هاءَكَ" بفتح الهمزة والكاف، و"هاءَكِ" بكسر الكاف، كأنهم جمعوا بينهما تأكيدًا للخطاب فالكافُ ها هنا حرفُ، لأنها من أسماء الأفعال، وأسماءُ الأفعال لا تُضاف. وكذلك "حَيَّهَلَكَ" الكاف فيه حرفٌ، وحكمُها حكمُ "هاءَكَ". وأما "النَّجَاكَ" فهو لمعنَى: انجُ، مع أنه لا يسوغ إضافةُ ما فيه الألفُ واللامُ. وكذلك "رُوَيدَكَ" الكاف للخطاب, لأنه من أسماء الأفعال، تقول: "رويدك زيدًا". ولو كانت الكاف منصوبة، لَما تعدى إلى "زيد". وقالوا: "أرَأيْتَكَ" فالكاف حرفٌ؛ لأنه بمعنى النظر، ولا يتعدى إلَّا إلى مفعول واحد؛ لأن هذا الفعل لا يتعدّى ضميرُ الفاعل إلى ضميره. قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} (¬1). ومثله "انظُركَ زيدًا"، لأنك لا تقول: "اضْرِبْكَ زيدًا"، وكذلك "إيَّاكَ" الكافُ حرفٌ، وقد تقدّم الكلام عليها في فصل الأسماء. وأمّا التاء، فقد تكون اسمًا وحرفًا للخطاب، فالاسمُ نحوُ: "ضربتَ"، و"قتلتَ". والحرفُ نحوُ: "أنْتَ". وليست التاء في "أنْتَ" كالتاء في "أكلتَ"، كما أن الكاف في "ذلك" ليست كالكاف في "مالك"؛ لأنه قد ثبت في قولك: "أنَا فعلتُ" أن الاسم هو "أنَ"، والألف مزيدةٌ للوقف، بدليل حَذفها في الوصل. كذلك هو في "أنت" التاءُ حرفٌ للخطاب مجرّدٌ من معنى الاسمية، لا موضعَ له من الإعراب، فاعرفه. فصل [لحوقهما التثنيةُ والجمع والتذكير والتأنيث] قال صاحب الكتاب: وتلحقهما التثنية والجمع والتذكير والتأنيث, كما تلحق الضمائر. قال الله تعالى: {ذلكما مما علمني ربي} (¬2)، وقال: {ذلكم خير لكم} (¬3)، وقال: {فذلكن الذي لمتنني فيه} (¬4) , وقال: {أن تلكما الجنة} (¬5) , وقال: {وأولئك جعلنا لكم} (¬6) , وقال: {كذلك قال ربك} (¬7). وتقول: "أنتما", و"أنتم", و"أنتن". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول إن الخطاب يكون بأسماءٍ وحروفٍ. فالأسماءُ الكافُ في "لَكَ"، و"ضَرَبَكَ"، والتاءُ في "قُمْتَ"، و"أكَلْتِ". والحروفُ في جميعِ ما تقدّم من ¬
"ذلِكَ"، و"ذَاكَ"، و"تِلكَ"، و"تِيكَ"، و"أُولئك"، ونحوهن. وتختلف هذه الحروف بحسبِ أحوال المخاطبين كما تختلف الأسماء, فكما تقول: "ضربتُكَ"، و"ضربتُكِ"، و"ضربتُكما"، و"ضربتُكم"، و"ضربتكُن"، فكذلك تختلف هذه الحروفُ. فإذا كان المخاطب مذكرًا، فتحتَ، نحوَ قولك:- "كيف ذلكَ الرجلُ يا رجلُ؟ ذكرت اسمَ الإشارة بقولك: "ذا"، وفتحتَ الكاف حيث كان المخاطب مذكرًا. قال الله تعالى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} (¬1)، وقال: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} (¬2). فإن خاطبت امرأةً كسرت الكافَ، فقلت: "كيف ذلكِ الرجلُ يا امرأةُ؟ " ذكرت "ذا"؛ لأنه إشارةٌ إلى "الرجل"، وكسرت الكافَ؛ لأن المخاطب مؤنث. قال الله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ} (¬3). فإن خاطبت اثنين، ألحقتَ الكافَ علامةَ التثنية مذكّرًا كان أو مؤنثًا كما تفعل إذا كانت اسمًا، نحوَ: "ضربتُكما" فتقول: "كيف ذلكما الرجلُ يا رجلان؟ " أفردتَ "ذا"؛ لأن المسؤول عنه واحدُ، وثنّيت الكاف لأن الخطاب مع اثنين. قال الله تعالى: {ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي} (¬4)؛ لأن الخطاب مع صاحبَيْ يوسف. ولو كان المسؤول عنه مؤنثًا؛ لأنثتَ الإشارة، فكنت تقول: "كيف تِلكُمَا المرأةُ يا رجلان؟ " قال الله تعالى: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} (¬5). أنث الإشارةَ لتأنيث المشار إليه، وثنّي الخطابَ إذ كان المخاطب آدَمَ وحَوّاء, عليهما السلام. فإن كان المخاطب جمعًا، إن كانوا مذكرين، ذكرتَ وجمعتَ، وإن كن مؤنثاتٍ، أنثتَ وجمعتَ، تقول: "كيف ذلكم الرجلُ يا رجالُ؟ " قال الله تعالى: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} (¬6). فإن كان المشار إليه أيضًا جمعًا، قلت: "كيف أُولئكم الرجالُ يا رجالُ؟ " قال الله تعالى: {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} (¬7). وتقول: "كيف ذلِكن الرجلُ يا نسوةُ؟ " إذا كن جمعًا. قال الله تعالى: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فيه} (¬8)، فاعرف ذلك، وقِسْ عليه ما يأتي منه، فاجعلِ الأول للأوّل، والآخِرَ للآخر، وعامل كلَّ واحد من المشار إليه والمخاطب من التثنية والجمع والتذكير والتأنيث بحسب حاله على ما وصفتُ لك. وكذلك حكمُ التاء في "أنتَ"، تكسرها مع المؤنث، وتفتحها مع المذكر، وتُثني مع المثنى، وتَجْمَعَ مع الجمع. ¬
فصل [الهاء والياء في "إياه" و"إياي"]
فصل [الهاء والياء في "إيّاه" و"إيّاي"] قال صاحب الكتاب: ونظير الكاف الهاء والياء وتثنيتهما وجمعهما في "إياه", و"إياي" على مذهب أبي الحسن. * * * قال الشارح: قد تقدم القول على "إياكَ" وما فيه من الخلاف في فصل المبنيات من الأسماء بما أغنى عن إعادته، والذي عليه الاعتمادُ منه قولُ أبي الحسن. إن "إيَّا" اسمٌ مبهمٌ كُنى به عن المنصوب، وجُعلت الكاف والهاء والياء بيانًا عن المقصود؛ ليُعلَم المخاطب من الغائب والمتكلم، فهي حروفٌ لا موضع لها من الإعراب, هذا معنى قوله: "ونظيرُ الكاف الهاءُ والياءُ"، يريد أنّهما لا موضع لهما من الإعراب، وقيده بقوله: "على مذهب أبي الحسن" تحرُّزا من مذهب غيره. وذلك أن الخليل (¬1) يذهب إلى أن الكاف والهاءَ والياء في موضعِ خفض بإضافةِ "إيا" إليها، و"إيا" مع ذلك عنده اسمٌ مضمر. وحُكي عن المازني مثلُ ذلك، وقد أجازه السيرافي. وقال الخليل (¬2): لو قال قائل: "إياكَ نفسَك"، لم أُعنّفه. يريد تأكيدَ الكاف. فاعرف ذلك. ¬
حروف الصلة
ومن أصناف الحرف حروفُ الصِّلة فصل [تعدادهما] قال صاحب الكتاب: وهي "إن", و"أن", و"ما", و"لا", و"من" والباءُ في نحو قولك: "ما إن رأيت زيداً". والأصل: "ما رأيت", ودخول "إن" صلة أكدت معنى النفي. قال دريد [من الكامل]: ما إن رأيت ولا سمعت به ... كاليوم هانيء أينقٍ جرب (¬1) وعند الفراء أنهما حرفا نفي, ترادفا كترادف حرفي التوكيد في "إن زيداً لقائمٌ", وقد يقال: "انتظرني ما إن جلس القاضي"، أي: ما جلس بمعنى: "مدة جلوسه". * * * قال الشارح: يريد بالصلة أنها زائدة. ويعني بالزائد: أن يكون دخوله كخروجه من غير إحداثٍ معنى. والصلةُ والحَشوُ من عبارات الكوفيين، والزيادةُ والإلغاءُ من عبارات البصريين. وجملةُ الحروف التي تزاد هي هذه الستةُ التي ذكرها: "إنْ"، مكسورةَ الهمزة، و"أنْ" مفتوحةَ الهمزة، و"ما"، و"لا"، و"مِن"، والباءُ. وقد أنكر بعضهم وقوعَ هذه الأحرف زوائدَ لغيرِ معنى، إذ ذلك يكون كالعَبَث، والتنزيلُ مُنزه عن مثل ذلك. وليس يخلو إنكارُهم لذلك من أنهم لم يجدوه في اللغة أو لما ذكروه من المعنى. فإن كان الأوّلُ، فقد جاء منه في التنزيل والشعر ما لا يُحصَى على ما سنذكره في كل حرف منها. وإن كان الثاني، فليس كما ظنّوا؛ لأنّ قولنا: "زائدٌ" ليس المراد أنّه قد دخل لغير معنى ألبتة، بل يزاد لضرب من التأكيد. والتأكيدُ معنى صحيح. قال سيبويه (¬2) عقيبَ {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (¬3) ونظائَرِه. فهو لَغوٌ من حيث إنها لم تُحدِث شيئًا لم يكن قبلَ أن تجيء من المعنى، سوى تأكيد الكلام. ¬
فمن الحروف المزيدة "إن" المكسورةُ، فإنها تقع زائدةٌ، والغالبُ عليها أن تقع بعد "ما". وهي في ذلك على ضربَين: مُؤكَّدة وكافة، وأمّا المؤكدةُ ففي قولهم: "ما إنّ رأيتُه"، والمرادُ: ما رأيتُه، و"إنْ" لَغوٌ لم يُحدِث دخولها شيئًا لم يكن قبلُ، وأما قوله [من الكامل]: ما إن رأيتُ ولا سمعتُ به ... إلخ فإن البيت لدُرَيد بن الصمة، وبعده: مُتَبَذلاً تَبدُو مَحاسِنُه ... يَضَعُ الهِناءَ مَواضِعَ النُقبِ الشاهد فيه زيادةُ "إنْ" بعد "ما"، والمراد: ما رأيتُ. والأيْنُقُ: جمعُ ناقةٍ، وأصلُها: أنوُقٌ، فاستثقلوا الضمة على الواو، فقدموها إلى موضع الفاء، لِتسكنَ، فصار: أونُقًا، وربّما تكلمت به العربُ، حكى ذلك ابن السِّكيت عن بعض الطائيين، ثم قلبوها ياء تخفيفًا، فصار: أينقًا. والهِناءُ: القِطران، يقال: "هَنَأتُ البعيرَ أهنِئُه"، إذا طَلَيتَه بالهناء، وإبلٌ مَهنُوءةٌ، أي: مَطلِيةٌ. والنقبُ: جمعُ نَقْبَةٍ، وهو أوّلُ ما يبدو من الجَرَب قِطَعًا متفرقة. وقال الكُمَيت [من الوافر]: فما إنْ طِبُّنا جُبُنٌ وَلكِن ... مَنايانَا ودَوْلَةُ اخَرينا (¬1) فالطبّ: العادة ها هنا. يقول: ما لنا بالجُبُن عادةٌ، ولكن حضرت مَنيتُنا ودولةُ آخرين، حتى نال الأعداءُ مّنا. وهذه "إن" إذا دخلت على "ما" النافية، نحوَ: "ما إن زيدٌ قائمٌ"، فهي في لغة بني تميم مؤكدة لأنهم لا يُعمِلون "ما"، وفي لغة أهل الحجاز تكون زائدةً كافةً لها عن العمل، ويكون ما بعدها مبتدأ وخبرًا، كما كانت "ما" كافةً لـ "إِن" عن العمل في قولك: "إنما زيدٌ قائمٌ"، وقوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِد} (¬2). وقد ذهب الفراء إلى أن "ما" و"إن" جميعًا للنفي كأنها تزادا "ما" ها هنا على النفي، مبالغةً في النفي وتأكيدًا له، كما تزاد اللامُ تأكيدًا للإيجاب في قولك: "إن زيدًا لقائمٌ". وغالى في ذلك حتى قال: يجوز أن يُقال: "لا إن ما" فيكون الثلاثةُ للنفي، وأنشد [من البسيط]: إلَّا الأوارِي لا إن ما أُبَينُها ... والنُّؤْيَ كالحَوْض بالمظلومة الجَلَدِ (¬3) والصواب ما ذهب إليه الجماعةُ من أن "إن" بعد "ما" زائدةٌ، و"ما" وحدَها للنفي، ¬
[زيادة "أن"]
إذ لو كانت "إن" أيضًا للنفي، لانعكس المعنى إلى الإيجاب؛ لأن النفى إذا دخل على النفي، صار إيجابًا. وقد تزاد "إن" المكسورة المؤكدةُ مع "ما" المصدريّة بمعنى الحين والزمان، فيقال: "انتظرنا ما إنْ جلس القاضي"، يريد زمانَ جلوسه. ومثلُه: "أقِم ما أقمتَ" و"لا أُكلَّمك ما اختلف الليلُ والنهارُ". قال الله تعالى: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} (¬1). وحقيقتُه أنّ "ما" مع الفعل بتأويل المصدر، والمصدرُ يُستعمل بمعنى الحين، نحوُ: "خفوقَ النجْمِ"، و"مَقدَمَ الحاج". والظرفُ في الحقيقة هو الاسمُ المحذوف الذي أُقيم المصدر مُقامَه، فإذا قال: "اجلِس ما جلستَ"، فقد قال: "اجلسْ جلوسَك"، أي: وقتَ جلوسك، فحُذف اسم الزمان، وأُقيم المصدر مقامه. قال الشاعر [من الطويل]: 1154 - وَرَج الفتى للخَيرِ ما إن رأيتَه ... على السّن خَيرًا مَا يَزالُ يَزِيدُ أي: رَجّ الخيرَ له إذا رأيتَه يزداد على السن والكبَر خيرًا. و"خيرا" نصبٌ على التمييز. [زيادة "أن"] قال صاحب الكتاب: وتقول في زيادة "أن": "لما أن جاء أكرمته" و"أما والله أن لو قمت لقمت". * * * ¬
فصل [زيادة "ما"]
قال الشارح: وقد تزاد "أن" المفتوحةُ أيضًا توكيدًا للكلام، وذلك بعد "لَما" في قولك: "لما أن جاء زيدٌ قمتُ"، والمراد: لما جاء زيدٌ قمتُ. قال الله تعالى: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} (¬1)، فـ "أنْ" فيه مؤكدةٌ بدليل قوله تعالى في سورة هُودِ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} (¬2)، والقصةُ واحدة. وقالوا: "أمَا واللهِ أنْ لو فعلتَ لَفعلتُ"، وذلك في القسم إذا أُقسِم على شيء في أوّله، فيقع في جواب القسم، ولا يقع جوابًا له في غير ذلك، فاعرفه. فصل [زيادة "ما"] قال صاحب الكتاب: و"غضبت من غير ما جُرم"، و"جئت لأمر ما"، و"إنما زيدًا منطلق"، و"أينما تجلس أجلس"، و"بعين ما أرينك" (¬3). وقال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (¬4)، وقال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ} (¬5)، وقال تعالى: {عما قليل} (¬6)، وقال تعالى: {أيما الأجلين قضيت} (¬7)، وقال: {وإذا ما أنزلت سورة} (¬8)، وقال: {مثل ما أنكم تنطقون} (¬9). * * * قال الشارح: قد زيدت "ما" في الكلام على ضربين: كافةً، وغير كافة. ومعنى الكافة أن تكف ما تدخل عليه عما كان يُحدِث فيه قبل دخولها من العمل. وقد دخلت كافة على الكلم الثلاث: الحرفِ والاسمِ والفعلِ. أمّا دخولُها على الحرف للكف، فعلى ضربين: أحدُهما أن تدخل عليه، فتمنعه العملَ الذي كان له قبلُ، وتدخل على ما كان دخل عليه قبل الكف غيرَ عامل فيه، نحوَ قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (¬10)، و {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} (¬11) و "كأنما زيدٌ أسدٌ"، و"لَعَلَّمَا أنتَ حالمٌ" (¬12). والآخرُ أن تدخل على الحرف، وتكفه عن عمله، وتُهيِّئه للدخول على ما لم يكن يدخل عليه قبل الكف. وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ ¬
مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (¬1) و {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ} (¬2) ومنه قوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬3) ألا ترى أنه قد ولي "رُبَّ" بعد دخولِ "ما" من الفعل ما لم يكن يليها قبلُ، وأمّا دخولها على الاسم فنحوُ قوله [من الكامل]: 1155 - [أَعَلَاقة أُم الوُليدِ] بَعْدَ ما ... أفنانُ رأسِك كالثغامِ المُخْلِس وقوله [من الخفيف]: 1156 - بَيْنَما نحن بالبَلاكِثِ فالقاع ... سراعًا والعِيسُ تَهْوي هُوِيَّا ¬
ألا ترى أن "بَعْدَ"، و"بَينَ" حقهما أن يضافا إلى ما بعدهما من الأسماء، ويجرّاه، وحين دخلت عليهما، "ما" كفتهما عن ذلك، ووقع بعدهما الجملةُ الابتدائيةُ؟ وأمّا دخولها على الفعل، فإنها تدخل عليه، فتجعله يلي ما لم يكن يليه قبلُ. ألا ترى أنها تدْخِل الفعلَ على الفعل، نحوَ. "قَلمَا سرتَ"، و"قَلمَا تقوم"؟ ولم يكن الفعل، قبل دخولها يلي الفعلَ فـ "قَل" فعلٌ كان حقه أن يليه الاسمُ، لأنه فعلٌ، فلما دخلتْ عليه "ما"، كفته عن اقتضائه الفاعلَ، وألحقتْه بالحروف، وهيأته للدخول على الفعل، كما تُهيِّىء "رُبَّ" للدخول على الفعل، وأخلصوها له. فأما قوله [من الطويل]: صددتِ فأطوَلتِ الصدودَ وقَلمَا ... وِصالٌ على طُولِ الصدود يَدُومُ (¬1) فلا يجوز رفعُ "وصال" بـ "يَدُومُ"، وقد تأخر عن الاسم، ولكن يرتفع لفعل مقدَّر يُفسره "يدوم". وتفسيرُه: فلمَا يبقى وصالٌ، ونحوُه ممّا يفسره "يدوم". ولا يرتفع بالابتداء؛ لأنه موضعُ فعل. وارتفاعه هنا على حد ارتفاع الاسم بعد "هَلا" التي للتحضيض، و"إن" التي للجزاء، و"إذا" الزمانيةِ. وقد أجروا "كَثُرَ ما يقولون ذلك" مُجْرَى "قَلما"، إذ كان خلافه، كما قالوا: "صَدْيان"، و"رَيانُ"، و"غَرْثانُ"، و"شَبْعانُ"، ونظائرُ ذلك كثيرة. الثاني استعمالُها زائدةً مؤكدة غيرَ كافةٍ, وذلك على ضربين: أحدهما: أن تكون عوضًا من محذوف، والآخرُ أن تكون مؤكدة لا غيرُ. فالأولُ قولهم: أمَّا أنت منطلقًا انطلقتُ معك"، و"أما زيدٌ ذاهبًا ذهبتُ معه". ومنه قولُ الشاعر [من البسيط]: أبَا خراشَه أما أنْتَ ذا نَفَرٍ ... فإن قَوْمِيَ لم تأْكُلْهُم الضبعُ (¬2) قال سيبويه (¬3): إنما هي "أنْ" ضُمْت إليها "ما" للتوكيد، ولزمت عوضًا من ذهاب ¬
الفعل، والأصلُ: "أن كنتَ منطلقًا انطلقتُ معك"، أي: لأنْ كنتَ. فموضعُ "أنْ" نصبٌ بـ "انطلقتُ"، لما سقطت اللامُ، وصل الفعلُ فنصب. وأما "أنْ" في البيت فموضعها أيضًا نصبٌ بفعل مضمر دل عليه "فإن قومي لم تأكلهم الضبعُ" ويفسره، ولا يكون منصوبًا بـ "لَم تأكلهم الضبعُ"؛ لأن ما بعد "إن" لا يعمل فيما قبلها. وأمّا الضرب الثاني: وهو أن تزاد لمجرد التأكيد غيرَ لازمة للكلمة، فهو كثير في التنزيل والشعر وسائر الكلام. ومن ذلك قولهم: "غضبتَ من غيرِ ما جُرْم"، فَـ "ما" زائدةٌ، والمرادُ من غير جرم، و"جئتَ لأمر ما"، فـ "ما" زائدةٌ، والمعنى على النفي، والمراد: "ما جئتَ إلَّا لأمر". وهو شبية بقولهم: "شَرّ أهَرَّ ذا نابٍ" (¬1)، أي: ما أهرّه إلَّا شرٌّ، كأن شخصًا جاء في غير المعتاد، فقيل له ذلك. وقيل: "إنما زيدًا منطلقٌ"، فيجوز في "إن" الإعمال والإلغاءُ، فمَن ألغى ورفع وقال: "إنما زيدٌ منطلقٌ"، كانت "ما" كافة من قبيل الضرب الأول، ولم تكن من هذا الضرب. ومَن أعملها، وقال: "إنما زيدًا منطلقٌ"، كانت مُلْغاة، والمرادُ بها التأكيدُ، ولذلك ذكرها هنا. وقالوا: "أيْنَما تَجْلِسْ أجْلِسْ"، و"متى ما تقم أقم" فـ "ما" فيهما زائدة مؤكدة، وذلك أن "أينَ"، و"مَتى" يجوز المجازاةُ بهما من غير زيادة "ما" فيهما، وذلك أنهما ظرفان، فـ "أينَ" من ظروف المكان، وهو مشتملٌ على جميع الأمكنة مبهمٌ فيها، و"مَتى" مبهم في جميع الأزمنة. فلما كانا مبهمَين، ضارعا حروفَ المجازاة, لأن الشرط إبهامٌ، فلذلك جازت المجازاةُ بهما لِما فيهما من الإبهام. وليسا مضافين إلى ما بعدهما، فتمتنعَ المجازاةُ بهما. وإذا كانت المجازاة بهما من غيرِ "ما" جائزة، كان إلحاقُ "ما" بهما لَغوًا على سبيل التأكيد، فلذلك عَد "أينما" في هذا الضرب. والذي يدل على صحةِ ما ذكرناه أن "حَيث" و"إذ"، إِذا كانا مضافَين إلى ما بعدهما من الجُمَل، لم تجز المجازاةُ بهما، إلَّا بعد دخولِ "ما" عليهما، نحو قولك: "حيث مَا تجلسْ أجلس". وذلك من قبل أن "حَيْثُ" اسمٌ، وقد كان يُضاف إلى ما بعده، كما يُضاف "بَعْدَ" إلى ما بعده. فلما أُريدت المجازاةُ بهما، أُزيلت الإضافة عنهما بأن كُفّت عنهما بـ "ما"، فعملا حينئذ في الفعل الواقع بعدهما الجزمَ. والدليلُ على أنها كافةٌ هنا، وليست المؤكدةَ، لزومُها في الجزاء كما لزمت في الاسم لما صُرف ما بعدها إلى الابتداء، وذلك أن "حَيثُ" ظرفُ مكان مُشبةٌ بـ "حِينَ" من ظروف الزمان، وكما أن "حِينَ" مضافٌ إلى الجملة كذلك أُضيف "حَيْثُ" إلى الجملة. وإذا أُضيفت إلى الجملة، صار ¬
موضع الجملة جرًّا بالإضافة. فإذا وقع الفعل المضارع بعدها؛ وقع موقعَ اسم مجرور. والفعلُ متى وقع موقعَ اسم، لم يجز فيه إلَّا الرفعُ. فلو جُوزى بـ "حَيثُ"، ولم ينضمّ إليها "ما"، لم يجز، لأنّك إذا جازيتَ بها جزمتَ. وهذا موضعٌ لا يكون الفعل فيه إلَّا مرتفعًا لوقوعه موقعَ الاسم. وكذلك "إذ" لا يُجازَى بها حتى تُكَفّ بـ "ما"، وإذا امتنعت المجازاة بها، ضُمّ إليها "ما" الكافّةُ، فمنعتْها الإضافةَ، كما أنك لمّا ضممتها إلى الحروف والأسماء، منعتَها الإضافةَ والجرّ في قوله [من الكامل]: بعدَما أفْنانُ رأسِك (¬1) وقوله تعالى: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬2)؛ فلذلك ذَكَرَ "ما" من "أيْنَما" أنها صلةٌ مؤكّدةٌ، ولم يذكر "حَيْث ما" فاعرفه. وقالوا: "بِعَيْنٍ مَّا أرَيَنَّكَ" (¬3)، فـ "ما" مؤكدةٌ، والمراد: بعَين أرينّك، وهو مَثَلٌ يُضرَب في استعجال الرسول. قال الغُوريّ: أي: اعجلْ، وكُنْ كأنيّ أنْظُرُ إليك، قال ابن كَيْسانَ: "ما" لا موضع لها من الإعراب هنا، يريد أنّها حرفٌ زائدٌ مؤكّدٌ. وفي التنزيل منه كثيرٌ، فمن ذلك قوله تعالى {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} (¬4)، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (¬5)، فيعود الجارُّ إلى ما بعد "ما". وعملُه فيه دليلٌ على أنها ملغاةٌ زائدةٌ، والمعنى على فبنَقْضهم ميثاقهم، وفَبِرحمة من الله، إذ لا يسوغ حَمْلُها على ظاهر النفي إذ يصير المعنى: أنك لنتَ لهم لا برحمة من الله، وكذلك بقيةُ الآي من قوله تعالى: {عَمَّا قَلِيلٍ} (¬6)، وقوله تعالى: {أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ} (¬7)، والمعنى: عن قليلٍ، وأيَّ الأجلين قضيت. فأمّا قوله تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ} (¬8) فإنّ "ما" معها زائدةٌ؛ لأنّ الحكم بعد دخولِ "ما" على ما كان قبلُ، وذلك أنّه لا يجازَى بها إلَّا في ضرورةِ شاعر. هذا مذهبُ أهل البصرة، وذلك لأنها لوَقْتٍ معلومٍ، والذاكرُ لها كالمعترف بأنّها كائنةٌ لا ¬
محالةَ. وأصلُ الجزاء أن لا يكون معلومًا. وقد جُوزي بها في الشعر، نحوِ قول الفرزدق [من الطويل]: 1157 - فقام أبو لَيلَى إليه ابنُ ظالمٍ ... وكان إذا ما يَسْلُلِ السيفَ يَضرِبِ وهو قليل. قالي سيبويه (¬1): والجيدُ ما قال كعْبُ بن زُهَير [من الخفيف]: 1158 - وإذا ما تَشاءُ تَبعَثُ منها ... مَغْرِبَ الشمسِ ناشِطًا مَذْعُورا ¬
إلَّا أنْ المجازاة للضرورة مع "ما" أحسنُ. قال أبو علي: وكان القياس يوجب عندي على الشاعر إذا اضطُرّ، فجازى بـ "إذا"، أن يكفّها عن الإضافة بما كَفّ "حَيثُ"، و"إذْ" لّما جوزي بهما، إلَّا أنّ الشاعر إذا ارتكب الضرورةَ، استجاز كثيرًا ممّا لا يجوز في الكلام. وإنّما جازت المجازاةُ بها في الشعر، لأنّها قد شاركتْ "إنْ" في الاستبهام إذ كان وقتها غيرَ معلوم، فأشبهت بجَهالة وقتها ما لا يُدْرَى أيكون أم لا فاعرفه. وأمّا قوله تعالى: {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (¬1)، فقد قرأ حمزة والكسائي (¬2): "مثلُ" بالرفع على الصفة لـ "حَقّ"، ونصب الباقون. ويحتمل النصب غيرَ وجه. أحدُها أن يكون مبنيًّا لإضافته إلى غير متمكّن، وهو {أَنَّكُمْ}، و"ما" زائدةٌ للتوكيد. ولو كانت "ما" لغير لغو، لَما جاز الرفعُ, لأن ما كان مبنيًّا مع غيره على الفتح لا يرتفع، نحوَ: "لا رجلَ في الدار". وقال أبو عثمان المازني: بني "ما" مع "مِثلَ"، فجعلهما بمنزلةِ "خمسةَ عشرَ". قال: وإن كانت "ما" زائدة. وأنشد أبو عثمان [من الرمل]: 1159 - وتَداعى مَنخِراه بِدَمٍ ... مِثْلَ مَا أثمَرَ حُمّاضُ الجَبَلْ ¬
فصل [زيادة "لا"]
قال أبو عثمان: سيبويه والنحويون يقولون: إنما بُني "مثلَ"؛ لأنه أضيف إلى غير معرب، وهو "أنكم". وقال أبو عمر الجَرْميّ: هو حالٌ من النكرة، وهو "حَقٌّ". والمذهبُ الأوّل وهو رأيُ سيبويه. وما ذهب إليه الجرميُّ صحيحٌ، إلَّا أنّه لا ينفكّ من ضعف؛ لأن الحال من النكرة ضعيفٌ. وقال المبرّد: لا اختلافَ في جوازِ ما قال يعني الجرميَّ. وما قال أبو عثمان فضعيفٌ أيضًا لقلّة بناء الحرف مع الاسم. فأمّا "لا رجلَ في الدار" فليس ممّا نحن فيه, لأن "لا" عاملةٌ غير زائدة، و"ما" في {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (¬1) فيمن ذهب إلى بنائها زائدةٌ، ولا يكون فيه حجّةٌ. ويؤيّد مذهبَ سيبويه في أنّ البناء ليس لتركيب "ما" مع "مِثلَ" أنّك لو حذفتَ "ما"، لبقى البناءُ بحاله، نحوَ: {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ} لإضافته إلى غير متمكّن، ألا ترى إلى قوله [من البسيط]: لم يَمنَعِ الشرْبَ منها غيرَ أن نَطَقَت ... حَمامةٌ في غُصونٍ ذاتٍ أوْقالِ (¬2) وقوله [من الطويل]: عَلى حِينَ عاتَبتُ المَشِيبَ على الصِّبا ... وقلتُ ألَمَّا أصْحُ والشيْبُ وازعُ (¬3) ونحوِ ذلك من الأسماء التي بُنيت لإضافتها إلى غير متمكن في الاسميّة فاعرفه. فصل [زيادة "لا"] قال صاحب الكتاب: وقال تعالى: {لئلا يعلم أهل الكتاب} (¬4) أي: ليعلم, وقال تعالى: {فلا أقسم بمواقع النجوم} (¬5). وقال العجاج [من الرجز]: 1160 - في بئر لا حُورٍ سرى وما شَعَرْ ¬
ومنه: "ما جاءنى زيدٌ ولا عمرٌو" قال الله تعالى. {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ} (¬1)، وقال: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} (¬2). * * * قال الشارح: وقد تزاد "لا" مؤكدةً ملغاةً كما كانت "ما" كذلك؛ لأنها أختُها في النفي، كلاهما يعمل عملَ "لَيْسَ". قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} (¬3)، فَـ "لا" زائدةٌ مؤكّدةٌ، والمعنى: لِيَعْلَمَ. ألا تَرى أنّه لولا ذلك لانعكس المعنى؟ وقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} (¬4)، {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} (¬5) إنّما هو: فأقسم، وعلى ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (¬6)، ولذلك قال المفسرون في قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} (¬7): إنّ "لا" زائدةٌ مؤكّدةٌ، والمرادُ- والله أعلمُ-: أقسم. وقد استبعد بعضهم زيادةَ "لا" هنا وأنكر أن يقع الحرف مزيدًا للتأكيد أوّلًا، واستقبحه، قال: لأنّ حكم التأكيد ينبغي أن يكون بعد المؤكَّد. ومنع من جوازه ثَعْلَبٌ، وجعل "لا" رَدًّا لكلام قبلها. وعلى هذا يقف عليها، ويبتدىء: أُقسم بيوم القيامة. والمعنى على زيادتها، وأمّا كونها أوّلًا، فلأنّ القرآن كالجملة الواحدة نُزّل دفعة واحدةً إلى السماء الدنيا، ثمّ نزّل بعد ذلك على النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في نيّف وعشرين سنة. قال أبو العبّاس: فقيل: إنّ الزائد من هذا الضرب إنّما يقع بين كلامَين، أو بعد كلام، فكان من جوابهم أنّ مَجاز القرآن كله مجازٌ واحدٌ بعد ابتدائه، وأنّ بعضه يتّصل ببعض. فإنما جاز أن تكون حروف النفي صلة على طريق التأكيد لأنه بمنزلةِ نفي النقيض في نحو قولك: "ما جاءني إلَّا زيدٌ"، فهو إثبات قد نفي فيه النقيض، وحُقَّق المجيء ¬
فصل [زيادة "من"]
لزَيد، فكأنه قيل: لا أقسم إلَّا بيوم القيامة ولا يمتنع القسمُ بيوم القيامة، وكذلك ما كان في معناه. ومن ذلك قول العجّاج [من الرجز]: في بئْرِ لا حورٍ سرى وما شَعَرْ المراد في بئر حور، و"لا" مزيدةٌ. هكذا فسّره أبو عبيدة. والحُورُ: الهَلَكَةُ، أي: في بئر هلكة سرى وما شعر، فالجارُّ متعلّقٌ بـ "سَرَى". وقالوا: "ما جاءني زيدٌ ولا عمرٌو". قالوا: وهي التي جمعتْ بين الثاني والأول في نفي المجيء، و"لا" حقّقتْ المنفيّ وأكدتْه، ألا ترى أنّك لو أسقطتَ "لا"، فقلت. "ما جاءني ريدٌ وعمرٌو"، لم يختلف المعنى. وذهب الرُّمّانيّ في شرح الأُصول إلى أنّك إذا قلت: "ما جاءني زيدٌ وعمرٌو"، احتمل أن تكون إنما نفيتَ أن يكونا اجتمعا في المجيء. فهذا الفرقُ بين المحقِّقة والصلة، فالمحقّقةُ تفتقر إلى تقديّم نفي، والصلةُ لا تفتقر إلى ذلك. فمثالُ الأوّل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ} (¬1) وَ"لا" ها هنا المحققةُ، وقال: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} (¬2) و"لا" فيه المؤكدة، والمعنى: لا تستوي الحسنةُ والسيئةُ، لأنّ "استوى" من الأفعال التي لا تكتفي بفاعل واحد، كقولنا: "اختصم"، و"اصطلح" وفي الجملة لا تزاد إلَّا في موضع لا لَبْسَ، فيه فاعرفه. فصل [زيادة "مِنْ"] قال صاحب الكتاب: وتُزاد "من" عند سيبويه في النفي خاصة لتأكيده وعمومه (¬3)، وذلك نحو قوله تعالى: {ما جاءنا من بشير ولا نذير} (¬4). والاستفهام كالنفي. قال الله تعالى: {هل من مزيد} (¬5) , وقال تعالى: {هل من خالق غير الله} (¬6) , وعن الأخفش زيادته في الإيجاب. * * * قال الشارح: اعلم أنّ "منْ" قد تزاد مؤكدةً، وهو أحدُ وجوهها، وإن كان عملُها باقيًا، والمراد بقولنا: "زائدة" أنها لا تُحْدِث معنًى لم يكن قبل دخولها، وذلك نحو قولك: "ما جاءني من أحدٍ"، فإنّه لا فرق بين قولك: "ما جاءني من أحد"، وبين قولك: "ما جاءني أحدٌ". وذلك أنّ "أحدًا" يفيد العمومَ كـ"دَيّارٍ" و"عَرِيبٍ"، و"من" كذلك، فإذا أُدخلت عليها، صارت بمنزلة تكرار الاسم، نحوِ: "أحدٌ أحدٌ". فأمّا قولك: "ما جاءني من رجل"، فذهب سيبويه إلى أن "من" تكون فيه زائدة مؤكدة. قال (¬7): ألا ترى أنك إذا ¬
فصل [زيادة الباء]
أخرجتَ "منْ"، كان الكلام حسنًا، ولكنّه أُكد بـ "منْ"؛ لأن هذا موضعُ تبعيض، فأراد أنّه لم يأتِ بعضُ الرجال. وقد ردّ ذلك أبو العباس، فقال: إذا قلنا: "ما جاءني رجلٌ"، احتمل أن يكون واحدًا، وأن يكون الجنسَ، فإذا دخلتْ "مِنْ"، صارت للجنس لا غير. وهذا لا يلزم؛ لأنه إذا قال: "ما جاءني رجلٌ"، جاز أن ينفي الجنس بهذا اللفظ كما ينفي في قولك: "ما جاءني أحدٌ"، فإذا أدخل "منْ"، لم تُحْدِث ما لم يكن، وإنما تأتي توكيدًا. وإعلم أنّ ابن السرّاج قال: حقُّ الملغى عندي أن لا يكون عاملًا ولا معمولًا فيه حتى يُلْغَى من الجميع، ويكون دخولُه كخروجه، لا يُحْدِث معنى عْيرَ التوكيد، واستغرب أن تكون هذه الخوافض زائدةٌ؛ لأنها عاملة، قال: ودخلت لمعانٍ غيرِ التأكيد. وفي الجملة الإلغاءُ على ثلاثة أوجه: إلغاءٌ في المعنى فقط، وإلغاءٌ في الإعمال فقط، وإلغاءٌ فيهما جميعًا. فالإلغاءُ في المعنى نحوُ حروف الجرّ، كقولك: "ما زيدٌ بقائم"، و"ما جاءني من أحد". وأمّا ما أُلغي في العمل، فنحوُ: "زيدٌ منطلقٌ ظننتُ " و"ما كان أحْسَنَ زيدًا". وأمّا الإلغاءُ في المعنى واللفظ، فنحوُ: "ما"، و"لا"، و"إنْ". واعلم أنّ سيبويه لا يجيز زيادةَ "مِنْ" إلَّا مع النفي على ما تقدّم من قولنا: "ما جاءني من أحد"، و"ما جاءنا من بشير ولا نذير" ألا ترى أن المعني زيادتها إذ ليس المقصود نفيَ بشير واحد، ولا نذير واحد، وإنّما المراد الجنسُ. وكذلك الاستفهامُ، نحو قوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ؟} (¬1)، إذ ليس المراد جوازَ التقدير على خالق واحد، والجامعُ بين الاستفهام والنفي أنهما غير واجبَيْن. وذهب أبو الحسن الأخفش إلى جواز زيادتها في الواجب، وقد تقدّم الكلام على ذلك مستوفى في فصل حروف الإضافة. فصل [زيادة الباء] قال صاحب الكتاب: وزيادةُ الباء لتأكيد النفي والإيجاب في نحو: "ما زيدٌ بقائمٍ", وقالوا: "بحسبك زيدٌ" و {كفى بالله} (¬2). * * * قال الشارح: قد زيدت الباء في أماكن، ومعنى قولنا: "زيدت"، أي: أنها دخلت ¬
لمجرّد التأكيد من غيرِ إحداثِ معنى، كما كانت "ما"، و"إنْ" ونحوُهما كذلك في قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} (¬1) وقوله [من الوافر]: فما إن طِبّنا جُبُنٌ (¬2) وزيادتُها قد جاءت في موضعَيْن: أحدهما: أن تزاد مع الفضلة، وأعني بالفضلة المفعول وما أشبهه، وهو الغالب عليها. والآخرُ: أن تزاد مع أحد جزأي الجملة التي لا تنعقد مستقلّةً إلَّا به. فأمّا زيادتها مع المفعول، فنحو قوله تعالي: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} (¬3)، والمراد: أيدِيَكم. ألا ترى أنّ الفعل متعدٍّ بنفسه، يدل على ذلك قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} (¬4) و {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ} (¬5)؛ ومن ذلك قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (¬6)، والمراد: ألم يعلم أن الله يرى، يدل على ذلك قوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} (¬7). ومن ذلك قوله تعالى: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} (¬8)، والمراد: تنبت الدهنَ. ألا ترى أنّه مِن "أنبَتَ"؟ فالهمزةُ فيه للنقل، وإذا كاَنت كذلك، فلا يُجْمَع بينها وبين الباء، فإنّه لا يجوز أن يُقال: "أذهَبتُ بزيدٍ"؛ لأن أحدهما يُغْنِي عن الآخر. وقد ذهب قومٌ إلى أن الباء هنا ليست زائدة، وأنهّا في موضع الحال، والمفعولُ محذوف، والمعنى: تنبِت ما تُنبِته ودُهْنُه فيه، كما يُقال: "خرج زيدٌ بثيابه"، أي: وثيابُه عليه، وركب بسيفه. ومنه قول الشاعر [من المتقارب]: ومُستَنَّة كاستِنانِ الخَرُوف ... قد قَطَعَ الحَبْلَ بالمِرْوَدِ (¬9) أي: ومرودُه فيه. وأمّا المُشابِة للمفعول؛ فقد زيدت في خبر "لَيسَ"، و"ما" لتأكيد النفي. قالوا: "ليس زيدٌ بقائم"، أي: قائمًا. قال الله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ؟} (¬10)، أي: كافِيًا عبدَه. وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟} (¬11)، أي ربَّكم. وقال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} (¬12)، أي: طاردَ المؤمنين، وقال: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (¬13)، أي: مؤمنًا لنا. وأمّا زيادتها مع أحد جزءَي الجملة، ففي ثلاثة مواضع: أحدُها: مع الفاعل قالَ: {وَكَفَى بِاللَّهِ} (¬14) فالباءُ وما عملتْ فيه في موضعِ ¬
مرفوع بفعله على حدِّ "ما جاءني من أحد"، والمراد: كفى الله، قال الله تعالى: {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬1) {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (¬2)، والمراد: كفى اللهُ، وكفينا. قال الشاعر [من الطويل]: كَفَى الشيبُ والإِسلامُ للمَرْء ناهِيَا (¬3) لما حذف الباء، رفع. وقالوا في التعجّب: "أكْرِمْ بزيدٍ"، و"أحْسِنْ ببَكرٍ". قال الله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} (¬4)، فالباء ها هنا زائدةٌ وما بعدها في موضع مرفوع بفعله، ولا ضميرَ في الفعل. وقد تقدّم الكلام عليه في التعجّب. الثاني: زيادتها مع المبتدأ، وذلك في موضع واحد. قالوا: "بحَسْبك زيدٌ أن تفعلَ"، والمراد: حسبُك. قال الشاعر [من المتقارب]: بِحَسْبِكَ في القوم أن يَعْلَمُوا ... بأنّك فيهم غَنِيٌّ مُضِرْ (¬5) ولا يُعْلَم مبتدأٌ دخل عليه حرفُ الجرّ في الإيجاب إلَّا هذا، فأمّا في غير الإيجاب، فقد دخل عليه الخافضُ غيرُ الباء. قالوا: "هل من رجل عندك؟ "فموضعُ المجرور رفعٌ بأنّه فاعلٌ (¬6) قال الله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} (¬7)، وقال تعالى: {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ} (¬8)، فموضعُ المجرور رفعٌ بالابتداء، وقد زادوها في خبرِ "لكِنّ" تشبيهًا له بالفاعل. قال الشاعر [من الطويل]: 1161 - ولكِنَّ أجْرًا لو فعلْت بهَيّنٍ ... وهل يُنْكَرُ المعْرُوفُ في الناس والأجْرُ ¬
وأمّا الثالث: فقد زادوها مع خبر المبتدأ في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} (¬1). قال أبو الحسن: الباء زائدة، وتقديرها: جزاءُ سيئة مثلُها، فاعرفه. ¬
حرفا التفسير
ومن أصناف الحرف حرفا التفسير فصل ["أي"] قال صاحب الكتاب: وهما "أي", و"أن". تقول في نحو قوله تعالى: {واختار موسى قومه} (¬1) , أي: من قومه, كأنك قلت: تفسيره: من قومه، أو معناه: من قومه. قال الشاعر [من الطويل]: 1162 - وترمينني بالطرف أي أنت مذنبٌ ... وتقلينني لكن إياك لا أقلي * * * ¬
قال الشارح: من الحروف حرفا التفسير، ويُقال لهما: حرفا العِبارة. فأمّا "أي"، فتكون تفسيرًا لما قبلها، وعبارةً عنه. وشرطُها أن يكون ما قبلها جملة تامّةً مستغنيةً بنفسها، يقع بعدها جملةٌ أُخرى تامّةٌ أيضًا، تكون الثانيةُ هي الأُولى في المعنى مفسّرة لها، فتقع "أيْ" بين جملتَين، وذلك قولك: "ركب بسيفه، أي: وسيفُه معه"، و"خرج بثيابه، أي: وثيابُه عليه". فقدلُك: "وسيفه معه" هو في المعنى: بسيفه، وكذلك "خرج بثيابه"، وهو في المعنى: وثيابُه عليه. لا بد أن تكون الجملة الثانية في المعنى الأولى، وإلا فلا تكون تفسيرًا لها. وتقول: "رميتُه من يدي، أي: ألقيتُه"، فقدلك: "ألقيته" بمعنى "رميتُه من يدي". وكذلك قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} (¬1)، أي: من قومه، فحصلت الجملة الثانية مفسّرة للأولى. والمخالَفةُ بينهما من حيث أن في الثانية "من" وهي مرادةٌ في الأُولى، وليست في لفظها، ولذلك صحّ أن تكون تفسيرًا لها. وقد ذهب قومٌ إلى أنّ "أيْ" هنا اسمٌ من أسماء الأفعال، ومسمّاه: "عُوا" و"افْهَمُوا"، كـ"صَهْ" و"مَهْ". وليس الأمر على ما ظن هؤلاء, لأنّ "صَهْ"، و"مَهْ" يدلاّن على معنى في أنفسهما إذا أفردا، وهو اُسكُتْ واُكفُفْ، وليس كذلك "أيْ"؛ لأنها لا يُفْهَم لها معنى حتى تُضاف إلى ما بعدها، فأمّا قوله [من الطويل]: وترمينني بالطرف ... إلخ الشاهد فيه قوله: "أي أنت مذنبٌ" جعله تفسيرًا لقوله: "ترمينني بالطرف"، إذ كان معنى "ترمينني بالطرف"، أي: تنظر إليّ نَظَرَ مُغْضَبٍ. ولا يكون ذلك إلَّا عن ذَنْب، فلذلك قال: "أي أنت مذنب". والقِلَى: البُغضُ. ومنه قوله تعالى: و {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} (¬2). وقوله: "لكِنَّ إياك"، "لكن" بمعنى الشأن والحديث، والهاءُ منويّة، و"إيّاك" مفعولُ "أقْلِي" قُدّم عليه، والمراد: لَكِنَّهُ، أي: لكن الأمرَ والشأنَ لا أقليك. فلمّا تقدّم الكاف، أُتي بالضمير المنفصل. وقوله: "وترمينني"، الياءُ هي الفاعلةُ، والنونُ الأُولى علامةُ الرفع لا تُحذف إلَّا في الجزم والنصب، والثانيةُ وِقايةٌ كالتي في "ضَرَبَني"، و"خاطَبَني"، فاعرفه. ¬
فصل ["أن"]
فصل ["أن"] قال صاحب الكتاب: وأما "أن" المفسرة, فلا تأتي إلا بعد فعل في معنى القول, كقولك: "ناديته أن قم"، و"أمرته أن اقعد"، و"كتبت إليه أن ارجع", وبذلك فُسّر قوله عز وجل: {وانطلق الملأ منهم أن امشوا} (¬1)، وقوله تعالى: {وناديناه أن يا إبراهيم} (¬2). * * * قال الشارح: وقد تكون "أنْ" بمعنَى "أيْ" للعبارة والتفسير، وذلك أحدُ أقسامها، نحوُ قوله تعالى: {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا} (¬3)، معناه: أي امْشُوا؛ لأنّ انطلاقهم قام مقام قولهم: "امشوا"، ولهذا فُسِّر به. وقد اختلفوا في معنى المشي في الآية، فقال قوم: المراد بالمشي النَّماءُ والكثرةُ، كما قال الحُطَيْئة [من الوافر]: 1163 - فَمَا مَن وَسْطَهُمْ وُيقِيمُ فيهم ... وَيمْشِي إن أُرِيدَ به المَشاءُ والذي عليه الأكثرُ أن المراد بالمشي الحركةُ السريعةُ؛ لئلا يسمعوا القرآنَ وكلامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ويُعاينوا بَراهِينَه. والذي يدل على ذلك قوله تعالى: {وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ¬
وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا} (¬1)، وكذلك قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} (¬2)، فـ "أنْ" بمعنى "أيْ"، وهو تفسيرُ "ما أمرتني به"؛ لأن الأمر في معنى القول. ولـ"أنْ" هذه إذا كانت تفسيرًا ثلاثُ شرائط: أوّلُها: أن يكون الفعل الذي تُفسِّره وتُعبِّر عنه فيه معنى القول، وليس بقول. الثاني: أن لا يتّصل بـ "أنْ" شيءٌ من صلة الفعل الذي تفسّره, لأنّه إذا اتصل بها شيءٌ من ذلك، صارت من جملته، ولم تكن تفسيرًا له، وذلك نحو قولك: "أوْعزتُ إليه بأنْ قُمْ"، و"كتبتُ إليه بان قُم"؛ لأن الباء ها هنا متعلّقة بالفعل. وإذا كانت متعلّقة به، صارت من جملته، والتفسيرُ إنما يكون بجملة غير الأوُلى. والثالثُ: أن يكون ما قبلها كلامًا تامًّا؛ لِما ذكرناه من أنّها وما بعدها جملة مفسّرةٌ جملةً قبلها، ولذلك قالوا في قوله تعالى: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3): إِن "أنْ" فيه مخفّفة من الثقيلة، والمعنى: أنّه الحمدُ لله، ولا تكون تفسيرًا؛ لأنّه ليس قبلها جملةٌ تامّة، ألا ترى أنك لو وقفتَ على قوله: وَ {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} لم يكن كلامًا؟ وأمّا قوله: {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ} (¬4) "أنْ" فيه بمعنى "أيْ"؛ لأن النداء قول، و"ناديناه" كلامٌ تامٌّ. ¬
الحرفان المصدريان
ومن أصناف الحرف الحرفان المصدريّان فصل [تعدادهما] قال صاحب الكتاب: وهما "ما", و"أن" في قولك: "أعجبني ما صنعت, وما تصنع", أي: صنيعك, وقال الله تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} (¬1) , أي: برحبها, وقد فسر به قوله عز وجل: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} (¬2). وقال الشاعر [من الوافر]: يسر المرء ما ذهب الليالي ... وكان ذهابهن له ذهابا (¬3) وتقول: "بلغني أن جاء عمرو"، و"أُريد أن تفعل"، و"إنه أهل أن يفعل".وقال الله تعالى: {فما كان جواب قومه إلا أن قالوا} (¬4). * * * قال الشارح: ومن الحروف حرفان يكون كل واحد منهما وما بعده مصدرًا يُحْكَم على محلّه بالإعراب، ويقع فاعلاً ومفعولًا ومجرورًا، وهما "ما"، و"أنْ". فأمّا "ما" إذا كانت والفعلَ مصدرًا؛ ففيها خلافٌ بين أصحابنا. فسيبويه كان يقول (¬5): إنّها حرفٌ كـ"أنْ"، إلَّا أنّها لا تعمل عملَها، فيقول في "أعجبني ما صنعتَ": إِنّه بمنزلةِ "أعجبني أن قمتَ"، ويلزمه على هذا أن يقول: "أعجبني ما ضربتَ زيدًا"، كما تقول: "أن ضربتَ زيدًا". قال المبرد: وكان يقوله. والأخفش كان يرى أنها في هذه المواضع لا تكون إلَّا اسمًا، فإن كانت معرفة؛ فهي بمنزلةِ "الَّذِي" عنده، والفعل في صلتها كما يكون في صلةِ " الَّذِي"، ويرتفع كما يرتفع الفعل إذا كان في صلةِ "الذي". وتكون نكرة في تقديرِ "شَيْء"، ويكون الفعل بعدها صفةً لها، وفي كِلا الحالين لا بد من عائدٍ يعود عنده إليها، فيُجيز: "أعجبني ما صنعتَ"، والمعنى: صنعتَهُ, لأنّ الفعل متعدٍّ، فجاز أن تُقدِّر ضميرًا يكون مفعولًا، ولا ¬
يجوز عنده: "أعجبنى ما قمتَ"؛ لأنّ الفعل غيرُ متعدّ، فلا يصح تقديرُ ضمير فيه، ولذلك لا يجوز عنده: "أعجبني ما ضربتَ زيدًا"؛ لأن الفعل قد استوفى مفعولَه. ولا يصح فيه تقديرُ ضميرِ مفعول آخرَ. وممّا يؤيد مذهبَ سيبويه قوله تعالى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} (¬1)، فلو كانت "ما" هنا اسمًا، للَزم أن يكون في الجملة بعدها ضميرٌ، ولا ضميرَ فيها، ولا يصح تقديرُ ضمير؛ لأنّ الفعل قد استوفى مفعولَه. فإن قيل: فأنت تقول: "أعجبني ما صنعت"، و"سرّني ما لبِستَ"، ويكون ثَمّ عائدٌ على معنى "صنعتَهُ"، و"لبستَةُ"، ولا يعود الضمير إلَّا إلى اسم، قيل: متى اعتقدتَ عودَ الضمير إلى "ما" كانت اسمًا لا محالةَ، ومتى لم تعتقد ذلك؛ فهي حرفٌ. فأمّا قوله تعالى: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ} (¬2) ففيه أيضًا دلالةٌ على أنّ "ما" حرفٌ، وليست اسمًا؛ لأنّه ليس في صلتها عائدٌ، والفعلُ لازمٌ ولا يتعدّى، ولا يصحّ تقديرُ إلحاق الضمير به. وقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} (¬3)، ففيه قولان: أحدهما: أن "ما" فيه بمعنَى "مَنْ"، والمراد: والسماءِ ومَن بناها. والقولُ الثاني: أنّ "ما" مع الفعل بمعنى المصدر، والمراد: وبنائها، فالقَسَمُ إذا بالسماء وبنائها، أقسم الله تعالى بهما تفخيمًا لأمرهما. وعليه أكثرُ المفسّرين. ومثلُه قول الشاعر [من الوافر]: يسرّ المرء ... إلخ فالشاهد فيه قوله:"ما ذهب الليالي". وذلك أنّه جعل "ما" مع ما بعدها من الفعل في موضع المصدر المرفوع بأنّه فاعلٌ، ولا عائدَ في اللفظ، ولا مقدَّرٌ، لأنّ الفعل لازمٌ، والمراد: يسرّ المرءَ ذَهابُ الليالي إمّا ليتناول وظيفتَه، وإذا رَجاءَ تبدّلِ حال، وهو في الحقيقة من عُمْره يُحْسَب. وأمّا "أنْ"، فهي حرف بلا خلاف، وهي تدخل على الفعل الماضي والمضارع. فإذا وقع بعدها المضارعُ، خلّصته للاستقبال كالسين و"سَوف"، وتصير "أنْ" في تأويلِ مصدر لا يقع في الحال، إنما تكون لِما لم يقع كما كان المضارع بعدها كذلك، والماضي إن وقعت على ماض. والفرق بينها وبين "ما" أنّ "ما" تدخل على الفعل والفاعل والمبتدأ والخبر، و"أنْ" مختصّةٌ بالفعل، ولذلك كانت عاملة فيه، ولعدمِ اختصاصِ "ما" لم تعمل شيئًا، وذلك ¬
فصل [رفع الفعل بعد "أن" المصدرية]
قولك في الفعل: "يُعجِبني ما تصنع"، أي: صنيعُك، ودخولُها على الاسم قولك: "يعجبني ما أنت صانعٌ"، أي: صنيعُك. وتقول: "بلغني أن جاء زيدٌ"، أي: مجيئُه، فيكون المصدر بمعنى الماضي, لأنّ "أنْ" دخلت على فعل ماض. وتقول: "أُريد أن تفعل" أي: فعْلَك، فيكون المصدر لِما لم يقع؛ لأن "أنْ" دخلت على فعل مستقبل. وقوله تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا} (¬1)، يُرْوَى برفع الجواب ونصبِه. فمَن رفعه. كان الخبر "أنْ" والعْعلَ، على تقديرِ: فما كان جوابُ قومه إلَّا قولَهم. ومَن نصبه، كان خبرًا مقدمًا، و"أن قالوا" في موضع الاسم. فصل [رفع الفعل بعد "أن" المصدرية] قال صاحب الكتاب: وبعض العرب يرفع الفعل بعد "أن" تشبيها بـ "ما" قال [من البسيط]: أن تقرآن على أسماء ويحكما ... مني السلام وأن لا تشعرا أحدا (¬2) وعن مجاهد {أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} (¬3) بالرفع. * * * قال الشارح: قال ابن جِنيّ: قرأتُ على محمّد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قولَ الشاعر [من البسيط]: يا صاحِبَىَّ فَدَتْ نَفْسِي نُفُوسَكُما ... وحَيثُمَاكُنْتُما لَاقَيْتُما رَشَدا أن تَحْمِلا حاجَةً لِي خَفَّ مَحملُها ... وَتَصْنَعا نِعْمَةً عندي بها ويَدا أنْ تَقرَآنِ على أسْماءَ وَيْحَكُما ... مِنِّي السلامَ وأنْ لا تشْعِرا أحَدا فقال في تفسيرِ "أن تقرآن"، وعلّةُ رفعه: إِنه شبّه "أنْ" بـ "ما"، فلم يُعْمِلْها في صلتها، ومثلُه الآيةُ، وهو رأيُ السيرافي. ولعلّ صاحب هذا الكتاب نقله من الشرح. وقوله: "أن تحملا حاجة" في موضعِ نصب بفعل مضمر دلّ عليه ما تضمّنه البيتُ الأوّلُ من النداء والدعاء، والمعنى: أسألُكما أن تحملا. وهو رأيُ البغداديين، ولا يراه البصريون، وصحّةُ مَحْمَل البيت عندهم على أنّها المخفّفةُ من الثقيلة، أي. أنَّكُمَا تقرآن، و"أنْ" وما بعدها في موضع البدل من قوله: حاجة؛ لأنّ حاجته قراءةُ السلام عليها. وقد استبعدوا تشبيهَ "أنْ" بـ "ما"؛ لأن "ما" مصدرٌ معناه الحال، و"أنْ" وما بعدها مصدرٌ إمّا ماضٍ، وإما مستقبلٌ على حسب الفعل الواقع بعدها، فلذلك لا يصحّ حملُ إِحداهما على الأُخرى، فاعرفه. ¬
حروف التحضيض
ومن أصناف الحرف حروفُ التحضيض فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: وهي: "لولا", و"لوما", و"هلا", و"ألا". تقول: "لولا فعلت كذا"، و"لوما ضربت زيداً"، و"هلا مررت به"، و"ألا قمت", تريد استبطاءه وحثه على الفعل. ولا تدخل إلا على فعل ماض أو مستقبل قال الله تعالى: {لولا أخرتني إلى أجل قريب} (¬1)، وقال الله تعالى: {لو ما تأتينا بالملائكة} (¬2)، وقال تعالى: {فلولا أن كنتم غير مدينين ترجعونها} (¬3). وإن وقع بعدها اسمٌ منصوب أو مرفوع, كان بإضمار رافع أو ناصب, كقولك لمن ضرب قوماً: "لولا زيدًا", أي: لولا ضربته. قال سيبويه (¬4): وتقول: "لولا خيراً من ذلك"، و"هلا خيراً من ذلك"، أي: هلا تفعل خيراً. قال: ويجوز رفعه على معنى: هلا كان منك خيرٌ من ذلك, وقال جرير [من الطويل]: تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ... بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا (¬5) قال الشارح: اعلم أنّ هذه الحروف مركّبةٌ تدلّ مفرداتُها على معنى، وبالضمّ والتركيب تدلّ على معنى آخرَ لم يكن لها قبل التركيب، وهو التحضيضُ. والتحضيض: الحَث على الشيء، يُقال: "حَضَضته على فَعْله" إذا حثثتَه عليه، والاسمُ الحُضّيضَى. فـ "لَوْلا" التي للتحضيض مركبة من "لَوْ"، و"لا"، فـ "لوْ" معناها امتناعُ الشيء لامتناع غيره. ومعنَى "لا" النفيُ، والتحضيضُ ليس واحدًا منهما. وكذلك "لَوْما" مركّبة من "لَوْ"، و"ما". و"هَلاَّ" مركبة من "هَل"، و"لا"، و"ألا" في معناها مركّبة من "أنْ"، و"لا". ¬
ومعناها كلُّها التحضيضُ والحَثُّ. وإذا وَلِيَهنّ المستقبلُ كنّ تحضيضًا، وإذا وليهنّ الماضي، كن لَوْما وتوبيخًا فيما تَرَكَه المخاطبُ، أو يُقدَّر فيه التركُ، نحوَ قول القائل: "أكرمتُ زيدًا"، فتقول: "هَلاَّ خالدًا"، كأنّك تصرِفه إلى إكرامِ خالد، وتحثّه عليه، أو تلومه على تركِ إكرامه. وحيث حصل فيها معنى التحضيض -وهو الحثّ على إيجاد الفعل وطلبُه- جرت مجرى حروف الشرط في اقتضائها الأفعالَ، فلا يقع بعدها مبتدأٌ، ولا غيرُه من الأسماء. ولذلك قال: "لا تدخل إلَّا على فعل ماض أو مستقبل". فأمّا قوله تعالى: {لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} (¬1)، فقد وليه الماضي، إلَّا أنّ الماضي هنا في تأويل المستقبل، كما يكون بعد حرف الشرط كذلك, لأنه في معناه، والتقديرُ: إن أخرْتَني أصَّدَّقْ، ولذلك جَزَمَ "وَأكُنْ" بالعطف على موضعِ "فأصَّدَّقَ". قوله: {لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ} (¬2)، فشاهدٌ على إيلائه الفعلَ المستقبلَ، والمراد: إيتنا بها. وقوله: {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ تَرْجِعُونَهَا} (¬3) وليه الجملةُ الشرطيةُ، وهي في معنى الفعل إذ كانت مختصّة بالأفعال، ولا يقع بعدها الاسمُ، فإن وقع بعدها اسمٌ، كان في نيّة التأخير، نحوَ قولك: "هلاّ زيدًا ضربتَ"، والمراد: هلا ضربت زيدًا، وعلى تقديرِ فعل محذوف، نحوَ قولك لفاعلٍ الإكرام: "هلّا زيدًا"، أي: هلّا أكرمتَ زيدًا. ولذلك قال: إذا وقع بعدها اسم مرفوع أو منصوب كان بإضمارِ رافعٍ أو ناصبٍ، أي: من الأفعال. قال سيبويه (¬4): تقول: "لولا خيرًا من ذلك"، و"هلاّ خيرًا من ذلك" والمراد: هلا تفعل خيرًا من ذلك. ولو رفعه على تقديرِ:"هلا كان منك خيرٌ من ذلك" لجاز. ومنه البيت الذي أنشده [من الطويل]: تعدّون عقر النيب ... إلخ البيت لجرير، وقيل: للأشْهَب بن رُمَيلَةَ، والشاهد فيه أنّه أضمر فعلًا نَصَبَ "الكمى المقنعا". ومعناه أن هؤلاء بني ضَوْطَرَى، والضوطرى: الضَّخْمُ الذي لا غَناءَ عنده، يمشون بالإطعام والضيافةِ، ويجعلون الكرمَ أكبرَ مَجْدهُم. فقال: تعدّون عقر النِّيب، وهو: جمعُ نابٍ، وهي: المُسِنّة من الإبل ونحوِها للأضْياف، أكبرَ مجدكم يا بني ضوطرى لولا الكميَّ اَلمقنعَ، والكَمِىُّ: الشجاع المتكمّى في سِلاحه، أي: المستتر. والمقنَّع: الذي عليه البَيضَةُ. كأنّه ينسبهم إلى الفَشَل، وعدم الشجاعة. ¬
فصل [المعني الآخر لـ "لولا" و"لوما"]
فصل [المعني الآخر لـ "لولا" و"لوما"] قال صاحب الكتاب: ولـ "لولا" و"لوما" معنى آخر, وهو امتناع الشيء لوجود غيره, وهما في هذا الوجه داخلتان على اسمٍ مبتدأ, كقولك: "لولا علي لهلك عمر". * * * قال الشارح: جملةُ الأمر أن "لَوْلا"، و"لَوْما" على وجَهَيْن: أحدهما هذا، والثاني أن تكونا لامتناع الشيء لوجود غيره. ويقع بعِدهما المبتدأُ، وتختصّان بذلك، ويكون جوابُهما سادًا مَسَدَّ خبر المبتدأ لطُوله، وذلك نحو قولك: "لولا زيدٌ لاْكرمتُك"، و"لوما خالذ لزُرْتُك"، فقد امتنع الإكرامُ والزيارةُ لوجودِ زيد وخالد. فقد صارا في هذا الوجه يدخلان على جملتَين ابتدائيةٍ وفعليّةٍ لرَبْط الجملة الثانية بالأُولى. فالجملةُ الابتدائيةُ هي التي تليها، والجملةُ الفعليةُ هي الجواب، فقولك: "لولا زيدٌ لأكرمتُك"، معناه: لولا زيدٌ مانع لأكرمتُك. والأصل قبل دخول الحرف: "زيد مانع لأكرمتُك"، ولا يكون حينئذ لإحدى الجملتين تعلّق بالأُخرى. فإذا دخلت "لولا" أو"لوما"، ربطت إحداهما بالأُخرى، وصيرت الأولى شرطًا والثانية جزاء. وقد ذهب الكوفيون (¬1) إلى أن الاسم مرتفعٌ بعدها بها نفسِها لنيابتها عن الفعل، وذلك أنّا إذا قلنا: "لولا زيدٌ لأكرمتُك"، قالوا: معناه: لولا منع زيدٌ، فحُذف الفعل، وناب عنه الحرفُ. وقد استُضعف بأنّ العامل ينبغى أن يكون له اختصاصٌ بما يعمل فيه، وهذا الحرفُ لا يختصّ بالاسم؛ لأنّه قد دخل على الفعل. قال الشاعر [من البسيط]: لَولَا حُدِدْتُ ولا عُذْرَى لمحدودِ (¬2) وقال الآخر [من الطويل]: 1164 - ألا زَعَمَتْ أسْماءُ أن لا أُحِبُّها ... فقلتُ: بَلى لولا يُنازِعني شغلي ¬
فإذا قد صار هذان الحرفان من قبيل المشترَك، إذ يُستعملان في التحضيض والامتناع؛ لأن اللفظ متّفقٌ، والمعنى مختلف متعدّدٌ، ولم يمتنع ذلك منهما، كما كان ذلك في الحروف المفْرَدة، نحوِ همزة الاستفهام، وهمزة النداء، واللام في "لزيدٍ"، واللام في "لِيَضرِبْ زيدٌ"، و"هَلْ" التي في قولك: "هل زيدٌ منطلق؟ " و"هَلْ" التي بمعنَى "قَدْ". فكما اتّفقتْ ألفاظُ الحروف المفردة، واختلفت معانيها، كذلك هذه الحروف المركّبة، فاعرفه. ¬
حرف التقريب
ومن أصناف الحرف حرف التقريب فصل [قد] قال صاحب الكتاب: وهو "قد" يُقرِّب الماضي من الحال إذا قلت: "قد فعل". ومنه قول المؤذن: "قد قامت الصلاة", ولا بد فيه من معنى التوقع. قال سيبويه (¬1): وأما "قد", فجواب "هل فعل". وقال أيضاً (¬2): فجواب "لما يفعل", وقال الخليل (¬3): هذا الكلام لقوم ينتظرون الخبر. * * * قال الشارح: "قَدْ" حرفٌ معناه التقريبُ، وذلك أنك تقول: "قام زيدٌ"، فتُخبِر بقيامه فيما مضى من الزمن، إلَّا أن ذلك الزمان قد يكون بعيدًا، وقد يكون قريبًا من الزمان الذي أنت فيه، فإذا قرّبتَه بـ "قَدْ"، فقد قرّبتَه ممّا أنت فيه، ولذلك قال المُؤذِّن: "قد قامت الصلاة"، أي: قد حان وقتُها في هذا الزمان. ولذلك يحسن وقوعُ الماضي بموضع الحال إذا كان معه "قَدْ"، نحوَ قولك: "رأيتُ زيدًا قد عزم على الخروج"، أي: عازمًا. وفيها معنى التوقع يعني لا يُقال: "قد فعل" إلا لمن ينتظر الفعلَ أو يَسأل عنه، ولذلك قال سيبويه: وأمّا "قَدْ" فجوابُ "هل فعل"؛ لأنّ السائل ينتظر الجوابَ، وقال أيضًا. وأمّا "قَدْ" فجوابٌ لقوله: "لَما يَفْعَل"، فتقول: "قد فعل". وذلك أنّ المُخْبِر إذا أراد أن ينفي، والمُحدّث ينتظر الجوابَ، قال: "لَمَّا يَفعَل"، وجوابُه في طرف الإثبات: "قد فعل"؛ لأنه إيجابٌ لِما نفاه. وقولُ الخليل: "هذا الكلامُ لقوم ينتظرون الخبر"، يريد أنّ الإنسان إذا سأل عن فعلٍ أو عُلِمَ أنّه متوقعٌ أن يُخْبَر به، قيل: "قد فَعَلَ". وإذا كان المُخْبِر مبتدِئًا قال: "فعل كذا وكذا"، فاعرفه. ¬
فصل [استعمال "قد" للتقليل]
فصل [استعمال "قد" للتقليل] قال صاحب الكتاب: ويكون للتقليل بمنزلة "ربما" إذا دخل على المضارع كقولهم: "إن الكذوب قد يصدق". * * * قال الشارح: قد تستعمل "قَدْ" للتقليل مع المضارع، فهي لتقليل المضارع، وتقريبِ الماضي، فهي تجري مع المضارع مجرى "رُبَّمَا". تقول: "قد يصدق الكذوب"، و"قد يَعْثُر الجَوادُ"، تريد أن ذلك قد يكون منه على قلّةٍ وندرةٍ، كما تقول: "ربّما صدق الكذوبُ وعثر الجوادُ". وذلك لِما بين التقليل والتقريب من المناسبة، وذلك أنّ كلّ تقريب تقليلٌ؛ لأن فيه تقليلَ المسافة. قال الهُذَليّ [من البسيط]: 1165 - قد أتْرُك القِرْنَ مُصْفَرًّا أنامِلُه ... كأن أثوابَه سُجَّت بفِرْصادِ ¬
فصل [فصل "قد" عن الفعل بالقسم, وطرح الفعل بعدها]
فصل [فصل "قَدْ" عن الفعل بالقسم, وطرح الفعل بعدها] قال صاحب الكتاب: ويجوز الفصل بينه وبين الفعل بالقسم, كقولك: "قد والله أحسنت"، و"قد لعمري بتُّ ساهراً". ويجوز طرح الفعل بعدها إذا فُهم, كقوله [من الكامل]: أفد الترحل غير أن ركابنا ... لما تزل برحالنا وكأن قَدِ (¬1) * * * قال الشارح: اعلم أن "قَدْ" من الحروف المختصّة بالأفعال، ولا يحسن إيلاءُ الاسم إيّاه، وهو في ذلك كالسين و"سَوْفَ". ومنزلةُ هذه الحروف من الفعل منزلةُ الألف واللام من الاسم, لأن السين و"سوف" يقصران الفعل على زمان دون زمان. وهي بمنزلة الألف واللام التي للتعريف، وقَدْ توجِب أن يكون الفعل متوقَّعًا، وهو يُشْبِه التعريفَ أيضًا، فكما أنّ الألف واللام اللتين للتعريف لا يُفصَل بينهما وبين التعريف أيضًا، كان هذا مثلَه، إلَّا أن "قَدْ" اتّسعت العربُ فيها؛ لأنّها لتوقّعِ فعل، وهي منفصلةٌ ممّا بعدها، فيجوز الفصل بينها وبين الفعل بالقَسَم؛ لأنّ القسم لا يفيد معنى زائدًا، وإنّما هو لتأكيد معنى الجملة، فكان كأحد حروفها، وقال: "قد واللهِ أحسنتَ"، و"قد لَعَمْري بِتُّ ساهرًا". هكذا الروايةُ "أحسنتَ" بفتح التاء، و"بِتُّ" بضمّ التاء. فأمّا قوله [من الكامل]: أفد الترحّل ... إلخ فالبيت للنابغة، والشاهدُ فيه طرحُ الفعل بعد "قَدْ" لدلالةِ ما تقدّم عليه. ومثلُه "لَمَّا" في جواز الاكتفاء بها، وقد تقدّم قبلُ، فاعرفه. ¬
حروف الاستقبال
ومن أصناف الحرف حروفُ الاستقبال فصل [تعدادها] قال صاحب الكتاب: وهي "سوف", و"السين و"أن" و"لا" و"لن". قال الخليل (¬1): إنَّ "سيفعل" جواب "لن يفعل"، كما أن "ليفعلن" جواب "لا يفعل"؛ لما في "لا يفعل" من اقتضاء القسم. وفي "سوف" دلالةٌ على زيادة تنفيس، ومنه "سوفته", كما قيل من "آمين": "أمَّنَ". ويقال: "سف أفعل". وأن تدخل على المضارع والماضي, فيكونان معه في تأويل المصدر, وإذا دخل على المضارع لم يكن إلا مستقبلاً كقولك: "أريد أن يخرج"، ومن ثم لم يكن منها بُدٌّ في خبر "عسى". ولما انحرف الشاعر في قوله [من الطويل]: عسى طييء من طييء بعد هذه ... ستطفيء غُلّات الكلى والجوانح (¬2) عما عليه الاستعمال جاء بالسين التي هي نظيرة "أن". * * * قال الشارح: هذه الحروف موضوعةٌ للاستقبال، أي: إنّها تفيد الاستقبالَ، وتقصر الفعلَ بعدها عليه. فمن ذلك السين و"سَوْفَ"، ومعناهما التنفيسُ في الزمان. فإذا دخلا على فعل مضارع، خلّصاه للاستقبال، وأزالا عنه الشياعَ الذي كان فيه، كما يفعل الألفُ واللامُ بالاسم، إلَّا أن "سَوفَ" أشدُّ تراخِيًا في الاستقبال من السين، وأبلغُ تنفيسًا. وقد ذهب قوم إلى أن السين مُنقصةٌ مْن "سَوْف"، حذفوا الواو والفاءَ منها لكثرة الاستعمال، وهو رأي الكوفيين (¬3)، وحكوا فيها لغاتٍ، قالوا: "سَوْ أفعلُ"، بحذف الفاء وحدَها، وقالوا: "سَفْ أفعلُ" بحذف الواو وحدها. والذي عليه أصحابُنا أنّهما كلمتان مختلفتا الأصلِ، وإن تَوافقا في بعض حروفهما، ولذلك تختلف دلالتُهما. ¬
فصل [شبهها بـ "أن" في سبكها مع ما بعدها بمصدر]
فـ "سوْفَ" أكثرُ تنفيسًا من السين، ولذلك يُقال: "سوَّفتُه"، إذا أطلتَ الميعاد، كأنّك اشتققتَ من لفظِ "سوْفَ" فعلاً، كما اشتققت من لفظِ "آمِينَ" فعلاً، فقلتَ: "أمَّنتُ" على دُعائه. ولو كان أصلهما واحدًا، لكان معناهما واحدًا، مع أنَّ القياس يأبى الحذف في الحروف. وأمّا "سَوْ أفعلُ"، و"سَوْ أفعلُ"، فحكايةٌ يفرُد بها بعضُ الكوفيين مع قلّتها. ومن ذلك "لا"، وهي مختصّة بنفي المستقبل، فهي نفيُ "يَفعَلُ"، إذا أريد به الاستقبالُ. وقوله: "لَيَفعَلَن جوابُ لا يفعل"، يريد أنّ "لا يَفعَلُ" يُتلقّى به القسمُ في النفي إذا أُريد المستقبل، كما أنّك تَتَلقّى القسمَ في طرف الإيجاب بقولك: "لَيفعلنّ"؛ لأنّ النون توكيدٌ، وتصرف الفعلَ إلى المستقبل كـ"لا". وأمّا "لَن"، فتنفي المستقبلَ أيضًا، وهي أبلغُ من "لا"، وهي جوابُ "سيفعل". وأمّا "أنْ"، فإذا دخلت على الأفعال المضارعة، خلّصتْها للاستقبال، وعملت فيها النصبَ، ولذلك اختصّت بالدخول في خبرِ "عَسى"؛ لأنّ معناها الطَّمَعُ والرَّجاءُ. وذلك إنّما يكون فيما يُستقبل من الزمان. ولمّا لم يُمْكِن الشاعرَ أن يأتِي بـ "أنْ" في خبرها، عدل إلى نظيرتها، وهي السين، فقال [من الطويل]: عسى طيّئ ... إلخ والمعنى عسى طيّىءٌ تَقتصُّ من طيّىء، أي: بعضُهم يقتصّ من بعض، فتَبْرُد غُلاّتِ الكُلى، أي: حَرَّ غُلاّتِ الحقد والغَيظِ. وقد تقدّم الكلام على ذلك كلّه، فاعرفه. فصل [شبهها بـ "أن" في سبكها مع ما بعدها بمصدر] قال صاحب الكتاب: وهي مع فعلها ماضياً أو مضارعاً بمنزلة "أن" مع ما في حيزها. * * * قال الشارح: يريد أنّ "أن" الخفيفة ينسبك منها ومن الفعل الذي بعدها مصدرٌ، فيكون في موضع رفع بأنّه فاعلٌ، أو مبتدأٌ، أو في موضعِ نصب بأنّه مفعولٌ، أو في موضعِ مجرور بالإضافة. فمثالُ كونها فاعلةً قولُك: "أعجبني أن قمتَ"، والمراد: قيامُك، وزمان ذلك المصدر المُضِيّ؛ لأن فعله الذي انسبك منه كان ماضيًا. وكذلك لو كان فعله مضارعًا، نحوَ قولك: "يسُرّني أن تُحسِن"، والمراد: إحسانُك، فهو مصدرٌ زمانُه المستقبل، أو الحال كما كان الفعلُ كذلك.
فصل ["أن" في لغة تميم وأسد"]
وتقول في المفعول: "كرِهتُ أن قمتَ"، أي: قيامَك، و"أكرَهُ أن تقوم". وتقول في المجرور: "عجبتُ مِن أن قمتَ"، و"مِن أن تقوم". ومجرَى و"أنْ" في ذلك مجرَى "أنَّ" المشدّدةِ، إذ كانت "أنَّ" مع اسمها وخبرها. في تأويلِ مصدر مشتقٍّ من لفظ خبرها. وتجري بوُجوه الإعراب على ما ذكرنا في "أن" المخفّفة، نحوَ قولك: "أعجبني أن تحسن"، أي: إحسانُك. وقوله: "أن وما في حيّزها"، يريد: ما هو بعدها من تمامها، مأخوذٌ من "حيّزِ الدار"، وهو ما يتعلق بها من الحُقوق والمَرافِق، فاعرفه. فصل ["أن" في لغة تميم وأسد"] قال صاحب الكتاب: وتميم وأسدٌ يحولون همزتها عيناً, فينشدون بيت ذي الرمة [من البسيط]: أأن ترسمت من خرقاء منزلة ... [ماء الصبابة من عينيك مسجوم] (¬1) "أعن ترسمت"، وهي عنعنة بني تميم. وقد مر الكلام في "لا" و"لن". * * * قال الشارح: هذه لغةٌ لتميم وأسدٍ، يُبدِلون من الهمزة المفتوحة عينًا، وذلك في "أنَّ" و"أنْ" خاصة إيثارًا للتخفيفَ؛ لكثرة استعمالهما وطُولِهما بالصلة، قالوا: "أشهدُ أنَّ محمّدًا رسولُ الله". ولا يجوز مثل ذلك في المكسورة. وأنشدوا بيت ذي الرمّة [من البسيط]: أعن ترسّمت ... إلخ والمراد: أنْ، وأُبدلت عينًا، وذلك لقُرْبها منها. وهي أخفُّ منها؛ لارتفاعها إلى وسط الحلق. يُقال: "ترسمتُ الدارَ والمنزلَ"، إذا تأمّلتَ رسمَها. وخَرْقاءُ: صاحبةُ ذي الرمّة، وهي من بني عامر بن رَبِيعَةَ بن صَعْصَعَةَ، والصَّبابةُ: رِقةُ الشَّوْق. ومسجومٌ: مصبوبٌ، يُقال: "سَجَمَ الدَّمْعُ"، و"سجمتِ العينُ دمعَها"، فهو مسجومٌ. وأنشدوا أيضًا في إبدال الهمزة عينًا [من البسيط]: 1166 - أعَن تَغنت على ساقٍ مُطوَّقةٌ ... وَرْقاءُ تدعو هَدِيلًا فوق أعْوادِ ¬
وحُكي عن الأصمعيّ، قال: ارتفعت قريشٌ عن عَنْعَنَةِ تميم، وكَشكَشَةِ ربيعةَ. وقد تقدّم ذلك، وإنمّا أعَدْناه هنا حيث عَرَّضَ به. ¬
حرفا الاستفهام
ومن أصناف الحرف حرفا الاستفهام فصل [تعدادهما] قال صاحب الكتاب: وهما الهمزة "وهل" في نحو قولك: "أزيدٌ قائمٌ؟ " و"أقام زيدٌ؟ " و"هل عمرو خارجٌ؟ " و"هل خرج عمرو؟ " والهمزة أعم تصرفاً في بابها من أختها. تقول "أزيدٌ عندك أم عمرو؟ " و"أزيداً ضربت؟ " و"أتضرب زيداً وهو أخوك؟ " وتقول لمن قال لك: "مررت بزيد": "أبزيد؟ "، وتوقعها قبل الواو والفاء, و"ثم". قال الله تعالى: {أو كلما عاهدوا عهداً} (¬1)، وقال: {أفمن كان على بينةٍ} (¬2)، وقال تعالى: {أثم إذا ما وقع} (¬3). ولا تقع "هل" في هذه المواقع. * * * قال الشارح: الاستفهام والاستعلام والاستخبار بمعنى واحد. فالاستفهامُ: مصدرُ "استفهمتُ"، أي: طلبتُ الفَهْمَ، وهذه السينُ تفيد الطلبَ، وكذلك الاستعلامُ والاستخبارُ مصدرا "استعلمتُ" و"استخبرتُ". ولمّا كان الاستفهامُ معنى من المعاني؛ لم يكن بدٌّ من أدواتٍ تدل عليه، إذ الحروف هي الموضوعةُ لإفادة المعاني. وحروفه ثلاثةٌ: الهمزة، و"هَلْ"، و"أمْ". ولم يذكر الشيخ "أمْ" هنا؛ لأنه قد تقدّم ذكرُها في حروف العطف، لأنها لا تَخلُص للاستفهام، إذ كانت عاطفةً مع ما فيها من الاستفهام، فلذلك اقتصر على الهمزة، و"هل". وهذان الحرفان يدخلان تارةً على الأسماء، وتارة على الأفعال، وذلك قولك في الاسم: "أزيدٌ قائم؟ " وفي الفعل: "أقام زيد؟ " وتقول في "هل": "هل زيدٌ قائمٌ؟ " و"هل قام زيد؟ ". ولدخولهما على الأسماء والأفعال وعدم اختصاصهما بأحدهما، لم يجز أن يعملا في لفظِ أحدِ القبيلَيْن، بل إذا دخلا على جمَلة خبريّة، غيرا معناها إلى الاستفهام، ونقلاها عن الخبر. ¬
فالهمزة أُمُّ هذا الباب، والغالبةُ عليه، وقد يشترك الحرفان، ويكون أحدُهما أقوى في ذلك المعنى، وأكثرَ تصرّفًا من الآخر، فلذلك قال في الهمزة: "والهمزة أعمّ تصرّفًا في بابها من أُختها"، وذلك إذا كانت يلزمها الاستفهامُ، وتقع مواقعَ لا تقع أُختُها فيها، ألا ترى أنّك تقول: "أزيدٌ عندك أم عمرٌو؟ " والمراد: أيُّهما عندك؟ فـ "أمْ" ها هنا مُعادِلةٌ لهمزة الاستفهام. ولا تُعادَل "أمْ " في هذا الموضع بغير الهمزة على ما سبق، ولا يُقال في هذا المعنى: "هل زيد عندك أم عمرٌو؟ " وتقول: "أزيدًا ضربتَ؟ " فتقدِّم المفعول، وتفصل به بين همزة الاستفهام والفعل، ولا يجوز ذلك في غيرها ممّا تستفهم به، فلا تقول: "هل زيدًا ضربت؟ " ولا "متى زيدًا ضربت؟ " وقد تقدّم ذكرُ ذلك. وتُقرّر بالهمزة، فتقول: "أتَضرب زيدًا، وهو أخوك؟ " فهذا تقريرٌ على سبيل الإنكار. ولا يُستعمل غير الهمزة في هذا ومنه قولُه تعالى: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُم؟} (¬1)، وقوله: {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} (¬2). وكذلك إذا قيل لك: "رأيتُ زيدًا"، وأردتَ أن تستثبت ذلك؟ قلت: "أزيدَنِيهْ؟ " أو"أزيدًا؟ " وكذلك لو قال: "مررت بزيد"، قلت: مستثبتًا: "أزيدِنِيهْ؟ " أو "أبزيدٍ؟ " فتحكي الكلامَ. ولا يجوز مثلُ ذلك بـ "هَلْ" ونحوِها ممّا يُستفهم به. ولقوّتها وغلبتِها وعموم تصرُّفها، جاز دخولُها على الواو والفاء و"ثمَّ" من حروف العطف، فالواوُ نحو قوله تعاَلى: {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} (¬3) والفاءُ نحو قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} (¬4)، وقوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ} (¬5)، وقوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} (¬6). و"ثُم" نحو قوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} (¬7). ولا يتقدّم شيء من حروف الاستفهام وأسمائه غيرُ الهمزة على حروف العطف، بل حروفُ العطف تدخل عليهنّ، كقولك: "وهل زيد قائمٌ؟ " وقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (¬8). وقال الشاعر [من الخفيف]: 1167 - لَيتَ شِعْرِي هل ثُم هل آتِيَنْهُمْ ... أو يَحُولَنَّ دون ذاك حِمامِي ¬
فصل [هل]
وقد احتجّ السيرافيّ لذلك أنّ هذه الحروف العاطفةُ لبعض الجملة المعطوف عليها، لأنّها تربط ما بعدها بما قبلها. والهمزةُ قد تدخل على الكلام، وينقطع بها بعضُ الجملة، نحوَ قوله في الاستثبات لمن قال: "مررتُ بزيد"، "أبزيدٍ؟ " فيُدْخِلها على الجارّ والمجرور، وهو بعضُ الجملة، وتقول: "كم غلمانُك أثلاثة أم أربعةٌ؟ " فتُبْدَل من "كَمْ" وحدَها، وتقول: "أمُقِيمًا وقد رحل الناسُ؟ " ولا يكون مثلُ ذلك في "هَلْ" ولا غيرِها. وإذ كانت كذلك، جاز أن تدخل على حروف العطف؛ لأنها كبعضِ ما قبلها. فصل [هل] قال صاحب الكتاب: وعند سيبويه (¬1) أن "هل" بمعنى "قد" إلا أنهم تركوا الألف قبلها؛ لأنها لا تقع إلا في الاستفهام. وقد جاء دخولها في قوله [من البسيط]: 1168 - سائل فوارس يربوع بشدتنا ... أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم * * * ¬
قال الشارح: هذا هو الظاهر من كلام سيبويه، وذلك أنّه قال عقيبَ الكلام على "مَنْ"، و"مَتى"، و"ما": وكذلك "هَلْ"، إنْما هي بمنزلةِ "قَدْ"، ولكنّهم تركوا الألف إذ كانت "هَلْ" إنما تقع في الاستفهام. كأنّه يريد أن أصل "هل" أن تكون بمعنَى "قَدْ"، والاستفهام فيها بتقدير ألف الاستفهام، كما كان كذلك في "مَنْ"، و"مَتى"، و"ما". الأصلُ: "أمَنْ"، و"أْمَتى"، "أما". ولقا كثُر استعمالها في الاستفهام، حُذفت الألف للعلم بمكانها. قال السيرافي: وأمّا "هَل"، فإنّها حرفٌ دخلت لاستقبال الاستفهام، ومنعت بعضَ ما يجوز في الألف، وهو اقتطاعُها بعضَ الجملة، وجوازُ التعديل والمساواة بها. فلمّا دخلت مانعةٌ لشيء ومجيزةً لشيء، صارت كأنهّا ليست للاستفهام المطلق، فقال لذلك سيبويه: إنّها بمعنَى "قَدْ". والذي يؤيد أنّها للاستفهام بطريق الأصالة أنّه لا يجوز أن تدخل عليها همزةُ الاستفهام، إذ من المُحال اجتماعُ حرفَين بمعنى واحد. فإن قيل: فقد تدخل عليها "أمْ"، وهي استفهامٌ، نحوَ قوله [من البسيط]: أم هَل كَبِيرٌ بَكَى لم يَقضِ عَبْرَتَهُ ... إثر الأحبَّة يومَ البَين مَشكُومُ (¬1) ونحو قوله [من الكامل]: 1169 - [هل غادرَ الشُّعراءُ من متَرَدِّمِ] ... أمْ هل عرفتَ الدارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ ¬
فصل [حذف همزة الاستفهام]
قيل: "أمْ" فيها معنيان: أحدهما الاستفهام، والآخر العطف. فلمّا احتيج إلى معنى العطف فيها مع "هَلْ"، خُلع منها دلالة الاستفهام، وبقي العطفُ بمعنَى "بَلْ" للترك. ولذلك قال سيبويه (¬1): إنّ "أمْ" تجيء بمنزلةِ "لا بَلْ" للتحويل من شيء إلى شيء. وليس كذلك الهمزةُ، لأنّه ليس فيها إلَّا دلالةٌ واحدةٌ. وقد أجاز المبرّد دخولَ همزة الاستفهام على "هَلْ" وعلى سائر أسماء الاستفهام، وأنشد [من البسيط]: سايل فوارس يربوع ... إلخ وهو قليل لا يُقاس عليه. ووجهُ ذلك أنَّه جعل "هَلْ" بمنزلة "قَد" من قوله: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} (¬2)، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} (¬3)، فالرواية: بشَدَّتنا بفتح الشين. والشَّدَّةُ: الحَمْلة الواحدة، فاعرفه. فصل [حذف همزة الاستفهام] قال صاحب الكتاب: وتحذف الهمزة إذا دل عليها الدليل. قال [من الطويل]: 1170 - لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا ... بسبعٍ رمين الجمر أم بثمانِ؟ * * * ¬
فصل [تصدر الاستفهام]
قال الشارح: يجوز حذفُ همزة الاستفهام في ضرورة الشعر، وذلك إذا كان في اللفظ ما يدلّ عليه. ومنه قول عمر بن أبي رَبِيعة [من الطويل]: بَدا لِيَ منها مِعصَمٌ يَومَ جَمرَت ... وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَت ببَنانِ فلمّا التقينا بالثَّنِيَّة سَلَّمَت ... ونازَعَني البَغلُ اللَّعِينُ عِنانِي فواللهِ ما أدري دمان كنتُ داريًا ... بسَبع رَمَينَ الجَمْرَ أم بثمانِ؟ والمراد: أبسبع. دل على ذلك قوله: "أم بثمان". و"أمْ" عديلةُ الهمزة، ولم يرد المنقطعةَ، لأنّ المعنى على: ما أدري أيُّهما كان منها، فاعرفه. فصل [تصدُّر الاستفهام] قال صاحب الكتاب: وللاستفهام صدر الكلام. لا يجوز تقديم شيء مما في حيزه عليه. لا تقول: "ضربت أزيداً", وما أشبه ذلك. * * * قال الشارح: قد تقدّم أنّ الاستفهام له صدرُ الكلام من قِبَل أنّه حرفٌ دخل على جملة تامّة خبريّة، فنقلها من الخبر إلى الاستخبار، فوجب أن يكون متقدّمًا عليها؛ ليفيد ذلك المعنى فيها، كما كانت "ما" النافيةُ كذلك، حيث دخلت على جملة إيجابية، فنقلت معناها إلى السلب. فكما لا يتقدّم على "ما" ما كان من جملة المنفيّ، كذلك لا يتقدّم على الهمزة شيء من الجملة المستفهَم عنها، فلا تقول: "ضربتَ أزيدًا". هكذا مثّله صاحبُ الكتاب، والجيدُ أن تقول: "زيدًا أضربتَ؟ " فتُقدِّم المعمول على الهمزة؛ لأنّك إذا قدّمتَ شيئًا من الجملة. خرج عن حكم الاستفهام، ومن تمام الجملة. وقوله: "ما كان في حيّزها" يريد ما كان متعلّقًا بالاستفهام ومن تمام الجملة. ومنه قولهم: "حَيزُ الدار"، وهو ما يُضَمّ إليها من مَرافقها، فاعرفه. ¬
حرفا الشرط
ومن أصناف الحرف حرفا الشَّرْط فصل [تعدادُهما] قال صاحب الكتاب: وهما "إن", و"لو". تدخلان على جملتين, فتجعلان الأولى شرطاً, والثانية جزاء, كقولك: "إن تضربني أضربك"، و"لو جئتني لأكرمتك", خلا أن "إن" تجعل الفعل للاستقبال, وإن كان ماضياً, و"لو" تجعله للمضي, وإن كان مستقبلاً, كقوله تعالى: {لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم} (¬1). وزعم الفراء أن "لو" تُستعمل في الإستقبال كـ "إن". * * * قال الشارح: سيبويه (¬2) رحمه الله إنّما ذكر"إنّ" و"إذْمَا"، وعدّ "إذما" في حيّز الحروف، ولم يذكر "لَوْ"؛ لأن "لَوْ" معناها المُضِيُّ، والشرط إنما يكونا بالمستقبل, لأنّ معنى تعليق الشيء على شرط، إنما هو وقوفُ دخوله في الوجود على دخول غيره في الوجود. ولا يكون هذا المعنى فيما مضى، وإنمّا يذكرها مَن يذكرها في حروف الشرط؛ لأنها كانت شرطًا فيما مضى، إذ كان وجودُ الثاني موقوفًا على وجود الأول. وقد فرق سيبويه (¬3) بين "إذما" و"حَيثُمَا"؛ لأن "إذما" تقع موقعَ "إنْ"، ولم يقم دليلٌ على اسميّتها. ألا ترى أنّه لا يعود من الجزاء بعدها إليها ضميرٌ، كما يكون ذلك مع "حَيثُ" إذا قلت: "حيثما تكن أكُنْ فيه"؟ والفُرْقانُ بينهما أنَّ "إذْ" ظرفُ زمان معناه الماضي، فلمّا ضُمت إليها "ما"، ورُكَّبت معها، وجوزي بها، خرجت عن معنى المضيّ إلى الاستقبال. والشيئان إذا رُكّبا قد يحدث لهما بالجمع والتركيبِ معنى ثالثٌ، ويخرجان عن حكمِ ما لكلّ واحد منهما إلى معنَى مفرد، كما قلنا في "لَوْلا"، و"هَلاَّ". ونظائرُ ذلك كثيرةٌ. وليست "حَيثُمَا" كذلك، بل هي للمكان، ولم تُزَل عن معناها بدخولِ ¬
و"ما"، عليها. وليست "ما" في "حَيْثُما" و"إذْما" لَغْوا على حدّها في "أيْنَما"، و"مَتى ما" وإنما هي كافّةٌ لهما عن الإضافة بمنزلةِ "إنمَّا" و"كأنما". واعلم أنّ "إنْ" أُمّ هذا الباب؛ للزومها هذا المعنى، وعدم خروجها عنه إلى غيره، ولذلك اتُّسع فيها، وفُصل بينها وبين مجزومها بالاسم، نحوَ قوَلهم: "إن الله أمكنني من فلان فعلتُ". وقد يُقتصر عليها ويوقَف عندها، نحوَ قولك: "صَلَّ خَلَفَ فلان وإنْ"، أي: وإن كان فاسِقًا. ولا يكون مثلُ ذلك في عْيرها ممّا يُجازى به. وتدخل على جملتَين، فتربط إحداهما بالأُخرى، وتُصيّرهما كالجملة، نحوَ قولك: "إن تأتني آتِك"، والأصلُ: "تأتيني آتيك". فلمّا دخلت "إنْ"، عقدتْ إحداهما بالأخُرى، حتى لو قلت: "إن تأتني" وسكتَّ، لا يكون كلامًا، حتى تأتي بالجملة الأخُرى. فهو نظيرُ المبتدأ الذي لا بدّ له من الخبر، ولا يفيد أحدُهما إلَّا مع الآخر، فالجملةُ الأُولى كالمبتدأ، والجملة الثانية كالخبر. فهو من التامّ الذي لا يزاد عليه فيصير ناقصًا، نحوِ: "قام زيدٌ". فهذا كلامٌ تامٌّ. فإذا زدتَ عليه "إنْ"، وقلت: "إنْ قام زيدٌ"، صار ناقصًا، لا يتمّ إلَّا بجوابٍ. ومثلُه المبتدأ والخبر، نحوُ قولك: "زيدٌ قائمٌ"، فإذا زدت عليه "أنَّ"، المفتوحةَ، وقلت: "أن زيدًا قائمٌ"، استحال الكلامُ إلى معنى الإفراد بعد أن كان جملة، ولا ينعقد كلامًا إلَّا بضميمةٍ إليه، نحوَ قولك: "بلغني أن زيدًا قائمٌ"، فبضميمةِ "بلغني" إليه، صار كلامًا. وحقُّ "إن" الجزائيّةِ أن يليها المستقبلُ من الأفعال؛ لأتّك تشترط فيما يأتي أن يقع شيءٌ لوقوع غيره. فإن وليها فعلٌ ماضٍ، أحالت معناه إلى الاستقبال، وذلك قولك: "إن قمتَ قمتُ"، والمراد: إن تَقُمْ أقُم. فإن قيل: فإنّهم يقولون:"إن كنتَ زُرْتَنِي أمسِ أكرمتُك اليومَ"، وقد وقع بعد "إن" الفعلُ، ومعناه المضيُّ، ومنه قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ} (¬1)، قيل: قد أجاب عن ذلك المبرد، وقال: إنّما ساغ ذلك في "كانَ" لقوّة دلالتها على المضيّ، وأنّها أصلُ الأفعال وعبارتُها، فجاز لذلك أن تقلب في الدلالة "إنْ". ولذلك لا يقع شيءٌ من الأفعال غيرُ "كان" بعد "إن"، إلَّا ومعناه المضارعُ. وقال ابن السرّاج: هو على تأويلِ: "إن أكُنْ كنتُ قُلْتُه"، وكذلك ما كان مثله. وأمّا "لَوْ"، فمعناها الشرطُ أيضًا؛ لأن الثاني يوقَف وجودُه على وجود الأول، فالأوّلُ سببٌ وعلّة للثاني، كما كان كذلك في "إنْ"، إلَّا أنْ الفُرْقان بينهما أنّ "لَوْ" يوقَف وجودُ الثاني بها على وجود الأوّل، ولم يُوجَد الشرطُ، ولا المشروطُ، فكأنّه امتنع وجودُ ¬
فصل [فعل الشرط وجوابه]
الثاني لعدم وجود الأول. فالممتنعُ لامتناع غيره هو الثاني، امتنع لامتناع وجود الأوّل، وإنْ يتوقف بها وجودُ الثاني على وجود الأوّل، ولم يتحقّق الامتناعُ ولا الوجودُ. فـ "إنْ" إذا وقع بعدها الماضي، أحالت معناه إلى الاستقبال. و"لَوْ" إذا وقع بعدها المستقبل أحالت معناه إلى المضيّ، نحوَ قوله تعالى: {لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} (¬1) أي: لو أطاعكم، فهي خلافُ "إن" في الزمان، وإن كانت مثلها من جهةِ كون الأوّل شرطًا للثاني. ولذلك قال صاحب الكتاب فيهما: إنهّما يدخلان على جملتَين، فيجعلان الأولى شرطًا والثانيةَ جزاءً، كقولك: "إنْ تضربْني أضربْك"، و"لو جئتَني لأكرمتُك"، فيتوقّف وجودُ الضرب الثاني على وجود الضرب الأول، كما يتوقف الإكرام على وجود المجيء. وزعم الفراء أن "لَوْ" قد تستعمل للاستقبال بمعنى "إنْ". فصل [فعل الشرط وجوابه] قال صاحب الكتاب: ولا يخلو الفعلان في باب "إن" من أن يكونا مضارعين، أو ماضيين، أو أحدهما مضارعاً والآخر ماضياً. فإذا كانا مضارعين, فليس فيهما إلا الجزم، وكذلك في أحدهما إذا وقع شرطاً. فإذا وقع جزاء, ففيه الجزم والرفع. قال زهير [من البسيط]: 1171 - وإن أتاه خليل يوم مسألة ... يقول لا غائب مالي ولا حَرِمُ * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم القول: إِنّ "إن" الشرطيّةَ تدخل على جملتَين فعليّتَين، فتُعلَّق إحداهما بالأُخرى، وتربط كلَّ واحدة منهما بصاحبتها حتى لا تنفرد إحداهما عن الأُخرى. وإنّما وجب أن تكون الجملتان فعليّتين من قبل أن الشرط إنما يكون بما ليس في الوجود، ويحتمل أن يوجَد وأن لا يوجد، والأسماءُ ثابتةٌ موجودة لا يصح تعليقُ وجود غيرها على وجودها. ولا يخلو هذان الفعلان من أن يكونا مضارعين، أو ماضيين، أو أحدهما ماضيًا والآخر مضارعًا. فإن كانا مضارعين، كانا مجزومين، وظهر الجزمُ فيهما، كقولك: "إن تقم أقم". وإن كان ماضيين، كانا مُثْبَتَيْن على حالهما، وكان الجزم فيهما مقدّرًا، نحوَ قولك: "إن قمتَ قمتُ"، والمعنى: "إن تقم أقم". فإن كان الأوّل ماضيًا والثاني مضارعًا، فيكون الأول في موضعِ مجزوم، والثاني معربًا، نحوَ قولك: "إن قمتَ أقم". ولا يحسن عكسُ هذا الوجه بأن يكون الأوّل مضارعًا معربًا والثاني ماضيًا مبنيًّا، نحوَ قولك: "إن تقم قمت". وذلك لأمرين: أحدهما أنّ الشرط إذا كان مجزومًا، لزم أن يكون جوابه كذلك؛ لأنّك إذا أعملته في الأوّل، كنت قد أرهفتَه للعمل غايةَ الإرهاف، فتركُ إعماله في الثاني تراجع عمّا اعتزموه، وصار بمنزلةِ "زيدٌ قائمٌ ظننتُ ظَنًّا"؛ لأن تأكيد الفعل إرهافٌ وعنايةٌ بالفعل، وإلغاؤُه إهمالٌ واطراحٌ، وذانك معنيان متدافعان. الثاني أنّ "إنْ"، إذا جزمتْ، اقتضتْ مجزومًا بعدها؛ لأنّها بجزْمها ما بعدها يظهر أنّها تجزم، وجزمُها يتعلّق بفعلين. وإذا لم يظهر جزمُها، صارت بمنزلةِ حرف جازم لا يؤتى له بمجزوم. فأمّا قوله تعالى. {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬1) فإنّ جَزْمَ "تغفر لنا" بـ "لم" لا بـ "إِن". ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (¬2)، لمّا كانت "إنْ" هي الجازمةَ "ليغفر لي" جُزم الجواب؟ وقد يُجزم الجواب وإن كان الشرط غير مجزوم. وأحسنُ ذلك أن يكون الشرط بـ "كَانَ"؛ لقوّةِ "كان" في باب المجازاة، وقول صاحب ¬
الكتاب: وإذا وقع جزاءً، يعني المضارع، ففيه الجزمُ والرفعُ. فأمّا قوله [من البسيط]: وإن أتاه خليل ... إلخ فالشاهد فيه رفعُ "يقول"، وهو الجواب، أمّا الجزم فصحيحٌ على ما ذكرناه، وأمّا الرفع فقبيحٌ، والذي جاء منه في الشعر متأْوَّلٌ من قبيل الضرورة، فقوله: "يقول: لا غائب مالي ولا حرم"، فسيبويه (¬1) يتأوّله على إرادة التقديم، كأنّ المعنى "يقول إن أتاه خليل". وقد استُضعف، والجيّدُ أن يكون على إرادة الفاء، فكأنّه قال: فيقول. والفاءُ قد تُحذف في الشعر، نحوِ قوله [من البسيط]. 1172 - مَن يفعلِ الحَسَناتِ الله يَشْكُرُها ... [والشّرُ بالشرّ عند الله مثلانِ] ومثله قوله [من الرجز]: 1173 - يَا أقْرعُ بْنَ حابِسٍ يا أقرَعُ ... إنّك إن يُصْرَعْ أخوك تُصْرَعُ ¬
والمعنى: "إنك تصرعُ إن يصرعْ أخوك"، أو على تقدير الفاء. ومثله قول الآخر [من الطويل]: 1174 - فقلتُ تَحَمَّلْ فَوْق طَوْقِك إِنهّا ... مُطَبَّعَةٌ مَن يَأتِها لا يَضِيرُها فرفع على إرادة التقديم أو إرادة الفاء، فاعرفه. ¬
فصل [مواضع فاء الجزاء]
فصل [مواضع فاء الجزاء] قال صاحب الكتاب: وإن كان الجزاء أمراً، أو نهياً، أو ماضياً صريحاً، أو مبتدأ وخبراً، فلا بد من الفاء كقولك: "إن أتاك زيدٌ فأكرمه"، و"إن ضربك, فلا تضربه"، و"إن أكرمتني اليوم, فقد أكرمتك أمس"، و"إن جئتني, فأنت مكرمٌ", وقد تجيء الفاء محذوفة في الشذوذ, كقوله [من البسيط]: من يفعل الحسنات الله يشكرها ... [والشر بالشر عند الله مثلان] (¬1) ويقام "إذا" مقام الفاء. قال الله تعالى: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (¬2). * * * قال الشارح: قد ذكرنا أن الشرط والجزاء لا يصحّان إلَّا بالأفعال، أمّا الشرط فلأنّه علّةٌ وسببٌ لوجود الثاني. والأسبابُ لا تكون بالجوامد، إنما تكون بالأعراض والأفعال. وأمّا الجزاءُ، فأصلُه أن يكون بالفعل أيضًا؛ لأنه شيءٌ موقوفٌ دخولُه في الوجود على دخول شرطه. والأفعالُ هي التي تحدُث وتنقضي، ويتوقف وجودُ بعضها على وجود بعض، لا سيّما والفعلُ مجزومٌ؛ لأن المجزوم لا يكون إلَّا مرتبطًا بما قبله، ولا يصحّ الابتداءُ به من غير تقدُّم حرف الجزم عليه. وأمّا إذا كان الجزاء بشيء يصلح الابتداءُ به، كالأمر والنهي والابتداء والخبرِ، فكأنّه لا يرتبط بما قبله. وربمّا آذن بأنّه كلام مستأنَف غير جزاء لما قبله، فإنّه حينئذ يفتقر إلى ما يربطه بما قبله، فأتوا بالفاء؛ لأنها تفيد الاتّباعَ، وتُؤذِن بأنّ ما بعدها مسبَّبَ عمّا قبلها، إذ ليس في حروف العطف حرفٌ يوجَد فيه هذا المعنى سوى الفاء، فلذلك خصّوها من بين حروف العطف، ولم يقولوا: "إنْ تُحْسِنْ إليّ واللهُ يجازيك"، ولا "ثُمَّ الله يجازيك". فمن ذلك قولك: "إن أتاك زيدٌ فأكْرِمْه". ألا ترى أنّه لولا الفاءُ، لم يُعْلَم أنّ الإكرام متحقِّقٌ بالإتيان، وكذلك "إن ضربك عمرو فلا تضربْه"، فالأمرُ هنا والنهيُ ليسا على ما يُعْهَد في الكلام وجودُهما مبتدَأيْن غيرَ معقودَيْن بما قبلهما. ومن أجل ذلك احتاجوا إلى الفاء في جواب الشرط مع المبتدأ والخبر, لأنّ المبتدأ ممّا يجوز أن يقع أوّلا غير مرتبط بما قبله. وذلك نحوُ قولك: "إن جئتَني فأنت مُكْرَمٌ"، و"إن تُحْسِن إليّ فاللهُ يُجازيك"، فموضعُ الفاء وما دخلتْ عليه جزمٌ على جواب الشرط. يدل على ذلك قوله تعالى في قراءةِ نافع: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ} (¬3) بالجزم. ¬
وكذلك لو وقع في الجزاء فعلٌ ماضٍ صحيحٌ، لم يصحّ إلَّا بالفاء. ومعنى قولنا: "ماضٍ صحيحٌ" أن يكون ماضيًا لفظًا ومعنًى، نحوَ قولك: "إن أكرمتَني اليومَ فقد أكرمتُك أمسِ"؛ لأن الجزاء لا يكون إلَّا بالمستقبل، وإذا وقع ماضيًا، كان على تقدير خبرِ المبتدأ، أي: فأنا قد أكرمتُك أمس. وربمّا حُذفت الفاء من المبتدأ إذا وقع جزاءً، وهي مرادةٌ. قال الشاعر [من البسيط]: من يفعلِ الحَسَناتِ اللهُ يَشكُرُها ... والشَّرُّ بالشرّ عند الله مِثْلانِ هكذا أنشده سيبويه، وقد أنشده غيرُه من الأصحاب [من البسيط]: من يفعل الخيرَ فالرحمنُ يشكرُه ولا يكون فيه ضرورةٌ على هذه الرواية. وقد أقاموا "إذا" التي للمفأجاة في جواب الشرط، وهي ظرفُ مكان عن الفعل. قال الله تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (¬1)، كأنّه قال: "فهم يقنطون"، والأصلُ: "يقنطوا". وإنما ساغت المجازاةُ بـ "إذا" هذه؛ لأنه لا بصحّ الابتداءُ بها، ولا تكون إلَّا مبنية على كلام، نحوَ: "خرجتُ فإذا زيدٌ" فـ "زيدٌ" مبتدأ، و"إذا" خبرٌ مقدَّمٌ، والتقديرُ: فحَضَرَني زيدٌ. فإن قيل: فما هذه الفاءُ في قولك: "خرجتُ فإذا زيدٌ؟ " قيل: قد اختلف العلماء فيها، فذهب الزياديّ إلى أن دخولها هنا على حدّ دخولها في جواب الشرط. وذهب أبو عثمان إلى أنها زائدةٌ، إلَّا أنها زيادة لازمة على حد زيادةِ "ما" في قولهم: "افعل ذلك آثِرًا مّا". وذهب أبو بكر إلى أنها عاطفةٌ، كأنّه حمل ذلك على المعنى؛ لأنّ المعنى: خرجتُ فقد جاءني زيدٌ، وأنت إذا قلت ذلك، كانت الفاء عاطفة لا محالةَ، كذلك ما كان في معناه. وهو أقربُ الأقوال إلى السَّداد؛ لأن العمل على المعنى كثيرٌ في كلامهم. فأمّا قول الزياديّ فضعيفٌ؛ لأنه لا معنى للشرط هنا، ولو كان فيه معنى الشرط، لأغنت "إذا" في الجواب عن الفاء، كما أغنت في قوله تعالى: {إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ} (¬2). وقول أبي عثمان لا ينفكّ من نوع ضُعّف أيضًا؛ لأن الفاء لو كانت زائدة، لجاز "خرجتُ إذا زيدٌ"؛ لأنّ الزائد حكمُه أنَ يجوز طرحُه، ولا يختل الكلامُ بذلك. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ} (¬3)، لما كانت زائدة، جاز أن تقول في الكلام لا في القرآن: ¬
فصل [استعمال "إن"]
"فبرحمةٍ". وكذلك "عَمَّا قَلِيلٍ" يجوز في الكلام: "عن قليلٍ". وأمّا لزوم الزيادة، فعلى خلاف الدليل، فلا يُحْمَل عليه ما وُجد عنه مندوحةٌ، فاعرفه. فصل [استعمال "إنْ"] قال صاحب الكتاب: ولا تُستعمل "إن" إلا في المعاني المحتملة المشكوك في كونها, ولذلك قبح "إن احمر البسر كان كذا"، و"إن طلعت الشمس آتك" إلا في اليوم المغيم, وتقول: "إن مات فلان كان كذا"، وإن كان موته لا شُبهة فيه إلا أن وقته غير معلوم, فهو الذي حسّن فيه. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِنّ "إنّ" في الجزاء مبهمةٌ لا تُستعمل إلَّا فيما كان مشكوكًا في وجوده، ولذلك كان بالأفعال المستقبلة؛ لأنّ الأفعال المستقبلة قد توجَد، وقد لا توجَد، ولذلك لا تقع المجازاةُ بـ "إِذا" وإن كانت للاستقبال؛ لأنّ الذاكر لها كالمعترف بوجود ذلك الأمر، كقولك: "إذا طلعت الشمسُ فأتِني". ولو قلت: "إن طلعت الشمس فأتني"، لم يحسن إلَّا في اليوم المُغيم الذي يجوز أن ينقشع الغَيمُ فيه، وتطلع الشمسُ، ويجوز أن يتأخّر، فقولُك: "إذا طلعت" فيه اعترافٌ بأنّها ستطلع لا محالةَ. وحَقُّ ما يجازى به أن لا تدري أيكون أم لا يكون، فعلى هذا تقول: "إذا أحمرّ البُسْرُ فأتني"، وقبُح "إن احمرّ البسر"؛ لأن احمرار البسر كائنٌ. وتقول: "إذا أقام الله القيامةَ عذّب الكفّارَ". ولا يحسن "إنْ أقام الله القيامة"؛ لأنّه يجعل ما أخبر الله تعالى بوجوده مشكوكًا فيه. وربما استُعملت "إنْ" في مواضعِ "إذا"، و"إذا" في مواضعِ "إنْ"، ولا يبيّن الفرقُ بينهما لِما بينهما من الشرْكة، وتقول من ذلك: "إن متُّ فافضوا دَيْنِي"، وإن كان موته كائنًا لا محالةَ، فهو من مواضع "إذا"، إلَّا أن زمانه لمّا لم يكن متعينًا، جاز استعمالُ "إنْ" فيه. قال الله تعالى: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} (¬1). وقال الشاعر [من مجزوء الكامل]: 1175 - كم شامِتٍ بي إن هلكتُ .... وقائل لله دَرُّه ¬
فهذه من مواضعِ "إذا"؛ لأن الموت والهلاك حتمٌ على كل حَيّ، فأمّا قول الآخر [من الطويل]: 1176 - إذا أنْتَ لَم تَنزعْ عن الجَهْل والخَنَا .... أصَبْتَ حَليمًا أو أصابَك جاهِلُ فهو من مواضعِ "إن"؛ لأنّه يجوز أن ينزع عن ذلك، وأن لا ينزع، إلَّا أنّ بعضهما أحسن من بعض، فقولنا: "إن مات زيدٌ كان كذا" أحسنُ من قولنا: "إن احمرّ البسرُ"؛ لأن موت زيد مجهولُ الوقت، واحمرار البسر له وقتٌ معلومٌ، فاعرفه. ¬
فصل [زيادة "ما" بعد "إن"]
فصل [زيادة "ما" بعد "إنْ"] قال صاحب الكتاب: وتجيء مع زيادة "ما" في آخرها للتأكيد. قال الله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} (¬1) , وقال [من الطويل]: فإمّا تريني أزجي ظعينتي ... [أُصعِّدُ سيرًا في البلاد وأفرع] (¬2) * * * قال الشارح: قد تزاد "ما" مع "إن" الشرطيّة مؤكدةً، نحوَ قولك: "إمّا تأتني آتِك" والأصلُ: "إن تأتني آتِك". زيدت "ما" على "إنْ" لتأكيدِ معنى الجزاء. ويدخل معها نونُ التوكيد، وإن لم يكن الشرط من مواضعها؛ لأنّ موضعها الأمرُ والنهيُ وما أشبههما ممّا كان غير موجب، وذلك نحو قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} (¬3)، وقال سبحانه: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} (¬4)، وقال. {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} (¬5). والعلّةُ في دخولها أنها لمّا لحقت أوَّلَ الفعل بعد "إنْ"، أشبهت اللامَ في "واللهِ لَيَفعَلَنَّ"، فجامعتْها نونا التأكيد، كما تكون مع اللام في "ليفعلنّ". وجهةُ التشبيه بينهما أنّ "ما" هنا حرفٌ تأكيد، كما أن اللام مؤكّدةٌ، والفعلُ واقعٌ بعدها كما يقع بعد اللام، والكلامُ غيرُ واجب كما هو كذلك في الأمر والنهي. فلمّا شابهت اللامَ في ذلك، لزمت الفعلَ بعدها النونُ في الشرط، كما لزمت اللامَ في "ليفعلنّ"، وصار الشرط في مواضع النون بعد أن لم يكن موضعًا لها. وقد جاءت أخبارٌ مُثْبَتةٌ قد لزمها النونِ لدخول هذا الحرف أعني "ما" المؤكدةَ في أوائلهنّ، وذلك قولهم: "بعَيْنٍ مّا أرَيَنَّكَ" (¬6)، و [من الطويل]: ومِن عِضَةٍ مَا يَنْبُتَنَّ شَكِيرُها (¬7) وإذا لزمت النون هذه الأخبارَ الصريحةَ لوجود هذا الحرف، فدخولُها مع فعل الشرط أوْلى لِما ذكرنا. وقد يجوز أن لا تأتى بهذه النون مع فعل الشرط. وذلك نحوُ قولك: "إمّا تأتني آتِك". قال الشاعر، أنشده أبْو زيد [من الكامل]: 1177 - زعمتْ تماضِرُ أنَّني إما أمُت ... يَسْدُدْ أُبَينُوها الأصاغِرُ خَلّتي ¬
وقال الآخر، أنشده سيبويه [من المتقارب]: فإمَّا تَرَيني وَلِي لِمَّةٌ .... فإن الحوادثَ أوْدَى بها (¬1) وقال رُؤْبَة [من الرجز]: 1178 - إمّا تَرَينِي اليومَ أُمَّ حَمْزِ ... قارَبْتُ بَينَ عَنَقِي وجَمْزِي ¬
فصل [تصدر الشرط]
وذلك أن هذه النون لم تدخل فارقةً بين معنيَيْن، وإنما دخلت لضرب من الاستحسان، وهو الحمل على "لَيَفعَلَنَّ"؛ لشَبَهٍ بينهما. وقد جاز سقوطُ النون مِن "ليفعلنّ" على ما حكاه سيبويه وإذا لم تلزم مع "ليفعلنّ" مع أنّ النون فيه تفرق بين معنيَيْن، فأنْ لا تلزم "إمَّا يفعلنّ" بطريق الأوْلى، إذ النونُ فيه لا تفرق بين معنيين. قال الشاعر [من الطويل]: فإمّا تَرَيني اليومَ أُزْجِي ظَعِينَتي ... أُصَعّدُ سَيرًا في البلاد وأُفْرع (¬1) البيت لعبد الله (¬2) بن هَمّام السَّلوليّ، أنشده الزمخشريّ شاهدًا على المجازاة بـ "إمَّا" وحذفِ نون التأكيد من شرطها. ورواه سيبويه (¬3): إذما ترينى اليوم أزجي ظعينتي وبعده: فإنِّىَ مِن قَوْمٍ سِواكم وإنمّا .... رِجالِيَ فَهْمٌ بالحِجاز وأشجَعُ قال (¬4): سمعناهما ممن يرويهما عن العرب هكذا "إذْما" والمعنى "إمّا". ولا شاهد فيه على هذه الرواية. وإنما سيبويه أنشده شاهدًا على صحة المجازاة بـ "إذْمَا" وخروجِها إلى معنى "إمَّا". والمُزْجِي فاعلٌ من "أُزْجيه" إذا سقته برِفْقٍ، والظعينةُ: المرأةُ في الهَوْدَج، والمُفرعُ ها هنا: المُنْحَدِر، وهو من الأضْداد، وانتمى في النَّسَب إلى فَهْمٍ وأشجعَ، وهو من سَلول بن عامر؛ لأنهم كلهم من قيسِ عَيْلانَ بن مُضَرَ، فاعرفه. فصل [تصدّر الشرط] قال صاحب الكتاب: والشرط كالاستفهام في أن شيئاً مما في حيزه لا يتقدمه, ونحو قولك: "آتيك إن تأتني"، و"قد سألتك لو أعطيتني" ليس ما تقدم فيه جزاء مقدماً، ولكن كلاماً وارداً على سبيل الإخبار, والجزاء محذوفٌ, وحذف جواب "لو" كثيرٌ في القرآن والشعر. * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا: إِنّ الشرط كالاستفهام له صدر الكلام، ولذلك لا يعمل في أسماء الشرط شيءٌ ممّا قبله، ولا يتقدّم عليه ما كان في حيّزه إلَّا أن يكون ¬
العاملُ خافضًا، فإنّه يجوز تقديمُه على المجرور إذا كان في صلةِ ما بعده أو مبتدأ، نحوَ قولك: "بمن تَمْرُرْ أمْرُرْ"، و"على من تَتزِلْ أنْزِل". فالباءُ وما اتصلتْ به من قولك: "بمن تمرر" لمحي موصْعِ نصب بالفعل الذي هو "تمرر" وكذلك "على" وما بعده من المجرور في موضع نصب بفعل الشرط. وإنّما ساغ تقديمُه هنا لأن الجاز يتنزّل منزلةَ الجزء ممّا يعمل فيه، ولذلك يُحْكم على موضعهما بالنصب مع أنّ الضرورة قادت إلى ذلك؛ لعدم جواز الفصل بين الخافض ومخفوضه. ولا يتقدّم الجزاءُ على أداته، فلا تقول: "آتِك إن أتيتَنى"، و"أُحْسِنْ إليك إن أكرمتَني" بالجزم على الجواب؛ لأن الجزاء لا يتقدّم على ما ذكرناه، فإن رفعتَ، وقلتَ: "آتيك إن أتيتَنى"، و"أًحْسِنُ إليك إن أكرمتَنى"، جاز. ومثلُه: "أنتِ طالقٌ إن دخلتِ الدارَ"، و"أنا ظالمٌ إن فعلتُ"، ولم يكن ما تقدّم جوابًا، وإنمّا هو كلام مستقل عُقّب بالشرط، والاعتمادُ على المبتدأ والخبر، ثُمّ عُلّق بالشرط كما يُعلَّق بالظرف في نحوِ: "آتيك يومَ الجمعة"، و"أنتِ طالق يومَ السبْت"، والجوابُ محذوف. وليس ما تقدّم بجواب، ألا ترى أنّ الجواب إذا كان فعلاً كان مجزومًا، وإن كان جملة اسمية لزمته الفاءُ، وكان يجب أن يُقال: "فأنت طالق إن دخلت الدار" كما تقوله إذا تأخّر؟ وهذا معنى قوله: "وليس ما تقدّم فيه جزاء مقدّمًا، ولكن كلامًا واردًا على سبيل الإخبار والجزاء محذوف". واعلم أنّه لا يحسن أن تقول: "آتيك إن تأتني"؛ لأنك جزمت بـ "إن". وإذا أعملتها، لم يكن بدٌّ من الجواب، ولم تأتِ بجواب، ولو قلت. "أتيتك إن أتيتني"، جاز؛ لأن حرف الشرط لم يجزم فساغ أن لا تأتي بجواب. وقد كثُر حذف المبتدأ بعد الفاء في جواب الشرط، نحوُ قولك: "إن تأتني فمُكرَمٌ، وإن تعرضْ فكريمٌ". وذلك لأنه قد جرى ذكره مع الشرط، فاستُغني بذلك عن إعادته. وقد يحذف جوابُ "لَوْ" أيضًا كثيرًا، وقد جاء ذلك في القرآن والشعر. فالقرآن قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} (¬1) فلم يأتِ لـ"لو" بجواب، فلم يقل: "لكان هذا القرآنَ". وكذلك قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} (¬2)، والجواب محذوفٌ تقديره: "لَرأيتَ سُوءَ مُنْقَلَبِهم". وقال الشاعر [من الطويل]: 1179 - وَجَدّكَ لو شيءٌ أتانا رَسولُه ... سِواكَ ولكِنْ لم نَجِدْ لك مَدْفَعا ¬
والمراد: لو أتانا رسولٌ سواك، لدفعناه. وقال امرؤ القيس [من الطويل]: 1180 - فلو أنها نفسٌ تَمُوتُ جَمِيعهً ... ولكنّها نفسٌ تَساقطُ أنْفُسا والمراد: "لفنيتْ واستراحتْ". وقال جرير [من الكامل]: 1181 - كَذَبَ العَواذِلُ لَوْ رَأيْنَ مُناخَنا ... بحَزِيزِ رامَةَ والمَطِيُّ سَوامي ¬
فصل [وجوب أن يلي الفعل "لو" و"إن"]
والمراد: "لرأين ما يُسخنهن وما يُسخِّنُ أعينَهنّ". ومن ذلك "لو ذاتُ سِوارٍ لَطَمَتنِي" (¬1) لم يأتِ بجوابٍ، والمراد: "لانْتصفتُ". وذلك كلُّه للعلم بموضعه. وقال أصحابُنا: إنّ حذف الجوابَ في هذه الأشياء أبلغُ في المعنى من إظهاره، ألا ترى أنّك إذا قلت لعبدك: "واللهِ لَئِنْ قمتُ إليك" وسكت عن الجواب، ذهب فِكرُه إلى أشياءَ من أنواع المكروه، فلم يدر أيها يبقى، ولو قلت: "لأضرِبَنَّك" فأتيتَ بالجواب، لم تُبْقِ شيئًا غيرَ الضرب. ومنه قوله تعالى: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} (¬2)، ولم يعيِّن العقوبةَ، بل أبْهَمَهَا؛ لأن إبهامها أوقعُ في النفس، فاعرفه. فصل [وجوب أن يلي الفعل "لو" و"إنْ"] قال صاحب الكتاب: ولا بد من أن يليهما الفعل, ونحو قوله تعالى: {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} (¬3) , و {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} (¬4) على إضمار فعل يفسره هذا الظاهر. ولذلك لم يجز: "لو زيد ذاهب"، ولا "إن عمرو خارج". ولطلبهما الفعل, وجب في "أن" الواقعة بعد "لو" أن يكون خبرها فعلاً, كقولك: "لو أن زيداً جاءني لأكرمته", وقال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ} (¬5). ولو قلت: "لو أن زيداً حاضري لأكرمته", لم يجز. * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم القول: إن الشرط لا يكون إلَّا بالأفعال؛ لأنّك تُعلّق وجودَ غيرها على وجودها، والأسماءُ ثابتةٌ موجودةٌ ولا يصح تعليقُ وجودِ شيء على وجودها. ولذلك لا يلي حرفَ الشرط إلَّا الفعلُ، ويقبح أن يتقدّم الاسم فيه على الفعل، ويُفصَل بينهما بالاسم؛ لكَوْنها جازمةَ للفعلُ، والجازمُ يقبح أن يفصل بينه وبين ما عمل فيه، فلا يجوز "لم زيدٌ يأتك" على معنى "لم يأتِك زيد". وكذلك بقيّةُ الجوازم لا يفصل بينهما بشيء كالظرف ونحوِه، لأنّ الجازم في الأفعال نظيرُ الجارّ في الأسماء، كما لا يفصل بين الجارّ والمجرور بشيء إلَّا في الشعر، كذلك الجازمُ. فأمّا "إنْ" خاصة، فلقُوّتها في بابها وعدم خروجها عن الشرط إلى غيره، تَوسّعوا فيها، فأجازوا فيها الفصل بالاسم، ولم يكنَ ذلك بأبعدَ من حذف فعل الشرط في قولهم: "المرءُ مقتولٌ بما قَتَلَ به إن خَنْجَرٌ فخنجزٌ". فإن كان بعدها فعلٌ ماضٍ في اللفظ لا تأثيرَ لها فيه، فالفصلُ حسنٌ، وجاز في الكلام وحالِ السَّعَة والاختيارِ، وشُبّهت بما ليس بعامل من الحروف نحوِ همزة الاستفهام. وإن كان بعدها فعل مضارع مجزومٌ، قبُح تقدمُ الاسم إلَّا في الشعر؛ لأنّها قد جرت بعد الإعمال وظهوره مجرى "لَمْ"، و"لَمَّا" ونحوِهما من الجوازم. فكما لا تقول: "لم زيد يَقُم"، و"لم زيدًا أضرِبْ"، إلَّا في ضرورة الشعر، كذلك لا تقول: "إن زيدٌ يقمْ أقم" إلَّا في ضرورة الشعر. فعلى هذا تقول إذا وليها الفعلُ الماضي: "إن زيدٌ ركب ركبتُ". ومن كلامهم "إن الله أمكنني من فلان فعلتُ". وقال سبحانه وتعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} (¬1)، وقال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} (¬2)، وقال الشاعر [من البسيط]: 1182 - عاوِدْ هَراةَ وإنْ معمورُها خَرِبَا ... [وَأَسعدِ اليومَ مَشغُوفًا إِذا طَرِبا] ¬
هراة: اسمُ موضع. وارتفاعُ الاسم بعد "إنْ" هنا عند أصحابنا (¬1) على أنّه فاعلُ فعل محذوف، فسّره هذا الظاهرُ، وتقديرُه: "إن استجارك أحد من المشركين استجارك"، وكذلك نظائرُه. لا يجيز البصريون إلَّا ذلك وموضع هذا الفعل الظاهر جزمٌ؛ لأنه مفسَّرٌ بمجزوم، فكان مثلَه. والذي يدلّ على أن موضع هذا الفعل الماضي جزمٌ أنّ الشاعر لمّا جعله مستقبلًا جزمه. من ذلك قوله [من الخفيف]: 1183 - فَمَتى واغلٌ يَنُبْهم يُحَيوه ... وتُعْطَف عليه كَأسُ الساقي ¬
وقال الآخر [من الرمل]: 1184 - صَعْدَة نابِتَةٌ في حائِرٍ ... أيْنَما الرِّيحُ تُمَيِّلْها تَمِلْ فظهورُ الجزم في الفعل المضارع بعد الاسم يدل أن الفعل الماضي إذا وقع بعدها الاسمُ، فموقعه مجزومٌ. وذهب الفرّاء من الكوفيين إلى أنّ الاسم من نحوِ {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} و {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ} مرتفعٌ بالضمير الذي يعود إليه من "هلك"، و"استجارك"، كما يكون في قولك: "زيدٌ استجارك". وأمّا "لَوْ" فإذا وقع بعدها الاسم وبعده الفعلُ، فالاسمُ محمولٌ على فعلِ قبله مضمر يفسّره الظاهرُ، وذلك لاقتضائها الفعلَ دون الاسم، كما كان في "إنْ" كذلك. وهذا محقَّق لها شَبَهًا بأداة الشرط، فحكمُها في هذا حكمُ {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} (¬1)، و {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ} (¬2). قال الله تعالى: {لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} (¬3)، فقولُه: "أنتم" فاعلُ فعل دلّ عليه "تملكون" هذا الظاهرُ، والتقديرُ: "لو تملكون خزائن تملكون". وكان هذا ¬
فصل [مجيء "لو" للتمني]
الضمير متصلًا، فلمّا حُذف الفعل، فُصل الضمير منه، وأُتي بالمنفصل الذي هو "أنتم"، وأجري مُجْرَى الظاهر. ومن كلامِ حاتم "لو ذاتُ سِوارٍ لطمَتني" على تقديرِ: "لو لطمتني ذات سوار لطمتني". ولاقتضاءِ "لَو" الفعل إذا وقع بعدها "أنَّ" المشدَّدةُ، لم يكن بدّ من فعل في خبرها، نحوِ قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا} (¬1)، ونحو قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (¬2). وذلك أن الخبر محل الفائدة، و"أنَّ" إنما أفادت تأكيدًا، ومعتمَدُ الامتناع إنّما هو خبرُ "أنَّ"، فلذلك وجب أن يكون فعلاً محضًا قضاءً لحقِّ "لَوْ" في اقتضائها الفعلَ، ولو قلت: "لو أن زيدًا حاضري"، أو نحوَ ذلك من الأسماء، لم يجز، كما أنّك لو قلت: "لو زيدٌ حاضرٌ" أو نحو ذلك، لم يجز، فاعرفه. فصل [مجيء "لو" للتمني] قال صاحب الكتاب: وقد تجيء "لو" في معنى التمني, كقولك: "لو تأتيني فتحدثني"، كما تقول: "ليتك تأتيني" ويجوز في "فتحدثني" النصب والرفع. قال الله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (¬3) , وفي بعض المصاحف "فيدهنوا" (¬4). * * * قال الشارح: قد تقدّم أنّ "لو" قد تُستعمل بمعنى "أَنْ" للاستقبال، فحصل فيها معنى التمنّي؛ لأنه طلبٌ، فلا تفتقر إلى جواب، وذلك نحوُ:"لو أعطاني ووَهَبَني". والتمنيّ نوعٌ من الطلب، والفرقُ بينه وبين الطلب أنّ الطلب يتعلق باللسان والتمنّي شيءٌ يهجِس في القلب، يقدّره المتمني، فعلى هذا تقول: "لو تأتيني فتُحدثُني" بالرفع والنصب، فالرفع على الاستئناف، والنصبُ على تخيُّل معنى التمنّي، كما تقول: "لَيْتَك تأتيني فتحدّثَني". وعليه قوله تعالى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} (¬5). وحكى سيبويه (¬6) إنها في بعض المصاحف: "فيُذهِنوا" بالنصب. وتقدّم الكلام على ذلك مُشبَعًا في نواصب الأفعال المستقبلة، فاعرفه. فصل [تضمن "أما" معني الشرط] قال صاحب الكتاب: و"أما" فيها معنى الشرط, قال سيبويه (¬7): إذا قلت: "أما زيدٌ ¬
فمنطلقٌ", فكأنك قلت: "مهما يكن من شيء فزيدٌ منطلقٌ"، ألا يرى أن الفاء لازمة لها؟ * * * قال الشارح: قد تقدّم القول في "أمَّا" المفتوحةِ الهمزة أنّها للتفصيل، وإذا ادّعى مُدَّعٍ أشياءَ في شخصٍ، نحوَ أن يُقال: "زيدٌ عالمٌ شجاعٌ كريمٌ"، وأردتَ تفصيلَ ما ادّعاه؛ فإنّك تقول في جوابه: "أمّا عالمٌ شجاعٌ فمُسلَّمٌ، وأمّا كريمٌ ففيه نَظَرٌ". وفيها معنى الشرط، يدل على ذلك دخولُ الفاء في جوابها. وذلك أنّك إذا قلت: "أمّا زيدٌ فمنطلقٌ"، معناه: مهما يكن من شيء فزيدٌ منطلقٌ، وأصلُ هذه الفاء أن تدخل على مبتدأ، كما تكون في الجزاء كذلك من نحو قولك: "إن تُحْسِنْ إليّ فالله يجازيك". وإنمّا أُخرت إلى الخبر مع "أمَّا" لضرب من إصلاح اللفظ. وذلك أن "أمّا" فيها معنى الشرط، وأداةُ الشرط يقع بعدها فعلُ الشرط، ثُمّ الجزاءُ بعده، فلمّا حُذف فعل الشرط هنا وأداته، وتضمّنت "أمّا" معناهما، كرهوا أن يليها الجزاءُ من غيرِ واسطة بينهما، فقدّموا أحد جُزئي الجواب، وجعلوه كالعوض من فعل الشرط. ووجهٌ ثان وهو أن الفاء، وإن كانت هنا مُتْبِعة عْيرَ عاطفة، فإنّ أصلها العطفُ ألا ترى أن العاطفة لا تنفكُ من معنى الإتباع، نحو: "جاءني زيدٌ فمحمّدٌ"، و"رأيت زيدًا فصالحًا". ومن عادة هذه الفاء - مُتْبعةٌ كانت أو عاطفة - أن لا تقع مبتدأةً في أوّل الكلام، وأنّه لا بدّ أن يقع قبلها اسمٌ أو فعلٌ، فلو قالوا: "أمّا فزيدٌ منطلقٌ"، كما يقولون: "مهما وقع من شيء فزيدٌ منطلقٌ"، لَوقعت الفاء أوّلاً مبتدأة، وليس قبلها اسمٌ ولا فعلٌ، إنّما قبلها حرفٌ، وهو "أمَّا" فقدّموا أحد الاسمين بعد الفاء مع "أمَّا" لِما حاوَلوه من إصلاح اللفظ، لِيقع قبلها اسمٌ في اللفظ، فيكون الاسم الثاني الذي بعده، وهو خبرُ المبتدأ، تابعًا للاسم قبله، وإن لم يكن معطوفًا عليه. فعلى هذا أجازوا: "أمّا زيدًا فأنا ضاربٌ"، فنصبوا زيدًا بـ "ضاربٌ"، وإن كان ما بعد الفاء ليس من شأنه أن يعمل فيما قبله، لكنّه جاز هنا من حيث كانت الفاء في نية التقديم على جميعِ ما قبلها. وغالَى أبو العبّاس فأجاز "أمّا زيدًا فإنّي ضاربٌ"، على أن يكون "زيدًا" منصوبًا بـ "ضارب". وفيه بُعْدٌ؛ لأن "إنَّ" لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. ربما حذفوا الفاء من جواب "أمّا" كما يحذفونها من جواب الشرط المحض، وهو من قبيل الضرورة. قال الشاعر، أَنشده سيبويه [من الطويل]: فأمّا القِتالُ لا قِتالَ لَدَيكُمُو ... ولكِن سَيرًا في عِراض المَواكِبِ (¬1) ¬
فصل ["إذن"]
أراد: "فلا قتالَ"، فحذف الفاءَ ضرورةَ. ومثله قول الآخر [من الطويل]: فأمّا صُدورٌ لا صدورَ لجَعْفَر ... ولكِن أعْجازًا شديدًا ضَرِيرُها (¬1) أراد: "فلا صدور لجعفر"، فاعرفه. فصل ["إذَنْ"] قال صاحب الكتاب: و"إذن" جواب وجزاء, يقول الرجل: "أنا آتيك"، فتقول: "إذن أكرمك". فهذا الكلام قد أجبته به, وصيرت إكرامك جزاء له على إتيانه. وقال الزجاج: تأويلها: "إن كان الأمر كما ذكرت, فإني أكرمك". وإنما تعمل "إذن" في فعل مستقبل غير معتمد على شيء قبلها, كقولك لمن يقول لك: "أنا أكرمك": "إذن أجيئك". فإن حدث فقلت: "إذن أخالك كاذباً", ألغيتها؛ لأن الفعل للحال. وكذلك إن اعتمدت بها على مبتدأ أو شرط أو قسم فقلت: "أنا إذن أكرمك"، و"إن تأتني إذن آتك"، و"والله إذن لا أفعل". وقال كثيرٌ: [من الطويل] 1185 - لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ... وأمكنني منها إذن لا أُقيلُها ¬
وإذا وقعت بين الفاء والواو وبين الفعل, ففيها الوجهان. قال الله تعالى: {وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ} (¬1) , وقريء: {لا يلبثوا} (¬2). وفي قولك: "إن تأتني آتك وإذن أكرمك" ثلاثة أوجه: الجزم والرفع والنصب. * * * قال الشارح: اعلم أنّ "إذًا" من نواصب الأفعال المستقبلة، ومعناها الجوابُ والجزاءُ، يجورْ أن يقول: القائلُ "أنا آتيك"، فتقول في جوابه: "إذًا أُكْرِمَك". فقولك: "إذًا أُكرمك" جوابٌ لقوله، وجزاءٌ لفعل الإتيان. ومنه قول الشاعر [من البسيط]: إذًا لَقامَ بِنَصْرِي مَعشَرٌ خُشُنٌ ... عند الحَفِيظَة إنْ ذو لُوثَةٍ لَانا (¬3) فـ "إذًا" جواب لقوله: "كنْتُ مِن مازنٍ" على سبيل البدل من قوله: "لم تسْتَبِحْ إبِلِي"، وجزاءٌ على فعل المستبيح. فأمّا إعمالها، فله شروطٌ أربعةٌ: أن تكون جوابًا، أو في تقدير الجواب، وأن تقع أوّلًا لا يعتمد ما بعدها على ما قبلها، وأن لا يُفْصَل بينها وبين معمولها بغير القَسَم، وأن يكون الفعل بعدها مستقبلاً. وقد ذُكر ذلك في عوامل نصب الأفعال بما أغنى عن إعادته هنا، فاعرفه. ¬
حرف التعليل
ومن أصناف الحرف حرفُ التعليل فصل [كَيْ] قال صاحب الكتاب: وهو "كي". يقول القائل: "قصدت فلاناً"، فتقول له: "كيمه"؟ فيقول: "كي يحسن إليّ". و"كيمه" مثل "فيمه" و"عمَّه" و"لمه". دخل حرفُ الجرّ على "ما" الاستفهامية محذوفاً ألفها, ولحقت هاء السكت. واختلف في إعرابها، فهي عند البصريين مجرورةٌ، وعند الكوفيين منصوبة بفعل مضمر (¬1)، كأنك قلت: "كي تفعل ماذا". وما أرى هذا القول بعيداً من الصواب. * * * قال الشارح: أمّا "كَيْ" فحرفٌ معناه العِلّة، والغرضُ من ذلك أنّك إذا قلت: "قصدتُك كي تثيبَني"، فُهم من ذلك أنّ الغرض إنّما هو الثواب، وهو علّةٌ لوجوده. وهي على ضربين: تكون حرفَ جرّ بمعنى اللام، وناصبةً للفعل بمعنى "أن". وذلك أنّ من العرب من يقول: "كَيمَهْ"، فيُدْخِل "كَيْ" على"ما" الاستفهاميّة، ويحذف ألفَها تخفيفًا، وفرقًا بينها وبين الخبريّة، ثم يُدْخِل عليها هاء السكت لبيان الحركة. فلو كانت "كَي"هنا غيرَ حرف جرّ، لم تدخل على "ما" الاستفهامية؛ لأن عوامل الأفعال لا تدخل على الأسماء. ويدلّ على أن "ما" ها هنا استفهام حذفُ ألفها، ولا تُحْذَف ألفُ "ما" إلَّا إذا كانت استفهامًا عند دخول حرف الجرّ عليها، نحوَ قوله: "لِمَة"، و"بِمَهْ"، و"عَمَّهْ". وإذا كانت حرف جرّ، فالفعلُ بعدها ينتصب بإضمارِ "أنْ"، كما يكون كذلك مع اللام في نحو قولك: "قصدتُك لتُكرِمَني"، والمراد: لأنْ تكرمَني. والذي يدلّ على ذلك أن الشاعر قد أظهر"أن" لمّا اضُطّر إلى ذلك. قال جَمِيل [من الطويل]: 1186 - فقالت أكُلَّ الناس أصبحتَ مانِحًا ... لِسانَك كَيمَا أنْ تَغُرَّ وتَخدَعا ¬
ويروى: لسانَك هذا كي تغرّ وتخدعا فـ "ما" على الرواية الأوُلى زائدةٌ، ولا شاهدَ فيه حينئذ. فـ "ما" من "كَيمَة" عند البصريين مجرورة، كما يكون ذلك في "عَمّه"، و"لِمَه"؛ لأن الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله إلَّا أن يكون حرف جرّ، والجارّ والمجرورُ في موضعِ منصوب بالفعل بعده. والكوفيون يقولون: إن "كَي" من نواصب الأفعال، وليست حرف جر. ويقولون: "مَه" من "كَيمه" في موضع نصب بفعل محذوف نصبَ المصدر، وتقديره: كي تفعل ماذا. وفيه بُعْدٌ, لأن "ما" لَو كانت منصوبة، لكانت موصولة، ولو كانت موصولة، لم تُحذف ألفها؛ لأنّ ألف الموصولة لا تحذف إلَّا في موضع واحد، وهو قولهم: "ادعُ بمَ شئتَ"، أي: بالذي شئتَ، فحذفُ الألف يدلّ أنها ليست موصولة. وقوله: "وما أرى هذا القولَ بعيدًا من الصواب" بعيد من الصواب. ومنهم من يجعل "كَي" ناصبة بنفسها بمنزلةِ "أنْ"، فاعرفه. ¬
فصل [انتصاب الفعل بعد "كي"]
فصل [انتصاب الفعل بعد "كي"] قال صاحب الكتاب: وانتصاب الفعل بعد "كي" إما أن يكون بها نفسها, أو بإضمار "أن". وإذا دخلت اللام, فقلت: "لكي تفعل", فهي العاملة, كأنك قلت: "لأن تفعل". * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا إنّ "كَيْ" تكون حرف جرّ، فتكون ناصبة للفعل بمعنى "أنْ". فعلى المذهب الأوّل، إذا انتصب الفعلُ بعدها، كان بإضمارِ "أنْ" على ما ذكرناه. وعلى المذهب الثاني الفعل ينتصب بها نفسها، ويجوز دخولُ اللام عليها، كما تدخل على "أنْ"، نحوَ: "جئتُ كي تقومَ، ولِكَي تقومَ"، كما تقول. "لأن تقومَ". وإذا دخلت عليها اللامُ، لم تكن إلَّا الناصبة بنفسها؛ لأن اللام حرف جرّ، وحرفُ الجرّ لا يدخل على مثله، فأما قوله [من الوافر]: فلا واللهِ لا يُلْفى لِما بي ... ولا لِلْما بهم أبَدًا دَوَاءُ (¬1) فشاذ قليل لا يُعتدّ به. فصل [مجيء "أن" مُظهرة بعد "كي"] قال صاحب الكتاب: وقد جاءت "كي" مظهرة بعدها "أن" في قول جميل [من الطويل]: فقالت أكل الناس أصبحت مانحاً ... لسانك كيما أن تغر وتخدعا (¬2) * * * قال الشارح: قد تقدّم أنّ "كَيْ" تكون ناصبة للفعل بنفسها بمعنى "أنْ"، وتكون حرفَ جرّ بمعنى اللام. وينتصب الفعل بعدها بإضمارِ "أنْ"، ولا يظهر "أنْ" بعدها في الكلام, لأنه من الأصُول المرفوضة. وقد جاء ذلك في الشعر، ومنه بيتُ جَمِيل. أمّا الكوفيون فيذهبون إلى أن النصب في قولك: "جئتُ لتُكرِمَني" باللام نفسها (¬3)، فإذا جاءت "كَيْ" مع اللام فالنصبُ للام، و"كَيْ" تأكيدٌ. فهذا انفردت "كَي"، فالعملُ لها. ودخولُ "أن" بعد "كَي" جائزٌ في كلامهم، تقول: "جئت لكي أن تقوم". ولا موضع ¬
لـ "أنْ" من الإعراب؛ لأنها مؤكدة للام كتأكيدِ "كَي". وأنشدوا [من الطويل]: أردتُ لِكَيمَا أن تَطِيرَ بِقرْبَتِي ... وتَترُكَها شَنَّا بِبَيداءَ بَلْقَعِ (¬1) والقول ما قدمناه، وهو مذهب سيبويه. ودخولُ "أنْ" بعد "كَيْ" إذا كانت حرف جرّ ضرورة، وللشاعر مُراجَعةُ الأُصول المرفوضة. وأمّا ظهورُ "أنْ" بعد "لِكَيْ" فما أبعدَه! وأمّا البيت الذي أنشده، فليس بمعروف ولا قائلُه، ولئن صحّ، كان حملُه على الزيادة والبدلِ مِن "كَيْمَا"؛ لأنه في معناه كما يُبدَل الفعل من الفعل إذا كان في معناه، فاعرفه. ¬
حرف الردع
ومن أصناف الحرف حرفُ الرَّدْع فصل [كلا] قال صاحب الكتاب: وهو "كلا". قال سيبويه (¬1): هو ردعٌ وزجرٌ. وقال الزجاج: "كلا" ردعٌ وتنبيهٌ، وذلك قولك: "كلا" لمن قال لك شيئاً تنكره, نحو: "فلانٌ يُبغضك" وشبهه, أي: ارتدع عن هذا وتنبه عن الخطأ فيه. قال الله تعالى بعد قوله: {رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا} (¬2) , أي: ليس الأمر كذلك, لأنه قد يوسع في الدنيا على من لا يكرمه من الكفار, وقد يضيق على الأنبياء والصالحين للاستصلاح. * * * قال الشارح: "كَلاَّ" حرفٌ على أربعة أحرف كـ"أمَّا" و"حَتَّى". وينبغي أن تكون ألفه أصلًا؛ لأنَّا لا نعلم أحدًا يوثَق بعربيّته يذهب إلى أنّ الألف في الحروف زائدةٌ، واختلفوا في معناه، فقال أبو حاتم: "كَلَّا" في القرآن على ضربين على معنى الرِّدّ للأؤل بمعنى "لا"، وعلى معنى "ألا" التي للتنبيه، يُستفتح بها الكلام. وقد قال بعض المفسّرين في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} (¬3): معناه حَقًا، وهذا قريبٌ من معنى "ألا". وقال الفرّاء: "كَلَّا" حرفُ رَدّ يُكتفى بها كـ"نَعَمْ"، و"بَلَى"، وتكون صلة لما بعدها، كقولك: "كَلَّا وَرَبِّ الكَعْبة" بمنزلةِ "إِيْ وربّ الكعبة"، كقوله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ} (¬4). وعن ثَعْلَبٍ قال: لا يوقَف على "كَلَّا" في جميع القرآن، لأنّها جوابٌ، والفائدةُ فيما بعدها. وقالَ بعضهم: يوقف على "كَلَّا" في جميع القرآن؛ لأنّها بمعنى: انْتَبِهْ، إلَّا في موضع واحد، وهو قوله: {كَلَّا وَالْقَمَرِ} (¬5)، والحق فيها أنّها تكون ردّ الكلام قبلها بمعنى "لا", وتكون تنبيهًا كـ"ألا" و"حَقًّا"، وعليه الأكثرُ. ويحسن الوقفُ عليها إذا كانت ردًّا بمعنى: ليس الأمرُ كذلك، ولا يحسن الوقفُ عليها إذا كانت تنبيهًا بمعنى "ألا" و"حَقًّا"، فاعرفه. ¬
ومن أصناف الحرف اللامات
ومن أصناف الحرف اللاماتُ فصل [تعدادُها] قال صاحب الكتاب: وهي لام التعريف، ولام جواب القسم، واللام الموطئة للقسم، ولام جواب "لو", و"لولا"، ولام الأمر، ولام الابتداء، واللام الفارقة بين "إن" المخففة والنافية, ولام الجر. فأما لام التعريف, فهي اللام الساكنة التي تدخل على الاسم المنكور, فتعرفه تعريف جنس, كقولك: "أهلك الناس الدينار والدرهم" و"الرجل خيرٌ من المرأة"، أي: هذان الحجران المعروفان من بين سائر الأحجار, وهذا الجنس من الحيوان من بين سائر أجناسه, أو تعريف عهد, كقولك: "ما فعل الرجل"، و"أنفقت الدرهم" لرجل ودرهم معهودين بينك وبين مخاطبك. وهذه اللام وحدها هي حرف التعريف عند سيبويه (¬1)، والهمزة قبلها همزة وصل مجلوبة للابتداء بها كهمزة "ابن", و"اسم", وعند الخليل (¬2) أن حرف التعريف "أل" كـ "هل" و"بل" وإنما استمر بها التخفيف للكثرة. وأهل اليمن يجعلون مكانها الميم، ومنه "ليس من أمبر امصيام في امسفر" (¬3). وقال [من المنسرح]: 1187 - [ذاك خليلي وذو يعاتبني] ... يرمي ورائي بامسهم وَامْسَلِمَهْ * * * ¬
قال الشارح: اللام من حروف المعاني، وهي كثيرةُ الاستعمال متشعبةُ المواقعِ، وقد أكثر العلماءُ الكلام عليها، وأفرد بعضُهم لها كُتُبًا تختصّ بها (¬1). فمنهم من بَسَطَ حتى تداخلت أقسامُها، ومنهم من أوجز حتى نَقَصَ، ونحن نقتصر في هذا الكتاب على شرح ما ذكره المصنّفُ، وإن لم تكن القسمة حاصرةً. فمن ذلك لام التعريف، والمراد القصدُ إلى شيء بعينه ليعرفه المخاطبُ كمعرفة المتكلّم، فيتساوى المتكلّم والمخاطبُ في ذلك، وذلك نحو قولك: "الغلام" و"الجارية"، إذا أردتَ غلامًا بعينه وجاريةً بعينها. واللامُ هي حرف التعريف وحدها، والهمزةُ وصلةٌ إلى المَنْطِق بها ساكنةٌ، هذا مذهبُ سيبويه، وعليه أكثرُ البصريين والكوفيين ما عدا الخليلَ، فإنّه كان يذهب إلى أنّ حرف التعريف "أل" بمنزلةِ "قَدْ" في الأفعال، فهي كلمةٌ مركّبةٌ من الهمزة واللام جميعًا، كتركيبِ "هَلْ", و"بَلْ" وأصلُ الهمزة أن تكون مقطوعة عنده. وإنّما حُذفت في الوصل تخفيفًا لكثَرة الاستعمال، ¬
واحْتجّ بقطع الهمزة في أنصاف الأبيات، نحوِ قول عَبِيد بن الأبْرَص [من الرمل]: 1188 - يَا خَلِيلَيَّ ارْبَعا واسْتخبِرَا الْ ... مَنْزِلَ الدارِسَ عن أهْلِ الحِلالِ مِثْلَ سَحقِ البُردِ عَفى بَعدَكِ الْقَطرُ ... مَغْناه وتأويبُ الشمالِ ألا ترى أنّ هذا الشعر من الرَّمَل، واللامُ من الجُزْء الذي قبلها، فهي بإزاءِ النون في "فَاعِلُنْ"؟ فلو كانت اللام وحدها في التعريف، لم يجز فصلُها ممّا بعدها لا سيّما وهي ساكنةٌ والساكنُ لا يُنْوى به الانفصال، ففصلُ "ألْ" هنا كفصلِ "قَدْ" من الفعل بعده من قول النابغة [من الكامل]: وكأن قَدِ (¬1) والمراد: قد زالتْ. ويؤيّد ذلك أنّهم قد أثبتوا هذه الهمزة حيث تُحذف همزات الوصل، نحوَ قوله تعالى: {آللهُ أَذِنَ لَكُمْ} (¬2) وَ {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬3)، ونحوَ ¬
قولهم في القَسَم: "أفَأللهِ"، و"لا هَا أللهِ ذا"، ولم تَرَ همزةَ الوصل تثبت في مثل هذا. والصوابُ ما قاله سيبويه، والدليلُ على صحّته نفوذُ عمل الجارّ إلى ما بعد حرف التعريف. وهذا يدلّ على شدّة امتزاج حرف التعريف بما عرّفه. وإنّما كان كذلك لقلّته وضُعْفه عن قيامه بنفسه، ولو كان على حرفَيْن، لَمَا جاز تجاوُزُ حرف الجرّ إلى ما بعده. ودليلٌ آخر يدلّ على شدّة اتّصال حرف التعريف بما دخل عليه، وهو أنّه قد حدث بدخوله معنى فيما عرّفه لم يكن قبل دخوله، وهو معنى التعريف، وصار المعرَّف كأنّه غيرُ ذلك المنكور وشيءٌ سِواه. ولهذا أجازوا الجمعَ بين "رجل" و"الرجل" و"غلام" و"الغلام" قافِيَتَين من غيرِ استكراه ولا اعتقادِ إيطاءٍ (¬1)، فصار حرفُ التعريف للزومه المعرَّفَ كأنّه مبنى معه كياء التحقير، وألف التكسير. ويؤيّد ما ذكرناه أنّ حرف التعريف نقيضُ التنوين؛ لأنّ التنوين دليلُ التنكير، كما أنّ اللام دليلُ التعريف. فكما أنّ التنوين حرفٌ واحدٌ، فكذلك المُعرّف حرفٌ واحدٌ. وأمّا ما احتجّ به الخليل من انفصاله منه بالوقوف عليه في الشعر، فلا حجّةَ فيه، ولا دليلَ؛ لأنّ الهمزة لمّا لزمت اللامَ لسكونها، وكثُر اللفظُ بها، صارت كالجُزْء منها من جهة اللفظ لا المعنى، وجرت مجرى ما هو على حرفَين، نحو "هَلْ"، و"بَلْ"، فجاز فصلُها في بعض المواضع لهذه العلّة. وقد جاء الفصلُ في الشعر بين الكلمة وما هو منها ألبتّة، وجاؤوا بتَمامه في المِصْراع الثاني، نحوَ قول كُثَيِّرٍ [من مجزوء الكامل]: 1189 - يَا نَفسِ أكْلاَ واضطِجا ... عًا نَفسِ لَستِ بخالِدَهْ ¬
وإذا جاز ذلك في نفس الكلام، كان ذلك فيما جاء بمعنى أوْلى. فأمّا قطعُ هذه الهمزة في قوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬1)، ونحوِ ذلك في القسم: "أفأللهِ" و"لا ها أللهِ ذا"، فلا دلالةَ له فيه لأنّه إذا جاز قطعُ همزة الوصل التي لا خلاف بينهم فيها في قوله [من الطويل]: 1190 - ألا لا أرَى إثْنَيْنِ أحْسَنَ شِيمَةً ... على حَدَثانِ الدَّهْرِ مِنّي ومِن جُمْلِ وقول الآخر [من الطويل]: 1191 - إذا جاوَزَ الإثْنَينِ سِرٌّ فإنّه ... بنَشْرٍ وتَضْيِيعِ الحدِيثِ قَمِينُ ¬
فأن يجوز قطعُ الهمزة التي هي مختلَفٌ في أمرها، وهي مفتوحةٌ كالهمزة التي لا تكون إلَّا قطعًا نحوِ همزةِ "أحْمَرَ" و"أصْفَرَ"، أوْلى وأجْوَزُ. فإن قيل: فلِمَ كان حرف التعريف حرفًا واحدًا ساكنًا؟ فالجوابُ أنّهم أرادوا مَزْجَه بما بعده لِما يُحْدِثه فيه من المعنى، فجعلوه على حرف واحد؛ ليضعف عن انفصاله ممّا بعده، وأسكنوه ليكون أبلغ في الاتصال؛ لأنّ الساكن أضعفُ من المتحرّك. واعلم أنّ لام التعريف تشتمل على ثلاثة أنواع: تكون لتعريف الجنس، ولتعريف العهد، ولتعريف الحضور. فأما تعريف الجنس، فأن تدخل اللام على واحد من الجنس لتعريف الجنس جميعِه لا لتعريف الشخص منه، وذلك نحو قولك: "المَلَكُ أفضلُ من الإنسان"، و"العَسَلُ حُلْو"، و "الخَلُّ حامضٌ"، و"أهلك الناس الدرهم والدينار". فهذا التعريف لا يكون عن إحاطةٍ به؛ لأن ذلك متعذَّرٌ؛ لأنّه لا يمكن أحدًا أن يُشاهِد جميعَ هذه الأجناس، وإنّما معناه أن كل واحد من هذا الجنس المعروف بالعقول دون حاسّة المشاهدة أفضلُ من كل واحد من الجنس الآخر، وأنّ كلّ جزء من العسل الشائع في الدنيا حلوٌ، وأن كلّ جزء من الخل حامضٌ. فأمّا تعريف العهد، فنحوُ قولك: "جاءني الرجلُ"، تخاطب بهذا مَن بينك وبينه عهدٌ في رجلٍ تشير إليه، ولولا ذلك لم تقل: "جاءني الرجلُ"، ولقلتَ: "جاءني رجلٌ". وكذلك: "مرّ بي الغلامُ"، و"ركبتُ الفرسَ" كلُّها معارفُ؛ لإشارتك إلى أشخاصٍ معيّنةٍ، فأدخلتَ عليها الألفَ واللامَ لتعريف العهد، ومعنى العهد أن تكون مع إنسان في حديثِ رجل أو غيرِه، ثمّ يُقْبِل ذلك، فتقول: "وافى الرجلُ"، أي: الذي كنّا في حديثه وذكرِه قد وافى. وأمّا تعريف الحضور، فهو قولك لمن لم تره قطّ، ولا ذكرتَه: "يا أيُّها الرجلُ أقْبِل"، فهذا تعريفٌ لإشارتك إلى واحد بعينه، ولم يتقدّمه ذكرٌ ولا عهدٌ. وأمّا الألف واللام في "الَّذِي" و"الَّتِي"، فهي لتعريف اللفظ وإصلاحِه لأن يكون وصفًا للمعرفة، وإنّما هما زائدان، وحقيقةُ التعريف بالصلة، ألا ترى أن نظائرها من نحو "مَنْ"، و"ما" كلّها معارفُ، وليست فيها لامُ المعرفة؟ ويؤكّد زيادةَ اللام هنا لزومُها ما ¬
فصل [لام جواب القسم]
دخلتْ عليه، واللامُ المُعرِّفةُ يجوز سقوطُها ممّا دخلت فيه، فلزومُ هذه اللام هنا وعدمُ جواز سقوطها دليل على أنها ليست المعرّفة. وقومٌ من العرب يُبْدِلون من لام المعرفة ميمًا، وهي يَمانيةٌ، فيقولون: "اَمْرَجُل" في "الرجل". ويُرْوَى أن النَّمِرَ بن تَوْلَبٍ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ليس مِن امْبِرّ امْصِيامُ في امْسَفَر" (¬1)، يريد: ليس مَن البرّ الصيامُ في السفر، ويُقال: إنّ النمر لم يرو عن النبيّ عليه السّلام إلَّا هذا الحديثَ. وذلك شاذّ قليل لا يُقاس عليه، وقد تقدّم الكلام على ذلك في أوّل الكتاب، وأمّا قوله [من المنسرح]: يَرْمِي وَرَائي بِامْسَهْمِ وامْسَلِمَهْ (¬2) فصدرُه: ذاك خَلِيلِي وذو يعاتِبُني الشاهد فيه إبدالُ الميم من اللام في "السهم" و"السلمة" , على أنّ الرواية بـ "السّهم" بسين مشدّدة لادّغام اللام فيها، و"امسلمه" بميم بعد الواو، فاعرفه. فصل [لام جواب القسم] قال صاحب الكتاب: ولام جواب القسم نحو قولك: "والله لأفعلن". وتدخل على الماضي, كقولك: "والله لكذب". وقال امرؤ القيس [من الطويل]: 1192 - حلفت لها بالله حلفة فاجر ... لناموا فما إن من حديث ولا صال ¬
والأكثر أن تدخل عليه مع "قد", كقولك: "والله لقد خرج". * * * قال الشارح: اعلم أنّ أصل هذه اللام لامُ الابتداء، وهي أحدُ الموجِبَيْن اللذين يُتلقّى بهما القسم، وهما اللامُ و"إنَّ". وهذه اللامُ تدخل على الجملتين الاسميّةِ والفعلّيةِ. مثالُ الأوّل: "واللهِ لَزيدٌ قائمٌ"، كما تقول: "إنّ زيدًا قائمٌ". وإنّما قلنا إنّ أصلها الابتداءُ؛ لأنّها لحد تتعرّى من معنى الجواب، وتخلُص للابتداء، ولا تتعرّى من الابتداء، فلذلك كان أخصَّ معنيَيْها، وذلك قولك: "لَعَمْرُك لأقُومَنَّ"، و"لَعَمْرُ اللهِ ما نَدْري". ألا ترى أنّها ههنا خالصةٌ للابتداء، إذ لا يصحّ فيها معنى الجواب؛ لأنّ القسم لا يُجاب بالقسم؟ أمّا الداخلة على الفعل، فهي تدل على الماضي والمستقبل. فإذا دخلت على المستقبل، فلا بدّ من النون الثقيلة أو الخفيفة، نحو قولك: "واللهِ لأقومنّ". قال الله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (¬1)، وقال: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (¬2). فاللامُ للتأكيد واتّصالِ القسم إلى المُقْسَم عليه. وتفصل بين النفي والإيجاب. ودخلت النونُ أيضًا مؤكّدةً وصارفةً للفعل إلى الاستقبال وإعلام السامع أنّ هذا الفعل ليس للحال، كقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬3)، أي: لَحاكِمٌ. فإن زال الشكُّ بغير النون، استُغني عنها. قال الله تعالى: {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} (¬4)، وقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} (¬5)؛ لأن "سَوْفَ" تختصّ بالاستقبال. ولم تأتِ هذه اللام والنون إذا وليت المستقبلَ إلَّا مع القسم أو نيّةِ القسم. قال سيبويه (¬6): سألتُ الخليل عن قوله: "لَيفعلنّ" إذا جاءت مبتدأةً، قال: هي على نيّة القسم، فإذا قلت: "لَتَنطَلِقَنَّ"، فكأنّك قلت: "والله لتنطلقنّ". قال الله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} (¬7) أي: واللهِ لَتعلمنّ. ¬
فصل [اللام الموطئة للقسم]
وأمّا دخولها على الماضي، فإنّ الأكثر أن تدخل مع "قَدْ"، وذلك أنّ أصل هذه اللام الابتداءُ، ولامُ الابتداء لا تدخل على الماضي المحض، فأُتي بـ "قَدْ" معها؛ لأنّ "قَدْ" تُقرِّب من الحال. والذي حسّن دخولها على الماضي دخولُ معنى الجواب فيها. والجوابُ كما يكون بالماضي، كذلك يكون بالمستقبل، فجوازُ دخولها على لفظ الماضي لِما مازَجَها من معنى الجواب، ودخولُ "قَدْ" معها قَضاءٌ من حقّ الابتداء، وذلك نحو قولك: "واللهِ لقد قمتُ". قال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} (¬1). وربّما حُذفت اللام، نحوَ قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (¬2)، أي: لَقد أفلح، وربّما حُذفت "قد". قال الشاعر [من الطويل]: حلفت لها واللهِ ... إلخ أي: والله لقد ناموا، فاعرفه. فصل [اللام المُوطِّئة للقَسَم] قال صاحب الكتاب: والموطئة للقسم هي التي في قولك: "والله لئن أكرمتني لأكرمنك". * * * قال الشارح: هذه اللام يسمّيها بعضهم لامَ الشرط؛ لدخولها على حرف الشرط. وبعضُهم يسمّيها الموَطِّئة؛ لأنّها يَتعقّبها جوابُ القسم، كأنّها توطئةٌ لذكر الجواب، وليست جوابًا للقسم، وإن كان ذلك أصلَها, لأنّ القسم لا يجاب بالشرط كما لا يجاب بالقسم؛ لأن الشرط يجري مجرى القسم لِما بينهما من المناسبة من جهةِ احتياج كلّ واحد منهما إلى جواب. والقسمُ وجوابه جملتان تَلازمتا، فكانتا كالجملة الواحدة، كما أنّ الشرط وجوابه كالجملة الواحدة. ولذلك قد تُسمّي الفقهاءُ التعليقَ على شرط يَمِينًا، وقد سمى الإِمام محمّد بن الحسن الشَّيبانيّ كتابًا له "كتابَ الأيْمان"، وإن كان مُعْظَمه تعليقًا على شرط، نحوَ: "إن دخلتِ الدارَ فأنتِ طالقٌ"، و"إن أكلتِ أو شربتِ فأنتِ طالقٌ"، ونحوِ ذلك، وذلك قولك: "واللهِ لئنّ أكرمتَني لأكرِمَنَّك"، فاللام الأوُلى مؤكّدةٌ وَطْأةٌ للجواب، والجوابُ "لأكرمنّك"، وهو جوابُ القسم. والشرط مُلْغى لا عملَ له؛ لأنّك صدّرتَ بالقسم، وتركتَ الشرط حشوًا. وإذا اجتمع الجزاءُ والقسمُ؛ فأيّهما سبق الآخرَ وتَصدّر، كان الجواب له. مثالُ تصدّر الشرط قولك: "إن تَقُمْ واللهِ أقُمْ"، جزمتَ الجوابَ بحرف الجزاء لتصدُّره، وألغيتَ القسمَ لأنّه حشوٌ. ومثالُ تصدُّر القسم قولك: "واللهِ لَئِنْ أتيتَني لأتيتُك"، فاللامُ ¬
فصل [لام جواب "لو" و"لولا"]
الأُولى موطئةٌ، والثانيةُ جوابُ القسم، واعتمادُ القسم عليه لا عملَ للشرط فيه. يدلّ على ذلك قوله تعالى: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} (¬1)، الجوابُ للقسم المحذوف، والشرط مُلْغى، بدليل ثبوت النون في الفعل المنفيّ، إذ لو كان جوابًا للشرط لكان مجزومًا، فكانت النون محذوفةً. ومثله قول الشاعر [من الطويل]: لَئِنْ عادَ لي عبدُ العَزِيزِ بمِثْلِها ... وأمْكَنَني منها إذَنْ لا أُقِيلُها (¬2) فرفع "أُقِيلُها"؛ لأنّه معتمَدُ القسم، فاعرفه. فصل [لام جواب "لو" و"لولا"] قال صاحب الكتاب: ولام جواب "لو" و"لولا", نحو قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} (¬3) , وقوله تعالى: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} (¬4). ودخولها لتأكيد إرتباط إحدى الجملتين بالأخرى. ويجوز حذفها, كقوله تعالى: {لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} (¬5). ويجوز حذف الجواب أصلاً, كقولك: "لو كان لي مالٌ" وتسكت، أي: لأنفقت, وفعلتُ. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (¬6)، وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} (¬7). * * * قال الشارح: بعضهم يجعل هذا اللام قِسمًا قائمًا برأسه، وقعت في جوابِ "لَوْ" و"لَوْلا" لتأكيد ارتباط الجملة الثانية بالأُولى. والمُحقّّقون على أنّها اللامُ التي تقع في جواب القسم، فإذا قلت: "لو جئتَني لأكرمتُك"، فتقديرُه: واللهِ لو جئتني لأكرمتُك. وكذلك اللامُ في جوابِ "لَوْلا"، إذا قلت: "لولا زيدٌ لأكرمتُك"، فتقديره: واللهِ لولا زيدٌ لأكرمتُك. فإذا صرّحتَ بالقسم، لم يكن بدٌّ من اللام، نحوَ قوله [من الطويل]: 1193 - فوَاللهِ لولا اللهُ لا شيءَ غيرُه ... لَزُعْزعَ من هذا السَّرِيرِ جَوانِبُهْ ¬
وقول الآخر [من الرجز]: 1194 - وَاللهِ لو كنتَ لِهذا خالِصَا ... لَكنْتَ عَبْدًا آكِلَ الأبارِصا وتقول. إذا لم تأتِ بالقسم ونويتَه: "لولا زيدٌ لأكرمتُك"، أي: واللهِ لولا زيدٌ لأكرمتُك. قال الله تعالى، {وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} (¬1)، وقال: {لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} (¬2)، وربّما حُذفت إذا لم يظهر القسمُ. قال يزيد بن الحَكَم [من الطويل]: وَكَمْ مَوْطِنٍ لولايَ طِحْتَ كما هَوى ... بأجْرامِه مِن قُلَّةِ النّيق مُنْهَوِي (¬3) ¬
فصل [لام الأمر]
والمراد: لَطِحْتَ. ولا تدخل هذه اللام في جوابِ "لَوْ" و"لَولا"، إلَّا على الماضي دون المستقبل. وقد ذهب أبو عليّ في بعض أقواله إلى أنّ اللام في جواب "لَوْ" و"لَوْلا" زائدةٌ مؤكّدةٌ، واستدلّ على ذلك بجواز سقوطها، وأنشد [من الوافر]: فلَوْ أنَّا على حَجَرٍ ذُبِحْنا ... جَرَى الدَّمَيانِ بالخَبَر اليَقِينِ (¬1) فقال: "جرى الدميان"، فلم يأتِ باللام، فسقوطُها مع "لَوْ" كسقوطها مع "لَوْلا". وربّما حذفوا الجواب ألبتّة، وذلك إذا كان في اللفظ ما يدل عليه، وذلك نحو قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} (¬2)، والمراد- والله أعلمُ- لَكان هذا القرآنَ، وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} (¬3)، أي: لانتصفتُ، وفعلتُ كذا وكذا، فاعرفه. فصل [لام الأمر] قال صاحب الكتاب: ولام الأمر نحو قولك: "ليفعل زيدُ", وهي مكسورة, ويجوز تسكينها عند واو العطف وفائه, كقوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي} (¬4). وقد جاء حذفها في ضرورة الشعر. قال [من الوافر]: محمد تفد نفسك كل نفس ... إذا ما خفت من أمر تبالا (¬5) * * * قال الشارح: قد تقدّم القول على الأمر وحرفِه، إلَّا أنّه لا بدّ من ذكرِ طرف من أحكامه حَسْبَما ذكره المصنّفُ. اعلم أنّ هذه اللام من عوامل الأفعال، وعملُها فيها الجزمُ، فهي في ذلك كـ "إن" الشرطيّة و"لَم" الجازمةِ، وإنّما عملت فيها لاختصاصها بالأفعال كاختصاصهما. واختصّ عملُها بالجزم؛ لأنّها لما اختصّت بالأفعال، وعملت فيها، وجب أن تعمل عملًا هو خاصّ بالأفعال، وهو الجزمُ، كما فعلنا ذلك في حروف الجزم، نحوِ: "لَمْ"، و"لَمَّا"، و"إن" في الجزاء وأخواتِها. وهي مكسورة، وإنّما وجب لها الكسرُ من قبل أنّها حرفٌ جاء لمعنى، وهو على حرف واحد كهمزة الاستفهام، وواو العطف، وفائه. وكان حقّه أن يكون مفتوحًا كما ¬
فصل [لام الابتداء]
فُتحن، غيرَ أنه لما كانت اللام هنا من عوامل الأفعال الجازمةِ، والجزمُ في الأفعال نظيرُ الجرّ في الأسماء، حُملت في الكسر على حروف الجرّ، نحو اللام والباء في قولك: "لزيدٍ"، و"بزيدٍ". وحكى الفرّاء أن بعض العرب يفتحها. وقد تسكن هذه اللامُ تخفيفًا إذا تقدّمها واوُ العطف أو فاؤه، وذلك من قبل أن الواو والفاء لما كانا مفردين لا يمكن انفصالُهما مما بعدهما, ولا الوقوفُ عليهما، صارتا كبعض ما دخلتا عليه، فشُبّهت حينئذ اللامُ بالخاء في "فَخْذ" والباء في "كَبدٍ"، فكما يُقال: "فَخذ"، و"كَبْدٌ"، كذلك يقال: "وَلْيَقُم زيدٌ". قال الله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (¬1). فأما قراءةُ الكسائي: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} (¬2) {ثُمَّ لْيَقْطَعْ} (¬3)، فضعيفةٌ عند أصحابنا, لأن "ثُم" حرفٌ على ثلاثة أحرف يمكن الوقوفُ عليه، فلو أسكنتَ ما بعده من اللام، لكنت إذا وقفتَ عليه تبتدىء بساكنٍ، وذلك لا يجوز. واعلم أن هذه اللام لا يجوز حذفُها وبقاءُ عملها إلَّا في ضرورةِ شاعر. أنشد أبو زيد في نوادره [من الطويل]: وتُمسِى صَرِيعًا لا تَقُومُ لحاجةٍ ... ولا تسمَعُ الداعي ويُسْمِعكَ مَن دَعَا (¬4) أراد: وليسمعك، فحذف اللام، وعملُها باقٍ. وأنشد سيبويه [من الوافر]: محمَّد تفد نفسك ... إلخ أراد لِتَفدِ، وإنما لم يجز حذفُ هذه اللام في الكلام؛ لأنّها جازمة، فهي في الأفعال نظيرةُ حروف الجر في عوامل الأسماء، فكما لا يسوغ حذفُ حرف الجر وإعمالُه في الأكثر، لم يجز ذلك في الأفعال؛ لأن عوامل الأفعال أضعفُ من عوامل الأسماء؛ لأن إعراب الأفعال إنما كان بطريق الحمل على الأسماء، فهي في الإعراب أضعفُ منها. هذا قولُ أكثرِ النحويين، قال أبو العباس محمد بن يزيد: ولا أراه على ما قالوا؛ لأن عوامل الأفعال لا تُضْمَر، ولا سيما الجازمةُ؛ لأنّها في الأفعال كالجارّ في الأسماء، وحروفُ الجرّ لا تضمر، لْوجب أن يكون كذلك في الأفعال، فاعرفه. فصل [لام الابتداء] قال صاحب الكتاب: ولامُ الابتداء هي اللام المفتوحة في قولك: "لَزيدٌ منطلقٌ". ¬
ولا تدخل إلَّا على الاسم والفعل المضارع, كقوله تعالى: {لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً} (¬1)، {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} (¬2). وفائدتُها توكيدُ مضمون الجملة. ويجوز عندنا "إن زيدًا لَسَوف يقوم", ولا يُجيزه الكوفيون. * * * قال الشارح: اعلم أن هذه اللام أكثرُ اللامات تصرُّفًا، ومعناها التوكيد، وهو تحقيقُ معنى الجملة وإزالةُ الشك. وهي مفتوحة، وذلك مقتضى القياس فيها وفي كل ما جاء على حرفٍ يُبتدأ به، إذ الساكن لا يمكن الابتداءُ به، فوجب تحريكُه ضرورةَ جوازِ الابتداء به، وكانت الفتحة أخفّ الحركات، وبها نصل إلى هذا الغرض، ولم يكن بنا حاجة إلى تكلُّفِ ما هو أثقلُ منها. وهي تدخل على الاسم والفعل المضارع، ولا تدخل على الماضي. فأمّا دخولها على الاسم، فإذا كان مبتدأ تدخل فيه لتأكيد مضمون الجملة، وذلك نحو قولك: "لَزِيدٌ عاقلٌ"، و"لَمحمد منطلقٌ"، {وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ} (¬3). ولا تدخل هذه اللام في الخبر إلَّا أن تدخل "إنَّ" المثقلةُ، فتُلْزِم تأخيرَ اللام إلى الخبر، وذلك نحو قولك: "إن زيدًا لَمنطلقٌ". وأصلُ هذا: لَإن زيدًا منطلقٌ، فاجتمع حرفان بمعنى واحد، وهو التوكيد، فكُره اجتماعُهما، فأخرت اللام إلى الخبر، فصار: "إن زيدًا لَمنطلقٌ". وإذ وجب تأخيرُ اللام إلى الخبر، لزم أن تدخل على جميع ضروب الخبر. والخبرُ يكون مفردًا، فتقول في ذلك: "إن زيدًا لمنطلقٌ"، ويكون جملة من مبتدأ وخبر، فتقول حينئذ: "إن زيدًا لأبوه قائمٌ". فإن كان الخبر جملة من فعل وفاعل، فلا يخلو ذلك الفعل من أن يكون مضارعًا، أو ماضيًا. فإن كان مضارعًا، دخلت اللامُ عليه لمضارعته الاسمَ، فتقول: "إن زيدًا لَيَضْرِبُ"، كما تقول: "لَضارِبٌ". فإن كان ماضيًا، لم تدخل اللام عليه؛ لأنه لا مضارعةَ بينه وبين الاسم، فلا تقول: "إن زيدًا لَضَرب"، ولا "إن بكرًا لَقعد". وإن كان الخبر ظرفًا، دخلت عليه الْلامُ أيضًا، نحوَ قولك: "إن زيدًا لَفي الدار"، ويُقدَّر تعلُّق الظرف بـ "مُستقر" لا بـ "استقر"، كما قُدّر إذا وقع صلة للّذِي بـ "استقرَّ" لا بـ "مستقرّ"، وقد تقدّم الكلام على ذلك مستقصى في موضعه. فإن قيل: فلِمَ زعمتم أن حكم اللام أن تكون متقدّمة على "إنّ"، وهلا كان الأمر بالعكس؛ لأنهما جميعًا للتأكيد؟ قيل: إنما قلنا ذلك لأمرَيْن: أحدهما: أن العرب قد نطقت بهذا نطقًا، وذلك مع إبدال الهمزة هاءً في قولك: ¬
فصل [اللام الفارقة]
"لَهِنَّكَ قائمٌ"، والمراد: لإنكَ قائمٌ، لكنهم لما أبدلوا من الهمزة هاءً؛ زال لفظ "إن" وصارت كأنها حرفٌ آخرُ، فجاز الجمعُ بينهما. قال الشاعر [من الطويل]: ألا يا سَنا برقٍ على قُلَلِ الحِمى ... لَهِنكَ من بَرْقٍ عَلَىَّ كَرِيم (¬1) والأمر الثاني: أن "إنَّ" عاملةٌ، واللام غير عاملة، فلا يجوز أن تكون مرتبةُ اللام بعدها؛ لأن "إن" لا تلي الحروفَ لا سيما إن كان ذلك الحرف ممّا يختصّ الاسمَ من العوامل، ويصرفه إلى الابتداء. فإن قيل: إذا كان الغرض من تأخير اللام الفصلَ بينها وبين "إن"، وأن لا يجتمعا، فهلا أُخرت، "إنَّ" إلى الخبر، وأُقرت اللام أولاً؟ فالجواب أنه لمّا وجب تأخير أحدهما للفصل بينهما، كان تأخير اللام أولى؛ لأن "إنَّ" عاملةٌ في الاسم، فلا تدخل إلَّا عليه. فلو أُخرت إلى الخبر، والخبرُ يكون اسمًا وفعلاً وجملةً، فكان يؤدي إلى إبطال عملها؛ لأن العامل ينبغي أن يكون له اختصاصٌ بالمعمول، وليس كذلك اللامُ؛ لأنّها غيرُ عاملة، فيجوز دخولُها على الاسم والفعل والجملة، فتقول "إن زيدًا لَقائمٌ"، و"إن زيدًا لَيقوم". قال الله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} (¬2). واعلم أنّ أصحابنا قد اختلفوا في هذه اللام إذا دخلت على الفعل المضارع في خبرِ "إنّ"، فذهب قوم إلى أنّها تقصر الفعل على الحال بعد أن كان مبهمًا، واستدل على ذلك بقول سيبويه (¬3): حتى كأنك قلت: "لَحاكِمٌ فيها"، يريد من المعنى. وأنت إذا قلت: "إن زيدًا لَحاكمٌ" فهو للحال. وذهب آخرون إلى أنها لا تقصره على أحد الزمانَيْن، بل هو مبهمٌ فيهما على ما كان. واستدل على ذلك بقوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} (¬4). فلو كانت اللامِ تقصره للحال، كان مُحالاً، وهو الاختيار عندنا. فعلى هذا يجوز أن تقول: "إن زيدًا لَسَوْف يقوم". وعلى القول الأول -وهو رأيُ الكوفيين- لا يجوز ذلك، كما لا يجوز أن تقول: "إن زيدًا لسوف يقوم الآنَ"؛ لأن اللام تدل على الحال كما يدل عليه "الآنَ". فصل [اللام الفارقة] قال صاحب الكتاب: واللام الفارقة في نحو قوله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (¬5)، وقولهِ: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} (¬6)، وهي لازمة لخبرِ "إن" إذا خُففتْ. * * * ¬
قال الشارح: النحويون يسمّون هذه اللام الفارقةَ ولامَ الفصل، وذلك أنها تفصل بين المخففة من الثقيلة، وبين النافية. وقد اختلفوا في هذه اللام، فذهب قومٌ إلى أنها اللام التي تدخل في خبرِ "إنَّ" المشددة للتأكيد، إلَّا أنها إذا كانت مشددة، فأنت في إدخالها وتَرْكها مخيرٌ. تقول في ذلك: "إن زيدًا قائمٌ"، فإن شئت: "إن زيدًا لَقائمٌ". فإن خففتَ "إن"، لزمت اللامُ، وذلك قولك: "إن زيدٌ لَقائمٌ". ألزموها اللامَ إيذانًا منها بأنها المشددة التي من شأنها أن تدخل معها اللامُ، وليست النافيةَ التي بمعني "ما". قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} (¬1)، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} (¬2)، فـ "إِن" ها هنا المخففةُ من الثقيلة، واسمُها مضمرٌ بمعنى الشأن والحديث، ودخلت اللامُ لِما ذكرناه من التأكيد، ولزمتْ للفرق بينهما وبين النافية التي في قوله تعالى: {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُور} (¬3). والمراد: ما الكافرون إلَّا في غرور، وقوله تعالى: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} (¬4). وذهب قوم آخرون إلى أن هذه اللام ليست التي تدخل "إن" المشددة التي هي للابتداء؛ لأن تلك كان حكمُها أن تدخل على اسم "إن"، فأُخرت إلى الخبر لئلا يجتمع تأكيدان. وساغ ذلك من حيث كان الخبر هو المبتدا في المعنى، أو ما هو واقعٌ موقعه. وهذه اللامُ لا تدخل إلَّا على المبتدأ وعلى خبر "إنَّ" إذ كان إياه في المعني أو متعلّقًا به، ولا تدخل من الفعل إلَّا على ما كان مضارعًا واقعًا في خبر "إنّ"، وكان فعلاً للحال. وإذ لم تدخل إلَّا على ما ذكرناه، لم يجز أن تكون اللام التي تصحب "إن" الخفيفةَ إياها، إذ لا يجوز دخولُ لام الابتداء على الفعل الماضي. وقد وقع بعد "إن" هذه الفعلُ الماضي، نحوَ: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} (¬5)، {وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} (¬6). وأيضًا فإن لام الابتداء تُعلِّق العاملَ عن عمله، فلا يعمل ما قبلها فيما بعدها، نحوَ قولك: "اعلم لَزيدٌ منطلقٌ"، وقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} (¬7)، وقد تجاوزت الأفعال إلى ما بعد هذه اللام، فعملتْ فيها، نحوَ: {وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} (¬8)، ونحو قوله [من الكامل]: هَبِلَتْكَ أمكَ إنْ قَتَلتَ لمُسلمًا ... حَلت عليك عُقُوبَةُ المُتَعَمّدِ (¬9) فلمّا عمل الفعل فيما بعد هذه اللام، عُلم من ذلك أنها ليست التي تدخل على ¬
فصل [لام الجر]
الفعل في خبرِ "إنّ" المشدّدة، وليست هي أيضًا التي تدخل على الفعل المستقبل، والماضي للقسم، نحوَ: "لَيفعلنَّ" "و"لَفَعَلَ". ولو كانت تلك، لزم الفعلَ الذي تدخل عليه إذا كان مضارعًا إحدى النونَيْن. فلمَّا لم تلزم، عُلم أنّها ليست إيّاها. قال الله تعالى: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا} (¬1)، {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ} (¬2)، فلم تلزم النونُ. فصل [لام الجر] قال صاحب الكتاب: ولام الجر في قولك: "المال لزيد"، و"جئتك لتكرمني"، لأن الفعل المنصوب بإضمار "أن" في تأويل المصدر المجرور, والتقدير: "لإكرامك. * * * ¬
تاء التأنيث الساكنة
ومن أصناف الحرف تاءُ التأنيث الساكنة فصل قال صاحب الكتاب: وهي التاء في "ضربت". ودخولها للإيذان من أول الأمر بأن الفاعل مؤنث, وحقها السكون ولتحركها في "رمتا" لم ترد الألف الساقطة؛ لكونها عارضة إلا في لغة رديئه يقول أهلها: "رماتا". * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذه التاء تلحق لفظَ الفعل الماضي، نحوَ قولك: "قامتُ هندُ"، و"قعدت جُمْلُ". وهي تُخالِف تاءَ التأنيث من جهتَين: من جهة المعنى ومن جهة اللفظ. فأمّا المعنى، فإنّ تاء التأنيث اللاحقة للأسماء إنّما تدخل لتأنيث الاسم الداخلة عليه، نحوَ قولك: "قائمةٌ"، و"قاعدةٌ"، و"امرأةٌ". واللاحقةُ الأفعالَ إنّما تدخل لتأنيث الفاعل إيذانًا منهم بأنّه مؤنّثٌ، فيُعلَم ذلك من أمره قبل الوصول إليه وذِكْرِه. والذي يدلّ على أنّ المقصود بالتأنيث إنّما هو الفاعل لا الفعل أنّ الفعل لا يصحّ فيه معنى التأنيث، وذلك من قبل أنّه دالٌ على الجنس، والجنسُ مذكّرٌ لشِياعه وعمومِه. والشيءُ كلّما شاع وعمّ فالتذكيرُ أوْلى به من التأنيث، ألا ترى أنّ شَيئًا مذكّرةٌ، وهو أعمُّ الأشياء وأشيعُها, ولذلك قال سيبويه: لو سمّيتَ امرأةً بـ "نِعْمَ" و"بِئسَ" لم تصرفهما؛ لأنّ الأفعال كلّها مذكّرٌ لا يصحّ تأنيثُها. وأيضًا فلو كان المراد تأنيث الفعل دون فاعله؛ لجاز "قامتْ زيدٌ"، كما تقول: "قام زيدٌ ثمَّتَ عمروٌ"، و"رُبَّتَ رجلٍ لقيتُ". فلمّا لم يجز ذلك، صحّ أنّ التاء في "قامت هندٌ" لتأنيث الفاعل الذي يصحّ تأنيثُه، لا لتأنيث الفعل الذي لا يصحّ تأنيثُه. أمّا اللفظ، فإنّ تاء التأنيث اللاحقة للأسماء تكون متحرّكة في الوصل، نحوَ قولك: "هذه امرأةٌ قائمةٌ يا فَتى"، و"رأيت امرأةً قائمةً يا فتى"، و"مررت بامرأةٍ قائمةٍ يا فتى"، والتاء التي تلحق الأفعالَ لا تكون إلَّا ساكنة وَصلًا ووَقفًا. وذلك قولك "قامتْ هندٌ"، "هندٌ قامت". فإن لَقِيَها ساكنٌ بعدها، حُرّكت بالكسر لالتقاء الساكنين، نحوَ قولك:
"رمتِ المرأةُ". ولا يُرَدّ الساكن المحذوف، إذ الحركةُ غيرُ لازمة إذ كانت لالتقاء الساكنين، ولذلك تقول: "المرأتان رَمَتا"، فلا تردّ الساكنَ وإن انفتحت التاءُ؛ لأنّها حركةٌ عارضةً إذ ليس بلازم أن يُسْنَد الفعل إلى اثنين. فأصلُ التاء السكونُ، وإنّما حُرّكت بسبب ألف التثنية. وقد قالَ بعضهم: "رَمَاتا"، فردّ الألفَ الساقطةَ لتحرُّك التاء، وأجرى الحركة العارضة مُجْرَى اللازمة من نحو: "قُولا"، و"بِيعا" و"خافا". وذلك قليل ردىء من قبيل الضرورة. ومنه قول الشاعر [من المتقارب]: 1195 - لَهَا مَتنَتانِ خَظَاتاكما ... أكَبَّ على ساعِدَيْهِ النَّمِرْ في أحد الوجهَين، وذلك أنّ بعضهم يقول: أراد "خَظَاتانِ"، فحذف النون للضرورة، وهو رأيُ الفرّاء. وبعضهم يقول: أراد: "خَظَتا"، من قولهم: "خَظا اللحمُ"، أي: اكتنز، وكثُر. والأصلُ في "خظتْ": "خظاتْ"، وإنّما حُذفت الألف لالتقاء الساكنين: سكونَها وسكونَ التاء بعدها. فلمّا تحرّكت للَحاق ألف الضمير بعدها، أعادوا الألف الساقطة ضرورةً على ما ذكرناه، أو على تلك اللغة. ومثله قول الآخر [من الرجز]: مَهلًا فِداءٍ لك يا فضالَهْ ... أجَرَّه الرُّمْحَ ولاتُهالَه (¬1) ¬
أراد: تُهَل مِن "هَالَه الشيءُ يَهُوله"، إذا أفزَعَه. والأصلُ: تُهال: فلمّا سكنت اللامُ للنَّهي، حُذفت الألف لالتقاء الساكنين، ثمّ دخلت هاءُ الوقف ساكنةً، فحُرّكت اللام لالتقاء الساكنين، كما حرّكوها في قولهم: لم أُبَلِه. وكان القياس أن يُقال: تهَلَه، فلا يرَدّ المحذوف، إذ الحركةُ عارضةٌ لالتقاء الساكنين، إلَّا أنهم أجروها مجرى اللازمة، فأعادوا المحذوف. ويؤيّد هذا القولَ قولُهم. "لَحْمَرُ" في "الأحَمر"، و"لَبيَضُ" في "الأبْيَض"، و {عَادَا لولَى} (¬1) في "الأولى". وذلك أّنهم اعتدّوا بحركة الهمزة المحذونة لمّا ألقوها على لام المعرفة، فأجروا ما ليس بلازم مجرى اللازم، فاعرفه. ¬
التنوين
ومن أصناف الحرف التنوين فصل [أضربه] قال صاحب الكتاب: وهو على خمسة أضرب: الدال على المكانة (¬1) في نحو: "زيدٍ", و"رجلٍ"، والفاصل بين المعرفة والنكرة في نحو: "صهٍ", و"مهٍ", و"إيهٍ"، والعوض من المضاف إليه في "إذ", و"حينئذٍ" (¬2) , و"مررت بكل قائماً", و [من الخفيف]: 1196 - [طلبوا صلحنا] ولات أوانٍ ... [فأجبنا أن ليس حين بقاء] ¬
والنائب مناب حرف الإطلاق في إنشاد بني تميم في نحو قول جرير [من الوافر]: أقلي اللوم عاذل والعتابن ... وقولي إن أصبت لقد أصابن (¬1) والتنوين الغالي في نحو قول رؤبة [من الرجز]: وقاتم الأعماق خاوي المخترقن (¬2) ولا يلحق إلا القافية المقيَّدة (¬3). * * * قال الشارح: اعلم أنّ التنوين في الحقيقة نونٌ تلحق آخِرَ الاسم المتمكّن، وغيرُه من وجوه التنوين فمبنيةٌ، يُقال: "نوّنتُ الكلمةَ تَنْوينًا" إذا ألحقتَها هذه النوَن. فالتنوينُ مصدرٌ غلب حتى صار اسمًا لهذه النون. وفرقوا بهذا الاسم بين هذه النون والنون الأصليّة، نحوِ: "قُطْنٍ" و"رسن" والملحقةِ الجاريةِ مجرى الأصليّة، نحو "رَعْشنٍ"، و"فِرْسِن". وذلك أنّ التنوين ليس مُثبَتًا في الكلمة، إنّما هو تابعٌ للحركات التابعة بعد تمام الجزء جِيءَ به لمعنًى، وليس كالنون الأصليّة التي من نفس الكلمة أو المُلْحَقةِ الجاريةِ مجرى الأصل، ولذلك من إرادة الفرق لم يثبت لها صورةٌ في الخطّ. وهو على خمسة أضرب: أحدها: أن يأتي للفرق بين ما ينصرف وما لا ينصرف، وهو الدالّ على المكانة، أي: أنّه باقٍ على مكانه من الاسميّة لم يخرج إلى شَبَه الحرف، فيكونَ مبنيًّا، نحوَ: "الَّذِي" و"الَّتِي"، ولا إلى شبه الفعل، فيمتنعَ من الصوف، نحوَ: "أحمَدَ"، و"إبْراهِيمَ". وذلك نحوَ تنوين "رَجُلٍ"، و"فَرَسٍ"، و"زيدٍ"، و"عمرو"، و"أحمدٍ"، و"إبراهيم"، إذا أردت بهما النكرة. فإذا قلت: "لقيتُ أحمدًا"، فقد أعلمتَه أنّك مررت بواحد ممّن اسمُه "أحمدُ"، وإذا قلت: "أحمدَ" بغير تنوين، فأنت تُعْلمه أنك مررت بالرجل الذي اسمه أحمد، وبينك وبينه عهدٌ فيه وتواضعٌ، والتنوينُ هو الدالّ على ذلك. والثاني: أن يكون دالاًّ على النكرة، ولا يكون في معرفة ألبتّة، ولا يكون إلَّا تابعًا لحركات البناء دون حركات الإعراب، وذلك نحو: "صَهٍ"، و"مَهٍ"، و"إيهٍ". فإذا قلت: ¬
"صَهٍ" منوّنًا، فكأنّك قلت: "سُكوتًا". وإذا قلت: "صهِ" بغير تنوين، فكأنّك قلت: "السُّكوتَ". وإذا قلت: "مَهٍ" بالتنوين، فمعناه "كَفًّا". وإذا قلت: "مَهِ"، فكأنّك قلت: "الكَفَّ". وكذلك إذا قلت: "إيهٍ"، معناه استزادةً. وإذا قلت: "إيهِ"، فكأنّك قلت: "الاستزادةَ". فالتنوينُ عَلَمُ التنكير وتركه علمُ التعريف. قال ذو الرُّمّة [من الطويل]: وَقَفْنَا وقلنا إيهِ عن أمِّ سالِمٍ ... وما بالُ تَكلِيمِ الدِيارِ البَلاقِعِ (¬1) فكأنّه قال: "الاستزادةَ". وقد أنكر هذا البيتَ الأصمعيّ، وقال: العربُ لا تقول إلَّا: "إيهٍ" بالتنوين. والصوابُ ما قاله الشاعر من أنّ المراد من "إيهِ" بغير تنوين المعرفةُ. وإذا أراد النكرةَ، نوّن على ما قدّمنا. وخَفِيَ على الأصمعيّ هذا المعنى للُطفه. ونظائرُ ذلك كثيرةٌ من نحو: "سِيبَوَيْهِ"، و"سيبويهٍ"، و"عَمرَوَيْهِ"، و"عمرويهٍ". قال الشاعر [من الرجز]: 1197 - يَا عَمْرَوَيهِ انْطَلَقَ الرِّفاقُ ... وأنْتَ لا تَبْكِي ولا تَشْتَاقُ إذا نكرتَ نوّنتَ، وإذا أردت المعرفة لم تُنوِّن، فاعرفه. الثالث: تنوين العِوَض، وذلك نحوُ: "إذٍ"، و"يومئذٍ"، و"ساعتَئِذٍ". وسُمّي هذا الضرب من التنوين تنوينَ عوض؛ لأنّه عوضٌ من جملةِ كان الظرف الذي هو "إذْ" مضافًا إليها (¬2)؛ لأنّه قد تقدّم إنّ "إذ" تضاف إلى الجملة، فلمّا حُذفت تلك الجملة للعلم بموضعها، عُوّض منها التنوين اختصارًا، وذلك نحو قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَالَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} (¬3). والأصلُ: يومَئِذ تُزلزل الأرض زلزالها، وتُخرِج الأرض أثقالها، ويقول الإنسان: ما لها. فخذفت هذه الجُمَل الثلاث، وناب منابَها التنوين، فاجتمع ساكنان، وهما الذال والتنوين، فكُسرت الذال لالتقاء الساكنين. ¬
وليست هذه الكسرةُ في الذال بكسرةِ إعراب، وإن كانت "إذٍ" في موضعِ جرّ بإضافةِ ما قبلها إليها، وإنّما الكسرةُ فيها لالتقاء الساكنين كما كُسرت الهاء في "صَهٍ"، و"مَهٍ" لسكونها وسكونِ التنوين بعدها، وإن اختلف معنى التنوين فيهما، فكان في "إذ" عوضًا، وفي "صَهٍ" عَلَمًا للتنكير. والذي يدلّ أنّ الكسرة في ذال "إذٍ" من قولك: "يومئذٍ"، و"حينئذٍ" كسرةُ بناء لا كسرةُ إعراب قولُ الشاعر [من الوافر]: نَهَيتُكَ عن طِلابِك أمَّ عَمرٍو ... بعافِيَةٍ وأنتَ إذٍ صَحِيحُ (¬1) ألا ترى أن "إذٍ" في هذا البيت ليس قبلها شيءٌ يُضاف إليها، فيُتوهّمَ أنّه مخفوضٌ به؟ فأمّا قولهم: "مررتُ بكلٍّ قائمًا" فقد تقدّم الكلام عليه، وعلى الخلاف فيه, وذلك أنّ منهم مَن جعله تنوين عوض كالذي في "يومئذٍ" ونظائره؛ لأنّ حقّ هذا الاسم أن يُضاف إلى ما بعده، فلمّا قُطع عن الإضافة لدلالةِ كلام قبله عليه، عُوّض التنوين. ومنهم مَن جعله تنوينَ تمكين؛ لأنّ الإضافة كانت مانعة من التنوين، فلمّا قُطع عن الإضافة إليه، دخله التنوينُ, لأنه اسمٌ معربٌ حقّه أن تدخله حركاتُ الإعراب والتنوينُ. وهذا الوجهُ عندي الوجهُ من قبل أنّ هذا العوض إنّما جاء فيما كان مبنيًّا ممّا حقُّه أن يُضاف إلى الجمل، وأمّا المعرب الذي يُضاف إلى مفرد، فلا. وأمّا [من الخفيف]: لات أوانٍ ... إلخ فمن قول الشاعر [من الخفيف]: طَلَبُوا صُلحَنا ولاتَ أوانٍ ... فأجَبْنا أنّ لاتَ حِينَ بَقاءِ (¬2) فإنّ أبا العبّاس المبرّد ذهب إلى أنّ كسرة "أوان" ليست إعرابًا, ولا عَلَمًا للجرّ، والتنوين الذي بعده ليس الذي يتبع حركاتِ الإعراب، وإنّما تقديرُه عنده أنّ "أوانٍ" بمنزلةِ "إذٍ" في أنّ حقّه أن يكون مضافًا إلى الجملة، نحوَ قولك: "جئتُك أوانَ قام زيدٌ، وأوانَ الحَجّاجُ أميرٌ"، فلمّا حذف المضاف إليه من "أوان"، عوّض من المضاف إليه تنوينًا، والنونُ كانت ساكنة كسكون الذال في "إذٍ" فلمّا لقيها التنوينُ ساكنًا، كُسرت لالتقاء الساكنين كما، كُسرت ذالُ "إذ" عند دخول التنوين عليها. وهو قول ضعيف؛ لأنّ "أوانًا" من أسماء الزمان تُضاف تارةً إلى الجملة، وتارةً إلى المفرد. قال الشاعر [من الرجز]: 1198 - هذا أوانُ الشَّدِّ فاشتَدِّي زِيَمْ ¬
فأضافه إلى المفرد، وقال [من الرجز]: 1199 - هذا أوانُ الغَرِّ وذلك كثيرٌ. والذي حمله على هذا القول أنّه رآه مخفوضًا, وليس قبله ما يوجب خفضَه، فتَخيّله لذلك. والذي عليه الجماعةُ أنّه مخفوضٌ، والكسرةُ فيه إعرابٌ، والتنوين تنوينُ تمكين، والخافضُ "لات". وهي لغةٌ قليلةٌ لقومٍ من العرب يخفضون بهاء. وقد قرأ عيسى بن عمر (¬1): {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} (¬2) بجر "حين" على ما ذكرنا، فاعرفه. الرابع: من ضروب التنوين تنوين الترنّم. وهذا التنوين يُستعمل في الشعر والقوافي للتطريب، مُعاقِبًا بما فيه من الغّنة لحروف المدّ واللين. وقد كانوا يستلذّون الغنّةَ في كلامهم، وقد قال بعضهم: إنّما قيل للمُطرِب: "مُغنِّ"؛ لأنّه يُغنَّن صوتَه، وأصلُه مُغَنِّنٌ، فأُبدِل من النون الآخيرة ياءً، كما قالوا: "تَقَضَّى البازي"، والمراد: تَقَضَّضَ. وقالوا: "قَصَّيْتُ أظفَارِي"، والمعنى: قَصَّصْتُ. وهو على ضربين: أحدهما أن يلحق متممًا للبناء مُكملًا للوزن. والآخر أن يلحق زيادةً بعد استيفاء البيت جميعَ أجزائه نَيِّفًا عن آخِره بمنزلة الخَرْم (¬3) في أوّله، فالأوّلُ ¬
منهما نحوُ قول امرئ القيس في إنشاد كثير من بني تميم [من الطويل]: قِفَا نَبكِ مِن ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنزِلِن ... [بِسْقطِ اللّوَى بينَ الدَّخولِ فَحَوْمَلن] (¬1) وقول جرير [من الوافر]: أقلّي اللوم عاذل والعتابنْ (¬2) فالنون هنا معاقبةٌ للياء والألف في "منزلِي" و"العتابا". ونحو قوله [من الوافر]: سُقِيتِ الغَيثَ أيَّتُها الخِيامُنْ (¬3) وقالوا [من الرجز]: دَايَنتُ أروَى والدُّيونُ تُقضَن (¬4) فجاؤوا بها مع الفعل كما تجيء حروفُ اللين إطلاقًا. وقد جاؤوا بها مع المضمر. قالوا [من الرجز]: يا أبَتا عَلَّكَ أو عَساكَنْ (¬5) فهذه النون ليست زائدة علي بناء البيت، بل هي من تمامه. وأما الثاني، فهو إلحاقها نَيَّفًا عن آخر البيت بمنزلة الخرم في أوّله، نحوُ قول رُؤبة [من الرجز]: وقاتِمِ الأعْماقِ خاوِي المُختَرَقِن ... مُشتَبِهِ الأعلامِ لَمّاعِ الخَفَقِن (¬6) النون في "المخترقن" زيادةٌ؛ لأنّ القاف قد كمّلت وزنَ البيت؛ لأنّه من الرجز، فالقافُ بمنزلة النون في "مُستفعِلُن". ويسمّي أبو الحسن هذه النون الغالي. وسمّوا الحركةَ التي قبلها الغُلُوّ؛ لأنّه دخل دخولًا جاوَزَ الحدَّ؛ لأنَّه مُنع من الوزن. والغُلُوُّ. تَجاوُزُ الحدّ. ومثله [من الرجز]: 1200 - ومَنْهَلٍ وردتُه طامٍ خالْ ¬
فصل [التقاء التنوين بساكن]
وصاحب الكتاب جعل هذا الغالي قسمًا غيرَ الأوّل. والصواب أنّه ضربٌ منه، ويجمعهما الترنّمُ، إذ الأوّل إنّما يلحق القوافى المطلقَةَ مُعاقِبًا لحروف الإطلاق. والثاني- وهو الغالي- إنّما يلحق القوافي المقيّدةَ. وقد أخَلَّ بتنوين المقابَلة، وهو قسمٌ من أقسام التنوين ذكره أصحابُنا. وذلك أن يكون في جماعة المؤنّثُ مُعادِلاً للنون في جماعة المذكّر. وذلك إذا سُمّي به، نحوُ امرأة سمّيتها بـ "مُسْلِماتٍ" ففيها التعريفُ والتأنيثُ، فكان يجب أن لا يُنوَّن لاجتماع علّتَين فيه، لكن التنوين فيه بإزاء النون التي تكون في المذكّر من نحو قولك: "المسلمون"، فسمّوه بتنوينِ مقابلة لذلك. وذلك قولك إذا سمّيت رجلاً بـ "مسلماتٍ" أو"قائمات" قلت: "هذا مسلماتٌ"، و"رأيت مسلماتٍ" و"مررت بمسلماتٍ"، فتُثْبِت التنوين هنا كما أنّك إذا سمّيت رجلاً بـ "مسلمون" قلت: "هذا مسلمون"، و"رأيت مسلمين"، و"مررت بمسلمين". فالتاء في "مسلماتٌ" بمنزلة الواو في "مسلمون"، كما أن التاء والكسوة بمنزلة الياء في "مسلمين"، فالتنوينُ في "مسلماتٍ" اسم رجل معرفةً ليس عَلَمًا للصرف بمنزلة تنوين "بكرٍ" و"زيدٍ". ولو كان مثله، لزال عند التسمية. قال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} (¬1). وقال الشاعر [من الطويل]: تَنَورَّتُها من أذرِعاتِ وأهلُها ... بيَثرِبَ أدْنَى دارَها نظرٌ عالِي (¬2) وقد أنشده بعضهم: "أذرعاتِ"، بغير تنوين، شَبَّهَ تاء الجمع بهاء الواحدة، فلم ينوّن للتعريف والتأنيث، فاعرفه. فصل [التقاء التنوين بساكن] قال صاحب الكتاب: والتنوين ساكن أبداً إلا أن يلاقي ساكناً آخر, فيُكسَر أو يضم, كقوله تعالى: {وَعَذَابٍ ارْكُضْ} (¬3) , وقرىء بالضم (¬4). وقد يحذف, كقوله [من المتقارب]: فألفيته غير مستعتبٍ ... ولا ذاكر الله إلا قليلاً (¬5) ¬
وقرىء: {قُل هُوَ الله أحَدُ الله الصَّمَدُ} (¬1). * * * قال الشارح: اعلم أنّ التنوين نونٌ ساكنةٌ تلحق آخِرَ الاسم. وإنما كان ساكنًا؛ لأنّه حرفٌ جاء لمعنى في آخِر الكلمة، نحو نون التثنية والجمع الذي على حدّ التثنية، وألف النُّدْبة، وهاء تبيين الحركة. ولم يقع أوّلاً فتمسَّ الحاجة إلى تحريكه نحوِ واو العطف، وفائه، وهمزة الاستفهام، ونحوِ ذلك ممّا قد يُبتدأ به، ولا يمكن الابتداءُ بالساكن. فإذا لَقِيَه ساكنٌ بعده، حُرّك لالتقاء الساكنين، وقضيّتُه أن يُحرَّك بالكسرة؛ لأنّه الأصل في كلّ ساكنَيْن التقيا، وذلك قولك: "هذا زَيدُنِ العاقلُ"، و"رأيت زيدَنِ العاقلَ"، و"مررت بزيدِنِ العاقلِ". قال الله تعالى: {مُرِيبٍ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} (¬2)، وقال: {عَذَابٍ ارْكُضْ} (¬3)، قُرئت بالضمّ والكسر. فمَن كسر فعلى الأصل، ومن ضمّ أتبع الضمَّ الضمَّ كراهيةَ الخروج من كسر إلى ضمّ، ومثلُه {وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا} (¬4) , جاءت مكسورةً ومضمومةً (¬5). وربّما حذفوه لالتقاء الساكنين تشبيهًا له بحروف المدَّ واللين. وقد كثُر ذلك عنهم حتى كاد يكون قياسًا، فمن ذلك قوله تعالى في قراءةِ من قرأ: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} (¬6) والمعنى: "سابقٌ" منوّنٌ، فحُذف التنوين للساكن بعده كما يحذف حرف المدّ من نحوِ: "يَغزُ الجَيشُ"، و"يَرْم الغَرَضَ". ومن ذلك قوله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} (¬7)، قُرىء على وجهين (¬8): أحدهما {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} بتنوين "عزير"؛ لأن "ابنًا" الآنَ خبرٌ عن "عزير"، فجرى مجرى قولك: "زيدٌ ابنُ عمرو". والقراءةُ الأُخرى {وقالت اليهود عزيرُ ابن الله}. وهي على وجهين: أحدهما: أن يكون "عزير" خبرَ مبتدأ محذوف، و"ابنٌ" وصفٌ له، فحُذف التنوين من "عزير"؛ لأن "ابنًا" وصفٌ له، فكأنّهم قالوا: هو عزير بن الله. والوجه الآخر: أن يكون جعل "ابنًا" خبرًا عن "عزير"، وحذف التنوينَ لالتقاء الساكنين، وعليه الشاهد. ¬
ومن ذلك قوله تعالى في قراءة أبي عمرو: {قُلْ هُوَ اَللهُ أَحَدُ اللهُ اَلصَمَدُ} (¬1). وزعم أبو الحسن أن عيسى بن عمر (¬2) أجاز نحو ذلك. فأمّا قوله [من المتقارب]: فألفيته ... إلخ فإنّ الشاهد حذفُ التنوين لالتقاء الساكنين، والمراد: "ولا ذاكرٍ الله"، فالتنوينُ وإن كان محذوفًا في اللفظ، فهو في حكم الثابت. ولولا ذلك، لَخَفَص. والبيت لأبي الأسود الدُؤليّ، وقبله: فذكّرته ثمَّ عاتَبته ... عِتابًا رَفيقًا وقَوْلاً جَمِيلا ومعناه: أنّ رجلاً كان يُقال له نُسَيْب بن حميد كان يغشى أبا الأسود ويودّه، فذكر لأبي الأسود أن عنده جُبَّة إصْبَهانيْةً، ثمّ رآها أبو الأسود، وطلب ابتياعها منه، فأغلى سيمتَها عليه. وكان أبو الأسود من البخلاء، فذكّره بما بينهما من المودّة، فلم يُفِد عنده، فقال البيتَيْن. ومثلُ ذلك قول الآخر [من الرجز]: واللهِ لو كنتَ لِهذا خالِصًا ... لَكنتَ عَبداً آكِلَ الأبارِصا (¬3) أراد: آكِلاً، فحذف التنوين، ونصب. ومثله [من الكامل]: 1201 - عَمْرُو الذي هَشَمَ الثَّرِيدَ لقَوْمِهِ ... ورِجالُ مَكَّةَ مُسْنِتُون عِجافُ ¬
أراد: "عمرٌو الذي". وقال ابن قيس [من الخفيف]: 1202 - كيف نَوْمي على الفِراش ولمّا ... تَشْمَلِ الشَّأْمَ غَارةٌ شَعْواءُ تُذهِلُ الشَّيخَ عَن بَنِيه وتُبْدِي ... عن خِدامِ العَقِيلَةُ العَذراءُ أي: "عن خدام العقيلةُ"، فحذف التنوين في هذا كلّه لالتقاء الساكنين, لأنّه ضارع حروفَ اللين بما فيه من الغُنّة، والقياسُ تحريكه، فاعرفه. ¬
النون المؤكدة
ومن أصناف الحرف النونُ المؤكِّدةُ فصل [ضرباها] قال صاحب الكتاب: وهي على ضربين: ثقيلةٌ, وخفيفةٌ. فالخفيفة تقع في جميع مواضع الثقيلة إلا في فعل الاثنين, وفعل جماعة المؤنث, تقول: اضرِبَنَّ, و"اضربُنَّ", و"اضربِنَّ", و"اضربَنْ" و"اضربُنْ" و"اضربِنْ", وتقول: اضربانِّ واضربنانِّ, ولا تقول: "اضربانْ" ولا "اضربنان", إلا عند يونس (¬1). * * * قال الشارح: اعلم أنّ هاتَين النونَين الشديدة والخفيفة من حروف المعاني، والمرادُ بهما التأكيد. ولا تدخلان إلاَّ على الأفعال المستقبلة خاصّةً، وتُؤثَّران فيها تأثيرَين: تأثيرًا في لفظها وتأثيرًا في معناها. فتأثيرُ اللفظ إخراجُ الفعل إلى البناء بعد أن كان معربًا. وتأثيرُ المعنى إخلاصُ الفعل للاستقبال بعد أن كان يصلح لهما. المشدّدةُ أبلغُ في التأكيد من المخفّفة, لأنّ تكرير النون بمنزلة تكرير التأكيد، فقولُك: "اضرِبُن" خَفيفةَ النون بمنزلة قولك: "اضْرِبوا كلُّكم"، وقولُك: "اضْرِبُنِّ" مشدّدةَ النون بمنزلةِ "اضربوا كلّكم أجمعون". فإذا لحقتْ هذه النون الفعلَ، كان ما قبلها مفتوحًا مع الواحد المذكّر، شديدةً كانت أو خفيفةً، سواء كان الفعل في موضعِ جزم أو في موضعِ رفع. تقول فيما كان موضعه جزمًا: "لا تضربَنَّ زيدًا" شديدةَ النون، و"لا تضربَنْ خالدًا" خفيفةَ النون. وتقول فيما كان موضعه رفعًا: "هل تضربَنَّ زيداً؟ " و"هل تضربَنْ؟ ". وإنّما كان ما قبل هذه النون مفتوحًا هنا؛ لأنّ آخِرَ الفعل ساكنٌ لحدوث البناء فيه عند اتّصال هذه النون به؛ لأنّها تؤكّد معنَى الفعليّة، فعاد إلى أصله من البناء، والنونُ الخفيفةُ ساكنةٌ. ¬
والشديدةُ نونان: الأُولى منهما ساكنةٌ، فاجتمع ساكنان، فكرهوا ضمَّها أو كسرَها؛ لأنّ ضمّها يُلْبِس بفعل الجمع، وكسرها يلبس بفعل المؤنث، كقولك في فعل الجمع: "لاتَضرِبُنَّ"، وفي فعل المؤنّث "تَضْرِبِنَّ". وقد اختلفوا في هذه الحركة، فذهب قومٌ إلى أنَّها بناءٌ، وذهب آخرون إلى أنّها حركةُ التقاء الساكنين. واحتجّ الأوّلون بأنّها لو كانت لالتقاء الساكنين، لكانت عارضة، وقد قالوا: "قُولَنَّ"، و"بِيعَنَّ"، فأعادوا الواو والياء، فدلّ أنّ الحركة حركةُ بناء لا حركةُ التقاء الساكنين. والصحيحُ الثاني. فأمّا إعادةُ المحذوف، فإنّ النون لمّا دخلت على هذا الفعل، صار كالتركيب، وصار الكلمتان كالكلمة الواحدة، وصارت الحركةُ كاللازمة لذلك. وتقول في فعل الاثنين: "اضرِبَانِّ زيدًا"، و"لَا تَضرِبَانِّ زيدًا". قال الله تعالى: {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬1). وتقول في الجمع: "هل تَضرِبُنَّ زيدًا يا قومُ"، و"لا تضربُنَّ زيدًا يا قوم"، فتحذف الواو التي هي ضميرُ الفاعل لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمّةُ قبلها تدلّ عليها. وتقول في المؤنّث: "هل تَضرِبِنَّ يا هندُ"، والأصل: "تَضرِبِينَنَّ"، فحذفت النون التي هي علامةُ الرفع للبناء، وحذفت الياء لالتقاء الساكنين. فإن قيل: ولِمَ لا حُذفت الألف لالتقاء الساكنين في فعل الاثنين كما سقطت الواوُ في فعل الجماعة، والياءُ في فعل المؤنّث؟ قيل: لأنّها لو سقطتْ، لأشبه فعلَ الواحد، وليس ذلك في فعل الجماعة، وفعل المؤنّث، مع أنَّه وُجد فيه الشرطان المرعيّان في الجمع بين ساكنَيْن، وهو كونُ الساكن الأوّل حرفَ مدّ ولين، والثاني مدّغمًا فهو كـ "دابَّةٍ" و"شابّة" و"تُمُودَّ الثَّوْبُ"، و"أُصَيْمَّ"، و "مُدَيقِّ" تصغيرِ: "أصَمَّ" و"مِدَقٍّ"، غيرَ أنّ الحذف أوْلى فيما لا يُشكِل. وكل موضع تدخل فيه الشديدة، فإنّ الخفيفة تدخل فيه أيضًا، إلَّا مع فعل الاثنين وفعل جماعة النساء. فإنّ الخليل وسيبويه كانا لا يَرَيان ذلك. وكان يونس (¬2) وناسٌ من النحويين غيره يرون ذلك، وهو قول الكوفيين (¬3). وحجّةُ سيبويه أنّا لو أدخلنا النون الخفيفة في فعل الاثنين، لقلنا: "اضرِبَانْ زيدًا"، فكان يجتمع ساكنان في الوصل على غير شرطه؛ لأن الساكن الثاني هنا غير مدغم. ولسنا مضطرّين إليها بحيث نصير إلى صورةٍ نخرج بها عن كلام العرب. ¬
فأمّا فعل جماعة المؤنّث، فإذا دخلت عليه نونُ التوكيد المشدّدةُ؛ فإنّك تقول: "اضرِبْنانِّ" و"هل تَضرِبنانِّ؟ " والأصل: هل تَضْرِبنَ؟، فالنون لجماعة المؤنّث، ثمّ دخلت النون الشديدة، فصار هل تضربنَنِّ؟ باجتماعِ ثلاث نونات، وهم يستثقلون اجتماعَ النونات. ألا ترى أنّهم قالوا: "أني" وَ"كَأنِّي"، والأصل: "أنّنِي"، و"كَأنَّنِي"، فحذفوا النونات استثقالًا لاجتماعهنّ؟ فلمّا أدّى إدخالُ نون التأكيد على فعل جماعة النساء إلى اجتماع ذلك، ولم يُمّكِن حدْفُ إحداهنّ، أدخلوا ألفًا فاصلةً بين النونات لِيزول في اللفظ اجتماعُهنّ، فقالوا: اضربنَانِّ، فالألفُ ههنا شبيهٌ بالألف الفاصلة بين الهمزتين في نحو: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} (¬1)، و {أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} (¬2)؛ لأنّه بالفصل بينهما يزول الاستثقالُ. وسيبويه لا يرى إدخالَ نون التأكيد الخفيفةِ لِما يُؤدِّي إليه من اجتماع الساكنين على غير شرطه، وهما النون وألف الوصل. وكان يونس يجيز ذلك، ويقول: "اضْرِبْنَان"، و"هل تَضرِبنَانْ؟ " كما يفعل في التثنية، وكأنّه يكتفي بأحد الشرطَين، وهو المدّ الذي في الألف. ونظيرُ ذلك عنده قراءةُ من قرأ {مَحْيَايَ} (¬3) بإسكان الياء. وليس ذلك بقياس، وهو خلافُ كلام العرب. فإذا وُقف على هذه النون على قياس قول يونس، قالوا: "اضرِبْنَا"، و"هل تَضرِبْنا؟ " فتُمدّ مقدارَ ألفين: ألفِ الفصل، والألفِ المبدلةِ من النون التي على حدِّ {لَنَسْفَعًا} (¬4). وكان الزجّاج يُنْكِر ذلك، ويقول لو مُدَّ مَهْمَا مُدّ لم يكن إلَّا ألفًا واحدةً. والقولُ ما قاله يونس؛ لأنه يجوز أن يتفاوت المد، فيكون مدٌّ بإزاءِ ألف واحدة، ومدٌّ بإزاء ألفَيْن. والكوفيون (¬5) يزعمون أنّ النون الخفيفة أصلها الشديدة، فخُفّفت كما خُفّفت "إنَّ"، و"لكِنَّ". ومذهبُ سيبويه أنّ كلّ واحد منهما أصلٌ، وليست إحداهما من الأخُرى، إذ لو كانت منها, لكان حكمُهما حكمًا واحدًا، وليس الأمر كذلك، ألا ترى أنّك تُبدِل من الخفيفة في الوقف ألفًا، وتحذف إذا لقيها ساكنٌ، وحكمُ "إنْ"، و"لكِنْ" بعد التخفيف كحكمهما قبله لا يختلف الأمرُ فيهما؟ فلمّا اختلف حكمُ النونَين، دلّ على اختلافهما في أنفسهما. ¬
فصل [ارتباطها بالمستقبل]
فصل [ارتباطُها بالمستقبَل] قال صاحب الكتاب: ولا يؤكد بها إلا الفعل المستقبل الذي فيه معنى الطلب, وذلك ما كان قسماً, أو أمراً, أو نهياً, أو استفهاماً أو عرضاً أو تمنياً ,كقولك: "بالله لأفعلن"، و"أقسمت عليك إلا تفعلن"، و"لما تفعلن" و"اضربن"، و"لا تخرجن"، و"هل تذهبن"، و"ألا تنزلن"، و"ليتك تخرجن". * * * قال الشارح: مَظنَّةُ هذه النون الفعلُ المستقبلُ المطلوبُ تحصيلُه؛ لأنّ الفعل المستقبل غيرُ موجود، فإذا أُريد حصولُه، أُكّد بالنون إيذانًا بقوّة العناية بوجوده. ومظنّتُها ما ذكر من المواضع. فمن ذلك فعلُ القسم، نحوُ قولك: "والله لأقومنّ"، و"أقسمتُ علمِك لَتفعلنّ". قال الله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (¬1). قال الشاعر [من الطويل]: 1203 - فمنْ يَكُ لم يَثْأرْ بأعراضِ قَوْمهِ ... فإنّي وَرَبّ الراقِصاتِ لأثأرا وهذه النون تقع هنا لازمة. لو قلت: "والله لَيقومُ زيدٌ"، لم يجز. وإنّما لزمت ههنا؛ لئلاّ يُتوهّم أنّ هذه اللامُ التي تقع في خبرِ "إنَّ" لغير قسم، فأرادوا إزالةَ اللبس ¬
بإدخال النون وتخليصِه للاستقبال، إذ لو قلت: "إنَّ زيدًا لَيقومُ"، جاز أن يكون للحال والاستقبال بمنزلةِ ما لا لامَ فيه. فإذا قلت: "إنّ زيدًا لَيقومنّ"، كان هذا جوابَ قسم، والمرادُ: الاستقبال لا غير. وذهب أبو عليّ إلى أنّ النون هنا غيرُ لازمة، وحكاه عن سيبويه، قال: ولَحاقُها أكثرُ. والسيرافيّ وجماعةٌ من النحويين يرون أنّ لحاق النون يقع لازمًا للفصل الذي ذكرناه، وهو الظاهر من كلام سيبويه (¬1)، ودْلك قوله: إِنّ اللام إنّما لزمت اليمينَ كما لزمت النون اللامَ، وهذا نصٌّ منه. ومن ذلك فعل الأمر والنهي والاستفهام، تقول في الأمر: "اضربَنَّ زيدًا"، وفي النهي: "لا تضربَنَّ زيدًا". قال الله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} (¬2) وقال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} (¬3). وتقول في الاستفهام: "هل تضربنّ جعفرًا؟ " قال الشاعر [من الطويل]: وإيّاك والمَيْتاتِ لا تَقرَبَنَّها ... ولا تَعْبُدِ الشيْطانَ واللهَ فاعْبُدا (¬4) فقال: "لا تقربنّها" بالنون الشديدة في النهي، وقال: "والله فاعبدا"، فأتى بالنون الخفيفة مع الأمر، ثمَّ وقف فأبدل منها الألفَ. وتقول في الاستفهام: "هل تقولَنَّ ذلك؟ " قال الأعشى [من المتقارب]: 1204 - وهل يَمنَعَنِّي ارتِيَادُ البلادِ ... مِن حَذَرِ الموتِ أنّ يَأتِيَن والأصل دخولها على الأمر والنهي للتوكيد. والاستفهامُ مضارعٌ للأمر؛ لأنّه واجبٌ، وفيه معنى الطلب. فإذا قلت: "هل تفعلنَّ كذا؟ " فإنّك تستدعي منه تعريفَك كما يستدعي الآمِرُ الفعلَ. وكان يونس (¬5) يجيز دخولَ هذه النون في العَرْض، فيقول: "ألا ¬
فصل [أحكامها]
تَنزِلَنَّ"، و"ألا تَقُولَنَّ"؛ لأنّك تعرض، فهو بمنزلة الأمر والنهي؛ لأنَّه استدعاءٌ كما تستدعي بالأمر. وكذلك التمنّي في معنى الأمر أيضًا, لأنّ قولك: "لَيتَكَ تَخرُجَنَّ" بمعنى: "اخرُجَنَّ"؛ لأنّ التمنّي طلبٌ في المعنى، فاعرفه. فصل [أحكامها] قال صاحب الكتاب: ولا يؤكد بها الماضي ولا الحال ولا ما ليس فيه معنى الطلب. وأما قولهم في الجزاء المؤكد حرفه بـ "ما": إما تفعلن. قال الله تعالى: {فإما ترين من البشر أحداً} (¬1) , وقال: {فإما نذهبن بك} (¬2) , فلتشبيه "ما" بلام القسم في كونها مؤكدة. وكذلك قولهم: "حيثما تكونن آتك", و"بجهد ما تبلغنَّ", و"بعين ما أرينك" (¬3). فإن دخلت في الجزاء بغير "ما"؛ ففي الشعر تشببهاً للجزاء بالنهي. ومن التشبيه بالنهي دخولها في النفي, وفيما يقاربه من قولهم: "ربما تقولن ذاك"، و"كثر ما يقولن ذاك". قال [من المديد]: 1205 - ربما أوفيت في علم ... ترفعن ثوبي شمالات * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم القول: إنّ هذه النون لا تدخل إلَّا على مستقبلٍ فيه معنى الطلب؛ لتأكيده وتحقيقِ أمر وجوده. والماضي والحالُ موجودان حاصلان، فلا معنى لطلب حصولِ ما هو حاصلٌ. وإذا امتنع الطلبُ فيه، امتنع تأكيده، فلذلك لا تقول: "لآكُلَنَ"، ولا "لا تأكلنَّ"، ولا "واللهِ لآكلنّ"، وهو في حال الأكل. فهذا امتنع من الحال كان امتناعُه من الماضي أوّلى، ولا تدخل أيضًا على خبر لا طلبَ فيه. فأمّا قولهم. "إمَّا تَفعَلَنَّ أفعَل"، وقوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا} (¬1)، وقوله: {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} (¬2)، فإنّما دخلت النونُ حين دخلت "ما"، و"ما" مُشبَّهةٌ باللام في "لَتفعلنّ". ووجهُ الشبَه بينهما أنّها حرفٌ للتأكيد. وقد اختلفوا في النون مع "إمَّا" هذه: هل تقع لازمةً أو لا؟ فذهب المبرّد إلى أنّها لازمةٌ، ولا تُحذف إلَّا في الشعر تشبيهًا بالأمر والنهي، وذهب أبو عليّ وجماعةٌ من المتقدّمين إلى أنّها لا تلزم. قال: وإذا كانت مع اللام في "لَتفعلنّ" غيرَ لازمة، فهي ههنا أوْلى. وأنشد أبو زيد [من الكامل]: رْعمتْ تُماضِرُ أنّني إمَّا أمُت ... يَسْدُد أُبَينُوها الأصاغِرُ خَلّتي (¬3) وقال الأعشى [من المتقارب]: فإمَّا تَرَيني وَلِي لِمَّة ... فإنّ الحَوادِثَ أوْدَى بها (¬4) فالشاهد فيه كثيرٌ، ومثلُ "إمّا تفعلنّ" "حَيثُمَا تفعلنّ" المعنى واحدٌ، وقد دخلت هذه النون في الخبر وإن لم يكن فيه طلبٌ، وهو قليل. قالوا: "بجهد ما تبلغنّ"، و"بعين ما أرينّك" (¬5). شبّهوا دخولَ "ما" في هذه الأشياء بدخولها في الجزاء، وجعلوا كونَه لا يبلُغ إلَّا بجهد بمنزلة غير الواجب الذي لا يبلغ، وقوله: "بعين ما أرينّك"، أي: أتَحَقَّقُ ذلك، ولا شكّ فيه، فهو توكيدٌ. ودخلت "ما" لأجل التوكيد، وشُبّهت باللام في "لَيفعلنّ"، فأمّا قول الشاعر [من المديد]: ربّما أوفيت ... إلخ البيت لجَذِيمة الأبرش، وربّما وقع في بعض النسخ لعمرو بن هند. والذي حسّن دخولّ النون زيادةُ "ما" مع "رُبَّ" و"ترفعنْ" من جملتها. وصف أنّه يحفظ أصحابَه في رأسِ جبل إذا خافوا من عدوّ، فيكون طَلِيعةً لهم. والعربُ تفخر بهذا؛ لأنّه يدلّ على شَهامة، والعَلَمُ: الجبلُ. والشَّمالاتُ: جمع شَمالٍ من الرياح، وخصّها بذلك لأنّها تهبّ بشدّة في أكثر أحوالها، وجعلها ترفع ثوبَه لإشراف المَرقَبَة التي يَرْبَأ فيها. ¬
وقد تدخل هذه النون مع النفي تشبيهًا له بالنهي؛ لأنّ النهي نفيٌ، كما أنّ الأمر إيجابٌ، فتقول من ذلك: "ما يخرجنّ زيدٌ". قال الشاعر [من الطويل]: وَمِن عِضَةٍ مَا يَنْبُتَنَّ شَكِيرُها (¬1) وقد جاء في النفي بـ "لَمْ" لوجود صورة النفي. قال الشاعر [من الرجز]: 1206 - يَحسبه الجاهلُ مالم يَعْلَما ... شَيْخًا على كُرْسِيّه مُعَمَّما أراد النون الخفيفة، فأبدل منها الألفَ للوقف، وفي ذلك ضعفٌ على أنّ المضارع مع "لم" بمعنى الماضي، والماضي لا تدخله النونُ ألبتّة. وقوله: "وفيما يقاربه" يريد أنّ "قَلَّمَا" لمَّا كُفّت بـ "ما"، ودخلت على الفعل في "قلَّما يفعلُ"، وأُجري نفيًا، وغلب ذلك فيه، ضارَعَ الحرفَ، فلم يقتض الفاعلَ كما لا يقتضيه الحرفُ. ولذلك لا يقع إلَّا صدرًا, ولا يكون مبنيًّا على شيء. فأمّا "كَثُرَ ما يقولنّ ذلك"، فلمّا كان خلافه، أُجرى مجراه كـ"صَدْيانَ" و"رَيَّانَ" ونحوِ ذلك ممّا كثُر تَعدادُه ممّا أجري مجرى خلافه، فاعرفه. ¬
فصل [حذفها]
فصل [حَذْفُها] قال صاحب الكتاب: وطرح هذه النون سائغ في كل موضع إلا في القسم, فإنه فيه ضعيفٌ، وذلك قولك: "والله ليقوم زيدٌ". * * * قال الشارح: قد ذكرنا دخول هذه النون والحاجةَ إليها، وهي في كلِّ ذلك على ثلاثة أضرب: ضربٌ يلزم دخولُ النون فيه ولا يجوز سقوطها، وضربٌ تدخل ولا تلزم، وضربٌ لا تدخل فيه إلَّا على سبيل الضرورة. فأمّا الأوَّل الذي تلزم فيه، فهو أن يكون الفعل في أوّله اللامُ لجواب القَسَم، كقولك: "واللهِ لأقومنّ"، واللامُ لازمة لليمين، والنون لازمةُ اللام لا يجوز طرحُها، فاللائم لازمة للتوكيد. ولو لم تلزم، التبس بالنفي إذا حلف أنّه لا يفعل. ولزمت النونُ لِما ذكرناه من إرادة الفصل بين الحال والاستقبال. وذهب أبو عليّ أنّه يجوز أن لا تلحق هذه النون الفعلَ، قال: ولَحاقُها أكثر، وزعم أنّه رأيُ سيبويه, والمنصوصُ عنه خلافُ ذلك. وأمّا الضرب الثاني. وهو الذي يجوز دخولُها فيه وخروجُها منه، فالأمرُ، والنهيُ، والاستفهامُ، نحو قولك: "اضرِبَنَّ زيدًا"، و"لا تخرجنّ يا عمرُو"، و"هل يقومَنَّ؟ " فإن أثبتَّها فللتأكيد، وَلَكَ أن لا تأتي بها. وأمّا الضرب الثالث: وهو ما لا يجوز دخولها فيه، فالخبرُ، لا يجوز "أنت تخرجنّ" إلَّا في ضرورة شاعر، فاعرفه. فصل [وجوب حذف النون الخفيفة إذا وليها ساكن] قال صاحب الكتاب: وإذا لقي الخفيفة ساكن بعدها, حذفت حذفاً, ولم تحرك كما حرك التنوين, فتقول: "لا تضرب ابنك". قال [من الخفيف]: 1207 - لا تُهين الفقير علَّك أن ... تركع يوماً والدهر قد رفعه ¬
أي: لا تهينن. * * * قال الشارح: اعلم أنّ أمر هذه النون الخفيفة في الفعل كالتنوين في الاسم؛ لأنّ مجراهما واحد؛ لأنّ النون تُمكِّن الفعلَ كتمكين التنوين الاسمَ. ألا ترى أنّ حكمهما واحد في الوقف، فإن كان ما قبل النون مفتوحًا، قلبتَها ألفًا في الوقف، وذلك قولك في "اضرِبَنْ": "اضرِبَا"، وفي "لَيَضرِبَن": "لَيَضرِبَا". قال الله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (¬1). فإن كان ما قبلها مضمومًا أو مكسورًا، حذفتها ولم تُبدِل كما تفعل بالتنوين، فتقول في الوقف على "هل تضربُن": "هل تضربُون"، ولْي الوقف على "هل تضربِن": "هل تضربِين". لمّا وقفتَ، حذفتَ النون الخفيفة، ولم تبدل منها كما أبدلت مع الفتحة؛ لأنّك تقول في الأسماء: "رأيتُ زيدًا"، فتُبدِل الألف في النصب من التنوين، وتقول في الرفع: "هذا زيدُ"، وفي الجرّ": "مررت بزيدِ"، فلا يُبدلون، وإنّما يحذفوها حذفا، كذلك هذه النون. وإذا حُذفت، عاد الفعلُ إلى إعرابه، فالنونُ نظيرهُ التنوين، لا فرق بين النون الخفيفة في الأفعال وبين التنوين في الأسماء، إلَّا أنّ النون تحذف إذا لقيها ساكنٌ بعدها من كلمة أُخرى، والتنوين يُحرَّك لالتقاء الساكنين. وقد يجوز حذفها في الشعر وفي قلّة من الكلام، فتقول إذا أردت النون الخفيفة: "اضرِبَ الرجلَ". ومنه قول الشاعر [من المنسرح]: لا تهين الفقير ... إلخ ¬
والمراد: لا تُهينَن، فحذفها لسكونها وسكونِ ما بعدها. وربّما حُذفت في الشعر، وإنّ لم يكن بعدها ساكنٌ على توهُّم الساكن، نحوَ قولك [من المنسرح]: اِضرِبَ عَنكَ الهُمومَ طارِقَها ... ضَرْبَك بالسيف قَونَسَ الفَرَسِ (¬1) وهذا أمرُ هذه النون، وإنّما حُذفت وخالفت التنوينَ؛ لأنّ ما يلحق الأفعالَ أضعفُ ممّا يلحق الأسماءَ, لأنّ الأسماء هي الأوّلُ، والأفعالُ فروعٌ دَواخِلُ عليها, ولأنّك مخيَّرٌ في النون: إن شئت أتيت بها، وإن شئت لا، إلَّا ما وقع منها مع الفعل المستقبل في القسم، والأسماءُ كلُّها ما ينصرف منها فالتنوينُ لازمٌ لها، فاعرفه. ¬
هاء السكت
ومن أصناف الحرف هاءُ السَّكت فصل قال صاحب الكتاب: وهي التي في نحو قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (¬1). وهي مختصة بحال الوقف، فإذا أدرجت (¬2) قلت: "مالي هلك", "سلطاني خذوه", وكل متحرك ليست حركته إعرابية يجوز عليه الوقف بالهاء, نحو: "ثمَّه", و"ليته", و"كيفه", و"إنه", و"حيَّهله", وما أشبه ذلك. * * * قال الشارح: هذه الهاء للسكت تزاد لبيان الحركة زيادةً مطّردةً في نحو قولك: "فِيمَة"، و"لِمَه"، و" عَمَّه"، والمراد: فيمَ، ولِمَ، وعَمَّ، والأصلُ: فِيمَا, ولِمَا، وعَمَّا. دخلت حروفُ الجرّ على "ما" الاستفهاميّةِ، ثمّ حُذفت الألف للفرق بين الإخبار والاستخبار، وبقيت الفتحةُ تدل على الألف المحذوفة، ثمّ كرهوا أن يقفوا بالسكون، فيزول الدليل والمدلولُ عليه، فأتوا بالهاء لِيقع الوقفُ عليها بالسكون، وتسلمَ الفتحة التي هي دليلٌ على المحذوف. وقد وقف ابن كثير على "عَمَّة" في قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} (¬3) "عمه" بالهاء لِما ذكرناه من إرادة بيان الحركة. ومثلُه "ارْمِهْ"، و"اغزُهْ" و"اخْشَه". زياءت الهاء لبيان حركةِ ما قبلها. وزيادتُها في ذلك على ضربين: لازمة وغيرُ لازمة. فاللازمةُ إذا كان الفعلُ الداخلة عليه على حرف واحد، نخوَ: "عِهْ"، "قِهْ"، "شِه" وغيرُ اللازمة إذا كان ما دخلت عليه على أكثر من حرف واحد، نحوَ ما تقدّم من قولنا: "لمَه"، و"فِيمَهْ"، و"عَمَّهْ"، ونظائره. قال سيبويه (¬4): الأكثرُ في الوقف على "ارمِ"، و"اغْزُ" بالهاء، ومنهم من لا يُلْحِقها ¬
فصل [وجوب تسكينها]
ويُسكَّن الحرف. قال: وأمّا "قِه" ونحوها، فكلمٌ تقف عليها بالهاء، ومظِنّتها أن تقع بعد حركة متوغّلة في البناء، نحوَ: {حِسَابِيَهْ} (¬1)، و {مَالِيَهْ} (¬2)، و {كِتَابِيَهْ} (¬3). وإذا وصلتَ، سقطت هذه الهاءُ من جميع ما ذكرنا؛ لأنّها إنما دخلت شُحًّا على الحركة لئلّا يُزيلها الوقفُ. فأمّا الوصل، فإنّ الحركَة تثبت فيه، فلم تكن حاجةٌ إلى الهاء. ومثّل {مَالِيَهْ}، و {حِسَابِيَهْ}، و"ثَمَّه"، و"إنَّه"، و"لَيْتَهْ"، و"حَيَّهَلَهْ"؛ لأنّها حركات متوغّله في البناء. ولا تدخل هذه الهاء على مُعرَب، ولا على ما تُشبه حركته حركةَ الإعراب، فلذلك لا تدخل على المنادَى المضموم، ولا على المبنيّ مع "لا"، نحوِ: "لا رجلَ"، ولا على الفعل الماضي؛ لشَبَه هذه الحركات بحركات الإعراب. وإذا لم تدخل على المُشابِه للمعرب، فأن لا تدخل على المعرب كان ذلك بطريق الأولى، وذلك من قبل أنّ حركات البناء المحافَظ عليها أقوى من حيث إِنّها تجري مجرى حروف تركيب الكلمة التي لا يُستغنى عنها لا سيّما إذا صارت دلالةً وأمارةً على شيء محذوف، فاعرفه. فصل [وجوب تسكينها] قال صاحب الكتاب: وحقها أن تكون ساكنة، وتحريكها لحنٌ, ونحو ما في إصلاح ابن السكيت (¬4) من قوله [من الرجز]: 1208 - يا مرحباه بحمار عفراء ¬
و [من الرجز] 1209 - يا مرحباه بحمار ناجيه مما لا مُعَرَّجَ عليه للقياس واستعمال الفصحاء. ومعذرة من قال ذلك أنه أجرى الوصل مجرى الوقف مع تشبيه هاء السكت بهاء الضمير. * * * قال الشارح: اعلم أنه قد يُؤتَى بهذه الهاء لبيان حروف المد واللين، كما يؤتى بها لبيان الحركات، نحوَ: "وَا زَيدَاه"، و"وا عَمرَاه" (¬1)، و"وَا غُلامَهُوه"، و"وا انقطاعَ ظَهرِهِيه"؛ لئلاّ يُزيل الوقفُ ما فيها من المدّ. ولا تكون هذه الهاء إلَّا ساكنةً؛ لأنّها موضوعة للوقف، والوقفُ إنّما يكون على الساكن، وتحريكُها لحنٌ وخروجٌ عن كلام العرب؛ لأنه لا يجوز ثباتُ هذه الهاء في الوصل فتحَرِّكَ، بل إذا وصلتَ، استغنيتَ عنها بما بعدها من الكلام. تقول: "وَا زيدَاه"، فإذا وصلتَ قلت: "وا زيدا وعمراه"، فتُلحِق الهاء الذي تقف عليه، وتُسقِطها من الذي تصله، فأمّا قول الشاعر [من الرجز]: يَا مَرْحَباهُ بحِمارِ عَفرَاء فإنّ الشعر لعُرْوَةَ بن حِزام العُذريّ. وقول الآخر [من الرجز]: يا مَرحَباهُ بِحمارِ ناجِيَهْ ¬
فضرورةٌ، وهو رديءٌ في الكلام لا يجوز، وإنّما لمّا اضطُرّ الشاعر حين وصل إلى التحريك؛ لأنّه لا يجتمع ساكنان في الوصل على غير شرطه، حرّكه. وقد رُويت بضمّ الهاء وكسرِها، فالكسرُ لالتقاء الساكنين، والضمُّ على التشبيه بهاء الضمير في نحو: "عَصاهُ"، و"رَحاهُ". وبعد هذا البيت [من الرجز]: إذا أتَى قَرَّبْتُهُ بما شاء ... من الشَّعير والحَشيش والماء ومعناه أنّ عروة كان يُحبُّ عفراءَ. وفيها يقول [من الرجز]: 1210 - يا رَبَّ يا رَبّاهُ إيّاكَ أسَل ... عَفْراءَ يا رَبّاهُ من قَبلِ الأجَلْ فإن عَفْراءَ من الدُّنيا الأمَلْ ثمّ خرج، فلقي حمارًا عليه امرأةٌ، فقيل له: هذا حمارُ عفراءَ، فقال [من السريع]: يا مرحباه بحمار عفراء فرحّب بحمارها لمَحبّته لها، وأعدّ له الشعيرَ والحشيشَ والماءَ. ونظيرُ معناه ¬
قول الآخر [من الوافر]: 1211 - أُحِبُّ لحُبِّها السُّودانَ حتّى ... أُحِبُّ لحُبِّها سُودَ الكِلابِ ويروى بالمد والقصر. فمَن مَدَّ أسكن الهمزة، فكان من خامس السريع، وأجزاؤه: مُستفعِلُن مُستفعِلُن فَعولان، موقوفٌ مخبونٌ، وهو من المترادف، والأبياتُ مهموزة مُرْدَفة. فإن قصرتَه، فهو أيضًا من السريع، إلَّا أنّه من السادس، وأجزاؤه: مُسْتَفْعِلُن مُستفعِلُن فعولُن، مكسوفٌ مخبونٌ، وهو من المتواتر، ورَوِيُّه الألف، والأبياتُ مقصورة. ¬
شين الوقف
ومن أصناف الحرف شِينُ الوقف فصل قال صاحب الكتاب: وهي شين التي تلحقها بكاف المؤنث إذا وقف من يقول: "أكرمتكش"، و"مررت بكش". وتسمى الكشكشة, وهي في تميم, والكسكسة في بكرٍ، وهي إلحاقهم بكاف المؤنث سينًا. وعن معاوية أنه قال يوماً: من أفصح الناس؟ فقام رجل من جرم - وجرمٌ من فصحاء الناس - فقال: قومٌ تباعدوا عن فراتية العراق، وتيامنوا عن كشكشة تميم، وتياسروا عن كسكسة بكر، ليست فيهم غمغمة قُضاعة، ولا طمطمانية حمير, قال معاوية: فمن هم؟ قال. "قومي". * * * قال الشارح: من العرب من يُبْدِل كافَ المؤنّث شينًا في الوقف حِرْصًا على البيان، لأنّ الكسرة الدالّة على التأنيث تخفى في الوقف، فاحتالوا للبيان بأن أبدلوها شينًا، فقالوا: "عَلَيشِ" في "عليكِ"، و"مِنْشِ" في "مِنْكِ"، و"مررت بِشِ" في "بِكِ". وقد يُجرون الوصل مُجرَى الوقف. قال المجنون [من الطويل]: فعَيْناشِ عَيناها وجيدُشِ جِيدُها ... سِوَى أنّ عَظمَ الساقِ مِنْشِ دَقِيقُ (¬1) ومن كلامهم: "إذا أعياشِ جاراتشِ فأقْبِلِي على ذِي بَيْتِشِ" (¬2): أي: إذا أعياكِ جاراتكِ فأقبلي على ذي بَيتِكِ، ويقولون: "ما الذي جاء بِشِ"؟ يريدون: بكِ. وقد قُرىء قوله تعالى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} (¬3): قد جعل رَبُّشِ تَحتَشِ سريًّا (¬4). وقد زادوا على هذه الكاف في الوقف شينًا حرصًا على البيان، فقالوا: "مررت ¬
بِكِش"، و"أعطَيتُكِش". فإذا وصلوا حذفوا الجميع، وهي كَشكَشَةُ بني أسَدٍ وتميمٍ. وأمَّا كَسكَسَةُ بكر، فإنّهم يزيدون على كاف المؤنّث سينًا غيرَ معجمة لِتُبيِّن كسرةُ الكاف، فيؤكَّد التأنيث، فيقولون: "مررت بِكِس"، و"نزلت عليكِس". فإذا وصلوا، حذفوا لبيان الكسرة. فأمّا قول معاوية: فَجَرمٌ بَطنان من العرب أحدهما في قُضاعة -وهو جرم بن زَبّان- والآخرُ في طَيِّىء يوصَفون بالفصاحة. والفُراتيّةُ لغةُ أهل الفُرات الذي هو نهرُ أهل الكوفة. والفُراتان: الفُراتُ ودُجَيلٌ، ويروى: لَخلَخانيّة العراق. واللخلخانيّةُ: العُجمة في المنطق، يُقال: "رجل لخلخانيٌّ"، إذا كان لا يفصُح. وكشكشةُ بني تميم إلحاق الشين كافَ المؤنّث، وكسكسةُ بكر إلحاقُهم السينَ كافَ المؤنّث، وليستا بالفصيحة. والغمغَمَةُ أن لا يَتبيّن الكلامُ، وأصله أصواتُ الثِّيران عند الذعْر، وأصوات الأبطال عند القِتال. وقُضاعةُ أبو حَيّ من اليَمَن، وهو قضاعةُ بن مالك بن سَبَأ. والطُّمطُمانيّةُ أن يكون الكلام مشتبهًا بكلام العَجَم. يقال: "رجلٌ طِمطِمٌ"، أي: في لسانه عجمةٌ لا يفصح. قال عنترة [من الكامل]: 1212 - تأوِي له حِزَقُ النَّعامِ كما أوَت ... حِزَقٌ يَمانِيَةٌ لأعجَمَ طِمطِمِ الحِزقة: الجماعة، والطُّمطُمانيّ بالضمّ مثله، وحِمْيَرٌ أبو قبيلة، وهو حِميَرُ بن سَبَأ بن يَشجُبَ بن يَعرُبَ بن قَحطانَ، ومنهم كانت الملوكُ الأوَلُ. وصف هذا الجَرميُّ قومَه بالفَصاحة، وعدم اللُّكنة، والتباعدِ عن هذه اللغات المستهجَنة، فاعرفه. ¬
حرف الإنكار
ومن أصناف الحرف حرفُ الإنكار فصل قال صاحب الكتاب: وهو زيادة تلحق الآخر في الاستفهام على طريقين: أحدهما أن تلحق وحدها بلا فاصل, كقولك: "أزيدنيه؟ " والثاني أن تفصل بينها وبين الحرف الذي قبلها "إن" مزيدة, كالتي في قولهم: "ما إن فعل" فيقال: "أزيدٌ إنيه؟ " * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذه الزيادة أُتي بها عَلَمًا على الإنكار، وهو حرفٌ من حروف المدّ كالزيادة اللاحقة للنُّدبة. وذلك على معنيين: أحدُهما أن تنْكِر وجودَ ما ذُكر وجوده وتبطِله، كرجلٍ قال: "أتاك زيدٌ"، وزيدٌ ممتنعٌ إتيانُه، فيُنكِر لبطلانه عنده. والوجه الآخر أن تنكِر أن يكون على خلافِ ما ذُكر، كقولك:"أتاك زيدٌ"، فتُنكِر سؤالَه عن ذلك، وزيدٌ من عادته أن يأتيه. قال سيبويه (¬1): إذا أنكرتَ أن يثبت رأيُه على ما ذكر، أو تُنكِر أن يكون رأيُه على خلاف ما ذكر. ومن العرب من يزيد بين الأوّل وهذه الزيادة زيادةٌ تفصل بينهما، وتلك الزيادةُ "إن" التي تزاد للتأكيد في نحوِ [من الكامل]: 1213 - ما إن يَمسُّ الأرضَ إلَّا مَنكِبٌ ... [منهُ وَحَرفُ السَّاقِ طَيَّ المِحْمَلِ] ¬
فصل [معنيا حرف الإنكار]
كأنّهم أرادوا زيادةَ علم الإنكار للبيان والإيضاح، فزادوا "إنْ" أيضًا توكيدًا لذلك المعنى، وذلك قولك في جواب "ضربتُ زيدًا": "زيدًا إنِيهْ"، بقّيت الاسمَ على حاله من الإعراب، وزدتَ بعده "إن" لما ذكَرناه، ثُمّ كسرتَ النون لالتقاء الساكنين على حدّ الكسر في التنوين، فحرفُ المدّ زائدٌ للإنكار، و"إن" لتأكيده، والهاءُ لبيان حرف المدّ، وحرفُ المدّ في الأوّل للإنكار، والهاءُ للوقف، فلذلك قال صاحب الكتاب: هذه الزيادة على طريقين، فاعرفه. فصل [معنيا حرف الإنكار] قال صاحب الكتاب: ولها معنيان: أحدهما إنكار أن يكون الأمر على ما ذكر المخاطب, والثاني إنكار أن يكون على خلاف ما ذكر, كقولك لمن قال: "قدم زيدٌ": "أزيدنيه؟ "، منكراً لقدومه أو لخلاف قدومه, وتقول لمن قال: "غلبني الأمير": "آلاميروه؟ " قال الأخفش: كأنك تهزأ به وتنكر تعجبه من أن يغلبه الأمير. قال سيبويه (¬1): وسمعنا رجلاً من أهل البادية قيل له: أتخرج إن أخصبت البادية, فقال: "أأنا إنيه؟ " منكراً لرأيه أن يكون على خلاف أن يخرج. * * * قال الشارح: قد تقدّم شرح ما في هذا الفصل فيما قبله بما أغنى عن إعادته هنا، وقوله: "آلأميرُوه؟ " الألف ممدودة؛ لأنّ همزة الاستفهام لمّا كانت مفتوحة، ودخلت همزةَ لام التعريف، وكرهوا حذفَها لئلاّ يلتبس الخبر بالاستخبار، قلبوا الثانية، وأقرّوها كما في قوله تعالى: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬2)، وقوله تعالى: {آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} (¬3). وحرفُ الإنكار واوٌ لانضمام الراء قبلها، والهاءُ ساكنة لأنّها للسكت. فأمّا ما حكاه سيبويه من قول البَدَويّ حين قيل له: "أتخرج إلى البادية إن أخصبت؟ " فقال: "أأنَا إنِيه؟ " فجاء على المعنى؛ لأنّ المضمر للفاعل في "تخرج" ¬
فصل [حركة حرف الإنكار]
المخاطب، وحين أنكر رأيَه أن يكون على خلافِ أن يخرج، واستفهم عن ذلك، وصار المخاطب هو المتكلّم، ولم يُمْكِنه أن يأتي بالفاعل وحده، فصله وجاء به على المعنى، فقال. "أأنا إنيه؟ " بالألف الاستفهاميّة والأصليّة. فصل [حركة حرف الإنكار] قال صاحب الكتاب: ولا يخلو الحرف الذي تقع بعده من أن يكون متحركاً, أو ساكناً. فإن كان متحركاً تبعته في حركته, فتكون ألفاً وواواً وياء بعد المفتوح والمضموم والمكسور كقولك في: "هذا عمر": "أعمروه؟ " وفي "رأيت عثمان": "أعثماناه", وفي "مررت بحذام": "أحذاميه؟ " وإن كان ساكناً حرك بالكسر, ثم تبعته كقولك: "أزيدنيه؟ " و"أزيدٌ إنيه؟ ". * * * قال الشارح: يريد أنّ هذه الزيادة مدّةٌ تتبع حركةَ ما قبلها إن كان متحرّكًا, ولم يكن بينهما فاصلٌ. فإن كان مضمومًا، كانت الزيادة واوًا، نحوَ قولك في جواب من قال: "هذا عُمَرُ" مُنْكِرًا: "أعُمَرُوهْ؟ " وإن كان مفتوحًا، كانت الزيادة ألفًا، نحو قولكَ في جواب من قال: "رأيت عثمانَ": "أعثمانَاه؟ " وإن كان مكسورًا كانت ياءً، نحو قولك في جوابِ من قال: "مررت بحَذامِ": "أحَذامِيه؟ " على حدِّ ما يُفْعل بزيادة النُّدبة. وإن كان ما قبل الزيادة ساكنًا، قدّرت الزيادة ساكنةً، ثمّ كسرت الساكنَ الأوّل لالتقاء الساكنين، وجعلتَ الزيادة ياءً من جنس الكسرة، نحوَ قولك في جوابِ من قال: "هذا زيدٌ": "أزيدُنِيه؟ " فالدال مضمومة محكيّة، وحركتُها إعرابٌ، والتنوينُ متحرّك بالكسر، وحركتُها بناءٌ لالتقاء الساكنين، وكذلك النصب والجرّ، نحوُ قولك في "ضربتُ زيدَا": "أزيدَنِيهْ؟ " بفتح الدال، وفي "مررت بزيدٍ": "أزيدِنِيهْ؟ " بكسر الدال. والتنوينُ مكسور لالتقاء الساكنين والمدة بعدها ياءٌ للكسرة قبلها. وكذلك يُفْعَل مع الإنكار بـ "إنْ"، نحوَ قولك في جواب من قال: "هذا زيدٌ": "أزيدٌ إنِيهْ؟ " وفي من قال: "ضربتُ زيدًا"، "أزيدًا إنِيه؟ " وفي الجَرّ: "أزيدٍ إنيهْ؟ " فاعرفه. فصل [محلّ حرف الإنكار] قال صاحب الكتاب: وإن أجبت من قال: "لقيت زيداً وعمراً", قلت: "أزيداً وعمرنيه". وإذا قال: "ضربت عمر", قلت: "أضربت عمراه". وإن قال: "ضربت زيداً الطويل": "أزيداً الطويلاه", فتجعلها في منتهى الكلام. * * *
فصل [ترك حرف الإنكار في الدرج]
قال الشارح: يريد أن محلّ علامة الإنكار آخِرُ الكلام ومنتهاه، ولذلك تقع بعد المعطوف، وبعد المفعول، وبعد النعت، فتقول مُجيبًا لمن قال: "لقيتُ زيدًا وعمرًا": "أزيدًا وعمرَنِيه؟ " فتُسقِطها من الأوّل، وتُثبِتها في المعطوف، وتكسر التنوين لسكون المدّة بعده، وتجعلها ياءً لانكسارِ ما قبلها على ما سبق. وتقول في جواب من قال: "ضربتُ عُمَرَ": "أضربتَ عُمَرَاه؟ " فألحقتَها المفعولَ، ولم تُلحِقها الفعلَ، لأَنّ المفعول منتهى الكلام متّصلًا بما قبله، وعلامةُ الإنكار لا تقع حَشوًا، وتجعلها ألفًا للفتحة قبلها إذ ليس فيه تنوينٌ، وكذلك تقول في جواب من قال: "ضربتُ زيدًا الطويلَ": "أزيدًا الطويلاه؟ " ألحقتَ الهاء الصفةَ؛ لأنّه منتهى اَلكلام وكانت ألفًا للفتحة، فاعرفه. فصل [ترك حرف الإنكار في الدرج] قال صاحب الكتاب: وتترك هذه الزيادة في حال الدرج فيقال: "أزيداً يا فتى؟ " كما تركت العلامات في "مَنْ" حين قلت "من يا فتى؟ ". * * * قال الشارح: قد تقدّم أن مدّة الإنكار من زيادات الوقف، فلا تثبت الوصل، فهي نظيرهُ الزيادة في "مَن" إذا استفهمتَ عن النكرة في الوقف في نحوِ "مَنو"، و"مَنا"، و"مَنِي"، فإذا قيل: "لقيتُ زيدًا"، قيل في جوابه: "أزيدًا يا فتى؟ " تركتَ العلامة من "زيد" لوَصلك إيّاه بما بعده، كما تركتَ حروف اللين في "مَنُو"، و"مَنا"، و"مَنِي" إذا وُصل بما بعده. ولا تدخل هذه العلامةُ في "يا فَتى"؛ لأنّه ليس من حديث المسؤول، فتُنكِرَ ذلك عليه، فقولُك: "يا فتى" يمنع العْلامةَ بمنزلة الطويل، ولا تدخله العلامةُ, لأنّه ليس من الحديث فيتوجّهَ الإنكارُ إليه، فاعرفه.
حرف التذكر
ومن أصناف الحرف حرف التذكُّر فصل قال صاحب الكتاب: وهو أن يقول الرجل في نحو: "قال", و"يقول", و"من العام": "قالا"، فيمد فتحة اللام, و"يقولو" و"من العامي", إذا تذكر ولم يرد أن يقطع كلامه. * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذه المدّة قد تزاد بعد الكلمة أو الحرف إذا أريد اللفظُ بما بعده، ونُسي ذلك المراد، فيقف متذكّرًا, ولا يقطع كلامه؛ لأنّه لم ينته كلامه، إذ غايتُه ما يتوقعه بعده، فيطوّل وقوفَه. فصل [حركة حرف التذكُّر] قال صاحب الكتاب: وهذه الزيادة في اتباع ما قبلها إن كان متحركاً بمنزلة زيادة الإنكار, فإذا سكن حرك بالكسر كما حرك ثمة ثم تبعته. قال سيبويه (¬1): سمعناهم يقولون "إنه قدي" و"ألي" يعني في "قد فعل", وفي الألف واللام إذا تذكر "الحارث" ونحوه, قال: وسمعنا من يوثق به يقول: "هذا سيفني", يريد: سيف من صفة كيت وكيت. * * * قال الشارح: فإن كان قبل المتوقَّع حرفٌ متحرّكٌ، فلا يخلو من أن يكون مفتوحًا أو مضمومًا أو مكسورًا، نحوَ: "قَال" مَثَلًا، و"يَقولُ" و"مِنَ العام". فإن كان مفتوحًا ألحقتَه ألفًا، نحوَ: "قَالا"، وإن كان مضمومًا ألحقتَه واوًا، نحو: "يقولُو"، وفي المكسور ياءً، نحو: "مِن العامِي" إذا تَذكّر، ولم يرد أن يقطع. ¬
فإن كان الحرف الموقوف عليه ساكنًا، نحوَ لام المعرفة في "الغلام" و"الرجل"، فإِنَّكَ تكسرها تشبيهًا بالقافية المجرورة إذا وقع حرفُ رَوِيّها حرفًا ساكنًا صحيحًا، نحوَ قوله [من الكامل]: وَكأن قَدِي (¬1) لأنّ "قَدْ" إذا لقيها ساكنٌ بعدها تُكسَر، نحوَ قولك: "قَدِ احْمَرَّ البُسرُ"، و"قَدِ انطلق الرجلُ". ولو وقعت "من" قافيةً، لأُطلقت إلىَ الفتح، وكان زيادةُ الإطلاق ألفًا. وقد يجوز إطلاقُها إلى الكسر، فتكون الزيادة ياءً لأنّ (¬2) "من" قد تُفْتَح في نحو قولك: "مِنَ الرجل"، وتُكسَر في نحو "مِنِ ابنك". فتقول في القافية المنصوبة: "مَنا" وفي القافية المجرورة:"مَنِي". فعلى هذا تقول في التذكّر: "قَدِى" في "قَدْ قَامَ" أو "قَدْ قَعَدَ". وكذلك كلُّ ساكن وقفتَ عليه، وتذكرتَ بعده كلامًا، فإنّك تكسره وتُشْبع كسرتَه للاستطالة والتذكّرِ، إذا كان ممّا يُكسَر إذا لقيه ساكنٌ بعده. فإن كان الساكن ممّا يكون في وقت مضمومًا، وفي وقت مفتوحًا، ووقفتَ عليه متذكّرًا؛ ألحقتَ ما يكون مضمومًا واوًا، وما يكون مفتوحًا ألفًا، فتقول: "ما رأيته مُذُو"، أي: مذ يومُ كذا, لأنّ "مُذ" إذا لقيها ساكنٌ بعدها، ضُمّت؛ لأنّ الأصل في "مُنْذ" الضمُّ. وتقول: "عجبت مِنا" بألف في "مِن زيد" ونحوه؛ لأنّك تقول: "مِنَ الرجل"، و"مِنَ الغلام"، فتفتحه. ومَن كانت لغتُه الكسرَ نحوَ: "مِنِ الغلام"، قال متذكّرًا: "مِنِي". فحكمُ التذكّر في هذا الباب حكمُ القافية، والجامعُ بينهما أنّ القافية موضع مَدّ واستطالةِ، كما أنّ التذكّر موضع استشرافٍ وتطاوُلٍ إلى المتذكَّر. وحكى سيبويه: "هذا سَيفُني"، يريد: هذا سيفٌ حادٌّ أو ماضٍ أو نحوهما من الصفات، فنَسِيَ، ومَدَّ متذكّرًا إن لم يرد أن يقطع اللفظ، وكان التنوين حرفًا ساكنًا, فكُسر كما كسر ذاك. وقد قال سيبويه: سمعنا من يوثق به يقول ذلك. انتهى الكلام على قسم الحروف، وهو القسم الثالث، ويتلوه المشترَكُ. والحمد لله ربّ العالمين، ولا حول ولا قوّة إلَّا باللهِ العليّ العظيم. ¬
القسم الرابع: في المشترك
القسم الرابع: في المُشتَرَك فصل قال صاحب الكتاب: المشترك, نحو: الإمالة, والوقف, وتخفيف الهمزة, والتقاء الساكنين, ونظائرها مما يتوارد فيه الأضرب الثلاثة أو اثنان منها. وأنا أورد ذلك في هذا القسم على نحو الترتيب المار في القسمين، معتصماً بحبل التوفيق من ربي بريئاً من الحول والقوة إلا به. * * * قال الشارح: هذا القسم الرابع آخِرُ أقسام الكتاب، وهو أعلاها وأشرفُها إذ كان مشتملًا على نُكت هذا العلم وتصريفه، وأكثرُ الناس يضعف عن الإحاطة به لغموضه، والمنفعةُ به عامّةٌ. وقد سمّاه المشترك؛ لأنّه قد يشترِك فيه القُبُلُ الثلاث -أعني الاسم والفعل والحرف- أو اثنان منها. وفي تسميته بالمشترك نظرٌ؛ لأن المشترك اسمٌ مفعولٌ، وفعلُه "اشتَرَكَ"، ولا مفعولَ له إذ كان لازمًا, ولا يُبنَى من اللازم فعلٌ للمفعول، إلاّ أن يكون معه ما يقام مقام الفاعل من جارّ ومجرور أو ظرف أو مصدر. وأحملُ ما يُحمَل عليه أن يكون أراد المشترك فيه، وحذف حرفَ الجرّ، وأسند اسم المفعول إلى الضمير، فصار مرفوعًا به. وأمّا أن يكون قد حذف الجارّ والمجرور معًا، فليس بالسهل؛ لأنّ ما أقيمَ مقام الفاعل يجري مجرى الفاعل، فكما لا يحسن حذفُ الفاعل كذلك لا يحسن حذفُ ما أقيم مقامه، وقال: وذلك نحو الإمالة، والوقف، وتخفيف الهمزة، والتقاء الساكنين، فإنّ هذه الأشياء تتوارد على الاسم والفعل والحرف. فالإمالةُ تكون في الاسم نحو: "عماد"، و"كتاب"، وفي الفعل نحو: "سَعى"، و"رَمى". وقد جاءت في الحرف أيضًا نحو "بَلى"، و"يا" في النداء. وكذلك الوقف، فإنّه يكون في الاسم والفعل والحرف. وكذلك تخفيف الهمزة، والتقاء الساكنين على ما سيَرِد في موضعه إن شاء الله.
الإمالة
ومن أصناف المشترك الإمالةُ فصل [ماهيتُها] قال صاحب الكتاب: يشترك فيها الاسم والفعل. وهي أن تنحو بالألف نحو الكسرة؛ ليتجانس الصوت، كما أشربت الصاد صوت الزاي لذلك. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الإمالة مصدرُ "أَمَلتُهُ أمِيلُه إمالَة". والمَيلُ: الانحراف عن القصد، يقال منه: "مال الشيءُ"، ومنه "مال الحاكمُ" إذا عدل عن الاستواء. وكذلك الإمالةُ في العربية عدولٌ بالألف عن استوائه، وجنوحٌ به إلى الياء، فيصير مخرجه بين مخرج الألف المفخَّمة، وبين مخرج الياء. وبحسب قُرْب ذلك الموضع من الياء تكون شدّةُ الإمالة، وبحسب بُعده تكون خفّتُها. والتفخيمُ هو الأصل، والإمالةُ طارئةٌ، والذي يدلّ أنّ التفخيم هو الأصل أنّه يجوز تفخيم كل مُمال، ولا يجوز إمالةُ كل مفخَّم. وأيضًا فإنّ التفخيم لا يحتاج إلى سبب، والإمالةُ تحتاج إلى سبب. والإمالة لغةُ بني تميمِ، والفتحُ لغةُ أهل الحجاز، قال الفرّاء: أهلُ الحجاز يفتحون ما كان مثلَ "شاء"، و"خاف"، و"جاء"، و"كادَ"، وما كان من ذوات الياء والواو. قال: وعامّةُ أهل نَجْد من تميم وأسد وقيس يسرون إلى الكسر من ذوات الياء في هذه الأشياء، ويفتحون في ذوات الواو مثلِ: "قال" و"جالَ". والمُمال كثيرٌ في كلام العرب، فمنه ما يكون في كثرة الاستعمال تفخيمُه وإمالتُه سواءً، ومنه ما يكون أحدُ الأمرين فيه أكثر وأحسنَ. وكان عاصمٌ يُفرِط في الفتح، وحمزةُ يفرط في الكسر. وأحسنُ ذلك ما كان بين الكسر المُفرِط، والفتح المفرط. والغرضُ من الإمالة تقريبُ الأصوات بعضِها من بعض لضربِ من التشاكل، وذلك إذا ولي الألفُ كسرةً قبلها أو بعدها، نحو: "عِماد"، و"عالِم"، فيُميلوَن الفتحة قبل الألف إلى الكسرة، فيميلون الألف نحو الياء. فكما أنّ الفتحة ليست فتحة محضة، فكذلك الألفُ التي بعدها؛ لأنّ الألف تابعةٌ للحركة، فكأنّها تصير حرفًا ثالثًا بين الألف والياء. ولذلك عدّوها مع
[أسبابها]
الحروف المستحسنة حتى كملت حروفُ المُعْجَم خمسةً وثلاثين حرفًا. كأنّهم فعلوا ذلك هنا كما فعلوا في الادغام، وقرّبوا بعضَها من بعض، نحو قولك في "مَصدَرِ": "مَزْدَرٌ"، فقرّبوا الصاد من صوت الزاي ليتناسب الصوتان، ولا يتنافرا. وذلك أن الصاد مُقارِبةُ الدال في المخرج، وبينهما مع ذلك تنافٍ وتباينٌ في الأحوال والكيفيّة. وذلك أنّ الصاد مهموسة، والدال مجهورة، والصاد مستعلِية مُطْبقة، والدال ليست كذلك، والصاد رِخوَةٌ، والدال شديدة، والصاد من حروف الصغير, والدال ليست كذلك. فلمّا تَباينا في الأحوال هذا التباينَ، أرادوا أن يفرقوا بينهما في بعض الأحوال على حدّ تقاربهما في المخرج استثقالًا لتحقيق الصاد مع الدال مع ما ذكرناه من المباينة، فأبدلوا من الصاد الزاء لأنّها من مخرجها، وهما من حروف الصفير, وتُوافِق الدال في الجَهْر، فيتناسب الصوتان ولا يختلفان. ونحو ذلك قراءةُ من قرأ: {زِراط} (¬1) في {صِراط}. وقالوا: "لم يُحْرَمْ من فزدَ له" (¬2) والمراد: "فُصِدَ"؛ لأنّ العرب كانت إذا جاء أحدَهم ضَيْفٌ، ولم يحضرهم قِرَى فصدوا بعضَ الإبل، وشرب الضيفُ من ذلك الدمِ، فلم يُحْرَم؛ لأنّه وجد ما يسُدّ مَخْمَصَتَه. وكذلك في الإمالة قرّبوا الألف من الياء؛ لأنّ الألف تطلب من الفم أعلاه، والكسرة تطلب أسفلَه وأدناه، فتنافرا. ولمّا تنافرا، أُجنحت الفتحةُ نحو الكسرة، والألفُ نحو الياء، فصار الصوتُ بين بين، فاعتدل الأمرُ بينهما، وزال الاستثقالُ الحاصل بالتنافر، فاعرفه. [أسبابها] قال صاحب الكتاب: وسبب ذلك أن تقع بقرب الألف كسرة أو ياءٌ، أو تكون هي منقلبة عن مكسورة أو ياء أو صائرة ياء في موضع، وذلك نحو قولك "عماد" (¬3) , و"شملال" و"عالم" و"سيال" و"شيبان" و"هابَ" و"خاف" و"ناب" و"رمى" و"دعا" لقولك: دعى ومعزى وحبلى لقولك معزيان وحبليان. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الإمالة لها أسبابٌ. وتلك الأسبابُ ستةٌ، وهو أن يقع بقرب الألف كسرةٌ، أو ياءٌ قبله، أو بعده، أو تكون الألف منقلبة عن ياء، أو كسرة، أو مُشبِهة للمنقلب، أو يكون الحرف الذي قبل الألف يُكْسَر في حال وإمالته لإمالته. فهذه أسبابُ الإمالة، وهي من الأسباب المُجوِّزة، لا المُوجِبة. ألا ترى أنّه ليس في العربيّة سببٌ ¬
يوجب الإمالةَ لا بدّ منها، بل كلُّ مُمال لعلّةٍ، فلَكَ أن لا تُميله مع وجودها فيه، ونحو ذلك ممّا هو علّةٌ للجواز الواوُ إذا انضمّت ضمًّا لازمًا، نحو: "وُقِّتت"، و"أُقِّتت"، و"وُجُوهٌ"، و"أجُوهٌ"، فانضمامُ الواو أمرٌ يُجوِّز الهمزةَ، ولا يُوجِبها. فمثالُ الأوّل وهو ما أُميل للكسرة قولك في "عِمَادٍ": "عِمادٌ" وفي "شِمْلَالٍ": "شِملالٌ" وفي "عَالِم": "عالِمٌ". فالكسرةُ في "عِماد" هي التي دعتْ إلى الإمالة؛ لأنّ الحرف الذي قبل الألف، وهو الميمُ، تُمال فتحتها إلى الكسرة؛ لأجل انكسار العين في "عماد"، وكذلك "شِمْلال" تُميل فتحةَ اللام منه لكسرة شين "شِمْلالٍ"، ولا يُعتدّ بالميم فاصلةً لسكونها، فهي حاجزٌ غيرُ حصين، فصارت كأنّها غيرُ موجودة، فإذًا قولك: "شملال" كقولك: "شِمالٌ". وإذا كانوا قد قالوا: "صبغت" في "سبغت" فقلبوا السين صادًا مع قوّة الحاجز لتحرُّكه، وقالوا: "صراط" والأصل: "سراط" فلأَنْ يجوز فيما ذكرناه كان أولى. وقالوا: "عالمٌ"، فأمالوا للكسرة بعدها، كما أمالوا للكسرة قبلها، إلَّا أنّ الكسرة إذا كانت متقدّمة على الألف، كانت أدعى للإمالة منها إذا كانت متأخّرة. وذلك أنّها إذا كانت متقدّمة، كان في تقدّمها تسفّلٌ بالكسرة، ثمّ تصعد إلى الألف. وإذا كانت الكسرة بعد الألف، كان في ذلك تسفّلٌ بعد تصعّدٍ. والانحدارُ من عالٍ أسهلُ من الصعود بعد الانحدار، وإن كان الجميع سببًا للإمالة. واعلم أنّه كلّما كثرت الكسراتُ، كان أدعى للإمالة لقوّة سببها. ومتى بعدت عن الألف، ضُعفت؛ لأنّ للقُرب من التأثير ما ليس للبُعْد. ولاجتماع الأسباب حكمٌ ليس لانفرادها، فإذا الإمالةُ في "جِلِبّاب" أقوى من إمالة "شِمْلال"؛ لأن الكسرتين أقوى من الكسرة الواحدة. وإمالةُ "عماد" أقوى من إمالة "شملال"؛ لقرب الكسرة من الألف. وإمالة "شملال" أقوى من إمالة "أكلتُ عِنَبا"؛ لقوّة الحاجز بالحركة. وإمالةُ "أكلت عنبا" أقوى من إمالة "دِرْهَمانِ"؛ لأنّ بين كسرة الدال من "درهمان" وبين الألف منها ثلاثةَ أحرف. فلمّا كانت الكسرة أقرب إلى الألف، فالإمالةُ له ألزمُ، والنصب فيه جائزٌ. وكلّما كثُرت الكسرات والياءات كانت الإمالة فيه أحسن من النصب. وقالوا: "شَيبانُ"، و"قَيْسُ عَيْلانَ"، و"شوكُ السَّيالِ"، وهو شجرٌ، و"الضَّياح"، وهو لَبَنٌ، فأمالوا ذلك لمكان الياء. وقالوا: "رأيت زيدًا"، فأمالوا، وهو أضعفُ من الأوّل؛ لأنّ الألف بدلٌ من التنوين، وأهلُ الحجاز لا يميلون ذلك ويفتحونه. فأمّا الياء الساكنة إذا كان قبلها حركةٌ من جنسها، نحو: "ديباج" و"دِيماس"، فإنّ الإمالة فيه أقوى من إمالتها، إذا لم يكن ما قبلها حركة من جنسها من نحو: "شيْبانَ"، و"عَيْلانَ"؛ لأنّ الأوّل فيه سببان: الكسرةُ والياء، والثاني فيه سببٌ واحدٌ.
فصل [شرطها]
والإمالةُ للياء الساكنة من نحو: "شيبان"، و"عيلان" أقوى من الإمالة للياء المتحرّكة من نحو "الحَيَوان"، و"المَيَلان"؛ لأنّ الساكنة أكثرُ لِينًا واستثقالًا، فكانت أدعى للإمالة. والإمالةُ للياءَين نحو: "كَيال"، و"بَيّاع" أقوى من الياء الواحدة، نحو: "البَيان"، و"شوكِ السَّيالِ"؛ لأنّ الياءين بمنزلة علّتَيْن وسببَيْن. وإمالةُ ما الياء فيه مُجاوِرةٌ للألف من نحو "السَّيال"، والبَيان أقوى من إمالة ما تباعدتْ عنه. ومن ذلك ما كانت ألفه منقلبة عن ياء أو مكسورٍ. فمثالُ الأوّل قولك في الاسم: "نابٌ"، و"عابٌ" وفي الفعل "صارَ بمكان كذا وكذا"، و"باعَ"، و"هابَ"، إنّما أُميلت ها هنا لتدلّ أنّ الأصل في العين الياء، وأنّها مكسورة في "بِعت"، و"صِرْت"، و"هِبْت"، إلاّ أنّ الكسر في "بِعْت"، و"صِرْت" ليس بأصلٍ، وهو في "هاب" أصلٌ، وكذلك إن كان من "فَعِلَ" بكسر العين، وألفُه منقلبة من واو، نحو: "خاف زيدٌ من كذا". فأمّا "مِعْزَى"، و"حُبْلَى" فيسوغ فيهما الإمالةُ؛ لقولك: "حُبْلَيَانِ"، و"مِعْزَيانِ" وسيوضح أمرُهمْا بأكشفَ منْ هذا البيان. فصل [شرطها] قال صاحب الكتاب: وإنما تؤثر الكسرة قبل الألف إذا تقدمته بحرف كـ "عماد"، أو بحرفين أولهما ساكن كـ "شملال"، فإذا تقدمت بحرفين متحركين أو بثلاثة أحرف كقولك: "أكلت عنباً" و"فتلت قنباً" لم تؤثر, وأما قولهم يريد أن ينزعها ويضربها، وهو عندها، وله درهمان، فشاذٌ, والذي سوغه أن الهاء خفية فلم يعتد بها. * * * قال الشارح: يريد أنّ الكسر من مقتضيات الإمالة وإن كان بين الألف والكسرة حرفٌ متحرّكٌ، نحو: "عِماد"، و"جِبال"؛ لأنّ الميم من "عماد" مفتوحةٌ، والفتحةُ أيضًا تُمال إلى الكسرة لإماْلة الألف, فكأنّها من الألف وليست شيئًا غيره. وكذلك لو فصلتَ بينهما بحرفَيْن: الأوّلُ منهما ساكنٌ، نحو: "سِرْبال"، و"شِمْلال"؛ لأنّ الساكن لا يحْفَل به، وأنّه ليس بحاجز قويِّ، فصار كأنّك قلت، "سِبال"، وْ"شِمال". ومثله: "هو مِنّا"، و {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} (¬1) الإمالةُ فيه جيّدةٌ. وكذلكْ قالوا: "صَويقٌ"، وهم يريدون سَوِيقًا، فقلبوا السين صادًا للقرب من القاف، وبينهما حرفان الأوّل متحرّكٌ، والثاني ساكنٌ. وفي الجملة كلّما كانت الكسرة أو الياء أقربَ إلى ألفه، فالإمالةُ ألزمُ له، والنصبُ فيه جائزٌ. ¬
فصل [إجراء الألف المنفصلة مجري المتصلة والكسرة العارضة مجري الأصلية في الإمالة]
فإن كان الفاصل بينهما حرفَيْن متحرَّكَين، نحو قولك: "أكلتُ عِنَبَا" و"فتلتُ قِنَّبَا"، لم تسغ الإمالةُ؛ لتباعُد الكسرة من الألف، فأمّا قولهم: "يريد أن ينزِعَها، وأن يضرِبَها" فقليلٌ. والذي سوّغه أنَ الهاء خفيّةٌ، فكانت كالمعدومة، فصار اللفظ كأنّه "يريد أن يَنْزِعا"، و"أن يَضرِبا"، فأمالوا الألف للكسرة، كما أمالوها في "عماد"، فلذلك لا تمال في نحو"لم يعلما"؛ لعدم الكسرة. فأمّا قولهم: "له دِرْهَمانِ"، فأمالوا ها هنا أيضًا، وهو قليل. والذي حسّنه كونُ الراء ساكنةً، فلم يكن حاجزًا حصينًا، والهاء خفيّةٌ، فهي كالمعدومة لخفائها. وقد تقدّم الكلام عليها في فصل الاسم، وليس شيءٌ من ذا تمال ألفُه في الرفع، فلا يقال: "هو يَضْرِبُها" ولا "يَقتُلُها"، وذلك أنّه وقع بين الألف والكسرة ضمّةٌ، فصارت حاجزًا، فاعرفه. فصل [إجراء الألف المنفصلة مجري المتصلة والكسرة العارضة مجري الأصلية في الإمالة] قال صاحب الكتاب: وقد أجروا الألف المنفصلة مجرى المتصلة، والكسرة العارضة مجرى الأصلية، حيث قالوا درست علماً ورأيت زيداً ومررت ببابه وأخذت من ماله. * * * قال الشارح: يريد أنّهم أجروا المبدلة من التنوين مجرى ما هو من نفس الكلمة، وجعلها منفصلة من الاسم؛ لأنّها ليست لازمة، إذ كانت من أعراض الوقف، فتُمِيلها، نحو قولك: "درست عِلْما"، و"رأيت زَيدا"، كما تقول: "عِماد"، و"شَيْبان". وقالوا: "أخذت من ماله" و"وقفت ببابِه"، فأمالوا الألف لكسرة الإعراب، وهي عارضةٌ، تزول عند زوال عاملها، وحدوثِ عاملِ غيرِه، لكنّهم شبّهوها بكسرة عين "فاعِلِ" بعد الألف. وذلك أنّ الغرض من الإمالة إنّما هو مشاكَلةُ أجراس الحروف، والتباعدُ من تَنافيها، وذلك أمرٌ راجعٌ إلى اللفظ، لا فرقَ فيه بين العارض واللازم، إلَّا أنّ الإمالة في نحو "عائِدٍ"، و"سالِمٍ"، و"عِمادٍ" أقوى من الإمالة هنا؛ لأنّ الكسرة هناك لازمةٌ، وهي في "مالِهِ" و"بابِهِ" عارضةٌ. ألا ترى أنّها تزول في الرفع والنصب، والرفعُ والنصبُ لا إمالةَ فيه كما لاْ إمالة في "آجُرٌ"، و"تابَلٌ"؟ فاعرفه. فصل [إمالة الألف التي في آخر الكلمة] قال صاحب الكتاب: والألف الآخرة لا تخلو من أن تكون في اسم أو فعل، وأن تكون ثالثة, أو فوق ذلك. فالتي في الفعل تمال كيف كانت، والتي في الاسم
إن لم يعرف انقلابها عن الياء لم تمل ثالثة، وتمال رابعة, وإنما أميلت "العلا" لقولهم: "العليا". * * * قال الشارح: الألف إذا كانت في آخر الكلمة، فلا تخلو من أن تكون منقلبة عن واو أو ياء. فإن كانت منقلبة من ياء في اسم أو فعل، فإمالتُها حسنةٌ، وذلك قولك في الفعل: "رَمى"، "قَصى"، "سَعى"، وفي الاسم "فَتى"، و"رَجى"؛ لأنّ اللام هي التي يُوقَف عليها، وإن كانت من الواو. فإن كان فعلًا، جازت الإمالة فيه على قُبح، نحو قولك: "غَزا"، "دَعا"، "عَدا"؛ لأنّ هذا البناء قد يُنْقل بالهمزة إلى "أَفْعَلَ"، فيصير واوه ياءً؛ لأنّ الواو إذا وقعت رابعةً، صارت ياءً، نحو: "أَغْزَيْتُ"، "وأَدْعَيْتُ"، فتقول: "أَغْزى"، "وأدْعى" بالإمالة. وأيضًا فإنّه قد يُبنى لِما لم يسمّ فاعلْه، فيصير إلى الياء، نحو: "غُزِىَ"، و"دُعِيَ"، فتخيّلوا ما هو موجود في الحكم موجودًا في اللفظ. فإن كان اسمًا، نحو: "عَصًا"، و"قَفًا"، و"رَحًا"، لم تُمَلْ ألفه؛ لأنّها لا تنتقل انتقال الأفعال؛ لأنّ الأفعال تكون على "فَعَلَ"، و"أَفْعَلَ"، و"اسْتَفْعَلَ"، و"فَعَّلَ". والأسماء لا تتصرّف هذا التصرّفَ، فلا يكون فيها إمالةٌ. هذا إذا كانت ثالثةً، فأمّا إذا كانت رابعةً طرفًا، فإمالتُها جائزةٌ، وهي التي تختار. ولا تخلو من أن تكون لامًا أو زائدةً، فإذا كانت لامًا، فلا تخلو من أن تكون منقلبة من ياء من نحو: "مَرْمًى"، و"مَسْعًى"، و"مَلْهًى"، و"مَغْزَى". فأمّا "مرمًى" و"مسعًى"، فهو من "رَمَيْتُ"، و"سَعَيْتُ"، و"ملهًى"، و"مغزًى"؛ فإنّهما وإن كانا من "لَهَوْتُ"، و"غَزَوْتُ"، فإنّ الواو ترجع إلى الياء لوقوعها رابعةً. ولذلك تظهر في التثنية، فتقول: "مِلْهَيان"، و"مَغزَيانِ". وكلّما ازدادت الحروفُ كثرةً، كانت من الواو أبعدَ، أو تكون الألفُ زائدة للتأنيث، أو للإلحاق. وحَقُّ الزائد أن يُحْمَل على الأصل، فيُجْعَل حكمه حكم ما هو من الياء، إذ كانت ذواتُ الواو ترجع إلى الياء، إذا زادت على الثلاثة. وذلك نحو "حُبْلَى" و"سَكْرَى"، الإمالةُ فيهما سائغةٌ؛ لأنّ الألف في حكم الياء. ألا ترى أنّها تنقلب ياءً في التثنية، نحو قولك: "حبليان"، و"سكريان"، وفي الجمع السالم، نحو: "حبليات"، و"سكريات". ولو اشتققتَ منهما فعلًا، لكان بالياء، نحو: "حبليتُ"، و"سكريتُ". وكذلك ما زاد من نحو: "سَكارى" و"شُكَاعى". فأمّا المُلْحَقة من نحو "أَرْطَى" و"مَعْزًى"، و"حَبَنْطًى"، فكذلك. ألا تراك تقول في التثنية: "أَرْطَيَان"، و"مِعْزَيانِ"، و"حَبَنْطَيانِ". كلُّ هذا يرجع إلى الياء، ولذلك يُمال، فهذا حكمُ الألف إذا كانت رابعة مقصورة، أو على أكثر من ذلك، اسمًا كانت أو فعلًا. وإنّما أميلت "العُلَى"، وهو اسمٌ على ثلاثة أحرف من الواو؛ لقولهم: "العُلْيَا"، فالألفُ التي في "العُلَى" تلك الياء التي في "العُلْيَا"، لكنّه لمّا جُمع على الفُعَل، قُلبت الياء ألفًا، فهو كقولهم: "الكُبَر" من "الكُبْرَى"، و"الفُضَل" من "الفُضْلَى"، فاعرفه.
فصل [إمالة الألف المتوسطة]
فصل [إمالة الألف المتوسطة] قال صاحب الكتاب: والمتوسطة إن كانت في فعل يقال فيه: "فعلت" كـ "طاب", و"خاف", أُميلت ولم ينظر إلى ما انقلبت عنه. وإن كانت في اسم نظر إلى ذلك فقيل: "نابٌ" ولم يقل: "بابٌ" (¬1). * * * قال الشارح: الألف المتوسّطة إذا كانت عينًا، فلا تخلو من أن تكون من واو أو ياء. فإذا كانت منقبلة من ياء، ساغت الإمالةُ فيها في اسم كانت، أو فعل، فتقول في الاسم: "نابٌ"، و"عابٌ"؛ لأنّهما من الياء؛ لقولهم في جمع نابٍ: "أَنْيابٌ". و"عابٌ" بمعنى "العَيْب". وتقول في الفعل "باتَ"، و"صارَ إلى كذا"، و"هاَبَ". وإنّما أُميلت هنا لتدلّ على أنّ العين من الياء، ولأنّ ما قبلها ينكسر في "بِتُّ"، و"صِرْتُ" و"هِبْتُ". وإذا كانت منقلبة من واو، فإن كان فعلًا على فَعِلَ كـ "عَلِمَ"، جازت الإمالةُ، نحو قولك: "خافَ"، و"ماتَ" في لغةِ من يقول: "مَاتَ يَمَاتُ"؛ لأنّ ما قبل الألف مكسورٌ في "خِفْتُ" و"مِتُّ". ومن قال: "مَاتَ يَمُوتُ"، لم يُجِز الإمالةَ في قوله. وكذلك في نظائره من نحو: "قال"، و"قام". وقرأ القرّاء: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي} (¬2)، إلاّ أنّه فيما كان من الياء أحسنُ؛ لأنّ فيه علّتَيْن: كونُه من الياء - وهو مكسورٌ في "هِبْتُ" و"بِعْتُ"، وليس في ذوات الواو إلاّ علّةٌ واحدةٌ، وهو الكسرُ لا غير. فأمّا إذا كانت بنات الواو على "فَعَلَ"، أو "فَعُلَ" لم تُمَلْ، فعلًا كانت أو اسمًا، فالفعلُ "قال"، و"طال"، والاسمُ "بابٌ"، و"دارٌ"، إذ كانت العين واوًا, وليست بفَعِلَ كـ "خِفْتُ"، كأنّهم يفرقون بين ما "فعلتُ" منه مكسورُ الفاء، نحو: "خِفْتُ"، و"نِمْتُ" وبين ما فعلتُ منه مضموم الفاء، نحو: "قُلْتُ"، و"طُلْتُ". وليس ذلك في الأسماء. فصل [إمالة الألف لألف مُمالة قبلها] قال صاحب الكتاب: وقد أمالوا الألف لألف ممالة قبلها. قالوا: "رأيت عمادا ومعزانا" (¬3). * * * ¬
فصل [الأحرف التي تمنع الإمالة]
قال الشارح: وقد أمالوا الألف لألف ممالة قبلها، فقالوا: "رأيت عِمادا ومِعْزانا"، و"حسبتُ حِسابا"، و"كتبتُ كِتابا"، أجروا الألف الممالة مجرى الياء لقُرْبها منها، فأجنحوا الألفَ الأخيرةَ نحو الياء، والفتحةَ قبلها نحو الكسرة، كما فعلوا ذلك فيما قبلها من الألف والفتحة، والغرضُ من ذلك تناسبُ الأصوات وتقاربُ أجراسها، فاعرفه. فصل [الأحرف التي تمنع الإمالة] قال صاحب الكتاب: وتمنع الإمالة سبعة أحرف وهي الصاد والضاد والطاء والظاء والغين والخاء والقاف إذا وليت الألف قبلها أو بعدها، إلا في باب "رمى" و"باع" فإنك تقول فيهما طاب وخاف وصغى وطغى (¬1) وذلك نحو صاعد وعاصم وضامن وعاضد وطائف وعاطس وظالم وعاظل وغائب وواغل وخامد وناخل وقاعد وناقف (¬2). أو وقعت بعدها بحرف أو حرفين كناشط ومفاريص وعارض ومعاريض وناشط ومناشيط وباهظ ومواعيظ ونابغ ومباليغ ونافخ ومنافيخ ونافق ومعاليق (¬3). * * * قال الشارح: هذه الحروف من موانع الإمالة، وهي تمنع الإمالة على أوصاف مخصوصة. وإنّما منعت الإمالة؛ لأنّها حروفٌ مستعلِيَةٌ، ومعنى الاستعلاء أن تصعد إلى الحَنَك الأَعْلى، إلَّا أنّ أربعة منها تستعلي بإطباقٍ، وهي الصاد والضاد والطاء والظاء. ومعنى الإطباق أن ترفع ظهرَ لسانك إلى الحنك الأعلى، فينطبق على ما حاذاه من ذلك. وثلاثةٌ منها مستعليةٌ من غير إطباق، وهي العين والخاء والقاف. والألف إذا خرجتْ من موضعها، اعتلت إلى الحنك الأعلى، فإذا كانت مع هذه الحروف المستعلية، غلبتْ عليها كما غلبت الكسرةُ والياء عليها، إذ معنى الإمالة أن يقرب الحرفُ ممّا يُشاكِله من كسرة أو ياء. فإذا كان الذي يشاكل الحرفَ غيرَ ذلك أملته بالحرف إليه. وهذه الحروفُ منفتحةُ المَخارج، فلذلك وجب الفتحُ معها، ورُفضت الإمالة هنا من حيث اجتُلبت فيما تقدّم، فمن المواضع التي تُمْنَع فيها الإمالة أن تكون مفتوحةً قبل الألف، نحو: "صاعِدٍ"، و"ضامن"، و"طائف"، و"ظالم"، و"غائب"، و"خامد"، و"قاعد". فهذه الألف في جميع ما ذكرناه منصوبةٌ غيرُ ممالة؛ لما ذكرناه من إرادة تجانُس ¬
الصوت لا سيّما وهي مفتوحةٌ، والفتحُ ممّا يزيدها استعلاءً. قال سيبويه (¬1): لأنّها إذا كانت ممّا يُنْصَب مع غير هذه الحروف، لزمها النصبُ مع هذه الحروف، قال: ولا نعلم أحدًا يُمِيل هذه الألفَ إلَّا من لا يوثَق بعربيّته، وكذلك إذا كان حرفٌ من هذه الحروف بعد الألف، يريد أنّ النصب كان جائزًا فيها مع سبب الإمالة، فهو مع هذه الحروف لازمٌ، وذلك قولك: "عاصمٌ"، و"عاضدٌ"، و"عاطلٌ"، و"واغلٌ"، و"ناخلٌ"، و"ناقفٌ"، فهذا كلُّه غيرُ ممال. وقد شبّهه سيبويه (¬2) بقولهم: "صبقت" في "سبقت"، حيث أرادوا المشاكلة والعملَ من وجه واحد، إذ كانت السين مهموسة، والقافُ مجهورة مستعلية، فقاربوا بينهما بأن أبدلوا منها أقربَ الحروف إليها، وهي الصاد, لأنّها تُقارِبها في المخرج والصفير، وتقارب القافَ في الاستعلاء، وإن لم تكن مثلها في الإطباق. وكذلك إن كانت بعد الألف بحرف، نحو: "ناشص"، وهو المرتفعُ، يقال: "نشص نشوصًا"، أي: ارتفع. و"عارضٌ"، وهو السحاب المعترض في الأُفْق، والعارضُ: النابُ، والضَّرْسُ الذي يليه. و"ناشطٌ" من قولهم: "نشِط الرجلُ ينشَط نَشاطًا"، وهو كالمَرَح. و"باهظ" من قولهم: "بَهَظَهُ الحِمْلُ"، يقال: "شيءٌ باهظٌ"، أي: شاقٌّ، و"نابغٌ" من قولهم: "نَبَغَ"، أي: ظَهَرَ، و"نافخٌ"، و"نافقٌ" فاعلٌ من "نَفَقَ البَيْعُ"، أي: راجَ. فهذا وما كان مثله نصبٌ غيرُ مُمال، ولا يمنعه الحاجزُ بينهما من ذلك كما لم يمنع السينَ من انقلابها صادًا الحرفُ، وهو الباء في قولك: "صبقت" في معنى "سبقت". ولا يميل ذلك أحدٌ من العرب إلَّا من لا يوثق بعربيّته، هذا نصُّ سيبويه. وكذلك إن كان الحاجز بينهما حرفَيْن، نحو: "مَفارِيصَ"، وهو جمعُ "مِفْرَاصٍ" لِما يُقْطَع به، و"مَعاريِضَ" وهو التَّوْرِيَةُ بالشيء عن الشيء، وفي المَثَل "إنّ في المعاريض لَمندوحةً عن الكذب" (¬3). و"مَناشِيط" وهو جمع "مَنْشوطٍ"، من "نَشَطَ العُقْدَةَ" إذا ربطها ربطًا يسهّل انحلالَها، ويجوز أن يكون جمع "مِنْشاط" للرجل يكثر نشاطُه. و"مَواعِيظ" جمع "مَوْعُوظ" مفعول من الوَعْظ الذي هو النصح. و"مَبالِيغ" جمع "مَبْلُوغ" من قولهم: "قد بلغتُ المكانَ" إذا وصلتَ إليه، فالمكان مبلوغٌ، والواصل إليه بالغٌ. ومنه قوله تعالى: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ} (¬4). و"مَنَافِيخ": جمع "مِنْفاخٍ"، وهو ما يُنْفَخ به كالكِير ¬
[عدم منع هذه الأحرف الإمالة إذا وقعت مكسورة قبل الألف بحرف]
للحَدّاد. و"معَالِيق": جمع "مِعْلاقٍ"، وهو كالكَلُّوب، فهذا أيضًا ونحوه مِمّا لا يُمال وإن كان بينهما حرفان، كما لم يمتنع السين من الصاد في "صَوِيقٍ"، و"صِراطٍ". وقد أمال هذا النحو قومٌ من العرب، فقالوا: "مناشيط"؛ لتراخي هذه الحروف عن الألف، وهو قليل، والكثيرُ النصب. [عدم منع هذه الأحرف الإمالة إذا وقعت مكسورةً قبل الألف بحرف] قال صاحب الكتاب: وإن وقعت قبل الألف بحرف وهي مكسورة أو ساكنة بعد مكسور لم تمنع عند الأكثر نحو صعاب ومصباح وضعاف ومضحاك وطلاب ومطعام وظماء وإظلام وغلاب ومغناج وخباث وإخبات وقفاف ومقلات (¬1). * * * قال الشارح: قد ذكرنا أنّ هذه الحروف من موانع الإمالة؛ لأنّ الصوت يَستعلي عند النُّطْق بها إلى أعلى الحنك، والإمالةُ تسفّلٌ، وكان بينهما تنافٍ. وهي، مع ذلك، إذا كانت بعد الألف، كانت أدعى لمَنْع الإمالة منها إذا كانت قبله؛ لأنّها إذا كانت بعد الألف، كنتَ متصعّدًا بالمستعلي بعد الانحدار بالإمالة. وإذا كانت قبله، كنت منحدرًا بعد التصعّد بالحرف. والانحدارُ أخفُّ عليهم من التصعّد. وقد شبّهه سيبويه (¬2) بقولهم: "صبقتُ" في "سبقتُ"، و"صُقْتُ" في "سُقْتُ"، و"صَوِيق" في "سويق". ولم يقولوا في "قَسْوَرٍ"، و"قِسْتُ": "قَصْوَرٌ"، و"قِصْتُ"؛ لأنّ المستعلي إذا تقدّم كان أخفّ عليهم؛ لأنّك تكون كالمنحدر من عالٍ. وإذا تأخّر كنتَ مُصْعِدًا بالمستعلي بعد التسفّل بالسين، وهو أشقُّ. فإذا وقعت قبل الألف بحرف، وكانت مكسورة، فإنّها لا تمنع الإمالة، نحو: "صِعابٍ"، و"ضِعافٍ". وكانت الإمالةُ فيها حسنة؛ لأنّ الكسرة أدنى إلى المستعلي من الألف، والكسرةُ تُوهي استعلاء المستعلي، والنصبُ جيد، والإمالةُ أجود. فلو كان المستعلي بعد الكسرة، لم تجز الإمالةُ, لأنّ المستعلي أقربُ إلى الألف، وهو مفتوح. وذلك قولك: "حِقابٌ"، و"رِصاصٌ"، فيمن كسر الراء. وكذلك لو كانت ساكنةً بعد مكسور، لم تمنع عند الأكثر، نحو: "مِصْباح"، و"مِطْعام"؛ لأنّ المستعلي هنا لا يُعتدّ به، لسكونه، فهو كالمَيّت الذي لا يُعتّد به، فصار من جملة المكسور المتقّدمِ عليه؛ لأنّ محلّ الحركة بعد الحرف على الصحيح من ¬
فصل [إجراء المنفصل مجري المتصل في الإمالة]
المذهب، فهي مجاورةٌ للساكن، فصارت الكسرة كأنّها فيها. ألا ترى أنّهم قالوا: "مُؤْسى"، فهمزوا الواو لمجاورة الضمّة، وأجروها مجرى المضمومة نفسَها، فجرت مجرى "صِعابٍ" و"ضِعافٍ" في جواز الإمالة. هذا هو الكثير، وقد ذهب بعضهم إلى منع الإمالة، وأجرىَ على الساكن حُكْمَ المفتوح بعده، فمَنَعَه من الإمالة، كما يُمْنَع "قَوائِمُ". والوجهُ الأوّل. وقوله: "إلا في بابِ "رَمَى"، و"بَاعَ"، يريد أنّ هذه الحروف لا تمنع الإمالةَ إذا كانت فاءً مفتوحةً من فعلٍ معتل العين أو اللام بالياء، نحو: "طابَ"، و"خافَ"، و"قَلى"، و"طَغى". فما كان من ذلك، فإنّه يمال؛ لأنّ ألفه منقلبة عن ياء، وهو سببٌ قويٌّ، فغُلب المستعلي مع قوّة تصرُّف الفعل، وليست كألف "فاعل"؛ لأنّ هذه الألف أصليٌّ، وتلك منقلبةٌ عن ياء، وكذلك ما كان من بابِ "غَزا"، و"عَدا"، أي: إن كان معتلّ اللام بالواو، نحو: "صَغا"، و"صَفا"؛ لأنّ هذه اللام تصير ياءً كما ذكرنا في "أغْزَيْتُ"، و"غُزِيَ"، ففي هذه الأفعال داعِيان إلى الإمالة: الانقلابُ عن الياء، وهو سببٌ قويٌّ، وقوّةُ تصرُّف الفعل، فغُلب المستعلي، فاعرفه. فصل [إجراء المنفصل مجري المتصل في الإمالة] قال صاحب الكتاب: قال سيبويه (¬1): وسمعناهم يقولون: "أراد أن يضربها زيد" فأمالوا، وقالوا: "أراد أن يضربها قبل", فنصبوا للقاف، وكذلك "مررت بمال قاسم وبمال ملق". * * * قال الشارح: المراد بذلك أنّهم قد أجروا المنفصل مجرى المتّصل. ومعنى المنفصل أن تكون الألف من كلمة، والمستعلي من كلمة أخرى، فيجريان مجرى ما هو من كلمة واحدة. وذلك أنّهم قالوا: "أراد أن يضرِبَها زيدٌ"، فأمالوا للكسرة قبلها، وقالوا: "أراد أن يضربها قبلُ"، فنصبوا مع وجود المْقتضي للإمالة، وهو كسرةُ الراء؛ لأجل المانع، وهو حرف الاستعلاء، وهو "القاف" في "قبلُ". وكذلك "بمال قاسمٍ"، و"بمال مَلِقٍ" وإن كانا في كلمتَيْن، فإنّهم أجروهما مجرى ما هو من كلمة واحدة، نحو: "عاقد"، و"ناعقٍ"، و"مَناشِيطَ". ومنهم من يفرق بين المتّصل والمنفصل، فأمال "بمال قاسم" كأنّه لم يحفل بالمستعلي، إذ كان من كلمة أخرى، وصار كأنّك قلت: "بمال" وسكتَّ، فاعرفه. ¬
فصل [الراء والإمالة]
فصل [الراء والإمالة] قال صاحب الكتاب: والراء غير المكسورة إذا وليت الألف منعت منع المستعلية تقول راشد، وهذا حمارك، ورأيت حمارك، على التفخيم. والمكسورة أمرها بالضد من ذلك يمال لها ما لا يمال مع غيرها، تقول طارد وغارم وتغلب غير المكسورة كما تغلب المستعلية فتقول من قرارك وقريء: {كانت قوارير} (¬1). فإذا تباعدت لم تؤثر عند أكثرهم، فأمالوا "هذا كافرٌ"، ولم يميلوا "مررت بقادر"، وقد فخم بعضهم الأول وأمال الآخر. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الراء حرفُ تكرير، فإذا نطقتَ به، خرج كأنّه متضاعفٌ، وفي مَخْرَجه نوعُ ارتفاع إلى ظهر اللسان إلى مخرج النون فْوَيْقَ الثنايَا. فإذا كان مفتوحًا أو مضمومًا، منعت إمالة الحرف، نحو قولك: "هذا راشدٌ"، و"هذا فِراشٌ"، فلم يميلوا. وأجروه ها هنا مجرى المستعلى لِما ذكرناه، ولأنّهم لما نطقوا كأنّهم تكلّموا برائَيْن مفتوحتَيْن، فقويت على نصب الألف، وصارت بمنزلة القاف. فهي في منع الإمالة أقوى من غيرها من الحروف، ودون المستعلية في ذلك. فإذا كانت مكسورة، فهي تُقوِّي الإمالة أكثرَ من قوّة غيرها من الحروف المكسورة؛ لأنّ الكسرة تتضاعف، فهي من أسباب الإمالة. وإذا كانت مضمومة أو مفتوحة، فالضمُّ والفتح يتضاعفان، وهما يمنعان الإمالة. وإذا كانت الراء بعد ألف تمال لو كان بعدها غيرُ الراء، لم تُمِلْ في الرفع والنصب، وذلك قولك: "هذا حمارك"، و"رأيت حمارك"، فهذا نصبٌ. ولولا الراء لكان ممّا يمال، نحو: "عِمادٍ"، و"كِتابٍ"، فالراء إذا كانت مفتوحة أو مضمومة في منعِ الإمالة بمنزلة المتقدّمة في نحو "راشِدٌ". وإذا جاءت بعد الألف مكسورةً، أمالت الألف قبلها وكان أمرُها بالضدّ من تلك المفتوحةِ والمضمومة، لأنّها تكون سببًا للإمالة. وذلك قولك: "مررت بحمارِك". ومنه قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ} (¬2). وكذلك "غارمٌ"، و"عارفٌ"، فكأنّه الإمالةُ ها هنا ألزمُ منها في "عائد" ونحوه. فإن وقع قبل الألف حرفٌ من المستعلية، حسنت الإمالةُ التي كانت تُمْنَع في نحو: "قاسِمٍ" من أجل الراء، فتقول: "طائفٌ"، و"غائبٌ" بالفتح، ولا تميل لمكان المستعلي في أوّله. وتقول: "طاردٌ"، و"غارمٌ"، فتُميله لأجل الراء المكسورة؛ لأنّها كالحرفَيْن ¬
المكسورَيْن، فغلبتْ ها هنا المستعلي كما غلبت المفتوحةُ على منع الإمالة الكسرةَ والياء ونحوَهما من أسباب الإمالة، ولأن حرف الاستعلاء إذا كان قبل الألف، كان أضعفَ في منع الإمالة ممّا إذا كان بعده. وذلك لأنّه إذا تقدّم، كان كالانحدار من عالٍ إلى سافلٍ، وذلك أسهلُ من العكس. ولقوّة الراء المكسورة بتكريرها وضُعْفِ حرف الاستعلاء إذا تقدّم، ساغت الإمالةُ معه، فلذلك تميل نحو "قادر"، و"غارب"، ولا تميل نحو: "فارقٍ"، و"سارقٍ"، وذلك لقوّة المستعلي إذا تأخّر وضُعْفِه إذا تقدّم. والراء المكسورةُ تغلب الراء المفتوحة والمضمومةَ إذا جامعتْهما، نحو: "مِن قَرارِك"، وقُرىء: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} (¬1). وذلك لأنّ الراء المفتوحة لم تكن أقوى في منع الإمالة من المستعلي. وقد غلبت المكسورةُ في نحو "طاردٍ"، "وغارمٍ"، قال سيبويه: ولم تكن الراء المفتوحة التي قبل الألف بأقوى من حرف الاستعلاء. وإذا تباعدت هذه الراء عن الألف، لم تُؤثِّر، قالوا: "هذا كافرٌ" و"هي المَنابِرُ"، فأمالوا. ولم تمنع الراء الإمالةَ كما منعت في "هذا حمارُك"؛ لتباعُدها عن الألف، ففصل الحرفُ بينها وبين الألف، ولم تكن في القوّة كالمستعلية, لأنّ الراء، وإن كانت مكرّرة، فليس فيها استعلاء هذه الحروف, لأنّها من مخرج اللام، وقريبةٌ من الياء. ولذلك الألثغُ يجعل مكانَها ياء، فيقول في "بارَكَ اللهُ لك": "بايَكَ الله لك". ولم يميلوا "مررت بقادرٍ"؛ لأنّ الراء لمّا تباعدت من الألف بالفاصل بينهما، لم يبق لها تأثيرٌ لا في منع إمالة، ولا في تسويغها، فأمالوا "الكافرون" و"الكافرُ" على ما ذكرنا. ولم يعتدّوا بالراء وإن كانت مضمومة في منع الإمالة كما اعتدّوها إذا وليت الألفَ. ولم يميلوا "مررت بقادر" للقاف، كما لم يميلوا "طائفٌ"، و"ضامنٌ"، كما أمالوا "قاربٌ" لفصل الحرف بينهما. ومن العرب من لا يميل الأوّل، فيقول: "هذا كافرٌ"، فينصب في الرفع والنصب، ويجعلونها بمنزلتها إذا لم يَحُلْ بينها وبين الألف شيءٌ، كأنّ الحرف المكسور بعد الألف ليس موجودًا. وقدّروا أنّ الراء قد وليت الألفَ، فصارت بمنزلةِ "هذا حمارٌ"، و"رأيت حمارًا"، كما أنّ الطاء في "ناشطٍ"، والقاف في "السَّمالِق" كأنّها تلي الألف في منع الإمالة. وإذا كانت الراء مجرورة في "الكافر" ومكسورةً في "الكافرين"، أمالوا، كأنّ الراء تلي الألف، فالإمالةُ حسنة، وليس كحُسْنها في "الكافرين"؛ لأنّ الكسر في "الكافرين" ¬
فصل [ما أميل شذوذا]
لازمٌ للراء وبعدها ياءٌ، والكافرُ لا ياء فيه. وليست الكسرةُ بلازمة للراء إلَّا في الخفض، وفي الجمع تلزم في الخفض والنصب والوقف، يقولون: "مررت بقادرٍ"، فتغلب القافَ كما غلبتها في "غارم"، و"صارم". قال أبو العبّاس: وتركُ الإمالة أحسنُ لقُرْب المستعلية من الألف وتراخي الراء عنها. وأنشد هذا البيت [من الطويل]: عَسَى اللهُ يُغْنِي عن بِلادِ ابن قادرٍ ... بمُنْهَمِرٍ جَوْنِ الرَّبابِ سَكُوبِ (¬1) أنشده ممالًا، والنصبُ أحسنُ لِما ذكرتُ لك، فاعرفه. فصل [ما أُميلَ شذوذًا] قال صاحب الكتاب: وقد شذ عن القياس قولهم الحجاج والناس ممالين, وعن بعض العرب "هذا مالٌ وبابٌ", وقالوا: "العشا", و"المكا" و"الكبا", وهؤلاء من الواو. وأما قولهم: "الرِّبا" فلأجل الراء. * * * قال الشارح: إمالةُ "الحَجّاج" إنّما شذّت؛ لأنّها ليس فيها كسرةٌ، ولا ياءٌ ونحوهما من أسباب الإمالة، وإنّما أُميل لكثرة استعماله، فالإمالةُ أكثرُ في كلام العرب، فحملوه على الأكثر. هذا قول سيبويه (¬2). وقال أبو العبّاس المبرّد، إنّما أمالوا "الحجّاج" إذا كان اسمًا عَلَمًا للفرق بين المعرفة والنكرة، والاسمِ والنعتِ, لأنّ الإمالة أكثرُ في كلامهم، وليس بالجنس، والمرادُ إمالته في حال الرفع والنصب في نحو "هذا الحجّاج" و"رأيت الحجّاجَ". فأمّا إذا قلت: "مررت بالحجّاجِ"، فالإمالةُ سائغةٌ، وليست شاذّة؛ لأجل كسرة الإعراب، فهو بمنزلةِ: "مررت بمالِ زيد". فأمّا إذا كان صفة، نحو قولك: "رجلٌ حجّاجٌ" للرجل يُكْثِر الحجَّ، أو يغلب بالحجُّة، فإنّه لا تسوغ فيه الإمالةُ لفقد سببها، إلَّا في حال الجرّ. وأمّا "الناسُ" فإمالته في حال الرفع والنصب شاذّة لعدم سبب الإمالة. والذي حسّنه كثرةُ الاستعمال، والحملُ على الأكثر. وأمّا في حال الجرّ فحسنٌ، قال سيبويه (¬3): على أنّ أكثر العرب ينصب ذلك، ولا يُمِيله. وأمّا "مالٌ" و"بابٌ"، فالجيّد إمالتهما في حال الجرّ، وأمّا إمالتُهما في حال الرفع، والنصب فقليلٌ. قال سيبويه (¬4): وقال ناسٌ يُوثَق بعربيّتهم: "هذا بابٌ"، و"هذا مالٌ"، فأمالوهما كأنّهم شبّهوا الألف فيهما، وإن كانت منقلبة من واو، بألِف ¬
"غَزَا"، و"دَنا" المنقلبةِ من واو، فأجروا العينَ كاللام، وإن كانت العين أبعدَ من الإمالة. ومَن أمال "هذا بابٌ ومالٌ" لم يمل "هذا ساقٌ"، ولا "قارٌ"؛ لأنّه لم يبلغ من قوّة الإمالة في بابٍ أن تمال مع حروف الاستعلاء. قال أبو العبّاس: لا تجوز الإمالةُ في "بابٍ" و"مالٍ"؛ لأنّ لام الفعل قد تنقلب ياءً، وعين الفعل لا تنقلب. قال أبو سعيد السيرافيّ: وقول سيبويه أمثلُ؛ لأنّ عين الفعل قد تنقلب أيضًا فيما لم يُسمّ فاعله، نحو: "قِيلَ"، و"عِيدَ المريضُ". وقد تُنْقَل بالهمزة، فتُقْلَب ألفه ياء في المستقبل، نحو: "يُقِيل"، و"يُقِيم". قال سيبويه (¬1): والذين لا يميلون في الرفع والنصب أكثرُ وأعمُّ في كلامهم. وأمّا "عابٌ"، و"نابٌ" فمن الياء، و"عابٌ" بمعنى عَيْبٍ، فهو من الياء، وكذلك "نابٌ"؛ لقولهم في تكسيره: "أنْيابٌ"، وفي الفعل: "يَنِيبُ". وقوله: "هؤلاء من الواو" راجعٌ إلى "العَشا"، و"المَكا"، و"الكِبا"، فالعَشاء: هو الطعام، والعشا مقصورًا - وهو المراد ها هنا -: مصدرُ الأَعْشَى، وهو الذي لا يُبصِر بالليل، ويبصر بالنهار، وهو من الواو؛ لقولهم: "امرأةٌ عَشْواء"، و"امرأتان عَشْواوان". وإنّما سوّغ إمالتَه كونُ ألفه يصيرُ ياء في الفعل، نحو قولك: "أَعْشاه الله فعَشِيَ"، بالكسر، يَعْشى عَشًا. وقالوا: "هما يعشيان"، ولم يقولوا: "يعشوان"؛ لأنّ الواو لمّا صارت في الواحد ياءً، تُركت على حالها في التثنية، فلمّا كانت تصير إلى ما ذكرنا من الياء، سوّغوا فيها الإمالةَ، وإن كان أصلها الواو. وأمّا "المُكاء" بالمدّ، فهو الصَّفِير من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (¬2). و"المَكا" بالفتح والقصر: جُحْرُ الثعلب والأرنب، فهو من الواو؛ لقولهم في معناه: "مَكْوٌ". قال الشاعر [من المديد]: 1214 - كم به مِن مَكْوِ وَحْشِيّةٍ ... قِيظَ في مُنْتَثَلٍ أو شِيامْ ¬
فصل [إمالة "فاعل" من المضاعف في بعض اللغات]
و"الكِباءُ" بالمدّ: ضربٌ من البَخُور، و"الكِبا" مقصورًا: الكُناسةُ، وهو من الواو؛ لقولهم: "كَبَوْتُ البيت". وقالوا في التثنية: "كِبَوانِ". وقالوا فيه "كُبَةٌ"، وفي الجمع: "كُبُونَ" و"كُبِينَ". ودخلها الإمالة على التشبيه بما هو من الياء؛ لأنّها لامٌ، واللامُ يتطرّق إليها التغييرُ، ألا ترى أنك تميل "غَزَا"، ولا تميل "قَالَ"؟ وأمّا "الرَّبا" في البَيْع، فهو من الواو؛ لقولهم في التثنية: "رِبَوانِ"، وقالوا: "رِبَيان" جعلوه من الياء، وأمالوه لذلك مع كسرة الراء في أوّله، فاعرفه. فصل [إمالة "فاعل" من المضاعف في بعض اللغات] قال صاحب الكتاب: وقد أمال قوم "جاد", و"جوادٌّ" نظراً إلى الأصل، كما أمالوا: "هذا ماش" في الوقف. * * * قال الشارح: الوجه فيما كان من ذلك ممّا هو فاعلٌ من المضاعَف، نحو: "جادٍّ"، و"مارٍّ", وما كان نحوهما، و"جَوادُّ"، و"مَوارُّ" في الجمع، أن لا تُمال؛ لأنّ الكسرة التي كانت فيه تُوجِب الإمالةَ قد حُذفت للادغام. وقد أمال قومٌ ذلك، فقالوا: "جادّ"، و"جوادّ". قالوا: لأنّ الكسرة مقدَّرة، وأصله "جادِدٌ"، و"جَوادِدُ"، فأمالوه كما أمالوا "خافَ"؛ لأنّ تقديره: "خَوِفَ"، أو لأنّه يرجع إلى "خِفْتُ"، وإن لم تكن الكسرةُ في اللفظ. ومثلُ ذلك: "هذا ماشْ"، أمالوا مع الوقف، ولا كسرة فيه؛ لأنّه إذا وُصل الكلامُ يُكْسَر, فتُقوِّي الإمالةَ الكسرةُ، فاعرفه. فصل [الإمالة للمشاكلة] قال صاحب الكتاب: وقد أميل {والشمس وضحاها} (¬1) , وهي من الواو لتشاكل {جلاها} (¬2) و {يغشاها} (¬3). * * * ¬
فصل [إمالة الفتحة]
قال الشارح: "الضُّحَى": مقصورًا حين تُشرِق الشمسُ، وهو جمعُ "ضَحْوَةٍ"، كقَرْيَةٍ وقُرًى. والقياسُ يأبى الإمالةَ؛ لأنّه من الواو، وليس فيه كسرةٌ، وإنّما أمالوه حين قُرن بـ "جَلاَّها"، و"يَغْشَاها"، وكلاهما ممّا يمال؛ لأنّ الألف فيهما من الياء؛ لقولك: "جَلَّيْتُه". وكذلك ألفُ "يَغْشَى"؛ لقولك في التثنية: "يَغْشَيان"، فأرادوا المشاكلةَ. والمشاكلةُ بين الألفاظ من مطلوبهم، ألا ترى أنهم قالوا: "أَخَذَهُ ما قدُم وما حدُث" (¬1)، فضمّوا فيهما. ولو انفرد، لم يقولوا إلَّا: "حَدَثَ" مفتوحًا، ومنه الحديثُ: "ارْجِعْنَ مَأْزُوراتٍ غيرَ مَأْجُوراتٍ" (¬2)، والأصلُ: "مَوْزورات"، فقلبوا الواو ألفًا مع سكونها لتُشاكِل "مأجورات"، ولو انفرد لم يُقْلَب. وكذلك "الضُحَى" إذا انفرد لم يُمَلْ، وإنّما أُميل لازدواج الكلام حين اجتمع مع ما يمال، فاعرفه. فصل [إمالة الفتحة] قال صاحب الكتاب: وقد أمالوا الفتحة في قولهم: "من الضرر" و"من الكبر" و"من الصغر" و"من المحاذر". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الفتحة قد تمال كما تمال الألف؛ لأنّ الغرض من الإمالة مشاكلةُ الأصوات، وتقريبُ بعضها من بعض. وذلك موجودٌ في الحركة كما هو موجود في الحرف؛ لأنّ الفتحة من الألف. وقد كان المتقدّمون يسمّون الفتحة الألفَ الصغيرةَ، والضمّة الواو الصغيرة؛ والكسرة الياء الصغيرة؛ لأنّ الحركات والحروفَ أصواتٌ. وإنّما رأى النحويون صوتًا أعظمَ من صوت، فسمّوا العظيمَ حرفًا، والضعيفَ حركةً، وإن كانا في الحقيقة شيئًا واحدًا، فلذلك دخلت الإمالةُ في الحركة كما دخلت الألف، إذ الغرضُ إنّما هو تجانسُ الصوت، وتقريبُ بعضها من بعض. فكلُّ ما يوجب إمالةَ الألف يوجب إمالة الحركة التي هي الفتحةُ، وما يمنع إمالةَ الألف يمنع إمالة الفتحة. وأكثرُ ما جاء ذلك مع الراء المكسورة؛ لأنّ الراء حرفٌ مكرّرٌ لا نظيرَ له، وله أحكامٌ قد ذُكرتْ ينفرد بها، فلذلك تقول: "من الكِبَرِ"، و"من الصَّغَرِ"، فأمالوا الفتحة بأن أجنحوها إلى الكسرة، فصارت بين الفتحة وبين الكسرة، كما فعلوا ذلك بالفتحة التي قبل الألف في "عِمادِ" و"كِتابٍ" حين أرادوا إمالة الألف وهذه الراء المكسورةُ تغلب على المستعلي إذا وقع ¬
فصل [إمالة الحروف والأسماء المبنية]
قبلها، نحو قولك: "من الضَّرَر والصَّغَر والبَقَرِ"، كما غلبتْه في نحو "قاربٍ"، و"طاردٍ"، و"غارمٍ". وقالوا: "من عَمْرٍو"، فأمالوا فتحة العين، وإن فصل بينها وبين الراء الميمُ لأنّ الميم ساكنةٌ، فلم يُعتدّ بها حاجزًا. وقالوا: "من المُحاذَرِ"، فأمالوا فتحةَ الذال للراء بعدها, ولم يميلوا الألف؛ لأنّه قد اكتنفها فتحتان، وبعُدت من الراء، فاعرفه. فصل [إمالة الحروف والأسماء المبنية] قال صاحب الكتاب: والحروف لا تمال نحو "حتى" و"على" و"إلى" و"إما" و"إلا" إلا إذا سمي بها. وقد أميل "بلى" و"لا" في "إمالا" و"يا" في النداء لإغنائها عن الجمل. والأسماء غير المتمكنة يمال منها المستقبل بنفسه نحو "ذا" و"متى" و"أنّى", ولا يمال ما ليس بمستقبل نحو "ما" الاستفهامية أو الشرطية أو الموصولة أو الموصوفة ونحو: "إذا". قال المبرد: وإمالة "عسى" جيدة. * * * قال الشارح: القياس يأبى الإمالةَ في الحروف؛ لأنّ الحروف أدواتٌ جوامدُ غير متصرّفة، والإمالةُ ضربٌ من التصرّف, لأنّه تغييرٌ. قال سيبويه (¬1): فرقوا بينها وبين ألفات الأسماء، نحو: "حُبْلى"، و"عَطْشى". يريد أنّ الحروف غير متصرّفة، ولا تلحقها تثنيةٌ، ولا جمعٌ، ولا تغييرٌ، فلا تصير ألفاتُها ياءات. فمن ذلك "حَتَّى"، و"عَلى"، و"إلى"، و"أَمَّا"، و"إلَّا" لا يمال شيءٌ من ذلك لما ذكرناه. قال أبو العبّاس: الإمالة فيها خطأٌ. وإنّما خصّ هذه الحروف بالتنصيص عليها؛ لأنّها لمّا كانت على عدّة الأسماء والأفعال، خاف أن يُظَنّ بها جوازُ الإمالة، فخصّها بالذكر، وإن كان هذا الحكم عامًّا بجميعها، سوى ما أستثنيه لك. فإن سُمّي بها، صارت أسماء، فيمال "حتّى"؛ لأنّ ألفه قد وقعت رابعةً، فصارت في حكم المنقلبة عن الياء، وقبل التسمية لا تدخلها الإمالةُ. وقولُ صاحب الكتاب: "إذا سُمّي بها"، يريد ما ذكرناه من أنّها تصير قابلةً للإمالة بخروجها عن حكم الحرفيّة، يوجبها ما يوجب الإمالة للأسماء، ويمنعها ما يمنع الإمالةَ الأسماءَ، ولم يُرِد أنّها تمال لا محالة. ألا ترى أنّ "إلى"، و"لَدى"، و"إذا" إذا سُمّي بها، صارت في حكم الظاهر، وألفاتُها في حكم ما هو من الواو. فلو ثُنّيت، لَكان بالواو، نحو: "إلَوانِ"، و"لَدَوانِ". ولذلك لو سمّيتَ بها امرأة، وجمعتَها بالألف والتاء، قلت: "إلَواتٌ"، و"لَدَواتٌ"، فتنقلب واوًا. وأمّا "على"، فمعناها يقتضي الواو؛ لأنّها من "العُلُوِّ". وإذا كانت من الواو، فلا تمال. ¬
وقد أمالوا "بَلى" لكونها على ثلاثة أحرف كالأسماء، وإنما تكفي في الجواب، فصارت دلالتُها كدلالة الأسماء. ولا يلزم على ذلك إمالة "حَتَّى"، و"إلَّا" ونحوهما ممّا هو على ثلاثة أحرف فصاعدًا؛ لأنّها وإن كانت على عدّة الأسماء؛ فإنّها لا تفيد بانفرادها, ولا تكفي عن شيء، فلم تكن مثلَ "بَلى". ومن ذلك قولهم: "إمَّا لا" تمال، وذلك أنّهم أرادوا: "افعلْ هذا إن كنتَ لا تفعل غيرَه"، ولكنّهم حذفوا الفعل لكثرته في الكلام، فـ "ما" في "إمّا" ها هنا كما كانت في "أَمَّا أنت منطلقًا" عوضٌ من الفعل. يدلّ على ذلك أنّه لا يظهر معها الفعلُ. ولمّا كان أصلُ هذه الكلمة ما ذكرنا، حُذفت منها هذه الأشياء، فغُيّرت أيضًا بالإمالة "لا" منها، و"لا" حرفٌ لا يمال في غير هذا الموضع إذا كان منفردًا. وقد حكى قُطْرُبٌ إمالتَها، ووجهُ ذلك أنّها قد تقع جوابًا، ويُكتفى بها في الجواب، فيقال في جواب: "زيدٌ عندك": "لا"، فلمّا استقلّت بنفسها، أمالوها. وإمالةُ "بَلى" أقيسُ من إمالةِ "لا"؛ لأنّها مع ذلك على ثلاثة أحرف كالأسماء. وأمّا "يا" في النداء، فإنّه حرفٌ، والقياسُ أن لا يمال كأخواته، إلَّا أنّه لمّا كان نائبًا عن الفعل الذي هو: أُنادي وأَدْعُو، وواقعًا موقعَه، أمالوه كما أمالوا "إمّا لا"، ولأجل الياء أيضًا قبلها. فأمّا الأسماء المبنيّة غير المتمكّنة، فأمرُها كأمر الحروف، وألفاتُها أصولٌ غيرُ زوائد، ولا منقلبة. والدليلُ على ذلك أنّها غيرُ مشتقّة، ولا متصرّفة، فلا يُعْرَف لها أصلٌ غير هذا الذي هي عليه، إذ بالاشتقاق يُعْرَف كونها زائدةً. ولا تكون منقلبة؛ لأنّها لاماتٌ. واللامُ إذا كانت حرفَ علّة، لا تنقلب إلَّا إذا كانت في محلَّ حركة. وهذه الحروف مبنيّة على السكون لا حَظَّ لها في الحركة، فلو كانت الألفُ في "ما" مَثَلًا أصلها الواوُ، لَقالوا: "مَوْ", ولم تُقْلَب، كما قالوا: "لَوْ"، و"أو". ولو كانت من الياء، لقالوا: "مَيْ". فلمّا لم تكن زائدة، ولا منقلبة، حكمنا عليها بأنّها أصلٌ، وهو الظاهر. ولا يُعْدَل عن الظاهر إلى غيره إلَّا بدليل. وإذا لم تكن ياء، لم تُمَلْ. وقد أميل منها أشياء. قالوا: "ذا"، فأمالوا، حكى ذلك سيبويه (¬1). وإنّما جازت إمالتُه، وإن كان مبنيًّا غير متمكّن من قبل أنّه يُشابِه الأسماء المتمكّنة من جهةِ أنّه يوصَف، ويوصَف به، ويُثنَّى، ويُجمع، ويُصغَّر، فساغت فيه الإمالةُ كما ساغت في الأسماء المعربة المتمكّنة. وألفُه منقلبة عن ياء هى عينُ الكلمة، واللامُ محذوفة، كأنّ أصله "ذَيّ"، فثقل عليه التضعيف، فحذفوا الياء الثانية، فبقيت "ذيْ"، فقلبوها ألفًا لانفتاح ما ¬
قبلها، وإن كانت في نفسها ساكنة طلبًا للخفّة، كما قالوا في التسب إلى "الحِيرة": "حاريٌّ"، وفي "طَيَّىء": "طائيٌّ". وحكى أبو زيد عن بعضهم في تحقير "دابَّةٍ": "دُوَابَّةٌ"، والأصلُ: "دُوَيْبَّةٌ"، ثُمّ أبدلوا من ياء التصغير ألفًا، وإن كانت ساكنة. ومن ذلك إمالتُهم "مَتى"، و"أنّى"؛ لأنّهما مستقلّتان بأنفسهما غيرُ محتاجتين إلى ما يوضحهما كاحتياج "إذا"، و"ما"، فقرُبتا من المعرفة، فأميلتا لذلك (¬1). ولا يمال ما لا يستقلّ في الدلالة، وهو ما يفتقر إلى ما بعده كالأسماء الغالبِ عليها شَبَهُ الحرف نحو "ما" الاستفهاميّةِ، والشرطيّة، والموصولة، فهذه قد غلب عليها شبهُ الحرف، فـ "ما" الاستفهاميّةُ متضمِّنةٌ معنى الاستفهام لدلالتها على ما يدل عليه أداتُه، فهي غيرُ مستقلّة بنفسها لإفادتها ذلك المعنى فيما بعدها، وكذلك الشرطيّةُ والموصولةُ، لا تقوم بنفسها, ولا تتمّ اسمًا، إلَّا بما بعدها من الصلة. والموصوفةُ بمعنى الموصولة لافتقارها إلى الصفة. وكذلك "إذا" مشابِهةٌ للحرف، وهو المقتضي لبنائها. وذلك الشَّبَهُ اقتصارُهم على إضافتها إلى الجملة. فهذه الأسماء كلّها لا تجوز إمالتُها؛ لأنّ ألفاتها أصلٌ، إذ لا حركةَ فيها تُوجِب قَلْبَها، وإنّما حقُّها أن تكون ساكنة الأواخر. ألا ترى أنّ "ما" في وجوهها الاستفهاميّة، والجزائيّةَ، والموصولةَ، والموصوفةَ بمنزلةِ "مَنْ"؟ فكما أنّ آخِرَ "مَنْ" ساكنٌ، قكذلك ينبغي أن تكون أواخرُها. وأمّا "عَسَى" فإمالتُها جيّدة؛ لأنّها فعلٌ، وألفُها منقلبة عن ياء؛ لقولك: "عَسَيْتُ"، و"عَسَيْنَا"، فاعرفه. ¬
الوقف
ومن أصناف المشترك الوقف فصل قال صاحب الكتاب: تشترك فيه الأضرب الثلاثة, وفيه أربع لغات: الإسكان الصريح، والإشمام وهو ضم الشفتين بعد الإسكان، والرَّومُ وهو أن تروم التحريك والتضعيف. ولها في الخط علاماتٌ, فللإسكان الخاء، وللإشمام نقطة، وللرَّوم خط بين يدي الحرف، وللتضعيف الشين, مثال ذلك هذا حكم وجعفر وخالد وفرج. والإشمام مختص بالمرفوع، ومشترك في غيره المجرور والمرفوع والمنصوب غير المنون. والمنون تُبدل من تنوينه ألفٌ, كقولك: "رأيت فَرَجَا, وزيدا, ورشأا وكساءا وقاضيا", فلا متعلق به لهذه اللغات، والتضعيف مختصٌّ بما ليس بهمزة من الصحيح المتحرك ما قبله. * * * قال الشارح: اعلم أنّ للحروف الموقوف عليها أحكامًا تُغايِر أحكامَ المبدوء بها، فالموقوفُ عليه يكون ساكنًا، والمبدوء به لا يكون إلَّا متحرّكًا، إلَّا أنّ الابتداء بالمتحرّك يقع كالمضطر إليه، إذ من المُحال الابتداء بساكنٍ، والوقفُ على الساكن صَنْعةٌ واستحسان عند كَلال الخاطر من ترادُف الألفاظ والحروفِ والحركات. وهو ما يشترك فيه القُبُلُ الثلاث: الاسم والفعل والحرف، تقول في الاسم: "هذا زيدْ"، وفي الفعل: "زيدٌ يضربْ"، و"زيدٌ ضَرَبْ". ومثالُ الوقف في الحرف "جَيْرْ" و"أنْ". فلذلك من الاشتراك أورده في هذا القسم، فالحرفُ الموقوفُ عليه لا يكون إلّا ساكنًا، كما أنّ الحرف المبدوء به لا يكون إلَّا متحرّكًا. وذلك لأنّ الوقف ضدُّ الابتداء، فكما لا يكون المبدوء به إلَّا متحرّكًا، فكذلك الموقوفُ عليه لا يكون إلَّا بضدّه، وهو السكون. والموقوف عليه لا يخلو من أن يكون اسمًا، أو فعلًا، أو حرفًا. فالاسمُ إذا كان آخِرهُ حرفًا صحيحًا، وكان منصرفًا، لم يَخْلُ من أن يكون مرفوعًا، أو مجرورًا، أو
منصوبًا، فالوقفُ على المرفوع على أربعة أوجه: بالسكون، والإشمام، والرَّوْم، والتضعيف، ونَقْل الحركة. فالسكون هو الأصل، والأغلب الأكثر, لأنّه سَلْبُ الحركة، وذلك أبلغُ في تحصيل غرض الاستراحة. وأمّا الإشمام فهو تهيئةُ العُضْو للنطْق بالضمّ من غير تصويت، وذلك بأن تضمّ شفتَيْك بعد الإسكان، وتدع بينهما بعضَ الانفراج؛ ليخرج منه النَّفَسُ، فيراهما المخاطبُ مضمومتَيْن، فيعلم أنّا أردنا بضمّهما الحركة، فهو شيءٌ يختصّ العين دون الأذن، وذلك إنّما يُدْرِكه البصيرُ دون الأعمى؛ لأنّه ليس بصوتٍ يُسمع، وإنّما هو بمنزلة تحريكِ عضو من جَسَدك. ولا يكون الإشمامُ في الجرّ والنصب عندنا, لأنّ الكسرة من مخرج الياء، ومخرجُ الياء من داخل الفم من ظهر اللسان إلى ما حاذاه من الحنك من غير إطباق بتفاجّ الحنك عن ظهر اللسان. ولأجل تلك الفَجْوة لان صوتُها، وذلك أمرٌ باطنٌ لا يظهر للعِيان. وكذلك الفتحُ؛ لأنّه من الألف، والألفُ من الحلق، فما للإشمام إليهما سبيلٌ. وذهب الكوفيون إلى جواز الإشمام في المجرور، قالوا: لأنّ الكسرة تكسر الشفتين كما أنّ الضمّة تضُمّهما. والصوابُ ما ذكرناه للعلّة المذكورة. واشتقاقُ الإشمام من الشَّمّ، كأنّك أشممت الحرفَ رائحةَ الحركة، بأن هيّأتَ العضو للنطق بها. وأمّا الرَّوْم، فصوتٌ ضعيف، كأنّك تروم الحركة ولا تُتِمّها، وتختلسها اختلاسًا، وذلك ممّا يدركه الأعمى والبصيرُ؛ لأنّ فيه صوتًا يكاد الحرفُ يكون به متحرّكًا، ألا تراك تفصل بين المذكّر والمؤنّث في "أَنْتَ"، و"أَنْتِ". فلولا أنّ هناك صوتًا، لما فصلتَ بين المذكّر والمؤنّث. وبعض النحويين لا يعرف الإشمام، ولا يفرق بين الروم والإشمام. وأمّا التضعيف، فهو أن تُضاعف الحرفَ الموقوفَ عليه بأن تزيد عليه حرفًا مثله، فيلزم الادغامُ، نحو: "هذا خالدْ"، و"هذا فَرَجْ". وهذا التضعيف إنّما هو من زيادات الوقف، فإذا وصلتَ وجب تحريكُه، وسقطت هذه الزيادةُ، وربّما استعملوا ذلك في القوافي. قال [من الرجز]: مِثْلُ الحَرِيقِ وافَقَ القَصَبَّا (¬1) فأثبتوها في الوصل هنا ضرورةً، كأنّهم أجروا الوصل مجرى الوقف، ولا يكون هذا التضعيف في الوصل. وقد جعل سيبويه (¬2) لكلّ شيء من هذه الأشياء علامةً في الخط، فعلامةُ السكون خاءٌ فوق الحروف، وعلامةُ الإشمام نقطةٌ بعد الحروف، وعلامةُ الروم خطٌ بين يَدَي ¬
الحرف، وعلامةُ التضعيف شينٌ فوق الحرف. فمعنى الخاء خفاءٌ وخفيفٌ؛ لأنّ الساكن أخفُّ من غيره، وبعضُ الكُتّاب يجعلها دالاً خالصةً، ومنهم من يجعلها دائرةً. والحقُّ الأوّل، وأرى أنّ الذين جعلوها دالاً، فإنّهم لمّا رأوها بغير تعريفٍ على شَبَهِ ما يُفْعَل في رَمْز الحِساب، ظنّوها دالاً. والذين جعلوها دائرة، فوَجْهُها عندي أنّ الدائرة في عُرْف الحُسّاب صِفْرٌ، وهو الذي لا شيء فيه من العدد، فجعلوها علامةً على الساكن لخُلوّه من الحركة. وأمّا كون علامة الإشمام نقطةً بين يدي الحرف، وعلامةِ الروم فيه شيء خَطّ، فلأنّ الإشمام لمّا كان أضعف من الروم من جهةِ أنّه لا صوتَ فيه، والروم فيه شيءٌ من صوت الحركة، جعلوا علامةَ الإشمام نقطةً، وعلامةَ الروم خطّا, لأنّ النقطة أوّل الخطّ، وبعضٌ له. وأمّا كون الشين علامَة التضعيف، فكأنّهم أرادوا: شَدِيدًا، أو شَدَّ، فاكتفوا في الدلالة بأوّلِ حرف منه. وقوله: "يشترك في غيره المرفوع والمنصوب والمجرور"، يريد: في غير الإشمام من الإسكان والروم والتضعيف، فإنّها لا تختصّ، بل تكون في المرفوع والمنصوب والمجرور، فتقول إذا وقفت على المرفوع بالإسكان: "هذا زيدْ خ"، و"هو يضربْ خ"، وتقول إذا وقفت على المنصوب: "رأيت الرجلْ خ"، و"رأيت عُمَرْ خ"، وتقول في المجرور: "مررت يزيد وعُمَرْ خ". وكذلك الرومُ يكون في القُبُل الثلاث، ولا يُدْرَك إلَّا بالمشافهة. وأمّا التضعيفُ، فيكون أيضًا في المرفوع نحو: "هذا خالدْ ش". وقالوا في المجرور: "مررت بخالدْ ش". ومنه [من الرجز]: 1215 - ببازِلٍ وَجْناءَ أو عَيْهَل ¬
والمراد: "عيهلِ" بالتخفيف، والعيهلُ: الناقة السريعة، ولا يقال للجَمَل. والنصبُ، نحو قوله [من الرجز]: 1216 - لَقَدْ خَشِيتُ أن أَرَى جِدَبَّا ... في عامِنَا ذَا بَعْدَما أَخْصَبَّا وهذه الوجوه إنّما تجوز في المنصوب إذا لم يكن منوّنًا، نحو ما مثّلنا، وذلك بأن يكون فيه ألفٌ ولامٌ، أو إضافةٌ، أو يكون غير منصرف. فأمّا إذا كان منوّنًا، فإنّك تُبْدِل من تنوينه ألفًا، نحو قولك: "رأيت فَرَجا وزَيْدا"، ورَشَأا، ورِشاءَا". فمثّل بـ "فَرَجٍ" لأنّ عينه مفتوحة، و"زَيْد" الذي عينه ساكنة، أي أنّه لا يتفاوت الحالُ كما تفاوت مع التضعيف، ثمّ مثّل بـ "رَشَأٍ" لأنّه مهموز غيرُ ممدود، ومثّل بـ "رشاءٍ" الممدود ليُعْلِم أيضًا أنّ الحال في ذلك واحدة. وإنّما أُبْدِل من التنوين ألفٌ في حال النصب؛ لأنّ التنوين زائدٌ يجري مجرى الإعراب من حيث كان تابعًا لحركات الإعراب، فكما أنّه لا يُوقَف على الإعراب، فكذلك التنوينُ لا يوقف عليه، ولأنّهم أرادوا أن لا يكون كالنون الأصليّة في نحو: ¬
"حَسَن"، و"قُطْن" أو المُلْحَقةِ في نحو: "رَعْشَنٍ" (¬1)، و"ضَيْفَنٍ" (¬2). هذا مذهبُ أكثر العرب إلَّا ما حكاه الأخفشُ عن قوم أنّهم يقولون: "رأيت زَيْدْ" بلا ألف، وأنشدوا [من الرجز]: 1217 - قد جعل القَيْنُ على الدَّفّ إبَرْ وقال الأعشى [من المتقارب]: 1218 - [إلى المرءِ قيسٍ أُطيل السُّرَى] ... وآخُذُ مِن كلّ حَيٍّ عُصُمْ ولم يقل: "عصمَا"، وذلك قليل في الكلام. قال أبو العبّاس المبرّد: من قال: "رأيت زيدْ" بغير ألف، يلزمه أن يقول في "جَمَلٍ": "جَمْلٌ". يريد أنه إذا وقف على المنصوب بلا ¬
فصل [الوقف بنقل الحركة]
ألف، فأجراه مجرى المرفوع والمجرور، وسوّى بين ذلك، لزمه أن يُسوِّي بين الفتح والكسر والضمّ بتخفيف الفتحة، كما تُخفَّف الضمّة في "عَضُدٍ"، والكسرةُ في "فَخِذٍ"، و"كَتِفٍ". ولا يكون هذا الإبدالُ إلّا في النصب، ولا يستعملونه في الرفع والجرّ، إذ لو أبدلوا من التنوين في الرفع، لكان بالواو، ولو أبدلوا في الجرّ، لكان بالياء. والواوُ والياء يثقُلان، وليسا كالألف في الخفّة. وأَزْدُ السَّراة يُجرون الرفعَ والجرَّ مجرى النصب، فيُبْدِلون، ويقولون: "هذا زَيْدُو" بالواو، وفي الجرّ: "مررت بزَيْدِي". يجعلون الرفع والجرّ مثلَ النصب، وهو في القلّة كلُغَةِ من قال: "رأيت زيدْ". وذلك أنّنا إنّما أبدلنا في النّصب من التنوين لخفّة الألف والفتحة. ولا يلزم مثلُ ذلك في الرفع والجرّ لثقل الواو والياء. وقوله: "فلا متعلّق به لهذه اللغات"، يريد أنّ المنصوب المنوّن، إذا وُقف عليه، كان بالألف، ولا يكون فيه إشمامٌ ولا رَوْمٌ ولا تضعيفٌ. والتضعيف له شرائط ثلاثة: أحدُها أن يكون حرفًا صحيحًا، والآخر أن لا يكون همزة، والآخرُ أن يكون ما قبل الآخر متحرّكًا؛ لأنّه إذا كان معتلاً منقوصًا أو مقصورًا، لم يكن فيه حركةٌ ظاهرةٌ، فيدخلَه الإشمامُ والرومُ لبيان الحركة. وإذا كان آخرُه همزة، لم يجز فيه التضعيف؛ لثِقَل اجتماع الهمزتَيْن. ألا ترى أنّه لم يأت في المضاعَف العين اجتماعُ الهمزتين، ولذلك لم يأت في المضاعف العين إلَّا في نحو: "رأس" و"سَأل"، مع كثرةِ ما جاء من المضاعف. ولا يكونْ إلَّا فيما كان قبل آخِره متحرّكٌ, لأنّه إن كان ساكنًا وضاعفتَ، اجتمع معك ثلاثةُ سواكنَ، وذلك ممّا لا يكون في كلامهم. فمن أسكن فهو الأصل، وعليه أكثر العرب، والفرّاء، وهو القياس. وأمّا سائر اللغات فللفرق بين ما يكون مبنيًّا على السكون على كلّ حال، وبين ما يتحرّك في الوصل، فأتوا في الوقف بما يدلّ على تحريك الكلمة في الوصل، وأنّه ليس من قبيل ما هو ساكنٌ على كلّ حال، إلَّا أنّ ذلك متفاوتٌ، فبعضُه أوكدُ من بعض، فالروم أوكد من الإشمام؛ لأنّ فيه شيئًا من جوهر الحركة، وهو الصوت، وليس في الإشمام ذلك. والتضعيفُ أوكد منهما لأنّه بَيَّنَ بحرف، وذانّك بَيَّنَا بإشارة أو حركةٍ ضعيفةٍ، فاعرفه. فصل [الوقف بنقل الحركة] قال صاحب الكتاب: وبعض العرب يحول ضمه الحرف الموقوف عليه وكسرته على الساكن قبله دون الفتحة في غير الهمزة، فيقول: "هذا بكر", و"مررت ببكر". قال [من الرجز]: 1219 - تحفزها الأوتار والأيدي الشعر ... والنبل ستون كأنها الجمر ¬
يريد: الشعر والجمر, ونحوه قولهم: "اضربه", و"ضربته". قال [من الرجز]: 1220 - عجبت والدهر كثير عجبه ... من عنزي سبَّني لم أضربه ¬
وقال أبو النجم [من الرجز]: 1221 - فقرَّبن هذا وهذا زحله ولا تقول: "رأيت البكر". * * * قال الشارح: اعلمِ أنّه يجوز في الوقف الجمع بين ساكنين؛ لأنّ الوقف يُمكِّن الحرف، ويستوفي صوتَه، ويُوَفِّره على الحرف الموقوف عليه، فيجري ذلك مجرى الحركة؛ لقوّة الصوت واستيعابهِ، كما جرى المدُّ في حروف المدّ مجرى الحركة. وليس كذلك الوصلُ؛ لأنّ الآخِذ في متحرِّكٍ بعد الساكن يُمْنَع من امتداد الصوت؛ لصَرْفه إلى ذلك المتحرّك. ألا ترى أنّك إذا قلت: "بَكُرْ" في حال الوقف، تجد في الراء من التكرير وزيادة الصوت ما لا تَجِده في حال الوصل؟ وكذلك الدالُ في "زيد" وغيرُهما من الحروف؛ لأنّ الصوت إذا لم يجد مَنْفَذًا، انضغط في الحرف الموقوف عليه، ويُوفَّر فيه، فلذلك يجوز الجمعُ بين ساكنين في الوقف، ولا يجوز في الوصل. ومن الناس من يكره اجتماع الساكنين في الوقف كما يكره ذلك في الوصل، فيأخذ في تحريك الأوّل؛ لأنّه هو المانعُ من الوصول إلى الثاني، فحرّكوه بالحركة التي كانت له في حال الوصل. فإن كان مرفوعًا حوّلوا الضمّة إلى الساكن قبله، ويكون في ذلك تنبيهٌ على أنّه كان مرفوعًا، وخروجٌ عن عُهْدة الساكنين. وكذلك الجرُّ، تقول في المرفوع: "هذا بَكُرْ"، والأصل: "هذا بَكرٌ يا فتى"، وفي الجرّ: "مررت ببكِرْ"، والأصل: "ببَكْرٍ يا فتى". قال الشاعر [من المتقارب]: 1222 - أَرَتْنِيَ حِجْلاً على ساقِها ... فهَشَّ الفُؤادُ لذاك الحجِلْ ¬
فقلتُ ولم أُخْفِ عن صَاحِبِي: ... أَلَا بأَبِي أَصْلُ تلك الرّجِلْ أراد: الحَجْلِ، والرجلِ، فنقل الكسرة إلى الساكن. ومثلُه البيت الذي أنشده وهو [من الرجز]: تحفزها الأوتار ... إلخ لمّا وقف وكان مرفوعًا، نقل الضمّةَ إلى الساكن قبل الموقوف عليه، فكان في ذلك محافظةٌ على حركة الإعراب، وتنبيهٌ عليها، وخروجٌ عن محذور الساكنين. ومثل ذلك قولهم في الأمر: "اضْرِبُهْ"، والمراد: اضْرِبْهُ، وكذلك قالوا في المؤنّث: "ضَرَبَتُهْ"، والمراد: "ضَرَبَتْهُ"، فأسكنوا الهاء للوقف، وقبلها ساكنٌ، فالتقى ساكنان، فأرادوا التحريك لالتقاء الساكنين، ولأنّ سكون ما قبلها يزيدها خَفاءً، فحرّكوه؛ لأنّه أَبْيَنُ لها، وذلك بأن نقلوا إليها حركة الهاء الذاهبة للوقف. قال الشاعر ¬
فحرّكوه؛ لأنّه أَبْيَنُ لها، وذلك بأن نقلوا إليها حركة الهاء الذاهبة للوقف. قال الشاعر [من الشاعر]: عجبت والدهر ... إلخ البيت لزِيادٍ الأَعْجَم، وعَنَزَةُ قبيلةٌ من رَبِيعَة بن نِزار. وزيادٌ الأعجم من عَبْد القيس، وقيل له: "الأعجم" للُكْنة كانت في لسانه. والشاهدُ فيه نقل حركة الهاء إلى الساكن قبلها، وقال أبو النجم [من الرجز]: فقرّبنْ هذا وهذا زَحَّلُهْ (¬1) زَحَّلُهْ، أي: بَعِّدهُ، وسُمّي زُحَلُ لبُعْده. ونحوٌ من ذلك "مِنُهْ" و"عَنُهْ". قال سيبويه (¬2): سمعنا ذلك من العرب. وحُكي عن ناس من بني تميم "أَخَذَتِهْ"، و"ضَرَبَتِهْ"، كأنّهم يكسِرون لالتقاء الساكنين لا لبيان الحركة. ولا يفعلون ذلك فيما كانت حركته فتحة، نحو: "رأيت الرجلَ والبكرَ"، وقد أجازه الكوفيون (¬3). وإنّما لم يجز ذلك في النصب من قِبَل أنّ الأصل من قَبْل دخول الألف واللام: "رأيت رجلا وبكرا" في الوقف، فاستغني بحركة اللام والراء عن إلقاء الحركة على الساكن. فلمّا دخلت الألفُ واللامُ، قامتا مقام التنوين، فلم تُغيَّر الكاف في "البَكْرَ" كما لم تغيّر في "رأيت بَكْرا" حين جعلت الألف بدلاً من التنوين. وأجروا الألف واللام مجرى الألف المُبْدَلة من التنوين إذ كانت مُعاقِبة للتنوين. وقال قومٌ: ينبغي على قياس من يقف بالسكون على المنصوب كما يقف على المرفوع والمجرور ويقول: "رأيت بَكْرْ"، و"أكرمت عَمرْوْ" أن يقول: "رأيت بَكَرْ، وعَمَرْو"، كما يفعل في المرفوع. وهو قول حسن، وقياس صحيح. والكوفيون يجيزون ذلك في المنصوب كما يجوز في المرفوع والمجرور. قالوا: وذلك لأن الغرض من هذا النقل الخروجُ عن عُهْدة الجمع بين الساكنين، وذلك موجود في النصب، كما هو موجود في الرفع والجرّ، وهو قول سديد، والمذهب الأوّل لِما ذكرناه. ومن العرب من يُحوِّل في نحو: "عِدْلٍ"؛ فيقول في الجرّ: "مررت بعِدِلْ" فينقل الكسرة إلى الدال كما فعل في الأوّل، ولا يقول في الرفع: "عِدُلْ"؛ لئلاّ يخرج إلى ما ليس في الكلام، إذ ليس في الكلام "فِعُل" بكسر الفاء، وضمّ العين. وتقول: "هذا بُسُرْ وقُفُلْ"، ولا تقول في الجرّ: "مررت ببُسِرْ"، ولا "بقُفِلْ"؛ لئلاّ يصير إلى مثالٍ ليس في الأسماء، وإنّما يتبع الساكنُ الأوّلُ حركةَ ما قبله، فتقول في "هذا عِدْلٌ": "عِدِلْ"، بكسر ¬
[الوقف علي الاسم المنتهي بهمزة قبلها ساكن]
الدال إتباعًا لكسرة العين. وتقول في "مررت ببُسْرٍ": "ببُسُرْ"، فتضمّ أيضًا اتّباعًا لضمّة العين، كما قالوا: "مِنْتِنٌ"، فأتبعوا الأوّلَ الثاني، وحرّكوه بحركته. ولا يفعلون ذلك في المفتوح الأوّل، لا يقولون في "هذا بَكْرُ": "هذا بَكَرْ"، بفتح الكاف اتّباعًا لفتحة الباء؛ لأنّه لا يلزم من نقل الضمّة إلى الكاف خروجٌ عن منهاج الأسماء، والمَصيرُ إلى ما لا نظيرَ له كما لزم في "عِدُلْ" و"بُسِرْ". [الوقف علي الاسم المنتهي بهمزة قبلها ساكن] قال صاحب الكتاب: وفي الهمزة يحولهن جميعاً, فيقول: "هذا الخبؤ", و"رأيت الخبأ" و"مررت بالخبيء". وكذلك "البطؤ", و"الردؤ". ومنهم من يتفادى - وهم ناسٌ من تميم - من أن يقول: "هذا الردؤ", و"من البطيء" فيفر إلى الإتباع, فيقول: "من البطؤ" بضمتين، و"هذا الرديء" بكسرتين. * * * قال الشارح: يريد أنّ حكم الهمزة إذا سكن ما قبلها مخالف لغيرها من الحروف، وذلك أنّهم يُلْقون الحركات في الهمزة على الساكن قبلها ضمّةً كانت، أو كسرةً، أو فتحةً، فتقول: "هذا الخَبُؤْ"، و"مررت بالخَبِئْ"، و"رأيت الخَبَأْ"، بخلاف غيرها. ألا ترى أنّ الذين يقولون: "هذا البَكُرْ"، و"مررت بالبَكِرْ"، لا يقولون: "رأيت البَكَرْ"، ويقولونه مع الهمزة. وذلك لأنّ الهمزة خفيّةٌ، فهي أبعدُ الحروف وأخفاها، وسكونُ ما قبلها يزيدها خَفاءً، فدعاهم ذلك إلى تحريك ما قبلها أكثرَ من غيرها, لأنّ تحريكَ ما قبلها يُبيِّنها؛ لأنّك ترفع لسانك بصوتٍ، ومع الساكن ترفعه بغير صوت. هذا مذهبُ ناس من العرب كثيرٍ، منهم أسدٌ وتميمٌ، ولا يفرقون بين ما كان أوّله مفتوحًا، أو مضمومًا، أو مكسورًا, ولم يفعلوا ذلك في غير الهمزة. وكما يقولون: "هذا الخَبُؤْ"، كذلك يقولون: "هذا البُطُؤْ"، و"مِن البُطِىْء"، ويقولون: "هذا الرِدُؤْ"، و"مررت بالرِّدِىْء"، ولا يتحامون ما تحاماه غيرُهم من المَصير إِلى بناء "فِعُل" بكسر الأوّل، وضمّ الثاني، إذ لا نظيرَ له في الكلام، وإلى بناء "فُعِل" بضمّ الأوّل، وكسر الثاني، إذ لا نظير له في الأسماء، وذلك لأنّه عارضٌ ليس ببناء الكلمة. ومنهم من يتحامى ذلك، فيُتْبع الضمّ الضمّ والكسر الكسر، فيقول: "مررت بالبُطُؤْ"، و"هذا الرِّدِىْء"، كما فُعل في غير المهموز، وقوله: "يتفادى" معناه: يتحامى ويتحاشى. فصل [إبدال الهمزة حرف لين عند الوقف] قال صاحب الكتاب: وقد يبدلون من الهمزة حرف لين, تحرك ما قبلها أو سكن، فيقولون: "هذا الكلو والخبو والبطو, والردو"، و"رأيت الكلا والخبا والبطا والرِّدا"،
و"مررت بالكلي, والخبي", والبطي والردي"، ومنهم من يقول: "هذا الردي", و"مررت بالبطو" فيتبع، وأهل الحجاز يقولون: "الكلا" في الأحوال الثلاث, لأن الهمزة سكنها الوقف, وما قبلها مفتوحٌ, فهو كـ "رأس", وعلى هذه العبرة يقولون في "أكمؤ": "أكمو", وفي "أهنيء": "أهني", كقولهم: "جونة" (¬1) , و"ذيبٌ". * * * قال الشارح: الهمزة حرفٌ خفىٌّ؛ لأنّه أدخلُ الحروف إلى الحلق. وكلّما سفل الحرفُ، خفي جَرْسُه. وحروفُ المدّ واللين أبْيَنُ منها؛ لأنّها أقربُ إلى الفم، فالواوُ من الشفتين، والياء من الفم، والألفُ وإن كان مَبْدَؤها الحلق إلّا أنّها تمتدّ حتى تصل إلى الفم، فتجد الفمَ والحلقَ منفتحَيْن غير معترِضَيْن على الصوت بحَصْرٍ، وبينها وبين حروف المدّ واللين مناسبةٌ. ولذلك تُبْدَل منها عند التخفيف. والهمزة على ضربين: ساكنٌ ما قبلها, نحو: "الوَثْءِ" (¬2) و"البُطْءِ" و"الرّدْءِ"، ومتحرّكٌ، نحو: "الكَلأ" و"الرَّشَأ". فأمّا الساكن ما قبلها، فمن العرب من يُبْدِل منها حرفَ لين، فيجعلها في الرفع واوًا, وفي الجرّ ياءً، وفي النصب ألفًا، بقلبها على حركةِ نفسها، فيقول في "هذا الوَثْءُ": "الوَثْوُ"، وفي "مررت بالوَثْءِ": "بالوَثْي"، فيُسكَّن ما قبل الواو والياء؛ لأنّه كان كذلك قبل القلب. ويقولون في النصب: "رأيت الوَثا"، فتفتح ما قبل الألف, لأنّ الواو والياء يُمكِن إسكانُ ما قبلهما. والألفُ لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحًا. ولا يفرقون بين المضموم الأوّل والمكسور، وتقول: "هذا البُطُو والرّدُو"، و"مررت بالبُطِي والرّدِي"، و"رأيت البُطَا والرّدَا"، كما يقولون: "هذا الوَثُو"، و"مررت بالوَثِي"، و"رأيت الوَثا". ومنهم من يقلب الهمزةَ حرفاً لينًا بعد نَقْل حركتها إلى الساكن، فيدبَّرها حركةُ ما قبلها، فيقول في الرفع: "هذا الوُثُو والبُطُو والرُّدُو"، و"مررت بالوِثِي والبِطِي والرّدِي"، و"رأيت الوَثا والبَطا والرّدا". وقياسُ من لم يقل: "من البُطِي"؛ لئلاّ يصير إلى بناء "فُعِل"، وليس في الأسماء مثلُه، ولا "هو الرّدُو"؛ لئلّا يصير إلى "فِعُل"، وليس في الكلام مثله، أن يتوقّى ذلك ها هنا، فيلزم الواو في "البُطُو"، والياء في "الرّدِي"، فيقول: "هو البُطُو"، و"مررت بالبُطُو"، و"مررت بالرّدِي"، و"هو الرّدِي". فأمّا إذا تحرّك ما قبل الهمزة من نحو "الكَلأ" و"الخَطأ" و"الرَّشَأ"، فمن العرب من يبدل من همزته في الوقف حرفَ لين حِرْصًا على البيان، فيقول: "هذا الكَلَوْ والخَطَوْ"، ¬
فصل [الوقف علي الاسم المعتل الآخر]
و"مررت بالكَلَيْ والخَطَيْ"، و"رأيت الكَلَا والخَطَا". هذا وقفُ الذين يُخفّفون الهمزة في الوصل من بني تميم. فأمّا الذين يخفّفون من أهل الحجاز؛ فإنّهم يلزمون الألف على كلّ حال، فيقولون: "هذا الكَلا والخَطا"؛ و"مررت بالكَلا والخَطا"، و"رأيت الكَلا والخَطا"؛ لأنّ الوقف يُسكّن الهمزةَ، وقبلَها مفتوحٌ، فقُلبت ألفًا على حدّ "رَأْسٍ" و"فَأْسٍ". وعلى هذه العبرة إذا انضمّ ما قبلها، قُلبت واوًا، وإذا انكسر، قُلبت ياءً، نحو قولهم في "أَكْمُؤٍ": "أَكْمُو"، وفي "أَهْنِىءُ": "أَهْنِي"، فـ "أَكْمُؤٌ" جمع "كَمْءٍ" واحد كَمْأَة، فالكَمْءُ واحدٌ، و"أَكْمُؤٌ" جمع قلّة، والكثيرُ: الكَمْأَةُ، فهو على الخلاف من باب "تَمْرٍ" و"تَمْرَةٍ". ويقال: "هَنَأَ الرجلَ يَهْنُؤُه وَيهْنِئُه"، إذا أعطاه، فـ "أَكْمُو" مثل "جُونَةٍ"، و"أَهْنِي" مثل "ذِيبٍ". فصل [الوقف علي الاسم المعتل الآخر] قال صاحب الكتاب: وإذا اعتل الآخر, وما قبله ساكنٌ, كآخر "ظبي" و"دلو" فهو كالصحيح. والمتحرك ما قبله إن كان ياء قد أسقطها التنوين في نحو "قاضٍ" و"عم" و"جوارٍ" فالأكثر أن يوقف على ما قبله فيقال: "قاض", و"عم" و"جوار". وقوم يعيدونها ويقفون عليها فيقولون: "قاضي" و"عمي" و"جواري". وإن لم يسقطها التنوين في نحو "القاضي" و"يا قاضي" و"رأيت جواري", فالأمر بالعكس، ويقال "يا مري" لا غير. * * * قال الشارح: الاسم المعتلّ ما كان في آخره حرفُ علّة من الواو والياء والألف، ولا يخلو ما قبل هذه الحروف من أن يكون ساكنًا أو متحرّكًا، فإن كان ساكنًا - وذلك إنّما يكون مع الواو والياء دون الألف - فإنّ الألف لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا، وذلك نحو: "ظَبْيٍ"، و"نَحْيٍ"، و"صَبِيّ"، و"كُرْسِيّ"، و"غَزْوٍ" و"عَدْوٍ"، فإنّه يجري مجرى الصحيح في الوقف كما يجري مجراه في تحمل حركات الإعراب، فحكمُه كحكمه في الوقف عليه، يجوز فيه ما جاز في الصحيح، ويمتنع منه ما امتنع في الصحيح. وناسٌ من بني سَعْد يُبْدلون من الياء المشدّدة جيمًا في الوقف؛ لأنّ الياء خفيّةٌ، وهي من مخرج الجيم، فلولا شدّةُ الجيم لكانت ياءً، ولولا لِينُ الياء لكانت جيمًا، فيقولون: "فُقَيْمِجْ"، في "فُقَيْمِيّ"، و"تَمِيمِجْ" في "تَمِيمِيّ"، و"عَلِجْ" في "عَلِيّ". قال الشاعر [من الرجز]: 1223 - خالِي عُوَيْفٌ وأبو عَلِجّ ... المُطْمِعانِ اللَّحْمَ بالعَشِجّ ¬
يريد: عَلِيًّا والعَشِيّ. وأمّا الثاني، فإن كان ياء مكسورًا ما قبلها، فإن كانت الياء ممّا أسقطه التنوينُ، نحو: "قاضٍ"، و"جوارٍ"، و"عمٍ"، فما كان من ذلك فلك في الوقف عليه إذا كان مرفوعًا أو مجرورًا وجهان: أجَودُهما حذفُ الياء لأنّها لم تكن موجودة في حال الوصل, لأنّ التنوين كان قد أسقطها، وهو وإن سقط في الوقف، فهو في حكم الثابت, لأنّ الوقف عارضٌ، فلذلك لا تَرُدّها في الوقف. هذا مع ثِقَلها، والوقفُ محلُّ استراحة، فتقول: "هذا قاضْ"، و"مررت بقاضْ"، و"هذا عَمْ"، و"مررت بعَمْ". قال سيبويه (¬1): هذا الكلام الجيّد الأكثر. والوجه الآخر أن تُثْبِت الياء، فتقولَ: "هذا قاضِى ورامِي وغازِي"، كأنّ هؤلاء اعتزموا حذفَ التنوين في الوقف، فأعادوا الياء؛ لأنّهم لم يضطروا إلى حذفها، كما اضطُرّوا في حال الوصل. قال سيبويه (¬2): وحدّثنا أبو الخطّاب ويونسُ: أنّ بعضَ من يُوثَق بعربيّته من العرب يقول: "هذا رامي وغازي وعمي"، حيث صارت في موضعِ غير تنوين، وقرأ به ابن كثير في مواضع من القرآن، منها: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (¬3). هذا إذا أسقطها التنوينُ في الوصل، فإن لم يسقطها، فإن كان فيه ألفٌ ولامٌ، نحو: "الرامي"، و"الغازي"، و"العمي"، فإنّ إثباتها أجودُ، فتقول في الوقف: "هذا الرامي والغازي والقاضي"، يستوي فيه حال الوصل والوقف، وذلك لأنّها لم تسقط في الوصل، فلم تسقط في الوقف. ¬
[الوقف علي الاسم المقصور]
ومنهم من يحذف هذه الياء في الوقف، كأنّهم شبّهوه بما ليس فيه ألفٌ ولامٌ، ثمّ أدخلوا فيه الألفَ واللامَ بعد أن وجب الحذفُ، فيقولون: "هذا القاضْ والرامْ". وقد رُوي عن نافع وأبىِ عمرو في بني إسرائيل والكَهْفِ {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ} (¬1). وإذا وَصل أَثبت الياء. وأمّا النصب فليس فيه إلَّا إثباتُ الياء؛ لأنّها قد قويت بالحركة في حال الوصل، وجرت مجرى الصحيح، فلم تُحذف في حال الوقف. فأمّا إذا ناديتَ، فالوجهُ إثباتُ الياء، وهو قولُ الخليل (¬2)، وذلك أنّ المنادى المعرفةَ لا يدخله تنوين لا في حالِ وقف، ولا وصلٍ، والذي يُسْقِط الياء هو التنوين. واختار يونسُ (¬3) أن تقول: "يا قاضْ". بحذف الياء؛ لأنّ النداء بابُ حذف وتغيير، فإذا جاز الحذف في غير النداء كان في النداء أولى. واختار سيبويه (¬4) قول يونس. فأمّا قولك: "يا مُرِي" تريد اسم الفاعل من "أَرَى يُرِي"، فالوجهُ إثبات الياء، وعليه الخليلُ ويونسُ (¬5)، لأنّك لو أسقطتَ الياء في الوقف، لأخللت بالكلمة بحذفٍ بعد حذفٍ، فيتوالى إعلالان، وذلك مكروهٌ عندهم. ألا ترى أنّهم لم يُعِلّوا نحو: "هَوى" و"نَوى"؛ لأنّهم قد أعلّوا اللام، ولم يدّغموا نحو: "يَتِدُ" كما ادّغموا "وَتِدًا"، لأنّهم قد حذفوا الواو في "يَتِدُ" فكان يؤدّي إلى الجمع بين إعلالين؟ فلذلك أثبتوا الياء في "يا مُرِي"؛ لأنّ العين محذوفة، وصار ثبوتُها كالعوض. * * * [الوقف علي الاسم المقصور] قال صاحب الكتاب: وإن كان ألفاً, قالوا في الأكثر الأعرف: "هذه عصا وحبلى". ويقول ناس من فزارة وقيس: "حبلي" بالياء، وبعض طييء: "حبلو" بالواو. ومنهم من يسوي في القلب بين الوقف والوصل. وزعم الخليل (¬6) أن بعضهم يقلبها همزة, فيقول: "هذه حبلأ", و"رأيت حبلأ", و"هو يضربهأ". وألف "عصا" في النصب هي المبدلة من التنوين، وفي الرفع والجر هي المنقلبة عند سيبويه (¬7)، وعند المازني هي المبدلة في الأحوال الثلاث. * * * قال الشارح: أمّا المقصور - وهو ما كان آخره ألفًا - فإنّه على ضربين: منصرفٌ، وغيرُ منصرف، فما كان منصرفًا فإن ألفه سقطت في الوصل لسكونها، وسكون التنوين ¬
بعدها، نحو قولك: "هذه عَصًا ورَحًا يا فتى". فإذا وقفتَ، عادت الألف، وكان الوقفُ عليها بخلاف الياء في "قاضٍ"، وذلك قولك: "هذه عَصا" و"رأيت عصا"، و"مررت بعصا". وذلك لخفّة الألف. ألا ترى أنّ من قال في "فَخِذٍ": "فَخْذٌ"، وفي "عَضُدٍ": "عَضْدٌ"، لم يقل في "جَمَلٍ" "جَمْلٌ" لخفّة الفتحة. ويؤيّد ذلك أنّهم يفِرّون من الواو إلى الألف في مثلِ "قالَ"، و"باعَ". وقالوا: "رُضا" في "رُضِيَ"، و"نُها" في "نُهِيَ". فلذلك من استخفافهم الألف أعادوها في الوقف، ولم يفعلوا ذلك في الياء؛ لثقلها. قال الشاعر [من الطويل]: 1224 - أَفي كلِّ عامٍ مَأْتَمٌ تَبْعَثُونَهُ ... على مِحْمَرٍ ثَوَّبْتُمُوهُ وما رُضا وقالوا في "نُهِيَ": "نُها". قال الشاعر [من الكامل]: 1225 - إنَّ الغَوِيَّ إذا نُها لم يُعْتِبِ ¬
وقد اختلفوا في هذه الألف، فذهب سيبويه إلى أنّه في حال الرفع والجرّ لامُ الكلمة، وفي حال النصب بدلٌ من التنوين، وقد انحذفت ألفُ الوصل. واحتجّ لذلك بأنّ المعتلّ مقيسٌ على الصحيح، وإنّما تُبْدَل من التنوين في حال النصب دون الرفع والجرّ. وبعضهم يزعم أنّ مذهب سيبويه أنّها لامُ الكلمة في الأحوال كلّها. قال السيرافيّ: وهو المفهوم من كلامه، وهو قوله (¬1): وأمّا الألفاتُ التي تُحذف في الوصل فإنّها لا تحذف في الوقف. ويؤيّد هذا المذهب أنّها وقعت رَويًّا في الشعر في حال النصب، نحو قوله [من الرمل]: 1226 - رُبَّ ضَيْفٍ طَرَقَ الحَيَّ سُرا صا ... دَفَ زادًا وحديثًا ما اشْتَها فألفُ "سُرَى" هنا رويٌّ، ولا خلاف بين أهل القوافي في أنّ الألف المبدلة من التنوين لا تكون رويًّا. وقال قومٌ - وهو مذهبُ المازنيّ -: إنّها في الأحوال كلّها بدلٌ من التنوين، وقد انحذفت ألفُ الوصل، واحتجّوا بأنّ التنوين إنّما أُبْدِل منه الألفُ في حال ¬
فصل [الوقف علي المرفوع والمنصوب من الفعل المعتل اللام]
النصب من الصحيح؛ لسكونه وانفتاح ما قبله، وهذه العلّةُ موجودة في المقصور في الأحوال كلّها. وهو قولٌ لا ينفكّ من ضُعْف؛ لأنّه قد جاء عنهم "هذا فتى" بالإمالة. ولو كانت بدلاً من التنوين، لما ساغت فيها الإمالةُ، إذ لا سببَ لها. وأمّا غير المنصرف، وما لا يدخله التنوينُ من نحو: "سَكْرى"، و"حُبْلى"، و"القَفا"، و"العَصا"، فألفُه ثابتة، وهي الألف الأصليّة التي كانت في الوصل, لأنّه لا تنوين فيه، فيكونَ الألف بدلاً منه. وقومٌ من العرب يبدلون من هذه الألف ياءً في الوقف، فيقولون: "هذا أَفْعَيْ وحُبْلَيْ"، وكذلك كلُّ ألف تقع أخيرًا, لأنّ الألف خفيّةٌ، وهي أدخلُ في الحلق قريبةٌ من الهمزة، والياء أبينُ منها لأنّها من الفم. قال سيبويه (¬1): ولم يجيئوا بغير الياء؛ لأنّ الياء تُشبه الألفَ في سعة المخرج، وهي لغة لفَزارة وناسٍ من قَيْس، وهي قليلة، والأكثرُ الأوّل. فإذا وصلتَ عادت الألفُ، واستوت اللغتان. وطَيَّىء يجعلونها ياءً في الوصل والوقف، ومنهم من يجعلها واوًا؛ لأنّ الواو أبينُ من الياء إذ كانت الياء أدخلَ في الفم، فكانت أخْفَى منها. وحكى سيبويه (¬2) في الوقف: "هذه حُبْلأْ" بالهمزة، يريد: "حُبْلى خ"، و"رأيت رَجُلأْ"، يريد: "رَجُلا خ"، فالهمزة في "رَجُلأْ" بدلٌ من الألف التي هي عوضٌ من التنوين في الوقف، وليست بدلاً من التنوين نفسه. وإنّما قلنا ذلك لقُرْبٍ ما بين الهمزة والألف وبُعْدٍ ما بينهما وبين النون. وإنما أبدلوها منها؛ لأن الألف أخفى من الهمرْة، والهمزة إذا كان ما قبلها متحرّكًا كانت أبينَ من الألف، والألفُ قريبةٌ من الهمزة, لأنّ الألف تهوي وتنقطع عندها. وممّا يؤيّد أنّ الهمزة في "رَجُلأْ" مبدلةٌ من الألف لا من التنوين أنّك تقول: "رأيت حُبْلأْ" وتهمز، وإن لم يكن فيها تنوينٌ، ولذلك حُكي: "هو يَضْرِبُهَأْ". هذا كلُّه في الوقف، فإذا وصلتَ قلتَ: "هو يضربُها يا هذا"، و"رأيت حُبْلَى أمسِ"، فاعرفه. فصل [الوقف علي المرفوع والمنصوب من الفعل المعتل اللام] قال صاحب الكتاب: والوقف على المرفوع والمنصوب من الفعل الذي اعتلت لامه بإثبات أواخره نحو يغزو ويرمي، وعلى المجزوم والموقوف منه بإلحاق الهاء نحو لم يغزه ولم يرمه ولم يخشه واغزه وارمه واخشه، وبغير هاء نحو لم يغز ولم يرم واغز وارم إلا ما أفضى به ترك الهاء إلى حرف واحد، فإنه يجب الإلحاق نحو قه وره. * * * ¬
قال الشارح: الفعل على ضربين: صحيحٌ ومعتلٌ، فالصحيحُ يوقَف عليه كما يوقَف على الاسم، فيسوغ فيه الإسكان والإشمامُ والرومُ والتضعيفُ, لأنّ العلّة واحدةٌ وإن كان معتلاًّ. فالوقفُ على المرفوع والمنصوب بإثبات لامه من غير حذف، وليس كالاسم. وإنّما كان كذلك من قبل أنّ الفعل لا يلحقه تنوينٌ في الوصل يوجب الحذفَ كما وُجِد في الاسم، فلذلك جرى حاله في الوقف كحاله في الوصل، فتقول في الرفع: "هو يَغْزُو يا فتى"، و"يَرْمِي يا فتى"، و"يَخْشَى يا فتى"، وفي النصب: "لَنْ يَغْزُوَ يا فتى"، و"لن يَرْمِيَ يا فتى"، و"لن يَخْشى يا فتى". فإذا وقفت، أسكنتَ، فقلت: "هو يَغْزُو"، و"هو يَرْمِي"، و"هو يَخْشى". وكذلك النصبُ، نحو: "لن يَغْزُو"، و"لن يَرْمِي"، و"لن يَخْشى". فأمّا الوقف على المجزوم من ذلك، فلك فيه وجهان: أجودُهما أنّ تقف بالهاء، فتقول: "لم يَغْزُهْ"، و"لم يَرْمِهْ"، و"لم يَخْشَهْ"، وكذلك في الأمر المبنيّ، نحو: "اغْزُهْ"، و"ارْمِهْ"، و"اخْشَهْ"، والأصلُ: "لم يَغْزُ"، و"لم يَرْمِ"، و"لم يَخْشَ". حُذفت لاماتها للجزم، وبقيت الحركاتُ قبلها تدلّ على المحذوف، فالضمّةُ في "لم يَغْزُ" دليلٌ على الواو المحذوفة، والفتحةُ في "لم يَخْشَ" دليل على الألف المحذوفة، والكسرة في "لم يَرْمِ" دليل على الياء المحذوفة. وكذلك في الأمر المبنيّ، نحو: "اغْزُ"، و"ارْمِ"، و"اخْشَ". فإذا وُقف عليه، لزم حذفُ الحركات، إذ الوقفُ إنّما يكون بالسكون لا على حركة، فشحّوا على الحركات أنّ يُذْهِبها الوقفُ، فيذهبَ الدالُّ والمدلولُ عليه، فألحقوها هاء السكت ليقع الوقفُ عليها بالسكون، وتسلم الحركاتُ، وكذلك "ارْمِهْ"، و"اغْزُهْ"، و"اخْشَهْ". والوجه الثاني أن تقف بلا هاء بالإسكان، فتقول: "لم يَرْمْ"، و"لم يَغْزْ"، و"لم يَخْشْ"، و"اغْزْ"، و"ارْمْ"، و"اخْشْ". ووَجْهُه أنّ الوقف عارضٌ، وإنّما الاعتبارُ بحال الوصل. قال ابن السرّاج: وهذه اللغةُ أقَلُّ اللغتَيْن. هذا إذا كان الباقي بعد الحذف حرفَيْن فصاعدًا، فأمّا إذا أدَّى إلى أن يبقى على حرف واحد، لم يكن بدٌّ من الهاء، نحو قولك في الأمر من "وَقى يَقِي": "قِهْ"، ومن "وَعى يعي": "عِهْ"، ومن "وَرى الزَّنْدُ يَرِي": "رِهْ". وذلك أنّ الفاء قد انحذفت لوقوعها بين ياء وكسرة على حدّ حَذْفها في "يَعِدُ"، و"يَزِنُ". واللامُ محذوفة للأمر، والحركةُ دليلٌ على المحذوف، فإذا وقعت عليه بالسكون، فيكون إجحافًا، فوجب أنّ تأتي بالهاء ليقع السكون عليها، وتسلم الحركةُ دليلاً على المحذوف؛ لأنّ المحذوف إذا كان منه خَلَفٌ، وعليه دليلٌ، كان كالثابت الموجودِ، مع أنّ ذلك يكاد أن يكون متعذّرًا لأنّ الابتداء بالحرف يوجب تحريكه، والوقفُ عليه يقتضي إسكانَه، والحرفُ الواحدُ يستحيل تحريكُه وإسكانُه في حال واحدة، فاعرفه.
فصل [حذف الواو والياء في الوقف]
فصل [حذف الواو والياء في الوقف] قال صاحب الكتاب: وكل واو وياء لا تحذف تحذف في الفواصل والقوافي كقوله تعالى: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (¬1) و {يَوْمَ التَّنَادِ} (¬2) {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (¬3). وقول زهير [من الكامل]: 1227 - [ولأنت تفري ما خلقت] ... وبعض القوم يخلق ثم لا يفر وأنشد سيبويه [من البسيط]: 1228 - لا يبعد الله إخواناً تركتهم ... لم أدر بعد غداة الأمس ما صنع أي صنعوا. * * * ¬
قال الشارح: المراد بالفواصل رُؤوسُ الآي ومقاطعُ الكلام، وذلك أنّهم قد يطلبون منها التماثلَ كما يُطلَب في القوافي، والقوافي يُشترط فيها ذلك، ولذلك سُمّيت قافيةً، مأخوذٌ من قولهم: "قَفَوْتُ"، أي: تَبِعْتُ، كأنّ أواخر الأبيات يتبع بعضها بعضًا، فتجري على منهاج واحد. فإذا وقفوا عليها، فمنهم من يُسوِّي بين الوصل والوقف، كأنّهم يفرقون بين الشعر والكلام بذلك، فيقولون [من الطويل]: قِفَا نَبْكِ من ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلي (¬1) وقالوا [من الوافر]: سُقِيتِ الغَيْثَ أَيَّتُهَا الخِيامو (¬2) وقالوا في النصب [من الوافر]: أَقِلّي اللَّوْمَ عاذِلَ والعِتابا (¬3) فيقفون كما يصلون. ومنهم من يُجْريه مجرى الكلام، فيُثْبِت فيه ما يُثْبِت في الكلام، ويحذف فيه ما يحذف فيه، وينشدون: أَقِلّي اللَّوْمَ عاذِلَ والعِتابْ وسقيت الغيث أيّتها الخيامْ كما يفعلون ذلك في الكلام، وقد يحذفون من الياءات الأصلية والواواتِ ما لا ¬
يُحذف في الكلام، وذلك إذا كان ما قبلها رَوِيًّا، فإنّهما يُحذفان كما يحذف الزائدان لإطلاق القافية إذا كان ما قبلها رويًّا، كما أنّ تلك كذلك. فلمّا ساوتها في ذلك، جرت مجراها في جواز الحذف. وهو في الأسماء أمثلُ منه في الأفعال, لأنّ الأسماء يلحقها التنوينُ في الكلام، فيُحذف له الياء. فممّا جاء في الأسماء قوله تعالى: {يَوْمَ التَّنَادِ} (¬1)، فحُذفت الياء، وكان فيها حسنًا، وإن كان الحذف في نحو "القاضي" مرجوحًا قبيحًا. ومثله {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (¬2). وقالوا في الفعل {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} (¬3)، و {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} (¬4): ولا يجوز في الكلام "زيدٌ يَرْمْ"، ولا "يَغْزْ"؛ لأنّ الأفعال لا يلحقها تنوينٌ يوجب الحذفَ، ومنه قول زُهَيْر [من الكامل]: ولأَنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبعـ ... ـضُ القوم يَخلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِ (¬5) فإنّه سكّن الراء للوقف، ولم يُطلِق القافية كحال الوصل. وإثباتُ الياء أجودُ, لأنّه فعلٌ. مدح هَرِمَ بن سِنان المُرّيَّ بالحَزْم وإمضاء العَزْم. ومعنى "يَفْرِي": يقطع، يقال: "فَرَيْت الأديمَ" إذا قطعتَه للصَّلاح، و"أفريته" إذا قطعته للفَساد. ومعنى "خلقتُ": قدّرتُ، يقال: "ما كلُّ من خلق يفري" (¬6)، أي: ما كلّ من قدّر قطع، وهو مثلٌ يضرب لمن يعزم ولا يفعل. فأمّا قول الشاعر [من البسيط]: لا يبعد اللَّه ... إلخ فهو من أبيات الكتاب، والشاهدُ فيه حذفُ الواو التي هي ضمير، والمراد: صنعوا، ومثلُ ذلك لا يحسن في الكلام، وهو بالضرورة أشبهُ، والطريقُ فيه أنّه حذف الواو اجتزاءً بالضمّة عنها، على حدّ قوله [من الوافر]: فلو أنّ الأَطِبَّا كانُ حَوْلِي ... وكان مع الأطِبّاء الأُساةُ (¬7) فاجتزأ بالضمة في "كانُ" عن الواو، ثمّ حذف الواو للوقف. ومثله قول الآخر [من الرجز]: 1229 - لو أنّ قَوّمي حِينَ أَدْعُوهم حَمَلْ ... على الجِبال الصُّمّ لا رْفَضَّ الجَبَلْ والمراد: حملوا. ¬
فصل [الوقف علي الاسم المفرد المنتهي بتاء التأنيث]
فصل [الوقف علي الاسم المفرد المنتهي بتاء التأنيث] قال صاحب الكتاب: وتاء التأنيث في الاسم المفرد تقلب هاء في الوقف, نحو: غرفه وظلمه, ومن العرب من يقف عليها تاء. قال [من الرجز]: بل جوز تيهاء كظهر الحجفت (¬1) وهيهات أن جعل مفرداً وُقف عليه بالهاء، وإلا فبالتاء. ومثله في احتمال الوجهين "استأصل الله عرقاتهم وعرقاتهم". * * * قال الشارح: متى كان آخِرُ الاسم تاء التأنيث من نحو "طَلْحَةَ"، و"حَمْزَة"، و"قائمةٍ"، و"قاعدةٍ"، كان الوقفُ عليه بالهاء، فتقول: "هذا طَلْحَهْ"، و"هذا حَمْزَهْ". وكذلك "قائمهْ"، و"قاعدهْ". وذلك في الرفع والنصب والجرّ. والذي يدلّ أنّ الهاء بدلٌ من التاء أنّها تصير تاءً في الوصل. والوصلُ ممّا ترجع فيه الأشياء إلى أصولها، والوقف من مواضع التغيير، ألا ترى أنّ من قال من العرب: "هذا بَكُرْ"، و"مررت ببَكِرْ"، فنقل الضمّة والكسرة إلى الكاف في الوقف، فإنّه إذا وصل، أجرى الأمر على حقيقته، فقال: "هذا بَكْرٌ"، و"مررت ببَكْرٍ". وإنّما أبدلوا من التاء الهاء؛ لئلاّ تُشْبِه التاء الأصلية في نحو: "بَيْتٍ"، و"أبْياتٍ"، والملحقةَ في نحو: "بِنْتٍ"، و"أُخْتٍ" مع إرادة الفرق بينها وبين التاء اللاحقة للفعل في نحو: "قَامَتْ"، و"قَعَدَتْ". على أنّ من العرب من يُجْرِي الوقف مجرى الوصل، فيقول ¬
فصل [إجراء الوصل مجري الوقف]
في الوقف: "هذا طَلْحَتْ"، وهي لغة فاشية حكاها أبو الخطاب، ومنه قولهم: "وعليه السلام والرَّحْمَتْ". ومنه قولهم [من الرجز]: بل جَوزِ تيهاءَ كَظَهْرِ الحَجَفَتْ وقال الآخر [من الرجز]: اللَّهُ نَجَّاكَ بَكفَّي مُسْلِمَتْ ... من بَعْدِما وبَعْدِما وبَعْدِمَتْ (¬1) صارت نفوسُ القوم عند الغَلْصَمَتْ ... وكادتِ الحُرَّةُ أن تُدْعَى أَمَتْ وكلّ ذلك إجراء الوقف مجرى الوصل، فأمّا قوله: "وبعدمت"، فالمراد: بعدما، فأبدل الألف في التقدير هاء، فصارت "بَعْدِمَهْ"، وقد أُبدلت الهاء من الألف. قال الشاعر [من الرجز]: قد وَرَدَتْ من أَمْكِنَهْ ... من هاهُنا ومن هُنَهْ (¬2) يريد "هُنا"، ثمّ أبدل الألف هاءً لتُوافِق بقيّةَ القوافي، وشجّعه على ذلك شَبَهُ الهاء المقدّرة بتاء التأنيث، وكانت هذه اللغةُ من قبيل إجراء الوقف مجرى الوصل. فأمّا "هَيْهاتَ" "هَيْهاتِ" ففيها لغتان: فتحُ التاء، وكسرُها. فمَن فتح جعلها واحدًا، ووقف عليها بالهاء. ومن كسرها جعلها جمعًا، ووقف عليها بالتاء. فأمّا الألف فيمن فتح فيحتمل أمرَيْن: يجوز أنه يكون من باب "الجَأْجَأَةِ" و"الصِّيصِيَةِ"، فتكون مبدلة من الياء، والأصلُ: هَيْهَيَةٌ، فيكون على هذا معكوسَ قولهم لصوت الراعي: "يَهْيَاة". ويجوز أن تكون الألف زائدة، ويكون من قبيلِ "الفَيْفاةِ" (¬3). والأوّلُ أوجه؛ لأنّ باب "القِلْقال" أكثرُ من "سَلِسَ" و"قَلِقَ". فأمّا قولهم: "استأصل الله عرقاتهم"، والمراد: أَصْلَهم، فمَن فتح جعله مفردًا، وكانت الألف فيه للإلحاق بـ "هِجْرَعٍ" (¬4)، ونظيرُه في الإلحاق "مِعْزًى" و"ذِفْرًى"، فيمن نوّن، والوقفُ عليه بالهاء. ومن كسر جعله جمعًا، وكانت الألف هي المصاحبةَ لتاء الجمع المؤنّث، وليست للإلحاق كالقول الأول، كأنّه جمعُ "عِرْقٍ"، فاعرفه. فصل [إجراء الوصل مجري الوقف] قال صاحب الكتاب: وقد يجري الوصل مجرى الوقف, منه قوله [من الرجز]: مثل الحريق وافق القصبا (¬5) ¬
ولا يختص بحال الضرورة يقولون: "ثلاثة أربعة", وفي التنزيل: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} (¬1). * * * قال الشارح: قد يجرى الوصل مجرى الوقف، وبابُه الشعرُ، ولا يكون في حال الاختيار. من ذلك قولهم: "السَّبْسَبَّا"، و"الكَلْكَلاَّ". ومنه قول الشاعر [من الرجز]: 1230 - مَنْ لِيَ مِن هِجْرانِ لَيْلى مَنْ لِي ... والحَبْلِ من حِبالِها المُنْحَلّ تَعَرَّضَتْ لي بمكانٍ حِلّ ... تَعَرُّضَ المُهْرَةِ في الطّوَلّ يريد: "الطّوَلِ". ومن ذلك [من الرجز]: مثل الحريق وافق القَصَبّا (¬2) وقول الآخر [من الرجز]: 1231 - تَرى مَزادَ سَعْدٍ المُدْخَلِّ ... بَيْنَ رَجا الحَيْزُومِ والمَرْحَلِّ ¬
يريد: المدخلِ والمرحلِ. وقد تقدّم نظائرُ ذلك في غير الشعر تشبيهًا بالشعر. من ذلك ما حكاه سيبويه من قولهم في العدد: "ثَلاَثَهَرْبَعَهْ"، فأبدل من التاء هاء في الوقف، ثمّ ألقى حركة الهمزة على الهاء، وحذفها على حدّ القراءة في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} (¬1). وذلك إنّما يكون في الوصل. ومن ذلك قوله [من الرجز]: 1232 - لمّا رأى أنْ لا دَعَهْ ولا شِبَعْ ... مالَ إلى أَرْطاةِ حِقْفٍ فاضْطَجَعْ ¬
فصل [الوقف علي الأسماء المبنية]
فأبدل من التاء في "دَعَةٍ" هاء، وأثبتها في الوصل. ومنه قوله تعالى: {لكنّا هو الله ربّي} (¬1)، في قراءة ابن عامر بإثبات الألف، والأصل "أَنا"، فأُلقيت حركة الهمزة على نون "لكِنْ"، وحُذفت الهمزة، وادُّغمت النون في النون. والقياسُ حذفُ الألف من "أَنا" في الوصل، لأنّها لبيان الحركة في الوقف كالهاء في {كِتَابِيَهْ} (¬2)، و {حِسَابِيَهْ} (¬3) وإنّما بني الوصل فيه على الوقف. ونحوه قوله تعالى: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (¬4). قال الزجّاج إثباتُ الألف هنا جيّدٌ؛ لأنّ الهمزة قد حُذفت، فصارت الألف عوضًا منها، يريد في: "لكنّا". فصل [الوقف علي الأسماء المبنية] قال صاحب الكتاب: وتقول في الوقف على غير المتمكنة "أنا" بالألف، و"أنه" بالهاء، و"هو" بالإسكان، و"هوه" بإلحاق الهاء، وههنا وههناه وهؤلاء وهؤلاه إذا قصر، وأكرمتك وأكرمتكه، وغلامي وضربني وغلاميه وضربنيه بالإسكان, وإلحاق الهاء فيمن حرك في الوصل، وغلام وضربن فيمن أسكن في الوصل، وفي قراءة أبي عمرو {ربي أكرمن} (¬5) و {أهانن} (¬6). وقال الأعشى [من المتقارب]: 1233 - ومن شانيء كاسف وجهه ... إذا ما انتسبت له أنكرن * * * ¬
قال الشارح: قوله: "غير متمكّن"، يريد أنّه قد خرج عن مكانه من الاسميّة إلى شبه الحرف، فبُنى. فمن ذلك "أَنا" الاسمُ فيه الألفُ والنون، والألف دخلت لبيان الحركة في الوقف، يدلّ على ذلك أنّك إذا وصلتَ، سقطت الألفُ، فتقول: "أنَ فعلتُ". والوصلُ ممّا يردّ الأشياء إلى أصولها في الغالب، وذكر سيبويه أنّ من العرب من يُثْبِت هذه الألف في الوصل (¬1) , فيقول: "أَنَا فعلت" وقد قرأ به نافعٌ في قوله تعالى: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} (¬2)، و {أَنَا آتِيكَ بِهِ} (¬3). ومنه قول الشاعر [من الرجز]: أَنا أبو النَّجْمِ وشِعْري شِعْري (¬4) وقول الآخر [من المتقارب]: فَكَيْفَ أَنَا وانتحالي القَوافِي (¬5) وقول الآخر [من الوافر]: أَنا سَيْفُ العَشِيرَةِ فاعْرِفُونِي ... حَمِيدٌ قد تَذرَّيْتُ السَّناما (¬6) فقد كثُر ذلك عنهم حتى قال الكوفيون: إنّها من الكلمة، وليست زائدة. فهذه الألفُ في كونها مجتلَبةً في الوقف لبيان الحركة كالهاء في "كتابِيَهْ" و"حسابِيَهْ". وربّما وقعت الهاء موقعَها في هذا الموضع, لأنّ مجراهما واحدٌ. قالوا: "أَنَهْ". ومنه قول حاتمٍ: "هذا فَزْدِي أَنَهْ" (¬7). ومن ذلك قولهم: "حَيَّ هَلا" في الوقف. فإذا وصلوا قالوا: "حَيَّ هَلَ" بفتح اللام من غير ألف، وإن شئت قلت: "حَيَّ هَلْ" بالسكون من غير حركة. ¬
ولم تقف العربُ فيِ شيء من كلامها بالألف لبيان الحركة إلَّا في هذَيْن الموضعَيْن، أعني "هَلا"، و"أَنا". وتقف في الباقي بالهاء. وأمّا "هُوَ" من الأسماء المضمرة، فإنّ الأكثر الوقفُ عليها بالهاء لبيان حركة الواو، وكذلك الوقفُ على "هِيَ". تقول: "هِيَهْ", ولا تحذف منه شيئًا كما تحذف في المتمكّن. قال الشاعر، أنشده سيبويه [من المتقارب]: 1234 - إذا ما تَرَعْرَعَ فينا الغُلام ... فَمَا إنْ يُقالُ له مَن هُوَهْ ومن العرب من يقف بالسكون، فيقول في الوقف: "هُوْ"، و"هِيْ"، بخلافِ "أنَ"، فإنّه لا يُوقَف عليها بالسكون، فلا يقال في جواب: "من فعل؟ ": "أنْ"، كما قيل: "هُوْ"، و"هِيْ". وذلك أنّ "أنَ" لا يضاف إلى قلّة حروَفها أنّ آخِرَها نونٌ، وهي خفيّةٌ، وليست هنا حرفَ إعراب كآخِرِ "يَدٍ" و"دَمٍ"، فاجتُلب لخفاء النون، وقلّةِ الحروف، وأنّ آخِرَها ليس بحرف إعراب، الألفُ في الوقف، ولزمت ذلك بخلافِ "هُوَ"، و"هِىَ" فإنّ آخِرَهما حرفُ مدّ ولِينٍ. وهذا أبينُ من النون. هذا على لغةٍ من فتح، فأمّا من أسكن، فليس فيه إلَّا الوقفُ بالسكون لا غيرُ. وقد ألحقوا هذه الهاء مع الألف في الوقف، وذلك لخفاء الألف وتسفُّلِها، وذلك قولهم: "هاؤلاهْ"، و"هاهناهْ". والأجود أن يُوقَف بغير هاء. ومن قال: "هاهناهْ" و"هاؤلاهْ"، لم يقل في "أَفْعَى": "أَفْعَاهْ", ولا في "أَعْمَى": "أَعْمَاهْ"؛ لأنّ هذه الأسماء متمكّنةٌ معربةٌ، فلم تُلْحَق الهاء في الوقف لئلاّ يلتبس بالإضافة، إذ لو قال: "أَعْماهْ" و"أَفْعاهْ"، لتُوهّم فيهما الإضافةُ إلى مضمرٍ غائبٍ، ومع ذلك فإنّ الألف في "أعمى" ونحوه في حكم المتحرّك بحركة الإعراب. ألا ترى أنّه لو كان في هذا الاسم غيرُ ¬
الألف، لدخلها حركاتُ الإعراب؟ فلمّا كانت الألفُ في حكمِ ما هو متحرّكٌ بحركة الإعراب، لم يُدْخِلوا عليها الهاء؛ لأنّ هذه الهاء لا تتبع حركة إعراب. وقوله: "إذا قُصر" أي: "هاؤلاء"، فإنّه إذا قُصِر وُقف بالألف، أو أُلحق الهاء. وأمّا من مَدَّ وهَمَزَ، فإنّه يقف على الهمزة بالسكون. ولا تتبع هذه الهاء شيئًا من السواكن إلَّا الألفَ لخفائها، فلا يقولون في "هُو"، "هُوهْ" ولا في "هِي": "هِيهْ" على لغة مَن أسكن الواو والياء؛ لأنّ الألف أخفى لبُعْدها، فكانت إلى البيان أحوج. فأمّا كاف الضمير من نحو "أكرمتُكَ"، و"أعطيتُكِ"، فلك فيه وجهان: الوقفُ بالسكون، فتقول: "أكرمتُكْ"، و"أعطيتُكْ". والوجهُ الآخر أنّ تقف بالهاء، فتقول: "أكرمتُكَهْ"، و"أعطيتُكِهْ"، شُحًّا على الحركة؛ لأنّ الكاف مع المذكّر مفتوحةٌ، ومع المؤنّث مكسورةٌ، فالحركةُ فاصلةٌ بين المذكر والمؤنّث، فأرادوا الفصل والبيان في الوقف على حدّه في الوصل. ومنهم من يُبالِغ في الفصل، فيُلْحِق الكافَ مع المذكّر ألفًا، ثُمّ يُلْحِق هاء السكت، ومع المؤنّث ياء، فيقول في المذكّر: "أكرمتُكَاهْ"، وفي المؤنّث: "أكرمتُكِيهْ"؛ لأنّ الفصل بحرفٍ وحركةٍ أبلغُ وآكَدُ من الفصل بحركةٍ لا غيرُ, كأنّهم حملوا الكاف على الهاء إذ كانتا علامتيْ إضمار ومهموستَيْن. فلمّا اشتركتا فيما ذكرناه، حُمل أحدهما على الآخر. فكما تقول في المذكّر. "غلامُهُو"، وفي المؤنّث: "غلامُهاهْ"، كذلك تقول في الكاف. وأجودُ اللغتين أنّ لا تُلْحِق الكافَ المدّةَ. وإنّما فعلوا ذلك بالهاء لضُعْفها وخَفائها وبُعْدِها. فأمّا الياء في "ضَرَبَنِي" و"غُلامِي"، ففيها لغتان: الفتحُ والإسكانُ. فمَن فتح فلأنّها اسمٌ على حرف واحد، فقُوّي بالحركة كالكاف، ومن أسكن فأراد التخفيف لثقل الحركة على الياء المكسور ما قبلها. فمن فتح الياء، فالوقفُ عليها على وجهَيْن: الإسكانُ، نحو قولك: "زيدٌ ضَرَبَنِي"، و"هذا غلامِي". ولا تحذف الياء؛ لأنّها قد قويت بالحركة في حال الوصل، ولم تحذف في الوقف، وجرت مجرى ياء "القاضي" في حال النصب. والوجهُ الثاني أنّ تقف بالهاء لبيان الحركة، فتقول. "ضَرَبَنِيَهْ"، و"غلامِيَهْ". ومنه قراءةُ الجماعة: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} (¬1). ومَن أسكن الياء فيهما، فالوقفُ على وجهَيْن أيضًا: أجودُهما إثباتُ الياء؛ لأنّه لا تنوينَ معها يوجب حذفَها، فهي ثابتةٌ في الوصل، ولا تحذف في الوقف، وجرت مجرى ¬
ياء "القاضي"؛ لأنّها ياءٌ ساكنةٌ بعد كسرة في اسم، فثبتت كسرتُها. والوجه الآخر أن تحذفها فيهما، فتقول: "ضَرَبَنْ"، و"هذا غلامْ"، وأنت تريد: "غلامي"، و"ضربني"؛ لأنّ "نِي" اسمٌ. وقد قرأ أبو عمرو: {رَبِّي أَكْرَمَنْ} (¬1) و {رَبِّي أَهَانَنْ} (¬2) على الوقف. وكان هذا رأي من يقول: "هذا القاضْ" فيحذف الياء. وحذفُ الياء في الفعل حسنٌ؛ لأنّها لا تكون إلّا وقبلها نونٌ، فالنونُ تدل عليها فلا لَبْسَ فيها, ولذلك كثُر في القرآن. فأمّا إذا قلت: "هذا غلامْ"، ووقفتَ عليه بالسكون، فلا يُعْلَم أنّه يراد به الإضافة إلى الياء أم الإفرادُ، ولذلك منع بعض الأصحاب جوازَه لأجل اللبس. وقد أجازه سيبويه (¬3)؛ لأنّ الوصل يُبيِّنه. ومن ذلك قول الأعشى [من المتقارب]: ومن شانىء كاسف ... إلخ وقبله: فَهَلْ يَمْنَعَنِّي ارْتِيادي البِلا ... دَ مِن حَذَرِ الموتِ أن يَأْتِيَنْ (¬4) أليس أخو الموت مُسْتَوْثِقًا ... عَلَيَّ وإن قُلْتُ قد أَنْسَأَنْ والمراد: أَنْكَرَنِي، ويَأْتِيَنِي، وأَنْسَأَنِي، فحذف في الوقف كما قال تعالى: {أَكْرَمَنِ} (¬5)، و {أَهَانَنِ} (¬6). والشانىء: المُبْغِضُ، والكاسفُ: العابسُ. أي إذا حللتُ به وتَضَيَّفْتُه، عبس، وإن انتسبتُ له أنكرني، وإن كان عارفًا بي. * * * قال صاحب الكتاب: وضربكم وضربهم وعليهم وبهم ومنه وضربه بالإسكان فيمن ألحق وصلاً أو حرك، و"هذه" فيمن قال: "هذه هي أمه الله", و"حتَّام" و"فيم" و"حتامه" و"فيمه", بالإسكان والهاء، و"مجيء مه؟ ", و"مثل مه؟ " في "مجيء مَ جئت؟ " و"مثل مَ أنت؟ " بالهاء لا غير. * * * قال الشارح: أمّا "ضَرَبَكُمْ"، و"ضَرَبَهُمْ"، و"عَلَيْهِمْ"، و"بِهِمْ"، فإنّك تقف عليها بسكون الميم لا غير، وتحذف الياء والواو منها؛ لأنّهما زائدان. وقد يحذفان في الوصل كثيرًا، نحو: "ضَرَبَكُمْ قَبْلُ"، و"ضَرَبَهُمْ يا فتى"، و {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} (¬7)، و"بِهِمْ يُستعان". والأصلُ أن يلحق الميمَ الواوُ، نحو: "ضَرَبَكُمُو"، و"ضَرَبَهُمُو"، و"بِهِمِي"، بدليل ثبوتها في التثنية، نحو: "ضَرَبَكُمَا"، و"ضَرَبَهُمَا"، و"بِهِمَا". وإنّما حذفوا الواو ¬
لضرب من التخفيف لكثرة الاستعمال، وثقل اجتماع الضمّتَيْن مع الواو في "ضَرَبَكُمُو"، و"ضَرَبَهُمُو"، والكسرتَيْن والياء في "بِهِمِي" ونحوه. فإذا وقفتَ، لم يكن إلّا الحذفُ، ولزم ذلك إذ كنتَ تحذف في الوصل. وكذلك الوقف على "مِنْهْ" و"ضَرَبَهْ" بالإسكان، والأصلُ وصلُهما بحرف مدّ، نحو: "مِنْهُو"، و"ضَرَبَهُو". يدلّ على ذلك ثبوتُها مع المؤنّث، نحو: "مِنْها"، و"ضَرَبَها". قال سيبويه (¬1): جاءت الهاء مع ما بعدها ها هنا مع المذكّر، كما جاءت وبعدها الألفُ في المؤنّث. وقد اختلفوا في الواو في نحو: "ضربهمو" والياء في نحو "بِهِمِي"، فقال قومٌ: إنّهما من نفس الاسم، وقال قوم: إنّهما زائدان، وأجمعوا في المؤنّث أنّ الألف من نفس الاسم. وقد اختلفوا في مذهب سيبويه في ذلك، والظاهرُ من كلامه أنّ الواو والياء ليسا من الاسم. وقد يحذفونهما في الكلام كثيرًا، فإذا كان قبل الهاء حرفُ مدّ ولين، كان حذفُ الواو والياء أحسن من الإثبات, لأنّ الهاء من مخرج الألف، والألفُ تُشْبه الواوَ والياء، فكأنّهم فرّوا من اجتماع المتشابهات، فحذفوها, ولذلك كان قولُه: {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} (¬2) و {إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ} (¬3)، {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} (¬4)، و {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} (¬5) أحسن القراءتين. فعلى ذلك قولك: "مِنْهُو"، و"عَنْهُو" أوجهُ من الحذف، فيكون قوله تعالى: {مِنْهُو آيَاتٌ محكمات} (¬6) أوجه القراءتين. وبعضهم لا يفصل بين حرف المدّ وغيره من السواكن، ويختار {مِنْهُ آيَاتٌ}، و"أصابتْهُ جائحةٌ"، وهو اختيارُ أبي العبّاس المبرّد والسيرافيّ. وهو الصواب عندي، وذلك أنّ الهاء خفيّةٌ، فصارت في حكم ساكنَيْن كـ أَيْنْ" و"كَيْفْ". فإذا وقفوا على هذه الهاء، فليس إلا الحذفُ والوقوفُ عليها غيرَ موصولة؛ لأنّهم قد يحذفون في الوقف ما يُثْبِتونه في الوصل، والصلةُ في الهاء ضعيفةٌ؛ لأنّها ليست من الكلمة على الصحيح من المذهب, ولا يختار حذفُها في الوصل إذا كان قبلها ساكنٌ، فلذلك لزم الحذفُ. وأمّا الهاء في "هذه أَمَةُ الله" فليست زائدة، وإنّما هي بدلٌ من الياء في "هَذِي". والدليلُ على ذلك أنّك تقول في تحقيره: "ذَيَّا"، كما تقول في تحقيرِ "ذا"، وليست الهاء ¬
في "هذِهِ" للتأنيث كالهاء في "طَلْحَهْ"، و"حَمْزَهْ"؛ لأنّ الهاء في "طلحهْ"، و"حمزهْ" زائدة وتَجِدها في الوصل تاء. والهاء في "هذِهِ" هاءٌ في الوصل والوقف، وهي عينُ الفعل، وإنّما كُسرت، ووُصلت بالياء لأنّها في اسم غير متمكّن مبهم، فشُبّهت بهاء الإضمار الذي قبله كسرةٌ، نحو قولك. "مررت بِهِ"، و"نظرت إلى غلامِهِ". قال سيبويه: ولا أعلمُ أحدًا يضمّها؛ لأنّهم شبّهوها بهاء الضمير، وليست الضميرَ، فحملوها على أكثر الكلام، وأكثرُ الكلام كسرُ الهاء إذا كان قبلها كسرةٌ، ووصلوا بالياء كما وصلوا في قولك: "بِه"، و"بغلامه". ومن العرب من يُسْكِنها في الوصل، ويجري على أصل القياس، يقول: "هذِهْ هندٌ"، و"نظرتُ إلى هذِهْ يا فتى". هذا كلُّه كلامٌ على الوصل، فأمّا الوقف فبإسكان الهاء لا غير، وحذف الياء في كلتا اللغتين. أمّا من أسكنها في الوصل؛ فالأمرُ فيه ظاهرٌ تتساوى حال الوصل والوقف؛ لأنّ الياء لم تكن موجودة في الوصل، فلا تثبت في الوقف. وأمّا من وصلها، فإنّه يحذفها في الوقف، كما يحذفها من "بِهِي" و"عليهِي". وإذا ساغ الحذف في "بهي" ونحوه مع أنّه مختلفٌ في زيادتها، كان الحذف هنا أولى، لتيقُّن الزيادة. فأمّا "حَتّامْ"، و"فِيمْ"، و"عَلامْ"، فالهاء في هذه الحروف أجودُ، نحو قولك في الوقف: "حَتّامَهْ"، و"فِيمَهْ" و"عَلامَهْ"؛ لأنّك حذفت الألف في "ما"، وبقيت الفتحةُ دليلاً على المحذوف، فشحّوا على الفتحة أنّ يحذفها الوقفُ، فيزول الدليلُ والمدلولُ عليه، فألحقوها هاء السكت، فيقع الوقفُ عليها، وتسلم الفتحةُ، فصار ذلك كالعمل في "اغْزُهْ"، و"ارْمِهْ"، وقومٌ من العرب يقفون بالإسكان من غير هاء، ويقولون: "فِيمْ"، و"لِمْ"، و"عَلَامْ"، ويحتجّ بأنّ الوقف عارضٌ، والحركةُ تعود في الوصل. وقد أسكن بعضهم الميم في الوصل. قال الشاعر [من الرمل]: 1235 - يا أَبَا الأَسْوَدِ لِمْ خَلَّيْتَني ... لهُمومٍ طارِقاتٍ وذِكَرْ وذلك من قبيل إجراء الوصل مجرى الوقف ضرورةً، كـ "القَصَبَّا"، و"عَيْهَلٍّ". ¬
فصل [الوقف علي النون الخفيفة]
وأمّا قولهم: "مَجِيءَ مَ جئتَ؟ " و"مِثْلُ مَ أنت؟ " فإنّهم قد حذفوا الألف من "ما" مع هذه الأسماء، كما حذفوها مع حروف الجرّ, لأنّها خافضةٌ لِما بعدها كالحروف، فأُجريت في الحذف مجراها. فإذا وقفت على "ما" منها، فبالهاء لا غير، وليس الأمرُ فيها كـ "حَتّامْ"، و"إِلَامْ"؛ لأنّ "حَتَّى" حرفٌ، وكذلك "إلى"، والحرفُ لا يستقلّ بنفسه، ولا ينفصل ممّا بعده، فتنزّلا منزلةَ الكلمة الواحدة، فجاز إسكانُها، وأمّا "مَجِيءٌ" و"مِثلٌ"، فإنّهما اسمان منفصلان ممّا بعدهما، وصار ما بعد حذف الألف على حرف واحد، فكرهوا ذلك، فألحقوه الهاء، وقالوا: "مجيءَ مَهْ؟ " و"مِثْلُ مَهْ؟ " ليقع السكتُ عليه، ولا يخرج الاسم عن أبنية الأسماء، فاعرفه. فصل [الوقف علي النون الخفيفة] قال صاحب الكتاب: والنون الخفيفة تبدل ألفاً عند الوقف, تقول في قوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (¬1): لنسفعا. قال الأعشي [من الطويل]: [وإياك والميتات لا تقربنها] ... ولا تعبد الشيطان والله فاعبدا (¬2) وتقول في "هل تضربن يا قوم": "هل تضربون", بإعادة واو الجمع. قال الشارح: وأمّا نونُ التأكيد الخفيفةُ نحو قوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (¬3)، و"اضْرِبَنْ" في الأمر، فإنّها تبدل في الوقف ألفًا كالتنوين لمضارعتها إيّاه، لأنّهما جميعًا من حروف المعاني، ومحلُّهما آخِرُ الكلمة، وهي خفيفةٌ ضعيفةٌ. فإذا كان قبلها فتحة، أبدل منها في الوقف ألف كما أبدل من التنوين، ووقفت عليها، فقلت: {لنسفعا} و"اضْرِبَا". وأنشد للأعشى [من الطويل]: ولا تعبد الشيطان ... إلخ ¬
يريد: فاعْبُدَنْ، وأوّلُه: وإيّاكَ والمَيْتاتِ لا تقْرَبَنَّهَا وهذا البيت من كلمةٍ يمدح فيها النبيَّ عليه السلام حين أراد الإِسلامَ، ثمّ أدركه الموتُ قبل لقائه. ومنه قول الآخر [من الطويل]: 1236 - أبوك يَزِيدُ والوَلِيدُ ومَن يَكُنْ ... هما أَبَواهُ لا يَذِلُّ ويَكْرُما يريد: ويكرمنْ. وقد قيل في قول امرئ القيس [من الطويل]: قِفا نَبْكِ مِن ذِكْرى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ (¬1) إِنّ المراد: "قِفَنْ"، على إرادة نون التأكيد الخفيفة، قالوا: لأنّ الخطاب لواحد. ويدلّ على ذلك قوله [من الطويل]: 1237 - أصاحِ تَرَى بَرْقًا أُرِيكَ وَمِيضَهُ ... [كَلَمْحِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ] ¬
ثمّ وقف بالألف، وأجرى حال الوصل مجرى الوقف. وقد حمل بعضهم قوله تعالى: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} (¬1) على إرادة نون التأكيد، والأصلُ، أَلْقِيَنْ: واحتجّ بأنّ الخطاب في ذلك لمالكٍ خازنِ النار. فإن كان ما قبل هذه النون مضمومًا أو مكسورًا، نحو قولك: "هل تَضْرِبُنْ يا قومُ"، و"هل تَضْرِبِنْ يا امرأةُ"، فإن وقفتَ قلت: "هل تَضْرِبُونْ؟ " و"هل تَضْرِبِينْ؟ " وذلك أنّ حكم هذه النون حكمُ التنوين، فكما تُبْدِل من التنوين ألفًا في النصب، كذلك تُبْدِل من هذه النون ألفًا إذا انفتح ما قبلها، وكما يُحذف التنوين في الرفع والجرّ، كذلك تحذف هذه النون إذا انضمّ ما قبلها، أو انكسر. وإذا حذفت النون، عادت الواوُ التي هي ضميرُ الجماعة لزَوال الساكن من بعدها، وهي نونُ التأكيد، وتعود النون التي هي علامة الرفع أيضًا؛ لأنّها إنّما كانت سقطت لبناء الفعل عند اتّصال نون التأكيد به. فلمّا زال موجِبُ البناء، عاد الإعرابُ لزوال المانع منه، ووجودِ المقتضى له، وهو المضارعةُ، ثمّ عادت النون التي هي للرفع. وكان يونسُ (¬2) يُبْدِل من النون الخفيفة إذا انضمّ ما قبلها واوًا، ومن المكسور ما قبلها ياء، قياسًا على المفتوحة، فيقول في "اخْشَوُنْ": "اخْشَوُو" وفي "اخْشَيِنْ": "اخْشَيِي". وهو على قياسِ من يبدل من التنوين في حال الرفع والجرّ. وسيبويه لا يجيز ذلك (¬3). وقد تقدّم الكلام على أحكام التنوين, والفرقِ بين هذه النون والتنوين بما أغنى عن إعادته. ¬
القسم
ومن أصناف المشترك القَسَم فصل [ماهيَّته] قال صاحب الكتاب: ويشترك فيه الاسم والفعل. وهو جملة فعلية أو اسمية تؤكد بها جملة موجبة أو منفية نحو قولك: حلفت بالله، وأقسمت، وآليت، وعلم الله، ويعلم الله، ولعمرك، ولعمر أبيك، ولعمر الله، ويمين الله، وايمن الله، وايم الله، وأمانة الله، وعلي عهد الله لأفعلن أو لا أفعل, ومن شأن الجملتين أن تتنزلا منزلة جملة واحدة كجملتي الشرط والجزاء، ويجوز حذف الثانية ها هنا عند الدلالة جواز ذلك ثمة. فالجملة المؤكد بها هي القسم، والمؤكدة هي القسم عليها، والاسم الذي يلصق به القسم ليعظم به ويفخم هو المقسم به. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الغرض من القسم توكيدُ ما يُقْسَم عليه من نفي أو إثباتٍ، كقولك: "وَاللَّهِ لأقومنّ"، و"وَاللَّهِ لا أقومنّ". إنّما أكّدتَ خبرك لتُزِيل الشكّ عن المخاطب. وإنّما كان جوابُ القسم نفيًا أو إثباتًا؛ لأنّه خبرٌ. والخبر ينقسم قسمَيْن: نفيًا وإثباتًا، وهما اللذان يقع عليهما القسمُ. وأعني بالخير ما جاز فيه الصدْقُ والكِذْبُ، وأصلُه من القَسامة، وهي الأَيْمان، قيل لها ذلك لأنّها تُقْسَم على الأَوْلياء في الدم. وإذا كان خبرًا، والخبرُ جملة، جاءت على ما عليه الجُمَلُ في كونها مرّةً من فعلٍ وفاعلٍ، ومرّةً من مبتدأ وخبرٍ. وإنّما جاز القسمُ بما كان على صيغة الخبر، وذلك أنّه وقع موقعَ ما لا يكون إلّا قسمًا من الصيغة المختصّة به، نحو قولك: "واللَّهِ لأفعلنّ". وعَقْدُ الخبر خلافُ عقد القسم، لأنّك إذا قلت: "أحْلِفُ بالله" على سبيل الخبر، كان بمنزلة العِدَة، كأنّك ستحلف، وكذلك إذا قلت: "حلفتُ"، فإنّك إنّما أخبرت أنّك قد أقسمتَ فيما مضى، وهو بمنزلة النداء إذا قلت: "يا زيدُ"، فأنت منادٍ غير مخبر. ولو قلت: "أنادي"، أو "ناديتُ"، كان على خلافِ معنى: "يا زيدُ"، فكذلك هذا في القسم. فكما أنّك إذا قلت: "أنادي"، ونويت النداء، لم يكن النداء مخبرًا، فكذلك إذا قلت:
"أحلفُ بالله" أو "أُقْسِمُ"، ونويتَ القسم، كنتَ مقسمًا, ولم تكن مخبرًا، إلَّا أنّها وإن كانت جملة بلفظ الخبر -والجملةُ عبارة عن كلّ كلام مستقلّ- فإنّ هذه الجملة لا تستقلّ بنفسها حتى تُتْبَع بما يُقْسَم عليه، نحو: "أقسمُ بالله لأفعلنّ". ولو قلت: "أقسمُ بالله" وسكتَّ، لم يجز؛ لأنّك لم تقصد الإخبارَ بالحَلْف فقط، وإنّما أردتَ أن تخبر بأمر آخر، وهو قولك: "لأفعلنّ"، وأكّدته بقولك: "أحلفُ بالله". ونظيرُ ذلك من الجمل الشرطُ والجزاء، فإنّها، وإن كانت جملة، فقد خرجت عن أحكام الجمل من جهةِ أنّها لا تفيد حتى ينضمّ إليها الجزاء، فالجملة الفعليّة في القسم قولك: "أحلفُ بالله"، و"أُقسِم بالله"، ونحوهما. واعلم أنّ من الأفعال أفعالاً فيها معنى اليمين، فتجري مجرى "أحلفُ". ويقع الفعلُ بعدها كما يقع بعد "والله"، وذلك نحو: "أشهدُ"، و"أعلمُ"، و"آليْتُ". فلمّا كانت هذه الأفعالُ لا تتعدّى بأنفسها، جاؤوا بحرف الجرّ، وهو الباء لإيصال معنى الحلف إلى المحلوف به. قال الخليل (¬1): إنّما تجيء بهذه الحروف؛ لأنّك تضيف حَلْفَك إلى المحلوف به كما تضيف "مررت" بالباء إلى "زيد" في قولك: "مررت يزيد". فأمّا الجملة الاسميّة، فقولك: "لَعَمْرُكَ"، و"لَعَمْرُ أبيك"، و"لَعَمْرُ الله". فـ "عمرُك" مبتدأٌ، واللامُ فيها لامُ الابتداء، والخبرُ محذوف، وتقديره: قسمي، أو حَلْفي، وحذفوه لطُول الكلام بالمُقْسَم عليه. ولزم الحذفُ لذلك كما لزم حذفُ الخبر في قولك: "لولا زيدٌ لكان كذا"، لطول الكلام بالجواب. والعَمْرُ والعُمْرُ: واحدٌ، يقال: "أطال اللَّهُ عَمْرَك وعُمْرَك". وهما، وإن كانا مصدرين، بمعنى، إلّا أنّه استُعمل في القسم منهما المفتوح دون المضموم، كأنّه لكثرة القسم اختاروا له أخفَّ اللغات. فإذا دخلت عليه اللامُ، رفُع بالابتداء؛ لأنّها لامُ الابتداء. وإذا لم تأت باللام، نصبتَه نصبَ المصادر، وقلت: "عَمْرَك الله ما فعلت"، ومعنى: "لَعَمْرُ اللَّهِ" الحلفُ ببقاء الله تعالى ودوامِه، فإذا قلت: "عَمْرَكَ اللَّهَ"، فكأنّك قلت: "بتعميرك الله"، أي: بإقرارك له بالبقاء. فأمّا قول عمر بن أبي ربيعة [من الخفيف]: 1238 - [أَيُّهَا المُنكِحُ الثُّرَيَّا سُهَيْلاً] ... عَمْرَكَ اللَّهَ كيف يَلْتَقِيانِ ¬
فليس على معنى القسم، وإنّما المراد: سألتُ اللَّهَ أنّ يُطيل عَمْرَك. ومن ذلك قولهم: "اَيْمُنُ اللَّهِ لأفعلنّ" وهو اسم مفرد موضوع للقسم مأخوذٌ من اليُمْن والبَرَكَة، كأنّهم أقسموا بيُمن الله وبركتِه، وهو مرفوع بالابتداء، وخبرُه محذوف للعلم به كما كان كذلك في "لعمر الله"، وتقديرُه: اَيمُنُ اللَّهِ قَسَمي أو يميني ونحوهُما. وتدخل عليه لامُ الابتداء على حدّ دخولها على "لعمر الله". ومنه قول الشاعر [من الطويل]: فقال فَرِيقُ القَوْمِ لمّا نَشَدْتُهم ... نَعَمْ وفريقٌ لا يْمُنُ اللَّهِ ما نَدْرِي (¬1) وفُتحت الهمزة منه، وذلك من قبل أنّ هذا الاسم غيرُ متمكّن، لا يُستعمل إلَّا في القسم وحدَه، فضارَعَ الحرفَ بقلّةِ تمكُّنه، ففُتح تشبيهًا بالهمزة اللاحقة لامَ التعريف، وذلك فيه دون بناء الاسم لشَبَه الحرف. وقد حكى يونس: "إيمُنُ اللَّهِ" بكسر الهمزة. ويؤيّد عندي أيضًا حالَ هذا الاسم في مضارعته الحرفَ أنّهم قد تَلاعبوا به، فقالوا مرّةً: "اَيْمُنُ الله"، ومرّةً: "اَيْمُ اللَّهِ"، بحذف النون، ومرّة: "إِيِمُ الله" بالكسر، ومرّة: "مِ اللَّهِ"، ومرّة: "مُ اللَّهِ"، ومرّة: "مِنْ ربَّي"، و"مُنْ ربَّي". فلمّا حذفوه هذا الحذفَ المُفْرِطَ، وأصاروه مرّة على حرفَيْن، ومرّة على حرفٍ كما تكون الحروفُ، قوي شَبَهُ الحرف عليه، ففتحوا ألفَه تشبيهًا بالهمزة الداخلة على لام التعريف. وذهب الكوفيون (¬2) إلى أنّ همزته قَطْعٌ، وأنّه جمعٌ لا مفردٌ، وهو جمعُ "يَمِينٍ"، كما قال العِجْليّ [من الرجز]: يَسرِي لها من أَيْمُنِ وأَشْمُلِ (¬3) وسقطت همزتُه في الوصل لكثرة الاستعمال. والوجهُ الأوّل، لِما ذكرناه من أنّه قد سُمع في هذه الهمزة الكسرُ لكثرة التصرّف في هذا الاسم بالحذف، ولا يكون ذلك في المجموع. ¬
وأمّا "أمانةُ الله"، فكذلك مرتفعةٌ بالابتداء، والخبرُ محذوف، ويجوز نصبُه على تقدير حذف حرف الجرّ. قال الشاعر [من الوافر]: 1239 - إذا ما الخُبْزُ تَأْدِمُهُ بلَحْمٍ ... فذاكَ أَمانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ أراد: بأمانة الله. وقالوا: "عَلَيَّ عَهْدُ الله" فـ "عهدُ الله" مرتفع بالابتداء، و"عَلَيَّ" الخبرُ، وفيه معنى القسم، فاللفظُ على نحو. "في الدار زيدٌ"، والمعنى على "أحلفُ بالله". وقوله: "من شأن الجملتين أنّ تتنزّلا منزلة جملة واحدة كجملتي الشرط والجزاء"، يريد أنّ القسم وجوابه، وإن كانا جملتَيْن، فإنّهما لمّا أُكّد إحداهما بالأخرى؛ صارت كالجملة الواحدة المركّبة من جزئين كالمبتدأ والخبر, فكما أنّك إذا ذكرتَ المبتدأ وحده لا يفيد، أو الخبر وحده لا يفيد، كذلك إذا ذكرت إحدى الجملتين دون الأخرى. لو قلت: "أحلف بالله" كان كقولك: "زيدٌ" وحدَه في عدم الفائدة. وقوله: "ويجوز حذف الثانية ها هنا عند الدلالة جواز ذلك ثمّ"، يريد أنّ جملة القسم وجملة المقسم عليه تجريان مجرى الجملة الواحدة على ما ذكرناه في الشرط والجزاء، فكما جاز حذفُ الجزاء لدلالةِ حال عليه، نحو: "أنتِ طالقٌ إن دخلتِ الدارَ"، فجوابُ هذا الشرط محذوفٌ، والتقدير: "إن دخلت الدار طلقتِ". ولا يكون ما تقدّم الجوابَ؛ لأنّ الجزاء لا يتقدّم الشرط، ولو كان جوابًا للزمتْه الفاء. ومن ذلك "أنا ظالمٌ إن فعلتُ"، ومنه قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} (¬1)، وكذلك القسمُ قد يُحذف منه ¬
فصل [التصرف في القسم]
الجملة الثانية للدلالة عليها، نحو قولك لمن ألقى نفسَه في ضَرَر: "هلكتَ واللَّهِ"، تريد: "والله لقد هلكت". وقوله: فـ "الجملة المؤكّد بها هي القسم" إلى آخر الفصل، يريد أنّ الغرض من القسم التأكيدُ. وهو يشتمل على ثلاثة أشياء: جملةٍ مؤكّدة، وجملةٍ مؤكَّدة، واسم مقسَمٍ به. فالجملةُ الأولى هي "أقسمُ"، و"أحلفُ"، ونحوهما من "أشهدُ"، و"أعلمُ"، وهي الجملة المؤكّدة، وكذلك "لَعَمْرُك اللَّهُ"، و"أيْمُنُ اللَّهِ". والجملةُ المؤكَّدة هي الثانية المقسَمُ عليها. فإن كانت فعلاً، وقع القسمُ عليه، نحو: "أحلفُ بالله لتنطلقنّ"، وإن كان الذي تلقّاه حرفًا بعده اسمٌ وخبرٌ، فالذي يقع عليه القسمُ في المعنى الخبرُ، كقولك: "واللَّهِ إنّ زيدًا لمنطلقٌ"، و"واللَّهِ لزيدٌ قائمٌ". فالقسمُ يؤكّد الانطلاقَ والقيامَ دون "زيد". وأمّا المقسمُ به فكلُّ اسم من أسماء الله تعالى وصفاتِه، ونحو ذلك ممّا يُعظّم عندهم؛ نحو قوله: فأقسمتُ بالبَيْتِ الذي طافَ حَوْلَهُ ... رِجالٌ بَنَوْهُ مِن قُرَيْشٍ وجُرْهُمِ (¬1) لأنّهم كانوا يعظّمون البيت. وقد نهى النبيُّ عليه السلام أن يُحْلَف بغير الله سبحانه وتعالى. وقد ورد القسم في الكتاب العزيز بمخلوقاته كثيرًا تفخيمًا وتعظيمًا لأمر الخالق، فإنّ في تعظيم الصنعة تعظيمَ الصانع، من ذلك قوله تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (¬2)، وفيه: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} (¬3)، وفيه: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} (¬4)، وفيه: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} (¬5)، وهو كثير، فاعرفه. فصل [التصرف في القسم] قال صاحب الكتاب: ولكثرة القسم في كلامهم أكثروا التصرف فيه، وتوخوا ضروباً من التخفيف. من ذلك حذف الفعل في "بالله"، والخبر في لعمرك وأخواته، والمعنى: لعمرك ما أقسم به، ونون أيمن وهمزته في الدرج، ونون "مِنْ" و"مُنْ" وحرف القسم في "اللهِ", و"اللهَ" بغير عوض، وبعوض في ها الله وآلله وفألله، والإبدال عنه تاء في تاللهِ وإيثار الفتحة على الضمة هي التي أعرف في "العمر". * * * قال الشارح: اعلم أنّ اللفظ إذا كثُر في ألسنتهم واستعمالهم، آثروا تخفيفَه، وعلى ¬
حسب تفاوُت الكثرة يتفاوت التخفيفُ. لمّا كان القسم ممّا يكثر استعمالُه، ويتكرّر دَوْرُه، بالَغُوا في تخفيفه من غير جهة واحدة. وقوله: "توخّوا ضروبًا من التخفيف" أي: قصدوا وتَحَرَّوْا أنواعًا من التخفيف. فمن ذلك أنّهم قد حذفوا فعل القسم كثيرًا للعلم به والاستغناء عنه، فقالوا: "باللَّهِ لأقومنّ"، والمراد: أحلفُ بالله. قال الله تعالى: {بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (¬1) في أحد الوجهَيْن هو القسمُ، وفي الوجه الآخر يتعلّق بقوله: "لاَ تُشْرِكْ". وربّما حذفوا المقسم به، واجتزؤوا بدلالة الفعل عليه، يقولون: "أُقْسِم لأفعلنّ"، و"أشهدُ أفعلنّ"، والمعنى: أقسم بالله أو بالذي شاء في أُقسِم به (¬2). وإنّما حُذفت لكثرة الاستعمال، وعلْمِ المخاطب بالمراد. قال الشاعر [من الطويل]: 1240 - فأُقْسِمُ أَنْ لَوِ التَقَيْنا وَأَنْتُمُ ... لَكان لَكُمْ يومٌ مِنَ الشَّرّ مُظْلِمُ وقال الآخر [من الطويل]: فأُقْسِمُ لَوْ شيءٌ أتانا رَسُولُه ... سِواكَ ولكِنْ لم نَجِدْ لك مَدْفَعا (¬3) وقال الفقهاء: لو قال: "أُقْسِم"، أو "أحلفُ"، أو "أشهدُ"، ثمّ حَنِثَ، وجبتْ عليه الكَفّارةُ؛ لأنّه يصرف إلى معنى أقسم بالله ونحوه، إذ كان يلزم المسلمَ إذا حلف أن ¬
يحلف بالله. ولذلك قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "من كان حالفًا فَلْيحلفْ باللهِ أو فَلْيَصْمُتْ" (¬1). ومن ذلك حذف الخبر من الجملة الابتدائيّة، نحو: "لَعَمْرُكَ"، و"لَيْمُنُك"، و"أمانةُ الله"، فهذه كلُّها مبتدآتٌ محذوفةُ الأخبار تخفيفًا لطول الكلام بالجواب، والمرادُ: لعمرُك ما أُقْسِم به. قال الله تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} (¬2)، كأنّه حلف ببقاء النبيّ وحياته، ولذلك قال ابن عبّاس: لم يقسم الله تعالى بحياةِ أحد غير النبيّ - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: "العمرُ" هنا مصدرٌ بمعنى العُمُور محذوفُ الزوائد، كقوله [من الطويل]: قَيْدِ الأَوَابِدِ (¬3) والمراد التقييد، فحذف الزوائد، يقال: "عَمَرَ يَعْمُرُ" إذا عبد. حكى ابن السِّكّيت عن ابن الأعرابيّ أنّه سمع أعرابيًّا، وقد سُئل: "أَيْنَ تمضي؟ " قال: "أَمْضِي أَعْمُرُ الله"، أي: أعبدُ الله. ويجوز أن يكون البيتُ المعمورُ من هذا، أي الذي يُعْمَر فيه. وكذلك "أَيْمُن" وتصرّفُهم فيها، وقد ذكرنا لغاتِها والخلافَ فيها. وقوله: "ونونُ "أيمن" وهمزتُه" يُفْهَم من ذلك أنّ حذف همزة "ايمن" في الدرج من قبيل تصرُّفهم في القسم، والقياسُ ثبوتُها في الدرج. وذلك من مذهب الكوفيين في أنّ الكلمة جمعٌ، وأنّ الهمزة قطعٌ، وإنّما وُصلت لكثرة الاستعمال، وهو رأي ابن كَيْسان، وابن دُرُسْتَوَيْهِ. وليس الأمرُ عندنا كذلك، وإنّما هي همزةُ وصل لا تثبت في الدرج كهمزة لام التعريف ونحوها من همزات الوصل، وقد تقدّم الكلام على ذلك. ومن ضروب التصرّف في القسم إبدالُ التاء من الواو في قوله تعالى: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (¬4)، و {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} (¬5)، فالتاءُ بدلٌ من الواو في "واللَّهِ لأفعلنّ" لشَبَهها من جهة اتّساع المخرج؛ ولأنّهم قد أبدلوها في "تُراثٍ" و"تُكَأَةٍ" وما أشبه ذلك. ولا تكون هذه التاء إلّا في اسم الله تعالى خاصّةً؛ لأنّه لمّا كان أكثرُ ما يُقْسَم به هذا الاسمَ، طُلب له حرفٌ يخصّه، فكان ذلك الحرفُ هو التاء المبدلة من الواو في نحو قوله تعالى: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (¬6)، ومن ذلك قولهم في القسم: "لعَمْرُك لأفعلنّ"، فالعمرُ: البقاء والحياة، وفيه لغاتٌ، يقال: "عَمْرٌ" بفتح العين وإسكان الميم، و"عُمْرٌ" بضمّ العين وإسكان الميم، و"عُمُرٌ" بضمّهما، تقول: "أطال اللَّهُ عَمْرَك، وعُمْرَك وعُمُرَك". فإذا جئت إلى القسم، لا تستعمل فيه إلَّا المفتوحة العين؛ لأنّها أخفّ اللغات الثلاث، والقسمُ كثير، واختاروا له الأخفَّ. ¬
فصل [الأحرف الواقعة في جواب القسم]
فصل [الأحرف الواقعة في جواب القسم] قال صاحب الكتاب: ويُتلقى القسم بثلاثة أشياء: باللام, وبـ "إنَّ" وبحرف النفي كقولك بالله لأفعلن، وإنك لذاهب، وما فعلت ولا أفعل. وقد حذف حرف النفي في قول الشاعر [من البسيط]: تالله يبقى على الأيام مبتقلٌ ... [جون السراة رباع سنُّهُ غَرِدُ] (¬1) * * * قال الشارح: اعلم أنّه لمّا كان كلُّ واحد من القسم والمقسم عليه جملةً، والجملةُ عبارة عن كلّ كلام مستقلّ قائمٍ بنفسه، وكانت إحداهما لها تعلّقٌ بالأخرى؛ لم يكن بدٌّ من روابط تربط إحداهما بالأخرى، كرَبْط حرف الشرط الشرطَ بالجزاء، فجُعل للإيجاب حرفان، وهما اللام و"إنَّ"، وجُعل للنفي حرفان، وهما "ما" و"لا". وإنّما وجب لهذه الحروف أن تقع جوابًا للقسم؛ لأنّها يُستأنف بها الكلام، ولذلك لم تقع الفاء جوابًا للقسم؛ لأنّه لا يستأنف الكلامُ بها. فأمّا اللام فتدخل على الأسماء والأفعال، فإذا دخلت على الأسماء فما بعدها مبتدأٌ وخبرٌ، كقولك: "واللَّهِ لَزيدٌ أفضلُ من عمرو". وإذا دخلت على الفعل المضارع، لزم آخِرَ الفعل النونُ الخفيفةُ أو الثقيلةُ، كقولك: "واللَّهِ لتضربنْ عمرًا"، و"واللَّهِ لتَضْرِبَنّ عمرًا"، فتقف على الخفيفة بالألف إذا كان ما قبلها مفتوحًا. وإنّما لزمته النون لتُخِلّصه للاستقبال؛ لأنّه يصلح لزمنَيْن، فلو لم تخلصه للاستقبال، لوقع القسمُ على شيءٍ غير معلوم. وقد بيّنّا أنّ القسم توكيدٌ، ولا يجوز أن تُؤكِّد أمرًا مجهولاً. وقيل: إنّما دخلت النونُ مع اللام في جواب القسم؛ لأنّ اللام وحدها تدخل على الفعل المستقبل في خبر "إنَّ"، وليس دخولُ اللام على الفعل في خبر "إنَّ" للقسم، فألزموها النون للفصل بين اللام الداخلة في جواب القسم، والداخلة لغير القسم. فإذا قلت: "إنّ زيدًا ليضربنّ عمرًا"، كان تقديره: إنّ زيدًا والله ليضربن عمرًا, فاللامُ واقعة موقعها؛ لأنّها جوابٌ للقسم، فهي بعده. وإذا قلت: "إنّ زيدًا ليضرب عمرًا"، فهذه اللامُ تقديرُها أن تكون داخلة على "إنَّ". فبين هذه اللام واللام التي معها النون فصلٌ من وجهَيْن: أحدهما أنّ اللام التي معها النونُ لا تكون إلّا للمستقبل، والتي ليس معها النون تكون للحال، وقد يجوز أن يراد بها المستقبلُ. والوجه الآخر أنّ المفعول به لا يجوز تقديمُه على الفعل الذي فيه النونُ، ويجوز تقديمُه على الذي لا نونَ فيه؛ لأنّ نيّة اللام فيه التقدّم. ¬
وإذا دخلت اللام على الماضي، فلا يحسن إلَّا أن يكون معه "قَدْ"، كقولك: "والله لقد قام زيدٌ"؛ لتقريبها له من الحال. قال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ} (¬1)، وقال الله تعالى: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} (¬2). ويجوز: "والله لقام"، وليس بالكثير. ومنه قوله [من البسيط]: إذًا لَقامَ بنَصْرِي مَعْشَرٌ خُشُنٌ ... عند الحَفِيظَة إنْ ذُو لُوثَةٍ لاَنا (¬3) وقال امرؤ القيس [من الطويل]: حَلَفْتُ لها باللَّهِ حَلْفَةَ فاجِرٍ ... لَنامُوا فما إنْ مِن حَدِيثٍ ولا صالِ (¬4) ولم تدخل النون مع الماضي؛ لأنّ النون في غير القسم لا تدخل إلَّا على المستقبل دون الماضي والحالِ، فإذا دخلت للقسم، فهي أيضًا للمستقبل. وأمّا "إنَّ"، فتختصّ بالاسم، كقولك: "واللَّهِ إنّ زيدًا قائمٌ". قال الله تعالى: {حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} (¬5)، وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} (¬6)، وقال: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} (¬7) بعد قوله: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} (¬8). فالجواب بالفعل واقعٌ على الفعل، والجوابُ بـ "إنَّ" واقع على الخبر؛ لأنّه في معنى الفعل. وأمّا جواب النفي، فـ "بما" و"لا"، نحو قولك: "والله ما قام زيدٌ"، و"واللَّهِ لا يقوم زيدٌ". وفي التنزيل: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} (¬9)، وقال سبحانه: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} (¬10)، وفيه: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} (¬11). وفيه من الجواب بـ "لا" نحو قوله: {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} (¬12)، فقوله: "لا يخرجون"، و"لا ينصرونهم" جوابُ قسم محذوف، وليسا بجواب الشرط بدليل ثبوت النون. ولو كانا جواب الشرط، لانجزما. وأمّا حذفُ "لا" في جواب القسم، فنحو قولك: "واللَّهِ يقوم زيدٌ"، والمراد: لا يقوم, لأنّه تخفيف لا يُوقِع لَبْسًا، إذ لو كان إيجابًا، لكان بحروفه اللازمة له من اللام ونون التوكيد، وفي التنزيل: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} (¬13)، أي: لا تفتأ تذكر. قال الهُذَليّ [من البسيط]: تَاللَّهِ يَبْقَّى على الأيّام مُبْتَقِلٌ ... جَوْنُ السَّراةِ رَباعٍ سِنُّهُ غَرِدُ (¬14) ¬
فصل [الأحرف التي تقع موقع الباء في القسم]
مبتقلٌ: يريد حمارَ وَحْش، يقال: "ابتقل"، أي: رعى البقلَ. ولا يجوز حذفُ شيء من هذه الحروف إلّا "لا" وحدَها. وإنّما لم يجز حذفُ غيرها؛ لأنّ "إنَّ" عاملةٌ، ولا يجوز أن تعمل مضمرةً لضعفها. ولم يجز حذفُ "ما"؛ لأنّها أيضًا تكون عاملة في مذهب أهل الحجاز. ولم يجز حذفُ اللام؛ لأنّ ذلك يوجِب حذفَ النون معها, لأنّ النون دخلت مع اللام، فلم يبق إلّا "لا"، فاعرفه. فصل [الأحرف التي تقع موقع الباء في القسم] قال صاحب الكتاب: وقد أوقعوا موقع الباء بعد حذف الفعل الذي ألصقته بالقسم به أربعة أحرف: الواو والتاء وحرفين من حروف الجر وهما اللام و"من" في قولك: "لله لا يؤخر الأجل" و"من ربي لأفعلن" روما للإختصاص، وفي التاء واللام معنى التعجب، وربما جاءت التاء في غير التعجب، واللام لا تجيء إلا فيه. وأنشد سيبويه لعبد مناة الهذلي [من البسيط]: 1241 - لله يبقى على الأيام ذو حيدٍ ... بمشمخر به الظيان والآس ¬
وتضم ميم "من", فيقال من ربي أنك لأشر. قال سيبويه (¬1): ولا تدخل الضمة في "مِنْ" إلا ههنا، كما لا تدخل الفتحة في "لدن" إلا مع "غدوة"، ولا تدخل إلا على "ربي"كما لا تدخل التاء إلا علي اسم الله وحده, وكما لا تدخل "أيمن" إلا علي اسم الله والكعبة. وسمع الأخفش من الله وتربى وإذا حذفت نونها فهي كالتاء تقول "مِ الله" و"مُ الله" كما تقول: "تالله". ومن الناس من يزعم أنها من "أيمن". * * * قال الشارح: قد ذكرنا أنّ القسم جملةٌ تُؤكَّد بها جملةٌ أخرى؛ نحو قولك: "أحلف بالله لتفعلنّ، ولا تفعل" والجملةُ المؤكَّدةُ "أحلفُ"، والمقسم به اسمُ الله تعالى، وما جرى مجراه ممّا هو معظَّمٌ عند الحالف. والجملةُ المؤكَّدةُ قوله: "لتفعلنّ"، و"لا تفعل"، وأداة القسم هي الباء الموصِلة لمعنى الحلف إلى المحلوف به. وقد يحذف الفعل تخفيفًا؛ لكثرة القسم واجتزاءً بدلالة حرفْ الجرّ عليه، فيقولون: "بالله لأفعلنّ". وأدواتُ القسم خمسةُ أحرف، وهي: الباء، والواو، والتاء، واللام، ومِنْ. فأمّا الباء، فهي أصلُ حروف القسم؛ لأنّها حرفُ إضافة، ومعناها الإلصاقُ، فأضافت معنى القسم إلى المقسم به، وألصقتْه به، نحو قولك: "أحلفُ بالله"، كما توصل الباء المُرورَ إلى الممرور به فى قولك: "مررت بزيد"، فالباء من حروف الجرّ بمنزلةِ "مِن" و"في"، فلذلك قلنا: إنّها أصلُ حروف القسم، وغيرُها إنّما هو محمول عليها، فالواو بدلٌ من الباء، لأنّهم أرادوا التوسّع لكثرة الأيمان. وكانت الواو أقربَ إلى الباء لأمرَيْن: أحدهما أنّها من مخرجها؛ لأن الواو والباء جميعا من الشفتين، والثاني أنّ الواو للجمع، والباء للإلصاق، فهما متقاربان؛ لأن الشيء إذا لاصقَ الشيء فقد اجتمع معه. فلمّا وافقتْها في المعنى والمخرج، حُملت عليها، وأنيبت عنها، وكثُر استعمالها حتى غلبتها، ولذلك قدمها سيبويه (¬2) في الذكر. فالواوُ في القسم بدلٌ من الباء، وعاملةٌ عَمَلَها، وليست كسائر حروف العطف؛ لأنّ واو العطف غيرُ عاملة بنفسها، وإنّما هى دالّة على العامل المحذوف، ولذلك يجوز أن تقول في "قام رْيدٌ وعمرٌو": "قام زيدٌ، وقام عمرٌو"، فتجامع العاملَ. ولو كانت العاملَ، لم تجتمع مع عاملٍ آخر. وليست كذلك واو القسم؛ لأنّها لا تجامع الباء. فإذا قلت: "وبزيدٍ"، كانت هذه الواو غير واو القسم. ¬
والتاء بدلٌ من الواو، واختص ذلك بالقسم. وإنّما أُبدلت منها؛ لأنها قد أُبدلت منها كثيرًا، نْحو قولهم: "تُجاة"، و"تُراثٌ"، وهما "فُعالٌ" من "الوَجْه" و"الوِراثة". وقالوا: "تُكَاَةٌ"، و"تُخْمَةٌ" وهو "فُعَلَةُ" من "تَوَكَّأْتُ"، و"الوَخْامَةِ". وقالوا: "تَقوَى"، و"تُقَاةٌ" وهو "فَعْلَى" و"فُعَلَةُ" من "الوِقاية". وهو كثير يكاد يكون قياسًا لكثرته. ولكون الباء أصلاً، امتازت بما ذكرناه من جواز استعمالها مع فعل القسم، ودخولها على المضمر، ولا يكون ذلك في الواو. ومُيّزت الواو عن التاء إذ كانت أصلاً لها بأن دخلت على كلّ ظاهر محلوف به. واختصّت التاء أضعفها بكونها في المرتبة الثالثة بأن اختصّت باسم الله تعالى لشَرَفه، وكونِه اسمًا لذاته سبحانه. وما عداه يجري مجرى الصفة، فتقول: "تاللهِ لأفعلن". وفيها معنى التعجّب. قال الله تعالى. {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} (¬1). وربما جاءت لغير التعجّب، كقوله تعالى. {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} (¬2)، ولا يجوز: "تالرحمن" ولا "تالبارئ"، ويجوز ذلك في الواو. ومن ذلك اللام، فإنّها تدحْل للقسم على معنى التعجّب، وأنشد [من البسيط]: لله يبقى علم الأيام ... إلخ البيت لأميَّةَ بن أبي عائذٍ، وقيل: لأبي ذُؤَيْب، وقيل: للفَضْل بن العبّاس اللَّيْثيّ يرثي قوماً منهم. وقبله [من البسيط]: يا مَىَّ إن تَققِدِي قَوْمًا وَلَدْتِهِم ... أو تُخلَسِيهِمْ فإنَّ الدَّهْرَ خَلّاسُ يا مَىَّ إن سِباعَ الأَرْضِ هالِكَةٌ ... والأُدْمُ والعُفْرُ والاَرامُ والناسُ والشاهد فيه دخولُ اللام على اسم الله في القسم بمعنى التعجّب. والمعنى: إنّ الأيام تُفْنِي بمُرورها كل حَيّ، حتى الوَعْل المتحصّن بشواهق الجبال. والحَيْدُ: عُقَدٌ في قرون الوعل، ويروى: "حِيَد" بكسر الحاء، كاته جمع "حَيْدَةٍ"، مثلُ "بَدْرَةٍ" و "بِدَرٍ". والمُشْمَخِرُّ": الجبل الشامخ. والظَّيّانُ: ياسَمِين البرّ، والآسُ: الرَّيْحان، ومنابتُهما الجبال، وحُزونُ الأرض. يريد أنّ الوعل في خِصْبٍ لا يحتاج إلى الإسهال، فيُصادَ. وأما قولهم: "من ربي لأفعلن"، فالظاهر من أمرها أنّها "مِن" التي في قولهم: "أخذتُ من زيد"، أُدخلت في القسم موصلةَ لمعنى الفعل على حدّ إدخال الباء تكثيرًا للحروف؛ لكثرة استعمال القسم. واختصّت بـ "ربّي" اختصاصَ التاء باسم الله، فلا يقولون: "مِن اللهِ لأفعلنّ". وقد تضمّ الميم منها، قالوا: "مُنْ ربّي إنّك لأشِرٌ"، حكى ذلك سيبويه، كأنهم جعلوا ضَمَّها دلالةً على القسم كما جعلوا الواو مكان الباء دلالةً على القسم. قال سيبويه: ولا تدخل الضمّةُ في "من" إلّا ها هنا، كما لا تدخل الفتحة في ¬
فصل [خصائص باء القسم]
"لَدُنْ" إلَّا مع "غُدْوَة"، يعني لا تقول: لَدُنْ زيدًا مالٌ"، أي: إنّ بعض الأشياء تختصّ بموضع لا تفارقه. ويحتمل أن يكونا "مِنْ" هنا التي للجرّ، ويحتمل أن تكون منتقصة من "ايْمُن"، فعلى هذا يكون الضمّ فيها أصلاً والكسرُ عارضًا. ومنهم من يحذف نونها إذا وقع بعدها لامُ التعريف، وحينئذ تختصّ باسم الله كالتاء، فيقولون: "مِ اللهِ "، و"مُ الله". قال الشاعر [من المسْرح]: أَبْلِغْ أَبَا دَختَنُوسَ مَأْلَكَةً ... غيرَ الذي قد يُقالُ مِ الكَذِبِ (¬1) فحذف نونَها لالتقاء الساكنين تشبيهًا بحروف اللين، فاعرفه. فصل [خصائص باء القَسَم] قال صاحب الكتاب: والباء لأصالتها تستبد عن غيرها بثلاثة أشياء: بالدخول على المضمر, كقولك: "به لأعبدنه", و"بك لأزورنَّ بيتك". وقال [من الوافر]: [ألا نادت أمامةُ باحتمالٍ ... لتحزنني] فلا بك ما أبالي (¬2) وبظهور الفعل معها كقولك حلفت بالله، وبالحلف على الرجل على سبيل الاستعطاف كقولك بالله لما زرتني وبحياتك أخبرني وقال ابن هرمة [من الكامل]: 1242 - بالله ربك إن دخلت فقل له ... هذا ابن هرمة واقفاً بالباب ¬
وقال [من الوافر]: 1243 - بدينك هل ضممت إليك نعما ... [وهل قبَّلت قبل النوم فاها] * * * قال الشارح: قد تقدّم القول إِنّ الباء أصلُ حروف القسم، وغيرُها من الحروف إنّما هو محمول عليها , ولذلك تنفرد عنها بأمورِ. منها أنّها تدخل على المظهر والمضمر، وغيرها من الحروف إنّما يدخل على المظهر دون المضمر، تقول: "بالله لأفعلنّ"، و"بِكَ لأذهَبَنَّ"، فتدخل على المضمر كما تدخل على الظاهر، ولا تقول مثلَ ذلك في غيرها. لا يجوز "وَكَ لأفعلنّ" ولا "تَكَ"، كما قلت "بكَ لأفعلنّ". قال الشاعر [من الوافر]: رَأى بَرْقًا فأَوْضَعَ فَوْقَ بكرٍ ... فَلَا بِكَ ما أَسَالَ ولا أَغَاما (¬1) فأمّا قول الآخر، أنشده أبو زيد [من الوافر]: ألَا نادَت أمامَةُ باحْتِمالِ ... لتَحزُنَنِي فلا بِكِ ما أبالِي (¬2) فالشاهد فيه أيضًا دخول باء القسم على المضمر، وهو الكاف. ¬
ومنها أنّها تُجامِع فعلَ القسم، فتقول: "أحلفُ بالله"، و"أُقْسِم بالله". ولا تفعل ذلك بغيرها ,لا تقول: "أحلف والله"، ولا: "أقسم تالله"، ونحو ذلك. والأمر الثالث أنك قد تحلف على إنسان، وذلك بأن تأتي بها للاستعطاف والتقرّب إلى المخاطب، فتقول: "بالله إلَّا فعلتَ"، ولا تقول: "واللهِ"، ولا: "تاللهِ"؛ لأنّ ذلك إنما يكون في القسم، وليس هذا بقسم. ألا ترى أنَّه لو كان قسمًا، لافتقر إلى مُقْسَم عليه، وأن يجاب بما يجاب به الأقسامُ. فالباء من قول ابن هرمة [من الكامل]: بالله ربّك ... إلخ متعلق بمحذوف، كأنّه قال: "أسألُك باللهِ". و"أَخْبِرْني بالله". وإنما حُذف لدلالة الحال عليه، أو لقوله: "فقُلْ له"، كما حُذف من "بسم الله": "أَبْتَدِئُ"؛ لأنّك إنّما تقول ذلك في كثير الأمر في الابتداءات، والمراد: أسالُك بقُدْرة الله. وذْكرُ القدرة حجّةٌ عليه، أي: افْعَل ما أَسْأَلُك؛ لأنك قادرٌ عليه، لا عُذرَ لك في المنع. فإن قلت فما تصنع بقوله [من الطويل]: 1244 - أَيَا خَيرَ حَىٍّ في البَرِيَّةِ كلِّها ... أبالله هل لي في يَمِينِيَ مِن عَقْلِ فسمّاه قسمًا؛ لقوله: "هل لي في يميني من عقل؟ " فالجوابُ: التقدير: هل في يميني من عقل إن حلفتُ بأنّك خيرُ حي في البريّة؟ لا إنّه جعل هذا الكلام قسمًا. وكذلك قول الآخر [من الوافر]: بدِينِكَ هل ضممتَ إليك نُعْما ... وهل قَبَّلْتَ بعد النَّوْمِ فاها كأنّه قال: أسالُك بحقّ دينك أن تصدُقني وتعرّفني الحقيقةَ. ¬
فصل [حذف باء القسم وإضمارها]
فصل [حذف باء القسم وإضمارُها] قال صاحب الكتاب: وتحذف الباء, فينتصب المقسم به بالفعل المضمر. قال [من الطويل]: 1245 - ألا رُبَّ من قلبي له الله ناصحٌ ... [ومن قلبه لي في الظباء السوانح] وقال [من الطويل]: فقلت يمين الله أبرح قاعدًا (¬1) وقال [من الوافر]: إذا ما الخبز تأدمه بلحمٍ ... فذاك أمانة الله الثريد (¬2) وقد روي رفع "اليمين" و"الأمانة" على الإبتداء محذوفي الخبر. وتضمر كما تضمر اللام في "لاه أبوك". * * * ¬
قال الشارح: قد حذفوا حرف القسم كثيراً تخفيفًا، وذلك لقوّة الدلالة عليه. وإذا حذفوا حرف الجرّ، أعملوا الفعل في المقسم عليه، ونصبوه، قالوا: "الله لأفعلنّ" بالنصب، وذلك على قياس صحيح. وذلك أنّهم إذا عدّوا فعلاً قاصرًا إلى اسم، رفدوه بحرف الجرّ تقويةٌ له، فإذا حذفوا ذلك الحرف إمّا لضرورة الشعر، وإمّا لضرب من التخفيف، فإنّهم يوصلون ذلك الفعل إلى الاسم بنفسه كالأفعال المتعدّية، فينصبونه به، نحو قوله تعالى: {وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا} (¬1)، وقولهم: "استغفرت الله ذنبًا"، ويقال: "كِلْتُه"، و"كِلْتُ له" و"وزنتُه"، و"وزنتُ له". يكون من ذلك قول الشاعر [من الوافر]: تَمُرّون الدِّيارَ ولم تَعُوجُوا ... كَلامُكمُ عليّ إذًا حَرامُ (¬2) وحكى أبو الحسن في غير الشعر: "مررتُ زيدًا"، فكذلك قالوا في القسم: "الله لأفعلنّ". ولا يكادون يحذفون هذا الحرف في القسم مع الفعل، ولا يقولون: "أحلفُ الله"، ولا "أقسمُ الله"، لكنّهم يحذفون الفعل والحرف جميعًا. والقياسُ يقتضي حذفَ الحرف أوّلاً، فأفضى الفعل إلى الاسم، فنَصَبَه، ثمّ حُذف الفعل توسُّعًا لكثرة دَوْر الأقسام. ومن ذلك قولهم: "يمينَ الله"، و"أَمانةَ الله"، والأصلُ: بيمين الله، وبأمانة الله، فحذف حرف الجرّ ونصب الاسم. وأنشد [من الطويل]: ألَا رُبَّ مَن قَلْبِي له اللهَ ناصِحٌ ... ومَن قَلْبُه لي في الظِّباء السَّوانِحِ البيت لذي الرمّة، والمعنى: ألا ربّ من قلبي له باللهِ ناصحٌ، أي: أحلفُ باللهِ، فحذف حرف الجرّ الذي هو الباء، فعمل الفعلُ، فنصب. والسانحُ من الظباء: ما أخذ عن يمين الرامي، فلم يُمْكِنه رَمْيُه حتى ينحرف له، فيتشاءم به. ومن العرب من يتيمّن به لأخذه في المَيامِن. وقد جعله ذو الرمّة مَشْؤُومًا لمخالفة قلبها وهَواها لقلبه وهواه، وأنشد [من الطويل]: فقلتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قاعِدًا ... ولو قَطَعوا رَأسِى لَدَيْكِ وأَوصالي (¬3) البيت لامرئ القيس، والشاهد فيه نصب "يمين الله" بالفعل المضمر يصف أنّه طرق محبوبتَه، فخوّفتْه الرقباء وأمرتْه بالانصراف، فقال هذا الكلام. وأنشد [من الوافر]: إذا ما الخبز (¬4) ... إلخ قالوا: هو مصنوع. ومعنى "تأدمه": تخلِطه. فهذا كلّه منصوبَ بإضمارِ "أحلفُ"، أو "أقسِمُ" ونحوه ممّا يُقْسَم به من الأفعال. وإن شئت أضمرت فعلاً متعدّيًا، نحو: "أَذكُرُ"، و"أشهَدُ" وشِبْهَهما. قال ابن السراج: لا ¬
فصل [حذف واو القسم]
يُضمَر إلّا فعلٌ متعدٍّ. والوجهُ الأوّل؛ لأنّك إذا أضمرت فعلاً متعدّيًا، لا يكون من هذا الباب. ويروى: "فقلت: يمينُ الله أبرح" بالرفع. وكذلك قوله: "فذاك أمانةُ الله الثريد" على الابتداء، ويُضْمَر الخبر، ويكون التقدير: يمينُ الله قسمي، أو ما أُقْسِم به. وكذلك "أمانةُ الله لازمةٌ لي"، فحذفوا الخبر كما حذفوه في "لعَمْرُ الله"، و"أَيْمُنُ الله". وقد شبّه حذفَ الخبر هنا بحذف حرف الجرّ في "لَاهِ أبوك". يريد أنّ الحذف في كل واحد منهما لا لعلّة، بل لضرب من التخفيف لكثرة استعماله. والصوابُ أن يُشبه حذفَ الخبر ها هنا بما قد حُذف الخبر فيه، نحو حذفه بعد "لَوْلَا" في قولهم: "لولا زيدٌ لكان كذا"، ويُشبِّه حذفَ حرف القسم بحذف اللام من "لاهِ أبوك"؛ لأن كلّ واحد منهما مُوصِلٌ وعاملُ الجرّ. واعلم أنّهم يقولون: "لاهِ أبوك ولاهِ ابنُ عمك" يريدون: لله أبوك ولله ابنُ عمّك. قال الشاعر [من البسيط]: لاهِ ابنُ عمّك لا أفضلتَ في حَسَب (¬1) فحُذفت لام الجرّ، ولام التعريف، وبقيت اللام الأصليّة. هذا رأيُ سيبويه (¬2)، وأنكر ذلك أبو العبّاس المبرد، وكان يزعم أنّ المحذوف لام التعريف واللام الأصليّة، والباقية هي لام الجرّ. وإنما فُتحت؛ لئلّا ترجع الألفُ إلى الياء، مع أنّ أصل لام الجز الفتحُ. وربّما قالوا: "لَهْيَ أبوك"، فقلبوا اللام إلى موضع العين، وأسكنوا, لأنّ العين كانت ساكنة، وهي الألف، وبنوه على الفتح؛ لأنّهم حذفوا منه لام الجرّ ولام التعريف، وتضمّن معناهما، فبُني لذلك كما بُني "أمسِ" و"الآنَ"، وفُتح آخِره تخفيفًا لِما دخله من الحذف والتغيير. فصل [حذف واو القسم] قال صاحب الكتاب: وتحذف الواو ويعوض عنها حرف التنبيه في قولهم: "لا هالله ذا"، وهمزة الاستفهام في "أالله" وقطع همزة الوصل في "أفألله". وفي "لا هالله ذا" لغتان: حذف ألف "ها" وإثباتها. وفيه قولان: أحدهما قول الخليل (¬3) إن "ذا" مقسم وتقديره: لا والله للأمر ذا، فحذف الأمر لكثرة الاستعمال، ولذلك لم يجز أن يقاس عليه فيقال "ها الله أخوك" على تقديرها: الله لهذا أخوك. والثاني وهو قول ¬
الأخفش: أنه من جملة القسم توكيدٌ له، كأنه قال ذا قسمي. قال: والدليل عليه أنهم يقولون "لاها الله ذا لقد كان كذا", فيجيئون بالمقسم عليه بعده. * * * قال الشارح: قد ذكرنا أنّه قد يحذف حرف القسم تخفيفًا لقوّة الدلالة عليه، وهو في ذلك على ضربَيْن: أحدهما أن يحذفوه ويُعمِلوا فعلَ القسم في المقسم له، فينصبوه، وقد تقدّم الكلام على ذلك. والضرب الآخر أن يحذفوا الجار، ويُبْقوا عمله، يعتدّون به محذوفًا كما يعتدّون به مُثْبَتًا. وذلك للتنبيه على إرادة المحذوف، فيقال: "اللهِ لأقومنّ". حكاه سيبويه (¬1) في الخبر لا الاستفهامِ، والمراد: واللهِ، وباللهِ. وقد قُرئ: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ} (¬2)، فأخرج اسمَ الله من الإضافة وجعله قسمًا، وعليه يُحمل قوله تعالى في قراءة حمزة: {وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} (¬3) على إرادة الباء. وحكى أبو العبّاس أنّ رُؤْبَةَ قيل له: "كيف أصبحتَ؟ " فقال: "خيرٍ، عافاك اللهُ"، وهو شبيةٌ بحذف المضاف وإبقاء عمله، نحو قولهم: "ما كل سَوْداء تمرةً ولا بيضاءَ شَخمَةً" (¬4). ونحوه قول الشاعر [من المتقارب]: أكُلَّ امْرِئٍ تَحسِبين امْرَءًا ... ونارِ تَوقَّد باللَّيْل نارا (¬5) على إرادة: وكل نار. وهو في الجملة قبيحٌ؛ لأن الجارّ ممتزجٌ بالمجرور كالجُزْء منه. ولذلك قال سيبويه: لأنّ المجرور داخلٌ في المضاف إليه، فيقبح حذفُه لذلك. وقالوا "إي ها اللهِ"، والمراد: إي واللهِ، فحذفوا الواو، وعوّضوا منه هاء التنبيه. والدليلُ على ذلك أنّه لا يجوز اجتماعهما، فلا يقال: "إي ها والله"، ولا "إي ها بالله"؛ لأنّه لا يجتمع العوضُ والمعوَّضُ منه، وهو ها هنا أسهلُ منه فيما تقدّم؛ لوجود العوض عن المحذوف. فأمّا قولهم: "لا ها اللهِ ذا"، فـ "ها" للتنبيه، وهي عوضٌ من حرف الجرّ على ما ذكرنا، و"ذا" إشارةٌ. قال الخليل: وهو من جملة القسم به، كأنّه صفةٌ لاسم الله، والمعنى: لا والله الحاضر نظرًا إلى قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} (¬6)، وقوله تعالى: ¬
فصل [الواو العاطفة بعد واو القسم]
{مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ} (¬1)، والجوابُ محذوف، والتقدير: إنّ الأمر كذا وكذا، قال أبو العبّاس المبرّد: وأمّا "ذا"، فهو الشيء الذي يُقْسَم به، والتقدير: لا والله هذا ما أُقسِمُ به، فحُذف الخبر. وقال أبو الحسن: هو من جملة الجواب، وهو خبرُ مبتدأ محذوف، والتقدير: لا واللهِ الأمرُ ذا. ويجوز في ألفِ "ها" وجهان: أحدهما إثباتُ الألف وإن كان بعدها ساكنٌ، إذ كان مدغمًا فهو كـ"دابّةٍ" و"شابّةٍ" والوجه الثاني أن تحذف الألفَ حين وصلتَها وجعلتها عوضًا من الواو، كما فعلت ذلك في "هَلُمَّ"، فتقول: "هاللهِ". وبعضهم يحتجّ بأن "ها" على حرفَيْن، فكان تقديره تقدير المنفصل، كقولك: "يخشى الداعي"، و"يغزو الجَيْشُ"، فيحذف الألف والواو؛ لأن بعدهما المدغم، وهو منفصل من "ها". والمنفصلُ إذا حُذف منه حرف المدّ لالتقاء الساكنين، لم يقع به اختلالٌ، كما لو حذفتها من الكلمة الواحدة، إذ اجتماعُ الساكنين في الكلمة الواحدة يقع لازمًا، فيختلّ بناء الكلمة، وليس كذلك في الكلمتَيْن. وقالوا: "أاللهِ لتفعلنّ" , فجعلوا ألفَ الاستفهام عوضًا من حرف القسم, لأنّك لمّا احتجت إلى الاستفهام، وكان من شأن القسم أن يقع فيه العوضُ، جعلتَ ألف الاستفهام عوضًا، وكان ذلك أوجز من أن يأتوا بحرفَيْن: أحدهما ألفُ الاستفهام، والآخر المعوَّضُ. والذي يدلّ أنّها عوضٌ ما ذكرناه من أنّها مُعاقِبة لحرف القسم، فلا تُجامِعه. وقالوا أيضًا: "أَفأَللَّهِ لتفعلنّ"، فجعلوا الألف عوضًا، وتقطعها كما مددتَها في {آلذَّكَرَيْنِ} (¬2) لتفرق بين الأمريَنْ: الخبر والاستخبار، كذلك تفرق ها هنا بقطع الهمزة بين العوض وتَرْكه. فصل [الواو العاطفة بعد واو القسم] قال صاحب الكتاب: والواو الأولى في نحو: {والليل إذا يغشى} (¬3) للقسم, وما بعدها للعطف, كما تقول: "بالله فالله وبحياتك ثم حياتك, لأفعلنَّ". * * * قال الشارح: أما قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} (¬4) ,فإنّ الواو الأولى للقسم وما بعدها من الواوات فللعطف والجواب: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} (¬5) ولو كانت الواوات جُمَعُ هنا للقسم, لاحتاج كلُّ واحد إلى جواب؛ لأنها أقسامٌ منفصلةٌ لم ¬
يُشارِك أحدُها الآخر، فإن أضمرتَ وجعلتَ الظاهر جواب الذي يليه جاز. ولا يكون ذلك بالحسن، بل يتأويل ضعيف. والذي يدلّ أن الواو الثانية وما بعدها حروفُ عطف أنّها يقع موضعها غيرُ الواو من حروف العطف؛ نحو قولك: "واللهِ"، "فاللهِ"، "وواللهِ، ثُمَّ اللهِ، وبحياتك، ثمّ حياتِك". ويجوز أن يكون القسم بالباء والتاء، ويقع العطفُ عليه بالواو، والفاء، و"ثُمَّ"، كقولك: "تالله, والرحمنِ"، و"بالله، ثمّ اللهِ". فإن قلت: "والله لآتيَنَّكَ، ثمّ الله لأُكرِمَنَّكَ"، كنت بالخيار في الثاني إن شئت قطعتَ ونصبتَ على أنّه قسمٌ آخر مستأنَفٌ، ويكون عطفَ جملة على جملة؛ لأنّ الأوّل قد تم بجوابه. وإن شئت خفضته بالعطف على الأوّل، وجئت له بجواب آخر. فإن أخّرتَ القسم عن حرف العطف، لم يجز فيه إلا النصبُ، وامتنع الخفضُ، وذلك نحو قولك: "واللهِ لآتِينَّكَ ثمّ لأَشكُرَنَّكَ اللهِ"؛ لأنّ حرف العطف نائبٌ عن الخافض، وكان معه، ولا يجوز الفصل بين الخافض والمخفوض.
تخفيف الهمزة
ومن أصناف المشترك تخفيف الهمزة فصل قال صاحب الكتاب: تشترك فيه الأضراب الثلاثة (¬1) , ولا تخفف الهمزة إلا إذا تقدمها شيءٌ، فإن لم يتقدمها, نحو قولك ابتداء: "أب" "أم", "إبل" فالتحقيق ليس إلا. وفي تخفيفها ثلاثة أوجه: الإبدال، والحذف، وأن تجعل بينَ بين، أي: بين مخرجها وبين مخرج الحرف الذي منه حركتها. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الهمزة حرفٌ شديدٌ مستثقلٌ يخرج من أقصى الحلق، إذ كان أدخلَ الحروف في الحلق، فاستُثقل النطقُ به، إذ كان إخراجُه كالتهوع (¬2)، فلذلك من الاستثقال ساغ فيها التخفيفُ، وهو لغةُ قريش، وأكثر أهل الحجاز. وهو نوعُ استحسان لثقل الهمزة. والتحقيقُ لغةُ تميم وقَيْس، قالوا: لأنّ الهمزة حرفٌ، فوجب الإتيانُ به كغيره من الحروف. وتخفيفُها كما ذُكر بالإبدال والحذفِ، وأن تجعل بين بين. فالإبدالُ بأن تزيل نَبْرَتَها، فتلين، فحينئذ تصير إلى الألف والواو والياء على حسب حركتها وحركةِ ما قبلها على ما سيوضَح بعدُ. ولذلك كان أبو العبّاس يُسْقِطها من حروف المُعْجَم، ولا يعُدّها معها، ويجعل أوّلها الباء، ويقول: الهمزة لا تثبت على صورة واحدة، ولا أعدُّها مع الحروف التي أشكالُها معروفةٌ محفوظةٌ. وأمّا الحذف، فأن تُسْقِطها من اللفظ ألبتّة. وأمّا جعلُها بين بين، أي: بين الهمزة والحرف الذي منه حركتُها. فهذا كانت مفتوحة، تجعلها بين الهمزة والألف، وإذا كانت مضمومة بين الهمزة والواو، وإذا كانت مكسورة بين الياء والهمزة، وسيوضَح ذلك بعدُ بأَكْشَفَ من هذا القول. وقوله: "ولا تخفّف الهمزة إلّا إذا تقدّمها شيء" يريد أنّها إذا وقعت أوّلاً، فإنّها لا ¬
تُخفَّف سواء كانت مفتوحة أو مضمومة أو مكسورة، نحو: أَبَ، وأَحْمَد، وإبراهيم، وإبِل، وأُمّ، وأُتْرُجَّة. وذلك لضعفها بالتخفيف، وقُرْبها من الساكن. فكما لا يُبتدأ بساكن، كذلك لا يُبتدأ بما قرُب منه، وإنّما تُخفَّف الهمزة حيث يجوز أن يقع فيه الساكنُ، وذلك إذا كانت غير أوّل، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: ولا تخلو إما أن تقع ساكنة فيبدل منها الحرف الذي منه حركة ما قبلها كقولك "راسٌ" و"قرات" و"إلى الهداتنا" (¬1) , وبير وجيت والذيتمن (¬2) ولوم وسوت ويقولوذن (¬3). * * * قال الشارح: اعلم أنّ الهمزة والألف تتقاربان في المخرج، فالهمزة أدخلُ إلى الصدر، ثمّ تليها الألف. ولذلك إذا حرّكوا الألفَ، اعتمدوا بها على أقرب الحروف منها إلى أسفلَ، فقلبوها همزةً، فالهمزةُ نَبْرَةٌ شديدةٌ، والألفُ ليّنةٌ. فإذا سكنت الهمزةُ، وأُريد تخفيفها , دبرها حركةُ ما قبلها. فإن كان ما قبلها فتحةً صارت الهمزة ألفًا، وإن كان ضمّة صارت واوًا، وإن كان كسرة صارت ياءً؛ لأنّك، إذا خفّفتها فأنت تُزيل نبرتَها، وإذا زالت نبرتُها لانت وصارت إلى جنس الألف؛ لأنّها أقربُ الحروف إليها من فَوْق. وسوّغ ذلك الفتحةُ قبلها؛ لأنّ الألف لا يكون ما قبلها إلَّا مفتوحًا. وإذا انضّم ما قبلها صارت واوًا، وإذا انكسر ما قبلها صارت ياءً. كذلك الهمزةُ إذا ليّنتها صارت من جنس الألف لسكونها وقُرْبِها منها، وتبعت حركة ما قبلها، فصارت إليها. وذلك نحو قولك في "رَأْس": "رَاسٌ"، وفي "فَأْس": "فَاسٌ"، وفي "قَرَأتُ": "قَرَاتُ". تقلب الهمزة ألفًا للفتحة قبلها. وتقول في "جُؤْنَة": "جُونَةٌ"، وهي للعَطّار كالخَريطة من أَدَمِ، وفي "لُؤْم": "لُومٌ"، وفي "سُؤْتُ": "سُوتُ". وتقول في "ذِئْب": "ذِيبٌ"، وفي "بِئْر": "بِيرٌ"، وفي "جِئْتُ"، "جيتُ". وهو قياس مطّرد في كلّ ما كان بهذه الصفة، ولا تجعلها ها هنا بين بين لأنّها ساكنةٌ، ولا يتأتّى ذلك في الساكنة. ولا تحذفها أيضًا؛ لأنّه لا يبقى معك ما يدلّ عليها، وكان الإبدال أسهلَ، وحكمُ المنفصل في ذلك كحكم المتّصل. فمن ذلك قوله تعالى: {إلَى الهُدَاتِنَا} (¬4)، و {يَقُولُوذَنْ} (¬5)، ¬
و {الَّذِيتُمِنَ} (¬1)، والأصل: {إلَى الهُدَى اَئْتِنَا} (¬2)، بهمزتَين الثانيةُ فاء الفعل ساكنةً، والأولى همزةُ الوصل جيء بها وصلة إلى النطق بالساكن. فلمّا اجتمع همزتان الأولى مكسورةٌ، والثانيةُ ساكنةٌ؛ قلبوا الثانية ياءً على حدّ "بِير"، و"جِيتُ"، إلّا أنّ البدل يقع ها هنا لازمًا لاجتماع الهمزتَيْن، وليس كذلك في "بير"، و"جيت". هذا إذا بدأت به من غير تقدُّم كلام. فلما تقدّم "الهدى"، سقطت همزة الوصل للدرج؛ لأنّ هذه الهمزة لا تثبت في الوصل لزوال الحاجة إليها، وإمكانِ النطق بالساكن حين اتّصل بما قبلها. فلمّا سقطت الهمزة الأولى، عادت الياء همزةً ساكنةً على ما كانت عليه؛ لزوال سبب انقلابها، ثمّ اجتمعت مع ألف "الهدى"، فحُذفت الألف لالتقاء الساكنين، فصار اللفظ "الهُدَأْتِنَا" بهمزة ساكنة بعد الدال المفتوحة. فإذا خُفّفت الهمزة حينئذ، تُقْلَب الهمزة ألفًا على حد "راس" و"فاس"، وصار اللفظ "الهُدَاتِنَا" بألف ليّنة بعد الدال. وتكون هذه الألف بدلاً من الهمزة التي هي فاء الفعل، وليست التي هي لام "الهدى". وكذلك {يَقُولُوذَنْ}، و {الَّذِيتُمِنَ} فالعملُ فيهما واحد أن قلبت الهمزة في {يَقُولُ ائْذَنْ} واوًا لانضمامِ ما قبلها، وفي {الَّذِى اؤْتُمِنَ} ياءً لانكسار ما قبلها , فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وإما أن تقع متحركة ساكناً ما قبلها، فينظر إلى الساكن: فإن كان حرف لين نظر: فإن كان ياء أو واواً مدتين زائدتين أو ما يشبه المدة كياء التصغير قلبت إليه وأدغم فيها كقولك: خطية ومقروة وأفيس. وقد التزم ذلك في نبي وبريه. * * * قال الشارح: متى كانت الهمزة متحرّكة، فلا يخلو ما قبلها من أن يكون ساكنًا، أو متحرّكًا. فإن سكن، فلا يخلو من أن يكون صحيحًا، أو حرفًا من حروف المدَّ واللين. فإن كان من حروف المدّ واللين، نُظر: فإن كان ياءً أو واوًا، فإنّ تخفيفها على وجهين: أحدهما أن تقلب الهمزةَ من جنس الواو إن كان قبلها واوٌ، ومن جنس الياء إن كان قبلها ياءٌ، وتَدّغِم فيها ما قبلها. والوجه الآخر أن تُلقِي حركتها على ما قبلها من الواو والياء، وتحذفها كسائر الحروف. فأمّا الواو والياء اللتان تُبْدَل الهمزة بعدهما من جنسهما، وتدّغمان، فإذا كانتا ساكنتْين مزيدتَيْن غيرَ طَرَفَيْن، وقبلهما حركةٌ من جنسهما، وذلك نحو قولك في "خَطِيئة": "خَطيَّةٌ"، وفي "النَّبِيء": "النَّبِيُّ" وفي "مَقْرُوءَة": "مَقْرُؤَّةٌ"، وفي "أَزْدُ شَنُوءَةَ": "شَنُوَّة". وإنّما كان كذلك؛ لأنّه لا يُقدَر على إلقاء حركة الهمزة عليهما؛ لأنّ الواو والياء هنا مزيدتان للمدّ، فأشبهتا الألفَ لسكونهما وكون حركةِ ما قبلهما من ¬
جنسهما، وأنّهما شريكتان في المدّ، فكرهوا الحركة فيهما لذلك، ولأنّ تحريكهما يُخِلّ بالمقصود بهما؛ لأن تحريك حرف المدّ يصرفه عن المدّ. ولم تجعل الهمزة هنا بين بين؛ لأنّ في ذلك تقريبًا لها من الساكن، وقبلها ساكنٌ، فكانت الواو والياء تُدّغمان، ويُدّغم فيهما، فصارتا إلى ذلك؛ لأنّه أخفُّ. وياء التصغير تجرى مجرى هذه الياء إذا كان بعدها همزةٌ، وإن كان ما قبلها مفتوحًا، كقولك في "أُفَيْئِس": "أُفَيِّسٌ" تصغيرُ "أَفْؤُسٍ"، وأَفْؤُسٌ: جمعُ فأسٍ جمعَ قلّةٍ. وكذلك قولك في "سُوَيْئل": "سُوَيِّلٌ" تصغيرُ "سائلٍ"؛ لأنّ ياء التصغير لا تكون إلا ساكنة إذ كانت رسيلةَ ألف التكسير, لأنّ موقعها من المصغر كموقع الألف من المجموع، كقولنا: "دِرْهَمٌ"، و"دَراهِم". وقوله: "قد التزم ذلك في نَبِيّ وبَرِيَّة"، يريد تَركَ الهمزة وقَلْبَها إلى ما قبلها وادّغامَها على حدّ "خَطِيَّةٍ"، إلّا إنّه في "نبيّ" و"بريّة" لازمٌ لكثرة الاستعمال بحيث صار الأصل مهجورًا، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وإن كان ألفاً جعلت بين بين كقولك: سأل وتساؤل وقائل. * * * قال الشارح: وإذا كان قبل الهمزة ألفٌ، وأريد تخفيفُها، فحكمُها أن تجعل بين بين. إن كانت مفتوحة جعلتها بين الهمزة والألفُ, وإن كانت مضمومة جعلتها بين الهمزة والواو، نحو: "تساؤُلٌ"، وإن كانت مكسورة جعلتها بين الهمزة والياء؛ نحو: "قايلٍ". وذلك لأنّه لا يمكن إلقاء حركتها على الألفُ إذا الألفُ لا تتحرّك، ولو قلبتَ الهمزة ألفًا، وأخذتَ تدّغم فيها الألفَ على حدّ "مقرؤة"، لاستحال ذلك، إذ الألفُ لا تُدّغم، ولا يُدّغم فيها، وكان في جعلها بين بين ملاحَظةٌ لأمر الهمزة إذ فيها بقيّةٌ منها، وتخفيفُها بتليينها وتسهيل نَبْرتها. فإن قيل: فهلا امتنع جعلُها بين بين لسكون الألف وقُرْبها من الساكن، قيل: الذي سهّل ذلك أمران: أحدهما خفاء الألف، فكأنّه ليس قبلها شيءٌ، والآخر زيادةُ المدّ في الألف قام مقامَ الحركة فيها كالمدّغم فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وإن كان حرفاً صحيحاً أو واواً أو ياء أصليتين أو مزيدتين لمعنى, ألقيت عليه حركتها وحذفت كقولك: مسلةٌ والخب ومن بوك ومن بلك وجيل وحوبة وأبويُّوب وذو مرهم واتبعي مره وقاضوبيك. * * * قال الشارح: إذا كان قبل الهمزة المتحرّكة حرفٌ صحيحٌ ساكنٌ، نحو: يَسْأَلُ، ويَجْأر والمَسأَلَةُ، والخَبْءُ، والكَمأَةُ، والمَرْأَةُ، والمِرْآةُ، فالطريق في تخفيفها أن تُلْقِي
حركتَها على ما قبلها وتحذفها. وتقول في "مسأَلَة": "مَسَلَةٌ"، وفي "الخَبْء": "الخَبُ"، وفي "الكَمْأَة": "الكَمَةُ"، وفي "المَرْأَة": "المَرَةُ"، وفي "المِرْآة": "المِرَاةُ". وذلك أنّ الحذف أبلغ في التخفيف، وقد بقي من أعراضها ما يدلّ عليها، وهو حركتُها المنقولةُ إلى الساكن قبلها. ولم يجعلوها بين بين؛ لأنّ في ذلك تقريبًا لها من الساكن، فكرهوا الجمعَ بين ساكنَيْن، كيف والكوفيون يزعمون أنّها ساكنة ألبتّة (¬1)، وهي عندنا، وإن كانت في حكم المتحرّكة، فهي ضعيفةٌ يُنْحَى بها نَحْوَ الساكن، ولذلك لا تقع همزةُ بين بين في أوّل الكلام، ولا تقع إلّا حيث يجوز وقوعُ الساكن غيرُ الألف. ولم يقلبوها حرفًا ليّنًا لأنّ قبلها ساكنًا، فكان يلتقي ساكنان. قال سيبويه (¬2): ولم يُبْدِلوا؛ لأنّهم كرهوا أن يُدْخِلوها في بنات الياء والواو اللتَيْن هما لامان. ومن ذلك قولهم في المنفصل: "مَنَ بُوكَ". وذلك أنّهم ألقوا حركة الهمزة التي هي الفتحة على النون، ثمّ حذفوها تخفيفًا لدلالة الحركة عليها. وقالوا: "مَنُ مُّكَ" في "مَنْ أمُّكَ". وقالوا: "مِنِ بِلِكَ" في "مِنْ إبِلِكَ"، فنقلوا كسرة الهمزة إلى النون، ثمّ حذفوها. وكذلك لو كانت الياء والواو مزيدتَيْن لمعنى، كان حكمهما في ذلك حكمَ الصحيح، فيجوز إلقاء حركة الهمزة عليهما حينئذ، نحو قولك في "هذا أبُو إسْحاق": "أبُوِ سْحاقَ"، وفي "مررت بأبِي إسْحاق": "أبِي سْحاقَ"، فتُلْقِي حركةَ الهمزة على الواو المضمومِ ما قبلها، وعلى الياء المكسور ما قبلهَا, لأنهما أصلٌ، ولم تمتنعا من الحركة. ومثله قولك في "قَاضِي أَبِيكَ": "قاضِيَ بِيكَ"، وفي "ذُو أَمْرِهِمْ": "ذُوَ مْرِهِمْ". وكذلك تقول في "يَغزُو أُمَّه": "يَغزُوُ مَّهُ". وكذلك لو كانتا للإلحاق، فإنّهما تجريان مجرى الأصليّة، فيسوغ نقلُ حركة الهمزة إليهما، نحو قولك في "الحَوْأَب" و"الحَوْأَبَةِ": "الحَوَبُ"، و"الحَوَبَةُ". والحَوْأَبُ: المكان الواسع، وواوُه زائدة للإلحاق بجَعْفَرٍ. وكذلك الواو إذا كانت مزيدة لمعنًى، نحو واو الجمع، كقولك: "اتَّبِعُوَ مرَهُ"، و"قَاضُوَبِيكَ" في "اتبِعُوا أَمْرَه"، و"قاضُو أبيك"، حيث كانت لمعنى الجمع والاسميّة صارت بمنزلة ما هو من نفس الكلمة، نحو واوِ "يَدْعُو". وكذلك تقول: "اتَّبِعِيَ مْرَهُ" في "اتَّبِعِي أَمْرَهُ". وتُشبَّه بياءِ "يَرْمِي"، وما هو من نفس الكلمة، إذ لم تكن مزيدة للمدّ كواو "مَقرُوءة"، فلم تمتنع من الحركة. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: وقد التزم ذلك في باب "يري" و"أري يرى"، ومنهم من يقول: "المراة" و"الكماة" فيقلبها ألفاً وليس بمطرد، وقد رآه الكوفيون مطرداً. * * * قال الشارح: أمّا "يَرى" و"يُري" و"أَرى"، فإنّ الأصل: "يَرْأى" و"يُرْئِي" و"أَرْأى"؛ لأنّ الماضي منه "رَأى"، والمضارع "يَرْأى" بالفتح لمكان حرف الحلق، وإنّما حذفوا الهمزة التي هي عين الفعل في المضارع، ويحتمل ذلك أمرَيْن: أحدهما: أن تكون حُذْفت لكثرة الاستعمال تخفيفًا، وذلك أنّه إذا قيل: "أَرْأى"، اجتمع همزتان بينهما ساكنٌ، والساكنُ حاجزٌ غيرُ حصين، فكأنّهما قد تَوالتا، فحُذفت الثانية على حدّ حذفها في "أُكْرِمُ"، ثمّ أُتْبع سائرَ الباب، وفُتحت الراء لمجاوَرة الألف التي هي لامُ الكلمة، وغلب كثرةُ الاستعمال هاهنا الأصلَ حتّى هُجر ورُفض. والثاني: أن يكون حذفُ الهمزة للتخفيف القياسيّ بأن أُلقيت حركتها على الراء قبلها، ثمّ حُذفت على حد قوله تعالى: {يُخْرِجُ الخَبَ} (¬1)، و {قَدَ فْلَحَ المُؤْمِنُونَ} (¬2)، فصار "يرى" و"يُرِي" و"أَرى"، ولزم هذا التخفيفُ والحذفُ لكثرة الاستعمال على ما تقدّم. وإلى هذا الوجه يُشير صاحب الكتاب، وهو أوجهُ عندي لقُرْبه من القياس، وقد ذكره ابنُ جِنِّي مع التخفيف غير القياسيّ؛ لأنّ التخفيف لزم على غير قياس حتى هُجر الأصل، وصار استعمالُه والرجوعُ إليه كالضرورة، نحو قوله [من الوافر]: 1246 - أُرِي عَيْنَىَّ ما لم تَرْأَيَاهُ ... [كِلانا عَالِمٌ بالتُّرَّهاتِ] ¬
وقد رُوي: تَرَيَاهُ، بالتخفيف عن أبي الحسن. وقال الآخر [من البسيط]: 1247 - ثمَّ اسْتَمرَّ بها شَيْحَانُ مبتجِحٌ ... بالبَيْنِ عَنْكَ بِمَا يَرْآك شَنْآنا وهو قليلٌ. وأمّا "المَرَاةُ" و"الكَمَاةُ" بألف خالصة، حكى ذلك سيبويه عن العرب، قال: وذلك قليل (¬1)، فإنّهم أبدلوا من الهمزة المفتوحة ألفًا، ثمّ فُتح ما قبل الألف؛ لأنّ الألف لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحًا. وهو عند سيبويه شاذّ, لأنّ طريق تخفيف هذه الهمزة بإلقاء حركتها على ما قبلها، وحذفِها على ما بيّنّاه. وكان الكسائي والفراء يَطْرُدان ويَقيسان عليه. وطريقُ قَلْب هذه الهمزة ألفاً أن الميم والراء في "الكمأة" و"المرأة" لمّا جاورتا الهمزةَ المفتوحة، وكانتا ساكنتين، صارت الفتحتان اللتان في الهمزتَيْن كأنّهما في الراء ¬
والميم، فصارت الراء والميم كأنّهما مفتوحتان، والهمزتان كأنهما ساكنتان لمّا قُدّر حركتُهما في غيرهما، فصار التقدير: "المَرَأة" و"الكَمَأْة"، بفتح الراء والميم وسكون الهمزة، فأُبدلت الهمزتان ألفين لسكونهما وانفتاح ما قبلهما على حدّ القلب في "رأس"، و"فأس" إذا أريد التخفيف. وعليه قوله [من الطويل]: كَأَنْ لم تَرَى قبْلِي أَسِيرًا يَمانِيَا (¬1) أراد: تَزءَى، فجاء به مخفّفًا. ثُمّ إن الراء لمّا جاورتْ وهي ساكنةٌ الهمزةَ متحرّكةً، صارت الحركةُ كأنها في التقدير قبل الهمزة؛ فقُلبت ألفًا لذلك، فالألفُ عينُ الفعل، واللامُ محذوفة للجزم على مذهب التحقيق، ويجوز أن يكون الأصل "المَرْأَة" و"الكَمْأَة"، ثمّ نُقل حركة الهمزة إلى الساكنْ قبلها فتَحرّك، وبقيت الهمزة ساكنةً، فقلبوا الهمزة ألفًا على "راسٍ"، و"فاسٍ"، فقيل: "المَراة"، و"الكَماة"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وإما أن تقع متحركة متحركاً ما قبلها فتجعل بين بين كقولك: سأل ولؤم وسئل، إلا إذا انفتحت وانكسر ما قبلها أو انضم فقلبت ياء أو واواً محضة كقولك "ميرٌ" و"جونٌ". والأخفش يقلب المضمومة المكسورة ما قبلها ياء أيضاً فيقول يستهزيون، وقد تبدل منها حروف اللين فيقال منساة ومنه قول الفرزدق [من الكامل]: [راحت بمسلمة البغال عشيةً] ... فارعي فزارة لا هناك المرتع (¬2) وقال حسان [من البسيط]: سالت هذيل رسول الله فاحشة ... [ضلت هذيل بما سالت ولم تصب] (¬3) وقال ابنه عبد الرحمن [من الوافر]: 1248 - [وكنت أذلَّ من وتدٍ بقاعٍ] ... يشجج رأسه بالفهر واجي ¬
قال سيبويه (¬1): وليس ذا بقياس متلئب (¬2) , وإنما يحفظ عن العرب كما يحفظ الشيء الذي تبدل التاء من واوه نحو: "أتلج". * * * قال الشارح: وأمّا إذا كانت الهمزة متحرّكةً متحرّكًا ما قبلها، وأريد تخفيفها، فحكمُها أن تجعل بين بين، أي: بين مُخرج الهمزة، وبين مُخرج الحرف الذي منه حركةُ الهمزة. وهذا القياسُ في كل همزة متحرّكة؛ لأنّ فيه تخفيفًا للهمزة بإضعاف الصوت، وتليينه وتقريبه من الحرف الساكن مع بقيّةٍ من آثار الهمزة؛ ليكون ذلك دليلاً على أنّ أصله الهمزة، ويكون فيه جمعَ بين الأمرَيْن. ولا تخلو الهمزة من ثلاثة أحوال: إمّا أن تكون مفتوحة، أو مكسورة، أو مضمومة. فإذا كانت مفتوحة وقبلها مفتوح، جعلتها متوسّطة في إخراجها بين الهمزة والألف, لأنّ الفتحة من الألف، وذلك قولك في "سَأَلَ": "سال"، وفي "قَرَأ": "قرا". والمنفصلُ في ذلك كلّه كالمتّصل، نحو: "قال أَحْمَدُ"، إذا أردتَ التخفيف، قلت: "قال أحمد". ولا يظهر سِرُّ هذه الهمزة ولا ينكشف حالُها إلّا بالمشافَهة. فإن كان قبلها ضمّةٌ أو كسرةٌ، فإنّك تُبْدِلها مع الضمّ واوًا ومع الكسر ياءً، وذلك قولك في تخفيف "جُؤَنٍ" جمع جُؤْنَةٍ: "جُوَنٌ" بواو خالصة، وفي تخفيف "تُؤَدَة": "توَدَةٌ". وتقول في المنفصل: "هذا غُلَاموَبِيكَ" بالواو أيضًا. وتقول مع الكسرة: "مِيَرٌ" بتخفيف "مِئَرٍ"، وهو جمعُ "مِئْرَةٍ"، وهو التضريب بين القوم بالفَساد. وتقول: "يريد أن يُقرِيَكَ"، وفي المنفصل: "مررت بغُلامِيَ بِيكَ". وإنّما كان كذلك من قبل أنّ الهمزة المفتوحة لو جعلتَها بين بين وقبلها ضمّةٌ أو ¬
كسرة، لنحوتَ بها نحو الألف، والألفُ لا يكون ما قبلها مضمومًا أو مكسورًا، بل ذلك مُحالٌ، فلذلك عدلوا إلى القلب. وإذا كانت مكسورة وقبلها متحرّكٌ، وأريد تخفيفها، جُعلت بين بين، سواءً كانت الحركة فتحةً أو ضمّةً أو كسرةً، فتقول فيما كان قبلها فتحةٌ: "سَئيمَ" في تخفيفِ "سَئِمَ"، وبَيس" في تخفيفِ "بَئِسَ"، وفي المنفصل: {وَإذْ قَالَيْبراهِيمُ} (¬1). وذلك لأنّها مكسورة تقرّبها في التخفيف من الياء، كما كانت مع الفتحة بين الألف والهمزة. والياء ممّا يسلم بعد الفتحة المحضة، فما ظَنُّك فيما قرُب منها؟ وتقول فيما كان قبلها ضمّةٌ، نحو. "سئُيْلَ"، و"دُئيلَ"، و"عبدُ يئبْراهيمَ". تجعلها بين بين في التخفيف. وقياسُ مذهب الأخفش أن تُخلِّصها ياءً على ما سنوضِح في الهمزة المضمومة إذا انكسر ما قبلها. قياسُهما واحدٌ. فأمّا إذا انكسر ما قبلها، فإنّ تخفيفها بأن تكون بين بين بلا خلاف من نحو: "عَبْدِئيِبراهيمَ"، إذ لا مانعَ من ذلك. فإن كانت الهمزة المتحرّكة مضمومة، وما قبلها متحرّكٌ، فأمرُها كذلك في التخفيف، وذلك أن تجعلها بين بين، وذلك بأن تضعّف صوتَها, ولا تُتِمّه، فتقرُب حينئذ من الواو الساكنة سواءَ كان ما قبلها مفتوحًا أو مضمومًا أو مكسورًا. هذا مذهب سيبويه، قال (¬2): وهو كلام العرب، وذلك قولك فيما كان قبلها فتحةٌ: "لَؤُمَ"، و"أكرمتُ عَبْدَؤُختِهِ"، وفيما كان قبلها ضمّةٌ قولك: "مُؤُونٌ"، و"رُؤُوسٌ"، وفي المنفصل: "هذا عبدُ أُخْتِك"، و"أكلتُ أترُجَّةً"، وفيما كان قبلها كسرةٌ، نحو: يَسْتَهزِؤُونَ، و"من عبدِ أُخْتِك". كلُّ ذلك تجعله بين بين عند سيبويه، وكان الأخفش يقلبها ياء إذا كان قبلها كسرةٌ، ويحتجّ بأنّ همزة بين بين تُشْبِه الساكنَ للتخفيف الذي لحقها , وليس في الكلام كسرةٌ بعدها واوٌ ساكنةٌ. قال: فلو جُعلت بين بين، لنُحي بها نحو الواو الساكنة وقبلها كسرةٌ، وهو معدوم. وهو قول حسن، وقولُ سيبوية أحسنُ؛ لأنّ الواو الساكنة لا يستحيل أن يكون قبلها كسرةٌ كما استحال ذلك في الألف، وإنّما عدولُهم عن ذلك لضرب من التثقيل. وإذا لم يستحل ذلك في الواو الساكنة، لم يمتنع فيما قارَبَها. وقومٌ من العرب يُبْدِلون من هذه الهمزات التي تكون بين بين حروفَ لين، فيبدلون من المفتوحة المفتوحِ ما قبلها ألفًا، فيقولون في "سَأَلَ": "سالَ"، وفي "قَرَأ": "قَرا"، وفي "مِنْسَأَةٍ"، "مِنْسَاةٌ"، ومن المضمومة المضمومِ ما قبلها واوًا، ومن المكسورة المكسورِ ما قبلها ياءٌ. وذلك شاذ ليس بمُطّرِد. قال سيبويه (¬3). وليس بقياس متلئبّ، ¬
وإنّما هو بمنزلةِ "أَثلجتُ"، في "أوْلَجْتُ"، ولا يقاس عليه فيقالَ في "أَوْغَلْتُ": "أَتْغَلْتُ"، وإانّما بابُ ذلك الشعرُ ضرورةَ. وأنشد الفرزدق [من الكامل]. راحتْ بمَسْلَمَةَ البِغالُ عَشِيّةً ... فَارْعَيْ فَزارةُ لا هَناكِ المَرْتعُ (¬1) الشاهد فيه قلبُ هذه الهمزة ألفًا، والقياسُ أن تجعل بين بين، لكنّه لمّا لم يَتّزن له البيتُ بحرف متحرّك، أبدل منها الألفَ ضرورةً. وهذا أحدُ ما يدلّ على أنّ همزة بين بين متحرّكةٌ، وليست ساكنة كما زعم الكوفيون (¬2). وممّا يدل أنّها متحرّكةٌ قول الشاعر [من الطويل]: 1249 - أَأَن زُمَّ أَجْمالٌ وفارَقَ جيرَةٌ ... وصاحَ غرابُ البَيْنِ أنتَ حَزِينُ فالهمزة ها هنا بين بين, لأنّه لا يُجمع بين همزتَين محقّقتين، فلو كانت الهمزة هاهنا ساكنةً، لانكسر البيت, لأنه لا يُجْمَع في الشعر بين ساكنين إلّا في قَوافٍ مخصوصة. يقول هذا حين عُزل مَسْلَمَةُ بن عبد الملك عن العراق. ومن ذلك قول حسّان [من البسيط]: سالتْ هُذَيْلٌ رسولَ الله فاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بما سالَتْ ولم تصِبِ (¬3) الشاهد فيه قوله: "سالت"، والمراد: سَأَلَتْ بالهمزة، ولا يقال: إن "سَالَ يَسالُ" ¬
فصل [حذف الهمزة حذفا غير قياسي]
لغةُ قوم من العرب, لأنّ هذين الشاعرين ليس من لغتهما تركُ الهمزة، وقولُ ابنه عبد الرحمن يُهاجِي ابن الحَكَم بن أبي العاص بن أُميّة [من الوافر]: فأمّا قولُك الخُلَفاء منَّا ... فهُنم مَنَعُوا وَرِيدَكَ مِن وِداجي ولَوْلاهُمْ لَكنتَ كحُوتِ بَحْرٍ ... غَدا في مُظْلِمِ الغَمَراتِ داجي وكنتَ أَذَلَّ من وَتَدٍ بِقاعٍ ... يُشَجِّجُ رَأسَه بالفِهْر واجي (¬1) الشاهد فيه قوله: "واجي". والإبدالُ ها هنا أسهلُ؛ لأن الهمزة هنا طَرَفٌ، والطرفُ ممّا يسكن في الوقف، والهمزةُ إذا سكنت وانكسر ما قبلها، قُلبت ياءً، نحو قولك في "بِئْرٍ": "بيرٌ"، فاعرفه. فصل [حذف الهمزة حذفًا غير قياسي] قال صاحب الكتاب: وقد حذفوا الهمزة في "كل" و"مر" و"خذ" حذفاً غير قياسي، ثم ألزموه في اثنين دون الثالث, فلم يقولوا: "أوخذ" ولا "أوكل". وقال الله تعالى: {وأمر أهلك} (¬2). * * * قال الشارح: اعلم أنّ الفعل إذا سكن ما بعد حرف المضارعة منه، نحو: "يَضرِبُ"، و"يَخرُجُ"، و"يَعْلَمُ"، وأمرتَ منه المخاطبَ، فإنّك تحذف منه حرف المضارعة لِما ذكرناه قبلُ، فبقي ما بعده ساكنًا، وهي الضاد والخاء والعين، ولا يمكن الابتداء بالساكن، فحينئذ تجيء بالهمزة توصُّلاً إلى النطق بالساكن، فتقول: "اضرِبْ"، "اُخرُجْ" , "اعْلَمْ". وهذه الهمزة مكسورة لالتقاء الساكنين، إلّا أن يكونْ الثالث مضمومًا، فإنّك تضمّها إتباعًا كراهيةَ الخروج من كسر إلى ضمّ. فما كان فاؤه همزة تسكن في المضارع كان هذا حكمه , نحو: "أَتَى يَأْتِي"، و"أَثِمَ يَأْثَمُ"، إلّا إنّك تُبْدِل الهمزة الثانية ياءً خالصةً إن كانت همزة الوصل مكسورةً، نحو قولك: "إيتِ"، و"إيثَمْ"، والأصلُ: "إئْتِ"، و"إئْثَمْ". وإن كانت همزة الوصل مضمومة، قُلبت واوًا خالصةً، نحوَ: "أُوسُ الجُرْحَ"، والأصلُ: "أُؤسُ". فقلبوا الهمزة الثانية حرفًا لينًا فرارًا من الجمع بين الهمزتين؛ لأنّه إذا جاز التخفيف في الهمزة، وجب في الهمزتين، إلّا أنّه شدّ من هذا ثلاثةُ أفعال تُسْمَع، ولا يقاس عليها لخروجها عن نظائرها، وهي: "خُذ"، و"كُلْ"، و"مُرْ"، والقياس: "اُؤْخُذْ"، "اُؤكُلْ"، "اُؤْمُرْ"، فحذفوا الهمزة التي هي فاء؛ تخفيفًا لاجتماع الهمزتين فيما يكثر استعمالُه، فحينئذ استُغني عن همزة الوصل لزوال الساكن وتحرُّكِ ما يُبتدأ به، وهو الخاء ¬
فصل [حذف همزة "أل" وإثباتها]
في "خُذْ"، والكاف في "كُلْ"، والميم في "مُر"، فحذفوها، ووزنُه من الفعل "عُلْ" محذوف الفاء. ولزم هذا الحذفُ لكثرة هذه الكلم، ولذلك جعله صاحب الكتاب غيرَ قياسىّ، ثمّ ألزموه في اثنين دون الثالث، يعني في "خُذ"، و"كُل" دون "مُرْ"، فإنك تقول فيه: "مُر"، و"أُومُرْ". قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ} (¬1). جاء فيه الأمران (¬2)، إلّا أنّ الحذف أكثرُ، كأنّه لنَقْصه عن مرتبةِ "خُذْ"، و"كُلْ" في كثرة الاستعمال، فاعرفه. فصل [حذف همزة "أل" وإثباتها] قال صاحب الكتاب: وإذا خففت همزة "الأحمر" على طريقها فتحركت لام التعريف اتجه لهم في ألف اللام طريقان: حذفها وهو القياس، وإبقاؤها لطروء الحركة، فقالوا لحمر وألحمر ومثل لحمر {عادلُّولى} (¬3) في قراءة أبي عمرو، وقولهم: "من لان" في "من الآن". ومن قال: "ألحمر" قال "من لان" بتحريك النون كما قريء {من لرض} (¬4) أو ملان بحذفها كما قيل "ملكذب". * * * قال الشارح: قد تقدّم أنّ الهمزة المتحرّكة إذا سكن ما قبلها , ولم يكن الساكنُ من حروف المدّ واللين، فحكمُ تخفيفها بإلقاء حركتها على الساكن قبلها، وتُحذف، كقولنا في "مَسْألَة": "مَسَلَةٌ"، وفي "مِرآةٍ" ": "مِرَاةٌ". ومن ذلك "الأَحْمَر" إذا خفّفت همزته. وقوله: "على طريقها" يعني بإلقاء حركتها على الساكن الذي هو اللام. وفي ذلك وجهان. أحدهما أن تُلْقِيَ حركة الألف على اللام، فتُحرِّك اللام وتُبْقِي ألف الوصل، ولا تحذفها: فتقول: "أَلحَمْرُ". والآخر أن تقول: "لَحْمَرُ"، فتحذف ألفَ الوصل. فمَن أثبتها مع تحرُّك اللام نوى سكونَها، إذ كانت الحركة للهمزة عارضة في اللام، فلم يعتدّ بها. وهذا معنى قوله: "لطروء الحركة"، وصار ذلك فيها كحركة التقاء الساكنين في كونها عارضةً. ألا ترى أنهم قد قالوا: "لم يَقُمِ الرجلُ"، فلم يعتدّوا بالكسرة، ولذلك لم يُعيدوا الواوَ المحذوفة لالتقاء الساكنين؟ ومن ذلك "الاِنطلاق" حرّكوا اللام لالتقاء الساكنين، ومع ذلك همزةُ الوصل ثابتةٌ لم تُحذف. ومَن حذف الهمزة، وقال: "لَحْمَرُ"، فإنّه اعتدّ بالحركة؛ لأنّ الداعي إلى الهمزة ¬
إنّما هو ضرورةُ سكون اللام، واللامُ قد تحرّكت، فوقع الاستغناء عنها. ويلزم من قال: "ألَحْمَرُ"، فيُثبِت الهمزة، أن يقول في "اسْأَلْ" إذا خُفّفت: "اِسَلْ"، ومن قال: "لَحْمَرُ" يلزمه أن يقول: "سَلْ"، إلّا أنّ الأكثر مع لام المعرفهَ إبقاء ألف الوصل، وحذفُها في غير ذلك, لأن هذه اللام موضوعة على السكون، لا تعتوِرها الحركةُ إلّا بسبب عارضٍ، فالسكونُ فيها أقوى. وحكى الكسائي والفرّاء أنّ من العرب من يقلب الهمزة لامًا في مثل هذا، فيقول: "اللَّحْمَرُ" في "الأَحْمَر"، و"اللَّرْضُ" في "الأَرْض"، وكأنّ أهل اللغة نكبوا عن تحريك هذه اللام، فقلبوا الهمزة من جنس اللام، كما قالوا: "لَوٌّ" إذا جعلوا اسمًا، فيزيدون واوًا من جنس الواو. فأمّا قراءة أبي عمرو {عَادلُّولَى} (¬1) بالادّغام والتشديد، فوَجْهُها أنّ الأصل (الأُوْلَى)، فخُفّفت الهمزة بأن أُلقيت حركتها على اللام، ثمّ حُذفت، واعتدّوا بالحركة على مذهبِ من قال: "لَحْمَرُ"، ثمّ ادُّغم التنوين في اللام. وأمّا "مِن لان" فعلى المذهبَيْن، فإن قلت: "لَحْمَرُ"، واعتددتَ بالحركة، قلت: "مِنْ لانَ" بسكون النون في "مِنْ"؛ لأن ما بعدها متحرّكٌ. وعلى ذلك قُرىء: {قَالُوا لانَ} (¬2)، بإثبات الواو؛ لأنّ اللام متحرّكة، فلم يلتق ساكنان. وإن قلت: "الَحْمَرُ"، بإثبات همزة الوصل، ولم تعتدّ بحركة اللام، وأجريتها مجرى الساكن؛ فإنّك تقول: "مِنَ لانَ"، بفتح النون لالتقاء الساكنين إجراءً لها مجرى الساكن، وتقول على ذلك: "مَلاَنَ" على حدّ قول الشاعر [من المنسرح]: غيرَ الذي قد يقال مِلْكَذِبِ (¬3) فتحذف النون لالتقاء الساكنين إجراءَ لها مجرى حروف العلّة من قِبَل أنّ الساكن في الحكم كالساكن في اللفظ، فكما تُثْبِت همزة الوصل مع هذه اللام في "الَحْمَر" كإثباتها مع الساكن الصريح، كذلك تحذف الواو معها لالتقاء الساكنين. وتحرّك النون في "مِنَ لانَ" وتحذفها، والتحريكُ أكثرُ. وقد قُرىء {مِنَ لَرْضِ} (¬4)، و {مِنَ لَّرْضِ} بالوجهين مع إلقاء حركة الهمزة على الساكن الذي هو اللام , فاعرفه. ¬
فصل [التقاء الهمزتين]
فصل [التقاء الهمزتين] قال صاحب الكتاب: وإذا التقت همزتان في كلمة فالوجه قلب الثانية إلى حرف لين كقولهم آدم وأيمة وأويدم، ومنه جائي وخطايا، وقد سمع أبو زيد من يقول اللهم اغفر لي خطائئي، قال همزها أبو السمح ورداد ابن عمه وهو شاذ، وفي القراءة الكوفية {أئمة} (¬1). * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا بأنّ الهمزة حرفٌ مستثقَلٌ؛ لأنّه بعُد مَخرجُها، إذ كانت نَبْرَةً في الصدر تخرج باجتهادٍ، فثقُل عليهم إخراجُها؛ لأنّه كالتهوع، ولذلك مال أهلُ الحجاز إلى تخفيفها. وإذا كان ذلك في الهمزة الواحدة، فإذا اجتمع همزتان، ازداد الثقلُ، ووجب التخفيفُ. فإذا كانتا في كلمة واحدة، كان الثقل أبلغَ، ووجب إبدالُ الثانية إلى حرف لين، نحو: "آدَمَ"، و"آخَرَ"، و"أَيِمَّةٍ"، و"جاءِ"، و"خَطايا". فأمّا "آدَمُ"، فأصلُه "أَأْدَمُ " بهمزتَيْن، الأولى همزةُ "أَفْعَلَ"، والثانيةُ فاء الفعل, لأنّه من "الأُدْمة"، وكذلك "آخر"؛ لأنّه من التأخّر، فأبدلوا من الثانية ألفًا محضةً، وذلك لسكونها وانفتاحِ ما قبلها على حدّ فعلهم في "رَأْسِ" و"فَأْسٍ"، ولا تُخفَّف، وإنّما تصير ألفًا كألِف "ضاربٍ"، و"خاتم". وإنّما شبّهناها بالزائدة من حيث لم تكن أصلاً، وعلى ذلك إذا جمعتَه اسمًا، قلتَ: "أوادِمُ" على نحو: "كَواهِلَ"، و"حَوائطَ". فإن أردت الصفة، قلت: "أُدْمٌ ": نحوَ: "حُمْرٍ"، فقَلْبُها واوَا على حدّ "بَوازِلَ"، و"كواهل" دليلٌ على اعتزام رفض أثر الهمزة فيها. وتقول في التصغير: "أُوَيْدِمُ"، كما تقول: "بُوَيْزِلٌ"، و"كُوَيْهِلٌ" على أنّه ليس في قولهم: "أويدم" دلالةٌ على رفض الهمزة؛ لأنّ الهمزة تُقلب واوًا إذا انفتحت وانضمّ ما قبلها، نحو: "جُوَنٍ"، وإنّما أصحابُنا يذكرون: "أويدم" مع "أوادم" و"أواخر" جمعًا بين التصغير والتكسير وأمّا "أَيمَّةٌ"، فهو في الأصل: "أَئمَّةٌ" على وزن "أَفْعِلةَ", لأنه جمعُ "إمامٍ" كـ"حِمارٍ" و"أحْمِرَةٍ"، فاجتمع في أوّله همزتان: الأولى همزةُ الجمع، والثانيةُ فاء الكلمة، واجتماعُ الهمزتين في كلمة غير مستعمل، فوجب تخفيفُهما. وكان القياس قلبَ الهمزة الثانية ألفًا لسكونها، على حدّ قلبها في "آنِيَةٍ"، و"آزِرَةٍ" جمع "إناءٍ" و"إزارٍ"، لكنّه لمّا وقع بعدها مثلان، وهما الميمان، وأرادوا الادّغام، نقلوا حركة الميم الأولى- وهي ¬
الكسرة- إلى الهمزة، وادّغموا الميم في الميم، فصار: "أَئمَّة". والذي يدلّ على ما قلناه أنّه لو لم يكن كذلك، لوجب إبدالُ الثانية ألفًا لسكونها وانفتاحِ ما قبلها على ما ذكرناه، وكان يقع المدّغمُ بعدها، فيقال: "آمّة" مثل "عامّةٍ" و"طامَّةٍ"، فلمّا لم يُقَلْ ذلك، دلّ على ما قلناه. وممّا يُؤيِّد أنّ الكسرة نُقلت من الميم الأولى إلى ما قبلها من الهمزة قراءةُ حمزة والكسائيّ {أَئِمَّةَ} على الأصل. فلمّا صار اللفظ إلى "أَئِمَّة"، لزم تخفيف الثانية، وأن تصير بين بين على حدّ قولهم في "سَئِمَ": "سَئيمَ"، إلّا أنَّهم لمّا لم يكن من كلامهم الجمعُ بين همزتَيْن في كلمة واحدة، نكبوا عن جَعْلها بين بين؛ لأنّ في جعلها بين بين ملاحظةَ الهمزة، إذ كانت همزةً في النيّة، فأخلصوها ياءً محضة؛ لأنّ همزةَ بين بين هنا ياءٌ مشوبةٌ بالهمزة. وإنّما رفضوا فيها بقايا الهمزة، فأخلصوها ياءً، فقالوا: "أَيمَّة" على ما ترى. فأمّا "جاء" فأصله: جائِىءٌ بهمزتين متحرّكتين: الأولى منقلبةٌ عن عين الفعل التي هي ياءٌ في "جاء يجيءُ" انقلبت همزةً للإعلال على حدّ قلبها في "بائعٍ"، وأقائلٍ". والثانيةُ التي هي لام الفعل، فيلزم قلبُ الثانية ياء لانكسارِ ما قبلها. ولم يجعلوها بين بين؛ لِما ذكرناه من أنّ همزة بين بين همزةٌ في النيّة. وهم قد رفضوا الجمع بين همزتين ألبتّة، فقلبوها كما قُلبت همزةُ "آدَمَ" ألفًا؛ لانفتاح ما قبلها، وصارت الياء في "جائِي" عاريةً من آثار الهمزة كياء "قاضي"، كما صارت ألفُ "آدَمَ" عارية من الهمزة كألف "خالد"، و"ضاربٍ". وكان الخليل (¬1) يقول: هو مقلوب، كأنّهم جعلوا العين في موضع اللام، وكان فَاعِلاً، فصار "فَالِعًا"، كما قالوا: "شاكِي السلاحِ", وأصله: "شائكُ السلاحِ"، و"لاثٍ" وأصله: "لائثٌ". واطّرد هذا القلبُ عنده فيما كان لامه همزةً، نحو: "جاءٍ"، و"شاءٍ" ونحوه؛ لئلّا يلتقي همزتان، ولا يطّرد عنده في "شاكٍ"، و"لاثٍ"، إذ لم يلتق في آخره همزتان. ومذهب الخليل متينٌ لِما يلزم في قول سيبويه من الجمع ببين إعلالَيْن، وهما قلبُ الياء التي هي عين همزةً، وقلبُ الهمزة التي هي لام ياءً. وأمّا "خَطَايا"، فإنّه جمعُ "خَطِيئَيةٍ" على طريقةِ "فَعائلَ"، جُمع على الزيادة جَمْعَ الرباعيّ. وأصله: "خَطائِيء" بهمزتين؛ لأنّك همزت ياء "خطيئة" في الجمع كما همزت ياء "قَبِيلَةٍ" و"سَفينَةٍ"، حين قلت: "قَبائِلُ"، و"سَفائِنُ". وموضعُ اللام من "خطيئة" مهموزٌ، فاجتمع همزتان، فقُلبت الثانية ياءً لاجتماع الهمزتين، فصارت "خطَائِيُ"، ثمّ استثقلوا الياء بعد الكسرة مع الهمزة، فأبدلوا من الكسرة فتحةً، ومن الياء ألفًا، كما فعلوا ذلك في "مَدَارى"، و"مَعَايا". وإذا كانوا قد اعتمدوا في "مدارى" و"معايا" ذلك مع عدم ¬
الهمزة، فهو مع الهمزة أوْلى بالجواز؛ لثقل الهمزة، فصار "خطاءا" بهمزة بين ألفَيْن، وتقديرُه: خطاءا، والهمزةُ قريبة من الألف، فكأنّك جمعت بين ثلاث ألفات، فقلبوا الهمزة ياء، فصار"خَطَايا". وإنّما جعلوها ياء ولم يجعلوها واوًا؛ لأنّ الياء أقربُ إلى الهمزة من الواو، فلم يريدوا إبعادها عن شَبَه الحرفين اللذين اكتنفاها. وكان الخليل يذهب في ذلك إلى أنّه من المقلوب، وأنّ الهمزة في "خطاءا" بعد الألف هي لام الفعل في الواحد، والألف بعدها هي المدّة في "خطيئة" على نحوٍ من قوله في "جاءٍ". هذا رأيُ سيبويه (¬1) في الهمزتين: إذا التقتا في كلمة واحدة، لم يخلُ عن إبدال الثانية؛ وأمّا أبو زيد، فحكى أنّ من العرب من يخفِّف الهمزتين جميعًا، فيقول."آنْتَ قلت". قال: وسمعتُ من العرب من يقول: "اللهمّ اغفرّ لي خطائِئِي" مثلَ "خَطَايَاي"، همزها أبو السمح وردّاد ابن عمّه. وهو قليل في الاستعمال شاذّ في القياس. وقوله: "وفي القراءة الكوفيّة أَئِمَّةَ"، فإنّه قرأ بذلك عاصمٌ وحمزةُ والكسائيّ من أهل الكوفة، وقرأ بذلك من أهل الشام ابنُ عامر اليَحْصبِيّ. وليس ذلك بالوجه، والحجّةُ لهم في ذلك أنّ الهمزة في حروف الحلق، وقد يجتمع حروفُ الحلق في نحو "اللُعاعَة" و"لَحِحَتْ عينُه"، فكذلك الهمزة. وذلك ضعيف؛ لأنّ حروف الحلق مستثقلةٌ، وثقلُها لاستفالها، وكلُّ ما سفل منها كان أشدَّ ثقلاً، فلذلك فارقت الهمزة أخواتِها، فجاز اجتماعُ العينَيْن والحائَيْن. ولم يجز في الهمزة؛ لأنّها أدخلُ الحروف في الحلق. والذي يدلّ على ضعفه أنّا لا نعلم أحداً حقّق في نحو: "آدَمَ"، و"آخر". وكذلك ينبغي في القياس أن يكون "أيمّة". فإن قيل: "آدَمُ"، الهمزةُ الثانيةُ فيه ساكنةٌ، والثانيةُ في "أئمّة" متحرّكةٌ، والمتحرّكُ أقوى من الساكن، قيل: المتحرّك في هذا ليس بأقوى من الساكن، بل حكمُهما في الاعتلال والقلبِ واحدٌ. ألا تراك تقول في "مِئَر": "مِيَرٌ"، وفي "ذِئْبٍ": "ذِيبٌ"؛ لكسرِ ما قبلهما, ولمَ تكن الحركة مانعةً من الاعتلال، وكذلك "جُوَنٌ" و"لُومٌ". قال. وزعموا أنّ ابن أبي إسحاق كان يحقّق الهمزتين في آناسٍ معه. قال سيبويه (¬2): وقد يتكلّم ببعضه العربُ، وهو رديءٌ. هذا نصُّ سيبويه، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وإذا التقيا في كلمتين جاز تحقيقهما وتخفيف إحداهما بأن تجعل بين بين. والخليل (¬3) يختار تخفيف الثانية كقوله تعالى: {فقد جاء ¬
أشراطها (¬1). وأهل الحجاز يخففونهما معاً, ومن العرب من يقحم بينهما ألفاً. قال ذو الرمة [من الطويل]: آأنت أمْ أمُّ سالم (¬2) وأنشد أبو زيد [من الطويل]: 1250 - حُزُقٌ إذا ما القوم أبدوا فكاهة ... تفكر آإياه يعنون أم قردا وهي في قراءة ابن عامر. ثم منهم من يحقق بعد إقحام الألف. ومنهم من يخفف. * * * قال الشارح: اعلم أنّه إذا التقت همزتان في كلمتَيْن منفصلتَيْن، فإنّ أهل التخفيف يخفّفون إحداهما، ويستثقلون تحقيقها، كما استثقل أهلُ الحجاز تحقيقَ الواحدة، إذ ليس من كلام العرب أن تلتقي همزتان فتُحقَّقا، إلّا إذا كانت عينًا مضاعفةً من نحو "رأّاسٍ"، و"سَأالٍ"، إلّا أنّهما في الكلمتَيْن أسهلُ حالاً، وأقلُّ ثقلاً، إذ ليستا بملازمتَين، وقيامُ كلّ ¬
كلمة بنفسها غيرَ ملتصقة بالأخرى، فلذلك لا تلتقي الهمزتان في كلمة، وقد تلتقيان في كلمتَيْن. فمنهم من يُخفِّف الأُولى ويُحقِّق الآخرة، وهو قولُ أبي عمرو، واستدلّ على ذلك بقوله تعالى: {فقد جا أشراطها} (¬1)، و {يَا زَكَرِيا إنَّا} (¬2). ويُشبِّهون ذلك بالتقاء الساكنين، فإنّ التغيير يقع على الأوّل منهما دون الثاني، كقولك: "ذَهَبَتِ الهِنْداتُ"، و"لم يَقُمِ القومُ". ومنهم من يُحقِّق الأولى ويُخفِّف الثانية. قال سيبويه (¬3) سمعنا ذلك من العرب، وقرأ: {فقد جاء اشراطها} (¬4)، و {يا زكريّاء انّا} (¬5) يخفف الهمزة الثانية، فيجعلها بين بين، وتحقيقُهما جائز؛ لأنّهما منفصلتان في التقدير، ولا تلزم إحداهما الأخرى. قال الشاعر [من الرمل]: 1251 - كُلُّ غَرّاءَ إذَا ما بَرَزَتْ ... تُرْهَبُ العَيْنُ عليها والحَسَدْ أنشده سيبويه بتليين الثانية، وجَعْلها بين بين؛ لأنّها مكسورة بعد فتحة. وممّا يُحتجّ ¬
في ذلك أنّه لا خلافَ في قولهم: "آدَمُ"، و"آخَرُ"، فوقع التغييرُ والبدلُ في كلمة واحدة على الثانية، فكذلك إذا كانتا في كلمتَيْن. وأمّا أهل الحجاز فيخفّفون الهمزتين معًا؛ لأنّه لو لم تكن إلّا واحدةً لخُفّفت. قال سيبويه (¬1): ومن العرب ناسٌ يُدْخلون بين ألف الاستفهام وبين الهمزة ألفًا، وذلك لأنّهم كرهوا التقاء الهمزتين، ففصلوا بينهما بألفٍ، كما قالوا: "اخْشَيْنانِّ"، ففصلوا بألف بين النونات كراهيةَ التقاء هذه الحروف المضاعفة. فأمّا قول الشاعر [من الطويل]: فَيَا ظَبْيَةَ الوَعْساءِ بين جُلاجِلٍ ... وبين النَّقا آأَنْتِ أَمْ أُمُّ سالِمِ (¬2) البيت لذي الرُّمّة، والشاهد فيه إدخال الألف بين الهمزتين من قوله: "آأَنْت"، كراهيةَ اجتماع الهمزتين، كما دخلت بين النونات في قولهم: "اضْرِبْنَانِّ"، كراهيةَ اجتماعها. والوَغْساءُ: رَمْلَةٌ ليّنةٌ، وجُلاجِلُ: موضعٌ بعينه، ويروى: "حلاحل" بالحاء غير المعجمة. والنَّقا: الكثيبُ من الرمل، وأراد المبالغة في شدّة الشَّبَه بين الظبية والمرأة حتى الْتَبَسَتا عليه، فسأل سؤالَ شاكٍّ. وأمّا البيت الآخر، وهو [من الطويل]: حزقّ إذا ما القوم ... إلخ أنشده أبو زيد في نوادره (¬3)، قال: أنشدناه الأعرابُ، وأنشده أيضًا الجوهريّ (¬4) في كتابه، والشاهد فيه قوله: "آإِيَّاهُ" بإدخال الألف بين همزة الاستفهام، وبين الهمزة التي هي فاءٌ. والحُزُقُّ: القصير الذي يُقارِب الخَطْوَ، كأنّه يهجوه بقصره. يقول: إذا تَفاكهوا، وتَمازحوا، ووصفوا القصير، تفكّر هذا الرجل: هل هو المعنىُّ أم القِرْدُ. وقد قرأ ابن عامر: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} (¬5)، وكذلك: {أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ} (¬6). ثُم بعد دخول ألف الفصل، منهم من يُحقِّق الهمزتين- وهم بنو تميم- ومنهم من يُخفِّف الثانية، وهم أهل الحجاز، وهو اختيارُ أبي عمرو. فمَن حقّق فإنّما المراد الفرارُ من التقاء الهمزتين، وقد حصل ذلك بالألف. ومن خفّف فلأنّ الثانية بين بين، وهي في نيّة الهمزة، فكرهوا أن لا يُدْخِلوا الألف بينهما؛ لأنّ همزةَ بين بين همزةٌ في النيّة، وأمّا إذا لم يُؤْتَ بألف الفصل، ولم يكن قبل همزة الاستفهام شيء، لم يكن بدٌّ من تحقيق همزة الاستفهام؛ لأنّه لا سبيلَ إلى تخفيف الأوّل؛ لأنّ فيه تقريبًا من السا كن لا يُبتدأ به. ¬
فصل [اجتماع همزتين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة]
فصل [اجتماع همزتين أولاهما ساكنة والثانية مفتوحة] قال صاحب الكتاب: وفي "اقرأ آية" ثلاثة أوجه: أن تقلب الأولى ألفاً، وأن تحذف الثانية وتلقي حركتها على الأولى، وإن تجعلا معاً بين بين وهي حجازية. * * * قال الشارح: قد اجتمع في "اقْرَأ آيَةً" همزتان: الأولى ساكنةً، والثانية مفتوحة، فمنهم من يخفّف الأولى بأن يُبْدِلها ألفًا محضةً لسكونها وانفتاحِ ما قبلها على حدّ "راسٍ"، و"فاسٍ"، ويُحقِّق الثانية، فيقول: "اقرَا آيَةً". ومنهم من يُخَفِّف الثانية بأن يُلقِي حركتها على الساكن قبلها، ويحذفها على حد "مَنَ بُوكَ"، و"كَمِ بِلُكَ"، فيقول: "اقْرَ آيَةً". وكان أبو زيد يجيز ادّغام الهمزة في الهمزة، فيقول: "اقْرَ أَيَةً" ويجعلها كسائر الحروف. وأمّا قول صاحب الكتاب أن تجعلا معًا بين بين، فليس بصحيح، وهو وَهْمٌ؛ لأنّ الأولى ساكنةٌ، والهمزةُ الساكنةُ لا تُجعل بين بين؛ لأنّ معنى جَعْلها بين بين أي بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتُها. وإذا لم تكن متحرّكة، فلا يصحّ فيها ذلك، مع أنّ الغرض من جَعْلها بين بين تخفيفُها بتقريبها من الساكن. وإذا كانت ساكنة، فقد بلغت الغايةَ في الخفّة، إذ ليس وراءه خفّةٌ. فأمّا لو قلت: "قَرَأَ آيَةً" بتحريكها، جاز أن تُجْعَلا بين بين معًا، وذلك على لغة أهل الحجاز وعلى لغة غيرهم؛ لأنّهما مفتوحتان بخلافِ "اقْرَأْ آيَةً"، فاعرفه.
التقاء الساكنين
ومن أصناف المشترك التقاء الساكنين فصل قال صاحب الكتاب: تشترك فيه الأضرب الثلاثة, ومتى التقيا في الدرج على غير حدهما وحدهما أن يكون الأول حرف لين، والثاني مدغماً، في نحو دابة، وخويصة، وتمود الثوب، وقوله تعالى: {قل أتحاجونا} (¬1) , لم يخل أولهما من أن يكون مدة أو غير مدة. فإن كان مدة حذف كقولك: "لم يقل"، و"لم يبع"، و"لم يخف" و"يخشى القوم"، و"يغزو الجيش"، و"يرمي الغرض"، و"لم يضربا اليوم"، و"لم يضربوا الآن"، و"لم تضربي ابنك"، إلا ما شذ من قولهم: "آلحسن عندك؟ "، و"آيمن الله يمينك؟ "، وما حكي من قولهم: "حلقتا البطان". * * * قال الشارح: التقاء الساكنين ممّا يشترك فيه الأضرب الثلاثة: الاسم، والفعل، والحرف. فالاسمُ نحو قولك "مِنَ الرَّجُل"، "مُذُ اليَوْمُ"، فيمن رفع، و"زيدٌ الظَّرِيفُ"، والفعلُ نحو: {خُذِ الْعَفْوَ} (¬2)، و"ارْدُدِ الجَيشَ"، والحرفُ نحو قولك: "هَلِ الرَّجُلُ في الدار"، و"قَدِ انْطَلَقَ خالدٌ"، ونظائرُه كثيرة، فلذلك ذكره في المشترك. واعلم أنّ التقاء الساكنين لا يجوز، بل هو غيرُ ممكن، وذلك من قبل أنّ الحرف الساكن كالموقوف عليه، وما بعده كالمبدوء به، ومحالٌ الابتداء بساكن، فلذلك امتنع التقاؤهما. وقوله: "في الدرج" تحرّزٌ من حال الوقف, لأنه في الوقف يجوز الجمع بين ساكنين، فيكون الوقفُ كالسادّ مسدَّ الحركة كقولك: "قام زَيْدْ"، و"هذا بَكْرْ" وإنّما سدّ الوقفُ مَسدَّ الحركة؛ لأن الوقف على الحرف يُمكِّن جَرْسَ ذلك الحرف ويُوَفِّرِ الصوت ¬
عليه، فيصير توفير الصوت بمنزلة الحركة له. ألا ترى أنّك إذا قلت: "عَمْرْو" ووقفتَ عليه، وجدتَ للراء من التكرّر وتوفير الصوت ما ليس لها إذا وصلتها بغيره؟ وذلك أنّ تحريك الحرف يُقَلْقِله قبل التمام، ويجتذبه إلى جرس الحرف الذي منه حركتُه. ويؤيّد عندك ذلك أنّ حروف القَلْقلة، وهي القاف والجيم والطاء والباء والدال، لا يستطيع الوقوفُ عليها إلّا بصوت، وذلك لشدّة الحَفْل والضَّغْطِ، وذلك نحو: "الْحَقْ" و"اذهَبْ"، و"اخلِط"، و"اخْرُجْ"، ونحو الزاي والذال والظاء والصاد. فبعضُ العرب أشدُّ تصويتًا. فجميعُ هذه لا يستطيع الوقوفُ عليها إلّا بصوت، فمتى أدرجتَها وحرّكتَها، زال ذلك الصوت, لأنّ أَخْذك في صوت آخرَ وحرفٍ سوى المذكور يشغلك عن إتباعٍ الحرفَ الأوّل صوتًا، فبانَ لك بما ذكرتُه أنّ الحرف الموقوف عليه أتمُّ صوتًا، وأقوى جرسًا من المتحرّك، فسدَّ ذلك مسدّ الحركة، فجاز اجتماعُه مع ساكن قبله. وقوله: "على غير حدّهما"، يريد أن يُوجَد شرطاهما. والشرطان المرعيّان في اجتماع ساكنين أن يكون الساكن الأوّل حرفَ مدّ ولين، والثاني مدّعْمًا كـ"دابّةٍ"، و"شابَّةٍ"، و"خُوَيْصَّةٍ" تصغيرِ "خاصّةٍ". قلبتَ الألف واوًا، وجئت بياء التصغير ساكنةً، وبعدها الصادُ مضاعفةً، و"تُمُودَّ الثَّوْبُ"، وهو بناءٌ لما لم يُسمّ فاعله من "تَمادَّ الزيدان الثوبَ". وذلك أنّ "فَاعَلَ" يكون من اثنين يفعل كلُّ واحد منهما بصاحبه مثلَ ما يفعل به الآخرُ، إلّا إنّك تُسْنِد الفعل إلى أحدهما كما أنّه له دون الآخر، وتنصب الآخرَ على أنّه مفعولٌ، وتُعرِّيه في اللفظ من الفاعليّة، وإن لم يَعْرَ من جهة المعنى، وذلك نحو: "ضاربتُ زيدًا"، و"قاتلتُ بكرًا". فإذا أدخلتَ تاء المطاوعة، أسندتَ الفعل إليهما على حكم الأصل، وصار الفعل من قبيل الأفعال اللازمة، نحو: "تضارب الزيدان"، و"تقاتل البكران". وهذا النوعُ هو الأكثرُ في الاستعمال، ويجوز أن يكون متعدّيًا إلى مفعول ثان غيرِ الذي يفعل بك مثلَ فَعْلك، نحو: "عاطيتُ بكرًا الكأسَ"، أي: أعطانى كأسًا وأعطيتُه مثلَها، و"فاوَضْتُه الحديثَ"، فيتعدّى إلى المفعولَيْن كما ترى. فإذا أدخلتَ تاء المطاوعة، أسندت الفعل إلى الفاعل والمفعول الأوّل, لأن الفعل لهما في الحقيقة، ويقي المفعول الثاني منصوبًا على حاله، لا حَظَّ له في الفاعليّة، نحو قولك: "تَعاطَينا الكأسَ"، و"تَفاوضنا الحديثَ". قال الشاعر [من الطويل]: 1252 - ولمّا تَفاوَضْنَا الحَدِيثَ وأَسْفَرَتْ ... وُجُوهٌ زَهاها الحُسْنُ أن تَتَقَنَّعا ¬
وإذا عُرفت هذه القاعدة، وتَمهّد الأصلُ، كان قولهم: "تمُودَّ الثوبُ" من "ماددتُ زيدًا الثوبَ"، أي: كلٌّ منهما مَدَّه، ثمّ دخلت تاء المطاوعة، فأُسند الفعل إليهما، وبقي "الثوبُ" منصوبًا على ما تقدّم، وصار الفعل من قبيل الأفعال المتعدّية إلى مفعول واحد. فلمّا بُني لِما لم يسمّ فاعلُه، أسند الفعل إلى الثوب، فقيل: "تُمُودَّ الثوبُ"، كما تقول: "ضُرب زيدٌ"، و"شُتم خالدٌ". وإنّما ساغ الجمعُ بين ساكنَيْن عند وجود الشرطَيْن، وذلك من قبل أنّ المدّ الذي في حروف المدّ يقوم مقام الحركة، والساكنُ إذا كان مدّغمًا يجري مجرى المتحرّك؛ لأنّ اللسان يرتفع بهما دفعةً واحدةً، فلذلك لا يجوز اجتماعُ الساكنين، إلّا إذا كانا على الشرط المذكور. فإن لم يكونا على الشرط المذكور، فلا بدّ من تحريك أحدهما، أو حَذْفِه، فإن كان الساكن الأوّل حرفَ مدّ ولين - وهو أن يكون ألفًا أو ياءً ساكنةً قبلها كسرةٌ أو واوًا ساكنةً قبلها ضمّةٌ - فإنّه، إذا لقيها ساكنٌ بعدها، حذفتَها. فأمّا حذفُ الألف، فقولُك: "لم يَخَفْ"، و"لم يَهَبْ"، والأصلُ: "يَخَافُ"، و"يَهَابُ". فلمّا دخل الجازمُ، أُسْكِن اللام التي هي الفاء والباء، فاجتمعت مع الألف قبلها، فحُذفت لالتقاء الساكنين، إذ لا سبيل إلى تحريكها؛ لأنّ تحريكها يؤدّي إلى ردّها إلى أصلها الذي هو الواو والياء، وردُّها إلى أصلها يؤدّي إلى ثقل استعمالها. ومن ذلك قولك: "هذه حُبْلَى الرجلِ"، و"مِعْزَى القوم". تحذف الألف لسكونها وسكون لام التعريف. وكان ذلك أولى من أن يقلبوها، فيصيروا إلى ما هو أثقلُ منها، وهو إمّا الواو أو الياء، فحذفوا حين أمنوا الإلباسَ. ومن ذلك قولهم: "رَمَتْ"، سقطت الألفُ لسكونها وسكون تاء التأنيث بعدها، كما حذفوها في "حبلى الرجل". ¬
وقالوا: "رَمَيا"، و"غَزَوَا" فقلبوا, ولم يحذفوا؛ لئلّا يلتبس الاثنان بالواحد، فكأنّ احتمال ثِقَلِ ردّهما إلى الأصل أسهلُ من اللبس. وكذلك قالوا: "حُبْلَيانِ"، و"ذِفْرَيانِ"، فقلبوا لالتقاء الساكنين إذ لو حذفوا، فقالوا: "حُبْلانِ"، و"ذِفْرانِ" لالتبس بما ليس للتأنيث. وربّما التبس الاثنان بالواحد في حال الإضافة، لأنّك تحذف النون للإضافة، فتقول: "حُبْلا زيدٍ"، و"ذِفْرا البعير". وأمّا حذف الياء، فنحو قولك: "لم يَبعْ"، و"لم يَصِرْ"، والأصلُ. "يَبِيعُ"، و"يَصِيرُ"، فحذفوا الياء لسكون اللام للجزم. وكذلك تحذفها في الوقف، نحو قولك: "بعْ"، و"صِرْ". وقالوا في المنفصل: "هو يَرْمِى الرجلَ ويقضي الدَّيْنَ" , بحذف الياء أيضًا لسكونها وسكون لام المعرمة بعدها. ولم يحرّكوها، إذ تحريكُها لا يخلو إمّا أن يكون بالكسر، أو بالضمّ، أو بالفتح، فلا يجوز فيها الكسرُ، وهو أصل حركةِ التقاء الساكنين؛ لأنّ الكسرة تُستثقل على الياء المكسور ما قبلها، كما كرهوا ذلك في "مررت بقاضِيِك"، وكذلك الضمُّ لا يسوغ فيها؛ لأنّها قد صارت بمنزلةِ "هذا قاضِيُك". ولا يجوز الفتحُ؛ لأنّه يلتبس بالنصب. فلمّا امتنعت الحركةُ فيها، وجب الحذفُ. فأمّا حذفُ الواو المضموم ما قبلها، فنحوُ: "لم يَقُمْ"، و"لم يَقُلْ"، والأصل: "يَقُومُ"، و"يَقُولُ"، فلمّا سكنت أواخرُهما للجزم، التقى في آخِرهما ساكنان: الميم والواو قبلها في "يَقُومْ"، واللام والواو في "يَقُولْ"، فحُذفت الواو لالتقاء الساكنين على ما ذُكر في الياء. وتقول في المنفصل: "يَغْزُو الجَيْشُ"، و"يَدْعُو اللهَ"،، فحذفت الواو للساكنَيْن، ولم يحرّكوها: استثقلوا الكسرة فيها، كما استثقلوها في الياء المكسور ما قبلها. وكذلك الضمّة، فلم يقولوا: "يَغزُوُ الجَيْشُ"، و"لا يَغْزُوِ" بالكسر، كما لم يقولوا: "يَرْمِيُ الغَرَضَ"، ولا "يَرْمِيِ" بل هو ها هنا أوْلى؛ لأن الواو أثقلُ من الياء. وكذلك "لم يضربَا القوم"، و"لم يضربوا الآنَ"، و"لم تضربي ابْنَك"، حُذفت النون للجزم، ثم دخل الساكنُ بعدها من كلمة أخرى، فحُذفت الألف والواو والياء لالتقاء الساكنين، وتعذُّرِ التحرّك للثقل، ولم يقع لبسٌ مع الحذف. وقوله: "إلّا ما شذّ من قولهم: "آلحَسَنُ عندك؟ "، و"آيْمُنُ الله يَمِينُك" , و"حَلْقَتَا البِطانِ""، يريد أنّه قد التقى ساكنان فيها لا على الحدّ المذكور، فهو شاذّ في القياس. والذي سوّغ ذلك أنّهم لو حذفوا، وقالوا: "ألحسن عندك"، و"أَيْمُنُ الله"، لالتبس الاستخبارُ بالخبر. ووجهُ ذلك أنّهم استغنوا بأحد الشرطين، وهو المدّ الذي في الألف. وأمّا "حلقتا البطان"، فالقياس حذفُ الألف لالتقاء الساكنين، كما حذفوها في قولك: "غُلاما الرجل"، وكأنّ الذي سوّغ ذلك إرادة تفظيع الحادثة بتحقيق التثنية في اللفظ. والبِطانُ للقَتَب، وهو الحِزام الذي جُعل تحت بطن البعير، وفيه حَلْقتان، فإذا
التقتا دلّ على نهاية الهُزال، وهو مَثَل (¬1) يُضْرَب في الأمر إذا بلغ النهايةَ، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وإن كان غير مدة فتحريكه في نحو قولك لم أبله، واذهب اذهب، ومن ابنك، ومذ اليوم، و {آلميم الله} (¬2)، و {لا تنسوا الفضل} (¬3)، و"اخشو الله"، واخشى القوم، ومصطفى الله، و {لو استطعنا} (¬4)، ومنه قولك الاسم والابن والانطلاق والاستغفار؛ أو تحريك أخيه في نحو قولك انطلق ولم يلده ويتقه ورد، ولم يرد، في لغة بني تميم. قال [من الطويل]: وذي ولد لم يلده أبوان (¬5) * * * قال الشارح: فإن كان الساكن الأوّل غيرَ مدّة، فإنّك لا تحذفه، بل تُحرِّك الثاني. فمنه ما يحرَّك بالكسر لا غير، ومنه ما يجوز تحريكُه بغير الكسر، فممّا لا يُحرَّك إلّا بالكسر قولهم: "لم أبَلِة"، فأصله: " أُبالِي"، فحُذفت الياء للجزم، فبقي "أُبالِ" بكسر اللام، ثمّ لمّا كثُر في الكلام، لم يعتدّوا بذلك المحذوف الذي هو الياء، فحُذفت الحركةُ أيضًا للجزم. ومثله [من الرجز]: 1253 - قالت سُلَيْمَى اشْتَرْ لنا دَقِيقًا ... [وهاتِ خُبْزَ البُرِّ أو سَويقا] ¬
فصار "لم أُبَال" بسكون اللام، فالتقى ساكنان: الألف، واللام، فحُذفت الألف لالتقاء الساكنين، فبقي "لم أُبَلْ"، ثمّ أدخلوا هاء السكت لتوهُّم الكسرة في اللام، فالتقى ساكنان، وهما الهاء واللام، فكُسرت اللام لالتقاء الساكنين، فصار: "لم أُبَلِهْ". ولم يردّوا الألف المحذوفة؛ لأنّ الحركة عارضةٌ كالتي في "لم يَقُمِ الرجل". وقالوا: "اذْهَب اذْهَبْ"، فكسروا الباء لسكونها وسكون الذال بعدها, لأنّ همزة الوصل تسقط في الَوصل. ومثلُه "اضْرِبِ الرجلَ"، و"اضْرِبِ ابْنَكَ"، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدُنِ اللَّهُ} (¬1). وقالوا: "مِنِ ابْنكَ" فكسروا لالتقاء الساكنين. وقالوا: "مِنَ الله"، و"مِنَ الرَّسُول" ففتحوا. وذلك أنّه كثُر هذا الحرفُ وما فيه الألفُ واللامُ، فكرهوا كسر النون، فتتوالى كسرتُهِا مع كسرة الميم فيما يكثر استعماله، فعدلوا إلى الفتح طلبًا للخفّة، كما فحلوا ذلك في "أيْنَ"، و"كَيْفَ". والذي يدلّ على صحّةِ ما قلنا في أنّ الفتح إنّما كان لمجموع ثقلِ توالي الكسرتين مع كثرة الاستعمال أنّهم قالوا: "انصرفت عَنِ الرَّجُل"، فكسروا النون، إذا لم يكن قبلها مكسورٌ، وقالوا: "إنِ اللَّهُ أمكنني فعلتُ"، فكسروا نونَ "إنْ"، وإن كانت على صورةِ "مِنْ" في انكسار الأوّل، ولم يبالوا الثقل لقّلةِ ذلك في الاستعمال. ومن العرب من يقول: "مِنِ الله" فيكسر، ويُجْريه على القياس، ومنهم من يقول: "مِنَ ابْنِك" فيفتح النون على حدِّ "مِنَ الله" و"مِنَ المؤمنين". قال سيبويه (¬2): وقد فتح قومٌ من الفصحاء، فقالوا: "مِنَ ابنك". والكسرُ عند سيبويه أكثرُ (¬3) , لأنّ ألف الوصل في غير لام التعريف لم يكثر، فإذًا الفتح في "مِنَ الرجل" شاذّ في القياس دون الاستعمال، وهو في "مِنَ ابْنك"، و"مِنَ امْرءٍ"، شاذّ في الاستعمال والقياس جميعًا. وقالوا: "مُذُ اليَوْمُ"، و"مُدْ" تكون اسمًا، وتكون حرفًا، وقد تقدّم الكلام عليها. وهي مبنيّةٌ على السكون على أصلِ ما يقتضيه البناء، فلمّا لَقِيَه ساكنٌ بعده، وجب تحريكه لالتقاء الساكنين، فكُسر على أصل التقاء الساكنين، ومنهم من يضمّ. وفيه وجهان: ¬
أحدهما أنّه إتباعٌ لضمّة الميم، وإذا كانوا قد قالوا: "مُنْذُ" فأتبعوا مع وجود الحاجز، فلأن يتبعوا مع عدمه كان أولى. والوجه الثاني أنّ "مُذْ" منتقصٌ من "مُنْذ"، كما كانت "رُب" منتقصة من "رُبَّ". وقد كانت الذال في "مُنْذُ" مضمومة، فلمّا اضطُرّ إلى تحريك الذال في "مُذْ"، حركها بالحركة التي كانت لها في الأصل، وهي الضمّة. وأمّا قوله تعالى: {أَلِفْ لاَمْ مِيمَ اللَّهُ} (¬1)، فحُرّك بالفتح. شذّ هذا الحرفُ عن القياس، كما شذّ قولهم "مِنَ الرجلين"، و"مِنَ المؤمنين". وكان الأخفش يجيز فيه الكسر على ما يقتضيه القياس، ولم يرَه سيبويه (¬2). ووجهُ الفتح فيه التقاء الساكنين: الميم واللامِ الأولى "من الله". ولم يكسروا؛ لأنّ قبل الميم ياءً، وقبل الياء كسرةً، فكرهوا الكسر فيها، كما كرهوا الكسر في "أَيْنَ"، و"كَيفَ"، والثقلُ في الميم أبلغُ لانكسارِ ما قبل الياء. وأمّا الواو والياء إذا كان ما قبلهما مفتوحًا، فإنّك لا تحذفهما للساكن بعدهما، بل تُحرّكهما. وذلك نحو قوله تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (¬3) و"اخشوا الله" و"اخشى القوم". وإنّما لم يحذفوهما، وإن كانا حرفَيْ علّة؛ لأنّهم لو أسقطوهما لاجتماع الساكنين، لأوقع حذفُهما لَبْسًا، لأنّك إذا قلت: "اخشَوْا زيدًا"، ثمّ قلت: "اخشوا القوم"، فلو أسقطتَ الواو للساكن بعدها, لبَقيت الشينُ مفتوحةً وحدها، فكان يلتبس خطابُ الجمع بالواحد، وكذلك تقول للواحدة المؤنّثة: "اخْشَيْ زيدًا"، ثمّ تقول "اخشي القومَ". فلو أخذتَ تحذف الياء للساكن بعدها، التبس خطابُ المؤنّث بالمذكّر. وليس الأمرُ في الواو المضموم ما قبلها والياء إذ انكسر ما قبلها كذلك، فإنّه لا يقع بحذفهما لبسٌ، مع أنّ الثقل الكائن بالحركة في الواو المضموم ما قبلها، والياء المكسور ما قبلها أبلغ، فانضاف إلى اللبس الخفّةُ، فلذلك حُرّكت، ولم تُحذف. فأمّا الواو المفتوح ما قبلها، فإنّها إذا كانت اسمًا, ولَقِيَها ساكنٌ بعدها فإنّها تُحرّك بالضمّ، نحوَ. {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}، و"اخشَوُا الله" و"رَمَوُا ابْنَكَ". وما كان من ذلك حرفًا من نفس الكلمة، فإنّه يُحرَّك بالكسر، نحو: {لَوِ اسْتَطَعْنَا} (¬4)، {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى} (¬5). وذلك للفرق بينهما. هذا نصُّ الخليل. وقال غيره: إنّما اختاروا الضمّ فيما كان اسمًا, لأنّه قد سقط من قبل الواو حرفٌ مضمومٌ كان الأصل في {وَلَا تَنْسَوُا} (¬6)؛ و"لا تنسَيُوا"، وفي "اخْشَوْا": "اخشَيُوا"، وفي "رَمَوْا": "رَمَيُوا". وإنما لمّا تحرّكت الياء، وانفتح ما قبلها، قُلِبَتْ ألفًا، ثم حُذفت الألف لسكونها وسكون واو الجمع بعدها. فلمّا احتيج إلى تحريك الواو، حرّكوها بالحركة المحذوفة، وكانت أَوْلى من اجتلابِ حركة ¬
غريبة. فأمّا إذا كانت من نفس الكلمة، حرّكوها بالكسر على أصل التقاء الساكنين، إذ لم يكن ثم حركةٌ محذوفةٌ تُحرَّك بها. وقد كسر قومٌ الواو إذا كانت اسمًا، فقالوا: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} (¬1) حملاً على الحرف الأصليّ، وضمّ قومٌ الحرفَ، فقالوا {وأن لَوُ استقاموا} (¬2) تشبيهًا لها بالاسم، وذلك قليل. وكذلك الياء المفتوحُ ما قبلها إذا كانت اسمًا كُسرت، كأنّهم جعلوا حركتَها منها، كما جعلوا حركةَ الواو منها. وعلى القول الآخر حرّكوها بحركة الحرف المحذوف قبلها، إذ الأصلُ في "اخْشَيْ": "اخْشَيِي"، كما قلناه في الواو. فأمّا الواو في "مُصْطَفَوْنَ"، فمُشبَّهة بالواو في "اخْشَوْا"، و"رَمَوْا"؛ لأنّها زائدة مثلُها تفيد الجمعَ كما كانت في "اخشوا"، و"رموا" كذلك، فثبتت، ولم تُحذف؛ لئلّا يلتبس الجمعُ بالواحد، ألا تراك لو أخذت تحذف الواو لالتقاء الساكنين، لالتبس بالواحد في "مُصْطَفَى اللهِ"؟ وحُرّك بالضمّ كما حرّك في "رَمَوُا القومَ". وكذلك الياء تُكسر لالتقاء الساكنين، فتقول: "مصطفَيِ الله" حملاً على "اخشَىِ الله"، فاعرفه. قال: "ومن ذلك الابْن، والاسْم، والانْطِلاق، والاسْتغفار"، يريد وممّا حُرّك الأوّل فيه للساكن بعده بالكسر، وذلك أنّ الأوّل من "ابن"، و"اسم" ساكنٌ، ودخلت همزةُ الوصل توصّلاً إلى النطق بالساكن. فلمّا دخلت عليه لامُ التعريف، استُغني عن همزة الوصل، فحذفوها، فالتقى ساكنان: اللام التي للتعريف وفاء الكلمة، فحُرّكت اللام بالكسر. وكذلك "الانطلاق"، و"الاستغفار". وقوله: "أو تحريك أخيه"، يريد الساكن الثاني، فإنّ الغرض الانفصالُ من التقاء الساكنين. وكما يحسن ذلك بتحريك الأوّل، كذلك يحسن بتحريك الثاني، والأوّلُ هو الأصل، ومقتضَى القياس، فلا يُعْدَل عنه إلّا لعلّةٍ. وإنّما قلنا: إِنّ الأصل تحريك الأوّل من قِبَل أن سكون الأوّل منع من الوصول إلى الثاني، فكان تحريكه من قبيل إزالة المانع، إذ بتحريكه يُتوصّل إلى النطق بالثاني، وصار بمنزلة ألفات الوصل التي تدخل متحرّكةً توصُّلاً إلى النطق بالساكن بعدها. فأمّا قولهم: "أَيْنَ" و"كَيْفَ"، فمعدولٌ بهما عن القياس بتحريك الساكن الثاني دون الأوّل لمانع، وذلك أنّا لو حرّكنا الأوّل، وهو الياء في "أين" و"كيف"، لانقلبت ألفًا؛ لْتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلها على حكم التصريف، إذ الحركة تقع لازمةً. ولو قُلبت ألفًا لزم تحريك النون لسكونها، وسكون الألف قبلها. فلمّا كان يؤدّي تحريكُ الأوّل إلى تغيير بعد تغيير، حرّكوا الثاني من أوّل الأمر، واستغنوا بذلك عن تحريك الأوّل. ¬
فصل [الأصل فيما حرك من الساكنين الملتقيين]
وكذلك "مُنذُ" حرّكوا الثاني منهما؛ لأنّهم لو حرّكوا الأول لذهب وزنُ الكلمة، فلا يُعْلَم هل هو ساكنُ الوسط، أو متحرّك؟ لأنّ اجتماع الساكنين في كلمة واحدة يقع لازمًا. ومن ذلك "رجلانِ" و"غلامانِ"، و"مسلمونَ"، و"صالحون"، حرّكوا فيها الساكن الثاني دون الأول، إذ كان تحريك الأوّل منهما ممتنعًا. وكذلك عدلوا عن تحريك الأوّل فيما ذكره من قولهم في الأمر: "انْطَلْقَ يا زيدُ" والأصلُ: انْطَلِقْ، فشبّهوا "طَلِقْ" منه "بكَتِفٍ"، فأسكنوا اللام على حدّ إسكان "كَتْفٍ"، فالتقى ساكنان، ففتحوا القاف، وأتبعوها حركةَ أقربِ المتحرّكات إليها، وهو فتحةُ الطاء، ولم يُحرِّكوا اللام, لأنّه يكون نقضًا لغرضهم فيما اعتزموه من التخفيف، وكذلك قول الشاعر [من الطويل]: أَلَا رُبَّ مَوْلُودٍ وليس له أَبٌ ... وذي وَلَدٍ لم يَلْدَهُ أَبَوانِ (¬1) والأصل: "يَلِدْهُ" بكسر اللام، فشبّهوه أيضًا بـ "كَتِف"، فأسكنوا اللام، ثمّ فتحوا الدال على ما تقدّم. ومن ذلك قوله تعالى في قراءة حَفْص. {ويخش الله ويَتَّقْه} (¬2) بإسكان القاف، وكسر الهاء. وذلك أنّ الأصل: "يَتَّقِي"، فجزم بحذف الياء، ثمّ أدخلوا هاء السكت، فصار "يَتَّقهْ" بكسر القاف، وسكون الهاء، فشُبّه "تَقِهْ" منه بـ"كتف" على ما ذكرنا، فأُسكنت القافُ، فالتقى ساكنان: القاف والهاء، فكُسرت الهاء. ومن ذلك "رُدَّ" في الوقف، و"لم يَرُدَّ" في الجزم، فإنّ بني تميم وغيرهم من العرب ما خلا أهل الحجاز يدّغمون هذا النوع, لأنّهم شبّهوه بالمعرب المرفوع والمنصوب، نحو: "هو يَرُدُّ"، و"لن يَرُدّ"، وكلُّ العرب تدّغم هذا المعرب. ووجهُ الشبه بينهما أنّهم رأوا آخِرَ "اردُدْ"، ونحوه تتعاقب عليه الحركاتُ للبناء، كما تتعاقب حركاتُ الإعراب على آخِر المعرب. فلمّا رأوه مثلَه في التحريك، ادّغموه. وذلك قولهم: "ازدُدِ القومَ"، و"ارْدُدِ ابْنَك"، و"ردَّنَّ زيدًا"، و"رُدُّنْ يا رجال". وحيث ادُّغم، وجب تحريكُ الآخِر لالتقاء الساكنين، ولم يحرّكوا الأولِ، لِما أرادوه من التخفيف بالادّغام، فلو حرّكوا الأوّل لبطل الادّغامُ، وانتقض الغرضُ من الادّغام. فصل [الأصل فيما حُرِّك من الساكنين الملتقيين] قال صاحب الكتاب: والأصل فيما حرك منهما أن يحرِّك بالكسر، والذي حُرّك بغيره فلأمر، نحو ضَمِّهم في نحو: و {وَقَالَتِ اخْرُجْ} (¬3) , و {عذابن ¬
اركض} (¬1) و {عيونن ادخلوها} (¬2) للإتباع, وفي نحو "اخشوا القوم" للفضل بين واو الضمير وواو لو. وقد كسرها قوم كما ضم قوم واو "لو" في {لو استطعنا} (¬3) تشبيهاً بها. وقريء {مريبن الذي} (¬4) بفتح النون هرباً من توالي الكسرات. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الأصل في كلّ ساكنَيْن التقيا أن يُحرَّك الأول منهما بالكسر، نحو: "بغَتِ الأمةُ"، و"قامتِ الجارية". ولا يُعْدَل عن هذا الأصل إلّا لعلّةٍ. وإنّما وجب في التقاء الساكنين التحريكُ بالكسر لأمرَيْن: أحدهما: أنّ الكسرة لا تكون إعرابًا إلّا ومعها التنوين، أو ما يقوم مقامه من ألفٍ ولامٍ أو إضافةٍ، وقد تكون الضمّة والفتحة إعرابين، ولا تنوينَ يصحبهما، فإذا اضطُررنا إلى تحريك الساكن، حرّكناه بحركةٍ لا يُتوهّم أنّها إعرابٌ، وهي الكسرة. والأمر الثاني: أنّا رأينا الجزم مختصًّا بالأفعال، فصار الجزمُ نظيرَ الجرّ من حيث كان كلُّ واحد منهما مختصًّا بصاحبه، فإذا اضطُررنا إلى تحريك الساكن حرّكناه بحركة نظيره، وهي الكسرُ. وأيضًا فإنّا لو حرّكنا الأفعالَ المجزومةَ، أو الساكنةَ عند ساكنٍ يلقاها بالضمّ أو الفتح، لتُوهّم فيه أنّه غيرُ مجزوم؛ لأن الرفع والنصب من حركات إعراب الأفعال. ولا يُتوهم ذلك إذا حُرّك بالكسر, لأنّ الجرّ ليس من إعراب الأفعال. هذا هو القياس، وربّما عدلوا عنه لأمرٍ، فمن ذلك ضمُّهم في نحو: {قالتُ اخرج} (¬5)، و {عذابِنُ ارْكضْ} (¬6) و {عيونِنُ ادْخلوها} (¬7)، و {قُلُ انْظُرُوا} (¬8) كل ذلك للإتباع. ¬
[تحريك المشدد الآخر عند التقاء الساكنين]
وذلك أنّه أتبع ضمّة التاء في "قَالَتْ" ضمّةَ الراء في "اخْرُجْ"، إذ ليس بينهما حاجزٌ إلّا حرفٌ ساكنٌ. وكذلك {عذابنُ اركض} أتبع التنوين حركةَ الكاف، إذ ليس بينهما إلّا الراء الساكنة. وكذلك {أَوُ انْقُصْ} (¬1) إلّا أنّ الضمّ هنا من وجهَيْن أحدهما من حيث جاز و {عذابنُ اركض}، والآخرُ التشبيهُ بواو الضمير على حدِّ: {لَوُ اسْتطعنا} (¬2). ألا ترى أنّ الضمّ قد جاز في {لو استطعنا} وإن كانت التاء بعد السين مفتوحة. ويجوز في هذا كلّه الكسرُ على الأصل، وقد قُرىء به في نحو: {قالتِ اخرج}، {وعيوننِ ادخلوها} {وعذابنِ اركض}. وكان أبو العبّاس لا يستحسن الضمّ في هذا؛ لأنّ فيه خروجًا من كسر إلى ضمّ، وذلك مستثقلٌ في لغتهم، معدومٌ في كلامهم. وليس كذلك {قُلُ انْظروا}، و {أَوُ انُقصْ} (¬3). فأمّا "اخشُوا القوم" فالضمُّ فيها للفصل بينها وبين الواو في "لَوْ"، و"أَوْ"، ونحوهما ممّا هو حرف، على ما تقدّم في هذا الفصل. وأمّا قوله تعالى: {مُرِيبِنَ الَّذِي جَعَلَ} (¬4)، فقراءةُ الجماعة بكسر التنوين لالتقاء الساكنين، وقد قرئ {مريبن الذي} بفتح النون كأنّه كره توالي كسرتَيْن، ففتح على حدِّ {مِنَ المؤمنين} (¬5)، ومِنَ الرّسول، فاعرفه. [تحريك المشدَّد الآخر عند التقاء الساكنين] قال صاحب الكتاب: وقد حركوا في نحو "رُدَّ", و"لم يردَّ يردِّ يردُّ" بالحركات الثلاث، ولزموا الضم عند ضمير الغائب، والفتح عند ضمير الغائبة, فقالوا رده وردها، وسمع الأخفش ناساً من بني عقيل يقولون "مُدّهِ", و"عَضِّهِ" بالكسر. ولزموا فيه الكسر عند ساكن يعقبه, فقالوا: "رُدِّ القوم" ومنهم من فتح, وهم بنو أسد. فقال [من الوافر]: 1254 - فغُضَّ الطَّرف إنك من نمير ... [فلا كعبا بلغت ولا كلابا] ¬
وقال [من الكامل]: ذُمَّ المنازل بعد منزلة اللوى (¬1) وليس في "هَلُمَّ" إلا الفتح. * * * قال الشارح: أمّا "رُدَّ" و"لم يَرُدّ"، فقد اجتمع فيه ساكنان، الحرفُ الأوّلُ المدّغَمُ ساكنٌ، والثاني المدّغَمُ فيه أيضًا ساكنٌ للجزم في "لم يَرُدّ" أو للوقف في "رُدّ"، فلمّا التقى في آخِره ساكنان، وجب تحريك الثاني لالتقاء الساكنين، فمنهم من يُتْبع حركة المدّغَم فيه ما قبله، في قوله: "رُدُّ" بالضمّ، وكذلك تقول: "فِرِّ" بالكسر, تُتْبع الكسر الكسر، وتقول: "عَضَّ" فتُتْبع الفتح الفتح. ومنه قوله تعالى. {لَا تُضَآرَّ} (¬2) بالفتح، أتبعوا الفتح الفتح الذي قبله وصوتَ الألف, لأنّه مجزوم بالنهي. وقُرىء: {لَا تُضَارِّ} بالكسر (¬3) على أصل التقاء الساكنين. وأمّا أهل الحجاز فيقولون في النهي. "ولا تُضارر". فأمّا على مُخرَج الخبر ومعنى النهى، فتستوي فيه اللغتان في الادّغام؛ نحو" لا تُضارُّ" بالرفع. فإذا اتّصل بجميع ذلك هاء ضمير المؤنّث، فتحوا جميعًا، فقالوا: "رُدَّهَا". وكذلك ضميرُ المذكّر إذا اتّصل بشيء منه، ضمّوا فقالوا: "ردُّهُو"؛ لأنّ الهاء خفيّةٌ, ولم يعتدّ بوجودها، فكأنّ الدال قد ولي الألفَ والواوَ، نحو: "رُدَّا"، و"رُدُّوا". فكما أنّ الألف لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحًا، والواوُ الساكنة التي هي مدّةٌ لم يجز فيما قبلها إلّا الضمُّ، ¬
فصل [لغة في التخلص من التقاء الساكنين]
كذلك مع الهاء لِما ذكرناه من خفائها. قال أبو عليّ: وهذا يدلّ على أنّ قول من قال:"عليهِ مالٌ"؛ أوجهُ من قوله من قال: "عليهِي مالٌ" لأنّ الهاء خفيّةٌ كالساقط، فكأنّك جمعتَ بين ساكنين، وهما الياءان. فأمّا إذا لقيه ساكنٌ بعده، نحو: "رُدّ الرجلَ"، و"فلِّ الجَيْشَ"، فالكسرُ دون الوجهَين الآخرَين؛ لأنّه لمّا كان الكسر جائزًا لالتقاء الساكنين في الكلمة الواحدة، ثمّ عرض التقاؤُهما من كلمتَيْن، قوي سببُ الكسر، وصار الجائز واجبًا لقوّة سببه. قال جرير [من الوافر]. فَغض الطَّرْفَ إنّك من نُمَيرٍ ... فلا كَعْبًا بَلَغْتَ ولا كِلابا ومنهم من يفتحه مع الألف واللام، قال أبو عليّ: كأنّه ردّه إلى الأصل، كأنّه قال: "غُضَّ" ثمّ ألحقه الألفَ واللامَ، قال جرير [من الكامل]: ذُمَّ المَنازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوى ... والعَيْشَ بعدَ أولئك الأيّامِ (¬1) الشاهد فيه الفتح مع الألف واللام، والمعنى أنّه يتأسف على منزله باللوى وأيّام مضتْ له فيه، وأنّه لم يَهْنِئْه بعد تلك الأيّام عيشٌ، ولا راقَ له منزلٌ. وقوله: وأمّا "هَلُمَّ" فليس فيها إلّا وجهٌ واحدٌ، وهو الفتح، وذلك قول الجميع لأنّها مركّبة من "ها"، و"لُمَّ"، وسُمّي بها الفعل، فمُنعت من صرف الأفعال، فلذلك لم يجز فيها ما جاز في غيرها من الأفعال، فاعرفه. فصل [لغة في التخلّص من التقاء الساكنين] قال صاحب الكتاب: ولقد جد في الهرب من التقاء الساكنين من قال "دأبة", و"شأبةٌ"، ومن قرأ: {ولا الضألين} (¬2) , {ولا جأنٌ} (¬3). وهي عن عمرو بن عبيد, ومن لغته النقر في الوقف علي "النقر". * * * قال الشارح: اعلم أنّ من العرب من يكره اجتماعَ الساكنين على كلّ حال، وإن كانا على الشرط الذي يجوز فيه الجمعُ بين ساكنين من نحو"دابَّةٍ"، و"شابَّةٍ"، فيُحرِّك الألف ¬
لالتقاء الساكنين، فتقلَب همزةً؛ لأن الألف حرفٌ ضعيفٌ واسعُ المَخْرَجِ، لا يحتمل الحركةَ. فإذا اضطُرّوا إلى تحريكه، قلبوه إلى أقرب الحروف إليه، وهو الهمزة. والهمزةُ حرفٌ جَلْدٌ يقبل الحركةَ. فمن ذلك ما يُحْكَى عن أيّوب السِّخْتِيانيّ من أنّه قرأ: {ولا ضَأَلِّينَ} (¬1)، فهمز الألفَ وفتحها, لأنّه كره اجتماعَ الساكنين: الألِف واللام الأولى. ومن ذلك ما حكاه أبو زيد عنه في قولهم: "شَأبَّةٌ"، و"دَأَبَّةٌ". وأنشد [من الرجز]: يا عَجَبًا لقد رَأَيْتُ عَجَبا حِمارَ قَبّانٍ يَسُوقُ أَرْنَبا خاطِمَها زَأَمَّها أَنْ تَذْهَبا (¬2) يريد: زامَّهَا، لكنّه لمّا حرّك الألف إذ لا يسوغ في الشعر الجمعُ بين ساكنين قَلَبَها همزةً، وعن أبي زيد قال سمعتُ عمرو بن عُبَيْد يقرأ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (¬3) فظننتُه قد لحن حتى سمعتُ العرب تقول: "شَأَبَّةٌ". ومن ذلك قول الشاعر [من الطويل]: 1255 - وبَعْدَ بَياضِ الشَّيْبِ من كلّ جانبٍ ... عَلا لِمَّتِي حتّى اشْعَأَلَّ بَهِيمُهَا ¬
فصل [تحريك نون "من" و"عن" إذا تلاها ساكن]
يريد: "اشْعَالَّ"، وهو كثيرٌ. قال أبو العبّاس: قلتُ لأبي عُثْمان: أَتَقِيسُ ذلك؟ قال لا, ولا أقبلُه. وقوله: "ولقد جدّ في الهرب" يريد بالَغَ في الفرار من التقاء الساكنين؛ لأنّه قلب الحرفَ الذي لا يمكن تحريكُه، إلى حرفٍ يمكن تحريكُه، ثمّ حرَّكَ. وعمرو بن عُبَيْد كان من رؤساء المُعتَزِلة، كان فصيحًا عفيفًا، وهو الذي قيل فيه [من مجزوء الرمل]: كُلُّكُمْ يَمْشِي رُوَيدْ كُلُّكُمْ يَطلُبُ صَيْدْ غيرَ عَمْرِو بنِ عُبَيْدْ (¬1) وقوله: "ومَنْ لغتُه النَّقُرْ" في الوقف على "النَّقْر""، يريد أنّ من يُحوِّل الحركة في نحو: "هذا النَّقْر"، و"عَمْرُو"، و"البَكْرُ" من اللام إلى العين، يفرّ من التقاء الساكنين، وإن كان جائزًا، كما يفرّ منه في {وَلاَ الضَأَلِّينَ} (¬2)، و"ابْيَأَضَّ" و"ادْهَأمَّ" فاعرفه. فصل [تحريك نون "مِنْ" و"عَنْ" إذا تلاها ساكن] قال صاحب الكتاب: وكسروا نون "من" عند ملاقاتها كل ساكن سوى لام التعريف, فهي عندها مفتوحة. تقول: "من ابنك", و"من الرجل". وقد حكى سيبويه (¬3) عن قوم فصحاء: "من ابنك" بالفتح, وحكي في "من الرجل" الكسر، وهي قليلة خبيثة. وأما نون "عن" فمكسورة في الموضعين. وقد حكي عن الأخفش: "عن الرجل" بالضم. * * * قال الشارح: أمّا نونُ "مِنْ"، فحكمُها الكسر على ما يقتضيه القياسُ، فتقول: "أخذتُ مِنِ ابنك"، و"مِنِ امْرئ القيس"، و"منِ اثْنين"، غيرَ أنّهم قالوا: "مِنَ الرجل"، و"مِنَ الله"، و"مِنَ الرسول"، ففتحوا مع لام المعرفة، وعدلوا عن قياس نظائره. وذلك لأنّه كثُر في كلامهم هذا الحرفُ، وما فيه الألف واللام من الأسماء كثيرٌ, لأن الألف واللام تدخلان على كلّ منكور، فكرهوا كسرَ النون مع كسرة الميم قبلها، فتتوالى كسرتان مع الثقل، فعدلوا إلى أخفّ الحركات، وهي الفتحة. وممّا يؤيّد عندك أنّ الكسرة لها أثرٌ فيما ذكرناه، أنّهم كسروا ما لم يكثر ممّا هو على صورته، كقولك: "إنِ اللهُ أمكنني من فلان فعلت"، و"عِدِ الرجلَ"، و"صِلِ ابْنَك"، ¬
فجاؤوا بذلك على الأصل، لأنّه لم يكثر في كلامهم كثرة الأوّل. وحكى سيبويه عن قوم فصحاء "مِنَ ابنك" بالفتح، كأنّهم اعتبروا ثقلَ توالي كسرتَيْن، وأجروها مجراها مع لام المعرفة. وحكوا أيضًا: "مِنِ الرجل"، فكسروا مع لام المعرفة. جروا في ذلك على الأصل، ولم يحفلوا بالثقل. فإذًا قولهم: "مِنَ ابنك" بالفتح شاذّ في القياس دون الاستعمال، وقولهم: "مِنِ الرجل" بالكسر شاذً في الاستعمال صحيحٌ في القياس. قال: "وهي خبيثة" لقلّة المستعملين، وثقلِ اجتماع الكسرتَيْن. وقد حكى الأخفش: "عَنُ الرجل"، كأنّه حرّك بالضمّ إتباعًا لضمّة الجيم، وشَبَّهَه بقولهم (¬1): {قُلُ انْظُرُوا} (¬2)، و {أَوُ انْقصْ} (¬3) إذ كانت الراء في حكم الساكن، إذ المدّغمُ ساكنٌ، واللسانُ يرتفع بهما دفعةً واحدةً. ¬
حكم أوائل الكلم
ومن أصناف المشترك حكم أوائل الكلم فصل قال صاحب الكتاب: تشترك فيه الأضرب الثلاثة, وهي في الأمر العام على الحركة, وقد جاء منها ما هو على السكون, وذلك من الأسماء في نوعين: أحدهما: أسماءٌ غير مصادر, وهي: "ابنٌ", و"ابنة" و"ابنُم" و"اثنان" و"اثنتان" و"امرؤٌ" و"امرأة" و"اسم" و"است" و"ايمن الله" و"ايم الله". * * * قال الشارح: هذا الضرب ممّا يشترك فيه الاسم والفعل والحرف, لأنّ كلّ واحد منها يجوز أن يقع مبدوءًا به، نحوَ: "زيدٌ قائمٌ"، و"قام زيدٌ"، و"إنّ زيدًا قائمٌ"، فلذلك ذكره في المشترك. واعلم أنّ الحرف الذي يبتدأ به لا يكون إلّا متحرّكًا، وذلك لضرورة النطق به، إذ الساكن لا يمكن الابتداءُ به، وليس ذلك بلغة، ولا أنّ القياس اقتضاه، وإنّما هو من قبيل الضرورة، وعدم الإمكان. فقد ظنّ بعضُهم أنّ ذلك من لغة العرب لا غير، وأنّ ذلك ممكنٌ، وهو في لغة قومٍ آخَرين. ولا ينبغي أن نتشاغل بالجواب عن ذلك, لأنّ سبيلَ معتقد ذلك سبيلُ من أنكرَ العِيانَ وكابَرَ المحسوسَ. وقد جاءت ألفاظٌ بنَوْا أوّلَها على السكون من الأسماء والأفعال، إلّا أنّهم زادوا في أوّلها همزةَ الوصل وسيلةً إلى النطق بالساكن، إذ النطقُ بالساكن متعذّرٌ، وأصلُ ذلك الأفعالُ لتصرّفها، وكثرة اعتلالها، والأسماءُ في ذلك محمولةٌ عليها. وأمّا الأسماء، فعلى ضربَيْن: أسماءٌ غيرُ مصادر، ومصادرُ. فالأسماء التي فيها همزةُ الوصل عشرةٌ معدودةٌ، وهي: ابْنٌ، وابْنَةٌ، وابْنُمٌ، بمعنى ابنٍ، واثْنان، واثْنَتان، وامُرُؤٌ، وامْرَأَةٌ، واسْمٌ، واسْتٌ، وايْمُنُ اللهِ، وايْمُ الله، فهذه الأسماء لمّا أسكنوا أوائلها, ولم يمكنهم النطق بالساكن، اجتلبوا همزة الوصل، وتَوصّلوا بها إلى النطق لذلك الساكن. فإن قيل: ولِمَ أسكنوا أوّلَ هذه الأسماء حتى احتاجوا إلى همزة الوصل؟ قيل:
أصلُ هذه الهمزة أن تكون في الأفعال خاصّةً، وإنّما هذه الأسماء محمولة في ذلك على الأفعال؟ لأنّها أسماءٌ معتلّةٌ سقطت أواخرُها للاعتلال، وكثُر استعمالُها، فسكن أوائلُها لِتكون ألفاتُ الوصل عوضًا ممّا سقط منها, ولم يُستنكر ذلك فيها، كما لم تُستنكر إضافةُ أسماء الزمان إلى الأفعال في قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} (¬1) {وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ} (¬2). وقال الشاعر [من الطويل]: على حِينَ عاتَبْتُ المَشِيبَ على الصِّبا (¬3) وكما وصفوا بالأفعال في قولك: "مررتُ برجلٍ يأكل"، وأصلُ الإضافة والصفة الأسماء كما أنّ أصل هذه الهمزة الأفعالُ. فأمّا "ابنٌ"، فأصله "بنَوٌ" بفتح الفاء والعين كـ"جَبَلٍ"، و"جَمَلٍ"، دلّ على ذلك قولهم في الجمع: "أَبْنَاءٌ". قال الله تعالى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ} (¬4). وقال الشاعر [من الطويل]: بَنُوهُنَّ أبناءُ الرِّجالِ الأباعِدِ (¬5) ولا يجوز أن يكون فِعْلاً كـ"جِذْعٍ", ولا فُعْلاً كـ"قُفْلِ"؛ لقولهم في جمع السلامة: "بَنُونَ" بفتح الباء، ولذلك قالوا في النسب: "بَنَوِيٌّ" بفتح فائه. والمحذوفُ منه واوٌ، هى لامه. دلّ على ذلك قولهم في المؤنّث: "بنتٌ"، كما قالوا "أُخْتٌ"، و"هَنْتٌ"، فأبدلوا التاء من لامها، وإبدالُ التاء من الواو أكثرُ من إبدالها من الياء، وعلى الأكثر يكون العملُ. فأمّا "البُنوَّةُ"، فلا دليلَ فيه لقولهم: "الفُتُوَّةُ"، وهو من الياء؛ لقولهم في التثنية: "فَتَيان"، وفي، الجمع: "فِتْيَةٌ"، و"فِتْيانٌ". وكذلك "ابْنَةٌ" هو تأنيث "ابنٍ"، والتاء فيه للتأنيث على حدّها في "حَمْزَةَ"، و"طَلْحَةَ". فأمّا "بِنْتٌ"، فليست التاء فيه للتأنيث على حدّها في "ابنة". يدلّ على أنّها ليست للتأنيث سكونُ ما قبلها، وتاء التأنيث تفتح ما قبلها على حدِّ "قائمَة"، و"قاعدَة". وإنّما هي بدلٌ من لام الكلمة. يؤيّد ذلك قولُ سيبويه (¬6): لو سمّيت بهما رجلاً، لصرفتَهما معرفةً، يعني: بِنْتًا وأُخْتًا. وهذا نصٌ من سيبويه، ألا ترى أنَّها لو كانت للتأنيث لما انصرف الاسم كما لم ينصرف نحو: "طلحةَ" و"حمزة"؟ فإن قيل: فإنّا نفهم من الكلمة التأنيثَ، قيل: التأنيث مستفادٌ من نفس الصيغة، ونَقْلِها من بناء إلى بناء آخر، وذلك أنّ أصلَ "بِنْتٍ": "بَنَوٌ"، فنقلوه إلى فِعْل ألحقوه بجِذْع بالتاء، كما ألحقوا "أُخْتًا" بالتاء بـ"قُفْلٍ"، و"بُرْدٍ"، فصارت الصيغة عَلَمًا للتأنيث، إذ كان هذا عَلَمًا اختصّ بالمؤنّث. ¬
وأمّا "ابْنُمٌ، فهو "ابنٌ" زيدت عليه الميمُ للمبالغة والتوكيد، كما زيدت في "زُرْقُمٍ" و"سُتْهُمٍ"، بمعنى الأَزْرَق والعظيمِ العَجيزةِ، أي: كبير الاسْتِ. قال الشاعر [من الطويل]: 1256 - وهل لِيَ أُمٌّ غيرُها إنْ ذكرتُها ... أَبَى الله إلّا أنْ أكونَ لها ابْنَما وليست الميم بدلاً من لام الكلمة على حدّها في "فَمٍ"؛ لأنّها لو كانت بدلاً من اللام، لكانت في حكم اللام، وكانت اللامُ كالثانية، وكان يَبْطل دخول همزة الوصل. وأمّا "اثنان"، فأصله "ثِنْيان"؛ لأنّه من "ثَنَيْتُ". و"اثْنَتانِ" التاء فيه للتأنيث كـ"ابنتَيْن" و"ثِنْتان"كـ"بِنْتَيْن"، التاء فيه للإلحاق. وأمّا "امْرُؤٌ" و"امْرَأَةٌ"، فإنّما أسكنوا أوّلَهما وإن كانا تامَّين غيرَ محذوفَيْن؛ لأنّك إذا دخلت الألفُ واللامُ، فقلتَ: "المَرْء" و"المَرْأَة"، وخفّفتَ الهمزة، حذفتَها، وألقيتَ حركتها على الراء، فقلت: "جاءني المَرُ" و"رأيت المَرَ"، و"مررت بالمَرِ". فلمّا كانت الراء قد تُحرَّك بحركة الإعراب، وكثُرَت هذه الكلمةُ في كلامهم حتى صارت عبارةً عن كلّ ذَكَر وأُنْثَى من الناس، أعلّوها لكثرة استعمالهم إيّاها، وشبّهوا الراء في "المرْءُ" و"المرْءَ" و"المرْءِ" بخاء "أخيك"، فأتبعوا عينَها حركةَ لامها، فقالوا: "هذا امْرُؤٌ"، و"رأيت امْرأً"، و"مررت بامْرِئٍ"، كما تقول: "هذا أخوك"، و"رأيت أخاك"، و"مررت بأخيك". وألفُه وألفُ "ابنم" مكسورةٌ على كلّ حال؛ لأنّ الضمّة فيه عارضةٌ للرفع غيرُ لازمة، وليست كالضمّة في "اقْتُلْ". فلمّا اعتلّ هذا الاسمُ بإتباع حركة عينه حركةَ لامه، وكثُر استعمالُه، أسكنوا أوّلَه، وأدخلوا عليه همزة الوصل على ما ذُكر. ¬
[همزة الوصل مع مصادر الأفعال]
وأمّا "اسْمٌ"، فأصله "سِمْوٌ" على زنة "فِعْلٍ" بكسر الفاء، هكذا قال سيبويه (¬1)، فحُذفت الواو تخفيفًا على حدّ حَذْفها في "ابن" و"ابنة"، وصارت الهمزةُ عوضًا عنها، ووزنُه "افْعٌ"، وفيه لغاتٌ وخلافٌ تقدّم ذكره في صدر هذا الكتاب. وأمّا "اسْتٌ"، فمحذوفةُ اللام، وهي هاء يدلّ على ذلك قولُهم في تحقيره: "سُتَيْهَةٌ"، وفي جمعه: "أَسْتاهٌ"، وأصلُه: "سَتَهٌ" علي وزن "فَعَلٍ" بفتح العين. ويدلّ على ذلك قولهم في القلّة: "أَسْتاهٌ"، مثلُ: "جَمَلٍ" و"أَجْمالٍ"، و"قَلَمٍ" و"أَقْلامٍ". ولا يكون على "فِعْلٍ" كـ"جِذْعٍ"، ولا "فُعْلٍ" كـ"قُفْلٍ" اللذَيْن يُجْمَعان أيضًا على "أفْعالٍ"؛ لقولهم فيه: "سَهٌ" بفتح الفاءَ حين حذفوا العين. قال الشاعر [من الطويل]: شَأَتْكَ قُعَيْنٌ غَثُّها وسَمِينُها ... وأَنْتَ السَّهُ السُّفْلَى إذا دُعِيتُ نَصْرُ (¬2) وفي الحديث: العينُ وِكاءُ السَّهِ (¬3)، ففتحُ الفاء ها هنا دليلٌ على أنّ الأصل ما ذكرناه، ولا يكون "سَتِةٌ" بكسر العين، ولا "سَتُهٌ" بضمّها؛ لأنّ المفتوحَ العين أكثرُ، والحكمُ إنّما هو على الأكثر. وقد اختلفت العربُ فيه، فمنهم من قال: "سَتٌ" بحذف الهاء، وإبقاء الكلمة على أصلها من غير تغيير كـ"يَدٍ" و"دَمٍ"، ومنهم من حذف التاء، وقال: "سَهٌ". وهو قليل من قبيل الشاذّ. ومنهم من يحذف الهاء، ويُسكِن السين، ويدْخِل ألف الوصل، فيقول. "اسْتٌ". وأمّا "ايْمُنُ الله" في القَسَم، و"ايم الله"، فالهمزةُ فيهما وصلٌ تسقط في الدرج، وقد تقدّم الكلام عليهما في القسم. [همزة الوصل مع مصادر الأفعال] قال صاحب الكتاب: والثاني مصادر الأفعال التي بعد ألفاتها إذا ابتديء بها أربعة أحرف فصاعداً, نحو انفعل وافتعل واستفعل تقول: انفعال وافتعال واستفعال، ومن الأفعال فيما كان على هذا الحد، وفي أمثلة أمر المخاطب من الثلاثي غير المزيد فيه نحو اضرب واذهب. ومن الحروف في لام التعريف وميمه في لغة طييء. فهذه الأوائل ساكنة كما ترى يلفظ بها كما هي في حال الدرج، فإذا وقعت في موضع الابتداء, أُوقعت قبلها همزات ومزيدة متحركة، لأنه ليس في لغتهم الابتداء بساكن, كما ليس فيها الوقوف على متحرك. * * * ¬
قال الشارح: قد تقدّم أنّ أصل دخول هذه الهمزة إنّما هو في الأفعال، ودخولُها في الأسماء إنّما هو بالحمل عليها، والتشبيه بها. وتلك الأفعالُ ثمانيةٌ، وهي: "انْفَعَلَ"، نحو: "انطلق"، و"افْتَعَلَ"، نحو: "اقتدر"، و"اكتسب"، و"اِفْعَلَّ"، مثل: "احْمرَّ"، فهذه الثلاثةُ على زنة واحدة، ومثال واحد، و"اسْتَفْعَلَ"، نحو: "استخرجِ"، و"افْعَنْلَلَ"، نحو: "اقعنسس"، و"افْعَالَلْت"، نحو: "اشهابَبْت"، و"افْعَوَّلَ"، و"افْعَولَل"، نحو: "اخْرَوَّطَ"، و"اخْشَوْشَنَ". فهذه الخمسةُ على مثال واحد أيضًا. فهذه كلُّها يلزم أوّلها همزةُ الوصل لسكون أوّلها. فإن قيل: ولِمَ أُسْكِن حتى افتقرت إلى همزة الوصل؟ قيل: أمّا الثلاثة الأُوَلُ، فإنّما أسْكِن أوّلها لأنّهم لو لم يفعلوا ذلك، لاجتمع في الكلمة أكثرُ من ثلاثِ متحرّكاتٍ. وأمّا الخمسةُ التي تليها، فكأنّهم زادوا عليها حرفًا، فكرهوا كثرةَ الحروف وكثرةَ المتحرّكات، فأسكنوا الأوّلَ منها، وأتوا بالهمزة توصُّلاً إلى النطق بالساكن. ولمّا وجب ذلك في هذه الأفعال لما ذكرناه، اعتمدوه في مصادرها، نحو: "الانطلاق"، و"الاقتدار, و"الاحمرار"، و"الاستخراج"، و"الاقْعِنْساس", و"الاشْهِيباب"، و"الاخْرِوّاط"، و"الاخشِيشان". ومن ذلك "اطّايَرَ اطّيارًا"، و"اثّاقَلَ اثِّقالا"، و"ادّارَكُوا فِيهَا ادِّراكًا". جاؤوا بهمزة الوصل عند سكون الأوّل منه. وإنّما سكن الأوّلُ؛ لأنّهم ادّغموا تاء "تَفَاعَلَ" فيما بعده، إذ كان مقاربًا له، ثمّ جاؤوا بالهمزة، وإنّما كانت المصادرُ في ذلك كالأفعال؛ لأنّها جارية عليها، وكلُّ واحد منها يؤول إلى الآخر، ولذلك أعلّوا المصدر لاعتلال الفعل، نحو: "قَامَ قِيامًا"، ولولا اعتلالُ الفعل لما اعتلّ المصدرُ، وصحّ كما صحّ في "لِواذٍ". وقوله: "التي بعد ألفاتها إذا ابتدىء بها أربعة أحرف فصاعدًا"، تحرّز به من مثل "أَفْعَلَ"، نحو: "أَخْرَجَ"، و"أَكْرَمَ"، فإنّ الهمزة فيه قطعٌ مع أنّ ما بعدها ساكنٌ، لأنّ الهمزة فيه كالأصل بُنيت الكلمة عليها كبناء "فَاعَلَ" و"فعَّلَ"؛ لأنّ الزيادة في كلّ واحد منها لمعنى، وليس كذلك همزةُ الوصل؛ لأنّها لم تدخل لمعنى بل وُصلةً إلى النطق بالساكن. والذي يؤيد عندك أنها كالملحقة، وإن لم تكن ملحقةً حقيقةً، أنّك تضمّ أوّل مضارعه، فتقول: "يُخْرِجُ"، و"يُكْرِم" كما تقول: "يُدَحْرِجُ"، و"يُسَرْهِفُ"، و"يُصَوْمِع"، و"يُجَهْوِرُ". وإنّما قلنا: إنّها ليست للإلحاق، وذلك من قبل أنّ الملحق حكمُه حكمُ الأصل في المضارع والمصدر، نحو: "جَهْوَرُ"، و"بَيْطَرَ"، و"جَلْبَبَ"، لمّا كانت الزيادةُ فيها للإلحاق، قالوا في مضارعها: "يُجَهْوِرُ"، و"يُبَيطِرُ"، و"يُجَلْبِبُ" بالضمّ، وقالوا في مصدرها: "جَهْوَرَةٌ"، و"بَيطَرَةٌ"، و"جَلْبَبَةٌ"، كـ "دَحْرَجَةٍ"، و"سَرْهَفَةٍ". وأنت لا تقول في "أَكرَمَ"، و"قَاتَلَ"، و"كَلَّمَ": "أَكْرَمَةٌ"، ولا "قَاتَلَةٌ"، و"كَلَّمَةٌ"، فبَانَ لك أنّ الزيادة في "أَكرَمَ" جارية مجرى الملحق، وإن لم تكن ملحقة.
فصل [حركة همزة الوصل]
وتدخل أيضًا في فعل الأمر، وذلك من كل فعل فُتح فيه حرفُ المضارعة، وسكن ما بعده، نحو: "يَضْرِب"، و"يَقْتُلُ"، و"يَنْطَلِقُ"، و"يَعْتَذِرُ"، فإذا أمرتَ قلت: "اضْرِبْ"، "اقْتُلْ"، "انْطَلِقْ". وكان يجب أن يحرّك الأوّل من المستقبل كما حُرّك في الماضي، فيقالَ: "ذَهَبَ يَذَهَبُ"، و"قَتَلَ يَقَتُلُ"، و"ضَرَبَ يَضَرِبُ"، فيجتمع أربعٌ متحرّكاتٌ، فاستثقلوا توالِيَ الحركات، فلم يكن سبيلٌ إلى تسكين الأوّل الذي هو حرفُ المضارعة؛ لأنّه لا يُبتدأ بساكن، ولا إلى تسكين الثالث الذي هو عين الفعل؛ لأنّه بحركته يُعْرَف اختلافُ الأبنية، ولا إلى تسكين لامه؛ لأنّه محل الإعراب من الرفع والنصب، فأسكنوا الثاني، إذ لا مانعَ من ذلك، فقالوا: "يَذْهَبُ"، و"يَقْتُلُ". فإذا أرادوا الأمر، حذفوا حرف المضارعة، فبقى فاء الفعل ساكنًا, فاحتاجوا إلى همزهْ الوصل، فقالوا: "اذهَبْ"، و"اقتُلْ" على ما تقدّم. وأمّا دخولها في الحرف، فمعَ لام التعريف في نحو: "الرّجل"، و"الغلام". وإنّما أتوا بهمزة الوصل مع هذه اللام؛ لأنها حرف ساكنٌ يقع أوّلاً، والساكنُ لا يمكن الابتداءُ به، فتَوصّلوا إلى ذلك بالهمزة قبلها. وإنّما كانت ساكنة لقوّة العناية بمعنى التعريف. وذلك أنّهم جعلوه على حرف واحد ساكن ليضعف عن انفصاله ممّا بعده، ويقوي اتّصالُه بالمعرَّف، فيكون ذلك أبلغَ في إفادة التعريف للزوم أداته. وكذلك الميم المبدلة منه في لغة طيّئ، نحو قوله -عليه السلام -: "ليس مِنَ امْبِرِّ امْصِيامُ في امْسَفَرِ"، وقد تقدّم الكلام عليه. وقوله: "وهذه الأوائل ساكنة كما ترى يلفظ بها كما هي في حال الدرج"، يريد أنّ أول (¬1) جميع ما ذكرناه من الأسماء والأفعال ممّا هو ساكنٌ يبقى ساكنًا على حاله في الدرج؛ لأنّ الكلام الذي قبله تصله إلى الساكن. فأمّا إذا ابتدأتَ، فلا بدّ من همزة الوصل؛ لتعذّر الابتداء بالساكن. وقوله: "لأنّه ليس من لغتهم الابتداء بالساكن"، ربّما فهم منه أنّ ذلك ممّا يختصّ بلغة العرب، ويجوز الابتداء بالساكن في غير لغة العرب، وليس الأمر كذلك، بل إنّما كان ذلك لتعذر النطق بالساكن، وليس ذلك مختصًّا بلغة دون لغة فاعرفه. فصل [حركة همزة الوصل] قال صاحب الكتاب: وتسمى هذه الهمزات همزات الوصل، وحكمها أن تكون مكسورة، وإنما ضمت في بعض الأوامر، وفيما بني من الأفعال الواقعة بعد ألفاتها أربعة أحرف فصاعداً للمفعول للإتباع، وفتحت في الحرفين, وكلمتي القسم للتخفيف. * * * ¬
قال الشارح: إنّما سمّيت هذه الهمزة همزة الوصل؛ لأنّها تسقط في الدرج، فتصل ما قبلها إلى ما بعدها, ولا تقطعه عنه كما يفعل غيرُها من الحروف. وقيل: سُمّيت وَصْلاً؛ لأنّه يُتوصّل بها إلى النطق بالساكن. وحكمُها أن تكون مكسورة أبدًا؛ لأنها دخلت وصلةً إلى النطق بالساكن، فتَخيّلوا سكونَها مع سكونِ ما بعدها، فحرّكوها بالحركة التي تجب لالتقاء الساكنين، وهي الكسرة. فإن كان الثالث من الاسم الذي فيه همزةُ الوصل مضمومًا ضَمًّا لازمًا، ضممت الهمزة، نحو: "اقْتُلْ"، "اخْرُجْ"، "اسْتُضعِفَ"، "انْطُلِقَ به". وذلك أنّهم كرهوا أن يخرجوا من كسرة إلى ضمّة؛ لأنّه خروجٌ من ثقيل إلى ما هو أثقلُ منه ليس بينهما إلّا حرفٌ ساكنٌ، ولذلك من الاستثقال قلّ في كلامهم نحو: "يَوْمٍ"، و"يوْخٍ" (¬1) للخروج من الياء إلى الواو، وكثُر في كلامهم نحو: "ويْلٍ"، و"وَيْحٍ"، و"وَيْسٍ"؛ لأنّ فيه خروجًا من ثقيل إلى ما هو أخفّ منه. وحكى قُطْرُب على سبيل الشذوذ: "اِقْتُلْ" بالكسر على الأصل. وإنّما قلنا: ضمًّا لازمًا تحرّزًا من مثلِ: "ارْمُوا"، و"اِقْضُوا"، فإنّ الهمزة في ذلك كله مكسورةٌ، وإن كان الثالث مضمومًا؛ لأنّ الضمّة عارضةٌ، والميمُ في "ارموا" أصلُها الكسرُ، وكذلك الضاد في "اقضوا". وذلك أنّ الأصل "اقضِيُوا"، "ارْمِيُوا". وإنّما استثقلوا الضمّة على الياء المكسور ما قبلها، فحذفوها، فبقيت ساكنةً، وواوُ الضمير بعدها ساكن، فحُذفت الياء لالتقاء الساكنين، وضُمت العين لتصحّ الواو الساكنةُ، فبقيت الهمزةُ مكسورة على ما كانت، كما قالوا: "اُغزِي"، فضمّوا الهمزة والثالثُ مكسورٌ كما ترى، لأنّ الأصل "اغزُوِي"، فاعتلّت الواوُ، فحُذفت، ووَلِيَت الياء الزايَ، فانكسرتْ من أجلها، فالضمّةُ الآنَ في الهمزة مراعاةً للأصل. وقوله: "وفتحت في الحرفين"، يريد مع لام التعريف وميمه، فإنّ الهمزة معهما مفتوحةٌ بخلاف حالها مع الأسماء والأفعال. والعلّة في ذلك أنّهم أرادوا أن يخالفوا بين حركتها مع الحرف، وحركتها مع الاسم والفعل. وأمّا ألفُ "ايْمُن الله" في القسم، فمفتوحةٌ أيضًا إذ كان ما دخلت عليه غير متمكّن لا يُستعمل إلّا في القسم، ففُتحت همزته تشبيهًا لها بالهمزة اللاحقة حرفَ التعريف. وحكى يونس: "اِيمن الله" بالكسر على الأصل. ¬
فصل [سقوط همزة الوصل في الدرج نطقا]
فصل [سقوط همزة الوصل في الدرج نطقًا] قال صاحب الكتاب: وإثبات شيء من هذه الهمزات في الدرج خروج عن كلام العرب, ولحن فاحش، فلا تقل: "الإسم" و"الإنطلاق" و"الإقتسام" و"الإستغفار" و"من إبنك" و"عن إسمك". وقوله [من الطويل]: إذا جاوز الإثنين سرٌّ (¬1) من ضرورات الشعر. * * * قال الشارح: يريد أنّ هذه الهمزات إنّما جيء بها وصلةً إلى الابتداء بالساكن، إذ كان الابتداءُ بالساكن ممّا ليس في الوُسْع. فإذا تقدّمها كلامٌ، سقطت الهمزةُ من اللفظ، لأن الكلام المتقدّم قد أغنى عنها، فلا يقال: "الإسْمُ" بإثبات الهمزة؛ لعدم الحاجة إليها؛ لأنّ الداعي إلى الإتيان بها قد زال، وهو الابتداءُ بساكن. وكذلك سائرُ ما ذكره من "الانطلاق" و"الاقتسام". قال: "فإثبات الهمزة في هذه الأسماء لحن"، لأنّه عدولٌ عن كلام العرب وقياسِ استعمالها، وكان زيادة من غير حاجة إليه. ونظيرُ ذلك هاء السكت من نحو: "عِهْ" و"شِهْ"، أُتي بها وصلةً إلى الوقف على المتحرّك، فإذا وُصل بكلام بعده، سقطت الهاء، فهذه الزيادةُ في هذا الطرف كذلك الزيادةُ في الطرف الآخر. قال: فأمّا قوله [من الطويل]: إذا جاوز الإثْنينِ سِر فمن ضرورات الشعر، فإنّه أورده إذ كان ناقضًا لهذه القاعدة، إذ قد أثبت الشاعر الهمزةَ مع تقدُّم لام التعريف. البيت لقَيْس بن الخَطِيم، وقيل له: خطيمٌ لضَرْبَةٍ كانت بأنفه. وتمامُه. بنَشْرٍ وإفْشاءِ الحَدِيثِ قَمِينُ ومثله قول الآخر [من السريع]: لا نَسَبَ اليَوْمَ ولا خُلَّةً ... اتّسَعَ الخَرْقُ على الراقع (¬2) فأثبت همزةَ "اتَّسَعَ" في حال الوصل ضرورةً، وهو ها هنا أسهل، لأنه في أوّل النصف الثاني، فالعربُ قد تسكت على أنصاف الأبيات، وتبتدىء بالنصف الثاني، فكأنّ الهمزة وقعت أوّلاً، فاعرفه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: ولكن همزة حرف التعريف وحدها إذا وقعت بعد همزة الاستفهام لم تحذف، وقلبت ألفاً لأداء حذفها إلى الإلباس (¬1). * * * قال الشارح: أمرُ هذه الهمزة مخالفٌ لِما أصّلناه, لأنّ ألف الاستفهام إذا دخلت على همزة الوصل، سقطت ألفُ الوصل، نحو قوله تعالى: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} (¬2)، وقوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} (¬3)؛ لأن الغُنْية قد حصلت بهمزة الاستفهام عن همزة الوصل، ولم يُؤدِّ حذفُها إلى لبسٍ؛ لأنّ ألف الاستفهام مفتوحةٌ وألف الوصل مكسورةٌ. فأمّا الألف التي مع اللام، فإنّها لا تسقط؛ لئلّا يلتبس الاستخبارُ بالخبر، لأنّهما مفتوحتان، بل تُبدِّلْها ألفًا، نحو قوله: {آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} (¬4)، و {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} (¬5). فلو حذفت، لوقع لبسٌ، ولا يُعْلَم هل هي الاستفهاميّةُ، أم التي مع لام التعريف، فلذلك ثبتت وشُبّهت بألف "أَحْمَرَ"لثبوتها، قال الشاعر [من الوافر]: 1257 - أَأَلخَيرُ الّذي أَنَا أَبْتَغيهِ ... أَمِ الشَّرُّ الذي لا يَأْتَلِينِي ¬
فصل [تسكين هاء "هو" و"هي"]
فصل [تسكين هاء "هو" و"هي"] قال صاحب الكتاب: وأما إسكانهم أول "هو" و"هي" متصلتين بالواو والفاء, ولام الابتداء, وهمزة الاستفهام, ولام الأمر متصلة بالفاء, والواو, كقوله تعالى: {وهو خير لكم} (¬1) وقوله تعالى: {فهي كالحجارة} (¬2) , وقوله تعالى: {لهو القصص الحق} (¬3) , وقول الشاعر [من البسيط]: 1258 - [فقمت للزَّور مُرتاعًا فأرَّقني] ... فقلت: أهي سرت أم عادني حُلُمُ وقوله تعالى: {فلينظر} (¬4) , وقوله: {وليوفوا نذورهم} (¬5) فليس بأصلٍ, وإنما ¬
شُبّه الحرف عند وقوعه في ذا الموقع بضاد "عضُدٍ", وباء "كبد" (¬1). ومنهم من لا يُسْكِن. * * * قال الشارح: لمّا ذكر ما بُني من الأسماء والأفعال على سكون الأول، خاف أن يُتوهّم أن قولهم: "وَهْوَ"، و"وَهْيَ" بالإسكان من ذلك القبيل، فبيّن أمرَهما، وذلك أن "هُوَ" مضمومُ الأوّل، و"هِىَ" مكسورة. فإذا دخل عليه حرفُ عطف ممّا هو على حرف واحد، فإنّهم قد يُسكنونه لضرب من التخفيف. وأنت في ذلك بالخيار: إن شئت أسكنتَ، وإن شئت حرّكتَ. فمَن أسكن؛ فلأنّ الحرف الذي قبلهما، لمّا كان على حرف واحد، لا يمكن انفصالُه ولا الوقوفُ عليه يتنزّل منزلةَ ما هو من سِنخ الكلمة، فشبّه "وهو" بـ "عَضُد"، "وهي" بـ"كَتف" و"كبد"، فكما يقال: "عَضْدٌ" بالإسكان، و"كَتْفٌ", و"كَبْدٌ"، كذلك قالوا: "وهْوَ"، و"وَهْيَ" بالإسكان. قال الله تعالى: {وَهوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} (¬2)، وقال: {فهيَ كَالحِجَارَة} (¬3)، وقال: {لَهْوَ الْقَصَصُ} (¬4)، فأسكن مع لام التأكيد كما أسكن مع واو العطف وفائه. وقالوا في الاستفهام: "أهْوَ فَعَلَ؟ " بإسكان الهاء، ومنه قول الشاعر [من البسيط]: فقمْتُ للزَّوْرِ مُرْتاعًا فأَرَّقَني ... فقلتُ أهْيَ سَرَتْ أَمْ عادَنِي حُلُمُ الشاهد فيه قوله: "أهْي" بإسكان الهاء، كأنّه شبّه "أَهْيَ" بـ"كَتْفٍ". والمعنى لمّا رأى المحبوبةَ استعظم ذلك، وقال: أذلك حقٌّ، أو منامٌ؟ فإن كان بَدَلَ الواو والفاء "ثُمَّ"، لم يحسن الإسكانُ حُسْنَه مع الواو والفاء؛ لكونها على أكثر من حرف واحد، فكأنّها منفصلةٌ ممّا بعدها، فلذلك كان أكثرُ القُرّاء على التحريك من قوله تعالى: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} (¬5)،؛ فأمّا قوله: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا} (¬6)، وقوله تعالى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} (¬7)، فإنّ هذه لامُ الأمر، وأصلُها الكسر. يدلّ على ذلك أنّك إذا ابتدأت فقلت: "لِيَقُمْ زيدٌ"، كسرتَها لا غيرُ، فإذا ألحقتَ الكلامَ الذي فيه اللامُ الواوَ والفاء، جاز إسكانُها. فمَن أسكن مع الفاء أو الواو؛ فلأنّ الواو والفاء يصيران كشيء من نفس الكلمة، نحو: "كَتْف", لأنّ كلّ واحد منهما لا ينفرد بنفسه فصار بمنزلة "كتف". فإن جئتَ بـ "ثمَّ" مكانَ الفاء أو الواو، لم تسكن؛ لأنّ "ثُمَّ" ينفصل بنفسه، ويُسْكَت عليه، ومن قال: {ثمَّ لْيَقْضُوا} (¬8) بإسكان اللام، فإنّه شبّه الميمَ الثانيةَ من "ثُمَّ" بالفاء والواو، ¬
وجعل {ثُمَّ ليَقضواْ} بمنزلةِ "فلْيقضوا". وهذا كقولهم: "أراك مُنْتفْخًا"، والمراد: "مُنْتَفْخًا"، فشبّه "تَفِخًا" من "منتفخًا" بـ"كََتِْفٍ"، فأسكن الفاء. ومثله قوله [من الرجز]: 1259 - فَبَاتَ مُنْتَصْبًا وما تَكَرْدَسا فالإسكان في هذا كلّه إنّما هو أمرٌ عارضٌ لضرب من التخفيف، فلا يُعتدّ به بناءً، فاعرفه. ¬
زيادة الحروف
ومن أصناف المشترك زيادةُ الحروف فصل [تعداد حروف الزيادة] قال صاحب الكتاب: يشترك فيها الاسم والفعل, والحروف الزوائد هي التي يشملها قولك: "اليوم تنساه"، أو أتاه سليمان، أو سألتمونيها، أو السمان هويت. ومعنى كونها زوائد أن كل حرف وقع زائداً في كلمة فإنه منها لا إنها تقع أبداً زوائد. ولقد أسلفت في قسمي الأسماء والأفعال عند ذكر الأبنية المزيد فيها نبذاً من القول في الحروف، واذكر ههنا ما يميز به بين مواقع أصالتها ومواقع زيادتها. * * * قال الشارح: اعلم أنّ زيادة الحروف ممّا يشترك فيه الاسم والفعل؛ وأمّا الحروف فلا يكون فيها زيادةٌ؛ لأنّ الزيادة ضربٌ من التصرّف، ولا يكون ذلك في الحروف. فلمّا كانت الأسماء والأفعال تشترك في ذلك، ذكرها في المشترك. ومعنى الزيادة إلحاقُ الكلمة من الحروف ما ليس منها، إمّا لإفادة معنى، كألِف "ضاربٍ"، وواو"مضروب"، وإمّا لضرب من التوسّع في اللغة، نحو ألف "حِمارِ"، وواو"عَمود"، وياء "سَعِيدٍ". وحروف الزيادة عشرةٌ، وهي: الهمزة، والألف، والهاء، والياء، والنون، والتاء، والسين، والميم، والواو، واللام، ويجمعها "اليوم تنساه"، وكذلك "سألتمونيها"، ومثلُ ذلك: "السمان هويت". ويُحكى أنّ أبا العبّاس سأل أبا عثمان عن حروف الزيادة، فأنشده [من المتقارب]: هَوِيتُ السِّمانَ فَشَيَّبْنَنِي ... وقد كُنْتُ قِدْمًا هَوِيتُ السِّمانَا (¬1) فقال له: الجوابَ؟ فقال قد أجَبتُك مرّتين، يعني: "هويت السمان". وإنّما قال صاحب الكتاب: "السمان هويت"، فقدّم "السمان"؛ لئلّا تسقط الهمزة في الدرج، فتنقص عدّةُ حروف الزيادة. فأمّا إذا ابتدأ بها فإنّ الهمزة ثابتةٌ. وأمّا "وأتاه سُلَيْمانُ"، ¬
فلا يحسن؛ لأنّ فيه تكرارَ الألف مرّتين. وقالوا أيضاً: "أسلمني وتاهَ". وقالوا: "الموتُ يَنساهُ". وليس المراد من قولنا: "حروف الزيادة" أنّها تكون زائدة لا محالةَ؛ لأنهّا قد تُوجد زائدةً، وغيرَ زائدة، وإنما المراد أنّه إذا احتيج إلى زيادةِ حرف لغرض، لم يكن إلّا من هذه العشرة. وأصلُ الحروف الزيادة حروف المدّ واللين التي هي الواو والياء والألف، وذلك لأنّها أخفُّ الحروف، إذ كانت أوسعَها مَخْرجًا، وأقلّها كُلْفَةً. وأمّا قول النحويّين: إِنّ الواو والياء ثقيلتان، فبالنسبة إلى الألف؛ وأمّا بالنسبة إلى غيرها من الحروف فخفيفتان. وأيضًا فإنّها مأنوسٌ بزيادتها، إذ كلُّ كلمة لا تخلو منها، أو من بعضها. ألا ترى أنّ كلّ كلمة إن خلت من أحد هذه الحروف، فلن تخلو من حركة: إمّا فتحةٍ، وإمّا ضمّةٍ، وإمّا كسرةٍ؟ والحركاتُ أبعاضُ هذه الحروف، وهي زوائدُ لا محالةَ، فلمّا احتيج إلى حروف يزيدونها في كلمهم لأغراض لهم، كانت هذه الحروف أَوْلى، إذ لو زادوا غيرَها, لم تُؤمَن نَفْرَةُ الطَّبع والاستيحاشُ من زيادته، إذ لم تكن زيادته مألوفةٌ. وغيرُ حروف المدّ من حروف الزيادة مشَبَّهٌ بها، ومحمولٌ عليها. فمن ذلك الهمزةُ، فإنّها تُشْبِه حروف المدّ واللين من حيث إنّها بصورتها، ويدخلها التغييرُ بالبدل والحذف، وهي مُجاوِرةُ الألف في المَخرج. فلمّا اجتمع فيها ما ذُكر من شَبَه حروف المدّ واللين اجتمعت معها في الزيادة. وأمّا الميم، فمُشابِهٌ للواو؛ لأنّهما من مَخرج واحد، وهو الشفة، وفيها غُنَّةٌ تمتدّ إلى الخيشوم، فناسبت بغُنّتها لين حروف اللِين. وأمّا النون، ففيها أيضًا غنّةٌ، ومخرجُها إذا كانت ساكنة من الخيشوم، بدليلِ أنّ الماسك إذا مسك أنفَه لم يمكنه النطقُ بها, وليس لها فيه مخرجٌ معيِّنٌ، بل تمتدّ في الخيشوم امتدادَ الألف في الحلق، ولذلك حذفوها لالتقاء الساكنين من قوله [من الطويل]: 1260 - [فَلَسْتُ بآتِيه ولا أستَطِيعُه] ... ولاكِ اسقِني إنْ كان ماؤكَ ذا فَضْلِ ¬
كما يحذفون حروف المدّ واللين من نحو "رَمى القوم"، و"تُعْطِي ابنَك". فلمّا أشبهتها فيما ذكرناه شركتها في الزيادة. فأمّا التاء، فمُشبِهةٌ حروفَ المدّ واللين أيضاً؛ لأنّها حرفٌ مهموسٌ، فناسب هَمسُها لينَ حروف المدّ واللين. ومخرجُها من رأس اللسان وأصولِ الثَّنايا، وهو قريبٌ من مخرج النون، وقد أُبدلت من الواو في "تَالله"، و"تُراثٍ"، و"تُجاهٍ"، و"تُكَأَةٍ"، و"تُخَمَةٍ"، كلُّ ذلك من الواو في "وَالله"، و"الوِراثة"، و"الوَجه"، و"تَوَكأتُ"، و"الوَخامة"، ومن الياء في "ثِنتَين"، و"كَيتَ"، و"ذيتَ". فلمَّا تُصُرّف فيها هذا التصرّفَ، وأُبْدِلت هذا الإبدال، أَتَت مع حروف المدّ واللين في الزيادة. وأمّا الهاء، فحرفٌ خفيّ مهموسٌ، فناسبت بهَمْسها وخفائها لينَ حروف المدّ واللين. وهي من مخرج الألف، كيف وأبو الحسن يدّعي أن مخرج الألف هو مخرجُ الهاء ألبتّة. وقد أُبدلت من الواو في "يا هَنَاه"، ومن الياء في "هذِه". فلمّا وُجد فيها ما ذُكر من شَبَه حروف المدّ واللين، وافقتها في الزيادة. وقد أخرجها أبو العبّاس من حروف الزيادة، واحتجّ بأنّها لم تزد إلّا في الوقف من نحو: "ارْمِهْ"، و"اغزُه"، و"اخْشَهْ". قال: فلا أعُدّها مع الحروف التي كثُرت زيادتُها. والصوابُ الأوّلُ، وهو رأيُ سيبويه، لأنّها قد زيدت فيما ذُكر، وفي غيره على ما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأمّا السين، فهو حرف مُنسَلّ مهموسٌ، يخرج من طرف اللسان وبين الثنايا، قريبٌ من التاء. ولتقارُبهما في المخرج واتّفاقِهما في الهمس، تَبادلا، فقالوا: "استَخَذَ فلانٌ أرضًا"، وأصله: "اتَّخَذَ"، وقالوا: "سِتٌّ"، وأصلُه: "سِدْسٌ". فلمَّا كان بينهما من القرب والتناسب ما ذُكر، زيدت معها. ¬
فصل [زيادة الهمزة]
وأمّا اللام، فإنه - وإن كان مجهورًا - فهو يشبه النونَ، وقرب منه في المخرج، ولذلك يُدّغم فيه النونُ، نحو قوله: {مِنْ لَدُنْهُ} (¬1). وَقد يحذفون معها نونَ الوقاية، كما يحذفونها مع مثلها، قالوا: "لَعَلِّي" كما قالوا: "إنّي"، و"كَأنِّي". وقد أُبدلت من النون في قوله [من البسيط]: وَقَفْتُ فيها أُصَيلالاً (¬2) والمراد: أصيلانًا. فلمَّا كان بينهما ما ذُكر، كانت أُختها في الزيادة. وقوله: "ومعنى كونها زوائد أنّ كلّ حرف وقع زائدًا في كلمة فإنّه منها"، يريد لا يتوهّمْ متوهم أنّ معنى كونها زوائدَ أنّها تقع زوائدَ حيث كانت لا محالةَ، هذا محالٌ. ألا ترى أنّ حروف "أوى" كلَّها أصولٌ، وإن كانت قد تكون زوائد في موضع آخر؟ وإنّما المراد بقولهم: "زوائد" أنّه إذا احتيج إلى زيادة حرف لغرضٍ، لم يكن إلَّا من هذه الحروف، لا أنّها تكون زائدة في كلّ مكان. واعلم أنّ الزيادة على ثلاثة أضرب: زيادةُ معنى، وزيادةُ إلحاق بناء ببناءٍ، وزيادةُ بناء فقط لا يراد بها شيء ممّا تقدّم. فأمّا ما زيد لمعنى، فنحو ألف "فاعلٍ"، نحو: "ضاربٍ"، و"عالمٍ"، ونحو حروف المضارعة يختلف اللفظ بها لاختلاف المعنى. وأمّا زيادةُ إلحاق، فنحو الواو في "كَوثَرٍ"، و"جَوْهَرٍ" ألحقت الواوُ الكلمةَ بـ "جَعْفَرٍ"، و"دَحْرَجَ"، ونحو الياء في "حِذيَمٍ"، و"عِثْيَرٍ" ألحقتها بـ "دِرْهمٍ"، و"هِجْرَعٍ". وأمّا زيادة البناء فقط، فنحو ألف "حِمارٍ"، وواو "عَجوزٍ"، وياء "سَعِيدٍ". وقد تقدّم الكلام على جُمْهور زيادة هذه الحروف ومواضعها في قسمَي الأسماء والأفعال عند ذكر الأبنية المزيد فيها، والذي يختصّ بهذا الموضع ما يُميَّز به الأصلُ من الزائد، فاعرفه. فصل [زيادة الهمزة] قال صاحب الكتاب: فالهمزة يحكم بزيادتها إذا وقعت أولاً بعدها ثلاثة أحرف أصول كأرنب وأكرم، إلا إذا اعترض ما يقتضي أصالتها كإمعة (¬3) وإمرة (¬4)، أو تجويز الأمرين كأولق. وبأصالتها إذا وقع بعدها حرفان أو أربعة أصول كإتب وإزار وإصطبل وإصطخر (¬5)، أو وقعت غير أول, ولم ¬
يعرض ما يوجب زيادتها في نحو: "شمألٍ", و"نئدل" و"جُرائض" و"ضهيأة". * * * قال الشارح: قد أخذ في بيان مواضع زيادة هذه الحروف، والفصلِ بين الأصل والزائد منها، وبدأ بالهمزة، وذكر رابطًا أتى فيه على أمرها. فإذا وقعت أوّلاً، وبعدها ثلاثةُ أحرف أصول، فاقْض بزيادتها هناك، سواءٌ في ذلك الأسماء والأفعالُ، كـ"أَحْمَرَ"، و"أَصْفَرَ"، و"أَرْنَب"، و"أَفْكَل"، و"أَذْهَبُ"، و"أَجْلِسُ". الهمزةُ في ذلك كلّه زائدةٌ، وذلك لغَلَبَة زيادتها أوّلاً، وكثرتها فيما عُرف اشتقاقه، وذلك نحو: "أحْمَرَ"، و"أَصْفَرَ"، و"أَخضَرَ"، و"أَذهبُ"، و"أَجْلِسُ"، و "إِجفِيلٍ"، وهو الظَّليم يهرب من كلّ شيء، و"إِخريطٍ" وهو ضربٌ من الحَمْض. ألا ترى أنّ الاشتقاق يقضي بزيادتها في ذلك كلّه؛ لأنه من الحُمْرة، والصُّفْرة، والخُضْرة، والجَفْل، والخَرْط؟ فلمّا كثُرت زيادتها أوّلاً في بنات الثلاثة، وغلبتْ فيما ظهر بالاشتقاق، وعُلم أمرُه، قُضي بزيادتها فيما أبهمَ من ذلك القبيل، نحو: "أَرْنَبٍ"، و"أَفْكَلٍ" للرِّعْدة، و"أَيدَعٍ" (¬1)، و"إبلِمة" (¬2)، و"إِصْبَعٍ" حملاً على الأكثر، وهو من حَمْل المجهول على المعلوم مع ما في الحكم بذلك من تحصيل البناء المعتدِل، وهو الثلاثيُّ، فكذلك حكم زيادة الهمزة في ذلك كلّه. فعلى هذا لو سمّيتَ بـ "أَفْكَلٍ" (¬3) و"أرمَلٍ"، لم تصرفهما؛ لأنّه لمّا قُضي بزيادة الهمزة في المجهول، صار حكمه حكمَ المشتقّ، وحكمتَ أنّ له أصلاً في الثلاثيّ أُخذ منه، وإن لم يُنْطَق به. فإن كان مع الهمزة ما يجوز أن يكون زائدًا، نحو: "أَيدَعٍ"، و"أَيْصَرٍ"، لم يُقْضَ بزيادة الهمزة فيه إلَّا بثَبَتٍ، وذلك أنّ الهمزة من حروف الزيادة، والياء كذلك، إلَّا أنّ الحكم بزيادة الهمزة هو الوجه لغلبة زيادة الهمزة أولاً على زيادة الياء ثانيًا، فكانت الهمزة في "أيدع" زائدةً لِما ذكرناه؛ ولأنّهم قالوا: "يَدَّعْتُهُ تَيدِيعًا". وهذا ثَبَتٌ في زيادة الهمزة. وأمّا "أَيصَرٌ"، فلو خُلِّينا والقياسَ، لكانت زائدة لغلبة الهمزة أوّلاً، لكنّهم قالوا في الجمع: " إصارٌ". قال الشاعر [من المتقارب]: 1261 - [فهذا يُعِدُّ لَهُنَّ الخَلى] ... وُيجْمَعُ ذا بينهنّ الإصارا ¬
فسقوط الياء دليلٌ أنّها زائدة؛ وأمّا "إِمَّعَةٌ"، و"إِمَّرَةٌ"، فالهمزة فيهما أصلٌ. ليس في الصفات مثلُ "إفْعَلَة"، مع أنّا لو حكمنا بزيادة الهمزة فيهما، لكانت الكلمةُ من باب "كَوْكَبٍ"، و"دَدَنٍ" (¬1)، وهو قليل. وليس العملُ عليه، فـ "إمَّعة" من الصفات، وكذلك "إِمَّرَةٌ" كأنّه من لفظ الأمْرِ. وأمّا "أَوْلَقٌ"، وهو ضربٌ من الجُنون، فالهمزة فيه أصلٌ؛ لقولهم: "أُلِقَ الرجل، فهو مَأْلُوقٌ". وهذا ثبتٌ في كون الهمزة أصلاً، والواوِ زائدةً، ووزنه إذاً "فَوْعَلٌ" كـ "جَوْهر"، فلو سمّيت به رجلاً، انصرف. هذا مذهبُ سيبويه (¬2)، والشاهدُ في "مألوق". فأمّا "أُلِقَ" فيحتمل أن تكون الهمزة أصلُها الواوُ، وإنّما قُلبت همزةً لانضمامها، كما قالوا: "وُجُوهٌ" و"أُجُوهٌ". ويجوز أن يكون "أَوْلَق" أَفْعَلَ من "وَلَقَ" إذا أَسْرَعَ، ومنه قوله تعالى: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} (¬3). ومنه قول الشاعر [من الرجز]: 1262 - جاءَت به عَنْسٌ من الشأمِ تَلِقْ ¬
فهو على هذا "أَفْعَلُ"، والهمزةُ زائدة، والواو أصلٌ. فلو سُمّي به رجلٌ، لم ينصرف. ويكون هذا الأصلُ غيرَ ذلك الأصل، كما قلنا في "حَسّان" ونظائره: إن أخذتَه من الحسن صرفته، وإن أخذته من الحسّ لم تصرفه، مع أنّهم قد قالوا: "الوَلَقَى" و"الألقَى" للكَرّة السريعة. وهذا يدلّ أنّ الفاء منه تكون مرّة همزةً، ومرّة واوًا على حدِّ "أَوْصَدتُ البابَ، وآصَدتُه". فأمّا إذا كان بعدها حرفان، كـ"إتْبٍ" وهو القميص بلا كُمَّيْن، و"إزارٍ"، أو أربعةُ أحرف كـ"إِصطبل"، و"إِصْطَخر"، فالهمزةُ في ذلك كلّه أصلٌ، فمثالُ "إِتْبٍ": "فِعْلٌ"، "كعِدْلٍ" و"حِمْلٍ"، ومثالُ "إِزَارٍ": "فِعالٌ" "كحِمارٍ"، فالألفُ فيه زائدة؛ لقولك: "إزْرٌ"، فالهمزةُ فيه أصلٌ؛ لأنّه لا يُحْكَم بزيادة الهمزة إلَّا إذا كان بعدها ما يمكن أن يكون اسمًا ظاهرًا، وأقلُّ ذلك الثلاثةُ. فلذلك كانت الهمزة في "إِتبٍ" أصلاً، وفي "أَرْنَبٍ" زائدة، وفي "أَخَذَ" أصلاً، وفي "أَكْرَمَ" زائدة. فأمّا "إِصْطَبلٌ"، فمثالُ الكلمة بها على "فِعْلَلّ"، ونظيرُها "جرْدَحْل" (¬1) من قِبَل أنّا إنّما قضينا بزيادة الهمزة في أوّل بنات الثلاثة لكثرةِ ما جاء من ذلك على ما شهد به الاشتقاقُ، ثمّ حُمل غير المشتقّ عليه. فأمّا إذا كانت الهمزة في أوّل بنات الأربعة فإنّه لم تثبت زيادتُها فيه باشتقاق ولا غيره، فلذلك لم يُقْضَ بزيادتها إذا جُهل أمرها، إذ الأصلُ عدمُ الزيادة، فكانت أصلاً لذلك، وكانت الكلمة بها خُماسيّةً. فـ "إصطبلٌ" الصادُ فيه والطاء والباء واللامُ أصولٌ، وكذلك "إصطخرُ" الصاد والطاء والخاء والراء كلها أصولٌ. وإذا كان كذلك، كانت الهمزة في أوّلها أصلاً أيضاً، ووزنُهما "فِعْلَلٌّ" على ما ذكرنا، كـ"قِرْطَعنٍ" (¬2) و"جِرْدَحْلٍ". ومن ذلك "إبْرَاهيمُ" و"إِسْمَاعيلُ" الهمزةُ فيهما أصلٌ، ووزنُهما "فِعْلَالِيلٌ"؛ لأنّ الباء من "إبراهيم" والراء والهاء والميم أصولٌ، وكذلك السين في "إسماعيل" والميم والعين واللام كلّها أصولٌ. وإذا كان كذلك، كانت الهمزة في أوّلهما أصلاً كذلك، والألفُ والياء فيهما زائدان؛ لأنّهما لا يكونان أصلَيْن في بنات الثلاثة فصاعدًا. وإنّما لم تزد الهمزة في أوّل بنات الأربعة لقلّة تصرُّف الأربعة، وكثرةِ تصرُّف الثلاثة. وإنّما قلّ التصرّفُ في الرباعيّ لقلّته في الكلام. وإذا لم تكثر الكلمةُ لم يكثر التصرّفُ فيها. ألا ترى أنّ كلّ مثال من أمثلة الثلاثيّ له أبنيةٌ كثيرةٌ للقلّة والكثرةِ، وليس للرباعيّ إلّا مثالٌ واحدٌ، وهو "فَعَالِلُ" القليلُ والكثيرُ فيه سواءٌ. ولم يكن للخماسيّ مثالٌ للتكسير ¬
لانحطاطه عن درجة الرباعيّ في التصرّف، وإنّما هو محمولٌ على الرباعيّ، نحو: "فَرازِدَ" (¬1)، و"سَفارجَ" (¬2)، "كجَعافِرَ". وممّا يدلّ على ما قلناه من كثرة تصرُّفهم في الثلاثيّ أنّهم قد بلغوا ببناتِ الثلاثة بالزيادة سبعةَ أحرف، نحو: "اشهِيبابٍ"، و"احْميرارٍ"، فزيد على الأصل أربعٌ زوائدُ، ولم يُزَد على الأربعة إلّا ثلاث زوائد، نحو: "احْرِنْجامٍ" (¬3)، ولم يزد على الخماسيّ أكثرُ من زيادة واحدة، نحو: "عَضْرَفُوطٍ" (¬4)، فعُرفت بذلك كثرةُ تصرُّفهم في الثلاثيّ، وقلّتُه في الرباعيّ والخماسيّ. فلذلك قلّت زيادةُ الهمزة في أوّل بنات الأربعة، وكثُرت في أوّل بنات الثلاثة, فلذلك قُضي بزيادة الياء في نحو "يَعْقُوبَ"؛ لأنّها في أوّل بنات الثلاثة؛ لأنّ الواو زائدة، وقُضي بأصالتها في نحو "يَسْتعُور"، وهو موضع، لكونها في أوّل بنات الأربعة. فأمّا إذا وقعت الهمزة غيرَ أوّل، فإنّه لا يُقضَى عليها بالزيادة إلَّا بدليل. فإن لم تقم دلالةٌ على ذلك، كانت أصلاً، وذلك لقلّة زيادتها غير أوّل، والأصلُ عدمُ الزيادة، فلذلك لم يُحْكَم عليها إذا لم تكن أوّلاً بالزيادة إلَّا بثبتٍ، فعلى هذا الهمزةُ في قولهم: "شَأمَلٌ" و"شَمْأَلٌ" للريح زائدةٌ؛ لقولهم: "شَمَلَتِ الريحُ" من "الشَّمال". ولولا ما ورد من السَّماع، لكانت أصلاً. وكذلك الهمزة في "النِّئْدُلان" - وهو الكابوس - زائدةٌ؛ لقولهم فيه: "النيدُلَان" بالياء، وضمِّ الدال. فسقوطُ الهمزة في ذلك دليلٌ على زيادتها. وقالوا: "جُرائِضٌ" بالهمز، وهو البعير الضخم، الهمزةُ فيه زائدةٌ؛ لقولهم في معناه: "جملٌ جِرْواضٌ"، أي: شديد. فسقوطُ الهمزة من "جِرْواض"، وهو من معناه ولفظِه دليلٌ على زيادتها في "جُرائِض"، ووزنُه إذاً: "فُعائِلُ"، ويجوز أن يكون من الجَرَض، وهو الغَصص، كأنّه يُجرَض به كلُّ أحد لثقله. ومنه المثلُ، قيل: "حال الجريض دون القريض" (¬5)، وقيل: الجرائضُ: المُشْفِقَةُ على ولدها، كأنّها تجرَض لفرط الإشفاق. ¬
فصل [زيادة الألف]
وقالوا: "ضَهْيَأَةٌ"، وهي التي لا تحيض، وهمزتُه زائدة؛ لقولهم: "امرأة ضَهْيَا" من غير همزة. وهذا استدلالٌ صحيحٌ, لأنّ المعاني متقاربةٌ، وكذلك اللفظُ. قال سيبويه (¬1): فإن لم تَستدلّ بهذا النحو من الاستدلال، دخل عليك أن تقول "أَوْلَقٌ" من لفظ آخر، يريد أنّه كانت تبطل فائدةُ الاشتقاق، ويلزم من ذلك أن تكون كلّ كلمة قائمةً بنفسها. وليس الأمر كذلك. وقالوا: "زِئْبِرٌ" بالكسر، وهو ما يعلو الثوبَ الجديدَ، مثلُ ما يعلو الخَزَّ والفَرْخَ حينما يخرج من البَيْض. وكذلك "ضِئبِلٌ": الداهيةُ. قالوا: الهمزةُ في ذلك كلّه أصلٌ لعدمِ ما يخالف الظاهرَ، وقد قال بعضهم: "زِئبِرٌ"، و"زِئْبُرٌ" بالكسر والضمّ، وكذلك "ضِئبِلٌ" و"ضِئْبُلٌ" بالكسر والضم فإن صحت الرواية, فالهمزة زائدة؛ لأنه ليس في كلامهم مثل "زِبْرُجٍ" بالضم. وكذلك قالوا: "جُؤْذَرٌ" (¬2). وقد حكى الجوهريّ (¬3): "جُؤْذَرٌ"، و"جُؤْذُرٌ" بالفتح والضمّ، فكلُّ هذا الهمزةُ فيه زائدة؛ لأنّها زائدة في لغةِ من فتح، إذ ليس في الأصل مثلُ "جُعْفَر" بفتح الفاء وضمّ الجيم. وإذا ثبتت زيادتُها في هذه اللغة، كانت زائدة في اللغة الأخرى؛ لأنّها لا تكون زائدة في لغة، أصلاً في لغة أخرى، هذا محالٌ. فأمّا "بُرائِلُ" الديكِ، فهي أصلٌ لا محالةَ. فصل [زيادة الألف] قال صاحب الكتاب: والألف لا تزاد أولاً؛ لامتناع الابتداء بها, وهي غير أول إذا كان معها ثلاثة أحرف أصول فصاعداً, لا تقع إلا زائدة, كقولهم "خاتم", و"كتاب", و"حبلى" وسرادح (¬4) , و"حلبلاب" (¬5) , ولا تقع للإلحاق إلا آخراً في نحو "معزى", وهي في "قبعثرى" (¬6) كنحو ألف "كتاب" لإنافتها على الغاية. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الألف لا تزاد أوّلاً، وذلك من قِبَل أنّها لا تكون إلَّا ساكنةً تابعةً للفتحة، والساكنُ لا يمكن الابتداء به، فلذلك رُفض الابتداء بها. وتزاد ثانيًا وثالثًا ¬
ورابعًا وخامسًا وسادسًا. فمثالُ زيادتها ثانيًا: "ضارب"، و"حامِل"، و"ضَارَبَ"، و"قاتل"، وثالثًا: "كِتاب"، و"غُراب"، و"الشهابَّ"، و"ادْهَامَّ"، ورابعًا نحو: "قِرْطاس" و"مِفْتاح"، "وأرطى" و"مِغزى"، و"حُبْلَى". وخامسًا في "دَلَنْظًى" (¬1)، و"قَرْقَوَى" (¬2)، و"حِلِبلابٍ" وهو نبتٌ، وسادسًا في نحو: "قَبَعْثَرَى"، و "كمَّثْرَى". وزيادتُها حشوًا إنّما تكون لإطَالة الكلمة، وتكثير بنائها, ولا تكون للإلحاق، فلا يقال: "كتابٌ" ملحقٌ بـ "دِمَقْسٍ"، و"عُذافِرٌ" (¬3) ملحقٌ بـ "قُذَعْمِل" (¬4)؛ لأنّ حرف العلّة إذا وقع حشوًا وقبله حركةٌ من جنسه، نحو واو "عَجوزٍ"، وياء "سَعيد"، جرى مجرى الحركة والمدّةِ، ولا يُلْحِق بناءً ببناء، إنّما الملحقُ ما لم يكن للمدّ. فإن كانت الألف طرفًا، جاز أَنْ تكون للإلحاق، نحو: "سَلْقَى" (¬5)، و"جَعْبَى" (¬6). واعلم أنّ الألف تزاد آخِرًا على ثلاثة أضرب: للإلحاق، والتأنيث، وزائدةً كزيادتها حشوًا. فالأوَّلُ نحو: "أَرْطى"، و"مِعْزَى"، ألحقتهما الألفُ بـ "جَعْفَرٍ"، و"دِرْهَمٍ". والذي يدلّ على زيادة الألف في "أرطى" قولهم: "أَدِيمٌ مأْروطٌ"، إذا دُبغ بالأرطىَ، فسقوطُ الألف في "مأروط" دليلٌ على زيادتها. وقولُهم: "مَعْزٌ"، و"مَعِيزٌ" دليلٌ على زيادة الألف في "مِغزى". وقوله هم: "أَرْطى"، و"معْزًى" بالتنوين يدلّ أنّها ليست للتأنيث، إذ ألفُ التأنيث تمنع الصرفَ، فلا يدخلها تنوينٌ، نحو: "حُبْلى"، و"سَكرى". ومع ذلك فقد سُمع عنهم "أرطاة" بإلحاق تاء التأنيث، ولو كانت للتأنيث، لم يدخلها تأنيثٌ آخَرُ، فيُجْمَعَ بين علامتَي التأنيث. وممّا يدلّ أنّ الألف في "مِعْزى" ليست للتأنيث تذكيرُهم إيّاها، نحو قول الشاعر [من من الهزج]: ومِعْزى هَدِبًا يَعْلُو ... قِرانَ الأَرْضِ سُودانا (¬7) ووصفْهم إيّاه بالمذكّر يدلّ أنّه مذكّرٌ. ولو كانت الألف للتأنيث لكان مؤنثًا، فثبت بِما ذكرناه أنها زائدة لغير معنى التأنيث، وكان حملُها على الإلحاق أولى من حملها على غير الإلحاق؛ لأنّ الإلحاق معنى مقصودٌ، وإن كانا جميعًا شيئاً واحداً. ألا ترى أنّ معنى الإلحاق تكثيرُ الكلمة وتطويلها؟ فإذَا كلُّ إلحاق تكثيرٌ، وليس كلُّ تكثير إلحاقًا. وأمّا الثاني، وهو الزيادة للتأنيث، فنحو ألف "حُبْلى"، و"سَكرى"، و"جُمَادى", ¬
فصل [زيادة الياء]
الألفُ ها هنا زائدةٌ للتأنيث. والذي يدلّ على زيادتها الاشتقاقُ، ألا ترى أنّ "حبلى" من "الحَبَل"، و"سكرى" من "السكر"، و"جُمادى" من "الجَمْد". والذي يدلّ على أنّها للتأنيث امتناعُ التنوين من الدخول عليها في حال تنكيرها, ولو كانت لغير التأنيث، لكانت منصرفة. الثالث: إلحاقُها زائدةً كزيادتها حَشْوًا، نحو: "قَبَعْثَرَى"، للعظيم الخَلْقِ، و"كُمَّثْرى"، و"باقِلَّى"، و"سُمَانى" لضرب من الطير، الألفُ في جميع ذلك زائدة؛ لأنّها لا تكون مع ثلاثة أحرف أصول فصاعدًا إلّا زائدةً، وليست للتأنيث لانصرافها، مع أنّه قد حُكى: "بَاقِّلاةٌ"، و"سُماناةٌ"، وهذا ثَبَتٌ؛ لأنّها ليست للتأنيث، ولا تكون للإلحاقِ؛ لأنّه ليس في الأصول ما هو على هذه العدّة والزنةِ، فيكون هذا ملحقًا به؛ وإذا لم تكن للتأنيث، ولا للإلحاق، كانت زائدة لتكثير الكلمة، وإتمام بنائها. وهذا معنى قوله: "لإنافتها على الغاية"، يريد أن "قَبَعْثَرًى"، و"كُمَّثْرًى" الألفُ فيهما سادسة، وغايةُ ما يكون عليه الأسماءُ الأصولُ خمسةُ أحرف، فلم يكن في الأصول ما هو على هذه العدّة، فيُلْحَقَ به، فهي إذاً كألف "كتاب" و"حِمار" للتكثير, فاعرفه. فصل [زيادة الياء] قال صاحب الكتاب: والياء إذا حصلت معها ثلاثة أحرف أصول فهي زائدة أينما وقعت كيلمع (¬1) , ويهير, ويضرب, وعثير (¬2) وزبنية، إلا في نحو يأجج ومريم ومدين وصيصية (¬3) وقوقيت. وإذا حصلت معها أربعة فإن كانت أولاً فهي أصل كيستعور، وإلا فهي زائدة كسلحفية. * * * قال الشارح: أمرُ الياء كأمر الألف: متى حصلت مع ثلاثة أحرف أصول، فلا تكون إلّا زائدة، عرفتَ اشتقاقَه أو لم تعرفه، وذلك نحو: "كَثِير"، و"عَقِيلٍ". وإنّما قلنا ذلك لكثرةِ ما عُلم منه الاشتقاقُ على ما ذكرنا على الألف. وقوله: "أَيْنَمَا كانت"، يريد أنها تقع زائدةً مع بنات الثلاثة سواء كانت أوّلاً أو حشوًا أو آخرًا بخلاف الألف والواو. وأمّا الألف فلأجل سكونها وعدم جواز الحركة فيها، وأمّا الواو فلِما سنذكره من أمرها. فمثالُ زيادتها أولاً قولُك: "يَرْمَعٌ"، وهي ¬
حجارةٌ صغارٌ. و"يَلمَعٌ" وهو السَّراب. قال الشاعر [من الطويل]: 1263 - إذا ما شَكَوْت الحُبَّ كَيما تُثِيبَني ... بوُدّيَ قالت إنّما أَنْتَ يلْمَعُ و"يَلْمَقٌ" للقباء، وهو فارسيٌّ معرَّبٌ. و"يَهْيَرٌّ" -وهو حجر - إحدى الياءين فيه زائدة، وهي الأولى؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن يكونا أصلين، أو زائدين، أو أحدهما أصلٌ والآخر زائدٌ، فلا يكونان أصلين, لأنّ الياء لا تكون أصلاً مع بنات الثلاثة في غير المضاعف. ولا يكونان زائدين؛ لأنّ الاسم لا يكون على حرفين. ولا تكون الياء الثانية هي المزيدة؛ لأنّها ليس في الكلام "فَعْيَلٌ" بفتح الفاء، وفيه "فِعْيَلٌ" بكسره. فلو كانت زائدة، لقيل: "يهْيَرٌ" بكسر الصدر، كما قيل: "عِثيَرٌ"، و"حِذيَمٌ"، فإذا تَعيّن أن تكون الأولى هي المزيدة. وقالوا في الفعل "يَقْعُدُ"، و"يَضرِبُ". وثانيةً في نحو "خيفَقٍ"، وهو صفةٌ، يقال: "فلاةٌ خيفقٌ"، أي: واسعةٌ، و"صَيْرَفٌ"، و"ضَيْغَمٌ"، وهو من أسماء الأسد. وثالثةً، نحو: "سَعِيدٍ"، و"قَضِيبٍ". ورابعة، نحو: "زِبْنِيَةٍ" لواحد الزَّبانِيَةِ، و"دِهْلِيزٌ"، و"قِنْدِيلٌ"، و"عَنْتَرِيسٌ" للناقة الشديدة. وخامسةً في "سُلَحْفِيَةٍ". وسادسةً في تصغير "عَنْكَبُوتٍ" وتكسيره، نحو: "عُنَيْكِبِيتٍ"، و"عَناكِبيتَ" فيما حكاه الأصمعيّ. فتعلم زيادةَ الياء في ذلك كلّه, لأنّها لا تكون أصلاً في بنات الثلاثة فصاعدًا. فأمّا "يَأجَج"، وهو اسمُ مكان، فالياء في أوّله أصلٌ. يدلّ على ذلك إظهارُ ¬
التضعيف. ولو كانت الياء زائدة، لكان من "أجَّ يأجّ"، وكان يجب الادّغامُ، وأن تقول: "يَؤُجُّ"، كما تقول: "يَغُصُّ"، و"يَغُضُّ". فلمّا لم يدّغموا، دلّ أنّ الجيم الأخيرة زائدةٌ للإلحاق بمثال "جَعْفَرٍ". فلذلك لم يدّغموا، إذ لو ادّغموا، لبطل الغرضُ، وزالت المُوازَنة. وبعضُ المحدثين ربّما كسر الجيم، وقال: "يَأجِج". فإن صحّ ما رواه، كانت الياء زائدة؛ لأنّه ليس في الكلام "جَعْفِرٌ" بكسر الفاء، ويكون إظهارُ التضعيف شاذًّا من قبيل "محببٍ". وأمّا "مَرْيَمُ"، و"مَدْيَنُ"، فإنّ الميم فيهما زائدةُ، والياء أصلٌ، إذ ليس في الكلام "فَعْيَلٌ" بفتح الفاء. وكان يجب كسرُ الصدر منهما، فيقال: "مِرْيَمُ"، و"مِدْيَنُ" كـ"عِثيَرٍ"، وكان القياس فيهما قلبَ الياء ألفاً على حدّ "مَقالٍ"، و"مَقام"، لكنّه شذّ التصحيحُ فيهما، كما شذ في "مِكْوَرَةٍ". وإذا كان التصحيحُ قد جاء عنهم في نحو: "القَوَد"، كان في العَلم أسهل وأولى. وأمّا "صِيصِيَةٌ"، فإنّ الياءيْن فيها أصلٌ وإن كان معك ثلاثةُ أحرف أصول؛ لأنّ الكلمة مركبةٌ من "صِي" مرّتَين، فالياء الأولى أصلٌ؛ لئلا تبقى الكلمةُ على حرف واحد، وهو الصاد. وإذا كانت الياء الأولى أصلاً، كانت الياء الثانية أيضًا أصلاً؛ لأنّها هى الأولى كُرّرت. ومثلُه من الصحيح "زَلْزَل"، و"قَلْقَلَ". ومنه "الوَسْوَسَةُ"، و"الوَشوشَةُ". فالواو في ذلك أصلٌ؛ لأنّ الواو مكرّرةٌ، وتكريرُها هنا أوّلاً كتكريرها في "صي صي" أخيرًا. ومن ذلك "حاحَيْتُ"، و"عاعَيْتُ"، الياء فيهما أصلٌ، لأنّها الأولى كُرّرت، ووزنُهما "فَعْلَلْتُ"، والأصل "حَيْحَيْتُ"، و"عَيْعَيُتُ". وإنّما قُلبت الياء الأولى ألفًا للفتحة قبلها، كما قالوا في "يَيجَلُ": "يَاجَلُ". وكذلك "قَوْقَيْتُ"، و"ضَوْضَيْتُ"، فإنّ الياء الثانية فيهما أصلٌ؛ لأنّها الأُولى كرّرت، وأصلُهما: "قَوْقَوْتُ"، و"ضَوْضَوْتُ". وإنّما قلبوا الثانية منهما ياءً لوقوعها أربعةً على حدِّ "أَغْزَيْتُ"، و"أَدْعَيْتُ"، فإن قيل: فهلّا كانت زائدة على حدّ زيادتها في "سَلقَيْت", و"جَعْبَيْتُ", قيل: لو قيل ذلك، لصارت من بابِ "سَلِسَ"، و"قَلِقَ"، وهو قليل، وبابُ "زَلْزَلتُ" و"قَلْقَلْتُ" أكثرُ، والعمل إنّما هو على الأكثر. فإن قيل: فاجْعَلِ الواو فيهما زائدةً على حدِّ "صَوْمَعْتُ" و"حَوْقَلْت"، قيل: لو قيل ذلك، لصارت من باب "كَوْكَبٍ" و"دَدَنٍ" ممّا فاؤه وعينُه من واد واحد، وهو أقلُّ من "سلس"، و"قلق". * * * قال صاحب الكتاب: وإذا حصلت معها أربعة فإن كانت أولاً فهي أصل كيستعورٍ، وإلا فهي زائدة كسلحفية. * * *
فصل [زيادة الواو]
قال الشارح: حكمُ الياء كحكم الهمزة إذا وقعت في أوّلِ بنات الأربعة، فإنّه لا يُقْضَى عليها بالزيادة، ولا تكون إلّا أصلاً؛ لأنّ الزوائد لا يلحقن أوائلَ بنات الأربعة لقلّة التصرّف في الرباعيّ، وأن الزيادة أوّلاً لا تتمكّن تمكُّنها حشوًا وآخِرًا. ألا ترى أنّ الواو الواحدة لا تزاد أوّلاً ألبتّة، وتزاد حشوًا مضاعفةً وغيرَ مضاعفة؟ فالمضاعفةُ نحو: "كَرَوَّسٍ" (¬1)، و"عَصَوَّدٍ" (¬2) , و"اجْلَوَّذَ" (¬3)، و"اخْرَوَّطَ" (¬4) , وغيرُ المضاعفة نحو: واو "عجُوزٍ"، و"جُرمُوقٍ" (¬5). فلذلك قُضي على ياء "يستعور" وهو اسم مكان بأنّها أصلٌ، كما كانت الهمزة في "إِصْطَبْلٍ" كذلك, لأنّ حكم الهمزة كالياء إذا وقعت أوّلاً، والكلمةُ بها خماسيةٌ كـ"عَضرفُوطٍ"، فإن كان بعدها ثلاثةُ أحرف أصول، كانت زائدة كزيادة الهمزة في "أحْمر" , فاعرفه. فصل [زيادة الواو] قال صاحب الكتاب: والواو كالألف لا تزاد أولاً, وقولهم: ورنتلٌ كجحنفلٍ؛ وأما غير أول, فلا تكون إلا زائدة كعوسجٍ, وحوقل وقسور (¬6) ودهور وترقوة وعنفوان وقلنسوة, إلا إذا اعترض ما في عزويت. * * * قال الشارح: الواو كالألف لا تزاد أوّلاً، وذلك أنّها لو زيدت أوّلاً، لم تَخلُ من أن تزاد ساكنة أو متحرّكة، ولا يجوز أن تزاد ساكنة؛ لأن الساكن لا يُبتدأ به. وإن زيدت متحرّكةً، فلا تخلو من أن تكون مضمومة، أو مكسورة، أو مفتوحة. فلو زيدت مضمومةٌ، لاطّرد فيها الهمزُ على حدّ "وُقّتت"، و"أُقّتت". وكذلك لو كانت مكسورةً على حدّ "وِسادَةٍ"، و"إسادَةٍ"، و"وِشاحٍ"، و"إِشاحٍ"، وإن كان الأوّلُ أكثرَ. ولو زيدت مفتوحةً، لتَطرّق إليها الهمزُ؛ لأنّها لا تخلو من أن تزاد في أوّلِ اسم، أو فعلِ، فالاسمُ بعُرْضيّةِ التصغير، والفعلُ بِعُرْضيّةِ أن لا يسمّى فاعله، وكلاهما يُضمّ أوّله. وإذا ضُمّ، تطرّق إليه الهمزُ حينئذ، مع أنّهم قد همزوا الواو المفتوحة في نحو "وَحَدٍ"، و"أَحَدٍ"، و"وَناةٍ"، و"أَناةٍ"، وهو قليل. فلمّا كان زيادتها أوّلاً تؤدّي إلى قلبها همزةً، وقلبُها همزةً ¬
فصل [زيادة الميم]
ربّما أوقع لبسًا وأحْدَثَ شكًّا في أنّ الهمزة أصلٌ أو منقلبةٌ مع أن زيادة الحرف إنّما المطلوب منه نفسُه، فإذا لم يسلم لفظُه لم يحصل الغرضُ. فأمّا قولهم: "وَرَنْتَلٌ" بمعنى الشَّرّ، فإنّه يقال: "وقع القومُ في ورنتل"، أي: في شرّ، فالواوُ فيه من نفس الكلمة، والنونُ زائدةٌ ملحقةٌ بـ "سَفرْجَلٍ"، ووزنُه "فَعَنْلَلٌ"، والكلمةُ بها رباعيّةٌ. وإنّما قضينا على الواو أنها أصلٌ, لأنه لا يجوز أن تكون زائدة؛ لأنّ الواو لا تكون زائدة أوّلًا أبدًا. فإن قيل فكما لا تكون زائدة أوّلًا، كذلك لا تكون أصلًا مع بنات الثلاثة فصاعدًا، فالجواب أنّ الأمر فيها دائرٌ بين أن تكون أصلًا أو زائدة، فكان حَمْلها على الأصل أَوْلى؛ لأنّها قد تكون أصلًا مع الثلاثة، وذلك إذا كان هناك تكريرٌ، ولا تكون زائدة أوّلًا ألبتّة، فكان حملها على الأصل هو الوجه؛ لأنّه أقلُّ مخالَفةً. فأمّا إذا وقعت حشوًا مع ثلاثة أحرف أصول فصاعدًا، فلا تكون إلا زائدة. وهي في ذلك تقع ثانيةً، نحو: "عَوْسَجٍ"، و"جَوْهَرٍ"، و"حَوْقَلَ"، و"صَوْمَعَ". وثالثةً في نحو: "جَدْوَل"، و"قَسورٍ"، و"رَهْوَكَ الرجلُ"، إذا تَبختر في مَشْيه، و"دَهْوَرَهُ" إذا ألقاه في مَهْواةٍ. ورابعةً، نحو: "تَرْقُوَةٍ"، و"عُنفُوانٍ"، و"اخرَوَّطَ"، و"اعْلَوَّطَ". وخامسةً في نحو: "عَضرَفُوطٍ"، و"مَنجَنُونٍ". فأمّا عِزْوِيتٌ - وهو بلدٌ - فالواو فيه أصلٌ، والتاء والياء زائدتان، ووزنُه "فِعْلِيتٌ" كـ"عِفْرِيتٍ"؛ لأنّه من "العِفْر". وإنّما قلنا ذلك؛ لأنّه لا يجوز أن تكون الواو أصلًا على أن تكون الياء من الأصل أيضًا؛ لأنّه يلزم منه أن تكون الواو أصلًا مع ذوات الأربعة، وهو غير جائز. ولا يجوز أن تكون الواو أصلاً، والياء زائدة، والتاء أصلاً، ويكون وزنه "فِعْلِيلًا"؛ لأنّه يلزم منه أن تكون الواو أصلًا مع ذوات الثلاثة، وذلك غيرُ جائز أيضًا. ولا تكون الواو والياء زائدتين معًا، والتاء أصلٌ, لأنّه يصير وزنه "فِعْوِيلًا"، وذلك بناءٌ غيرُ معروف، فلا يُحمل عليه. وإذا لم يجز أن يكون "فِعْللاًّ"، ولا "فِعْلِيلًا", ولا "فِعْوِيلًا"، حُمل على "فِعْلِيتٍ" كـ"عِفْرِيت"، وتكون الواو من الأصل. فصل [زيادة الميم] قال صاحب الكتاب: والميم إذا وقعت أولاً وبعدها ثلاثة أصول فهي زائدة نحو مقتل ومضرب ومكرم ومقياس، إلا إذا عرض ما في معد ومعدٍّ ومعزي ومأجج ومهدد ومنجنون ومنجنيق. * * * قال الشارح: أمرُ الميم في الزيادة كأمر الهمزة سواءٌ. موضعُ زيادتها أن تقع في أوّلِ بنات الثلاثة، والجامعُ بينهما أنّ الهمزة من أوّل مخارج الحلق ممّا يلي الصدرَ،
والميم من الشفتين، وهو أوّل المخارج من الطرف الآخر، فجُعلت زيادتُها أوّلًا ليناسب مخرجاهما موضعَ زيادتهما. ولا تزاد في الأفعال إنّما ذلك في الأسماء، نحو: "مَفْعُولٍ" من الثلاثيّ، نحو: "مضروب"، و"مقتول"، ونحو المصادر، وأسماء الزمان والمكان، كقولك: "ضربتُه مَضْرَبًا"، أي: ضَرْبًا، و"إنّ في ألف درهم لمَضْربًا"، أي: لَضْربًا، ونحو: "المَجْلِس"، و"المَحْبِس" لمكان الجلوس والحبس، ونحو: "أتت الناقةُ على مَضرِبها ومَنْتِجها"، يريد الحينَ الذي وقع فيه الضِّرابُ والنِّتاجُ. وزيدت في اسم الفاعل من بنات الأربعة وما وافَقَه، نحو: "مُدَخرجٍ"، و"مُكرمٍ"، فـ "مدحرجٌ" رباعيٌّ، و"مكرمٌ" موافقٌ للرباعيّ بما في أوّله من الزيادة. وتزاد في "مِفْعالٍ"، نحو: "مِقْياسٍ"، و"مِفتاحٍ"، للمبالغة. وفي الجملة زيادةُ الميم أوّلًا أكثرُ من زيادة الهمزة أوّلًا، كأنّها انتصفت للواو؛ لأنّها أختُها إذ هى من مخرجها. والذي يدلّ على جميع ما ذكرناه الاشتقاقُ، فإنْ أَبْهَمَ شيءٌ من ذلك، حُمل على ما عُلم، فعلى هذا "مَنْبجُ" اسمُ هذه البلدة، الميمُ فيها زائدة، والنونُ أصل؛ لأنّ الميم بمنزلة الهمزة، يُقضَى عليها بالزيادة إذا وُجدت في أوّل الكلمة وبعدها ثلاثةُ أحرف أصول؛ لكثرة ذلك في الميم على ما ذكرنا، مع أنّا نقول: لا يخلو الميمُ والنونُ هنا من أن يكونا أصلين، أو زائدين، أو أحدُهما أصلٌ والآحْرُ زائدٌ. فلا يجوز أن يكونا أصلين؛ لأنّ الكلمة تكون "فَعْلِلًا" كـ"جَعْفَر" بكسر الفاء، وليس في الكلام مثله، ولا يجوز أن يكونا زائدين؛ لئلّا يصير الاسمُ من حرفين الباء والجيم، فبقي أن يكون أحدهما أصلًا، والآخر زائدًا. فُقضي بزيادة الميم لِما ذكرناه من كثرة زيادتها أوّلًا. والنونُ، وإن كان تكثر زيادتها ثانيًا، نحو: "عُنْصُرٍ"، و"جُندُبٍ"، فإنّ زيادة الميم أوّلًا أكثرُ، والعملُ إنّما هو على الأكثر. فأمّا "مَعَدٌّ" فإنّ الميم فيه أصلٌ، وهي فاءٌ لقولهم: "تَمَعْدَدَ"، أي: صار على خُلْق مَعَدٍّ. ومنه قولُ عمر رضي الله عنه: "اخْشَوشَنُوا، وتمَعْدَدُوا". وقال الراجز: 1264 - رَبَّيتُه حتى إذا تمعْدَدا ... كان جَزائي بالعَصا أَنْ أُجْلَدا ¬
وقيل: "تَمَعْدَدَ"، أي: تَكلّم بكلام معدّ، فـ "تَمَعّدَد": "تَفَعْلَلَ". ولو كانت الميم زائدة، لكان وزنُه "تَمَفعَلَ", ولا يُعرف "تَمَفعَلَ" في كلامهم. فأمّا قولهم: "تَمَسْكَنَ" إذا أظهر المسكَنَةَ، و"تَمَدْرَعَ" إذا لبس المِدْرعةَ، و"تَمَنْدَلَ" من المِنْديل، فهو قليل من قبيل الغلط، فكأنّهم اشتقّوا من لفظ الاسم كما يشتقّون من الجُمَل، نحو: "حَوْقَلَ"، و"سَبْحَلَ"، والجيدُ: "تَسَكّنَ"، و"تَدَرَّعَ"، و"تَنَدَّلَ". قال أبو عثمان: هذا كلام أكثر العرب. وأمّا "مِعْزًى"، فإنّه وإن كان عَجَميًا، فإنّه قد عُرِّب في حال التنكير، فجرى مجرى العربيّة، فميمُه أصلٌ؛ لقولهم: "مَعْزٌ"، و"مَعِيز"، فـ "مَعْز": فَعْلٌ، و"معيز" "فَعِيلٌ"، فلو كانت الميم في "معزى" زائدة - وقد بُني منه ذلك - لقيل: "عَزى"، و"عَزيٌّ". فلمّا لم يُقَل، دلّ أنّ الميم أصلٌ. وكذلك "مَأجَجٌ"، و"مَهدَدُ" الميم فيهما أصلٌ، فـ "مأجج" مكان، و"مهدد" اسم امرأة. والذي يدل أن الميم فيهما أصل إظهارُ التضعيف. ولو كانت زائدة، لادُّغم المثلان، وكان يقال: "مَأَجّ"، و"مَهَدّ"، كـ"مَفَرَّ"، و"مَقَرّ"، ووزنُهما: "فَعْلَلٌ". واللام الثانية زائدةٌ للإلحاق بـ "جَعْفَرٍ". ولذلك لم يدّغموا، إذ لو ادّغموا لبطل الإلحاقُ، وانتقض الغرضُ. وأمّا "مَنْجَنُونٌ" فلسيبويه (¬1) فيه قولان: أصحُّهما أنّ الميم فيه أصلٌ، والنون بعدها أصليّةٌ، والنون الثانية لامٌ، والكلمة رباعيّةُ الأصل. وإنّما كُرّرت النون الثانية لتُلْحَق "بعَضرَفُوطٍ"، ومثالُه: "فَعْلَلُولٌ". ومثله في التكرير "حَنْدَقُوقٌ"، وهو نبتٌ. وإنّما قلنا ذلك؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن تكون الميم وحدها زائدة، أو النونُ وحدها زائدة، أو يكونا جميعًا زائدَيْن أو أصليَّيْن. ولا يجوز أن تكون الميم وحدها زائدة لأنّا لا نعلم في الكلام مَفعَلُولًا, ولا يجوز أن تكون النون وحدها زائدة؛ لقولهم في الجمع: "مَناجِين"، كذلك تجمعه عامةُ العرب. فلمّا ثبت في الجمع، قُضي بأصالتها، إن لو كانت زائدة، لقيل: "مَجانِين"، كما قالوا: "مَجانِيقُ". ولا يكون النون والميم جميعًا زائدين؛ لأنّه لا يجتمع ¬
في أوّلِ اسم زائدان، إلّا أن يكون جاريًا على فِعْلهِ، نحو: "مُنطَلِقٍ"، مع أنّه ليس في الكلام "مَنْفَعُولٌ". فلمّا امتنع أن تكون الميم وحدها زائدة، والنون وحدها زائدة، وأن تكونا جميعًا زائدتين، بقي أن تكونا أصلين على ما ذكرنا. فأمّا "مَنْجَنِيقٌ"، فالميم فيه أصل، والنونُ بعدها زائدة؛ لقولهم في جمعه: "مَجانِيقُ"، و"مَجانِقُ". فسقوطُ النون في الجمع دليلٌ على زيادتُها. وإذا ثبت أنّ النون زائدة، قُضي على الميم بأنّها أصل؛ لئلّا يجتمع زائدان في أوّل اسم. وذلك معدوم، إلّا ما كان جاريًا على فِعله، نحو: "منطلِق"، و"مستخرج". وهذا مذهب سيبويه والمازنيّ، ووزنُه عندهما "فَنْعَلِيلٌ" كـ"عَنْتَرِيسٍ". وقال غيره: إنّ النون الأولى والميم معًا زائدتان، وذلك من قِبَل إِنّ من العرب من يقول: "جَنقْناهم"، أي. رَمَيْناهم بالمنجنيق. وحكى أبو عُبَيدة عن بعض العرب: "ما زلنا نَجّنِقُ". فعلى هذا وزنه "مَنْفَعِيلٌ". والصحيحُ مذهب سيبويه، لما تقدّم من قولهم في التكسير: "مَجانِيقُ". وأمّا قولههم: "جَنَقُونا" فهو من معناه لا من لفظه كـ"دَمِثٍ" و"دِمَثْرٍ"، و"سَبِطٍ" و"سِبَطرٍ"، و"لأالٍ" من "اللُؤْلُؤ"، و"ثُعالَةَ" ليس علم للثَّعلَب. وذكر الفّراء: "جنقناهم"، وزعم أنّها مولدة. قال: ولم أرَ الميم تزاد على نحو هذا. ومعنى قوله: "مولدةٌ"، أي: أنّه أعجميٌّ معرَّبٌ. وإذا اشتقّوا من الأعجمي خلطوا فيه, لأنّه ليس من كلامهم. وقولُه: ولم أر الميم تزاد على نحو هذا إشارةٌ إلى عدم النظير، وهذا يُقوِّي أنّ الميم أصلٌ، والنون زائدةٌ. * * * قال صاحب الكتاب: وهي غير أول أصلٌ, إلا في نحو "دلامص", و"قمارصٍ" و"هرماسٍ" و"زرقمٍ". * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا: إِنّ موضع زيادة الميم أن تقع في أوّل بنات الثلاثة، ولا تزاد حشوًا ولا أخيرًا، إلّا على ندرةٍ وقلةٍ. فإذا مرّ بك شيءٌ من ذلك، فلا تقض بزيادتها إلّا بثَبَتٍ من الاشتقاق؛ لقلّةِ ما جاء من ذلك فيما وضح أمرُه. فمن ذلك "دُلامِصٌ"، ذهب الخليل إلى أنّ الميم فيه زائدة، ومثالُه "فعامِلٌ"؛ لأنّهم قد قالوا فيه: "دِرْعٌ دَلِيصٌ ودِلاصٌ"، فسقوطُ الميم من "دليص" و"دلاص" دليلٌ على زيادتها في "دُلامِص" و"دُمالِص". قال الأعشى [من الطويل]: 1265 - إذا جُرْدتْ يومًا حسبتَ خَمِيصَةً ... عليها وجِريالَ النَّضِيرِ الدُّلامِصا ¬
كما قالوا: "شَأْمَلٌ"، و"شَمْأَلٌ"، وقالوا. "دُلَمِصٌ"، و"دُمَلِصٌ". حذفوا منه الألف، كما قالوا: "هُدَبِدٌ" (¬1)، و"عُلَبِطٌ" (¬2)، وقالوا: "دَليصٌ" و"دِلاصٌ"، كلُّه بمعنى البَرّاق. قال أبو عثمان: لو قال قائلٌ: إِنّ "دلامصًا" من الأربعة، ومعناه "دليصٌ"، وهو ليس بمشتقّ من الثلاثة، قال قولًا قويًّا، كما أنّ "لَأَلا" منسوبٌ إلى معنى "اللُّؤْلُؤ"، وليس من لفظه، وكما أن "سِبَطْرًا" معناه "السِّبِط"، وليس منه. ومعنى هذا الكلام أنّه إذا وُجد لفظٌ ثلاثيٌّ بمعنى لفظ رباعيّ، وليس بين لفظيهما إلّا زيادةُ حرف، فليس أحدُهما من الآخر يقينًا، نحو: "سَبِط" و"سِبَطْرٍ"، و"دَمِثٍ" و"دِمَثرٍ". ألا ترى أنّ الراء ليست من حروف الزيادة، فجاز أن تكون فيما أَبهَمَ أمرُه كذلك؟ هذا وإن كان محتمَلًا، إلَّا أنّه احتمالٌ مرجوحٌ؛ لقلّته وكثرة الاشتقاق وتشعُّبِه. وأمّا "قُمارِص"، وهو الحامضُ، يقال: "لَبَنٌ قُمارِصٌ"، كأنّه يقرُص اللسان، فالميمُ فيه زائدة؛ لِما ذكرناه من الاشتقاق. والاشتقاقُ يُقضَى بدلالته من غير التفات إلى قلّة الزيادة في ذلك الموضع. ألا ترى إلى إجماعهم على زيادة الهمزة والنون في "إِنْقَحْلٍ" (¬3)، و"إِنْزَهُوٍ" (¬4)؛ لقولهم في معناه: "قَحْلٌ"، و"زَهْوٌ"، وإن كان لا يجتمع زيادتان في أوّل اسم ليس بجارٍ على فعلٍ؟ ¬
وأمّا "هِرْماسٌ"، فهو من أسماء الأسد فيما حكاه الأصمعيّ، فالميمُ فيه أيضًا زائدة، ومثالُه "فِعْمالٌ"؛ لأنّه من "الهَرْس"، وهو الدَّقّ، وهذا اشتقاقٌ صحيح. ألا ترى أنّه يقال: "دَقَّ القَريسةَ فاندقّت تحته"؟ ويقال له أيضًا: "هَرِسٌ". قال الشاعر [من الوافر]: 1266 - شديدَ الساعِدَيْن أخا وِثابٍ ... شديدًا أَسْرُهُ هَرِسًا هَمُوسا وهذا ثَبَثٌ في زيادة الميم هنا. وأمّا "زُرْقُمٌ"، فالميم منه زائدة؛ لأنه بمعنى "الأَزرَق"، وذلك أنّ الميم زيدت أخيرًا أكثرَ من زيادتها حشوًا. وقالوا: "فُسْحُمٌ" للمكان الواسع بمعنى المنفسح، و"حُلْكُمٌ" للشديد السَّواد من "الحُلْكة". يقال. "هو أسودُ من حَلَكِ الغُراب" (¬1). وقالوا. "سُتْهُمٌ" وهو الكبيرُ الاست، ومثالُه "فُعْلُمٌ"، زادوا الميم في هذه الأسماء للإلحاق بـ"بُرْثُن" مبالغةً؛ لأنّ قوّة اللفظ مُؤذِنةٌ بقوّة المعنى. * * * قال صاحب الكتاب: وإذا وقعت أولاً خامسة فهي أصل كمزرنجوش. ولا تزاد في الفعل ولذلك استدل على أصالة ميم: معَدّ بتمعددوا ونحو تمسكن وتمدرع وتمندل لا اعتداد به. * * * قال الشارح: فأمّا إذا وقعت أوّلًا، وبعدها أربعةُ أصول، لم تكن إلّا أصلاً؛ لأنّ الزيادة لا تلحق ذوات الأربعة من أوّلها. وإذا لم تلحق الأربعة، فهي من الخمسة أبعدُ. وقد تقدّم الكلام على ذلك. وقوله: "ولا تزاد في الفعل"، يريد أنّ الميم من زيادات الأسماء، لا حَظَّ للأفعال ¬
فصل [زيادة النون]
فيها, ولذلك قُضي على الميم في "تَمَعْدَدَ" أنّها أصل. وأمّا "تَمَسْكَنَ" و"تمَدْرعَ"، فهو قليل كالمشتقّ من الاسم بالزيادة، نحو: "سَبْحَلَ", و"حَمْدَلَ". فصل [زيادة النون] قال صاحب الكتاب: والنون إذا وقعت آخراً بعد ألف فهي زائدة إلا إذا قام دليل على أصالتها في نحو فينان وحسان وحمار قبان فيمن صرف، وكذلك الواقعة في أول المضارع والمطاوع نحو: نفعل وانفعل، والثالثة الساكنة في نحو: شرنبث (¬1) وعصنصر (¬2) وعرند. وهي فيما عدا ذلك أصل إلا في نحو عنسلٍ وعفرني وبلهنيةٍ وخنفقيقٍ ونحو ذلك. * * * قال الشارح: قد ذكرنا أنّ النون من حروف الزيادة. ولها في ذلك موضعان: أحدهما أن تكثر زيادتُها في موضع، فمتى وُجدت في ذلك الموضع، قُضي بزيادتها فيه، إلّا أن تقوم دلالةٌ على أنّها أصلٌ. والثاني أن تقلّ فيه زيادتُها، فلا يُحْكَم عليها في ذلك الموضع بالزيادة إلّا بثَبَتٍ. فالأوّلُ وقوعُها آخرًا بعد ألف زائدةٍ، نحوَ: "سَكْرانَ"، و"عَطشانَ"، و"مَرْوانَ"، و"قَحْطانَ". وأصلُ هذه النون أن تلحق الصفاتِ ممّا مؤنّثُه "فَعْلَى"؛ لأنّ الصفاتِ بالزيادة أوْلى لشَبَهها بالأفعال، والأفعال أقعدُ في الزيادة من الأسماء لتصرُّفها. والأعلام من نحو: "مروان" و"قحطان" محمولةٌ عليها في ذلك. وقد كثرت الزيادةُ آخرًا على هذا الحدّ، ولا يُحْمَل منه شيءٌ على الأصل إلّا بدليل. فأمّا "فَيْنانٌ"، فهو من قبيل "عَطْشانَ" في الصفات، يقال: "رجل فَيْنانٌ"، أي: حسنُ الشَّعْر طويلُه. وأمّا "حسّان"، فالقياسُ يقتضي زيادة النون، وأن لا ينصرف حَمْلًا على الأكثر. ويجوز أن يكون مشتقًّا من الحسن، فتكون النون أصلاً، وينصرف. وكذلك "حِمار قَبان"، الوجهُ أن يكون "فَعْلانَ" ولا ينصرف، ويجوز أن يكون "فَعالًا" من "قَبَنَ" في الأرض، أي: ذهب فيها، وعلى هذا ينصرف؛ لأنّ النون فيه أصلٌ. وقد زيدت في أوّل الفعل، نحو: "نَفْعَلُ" و"انفَعَلَ"، فـ "نَفعَل" للمتكلّم إذا كان معه غيرُه، فالنونُ في أوّله زائدة للمضارعة. وحروفُ المضارعة أربعةٌ: الهمزة والنون والتاء والياء. وقد كانت حروف المدّ واللين أولى بذلك، إلّا أنّ الألف امتنعت أوّلًا لسكونها، فعُوّض منها الهمزة لِما بينهما من المناسبة والمقاربة على ما سبق. وكذلك الواو لا تزاد أوّلًا في حكم التصريف، وقد تقدّم علّةُ ذلك، فعُوّض منها ¬
الياء؛ لأنّها تُبْدَل منها كثيرًا على ما بيّنّا آنِفًا. وأمّا الياء فأمكن زيادتُها أوّلًا، فزيدت للغيبة، واحتيج إلى حرف رابع، فكانت النونَ؛ لأنّها أقربُ حروف الزيادة إلى حروف المدّ واللين. ألا ترى أن النون غُنّةٌ في الخَيْشُوم؟ وقد تقدّم ذكرُ ما بينهما من المناسبة بما أغنى عن إعادته. فلذلك جامعتها في حروف الزيادة، وجُعلت للمتكلّم إذا كان معه غيره؛ لأنّها قد استُعملت في غير هذا الموضع للجمع، نحو: "قُمْنَا"، و"قَعَدْنَا"، وفي جماعة المؤنّث، نحو: "ضَربْنَ". فلمّا كانت مزيدة آخرًا للجمع على ما وصفتُ لك، زيدت أوّلًا للجمع؛ لتتناسب زيادتُها أوّلًا وآخِرًا. وأمّا زيادتها للمطاوعة، نحو "انفعل", فذلك من قِبَل أنّ النون تُناسِب هذا المعنى. ألا ترى أنّ النون حرفٌ غُنّيٌ خفيفٌ فيه سُهولةٌ وامتدادٌ؟ فكانت حاله مناسبة لمعنى السهولة والمطاوعة. وكذلك إذا حصلت النون ثالثةً حُكم بزيادتها، نحو: "جَحَنفَلٍ" (¬1) , و"شَرَنْبثٍ"، و"عَصَنْصَرٍ". وإنّما حُكم بزيادتها هنا؛ لأنّه موضع كثر زيادتُها فيه، ولم تقم دلالةٌ على أنّها أصلٌ؛ لأنّها وقعت موقع الألف الزائدة. ألا ترى أنّهما قد تعاورتا الكلمةَ الواحدة، وتَعاقبتا عليها في نحو: "شُرابثٍ"، و"شَرَنْبَثٍ"، و"جَرَنْفَشٍ"، و"جُرافِشٍ"، فالألفُ هنا زائدة لِما ذكرناه من أنّها لا تكوَن أصلاً في بنات الأربعة، فكذلك ما وقع موقعها. وقالوا: "عَرَنْتُنٌ" (¬2)، النون فيه زائدة لما ذكرناه. وقد قالوا: "عَرتنٌ" بحذف النون، كما قالوا: "دُوَدِمٌ" (¬3)، و"غلَبِطٌ"، و"هُدَبِدٌ"، فقِسْ على ما جاء من ذلك من نحو: "عَقَنْقَلٍ" (¬4)، و"سَجَنجَلٍ" (¬5). وقالوا: "عَرَنْدَدٌ"، وهو الصُّلْب، فالنون فيه زائدة لما ذكرناه من أنّه موضعٌ كثرت زيادتها فيه، والدال الأخيرة زائدة أيضًا لما ذكرناه ألحقته بـ "سَفرْجَلٍ". وأمّا "عُرُنْدٌ"، فهو الغليظ، يقال: "وَتَرٌ عُرُنْدٌ"، أي: غليظٌ، فالنون فيه زائدة؛ لأنّه ليس في الأصول ما هو على مثال "جُعُفْرٍ" بضمّ الجيم والعين وسكون الفاء، ونظيرُه "تُرُنْجٌ" (¬6). وأمّا الموضع الثاني، فهو أن تقع غير ثالثة، فإنّه لا يُحْكَم بزيادتها إلّا بثَبَت ساكنةً كانت أو متحرّكة. فمثالُ الساكنة نحو نون "حِنزقْرٍ"، و"حِنْبَتْر" بمعنى القصير. النونُ فيه أصل؛ لأنّها في مقابلة الأصول، ألا تراها بإزاء الراء من "قِرْطَعْبٍ"، و"جرْدَحْلٍ"؟ ومثالُ ¬
فصل [زيادة التاء]
المتحرّكة "جَنَعْدَلٌ"، النونُ أصل لما ذكرناه، ولأنّها بإزاء الفاء من "سَفَرْجَلٍ". وأمّا "عَنْسَلٌ" - وهي الناقة السريعة- فلو خلّينَا والقياسَ، لكانت حروفُها كلّها أصولًا؛ لأنّها بإزاء "جَعفَرٍ"، لكنّهم جعلوه مشتقًّا من "عَسَلانِ الذِّئب"، وهو شدّةُ عَدْوه، فكانت زائدة لذلك. وقد ذهب قومٌ إلى أنّه مشتقٌ من لفظ "العنس"، فهي أصلٌ لذلك، واللامُ زائدة. والوجه الأول، وهو رأي سيبويه (¬1)، لقوّة المعنى، وكثرة زيادة النون ثانيًّا، نحو: "جُنْدُب"، و"عُنْصُّرٍ". وأمّا "عَفَرْنى" -وهو من أسماء الأسد، ووزنه "فَعَلنى"، فالنون فيه والألف زائدة، كأنّه سُمّي بذلك لشدّته. يقال: "ناقة عَفَرْناةٌ"، أي: قويّة. ويقال: "فلان في عَفَرْنة الحَرّ"، أي: في شدّته، والنون والألف للإلحاق بـ "سَفرجل". وأمّا "بُلَهنِيَةٌ" بمعنى العيش الناعم، يقال: "فلانٌ في بلهنيةِ من العيش"، أي: في سَعةٍ, والألفُ والنون زائدتان للإلحقاق بـ "قُذَعْمِل". وإنّما صارت الألف ياءً للكسرة قبلها، ودلّ على زيادة الألف والنون قولهم: "عيشٌ أبلَهُ"، أي: قليل الغُموم. وأمّا "خَنْفَقِيقٌ" وهي الداهية، وهي أيضًا الخفيفة من النساء - النون فيه زائدة, لأنّه من "خفق يخفِق"، وهو ملحقٌ بـ "عَرْطَليل" (¬2). فصل [زيادة التاء] قال صاحب الكتاب: والتاء اطردت زيادتها أولاً في "تَفْعيل" و"تَفْعال" و"تَفَعُّل" و"تَفاعُل" وفعليهما، وآخراً في التأنيث والجمع, وفي نحو: "رغبوت" و"جبروت" و"عنكبوت", ثم هي أصل إلا في نحو: "ترتب", و"تولج" و"سنبتة". * * * قال الشارح: اعلم أنّ التاء تزاد أولًا وآخرًا، وهي في ذلك على ضربَين: مُطرِدة وغيرُ مطردة. فالأوّلُ نحو: "تَفْعِيلٍ"، و"تَفْعالٍ"، و"تَفَعُّل"، و"تَفاعُل". فأمّا "التفعيل"، فهو مصدرُ "فَعَّلَ". قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} (¬3)، وقال الشاعر [من الطويل]: وما بالُ تَكلِيمِ الدِّيار البَلاقِعِ (¬4) ¬
وربما جاء على "تَفْعِلَة". قالوا: "قَدَّمتُه تَقْدِمَةً"، و"كَرَّمْنُه تَكرِمَةً" وعلى "فِعّالٍ"، نحو: كَلَّمتُه "كِلاّمًا". وفي التنزيل: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} (¬1). وأمّا "التَّفعال"، فنحو: "التَّقتال"، و"التَّضراب"، وما أشبههما من نحو: "التَّلعاب"، و"التَّرْداد"، و"التَّسْيار"، كلُّها مصادرُ بمعنى: "السير" و"القَتْل" و"الضرْب" و"اللعب" و"الردّ". وجاؤوا به لتكثير الفعل والمبالغةِ فيه. وأمّا "التَّفَعُّل"، فهو مصدرُ "تَفَعَّلَ". قال الشاعر [من الكامل]: 1267 - [وإذا صَحَوْت فما أُقَصِّرُ عَنْ نَدى] ... وكما عَلِمتِ شَمائِلي وتَكَرُّمِي ومن قال: "فَعَّلْته فِعّالًا" قال: "تَفَعَّلَهُ تِفِعّالًا"؛ لأنه مُطاوِعُه، نحو: "تَحمّله تِحِمّالًا". قال الشاعر [من الطويل]: ثلاثةُ أَحْبابِ فحُبٌّ عَلاقةٌ ... وحُبٌّ تِمِلاّقٌ وحُبٌّ هوالقَتل (¬2) وأمّا "التَّفاعُل"، فمصدُر "تَفَاعَلَ". ¬
وقوله. "وفعليْهما" يريد فعلَ "التفعّل" وفعلَ "التفاعُل", لأنّ في كلّ واحد من هذين الفعلَين تاءً زائْدةً، فـ "تَفاعل" مطاوعُ "فاعلَ"، و"تَفعّل" مطاوعُ "فَعَّلَ"، وقد تقدّم الكلام عليهما في الأفعال. وأمّا زيادتها غيرَ مطّردة، فنحو: "تِجْفافٍ"، منه و"تِفْعالٌ" من "جَفَّ الشيء" إذا يَبِسَ وصَلُبَ، و"تِمْثالٌ" من "المثل"، و"تِبيانٌ" من "البَيان"، و"تِلْقاءٌ" من "اللقاء"، و"تِضْرابٌ" من "الضِّراب". ولولا الاشتقاق، لكانت أصلًا في ذلك كلّه, لأنّها بإزاء قاف "قِرْطاسٍ"، وسين "سِرْحانٍ". وقد زيدت آخِرًا زيادة مطّردة للتأنيث والجمع، فالأول نحو: "حَمزَةَ"، و"طَلْحَةَ"، إلا أنّك تُبْدِل منها في الوقف هاءً، والتاء هي الأصل في ذلك بدليل ثبوتها في الوصل، والوصل ممّا يجري فيه الأشياء على أصولها، والوقفُ من مواضع التغيير. وقد زيدت في جمع المؤنّث السالم، وقبلها ألفٌ، نحو: "ضاربات"، و"جَوْزات"، و"جَفنات"، وقد تقدّم الكلام عليها بما أغنى عن إعادته. وقد زيدت آخرًا في نحو: "مَلَكُوتٍ"، و"رَحَموتٍ"، و"جَبَرُوتٍ"، بمعنى "المُلك"، و"الرَّحْمة"، و"التجبُّر". وقالوا: "رَهَبُوتٌ خيرٌ من رَحَمُوتٍ" (¬1). ويقال: "رَغَبُوتَى"، و"رَحَمُوتَى" على زنة "فَعَلُوتَى"، وهو قليل لا يقاس عليه. وقد زادوها في آخِر الأسماء، نحو، "عَنْكَبُوتٍ"، و"تَرْنَمُوتٍ"، لصوت القَوْس عند النزع، فالتاء في "عنكبوت" زائدة، ومثالُه: "فَعْلَلُوتٌ" ملحقٌ بـ "عَضْرَفوط"؛ لأنّك تقول: "عَنْكباء" في معنى "عنكبوت"، وفي الجمع: "عناكِبُ"، فسقوطُ التاء دليل على زيادتها. فإن قيل: ليس في قولهم: "عَناكِبُ" دليل على زيادتها؛ لأنّ الحرف الخامس يُحذف في التكسير، نحو قولههم في "عَضْرَفُوطٍ": "عَضارِفُ" والطاء غيرُ زائدة، فالجواب أنّ العرب لا تكاد تكسّر الاسم الذي على خمسة أحرف أصول إلّا مستكرهين، فلمّا قالوا: "عَناكِبُ" من غير استكراه، دلّ أنّ التاء زائدة. وأمّا ¬
"تَرْنَمُوتٌ" فبمعنى الترنّم، وهذا ثبتٌ في زيادة التاء والواو. وقال [من الرجز]: 1268 - تُجاوِب القَوْسُ بتَرْنَمُوتِها أي: بترنّم. ثمّ هي أصلٌ أَيْنَ وُجدت بعد ذلك، إلّا أن تقوم دلالة على أنّها زائدة. فمن ذلك "تُرْتَبٌ" بمعنى الشيء الراتب، فالتاء الأولى زائدة؛ لأنّه ليس في الكلام مثلُ "جُعفر" بضمّ الجيم عند سيبويه (¬1). وهي عند الأخفش أيضًا زائدة؛ لأنه مأخوذ من "رتب"، فكانت زائدة للاشتقاق لا لأجل المثال. ونظيرُه "تَنْضب" لضربٍ من الشجر، التاء فيه زائدة؛ لأنّه ليس في الكلام مثلُ "جَعْفُرٍ" بضمّ الفاء، وكذلك يقال: "تَتْفُل"، و"تَتْفَل" بضمّ الفاء وفتحها. فمن فتح كانت زائدة لا محالة لعدم النظير. ومن ضمّ، كانت زائدة أيضًا؛ لأنّها لا تكون أصلاً في لغةٍ, زائدةً في لغة أخرى. وأمّا "تَوْلَجٌ"، فهو كِناس الوحش الذى يلج فيه، وهو "فوْعَلٌ" من "الوُلوج"، والتاء فيه بدلٌ من الواو، كأنّهم كرهوا اجتماع الواوَين، فأبدلوا من الأولى تاء. وقد أجروا الضمّة مع الواو مجرى الواوَيْن، فقالوا: "تُكَأَةٌ"، و"تُخَمَةٌ"، و"تكَلَةٌ". وربّما قالوا: "دولَجٌ"، فأبدلوا من التاء دالًا, فلو سُمّي بـ "تولج" رجلٌ، لانصرف. وهي عند البغداديين "تَفْعَل"، والتاء عندهم زائدة، وكأنّ صاحب هذا الكتاب نَحَا نحوْ ذلك، ولذلك استثنى من أن تكون أصلاً، وعدّها مع ما هي فيه زائدة. وليس الأمر فيها عندي كذلك؛ لأنّ "تَفعَل" معدومٌ في الأسماء، و"فَوْعَلٌ" كثير، والعملُ إنّما هو على الكثير. وأمّا "سَنْبَتَةٌ"، فمعناها قطعةٌ من الدهر، يقال: "مضت سنبتةٌ من الدهر"، أي: بُرْهَةٌ منه، والتاء الأولى منه زائدة؛ لقولهم في معناه: "سَنبٌ" و"سَنبَةٌ"، كـ"تَمرٌ" و"تَمرَةٌ", فسقوطُ التاء دليلٌ على زيادتها, فاعرفه. * * * ¬
فصل [زيادة الهاء]
فصل [زيادة الهاء] قال صاحب الكتاب: والهاء زيدت زيادة مطردة في الوقف لبيان الحركة أو حرف المد في نحو: "كِتابيَهْ" و"ثَمَّهْ" و"وا زيداهْ" و"وا غلامهوه", و"وا انقطاع ظهرهيه". * * * قال الشارح: قد زيدت الهاء زيادة مطّردة للوقف، وموضعُها أن تقع بعد حركةِ بناءٍ متوغّلةٍ في البناء، نحو: "حِسابِيَهْ"، و"كِتابِيَهْ"، و"ثَمَّهْ"، ولا تدخل على حركةِ بناء تُشبِه الإعرابَ، فلا تدخل على فعل ماض، نحو: "ضَرَبَهْ"، ولا في "يا زَيْدُهْ"؛ لأنّهما مُشْبِهان المعربَ. وإذا لم تدخل على ما يُشْبِه المعربَ، كان دخولُها على المعرب نفسه أبعدَ، وذلك محافَظةٌ على حركات البناء؛ لأنّها موضوعةٌ للُّزوم والثبات، إذ كانت من سِنْخ الكلمة، كأنّ الكلمة رُكّبت على الحركة كما رُكّبت على الحروف. وقد وردت هذه الهاء لبيان ألف النُّدْبة، نحو: "وا زيداهْ"، و"وا غُلاماهُ"؛ لأنّ الألف خفيّة، والوقفُ عليها يزيدها خفاءً، فبيّنوها بالهاء. فإن قلت: فأنت لا تجيز أن تندُب نكرةً، فكيف جاز أن تُمثِّل بقولك: "وا غلاماهْ"، و"غلامٌ" نكرة، قيل: المراد "غلامي" بياء ساكنة، وأنت إذا ندبتَ ما هذه حالُه، فلك فيه وجهان: أحدهما فتحُ الياء لالتقاء الساكنين، والآخرُ الحذف، فلذلك مَثَّلَ بقوله: "وا غلاماه"، وقد تقدّم الكلام على هذه الهاء بما فيه مَقنَعٌ. * * * قال صاحب الكتاب: وغير مطردة في جمع "أُمّ"، وقد جاء بغير هاءٍ، وقد جمع اللغتين من قال [من المتقارب]: 1269 - إذا المهات قبحن الوجوه ... فَرَجْت الظَّلام بأُمّاتِكا ¬
وقيل: قد غلبت الأمهات في الأناسي والأُمّاتُ في البهائم. وقد زادها في الواحد من قال [من الرجز]: 1270 - أمهتي خندف والياس أبي وفي كتب العين (¬1): "تأمّهتُ", وهو مسترذَلٌ. * * * قال الشارح: وقد زادوا الهاء زيادة غير مطّردة، وإنّما تُسمع ولا يقاس عليها، قالوا: "أُمّهاتٌ"، والواحدُ "أُمٌّ" على زنة "فعْلٍ" كـ"حُبِّ"، و"دُرِّ"، العين واللامُ فيه من واد واحد، فالهمزةُ فيه فاء، والميم الأولى عينٌ، والميمُ الثانيةُ لامٌ، والهاء زائدة؛ لقولهم في معناه: "أُمّاتٌ". قال الشاعر [من الكامل]: 1271 - [كانَتْ هَجائِنُ مُنْذِرٍ وَمُحَرِّقٍ] ... أُمّاتَهُنَّ وطَرْقُهُنَّ فَحِيلا ¬
وقال الآخر [من المتقارب]: فرجت الظلام بأمّاتكا إلّا أنّ "الأمّهات" في الأناسيّ أكثرُ، و"الأُمّات" في البهائم أغلبُ. وقد جاءت "الأمّهات" أيضًا في البهائم. قال الشاعر [من السريع]: 1272 - قوّال مَعُروفٍ وفَعّالِهِ ... عقّارِ مَثنى أُمَّهاتِ الرَّباع والأوّل أكثر. وقد أجاز أبو بكر أن تكون الهاء هنا أصلًا؛ لقولهم في الواحد: "أُمَّهةٌ". قال الشاعر [من الرجز]: أمّهتي خندف وإلياس أبي (¬1) ويؤيّد ذلك: "تَأَمَّهْتُ أُمًّا"، ويكون وزنه "فُعَّلَةَ" بمنزلة "أُبَّهَةٍ"، و"عُلَّفةٍ"، و"قُبَّرَةٍ". والمذهبُ الأوّل؛ لقولهم: "أُمٌّ بيّنةُ الأُمُومة" وهذا ثبتٌ. وقولهم: "أُمَّهَةٌ" قليل شاذّ، و"تَأمَّهْت أُمًّا" أقلُّ منه. قال (¬2)، وهو من مسترذَلِ كتاب العين. والقولُ في ذلك أنّ ¬
قولهم: "أُمَّهَةٌ"، و"تَأَمَّهْتُ" معارَضٌ بقولهم: "أُمٌّ بيْنةُ الأمُومة". والترجيحُ معنا من جهة النقل والقياس. أمّا النقلُ، فإنّ الأمومة حكاها ثعلبٌ، وحَسْبُك به ثقةً؛ وأمّا "أُمَّهَةٌ"، و"تأمَّهتُ" إنّما حكاهما صاحبُ كتاب العين، لا غيرُ، وفي كتاب العين من الاضطراب والتصريف الفاسد ما لا يُدْفَع عنه. وأمّا القياس، فإنّ اعتقاد زيادة الهاء أسهلُ من اعتقاد حذفها من "أُمّات"؛ لأنّ ما زيد فى الكلام أضعافُ ما حُذف منه، والعملُ على الأكثر لا على الأقلّ. * * * قال صاحب الكتاب: وزيدت في "أهراق إهراقةً"، وفي "هركولةٍ" و"هِجْرَع", و"هلقامةٍ" عند الأخفش, ويجوز أن تكون مزيدة في قولهم: "قرنٌ سلهبٌ"؛ لقولهم: "سَلِبٌ". * * * قال الشارح: اعلم أنّهم قالوا: "أَهراقَ"، و"هَراقَ". فمن قال: "هراق" , فالهاء عنده بدلٌ من همزة "أراق" على حدِّ: "هَرَدتُ أن أفعلَ" في "أَرَدْتُ" ونظائِره على ما سنذكر. ومن قال: "أهْراق" فجمع بين الهمزة والهاء، فالهاء عنده زائدة كالعوض من دْهاب حركة العين، على حدّ صنيعهم في "أَسْطاعَ" على ما سنذكر في موضعه. وأمّا "هِرْكَوْلَةٌ"- وهي المرأة الجسيمة - فذهب الخليل (¬1) فيما حكاه عنه أبو الحسن إلى أنّ الهاء زائدة، ووزنُه "هِفعَوْلَةُ"، أخذه من "الرَّكل" وهو الرَّفسُ بالرِّجْل، كأنّها لثقلها تركُل في مَشْيها، أي: ترفع رجلها، وتضعها بقوّة كالرفس. وحكى أبو زيد فيها: "هَرْكَلَةٌ"، و"هِرَكْلَةٌ" (¬2). وأمّا "هجْرَعٌ" -وهو الطويل- فالهاء فيه عنده زائدة، كأنّه من "الجَرَع"، وهو المكان السهل المُنْقاد، وهو من معنى الطُول، ووزنُه على هذا "هِفْعَلٌ". وكذلك "هِبْلغٌ". وهو الأكَول، مأخوذٌ من "البَلْع". والذي عليه الأكثرُ القولُ بأن هذه الهاء أصلٌ، وذلك لقلّة زيادتها أوّلًا. ويؤيّد ذلك قولهم: "هذا أهجرُ من هذا"، أي: أَطوَلُ. وما ذهب إليه الخليل سديدٌ؛ لأنّ الاشتقاق إذا شهد بشيء، عُمل به، ولا التفاتَ إلى قلّته. وكذلك "هِلقامَةٌ"، وهو الضَخم الطويل، و"الهِلْقامةُ" من أسماء الأسد، فالهاء فيه ¬
فصل [زيادة السين]
زائدة؛ لأنّه من "اللَّقْم". قال: ويجوز أن تكون الهاء في "سَلْهَبٍ" زائدة، وهو الطويل من الخيل. يقال: "قَرْنٌ سَلْهَبٌ"، أي: طويل؛ لقولهم في معناه: "سَلِبٌ"، أي: طويلٌ، وهذا اشتقاقٌ حسن ظاهرُ المعنى واللفظِ. فصل [زيادة السِّين] قال صاحب الكتاب: والسين اطردت زيادتها في استفعل، ومع كاف الضمير فيمن كسكس، وقالوا أسطاع كأهراق. * * * قال الشارح: والسين زيادتها مطّردة, وغيرُ مطّردة، فالمطّردةُ تجوز زيادتُها في "استفعل" وما يُصرِّف منه، نحو: "استخرج يستخرج استخراجًا"، فهو"مستخرجٌ"، وله أقسامٌ قد شرحتُها في قسم الأفعال. والغالبُ عليه الطَّلَبُ، نحو: "استفهم"، و"استعلم"، إذا طلب الفهم والعلم. وأمّا كونها غير مطّردة، فنحو: "أَسْطاعَ يُسْطِيعُ"، السينُ فيه زائدة، والمراد: "أَطاعَ يُطِيعُ"، والأصل: "أَطوَعَ يُطوعُ"، نُقلت الفتحة من الواو إلى الطاء إرادةً للإعلال، حملًا على الماضي المجرَّد الذي هو "طاعَ يَطُوعُ"، ثمّ قلبتَها ألفًا لتحرُّكها في الأصل وانفتاحِ ما قبلها الآنَ، فصار "أَطاعَ"، ثمّ زادوا السين كالعوض من حركة عين الفعل. هذا رأيُ سيبويه، وقد ردّه أبو العباس محمّد بن يزيد المبرّد، وقال: إنّما يُعوَّض من الشيء إذا كان معدومًا، والفتحةُ هاهنا موجودة، وإنّما نُقلت من العين إلى الفاء، ولا معنى للتعويض عن شىء موجود، بل يكون جمعًا بين العوض والمُعوَّض، وهو ممتنعٌ. وهذا لا يقدَح فيما ذهب إليه سيبويه؛ لأنّ التعويض إنّما وقع من ذهاب حركة عين الفعل من العين، لا من ذهاب الحركة ألبتّة. وذلك أنّهم لمّا نقلوا الحركة من العين إلى الفاء الساكنة، وقلبوا العين ألفًا، لحق العينَ تَوْهينٌ وتغييرٌ، وصار مُعرَّضًا للحذف إذا سكن ما بعده، نحو: "أَطِع" في الأمر، فعُوّض السين من هذا القَدْر من التوهين، وهذا تعويضُ جواز، لا تعويض وُجوب، فلذلك لا يلزم التعويضُ فيما كان مثله، نحو: "أَقامَ"، و"أَباعَ". ولو عوّضوا، لجاز، ومثلُه "أَهْراقَ يُهرِيقُ"، وقد تقدّم الكلام عليه. قال الفراء: شبّهوا "أَسْطَعْتُ" بـ "أفْعَلْتُ". فهذا يدلّ من كلامه على أنّ أصلها "استطعتُ"، فلمّا حُذفت التاء، بقي على وزن "افْعَلتُ"، ففتحت همزته، وقُطعت. والوجهُ الأوّل؛ لأنّهم قد قالوا: "اسْطَعتُ" بكسر الهمزة ووصلها حيث أرادوا: "استطعتُ". وأمّا السين اللاحقة لكاف المؤنّث، فإنّها لغةُ بعض العرب تُتْبع كاف المؤنْث سينًا
فصل [زيادة اللام]
في الوقف تبيينًا لكسرة الكاف، فتؤكِّد التأنيث، فتقول: "مررت بكِسْ"، و"نزلت عليكِسْ"، فإذا وصلوا، حذفوا السين لبيان الكسرة. وقد تقدّم الكلام على ذلك. فصل [زيادة اللام] قال صاحب الكتاب: واللام جاءت مزيدة في "ذلك"، و"هنالك"، و"أولالك"، قال [من الطويل]: 1273 - [أولئك قومي لم يكونوا أشابةً] ... وهل يعظ الضليل إلا ألالكا وفي "عَبْدَلٍ", و"زَيدَل"، و"فَحْجَل"، وفي "هَيْقَلٍ" احتمال. * * * قال الشارح: اللام أبعدُ حووف الزيادة شَبَهًا بحووف المدّ واللين، ولذلك قلت زيادتُها. وقد استبعد الجَرْميّ أن تكون من حروف الزيادة. والصوابُ أنّها من حووف الزيادة. وهي تزاد في "ذلِكَ"؛ لقولهم في معناه: "ذا"، و"ذاكَ" من غير لام، وتزاد في "هُنالك"؛ لأنّك تقول في معناه: "هُناكَ". وقالوا. "أُلالكَ"، اللام ¬
فيه زائدة؛ لقولهم في معناه: "أُلاكَ"؛ وأمّا قوله [من الطويل]: أولئك قَوْمي لم يكونوا أُشابَةً. . .وهَل يَعِظُ الضلِّيلَ إلّا أُلالِكا البيت للأعشى، والشاهد فيه قوله: "أُلالِكَ" باللام، وهو شاهدٌ على صحّة الاستعمال. يصف قومَه بالصَّفاء والنُّضح. والأشُابة: الأخْلاطُ من الناس، يقال: "أَشَبْتُ القومَ"، إذا خلطتَ بعضَهم ببعض. والضِّليلُ: الضالُّ، يقال: "رجلٌ ضِلّيلٌ" و"مُضَلَّلٌ"، أي: ضالٌّ جدًّا. وإنّما زيدت اللام في أسماء الإشارة لتدلّ على بُعْد المشار إليه، فهي نقيضةُ "ها" التي للتنبيه، ولذلك لا تجتمعان، فلا يقال: "هاذلك"؛ لأنّ "ها" تدلّ على القرب، واللام تدلّ على بعد المشار إليه، فبينهما تنافٍ وتضادٌّ. وكُسرت هذه اللام؛ لئلّا تلتبس بلام المِلْك، لو قلت: "ذا لَكَ". وقولهم: "زَيْدٌ"، و"عَبْدٌ"، و"أَفْحَجُ" دليلٌ على زيادة اللام في "زَيْدَلٍ"، و"عَبْدَلٍ"، و"فَحْجَلٍ". وقالوا: "هَيقَلٌ" وهو ذَكَرُ النَّعام إن أخذتَه من "الهَيْق"؛ فاللامُ زائدة، ووزنُه "فَعْلَلٌ"، والياء أصلٌ. وإن أخذته من "الهقل"، كانت الياء زائدة، واللام أصلٌ، ووزنُه "فَيعَلٌ". والأوّلُ أكثر، لأنّهم قالوا: "هَيْقَلٌ"، و"هَيْقَمٌ". وهو معنى قوله: "فيه احتمال"، أي: يحتمل أن تكون اللام زائدة، وأن تكون أصلاً على حسب الاشتقاق، فاعرفه.
إبدال الحروف
ومن أصناف المشترك إبدال الحروف فصل [إبدال الحروف] قال صاحب الكتاب: يقع الإبدال في الأضرب الثلاثة (¬1) كقولك: "أجوهٌ" (¬2) , و"هراق" (¬3) , و"ألا فعلت" (¬4) , وحروفه حروف الزيادة, والطاء, والدال, والجيم, والصاد, والزاي, ويجمعها قولك: "استنجده يوم صال زُطٌّ" (¬5). * * * قال الشارح: البَدَل أن تقيم حرفًا مُقامَ حرف، إمّا ضرووةً، وإمّا صَنْعَةً واستحسانًا. وربّما فرقوا بين البدل والعِوَض، فقالوا: البدلُ أشبهُ بالمبدل منه من العوض بالمعوَّض، ولذلك يقع موقعه، نحو تاء "تُخْمَةٍ"، و"تكَأَةٍ"، وهاء "هَرَقْتُ". فهذا ونحوه يقال له: "بدلٌ"، ولا يقال له: "عوضٌ"؛ لأنّ العوض أن تقيم حرفًا مقام حرف في غير موضعه، نحو تاء "عِدَةٍ" و"زنَةٍ"، وهمزة "ابْنٍ" و"اسْم"، ولا يقال في ذلك: "بدلٌ" إلّا تجوّزًا مع قلّته. والبدلُ على ضربين: بدلٌ هو إقامةُ حرف مقام حوف غيره، نحو تاء "تخمة" و"تكأة"، وبدلٌ هو قلبُ الحرف نفسِه إلى لفظِ غيره على معنى إحالته إليه، وهذا إنّما يكون في حروف العلّة التي هي الواو والياء والألف، وفي الهمزة أيضًا لمقاربتها إيّاها، وكثرة تغيّرها، وذلك نحو: "قَامَ"، أصلُه "قَومَ"، فالألفُ واوٌ في الأصل، و"مُوسِرٌ" أصله الياء، و"رَاسٌ" و"آدَم" أصلُ الألِف الهمزةُ، وإنّما لُيّنت نَبرتها، فاستحالت ألفًا, فكلّ قلب بدلٌ، وليس كلّ بدل قلبًا. ¬
فصل [إبدال الهمزة]
واعلم أنّه ليس المراد بالبدل البدل الحادث مع الادّغام، وإنّما المراد البدل من غير ادّغام. فإمّا حَصْرُ حروف البدل في العدّة التي ذكرها، فالمراد الحروف التي كثُر إبدالُها، واشتدّت، واشتهرت بذلك، ولم يُرِد أنّه لم يقع البدل في شيء من الحروف سوى ما ذكر. ولو أراد ذلك، لكان محالًا، ألا ترى أنّهم قالوا: "بُعْكوكَةٌ" (¬1)، وأصله "معْكُوكَةٌ" بالميم؛ لأنّه من "المعك"، وقالوا: "بَا سْمُكَ" والمراد: "ما اسمك"، فأُبدل من الميم الباء. وقالوا في الدِّرع: "نَثْرَةٌ"، وأصله "نَثْلَةٌ"؛ لقولهم: "نَثَلَ عليه دِرْعَهُ"، وقالوا: "اسْتخَذَ"، وأصله: "اتَّخَذَ" في أحد القولَين, فأبدلوا من التاء الأولى السين. وقالوا: "عَن زيدًا قائمٌ" في "أنَّ زيدًا قائمٌ"، وأنشدوا [من الطويل]: فعَيناكِ عَيناها وجِيدُكِ جِيدُها ... سِوَى عَنَّ عظمَ الساقِ منكِ دَقِيقُ (¬2) فبان بما ذكرتُه أنّ البدل لا يختصّ بالحروف التي ذكرها، بل قد يجيء في غيرها على ما ذكرتُ لك، وإنّما وسموا بحروف البدل ما اطّرد إبداله وكثر. وبعضُهم يُسْقِط السينَ واللامَ، ويعدّها أحد عشر حرفًا: ثمانيةً من حروف الزيادة، وهي ما عدا السين واللام، ويضيف إليها الجيم والطاء والدال. وبعضُهم يعدّها اثني عشر، ويضيف إليها اللام. وكان الرُمّانيّ يعدّها أربعة عشر حرفًا، ويضيف إليها الصاد والزاي؛ لقولهم: "الصِّراط"، و"الزَّراط"، وقد قُرِىء بهما (¬3)، والأوّل المشهور، وهو رأي سيبويه (¬4). فصل [إبدال الهمزة] قال صاحب الكتاب: فالهمزة أُبدلت من حروف اللين, ومن الهاء والعين, فإبدالها من حروف اللين على ضربين: مطردٌ, وغير مطرد, والمطرد على ضربين: واجب وجائز, فالواجب إبدالها من ألف التأنيث في نحو: "حمراء" و"صحراء"، والمنقلبة لاماً في نحو: "كساءٍ" و"رداءٍ" و"علباءٍ"؛ أو عيناً في نحو "قائلٍ", و"بائعٍ"، ومن كل واو ¬
واقعةٍ أولاً شفعت بأُخرى لازمةٍ في نحو: "أواصل", و"أواقٍ" جمعي "واصلةٍ" و"واقيةٍ". قال [من الخفيف]: 1274 - [ضربت صدرها إليَّ وقالت] ... يا عديُّ لقدْ وقتك الأواقي و"أويصل" تصغير "واصلٍ". * * * قال الشارح: قد أُبدلت الهمزة من خمسة أحرف، وهي الألف والواو والياء والهاء والعين، وذلك على ضربين: مطّردٌ, وغيرُ مّطرد. والمّطردُ واجبٌ وجائزٌ. فأمّا إبدالُها من الألف واجبًا. فمن ألف التأنيث، نحو: "حَمراءَ"، و"بَيصْاءَ"، و"صَحْراءَ"، و"عُشَراءَ"، فهذه الهمزةُ بدلٌ من ألف التأنيث كالتي في "حُبْلَى"، و"سَكْرَى"، وقعتْ بعد ألف زائدة للمدّ، والأصلُ: "بَيضى"، و"حَمْرى"، و"عُشرى"، و"صَحْرى" بالقصر، وزادوا قبلها ألفًا أخرى للمدّ، توسّعًا في اللغة، وتكثيرًا لأبنية التأنيث؛ ليصير له بناءان: ممدودٌ، ومقصورٌ، فالتقى في آخر الكلمة ساكنان، وهما الألفان: ألفُ التأنيث - وهي الأخيرة - وألفُ المدّ، وهي الأولى، فلم يكن بدٌّ من حذف إحداهما، أو حركتِها. فلم يجز الحذفُ؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن تُخدف الأولى أو الثانيةُ. فلم يجز حذفُ الأولى؛ لأنّ ذلك ممّا يُخِلّ بالمدّ، وقد بُنيت الكلمة ممدودةً، ولم يجز حذفُ الثانية، لأنّها عَلَمُ التأنيث، وهو أقبحُ من الأوّل، فلم يبق إلّا تحريك إحداهما. فلم يجز تحريك الأولى؛ ¬
لأنّ حرف المد متى حُرّك، فارَقَ المدَّ، مع أنّ الألف لا يمكن تحريكُها، فلو حُرّكت انقلبت همزةً، وكانت الكلمةُ تؤول إلى القصر، وهم يريدونها ممدودةً، فوجب تحريكُ الثانية. فلمّا حُرّكت، انقلبت همزةً، فقيل: "حَمراء"، و"صَحْراء"، و"عُشَراء". وهذا مذهبُ سيبويه في هذه الهمزة (¬1)، وقد تقدّم الكلام عليها في مواضع بما أغنى عن إعادته. وقد ذهب بعضهم إلى أنَّ الألف الأولى في "حمراء"، و"صفراء" للتأنيث، والثانية مزيدةٌ للفرق بين مؤنثٍ "أَفعَلَ"، نحو: "أحْمَرَ" و"حَمْراءَ"، و"أَصْفَرَ" و"صَفْراءَ"، وبين مؤنّثِ "فَعْلان"، نحو: "سَكرانَ"، و"سَكرَى". وهو قولٌ غير مرضيّ؛ لأنّ عَلم التأنيث لا يكون إلّا طرفًا، ولا يكون حشوًا البتّة. وقولُ من قال: إِنّ الألفَيْن معًا للتأنيث واهٍ أيضًا؛ لعدم النظير؛ لأنّا لا نعلم علامةَ تأنيث على حرفَين. ومن أطلق عليهما ذلك، فقد تَسمّح في العبارة لتلازُمهما. وأمّا "كِساءٌ" و"رِداءٌ" ونحوهما، فالهمزةُ فيها بدلٌ من ألفٍ، والألفُ بدلٌ من واو أو ياء، وذلك أنّ أصل "كساء": "كساوٌ"، ولامه واوٌ؛ لأنّه "فِعالٌ" من "الكُسْوة"، و"رِداءٌ" أصله "رِدايٌ"؛ لأنّه "فِعالٌ" من قولهم: "فلانٌ حسنُ الرِّدْية". ومثلُه "سِقاءٌ"، و"غِطاءٌ"، فوقعت الواوُ والياء طرفًا بعد ألف زائدة. وفي ذلك مَأخَذان: أحدهما أن لا يُعْتدّ بالألف الزائدة، ويصير حرفُ العلّة كأنّه ولي الفتحةَ، فقلبت ألفًا. والثاني أن يُعتدّ بها، وتتنزّل منزلة الفتحة لزيادتها، وأنّها من جَوْهرها ومَخرجها، فقلبوا حرفَ العلّة بعدها ألفًا، كما يقلبونها مع الفتحة. والذي يدلّ أنّ الألف عندهم في حكم الفتحة، والياء الزائدة في حكم الكسرة، أنّهم أجروا "فُعالًا" في التكسير مجرى "فَعَلٍ"، فقالوا: "جَوادٌ"، و"أَجْوادٌ"، كما قالوا: "جَبَلٌ" و"أَجْبالٌ"، و"قَلَمٌ" و"أَقْلامٌ"، وأجروا "فَعِيلًا" مجرى "فَعِلٍ" , فقالوا: "يَتِيمٌ" و"أَيْتامٌ"، كما قالوا: "كَتِفٌ" و"أَكتافٌ". وإذا كانت الألفُ الزائدةُ في حكم الفتحة، فكما قلبوا الواوَ والياء إذا كانتا متحرّكتَين للفتحة قبلهما في نحو: "عَصًا"، و"رَحى"، كذلك تقْلَب في نحو: "كِساء"، و"رِداء" للألف الزائدة قبلها مع ضُعْفها بتطرُّفها، فصار التقدير: "كساا"، و"رداا". فلمَّا التقى الألفان - وهما ساكنان - وجب حذفُ أحدُهما، أو تحريكُه، فكرهوا حذفَ أحدهما؛ لئلّا يعود الممدودُ مقصورًا، ويزول الغرضُ الذي بنوا الكلمة عليه، فحرّكوا الألف الأخيرة لالتقاء الساكنين، فانقلبت همزةً، وصارت "كساءً" و"رداءً"، فالهمزةُ في الحقيقة بدلٌ من الألف، والألفُ بدلٌ من الواو والياء. ¬
وأمّا "العِلْباء"، فهو عَصَبُ العنق، وهما عِلباوانِ بينهما مَنْبِتُ العُرْف، فالهمزةُ فيه زائدة؛ لقولهم: "عَلِب البعيرُ"، إذا أخذه داءٌ في جانبَيْ عنقه، و"بعيرٌ معلَّبٌ" موسومٌ في علبائه. والحقُّ أن الهمزة بدلٌ من الألف. ومثلُه: "حِرْباءٌ" و"عِزهاءٌ"، الأصلُ: "عِلبايٌ"، و"حِرْبايٌ"، و"عِزْهايٌ"، ثمّ وقعت الياء طرفًا بعد ألف زائدة للمدّ، فقُلبت ألفًا، ثمّ قُلبت الألف هْمزةً كما تقدّم في "كساء" و"رداء". والذي يدلّ على أنّ الأصل في "حرباء". "حربايٌ"، وفي "علباء": "علبايٌ" بالياء، دون أن يكون "علباوًا" بالواو، أنّ العرب لمّا أَنثت هذا الضرب بالتاء، فأظهروا الحرفَ، لم يكن إلّا بالياء، وذلك نحو: "دِرْحايَةٍ"، و"دِعْكايَةٍ" وهو القصير السمين، فصحّت الياء عند لحاق تاء التأنيث، كما صحّت في نحو: "الشَّقاوة"، و"العَباية". وذلك أنّ هاء التأنيث قد حصّنت الواوَ والياء عن القلب والإعلال؛ لأنّهم يقلبونهما إذا كانتا طرفًا ضعيفتين. فأمّا إذا تحصّنتا وقويتا بوقوع الهاء بعدهما لم يجب الإعلالُ. وأمّا "قائلٌ" و"بائِعٌ"، فالهمزة فيهما بدلٌ من عين الفعل وما قبله، فالهمزه فيه بدلٌ من اللام، فالأصلُ فيهما: "قاوِلٌ" و"بايعٌ"، فأُريد إعلالُهما لاعتلال فعلَيْهما. والإعلالُ يكون إمّا بالحذف أو بالقلب، فلم يجز الحذفُ؛ لأنه يُزيل صيغةَ الفاعل، ويصيّره إلى لفظ الفعل. ولا يكفى الإعرابُ فاصلًا بينهما؛ لأنه قد يطرأ عليه الوقفُ، فيزيله، فيبقى الالتباسُ على حاله، وكانت الواو والياء بعد ألف زائدة وهما مُجاوِرتا الطرفِ، فقُلبتا همزةً بعد قلبها ألفًا على حد العمل في "كساء" و"رداء". وكما قلبوا العين في "صُيَّم"، و"قُيَّم" تشبيهًا بـ "عصِيّ" و"حُقِيِّ". والذي يدل أنّ الإعلال ههنا إنّما كان لاعتلال الفعل أنّه إذا صحّت الواو والياء في الفعل، صحّتا في اسم الفاعل، نحو: "عاوِرٌ". ألا تراك تقول: "عاوِرٌ"، و"حاولٌ"، و"صايِدٌ"؛ لقولك في الفعل: "عَوِرَ"، و"حَوِلَ"، و"صَيِدَ"؟ فأمّا إبدالها من الواو، ففي الواقعة أوّلًا مشفوعةً بأخرى لازمةٍ، نحو: "أَواصِلَ"، و"أَواقٍ"، والأصلُ: "وواصِلُ"، و"وَواق"، والعلّةُ في ذلك أنّ التضعيف في أوائل الكلم قليلٌ، وإنّما جاء منه ألفاظٌ يسيرةٌ من نحو: "دَدَنٍ". وأكثرُ ما يجيء مع الفصل، نحو: "كَوكَبٍ"، و"دَيْدَنٍ". فلمّا ندر في الحروف الصِّحاح، امتنع في الواو لثقلها مع أنّها تكون مُعرَّضة لدخول واو العطف، وواوِ القسم، فيجتمع ثلاثُ واوات، وذلك مستثقَلٌ، فلذلك قالوا في جمع "واصِلةٍ": "أواصِلُ". قال الشاعر [من الخفيف]: ضَرَبَتْ صَدْرَها إليَّ وقالت ... يا عَدِيًّا لقد وَقَتْكَ الأوَاقِي وكذلك لو بنيتَ من "وَعَدَ" و"وَزَنَ" مثلَ: "جَوْرَبٍ"، و"دَوْكَسٍ"، لقلت: "أَوْعَدٌ"، و"أَوْزَنٌ". ولو سمّيت بهما، لانصرفا في المعرفة؛ لأنّهما "فَوْعَلٌ" كـ"كَوْثَرٍ" و"جَوْهَرٍ"،
وليسا بِـ "أفْعَل" كـ"أَدْرَع"، و"أَوْلَجَ". ولذلك لو صغرتَ نحو: "واصِلٍ" و"واقِيَةٍ"، لَقُلتَ: "أُوَيْصِلٌ"، و"أُوَيْقِيَةٌ". والأصل: "وُوَيْصل"، و"وُوَيْقية"، فالقلبُ هنا همزة له سببان: أحدهما اجتماعُ الواوَين، والثاني انضمامُ الواو للتصغير، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: والجائز إبدالها من كل واو مضمومة وقعت مفردة فاءً, كأجوهٍ، أو عيناً غير مدغم فيها كـ "أدؤرٍ"، أو مشفوعة عيناً كـ "الغؤور", و"النؤور". * * * قال الشارح: إذا انضمّت الواو ضمًّا لازمًا، جاز إبدالها همزةً جوازًا حسنًا، وكان المتكلّم مخيرًا بين الهمزة والأصل، فاءً كانت الهمزةُ أو عينًا، وذلك نحو: "وُجوهٍ" و"أُجوهٍ"، و"وُقِّت" و"أُقَّت"، وفيما كان عينًا، نحو: "أَذؤُرٍ" في جمع "دَارٍ"، و"أثْؤُبٍ" في جمع "ثَوْبٍ". قال عمر بن أبي رَبِيعَةَ [من الطويل]: 1275 - [فَلَمَّا فَقَدْت الصوتَ منْهُمُ] وأُطْفِئَت ... مَصابِيحُ شَبَّت بالعِشاء وأَنْؤُرُ وقال آخر [من الرجز]: 1276 - لكلِّ دَهرٍ قد لَبِسْت أَثْؤُبا ¬
وصار ذلك قياسًا مطّردًا كرفع الفاعل ونصبِ المفعول، وذلك لكثرة ما ورد عنهم من ذلك مع موافَقة القياس. وذلك أنّ الضمّ يجري عندهم مجرى الواو، والكسرة مجرى الياء, والفتحة مجرى الألف؛ لأنّ مَعدِنها واحدٌ. ويسمّون الضمّة الواوَ الصغيرةَ، والكسرة الياء الصغيرةَ، والفتحةَ الألفَ الصغيرةَ، فكانت هذه الحركات أوائلَ هذه الحروف، إذ الحروفُ تنشأ عنها في مثل "الدارهيم" و"الصَّياريف"، و"لم يَهْجُ"، و"لم يَدْعُ"، وكانت الواو تُحذف للجزم في نحو: "لم يَدْعُ"، و"لم يَغْزُ"، كما تُحذف الحركة في نحو: "لم يَضْرِب"، و"لم يَخرُجْ". فلمّا كان بين الحركات والحروف هذه المناسبة، أجروا الواو والضمّة مجرى الوَاوَيْن المجتمعَيْن، فلمَّا كان اجتماعُ الواوين يوجب الهمزةَ في نحو "واصِلةٍ" و"أواصِلَ" على ما تقدّم، كان اجتماعُ الواو مع الضمّة يُبيح ذلك ويُجيزه من غير وجوبه، حَطًّا لدرجة الفرع عن الأصل. وقولُنا: "لازم" تحرّزٌ من العارضة التي تعرض لالتقاء الساكنين، نحو قوله تعالى: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} (¬1) {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} (¬2). ومن العارض ضمّةُ الإعراب في مثل "هذا دَلْوٌ وحَقْوٌ وعزْوٌ". الضمّة في ذلك كلّه لا تُسوِّغ الهمزةَ؛ لكونها عارضةً، ألا ترى أنّ أحد الساكنين قد يزول ويرجع إلى أصله، وكذلك ضمّةُ الإعراب في مثل: "هذا دَلُوّ وحَقْوٌ" قد يصير إلى النصب والجرّ، وتزول الضمّةُ. * * * قال صاحب الكتاب: وغير المطرد إبدالها من الألف في نحو: "دأبَّةٍ", و"شأبة", "ابيأضَّ" و"ادْهأمَّ". وعن العجاج أنه كان يهمز "العألم", و"الخأتم", وقال [من الرجز]: 1277 - [مبارك للأنبياء خأتم] ... فَخِنْدفٌ هامة هذا العألم ¬
وحكي: "بأزٌ"، و"قوقأت الدَّجاجةُ", وقال [من الرجز]: 1278 - يا دار مِيَّ بدكاديك البرق ... صبراً فقد هيَّجتِ شوقَ المشتئقْ * * * قال الشارح: قد أُبدلت الهمزة من الألف في مواضعَ صالحةِ العدّة، وقد تقدّم بعضُ ذلك في مواضعَ من هذا الكتاب، قالوا: "دَأَبَّةٌ" و"شَأَبَّةٌ" في "دابَّة" و"شابَّة"، فهمزوا الألف، كأنّهم كرهوا اجتماع الساكنين، فحُرّكت الألف لالتقاء الساكنين، فانقلبت همزةً؛ لأنّ الألف حرفٌ ضعيفٌ واسعُ المَخرج لا يحتمل الحركةَ، فإذا اضطُرّوا إلى تحريكه، قلبوه إلى أقرب الحروف إليه، وهو الهمزة، ومن ذلك: "ابْيَأَضَّ"، و"ادّهَأمَّ". وقال دُكَيْنْ [من الرجز]: 1279 - وحَلبُه حتى ابْيَأَضَّ مِلبَنُه ¬
وقال كُثَيِّرٌ [من الطويل]: 1280 - وللأرضِ أمّا سُودُها فتَجلّلتْ ... بَياضًا وأمّا بِيضُها فادْهَأمَّتِ يريد: ادْهامَّتْ. وقالوا: "اشْعَألَّ" في "اشْعَالَّ"، وأنشدوا [من الطويل]: وبَعْدَ بَياضِ الشَّيبِ من كلّ جانبٍ ... عَلا لِمَّتِي حتّى اشْعَأَلَّ بَهِيمُها (¬1) يريد: اشْعالَّ. وعن أبي زيد، قال: سمعت عمرو بن عُبَيْد يقرأ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} (¬2)، فظننتُه قد لحن حتّى سمعتُ العرب تقول: "دَأَبَّةٌ"، و"شَأبَّةٌ". العجّاج أنّه كان يهمز "العَألَمَ" و"الخَأتمَ"، وأنشدوا له [من الرجز]: يا دارَ سَلْمى يا اسْلَمِي ثُمَّ اسْلَمِي ... فخِنْذِفٌ هامَةُ هذا العَألَمِ ¬
رُوي هذا البيت مهموزًا، وذلك من قِبَل أنّ الألف في "العالم" تأسيسٌ (¬1)، لا يجوز معها إلّا مثلُ "الساجم" و"اللازم"، فلمّا قال: "يا دار سلمى يا اسلمى ثمّ اسلمي"، هَمَزَ "العالم" لتجري القافيةُ على منهاج واحد في عدم التأسيس. وحكى اللِّحْياني عنهم: "بَأزٌ" بالهمزة، والأصلُ: "بازٌ" من غير همزة، قال الشاعر [من البسيط]: 1281 - كأنّه بَأزُ دَجنٍ فَوْقَ مَرْقَبَة ... جَلى القَطا وَسْطَ قاعٍ سَملَقٍ سَلَقِ ويدلّ على ذلك قولهم في الجمع: "أَبوازٌ"، و"بِيزانٌ". ومن ذلك "قَوْقَأتِ الدجاجة"، وأنشد الفرّاء [من الرجز]: يا دار ميّ ... إلخ وذلك أنّه لمّا اضطُرّ إلى حركة الألف قبل القاف من "المشتاق"؛ لأنّها تُقابِل لامَ "مُستفعِلُنْ" فلمّا حرّكها، انقلبت همزةً كما قدّمنا، إلّا أنّه حرّكها بالكسرة؛ لأنّه أراد الكسرة التي كانت في الواو المُنْقلبةِ الألفُ عنها، وذلك أنّه "مفتَعِلٌ" من "الشَّوْق"، وأصله: "مُشتَوِقٌ"، ثمّ قُلبت الواو ألفًا لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلها، فلمّا احتاج إلى حركة الألف، حرّكها بمثل الكسرة التي كانت في الواو، فاعرفه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: ومن الواو غير المضمومة في نحو: "إشاحٍ" و"إفادةٍ" و"إسادة" و {إعاء أخيه} (¬1) في قراءة سعيد بن جبير، و"أناةٍ", و"أسماء", و"أحدٍ" و"أحِّدْ" و"أحِّدْ" في الحديث (¬2). والمازني يرى الإبدال من المكسورة قياسًا. * * * قال الشارح: يريد أنّ من العرب من يُبدِل من الواو المكسورة همزةً إذا كانت فاء، ومن المفتوحة، فمثالُ إبدالها من المكسورة قولهم: "وِشاحٌ"، و"إشاح"، و"وِسادَةٌ"، و"إسادة". والوشاحُ: سَيرٌ أو ما يُضفَر من السير، ويُرصَّع بالجوهر، وتَشُدّ به المرأةُ وَسَطَها. والوِسادةُ: المِخَدّة. وقالوا: "وعاءٌ"، و"إعاءٌ". وقرأ سعيد بن جُبَير: {قبل إعآء أخيه} (¬3). وقالوا: "وِفادةٌ"، و"إفادة". وأنشد سيبويه [من البسيط]: 1282 - أمّا الإفادةُ فاستَولَت رَكائبُها ... عند الجَبابير بالبَأساء والنّعَمِ ووجهُ ذلك أنّهم شبّهوا الواو المكسورة بالواو المضمومة, لأنّهم يستثقلون الكسرة كما يستثقلون الضمّة. ألا ترى أنّك تحذفها من الياء المكسور ما قبلها كما تحذف الضمّة منها من نحو: "هذا قاضٍ"، و"مررت بقاضٍ"، إلّا أنّ هَمزَ الواو المكسورةِ، وإن كثُر ¬
عندهم، فهو أضعفُ قياسًا من همز الواو المضمومة، وأقلُّ استعمالًا. ألا ترى أنّهم يكرهون اجتماعَ الواوَين، فيُبْدِلون من الأولى همزةً، نحو: "الأَواقِي"، ولا يفعلون ذلك في الواو والياء، نحو: "وَيْحٌ"، و"وَيسٌ"، و"وَيْلٌ"، و"يَوْمٌ"؟ فلمّا كان حكم الضمّة مع الواو قريبًا من حكم الواو مع الواو، وجب أن يكون حكمُ الكسرة مع الواو قريبًا من حكم الياء مع الواو. واعلم أنّ أكثر أصحابنا يقفون في همز الواو المكسورة على السَّماع دون القياس، إلّا أبا عثمان، فإنّه كان يَطْرُد ذلك فيها إذا وقعت فاءً؛ لكثرة ما جاء منه مع ما فيه من المعنى، فإن انكسر وسطُها, لم يُجِز همزَها، نحو: "طَوِيل"، و"طويلة". وأمّا المفتوحة، فقد أُبْدِل منها الهمزة أيضًا على قلّة وندرة، قالوا: "امرأةٌ أناةٌ"، وأصله: "وناةٌ": "فَعَلَةُ" من "الوَني"، وهو الفتور، وهو ممّا يوصَف به النساء؛ لأنّ المرأة إذا عظُمت عَجِيزَتُها، ثقُلت عليها الحركة، قال الشاعر [من الطويل]: 1283 - رَمَته أناةٌ من رَبِيعَةِ عامِرٍ ... نَؤُومُ الضُّحى في مَأتَمٍ أَيِّ مَأْتمِ وقالوا: "أَسْماءُ"، اسم امرأة، وفيه وجهان: أحدهما أن تكون سمّيت بالجمع، فهو "أفْعالٌ"، وإنّما امتنع من الصرف للتأنيث والتعريف. والوجهُ الثاني أن يكون وزنه "فَعْلاء" من "الوَسامة"، وهو الحُسْن من قولهم: "فلانٌ وَسيمُ الوجه"، أي: ذو وسامة. وإنّما أبدلوا من الواو الهمزةَ، فعلى هذا لا تصرفه في المعرفة، ولا في النكرة. وعلى القول الأوّل لا ينصرف معرفةً، وينصرف نكرةً. وأمّا "أحدٌ" من قولهم في العدد: "أَحَدَ عَشَر" و"أحدٌ وعشرون"، فالهمزةُ فيه مبدلةٌ ¬
من الواو، وأصله: "وَحَدٌ", لأنّه من "الوَحْدة"، ومعنى الإفراد، وأمّا "ما بالدار من أحد"، فالهمزة فيه أصلٌ؛ لأنّه للعموم لا للإفراد، ولذلك لا يُستعمل في الواجب، لا تقول: "في الدار أحدٌ" (¬1). وفي الحديث أنّه قال لرجلٍ أشار بسَبّابتَيْه في التشهّد: "أَحِّدْ أَحِّدْ" أي: وَحِّدْ وَحِّدْ. * * * قال صاحب الكتاب: ومن الياء في "قطع الله أديه" و"في أسنانه أَلَل", وقالوا: "الشئمة" * * * قال الشارح: وقد أبدلوا الهمزة من الياء المفتوحة كما أبدلوها من الواو، وهو أقلّ من الواو، قالوا: "قطع الله أَدَيْهِ"، يريدون: يَدَيهِ، ردّوا اللامَ، وأبدلوا من الفاء همزةً، وقالوا: "في أسْنانه ألَلٌ" يريدون: "يَلَلٌ"، فأبدلِوا الياء همزةً، واليَلَلُ: قِصَرُ الأسنان العُلَى، ويقال: انعطافُها إلى داخل الفم، يقال: "رجلً أيلُّ وامرأةٌ يَلاّء" قال لبيد [من الرمل]: 1284 - رَقميّاتٌ عليها ناهِضٌ ... تُكلِحُ الأَرْوَقَ منهم والأَيلْ وقالوا: "الشِّئْمَة"، وهي الخليقة، وأصلها الياء، فالهمزة بدلٌ من الياء، فاعرفه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: وإبدالها من الهاء في "ماءٍ" و"أمواءٍ". قال [من الرجز]: 1285 - وبلدة قالصة أمواؤها ... ماصِحة رأد الضحي أفياؤْها وفي "أل فعلت", و"ألا فعلت". ومن العين في قوله [من الرجز]: 1286 - [وماج ساعاتٍ ملا الوديق] ... أباب بحر ضاحك زهوق * * * قال الشارح: قد أُبدلت الهمزة من الهاء، وهو قليل غيرُ مطّرد، قالوا: "ماءٌ"، وأصله "مَوَهٌ"، فقلبوا الواو ألفًا لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، فصار في التقدير "ماها"، ثمّ ¬
أبدلوا من الهاء همزةً؛ لأنّ الهاء مشبَّهةٌ بحروف العلّة، فقُلبت كقَلْبها، فصار "ماءً". وقولُهم في التكسير: "أَمْواهٌ", وفي التصغير: "مُوَيْهٌ" دليلٌ على ما قلناه من أنّ العين واوٌ، واللامَ هاءٌ, وقد قالوا في الجمع أيضًا: "أَمْواهٌ" فهذه الهمزة أيضًا بدلٌ من الهاء في "أَمْواه". ولمّا لزم البدلُ في "ماء"، لم يُعيدوه إلى أصله في "أَمْواء"، كما قالوا: "عِيدٌ" و"أَعْيادٌ". فأمّا البيت، فأنشده ابن جِنّي، قال أنشدني أبو عليّ [من الرجز]: وبلدة قالصة ... إلخ فالشاهد فيه أنّه جمع من غير هاء بالهمزة. وقوله: "قالصة"، أي: مرتفعة من قولهم: "قلص الماءُ في البِئْر"، أي: ارتفع، وماصحةٌ أي: قصيرة، يقال: "مصح الظلُّ"، أي: قصر. ورَأْدُ الضحى: ارتفاعُه. ومن ذلك قولهم: "شاءٌ" الهمزة فيه بدلٌ من الهاء، وهو جمعُ "شاةٍ"، وأصله: "شَوْهَةٌ" لسكون الواو على وزن "فَعْلَةَ" كـ"قَصْعَة" و"جَفْنَةٍ"، فحذفوا الهاء تشبيهًا بحروف العلّة لخفائها وضُعْفِها وتطرُّفِها. وهم كثيرًا ما يحذفون حروف العلّة إذا وقعت طَرَفًا بعدهنّ تاء التأنيث، نحو: "بُرَةٍ"، و"ثُبَةٍ"، و"قُلَةٍ"، كأنّهم أقاموا هاء التأنيث مقام المحذوف. ومثل "شاة" في حذف لامه "عِضَةٌ"، وأصله: "عِضْهَةٌ"، يدل على ذلك قولهم: "جملٌ عاضِهٌ" فلمّا حُذفت الهاء من "شاة"، بقي الاسم على "شوة"، فانفتحت الواوُ لمجاوَرة تاء التأنيث؛ لأنّ تاء التأنيث تفتح ما قبلها، فقُلبت الواو ألفًا لتحرُّكها، وانفتاح ما قبلها، وصارت "شاةً" كما ترى، فلمّا جُمعت، تُطرح تاء التأنيث على حدّ "تَمْرَةٍ" و"تَمْرٍ"، و"قَمْحَةٍ" و"قَمْحٍ"، فبقي الاسمُ على حرفَين آخِرُهما ألفٌ، وهي مُعرَّضةٌ للحذف إذا دخلها التنوين، كما تُحذف ألفُ "عَصًا" و "رَحًى"، فيبقى الاسم الظاهر على حرف واحد، وذلك محال، فأعادوا الهاء المحذوفة من الواحد، فصار في التقدير "شاه". وكان إعادةُ المحذوف أَوْلى من اجتلاب حرف غريب أجنبيّ، ثمّ أُبدلت الهاء همزةً، فقيل: "شاءٌ". وروى أبو عُبَيْدة أن العرب تقول: "أَلْ فعلتَ؟ " يريدون: "هل فعلت"؟ وإنّما قضي على الهمزة هنا بأنّها بدلٌ من الهاء لأجل غَلَبَة استعمال "هَلْ" في الاستفهام، وقلّةِ الهمزة، فكانت الهمزة أصلاً لذلك. فأمّا قولهم: "أَلَّا فعلتَ" في معنى: "هَلَّا فعلت"، فقد قيل: إِنّ الهمزة فيه بدلٌ من الهاء، والأصلُ: "هَلَّا"، والحقُ أنّهما لغتان, لأنّ استعمالهما في هذا المعنى واحدٌ من غير غلبةٍ لإحداهما على الأخرى، فلم تكن الهاء أصلًا بأوْلى من العكس. وأمّا قول الشاعر أنشده الأصمعيّ [من الرجز]: أباب بحر ضاحك زهوق
فصل [إبدال الألف]
فالمراد: "عُباب"، فأبدل الهمزةَ من العين لقُرْب مَخْرَجَيْهما، كما أُبدلت العين من الهمزة في نحو قوله [من البسيط]: أَعَنْ تَرَسَّمْتَ مِن خَرْقاءَ منزلةً ... ماءُ الصَّبابةِ من عينَيْك مَسْجُومُ (¬1) وأشباهِه. وقيل: إِنّ الهمزة أصلٌ، وليست بدلًا، وإنَّما هي من "أبَّ الرجلُ" إذا تَجهّز للذهاب، وذلك أنّ البَحْر يتهيّأ لِما يَزْخَر به. فصل [إبدال الألف] قال صاحب الكتاب: والألف أبدلت من أختيها, ومن الهمزة والنون, فإبدالها من أختيها مطرد في نحو: "قال" و"باع" و"دعا" و"رمى" و"باب" و"ناب", مما تحركتا فيه وانفتح ما قبلهما، ولم يمنع ما منع من الإبدال في نحو: "رميا" و"دعوا" إلا ما شذ من نحو: "القود" و"الصيد". * * * قال الشارح: قد أُبدلت الألف من أربعة أحرف، وهي: الواو والياء، وهما المراد بقوله أختيها، ومن الهمزة والنون. وإنّما كانت الواو والياء أختيها لاجتماعهنّ في المدّ وإبدالها منهما، نحو قولك: "قال"، و"باع"، وأصله: "قَوَلَ"، و"بَيَعَ"، فقلبوا الواو والياء ألفًا لتحرّكهما وانفتاح ما قبلهما، وكذلك "طالَ"، و"هابَ"، و"خافَ"، والأصلُ: "طَوُلَ"، و"هَيِبَ"، و"خَوِفَ"، فأُبدلتا ألفَيْن لِما ذكرنا، وكذلك "عَصَا" و"رَحى" أصلُهما: "عَصَوٌ"، و"رَحَىٌ". وكذلك "دَعَا" و"رَمَى" أصلُهما "دَعَوَ" و"رَمَيَ"، فصارا إلى الإبدال لِما ذكرنا من تحرُّكهما وانفتاحِ ما قبلهما. والعلّةُ في هذا القلب اجتماعُ الأشباه والأمثال، وذلك أنّ الواو تُعَدّ بضمّتَيْن، وكذلك الياء بكسرتَيْن، وهي في نفسها متحرّكة وقبلها فتحةٌ، فاجتمع أربعةُ أمثال، واجتماعُ الأمثال عندهم مكروهٌ، ولذلك وجب الادّغامُ في مثل "شَدَّ"، و"مَدَّ"، فهربوا والحالةُ هذه إلى الألف؛ لأنّه حرفٌ يُؤْمَن معه الحركةُ. وسوّغ ذلك انفتاحُ ما قبلها، إذ الفتحةُ بعضُ الألف، وأوّل لها، وكان اللفظ لفظَ الفعل، فإنّ الفعل يكون "فَعَلَ"، و"فَعِلَ"، و"فَعُلَ"، والأفعالُ بابُها التصرّف والتغيّر لتنقُّلها في الأزمنة بالمضِيّ والحال والاستقبال، ولذلك لم يقلبوا نحو: "عِوَض"، و"حَوِلٍ"، و"العُيَبَة"، و"الغَيَب"؛ لخروجها عن لفظ الفعل، مع أنّا لو قلبناها في نحو: "عِوَضٍ"، لَصرنا إلى الياء للكسرة قبلها, ولو قلبنا في "العُيَبَة"، لصرنا إلى الواو لضمّ ما قبلها، وهما لفظٌ لا تُؤْمَن معه الحركةُ، فلم ينتفعوا بالقلب. ¬
واعلم أنّ هذا القلب والإعلال له قيودٌ، منها: أن تكون حركة الواو والياء لازمةً غير عارضة, لأنّ العارض كالمعدوم لا اعتداد به. ألا ترى أنّهم لم يقلبوا نحو: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ} (¬1) و {لَتُبْلَوُنَّ} (¬2) , {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ} (¬3)؛ لكون الحركة عارضةً لالتقاء الساكنين، كما لم يجز همزُها لانضمامها، كما جاز في "أَثْؤُب" و"أَسْؤُقٍ" جمع "ثَوْبٍ" و"ساقٍ". ومنها أن لا يلزم من القلب والإعلال لبسٌ. ألا ترى أنّهم قد قالوا في التثنية: "قَضَيَا"، و"رَمَيَا"، و"غَزَوَا"، و"دَعَوَا" فلم يقلبوهما مع تحرّكهما وانفتاحِ ما قبلهما، لأنّهم لو قلبوهما ألفَيْن وبعدهما ألفُ التثنية، لوجب أن تحذف إحداهما لالتقاء الساكنين، فيلتبس الاثنان بالواحد. وكذلك قالوا: "الغَلَيان"، و"النَّزَوان"، فصحّت الياء والواوُ فيهما مع تحرُّكهما وانفتاحِ ما قبلهما, لأنّهم لو قلبوهما ألفَيْن، وبعدهما ألفُ "فَعَلان"، لوجب حذفُ إحداهما، فيقال: "غَلانٌ"، و"نَزانٌ"، فيلتبس "فَعَلانٌ" معتلّ اللام بـ"فَعال" ممّا لامُه نونٌ، فاحتملوا ثقلَ اجتماع الأشباه والأمثال، إذ ذلك أَيْسَرُ من الوقوع في محظور اللبس والإشكال. فأمّا "الحَيَدانُ"، و"الجَوَلانُ"، فمحمولٌ على "النَّزَوان"، و"الغَلَيان"؛ لأنّهم لمّا صحّحوا اللام مع ضُعْفها بتطرُّفها؛ كان تصحيحُ العين أوْلى لقوّتها بقُرْبها من الفاء وبُعْدها من الطرف. فأمّا "ماهان"، و"داران" فشاذّ في الاستعمال وإن كان هو القياس. ومن ذلك نحو: "هَوَى"، و"غَوَى"، و"نَوَى"، و"شَوَى" فإنّهم لم يُعِلّوا العين لاعتلال اللام، فلم يكونوا يجمعون بين إعلالَيْن في كلمة واحدة، وكان إعلالُ اللام أوْلى لتطرُّفها. ومن ذلك قولهم: "عَوِرَ"، و"صَيِدَ البعيرُ" إذا رفع رأسَه، لم يُعِلّوا ذلك؛ لأنّ "عَوِرَ" في معنى "اعْوَرَّ"، و"صَيِدَ" في معنى "اصيَدَ"، فلمّا كان لا بدّ من صحّة العين في "اعْورَّ" و"اصْيَدَّ" لسكون ما قبل الواو والياء فيهما، صحّحوا العين في "عَوِرَ"، و"صَيِدَ"؛ لانّهما في معناهما وكالأصل. وتُحذف الزوائد لضرب من التخفيف، فجُعل صحّةُ العين في "عَوِرَ" و"صَيِدَ" ونحوهما أمارةً على أن معناها "افْعَلَّ"، كما جعلوا التصحيحَ في "مِخْيَطٍ" وبابِه دلالةَ أنّه منتقصٌ من "مِخْياطٍ". ومثلُ "عَوِرَ"، و"صَيِدَ": "اعْتَوَنُوا" و"اهْتَوَشُوا"، و"اجْتَوَرُوا"، صحّت الواوُ فيها؛ لأنّها بمعنى "تَعاونوا"، و"تَهاوشوا"، و"تَجاوروا" ¬
وقد شذّت ألفاظٌ خُرَّجت مَنْبَهةً ودليلًا على الباب، وذلك نحو: "القَوَد"، و"الأَوَد"، و"الخَوَنَة"، و"الحَوَكَة"، كأنّهم حين أرادوا إخراج شيء من ذلك مصحَّحًا ليكون كالإمارة والتنبية على الأصل. تَأوّلوا الحركةَ بأن نزّلوها منزلة الحرف، فجعلوا الفتحة كالألف، والكسرة كالياء، وأجروا "فَعَلًا" بفتح العين مجرَى "فَعالٍ"، و"فَعِلًا" بكسر العين مجرى "فَعِيلٍ"، فكما يصحّ نحو "جَوابٍ"، و"صوابٍ" لأجل الألف، و"طَوِيل"، و"حَوِيل" لأجل الياء، صحّ نحو: "القَوَد" و"الحَوَكَة" لأجل الفتحة، و"حَوِل"، و"عَوِر" لأجل الكسرة. فكانت الحركة التي هي سببُ الإعلال على هذا التأويل سببًا للتصحيح، ولذلك من التأويل كسّروا نحو: "نَدَى" على "أَنْدِيَةٍ"، كما كسروا "رِداءً" على "أَرْدِيَةٍ". قال الشاعر [من البسيط]: في لَيْلَةٍ من جُمادى ذاتِ أَنْدِيَةٍ ... لا يُبصِرُ الكَلْبُ من ظَلْمائها الطُّنُبا (¬1) وما عدا ما ذُكر ممّا تحرّكت فيه الواوُ والياء وانفتح ما قبلهما، فإنّهما تُقْلَبان ألفَيْن نحو: "قالَ"، و"باعَ"، و"طالَ"، و"خافَ"، و"هابَ"، و"غَزَا"، و"رَمَى"، و"بابٍ", و"دارٍ"، و"عَصَا"، و"رَحًى". واعلم أنّ الواو والياء لا تُقْلَبان إلّا بعد إيهانهما بالسكون، ولا يلزم على ذلك القلبُ في نحو "سَوْطٍ" و"شَيْخ"؛ لأنّه بُني على السكون، ولم يكن له حظٌّ في الحركة فيهِنَّ بحذفها، فلو رُمْتَ قَلْبَ الواو والياء في "قَوَمَ" و"بَيَعَ"، وهما متحرّكان، لأحلتَ لاحتمائهما بالحركة، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وغير مطرد في نحو: "طائي", و"حاري", و"ياجلُ". * * * قال الشارح: وقد أبدلوا من الواو والياء الساكنتين ألفًا، وذلك إذا انفتح ما قبلهما طلبًا للخفّة، وذلك قليل غير مطّرد. قالوا في النسب إلى "طَيّىءٍ": "طائِيّ"، والأصل: "طَيّئيٌّ"، فاستثقلوا اجتماع الياءات مع كسرة، فحذفوا الياء الأولى، فصار: "طَيْئِيًّا"، كما قالوا: "سَيْدٌ"، و"مَيْتٌ"، في "سَيّد"، و"مَيّتٍ" ثمّ أبدلوا من الياء ألفًا، فقالوا: "طائِيٌّ" للفتحة قبلها. والذي حملهم على ذلك طلبُ الخفّة. وقالوا في النسب إلى "الحِيرَة": "حارِيّ". قال الشاعر [من البسيط]: 1287 - فَهِيَ أَحْوَى مِن الرِّبْعِىّ حاجِبُه ... والعَينُ بالإثْمِدِ الحارِيّ مَكحُولُ ¬
كأنّه استثقل اجتماع الكسرتين مع الياءات، فأبدل من كسرة الحاء فتحةً، ومن الياء ألفًا. وقد جاء في الحديث: "ارْجِعْنَ مازُوراتٍ غير ماجوراتٍ" (¬1)، وأصله: "مَوْزورات"، فقُلبت الواو ألفًا تخفيفًا كما ذكرنا. وقد قالوا في النسب إلى "دَوّ": "داوِيٌّ"، قلبوا من الواو الأولى الساكنة ألفًا. قال ذو الرمة [من البسيط]: داوِيّةٌ ودُجى لَيْلٍ كأنّهما ... يَمٌّ تَراطَنَ في حافاتِه الرُّومُ (¬2) ويجوز أن يكون بني من "الدَّو" فاعلاً، ثمّ نسب إليه، من ذلك قول عمرو بن مِلْقِطٍ [من السريع]: 1288 - والخَيْلُ قد تُجشِم أَرْبابَها الشِ. . . قَّ وقد تَعْتَسِفُ الدَّاوِيَه ¬
وذلك أنّه أراد: "الداوِوَة"، ثمّ قلب الواو الأخيرة ياءً على حد "غازِيَةٍ"، و"مَحْنِيَةٍ". ومن ذلك قولهم في "يَؤجَلُ": "ياجَلُ". وقالوا في "يَيْأسُ": "يَاءَسُ". وإنّما قلبوا الواو والياء ألفًا؛ لأنّهم رأوا أنّ جمع الياء مع الألف أسهلُ عليهم من الجمع بين الياءين ومن الياء مع الواو. وفيها لغاتٌ، قالوا: "وَجِلَ، يَوْجَلُ" على الأصل، و"يَاجَلُ" بقلب الواو ألفًا وإجراء الحرف الساكن مجرى المتحرّك. وقالوا: "يِيجَلُ" بكسر حرف المضارعة, ليكون ذلك طريقًا إلى قلب الواو ياءً، وقالوا: "يَيجَلُ" بقلب الواو ياءً من غير كسرة وإجراء الياء المتحرّكة ههنا مجرى الساكنة، فقلبوا لها الواوَ على حدّ "سَيْدٍ" و"مَيْتٍ"، كما أجروا الساكنة مجرى المتحرّكة في "طائِيّ"، و"داوِيٍّ". والأشبهُ أن يكون قوله [من الطويل]: تَزَوَّدَ مِنّا بين أُذناه طَعْنَةً ... [دَعَتْهُ إلى هَابِي التُّرابِ عَقِيمِ] (¬1) ونظائرُه من ذلك. * * * قال صاحب الكتاب: وإبدالها من الهمزة لازم في نحو آدم، وغير لازم في نحو راسٍ. * * * قال الشارح: قد تقدّم الكلام على ذلك، وإنّما وقع البدل في نحو: "آدَمَ" لازمًا؛ لاجتماع الهمزتَين. ومعنى اللزوم أنّه لا يجوز استعمال الأصل. وأمّا "رَاسٌ" فيجوز استعمال الأصل والفرع، فكان غير لازم لذلك. * * * قال صاحب الكتاب: وإبدالها من النون في الوقف خاصة على ثلاثة أشياء: المنصوب المنوَّن، وما لحقته النون الخفيفة المفتوح ما قبلها، و"إذَنْ"، كقولك: "رأيت زيداً", و {لنسفعا} (¬2) و {فعلتها إذا} (¬3). * * * ¬
قال الشارح: إنّما أُبدلت الألف من النون في هذه المواضع لمضارعة النون حروفَ المدّ واللين بما فيها من الغُنّة، وقد تقدّم القول إِنّ الألف تُبْدَل من التنوين في حال النصب. وقد تقدّم في الوقف العلّةُ التي لأجلها جاز إبدالُ هذا التنوين ألفًا. وأمّا السببُ الذي يمنع من التعويض في المرفوع في الوقف واوًا، وفي المجرور ياءً، فلم نُعِدْه ههنا؛ فأمّا إبدالُها من نون التأكيد الخفيفة إذا انفتح ما قبلها، ووقفت عليها، فنحو قوله تعالى: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} (¬1)، إذا وقفت: قلت "لنسْفَعا" وكذلك: "اضْرِبَن زيدًا"، إذا وقفت قلت: "اضرِبَا" قال الأعشى [من الطويل]: ولا تَعْبُد الشيطانَ واللهَ فاعْبُدَا (¬2) يريد. فاعبدَنْ. وقال الآخر [من الطويل]: متى تَأتِنا تُلْمِمْ بنا في دِيارنا ... تَجِدْ حَطَبًا جَزْلًا ونارًا تَأجَّجَا (¬3) يريد: تأجّجَنْ، فأبدلها ألفًا. والعلّة في ذلك شَبَهُ النون ههنا بالتنوين في الأسماء ألا ترى أنّهما من حروف المعاني، ومحلُّهما آخِرُ الكلمة، وهي خفيّة ضعيفة، وقبلها فتحةٌ، فأبدل منها الألف كما أبدل من التنوين. وقد قيل في قول امرئ القيس [من الطويل]: قِفا نَبْكِ من ذِكرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ (¬4) أراد: "قِفَنْ"، ونظائرُ ذلك كثيرة. وأمّا "إذَنْ" التي للجزاء، فإنّ نونها وإن كانت غير زائدة، فإنّها تُبْدَل في الوقف ألفًا لسكونها وانفتاحِ ما قبلها, ولا يلزم ذلك في "أنْ" و"عَنْ" و"لَنْ"؛ لأنّ البدل في "إذَنْ" إنّما كان مع ما ذكرتُه من سكونها وانفتاح ما قبلها، من قِبَل مشابَهتها نفسها الاسمَ والفعلَ. ألا ترى أنها تُلْغَى في قولهم: "أَنَا إذًا أُكْرِمُك". ولا تُعْمِلها كما يُلْغَى الفعل في قولهم: "ما كان أَحْسَنَ زيدًا"، والاسمُ في قولهم: "كان زيدٌ هو العاقلَ". ويقع آخِرًا غيرَ متّصل بالفعل، كقولك: "أنا أُكرِمُك إذَنْ". فلمّا أشبهت الاسمَ والفعلَ، أُبدلت من نونها الألفُ في الوقف، كما أبدلت في "رأيت رجلًا"، و"لتَسَفْعَا". فإن قيل: إذا كنتم إنّما أبدلتم من نون "إذًا" في الوقف ألفًا لشَبَهها بالاسم والفعل، فهلاّ أبدلتم من النون الأصليّة في الاسم، نحو: "حَسَنٍ"، و"قَطَنٍ"، فكمْت تقول؟ "حَسا" و"قَطا"، قيل: القلب إنّما كان لشَبَه هذه النون بالتنوين ونون التأكيد، ونونُ "حَسَن" و"قَطَن" متحرّكة، فقويت بالحركة، وقَلْبُ التنوين والنون الخفيفة لأنّهما ساكنان، فاعرفه. ¬
فصل [إبدال الياء]
فصل [إبدال الياء] قال صاحب الكتاب: والياء أبدلت من أختيها، ومن الهمزة، ومن أحد حرفي التضعيف، ومن النون والعين والعين والباء والسين والثاء. فإبدالها من الألف في نحو: "مفيتيح", و"مفاتيح", وهو مطردٌ, ومن الواو في نحو: "ميقاتٍ" و"عصىّ", و"غازٍ", و"غازيةٍ", و"أدلٍ", و"قيام" و"انقياد" و"حياض" و"سيد", و"لية" و"أغزيت", و"استغزيتُ", وهو مطرد, وفي نحو: "صبية" و"ثيرة" و"عليانٍ" و"ييجل"، وهو غير مطرد. * * * قال الشارح: إنّما كثُر إبدالُ الياء؛ لأنّه حرفٌ مجهورٌ، مخرجُه من وسط اللسان، فلمَّا توسّط مخرجُه الفمَ، وكان فيه من الخفّة ما ليس في غيره، كثُر إبدالُه كثرةً ليست لغيره. وإبدالُها وقع على ضربين: مطردٌ وشاذٌ، فالمطرد إبدالُها من ثلاثة أحرف: الألف والواوِ والهمزةِ، فإبدالُها من الألف إذا انكسر ما قبلها، نحو قولك في تصغير "حِملاقٍ": "حُمَيلِيقٌ"، وفي تصغير "قِرْطاسٍ": "قُرَيطِيسٌ"، وفي تصغير "مِفتاح": "مُفَيتِيحٌ". وكذلك التكسير، نحو: "حَمالِيقُ"، و"قَراطِيسُ"، و"مَفاتِيحُ". ومن ذلك: "قاتلتُه قِيتالًا"، و"ضاربته ضِيرابًا". قُلبت الألف في ذلك كلّه لانكسار ما قبلها. وإنّما وجب قلبُها ياء إذا انكسر ما قبلها, لضُعْفها بسَعَة مخرجها، فجرت مجرى المدّة المُشْبَعة عن حركةِ ما قبلها، فلم يجز أنّ تُخالِف حركةُ ما قبلها مخرجَها، بل ذلك ممتنعٌ مستحيلٌ. وأمّا إبدالُها من الواو، فإذا سكنت وانكسر ما قبلها, ولم تكن مدّغمةً؛ نحو: "مِيقاتٍ"، و"مِيزانٍ"؛ لأنّه من "الوقت" و"الوزن". ومن ذلك "رِيحٌ"، و"دِيمَةٌ"؛ لأنّه من "الرَّوْح"، و"دَوَّمَت السحابةُ". فأمّا "عُصِيٌّ"، و"حُقِيٌّ"، و"دُليٌّ"، ونحوها، فإنّ عَقْدَ ذلك أنّ كلّ جمع يكون على "فُعُولٍ" ولامه واوٌ، فإنّ اللام تنقلب ياءً، فيصير "عُصُويٌ"، فيجتمع الواو والياء، والأوّلُ ساكنٌ، فتُقْلَب الواو ياءً، وتُدّغم الواو في الياء على حدّ "طَيّ"، و"ليّ". والعلّةُ في ذلك قريبةٌ من حديث "رِداءٍ" و"كِساءٍ". وذلك أنّ الواو فيها طريقان: أحدهما: أنّ الواو الأولى مَدّةٌ زائدةٌ، فلم يُعتدّ بها كما كانت الألفُ في "كساءٍ" كذلك، فصارت الواو التي هي لام الكلمة كأنّها وليت الضمّةَ، وصارت في التقدير "عُصُوٌ"، فقلبوا الواو ياء على حدّ قلبها في "أحْقٍ"، و"أَدْلٍ".
والآخرُ: أنّهم نزلوا الواو الزائدة منزلةَ الضمّة، فكما قلبوا في "أَدْلٍ"، و"أَحَقٍ"، كذلك قلبوا في نحو: "عُصِيٍّ"، و"دُنيٍّ"، وانضاف إلى ذلك كونُ الكلمة جمعًا، والجمعُ مستثقَل، فصار "عُصِيًّا". ومنهم من يُتبع ضمّةَ الفاء العينَ ويكسرها، ويقول: "عِصِيٌّ"، بكسر العين والصاد، ليكون العملُ من وجه واحد. ولو كان المثال "عُصُوًّا" اسمًا واحدًا غيرَ جمع، لم يجب القلبُ؛ لخفّة الواحد. ألا تراك تقول: "مَغْزُوٌّ"، و"مَدْعُوٌّ"؟ و"عُتُوٌّ" مصدرُ "عَتَا يَعتُو"، فيقرّ الواو، هذا هو الوجه، ويجوز القلبُ، فتقول: "مَغْزِيٌّ"، و"مَدْعيٌّ". قال الشاعر [من الطويل]: وقد عَلِمَتْ عِرْسي مُلَيكَةُ أنّني ... أنا اللَّيثُ مَعْدُوًّا عَليّ وعادِيا (¬1) يروى بالوجهين معًا. فأمّا نحو: "عُصِيٍّ"، و"حُقِيٍّ"، فلا يجوز فيها إلّا القلبُ لكونها جموعًا. فأمّا "النُّجُوُّ" في جمع "نَجْو"، وهو السحاب، و"النُّحُوُّ" للجهات، فهو جمع "نَحْوٍ"، وهو المصدر، فشاذّ، كأنّه خرج تَنبيهًا (¬2) على أصل البناء، نحو: "القَوَد" و"الحَوَكَة". قال أبو عثمان: هذا شاذّ ومشبَّهٌ بما ليس مثلَه. فأمّا "غازٍ" فالياء فيه من الواو, لأنّه من "غَزَا" "يَغزُو"، وإنّما وقعت الواو طرفًا، وقبلها كسرةٌ، والطرفُ في حكم الساكن, لأنّه بعَرَضيّةِ الوقف، والموقوفُ عليه ساكنٌ، فقُلبت ياء على حدّ قلبها في "ميزان"، و"ميعاد"، ونظائرُ ذلك كثيرة. نحو: "داع"، و"دانٍ" وما أشبه ذلك. فأمّا "غازِيَةٌ" و"مَحْنِيَةٌ"، فأصلهما: "غازِوَةٌ"، و"مَحْنِوَةٌ"، وإنّما قُلبت الواو وإن كانت متحرّكة من قِبَل أنّها وقعت لامًا، فضعُفت، وكانت التاء كالمنفصلة، فإن قيل: فقد قالوا: "حُنْذُوَةٌ"، فصحّحوا الواو، قيل: إنّما صحّت فيه الواو - وإن كانت آخِرًا- من قِبَل أنّهم لو قلبوها، فقالوا: "حُنْذِيَةٌ"، لم تعلم "أفُعْلُوَةُ" هي أم "فُعْلِيَة"، فجرت مجرى "حِذرِيَةٍ"، و"عِفْرِيَةٍ". وأمّا "أَدْلٍ" في جمع "دَلوٍ" و"أَحْقٍ" في جمع "حَقْوٍ"، فهما من جموع القلّة على حدّ "أَفْلُسٍ" و"أكعُبٍ" في جمع "فَلْسٍ" و"كَعْبٍ"، ولكنّه لمّا وقعت الواو طرفًا بعد ضمّة، وليس ذلك في الأسَماء المتمكّنة، عدلوا عنهَ إلى أنّ أبدلوا من الضمّة كسرةً، فانقلبت الواو ياءً، فصار من قبيل المنقوص. ومنه قول الشاعر [من البسيط]: لَيثٌ هزَبرٌ مُدِلٌّ عند خِيسَتِه ... بالرّقمَتَين له أَجرٍ وأَعْراسُ (¬3) والأصل: "أجرُوٌ"، فأبدلوا من الضمّة كسرةً، ومن الواو ياءً على ما تقدّم. ¬
وأمّا "قِيامٌ" و"انقِيادٌ"، فإنّما اعتلّت العين فيهما مع انكسارِ ما قبلها لاعتلال فعلَيهما, ولولا ذلك لمِ يجب الاعتلالُ لتحرُّك الواو، ووقوعِها حشوًا، ألا ترى أنّه لمّا صحّت العين في "لَاوَذ"، صحّت في "لِواذٍ" من قوله تعالى: {يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} (¬1)، فكذلك لمّا اعتلّت في "قَامَ"، وجب اعتلالُها في "قِيام". وكذلك "انْقِيادٌ" اعتلّت العين في المصدر لاعتلال العين في "انْقادَ". وكذلك "ثِيابٌ" و"حِياضٌ" أصلُ الياء فيهما الواوُ؛ لأنّ الواحد "حَوْضٌ" و"ثَوْبٌ"، فأشبهت لسكونها الألفَ في "دار"، فكما تقول: "دِيارٌ"، كذلك تقول: "ثِيابٌ" و"حِياضٌ". وإنّما اعتلّت في "دِيارٍ" لاعتلالها في "دار". قال ابن جِنِّي: إنما قُلبت الواو في نحو: "حِياض" لأمور خمسة، منها أنّ واو الواحد فيها ضعيفةٌ ساكنةٌ، ومنها أنّ قبل الواو كسرةً, لأنّ الأصل "ثِوابٌ" و"حِواض"، ومنها أنّ بعد الواو ألفًا، والألفُ قريبة الشَّبَه بالياء، ومنها أنّ اللام صحيحة غيرُ معتلّة، والجيّد أن تكون هذه الأمور مأخوذةً في الشَّبَه بـ "دارٍ" و"دِيارٍ", ولذلك لم يُعِلّوا نحو: "طِوالٍ" لتحرُّك الواو في نحو: "طَوِيلٍ"، ولم يُعِلّوا نحو "عَوْد"، و"عِوَدَة"، و"زَوْج"، و"زِوَجَة"؛ لأنّ الجمع ليس علي بناء "فِعال" كـ "دِيار", ولم يعلّوا نحو: "طِواء" و"رِواءٍ"، في جمع "طَيّان" و"رَيّانَ"، لاعتلال لامه، فاعرفه. وأمّا "سَيِّدٌ" و"لَيَّةٌ"، فأصلُ "سيّد": "سَيْوِدٌ" "فَيْعِلٌ" من "سادَ يَسُودُ"، وأصل "لَيَّةٍ": "لَوْيَةٌ" "فَعْلَةُ" من "لَوَى يَدَه" و"لوى غَرِيمَه" إذا مطله، فاجتمعت الواو والياء، وهما بمنزلةِ ما تَدانت مخارجُه، وهما مشتركان في المدّ واللين، والأولى منهما ساكنةٌ، فقُلبت الواو ياءً، ثم ادُّغمت الياء في الياء؛ لأنّ الواو تُقلَب إلى الياء، ولا تقلب الياء إلى الواو، لأنّ الياء أخفُّ، والادّغام نقلُ الأثقل إلى الأخفّ، وقد استقصيتُ هذا الموضعَ في "شرح المُلوكيّ". وأمّا "أَغْزَيْتُ" و"اسْتَغزَيتُ"، فالياء فيهما بدلٌ من الواو, لأنّه من "الغَزو"، وإنّما قُلبت ياءً لوقوعها رابعةً، وإنّما فعلوا ذلك حملًا على المضارع، نحو: "يُغزِي" و"يَسْتَغْزِي". وإنما قلبوها في المضارع لانكسار ما قبلها، وذلك مَقيِسٌ مطّردٌ. وقد أبدلوا الياء من الواو، إذا وقعت الكسرة قبل الواو وإن تراخت عنها بحرفٍ ساكنٍ, لأنّ الساكن لضُعْفه ليس حاجزًا قويًّا، فلم يُعتدُّ حاجزًا، فصارت الكسرة كأنّها باشرتِ الواوَ، وذلك قولهم: "صِبْيَةٌ" و"صبيانٌ"، والأصل "صِبْوَةٌ" و"صِبوانٌ"؛ لأنّه من "صَبَوْت أَصْبُو"، فقُلبت الواو ياءً لكسرة الصاد قبلها, ولم تفصل الباء بينهما لضعفها بالسكون. وربّما قالوا: "صِبوانٌ"، فأخرجوها على الأصل. وقد قال بعضهم: "صُبْيانٌ" بضمّ الصاد مع الياء، وذلك أنّه ضمّ الصادَ مع الياء، وذلك أنَّه ضمّ الصادَ بعد أن قلبت الواو ياءً في لغةِ مَن كسر، فأُقرّت الياء على حالها. ¬
وأمّا "ثِيَرَةٌ" فشاذّ، والقياس: "ثوَرَةٌ". قال أبو العبّاس محمَّد بن يزيد: إنّما قالوا: "ثِيَرَةٌ" في جمع "ثَور" للفرق بين هذا الحيوان، وبين "ثِوَرَةٍ" جمع "ثَورٍ" وهي القطعة من الأقَط. وقالوا: "ناقةٌ بِلوُ أَسفارٍ، وبِلْيُ أسفار"، وهو من "بَلوتُ". وقالوا: "ناقةٌ عِليانٌ وعَليانةٌ"، أي: طويلة جسيمة، فهو من "عَلَوْتُ"، فقلبوا الواو ياءً لما ذكرناه من الكسرة قبلها, ولم يعتدّوا بالساكن بينهما لضعفه. فأمّا "يَيْجَلُ" فقد تقدّم الكلام عليه. * * * قال صاحب الكتاب: ومن الهمزة في نحو: "ذيبٍ" و"ميرٍ" على ما قد سلف في تخفيفها. * * * قال الشارح: قد تقدّم الكلام على الهمزة أنّها تقلب ياءً إذا انكسر ما قبلها ساكنةً كانت أو مفتوحةً بما أغنى عن إعادته. * * * قال صاحب الكتاب: ومن أحد حرفي التضعيف في قولهم: "أمليت"، و"قصَّيت أظفاري"، و"لا وربيك لا أفعل"، و"تسرَّيت", و"تظنَّيتُ"، و {لم يتسن} (¬1)، و"تقضى البازي", وقوله [من الطويل]: 1289 - نزور امرأ أما الإله فيتَّقي ... وأما بفعل الصالحين فيأتمي و"التَّصديةِ" فيمن جعلها من "صدَّ يَصدُّ"، و"تلعيت" من "اللُّعاعة"، و"دَهْدَيْتُ", ¬
و"صهصيتُ", و"مكاكيَّ" في جمع "مكُّوكٍ"، و"دياج" في جمع "ديجوج"، و"ديوانٍ" و"ديباج" و"قيراط"، و"شيراز", و"ديماس" فيمن قال: "شراريز" و"دماميسُ", وقوله [من الرجز]: 1290 - [قام بها ينشد كل منشد] ... وايتصلت بمثل ضوء الفرقد أبدل الياء من التاء الأولى في "اتصلت", ومما سوى ذلك في قولهم: "أناسي" و"ظرابيُّ", وقوله [من الرجز]: 1291 - ومنهل ليس له حوازق ... ولضفادي جمه نقانق وقوله [من البسيط]: 1292 - لها أشارير من لحم متمَّرة ... من الثَّعالي ووخزٌ من أرانيها ¬
وقوله [من الوافر]: 1293 - إذا ما عُدَّ أربعة فسالٌ ... فزوجك خامسٌ وأبوك سادي وقوله [من الرجز]: 1294 - قد مرَّ يومان وهذا الثالي ... وأنت بالهجران لا تبالي * * * ¬
قال الشارح: قد أُبدلت الياء من حروف صالحةِ العدة على سبيل الشذوذ، ولا يقاس عليه، ونحن نسوق الكلام على حسب ما ذكره. من ذلك قولهم: "أَمْلَيْتُ الكتابَ"، قال الله تعالى: {فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} (¬1)، والأصل: "أَمْلَلتُ". وقال الله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} (¬2). والوجهُ أنّهما لغتان, لأنّ تصرُّفهما واحدٌ، تقول: "أَمْلَى الكتابَ يُمْلِيه إمْلاءً، و"أمَلَّهُ يُمِلُّهُ إمْلالًا"، فليس جعلُ أحدهما أصلاً والآخر فرعًا بأولى من العكس، وقالوا: "قَضيتُ أَطفارِي" حكاه ابن السِّكيت في "قصّصتُ"، أبدلوا من الصاد الثالثة ياء لثقل التضعيف، ويجوز أن يكون المراد "تَقَصَّيْتُ أظفاري" , أي: أتيتُ على أقاصيها, لأنّ المأخوذ أطرافها، وطرفُ كلّ شيء أقصاه. وقالوا: "لا وَرَبِيك لا أفعلُ" يريدون: "لا وَرَبَّك"، فأبدلوا من الباء الثانية ياءً لثقل التضعيف. وقالوا: "تَسَرَّيتُ"، وأصله "تَسَرَّرْتُ" "تَفَعَّلْتُ" من "السَّرْ"، وهو "النَّكاح"، وسُمّي النكاح سِرًّا، لأنّ من أراده استتر واستخفى، و"سُرِّيَّةَ": فُعْلِيَّةُ منه، فأبدلوا من الراء الثالثة الياء للتضعيف. وقال أبو الحسن: هو فُعْلِيَّةُ من "السرور"، وذلك أنّ صاحبها يُسَرّ بها. وقالوا: "تَظَنَّيْتُ"، وأصله "تَظَنَّنْتُ"، و"التظَنِّي": إعمالِ الظنّ، وأصله "التَّظَنُّن"، فأبدلوا من إحدى نوناته الياء لثقل التضعيف، وقالوا في قوله تعالى: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} (¬3): أصله لم يَتَسَنَّنْ، من قوله تعالى. {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} (¬4)، أي: متغيَّر، فأبدل من النون الثالثة ياءً، ثم قلبها ألفًا لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلها، فصار "يَتَسَنَّى"، ثمّ حذف الألف للجزم، فصار اللفظ: "لم يَتَسَنَّ". هذا قول أبي عمرو، وقيل: هو من "السَّنَة"، ومعناها أي: لم تُغَيِّرْه السنون بمرورها، وذلك على قول من قال: "سَنَةٌ سَنْواءٌ وسَنَواتٌ". ومن قرأ: ¬
"يَتَسَنَّهْ" (¬1)، جاز أن تكون الهاء للسكت، ويكون اللفظُ كما تقدّم, وجاز أن تكون الهاء أصلاً من قولهم: "سانَهتُه". وأمّا قولهم: "تَقَضَّى البازى"، فالمراد: "تَقَضَّضَ" من قولهم: "انقضّ الطائرُ" إذا هوى في طَيَرانه، ولم يستعملوا التفعّل منه إلّا مُبْدلًا، قال العجّاج [من الرجز]: 1295 - [إذا الكِرامُ ابتَدووا الباع بدرْ] ... تَقَضّيَ البازي إذا البازي كَسَرْ وأمّا قول الآخر: نزور امرأ ... إلخ أنشده ابن السكّيت عن ابن الأعرابيّ، والشاهد فيه قوله: "يأتمي"، أراد: "يَأْتَمُّ"، لكنّه أبدل من الميم الثانية ياءً؛ فأمّا "التَّصْدِيَة" من قوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} (¬2) فالياء بدلٌ من الدال, لأنّه من "صَدَّ يَصِدّ" وهو التصفيق والصوت، ومنه قوله تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} (¬3)، أي: يَضِجّون، ويَعجِّون، ¬
فحوّل إحدى الدالَين ياءً. هذا قول أبي عُبَيدة، وأنكر الرُّسْتَميّ هذا القول، وقال: إنما هو من "الصَّدى"، وهو الصوت. والوجهُ الأولُ غير ممتنع لوقوع "يصدّون" على الصوت، أو ضرب منه. وإذا كان كذلك، لم يمتنع أن تكون تَصدِيَةٌ منه، فتكون تَفعِلَة كالتحِلة والتعِلّة. فَلمّا قُلبت الدال الثانية ياء، امتنع الادغامُ لاختلاف اللفظَين. وقالوا: "تَلَعيتُ"، أي: أكلتُ اللُّعاعَة، وهي بَقْلَة ناعمة، وذلك فيما حكاه ابن السّكيت عن ابن الأعرابي. قال الأصمعي: ومنه قيل للدنيا: "لُعاعةٌ"، وأصله: "تَلَعَّعتُ"، أبدلوا من إحدى العينَين ياءً على حدِّ "تَظَنَّيْتُ" كراهيةَ اجتماع العينات. وقالوا: "دَهْدَيتُ الحجرَ، فتَدَهْدَى، أُدَهدِيه دَهْداةً ودِهداءً": أي: دَهدَهتُه فتَدَهدَهَ، أي: دَحرجتُه فتَدَحرَجَ، قال ذو الرمة [من البسيط]: 1296 - [أدنى تَقاذُفِهِ التَّقريبُ أو خَبَبٌ] ... كما تَدَهدى من العَرضِ الجَلاميدُ وقال أبو النَّجم [من الرجز]: 1297 - كأن صَوتَ جَرعِها المُستعجَلِ ... جَندَلَةٌ دَهدَيتَها مِن جَندَلِ ¬
ويدل أن "دَهدَهتُ" هو الأصل قولُهم: "دهدوهة (¬1) الجُعَل" لِما يُدَحْرِجه. وقالوا: "صَهصَيتُ" في "صَهصَهتُ" إذا قلت: "صَهْ صَهْ"، بمعنى أسكُتْ، فالياء بدلٌ من الهاء كراهيةَ التضعيف. وقالوا: "مَكوكٌ"، و"مَكاكِيكُ"، و"مَكاكِيُّ" فيما حكاه أبو زيد، فبعد الكاف ياءٌ مشددة، فهما ياءان، فالأولى بدل من واو "مَكّوك" صارت ياءً في الجمع لانكسار ما قبلها، والثانيةُ بدل من الكاف للتضعيف. وقالوا: "دَياج" في جمع "دَيجُوجٍ"، وهو المظلِم، يقال: "ليل دَيجُوجٌ"، أي: شديدُ الظُّلْمة، وأصله "دَياجِيجُ"، فكرهوا التضعيف، فأبدلوا من الجيم الأخيرة ياء، فاجتمعت مع الياء الأولى، فخففوا بحذف إحدى الياءيْن، فصار "دَياجٍ" من قبيل المنقوص. وقالوا: "دِيوانٌ"، وأصله: "دِوّانٌ"، ومثاله "فِعالٌ"، النون فيه لامٌ لقولهم: "دَوَّنْتُ"، و"دُوَيْوِينٌ" في التحقير. فإن قيل: فهلا قلبتم الواو ياء لوقوع الياء الساكنة قبلها على حد قلبها في "سَيِّدٍ" و"مَيتٍ"، قيل: لأنه كان يؤدّي إلى نقض الغرض، لأنهم كرهوا التضعيف في "دِوّان"، فأبدلوا ليختلف الحرفان، فلو أبدلوا الواو فيما بعدُ، وقالوا: "دِيانٌ"، لعادوا إلى نحو مِما فرّوا منه مع أن الياء غير لازمة؛ لأنها إنما أبدلت تخفيفًا، ألا ترى أنهم قالوا: "دَواوِينُ"، فأعادوا الواو لما زالت الكسرةُ من قبلها، فبانَ لك أن هذه الياء ليست لازمة، لأنها ترجع إلى أصلها في بعض الأحوال؟ وقد قال بعضهم: "دَياوِين"، فجعل البدل لازمًا. وقالوا: "دِيباجٌ"، والأصل: "دِبّاج" دلّ على ذلك قولهم: "دبَابِيجُ" بالباء في الجمع، كأنهم كرهوا التضعيف، فأبدلوا. وقالوا: "قِيراط"، وأصله: "قِرَّاط" على ما تقدّم، فأبدلوا من الراء الأولى ياءً لثقل ¬
التضعيف، دل على ذلك قولهم في الجمع: "قَرارِيط". فظهورُ الراء دليلٌ على ما قلناه. وقالوا: "شيراز"، وقالوا في الجمع: "شَرارِيزُ"، و"شَوارِيزُ". فمن قال: "شَرارِيزُ"، كان أصله عنده "شِرّازٌ" كـ "قِرّاطٍ"، ومن قال: "شَوارِيزُ"، كانت الياء عنده مبدلة من الواو الساكنة على حدّ الإبدال في "مِيزان" و"مِيعاد". فإن قيل: فإنّ مثال "فِوْعال" غير موجود، فكيف ساغ حملُ "شيراز" على مثالٍ لا نظيرَ له؟ قيل: عدمُ النظير لا يضُر مع قيام الدليل؛ إمّا إذا وُجد، كان مُؤنِسًا؛ وإمّا أن يتوقف ثبوتُ الحكم مع قيام دليله على وجوده، فلا. وقالوا: "ديماسٌ" للسجْن وللسَّرَب، ويقال للسرب أيصا: "دَيماس". وقالوا في جمعه: "دَمامِيسُ" و"دَيامِيسُ"، فمن قال: "دماميس"، كانت الياء مبدلة من الميم في الواحد، وكان من قبيل "قِيراط" و"قرَارِيطَ". ومن قال: "دَيامِيسُ" لم تكن مبدلة، وكانت مزيدة للإلحاق بـ "سِرداح"، ولذلك قال سيبويه (¬1) فيمن قال: "شَواريزُ"، و"دَيامِيسُ". وقالوا في "اتصَلَت": "ايتَصَلَت"، أبدلوا من التاء الأولى ياء للعلة المذكورة، قال الشاعر [من الرجز]: قام بها يُنشِدُكل مُنشِدِ ... فايتَصَلَت بِمِثْلِ ضَوْءِ الفَرْقَدِ (¬2) أراد: اتصَلَتْ، فكره التضعيف. وقالوا: "إِنسانٌ"، و"أَنَاسِيّ"، و"ظَرِبانٌ"، و"ظَرابِيُّ". فأما "أناسِيّ" فأصله: "أناسِين" على حد "سِرْحانٍ"، و"سراحِينَ" فأبدلوا من النون ياء، وادغموا الياء المبدلة من النون في الياء الأولى المبدلة من الألف في "إنسان". وقيل: "أَناسيُّ" ليس بتكسير "إنسان"، وإنما هو جمعُ "إنسِيٍّ" كـ "بُختِي"، و"بَخاتِيّ". وكذلك "ظَرِبانٌ" بفتح الظاء وكسر الراء - وهي دُوَيبة كالهِرة مُنتِنَةٌ، تزعم العربُ أنها إذا فستْ في ثوب أحدهم حين يَصِيدها يَبْلَى الثوبُ، ولا تبلى رائحتُها، وفي المَثَل "فسا بينهم الظربانُ" (¬3) إذا تقاطعوا، ويُجمع على "ظَرابِينَ" كـ "سَراحين"، وقالوا: "ظَرابيّ" أبدلوا من النون ياء كما قالوا: "أَناسيُّ". قال الشاعر [من الطويل]: 1298 - وهل أَنْتُم إلا ظَرابِيُّ مَذحِجٍ ... تَفاسَى وتَسْتَنشِي بآنفِها الطُّخْمِ ¬
وربما قالوا في الجمع: "ظِربَى" كـ"حِجْلى". قال الفرزدق [من الطويل]: 1299 - وما جَعَل الظرْبَى القِصارُ أنوفَها ... إلى الطِّمّ من مَوْجِ البِحارِ الخَضارِمِ وربما جاء هذا البدل في غير التضعيف، أنشد سيبويه لرجلٍ من يَشْكُرَ، وقيل: هو مصنوع لخَلَفٍ الأحمر [من الرجز]: ومنهل ليس له ... إلخ (¬1) أراد: "الضَّفادِع"، فأبدل من العين الياء ضرورة. والمَنْهَل: المَورِد، والحَوازقُ: الجماعات، واحدتُها: حَزِيقةٌ جُمعت جمع "فاعِلَةَ"، كأنها حازِقَةٌ، لأن الجمع قد يُبْنَى ¬
فصل [إبدال الواو]
على غيرِ واحده. والنَقانِق: أصوات الضَفادِع، واحدُها نَقنَقَةٌ. وأنشد أيضًا [من البسيط]: لها أشارير ... إلخ (¬1) فأراد: الثعالب، وأرانِبها، فاضطُرّ إلى الإسكان، فلم يُمكِنه ذلك، فأبدل من الباء ياء ساكنة في موضع الجر. يصف عُقابًا، والأشارِيرُ: جمعُ إشرارةٍ، وهي: القطعة من اللحم تُجفَّف للادّخار. ومعنى "مُتَمَّرَة": مُجفَّفةٌ، من التمر، يريد: بقّاها في وَكرها حتى تجِفَّ لكثرتها، والوَخْز: القطعُ من اللحم، وأصل الوخز الطعنُ الخفيف، يريد ما يقطعه من اللحم بسرعة؛ وأما قوله [من الوافر]: إذا ما عدّ أربعة ... إلخ (¬2) أراد سادِسًا، فأبدل من السين ياء ضرورة. ومثله قول الراجز: يَفدِيكَ يا زُرْعَ أبي وخالي ... قد مَرّ يَومان وهذا الثالي وأنَتَ بالهِجران لا تُبالِي (¬3) فإنه أبدل من الثاء الثانية ياء، كأنه كره بابَ "سَلِسَ" و"قَلِقَ"، فاعرفه. فصل [إبدال الواو] قال صاحب الكتاب: والواو تبدل من أختيها ومن الهمزة. فإبدالها من الألف في نحو ضوارب وضويرب تصغير ضيرات مصدر ضاربَ، وأوادم وأويدم ورحويَّ وعصويّ وإلوان تثنية "إلى" إسمًا. ومن الياء في نحو موقن وطوبى مما سكن ياؤه غير مدغمة وانضم ما قبلها، وفي بقوي وبوطر من بيطر، وهذا أمر ممضو عليه، وهو نهو عن المنكر وفي جباوة. ومن الهمزة في نحو جونة وجون كما سلف في تخفيفها. * * * قال الشارح: وأمّا إبدال الواو، فقد أبدلت من أختيها ومن الهمزة. والمراد بقولنا: "أختيها" الألفُ والياء، لأنهن جميعًا من حروف المدّ واللين، وقد مَثَّلَ بأمثلة (¬4) متعددة، وعلة كل واحد منها غير الأخرى، لكنه جمع بينهن الانقلابُ من الياء إلى الواو، وأنا أشرح ذلك شيئًا فشيئًا. وأما إبدالها من الألف ففي نحو: "فاعِلٍ"، و"فاعَلٍ"، و"فاعُول"، و"فاعالٍ"، وذلك نحو "ضارِب"، و"خاتَمٍ"، و"عاقُولٍ"، و"ساباطٍ"، فمتى أردتَ تحقيرَ شيء من ¬
ذلك أو تكسيرَه، قلبتَ ألفه واوا، وذلك نحو: "ضُوَيرِب"، و"ضَوارِبَ"، و"خُوَيتِمٍ"، و"خواتِمَ"، و"عُوَيقِيلٍ"، و"عَواقِيلَ"، و"سُوَيبِيطٍ"، و"سوابِيطَ". فأمّا علةُ قلبها في التحقير، فظاهرة، وذلك لانضمام ما قبل الألف. وأمّا قلبها في التكسير، فبالحمل على التحقير، وذلك أنك إذا قلت: "ضَوارِبُ"، و"خَواتِمُ"، فلا ضمّةَ في الضاد والخاء تُوجِب انقلابَ الألف إلى الواو، لكنّك لما كنت تقول في التحقير "خُوَيتِمٌ"، قلتَ في التكسير: "خَواتِمُ". قال [من الطويل]: 1300 - [يَقُلنَ حَرامٌ ما أُحِلَّ بِرَبنا] ... وتُترَكُ أَمْوالٌ عليها الخَواتِمُ وإنما حُمل التكسير في هذا على التحقير، لأنهما من واد واحد، وذلك أن هذا التكسير جارٍ مجرى التحقير في كثير من أحكامه من قبل أن عَلَم التحقير ياء ساكنة ثالثة قبلها فتحة، وعلم التكسير ألف ثالثة ساكنة قبلها فتحة، والياء أخُتُ الألف على ما تقدّم، وما بعد ياء التحقير حرف مكسور، كما أن ما بعد ألف التكسير حرف مكسور. فلمّا تَناسبا من هذه الوجوه التي ذكرناها، حُمل التكسير على التحقير، فقيل: "خَواِلدُ" كما قيل: "خُوَيلِدٌ". وكما حُمل التكسير ها هنا على التحقير، كذلك حمل التحقير على التكسير في قولهم: "أُسَيوِدُ" في لغةِ من لم يدغم حملًا على "أَساوِد"، فلم يدّغموا في "أُسَيْوِد" مع وجود سبب الادّغام، وهو اجتماعُ الواو والياء وسَبقُ الأول منهما بالسكون. ومن ذلك "أُوَيدِمُ"، و"أَوادِمُ" أجروه مجرى "خُوَيْتِم"، ¬
و"خَواتِمَ"، حيث لزم الإبدالُ لاجتماع الهمزتَيْن، وقد تقدّم الكلامُ عليه في تخفيف الهمزة. ومن ذلك أنك تقول في الفعل: "قُوتِلَ"، و"ضُورِبَ"، فتقلب الألفَ من "قاتَلَ"، و"ضارَبَ" واوًا؛ لانضمام ما قبلها على القاعدة المذكورة. ومن ذلك: "رَحَوِيٌّ"، و"عَصَوِيٌّ" ونحوهما من المقصور، الواوُ فيه بدلٌ من الألف في "رَحًى"، و"عَصًا" سواء كانت الألف من الياء أو من الواو. وقد استوفيتُ الكلامَ على ذلك وعلّتِه في النسب. وأمّا "إِلَوانِ" فتثنيةُ "إلى" إذا سُمّي بها، وكذلك "لَدَى" و"إذا" زمانا كانت أو مكانًا، إذا سميتَ رجل بواحد من هذه الأشياء وما أشبهها من نحِو: "إِلا" و"إما"، فإنّك إذا ثنّيتَه، كان بالواو نحو: "إِلَوانِ"، و"لَدَوانِ"، و"إِذَوان"، و"إِلّوانِ"، و"إِمَّوانِ" في الرفع. وتقول في النصب والجر: "إِلَوَيْنِ"، و"لَدَوَيْن"، و"إذَوَيْن"، و"إلوَيْن"، و"إمَّوَيْن". وكذلك لو جعلت شيئًا من ذلك اسم امرأة، ثم جمعته بالألف والتاء، لقلتَ: "إلَواتٌ"، و"إذواتٌ"، ونحو ذلك. والعلةُ في قلبِ ما كان من ذلك واوا من قبل أنها أصولٌ غيرُ زوائد ولا مُبدَلة، فلمّا لم يكن لها أصل تُرَدّ إليه إذا تحركت، ولم تكن الإمالة مسموعة فيها، حُكم عليها بالواو؛ فقُلبت عند الحاجة إلى حركتها واوا. فإن قيل: إذا كانت أصلاً غيرَ مبدلة؛ فهلا لم يجز قلبُها واوا إذ ليس لها أصلٌ في الواو، ولا الياء. الجواب أن الأمر كذلك، إلَّا أنها لمّا سُمّي بها، انقلبت إلى حكم الأسماء، فحُكم على ألفها بما يُحْكَم على ألفات الأسماء التي لا تحسن إمالتها، نحو: "عَصًا"، و"قَطًا"، وكما تقول: "عَصَوان"، و"قَطَوانِ"، كذلك تقول: "إِلَوانِ"، و"لَدَوان". ونحو من ذلك لو سمّيتَ رجلًا بـ "ضَرَبَ" لأعربتَه، وقلت: "هذا ضَرَبٌ"، و"رأيت ضَرَبًا"، و"مررت بضَرَبٍ"، وإن كان قبل التسمية لا يدخله إعراب. فكما أن "ضَرَبَ" إذا سُمي به انتقل إلى حكَم الأسماء، فأُعرب، كذلك "إِلَى"، وَ"لَدَى"، و"إمّا": إذا سُمي بها، انتقلت إلى حكم الأسماء، وقُضِي على ألفاتها بأنها من الواو، إذ كانت أصلاً، ولم يُسْمَع فيها الإمالة، وقد أُبدلت من الياء في "مُوقِن"، و"مُوسِرٍ" ونحوهما. وذلك أن أصل "موسر": "مُيْسِرٌ" بالياء؛ لأنّه من "اليُسْر"، وأصل "موقن" الياء؛ لأنّه من "اليقين"، وإنما صارت واوا لسكونها وانضمام ما قبلها، كما أن الواو إذا سكنت وانكسر ما قبلها صارت ياءً، نحو: "ميزانٍ"، و"مِيعادٍ"، فأصلُهما الواو؛ لأنّه من " الوزن" و"الوعد". فإن تحرّكت الواو في "موقن"، و"موسر"، أو زالت الضمة التي قبلها، عادت الكلمة إلى أصلها من الياء، وذلك نحو قولك في التصغير: "مُيَيْقِنٌ"، و"ميَيْسِرٌ"، وفي التكسير "مَياقِينُ"، و"مَياسِيرُ"، كما أن الياء في "مِيزان" و"مِيعاد" كذلك، تقول في
تحقيرهما: "مُوَيزِينٌ"، و"مُوَيْعِيد"، وفي التكسير: "مَوازِينُ"، و"مَواعِيدُ". فإن قيل: ولِمَ كان إذا سكنت الياء وانضمّ ما قبلها تُقلب واوا، وإذا سكنت الواو وانكسر ما قبلها تقلب ياء، قيل: لشَبَههما بالألف، وذلك أن الواو، والياء إذا سكنتا، وكان ما قبل كلّ واحدة منهما حركة من جنسهما، كانتا مدّتَيْن كالألف، وكما أن الألف منقلبة إذا انكسر ما قبلها، أو انضمّ في نحو: "ضُوَيْرِب"، و"مَفاتِيحَ"، كذلك انقلبت الواو والياء إذ قد أشبهتهما، إلَّا أن النطق بالكسرة قبل الواو الساكنة ليس مستحيلًا كاستحالةِ ذلك مع الألف، وإنما ذلك مستثقل، وكذلك النطقُ بالضمّة قبل الياء الساكنة. فإذا تحرّكت هذه الواوُ، وزالت الكسرةُ عن الحرف الذي قبلها، زال عنها شَبَهُ الألف، وقويت بالحركة، فعادت إلى أصلها على ما ذكرنا. وأما قولهم: "عِيدٌ" و"أَعْيادٌ"، فإنه أُلزم القلبَ لكثرة استعماله؛ فأما "ريحٌ" فتكسيرُه على "أَرْواح". قال الشاعر [من الرجز]: تَلُفُّهُ الأَرواحُ والسُّمِيُّ (¬1) وربما قالوا: "أَرْياح"، وهو قليل من قبيل الغلط، ومن ذلك "طُوبى" الواو فيه مبدلةٌ من الياء, لأنه "فُعْلى" من "الطيب"، قلبوا ياءه واوًا للضمّة قبلها مع سكونها، ومثلُه "الكُوسى"، وهو مؤنث "الأكيَس" كـ "الأفضل"، و"الفُضْلَى"، وهو قياس عند الأخفش، وشاذّ عند سيبويه (¬2)؛ لأن سيبويه يبدل من ضمة الفاء في هذا الضرب كسرة لتصح الياء مفردًا كان أو جمعًا. والأخفشُ لا يرى ذلك إلَّا فيما كان جمعًا، نحو: "بِيضٍ"، ولذلك كانت "مَعِيْشة" "مَفعِلَةَ" بكسر العين عنده لا غير، وعند سيبويه يجوز أن تكون "مَفْعِلة" و"مَفعُلة" بالكسر والضمّ. ولذلك حُمل "ضِيزَى" على أنه "فُعْلَى" بالضمّ؛ لأنه ليس في الصفات "فِعلَى" بالكسر، وفيها "فُعْلَى" بالضمّ، نحو: "حُبلَى". وقوله: "غير مدّغَمة" تحرُّز من مثل "السُيَّل" و"العُيَّل"، فإنك لا تقلب الياء واوا فيهما، وإن سكنت، وانضمّ ما قبلها لتحصُّنها بالادغام وخروجِها عن شَبَه الألف، إذ الألفُ لا تُدّغم، ولا يُدّغم فيها؛ لأن المدّغم والمدّغَم فيه بمنزلة حرف واحد يرتفع بهما اللسانُ دفعة واحدة، ولذلك يجوز الجمعُ بين الساكنَيْن، إذا كان الأول حرفا لينًا، والثاني مدّغما كـ "دابّة"، و"شابّة"؛ لأن لِين الحرف الأول وامتداده كالحركة فيه والمدّغَم كالمتحرك، وإذا كان كذلك، لم تتسلط الحركةُ على قلبها. قال أبو النَّجْم [من الرجز]: 1301 - كأن رِيحَ المِسْكِ والقَرنفُلِ ... نَباتُه بين التِّلاع السُّيَّلِ ¬
وقال الآخر [من الكامل]: 1302 - تَحمِي الصحاب إذا تكون كَريهَةٌ ... فإذا هُمُ نزلوا فمَأوَى العُيَّلِ ألا ترى أن الضمة لم تؤثر في ياء "السُّيَّل" ولا "العُيَّل" لادغامها، وإن كانت في الحقيقة ساكنةً، وكذلك "اخرِوّاطٌ" (¬1) و"اجلوّاذٌ" (¬2) لم يقلبوا الواو الساكنة ياءً لانكسار ما قبلها، وذلك لِما ذكرناه من تحصنها بالادغام. فإن قيل: فإنهم يقولون: "دِيوان"، وأصله "دِوّانٌ"، قيل: القلبُ هنا لثقل التضعيف لا لسكونها وانكسارِ ما قبلها، فهو من قبيل ¬
"دِينار" و"قِيراط" في "دِنّار"، و"قِرّاط"، لا من قبيل "مِيزان" و"مِيعاد"، ولذلك كان من الشاذّ غيرِ المَقيس. وأمّا "ضُوَيْرِبٌ", فهو تصغير "ضِيرابٍ" مصدر "ضارَبَ"، والياء فيه منقلبة عن ألِف "ضارَبَ" للكسرة قبلها. ومثلُه "قِيتالٌ" في مصدرِ "قاتَلَ". هذا هو الأصل، ومن قال: "ضِرابٌ" و"قِتالٌ"، فإنّه حذف الياء تخفيفًا وللعلم بموضعها. هذا صُغّر هذا المصدر، قيل: "ضُوَيْرِبٌ"، فالواوُ بدلٌ من الياء المبدلة من ألِف "فاعَلَ"، والياء الأخيرةُ بدلٌ من ألف "فِيعال" على حدّها في "سِرْهافٍ". وأما "بَقْوَى" ونحوه مما هو من الأسماء على "فَعْلَى" معتلَّ اللام، فما كان من ذلك من الياء، فإنّك تقلب ياءه إلى الواو، نحو: "التَّقْوَى"، و"الرَّعْوَى"، و"الشَّرْوَى"، فـ "التَقوى" من "وَقَيْت"، و"البَقوَى" من "بَقِيت" أي: انتظرت، و"الرَعْوَى" من "رَعيْتُ"، و"الشَّرْوى" من "شَرَيْتُ". والصفة تُتْرَك على حالها، نحو: "خَزْيَا"، و"صَدْيَا"، و"ريَّا". ولو كانت "رَيَّا" اسمًا، لقلت: "رَوَّا"، كأئهم فرقوا بين الاسم والصفة. وإنّما قلبوا الواو إلى الياء ها هنا؛ لأنّ الماء أختُ الواو، وقد غلبت الياء الواوَ في أكثر المواضع من نحو"سَيِّدٍ"، و"مَيِّتٍ"، و"شَوَيْتُه شَيًّا"، و"طَوَيْتُه طَيًّا"، فأرأدوا أن يُعوِّضوا الواو من كثرة دخول الياء عليها، فيكون ذلك كالقِصاص، فقلبوا الياء واوًا ها هنا، وإنّما اختصّوا هذا القلب بالاسم دون الصفة، وذلك لأنّ الواو أثقلُ من الياء، فلمّا عزموا على قلب الأخفّ إلى الأثقل لضرب من الاستحسان، جعلوا ذلك في الأخفّ، لأنّه أعدلُ من أن يجعلوا الأثقل في الأثقل، والأخفُّ هو الاسم، والأثقلُ هو الصفة لمقاربتها الفعلَ، وتضمُّنِها ضميرَ الموصوف. وأمّا "بُوطِرَ"، فالواو فيه مبدلة من ياء "بَيطَرَ" المزيدةِ للإلحاق بـ "دَحْرَجَ" كـ"سَيْطَرَ"، و"بَيْقَرَ". وإذا أسندتَه إلى المفعول قلت: "سُوطِرَ"، و"بُوطِرَ"، فتصير الياء واوًا للضمّة قبلها وسكونها. وأمّا قولهم: "هذا أمر مَمْضُوٌّ عليه"، فالواو الأخيرة فيه بدلٌ من الياء التي هي لامٌ في "مَضَيْتُ". وكذلك قالوا: "هو أَمورٌ بالمعروف نَهُوٌّ عن المُنْكَر"، وهو من "نَهَيْتُ" و"شربثُ مَشُوًا"، وهو من "مَشَيْتُ"؛ لأنّ المُسْهِل يوجب المَشْيَ، وإنّما أبدلوا الياء واوا؛ لأنّهم أرادوا بناء "الفَعُول"، فكرهوا أن يلتبس ببناء "فَعِيل" لو قيل: "مَشِىٌّ" و"نَهِيٌّ". وأمّا "جِباوَةٌ"، فهو مصدرُ "جَبَيْتُ الخَراجَ"، والأصل: "جباية"؛ لأنّه من الياء، وإنّما أبدلوا الياء واوا للعفة في "التَّقْوَى"، و"البَقوَى"، وهو تعويض الواو من كثرة دخول الياء عليها. وأمّا إبدالها من الهمزة في نحو: "جُونَة" و"جُونٍ"، فقد تقدّم شرحُه في تخفيف الهمزة بما أغني عن إعادته، فاعرفه.
فصل [إبدال الميم]
فصل [إبدال الميم] قال صاحب الكتاب: والميم أُبدلت من الواو واللام والنون والباء، فإبدالُها من الواو في "فَم" وحدَه، ومن اللام في لغة طَيِّىءٍ في نحو ما روى النَّمِرُ بن تَوْلَبٍ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل إنه لم يَرْوِ غير هذا - "ليس من امْبِرِّ امْصِيامُ في امْسَفَر" (¬1). ومن النون في نحو: "عَمْبَرٍ"، و"شَمْبَاءَ" ممّا وقعتْ فيه النونُ ساكنةً قبل الباء، وفي قول رُؤبة [من الرجز]: 1303 - يا هالَ ذاتَ المَنْطِقِ التَّمْتامِ ... وكَفّكِ المُخَضَّبِ البَنامِ و"طامَه الله على الخير". ومن الباء في "بَناتِ مَخْرٍ"، و"ما زِلْتُ راتِمًا على هذا"، و"رأيتُه من كَثَمٍ"، وقوله [من البسيط]: 1304 - فبادَرَتْ شاتَها عَجْلَى مُثابِرةً ... حتى اسْتَقَتْ دُونَ مَحْنى جِيدِها نُغَما قال ابن الأَعْرابيّ: "أراد نُغَبَا". * * * ¬
قال الشارح: قد أُبدلت الميم من أربعة أحرف: الواوِ واللام والنونِ والباءِ. أمّا إبدالها من الواو، ففي "فم" وحده، الأصل فيه: "فَوْهٌ" عينه واوٌ، وَلامه هاءٌ، يدل على ذلك قولهم في التصغير: "فُوَيْهٌ"، وفي التكسير: "أَفْواهٌ". ووزنُه "فَعْلٌ" بفتح الأوّل، وسكون الثاني، إلَّا أنه وقعت الهاء فيه، وهي مشبّهةٌ بحروف اللين، فحُذفت على حد حذف حروف اللين من نحو. "يَدٍ"، و"دَمٍ". ومثله: "شَفَةٌ" و"سَنَةٌ" فيمن قال: "شافَهْتُه" و"عملت معه مُسانهةً"، فلمّا حُذفت الهاء, بقي الاسم على حرفَيْن الثاني منهما واوٌ، والأوّلُ مفتوح، فكان إبقاؤُه على حاله يؤدّي إلى قلبها ألفًا لتحركها بحركات الإعراب، وكون ما قبلها مفتوحًا على حد "عَصًا" و"رَحًى"، والألفُ تحذف عند دخول التنوين عليها لالتقاء الساكنين كـ"عَصًا"، فيبقى الاسم المتمكّن على حرف واحد وهو معدومٌ، فلمّا كان يقتضى إبقاء الواو على ما ذُكر، أبدلوا منها الميم؛ لأنّ الميم حرفٌ صحيحٌ لا تثقل عليه الحركاتُ، وهو من مخرج الواو، لأنّهما من الشفة، وفيها غُنَّةٌ تُناسِب لِينَ الواو، فلذلك أبدلوها منها. فإن قيل. ما الدليل على فتح الفاء دون أن تكون مضمومة، أو مكسورة؟ قيل: اللفظُ يشهد بذلك. فإن قيل: فقد حكى أبو زيد فيها: "فمٌ"، و"فِمٌ" بالضمّ والكسر، قيل: ليس ذلك فيها بالشائع، والحكم إنّما هو على الأكثر، والكثيرُ المشهور هو الفتح والضمُّ. والكسر قليل من قبيل الغلط، ووجهُه أنّهم رأوا الفاء تختلف من هذا الاسم إذا أضيف، نحو: "هذا فُوك"، و"رأيت فاك"، و"مررت بفيك"، فعاملوه في حال الإفراد تلك المعامَلةَ. وأمّا قول الشاعر [من الرجز]: 1305 - يا لَيْتَها قد خرجتْ من فُمِّهِ ... حتّى يعُودَ المُلْكُ في أُسْطُمِّه ¬
فقد رُويت بضم الفاء وفتحها مع تشديد الميم. فأمّا ضمُّ الفاء، فقد تقدّم الجوابُ عنه؛ وأمّا التشديد فلا أصل له في الكلمة؛ لقولهم في جمعه: "أَفْواهٌ"، وفي تصغيره: "فُوَيهٌ"، ولم يقولوا: "أَفْمامٌ"، ولا "فُمَيمٌ". ووجهُ ذلك أنّهم ثقّلوا الميم في الوقف كما يُثقِّلون في "يَجْعَلْ ش" و"خَالِدْ ش"، ثمّ أُجري الوصل مجرى الوقف على حدّ "القَصَبَّا"، و"السَّبْسَبَّا"، فاعرفه. وأمّا إبدالها من اللام، فقد أُبدلت من لام التعريف في لغة قوم من العرب، ويقال في لغة طَيِّىءٍ: "امرجل" في "الرجل"، وروى النمر بن تولب عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ليس من امبرّ امصيامُ في امسفر" (¬1) وقيل: إنه لم يرو - صلى الله عليه وسلم - سوى هذا الحديث، ومع ذلك فهو شاذّ، لا يقاس عليه غيرُه، وقد تقدّم ذلك بأًشبَعَ من هذا اللفظ. وأمّا إبدالها من النون، فقد أُبدلت إبدالًا مطّردًا في كل نون ساكنة وقعت بعدها باءٌ: فإنّها تُقلب ميمًا، نحو: "عَمْبَرٍ"، و"شَمْباءَ"، و"عَمْ بَكْرٍ"، وذلك من قِبَل أنّ النون حرفٌ ضعيفٌ رِخوٌ يمتدّ في الخَيشوم بغُنّة، والباء حرف شديد مجهور مَخرَجُه من الشفة، وإذا جئتَ بالنون الساكنة قبل الباء، خرجتَ من حرف ضعيف إلى حرف يُضادّه، ويُنافيه، وذلك ممّا يثقل، فجاؤوا بالميم مكانَ النون، لأنّها تُشارِكها في الغنّة، وتُوافِق الباء في المخرج؛ لكونهما من الشفة، فيتجانس الصوتُ بهما, ولا يختلف، ألا ترى أنهم قالوا: "صِراطٌ" بالصاد، والأصل "سِراطٌ" بالسين, لأنّه من "سرطتُ الشيء" إذا ابتلعتَه، كأنّ الطريق يبتلع المارّةَ، ولمّا رأوا أنّ السين حرفٌ ضعيفٌ مهموسٌ مُنْسَلٌّ، والطاء شديدٌ مُطبَقٌ، جاؤوا بالصاد لتُوافِق السينَ في الهمس والصفير، وتوافق الطاء في الإطباق، فيتجانس الصوتُ، ولا يختلف. وإذا كانوا فعلوا ذلك ههنا مع الفصل، كان في "عَمْبَرٍ"، و"شَمْباءَ" ألزمَ. صهان تحرّكت هذه النون، نحو: "الشَّنَب"، و"العِنَب"، و"عَنابِرَ"، قويت ¬
بالحركة، وصار مخرجُها من الفم، وبُعدت عن الميم، ولم تقع موقعَها في البدل. ومن ذلك قول رُؤْبَة [من الرجز]: يا هال ذات المنطق ... إلخ قالوا: أراد البَنان، فأبدل النون ميمًا لِما بينهما من المقاربة. ولفرطِ قُرْبِ ما بينهما قد يجمعون بينهما في القافية. قال الشاعر [من الرجز]: 1306 - بُنَى إنّ البرَّ شيءٌ هَينُ ... أَلمَنْطِقُ اللَّيِّنُ والطُّعَيِّمُ وقال الآخر [من الرجز]: 1307 - يَطعُنُها بخَنْجَرٍ من لَحْمِ ... دون الذُّنابَى في مَكانٍ سُخْنِ وقال: "طامه الله على الخير، وطانَه"، أي: جَبَلَه عليه، حكاه ابن السكّيت. ¬
الميم فيه بدلٌ من النون؛ لأنّه من "الطينَة"، وهي الخِلْقة والجِبِلّة. وقد أبدلوها من الباء، قالوا: "بناتُ بَخْرٍ" و"بنات مَخْرٍ"، حكا ذلك الأصمعيّ، وهي سَحائبُ بيضٌ تأتي قبل الصيف. قال أبو بكر بن السرّاج: هو مأخوذ من البُخار، لأنّ السحاب من بخار الأرض، فعلى هذا الباء أصلٌ، والميم بدلٌ منها. وربّما قالوه بالحاء غير المعجمة، كأنّه من "البَحْر", لأنّ السحاب من بخار البحر. وقالوا: "ما زلتُ راتِمًا على هذا الأمر"، أي: راتِبًا، حُكي ذلك عن أبي عمرو بن العَلاء، فالميمُ بدل من الباء؛ لكثرة الباء وتصرُّفِها، ألا تراك تقول: "رَتَبَ يَرْتُبُ فهو راتِبٌ"، أي: ثابتٌ، ولا تقول: "رتم يرتم" في هذا المعنى، فكانت الباء هي الأصل. وقالوا: "رأيته من كَثَم وكَثَبٍ"، أي: من قُرْب. حكى ذلك يعقوب، فالباءُ ينبغي أن تكون أصلاً، والميمُ بدلٌ منها؛ لعموم تصرُّف الكثب, وأنّه يقال: "قد أَكْثَبَ لك الأمرُ"، و"رَمَاه من كَثَب"، أي: من قُرْب. وأمّا قول الشاعر [من البسيط]: فبادرت شاتها ... إلخ قال ابن الأعرابيّ: أراد: "نُغَبَا"، وهو جمع "نُغْبة" بالضمّ، وهي الجُرْعة. قال ذو الرمّة [من البسيط]: 1308 - حتى إذا زَلَجَتْ عن كل حَنْجَرَةٍ ... إلى الغَلِيلِ ولم يَقْصَعْنَهُ نُغَبُ ¬
فصل [إبدال النون]
قال ابن السكّيت: "نَغِبْتُ من الإناء بالكسر نَغبًا"، أي: جرعتُ منه جَرْعًا. فصل [إبدال النون] قال صاحب الكتاب: والنون أبدلت من الواو واللام في صنعانيّ وبهرانيّ، و"لَعَنَّ" بمعنى "لَعَلَّ". * * * قال الشارح: القياس في "صَنْعاء"، و"بَهْراء" أن يقال في النسب إليهما: "صنعاويٌّ"، و"بهراويٌّ"، كما تقول في "صَحْراءَ": "صحراويٌّ"، وفي "خُنْفَساءَ": "خنفساويّ". تبدل من الهمزة واوًا فَرْقًا بينها وبين الهمزة الأصلية على ما تقدّم بيانُه في النسب. وقد قالوا: "صنعانيّ"، و"بهرانيّ" على غير قياس، واختلف الأصحابُ في ذلك، فمنهم من قال: النون بدلٌ من الهمزة في "صنعاء" و"بهراء"، ومنهم من قال: النون بدلٌ من الواو، كأئهم قالوا: "صنعاويّ" كـ"صَحْراويّ"، ثمّ أبدلوا من الواو نونًا، وهو رأيُ صاحب هذا الكتاب، وهو المختار؛ لأنّه لا مقاربة بين الهمزة والنون, لأنّ النون من الفم، والهمزة من أقصى الحَلْق، وإنما النون تُقارِب الواوَ، فتُبْدَل منها. وأمّا "لَعَلَّ"، فقد قالوا فيها: "لَعَلَّ" و"لَعَنَّ"، فالنون بدلٌ من اللام، وذلك لكئرةِ "لعلّ"، وعمومِ استعمالها، والنونُ تقارب اللامَ في المَخْرج، ولذلك تُدّغم النون عند اللام في نحو قوله: {مِنْ لَدُنْهُ} (¬1)، وتحذف نونُ الوقاية معها كما تحذف مع النون في "لَعَلِّي"، كما تقول: "إنّي" و"كَأَنّي"، وأرى أنّهما لغتان لقلّة التصرّف في الحروف، فاعرفه. فصل [إبدال التاء] قال صاحب الكتاب: والتاء أُبدلت من الواو والياء والسين والصاد والباء, فإبدالها من الواو فاء في نحو: "اتَّعَدَ", و"أتَلَجَه". قال [من المديد]: 1309 - [رُبَّ رامٍ من بني ثُعَلٍ] ... متلجٍ كفَّيه في قُتَرِهْ ¬
وتجاهٍ وتيقور وتكلان وتكأة وتكلة وتخمة وتهمة وتقية وتقوى وتترى وتورية وتولج وترات وتلاد. ولاماً في أخت وبنت وهنت وكلتا. ومن الياء فاء في نحو: اتَّسَرَ، ولاماً في أسنتُوا وثنتانِ وكَيْتِ وذَيْتِ. ومن السين في "طستٍ" و"وست" وقوله [من الرجز]: 1310 - يا قاتل الله بني السِّعلاة ... عمرو بن يربوع شرار النات غير أَعِفّاء ولا أكياتِ ¬
ومن الصاد في "لِصْتٍ" قال [من الكامل]: 1311 - [فتركن نهدًا عيَّلاً أبناؤها ... وبني كنانةَ] كاللُّصوتِ المُرَّدِ ومن الباء في "الذَّعالِت" بمعنى "الذَّعالِب", وهي الأخلاق. * * * قال الشارح: قد أُبدلت التاء من خمسة أحرف، وهي الواو والياء والسين والصاد والباء. فأمّا إبدالها من الواو، فإئه ورد على ضربين: مَقِيسٌ، وغيرُ مقيس، فالمقيسُ "افْتَعَلَ" وما يصرَّف منه إذا بنيتَ ممّا فاؤه واوٌ، نحو: "اتَّعَدَ"، و"اتزَنَ"، و"يَتَّعِدُ"، و"يَتَّزِنُ"، و"مُتَّعِدٌ"، و"مُتَّزِنٌ"، والأصل: "اوْتعَدَ"، وهو"مُوتعِدٌ"، فقلبوا الواو تاء، وادّغموها في تاء افتعل. ومثلُه "اتَّلَجَ". ولو بنيت من "وَجِلَ يَوْجَلُ"، و"وَضُؤَ يَوْضُؤُ" مثلَ "افْتَعَل"، لقلت: "اتَّجَلَ"، و"اتَّضَأَ". وإنّما فعلوا ذاك لأنّهم لو لم يقلبوها تاء هنا، لزمهم قلبُها ياءً إذا انكسر ما قبلها، نحو: "ايتَعَدَ"، و"ايتَزَنَ"، و"ايتَلَجَ"، وفي الأمر: "ايتَعِدْ"، و"ايتَلِجْ"، و"ايتَزِنْ". وإذا انفتح ما قبلها قُلبت ألفًا، نحو: "ياتَعِدُ"، و"ياتَلِجُ"، وذلك على لغة من يقول في "يَوْجَلُ": "يَاجَلُ"، ثمّ تردّها واوًا إذا انضمّ ما قبلها. ولمّا رأوا مَصِيرهم إلى تغيُّرها لتغيُّر أحوالِ ما قبلها، قلبوها إلى التاء؛ لأنها ¬
حرفٌ جَلْدٌ قويٌّ لا يتغير بتغيُّر أحوالِ ما قبله، وهو قريبٌ المَخْرج من الواو، وفيه همسٌ مناسبُ لِينِ الواو، ليُوافِقَ لفظه لفظَ ما بعده، فتُدّغم فيها، ويقع النطقُ بهما دفعةً واحدةً، قال الشاعر [من الطويل]: 1312 - فإن القَوافِى يَتَّلِجْنَ مَوالِجًا ... تَضايَقَ عنها أن تَوَلَّجَها الإِبَرْ وقال الآخر [من الطويل]: 1313 - فإن تَتَّعِدْنِي أتَعِدْكَ بمِثْلها ... وسَوْفَ أَزِيدُ الباقياتِ القَوارِصا ¬
ومن العرب من أهل الحِجاز من يُجْرِي ذلك على الأصل من غير إبدال، ويحتمل من التغير ما يجتنبه الآخرون، في قوله: "ايتَعَدَ" و"ايِتَزَنَ"، فهو "مُوتَعِدٌ" و"مُوتَزِنٌ"، والأوّلُ أكثر، ولكثرته كان مَقيسًا. وقد قالوا: "أَتْلَجَهُ" في معنى "أَوْلَجَه"، و"ضرَبَهُ حتى أَتُكأهُ"، أي: أَوْكَأه. فأمّا قوله [من المديد]: مُتْلِجٌ كَفَّيْهِ في قُتَرِهْ فالبيت لامرىء القيس، وأوّلُه: رُبَّ رامٍ من بَني ثُعَلٍ والشاهد فيه إبدالُ التاء من الواو في "مُتْلِج"؛ لأنّه اسمُ فاعل من "أَتلَجَهُ"، و"مُتْلِجٌ": مُدْخِلٌ، ومعناه أنّه يُدْخِل يَدَيْه في القترة لئلاّ يهرب الوحشُ. والقترةُ ناموسُ الصَّيّاد، وهذا القلب غيرُ مطّرد، وقد جاء من ذلك ألفاظٌ متعدّدةٌ، قالوا: "تُجاهٌ"، وهو "فُعالٌ" من الوجه، وهو مستقبَلُ كلّ شيء يقال: "فلانٌ تُجاهَ زيد" أي: قُدّامَه. وقالوا: "تَيْقُورٌ"، وهو "فَيْعُولٌ" من "الوَقار"، فالتاء أصلُها الواو. قال الشاعر [من الرجز]: 1314 - فإن يكن أَمْسَى البِلى تَيْقُورِي ¬
معناه أن البلى سكّن حِدّتَه، ووَقَّرَه. وقالوا: "تكلانٌ" وهو "فُغلانُ" من "وكلتُ، أَكِلُ". يقال: "رجل وُكَلَةٌ تُكَلَةٌ"، أي: عاجزٌ يَكِلُ أمرَه إلى غيره، فالتاء بدلٌ من الواو، ومنه الوَكيل، كأنه مَوْكولٌ إليه، الأصلُ فيهما واحدٌ. وقالوا: تُخمَةٌ وهو داءٌ كالهَيصة، التاء فيه بدلٌ من الواو؛ لأنّه من الوَخامة والوَخَمِ, وهو الوَبأُ. وقالوا: "تُهَمَةٌ" وهو فُعَلَةُ من "اتَّهَمْتُ" أي: ظننتُ، والتاء بدل من الواو؛ لأنّه من وَهْم القلب. وقالوا: "تَقِيَّةٌ" و"تَقْوَى"، فـ"تقيَّة" فَعِيلةُ من "وَقَيْتُ"، و"تَقْوَى" فَعْلَى منه، و"تُقاةٌ" فُعَلَةُ منه. وقالوا: "تَترَى" وهو فَعْلَى من "المُواتَرة"، وهي المتابَعة. وقال اللَّحْيانيّ لا تكون مواترةٌ إلَّا وبينها فَترةٌ، قال الله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} (¬1). وفيها لغتان: التنوين وتركُه، ومن لم يصرف جعل ألفَه للتأنيث، ومن صرفه كانت الألف عنده للإلحاق. وقالوا: "تَوْراةٌ" لأحد الكُتُب المُنزَلة، التاء فيه بدل من الواو، وأصله "وَوْراةٌ"، فَوْعَلَةُ من "وَرَى الزَّنْدُ". و"تَوْلَجٌ" هو كِناسُ الوَحْش الذي يلِج فيه، وتاؤه مبدلة من الواو، وهو فَوْعَلٌ. قال الراجز: مُتَّخِذًا في ضَعَواتٍ تَوْلَجا (¬2) يصف ثورًا في عِضاهٍ. وقال البغداديون: "تَوْراةٌ" تَقعَلَةُ، و"تَوْلَجٌ" تَفعَلُ، والصحيح الأول, لأنّ "فَوْعلًا" أكثرُ من "تَفْعَل" في الأسماء، ولو لم يقلبوا الواو في "تَوْراة" عندنا تاء، لزم قلبُها همزة لاجتماع الواوَيْن على حدّ "أَواصِلَ" في جمع "واصِلةٍ"، ولا يلزم ذلك عندهم؛ لأنّ التاء عندهم زائدة، وليست بدلًا. وقالوا: "تُراثٌ" للمال المَوْروث. قال الله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} (¬3). قال الشاعر [من الطويل]: 1315 - فإن تَهدِمُوا بالغَدْر داري فإنها ... تُراثُ كريمٍ لا يُبالي العَواقِبا ¬
وأصله: "وُراثٌ" فُعال من "الوِراثة"، يقال: "وَرِثْتُ أَرِثُ وِراثَةً ووِرْثًا وإرْثًا". قلبوا الواو همزةَ على حدّ "وِشاح"، و"إشاح". وقالوا: "تِلادٌ" للمال القديم، وهو الذي وُلد عندك، وهو خِلافُ الطارف والتَّلِيدُ الذي وُلد ببلاد العجم، ثمّ حُمل صغيرًا فنبت ببلاد الإِسلام، فتاؤه من الواو، لأنّه من "الوِلادة". وقد أُبدلت التاء منها لامًا، قالوا: "أُختٌ"، و"بنْتٌ", و"هَنْتٌ"؛ فأمّا "أخت" فالتاء فيه بدل من الواو التي هي اللام، فأصلُ "أُخْت": "أًخَوَةٌ"، نُقل من "فَعَل" إلى "فُعْل" كـ"قُفْلٍ"، و"بُرْدٍ"، وكذلك "ابنٌ" أصلُه "بَنَوٌ" على زنة "فَعَل" بفتح الفاء والعين كـ"قَلَمٍ"، فنُقل إلى "فِعْل" كـ"عِدْلٍ" و"جِدْعٍ"، فأُبدل من لامَيْهما التاء. وليست التاء فيهما عَلَمَ التأنيث، يدلّ على ذلك سكونُ مَا قبل التاء فيهما، وتاء التأنيث لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحًا؛ لأنّها بمثابةِ اسم ضُمّ إلى اسم ورُكّب معه، فيُفْتَح ما قبلها كفتح ما قبل الاسم الثاني من "حَضْرَمَوْتَ"، و"بَعْلَبَكَّ". وإنما عَلَمُ التأنيث في "بِنْت" و"أُخْت" بناؤهما على هاتَين الصيغتَين، ونَقْلُهما عن بناءهما الأوّل، ولذلك تتعاقب الصيغةُ وتاء التأنيث، فيقال: "بِنْتٌ" و"ابْنَةٌ"، فتكون الصيغة في "بنت" مُقابِلةً لتاء التأنيث في "ابنة". وقد ذهب السيرافيّ إلى أن التاء في "بنت" ونحوها علم التأنيث، قال: ولذلك تسقط في جمع السلامة في "أَخَواتٍ" و"بَناتٍ"؛ وأمّا سكونِ ما قبلها فلأنّه أُريد بها الإلحاقُ؛ وأمّا "هَنْتٌ" فالتاء فيه بدل من الواو أيضًا؛ لقولهم في الجمع: "هَنَواتٌ". قال الشاعر [من الطويل]: أَرى ابنَ نِزارٍ قد جَفاني ومَلَّني ... على هَنَواتٍ شَأْنُها مُتَتابِعُ (¬1) والمراد بها أيضًا الإلحاق بفَعْل، نحو: "بَكْرٍ"، و"عَمرٍو". ¬
وأمّا "كِلْتَا" في قولهم: "جاءتْني المرأتان كلتاهما"، و"مررت بهما كلتَيْهما"، فمذهبِ سيبويه (¬1) أنها "فِعْلى" بمنزلة "ذِكرَى"، وأصلها "كِلْوَا"، فأبدلت الواو تاءً فهي عنده اسمٌ مفردٌ يفيد معنى التثنية خِلافًا للكوفيين (¬2)، وليس من لفظِ "كُلٍّ" بل من معناه، فقد تقدّم ذلك فيما قبلُ. ومن الياء في نحو: "اتَّسَر"، وهو افْتَعَل من "اليُسْر"، أبدلوا من الياء تاءً كما أبدلوها من الواو في نحو: "اتَّعَدَ"، و"اتزَنَ". ولامًا في "أَسْنَتُوا"، أي: أجدبوا، وهو من لفظ "السَّنَة" على قول من يرى أتى لامها واوٌ، لقولهم: "سَنَةٌ سَنْواءٌ"، و"استأجرتُه مُساناةً". ومنهم من يقول التاء بدل من الواو التي هي لام، ومنهم من يقول: إئها بدل من ياء، وذلك أنّ الواو إذا وقعت رابعة، تنقلب ياءً على حدِّ "أَوْعَيتُ"، و"أَغْزَيتُ"، ثمّ أُبدل من الياء التاء، وهو أقيسُ. وأمّا "ثِنتانٍ"، فالتاء فيه بدل من الياء، والذي يدلّ أنه من الياء أنه من "ثَنَيْتُ"؛ لأنّ "الاثنَيْن" قد ثُني أحدهما على الآخر، وأصله: "ثَنَيٌ" كـ"قَلَمٍ". يدل على ذلك جَمْعُهم إيّاه على "أَثْنَاءٍ" بمنزلة "أَبْناءٍ" و"آخاءٍ"، فنقلوه من "فعَل" إلىَ "فِعْل"، كما فعلوا ذلك في "بِنْتٍ"، و"أُخْتٍ". فأمّا التاء في "اثْنَتان"، فتاءُ التأنيث بمنزلتها في قولك: "ابْنَتان" تثنيةِ "ابْنَةٍ"، و"ثِنْتان" بمنزلة "بِنْتان". وقد أبدلوها من الياء في "كَيتَ وكَيْتَ"، و"ذَيتَ وذَيْتَ" وأصلهما: "كَيَّةَ"، و"ذَيَّة"، وقد جاء ذلك عن العرب فيما حكاه أبو عُبَيْدة. قالوا: "كان من الأمر كَيَّةَ وكَيَّةَ، وذَيَّةَ وذَيَّةَ"، ثمّ حذفوا تاء التأنيث، وأبدلوا من الياء التي هي لامٌ تاء على سبيل الإلحاق، كما فعلوا ذلك بقولوهم: "بِنْتان"، فقالوا: "كَيْتَ وذَيْتَ". وفيهما ثلاثُ لغات: منهم من يبنيهما على الفتح، فيقول: "كَيْتَ"، و"ذَيْتَ"، ومنهم من يبينهما على الكسر، فيقول: "كَيْتِ" و"ذَيْتِ"، ومنهم من يبنيهما على الضمّ، فيقول: "كَيْتُ"، و"ذَيْتُ". فأمّا "كَيَّةَ" و"ذَيَّةَ"، فليس فيهما مع الهاء إلَّا وجهٌ واحدٌ، وهو البناء على الفتح. وإن قيل فهلاّ قلت: إِن التاء بدل من الواو، وإِنّ أصلَ "كيَّة": "كَيْوَةَ"، فاجتمعت الواوُ والياء، وقُلبت الواو ياءً على حدّ "سَيِّدٍ"، و"مَيِّتٍ"، قيل: لا يجوز؛ لأنّك كنتَ تصير إلى ما لا نظيرَ له في كلامهم، ألا ترى أنه ليس في كلامهم مثلُ "حَيْوَة" ممّا عينُه ياءٌ، ولامُه واوٌ، فاعرفه. وقد أبدلوا التاء من السين في "سِتٍّ"، وأصله: "سِدْسٌ"؛ لأنّه من التَسْديس، يدلّ على ذلك قولهم في تحقيره: "سُدَيسَةٌ"، لكنّهم قلبوا السين الأخيرة تاءً لِتقرب من الدال التي قبلها، وهي مع ذلك مهموسةٌ كما أن السين مهموسة، فصار التقدير: "سِدْتٌ"، فلمّا ¬
فصل [إبدال الهاء]
اجتمعت الدال والتاء، وبيمهما تقاربٌ في المَخرج, أبدلوا الدال تاءً لتوافُقهما في الهمس، ثمّ ادْغموا التاء في التاء، فقالوا: "سِتٌّ". وأمّا قول الشاعر أنشده أحمد بن يَحْيى [من الرجز]: يا قاتل الله ... إلخ (¬1) فإنّه أراد: الناس، وأكياس، وإنّما أبدل من السين تاءً لتوافُقهما في الهمس، وأنّهما من حروف الزيادة، وهي مجاوِرةٌ لها في المخرج توسُّعًا في اللغة، وقد أبدلوها منها في "طَسْتٍ"، وأصله "طَسٌّ"؛ لقولهم في التصغير. "طُسَيْسٌ"، وفي التكسير: "طِساسٌ". وقد أبدلوها من الصاد في "لِصٍّ"، وذلك أنهم قالوا: "لَصٌّ"، و"لُصٌّ"، و"لِصٌّ"، و"لُصْتٌ"، وأصله الصاد، والتاء مبدلة منها. يدل على ذلك قولهم: "تَلصّص عليهم"، و"هو بيّنُ اللُصوصيّة"، و"أرضٌ مَلَصَّةٌ": ذاتُ لُصوصِ. وقالوا في الجمع: "لُصوصٌ". وربّما قالوا: "لُصوتٌ". قال الشاعر [من الكامل]: فتَرَكْنَ نَهْلًا عُيَّلًا أبناؤها ... وبَنِي كِنانَةَ كاللُّصُوت المُرَّدِ (¬2) ومن قال ذلك جعله لغةً, لأنّها مبدلة من الصاد، واشتقاقُه من "اللَّصَص"، وهو تضايُقُ ما بين الأسنان، كأن اللصّ يُضايِق نفسَه ويُصغِّرها لئلاّ يُرَى. وقالوا: "الذعاليت" بمعنى الذعالِيب بالباء المعجمة من تحت، وهي قِطَعُ الخِرَق والأخلاقِ. قال الشاعر [من الرجز]: 1316 - مُنْسَرِحًا عنه ذَعالِيبُ الخِرَقْ واحدُاها: ذُعْلُوبٌ، فالتاء بدلٌ من الباء. فصل [إبدال الهاء] قال صاحب الكتاب: والهاء أبدلت من الهمزة والألف والياء والتاء. فإبدالها من ¬
الهمزة في "هرقت الماء"، و"هرحت الدابة"، و"هنرت الثوب"، و"هردت الشيء"، عن اللحياني، و"هياك"، و"لهنَّك"، و"هما والله لقد كان كذا"، و"هن فعلتَ فعلتُ" في لغة طييءٍ، وفيما أنشد أبو الحسن [من الكامل]: 1317 - وأتى صواحبها فقلن: هذا الذي ... منح المودة غيرنا وجَفانا أي: أذا الذي, ومن الألف في قوله [من مجزوء الرجز]: إن لم تروها فمه (¬1) وفي "أنه" و"حيَّهلَهْ". وقوله [من المتقارب]: وقد رابني قولها: يا هناهُ ... [ويحك ألحقت شرًّا بشرْ] (¬2) هي مبدلةٌ من الألف المنقلبة عن الواو في "هنواتٍ"، ومن الياء في "هذه أمةُ اللهِ". ¬
ومن التاء في طلحه وحمزه في الوقف. وحكى قطربٌ أن في لغة طييءٍ: "كيف البنون والبناه، وكيف الإخوةُ والأخواه". * * * قال الشارح: قد أُبدلت الهاء من الهمزة والألف والياء والتاء. فأمّا إبدالها من الهمزة، فقد أبدلوها منها إبدالًا صالحًا على سبيل التخفيف، إذ الهمزةُ حرف شديد مستفِل، والهاء حرف مهموس خفيف، ومخرجاهما متقاربان، إلَّا أنّ الهمزة أدخلُ منها فيِ الحَلْق. قالوا: "هَرَقْتُ الماء"، أي: أَرَقْتُه، فأبدلوا الهاء من الهمزة الزائدة؛ فأمّا "أَهْرَقْت"، فالهاء زائدة كالعوض من ذهاب حركة العين على حدّ زيادتها في "اسْطَاعَ". وقالوا: "هرحت الدابّة", أي: أَرَحْتها, و"هنرت الثوب"، أي: أَنَرْتُه، وهو أَفْعَلْتُ من "النَّيْر". وهالوا: "هردت الْشيء"، أى: أردته، حكى ذلك أجمعَ ابن السِّكّيت، وقد أبدلوها منها، وهي أصل، قالوا: "هِيّاك" في "إياّك". قال [من الطويل]: فهِيّاكَ والأَمْرَ الذي إنْ تَوسّعتْ ... مَوارِدُه ضاقَتْ عليك المَصادِرُ (¬1) هكذا أنشده أبوِ الحسن، وقد قُرىء {هِيَّاكَ نَعْبُدُ وَهِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} (¬2). وعن قُطْرُبٍ أن بعضهم يقول: "أَيّاك" بفتح الهمزة، ثمّ يُبْدِل منها الهاء، فيقول: "هَيّاك". وقالوا: "لَهِنَّكَ قائمٌ"، والأصل: لإنك، قال الشاعر [من الطويل]: ألَا يا سنا بَرْقٍ على قُلَلِ الحِمى ... لَهِنَّكَ من بَرْقٍ علىَّ كريمُ (¬3) وقالوا: "هَمَا وَاللهِ لقد كان كذا"، يريدون: أَمَا والله، و"هِنْ فعلتَ"، يريدون: "إنْ"، وهي لغةٌ طائيةٌ، وأنشد أبو الحسن [من الكامل]: وأتى صواحبها ... إلخ وهذا الإبدال، وإن كثُر عنهم على ما ذُكر، فإنّه نَزْرٌ يسير بالنسبة إلى ما لم يُبْدَل، فلا يجوز القياس عليه، فلا تقول في "أَحْمَد": "هَحْمَد"، ولا في "إبراهيم": "هبرهيم" ولا في "أُترُجَّة": "هترجّة"، بل تتبع ما قالوا، وتقِف حيث انتهوا. وأمّا إبدال الهاء من الألف فنحوُ قول الراجز [من الرَّجَز]: قد وَرَدَتْ من أَمْكنَهْ من ها هنا ومن هُنَهْ إنْ لم أُروِّها فَمَهْ (¬4) ¬
أي: من هُنَا. وقوله: "فَمَهْ" يحتمل أمرَيْن: أحدهما: أن يكون أراد "فَمَا"، والألفُ يُكرَه الوقف عليها لخفائها، فأبدل منها الهاء لتقارُبهما في المَخْرج، والمراد بما أَصْنَعُ أو نحو ذلك، ويجوز أن يكون قوله: "فَمَهْ" زَجْرًا، أي: فمَهْ يا إنسانُ، كأنّه يحْاطب نفسَه، ويزجرها. وأمّا قولههم: "أَنَه" في الوقف على "أنَ فعلتُ"، فيجوز أن تكون الهاء بدلًا من الألف، وهو الأمثلُ؛ لأنّ الأكثر في الاستعمال إنّما هو"أَنَا" بالألف، والهاء قليلة، ويجوز أن تكون الهاء لبيان حركة النون في "أنَ" كالألف، ولا تكون بدلًا منها. وقالوا: "حَيَّهَلَهْ"، وهو اسمٌ للفعل، وأصله "حَيَّ هَلَ"، رُكبا كخمسةَ عشرَ، والألفُ في "حَيَّهَلَا" لبيان الحركة والهاء بدل من الألف، وقد تقدّم الكلام عليه مستقصًى في المبنيّات. وأمّا قول امرىء القيس [من المتقارب]: وقد رابَنى قولُها يا هَنا ... هُ وَيحَكَ ألْحَقْتَ شَرًّا بِشَرْ (¬1) فهو ممّا اختصّ به النداء، ولم يستعملوه في غير النداء، كما قالوا: "يا لكاعِ"، و"يا خَباثِ"، ولم يستعملوها في غير النداء. وقد اختلف الناس في هائه الأخيرة، والجيدُ فيها أنّ الهاء بدل من الواو التي هي لام الكلمة في "هَنوك"، و"هَنواتٌ" في قوله [من الطويل]: على هَنَوات شَأنُها مُتتابِعُ (¬2) كَاَن أصلها "هَناوٌ"، "فَعالٌ" منه، فأُبدلت الواو هاء. وصاحبُ هذا الكتاب يشير إلى أن الواو لمّا وقعت طَرَفًا بعد ألف زائدة، فلبت ألفًا، والهاء بدل من تلك الألف. وذهب أبو زيد إلى أنّ الهاء لحقت بعد الألف للوقف لخفاء الألف كما لحقت في الندْبة من نحو: "وا زيدَاهْ"، وحُرّكت تشبيهًا بالهاء الأصلية. ويُحكى هذا القول أيضًا عن أبي الحسن، والألفُ عندهما بدل من الواو التي هي لامُ الكلمة، وهو قولٌ واهٍ من قِبَل أنّ هاء السكت إنّما تلحق في الوقف، فإذا صرتَ إلى الوصل حذفتها البتّةَ، ولم تُوجَد، لا ساكنةً، ولا متحرّكة، ولذلك رُدّ قولُ المُتنبيّ [من البسيط]: 1318 - وَا حَرَّ قَلْباهُ مِمَّنْ قَلْبُه شَبِمُ ... ومَن بجِسْمِي وحالي عِنْدَه سَقَمُ ¬
لكونه أَثْبَتَ هاءَ السكت وحرّكها. وذهب آخرون إلى أنّ الهاء في "هَنَاه" أصلٌ، وليست بدلاً، إنما هي لامُ الكلمة كـ"عَضَهَ" و"شَفَهَ"، وهو قول ضعيف لقلّةِ باب "سَلِسَ"، و"قَلِقِ". وقد أبدلت الهاء من الياء في "هذِه"، والأصل "هذِي"، وذلك أنّ المذكر "ذَا" والمؤنث "تا"، و"ذى"، وليست الياء في "ذِي" للتأنيث إنّما هي عين الكلمة، والتأنيثُ يُفْهم من نفس الصيغة كما قلنا في "بِنْت" و"أُخْت"، والذي يدل على أن الياء هي الأصل، والهاء مبدلة منها، أنّك تقول في تحقيرِ "ذَا": "ذَيَّا". و"ذِي" إنّما هي تأنيثُ "ذا" ومن لفظه، فكما لا تجد الهاء في المذكّر أصلاً، فكذلك هي أيضًا في المؤنث بدلٌ غيرُ أصل. وإذا ثبت أن الهاء بدلٌ من الياء، فكما أن الياء ليست للتأنيث كذلك الهاء التي هي منها، إذ لو كانت للتأنيث لكانت زائدة، وهي ها هنا بدل من عين الكلمة، كما أنّ ميمَ "فَم" بدل من الواو, هذا نصُّ سيبويه (¬1) مع أنّ تاء التأنيث تكون في الوصل تاءً, نحو: "حَمْزةَ"، و"طَلْحَةَ"، و"قائمة"، و"قاعدة"، وهذه هاءٌ وصلًا ووقفًا. واعلم أن من العرب من يُسكِن هذه الهاء وصلًا ووقفًا، كما كانت الياء كذلك، ومنهم من يُشبِّهها بهاء الضمير؛ لكونها متّصلة باسم مبهم غيرِ متمكّن، فيكسرها في الوصل، فيقول: "هذِهِ هندٌ"، و"هذِهِ جُمْلُ"، كما تقول: "مررت بهِ"، و"نظرت إلى غلامهِ"، ويُرْدِفها بياء لبيان كسرة الهاء، ومن يقول ذلك يقف على الهاء ساكنةً. ¬
فصل [إبدال اللام]
وممّا يدلّ أنّ الياء لبيان الحركة، وأنّ الهاء ليست للتأنيث، أنّك لو سمّيت رجلًا بـ "ذِه" لأعربت، ونوّنت، وقلت: "هذا ذِهٌ"، و"رأيت ذِهًا"، و"مررت بذِهٍ"، فتحذف الياء للاستغناء عنها بالحركات، وتصرفه، ولو كانت الهاء للتأنيث لم تصرفه كما لم تصرف "حمزة" و"طلحة"، وهذا واضحٌ. وأمّا إبدالها من التاء في نحو: "حمزة"، و"طلحة"، فإذا وقفتَ على هذه التاء، أبدلت منها الهاء، وقد تقدّم الكلام عليها في حروف الزيادة. ومنهم من يُجْرِي الوصل مجرى الوقف، فيقول: "ثَلَاثَة ارْبَعَهْ". ومنهم من يجري الوقف مجرى الوصل، فيقول [من الرجز]: بل جَوْزِ تَيهاءَ كظَهْرِ الحَجَفَتْ (¬1) وحكى قطرب عن طيِّىء أتهم يقولون: "كيف البنون والبَناهْ، وكيف الإِخوةُ والأَخَواه"، فأبدلوا من تاء الجمع هاءً في الوقف، كما يبدلونها من تاء التأنيث الخالصة، وذلك شاذّ. وقد قالوا: "التابُوهُ" في التابُوت، وهي لغة، ووزنُه فَعَلُوتٌ، كـ"رَحَمُوتٍ"، فهو كـ"الطاغوت"، وأصله: "تَوَبُوتٌ"، فقلبوا الواو ألفًا، و"التابوهُ" لغة الأنصار، و"التابوتُ" لغةُ قُرَيْش، وقال ابن مَعْن: لم يختلف الأنصارُ وقريشُ في شيء من القرآن إلَّا في "التابوت". ووقف بعضهم على "اللات" بالهاء، فقال: "اللاه" (¬2). فصل [إبدال اللام] قال صاحب الكتاب: واللام أبدلت من النون والضاد في قوله [من البسيط]: وقفت فيها أصيلالاً أُسائلُها ... [عيّت جوابًا وما بالرَّبع من أحد] (¬3) وقوله [من الرجز]: [لما رأي أن لا دعه ولا شبع] ... مال إلى أرطاة حقفٍ فالطجع (¬4) * * * قال الشارح: قد أبدلت اللام من النون في قوله [من البسيط]: وقفت فيها أُصيلالًا أسائلها ¬
الشعر للنابغة الذُبْيانيّ، وتمامُه [من البسيط]: عَيّت جَوابًا وما بالرَبْع من أَحَدِ (¬1) والمراد: "أُصَيلانًا"، تصغيرُ "أَصِيلٍ" على غير قياس، وإنّما أبدلوا من اللام النون. فإن قيل: لِمَ زعمتم أن اللام بدل من النون؟ وهلاّ كانت النون هي المبدلة من اللام، واللامُ لامٌ مكرّرةٌ من الأولى كما كُرّرت اللام في "حِنْدَقُوقٍ" (¬2) و"مَجَنُونٍ" (¬3). قيل: لا يجوز ذلك؛ لأنّ اللام لو كانت أصلاً لم تثبت الألفُ قبلها في التصغير، ولانقلبت على حدّ انقلابها في "شِمْلالٍ"، و"سِرْبالٍ"، وكنت تقول: "أصَيلِيلٌ" كما تقول: "شُمَيْلِيلٌ" و"سُرَيبِيلٌ". ولمّا لم يُقَل ذلك بل ثبتت، دلّ أنّ اللام بدل، والنون أصل، وأنّها في حكم المنطوق بها, ولذلك لو سمّيتَ به رجلاً، لم تصرفه في المعرفة؛ لأنّ النون كالثابتة، يدلّ على ذلك ثباتُ الألف قبلها، كما كانت إرادةُ التأنيث في "حَمْراءَ"، و"صَفْراءَ" بمنزلة ثبات الألف. وكذلك كان "هَراقَ" إذا سمّيتَ به بمنزلة "أراقَ"، فكما أن هذه الأشياء في حكم ما انقلبت عنه, كذلك اللامُ هنا في حكم النون، وهو فيه أَبْيَنُ لِما ذكرناه من ثبات الألف. ويؤيّد كونَ النون أصلًا قولُهم في تصغير "عَشِيَّةٍ": "عُشَيانٌ"، كأنّه تصغيرُ "عَشيانٍ" على زنة "فَعْلانَ"، وقد ظهر فيه النونُ، كذلك "أُصَيلانٌ". وقد ذهب قومٌ إلى أنّه جمعٌ، كأنّهم جمعوا "أَصِيلًا" على "أُصْلانٍ" على حدّ "رغِيفٍ" و"رُغفانٍ"، ثمّ صغّروه، فصار "أُصَيلانًا"، ثمّ أبدلوا اللام من النون، وقالوا: "أُصَيْلالٌ". وهو قول فاسد, لأنّ هذا الضرب من الجمع لا يُصغَّر، وإنّما هو اسم مفرد اختصّ به التحقيرُ، كما اختصّ بـ "عُشيشة" و"أُبَينُونَ"، ونحو ذلك من الأسماء التي لم تُستعمل إلَّا في التحقير. وقد أبدلوها من الضاد في قول الراجز [من الرجز]: لما رأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ ... مالَ إلى أَرْطاةِ حِقْفٍ فالْطَجَعْ (¬4) والمراد: "اضْطَجَعَ"، فأبدل من الضاد اللام، ويُروى: "فاضطجع" على الأصل، و"اطَّجَع"، فأبدل من الضاد طاءً، ثمّ ادّغمها في الطاء؛ لاجتماعهما في الجَهْر والإطباق. ¬
فصل [إبدال الطاء]
فصل [إبدال الطاء] قال صاحب الكتاب: والطاء أُبدلت من التاء في نحو: "اصطبر"، و"فحصطُ برجلي". * * * قال الشارح: قد أبدلت الطاء من التاء إبدالًا مطّردًا، وذلك إذا كانت فاء "افْتَعَلَ" أحدَ حروف الإطباق، وهي أربعةٌ: الصاد والضاد والطاء والظاء، نحو: "اصطبر يصطبر" و"اضطرب يضطرب"، و"اطَرَدَ"، و"اظْطَلَم"، والأصل: "اصتبر"، و"اضترب"، و"اطترد"، و"اظتلم". والعلّةُ في هذا الإبدال أن هذه الحروف مستعليةٌ فيها إطباقٌ، والتاء حرف مهموس غيرُ مستعلٍ، فكرهوا الإتيانَ بحرف بعد حرف يُضادّه وينافيه، فأبدلوا من التاء طاء؛ لأنّهما من مَخْرج واحد، ألا ترى أنه لولا الإطباقُ في الطاء لكانت دالًا، ولولا جَهرُ الدال لكانت تاءً، فمخرجُ هذه الحروف واحدٌ، إلَّا أن ثمّ أحوالًا تفرق بينهنّ من الإطباق والجهر والهمس، وفي الطاء إطباقٌ واستعلاءٌ يوافق ما قبلها، فيتجانس الصوتُ، ويكون العملُ من وجه واحد، فيكون أخفَّ عليهم. ومثلُه الإمالة، ليس الغرض منها إلَّا تقريب صوت من صوت، ونظائرُ ذلك كثيرةٌ، وهذا الإبدالُ وقع لازمًا، فلا يُتكلّم بالأصل كما أن أصل "سَيِّدٍ" و"مَيِّتٍ": "سَيْوِدٌ" و"مَيْوِتٌ"، ولا يُتكلّم بهما، فكذلك "اضْتَرَب" افْتَعَلَ من "الضرب"، و"اظتَلَم" افْتَعَل من "الظلم"، ولا يُتكلّم بشيء من ذلك. قال الشاعر [من البسيط]: 1319 - [هو الجوادُ الذي يُعْطيك نائِلَهُ عَفْوًا] ... ويُظلَمُ أَحْيانًا فيَظَّلِمُ ¬
قال أبو عثمان: هذا هو الكلام الصحيح. ومن العرب من يُبدِل التاء إلى ما قبلها، فيقول: "اصَّبَرَ يَصَّبِرُ"، و"اضَّرَبَ يَضَّربُ"، وقُرىء {أَن يُصْلِحَا} (¬1)، كأنّ هؤلاء لما أرادوا تجانُسَ الصوت وتشاكُلَه، قلبوا الحرف الثاني إلى لفظ الأوّل، وادّغموه فيه؛ لأنّه أبلغُ في الموافقة. ومن العرب مَن إذا بنى ممّا فاؤه ظاءٌ معجمةٌ "افْتَعَلَ"، أبدل التاء طاءَ غيرَ معجمة، ثمّ يبدل من الظاء التي هي طاءً لما بينهما من المقاربة، ثمّ يدّغمها في الطاء المبدلة من تاء "افْتَعَل"، فيقول: "اطَّهَرَ حاجتي، واطَّلَمَ"، والأصل: "اظطهر"، و"اظطلم"، ولا يفعلون ذلك مع الصاد والضاد لئلّا يذهب صَفيرُ الصاد، وتَفَشِّي الضادِ بالادّغام. والصحيحُ الأوّل؛ لأنّ المطرد إذا أُريد الادّغام قلبُ الحرف الأوّل إلى لفظ الثاني، فلذلك ضعُف الوجه الثاني, لأنّ فيه قلبَ الثاني إلى لفظ الأول، فإذا الوجهُ الثالث أقْيَسُ من الوجه الثاني وإن كان الثاني أكثر منه. ويُنْشَد بيت زُهَير [من البسيط]: هو الجَوادُ الذي يُعْطِيك نائِلَهُ ... عَفْوًا ويُظْلَمُ أَحْيانًا فيَظْطَلِمُ ويُروى: "فيَظّلِمُ"، على حدّ "اصَّبَرَ" على الوجه الثاني، وهو قلبُ الثاني إلى لفظ الأول، وادّغامُ الأول في الثاني، وهو شاذّ في القياس وإن كان كثيرًا في الاستعمال، ويروى: "فيَطَّلِمُ" بالطاء غير المعجمة على الوجه الثالث، ويروى: "فيَنْظَلِمُ" بنون المطاوَعة، نحو: "كَسَرَ، وانكسر". ولا يجري المنفصلُ في ذلك مجرى المتصل لا تقول في "قَبضْ تِلكَ": "قَبطلْكَ"، ولا "قَبِّطلْكَ"، لعدم لزومه وجوازِ الوقف على الأول. وكذلك "قَبَضْتُ" لا يلزم فيه ذلك, لأنّ التاء ضميرُ الفاعل، وهو اسمٌ قائمٌ بنفسه غيرُ الفعل حقيقةٌ، فلا تقول: "قَبَضْطُ"، ولا "قَبَطُّ". ومن العرب من يُشبِّه هذا التاء بتاء "افتعل"، ويقول: ¬
فصل [إبدال الدال]
"قَبَضْطُ" و"قَبَطُّ"، وهي لغة لبعض بني تميم. قال الشاعر [من الطويل]: وفي كلّ حَيٍّ قد خَبَطّ بنِغمَةٍ ... فَحُقَّ لشَأسٍ مِن نَداك ذَنُوبُ (¬1) وذلك لأنّ الفاعل وإن كان منفصلًا من الفعل، فقد أجري مجرى بعض حروفه حكمًا. ألا ترى أنّهم سكّنوا آخِرَ الفعل عند اتّصال ضمير الفاعل به، نحو: "ضَرَبْتُ"، و"كَتَبْتُ"، لئلّا يجتمع في كلمة أربعٌ متحركاتٌ لوازمُ، ولا يفعلون ذلك به عند اتصال ضمير المفعول، نحو: "ضَرَبَكَ"، و"شَتَمَكَ"، ومن ذلك استقباحُهم العطفَ على ضمير الفاعل من غير تأكيد، ولم يستقبحوا ذلك في المفعول، فلمّا كان الفاعل قد أُجري في هذه المواضع مجرَى ما هو من الفعل، أجروا التاء التي هي ضمير الفاعل مجرى التاء في "افْتَعَل"، فإذًا الإبدالُ في "اضطَرَب" ونظائره قياسٌ مطّردٌ، وفي "فَحَصْطُ" ونحوه شاذّ لا يقاس عليه، ماعرفه. فصل [إبدال الدال] قال صاحب الكتاب: والدال أُبدلت من التاء في "ازدجر"، و"ازْدان"، و"فُزْدُ"، و"اذْدكر" غير مدغم فيما رواه أبو عمرو, و"اجدمعوا", و"اجدزَّ" في بعض اللغات. قال [من الرجز]: 1320 - [فقلت لصاحبي لا تحبسانا ... بنزع أصوله] واجدَزَّ شيحا وفي "دولجٍ". * * * ¬
قال الشارح: متى كانت فاء "افْتَعَل" زاء قُلبت التاء دالاً، وذلك نحو. "ازدجر"، و"ازدهى"، و"ازدان"، و"ازدلف"، والأصل: " ازتجر"، و"ازتهى"، و"ازتان"، و"ازتلف"، لأنّه افْتَعَل من "الزَّجْر"، و"الزهو"، و"الزِّينة"، و"الزَّلَف"، فلمّا كانت الزاي مجهورةً، والتاء مهموسةً، وكانت الدال أختَ التاء في المَخرج، وأختَ الزاي في الجهر؛ قرّبوا صوتَ أحدهما من الآخر، وأبدلوا التاء أشبه الحروف من موضعها بالزاء، وهي الدال، فقالوا: "ازدجر"، و"ازدان"، قال الشاعر [من الكامل]: 1321 - إلاَّ كَعَهْدِكُمُ بذى بَقَرِ الحِمَى ... هَيهاتَ ذو بَقَرٍ مِن المُزْدار ومن كلام ذى الرُمّة فيْ بعض أخباره: "هل عندك من ناقةٍ نَزْدارُ عليها مَيًّا". وأُنْشد لرُؤْبَة [من الرجز]: 1322 - فيها ازدهافٌ أيَّما ازدهافِ وهو من أبيات الكتاب، والمراد بذلك كلّه تقريبُ الصوت بعضِه من بعض على حدّ ¬
قولهم: "سَبَقْتُ"، و"صَبَقْتُ"، و"سَوِيقٌ"، و"صَوِيقٌ". وهذا ونحوه قياس مستمِرّ. وقد قُلبت تاء "افْتَعَل" دالًا مع الجيم في بعض اللغات، قالوا: "اجْدمَعُوا" في "اجتمعوا"، و"اجْدَزَّ" في "اجتَزَّ". وأنشدوا [من الوافر]: فقلتُ لصاحِبي لا تَحْبِسانَا ... بنَزْعِ أُصُولِه واجْدَزَّ شِيحَا وأمّا "فُزْدُ"، فالأصل "فُزْتُ" من "الفَوْز"، أبدلوا من التاء دالًا لمكان الزاي. ولا يقاس ذلك، بل يُسمع، فلا تقول في "اجتراء": "اجدراءٌ"، ولا في "اجترح": "اجدرح". وقد حملهم طلبُ التجانس وتقريب الصوت بعضه من بعض على أن أبدلوا من التاء دالًا في غيرِ "افتعل". وذلك نحو قولهم: "دَوْلَجٌ" في "تَوْلَج". كأنهم رأوا التاء مهموسةً، والواوَ مجهورةً، فأبدلوا من التاء الدالَ؛ لأنّها أختُها في المَخْرج، وأختُ الواو في الجهر، فتحصل المجانسةُ في الصوت، وهذا قليل شاذّ فيْ الاستعمال، وإن كان حسنًا في القياس، ولقلّة استعماله لا يقاس عليه. وأمّا "ادَّكَرَ" و"اذَّكَرَ" و"اذَّرَى" فليس ذلك ممّا نحن بصَدَده، إنّما هو إبدالُ ادّغام. وقد قلبوا تاء "افْتَعَل" مع الذال بغير ادّغام دالًا. حكى أبو عمرو عنهم: "اذدكر"، وهو "مُذْدَكِرٌ" وأنشدوا لأبي حُكاك [من الرجز]: 1323 - تَنْحِي على الشَوْكِ جُرازًا مِقْضَبا ... والهَرْمَ تُذرِيهِ اذْدِراءً عَجَبا ¬
فصل [إبدال الجيم]
فصل [إبدال الجيم] قال صاحب الكتاب: والجيم أُبدلت من الياء المشددة في الوقف. قال أبو عمرو: قلت لرجل من بني حنظلة: "مِمَّن"؟ فقال: "فُقَيْمِجْ", فقلت: "من أيهم"؟ فقال: "مرِّج". وقد أجرى الوصل مجرى الوقف من قال [من الرجز]: خالي عويف وأبو علج ... المطعمان اللَّحم بالعشج وبالغداة كُتل البرنج ... يقلع بالود وبالصيصج (¬1) وأنشد ابن الأعرابي [من الرجز]: 1324 - كأن في أذنابهن الشول ... من عبس الصيف قرون الإجَّل وقد أبدلت من غير المشددة في قوله [من الرجز]: 1325 - لاهُمَّ إن كنت قبلت حجَّتِجْ ... فلا يزال شاحجٌ يأتيك بجْ ¬
أقمر نهاتٌ يُنزى وفرتج وقوله [من الرجز]: 1326 - حتى إذا أمسجت وأمسجا * * * قال الشارح: الجيم تبدل من الياء لا غير؛ لأنّهما أختان في الجهر والمخرج، إلّا ¬
فصل [إبدال السين]
أن الجيم شديدة، ولولا شدّتُها لكانت ياءً، وإذا شُدّدت الياء صارت جيمًا، قال يعقوب: بعضُ العرب إذا شدّد الياء صيّرها جيمًا، قال الشاعر [من الرجز]: كأنّ في أذنابهنّ ... إلخ يريد: الإيَّل، فلمّا شدّد الياء جعلها جيمًا، يقال: لا "أَيِّلٌ"، وهو فَيعِلٌ من "آل يَؤولُ"، و"إِيَّلٌ" بكسر الهمزة وفتح الياء وبتشديدها، وهو فِعَّلٌ منه، وأصلُ هذا الإبدال في الوقف على الياء لخفائها وشَبَهها بالحركة. قال أبو عمرو: قلت لرجل من بني حنظلة: "ممن أنت؟ فقال: فقيمجْ؟ أي: فقيميٌّ، فقلت: من أيّهم؟ فقال: مرّجْ؟. أي: مرّيٌّ، وأمّا قول الراجز، أنشده الأصمعيّ، قال: أنشدني خَلَفٌ الأحمرُ، قال أنشدني رجلٌ من أهل البادية [من الرجز]: خالي عويف ... إلخ يريد: أبو عليّ، والعَشِيّ، والصيصِيّ. والصيصِيُّ: قَرْنٌ يُقلع به التمر، والجمعُ الصَّياصِي، فإئه أجرى الوصل مجرى الوقف. وقال الآخر أنشده الفراء [من الرجز]: لاهمّ إن كنت قبلت ... إلخ ويروى: "شامخٌ يأتيك بجْ"، يريد بعيرًا مستكبِرًا. فأمّا قوله [من الرجز]: حتّى إذا ما أمسجت وأمسجا فقد قيل: إن الجيم فيه بدلٌ من الياء على ما تقدّم، وإنّ الأصل: أَمْسَيَتْ، فأبدل من الياء الجيمَ، وقد قيل: إِن الجيم بدل من ألف "أَمْسى"، وساغ إبدالُها من الألف، وإن كانت الجيم لا تُبدل من الألف، لكن الذي سوّغ هنا كونُ الألف مبدلةً من الياء، ألا ترى أن الألف قد حُذفت في قوله تعالى: {يا أبَتَ} (¬1) بالفتح، والمراد: "يا أَبَتَا" حيث كانت بدلًا من الياء التي للإضافة، وهذا يدلّ أنّ حُكْم البدل كحكم المبدل منه، وأنّ ما حُذف لالتقاء الساكنين يكون في حكم الثابت، ولذلك أبدل الجيم من المحذوف لالتقاء الساكنين، فاعرفه. فصل [إبدال السِّين] قال صاحب الكتاب: والسين إذا وقعت قبل غين أو خاء أو قاف أو طاء, جاز إبدالها صاداً كقولك: "صالغٌ"، و"أصبغ نعمه", و"صخَّر"، و"صَلَخ", و {مسَّ ¬
فصل [إبدال الصاد]
صقر} (¬1) , ويصاقون وصقت، وصبقت، وصويقٌ، والصَّملقُ، و"صِراطٌ"، و"صاطِعٌ" و"مُصَيْطرٌ". * * * قال الشارح: إنّما ساغ قلبُ السين صادًا إذا وقعت قبل هذه الحروف، من قبل أنّ هذه الحروف مجهورةٌ مستعلية، والسينُ مهموس مستفِل، فكرهوا الخروجَ منه إلى المستعلى؛ لأنّ ذلك ممّا يثقل، فأبدلوا من السين صادًا؛ لأنّ الصاد تُوافِق السينَ في الهمس والصفير، وتوافق هذه الحروف في الاستعلاء، فيتجانس الصوت، ولا يختلف، وهذا العملُ شبيه بالإمالة في تقريب الصوت بعضِه من بعض من غير إيجاب. فإن تأخّرت السينُ عن هذه الحروف، لم يسغ فيها من الإبدال ما ساغ فيها متقدّمة, لأنّها إذا كانت متأخرة، كان المتكلّم منحدرًا بالصوت من عالٍ، ولا يثقل ذلك ثِقَلَ التصعيد من منخفض، فلذلك لا تقول في. "قِسْتُ"، "قِصْتُ" ولا في "يَخسَرُ المتاعَ": "يَخْصَرُ"، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وإذا وقعت قبل الدال ساكنة، أبدلت زايًا خالصة، كقولك في "يَسْدَرُ": "يَزدَرُ"، وفي "يسدلُ ثوبَه": "يزدُل". قال سيبويه (¬2): ولا تجوز المضارَعةُ، يعني إشراب صوت الزاى، وفي لغة كلْب تُبدَل زايًا مع القاف خاصة، يقولون {مَسَّ زَقَرَ} (¬3). * * * قال الشارح: إذا وقعت السين قبل الدال ساكنةً، أبدلت زايًا خالصة، نحو:، يَزْدَرُ" في "يسدر" إذا تَحيّر، و"يَزْدُلُ" في "يسدل" ثوبه إذا أرخاه، والعلّة في ذلك أن السين حرف مهموس، والدال حرف مجهور، فكرهوا الخروج من حرف إلى حرف ينافيه، ولم يمكن الادّغام، فقزبوا أحدهما من الآخر، فأبدلوا من السين زايًا؛ لأنّها من مَخْرجها، وأختُها في الصغير" وتوافِق الدال في الجهرِ، فيتجانس الصوتان. وقوله: "ولا تجوز المضارعة" يريد أن تشرِب السينَ صوتَ الزاي كما كان كذلك في الصاد؛ لأنّ الصاد فيها إطباقٌ، فضارعوا لئلا يذهب الإطباقُ، وليست السينُ كذلك. فصل [إبدال الصاد] قال صاحب الكتاب: والصاد الساكنة إذا وقعت قبل الدال, جاز إبدالها زايًا خالصةً ¬
في لغة فصحاء من العرب ومنه لم يحرم من فزد له (¬1) , وقول حاتمٍ: "هكذا فزدي أنه", وقال الشاعر [من الطويل]: 1327 - ودع ذا الهوى قبل القلى ترك ذي الهوى ... متين القوى خير من الصرم مزدرا وأن تضارع بها الزاي فإن تحركت لم تبدل, ولكنهم قد يضارعون بها الزاي فيقولون "صدر" و"صدق" و"الصراط". و"المصادر". قال سيبويه (¬2): والمضارعة أكثر وأعرب من الإبدال, والبيان أكثر، ونحو الصاد في المضارعة الجيم والشين, تقول: "هو أجدر وأشدق". * * * قال الشارح: إذا وقعت الصاد ساكنةً، وبعدها الدالُ، جار فيها ثلائةُ أوجه: أحدها أن تجعلها صادًا خالصةً، وهو الأصل، قال سيبويه: وهو الأكثر، والثاني إبدالُها زايًا خالصة، والثالث أن يُضارعَ بها الزايُ. ومعنى المضارعة أن تُشْرِب الصادَ شيئًا من صوت ¬
الزاي، فتصير بين بين، فمثالُ الثاني - وهو الإبدال - قولهم في "مَصْدَر": "مَزْدَرٌ"، وفي "أَصْدَرْتُ ": "أَزْدَرْتُ"، ومنه قولهم في المثل: "لم يحرم من فزْد له"، والمراد: "فُصِدَ"، فأُسكنت الصاد تخفيفًا على حدّ قولهم في "ضُرِبَ": "ضُرْبَ"، وفي "قَبِلَ": "قَبْلَ"، ثمّ قلبوا الصاد التي هي الأصل زايًا. ومعنى هذا المثل أئه كان عادتهم إذا ورد على أحدهم ضَيْفٌ، ولم يَحْضُرْه قِرّى، عمد إلى راحلته، ففصدها، وتَلقّى من دمها، واشتووه له، فيتبلَّغ به، فقيل: "لم يُحرَمْ من فُزْدَ له". يُقرَب ذلك لمن قصد أمرًا، ونال بعضَه. ومن ذلك قولُ حاتم، وقد عقر إبلاً لضَيْف، فقيل له: هلاّ فصدتَها؟ فقال: "هذا فَزْدِى أنَهْ", أي: فصدي، والهاء في "أنَهْ" إمّا للسكت، وإمّا بدلاً من الألف في "أَنَا". فمن أبدل من الصاد زايًا خالصةً، فحجّتُه أن الصاد مُطبَقة مهموسةٌ رِخْوَةٌ، فقد جاورت الدالَ، وهي مجهورة شديدة غير مطبقة، فلمّا كان بين جَرْسَيْهما هذا التنافي، نَبَتِ الدالُ عنها بعضَ نُبُوٍّ، فقرّبوا بعضَها من بعض، ولم يمكن الادّغام، ولم يجترئوا على إبدال الدال, لأنها ليست زائدة كالتاء في "افْتَعَل"، نحو: "اصْطَبر"، فأبدلوا من الصاد زايًا خالصةً، فتناسبت الأصواتُ, لأنّ الزاي من مخرج الصاد، وأختُها في الصغير" وهي تُناسِب الدالَ في الجهر، فتَلاءما، وزال ذلك النُبُوُّ. قال سيبويه (¬1): سمعنا العرب الفصحاء يجعلونها زايًا خالصةً. وأمّا المضارعة، فأن تنحو بالصاد تحو الزاي، فتصير حرفًا مخرجُه بين مخرج الصاد، ومخرج الزاي، ولم يبدلوها زايًا كالوجه الذي قبله محافَظةً على الإطباق؛ لئلا يذهب لفظُ الصاد بالكُلّيّة، فيذهب ما فيها من الإطباق. والإطباقُ فضلةٌ في الصاد، فيكون إجحافًا بها, وليس كذلك السينُ في "يَسْدَل"، و"يَسْدَر"؛ لأنّه لا إطباقَ فيها يُذْهِبه القلبُ، فلم يجز المضارعةُ؛ لذلك قال: وإن تحرّكت الصاد امتنع البدل, لأنّه قد صار بين الصاد والدال حاجزٌ، وهو الحركة؛ لأنّ محلّ الحركة من الحرف بعده، وهذا الإبدال ها هنا من قبيل الادّغام؛ لأنّ فيه تقريبًا للصوت بعضِه من بعض, ولذلك يذكرونه مع الادّغام، فكما أن الحركة تمنع الادّغام، فكذلك ههنا مع أن الحرف قد قوي بالحركة، فلم يُقْلَب؛ لأنّ الحرف لا ينقلب إلَّا بعد إيهانه بالسكون، وجازت المضارعةُ؛ لأنها أضعفُ الوجهَيْن من حيث إن فيها ملاحظةً للصاد، فلم تجر مجرى الادّغام، فيقولون: "صَدَرَ" و"صَدَقَ"، وذلك مطرد مستمر، ولا يجوز قلبُها زايًا إلا فيما سُمع من العرب. وإن فصل بينهم أكثرُ من حركة، لم تستمرّ إلَّا فيما سُمع من العرب، نحو: ¬
"المَصادِر"، و"الصِّراط", لأنّ الطاء كالدال. قال سيبويه: والمضارعة أعربُ وأكثرُ من الإبدال، يريد مع الصاد الساكنة، والبيانُ أكثر. قال (¬1): ونحو الصاد في المضارعة الشين والجيم، قالوا: "أَشدَقُ" في "أَشْدَقُ"، فضارَعوا بالشين نحو الزاي؛ لأنّها، وإن لم تكن من مَخرج الزاي، فإنها قد استطالت حتى خالطت أعلى الشين، فقُربت من مخرجها، وهي في الهمس والرخاوة كالصاد، فجاز أن تُضارعَ بها الزايُ، كما تُضارعَ بالصاد؛ لأنّها من موضع قد قرُب من الزاي. وكذلك الجيم قرّبوها من الزاي؛ لأنّها من مخرج الشين، فقالوا في "أَجْدَرُ": "أَجْدَرُ". ولا يجوز إبدالُها زايًا خالصةً؛ لأنّها ليست من مخرجها. وجملةُ الأمران هذا الإبدال والمقاربة على ثلاثة أضرب. حرفٌ يجوز فيه الإبدالُ والمضارعةُ، وحرفٌ لا يجوز فيه إلَّا الإبدالُ، وحرفٌ لا يجوز فيه إلَّا المضارعةُ. فأمّا الأول، فما اجتمع فيه سببان، نحو الصاد مع الدال، فالصادُ حرف مهموس مطبق، فضارعوا بالصاد نحو الزاي، ولم يُبدِلوها زايًا محافَطْةً على الإطباق؛ وأمّا الإبدالُ فيها فلقوّة مناسبةِ الصاد الزايَ لأنّها من مخرجها، وأختُها في الصفير. وأمّا الثاني، فالسينُ مع الدال ليس فيه إلَّا البدل؛ لأنّ السين ليس فيها إطباقٌ يُحافَظ عليه، فتجوز المضارعةُ لأجله كما جازت في الصاد. وأمّا الثالث، فهو ما ليس فيه إلَّا المضارعة، فالشين المُعْجَمة مع الدال؛ لأنّه مهموس جاوَرَ مجهورًا، وفيه تَفَشٍّ يتصل بتفشّيه حتى يُخالِط موضعَ الزاى، فاقتضى ذلك أن ئضارَع به الزايُ، فلا يُبدَل زايًا لبُعْد ما بينه وبين مخرج الزاي، وكذلك الجيمُ مع الدال , فاعرفه. ¬
الاعتلال
ومن أصناف المشترك الاعتلال فصل [حروف الاعتلال] قال صاحب الكتاب: حروفه الألف والواو والياء, وثلاثتها تقع في الأضرب الثلاثة، كقولك: "مالٌ" و"نابٌ" و"سوط" و"بيض" و"قال" و"حاول" و"بايع" و"لا" و"لو" و"كي" إلا أن الألف تكون في الأسماء والأفعال زائدة أو منقلبة عن الواو والياء لا أصلاً، وهي في الحروف أصلٌ ليس إلا؛ لكونها جوامد غير متصرف فيها. * * * قال الشارح: معنى الاعتلال التغيير، والعلّةُ تغيرُ المعلول عمّا هو عليه، وسُمّيت هذه الحروف حروفَ علّة لكثرة تغيّرها. وهذه الحروف تقع في الأضرب الثلاثة: الأسماء، والأفعال، والحروف. فمن ذلك الألفُ تكون في الأسماء والأفعال والحروف، فمثالها في الأسماء "مالٌ"، و"كتابٌ"، وفي الأفعال "قالَ"، و"بايَعَ"، ومثالُها في الحروف "ما"، و"لا". ومن ذلك الواو، وهي كذلك تكون في الأسماء والأفعال والحروف، فالأسماء، نحو: "حَوْض"، و"جَوْهَر"، والأفعال، نحو: "حاوَلَ"، و"قاوَلَ"، والحروفُ، نحو: "لَوْ"، و"أَوْ". والياء كذلك تكون في الأسماء، نحو: "بَيْتٍ"، و"بَيْضٍ"، والأفعال، نحو: "بايَعَ"، و"بايَنَ"، والحروف، نحو: "كَيْ"، و"أَيْ". ولاشتراك الأسماء والأفعال والحروف فيها ذَكَرَها في المشترك. وهذه الحروف تكون أصلاً وبدلًا وزائدةً. فأمّا الألف من بَيْنها، فلا تكون أصلاً في الأسماء المتمكّنة ولا في الأفعال، إنما هي زيادة، أو بدل ممّا هو أصل، وذلك لأنّا استقرينا جميعَ الأسماء والأفعال أو اْكثرَها، فلم نَجِد الألف فيها إلاّ كذلك، فقضينا لها بهذا الحكم. فأمّا الحروف التي جاءت لمعنى، فالألف أصل فيهن، وذلك لأنّ الحروف
فصل [الواو والياء من حيث اتفاقهما في الإعلال واختلافهما]
غيرُ مشتقّة، ولا متصرّفة، ولا يُعْرَف لها أصلٌ غيرُ هذا الظاهر، فوجب أن لا يُعْدَل عنه إلا بدليل، فلا يقال في ألِف "ما" و"لا"، و"حَتَّى" إئها زيادة؛ لعدمِ اشتاق يُفْقَد فيه ألفُها، كما نَجِد لألِف "ضاربٍ"، و"قائل" اشتقاقًا يفقد فيه ألفها، وذلك نحو: "ضَرَبَ يَضْرِبُ". ولا يقال: إِنها بدل؛ لأنّ البدل ضربٌ عن التصرّف، ولا تصرُّف للحروف، وأيضًا لو كانت الألفُ في "ما" من الواو، لوجب أن يقولوا: "مَوْ"، كما يقولون: "لَوْ"، و"أَوْ" بإقرِارها على لفظها من غير إبدال، وكذلك لو كانت من الياء، لقالوا: "مَيْ" كما قالوا: "كَيْ" و"أيْ"؛ لأنّها مبنيّة على السكون، والواوُ والياء لا تُقْلَبان ألفًا إلا إذا تحرّكتا وانفتح ما قبلهما. وإذا بطل أن تكون زائدة في الحروف أو منقلبة، تعين أن تكون أصلاً، وكذلك الأسماء المبنية التي أوْغلت في شَبه الحروف، والأصواتُ المحكيّة، والأسماء الأعجميّة تجري مجرى الحروف في أن ألفاتها أصولٌ غيرُ زوائد، ولا منقلبة؛ لأنّا إنّما قضينا بذلك في الحروف لعدم الاشتقاق، وهذا موجودٌ في هذه الأسماء، فاعرفه. فصل [الواو والياء من حيث اتفاقهما في الإعلال واختلافهما] قال صاحب الكتاب: والواو والياء غير المزيدتين تتفقان في مواقعهما, وتختلفان, فاتفاقهما إن وقعت كلتاهما فاءً كـ "وعدٍ" و"يُسر"، وعينًا كـ "قولٍ" و"بيْع"، ولاماً كغزو ورمى، وعينا ولاما معا كقوةٍ وحية وإن تقدمت كل واحدة على أختها فاءً وعينًا في نحو: ويل, ويوم. واختلافهما أن الواو تقدمت على الياء في نحو وقيت وطويت، ولم تتقدم الياء عليها. وأما الواو في "الحيوان" و"حيوة" فكواو جباوة في كونها بدلاً عن الياء, والأصل "حييانٌ" و"حيية". * * * قال الشارح: قد أخذ يُريك مواقع هذه الحروف من الكِلَم؛ فأمّا الألفُ فقد تقدّم أمرها، وأنها لا تكون أصلاً في الأسماء المتمكنة، ولا في الأفعال. وأمّا الواو والياء، فقد تكونان أصلَيْن، وتقعان فاءً وعينًا ولامًا، فمثالُ كون الواو فاءً "وَعْلٌ"، و"وَصَلَ"، ومثالُ كونها عينًا نحو: "حَوْضٍ"، و"قاوَمَ"، ومثالُ كونها لامًا نحو: "غَزْوٍ"، و"غَزَوْت"، ومثالُ كون الماء فاءً نحو: "يُسْرٍ"، و"يَبِسَ"، والعينِ، نحو: "بَيْتٍ"، و"بايَعُ"، واللام، نحو: "ظَبْيٍ"، و"رَمَيت". وقد يجتمعان في أوّل الكلمة، فيكون أحدهما فاءً، والآخر عينًا، نحو: "وَيْلٍ"، و"يَوْمٍ"، وتقديمُ الواو أكثرُ، فـ "وَيْل" و"وَيْحٌ" و"ويس" أكثر من "يَوْم" و"يُوح"، كأنّهم يكرهون الخروجَ من الياء إلى ما هو أثقلُ منها، وهو الواو، وكذلك لم يأت في كلامهم مثلُ "فِعُل" بكسر الأوّل وضمّ الثاني، فاستثقلوا الخروج من كسر إلى ضمّ بناءً لازمًا، وفيه
"فُعِل" مثلُ "ضُرِبَ"، و"قُتِلَ", ولذلك قالوا: "وَقَيتُ" و"طَوَيتُ"، فقدّموا الواو على الياء، ولم يأت عنهم مثل "حَيوَة" بتقديم الياء على الواو. قال سيبويه (¬1): ليس في كلامهم مثل "حَيوَة" أي: ليس في الكلام "حَيوَة" ولا ما يجري مجراه ممّا عينه ياءٌ، ولامه واوٌ. فأمّا "الحَيَوان"، فأصله: حَيَيانٌ، فأبدلوا من الياء الثانية واوًا كراهيةَ التضعيف. هذا مذهبُ سيبويه (1) والخليل إلا أبا عثمان فإنّه ذهب إلى أن "الحيوان" غير مُبدَلِ الواو؛ لأنّ الواو فيه أصل وإن لم يكن منه فعلٌ، وشَبَّهَ هذا بقولهم: "فاظَ الميّتُ يَفِيظُ فَوْظًا وفَيظًا". ولم يُستعمل من "الفَوْظ" فعلٌ. ومثلُه "وَيحٌ"، و"وَيْسٌ"، و"وَيْلٌ"، كلها مصادر، وإن لم يُستعمل منها فعل، والمذهبُ مذهب سيبويه, لأنّه لا يمتنع أن يكون في الكلام مصدرٌ عينه واوٌ وفاؤه ولامه صحيحان مثلُ "فَوظٍ"، و"صوغ"، و"مَوْتٍ" لا، واْشباهِ ذلك؛ فأمّا أن تُوجَد في الكلام كلمةٌ عينها ياءٌ، ولامها واوٌ، فلا، فحَمْلُه "الحيوان" على "فَوْظ" لا يحسن. وكذلك "حَيْوَة" الأصل: حَييَة؛ لأنّه من "حَيِيَ"، فأبدلوا من الياء الأخيرة واوًا على غير قياس لضرب من التخفيف باختلاف الحرفَيْن؛ لأتهم يستثقلون التضعيف، وأن يكون الحرفان من لفظ واحد، ولذلك شَبَّهَه بـ "جَبَيتُ الخراجَ جِباوةً"؛ لأنّ الأصل: جبايةٌ, لأنّه من الياء، فأُبدل منها الواو على غير قياس، فاعرفه. قال صاحب الكتاب: وإنّ (¬2) الياءَ وقعتْ فاءً وعينًا معًا، وفاءً ولامًا معًا، في "يَيْنَ" اسم مكان، وفي "يَدَيْتُ"، ولم تقع الواو كذلك. ومذهبُ أبي الحَسَنُ في الواو أنّ تأليفها من الواوات، فهي على قوله موافِقةُ الياء في "يَيَّيْتُ" (¬3). وقد ذهب غيرُه إلى أنّ ألفَها عن ياء، فهي على هذا موافقتُها في "يدَيتُ". وقالوا: ليس في العربية كلمةٌ فاؤُها واوٌ ولامُها واوٌ إلَّا الواوُ، ولذلك آثروا في "الوَعْى" أن يُكتب بالياء (¬4). * * * قال الشارح: قد يكون التضعيف في الياء كما يكون في سائر الحروف، ومعنى التضعيف أن يتجاور المِثْلان. فمن ذلك الفاء والعينُ، ولم يأت إلَّا في كلمة واحدة، قالوا: "يَينُ" في اسم مكان، وليس له في الأسماء نظيرٌ، فهذا كـ"كَوْكَب" و"دَدَنٍ" في الصحيح. وقد جاء التضعيف في الفاء واللام مع الفصل بينهما، وذلك نحو: "يَدٍ"، والأصلُ: "يَدْيٌ" بسكون الدال، والذي يدل أن لامه ياء قولُهم: "يَدَيْتُ عليه يَدًا", ولم يقولوا: "يَدَوْتُ"، وذلك إذا أَوْليتَه معروفًا. قال الشاعر [من الوافر]: يَدَيتُ على ابْنِ حَسْحاسِ بن وَهْبٍ ... بأَسْفَلِ ذي الجِذاةِ يَدَ الكَرِيم (¬5) ¬
وقالوا في التثنية: "يَدَيَانِ". قال الشاعر [من الكامل]: يَدَيانِ بَيْضاوان عند مُحَلِّم ... قد تَمْنَعانك أنْ تُضامَ وتُضهَدَا (¬1) ويقال: "يَدان"، وهو الأكثر للزوم الحذف. والذي يدل على أنّه "فَعْلٌ" ساكنُ العين قولُهم في تكسيره: "أَيْدٍ"، وأصله: "أَيدُيٌ" على زنة "أفْعُلٍ"، نحو: "كَلْبٍ"، و"أَكلُب"، و"كَعْب"، و"أَكعُبٍ". فأبدلوا من ضمّة الدال كسرةً لتصحّ الياء كما قالَوا: "بيضٌ". قال الله تعالى: {فَبِمَا كسبَت أَيْدِيكُمْ} (¬2). ويُؤكد أيضًا كونَه فعْلًا ساكنَ العين جمعُهم إياه على "فعيل"؛ نحو قوله [من الطويل]: فإنّ له عندي يَدِيًّا وأَنْعُما (¬3) وهذا النوع من الجمع إنما يكون من "فَعْل" ساكن العين، نحو: "عَبدٍ"، و"عَبِيدٍ"، و"كَلْبٍ"، و"كَلِيبٍ". قال [من السريع]: والعيسُ يَنْغُضنَ بِكيرانِها ... كأنّما يَتهَشُهُنَّ الكَلِيبْ (¬4) مع أنّ يعقوب قد حكى: "يَدْيٌ" في "يَدٌ"، وهذا نَصٌّ. وقالوا: "يَيَّيْتُ ياء حسنةً"، أي: كتبتُ ياء، وليس في الكلام كلمةٌ حروفها كلها ياءاتٌ إلَّا هذه، هذا هو المسموع فيها. وجملةُ الأمر أنّ حروف المُعْجم ما دامت حروفًا غير معطوفة، ولا واقعةٍ موقع الأسماء ساكنةُ الأواخر مبنيّةٌ على الوقف في الإدراج والوقف؛ لأنّها أسماءٌ للحروف الملفوظِ بها في صِيغ الكِلَم بمنزلة أسماء الأعداد، نحو. "ثلاثهْ"، "أربعهْ"، "خمسهْ"، فهذه كلُّها مسكَّنةُ الأواخر جارية مجرى الحروف والأصواتِ التي لا حَظَّ لها في الإعراب. ويؤيد ما ذكرناه من كونها جارية مجرى الحروف أن منها ما هو على حرفَين الثاني منهما حرفُ مدّ ولين، نحو: "با"، "تا"، "ثا"، "خا". ولا نجد مثلَ ذلك في الأسماء الظاهرة، فمتى أعربتَها, لزمك إذا أدخلتَ التنوين أن تحذف حرفَ المدّ لالتقاء الساكين، فيبقى الاسمُ الظاهرُ على حرف واحد، وذلك معدوم؛ لأنّ العرب تبتدىء بالمتحرّك، وتقف على الساكن، والحرفُ الواحدُ لا يكون متحرّكًا ساكنًا في حال واحدة، ولمّا وُجد ذلك في هذه الحروف، نحو: "با"، و"تا"، دلّ أنّها جارية مجرى الحروف، نحو: "هَلْ"، و"بَلْ"، و"قَدْ"، فإذا نُقلت وسُمّي بها، أو أجريت مجرى الأسماء في الإخبار عنها، صارت أسماءً مستحِقة للإعراب، نحو قولك: "هذه باء حسنة"، لمحتزيد على ألفِ "با"، و"تا" ونحوهما ألفًا أخرى على حدّ قوله [من الخفيف]: لَيْتَ شعْري وأَيْنَ مِنِّيَ لَيتٌ ... إن لَيْتًا وإنّ لَوًّا عَناءُ (¬5) ¬
ألا ترى أن العرب لمّا استعملوا "لَو" استعمالَ الأسماء وأعربوها، زادوا على واوِ "لَوْ" واوًا أخرى، وجعلت الثاني من لفظ الأول، إذ لا أصلَ لها ترجع إليه لتُلْحَق بأبنية الأسماء الأصولِ، فلذلك زدت على ألفِ "با" و"تا" ونحوِهما ألفًا أخرى، كما فعلت العربُ في "لَوْ" لما أعربتها، فصار "باا" و"تاا" بألفَيْن ونحوهما. فلمّا التقى ألفان ساكنان، لم يكن بد من حذف أحدهما، أو تحريكِه، فلم يمكن الحذفُ؛ لأنّ فيه نقضًا للغرض بالعَوْد إلى القصر الذي هُرب منه، فوجب التحريكُ لالتقاء الساكنين، فحُرّكت الألف الثانية. وكانت الثانية أوْلى بالتغيير، لأنّك عندها ارتعدتَ، وهي مع ذلك طرفٌ، والأطرافُ أولى بالتغيير من الحَشو، فلمّا حرّكت الثانية، قلبتها همزة على حدّ قلبها في "كِساءٍ"، و"رِداءٍ"، و"حَمْراءَ"، و"بَيضاءَ"، ثم أعربوها, وقالوا: "خططتُ ياءً حسنةً". وقُضي على الألف التي هي عينٌ بأنّها من الواو، وعلى الثانية بأنّها من الياء، وإن لم تكونا في الحقيقة كذلك، فتصير الكلمةُ بعد تَكمِلَةِ صيغتها من بابِ "شَوَيْتُ"، و"طَوَيْتُ"؛ لأنّه أكثرُ من باب "الهُوَّة"، و"القُوَّة"، ومن باب "حَيِيتُ", و"عَيِيتُ". فإن قيل: ففي القَضاء بذلك جمعٌ بين إعلالَين: إعلالِ العين واللام، وذلك لا يجوز، قيل: الضرورةُ دفعت إلى ذلك، وقد جاء من ذلك أشياء، قالوا: "ماءٌ"، فألفُه منقلبة عن ياء، وهمزتُه منقلبة عن هاء؛ لقولهم في التكسير: "أَمْواهٌ"، وفي التصغير: "مُوَيْهٌ"، وقالوا: "ماهت الرَّكِيَّةُ تَمُوهُ". وقالوا: "شاءٌ" في قولِ من قال: "شُوَيهَةٌ"، وفي التكسير: "شِياهٌ"، فهو نظير "ماء"، ومن قال: "شَوِيٌّ" في التكسير، فهو من بابْ "طَوَيتُ"، و"لَوَيْتُ"، فصارت "شاء" في هذا القول كـ"حاء" و"باء". وإذا كان قد ورد عنهم شيءٌ من ذلك، جار أن يُحْمَل عليه باءٌ وياءٌ وطاءٌ وإخوانهنّ في إعلال عيناتها ولاماتها، ويصير تركيبُها ياءً وباءً ونحوهما بعد التسمية من "ي": "وي" ومن "ب": "وي"، ولو اشتققتَ على هذا من هذه الحروف بعد التسمية فعلاً على "فَعَّلْتُ"، لقلت من الياء: "يَوَّيتُ", ومن الباء "بَوَّيْتُ"، وكذلك سائرُها، كما تقوله: "طَوَّيْتُ", و"حَوَّيْتُ". هذا هو القياس؛ وأمّا المسموعُ المحكى عنهم ما ذكرناه من قولهم في الباء: "يَيَّيْتُ"، وفي التاء: "تَيَّيْتُ"، وفي الحاء: "حَيَّيْتُ"، فهذا القولُ منهم يقضي بأنّه من باب "حَيِيتُ" و"عَيِيتُ". وكان الذي حملهم على ذلك سَماعَهم الإمالةَ في ألفاتهنّ قبل التسمية وبعدها، فاعرفُ ذلك. وقوله: "ولم تقع الواو كذلك" يعني ليس في الكلام كلمةٌ حروفُ تركيبها كلُّها واواتٌ، كما كانت الياء كذلك في قولهم: "يَيَّيْتُ ياءً حسنةً". فأمّا "واوٌ"، فحمل أبو الحسن ألفَها على أنّها منقلبة من واو، فهي على ذلك مُوافقةٌ للياء في "يَيَّيْتُ"؛ لأنّ
حروفها كلّها واواتٌ، كما أن حروف "يَيْيتُ" كلّها ياءات، واحتجّ لذلك بتفخيم العرب إيّاها، وأنّه لم يُسمع فيها الإِمالة، وقُضي عليها بأنّها من الواو. وذهب آخرون إلى أن الألف فيها منقلبة من ياء، واحتجّوا لذلك بأنّ جَعْلها كلِّها لفظًا واحدًا غيرُ موجود في الكلام، فوجب القضاءُ بأنّها من ياء، لتختلف الحروف. والوجهُ عندي هو الأول, لأنّه كما يلزم من القضاء بأن الألف من الواو أن تصير حروفُ الكلمة كلُّها واوات، كذلك يلزم أيضًا من القضاء بأنّها من الياء. ألا ترى أنّه ليس في الكلام كلمةٌ فاؤها ولامها واوٌ إلَّا قولنا: "واوٌ"، فالكلمةُ عديمةُ النظير في كِلا الحالين، وكان القضاء عليها بالواو أَوْلى من قبل أن الألف إذا كانت في موضع العين فأن تكون منقلبة عن الواو أكثرُ، والعملُ إنّما هو على الأكثر، وبذلك وصّى سيبويه، هذا مع ما حكاه أبو الحسن. وقد قالوا: ليس في الكلام ما فاؤه واو ولامه واو إلَّا قولهم: "واو"، ولذلك قضوا على الألف من "الوغى" بأنها من الياء؛ لئلاّ يصير الفاء واللام واوً، وكذلك قضينا على الواو في "واخَيْتُه" بأنّها مبدلة من الهمزة في "آخَيْتُه"، ولم يُقَل: إِنهما لغتان, لأنّ اللام في "أخٍ" واوٌ" بدليل قولك في التثنية: "أَخَوان"، فالقضاء على الفاء بأنّها واو يؤدّي إلى إثباتِ مَثال قَلَّ نظيرُه في الكلام، فاعرفه.
القول في الواو والياء فائين
القول في الواو والياء فائين فصل [أحوال الواو من حيث صِحَّتُها وسُقوطُها وقلْبُها] قال صاحب الكتاب: الواو تثبت صحيحة، وتسقط وتقلب. فثباتها على الصحة في نحو وعد وولد والوعد والوالدة. وسقوطها فيما عينه مكسورة من مضارع "فَعَلَ" أو "فَعِلَ" لفظاً أو تقديراً, فاللفظ في يَعِدُ ويَمِقُ، والتقدير في يضع ويسع؛ لأن الأصل فيهما الكسر والفتح لحرف الحلق، وفي نحو العدة والمقة من المصادر, والقلب فيما مر من الإبدال. * * * قال الشارح: اعلم أن الواو إذا كانت أصلًا، ووقعت فاءً فلها أحوال: حالٌ تصحّ فيه، وحال تسقط فيه، وحال تُقْلَب. فالأول نحو: "وَعَدَ"، و"وَزَنَ"، و"وَلَدَ"، الواو في ذلك كلّه صحيحة, لأنّه لم يوجَد فيها ما يوجِب التغييرَ والحذفَ؛ وأمّا "الوِعْدة" و"الوِلْدة"، فالمراد أنّه إذا بُني اسم على "فِعْلَةَ" لا يراد به المصدرُ فإنه يتمّ لا يحذف منه شيء، كما يحذف منه إذا أريد به المصدر على ما سيوضَح أمره بعدُ، ومن ذلك قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} (¬1)، المراد به الاسم، لا المصدر، ولو أريد المصدر لقيل: "جِهَة" كـ"عِدَةٍ". وأمّا الحال التي تسقط فيه، فمتى كانت الواو فاء الفعل وماضيه على "فَعَلَ"، أو"فَعِلَ" ومضارعه على "يَفْعِل" بالكسر، ففاؤه التي هي الواو محذوفة، نحو: "وَعَدَ يَعِدُ"، و"وَزَنَ يَزِنُ"، والأصلُ: "يَوْعِدُ"، و"يَوْزِنُ"، فحُذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة، فحُذفت استخفافًا، وذلك أن الواو نفسها مستثقلة، وقد اكتنفها ثقيلان: الياء والكسرةُ، والفعل أثقلُ من الاسم، وما يعرِض فيه أثقلُ ممّا يعرض في الاسم، فلمّا اجتمع هذا الثقلُ، آثروا تخفيفَه بحذفِ شيء منه، ولم يجز حذفُ الياء؛ لأنّه حرفُ المضارعة، وحذفه إخلالٌ مع كراهية الابتداء بالواو، ولم يجز حذفُ الكسرة؛ لأنّه بها يُغرَف وزن الكلمة، فلم يبق إلَّا الواوُ، فحُذفت. وكان حذفها أبلغَ في التخفيف؛ لكونها أثقل من الياء والكسرةِ مع أنها ساكنة ضعيفة، فقوي سبب حذفها، وجعلوا سائر المضارع ¬
محمولًا على "يَعِدُ"، فقالوا: "تَعِدُ"، و"نَعِدُ"، و"أَعِدُ"، فحذفوا الواو، وإن لم تقع بين ياء وكسرة؛ لئلّا يختلف بناء المضارع، ويجري في تصريفه على طريقة واحدة مع ما في الحذف من التخفيف. ومثله قولهم: "أُكْرِمُ"، وأصله: "أُأَكْرِمُ" بهمزتين، فحذفوا الهمزة الثانية كراهيةَ الجمعِ بين همزتين لثِقَلِ ذلك، ثمّ أتبعوا ذلك سائرَ الباب، فقالوا: "يُكْرِمُ" و"تُكرِمُ"، فحذفوا الهمزة وإن لم توجَد العلّة، فيجري البابُ على سَنَن واحد. وقال الكوفيون: إنّما سقطت الواوُ فَرْقًا بين ما يتعدّى من هذا الباب، وبين ما لا يتعدّى، فالمتعدّي: "وَعَدَهُ يَعِدُه"، و"وَزَنَه يَزِنُه"، و"وَقَمَه يَقِمُه" إذا قَهَرَه، وما لا يتعدّى: "وَحِلَ يَوحَل"، و"وَجِلَ يَوْجَل". وذلك فاسد؛ لأنّه قد سقطت الواو من هذا الباب في غير المتعدّي كسقوطها من المتعدّي، ألا تراهم قالوا: "وَكَفَ البيتُ يَكِفُ"، و"وَنَمَ الذُبابُ يَنِمُ" إذا زَرَقَ، و"وَخَدَ البعيرُ يَخِدُ"؟ فثبت بذلك ما قلناه. وممّا يدلّ على ذلك أن من الأفعال ما يجيء المضارع منه على "يَفْعِل" و"يَفْعَل" بالكسر والفتح؛ فتسقط الواوُ من "يَفْعِل"، وتثبت في "يَفْعَل"، وذلك في نحو: "وَحِرَ صَدْرُه يَحِر"، و"وغِرَ يَغرُ". وقالوا: "يَؤحَرُ"، و"يَوْغَرُ"، فأثبتوا الواو في المفتوح، وحذفوها من المكسور، فدلّ على صحّة علّتنا، وبُطْلانِ علّتهم. واعلم أن ما كان فاؤه واوًا من هذا القبيل، وكان على زنةِ "فَعَلَ"، فإن مضارعه يلزم "يَفْعِل" بكسر العين، سواءٌ في ذلك اللازمُ والمتعدّي، ولا يجيء منه "يَفْعُل" بضمّ العين كما جاء في الصحيح، نحو: "قَتَلَ يَقْتُل"، و"خَرَجَ يَخرُج"، كائهم أرادوا أن يجري البابُ على نَهْج واحد في التخفيف بحذف الواو، وهو إعلال ثانٍ لَحِقَهُ بأن مُنع ما جاز في غيره من الصحيح. قال سيبويه (¬1): وقد قال ناسٌ من العرب: "وَجَدَ يَجُدُ" بضمّ الجيم في المستقبل، وأنشد [من الكامل]: 1328 - لو شاء قد نَقَعَ الفؤادَ بشُرْبةٍ ... تَدَعُ الحَوائِمَ لا يَجُدْنَ غَليلا ¬
وإنّما قل ذلك؛ لأنّهم كرهوا الضمّة بعد الياء، كما كرهوا بعدها الواو، ولذلك قَلَّ نحو: "يَوْم"، و"يُوح"، على ما ذكرناه. فإن انفتح ما بعد الواو في المضارع، نحو: "وَجِلَ يَوْجَل"، و"وَحِلَ يَوحَل"، فإنّ الواو تثبت، ولا تحذف لزوالِ وصف من أوصاف العلّة، وهو الكسرُ، نحو قولك: "يُوعَد"، و"يُوزَن" ممّا لم يُسَم فاعله، قال الله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} (¬1)، فحُذفت الواو من "يلد" لانكسار ما بعدها، وثبتت في "يولد" لأجل الفتحة. فأمّا قولهم: "يَضَعُ" و"يَدَعُ"، فإنّما حُذفت الواو منهما؛ لأنّ الأصل "يَوْضِعُ" و"يَوْدِعُ"، لما ذكرناه من أن "فَعَلَ" من هذا إنّما يأتي مضارُعه على "يَفْعِلُ" بالكسر، وإنّما فُتح في "يضع"، و"يدع" لمكان حرف الحلق، فالفتحةُ إذًا عارضة، والعارضُ لا اعتدادَ به، لأنّه كالمعدوم، فحذفت الواو فيهما؛ لأنّ الكسرة في حكم المنطوق به، فلذلك قال: لفظًا أو تقديرًا، فاللفظ في "يَعِدُ"؛ لأنّ الكسرة منطوق بها، والتقديرُ في "يَسَعُ" و"يَضَعُ"؛ لأنّ العين مكسورة في الحكم، وإن كانت في اللفظ مفتوحة. فأمّا "عِدَةٌ": و"زِنَةٌ" إذا أريد بهما المصدرُ، فالواو منهما محذوفة، والأصلُ: "وِعْدَةٌ"، وفي "وِزْنَةٌ". والذي أوجب حذفَها ههنا أمران: أحدهما كونُ الواو مكسورةً، والكسرةُ تُستثقل على الواو، والآخرُ كون فعله معتلاًّ، نحو: "يعد"، و"يزن"، على ما ذكرتُ، والمصدرُ يعتل باعتلال الفعل، ويصح بصحّته، ألا تراك تقول: "قُمْتُ قِيامًا"، و"لُذتُ لِياذًا"، والأصلُ "قِوامًا" و"لِواذًا"، فأعللتَهما بالقلب لاعتلال الفعل؟ ولو صحّ الفعلُ لم يعتل المصدرُ، وذلك نحو قولك: "قاوَمَ قِوامًا"، و"لاوَذ لِواذًا"، فيصحّ المصدرُ ¬
فيهما لصحّة الفعل, لأنّ الأفعال والمصادر مجري مجرى المثال الواحد، فاجتماعُ هذَيْنْ الوصفَيْن علّة حذف الواو من المصدر، فلو انفرد أحد الوصفين، لم تحذف له الواو، وذلك نحو: "الوَعْد"، و"الوَزْن"، لمّا انفتحت الواوُ، وزالت الكسرةُ، لم يلزم الحذفُ، وإن كان الفعل معتلاًّ في "يزن" و"يعد". وقالوا: "واددتُه وِدادًا"، و"واصلتُه وِصالًا"، فالواوُ ثابتة ها هنا وإن كانت مكسورة لعدم اعتلال الفعل، فعلمتَ أن مجموع الوصفين علّةٌ لحذف الواو من المصدر، ولذلك لمّا أريد بهما في "وِعْدَةٍ" و"وِلْدَةٍ" الاسمُ لا المصدرُ، لم تحذف الواو منهما. واعلم أنّ إعلالَ نحو: "عِدَةٍ"، و"زِنَةِ" إنّما هو بنقل كسرة الفاء التي هي الواو إلى العين، فلمّا سكنت الواوُ، ولم يمكن الابتداء بالساكن، ألزموها الحذفَ؛ لأنّهم لو جاؤوا بهمزة الوصل مكسورةً، أدَّى ذلك إلى قلب الواو ياءً لانكسار ما قبلها وسكونها، فكانوا يقولون: "اِيعِدٌ" بياء بين كسرتين، وذلك مستثقَلٌ، فصاروا إلى الحذف. فإذًا القصدُ الإعلالُ بنقل الحركة، والحذفُ وقع تَبَعًا. وقيل: إنّه لمّا وجب إعلال "عدة" و"زنة"، كان القصد حذفَ الواو كالفعل، فنقلوا كسرةَ الواو إلى العين؛ لئلّا تُحذف في المصدر واوٌ متحرّكةٌ, فيزيد الاسمُ على الفعل في الإعلال، والاسمُ فرعٌ على الفعل في ذلك، فإذا لم ينحطّ عن درجة الفعل، فيساويه؛ فأمّا أن يفوقه فلا. وفي الجملة إِنه إعلالٌ اختصّ بفعله، ولزمت تاء التأنيث كالعوض من المحذوف؛ وأمّا القلب، فقد تقدّم الكلام عليه في البدل، نحو: "مِيزانٍ"، و"مِيعادٍ"، و"تُكَأَةٍ"، و"تُخَمَةٍ"، وأشباهِ ذلك بما أغنى عن إعادته. * * * قال صاحب الكتاب: والياءُ مثلُها إلَّا في السقوط، تقول: "يَنَعَ يَينَعُ" و"يَسَرَ يَيسِرُ"، فتُثْبِتها حيث أسقطت الواو، وقال بعضهم: "يَئِسَ يَئِسُ" كـ"وَمِقَ يَمِقُ"، فأجراها مُجْرى الواو، وهو قليل، وقلبُها في نحو: "اتَّسَرَ". * * * قال الشارح: يريد أن الياء تقع في جميع مواقع الواو من الفاء والعين واللام على ما تقدّم لا فصلَ بينهما في ذلك، وليست كالألف التي لا تقع أوّلًا، ولا تكون أصلًا في الأسماء المعربة والأفعال إلَّا في الحذف، فإن الياء تثبت حيث تحذف الواو تقول: "يَنَعَتِ التمرةُ تَيْنَعُ"، و"يَسَرَ يَيْسِرُ"، وهو قِمارُ العرب بالأزْلام، والاسم "المَيْسِر"، ولا تحذف هذه الياء كما تحذف الواو في "يَعِدُ" وأخواته لخِفّة الياء. وحكى سيبويه (¬1) أنّ بعضهم قال" "يَسَرَ يَسِرَ"، فحذف الياء كما يحذف الواو، وذلك من قبل أن الياء وإن ¬
فصل [إثبات الواو وحذفها]
كانت أخفّ من الواو، فإنّها تستثقل بالنسبة إلى الألف، فلذلك حذفها. فأمّا قلبها, فقد تقدّم الكلام في نحو: "اتَّسَرَ"، ونظائرُه كثيرة كـ "ثِنْتَيْن"، و"كَيْتَ"، و"ذَيْتَ"، فاعرفه. فصل [إثبات الواو وحذفها] قال صاحب الكتاب: والذي فارق به قولهم وجع يوجع ووحل يوحل قولهم وسع يسع ووضع يضع حيث ثبتت الواو في أحدهما وسقطت في الآخر, وكلا القبيلين فيه حرف الحلق أن الفتحة في يوجع أصلية بمنزلتها في يوجل، وهي في يسع عارضة مجتلية لأجل حرف الحلق فوزانهما وزان كسرتي الراءين في التجاري والتجارب. * * * قال الشارح: كأنه يُنبِّه على الفرق بين "وَجِلَ يَوْجَل"، و"وَجِعَ يَوْجَعُ" وما كان منهما، وبين قولهم: "وَسِعَ يَسَعُ"، و"وَطِئ يَطَأُ"، فأثبتوا الواو في الأوّل, وحذفوها من الثاني، والعلّةُ في ذلك أن ما كان من نحو "وَجِلَ يَوْجَلُ" الفتحةُ فيه أصل لأنّه من باب "فَعِلَ يَفْعَلُ" بكسر العين في الماضي، وفتحها في المضارع، فهو من باب "عَلِمَ يَعْلَمُ"، و"شَرِبَ يَشرَبُ"، فلم تقع الواوُ فيه بين ياء وكسرة، فكانت ثابتة لذلكَ. وأمّا نحو: "وَسِعَ يسَعُ"، و"وَطِىءَ يَطَأَ"، فهو من باب "حَسِبَ يَحْسِبُ"، و"نَعِمَ يَنعِمُ". ومثلُه من المعتل "وَرِثَ يَرِثُ"، و"وَلِيَ يَلِي". والأَصل: يَوْطِىءُ، ويَوْسِعُ. وإنّما فتحوه لأجل حرف الحلق، فكانت الفتحة عارضةً، والكسرة مرادةً، فحُذفت الواو لذلك، ولم يُعتدّ بالفتحة إذ كانت كحركة التقاء الساكنين. وقد شبّه الفتحة في "يَسَعُ" و"يَضَعُ" بالكسرة في "التَرامِي" و"التَجارِي"، وقياسُهما التَفاعُل بالضمّ، نحو: "التَحاسُد"، و"التَكاثر"، وكان الأصل: "التجارُيُ"، فأبدلوا من الضمّة كسرةً لتصحّ الياء، إذ لو وقعت الضمّةُ قبل الياء المتطرّفة لانقلبت واوًا، وكنتَ تصير إلى مثال لا نظيرَ له في الأسماء العربية؛ لأنّه ليس في الأسماء اسمٌ آخِرُه واوٌ، قبلها ضمّةٌ، فإذا أدَّى قياسٌ إلى ذلك، غُيّر كما فعلوا في "أَدْلٍ" و"أَحْقٍ" جمعِ "دَلْوٍ" و"حَقْوٍ". فأمّا "التَجارِبُ" فليس مصدرًا، إئما هو جمعُ "تَجْرِبةٍ"، فإذا الكسرةُ في "التَجاري" عارضةٌ لما ذكرناه كالفتحة في "يَضَعُ" و"يسع"، فـ "يضع" أصله الكسر، والفتحةُ فيه لمكان حرف الحلق، فهو من باب "ضَرَبَ يَضرِبُ". والأصل في "يَسَعُ" الكسرُ أيضًا، والفتحةُ فيه عارضة، وهو من بَاب أحَسِبَ يَحسِبُ". دلّ على ذلك حذفُ الواو، والكسرة في "التَجارِب" أصلٌ كالفتحة في "يَوْحَلُ" و"يَوْجَعُ". ولكون الكسرة في "التجاري"، و"الترامي" عارضة، لم يُعتدّ بالمثال في منع الصرف, لأنّه في الحكم "تَفاعُل" بضمّ العين، وليس كذلك الكسرُ في "التَجارِب".
فصل [قلب الواو والياء ألفا في مضارع "افتعل"]
فصل [قلب الواو والياء ألفًا في مضارع "افْتَعَلَ"] قال صاحب الكتاب: ومن العرب من يقلب الواو والياء في مضارع "افتعل" ألفًا, فيقول: "ياتعدُ" و"ياتَسِرُ"، ويقول في ييبسُ وييأس: يابس وياءس. وفي مضارع "وَجِلَ" أربع لغات: يوجل وياجل وييجل وييجل, وليست الكسرة من لغة من يقول: "تِعْلَمُ". * * * قال الشارح: قوم من أهل الحجاز حَمَلَهم طلبُ التخفيف على أن قلبوا حرفَ العلّة في مضارع "افتعل" ألفًا، واوًا كانت أو ياءً، وإن كانت ساكنة، قالوا: "ياتَعِدُ" و"ياتَرنُ"، وذلك من قبل أن اجتماع الياء مع الألف أخفّ عندهم من اجتماعها مع الواو، فلذلك قالوا: "ياتَعِدُ"، فأبدلوا من الواو الساكنة ألفًا، كما أبدلوها من الياء في "ياتَسِرُ". وقد جاء في مضارعِ "فَعِلَ" "يَفْعَلُ" ممّا فاؤه واوٌ، نحو: "وَجِلَ يَوْجَلِ"، و"وَحِلَ يَؤحَلِ" أربعُ لغات: قالوا: "يَوْجَلُ" بإثبات الواو، وهي أجْودها، وهي لغةُ القرآن في نحو قوله تعالى: {قَالُوا لَا تَوْجَلْ} (¬1)؛ لأنّ الوْاو لم تقع بين ياء وكسرة، فثبتت. وقالوا: "ياجَلُ"، فقلبوا الواو ألفًا، وإن كانت ساكنة على حدّ قلبها في "ياتَعِدُ"، و"ياتَزِنُ"، كأنّهم كرهوا اجتماع الواو والياء، ففرّوا إلى الألف لانفتاحِ ما قبلها. والثالثةُ قالوا: "يَيْجَلُ"، فقُلبت الواو ياءً استثقالًا لاجتماع الياء والواو، وقد شبهوا ذلك بـ "مَيِّتٍ"، و"سَيِّدٍ" وإن لم يكن مثلَه. فوجهُ الشَّبَه أن اجتماع الواو والياء ممّا يستثقلونه لا سيما إذا تقدمت الياء الواوَ، ولذلك قَلَّ "يَومٌ"، و"يُوح". وأمّا المخالفةُ، فلأن السابق منهما في نحو: "مَيِّت" ساكن، وفي "يَوْجَلُ" متحرِّكٌ فهذا وإن لم يكن موجِبًا للقلب لكنّه تعلَّلٌ بعد السماع. وأمّا الرابع، فقالوا: "يِيجَلُ" بكسر الياء، كأنهم لمّا استثقلوا اجتماعَ الياء والواو، كرهوا قلبَها ياءً، كما قلبوها في "مَيتٍ" لحَجْز الحركة بينهما، فكسروا الياء ليكون ذلك وسيلةً إلى قلب الواو ياءً؛ لأنّ الواو إذا سكنت وانكسر ما قبلها، قُلبت ياءً على حدّ "مِيزانٍ"، و"مِيعادٍ". قال: وليست الكسرة من لغة من يقول: "تِعْلَمُ". والذي يدل أن الكسرة كانت لِما ذكرناه أنّ من يقول. "تِعْلَمُ"، في كسر حرف المضارعة، لا يكسر الياء، فيقولَ: "يِعْلَمُ"؛ لأنّهم يستثقلون الابتداء بالياء المكسورة، ولذلك لم يوجَد في الأسماء اسمٌ أوّلُه ياءٌ مكسورة إلَّا "يِسارُ اليَد"، فاعرفه. ¬
فصل [مواضع عدم جواز ادغام الياء]
فصل [مواضع عدم جواز ادغام الياء] قال صاحب الكتاب: وإذا بني "افْتَعَلَ" من "أَكَلَ" و"أَمَرَ", فقيل: "ايتَكَلَ" و"ايتَمَرَ", لم تدغم الياء في التاء كما أدغمت في "اتَّسَرَ"؛ لأن الياء ههنا ليست بلازمة, وقول من قال: "اتَّزَرَ" خطأ. * * * قال الشارح: إذا بنيتَ "افْتَعَل" مما فاؤهَ همزة، نحو: "أَمَرَ"، و"أَكَلَ"، و"أَمِنَ"، قلت: "ايتَمَرَ"، و"ايتَكَلَ"، و"ايتَمَنَ"، فتُبْدِل من الهمزة التي هي فاءٌ ياءً؛ لسكونها ووقوع همزة الوصل مكسورة قبلها على حدّ قلبها في "بِيرٍ"، و"ذِيبٍ" ولا تَدْغم في الياء، فتقول: "اتَّكَلَ"، و"اتَّمَرَ"؛ لأنّه لا يخلو إمّا أن تدْغم الهمزة قبل قلبها ياءً في التاء، أو بعد قلبها ياءً فلا يجوز الأوّل؛ لأنّ الهمزة لا تدْغم في التاء، ولا يجوز الثاني؛ لأنّ الياء ليست لازمة، إذ كانت بدلًا من الهمزة، وليست أصلاً، فيجوز أن تصله بكلام قبله، فتُسقِط همزةَ الوصل، فتعود إليه همزةٌ على الأصل للدرج، وتبقى الهمزة الأصليّة ساكنة، فلو خقفتَها على هذا، لقلبتَها واوًا لانضمامِ ما قبلها، وكنت تقول: "يا زَيْدُ وتَكِلْ"، و"يا خالِدُ وتَمِرْ". وكذلك لو كان ما قبلها مفتوحًا، نحو: كيف أتَمَنْتَ، وخفّفتَها, لقلبتَها ألفًا، وإذ لم يكن لها أصلٌ في الياء، وتصير تارة ياء، وتارة واوًا، وتارة ألفًا، فلا وَجْهَ لأنّ تكون الياء لازمة. وإذا لم تكن لازمة، لم تُدّغم. وقد أجاز بعضُ البغداديين فيها الادّغامَ، قالوا: لأنّ البدل لازمٌ لاجتماع الهمزتَين، ورَوَوْا: {فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} (¬1)، والقياسُ مع أصحابنا لِما ذكرناه. ¬
القول في الواو والياء عينين
القول في الواو والياء عينين فصل قال صاحب الكتاب: لا تخلوان من أن تعلا أو تحذفا أو تسلما, فالإعلال في قال وخاف وباع وهاب وباب وناب، ورجل مالٍ, ولاعٍ (¬1) , ونحوها مما تحركتا فيه وانفتح ما قبلهما، وفيما هو من هذه الأفعال من مضارعاتها وأسماء فاعليها ومفعوليها، وما كان منها على مَفْعَلٍ ومَفْعَلَةَ ومَفْعَلٍ ومَفْعِلةً ومَفْعُلةَ كمعادٍ ومقالةٍ ومسير معيشة ومشورة، وما كان نحو أقام واستقام من ذوات الزوائد التي لم يكن ما قبل حرف العلة فيها ألفاً أو واواً أو ياء, نحو قاول وتقاولوا وزايل وتزايلوا وعوَّذ وتعوَّذ وزيَّن وتزيَّن، وما هو منها. أُعِلَّتْ هذه الأشياء, وإن لم تقم فيها علة الإعتلال اتباعاً لما قامت العلة فيه لكونها منها وضربها بعرق فيها. * * * قال الشارح: لا يخلو حرفُ العلّة إذا كان ثانيًا عينًا من أحوال ثلاثة: إمّا الاعتلالِ، وهو تغييرُ لفظه؛ وإمّا أن تحذفه؛ وإمّا أن يسلم، ولا يتغير. والأول أكثرُ، وإنّما كثُر ذلك لكثرة استعمالهم إياه، وكثرةِ دخوله في الكلام، فآثروا إعلالَه تخفيفًا، وذلك في الأفعال والأسماء، ولا يخلو حرفُ العلّة من أن يكون واوًا أو ياءً. فأمّا الأفعال الثلاثيةُ، فتأتي على ثلاثة أضرب: "فَعَلَ"، و"فَعِلَ"، و"فَعُلَ"، كما كان الصحيحُ كذلك. فما كان من الواو، فإن الأول منه - وهو "فَعَلَ" - يأتى متعدّيًا وغير متعدّ، فالمتعدّي نحو: "قال القولَ"، و"عاد المريضَ"، وغيرُ المتعدّى نحو: "قَامَ"، و"طَافَ"، والأصلُ: "قَوَلَ"، و"عَوَدَ"، و"قَوَمَ"، و"طَوَفَ". فإن قيل: ومن أين زعمتم أنها "فَعَلَ" بفتح العين؟ قيل: لا يجوز أن يكون "فَعِلَ" بالكسر؛ لأنّ المضارع منه على "يَفْعُلُ" بالضمّ؛ نحو: "يَقُول"، و"يعود"، و"يقوم"، و"يطوف"، والأصل: "يَقْوُلُ"، و"يَقْوُدُ"، و"يَقوُمُ"، و"يَطْوُفُ"، فنقلو االضمّة من العين إلى الفاء على ما سنذكر. و"يَفْعُلُ" بالضمّ لا يكون من "فَعِلَ" إلَّا ¬
ما شذّ من "فَضِلَ يفضُل" و"مَتَّ يَمُتّ"، والعملُ إنّما هو على الأكثر. ولا يكون "فَعُلَ" بالضمّ لوجهَين: أحدهما: أن "فَعُلَ" لا يكون متعدّيًا، والوجهُ الثاني: أنّه لو كان "فَعُلَ" بالضمّ، لجاء الاسمُ منه على "فَعِيل"، كما قالوا في "ظَرُفَ": "ظَرِيفَ"، وفي "شَرُفَ": "شَرِيفٌ"، فلمّا لم يُقَل ذلك، بل قيل. "قائمٌ" و"عائدٌ"، دلّ أنّه "فَعَلَ" دون "فَعُلَ". وأمّا الثاني، وهو "فَعِلَ"، فإنّه يأتي متعدّيًا، وغيرَ متعدّ، فالمتعدّي نحو: "خَافَ"، كقولك: "خِفْتُ زيدًا"، وغيرُ المتعدّي نحو: "راحَ يومُنا يَراحُ"، و"مالَ زيدٌ" إذا صار ذا مال. والذي يدل أنه من الواو ظهورُ الواو في قولهم: "الخَوْف"، و"أَمْوال"، ويدلّ أنّه "فَعِلَ" كونُ مضارعه على "يَفْعَلُ"، نحو: "يَخافُ"، و"يَمالُ"، وقولُهم: "رجلٌ مالٌ" , و"يَوْمٌ راحٌ"، كما قالوا: "حَذِرَ فهو حَذرٌ"، و"فَرِقَ فهو فَرِقٌ". وأمّا الثالث، وهو"فَعُلَ"، فنحو: "طالَ يَطُولُ" إذا أردتَ خلافَ القصير، وهو غير متعدّ كما أن "قَصُرَ" كذلك. وهذا في المعتل نظيرُ "ظَرُفَ" في الصحيح، ألا ترى أنهم قالوا في الاسم منه: "طويلٌ" كما قالوا: "ظَرُفَ، فهو ظَرِيفٌ"؟ فإن كانت العين ياءً، فيجيء على ضربين: "فَعَلَ"، و"فَعِلَ"؛ فالأوّلُ منه يكون متعدّيًا، وغير متعدّ، فالمتعدّي نحو: "عابَه"، و"باعَه"، وغيرُ المتعدي نحو: "عالَ"، و"صارَ". والذي يدل أنّه "فَعَلَ" بالفتح أنه لو كان "فَعِلَ"، لجاء مضارعُه على "يفعَل" بالفتح، فلمّا قالوا فيه: "يَبِيعُ"، و"يَعِيبُ"، و"يَصِيرُ"، دلّ على أنّ ماضيه "فَعَلَ" بالفتح. فإن قيل: فهلاّ قلتم: إنّه "فَعِلَ" بالكسر، ويكون من قبيل "حَسِبَ يَحْسِبُ"، فالجوابُ أنّ الباب في "فَعِلَ" بالكسر أن يأتي مضارعه على "يفعَل" بالفتح، هذا هو القياس؛ وأمّا "حَسِبَ يَحْسِبُ" فهو قليل شاذّ، والعملُ إنّما هو على أكثر مع أن جميعَ ما جاء من "فَعِلَ يفعِل" بالكسر جاء فيه الأمران "حَسِبَ يحسِب ويحسَب"، و"نَعِمَ ينعِم وينعَم"، و"يَئِسَ ييأَس وييئِس". فلمّا اقتصروا في مضارعِ هذا على "يفعِل" بالكسر دون الفتح، دلّ أنّه ليس منه. وأمّا الضرب الثاني ممّا عينُه ياء - وهو "فَعِلَ" بكسر العين - فيكون متعدّيًا وغير متعدّ، فالمتعدّى نحو: "هِبْتُه"، و"نِلْتُه"، وغيرُ المتعدّي نحو: "زال"، و"حار طَرْفُه". فهذه الأفعال عينُها ياء، ووزنها "فَعِلَ" مكسورَ العين. والذي يدلّ على ذلك قولُهم في المصدر: "الهَيبة"، و"النَّيْل"، فظهورُ الياء دليل على ما قلناه. وقالوا: "زَيَّلْتُه، فزال، وزايلتُه" فظهرت الياء فيه، وأصله أن يكون لازمًا، وإنّما يتعدّى بالتضعيف، وإنّما نُقل إلى حيز الأفعال التي لا تستغني بفاعلٍ، نحو: "كَانَ". ويدل أنها "فَعِلَ" بكسر العين قولُهم في المضارع: "يفعَل" بالفتح نحو: "يَهاب"، و"يَنالُ"، و"لا يَزالُ"، و"يَحارُ طَرْفُه".
ولم يأت من هذا "فَعُلَ" بالضمّ، كأنّهم رفضوا هذا البناء في هذا الباب لِما يلزم من قلب الياء واوًا في المضارع، كما رفضوا "يفعِل" بالكسر من ذوات الواو، لِما يلزم فيه من قلب الواو ياء. فهذه الأفعالُ كلها معتلّة تُقلب الواو والياء فيها ألفين، وذلك لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، وكذلك ما كان من الأسماء من نحو: "باب"، و"دارٍ"، و"نابٍ"، و"عابٍ"، والأصلُ: بَوَبٌ، ودَوَرٌ، لقولك: "أَبْوابٌ" في التكسير، و"دُورٌ". والأصلُ في "نابٌ": "نَيَبٌ"، وفي "عابٌ": "عَيَبٌ"؛ لقولك: "أَنْيابٌ"، و"عِيَبٌ". ومن ذلك "رجلٌ مالٌ" من قولهم: "مالَ يَمالُ"، إذا صار ذا مالٍ، والأصل: "مَوِلَ يَمْوَلُ"، فهو"مَوِلٌ" مثلُ: "حَذِرَ يَحْذَرُ" فهو "حَذِرٌ"، وقالوا: "رجل هاعٌ لاع" أي: جَبان، وهو من الياء لقولهم: "هاعَ يَهِيعُ هُيُوعًا" إذا جَبُنَ، وقالوا: "لاعَ يِلِيعُ" إذا جبن أيضًا. وحكى ابن السِكّيت: "لِعْتُ أَلاعُ"، و"هِعْتُ أهاعً"، فعلى هذا يكون "هاعٌ" "لاعٌ" فَعِلًا مثلَ "حَذِرٍ"، لا فَرْقَ في ذلك بين الأسماء والأفعال في وجوب الإعلال، إذ المتقضِي له موجود فيهما، وهو تحرُّك حرف العلّة وانفتاحُ ما قبله. وليست الأفعال أوْلى بذلك من الأسماء، وإن كان الإعلال أقوى في الأفعال من الأسماء؛ لأنّ الأفعال موضوعة للتنقل في الأزمنة والتصرّف، والأسماء سِماتٌ على المسمّيات، وكذلك كان عامّةُ ما شذّ من ذلك في الأسماء دون الأفعال، نحو: "الخَوَنة"، و"الحَوَكَة"، و"القَوَد"، ولم يشذّ من ذلك شىء في الأفعال من نحو: "قامَ"، و"باعَ". فأما نحو: "اسْتَحْوَذَ"، و"اسْتَنْوَقَ"، فلضُعْف الإعلال فيه إذ كان محمولًا على غيره، ألا ترى أنّه لولا إعلالُ "قامَ" ما لزم إعلالُ "أَقامَ"، وكذلك مضارعُ هذه الأفعال كلُّه معتل، نحو: "يَقُول"، و"يَعُود"، والأصل: "يَقْوُل"، و"يَعْوُد"، بضمّ العين؛ لأنّ ما كان من الأفعال على "فَعَلَ" بفتح العين معتلَّة، فمضارعُه يفْعُل، نحو: "يَقتُل"، ولا يجيء على "يَفْعِل" على ما عليه الصحيحُ؛ لئلا ترجع ذواتُ الواو إلى الياء، فنقلوا الضمّة من الواو في "يقول" إلى القاف. وإنّما فعلوا ذلك مع سكون ما قبل الواو فيه؛ لأنّهم أرادوا إعلاله حملًا على الفعل الماضي في "قالَ"، و"عادَ"؛ لأنّ الأفعال كلها جنسٌ واحدٌ، والذي يدل أن الإعلال يسري إلى هذه الأفعال من الماضي أنّه إذا صحّ الماضي صحّ المضارعُ، ألا ترى أنّهم لمّا قالوا: "عَوِرَ"، و"حَوِلَ"، فصحّحوهما، قالوا: "يَعْوَر"، و"يَحْوَل"، و"عاوِرٌ"، و"حاوِلٌ"، فصحّحوا هذه الأمثلةَ لصحّة الماضي؟ وكما أعلّوا المضارعَ لاعتلال الماضي أعلّوا الماضي أيضًا لاعتلال المضارع، ألا تراهم قالوا: "أَغْزَيتُ"، و"أَدْعَيْتُ"، و"أَعطَيْتُ"؟ وأصلها الواو؛ لأنّها من"غَزَا يَغزُو"،
و"دَعَا يَدْعُو"، و"عَطَا يَعْطُو"، فقلبوا الواو فيها ياءً حملًا على المضارع الذي هو "يُغزِي"، و"يُدْعِي"، و"يُعْطِي" طلبًا لتماثُل ألفاظها وتشاكُلِها من حيث إن حكم كلها جنسٌ واحدٌ، وكذلك ما كان من الياء، نحو: "يَبِيع"، و"يَعِيب"، الأصل: "يَبْيع"، و"يَعْيِب" بكسر العين، فنُقلت الكسرة إلى الفاء إعلالًا له حملًا على الماضي في "باعَ" و"عابَ"، على ما ذكرناه في ذوات الواو. وكذلك مضارعُ ما كان على "فَعِلَ يَفْعَل" منهما، نحو: "يخاف", و"يَهاب"، الأصل: "يَخوَف"، و"يَهْيَب"، فأرادوا إعلالَه على ما تقدّم، فنقلوا الفتحةَ إلى الخاء والهاء، ثمّ قلبوا الواو والياء ألفًا لتحرّكهما في الأصل وانفتاح ما قبلهما الآن. ومن ذلك أسماء الفاعلين، لما اعتلّت عينُ "فَعَلَ"، ووقعت بعد ألف "فاعل" همزة، نحو: "قائمٍ"، و"خائِفٍ"، و"بائعٍ"، وجميعُ ما اعتل فعلُه فـ "فاعلٌ" منه معتل، وذلك لأنّ العين كانت قد اعتلّت، فانقلبت في "قالَ" و"باعَ" ألفًا، فلمّا جئتَ إلى اسم الفاعل، صارت قبل عينه ألف "فاعِلٍ"، والعينُ قد كانت ألفًا في الماضي، فالتقى في اسم الفاعل ألفان، نحو: قَااامٌ، وذلك ممّا لا يمكن النطقُ به، فوجب حذفُ أحدهما أو تحريكُه، فلم يجز الحذفُ لئلّا يعود إلى لفظِ "قَام"، فحُرّكت الثانية التي هي عين، كما حُرّكت راء "ضارِب"، فانقلبت همزة لأنّ الألف إذا حُرّكت صارت همزةً، فصار "قائمٌ" و"بائعٌ" كما ترى. ووجهٌ ثانٍ أنّه لما كان بينه وبين الفعل مضارَعةٌ ومناسَبةٌ من حيث إنّه جارٍ عليه في حَرَكاته وسَكَناته وعدد حروفه، ويَعْمَلَ عَمَلَه، اعتل أيضًا باعتلاله، ولولا اعتلالُ فعله لَما اعتلّ، فلذلك قلتَ: "قائم"، و"خائفُ"، و"بائعٌ"، والأصل: "قاوِمٌ"، و"خاوِفٌ"، و"بايعٌ"، فأرادوا إعلالَها لاعتلال أفعالها. وإعلالُها إمّا بالحذف، وإمّا بالقلب. فلم يجز الحذفُ؛ لأنّه يُزيل صيغةَ الفاعل، ويصير إلى لفظ الفعل، فيلتبس الاسمُ بالفعل. فإن قيل: الإعرابُ يفصل بينهما، قيل: الإعرابُ لا يكفي فارِقًا؛ لأنّه قد يطرَأ عليه الوقفُ، فيُزيله، لمحيبقى الالتباسُ على حاله، فكانت الواو والياء بعد ألف زائدة، وهما مُجاوِرتا الطرف، فقُلبتا همزةً بعد قلبهما ألفًا على حدّ قلبهما في "كِساء" و"رداء". ومثلُه "أوائلُ". كما قلبوا العين في "قُيِّمٍ"، و"صُيَّمٍ" لمجاوَرة الطرف على حدّ قلبهما في "عُصِيٍّ"، و"حُقِيٍّ". فإن كان اسمُ الفاعل من "أَقالَ" و"أَباعَ"، فاسمُ الفاعل منه "مُقِيلٌ"، و"مُبِيعٌ"، والأصل: "مُقْوِلٌ"، و"مُبْيعٌ" فنُقلت الكسرة من العين إلى الفاء، ثمّ قُلبت الواو إن كانت من ذوات الواو لسكونها وانكسارِ ما قبلها، ونُقلت الكسرة من الياء في "مُبْيع" إلى ما قبلها، فصار فيما كان من ذوات الواو نقلٌ وقلبٌ، وفي ذوات الياء نقل فقط. وكذلك اسمُ المفعول يعتلّ باعتلال الفعل أيضًا, لأنّه في حكم الجاري على
الفعل، وهو ملتبس به، فكما قالوا: "يُقال" و"يُباع"، فأعلّوهما بقَلْبهما ألفًا، والأصل: "يُقْوَلُ" و"يبيَعُ"، فنقلوا الفتحة من العين إلى ما قبلها، ثمّ قلبوهما ألفًا لتحرُّكهما في الأصل وانفتاح ما قبلهما الآن، كما فعلوا في "أَقامَ" و"أَقالَ"، فكذلك قالوا فيما كان من الواو: "كلامٌ مَقُولٌ"، و"خاتَمٌ مَصُوغٌ"، وفيما كان من الياء: "ثَوْبٌ مَبِيعٌ"، و"طَعامٌ مَكِيلٌ". وكان الأصل: "مَقْوُول"، و"مَصْوُوغ"، فأعلّوهما بنقل حركتهما إلى ما قبلهما، فسكنت العينُ، والتقت ساكنة واوَ "مَفْعولٍ"، فحُذفت إحداهما لالتقاء الساكنين. فأمّا سيبويه والخليل (¬1)؛ فإنهما يزعمان أنّ المحذوف الواو, لأنّها مزيدة، وما قبلها أصل، والمزيدةُ أولى بالحذف من الأصلَ، ودلّ قولُهم: "مَبِيعٌ"، و"مَكِيلٌ" على أنّ المحذوف الواوُ الزائدةُ، إذ لو كان المحذوف الأصلَ، لكان: "مَبُوعًا"، و"مَكُولًا". وكان أبو الحسن الأخفش يزعم أنّ المحذوف عين الفعل، وورْد "مَقُولٍ" و"مَكِيلٍ": "مَفولٌ"، و"مَفِيْل"، والأصل في ذلك: "مَكيُول"، فطُرحت حركه الياء على الكاف التي قبلها كما فعلنا في "يَبِيعُ"، فكانت حركةُ الياء من "مَكيُولٍ" ضمّةً, فانضمّت الكافُ، وسكنت الياء، فأُبدلنا من الضمّة كسرة لتصحّ الياء، ولم تُقلب، ثمّ حُذفت الياء لالتقاء الساكنين، فصادفت الكسرة واو"مفعول"، فقلبتها كما تقلب الكسرة واوَ "مِيزان" و"مِيعاد" على حدّ صنيعهم في "بِيضٍ", لأنّ "بيضًا" أصلُه "فُعْلٌ" , لأنّ "أَفْعَلَ" الذي يكون نَعْتًا، ومؤنّثه "فَعْلاء" يُجمع على "فُعْل" كـ"حُمْرٍ"، و"صُقْرٍ""، هذا هو القياس في "بِيض"، إلَّا أنّهم أبدلوا من الضمّة كسرةً لتصحّ الياء. وقد خالَفَ أبو الحسن أصلَه في ذلك, لأنّ من أصله أن لا يُفعل ذلك إلَّا في الجمع لثقل الجمع. لو بنيتَ من البياض نحو: "بُرْدٍ" عنده، لقال: "بُوضٌ" خِلافًا للخليل وسيبويه (¬2)، فإئهما يقولان: "بِيضٌ" كالجمع، وكذلك الأسماء المأخوذة من الأفعال، وكانت على مثال الفعل. وزيادتُها ليست من زوائد الأفعال، فإنها تعتل باعتلال الفعل إذا كانت على وزنه، وزيادتُها في موضع زيادة الفعل كالمصادر التي تجري على أفعالها وأسماء لأزمنة الفعل، أو لمكانه من ذلك. إذا بنيتَ "مَفعِلًا" من "القَوْل" و"البَيع"، وأردتَ به مذهبَ الفعل، فإنك تقول: "مَقالاً" و"مَباعًا"؛ لأنّه في وزنِ "أقالَ" و"أباعَ"، والميمُ في أوّله كالهمزة في أوّل الفعل، ولم تَخَفِ التباسًا بالفعل, لأنّ الميم ليست من زوائد الأفعال. فأمّا نحو"مَزْيَدٍ" و"مَرْيَمَ"، فإنّ سيبويه (¬3) وأبا عثمان يجعلانه من قبيل الشاذّ، ¬
والقياسُ الإعلالُ عندهما، وكان أبو العبّاس المبرّد لا يجعله شاذًّا، ويقول: إِنّ "مَفْعَلًا" إنّما يعتلّ إذا أريد به الزمان والمكان أو المصدر؛ وأمّا إذا أريد به الاسم، فإنّه يصحّ، فعلى هذا تقول: "مَقْوَل" إذا أريد به الاسم لا ما ذكرنا من الزمان والمكان. وكذلك لو بنيتَ نحو: "مُفْعَل"، بضمّ الميم، لأعللته أيضًا، وقلت: "مُقامٌ" و"مُعادٌ"، كما تقول في الفعل: "يُقال"، و"يُعاد". وكذلك "مَفْعَلَةُ", نحو: "مَقالَةٍ", و"مَفازَةٍ". ومن ذلك "مَفْعِلٌ" بكسر العين، نحو: "مَسِيرٍ", و"مَصيرٍ", مصادر "سار"، و"صار". يقال: "بارَكَ الله لك في مَسِيرك ومَصِيرك". ومن ذلك "مَفْعُلَةُ" من "عِشْتُ"، أو "بِعْتُ"، وما كان نحوهما، فإن لفظها كلفظ "مَفْعِلَة" بالكسر عند الخليل وسيبويه (¬1)، فـ "معيشةٌ" عندهما يجوز أن يكون "مَفْعُلة" بالضمّ و"مَفْعِلة" بالكسر، فإذا أريد "مَفعُلة"، فالأصل: "مَعْيُشَةٌ" بضمّ الياء، فلمّا أريد إعلالُه حملًا على الفعل لِما ذكرناه، نقلوا الضمّة إلى العين، فانضمّت، وبعدها الياء، وأبدلوا من الضمّة كسرة لتصحّ الياء، لصار "مَعِيشَةً". وإذا أريد "مَفْعِلة" بالكسر، فإنّما نُقِلتِ الكسرة إلى العين، فاستوى لفظُهما لذلك. وكان أبو الحسن يخالفهما في ذلك، ويقول في "مَفْعُلة" من "العَيْش": "مَعُوشَةٌ"، وفي مثال "فُعْلٍ" منه "عُوش"، وكان يقول في "بِيضٍ": إنّه "فُعْلٌ" مضمومَ الفاء. وإنّما أبدل من الضمّة كسرة، لأنّه جمعٌ، والجْمعُ ليس على مذهب الواحد لثِقَل الجمع، وخالَفَ هذا الأصلَ في "مَكِيل"، و"مَبِيع"، وقد تقدّم الكلام عليه في مواضعَ من هذا الكتاب. ومن ذلك "المَشُورَة" بضمّ الشين، وهو"مَفْعُلَةُ" من قولك: "شاوَرتُه في الأمر"، فأعلّوه بنقل الضمّة من العين إلى الفاء، وكان من ذوات الواو، فسلمت الواوُ، ومثلُه: "مَثُوبة"، و"مَعُونة". ولو كان من ذوات الياء، لأبدل من الضمة كسرة لتسلم الياء، وكنت تقول: "مَسِيرة" كـ" مَعِيشة". ومن ذلك "أَقامَ"، و"استقام"، وما كان نحو ذلك من ذوات الزيادة، والأصلُ: "أَقوَمَ"، و"اسْتَقْوَمَ"، فنقلوا الفتحة من الواو إلى القاف لما ذكرناه من إرادة الإعلال، لاعتلال الأفعال المجرّدة من الزيادة، وهو "قَامَ"، فالإعلالُ فيه إنما هو بنقل الحركة، والانقلابُ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها. وأمّا "قاوَلْتُ"، و"قَوَّلْتُ"، و"تَقاوَلَ"، و"تَقَوَّلَ"، فإن هذه الأفعال تصح ولا تعتلّ. ¬
أمّا "قاوَلَ"، فلأنّ قبل الواو ألفًا، والألفُ لا تقبل الحركة، ولا تُنْقَل إليها الحركةُ. وأمّا "قَوَّلَ"، فإن إحدى الواوين زائدةٌ وحين وجب الإعلال لم يمكن النقلُ, لأنّه يُزوِّل الادّغامَ، وكان يلزم قلبُ الواو ألفًا، فيزول البناء، ويتغيّر عمّا وُضع له. وكذلك "تَقاول" و"تَقوّل"، لا يُعَلّ لأنّ التاء دخلت بعد أن صحّا، فلم يُغيَّرا عمّا كانا عليه، فلذلك احترز، فقال: "التي لم يكن ما قبل حرف العلّة فيها ألفًا, ولا واوًا، ولا ياءً، نحو: "قاوَلَ"، و"تَقاول"، و"عَوّذ"، و"تَعوّذ"، و"زَيّن"، و"تَزيّن". وقوله: "وما كان منها"، يريد ما تصَرّف منها كالمضارع، فإنّه يصحّ أيضًا كما تصحّ هذه الأفعالُ، نحو: "يُقاوِلُ"، و"يُعَوّذ"، و"يُزَيِّنُ", والمصدرِ، نحو: "القِوال"، و"العِواذ"، فإنّهم صحّحوا الواو، ولم يقولوا: "قِيالًا"، "ولا عِياذًا", لصحّتها في الفعل، فلمّا صحّت الأفعالُ، صحّت مصادرُها، فقالوا: "قِوامٌ" حيث قالوا: "قاوَمَ"، وقالوا: "قِيامٌ" حيث قالوا: "قَامَ". قال الله تعالى: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} (¬1). صحّت الواو حيث صحّت في "لاوَذَ"، فهذا معنى قوله: "وما هو منها". وقوله: "أُعلّت هذه الأشياء وإن لم يُوجَد فيها علّةُ الاعتلال"، يريد أنّها إنّما اعتلّت بالحمل على الأفعال المجرّدة من الزيادة، لكونها مشتّقة منها. وقوله: "وضَرْبِها بعِرْقٍ فيها"، يريد الاتصال بالاشتقاق، كأنّه مأخوذ من عروق الشجرة لامتدادها وانتشارِها. وقولُه عليه السلام: "ليس لعِرُقٍ ظالم حقٌّ" (¬2)، المراد أن يغرِس الرجلُ أو يزرع في أرضِ غيره، ويقال في الشراب: "عِرْقٌ من الماء"، وليس بالكثير، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: والحذف في قُلْ وقُلْنَ وقلت ولم يقل, ولم يقلن وبع وبعن وبعت ولم يبع ولم يبعن، وما كان من هذا النحو في المزيد فيه، وفي سيد وميت، وكينونة وقيلولة، وفي الإقامة والاستقامة ونحوها مما التقى فيه ساكنان أو طلب تخفيف أو اضطر إعلال. والسلامة فيما وراء ذلك مما فقدت فيه أسباب الإعلال والحذف أو وجدت خلا أنه اعترض ما يصد عن حكمها كالذي اعترض في صورى وحيدي والجولان والحيكان والقوباء والخيلاء. ¬
قال الشارح: اعلم أنّ ما كان ثانيه حرفَ علّة، فإنه قد يعتل بالحذف كما يعتل بالتغيير، والحذفُ يدخله على ثلاثة أضرب: منها التقاء الساكنين، والتخفيف، أو لضرورة الإعلال. فالأولُ نحو: "قُلْ"، و"قُلْنَ"، والأصل. "تَقُولُ"، فحُذف حرف المضارعة، إذ المواجَهةُ تُغْنِي عن حرفِ خطاب، ثمّ سكن لامُ الفعل للأمر، أو لاتّصال نون جماعة النساء به، نحو: "قُلْنَ"، فالتقى حينئذ ساكنان: اللامُ وحرفُ العلّة، فحُذف حرف العلّة لالتقاء الساكنين على القاعدة. ومثلُه: "بِعْ" و"بَعْنَ"، العلّةُ في الحذف واحدةٌ، إلاّ أنّ "قُلْ" من الواو، و"بِعْ" من الياء، وكذلك "لم يَقُلْ"، و"لم يَقُلْنَ" العين التي هي واو محذوفة لسكونها وسكون اللام بعدها، إلاّ أنّ سكون اللام في "لم يَقُلْ" للجازم، وسكون اللام في "لم يَقُلْنَ" للبناء عند اتّصال نون جماعة النساء به. وكذلك "لم يَبعْ" و"لم يَبِعْنَ"، الحذفُ لالتقاء الساكنين، لا للجزم. وقوله: "وما كان من هذا النحو في المزيد فيه"، يريد نحو: "أَقامَ"، و"أَباعَ"، و"استقام"، فإنّك إذا أمرتَ منه، قلتَ: "أَقِمْ"، و"أَبِعْ"، و"أَقِمْنَ"، و"أَبِعْنَ"، و"اسْتَقِمْ"، و"اسْتَقِمْنَ". لا فرقَ في ذلك بين المجرّد من الزيادة والمزيد فيه، إذ العلّةُ واحدة، وهي التقاء الساكنين. وأمّا ما حُذف لضرب من التخفيف، نحو قولهم في "سَيِّدٍ": "سَيْدٌ"، وفي "هَيِّنٍ": "هَيْنٌ"، و"كَينُونَةٌ"، و"قَيْلُولَةٌ"، و"قَيدُودَةٌ"، فالأصل: "سَيْوِدٌ" و"مَيْوِتٌ"، على زنةٍ "فَيعِلٍ" بكسر العين، هذا مذهبُ أصحابنا، وقد تقدّم الكلامُ عليه، فأعلّوها بأن قلبوا الواو ياءً. ولمّا أعلّوا العين بالقلب ههنا، أعلّوها بالحذف أيضًا تخفيفًا لاجتماع يائَيْن وكسرة، فقالوا: "سَيْدٌ"، و"مَيْتٌ"، و"هَيْنٌ". والذين قالوا: "مَيْتٌ" هم الذين قالوا: "مَيِّتٌ"، وليستا لغتَيْن لقَوْمَيْن. قال الشاعر [من الخفيف]: 1329 - ليس مَن ماتَ فاستراحَ بمَيْتٍ ... إنَّما المَيْتُ مَيِّتُ الأَحْياءِ ¬
ومن ذلك "كَيِّنُونَةٌ" و"قَيِّلُولَةٌ"، فخُفّف بالحذف، فصار: "كَيْنُونَةً"، و"قَيْلُولةً"، وليس ذلك بـ "فَعْلُولَةَ"؛ لأنّه كان يلزم أنّ يقولوا: "كَوْنونَةٌ"، وَ"قَوْلُولَةٌ"؛ لأنّه من ذوات الواو، مع أنّ "فَعْلُولَة" ليس من أبنيتهم إلاّ أنّ الحذف في نحو: "كَيْنُونَة" و"قَيْدُودَة" لازمٌ، لكثرة حروف الكلمة. ولمّا كان الحذف والتخفيف في مثل/ "ميت"، و"هين" جائزًا مع قلّة الحروف، كان فيما ذكرناه واجبًا لكثرة الحروف وطُولِها. وقد استغرب البغداديون بناء "مَيْتٍ" و"هَيْنٍ"، فذهب بعضهم إلى أنّه "فَيْعَل" بفتح العين نُقل إلى "فُيْعِل"، بكسرها. وذهب الفرّاء منهم إلى أنّه "فَعِيلٌ"، والأصل: "سَوِيدٌ". وإنما أعلّوه لاعتلال فعله في "سادَ يَسُودُ"، و"ماتَ يَمُوتُ"، فأخّرت الواو، وتقدّمت الياء، فصار "سَيود"، وقُلبت الواو ياء. قالوا: ليس في الكلام "فَيعِلٌ"، وإنّ "فعِيلًا" الذي يعتل عينُه إنّما يجيء على هذا المثال، وإنّ "طويلًا" شاذّ لم يجىءْ على قياس "طالَ يَطُولُ". ولو جاء، لقالوا: "طَيِّلٌ" كـ"سَيِّدٍ". وإذا لم يكن جاريًا على فعلٍ معتلٌّ، صحّ كـ"سَوِيقٍ"، و"حَوِيل"، ونحوهما. والمذهبُ الأوّل، فإنّه قد يأتي في المعتل أبنيةٌ ليست في الصحيح، وقد تقدّم الكلامُ على ذلك. وأمّا الثالث، فهو الحذف الذي اضطرّنا إليه الإعلالُ، فنحو: "الإقامة"، و"الاستقامة"، والأصل: "إقْوامة"، و"اسْتِقْوامة"، وكذلك "إخافةٌ" و"إبانةٌ"، فأرادوا أن يُعِلّوا المصدرَ لاعتلال فعله - وهو"أقام" و"استقام" - فنقلوا الفتحة من الواو إلى ما قبلها، ثمّ قلبوها ألفًا، وبعدها ألفُ "إفعالة"، فصار "إقامة" و"استقامة"، فدعت الضرورةُ إلى حذف إحداهما. فذهب أبو الحسن إلى أنّ المحذوف الألفُ الأولى التي هي العين، وزعم الخليل وسيبويه (¬1) أنّ المحذوف الثانيةُ، وهي الزائدة على ما تقدّم من مذهبهما في "مَقُول" و"مَبِيع". وقوله: "ممّا التقى فيه ساكنان"، يريد نحو: "قُلْ"، و"قُلْتَ"، و"لم يَقُلْ"، وأضرابَ ذلك ممّا التقى فيه ساكنان. وقوله "أو طُلب تخفيف"، يريد نحو: "هَيْنٍ"، و"لَيْنٍ". وقوله: "أو اضطرّ إعلالٌ"، يريد "الإقامة" و"الاستقامة". ¬
فصل [أبنية الأفعال الثلاثية المعتلة العين]
وقوله: "والسلامة فيما وراء ذلك"، يريد ما لم يُوجَد فيه سببٌ من أسباب الإعلال، نحو: "القَوْل"، و"البَيْع"، وما أشبههما. وقوله: "أو وُجدت"، يريد العلّة المقتضية للقلب، إلاّ أنّه لا يثبت الحكمُ لمانعٍ، أو مُعارِضٍ، نحو: "صَوَرَى"، وهو موضع، و"حَيَدَى" للكثير الحَيَدان، و"الجَوَلان"، و"الحَيَكان"، و"القُوَباء"، و"الخُيَلاء". يريد أن "صورى" و"حيدى" قد وُجد فيهما علّةُ القلب، وُيخاف القلب لمانع، وهو أن هذا الإعلال إنّما يكون فيما هو على مثال الأفعال، نحو: "بابٍ"، و"دارٍ". وهذه الأسماء قد تباعدت عن الأفعال بما في آخِرها من علامة التأنيث التي لا تكون في الأفعال، فصحّت لذلك. وأمّا "الجَوَلان"، و"الحَيَكان"، وهما مصدران، فـ"الحيكان" مصدرُ "حاكَ يَحيك" إذا مشى، وحرّك كتفَيْه، و"الجولان" مصدرُ جالَ يَجُول إذا طاف، فإنّهما تباعدا عن الأفعال بزيادة الألف والنون في آخِرهما، وذلك لا يكون في الأفعال مع أن "الجَوَلان" و"الحَيَكان" علي بناء "النَزَوان" و"الغَيلان"، وقد صحّ حرف العلّة فيهما، وهو لامٌ، واللام ضعيفةٌ قابلةٌ للتغيير، فكان صحّتُه في العين، وهو أقوى منه، أَوْلى وأَحْرَى، إذ كان العين أقوى من اللام لتحصُّنه. وكذلك "القوباء"، و"الخيلاء" لم يُعَلاّ لتباعُدهما عن أبنية الأفعال بما في آخرهما من ألفَي التأنيث مع أنّه لو لم يجىء في آخِره ألفُ التأنيث، لكان بناؤه يُوجِب له التصحيحَ لبُعْده عن أبنية الفعل، كما صحّ نحو: "العُيَبة"، و"رجلٌ سُوَلَةٌ"، فاعرفه. فصل [أبنية الأفعال الثلاثية المعتلة العين] قال صاحب الكتاب: وأبينة الفعل في الواو على فَعَلَ يَفْعُلُ نحو قالَ يَقُولُ، وفَعِل يفعَل نحو خافَ يَخافُ، وفعُل يفعُل نحو طالَ يَطُولُ وجادَ يَجُودُ إذا صار طويلاً وجواداً, وفي الياء على فعَل يفعِل نحو باعَ يَبِيعُ، وفعِل يفعَل نحو هابَ يَهابُ، ولم يجيء في الواو يفعِل بالكسر، ولا في الياء يفعُل بالضم، وزعم الخليل (¬1) في طاح يطيح وتاه يتيه أنهما فعِل يفعِل كحسب يحسب وهما من الواو لقولهم طوّحت وتوّهتُ، وهو أطوح منه وأتوَهُ، ومن قال طيّحت وتيّهت فهما على باع يبيع. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الأفعال الثلاثيّة المعتلّة العينات تأتي على ثلاثة أضرب: ¬
"فَعَلَ"، و"فَعِلَ"، و"فَعُلَ"، كما كان الصحيح كذلك، فما كان من ذوات الواو فإنّه يأتي على الأضرب الثلاثة: الأوَّلُ: "فَعَلَ"، نحو: "قال يَقُول"، و"طاف يَطُوف", ولم يأت من ذلك على "يَفْعِل" بالكسر كما جاء في الصحيح، لئلّا يصير الواو ياء، فتلتبس ذواتُ الواو بذوات الياء. الثاني: وهو "فَعِلَ" بالكسر، نحو: "خاف يَخاف"، و"راح يومُنا يَراح"، لأنّهما من "الخَوْف"، و"الرَّوْح"، ولم يأت من هذا "يَفْعِل" بالكسر إلاّ حرفان، وهما "طاح يَطِيح"، و"تاهَ يَتِيه"، فإن الخليل زعم أنّهما من قبيل "حَسِبَ يَحْسِب"، وهو من الواو لقولك: "طوّحت"، و"توّهت"، و"هو أطْوَح منه وأَتْوَه"، فظهورُ الواو يدلّ أنّهما من الواو، وإذا كانا من الواو كان ماضيه "فَعِلَ" مكسورَ العين، لقولك. "طِحْتُ" و"تِهْتُ"، بكسر فائهما، إذ لو كان ماضيه "فَعَلَ"، لقيل: "طُحْتُ"، و"تُهْتُ" بالضمّ، فلمّا لم يُقل ذلك، دلّ أنّهما من قبيلِ "خِفْتُ". وأيضًا فإن "فَعَلَ" من ذوات الواو لا يكون مضارعه إلّا "يَفْعُل" بالضمّ، فلمّا قالوا "يَطِيحُ" و"يَتِيهُ"، دلّ على ما قلناه. وأصلُ "يَطِيحُ"، و"يَتِيهُ": "يَطْوِحُ"، و"يَتوِهُ"، فنُقلت الكسرة من الواو إلى ما قبلها، فسكنت، فكان ما قبلها مكسورًا، فانقلبت الواو ياءً. ومن قال. "طيّحتُ" و"تيّهتُ"، كانا من الياء، وكانا "فعَلَ يَفْعِل" مثلَ "بَاعَ يَبِيعُ". وأمّا الثالث: هو "فَعُلَ"، فقد قالوا: "طال يَطُول"، وهو غيرُ متعدّ كما أنّ "قَصُرَ" كذلك، فهذا في المعتل نظيرُ "ظَرُفَ" في الصحيح، ألا ترى أتهم قالوا في الاسم منه: "طَوِيلٌ"، كما قالوا: ظَرِيفٌ. فإن كان العين ياءً، فإنّه يجيء على ضربَيْن: "فَعَلَ"، و"فَعِلَ"، ولم يجيء منه "فَعلَ"، فالأول يكون متعدّيًا، وغير متعدّ، نحو: "باعَهُ"، و"عابَهُ"، و"عَالَ"، و"صَارَ". والذي يدل أنّه "فَعَلَ" مَجِيءُ مضارعه على "يَفعِل" بالكسر، نحو: "يَبِيع"، و"يَعِيب"، و"يَعِيل"، و"يَصِير"، فإن قيل: فهلّا قلتم: إِنّه "فَعِلَ"، ويكون من قبيل "حَسِبَ يَحْسِب"؟ قيل: إِنّ بابَ "فَعِلَ" يأتي مضارعُه على "يَفْعَل" بفتح العين. هذا هو القياس؛ وأمّا "حَسِبَ يَحْسِب" فهو قليل، والعملُ إنّما هو على الأكثر مع أنّ جميعَ ما جاء من "فَعِلَ يَفْعِل" بالكسر جاء فيه الأمران، نحو: "حَسِبَ يَحْسِب ويَحْسَب"، و"نعِمَ يَنْعِم ويَنْعَم"، و"يَئِسَ يَيئِس ويَيْأَس"، فلقا اقتُصر علي مضارع هذا على "يَفْعِل" بالكسر دون الفتح، دل أنه ليس منه. وأمّا الضرب الثاني -وهو "فَعِلَ" بكسر العين- فيكون متعدّيًا، وغير متعدّ، نحو: "هِبتُه"، و"نِلْتُه"، و"زالَ يَزالُ"، و"حارَ طَرْفُه"، فهذه الأفعالُ عينُها ياء، ووزنُها "فَعِلَ"
فصل [التحويل عند اتصال ضمير الفاعل]
بكسر العين. والذي يدلّ أنّها من الياء قولهم: "الهَيْبَة"، و"النَّيْل"، فظهورُ الياء دليلٌ على ما قلناه. وقالوا: "زيّلتُه فزالَ"، فظهرت الياء، وأصله أن يكون لازمًا، لكنّ "زيّلتُه" كـ"خَرَّجته" من "خرج"، و"زايلتُه" كـ"جالسته" من "جلس". وإنّما نُقل إلى حيّز الأفعال التي لا تستغني بفاعلها كـ "كَان"، ويدلّ أنّها "فَعِلَ" بالكسر قولُهم في المضارع منها: "يَفْعَلُ" بالفتح، نحو: "يَهابُ"، و"يَنالُ"، و"لا يَزالُ"، و"يَحارُ طَرْفُه". ولم يأت من هذا "فَعُلَ" بالضمّ، كأنّهم رفضوا هذا البناء في هذا الباب لِما يلزم من قلب الياء في المضارع واوًا. فصل [التحويل عند اتصال ضمير الفاعل] قال صاحب الكتاب: وقد حوّلوا عند اتصال ضمير الفاعل "فَعَلَ" من الواو إلى "فَعُلَ"، ومن الياء إلى "فَعِلَ"، ثم نقلت الضمة والكسرة إلى الفاء, فقيل: "قُلْتُ" و"قُلْنَ"، و"بِعْتُ", و"بِعْنَ". ولم يحوّلوا في غير الضمير إلا ما جاء من قول ناسٍ من العرب "كيد يفعل كذا" و"ما زيل يفعل ذاك". * * * قال الشارح: الأصل في كلّ كلمة تبتنى على حركة أن تقرّ على حركتها من غير تغيير، ولا تزال عن حركتها التي بُنيت عليها؛ فأمّا "فَعَلْتُ" ممّا عينُه واوٌ أو ياءٌ، فإنّه في الأصل "فَعَلَ"، نحو: "قامَ"، و"باعَ"، فإذا اتصل به تاء المتكلم أو المخاطب ونحوهما من ضميرِ فاعل، يسكن له آخِرُ الفعل من نحو: "قُمْنَا"، و"بِعْنَا"، فإنّك تنقل ما كان من ذوات الواو إلى "فَعُلْتُ"، وما كان من ذوات الياء إلى "فَعِلْت"، ثمّ تُحول حركة العين إلى الفاء بعد زوال الحركة التي لها في الأصل, فقلت: "قُمتُ"، و"بِعْتُ"، وكان الأصل: "قَوُمْتُ"، و"بَيِعْتُ". فلمّا نُقلت عن العين حركتُها إلى الفاء، سكنت، وسكنت اللامُ من أجل التاء التي هي الفاعلةُ، فصار: "قُمْتُ"، و"بِعْتُ". نقلوا "فَعُلَ" من الواو إلى "فُعْلَ"؛ لأنّ الضمّة من الواو، ونقلوا "فَعِلَ" من الياء إلى "فِعْلَ" بالكسر؛ لأنّ الكسرة من الياء، وشبّهوا ما اعتلّت عينُه بما اعتلّت لامُه, لأنّ محلّ العين من الفاء كمحلّ اللام من العين، فقالوا: "يَغْزُو". ألزموه الضمّ كما قالوا: "يَرْمِي"، ألزموه الكسرة. وكان ما قبل حرف العلّة في كل واحد من "يغزو" و"يرمي" حركةً من جنسه، فلذلك قالوا: "قُمتُ" و"بِعْتُ"، فجعلوا ما قبل العين حركةً من جنسها. وإنّما فعلوا ما ذكرناه من النقل والتحويل, لأنهم أرادوا أنّ يُغيِّروا حركةَ الفاء عما كانت عليه، ليكون ذلك دلالةً على حذف العين، وأمارةً على التصرّف، ألا ترى أنّ "لَيْسَ" لمّا لم يريدوا فيها التصرف، لم يغيّروا حركة الفاء، وقالوا: "لَسْتُ". فإذا رأيتَ
القاف في "قُلْتُ" مضمومةً، وفي "بِعْتُ" مكسورةً بعد أن كانتا مفتوحتين في "قالَ" و"باعَ"، دل ذلك أنّ الفعل متصرّفٌ، وأنه قد حدث فيه لأجل التصرّف حَدَثٌ، وليس كالحرف الذي يلزم طريقًا واحدًا كـ"لَيتَ", ولا كـ"لَيْسَ" الذي لا يراد فيه التصرّفُ. ألا ترى أنْك لو قلت: "قَلْتُ" و"بَعْتُ"، يجري مجرَى "لَسْتُ"، لم تعلم هل الفتحة هى الأصلية، أم المنقولةُ من العين. وأمّا "خِفْتُ"، و"هِبْتُ"، و"طُلْتُ"، فلم يحتاجوا إلى أن ينقلوا بناءها إلى بناء آخر؛ لأنّ حركة العين جاءت مخالفةً لحركة الفاء في أصل الوضع، لأنّ أصلَ "خِفْتُ": "خَوِفْتُ"، وأصل "هِبْتُ": "هَيِبْتُ"، وأصل "طُلْتُ": "طَوُلْتُ"، فنُقلت الضمّة والكسرة الأصلّيتان من العين إلى فاء الفعل، فلم تحتج إلى تغيير البناء. وزعم أبو عثمان المازنيّ أنهم ينقلون "باعَ" و"قامَ" إلى "بِيعَ" و"قُومَ"، كما ينقلونه في "بِعْتُ" و"قُمْتُ"، إلاّ أنّهم لا ينقلون حركة العين إلى الفاء، كما ينقلونها في "بِعْت" و"قُمْت"، وذلك من قبل أنهم لو نقلوا حركتَها إلى الفاء، لانضمّت في "قامَ"، وانكسرت في "باعَ" وبعدها العينُ ساكنةً، فكان يُلْبس بفعلِ ما لم يسمّ فاعلُه في "بِيعَ زيدٌ" وفي "قُولَ القولُ" على لغةِ من يقول ذلك؛ لأنّ هذا النقل إنّما يريدونه عند حذف العين للدلالة على المحذوف، والفرقِ بين ذوات الواو والياء. فأما إذا أُسند إلى ظاهرٍ فالعينُ ثابتة، ولا محذوف هناك يحتاج إلى الدلالة. وبعض العرب لا يبالي الالتباسَ، فيقول: "وقد كِيدَ زيدٌ يفعل كذا وكذا"، و"ما زِيلَ يفعل زيدٌ"، يريدون: "كَادَ"، و"زَالَ". قال الأصمعىّ سمعتُ من ينشد [من الطويل]: 1330 - وكِيدَ ضِباعُ القُفِّ يَأكُلْنَ جُثَّتِي ... وكِيدَ خِراشٌ بعد ذلك يَيْتَمُ ¬
فصل [الإعلال في صيغة المجهول]
فـ "كاد" "فَعِلَ"، وكذلك "زال". يدلّ على ذلك قولهم في المضارع: "يَكادُ" و"يَزالُ"، فنقلوا الكسرة من العين إلى الفاء بعد حذف حركة الفاء، فصار "كِيدَ" و"زِيلَ"، ولم يخافوا التباسَه بـ "فُعِلَ"، لأنّهما لازمان، و"فُعِلَ" لا يكون من اللازم، والذي يدلّ أنّ "زال" من الياء قولهم: "زيّلتُه فتزيّل". وأمّا "كادَ"، ففيها مذهبان للعرب: قومٌ يجعلونها من الواو، وقومٌ من الياء، فقالوا: "كِدْتُ أكاد"، وقالوا: "كُدْتُ" بالضمّ، فمن قال: "كُدْتُ"، فهو من الواو لا محالةَ، وإن لم يُستعمل. قال الأصمعي: سمعتُ من العرب من قال: "لا أفعلُ ذلك ولا كَوْدًا". ومن قال: "كِدْتُ أكادُ"، فيحتمل أن يكون من الواو، مثلَ: "خِفْتُ أخافُ"، ويحتمل أن يكون من الياء، مثلَ: "هِبْتُ أهابَ". ويؤيّده قولُهم في المصدر: "كَيدًا". فإن قلت: فهلّا زعمتَ أنّ أصلَ "قامَ" و"قالَ": "فَعُلَ" بضمّ العين، وتستغنى عن كُلْفة التغيير؟ قيل: لا يصحّ ذلك؛ لأنّ "فَعُلَ" لا يجيء متعدّيًا، وأنت تقول: "عُدْتُ المريضَ"، و"زُرتُ الصديقَ"، فتجِده متعدّيًا، فاعرفه. فصل [الإعلال في صيغة المجهول] قال صاحب الكتاب: وتقول فيما لم يسم فاعله: "قِيلَ" و"بِيعَ" بالكسر، و"قُيِلَ" و"بُيعَ" بالإشمام، و"قُولَ" و"بُوعَ" بالواو، وكذلك اختير وانقيد له تكسر وتشم وتقول اختوِرَ وانقود له، وفي فُعِلْتَ من ذلك "عُدِتَ يا مريض" و"اختُرْتَ يا رجلُ" بالكسر والضم الخالصين والإشمام، وليس فيما قبل ياء "أُقِيمَ" و"استُقِيم" إلا الكسر الصريح. * * * قال الشارح: إذا بنيت "فُعِلَ" ممّا اعتلّت عينُه كسرت الفاء، لتحويلك حركةَ العين إليها، كما فعلت ذلك في "فعِلْتُ"، وذلك قولك: "خِيفَ" و"بِيعَ"، والأصلُ: "خُوِفَ"، و"بُيعَ", لأنّهما بوزنِ "ضُرِبَ"، فأرادوا أنّ يُعِلّوا العين كما أعلّوها في "خافَ" و"باعَ"، فسلبوها الكسرةَ، ونقلوها إلى الفاء بعد إسكانها؛ لاستحالة اجتماع الحركتين فيها، فانقلبت العينُ في ذوات الواو ياءً، نحو: "خِيفَ" و"قِيلَ"، لسكون العين وانكسار الفاء قبلها، وبقي ما كان من الياء بحاله ياءً، فصار كلُّه: "خِيفَ"، و"بِيعَ"، و"قِيلَ". هذه اللغة الجيّدة. ¬
فصل [تصحيح العين شذوذا]
ومنهم من يُشِمّ الفاء شيئًا من الضمّة، فيقول: "قُيِلَ"، و"بُيعَ"، وقرأ الكسائي {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} (¬1)، {وَغِيضَ الْمَاءُ} (¬2)، {وحُيِلَ} (¬3)، {وسُيِقَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (¬4). وذلك أنهم أرادوا نقل حركة العين إلى الفاء لِما ذكرناه من إرادة إعلال الفعل والمحافَظةِ على حركة الفاء الأصلية، فلم يمكن الجمعُ بينهما، فأشربوا ضمّةَ الفاء شيئًا من الكسرة، فصارت حركةً بين حركتين بين الضمّة والكسرة، نحو حركة الإمالة في "جائرٍ" و"كافرٍ"؛ لأنّها بين الفتحة والكسرة. ومنهم من يُبْقِي الضمّة الأصلية على حالها مبالغةً في البيان، ويحذف حركة العين حذفًا للإعلال، ويُنقِي الواو ساكنةً لانضمام ما قبلها, نحو: "قُولَ القولُ"، فإن كان الفعل من ذوات الياء، انقلبت ياؤه واوًا، لسكونها وانضمام ما قبلها، نحو: "بُوعَ المتاعُ"، و"عُوبَ زيدٌ"، فهذه اللغةُ في مقابَلة اللغة الأولى؛ لأن في الأولى ترجع ذواتُ الواو إلى الياء، وفي هذه اللغة ترجع ذوات الياء إلى الواو. ومثله "انْقِيدَ"، و"اخْتِيرَ" بمنزلةِ "قِيلَ" و"بِيعَ". ويجوز فيه الأوجهُ الثلاثةُ، فتقول: "انُقِيدَ" بالكسر، و"انقُيِدَ" بالإشمام، و"اتقُودَ" بالإخلاص واوًا، وكذلك تقول: "اختِيرَ"، و"اخْتُيِرَ" بالإشمام، و"اختورَ" بالإخلاص. واعلم أنّ الجماعة قد عبّروا عن هذه الحركة بالإشمام، وهي في الحقيقة رَوْمٌ, لأنّ الروم حركةٌ خفيفةٌ، والإشمام تَهْيِئَة العُضْو للنطق بالحركة من غير صوت. وأمّا "أُقِيمَ" و"اسْتُقِيمَ" ونحوهما، فإنّه ليس فيما قبل الياء منه إلاّ الكسرُ الخالصُ؛ لأنّ الأصل في القاف السكون، فنُقلت إليه الكسرة، ولم يكن لها أصلٌ في الحركة، فيُحافَظَ عليها بالإشمام والإخلاص، فاعرفه. فصل [تصحيح العين شذوذًا] قال صاحب الكتاب: وقالوا: "عَوِرَ", و"صَيِدَ" و"ازْدَوَجُوا" و"اجْتَوَرُوا"، ¬
فصححوا العين لأنها في معنى ما يجب فيه تصحيحها، وهو افْعَالَّ وتفاعلوا، ومنهم من لم يلمح الأصل فقال: "عارَ يَعارُ" قال [من الوافر]: 1331 - [تُسائِلُ بابنِ أحمَرَ من رآه] ... أعارت عينه أم لم تَعارا وما لحقته الزيادة من نحو عَوِرَ ,في حكمه، تقول "أَعْوَرَ الله عينه" و"أَصْيَدَ بعيره"، ولو بنيت منه استفعلت لقلت استعورت، وليس مسكنه من لَيِسَ كصَيِدَ، كما قالوا عَلْمَ في عَلِمَ، ولكنهم ألزموها الإسكان, لأنها لما لم تصرَّفْ تصرُّفَ أخواتها لم تجعل على لفظ صيد ولا هاب، ولكن على لفظ ما ليس من الفعل؛ نحو: "ليت"، ولذلك لم ينقلوا حركة العين إلى الفاء في "لَسْتُ". وقالوا في التعجب "ما أقوله" و"ما أبيعه". وقد شذ عن القياس؛ نحو أجودت واستروح واستحوذ واستصوب وأطيبت وأغيلت وأخيلت وأغيمت واستفيل. * * * قال الشارح: قد ذكر في هذا الفصل أشياء شذّتْ عن القياس، فصحّت، فمن ذلك قولهم: "عَوِرَ"، و"صَيِدَ البعيرُ" جاؤوا بهما على الأصل, لأنهما في معنى ما لا بد من صحة الواو والياء فيه, لأنّ "عَوِرَ" في معنى "اعْوَرَّ" فلمّا كان "اعورّ" لا بد له من الصحّة ¬
لسكونِ ما قبل الواو صحّت العينُ في "عَوِرَ"، و"حَوِلَ"، و"صَيِدَ"، فصارت صحّةُ العين في "عَوِرَ" أمارةً على أنّه في معنى "اعْوَرَّ" ولو لم تُرِد هذا المعنى لأعللتَه، وقلتَ: "عارت عينُه"، و"صاد البعيرُ"، وقد قالوا: "عارت عينُه تَعارُ", وهو قليل مسموع ولا يقال في "حَوِلَت عينُه" حالت قال الشاعر [من الوافر]: تْسائِل بابْنِ أَحْمَرَ مَن رَآهُ ... أَعارَت عينُه أم لم تَعارا كأنَّه "تَعارَنْ" بالنون الخفيفة المؤكّدة، وإنّما أبدل منها ألف الوقف. ومن ذلك: "اعْتَوَنُوا"، و"ازْدَوَجُوا"، و"اجْتَوَرُوا"، والمراد: تَعاونوا، وتَزاوجوا، وتَجاوروا، فلمّا صحّت فيما ذكرناه لوقوع الألف قبلها، فلم يمكن نقلُ حركة العين إليها مع أنّك لو قلبتَ الواو لالتقت مع الألف قبلها فكان يؤدّي إلى حذف إحداهما فيؤول اللفظ إلى "تَعانوا"، و"تَزاجوا" فيزول بناء "تَفاعلوا" وهم يريدون معناه، ثمّ صحّحوا ما كان في معناه ليكون أمارة على ذلك كما قلنا في "عَوِرَ"، و"حَوِلَ". وكذلك إذا لحقته الزيادة؛ نحو: الهمزة، للنقل في قوِلهم: "أَعْوَرَ الله عينه"، و"أَصْيَدَ بعيرَه" فإنّك لا تُعِلّه بقلبه ألفًا كما أعللتَه في "أَقام"، و"أَباع" إئما اعتلّا لاعتلالِ فَعَلَ منهما قبل النقلِ، ألا ترى أنّ الأصل قامَ، وباعَ، ثم نقلتَ الفعل بهمزة، فقلت: "أقام"، و"أباع"، و"أعْوَرَ" لم ينقل من "عارَ" فيجبَ إعلالُه لاعتلالِ "فَعِلَ" منه بغير زيادة. ولو بنيت منه "استفعلت" لقلت: "استعوَرْتُ" فكنت تُصحِّحه ولا تُعِّله كما تُعِلّ "استقمتُ" لصحّةِ "عَوِرَ" واعتلالِ "قامَ". وأمّا "لَيْسَ" فإنّها مخفّفة من "لَيِسَ" مثلَ "عَلْمَ" وإنّما قلنا ذلك، لأنّها فعلٌ إذ كان الضمير المرفوع يتّصل بها على حدّ اتّصاله بالأفعال؛ من نحو: لسْتُ، ولَسْنَا, ولَسْتُمْ، فإذا ثبت أنّها فعلٌ فلا يجوز أن تكون "فَعَلَ" بالفتح، لأنّ هذا لا يجوز إسكانه لخفّة الفتحة ألا ترى أنّ من قال في "عَلِمَ"، "عَلْمَ" بسكون اللام، وفي "عَضُدٍ": "عَضْدٌ" بسكون الضاد لم يقل في مثلِ "قَتَلَ": "قَتْلَ". ولم تكن "فَعُلَ" بالضمّ لأنّ هذا المثال لا يكون في ذوات الياء. وإذا بطل هذا تَعيّن أنّ تكون "فَعِلَ" كـ"صَيْدَ البعيرُ"، وأصله صَيِدَ بالكسر إلاّ أنّك في صيد تستعمل الأصلَ والفرعَ لأنّه متصرّف، و"لَيسَ" لمّا لم يريدوا فيها التصرّفَ ألزموها السكونَ، وأجروها مجرى ما لا تصرّفَ له وهو "لَيْتَ". وقوله: لم يجعلوها على لفظَ "صَيِدَ" ولا "هَابَ" يعني لمّا لم يَرِدْ في "لَيْسَ" التصرّفُ لغَلَبة شَبَه حرف النفي عليه سلبوه ما للأفعال من التصرّف، ونَقْلِ حركة العين إلى الفاء كما فعلوا ذلك في نحو: هِبْتُ، وكِدْتُ، حتّى سلبوه لفظَ الفعل مبالغةً في الإيذان بقوّة معنى الحرفيّة عليه، فلم يجعلوه كـ"صَيِدَ" ونحوه ممّا صحّ، ولا كـ"هَابَ" ونحوه ممّا اعتلّ بل على لفظ الحرف المحض كلَيْتَ. وقد بالغ في ذلك من منعه العملَ، وقال: "ليس الطِيبُ إلاّ المِسْكُ" وقد صحّحوا "أَفْعَلَ" التعجّبِ أيضًا في نحو قولهم: "ما أَقْوَمَهُ"، و"ما أَبْيَعَهُ" وذلك حين أرادوا جمودَه، وعدمَ تصرُّفه، ولذلك لم يأتوا له
فصل [إعلال اسم الفاعل]
بمضارع، ولم يؤكّدوه بمصدر حين تَضمّن ما لم يكن له في الأصل من معنى التعجّب، فلمّا جمد هذا الجمودَ، ومُنع التصرّفَ أشبه الأسماء، فصُحّح كالأسماء، وغلب عليه شَبَهُ الأسماء، فلزم طريقةً واحدةً، ولذلك من المعنى صُغّر، وإن كانت الأفعالُ لا يدخلها التصغيرُ، فقالوا: "ما أَقْوَمَهُ"، و"ما أَبْيَعَهُ" كما يقولون: "هو أَقْوَمُ، وأَبْيَعُ من فلان". وقد قالوا: "أَغْيَلَتِ المرأةُ"، و"أغْيَمَتِ السماءُ"، و"اسْتَنْوَقَ الجَمَلُ"، و"اسْتَحْوَذَ يَسْتَحْوِذ" قال الله تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ} (¬1) وقرأ الحسن البصري: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} (¬2) على وزن "أفعلت". وقالوا: "اسْتَصْوَبَ الأمرَ"، و"أَجْوَدْتُ"، و"أَطيَبْتُ"، و"أَطوَلْتُ" ومنه قول الشاعر [من الطويل]: صَدَدتِ فأَطوَلْتِ الصُدودَ وقَلَّما ... وِصالٌ على طُولِ الصُدودِ يَدُومُ (¬3) فهذه الألفاظ وإن كانت متعدّدة فهي شاذّةٌ في القياس قليلةٌ بالنسبة إلى ما يُعَلّ، جاءت تنبيهًا على أصل الباب. فصل [إعلال اسم الفاعل] قال صاحب الكتاب: وإعلال اسم الفاعل من نحو قال وباع أن تقلب عينه همزة كقولك قائل وبائع، وربما حذفت كقولهم شاكٌ. ومنهم من يقلب فيقول: "شاكي". وفي "جاءٍ" قولان: أحدهما أنه مقلوب كالشاكي والهمزة لام الفعل, وهو الخليل، والثاني أن الأصل: جائيءٌ فقلبت الثانية ياء والباقية هي نحو همزة قائم, وقالوا في عَوِرَ وصَيِدَ: عاوِرَ و"صايِدٌ كمقاوم ومباين. * * * قال الشارح: اسم الفاعل يعتلّ باعتلال فعله، تقول في "قامَ": "قَائِمٌ"، وفي "باعَ": "بائِعٌ" فتهمز العينَ، وقد تقدّم ذكرُ ذلك والعلّةِ فيه؛ وأمّا "شاك" ففيه ثلاثةُ أوجه: أحدها "شائِكٌ" بالهمز على مقتضى القياس كـ"قائِم"، و"بائِع" الثاني "شاكٍ" على تأخير العين إلى موضع اللام، فيصير من قبيل المنقوص كـ"قاضٍ"، و"غازٍ"، فتقول: "هذا شاكٍ"، و"مررت بشاكٍ"، و"رأيت شاكِيًا" كما تقول: "رأيت قاضِيًا" تُدْخِله النصبَ وحده، ومثلُه: "لاثَ العِمامةَ على رأسه يَلُوثها فهو لاثٍ"، و"هارٍ" من "جُرُفٍ هَارٍ" أي: هائِرٌ. والوجه ¬
فصل [إعلال اسم المفعول]
الثالث: أن تحذف العين حذفًا، فتقول: "هذا شاكٌ" و"لاثٌ"، بالرفع، و"رأيت شاكًا، ولاثًا" و"مررت بشاكٍ، ولاثٍ"، ووجهُ ذلك أنّ الماضي منه: "شاكَ"، و"لاثَ"، فسكنت العينُ منهما بانقلابها ألفًا، وجاءت ألفُ "فاعِلٍ" فالتقت ألفان، فحُذفت الثانية لأنّه أبلغُ في الإعلال والتخفيفِ، وتقول في مستقبله: "يشاكُ فهو شائِكٌ، وشاكٍ" بالقلب، فتحذف العين، وهو من الشَوْكَة يقال: "شجرةٌ، شائِكَةٌ، وشاكَةٌ" أي: كثيرةُ الشَوْكِ، والشَوْكةُ: شِدّةُ البَأس، والحَدُّ والسِلاحُ. وأمّا "جاء" ففيه قولان أحدهما أنه مقلوب، وهو قول الخليل، والأصلُ: "جَاءَ" معتل العين مهموز اللام، فإذا جئت منه باسم فاعل همزتَ عين الفعل على حدّ همزها في "قائلٌ"، و"بائعٌ"، فاجتمع همزتان، فالخليلُ كره اجتماعَ الهمزتين، فقدم الهمزةَ إلى موضع العين، وأخّر اللام، فصار منقوصًا كـ"شاكٍ" و"لاثٍ" إلاّ أنّ القلب في "شاكٍ" غيرُ مطّرد لأنّه لم يجتمع فيه همزتان، بل أنت مخيَّر بين الأصل والقلب، وهو مطّرد في "جاءٍ" لاجتماع الهمزتين. وسيبويه يذهب إلى أنّه لمّا اجتمع همزتان قُلبت الثانية ياء لانكسار ما قبلها، وكذلك يعتمد في كل همزتين التقتا في كلمة واحدة. وكان الخليل إنّما فرّ إلى القول بالقلب كراهيةَ تَوالي إعلالَيْن، وهما إعلالُ العين بقلبها همزةً، وإعلالُ اللام بقلبها ياءً لانكسار ما قبلها، وعلى قوله إعلالٌ واحدٌ وهو تقديمُ اللام لا غير. وأمّا قولهم: "عاوِرٌ"، و"صايِدٌ" ونحوهما فإن العين صحيحةٌ غير منقلبة همزةً، وذلك لصحّتها في الفعل في نحو "عَوِرَ" فهو "عاوِرٌ"، و"صَيِدَ" فهو "صايِدٌ" لأن اسم الفاعل جارٍ على فعله في الصحّة والاعتلال، فأنت إنّما أعللت "قائِمًا"، و"بائِعًا" لاعتلاله في "قامَ"، و"باعَ" ولذلك صحّ "مُقاوِمٌ"، و"مُبايِنٌ" ونحوهما لصحّة العين في "قاوَمَ"، و"بايَنَ" فاعرفه. فصل [إعلال اسم المفعول] قال صاحب الكتاب: وإعلال اسم المفعول منهما أن تُسكَّن عينه, ثم إن المحذوف منها ومن واو مفعول عند سيبويه، وعند الأخفش العين، ويزعم أن الياء في "مخيطٍ" منقلبةٌ عن واو مفعول، وقالوا: "مشيبٌ" بناءً على "شِيبَ" بالكسر، و"مَهُوبٌ" بناءً على لغة من يقول: "هُوبَ". وقد شذ؛ نحو: "مَخْيُوط", و"مَزْيُوت", و"مبيوع", و"تفاحة مطيوبة" وقال [من البسيط]: 1332 - [حتي تذَكَّر بيضاتٍ وهيَّجَه] ... يوم رذاذٍ عليه الدَّجن مغيوم * * * ¬
قال الشارح: ويعتلّ اسم المفعول إذا كان فعله معتلًّا، وإنّما وجب إعلالُه من حيث وجب إعلالُ اسم الفاعل، إذ كان جاريًا على الفعل جَرَيانَ اسم الفاعل، والفعلُ معتلّ، فأرادوا إعلالَه ليكون العمل من وجه واحد، فألزموا ما تَصرّف مَن الفعل الاعتلالَ، واسم المفعول إنّما يُبنى من "فُعِلَ" كما أنّ اسم الفاعل إنّما يبنى من "فَعَلَ" فكما تقول: "قِيلَ"، و"بِيعَ" كذلك تقول: "مَقُولٌ"، و"مَبِيعٌ" وكما تقول: "قالَ"، و"باعَ" بالاعتلال كذلك تقول: "قائِمٌ"، و"بائِعٌ" وقد تقدّم ذكرُ الحذف من مفعول من المعتلّ والخلافِ فيه بما أغني عن إعادته. وقالوا: "ماءٌ مَشِيبٌ" أي: مخلوطٌ، قال الشاعر [من الطويل]: 1333 - سَيَكْفِيكَ صَرْبُ القَوْمِ لَحْمٌ مُعَرَّصٌ ... وماءُ قُدُورٍ في القِصاع مَشِيبُ ¬
فجاء به على "شِيبَ" فكما اعتل حين قلب العين ها هنا ياء كذلك قلبها في المفعول ياءً، وفي ذلك تقويةٌ لمذهب الخليل وسيبويه في أنّ المحذوف الواو الزائدة، ألا ترى أنّه لو كانت الباقية الواوَ الزائدةَ لم يجز قلبُها ياءً، إلاّ أنّ يكون معها لامُ الفعل معتلّةً من، نحو. "رمِيَ فهو مَرْمَيٍّ"، و"قُضِيَ فهو مَقضِيٌّ" لكنّها لمّا كانت في "شُوبَ" عينًا قلبها كما قُلبت في قوله [من الرجز]: حَوْراءُ عَيناءُ مِن العِينِ الحِيرْ (¬1) والأصل: الحُور، لأنّه جمعُ حَوْراءَ كـ "حُمْرٍ"، و"شُقْرٍ"؛ وأمّا مَهُوبٌ من قول حُمَيد [من الطويل]: 1334 - وتَأوِي إلى زُغْبٍ مَساكِينَ دُونَهم ... فَلا لا تَخطّاه الرِّفاقُ مَهُوبُ فإنّه جاء به على لغةِ من يقول في ما لم يسمّ فاعله: "قُولَ القَولُ"، و"بُوعَ المتاعُ" فكأنّه قال: "هُوبَ زيدٌ، فهو مَهُوبٌ". وقيل في لغة بني تميم: "مَبْيُوعٌ"، و"ثَوْبٌ مَخْيُوطٌ"، و"مَزْيُوتٌ"، ولا يقولونه مع الواو لأنّ الضمّة لا تثقل على الياء ثِقَلَها على الواو، ألا ترى أنهم يفرّون من الواو المضمومة إلى الهمزة، فيقولون: "أَدْؤُرٌ"، و"أَثْؤبٌ" قال الراجز [من الرجز]: لكل دَهْرٍ قد لَبِسْتُ أَثْؤُبَا (¬2) ¬
فهمز، وهو مطّرد في الواو إذا انضمّت، فإذا انضاف إلى ذلك أنّ يكون بعدها واو كان أشدَّ، والياء إذا انضمّت لم تُهْمَز، فدلّ أنها أخفُّ من الواو,. وقال الأصمعيّ: سمعتُ أبا عمرو بن العَلاء ينشد [من الكامل]: 1335 - وكأنّها تُفّاحة مَطْيُوبَةٌ وقال عَلْقَمَة [من البسيط]: يوم رذاذ عليه الدَّجْنُ مَغْيومُ (¬1) وقالوا: "طَعامٌ مَزِيتٌ، ومَزْيُوتٌ"، و"رجلٌ مَدِينٌ ومَدْيُونٌ"، وهو كثير. * * * قال صاحب الكتاب: قال سيبويه (¬2): ولا نعلمهم أتموا في الواو لأن الواوات أثقل عليهم من الياءات وقد روى بعضهم: "ثوبٌ مصوونٌ". * * * قال الشارح: قد ذكرنا أنّ الضمّة على الواو تُستثقل لا سيما وبعدها واوٌ أخرى، فلذلك لا يُتِمّون مفعولًا من الواو فلا يقولون: "مَقْوُولٌ"، هذا هو الأشهر. وحكى سيبويه (2) أنّهم يقولون: "ثوبٌ مَصْوُونٌ"، وأنشدوا [من الرجز]: 1336 - والمِسْكُ في عَنْبَرِه المَدْوُوفِ ¬
فصل [رأي سيبويه والأخفش في المعتل العين بالياء الساكنة التي قبلها ضمة]
والأشهر، المَصُون والمَدُوف، وأجاز أبو العبّاس إتمامَ مفعول من الواو، وحكوا: "مَرِيضٌ مَعْوُودٌ"، و"فَرَسٌ مَقْوُودٌ"، و"قَوْل مَقْوُولٌ" قال: وليس ذلك بأثقلَ من "سُرْتُ سُوُورًا"، و"غار غُوُورًا" لأنّ في "سُوُور"، و"غُوُور" واوَيْن وضمّتَيْن، وليس في "مَصْوُون" مع الواوَيْن إلّا ضمّةٌ واحدةٌ. والوجه الأوّل لأنّه إذا كان القياس في نحو: "مَغْيُوب"، و"مَزيُوت" الإعلالَ مع أنّ الياء دون الواو في الثقل, لأنّه لم يجتمع فيه إلاّ ياءٌ وواوٌ وضمّةٌ، فمفعولٌ من الواو أَحْرَى أن لا يجوز فيه التصحيحُ لثقله، إذ كان فيه ضمّةٌ وواوٌ، وبعدهما واوُ مفْعول، فيجتمع فيه واوان وضمّةٌ، وهذا ظاهرٌ في العربيّة أنّ يُحتمل أمرٌ واحدٌ، فإذا انضمّ إليه أمرٌ آخرُ لم يلزم احتمالُه، ألا ترى أنّه إذا وُجد في الاسم سببٌ واحدٌ من الأسباب المانعة للصرف احتُمل ذلك القدرُ من الثقل، ولم يُؤثِّر في منع الصرف، فإذا انضمّ إليه سببٌ آخرُ تفاقم الثقلُ، ولم يُحتمل، وأَثّرَ في منع الصرف فاعرفه. فصل [رأي سيبويه والأخفش في المعتلّ العين بالياء الساكنة التي قبلها ضمة] قال صاحب الكتاب: ورأي صاحب الكتاب (¬1) في كل ياء هي عين ساكنة مضمومٌ ما قبلها أن تقلب الضمة كسرة لتسلم الياء، فإذا بني؛ نحو: "بُرْدٍ" من البياض قال: "بيضٌ"، والأخفش يقول: "بُوضٌ" ويقصر القلب على الجمع نحو: "بِيضٍ" في جمع "أبيض"، ومعيشة عنده يجوز أن يكون "مَفْعُلَةَ", و"مَفْعِلَةَ" وعند الأخفش هي "مَفْعِلَةُ"، ولو كانت "مَفْعُلَةَ": لقلت "مَعُوشةٌ" وإذا بني من البيع مثل "ترتبٍ" قال: "تُبِيعٌ, وقال الأخفش: "تُبُوعٌ" والمضوفة في قوله [من الطويل]: 1337 - وكنت إذا جاري دعا لمضوفةٍ ... [أُشمِّرُ حتى يبلغ الساق مئزري] ¬
كالقود والقصوى عنده وعند الأخفش قياسٌ. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول في أنّ مذهب سيبويه إذا كان عين الكلمة ياءً ساكنةً، وقبلها ضمّةٌ؛ فإنّه يبدل من الضمّة كسرةً لتصحّ الياء، يقول في نحو "فُعْلٍ" من البيع والبياض: "بِيعٌ"، و"بِيضٌ"، فيبدل من ضمّة العين كسرةً لتصحّ الياء وكان أبو الحسن الأخفش يخالفه في هذا الأصل، ويبدل من الياء الواوَ، ويقول في "مَفْعُلَةَ" من العَيْش: "معُوشَةٌ"، وفي نحو: "بِيضٍ" من البياض: "بُوضٌ"، ويقول في "بِيضٍ": إنّه فُعْلٌ، لكنّه جمعٌ، والجمعُ أثقل من الواحد، فأبدل من الضمّة كسرةً فيه لئلا يزداد ثِقَلًا، و"مَعِيشةٌ" عند سيبويه يجوز أنّ تكون "مَفْعِلَةَ"، و"مَفْعُلَةَ" فإذا كانت "مَفْعِلَة" نقلت حركة العين إلى الفاء لا غير، وإذا كانت "مَفْعُلَة" ففيه نَقْلٌ، وقَلْبٌ؛ نقلُ الضمّة إلى الفاء، وقلبُها كسرةً لتصحّ الياء، وعند الأخفش لا تكون إلاّ "مَفْعِلَة" بالكسر، إذ لو كانت "مَفْعُلَة" لقيل: "مَعُوشَةٌ". وقد خالف هذا الأصلَ في نحو: "مَعِيبٍ"، و"مَبِيع" فإن المحذوف عنده عين الكلمة, لأنّه أسبقُ الساكنين، والأصل فيه "مَبْيُوع"، فنُقلت الضمّة إلى الباء للإعلال، ثمّ أُبدل منها كسرةٌ لتصحّ الياء، ثم حُذفت الياء لالتقاء الساكنين، فوَلِيَت الواو كسرةَ الياء، فانقلبت الواو ياءً، فصار اللفظ وزنُه عنده "مَفِيل" وهذا يهدم ما أصّله. ولو بنيت من البَيْع مثلَ "تُرْتُبٍ" لقلت على أصل سيبويه: "تُبِيعٌ"، كأنّك تقلب ضمّة الياء إلى ما قبلها، ثمّ أبدلتَ من الضمّة كسرةً لتصحّ الياء، وعلى قياس قول الأخفش لا تقول: إلّا "تُبُوعٌ" تبدل الياء واوًا لسكونها وانضمام ما قبلها على حدّ قلبها في "مُوسِرٍ"، و"مُوقِنٍ" لأنه لا يُبْدَل من الضمّة كسرةٌ فيما كان واحدًا, ولولا قولُ العرب: "مَعِيبٌ"، و"مَبِيعٌ" لكان قياسُه صحيحًا شديدًا لكنّه أورد السماعُ ما أرغب عن قياسه؛ وأمّا قول الشاعر [من الطويل]: وكنت إذا جارِي دَعَا لمَضُوفَةٍ ... أُشَمِّرُ حتى يَبلُغَ الساقَ مِئْزَرِي ¬
فصل [إعلال الاسم الثلاثي المجرد]
ففيه تقويةٌ لمذهب أبي الحسن, لأنه جارٍ على قياسه، و"مَضوفَةٌ" هنا من "ضِفتُ" إذا نزلتَ عنده، والمراد هنا ما ينزل به من حوادث الدهر، ونوائِب الزمان، أي: إذا جاري دعاني لهذا الأمر شمّرتُ عن ساقي، وقمتُ في نُصرته. وهذا البيت عند سيبويه شاذ في القياس والاستعمال، وهو في الشذوذ كـ"القَوَد"، و"القُصْوَى" لأنّ القَوَد شاذ والقياس قادٌ، كـ"بابٍ"، و"القُصْوَى" أيضًا شاذ، القياس القُصْيَا كـ"الدُنْيَا"، وكان القياس في "المَضُوفة" "المَضَيفة" فاعرفه. فصل [إعلال الاسم الثلاثي المجرد] قال صاحب الكتاب: والأسماء الثلاثية المجردة إنما يُعَلّ منها ما كان على مثال الفعل؛ نحو: "بابٍ" ودار وشجرة شاكة ورجلٍ مالٍ" لأنها على فَعَلٍ أو فَعِلٍ. وربما صح ذلك نحو القود والحركة والخونة والجورة ورجل روع وحول. وما ليس على مثاله ففيه التصحيح كالنوَمَة واللُوَمَة والعُيَبَة والعِوَض والعِوَدة. وإنما أعلوا قيماً لأنه مصدر بمعنى القيام وصف به في قوله تعالى: {دينًا قيمًا} (¬1). * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِن الإعلال والتغيير إنّما هو للأفعال لتصرّفها باختلاف صِيَغها للدلالة على الزمان وغيرِه من المعاني المفادة منها من نحو: الأمر، والنهى، وإعلالُ الأسماء إنما كان بالحمل عليها، فـ "بابٌ" ونحوه من قولك: "دارٌ"، و"ساق" وما أشببهما مما هو علي بناء الفعل فإتما انقلبت عينُه, لأنها متحركة قبلها فتحةٌ، فصارت في الأسماء بمنزلةِ "قالَ"، و"باعَ" في الأفعال، والذي أوجب القلبَ فيها اجتماعُ المتشابهات, لأنّ حروف اللين مضارعة للحركات، فكرهوا اجتماعَها، فلذلك قلبوا, نحو: "قالَ"، و"باعَ"، و"بابٍ"، و"دارٍ" إلى حرف يُؤْمَن معه الحركةُ ألبتّة، وهو الألف، ولذلك كانت الألف عندهم بمنزلةِ حرف متحرّك لأنها غيرُ قابلة للحركة كما أنّ الحرف المتحزك غير قابل لغير حركته. فإن قال قائل: لِمَ لم يجز؛ نحو: "باب"، و"دار" على أصولها من التصحيح ليكون ذلك فَرْقًا بينها وبين الأفعال كما فُعل فيما لحقته الزوائدُ؟ قيل: الفرق بينهما أنّ ما لحقته زائدةٌ من الأسماء يُبْلَغ به زنةُ الأفعال، فإذا سُمّي به لم ينصرف، فيلتبس بالفعل لأنَّه لا يدخله خفضٌ، ولا تنوينٌ، وما كان على ثلاثة مجرَّدًا من الزيادة فالتنوينُ والخفضُ يفصل بينه، وبين الفعل. وقوله: "لأنّها على فَعَلٍ، أو فَعِلٍ" فالمراد أنّ "بابًا"، و"دارًا" على "فَعَل" و"شجرةٌ ¬
شاكَةٌ"، و"رجلٌ مالٌ" على "فَعِل" بكسر العين. فإن قيل: ولِمَ قلت: إِنّ "بابًا"، و"دارًا" أصلُهما "فَعَلٌ"، و"شجرةٌ شاكةٌ"، و"رجلٌ مالٌ"، "فَعِلٌ"؟ قيل: فَعَلٌ بفتح العين؛ نحو: "قَلَم"، و"جَبَل" أكثرُ في الكلام من "فَعِل", و"فَعُل"؛ نحو: "كَتِف"، و"عَضُد" فحُمل على الأكثر، وهو الفتح إذ لم تقم دلالةٌ على خلافه. وأمّا قولهم: "شجرةٌ شاكَةٌ" فإنّه يقال: "شاكَ الرجلُ، يَشاكُ شَوْكًا" إذا ظهرت شوكتُه وحِدّتُه، وكذلك يقال: "مالَ الرجلُ يَمالُ" إذا كثر مالُه، فهما من بابِ "فَعِلَ يَفْعَل"، من نحو: "خافَ يَخافُ" فالاسم منهما فَعِلٌ من نحو: "حَذِرَ يَحْذَرُ فهو حَذِرٌ"، و"وَجِلَ يَوْجَلُ، فهو وَجِلٌ" فلذلك قلنا: إِنّ نحو. "شجرة شاكة"، و"رجل مال" من قبيل "حَذِرٍ"، و"وَجِلٍ". وقد شذّت من ذلك ألفاط، فُصحّحت، ولم تُعَلّ كأنّهم أخرجوها مُنبِّهةً على أصل الباب؛ نحو: "القَوَد"، و"الحَوَكَة"، و"الحوَنَة"، و"الجَوَرَة" فهذه الأشياء من باب "مال"، و"دار"، وقالوا: "رجلٌ رَوعٌ، وحَوِلٌ"، فهما من باب "شاكةٍ"، و"مالٍ". وقوله: "وما ليس على مثاله ففيه التصحيح" يريد أنّهم لم يُعلّوه لأنّه ليس على وِزان الفعل كـ "اللُوَمَة"، وهو الكثيرُ اللَوم، و"النُوَمَة" وهو الكثير النَوْم، و"العُيَبَة" الذي يعيب الناسَ كثيرًا، فصحّت هذه الألفاظُ، وما كان نحوها لمبايَنتها الأفعالَ باختلاف بنائهما، فصار البناء فيما ذكرناه كالزيادة في "الجَوَلان"، و"صَوَرَى" في امتيازهما من الفعل بما لحِقه في آخِره من الألف والنون، والتنوين، وألف التأنيث، وهذه زوائدُ ممّا يختصّ به الأسماء دون الأفعال، فجرى ما خالف الفعلَ في البنية مجرَى ما خالفه بالزيادة، فكان بناؤُه موجبًا لتصحيحه لبُعْده عن شَبَه الفعل، كما كانت الزيادةُ كذلك في آخِره، فصُحّح لمخالَفته الفعلَ. ومن ذلك "العِوَض"، و"العِوَدَة"، و"الحِوَل"، و"الطِّوَل". كلُّ ذلك صحّ لمخالفة بنائها أبنيةَ الأفعال، ومع ذلك لو أعللنا نحوَها, لم نَصِرْ إلى حرف يُؤمَن معه الحركةُ، لأنّا إنّما نصير إلى الواو في نحو: "العُيبة"، و"اللُّوَمة" لانضمام ما قبلها، وإلى الياء في نحو: "الحِوَل"، و"الطِّوَل" لانكسار ما قبلها خِلافَ نحو: "بابٍ"، و"دارٍ"، لأنّا صِرْنا فيهما إلى الألف، وهو حرف يؤمن معه الحركةُ. وأمّا "قِيَمًا" من قوله تعالى: {دِينًا قِيَمًا} (¬1) فقد قُرىء "قَيِّمًا" (¬2)، وهو "فَيعِلٌ" من القيام، نحو: "سَيِّدٍ"، و"مَيِّتٍ" ولا إشكالَ في الوصف بذلك، وقد تكرّر في الكتاب ¬
العزيز في عدّة مواضع، نحو. {الدِّينُ الْقَيِّمُ} (¬1) و {دِينُ الْقَيِّمَةِ} (¬2) و {كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (¬3) وهو المستقيم. وقُرىء: {قِيَمًا} بكسر القاف، وتخفيفِ الياء وفتحِها ووجهُه أن يكون مصدرًا كـ"الصغَر" و"الكِبَر"، فأعلّوه لاعتلال فعله، ولولا ذلك لصحّ كما في قوله تعالى: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} (¬4)، لأنّهم لم يُجروه على فعلٍ. ومثل ذلك لو بنيت من "البيع" و"القول" ونحوِهما من المعتلّ على مثالِ لا يكون عليه الفعلُ، نحو: "فِعَل"، لقلتَ: "بِيَعٌ"، و"قِوَلٌ". وعليه قوله تعالى: {حِوَلًا}، ولو كان جاريًا على الفعل من نحو: "حالَ يَحُول"، لقلت: "حِيلًا" باعتلال فعله، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: والمصدر يُعَلّ بإعلال الفعل, وقولهم: "حال حولاً" كالقود. و"فُعُلٌ" إن كان من الواو سكنت عينه لاجتماع الضمتين الواو، فيقال نُورٌ وعُونٌ في جمع نَوارٍ وعَوان. ويثقل في الشعر, قال عدي بن زيد [من الكامل]: [عن مبرقات بالبرين فيبدو] ... وفي الأكف اللامعات سور (¬5) وإن كان من الياء فهو كالصحيح. من قال: "كُتُبٌ" و"رُسُل", قال: "غُيُرٌ" و"بُيُضٌ" في جمع "غَيُورٍ" و"بَيُوض" ومن قال: "كُتْبٌ" و"رُسْل" قال: "غِيْرٌ" و"بِيْض". * * * قال الشارح: قد تقدّم القول إن المصادر تُعَلّ باعتلال أفعالها، وتصحّ بصحّتها، ألا تراك تقول: "قام قيامًا"، و"لاذَ لياذًا"، وتقول: "قاوَمَ قِوامًا"، و"لاوَذَ لِواذًا" لِما بينهما من العُلْقة؟ فأرادوا أن يكون العمل فيهما من وجه واحد. وقد جعل صاحب الكتاب "حِوَلًا" جاريًا على الفعل، وأخرج صحّتَه على الشذوذ من نحو: "القَوَد"، و"الحَوَكَة". والوجهُ ما بدأنا به، لأنّه على القياس. وأمّا "فُعُلٌ" فيما اعتلّت عينُه، فما كان منه من ذوات الواو، فإنّ الواو تسكَّن فيه لاجتماع ضمَّتَيْن والواوِ، فجعلوا الإسكان فيه بمنزلة الهمزة في الواو المضمومة في نحو: "أَذؤُر"، و"أَثْؤُب"، فقالوا: "عَوانٌ عُونٌ"، وهي التي بين الصِّغَر والكِبَر، و"نَوارٌ، ونُورٌ" ¬
وهي النافرة. عدلوا إلى التخفيف بالإسكان كما عدلوا إلى التماس التخفيف بقَلْبهم الواوَ المضمومةَ همزةً. قال سيبويه (¬1): وألزموا هذا الإسكانَ إذ كانوا يُسكنون عين الصحيح من نحو: "رُسُلٍ"، و"عَضُدٍ" لثقل الضمّة عليها، يريد أنّهم حملوا تخفيفَهم "نُورًا"، و"غونًا" على تخفيفهم في الصحيح. وإذا كان ذلك جائزًا مع غير المعتلّ الذي لا يثقل عليه الحركاتُ، كان مع الواو لازمًا. وقد جاء على الأصل في الشعر. قال عَدِيُّ بن زيد [من الكامل]: عن مُبرِقاتٍ بالبُرِينَ فيَبْـ ... ـدو بالأَكُفِّ اللامِعاتِ سُوُرْ (¬2) يُعنّف نفسَه على الوَلوع بالنساء بعد المَشِيب والكِبَر، وقبله: قد حَان لو صحوت أَنْ تقصرا ... وقد أتى لما عَهِدْتَّ عُصُرْ الشاهد فيه تحريك الواو من "سُوُرٍ" بالضم، وهو جمعُ "سِوارٍ". والمعنى: قد حان أنّ تقصر عن طِلْبةِ مُبْرِقات بالبرين. والمُبْرِقاتُ من النساء التي تُظْهِر حَلْيَها لينظرَ إليها الرجلُ، فيميلوا إليها. والبُرُون: الخَلاخِلُ، وأصله البُرَةُ في أنف البعير، وهي حَلْقةٌ من صُفْرٍ، وكلُّ حلقة من سِوار وقُرْط وخَلْخال وما أشبهها فهي بُرَةٌ. والمراد بالأكفّ اللامعات أي أَذْرُعُ الأكفّ, لأنّ السوار لا يكون إلّا في الذراع، لا في الكفّ. وقال الآخر - أنشده أبو زيد عن الخليل [من المتقارب]: 1338 - اغَرُّ الثنايَا أَحَمُّ اللِّثاتِ ... يُحسِّنُه سُوُكُ الإِسْحِلِ واستعمالُ الأصل الذي هو الضمّ ههنا من ضرورات الشعر عند سيبويه (¬3)، وهو ¬
فصل [إعلال الاسم الثلاثي المزيد]
عند أبي العبّاس جائزٌ في غير الشعر. قال: فإن جئتَ به على الأصل، فأردتَ أن تبدل من الواو همزةً، كان ذلك جائزًا لانضمامها، وقَلَّما يُبْلغ به الأصلُ، وهو جائز. وأمّا "فُعُلٌ" من ذوات الياء، فإنّ الياء تسلم فيه، نحو قولك: "رجلٌ صَيُود"، و"قومٌ صُيُدٌ"، و"رجل غَيُورٌ"، و"جالٌ غُيُرٌ"، و"دَجاجةٌ بَيُوضٌ"، و"دَجاجٌ بُيُضٌ"، لأنّه "فُعُلٌ". ومن قال في "رُسُلٌ": "رُسْلٌ"، قال في "صُيُد": "صِيد", وفي "بُيُض": "بِيض"؛ لأنّه "فُعْلٌ"، فيلزم فيه ما يلزم في جمع "أَبْيَضَ", لأنّه يصير "فُعْلاً" مئلَه. وقد ذكرنا الخلافَ في ذلك مع أبي الحسن. فصل [إعلال الاسم الثلاثي المزيد] قال صاحب الكتاب: وأما الأسماء المزيد فيها فإنما يعل منها ما وافق الفعل في وزنه وفارقه إما بزيادة لا تكون في الفعل كقولك مقالٌ ومسير ومعونة وقد شذ نحو مكوزة ومزيد ومريم ومدين ومشورة ومصيدة والفكاهة مقودةٌ إلى الأذى وقرئ: {لمثوبة من عند الله} (¬1). وقولهم مقول محذوف من مقوال كمخيط من مخياط؛ وإما بمثال لا يكون فيه كبنائك مثال تخلىء (¬2) من باع يبيع تقول تبيعٌ بالإعلال لأن تفعلا بكسر التاء ليس في أمثلة الفعل. وما كان منها مماثلاً للفعل صحح فرقاً بينه وبينه كقولك أبيض وأسود وأدور وأعين وأخونة وأعينة. وكذلك لو بنيت تَفْعِلُ أو تُفْعَلُ من زاد يزيد لقلت تَزْيِدُ وتُزْيَدُ على التصحيح. * * * قال الشارح: اعلم أنّ كلّ اسم كان على مثال الفعل، وفيه زيادةٌ ينفصل بها من الفعل إمّا بان لا تكون من زوائد الأفعال، وإمّا أن تكون من زوائد الأفعال، إلاّ أنّه ينفصل من الفعل بالبِنْية، فإنّه يُعَلّ بقلب حرف اللين، كما كان ذلك في الأفعال، إذ كان على وزنها، فكانت زيادتُه في موضع زيادتها. وهذا مستمرٌّ في كلّ ما كان على هذا الوزن. مثالُ الأوّل قولك في "مَفْعَل" من "القَوْل"، و"البيع": "مَقالٌ"، و"مَباعٌ", لأنّه في وزن "أَقالَ" و"أَباعَ"، والميْمُ في أَوّله كالهمزة في أوّل الفعل، ولم تَخَف التباسًا؛ لأنّ ¬
الميم لا تكون من زوائد الأفعال. وكذلك لو بنيتَ منه شيئًا على "مُفْعَلٍ"، وهو بناء المفعول، لقلت: "مُقالٌ"، و"مُرادٌ"، و"مُباعٌ"، كما كنت تقول: "يُقال"، و"يُراد"، و"يُباع". والمصادرُ وأسماء الزمان والمكان بزيادة الميم في أوائلها يكون لفظُها كلفظ المفعول إذا جاوزت الثلاثةَ، لأنّها مفعولاتٌ، نحو قوله تعالى: {أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا} (¬1)، و {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} (¬2). وكذلك لو بنيت منهما "مَفعِلًا"، لقلت: "مَقِيلًا"، و"مَبِيعًا" ومثلُه "المَسِيرُ". وأصلُ "مَقِيل": "مَقوِل" بكسر الواو، لأنّها بإزاء العين في "مَفْعِلٍ"، فأرادوا إعلالَه لكونه علي بنية الفعل ومنه، فنقلوا كسرة الواو إلى القاف قبلها، فسكنت الواو وانكسر ما قبلها، فقُلبت ياءً، فصار "مَقِيلًا" كما ترى. وأمّا "مَبِيع" و"مَسِير"، فأصلهما الياء، فليس فيهما إلّا نقلُ الكسرة من العين إلى ما قبلها. وأمّا "مَعُونَةٌ" فهو "مَفْعُلَةُ" من "العَوْن"، وأصله: "مَعْوُنَةٌ" بضمّ الواو، فنُقلت الضمّة إلى العين لِما أرادوا من إعلالها, لأنه على وزن الفعل من نحو: "يَخرُجُ" و"يَقتُلُ"، والميم في مقابَلة الياء، والهاء زائدة للتأنيث بمنزلةِ اسم ضُمّ إلى اسم، فلا اعتدادَ بها في البناء. وقد شذّ نحو: "مَكْوَزَةَ"، و"مَزيَدٍ"، و"مَرْيَمَ"، و"مَدْيَنَ"، والقياس نحو: "مكازة"، و"مزاد"، و"مرام"، و"مدان"، كما قالوا: "مَقالٌ"، و"مَقامٌ"، وذلك أنها أعلامٌ. فـ "مَكوَزَةُ" من لفظ "كُوزٍ"، وقد سمّوا بكُوز من بني ضَبَّة. و"مَزْيَدٌ" من "زادَ يَزِيد"، و"مَرْيَمُ" مَفعَلٌ من "رَامَ يَرِيمُ"، فمَزيَدٌ ومَرْيَمُ أعلامٌ للأناسيّ، و"مَدْيَنُ" اسمُ مكان، والأعلامُ قد كثُر فيها التغيير، نحو: "مَحْبَبٍ"، و"مَوْهَبٍ"، ونظائرِهما. وقالوا في غير العَلَم: "مَشْوَرَةٌ"، وهي "مَفْعَلَةُ" من "الشُّورَى"، ومنه "شاوَرْتُهم في الأمر". يقال: "مَشورَةٌ" و"مَشوَرَةٌ"، فـ "مَشُورَةٌ" على القياس في الإعلال بنقل الضمّة إلى الشين، و"مَشوَرَةٌ" شاذّ، والقياس: "مَشارَةٌ" كـ"مَقالَةٍ" و"مَعانَةٍ". وقالوا: "وقع الصَّيْدُ في مِصْيَدَتنا". وقرأ قَتادةُ وأبو السِّمال {لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} (¬3) وهي "مَفْعَلَةُ" من الثواب، يقال: "مَثْوَبَةٌ" كما قلنا في "مَشْوَرَةٍ"، والقياس: "مَثابَةٌ". وحكى أبو زيد: "هذا شيءٌ مَطيَبَةٌ للنفس"، و"هذا شرابٌ مَبوَلَةٌ". وهذا في الاسم كـ"اسْتحوذ" و"أَغيَلَتِ المرأةُ" في الفعل، كأنَّهم أخرجوا بعض المعتلّ على أصله تنبيهًا عليه، ومحافظةً على الأصول المُغيَّرة. ¬
وكان أبو العبّاس محمّد بن يزيد المبرّد لا يجعل ذلك من الشاذّ, لأنّه كان لا يُعِلّ إلّا ما كان مصدرًا جاريًا على الفعل، أو اسمًا لأزمنة الفعل، والأمكنةِ الدالّةِ على الفعل؛ فأمّا ما صيغ منها اسمًا لا تريد به مكانًا من الفعل، ولا زمانًا, ولا مصدرًا كـ"مَكْوَزَة"، و"مَزْيَد"، و"مَقْوَدَة"، وجميع ما كان من ذلك، فإنّك تُخْرِجه على الأصل لبُعْده من الفعل، ولو كان "مَرْيَم" مصدرًا، لقلت: "رُمْتُه مَرامًا" و"هذا مَرامُك"، إذا أردت الموضعَ الذي تَرُوم. والوجهُ الأوّل لأنّهم قد أعلّوا نحو: "بابٍ"، و"دارٍ"، فلا عُلْقةَ بينه وبين الفعل. وقالوا: "مِقْوَلٌ"، و"مَخيَطٌ"، و"مِخوَلٌ" فلم يُعِلّوه، لأنّه منقوص من "مِقْوالٍ"، و"مِخياطٍ"، و"مِخوالٍ"، فكما لا تُعِلّه في الأصل لوقوع الألف بعد حرف العلّة التي هي العين كذلك لم يعلّوا "مِقْوَلًا"، و"مِخْيَطًا", لأنّهما في معناه. ونظيرُ ذلك قولهم: "عَوِرَ"، و"حَوِلَ"، و"اجْتَوَرُوا"، إذ كان في معنى "اعْوَرَّ"، و"احْوَلَّ"، و"تَجاوروا". وأمّا الثاني، وهو ما خالف الفعلَ في البناء والمثالِ، نحو بنائك على مثال "تِحْلِيٍ"، وهو ما يُفْسده السكّين من الجِلْد عند القشر من قولك: "بَاعَ"، فإنّك تقول: "تِبِيعٌ" بالإعلال، وهو أنّك تنقل الكسرةَ إلى الباء, لأنّ "تِفْعِلًا" بكسر التاء ليس في أمثلة الفعل، وقيل: إنّ نحو: "مِقْوَلٍ"، و"مِخيَطٍ" إنّما صحّ لأنّه ليس من أبنية الفعل، فهو مخالفٌ للأفعال في البنية، فكان حكمهما حكمَ "تِحْلِىءٍ". فأمّا ما كان مُماثِلًا للفعل بالزيادة في أوّله، فإن كانت الزيادة في أوّله زيادةً الفعل، والبناء كبناء الفعل، فإنّ ذلك الاسم يُصحَّح، ولا يُعَلّ. وذلك لو بنيت من "القَوْل" و"البَيْع" مثلَ "يَفْعَلُ". بفتح العين، نحوَ: "يَعْلَمُ"، أو "يَفْعُلُ" بالضمّ، نحو: "يَقتُلُ"، أو "يَفعِلُ" بالكسر، نحوَ: "يَضْرِبُ"، لكنت تقول: "يَقوَلُ"، و"يَقوُلُ"، و"يَقْوِلُ"، و"يَبْيَعُ"، و"يَبيُعُ"، و"يَبْيعُ" من غير إعلال. وذلك من قِبَل أنّ الزوائد زوائد الأفعال، والبناء بناء الأفعال، فلو أعلّوه كإعلال الفعل، لم يُعْلَم أاسمٌ هو أم فعلٌ، فصحّحوه فَرْقًا بينه وبين الفعل. فإن قيل فأنتم تقولون: "بابٌ" و"دارٌ"، فتُعِلّون هذه الأسماء، وإن كانت على وزن الفعل، ولا تُبالون التباسَها بالفعل، قيل: إنّما أُعلّ "بابٌ" و"دارٌ"، ولم يصحّ للفرق بينه وبين الفعل, لأنه ثلاثيٌّ منصرفٌ، والتوينُ يدخله، ففرق التنوينُ بينه وبين الفعل وغيرُه من ذوات الأربعة بالزيادة في أوّله إذا سُمّي به يُفارِقه التنوينُ, لأنّه يمتنع من الصرف، فيُشْبِه الفعلَ، فصحّح للفرق، فـ "بابٌ" و"دارٌ" التنوينُ لازمٌ له معرفةً ونكرةً، وليس كذلك "يَفْعَلُ" إذا سمّيتَ به رجلًا، فإنك لو أعللتَه، ثمّ سمّيتَ به، وجعلتَه عَلَمًا، لَزال التنوينُ والجرُّ، فكان يُشبِه الفعلَ بالإعلال وسقوطِ التنوين والجرّ، فلذلك وجب تصحيحُ "يَفْعَلُ" اسمًا مِن "قَامَ" ونحوه، فاعرفه.
فصل [أحكام أخري في الإعلال]
فصل [أحكام أخري في الإعلال] قال صاحب الكتاب: وقد أعلوا نحو قيام وعياذ واحتياز وانقياد لإعلال أفعالها مع قوع الكسرة قبل الواو والحرف المشبه للياء بعدها وهو الألف ونحو ديار ورياح وجياد تشبيهاً لإعلال وحدانها بإعلال الفعل مع الكسرة والألف ونحو سياط وثياب ورياض لشبه الإعلال في الواحد وهو كون الواو ميتة ساكنة فيه بألف دار وياء ريح مع الكسرة والألف. وقالوا تير وديم لإعلال الواحد والكسرة. وقالوا: ثيرةٌ لسكون الواو في الواحد والكسرة, وهذا قليل والكثير عودة وكوزة وزوجة. وقالوا طوال لتحرك الواو في الواحد. وقوله [من الطويل]: [تبين لي أن القماءة ذلةٌ] ... وأنَّ أعزاء الرجال طيالها (¬1) ليس بالأعرف. وأما قولهم رواء مع سكونها في ربان وانقلابها فلئلا يجمعوا بين إعلالين: قلب الواو التي هي عين ياء وقلب الياء التي هي لام همزة. ونواء ليس بنظيره لأن الواو في واحده صحيح وهو قولك ناو. * * * قال الشارح: أمّا ما كان من المصادر معتلَّ العين بالواو من نحو: "حالَ حِيالًا"، و"عاذَ عِياذًا"، و"قامَ قِيامًا"، فإن الواو تُقْلَب فيه ياءً وذلك لمجموعِ أمور ثلاثة: أحدُها أنّا قد اعتلّت في الفعل، والمصدرُ يعتلّ باعتلال فعله, لأنّ كلّ واحد منهما يؤول إلى صاحبه. والثاني: كونُ الكسرة قبلها، والكسرةُ بعضُ الياء. والثالثُ: كونُ ما بعدها ألفًا، والألفُ تُشْبِه الياء من جهة المدّ واللين، وأنّها تُقْلَب في مواضعَ. فاجتماعُ هذه الأمور مُوجِبٌ لقَلْبها ياءً. وشبّهوها هنا بواوِ قبلها ياءٌ ساكنةٌ، نحو: "سَيِّدٍ"، و"مَيِّتٍ"، فقلبوها كقَلْبها، وكان ذلك أخفّ عليهم، إذ كان العملُ من وجه واحد. والمرادُ من قولنا: "وجه واحد" أنّ الخروج من الكسرة إلى الياء ثم إلى الألف التي تُشْبِه الياء أخفُّ عليهم من الخروج من الكسرة إلى الواو، ولذلك لم يأت في أبنيتهم خروجٌ من كسرة إلى ضمّة لازمًا, وقَلَّ في كلامهم نحو: "يَوْمٍ" و"يُوح"، لخروجهم من الياء إلى الواو. فاجتماعُ هذه الأسباب علّة لقلب هذه الواوَ ياءً، ألا ترى أنّه إذا صحّ ¬
الفعلُ، لم يجب القلبُ، نحو: "قاوَمَ قِوامًا"، و"حاوَرَ حِوارًا"؟ وكذلك لو كان في الواحد، ولم يكن مصدرًا، نحو: "حِوالٍ"، و"سِواكٍ"، لم يجز الإعلالُ. وقيل: إنّما وجب الإعلالُ هنا لأنّ الفتحة في الواو عارضةٌ لأجل الألف، إذ الألفُ لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحًا، فكانت الواوُ في حكم الساكنة، فقُلبت ياءً على حدّ قلبها في "مِيزانٍ"، و"مِيعادٍ"، لأنّها في الحكم مثلُها. وأمّا "حَوْضٌ", و"حِياضٌ"، و"سَوْطٌ"، و"سِياطٌ", فإنّما قُلبت واوه ياءً حملًا له على "دارٍ"، و"دِيارٍ"، و"رِيحٍ"، و"رِياحٍ". وذلك لأنه جمعٌ، والجمع أثقلُ من الواحد، وأنّ واوَ واحدة ضعيفةٌ ميّتةٌ لسكونها، فَكانت كالمعتلّة في "دار" و"ريح"، وأنّ قبل الواو كسرةً كالكسرة في "رِياحٍ"، و"دِيارٍ"، وأنّ بعد الواو ألفًا، والألفُ تُشْبِه الياء، وأنّ اللام منه صحيحة كصحّة لام "دار" و"ريح"، إذ لو كانت اللام معتلّة، لم تعتلّ العينُ, لأنّه لا يَتوالى عندهم إعلالان في كلمة واحدة، فلا بدّ من اجتماع هذه الأسباب حتى يصحّ الإلحاقُ والحملُ، ألا ترى أنّه لمّا تحرّكت الواوُ في "طَويل" لم تُقلب الواو في جمعه بل صحّت، نحو: "طِوال"؟ وقد قالوا: "عَوْدٌ عِوَدَةٌ"، و"زَوْجٌ زِوَجَةٌ"، فهذا قد اجتمع فيه سكونٌ في الواحد والكسرةُ التي قبل الواو، وأنّه جمعٌ، وصحّةُ اللام، إلّا أنّه لم يقع بعدها ألفٌ، ومع ذلك قد صحّت، ولم تعتلّ. وقالوا: "تِيَرٌ"، و"دِيَمٌ" فأعلوهما لاعتلال الواحد منهما، فـ "تِيَرٌ" جمعُ "تارَةٍ"، و"دِيَمٌ" جمعُ "دِيمَةٍ"، فلمّا اعتلّ الواحدُ، أعلّوا الجمعَ. فأمّا قولهم: "ثِيَرَةٌ" في جمع "ثَوْرٍ" لهذا الحيوان، فهو شاذّ. قال أبو العبّاس، المبرّد: أرادوا الفرق بين الثور من الحيوان، والثور الذي هو الأَقِطُ. وقد تقدّم ذكرُ ذلك في مواضعَ، وقيل: إنّهم شبّهوا واوَ "حَوْضٍ", و"ثَوْبٍ" لسكونها بالواو في "يَقُومُ" لسكونها، فكما أعلّوا مصدرَ هذا الفعل لاعتلال فعله، أعلّوا جمعَ هذا. وقالوا: "طوالٌ"، فصحّحوا العين حين كانت متحرّكة في "طَوِيل", وربما قلبوها ياءً، قال الشاعر [من الطويل]: تَبيَّنَ لِي أنّ القَماءةَ ذِلَّةٌ ... وأنَّ أعِزَّاءَ الرِّجالِ طِيالُها (¬1) وهو قليل. وأمّا قولهم: "روآء" في جمع "رَيّانَ"، و"طوآءٌ" في جمع "طَيّانَ"، فإنّما صحّت الواو فيهما مع سكونها في الواحد، لئلاّ يجمعوا بين إعلال اللام والعين، إذ كانت اللام معتلّة بقَلْبها همزةً. وأمّا "نِوآءٌ" في جمع "ناوٍ"، فليس من قبيل "طِوآءٍ", لأنّ الواو لم تكن ساكنةً في الواحد، ولا معتلّة، فصحّت في الجمع، فاعرفه. ¬
فصل [امتناع الاسم من الإعلال]
فصل [امتناع الاسم من الإعلال] قال صاحب الكتاب: ويمتنع الإسم من الإعلال بأن يسكن ما قبل واوه ويائه, أو ما بعدهما إذا لم يكن نحو الإقامة والاستقامة مما يعتل باعتلال فعله وذلك قولهم حول وعوار ومشوار وتقوال وسووق وغوور وطويل ومقاوم وأهوناء وشيوخ وهيام وخيار ومعايش وأبيناء. * * * قال الشارح: لما كانت هذه الأسماء معتلّةَ العينات، وهي صفاتٌ مشتقّةٌ من الأفعال، والأفعال بابُها التغيير والإعلال، فكانه وُجد في هذه الأسماء سببٌ الإعلال، إلّا أنّه تَخلْف إعلالُها، فتنَبَّهَ على المانع، وهو سكونُ ما قبلها، أو ما بعدها. فلو أسكنت هذه الحروف، لالتقى ساكنان، وكان يجب الحذفُ أو الحركةُ، فكان يزول البناء. وجملة الأمر أنّها على ثلاثة أضرب، منها ما صحّ لسكون ما قبله، نحو: "حُوَّلٍ"، و"مَقاوِمَ", و"مَعايِشَ"، و"أَبْيِناءَ". ومنها ما صحّ لسكون ما بعده، نحو: "غُوُور", و"شُيُوخ"، و"هُيام"، و"خِيار". ومنها ما صحّ لسكون ما قبله، وما بعده، نحو: "عُوّار"، و"مِشْوار"، و"تَقْوال"، وهو أبلغ في منع الإعلال، مع أنّ هذه الأسماء لم تكن على أبنية الأفعال، وإنّما يُعَلّ ما كان على زنة الفعل، فصحّت هذه الأسماء لعدم شَبَهها بالأفعال، إذ لم تكن على زنتها, ولا جاريةً عليها، فـ "حُوَّلٌ" المانع فيه ما قبله من الساكن، يقال: "رجلٌ حُوَّلٌ قُلَّبٌ" إذا كان ذا حُنْكة مُجرَّبًا، قال مُعاوِيَةُ لابنته هندٍ وهي تمرّضه: "إنّك لتقَلَّبين حُوَّلًا قُلَّبًا أنّ يُخامِر هَوْلَ المَطْلَعِ" مع أنه ليس على زنة الفعل كـ"بابٍ"، و"دارٍ". و"عُوّارٌ" المانع لاعتلاله اكتنافُ الساكنين بحرف العلّة، فلو قُلبتَ ألفًا، لاجتمع ثلاثُ سواكنَ، وذلك بمكانٍ من الإحالة. والعُوّارُ: الرَمَدُ في العين، قالت الخَنْساء [من البسيط]: 1339 - قَذى (¬1) بعَيْنِك أم بالعَينِ عُوّارُ ... [أم ذَرَّفَتْ إذ خلت من أهلها الدارُ] ¬
وقيل: هو طائرٌ بعينه، وقيل: هو ضربٌ من الخَطاطِيف أسودُ طويلُ الجناحَيْن. ومِشْوارٌ: ممّا صُحّح لسكون ما قبل حرف العلّة وما بعده. والمِشْوارُ: المكان تُعرَض فيه الدوابُّ, والمكان الذي يكون فيه العسلُ ويُشار. ومثلُه "مِقْوالٌ"، وهو الكثيرُ القول الجيّدُه، يقال: "رجلٌ مِقْوالٌ". وكذلك "تَجْوالٌ"، و"تَقْوالٌ": " تَفْعالٌ" من "جَوَّلْتُ"، و"قَوَّلْتُ" بمنزلة "التَّسْيار" للتكثير. وسبيلُ ذلك كسبيل "عُوّار" في تأكيد الأسباب المُوجِبة للتصحيح، وهو فوق السبب في "حُوّلٍ". ومثله "صُوّامٌ"، و"قُوّامٌ"، و"بَيّاعٌ". و"سُوُوقٌ" جمع "ساق"، وقرأ ابن كثير {فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ} (¬1). و"غُوُورٌ" مصدرُ "غارَ الماء في الأرض غُوُورًا وغَوْرًا": سَفَلَ في الأرض، ونحوه: "حالَ عن العهد حُوُولًا". و"شُيُوخٌ" جمعُ "شَيْخ". كل ذلك سببُ تصحيحه سكونُ ما بعد حرف العلّة. ومثله "الهُيامُ"، وهو شبيهٌ بالجُنون من شدّة العِشْق، يقال: "هامَ بها يَهِيمُ هَيْمًا وهَيَمانًا". والخِيارُ: الناقة الفارهة، ورجلٌ خِيارٌ من قومِ خِيارٍ وأَخْيارٍ؛ وأمّا "مَعايِشُ" فجمعُ "مَعِيشَةٍ" من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} (¬2) و"مقاوم" من قول الأَخطَل [من الطويل]: 1340 - : وإنّي لَقَوّامٌ مقاوِمَ لم يكن ... جَرِيرٌ ولا مَوْلَى جَرِيرٍ يَقُومُها ¬
فصل [الإعلال في الجمع]
فإن الواو والياء تصحّان لوقوعهما بعد ساكن، فلم يجز قلبُهما ألفَيْن؛ وأمّا امتناعُ همزة "صَحائِفَ" و"عجائِزَ"، فقد تقدّم ذكرُه. فأمّا "أَهْوِناء" جمعُ "هَيِّنٍ"، و"أَبْيِناء" جمعُ "بَيِّنٍ"، فإنّما صحّت العينان فيهما، لأنّهما علي بناء الفعل، والزيادةُ في أوّلهما كالزيادة في الفعل، فـ "أَهون" كـ"أَضْرِبُ"، فصحّحوه كما يُصحِّحون إذا بنوا من "قامَ" مثلَ "أَضْرِبُ"، فإنك تقول: "أَقوِمُ"، ولا يعتدّون بألف التأنيث فارقة، لأنّها كالمنفصلة، ألا ترى أنّك لو صغّرتَ ما فيه ألفُ التأنيث، لصغّرتَ الصدر، وجئتَ بالألف من بعدُ، كقولك في "حَمْراءَ": "حُمَيْراء"، وفي "خُنْفَساءَ": "خُنَيفِساء"، على أنّهم قد قالوا: "أَعِيّاءُ" في "أَعْيِيَاء"، و"أَبْيِنَاء" في "أَبْيِناء"، فتُلْقَى كسرةُ الياء على ما قبلها، وتُعَلُّ كأنّهم كرهوا الكسرة على الياء، كما كرهوا الضمّة في "فُعُلٍ" فتُسكِنها، نحو قوله [من الكامل]: بالأكُفِّ اللامِعاتِ سُورْ (¬1) وسَهَّلَ ذلك أنّ الفصل بينه وبين الفعل، قد حصل باتّصال ألف التأنيث. فأمّا "الإقامة" و"الاستقامة"، فإنّما أعللناهما كما أعللنا أفعالَهما, لأنّ لزوم "الإفعال" و"الاستفعال" لـ"أفْعَلَ" و"اسْتَقعَلَ" كلزوم "يفعل"، و"يَسْتَفْعل" لمضارعيهما. ولو كانتا تفارقان كما تفارق بناتُ الثلاثة التي لا زيادةَ فيها مصادرَها، فتأتي على ضروبٍ، لتمّت كما يتمّ "فُعُولٌ" منها، نحو: "الغُوور"، و"الحُوُول"، فاعرفه. فصل [الإعلال في الجمع] قال صاحب الكتاب: وإذا اكتنفت ألف الجمع الذي بعده حرفان واوان، أو ياءان، أو واو وياء قلبت الثانية همزة كقولك في "أوَّلٍ": "أوائلُ"، وفي "خيرٍ", "خيائرُ"، وفي ¬
سيقة سيائق، وفي فوعلة من البيع بوائع، وقولهم ضياون شاذ كالقود. وإذا كان الجمع بعد ألفه ثلاثة أحرف, فلا قلب كقولك: "عواوير" و"طواويس". وقوله [من الرجز]: وكحَّل العينين بالعواور (¬1) إنما صح لأن الياء مرادة وعكسه قوله [من الرجز]: فيها عيائيل أسود ونُمُر (¬2) لأن الياء مزيدة للإشباع كياء الصَّياريف. ومن ذلك إعلال صُيَّم وقُيَّم للقرب من الطرف مع تصحيح صُوّام وقُوّام. وقولهم: "فلانٌ من صيابة قومه", وقوله [من الطويل]: 1341 - [ألا طرقتنا مية ابنة منذرٍ] ... فما أرق النيام إلا سلامها شاذّ. * * * قال الشارح: اعلم أنّ ألف الجمع في "مَفاعِلَ" و"فَواعِلَ"، متى اكتنفتها واوان، كانت الثانية مُجاوِرةَ للطرف، ليس بينه وبين الطرف حاجر، فإنّهم يقلبون الواو الثانية همزة، نحو قولهم: "أوائِلُ"، والأصل: "أواوِلُ", لأنّ الواحد "أَوَّلُ" "أَفْعَلُ" ممّا فاؤه وعينُه واوٌ. وهم يكرهون اجتماعَ الواوين والألفُ من جنسهما، فشبّهوا اجتماعَهما هنا ¬
باجتماعهما في أوّل الكلمة، فكما يقلبون في "واصِلةٍ"، و"وَاصِلَ"، كذلك يقلبون ههنا، إلّا أنّ القلب ها هنا وقع ثابتًا لقربه من الطرف. وهم كثيرًا ما يُعطون الجارَ حكمَ مُجاوِره، فلذلك قدّروا الواو في "أَواوِلَ" طرفًا، إذ كانت مجاورةً للطرف، فهمزوها كما همزوا في "كِساءٍ"، و"رِداءٍ". وإن اكتنفها ياءان، أو ياءٌ وواوٌ، فالخليلُ وسيبويه (¬1) يريان هَمْزَها، ويقلبان ذلك على الواوين لمشابَهة الواو والياء، والأصلُ الواوان. وأبو الحسن لا يرى الهمز إلّا في الواوين لثقلهما, ولا يهمز في اليائين، ولا مع الواو والياء. وقياسُ قوله أنّ اجتماع اليائين في أوّل الكلمة، أو الواوِ والياء، لا يُوجِب همزَ أحدهما، فاجتماعُ اليائين في قولهم: "يَيْن" اسمِ موضع، والياء والواو في قولهم: "يَوْمٌ"، فكما لا يهمز هناك، كذلك لا يهمز ههنا، واحتجّ بقول العرب في جمع "ضَيْوَنٍ" وهو ذَكَر السَّنانير: "ضَياوِنُ" من غير همز. والمدْهب الأوّل لما ذكرناه من أنّ الهمز ميه بالحمل على "كِساء"، و"رِداءٍ" وشَبهِه به من جهة قُرْبه من الطرف ووقوعِه بعد الألف الزائدة لا فَرْقَ بين الواو والياء، فكذلك ههنا وإن كان في الواو أظهرَ. وأمّا "ضَياوِنُ" فشاذّ كـ"القَوَد"، و"الحَوَكَة"، مع أنّه لمّا صحّ في الواحد، صحّ في الجمع. يقال: "ضَياوِنُ" كما قالوا: "ضَيوَنٌ"، والقياس: "ضَيَّنٌ"، وعكسُ ذلك قولهم: "دِيمَةٌ"، و"دِيَمٌ". أعلّوا الجمع لاعتلال الواحد، ولولا اعتلالُه في الواحد، لم يعتلّ في الجمع. قال أبو عثمان. سألتُ الأصمعي: كيف تكسّر العرب "عَيِّلًا"؟ فقال: يهمزون كما يهمزون في الواوين، وهذا نصُّ الخليل وسيبويه (¬2). فإن بُعدت هذه الحروف عن الطرف بأن فصل بينها وبينه ياء أو غيرُه، لم تُهْمَز، نحوَ: "طاوُوسٍ"، و"طَواوِيسَ"، و"ناؤوسٍ"، و"نَواوِيسَ", لأنّ الموجب للقلب الثقلُ مع القرب من الطرف، فلمّا فُقد أحدُ وصفَيِ العلّة، وهو مجاورَةُ الطرف، لم يثبت الحكمُ. فأمّا قوله [من الرجز]: وكحّل العينين بالعواور (¬3) فإنّ الواو لم تهمز، وإن جاورت الطرفَ في اللفظ، وذلك من قبل أنها في الحكم والتقدير متباعدة, لأنّ ثمّ ياءً مقدّرةً فاصلة بينها وبين الطرف، والتقديرُ: "عَواوِير" كـ"طَواوِيس"؛ لأنّه جمعُ "عُوّارِ". وحرفُ العلّة إذا وقع رابعًا في المفرد, لم يحذف في الجمع، بل يقلب ياءٌ إن كان غيرَها، نحو: "حِمْلاقٍ" و"حَمالِيقَ"، و"جُرْمُوقٍ" ¬
و"جَرامِيقُ"، فإن كان ياءً، بقي على حاله كـ"قِنْدِيل" و"قَنادِيلَ". وإنّما حذف الشاعر للضرورة. وما حُذف للضرورة فهو كالمنطوق به في الحكم، فلذلك لم تهمز. وأمّا قول الآخر [من الرجز]: فيها عيائيل أسود ونمر (¬1) فهو عكسُ "عَواوِرَ", لأنّ في "عواور" نقصَ حرف، وهو الياء، وهو مراد في الحكم، و"عيَائِيلُ" فيه زيادةُ ياء وليس بمراد. وإنّما هو إشباعٌ حدث عن كسرة الهمزة، تَشبَّه بالياء في "الصَّيارِيف"، و"الدَّراهِيم" فلم يكن به اعتدادٌ، وصارت الياء في الحكم مجاوِرةً للطرف، فهُمزت لذلك. ومن ذلك قولهم: "صُيَّمٌ" و"قُيَّمٌ" في جمع "صائمٍ" و"قائمٍ". وفي هذا الجمع وجهان: أجودُهما: "صُوَّمٌ" و"قُوَّمٌ" بإثبات الواو على الأصل، والَوجه الآخر: "صُيَّمٌ" و"قُيَّمٌ" بقلب الواو ياءٌ. والعلّةُ في جواز القلب في هذا الجمع أنّ واحده قد أُعلّت عينه، نحو: "صائمٍ" و"قائمٍ"، والجمع أثقلُ من الواحد، وجاورت الواو الطرفَ، فقلبوا الواو ياء، كما قلبوها في "عُصِيّ" و"عُتِيّ"، وربّما قالوا: "صِيَّمٌ"، و"قِيَّمٌ" بكسر أوّله، كما قالوا: "عِصِيٌّ"، و"حِقِيٌّ". قال الشاعر [من الطويل]: 1342 - فبَاتَ عَذوبًا للسَّماءِ كأنَّما ... يُوائِمُ رَهْطًا للعَرُوبَةِ صِيَّمَا فهذا الإبدال في "صيّم" و"قيّم" نظيرُ الهمز في "أوائِلَ" و"عَيائِلَ" في كون الإعلال فيهما للقرب من الطرف. والذي يدلّ أنّ القلب في "صُيَّم" للمجاورة أنّ حرف العلّة إذا تَباعد عن الطرف، لم يجز القلبُ، نحو: "صُوّامٍ". وربما قلبوا مع تباعُده من الطرف. قال ذو الرّمة [من الطويل]: ألا طَرَقتْنا مَيَّةُ ابْنَةُ مُنذِرٍ ... فما أَرَّقَ النُيّامَ إلا سَلامُها ¬
فصل [قلب الواو ياء في بعض الأبنية]
هكذا أنشده ابن الأعرابيّ: "النُّيَام". وقالوا: "فلانٌ من صُيّابة قومه". حكاه الفرّاء، أي: من صميم قومه. والصيّابةُ: الخيارُ من كلّ شيء، والأصلُ: "صُوّابة", لأنّه من "صابَ يصوب" إذا نزل، كأنّ عِرْقه قد ساخ فيهم، فقلبوا الواو ياءً، وكلاهما شاذّ من جهة القياس والاستمال؛ أمّا الاستعمال فظاهرُ القلّةِ؛ وأمّا القياس فلأنّه إذا ضعُف القلبُ مع المجاورة في نحو: "صيّم" و"قيّم"، كان مع التباعد أضعفَ. فصل [قلب الواو ياءً في بعض الأبنية] قال صاحب الكتاب: ونحو سيِّدٍ وميِّت وديّار وقيّام وقيُّوم قلبت فيها الواو ياء، ولم يُفعل ذلك في سوير وبويع وتسوير وتبويع لئلا يختلطا بـ "فُعَّلَ" و"تُفُعِّلَ". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الواو والياء يجريان مجرى المِثْلَيْن لاجتماعهما في المدّ، ولذلك اجتمعا في القافية المُرْدَفة، نحو قوله [من الوافر]: 1343 - تَرَكْنَا الخَيْلَ عاكِفَةً عليه ... مُقلَّدة أَعِنَّتُها صُفُونَا بعد قوله: وسَيِّدِ مَعْشَرٍ قد تَوَّجُوهُ ... بتاجِ المُلْكِ يَحْمِي المُجْحَرِينا ¬
فلمّا كان بينهما من المماثَلة والمقارَبة ما ذُكر، وإن تَباعد مَخْرجاهما، قلبوا الواو ياءً، وادّغموها في الثانية, ليكون العملُ من وجه واحد, ويتجانس الأصواتُ. واشتُرط سكونُ الأوّل, لأنّ من شرط الادّغام سكونَ الأول, لأنه إذا كان الأوّل متحرّكًا، فصل الحركة بين الحرفين. وإنّما جُعل الانقلابُ إلى الياء لوجهين: أحدهما: أنّ الياء من حروف الفم، والادّغامُ في حروف الفم أكثرُ منه في حروف الطَرَفَيْن. الثاني: أنّ الياء أخف من الواو، فهربوا إليها لخفّتها، فقالوا: "سَيِّدٌ"، و"مَيِّتٌ"، و"جَيّدٌ"، والأصلُ: "سَيْوِدٌ", لأنّه من "ساد يسود"، و"الموت" و"الجودة". فإن قيل: اجتماعُ المتقاربَيْن ممّا يُسوِّغ الادّغامَ من نحو قولك: "قد سَّمع اللهُ"، و"وَدٌّ" في "وَتْدٌ"، فما بالُكم أَوْجَبْتموه في "سيّد"، و"ميّت"، قيل عنه جَوابان: أحدهما أنّ الواو والياء ليس تناسبُهما من جهة القرب في المخرج، لكن من وصفٍ فيهما أنفسِهما، وهو المدُّ، وسعةُ المخرج، فجريا لذلك مجرى المِثْلَيْن، والثاني: أنّه اجتمع فيهما المقاربةُ، كمقاربة الدال والسين والتاء والدال، وثِقَلُ اجتماع الواو والياء، وليس في اجتماع المتقاربين من الصحيح ذلك الثقلُ، فافترق حالاهما لاجتماع سببَيْن يجوز بانفراد كلّ واحد منهما الحكمُ، فلمّا اجتمعا لزم. وقد اختلف العلماء في وزن "سَيِّدٍ" و"مَيِّتٍ" ونحوِهما، فذهب المحقّقون من أهل البصرة" إلى أنّ أصله "سَيْوِدٌ" و"مَيْوِتٌ" على زنة "فَيْعِلٍ" بكسر العين, وأنّ ذلك بناءٌ اختصّ به المعتلُّ كاختصاص جمع "فاعِلٍ" منه بـ "فُعَلَةَ"، كـ"قُضاةٍ"، و"رُماةٍ", و"غُزاةٍ"، و"دُعاةٍ" في جمع "قاضٍ"، و"رامٍ"، و"غازٍ"، و"داعٍ"، واختصاصِه أيضًا بـ "فَعْلُولَةَ"، نحو: "كَيْنُونَةٍ"، و"قَيْدُودَةٍ"، والأصل: "كَوْنُونَةٌ"، و"قَوْدُودَةٌ". وذهب البغداديون إلى أنّه "فَيْعَلٌ" بفتح العين، ئقل إلى "فَيْعِل" بكسرها، قالوا: وذلك لأنّا لم نَرَ في الصحيح ما هو على "فَيْعِل" إنّما هو "فَيْعَل"، كـ"صَيْقَمٍ"، و"صَيْرَفٍ". وهذا لا يلزم, لأنّ المعتل قد يأتي فيه ما لا يأتي في الصحيح, لأنّه نوعٌ على انفراده، ولو أرادوا بـ "ميّت" "فَيْعَل" بالفتح، لقالوا: "مَيِّتٌ" بالفتح، كما قالوا: "هَيَّبانٌ"، و"تَيَّحانٌ" حين أرادوا "فَيْعَلان". وقال بعضهم [من الرجز]: 1344 - ما بالُ عَيْني كالشَّعِيب العَيَّنِ ¬
فأبقاه على الفتح حين أرادوا الفتح. وذهب الفراء إلى أنّه "فَعِيلٌ"، أُعلّت عينُ الفعل منه في "مات يموت" و"صاب يصوب" بأن قدّموا الياء الزائدة، وأُخّرت العين، فصار "فَيعِل" كما قلتم، إلّا أنّه منقولٌ محوَّلٌ من "فَعِيل"، ثمّ قُلبت الواو ياءً كما ذُكِر، وذلك لقرابة البناء، وأنّه ليس في الصحيح ما هو على "فَيْعِل". وزعم أنّ "فَعِيلًا" الذي يعتلّ عينُه إنّما يأتي على هذا البناء، وأن "طَوِيلًا شاذّ لم يجىء على قياسِ "طالَ يطول"، وكان ينبغي لو جاء على قياس "طال يطول"، أنّ يقال: "طَيِّل" كـ"سَيِّد". وإذا لم يكن "فَعِيلًا" معتلاًّ، صحّ، نحو: "سَوِيقٍ"، و"عِوِيل"، و"حَوِيل". وأمّا "قُضاةٌ" ونحوه عنده، فاصله: "قُضًّى" على "فُعَّل" مضاعَفَ العين كـ"شاهدٍ" و"شُهَّدٍ"، و"جاثمٍ" و"جُثَّم" فاستثقلوا التشديد على عين الفعل، فخفّفوه بحذف إحدى العينين، وعوّضوا عنها الهاء، كما قالوا: "عِدَةٌ"، و"زِنَةٌ"، فحذفوا الفاء، وعوّضوا الهاء أخيرًا. فأمّا "كَينُونَةٌ" فأصلها عنده "كُونُونة" بالضمّ على زنة "بُهْلُولٍ" و"صُنْدُوقٍ"، ففتحوه لأنّ أكثرَ ما يجيء من هذه المصادر مصادرُ ذواتُ الياء، نحو: "صَيْرورة"، و"سَيْرورة". فلو أبقوا الضمّة قبل الياء، لصارت واوًا، ففتحوه لتسلم الياء، ثمّ حملوا عليه ذواتِ الواو. والصوابُ ما بدأنا به، وهو مذهب سيبويه (¬1). وقالوا: "ما بالدار دَيّارٌ" (¬2)، أي: أحدٌ، وأصله: "دَيْوارٌ" "فَيعالٌ" من "الدار"، وأصلُ "قَيام": "قَيْوامٌ" من "قام يقوم"، قلبوا الواو ياءً لوقوع الياء قبلها ساكنه على حَدّ ¬
فصل [التصحيح في "مفاعل" المعتل العين]
"سَيِّد" و"مَيِّت". ولو كان "ديار" و"قيّام" على زنة "فَعّالٍ"، لقالوا: "قَوّام" و"دَوّار", لأنّه من الواو، ويجوز أن يكون من لفظ "الدَّيْر"، فإنّه يقال: "تَدَيَّرْتُ دَيْرًا"، ويمكن أن يكون "الدَّيْر" من الواو، وأصله: "دَيِّرٌ" مثل "سَيِّد"، وإنّما خُفّف. وقالوا: "قَيُّومٌ"، وهو "فَيعُول" من "القيام"، وأصله: "قَيْوُوم"، فأُبدل من الواو ياءٌ، وادُّغمت الياء في الياء، وليس على زنة "فَعُّولٍ"؛ لأنه كان يلزم أن يقال: "قَوُّوم"؛ لأنّ عين الفعل واوٌ. قال: ولم يفعل ذلك بـ "سُويِرَ", و"بُويعَ"، و"تُسُويرَ"، و"تُبُويعَ"، يعني لم يقلبوا الواو ياءً، وادّغموها فيما بعدها من الياء، وذلك لأَمرين: أحدهما: أنّ هذه الواو، لا تثبت واوًا وإنّما هي ألفُ "سايَرَ"، و"تَسايَرَ"، و"بايع"، و"تبايع"، لكن لمّا بُني لما لم يسمّ فاعله، وجب ضمُّ أوّله علامةً لما لم يسمّ فاعله، فانقلبت الألف واوًا للضمّة قبلها اتباعًا، وجُعلت على حكم الألف مدّةً، فلم تُدْغم في الياء بعدها، كما كانت الألفُ كذلك. وكذلك "تُسوير" و"تُبويع"، الأصلُ: "تَساير"، و"تَبايع"، فلمّا بُني لما لم يسمّ فاعله، ضُمّ أوّله وثانيه علامةً، كما قيل: "تُدُحرج". فلمّا ضممتَ الحرف الثاني، انقلبت الألف واوًا، وجُعلت أيضًا مدّةً على حكم الألف، كما كانت في "سُوير" كذلك، وصارت الواو في "تُبويع" كالألف في "تَبايع". ومثلُ ذلك قولهم: "رُؤْيَةٌ" و"نُؤْيٌ"، إذا خفّفت الهمزة، قلبتها واوًا لسكونها وانضمام ما قبلها، فتقول: "رُويَةٌ" و"نُويٌ" بواو خالصة، ولا تَدّغِمها في الياء التي بعدها؛ لأنّها همزة في النية. وكذلك "سُوير"، لما كانت الواو ألفًا في النية، لم تُدّغم بما بعدها. وربما قالوا: "رِيَّةٌ"، فادّغموا في الواو المنقلبة عن الهمزة، ويُنزِّلها منزلةَ ما هو أصل. ومن قال كذلك، لم يقل في "سُويِرَ": "سُيِّرَ", ولا في "تُسُويِرَ": "تُسُيِّرَ"، محافظةً على مدّ الألف، لئلاّ يذهب بالادّغام. والوجهُ الثاني: أنّهم لو قلبوا في "سُوير" الواو ياءً وادّغموها، التبس بناء "فُوعِلَ" ببناء "فُعِّلَ"، فلذلك لم تُدّغم. فصل [التصحيح في "مفاعِل" المعتل العين] قال صاحب الكتاب: وتقول في جمع مقامة ومعونة ومعيشة مقاوم ومعاون ومعايش مصرحاً بالواو والياء، ولا تهمز كما همزت رسائل وعجائز وصحائف ونحوها مما الألف والواو والياء في وحدانه مدّاتٌ لا أصل لهن في الحركة. * * *
قال الشارح: إذا جمعتَ نحو: "مَقامة"، و"مَباعة"، و"مَقام", و"مَباع"، وكذلك "مَعاش" و"مَعُونة"، لم تُعِل الواو والياء بقلبهما همزة كما قلبت ألفَ "رِسالة"، وواوَ "عَجُوز"، وياء "صحيفة"، فقلت: "رَسائِلُ"، و"عَجائِزُ"، و"صَحائِفُ" بالهمزة، فتقول في جمع "مَقامة": "مَقاوِمُ"، وفي جمع "مَباعة": "مَبايعُ"، وفي جمع "مَعِيشة": "مَعايِشُ". كل ذلك بغير همزة وإن كان الواحد معتلاًّ. قال الشاعر [من الطويل]: وإنى لَقَوَّامٌ مَقاوِمَ لم يكن ... جَرِيرٌ ولا مَوْلَى جَرِيرٍ يَقُومُها (¬1) وذلك لأنّهم إنّما أعلّوا الواحد, لأنّهم شبّهوه بـ "يَفْعَلُ". فلمّا جمعوه، ذهب شَبَهُه، فردّوه إلى أصله. ووجهُ شبه "مَقام" و"مَباع" بـ "يَفعَل" أَنَّ أصلهما: "مَقْوَم"، و"مَبْيَع"، فجريا مجرى "يَخاف" و"يَهاب" اللذين أصلُهما "يَخْوَف"، و"يَهْيَب"، فأعلّوهما، لأنّهما جاريان على الفعل، وهما بزنته، وقد تقدّم بيان ذلك. فلمّا جُمعا بَعُدَا عن الفعل، لأنّ الفعل لا يُجمع، وزال البناء الذي ضارَعَ به الفعلَ، فصَحَّ، فظهرت ياؤُه وواوُه، فقيل: "مَقاوِم"، و"مَبايع". وقوله: "إنّما الألف والواو والياء في وحدانه مدّات لا أصل لهنّ في الحركة" يريد أنّ ألف "رسالة"، وواو"عجوز"، وياء "صحيفة" زوائد للمدّ لا حظّ لهنّ في الحركة بخلافِ ما تقدّم من "مَقامة"، و"مَعُونة"، و"معيشة"، فإنّ حروف العلّة فيهنّ عيناتٌ، وأصلهن الحركةُ، فلمّا احتيج إلى تحريكهنّ في الجمع، رُدّت إلى أصلها، واحتملت الحركةَ؛ لأنّها كانت قويّة في الواحد بالحركة؛ فأمّا قراءة أهل المدينة {مَعائِشُ} (¬2) بالهمز، فهي ضعيفة، وإنّما أُخذت عن نافع، ولم يكن قَبًّا (¬3) في العربيّة. وقالت العرب: "مَصائِبُ" بالهمزة. قال الجوهريّ: كل العرب تهمزه، لأنّهم تَوهّموا أنّ "مُصِيبَةٌ" "فَعِيلَةُ"، فهمزوها حين جمعوها، كما همزوا جمع "سَفِينَةٍ"، فقالوا: "سَفائِنُ"، أو يكونون شبّهوا الياء في "مصيبة" بياء "صَحِيفة"، إذ كانت مبدلةً من الواو، وهي غير أصل، كما أنّ ياء "صحيفة" غير أصل، والقياسُ: "مَصاوِبُ"، لأنّ أصلها الحركةُ. وكان أبو إسحاق الزجّاج يذهب إلى أنّ الهمزة في "مصائب" منقلبةٌ عن الواو ¬
فصل [الإعلال في الاسم الذي علي وزن "فعلي" من الياء]
المكسورة في "مَصاوِب" على حد قلبها في "وِشاحٍ" و"إشاحٍ". ولا ينفكّ من ضُعّف, لأنّ الواو المكسورة لا تصير همزةً إذا كانت حشوًا، وإنّما جاز ذلك فيها إذا كانت أوّلًا. فصل [الإعلال في الاسم الذي علي وزن "فُعلي" من الياء] قال صاحب الكتاب: و"فعلي" من الياء إذا كانت اسماً قلبت ياؤها واواً كالطوبي والكوسي من الطيب والكيس، ولا تقلب في الصفة كقولك: مشية حيكى و {قسمة ضيزى} (¬1). * * * قال الشارح: هذا الفصل اعتمدوا فيه الفصلَ بين الاسم والصفة، وذلك أنّ "فُعْلَى" إذا كان اسمًا، وهو معتلّ العين بالياء، فإنّهم يقلبون الياء واوًا لانضمامِ ما قبلها، نحو: "طُوبَى"، و"كُوسَى"، فهذه وإن كان أصلها الصفةَ، إلّا أنّها جارية مجرى الأسماء، لأنّها لا تكون وصفًا بغير ألف ولام، فأُجريت مجرى الأسماء التى لا تكون صفاتٍ، فـ "طُوْبى" أصلُها: "طُيْبَى", لأنّها من "الطيبة". وكذلك "الكوسَى" أصلها: "الكُيْسَى"، لأنّها من "الكَيْس"، فقلبوا الياء فيهما واوًا لضمّة قبلها. شبّهوا الاسم هنا في قلب الياء فيه واوًا لسكونها وانضمامِ ما قبلها بـ"مُوْسِرٍ" و"مُوقِنٍ". وقالوا في الصفة: "امرأةٌ حِيكَى" وهي التي تحيك في مشيها، أي: تحرّك منكبَيْها، يقال: "حاك في مشيه يَحِيكُ حَيَكانًا". وقالوا: {قِسْمَةٌ ضِيزَى} (1) أي: جائرةٌ، من قولهم: "ضازَهُ حَقَّهُ يَضِيزه" إذا بخسه، وجار عليه فيه. والأصلُ: "حُيْكَى"، و"ضُيْزَى" بالضمّ, لأنّه ليس في الصفات "فِعْلَى" بالكسر، وفيها "فُعْلَى" بالضمّ، نحو: "حُبْلَى"، فأبدلوا من الضمّة كسرة لتصحّ الياء على حدّ فَعْلهم في "بِيضٍ"، وأصله: "بُيْضٌ" مثلُ "حُمْرٍ"، ولم يقلبوا الياء هنا واوًا، كما فعلوا في "الكُوسَى" و"الطوبَى"، للفرق بين الاسم والصفة. وخصّوا الاسمَ بالقلب للفرق, لأنّ الاسم أخفُّ من الصفة، والصفةُ أثقلُ, لأنّها في معنى الفعل، والأفعالُ أثقلُ من الأسماء، والواو أثقل من الياء، فجعلوها في الاسم الذي هو خفيف، ولم تُجعل في الصفة، لئلاّ تزداد ثقلًا. وقد اعتمدوا الفرقَ بين الاسم والصفة في "فَعْلَى" مفتوحَ الفاء ممّا اعتلّت لامه بالياء، قالوا في الاسم: "شَرْوَى"، و"تَقْوَى"، وأصلهما الياء, لأنّ "شروى" بمعنى "مِثْل" من "شَرَيْت"، و"تَقْوَى" من "وَقَيْت"، وقالوا في الصفة: "صَدْيَا"، و"خَزْيَا"، فصار "فُعْلَى" مضموم الفاء كـ"فَعْلَى" مفتوح الفاء ممّا اعتلّت لامه بالياء. قال سيبويه (¬2) عقيبَ ذكر الفرق بين الاسم والصفة في "الكوسى" و"الحيكى": ¬
فإنّما فرقوا بين الاسم والنعت في هذا، كما فرقوا بين "فَعْلَى" اسمًا، وبين "فَعْلَى" صفةً في بنات الياء التي الياء فيهنّ لام، فشُبّهت تَفْرِقتُهم بين الاسم والنعت، والعينُ ياء في "فُعْلَى"، بتفرقتهم بين الاسم والنعت واللامُ ياء في "فَعْلَى"، وصار "فُعْلَى" إذا كانت عينه ياء كـ"فَعلَى" إذا كانت لامه ياء في القلب والتغيير. فعلوا ذلك تعويضًا للياء من كثرة دخول الواو عليها في مواضعَ متعدّدة. وقد كان أبو عثمان يستطرف هذا الموضع ويَقصره على السماع، ولا يَقيسه، فإن كانت "فَعْلى" بفتح الفاء عينُ الفعل منها ياء لم يغيّروا إيّاها في اسم، ولا صفة, لأنّ الفتحة إذا كانت بعدها ياء ساكنةٌ، لم يجب قلبُها, ولا تغييرُها بخلاف الضمّة، فاعرفه.
القول في الواو والياء لامين
القول في الواو والياء لامين فصل قال صاحب الكتاب: حكمهما أن تعلا أو تحذفا أو تسلما. فإعلا لهما: إما قلبا لهما إلى الألف إذا تحركتا وانفتح ما قبلهما, ولم يقع بعدهما ساكن, نحو غزا ورمى وعصا ورحى، أو لإحداهما إلى صاحبتها كأغزيت والغازي ودعي ورضي. * * * قال الشارح: اعلم أنّ اللام إذا كانت واوًا أو ياء كانت أشدَّ اعتلالًا منهما إذا كانتا عيناتٍ، وأضعفَ حالًا، لأنّهما حروفُ إعراب تتغير بحركات الإعراب، وتلحقها ياء الإضافة، وهي تكسر ما قبلها، وتدخلها ياء النسب وعلامةُ التثنية، وكلُّ ذلك يوجب تغييرَها، فهي إذا كانت لامًا أضعفُ منها إذا كانت عينًا، وإذا كانت عينًا فهي أضعف منها إذا كانت فاء، فكلّما بعدت عن الطرف كان أقوى لها، وكلّما قربت من الطرف كان الإعلال لها ألزمَ، وفي الإعلال ضربٌ من التخفيف. ولذلك كان أخفّ عليهم من استعمال الأصل، وإذا وقعت الواو والياء طرفًا آخرًا، فلا يخلو أمرُهما من أحوال ثلاث: إمّا الإعلالِ، وذلك يكون بتغيير الحركات، أو بقَلْبها إلى لفظ آخر، وإمّا بحذفِها لساكنٍ يلقاها، أو لضرب من التخفيف. الثالثُ أنّ تسلم وتصحّ. فالأوّلُ: وهو القلب، نحو قولك في الفعل: "غَزَا"، و"رَمَى"، والأصل: "غَزَوَ"، و"رَمَيَ"، ونظيرُ ذلك في الاسم "عَصًا"، و"رَحًى"، والأصلُ: "عَصَوٌ"، و"رَحَيٌ"، لقولك: "عصوان"، و"رحيان". وقد تقدّم الكلام في علّة قلب الواو والياء ألفًا إذا تحرّكتا وانفتح ما قبلهما بما أغنى عن إعادته هنا. وقوله: "إنْ لم يقع بعدهما ساكنٌ"، كأنّه تحرّزٌ من مثل "الغَلَيان"، و"النَزَوان"، و"غَزَوَا"، و"رَمَيَا"، لأنّه لو أُعِلاّ والحالةُ هذه لأَدَّى إلى إسقاط أحدهما، فكان يُلْبِس، وقد تقدّم ذلك أجمعُ. وقوله: "أو لإحداهما إلى صاحبتها كـ"أَغزَيتُ"، و"الغازِي"، و"دُعِيَ"، و"رَضِيَ"،
فصل [جريهما في تحمل حركات الإعراب]
فأمّا أغزيت فأصلها: "أَغزَوْت"، وإنّما قلبوها ياء لوقوعها رابعةً، والواوُ إذا وقعت رابعةً فصاعدًا, قُلبت ياءً، وإنّما قلبوها ياءً حملًا لها على مضارعها في "يُغْزِي". وإنّما قُلبت في المضارع لوقوعها طرفًا بعد مكسور، وكذلك فيما ذُكر من نحو: "الغازى"، و"الداعي"، و"دُعِيَ"، و"رَضِيَ". كلُّ ذلك لوقوعها طرفًا بعد كسرة, لأنّ الطرف ضعيف، يتطرّق إليه التغييرُ مع أنّه بعُرْضيّةِ أنّ يُوقَف عليه، فيسكن، والواوُ متى سكنت وانكسر ما قبلها، قُلبت ياء، نحو: "مِيزانٍ"، و"مِيعادٍ". * * * قال صاحب الكتاب: وكالبقوي والشروي والجباوة أو إسكانًا كيغزو ويرمي وهذا الغازي وراميك. وحذفهما في نحو لا ترم ولا تغز واغز وارم وفي يد ودم. وسلامتهما في نحو الغزو والرمي ويغزوان ويرميان وغزوا ورميا. * * * قال الشارح: أمّا "البَقْوَى" و"الشَّرْوَى"، فقد تقدّم الكلام عليه، وسيوضح أمره فيما بعدُ؛ وأمّا الواو والياء في "الغَزْو" و"الرَّمْي"، فإنّما صحّتا, ولم تُعَلاّ، لأنّه لم يوجد فيهما ما يوجب التغييرَ والإعلال، فبقيت صحيحةً على الأصل. وأمّا "يَغْزُوان"، و"يَرْمِيان"، و"غَزَوَا"، و"رَمَيَا"، فإنّما صحّت الواو والياء لوقوع الألف الساكنة بعدهما، فلو أخذتَ تقلب الواو والياء ألفًا، لاجتمع ألفان، وكان يلزم حذفُ إحداهما أو تحريكُها، فقُلبت همزةً، ويؤدّي إلى تَوالي إعلالَيْن، وذلك مكروه عندهم، أو يُلْبس، ألا ترى أنّك لو قلبتَ الواو في "غَزَوَا" والياء في "رَمَيَا"، ثم حذفتَ إحداهما، لالتبس التثنيةُ بالواحد مع أنّ في "يغزوان" و"يرميان" قبل الواو مضمومٌ، وقبل الياء مكسورٌ، ولا يلزم من ذلك قلبُهما ألفًا، فأُقرّا لذلك على حالهما. فصل [جريهما في تحمل حركات الإعراب] قال صاحب الكتاب: وتجريان في تحمل حركات الإعراب مجرى الحروف الصحاح إذا سكن ما قبلهما في نحو دلو وظبي وعدو وعدي وواو وزاي وآي. وإذا تحرك ما قبلهما لم تتحملا إلا النصب نحو لن يغزو ولن يرمي وأريد أن تستقي وتستدعي ورأيت الرامي والعمى والمضوضي. * * * قال الشارح: إنما أجروهما مجرى الحروف الصِحاح من قبل أنّ أصل الاعتلال فيهما إنما هو شَبَههما بالألف، وإنّما تكونان كذلك إذا سكنتا، وكان قبل الياء كسرةٌ،
وقبل الواو ضمّةٌ، فتصيران كالألف لسكونهما، وكونِ ما قبل كلّ واحدة منهما حركةً من جنسهما، كما أنّ الألف كذلك، فهي ساكنة، وقبلها فتحةٌ، والفتحةُ من جنس الألف، فإذا سكن ما قبلهما، خرجتا من شَبَه الألف, لأنّ الألف لا يكون ما قبلها إلّا مفتوحًا، فلذلك يقولون: "ظَبْيٌ"، و"عزْوٌ". ومثلُ ذلك "عَدُوٌّ"، و"عَدِيٌّ" من جهةِ أنّ الحرف المشدّد أبدًا حرفان من جنس واحد، الأوَّلُ منهما ساكنٌ، فالواو الأولى والياء الأولى ساكنتان فيهما بمنزلة الباء من "ظَبْيٍ" والحاء من "نَحْيٍ". وكذلك "واوٌ"، و"زايٌ" و"آيٌ" الواو والياء في هذه الكِلَم صحيحةٌ غيرُ معتلّة, لأنّ الواو والياء إذا وقعتا طرفًا، فإنّهما لا تعتلاّن إلّا إذا وقعتا بعد ألف زائدة، نحو: "كِساءٍ"، و"رِداءٍ"؛ فأمّا إذا وقعتا بعد ألف منقلبة عن حرف أصلي، فإنّهما لا تعتلاّن، لئلّا يتوالى في الكلمة إعلالان: إعلالُ العين واللامِ. فأمّا الألف في "وَاوٍ"، فذهب أبو الحسن إلى أنّها منقلبة من واو. واستدلّ على ذلك بتفخيم العرب إيّاها، وأنه لم يُسمع فيها الإمالةُ، فقضي لذلك أنّها من الواو، وجعل حروفَ الكلمة كلها واواتٍ. وذهب غيره إلى أنّ الألف فيها منقلبة من ياء، واحتجّ بأنّه إن جعلها من الواو، كانت الفاء والعين والسلام كلُّها لفظًا واحدًا. قال: وهذا غيرُ موجود، فعدل إلى القضاء بأنّها من ياء. والوجهُ الأوّل، وذلك أنّ انقلاب العين عن الواو أكثرُ من انقلابها عن الياء، والعملُ إنّما هو على الأكثر، وبذلك وصّى سيبويه. وأمّا "زاي"، فللعرب فيها مذهبان، منهم من يجعلها ثُلاثيةً، ويقول: "زاي"، ومنهم من يجعلها ثُنائيةً، ويقول: "زَيْ". فمَن جعلها ثلاثية، فينبغي أنّ يكون ألفها منقلبة عن واو، ويكون لامها ياء، فهو من لفظ "زَوَيتُ"، إلّا أنّ عينه اعتلّت، وسلمت لامُه. والقياسُ أن يعتلّ اللام، ويصح العين، كقولك: "هَوَى"، و"نَوًى"، و"شَوَى"، و"لَوَى"، لكنه أُلحق بباب "ثايَةٍ" و"غايَةٍ" في الشذوذ. والثايةُ. مأوى الإبل والغنم. والغايةُ: مَدَى الشيء، والعَلَمُ أيضًا، فهذه متى جُعلت اسمًا للحرف، أُعربت، فقلتَ: "هذه زايٌ حسنة"، و"كتبتُ زايًا حسنةً"، فإن هذه الألف ملحقة في الإعلال بـ "ثاي"، و"غاي"، وألفُه منقلبة عن واو على ما تقدّم. وإذا كانت حرفَ هِجاء، فألفُه غير منقلبة, لأنه ما دام حرفًا، فهو غير متصرّف، وألفُه غيرُ مقضيّ عليها بالانقلاب؛ وأمّا من قال: "زَي" وأجراها مجرى "كَيْ"، فإنّه إذا سمّى بها، زاد عليها ياءً ثانيةً، وقال: "هذا زَيٌّ"، كما أنه إذا سمي بـ "كَيْ" زاد عليها ياءً أخرى، وقال: "هذا كَيٌّ"، و"رأيت كَيًّا". وأمّا من قال: "زاء" فهمز، فهو ضعيف، وهي لغة قليلة جدًّا، ووجهُها أنّه يَشبّه هاهنا الألف بالزائدة إذ لم تكن منقلبة.
وأمّا "آيٌ"، فهو جمعُ "آيةٍ" على حدّ "تَمْرَةٍ" و"تَمْرٍ"، ولم يُعِلّوا الياء، وإن وقعت طرفًا بعد ألف, لأنّ الألف عينُ الكلمة، وهي منقلبة عن ياء، فلو أعلّوها لَوالَوْا على الكلمة إعلالَيْن، وذلك مكروه عندهم. ووزنُ "آيَةٍ": "فَعَلَةُ" كـ"شَجَرَةٍ"، فقلبوا العين ألفًا لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، وذهب آخرون إلى أنّها "فَعْلَةُ" بسكون العين، فقلبوا الياء الأولى ألفًا لانفتاح ما قبلها على حدّ قولهم في "طَيِّىء": "طائِيٌّ"، وفي النسب إلى "الحِيرة": "حارِيٌّ". حكى ذلك سيبويه (¬1) عن غير الخليل، وهو مذهب الفراء، كأنّه نظر إلى كثرة "فَعْلَةَ"، فحمل على الأكثر. وإنّما قلبوا الياء ألفا مع سكونها لاجتماع اليائيْن، لأنّهما تُكْرَهان كما تُكْرَه الواوان، فأبدلوا من الأولى الألفَ، كما قالوا: "الحَيَوان"، وكما قالوا: "أَواصِلُ" في جمع "واصلةٍ"، والوجهُ الأول أنّه على "فَعَلَة". وقوله: "إذا تحرّك ما قبلهما" يريد بالحركة التي يسوغ أنّ يُحرَّك بها، وذلك بأن يكون قبل الواو ضمّةٌ، وذلك إنّما يكون في الأفعال، نحو: "يَغزُو"، و"يَدْعُو"، ولا يكون مثلُه في الأسماء، ويكون قبل الياء كسرة، وذلك يقع في الأسماء والأفعال، فالأسماء نحو: "القاضي"، و"الرامي"، والأفعالُ نحو: "يَرْمِي"، و"يَسْقِي"، وذلك أنّه إذا انفتح ما قبلهما قُلبتا ألفَيْن، نحو: "عَصًا"، و"رَحًى". وإذا انضمّ ما قبل الياء، انقلبت واوًا على حد "مُوسِرٍ"، و"مُوقِنٍ". وإذا انكسر ما قبل الواو قُلبت ياءً. ولا يقع قبل الواو إلّا الضمّة، ولا يقع قبل الياء إلّا الكسرةُ، فإذا كانت الواو والياء على الشرط المذكور، لم تتحمّلا من حركات الإعراب إلّا الفتحَ لخفّة الفتحة، وتسكنان في موضع الرفع، وذلك استثقالًا للضمّة عليهما، فتقول: "هو يَغزُو ويَرْمِي"، و"لن يَغْزُوَ"، و"لن يَرْمِيَ"، فتُثبِت الفتحةَ، لخقتها، وتُسقِط الضمّةَ لثقلها. وتقول في الاسم: "هذا الرامي، والعَمِي، والمُضَوْضِي": وإنّما حذفوا الضمّة لثقلها على الياء المكسورِ ما قبلها. وتقول في النصب: "رأيت الرامِيَ، والعَمِيَ والمُضَوْضِيَ" بالنصب. وقد تقدّم الكلام على ذلك، وإنّما كُرّر الكلام على حسبِ ما اقتضاه الشرحُ. * * * قال صاحب الكتاب: وقد جاء الإسكان في قوله [من الطويل]: 1345 - [فما سوَّدتني عامرٌ عن وراثةٍ] ... أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ¬
وقول الأعشى [من الطويل]: 1346 - فآليت لا أرثي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تلاقي محمَّدا وقوله [من البسيط]: 1347 - يا دار هند عفت إلا أثافيها ... [بين الطويِّ فصاراتٍ فواديها] ¬
وفي المثل أعط القوس باريها (¬1). وهما في حال الرفع ساكنان, وقد شذ التحريك في قوله [من البسيط]: 1348 - [تكاد تذهب بالدنيا وبهجتها] ... موالي ككباش العوس سحاح ¬
ولا يقع في المجرور إلا الياء لأنه ليس في الأسماء المتمكنة ما آخره واو قبلها حركة. وحكم الياء في الجر حكمهما في الرفع. وقد روي لجرير [من الطويل]: 1349 - فيوماً يجازين الهوى غير ماضي ... ويوماً ترى منهن غولا تغوَّلُ وقال ابن قيس الرُقيات [من المنسرح]: 1350 - لا بارك الله في الغواني هل ... يصبحن إلا لهن مطَّلبُ ¬
وقال الآخر [من الكامل]: 1351 - ما إن رأيت ولا أرى في مُدَّتي ... كجواريٍ يلعبن في الصحراء * * * قال الشارح: اعلم أنّ من العرب من يُشبِّه الياء والواو بالألف لقُرْبهما منها، فيسكِنهما في حال النصب، ويستوي لفظُ المرفوع والمنصوب، فمن ذلك ما أنشده، وهو قوله [من الطويل]: أبى الله أنّ أسمو بأمّ ولا أب (¬1) وأوّله: وما لِيَ أُمٌّ غيرها إنْ تَرَكْتُها ¬
البيت لعامر بن الطُّفَيل، وقبله [من الطويل]: وإنّي وإنْ كنتُ ابنَ سَيِّدِ عامِرٍ ... وفارِسَها المشهورَ في كلّ مَوْكِبِ فما سَوَّدَتني عامِرٌ عن وِراثةٍ ... أبى الله أنّ أسمو بأمّ ولا أب هكذا رُوي أيضًا. الشاهد فيه إسكانُ الواو في "أَسْمُو"، وهو منصوب بـ "أَنْ". فمنهم من يجعل ذلك لغةً، ومنهم من يجعله ضرورةً. قال المبرد: إنّه من الضرورات المستحسَنة. ومن ذلك قول الأعشى [من الطويل]: فآليت لا أرثي (¬1) ... إلخ الشاهد فيه إسكانُ الياء في "تلاقِي"، وهو منصوب بـ "حَتَّى"، ويجوز أن يُخاطِب الناقةَ، وتكون التاء لخطابها لا للغيبة، وهو جائزٌ للخرِوج إلى الخطاب بعد الغيبة؛ نحو قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} (¬2) بعد قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (¬3). ويروى: "حتّى تَزُورَ"، ولا شاهدَ فيه على ذلك. المعنى أنّه لا يرِقّ لها من الإعياء والكَلالِ، فيرفُق بها حتّى تصل إلى محمّد - صلى الله عليه وسلم -. وكان الأعشى أتى مكّةَ بعد ظهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكان قد سمع بخبره في الكتب، فأتاه وهو ضريرٌ، فأنشده هذه القصيدةَ، وأوّلُها [من الطويل]: أَلَم تَغتَمِضْ عَيْناكَ لَيلَةَ أَرْمَدَا ... وبِتَّ كما باتَ السَّلِيمُ مُسَهَّدا وقد جاء ذلك في الأسماء. قال الشاعر [من البسيط]: يا دار هند عفت إلا أثافِيها (¬4) البيتَ، والشاهدُ فيه إسكانُ "أثافِيها" وهو منصوب, لأنه استثناء من موجَب ضرورة، ويجوز أنّ يكون "أثافيها" مرفوعًا من قبيل العمل على المعنى، كأنّه قال: "لم يبق إلّا أثافيها". ونظيرُه قوله [من الطويل]: [وعضَّ زمان يا ابن مروانَ] لم يَدَعْ ... من المال إلّا مُسْحَتًا أو مُجَلَّفُ (¬5) كأنّه قال: بقي مجلّفُ. يصف دارًا عفت، ودرست، ولم يبق من آثارها إلا الأثافي، وهي مَواقدُ النار، الواحدُ "أُثْفِيَّةٌ". قال الأخفش: "أثافٍ" لم يُسمع من العرب بالتثقيل، وقال الكسائي: سُمع فيها التثقيل، وأنشد [من الطويل]: 1352 - أَثافِيَّ سُفْعًا في مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ ... [ونُؤْيًاكجِذْمِ الحوض لم يَتَثلّم] ¬
و"الأثُفِيَّةُ": "فُعْلِيَّةُ" عند من قال: "أَثّفْت القِدْرَ"، ومن قال: "ثَفَّيْتها" فهو أُفْعُولَةُ، نحو: "أُمْنِيَّةٍ"، و"أَمانِيَّ"، وقد قُرىء {إِلَّا أَمَانِيَّ} (¬1)، و {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ} (¬2) الياء في كلّه خفيفة، ومن ذلك قول الراجز: 1353 - سَوَّى مَساحِيهِنَّ تَقْطِيطَ الحُقَقْ ... تَقلِيلُ ما قارَعْنَ من سُمْرِ الطُّرَقْ ¬
يريد مساحِيَهنّ، فأسكن، ومن ذلك [من الوافر]: كَفَى بالنَّأْيِ مِن أَسْماءَ كافِي ... وليس لحُبِّها إذ طالَ شافِي (¬1) ومن ذلك المثلُ: "أعط القوس بارِيها" (¬2) وهذا الإسكان في الياء لقربها من الألف، والواوُ محمولة عليها، وقوم من العرب يُجرون هذه الياء مجرى الصحيح، ويحرّكونها بحركات الإعراب، فتقول: "هذا قاضِىٌ"، و"رأيت قاضِيًا"، و"مررت بقاضِى"، ومن ذلك قول الشاعر [من البسيط]: مواليٌ ككباش العوس سُحّاحُ (¬3) الشاهد فيه رفعُ "موالِيٌ" ضرورةً، والعُوسُ: ضربٌ من الغنم، يقال: "كَبْشٌ عُوسِيٌّ". وقيل: العُوس موضعٌ يُنسب إليه الكباش، وسُحّاحٌ بالحاء غير المعجمة: سِمانٌ. يقال: "شاةٌ شُحّاحٌ" كأنّها تسُحّ الوَدَكَ أي تصُبّه. ومن ذلك قول الآخر [من الكامل]: ما إن رأيت ... إلخ فبعضهم يجعل ذلك ضرورةً. وعلى هذا يكون قد جمع بين ضرورتَيْن: إحداهما أنّه قد كسر الياء في حال الجرّ، والثانية أنّه صرف. وقد ينشَد هذا البيت بالهمزة. ولا يقع في المجرور إلّا الياء, لأنّ الجرّ إنّما يكون في الأسماء المتمكنة، وليس في الأسماء المتمكّنة ما آخِرُه واو قبلها حركةٌ, لأنّ الحركة إن كانت فتحة، صيّرتْها ألفًا كـ"عَصًى"، و"رَحًى". وإن كانت كسرة، قلبتها ياءً كـ"الداعِي"، و"الغازي"، وليس في الأسماء اسمٌ آخِرُه واو قبلها ضمّة، إنّما ذلك في الأفعال؛ نحو: "يَغْزُو"، و"يَدْعُو". وسيوضح أمرُ ذلك، وعلّتُه فيما بعدُ، وقد رُوي لجرير [من الطويل]: فيومًا يجازين ... إلخ وذلك على لغة من يقول: "هذا قاضِيٌ"، و"رأيت قاضِيًا"، و"مررت بقاضِيٍ"، و"هو يَمْضِيُ، ويَغزُوُ"، فاعرفه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: وتسقطان في الجزم سقوط الحركة, وقد ثبتتا في قوله [من البسيط]: 1345 - هجوت زبان ثم جئت معتذراً ... من هجو زبان لم تهجو ولم تدع وقوله [من الوافر]: ألم يأتيك والأنباء تنمى ... بما لاقت لبون بني زياد (¬1) وفي بعض الروايات عن ابن كثير أنه قرأ: {من يتقي ويصبر} (¬2). وأما الألف فتثبت ساكنة أبداً إلا في حال الجزم, فإنها تسقط سقوطهما, نحو: "لم يخش", و"لم يدع", وقد أثبتها من قال [من الطويل]: كأن لم ترى قبلي أسيراً يمانياً (¬3) ¬
ونحوه [من الكامل]: 1355 - ما أنس لا أنساه آخر عيشتي ... ما لاح بالمعزاء ريع سراب ومنه [من الرجز]: 1356 - [إذا العجوز غضبت فطلِّقِ] ... ولا ترضاها ولا تملق * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ الواو والياء تسقطان في الجزم، لأنّهما قد نزلتا منزلةَ الضمّة من حيث كان سكونهما علامةً للرفع، فحذفوهما للجزم كما تحذف الضمّة. وقد تقدّم الكلام على ذلك مستوفًا، وربما أثبتوهما في موضع الجزم. من ذلك قوله [من البسيط]: هجوت زبّان ... إلخ وقولُ الآخر [من الوافر]: ألم يأتيك ... إلخ ووجهُ ذلك أنّه قدّر في الرفع ضمّةً منويّةً، فحذفها، وأسكن الواو كما يفعل في الصحيح، وهو في الياء أسهلُ منه في الواو, لأنّ الواو المضمومة أثقلُ من الياء المضمومة. فأمّا البيت الأول، فإنّه يقول: لم تَهْجُ لأنّك اعتذرتَ، ولم تترك الهَجْوَ، لأنّك هجوت. وبعد البيت الثاني [من الوافر]: ومَحْبَسُها على القُرَشِيِّ تُشْرَى ... بأذراعٍ وأَسْيافٍ حِدادِ يقول: ألم يأتِك نَبَأُ لبونِ بني زياد. ودلّ عليه قوله: والأنباء تنمي. ويحتمل أن تكون الباء مزيدة مع الفاعل على حد {وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} (¬1). وحسن زيادةُ الباء إذ كان المعنى: ألم تسمع بما لاقت. وبنو زياد الرَبيع بن زياد العَبْسيّ وإخوتُه، وهم الكَمَلَةُ أولادُ فاطمةَ بنت الخُرْشُب. والشعرُ لقيس بن زُهَير. وسببُ هذا الشعر أنّ الربيع طلب من قيس دِرْعًا، وبينما هو يخاطبه، والدرعُ مع قيس إذ أخذها الربيعُ، وذهب، فلقي قيسٌ أُمَّ الربيع فاطمةَ، فأسرها لِيرتهنَها على ردّ الدرع، فقالت له: يا قيس، أين عزب عنك عقلُك، أتُرَى بني زياد مُصالِحيك، وقد أخذتَ أُمَّهم، فذهبتَ بها، وقد قال الناس ما قالوا، فخَلَّى عنها، ¬
وأخذ إبلَ الربيع، وساقها إلى مكّةَ، فاشترى بها من عبد الله بن جُدْعانَ سلاحًا. وعنى باللبون هنا جماعةَ النوق التي لها لبنٌ. ومن ذلك قراءة ابن كَثِير: {مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ} (¬1) على جزم الضمّة المقدّرة في "يتقي"، وأثبت الياء ساكنةً، ويجوز أن تكون "مَنْ" هنا موصولة لا شرطًا، و"يتقي" مرفوع لأنه الصلة، و"يصبرْ" عطفٌ عليه إلّا أنّه جزمه, لأنّ "مَنْ" وإن كانت بمعنَى "الّذي"، ففيها معنى الشرط، ولذلك تدخل الفاء في خبرها إذا كان صلتها فعلاً، فعطف على المعنى، فجزم كما قال تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} (¬2)، لأنّه بمعنَى: أَخِّرْني أصّدّقْ، وأكن. وبعضهم يجعل الواو في "يَهْجو" إشباعًا حدث عن الضمّة قبلها، والياء في "ألم يَأْتِيكَ" إشباعًا حدث عن الكسرة، فعلى هذا يكون وزنُ "يهجو"، و"يأتيك" هنا "يَفْعُو"، و"يَفعِيكَ"، وقد انحذفت اللام للجزم، وذلك على حدّ [من البسيط]: 1357 - [تنفي يداها الحصى في كل هاجرةٍ ... نفي الدنانير] تَنْقادُ الصَياريف ¬
ونحو قوله [من البسيط]: [اللهُ يَعْلَمُ أَنّا في تَلَفُّتِنا ... يومَ الفِراقِ إلى أحْبابِنا صورُ 1358 - وأنني حيثما يُدُني الهوى بَصَري ... من حيثما سلكوا] أَدْنُو فأنظورُ وقد شبّه بعضهم الألفَ بالياء في موضع الجزم، كما شبّهوا الياء بالألف حين ¬
فصل [جمع ما آخره واو]
أُسكنت في موضع النصب، من ذلك ما أنشده أبو زيد [من الرجز]: إذا العَجُوزُ غَضِبَتْ فطَلِّقِ ... ولاتَرَضّاها ولا تَمَلَّقِ (¬1) ومن ذلك قول عبد يَغُوثَ [من الطويل]: وتَضحَكُ مِنِّي شَيخَةٌ عَبشَمِيّةٌ ... كأنّ لم تَرَى قبلي أَسِيرًا يَمانِيا (¬2) ومثله [من الطويل]: ما أنس لا أنساه ... إلخ ومنهم من يقدّر الحركة في الألف في موضع النصب والرفع، فحذفها للجزم، وفيه بُعْدٌ, لأنّ الألف لا يمكن حركتُها, ولكن على التشبيه بالياء، وقد ذهب ابن جِني في: كأن لم ترى قبلي إلى أنّه قد جاء مخفّفًا على "كأن لم تَرْءَ"، ثمّ إنّ الراء لما جاورت الهمزةَ، وهي متحرّكةٌ، صارت الحركة كأنّها في التقدير قبل الهمزة، واللفظُ بها: "كأن لم تَرَأْ"، ثمّ أُبدلت الهمزة ألفًا لسكونها وانفتاح ما قبلها على حد "راسٍ"، و"فَاسٍ"، فصارت "تَرَى". فالألفُ على هذا التقدير بدلٌ من الهمزة التي هي عينُ الفعل، واللامُ محذوفة للجزم على مذهب التخفيف. وعلى القول الأول هي لام الكلمة والعينُ التي هي الهمزة محذوفة، و"ما" في البيت الآخر للمجازاة، وهي جازمة، و"لا أنساه" الجوابُ، وأثبت الألف لما ذكرناه. والرَّيْعُ بالفتح: الفضل والزيادة، فاعرفه. فصل [جمع ما آخره واو] قال صاحب الكتاب: ولرفضهم في الأسماء المتمكنة أن تتطرف الواو بعد متحرك قالوا في جمع دلو وحقو على أفعُل، وجمع عرقوة وقلنسوة في حد تمرة، وتمرٍ: أدلٍ وأحقٍ وعرقٍ وقلنسٍ، قال [من الرجز]: 1359 - لا صبر حتى تلحقي بعنس ... أهل الرباط البيض والقلنسي ¬
فأبدلو من الضمة الواقعة قبل الواو كسرة لتنقلب ياء مثلها في ميزان وميقات وقالوا: قلنسوة وقمحدوة وأفعوانٌ وعنفوانٌ حيث لم تتطرف, ونظير ذلك الإعلال في نحو الكساء والرداء, وتركه في نحو النهاية والعظاية والصلاية والشقاوة والأبوة والأخوة والثنايين والمذروين. وسأل سيبويه (¬1) الخليل عن قولهم: "صلاءة" و"عباءة" فقال: إنما جاؤوا بالواحد على قولهم صلاء وعظاء وعباء؛ وأما من قال صلاية وعباية فإنه لم يجيء بالواحد على الصَّلاء والعباء كما أنه إذا قال "خُصيانِ" لم يثنه على الواحد المستعمل في الكلام. * * * قال الشارح: قد تقدّم القول: إِنه ليس في الأسماء المتمكنة اسمٌ آخِرُه واوٌ قبلها ضمّة، فإذا أدّى قياسٌ إلى مثل ذلك رُفض، وعُدل إلى بناءٍ غيره، وذلك إذا جمعتَ نحو: "دَلْوٍ"، و"حَقْوٍ" على "أَفْعُلٍ" للقلّة على حدّ "كَلْبٍ"، و"أَكْلُبٍ"، فالقياسُ أنّ يقال: "أَدلُوٌ"، و"أحقوٌ"، إلّا أنّهم كرهوا مَصيرهم إلى بناء لا نظيرَ لهَ في الأسماء المعربة، فأبدلوا من الضمة كسرةً، ومن الواو ياءً، فيقولون: "أَدْلٍ"، و"أَحْقٍ"، فيصير من قبيل المنقوص، نحو: "قاضٍ"، و"داعٍ"، إن لو جروا فيه على مقتضى القياس، لصاروا إلى ما لا نظير له في الأسماء الظاهرة، وكذلك لو جمعتَ نحو: "عَرْقُوَةٍ", و"قَلَنْسُوَةٍ" بإسقاط التاء على حدّ "تَمْرة" و"تَمْر"، لوقعت الواوُ حرفَ إعراب، فجرى عليها ما جرى على واو "دلو" بأن أبدلوا من الضمّة كسرة، ومن الواو ياءً، فصار "عرقٍ" ¬
و"قلنسٍ"، ومنه قول الشاعر، أنشده الأصمعي عن عيسى بن عمر [من الرجز]: لا صبر حتى تلحقي ... إلخ فعَنْسٌ: قبيلة من اليمن، والرِّياط: جمع رَيْطة، وهي المُلاءة إذا كانت قطعة واحدة، ولم تكن لِفقَيْن، وقال الآخر [من الرجز]: 1360 - حتّى تفَضِّى عَرْقِىَ الدُّلِيِّ فأبدل من ضمّة القاف كسرةً، وجعلوا ذلك طريقًا إلى إبدال الواو ياءً, لأنّ الواو إذا سكنت وانكسر ما قبلها، فإنّها تُقلب ياءً على حد "مِيزان"، و"مِيعاد". واعلم أنّ نحو: "عرق" و"قلنس" قليلٌ, لأنّ هذا الجمع بإسقاط تاء التأنيث إنما يكون في الخَلْق من نحو: "تَمْرة"، و"تَمْر"، و"قَمْحة"، و"قَمح"؛ فأمّا ما كان مصنوعًا، فهو قليل لم يأت منه إلّا اليسيرُ، نحو: "سَفِينة"، و"سَفِين". وقالوا: "قلنسوة"، و"قمحدوة"، و"عنفوان"، و"أُفعوان"، فساغ ذلك, لأنّ الواو لم تقع طرفًا حرفَ إعراب، والمكروهُ وقوعُ الواو طرفًا لِما يلزم حرفَ الإعراب من التغيير والكسرِ، فإذا صارت حشوًا صحّت, لأنّها قد أمنت أن تُكْسَر، أو يأتي بعدها الياء. قال: ونظير ذلك "الشَّقاوة"، و"الإداوة"، و"النهاية" و"النِّكاية"، لولا الهاء، لوجب قلبُ الواو والياء همزةً كما تقلب في "رِداء"، و"كِساء" إذ قد قويت حيث لم تكن طرفًا حرفَ إعراب. وكذلك "أبوّة"، و"أخوّة" لا يَقلب الواوَ في هما ياء من يقول: "عُتِيٌّ"، و"مَشِيٌّ"، فـ "الأبوّة" و"الأخوّة" مصدران جاء على "فُعُولَةَ" بمنزلة "الحُكومة" و"الخُصومة"، فإن قيل: فقد قالوا: "أرضٌ مَسْنُوّةٌ ومَسْنِية", و"عِيشَةٌ مَرْضِيّةٌ" فقلبوا الواو ياء مع أنّ بعدها هاءً، فهلّا قالوا على هذا: "أُبُوَّةٌ"، و"أُبِيَّةٌ"، و"أُخُوَّةٌ"، و"أُخِيَّةٌ"، قيل له: الهاء في "مسنيّة"، و"مرضيّة" إنّما دخلت للتأنيث بعد أن لزم المذكّرَ القلبُ، فبقي ¬
فصل ["فعول" الجمع المعتل الآخر]
بعد مجيء الهاء بحاله، و"أبوّة"، و"أخوّة" لم يلحقهما الهاء بعد أن كان يقال في المذكّر: "أُبِيٌّ"، و"أُخِيٌّ" وإنّما الهاء لازمة لهما في أوّل أحوال بنائهما على هذه الصيغة، فهو بمنزلةِ "عقلتُه بثِنايَيْن ومِذْرَوَيْن" في كونهما بُنيا على التثنية، ولم يريدوا تثنيةَ "ثِناء" ولا "مِذرى"، وكـ"الشقاوة" و"العناية" في كونهما بُنيا على التأنيث. قال سيبويه: وسألت الخليل عن "عظاءة" و"صلاءة" و"عباءة"، فقال: جاؤوا بها على "العَظاء" و"العَباء" و"الصَّلاء" كما قالوا "مسنِيّة" و"مرضِيّة"، فجاؤوا بهما على "مسنيّ" و"مرضيّ"، يريد أتى "العباء" و"الصلاء" ونحوهما إنّما هُمزت وإن كانت الياء حرفَ الإعراب، فلم تجر مجرى "النهاية" و"الإداوة", لأنّ الهاء لحقت "العباء" و"الصلاء" بعد أن وجب فيهما الهمزُ؛ لأنّ الإعراب جرى على الياء التي الهمزةُ بدلٌ منها، ثمّ دخلت الهاء بعد ذلك، فجرت مجرى الهاء في "مسنيّة"، و"مرضيّة" التي لحقت ما جاز قلبُه قبل دخول الهاء، فإذَا من قال: "عظاءة" و"عباءة"، فإنّما ألحق تاء التأنيث بعد قولهم: "عظاء" و"عباء"، ومن قال: "عظاية" و"عباية" من غير همز، فإنّه يبنى الكِلَم على التأنيث، ولم يجىء بها على "العظاء" و"العباء"، كما أنّه إذا قال: "خُصْيانِ" لم يُثنِّه على "خُصْية" المستعمل، ألا ترى أنّه لو بناه على واحده، لقال: "خصيتان" وإنّما جاء به على "خُصْي" وإن لم يُستعمل. فصل ["فُعول" الجمع المعتلّ الآخر] قال صاحب الكتاب: وقالوا عتىٌّ وجثى وعصى ففعلوا بالواو المتطرفة بعد الضمة في فُعولٍ مع حجز المدة بينهما ما فعلوا بها في أدل وقلنس كما فعلوا في الكساء نحو فعلهم في العصا, وهذا الصنيع مستمر فيما كان جمعاً إلا ما شذ من قول بعضهم: "إنك لتنظر في نحو كثيرة" ولم يستمر فيما ليس بجمع قالوا "عُتُوٌّ", و"مغزو". وقد قالوا: "عُتيٌّ و"مَغْزِىّ". قال [من الطويل]: وقد علمت عرسي مليكة أنني ... أنا الليث معدياً عليه وعاديا (¬1) وقالوا: "أرض مسنية ومرضيٌّ، وقالوا مرضوٌّ على القياس. قال سيبويه (¬2): والوجه في هذا النحو الواو, والأخرى عربية كثيرةٌ, والوجه في الجمع الياء. * * * قال الشارح: اعلم أنّ كلّ جمع كان على "فُعُولٍ"، فإنّ الواو تقلب ياءً تخفيفًا، ¬
وإنّما قلبوها ياء لأمرَيْن: أحدهما كون الكلمة جمعًا، والجمعُ مستثقل، والثاني أنّ الواو الأولى مدّة زائدة، ولم يُعتدّ بها حاجزًا، فصارت الواو التي هي لام الكلمة، كأنّها وليت الضمّةَ، وصارت في التقدير "عُصُوٌ"، ففلبت الواو ياء على حدّ قلبها في "أحْقٍ" و"أَدْلٍ"، ثمّ اجتمعت هذه الياء المنقلبة مع "الواو"، فقُلبت الواو ياء على حدّ قلبها في "سَيِّد"، و"مَيِّت"، وكسروا العين في نحو: "عُصِيٍّ"، كما كسروها في "أَدْلٍ" و"أَحْقٍ"، ثُمّ منهم من يُتبع ضمّة الفاء العينَ، فيكسرها ويقول: "عِصِيٌّ" بكسر العين والصاد، ليكون العملُ من وجه واحد، ومنهم يُبْقِيها على حالها مضمومةٌ، فيقول: "عُصِيٍّ" بضمّ الفاء. ومثل ذلك "كِساء" و"رِداء"، لمّا كانت الألف زائدة للمدّ، لم يُعتدّ بها، وقلبوا الواو والياء ألفًا لتحرّكهما وانفتاح ما قبلهما على حد قلبهما في "عَصًا" و"رَحًى"، ثمّ قلبوهما همزتَيْن لاجتماعهما مع الألف الزائدة قبلها، فقالوا: "كِساءٌ"، و"رِداءٌ"، وهذا معنى قوله: "ففعلوا بالواو المتطرّفة بعد الضمّة في "فُعُول" مع حجز المدّة بينهما ما فعلوا بها في أدلٍ وقلنسٍ"، يعني أنّهم نزّلوا الواو الحاجزة منزلةَ المعدومة لزيادتها وسكونها، فأعلّوا الواو بعدها للضمة قبلها، كما فعلوا ذلك إذا لم يكن حاجزٌ، نحوَ: "أَدْلٍ" وهذا الصنيعُ ها هنا نحوٌ من صنيعهم في "كِساء" حيث نزّلوا الألف الزائدة منزلةَ المعدومة، ثتم قلبوا الواو ألفًا كما لو لم يكن ثمّ حاجزٌ، نحو: "عَصًا"، و"رَحًى" ولو صار نحو: "عصوّ" اسمًا واحدًا غيرَ جمع، لم يجب القلبُ لخفّة الواحد. ألا تراك تقول: "مَغزُوّ"، و"عُتُوّ" مصدر "عَتَا يَعْتُو" من قوله تعالى: {وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} (¬1)، فتُقِرّ الواو هذا هو الوجه، والقلبُ جائز، نحو: "مَدْعِيّ"، و"مَغْزِيّ". فأمّا قوله [من الطويل]: وقد علمت عرسي ... إلخ أنشده أبو عثمان: "مَعْدُوًّا" بالواو على الأصل، ويروى: "معدِيًّا"؛ فأمّا الجمع؛ نحو: "حُقِيٍّ" و"عُصِيٍّ"، فلا يجوز فيه إلّا القلبُ لما ذكرناه إلّا ما شذّ من قولهم: "إنّكم لتنظرون في نُحُوّ كثيرة"، أي: في جهات، وقالوا: "نُحُوٌّ"، و"بُهُوٌّ"، و"أُبُوٌّ"، و"أُخُوٌّ"، فالنُّحُوٌّ: جمِع نَحْو، وهو من السحاب أوَّلُ ما يَنْشَأ، والبُهُوُّ: جمع بَهْوٍ وهو الصدر، وأُبُوٌّ جمع أبٍ، وأُخُوٌّ جمع أَخٍ، وذلك كلّه شاذّ، كأنّه خرج مُنبهًا على الأصل كـ "القَوَد"، و"الحَوَكة". وقالوا: "مَسْنيّة" وهو من "سَنَوْت الأرضَ" أي: سقيتها، وأرضٌ مسنيّةٌ أي مسقيّة. وقالوا: "مَرْضيّ" وهو من "الرِّضْوان"، والوجهُ فيما كان واحدًا الواوُ، والأخرى عربيّةٌ كثيرةٌ، وإنّما جاز القلبُ في الواحد تشبيهًا بـ "أدْلٍ" وإن لم يكن مثله، فلولا السماعُ، لم ¬
فصل [شرط المقلوب بعد الألف للإعلال]
يجز ذلك، مع أنّ الواو قد انقلبت في "رَضِيَ" و"سُنِيَتِ الأرض"، فهذا يقويّ وجهَ القلب، والوجهُ فيما كان جمعًا الياء، فاعرفه. فصل [شرط المقلوب بعد الألف للإعلال] قال صاحب الكتاب: والمقلوب بعد الألف يشترط فيه أن تكون الألف مزيدة مثلها في كساء ورداء. وإن كانت أصلية لم تقلب كقولك: "واوٌ", و"زايٌ", و"آيةٌ", و"ثايةٌ". * * * قال الشارح: يريد أنّ المقلوب من الواو والياء بعد الألف لا تكون الألف فيه إلّا زائدة، وذلك لأمرين: أحدهما: أنّ الحرف إذا كان زائدًا، جاز أن يُقدَّر ساقطًا، فيصير حرفُ العلّة كأنّه قد ولي الفتحةَ، فيُعاملَ في القلب والإعلال معامَلةَ "عَصًا" و"رَحًى"؛ وأمّا إذا كانت أصلاً، فلا يسوغ فيها هذا التقدير. والأمر الثاني: أنّه إذا كانت الألف أصلاً، كانت منقلبة عن غيرها، فإذا أخذتَ تقلب الواو والياء التي هي لام، والَيْتَ بين إعلالين، وذلك إجحافٌ. وقد بالغ أبو عثمان في الاحتياط، فاشترط أن تكون الألف التي تُهْمَز الواوُ والياء معها زائدة ثالثة، فقوله: "ثالثةً" تحرّزٌ من "زايٍ"، و"آيٍ"، وإن كان قوله: "زائدة" كافِيًا في الاحتراز، إلّا أنّه أكّده بقوله: "ثالثةً". وقد تقدّم الكلام على ألِف "واوٍ"، و"زايٍ"، و"ثايةٍ" بما أغني عن إعادته. فصل [قلب الواو المكسور ما قبلها] قال صاحب الكتاب: والواو المكسور ما قبلها مقلوبة لا محالة نحو غازيةٍ ومحنية. وإذا كانوا ممن يقلبها وبينها وبين الكسرة حاجز في نحو قنية وهو ابن عمي دِنْيًا فهم لها بغير حاجز أقلب (¬1). * * * قال الشارح: إنّما قلبوا الواو والياء في نحو: "غازِية" و"محنِية" لانكسار ما قبلها، وهي مع ذلك لامٌ، واللامُ ضعيفة لتطرُّفها، وإذا كانوا قد قلبوا العين في مثل: "ثَوْرٍ"، و"ثِيَرَةٍ"، و"القِيامِ"، و"الثِّياب" مع أنّها عين، والعين أقوى من اللام، كان قلبُ اللام التي هي أضعف للكسرة قبلها أولى، مع أنّهم قد قالوا: "قِنْيَةٌ"، و"صِبْيَةٌ"، و"هو ابن عمي دِنْيًا"، فقلبوا اللام التي هي واو مع الحاجز للكسرة، فَلأنْ يقلبوها مع غير حاجز أَوْلى، ¬
فصل [الإعلال في "فعلي" و"فعلي"]
فـ"القِنْيَةُ": من الواو لقولهم: "قَنَوْت"، وقالوا فيها: "قِنْوَهٌ" أيضًا، و"الصبْيَة" من "صَبَا يصْبُو"، و"الدِّنْيَا" من "الدُّنُوّ"،فاعرفه. فصل [الإعلال في "فَعْلي" و"فُعْلي"] قال صاحب الكتاب: وما كان "فَعْلَي" من الياء قلبت ياؤه واواً في الأسماء كالتقوى والبقوى والرعوى والشروى والعوى لأنها من "عويت" والطَّغوى" لأنها من الطغيان, ولم تقلب في الصفات نحو خزيا وصديا وريَّا. قال الشارح: قد تقدّم الكلام على طرف من هذا الفصل. وجملةُ الأمر أنّ "فَعْلَى" إذا كان اسمًا ولامُه ياءٌ، فإنّهم يُبْدِلون من الياء الواو، ولا يفعلون ذلك في الصفة، كأنّهم أرادوا التفرقة بين الاسم والصفة، وقد اعتمدوا ذلك في مواضعَ، فقالوا في الاسم: "الشروى"، و"التَّقوى"، و"البقوى"، و"الرعوى"، و"العوّى"، و"الطغوى"، فهذه كلّها أسماءٌ، وأصلها الياء، فالشروى: المِثْلُ، يقال: "هذا شروى هذا"، أي: مثله، وهو من "شَرَيْت"، والتقوى: التَقيّةُ والوَرَعُ، يقال: "اتَّقاهُ يَتّقيه اتّقاءً"، و"تَقاهُ يَتْقيه تَقيّةً وتِقاءً وتُقًى". وهو من الياء لقولهم: "وَقَيْت"، و"تَقَيْت"، أي: "انتظرت". والرُّعْوَى: والرُعْيَا من الحفاظ والرعاية، فهو من "رَعَيْت". والعَوَّى: كوكبٌ، يقال: إنّه وركُ الأسد. وذكر أبو عليّ في الشيرازيّات (¬1): زعم أبو إسحاق أنّها سُمّيت بذلك لانعطاف الذي فيها، كأنّها ألفٌ معطوفةُ الذَّنَب. وهو من "عَوَيْتُ الحَبْلَ": إذا فتلتَه. والطغوى: من الطُّغْيان، يقال: "طُغْوانٌ"، و"طُغْيانٌ"، و"طَغْوًى" بمعنى واحد، وهو مجاوزة الحدّ في العِصْيان. ولم يقلبوا في الصفات نحو: "خَزْيَا"، و"صَدْيَا"، و"رَيَّا"، فإن أردت الاسم قلت: "رِوّى". فعلوا ذلك لضرب من التعويض من كثرة دخول الياء على الواو، واختصّوا بذلك اللامَ دون الفاء والعين لضُعْفها وتأخُّرها، والضعيفُ مطموعٌ فيه. فإن قيل: فهلّا كان ذلك في الصفة دون الاسم حيث أرادوا الفرق والتعويض، قيل: الواو مستثقلة، والصفةُ أثقلُ من الاسم إذ كانت في معنى الفعل، فلم تزد ثقلًا بالواو، وحيث كان الاسم أخفَّ عليهم، جعلوه بالواو، ليُعادِل ثقلُ الواو ثقلَ الصفة. * * * قال صاحب الكتاب: ولا يُفْرَق فيما كان من الواو نحو: "دَعْوَى"، و"عَدْوَى"، و"شَهْوَي"، و"نَشْوَى". * * * ¬
قال الشارح: يريد أنّه لا يلزم الفرق بين الاسم والصفة فيما كان من ذوات الواو، كما لزم في ذوات الياء. إنّما ذلك مقصور على ما كان من الياء، فيستوي الاسمُ والصفةُ. وتقول: "دعوى"، و"عدوى" وهي المَعونة، وفي الصفة، "شهوى"، و"نشوى"، فيكون الجميع بالواو، فلا يُغيَّر الاسم. والصفةُ تبقى على حالها كما كانت في "صَدْيَا" و"خَزْيَا" كذلك غيرَ مغيّرة، وإذا كانوا قد قلبوا الياء واوا في "شَرْوَى" و"رَعْوَى" لأنّهما اسمان، فأن يُقِرّوا الواو فيما هي في أصلٌ أجدرُ. * * * قال صاحب الكتاب: و"فُعْلَى" تُقلب واوها ياءً في الاسم دون الصفة، فالاسمُ نحو: "الدُّنْيَا"، و"العُلْيَا"، و"القُصْيَا"، وقد شذّ "القُصْوَى"، و"حُزْوَى"، والصفةُ قولك إذا بنيتَ "فُعْلَى"، من "غَزَوْتُ": "غْزْوَى". * * * قال الشارح: وقد فصلوا هنا بين الاسم والصفة، إلّا أنّ التغيير هنا مخالفٌ للتغيير في "فَعْلَى", لأنّك هنا قلبت واوه ياءً، وفي "فَعْلَى" قُلِبَتْ ياؤه واوًا، وذلك لضرب من التعادل. وقد مثّل الاسمَ بـ "الدنيا"، و"العليا"، و"القصيا"، وهي في الحقيقة صفاتٌ، إلّا أنّها جرت مجرى الأسماء لكثرة استعمالها مجرّدة من الموصوفين، فهي كـ"الأَجْرَع"، و"الأَبْطَح"، ولذلك قالوا في جمعه: "الأباطِح"، و"الأجارع"، كما قالوا: "أَحْمَدُ"، و"أَحامِدُ". وأبدلوا الواو في "فُعْلَى" بضمّ الفاء كما أبدلوها بفتح الفاء، ولم تغيّر الصفة نحو: "غزوى"، كما لم تغير في "فَعْلَى"، نحو: "خَزْيَا". وقد شذّ "القُصْوَى"، وكان القياس "القُصْيَا"، كما قالوا: "الدُّنْيا". ولا يُنْكَر أن يشذّ من هذا شيءٌ, لأنّ أصله الصفةُ، فجاز أن يخرج بعضُ ذلك على الأصل، فيكون مَنْبَهَة على أنّ أصله الصفة. وقد قالوا: "حُزْوَى" في العَلَم، وهو اسم مكان، والأعلامُ قد يكثر فيها الخروجُ على الأصل نحو: "مَكْوَزَةَ"، و"مَحْبَبٍ"، و"حَيْوَةَ"، ونحوها، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: ولا يُفْرَق في "فُعْلَى" من الياء، نحو. "الفُتْيَا"، و"القُضْيَا" في بناءِ "فُعْلَى" من "قضيتُ"؛ وأمّا "فِعْلَى"، فحقُّها أن تَنْساق على الأصل صفةً واسمًا. * * * قال الشارح: أمّا "فُعْلَى" بالضمّ من الياء، فلا يغيّر كما يغيّر "فُعْلَى" من الواو، لأنّهم إذا كانوا قد قلبوا ذوات الواو إلى الياء في نحو: "الدُّنْيَا"، فلأن يُقِرّوا الياء على حالها كان ذلك أحرى، وإذا كانوا قد أقرّوا الواو في "فَعْلَى"، نحو: "الدَّعْوَى"، و"العَدْوَى" على حالها مع ثقل الواو، فأن يُقِرّوا الياء مع خفّتها كان ذلك أجدر؛ وأمّا "فِعْلَى" فلا نعلمهم غيّروه، بل أتوا به على الأصل، والشيء إذا جاء على أصله، فلا علّةَ
فصل [قلب الياء ألفا والهمزة ياء في جمع التكسير الذي بعد ألف تكسيره حرفان]
له، ولا كلامَ أكثرَ من استصحاب الحال؛ وأمّا إذا خرج عن أصله، فيُسْأَل عن العلّة المُوجِبة لذلك، فاعرفه. فصل [قَلْب الياء ألفًا والهمزة ياءً في جمع التكسير الذي بعد ألف تكسيره حرفان] قال صاحب الكتاب: وإذا وقعت بعد ألف الجمع الذي بعده حرفان همزة عارضة في الجمع وياء قلبوا الياء ألفاً والهمزة ياء وذلك قولهم مطايا وركايا والأصل مطائي وركائي على حد صحائف ورسائل، وكذلك شوايا وحوايا في جمع شاوية وحاوية فاعلتين من شويت وحويت، والأصل شواوي وحواوي ثم شوائي وحوائي على حد أوائل ثم شوايا وحوايا. وقد قال بعضهم هداوي في جمع هدية وهو شاذ؛ وأما نحو إداوة وعلاوة وهراوة فقد ألزموا في جمعه الواو بدل الهمزة فقالوا أداوي وعلاوي وهراوي كأنهم أراوا مشاكلة الواحد الجمع في وقوع واو بعد ألف. وإذا لم تكن الهمزة عارضة في الجمع كهمزة جواء وسواء جمع جائية وسائية فاعلتين من جاء وساء لم تقلب. * * * قال الشارح: اعلم انّ "مَطيّة" و"رَكِيّة" وزنُهما فَعِيلَةُ كـ"صحيفة"، و"سفينة"، والأصل: "مَطِيوَة" و"رَكِيوَة"، فالياء زائدة للمدّ كألف "رسالةٍ"، والواو لامُ الكلمة, لأنّه من "مَطَوْت" و"الرَّكْوَةِ". فلمّا اجتمعت الواو والياء، وقد سبق الأوّلُ منهما بالسكون، قلبوا الواو ياءً على حدّ "سَيّد" و"مَيِّت"، فإذا جمعتَهما على الزيادة، كان حكمهما حكمَ الرباعيّ كـ"جَعافِرَ"، و"سلاَهِبَ"، فقلت: "مَطائِيُ"، و"رَكائِيُ"، فهمزتَ الياء فيهما لأنّها مدة لا حظّ لها في الحركة. فلمّا وقعت موقعَ المتحرّك، قُلبت همزةً على حدّ "صَحائِف"، و"رَسائِلَ"، فأبدلوا من الكسرة فتحةً تخفيفًا، كما أبدلوها في "مَدارَى"، و"مَعايَا"؛ لأنْه أخفُّ، ولا يُلْبِس ببناء آخر، فصارا "مَطاءا"، و"رَكاءا". وكذلك لو كانت اللام همزة أصليّة، نحو: "خَطِيئَةٍ" و"رَزِيئَةٍ"، وجمعتَه هذا الجمعَ، لقلت: "خَطايَا" و"رَزايَا" بالياء الخالصة، والأصل: خَطائئ"، و"رزائئ"، فاجتمع همزتان الأولى مكسورةٌ، فقلبوا الثانية ياءً لاجتماع الهمزتين وانكسار الأولى، فأبدلوا من الكسرة فتحةً، فصار: "خطائيُ"، و"رَزائيُ" بالياء الخالصة، فقلبوا الياء ألفًا لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، فصارت "خَطاءا"، و"رَزاءَا" وتقديره: "خَطاعا"، و"رَزاعا"
والهمزةُ قريبة من الألف، فصار كأنّك قد جمعت بين ثلاث ألفات، فأبدلوا من الهمزة ياءً، فصار "خَطايَا"، و"رَزايَا". ولا يعتمدون ذلك إلَّا فيما كانت همزته عارضة في الجمع؛ فأمّا إذا كانت الهمزة موجودة في الواحد عينّا، فإنّها تبقى على أصلها، فتقول في جمع "جائِيَةٍ" اسم فاعل من "جَأَى" عليه "جَأْيًا" أي: عَضَّ، و"شائِيَةٍ" من "شَآه" إذا سبقه: "جَوآءٍ"، و"شَوآءٍ" كما تقول: "غَواشٍ"، و"جَوارٍ"، فرقًا بين ما همزتُه أصليّةٌ ثابتةٌ في الواحد، وبين العارضة. هذا مذهبُ أكثر النحويين؛ فأمّا الخليل فإنّه كان يذهب إلى أنّ "خَطايَا" و"رَزايَا" وما كان نحوهما قد قُلبت لامه التي هي همزة إلى موضع ياء "فَعِيلَةَ"، فكانت في التقدير "خطايئ" بياء قبل الهمزة، ثمّ تقلب إلى "خطاءٍ"، ثمّ أبدل من الكسرة فتحةٌ، وعُمل فيه ما عمله عامّةُ النحويين. والقولُ هو الأوّل؛ لأنّه قد حُكي عنهم: "غفر الله خَطائِئَهُ" بهمزتين. وحكى أبو زيد: "دَرِيئَةٌ"، و"دَرائِىءُ" بهمزتين، كما ذهب إليه الجماعةُ غير الخليل، فقالوا: "شَوايَا"، و"حَوايَا" في جمع "شاوِيَةٍ" و"حاوِيَةٍ"، فالواو فيهما وإن كانت عينًا غيرَ مدّة تقبل الحركة بخلاف ما تقدّم، وذلك أنّك لمّا جمعته، قلبتَ ألفه واوًا على حدّ قلبها في "ضَوارِبَ"، و"قَوائِمَ"، ووقعت ألفُ الجمع بعدها، فاكتنفت الألفَ واوان، إحداهما المنقلبةُ عن الألف، والأخرى عين الجمع، فقُلبت الثانية همزة، لوقوعها بعد ألف زائدة قريبةِ من الطرف على حدّ صنيعهم في "أوائِلَ"، فصار "حَوائيُ"، و"شَوائيُ"، ثمّ أبدلوا من كسرة الهمزة فتحةً، فصار تقديره: "شَواءا"، و"حَواءا"، فأبدلوا من الهمزة ياءً، وقالوا: "شَوايَا"، و"حَوايَا"، فاعرفه. وقالوا: "هَدِيّةٌ"، و"هَداوَى"، و"مَطِيّةٌ"، و"مَطاوَى"، و"شَهِيّةٌ"، و"شَهاوَى" بالواو، وهو شاذّ، والقياسُ الجيّدُ: هَدايَا، ومَطايَا، وشَهايَا. وأمّا "إداوَة"، و"أداوى"، و"عِلاوَة"، و"عَلاوَى"، و"هِراوَة"، و"هَراوَى"، ونحوها ممّا الواو في واحده ظاهرةٌ، نحو: "شَقاوَةٍ"، و"غَباوةٍ"، فإنّك إذا جمعتَه على هذا الحدّ، فإنّك تزيد ألفَ الجمع ثالثة، فتقع الألفُ بعدها التي كانت في الواحد , وهو موضعٌ يُكسر فيه الحرف، فتُقلب حينئذ همزة مكسورة، فتصير في هذه الصورة "أدائو" بمنزلة "أداعِوُ"، فتقلب الواو ياءً لانكسار ما قبلها، فتصير "أَدائيُ"، ثمّ عُمل فيها ما عُمل في "خطائيُ" من تغيير الحركة والقلب. ثمّ إنّهم راعوا في الجمع حكمَ الواحد، فأرادوا أن يظهر الواو في التكسير كما كانت ظَاهرة في الواحد، فلم يُمْكِنهم ذلك، فأبدلوا من الهمزة الواو، فإذا ليست هذه الواو الواوَ التي كانت في الواحد، إنّما هي بدلٌ من الهمزة المبدلة من ألِف "إداوَة"، والألفُ بدلٌ من ياءٍ هي مبدلة من واوِ "إداوة". ووزنُ "أداوَى" على هذا
فصل [قلب الواو رابعة فصاعدا]
"فَعاوِلُ" على منهاجِ "فَعالِل"، وإنّما يفعلون ذلك إذا كانت الواو لامًا لا عينًا، وذلك لأنّ اللام إذا كانت واوًا رابعةً فصاعدًا كثُر قلبُهم إيّاها إلى الياء، نحو: "أغْزَيْت"، و"استدعَيْت"، و"مَغزَيانِ"، و"غَازِيَة"، و"مَحْنِيَة"، فأظهروا الواو في "إداوة" ونحوها، ليُعلِموا أنّ الواو في "إداوة"، وإن كانت رابعةً، صحيحةٌ غيرُ منقلبة، وإذا كانوا قد راعوا الزائد في الجمع، نحو ياء "خطيئة"، فقالوا: "خَطايَا"، فهم بمراعاة الأصليّ أجدرُ. فصل [قلب الواو رابعة فصاعدًا] قال صاحب الكتاب: وكل واو وقعت رابعة فصاعداً ولم ينضم ما قبلها قلبت ياء نحو أغزيت وغازيت ورجيت وترجيت واسترشيت, ومضارعتها ومضارعة غزي ورضي وشأي في قولك يغزيان ويرضيان ويشأيان, وكذلك ملهيان ومصطفيان ومعليان ومستدعيان. * * * قال الشارح: الواو إذا وقعت رابعة فصاعدًا، قُلبت ياءً، وإنّما قلبوها ياءً حملًا على المضارع، وإنّما قُلبت في المضارع للكسرة قبلها على حدّ قلبها في "مِيزان" و"مِيعاد"، فلمّا قالوا: "يُغْزِي"، فقلبوا، كرهوا أن يقولوا: "أَغْزَوْتُ", لأنّ الأفعال جنسٌ واحدٌ، فأرادوا المُماثَلة، وأن يكون لفظُ الماضي والمضارع واحدًا، فأعلّوا الماضي لإعلال المضارع، كما أعلّوا المضارع، نحو: "يَقُول"، و"يَبِيع" لإعلالِ "قالَ"، و"باعَ". ألا ترى أنه لولا إعلالُ الماضي، لم يلزم إعلال المضارع؟ وقوله: "ولم ينضم ما قبلها" احترز به من "يَغْزُو" و"يَدْعُو" من الأفعال، ومن نحو: "تَرْقُوَةٍ"، و"عَرْقُوَةٍ" من الأسماء. فإن قيل: فأنت تقول: "تَرَجَّيْت"، و"تَغازَيْت" بقلبها ياءً مع أنّك لا تكسر ما قبل اللام في المضارع لأنّك تقول: "يَترجَّى"، و"يَتفازَى"، فهلّا قلت: "ترجَّوْت"، و"تغازَوْت"، فتُصحِّح الواو تصحيحَها في "غَزَوْت" لصحّتها في "يَغْزُو"، قيل: "ترجَّيْت" مُطاوعُ "رَجَّيْت"، و"تغازَيْت" مطاوعُ "غازَيْت"، فلمّا كانت الواو تقلب في الأصل لانكسار ما قبل لامه في المضارع نحو: "يُرَجِّي"، و"يغازِي"، بقيت على حالها بعد دخول تاء المطاوعة، فالألفُ في "تَرجَّى"، و"تَغازَى" بدلٌ من ياء هي بدلٌ من الواو التي هي لام في الأصل. وقالوا في مضارع "غُزِيَ"، و"رَضِيَ": "يُغْزَيانِ"، و"يَرْضَيانِ"، فقلبوا الواو ياءً، وإن لم ينكسر ما قبل اللام، حملًا للمضارع على الماضي؛ لأنّ الماضي قد وُجدت فيه علّةٌ تقتضي القلبَ، وهو انكسارُ ما قبل الواو، نحو: "غُزِيَ"، و"رَضِيَ"، ولم يُوجَد في المضارع علّةٌ تقتضي القلب، فكرهوا أن يختلف البابُ. فهذا نظيرُ "أَغْزَيْت يُغْرِي"، إلَّا
فصل [مجيء الادغام بدل الإعلال]
أنّ "أغزيت" حُمل ماضيه على مضارعه، وهنا حُمل المضارع على الماضي. وإذا كانوا قد أعلّوا اسم الفاعل لاعتلال الفعل مع اختلاف جنسهما؛ فإعلالُ الماضي للمضارع، والمضارع للماضي، كان ذلك أجدر. وأمّا "يَشْأَيانِ"، فقد قلبوا الواو ياءً مع أنّها لم تقلب في الماضي, لأنّك تقول: "شَأَوْت"، ولم ينكسر ما قبل الواو في المضارع، وذلك من قبل أن الماضي "فَعَلَ" بالفتح. و"فَعَلَ" مفتوحَ العين لا يأتي مضارعُه على "يَفْعَل" بالفتح، وإنّما فُتح لمكان حرف الحلق فصار الفتح عارضًا، فعومل على الأصل. ونظيره "يسع"، و"يطأ" فتحوا العين لمكان حرف الحلق، وتركوا الفاء التي هى الواو محذوفةً على الأصل إذ كانت الفتحة عارضة. وقال أبو الحسن الأخفش: لمّا قالوا في المضارع: "يَشْأَى" ففتحوا أشبهَ ما ماضيه "فَعِلَ" بالكسر لأنّ "يفعَل" بابُ ماضيه "فَعِلَ"، فجرى مجرى "رَضِيَ" و"شَقِيَ"، فقالوا: "يَشأيانِ"، كما قالوا: "يَرْضَيانِ"، و"يَشْقَيانِ". وقالوا: "ملهيان" في تثنية "مَلْهى" وهو من الواو، لكنّهم قلبوا الواو ياءً حملًا على الماضي، وهو "لَهِيت" عن الأمر. وكذلك "مصطفيان"، فقلبوا اللام ياء حملًا على "يَصْطَفِي"، و"معلّيان" لأنّه مفعولٌ من "عَلَّى يُعَلِّي"، والواو منقلبة في "يعلّي"، وكذلك "مستدعيان"، فاعرفه. فصل [مجيء الادغام بدل الإعلال] قال صاحب الكتاب (¬1): وقد أجروا نحو: "حيي" وعيي", مجري "بقي" و"فني" فلم يُعلوه, وأكثرهم يدغم فيقول "حَيَّ" و"عَيَّ" بفتح الفاء وكسرها كما قيل لُيٌّ ولِيٌّ في جمع ألوى قال الله تعالى: {ويحيى من حيي عن بينة} (¬2). وقال عبيد [من مجزوء الكامل]: 1361 - عيوا بأمرهم كما ... عيت ببيضتها الحمامهْ * * * ¬
قال الشارح: إذا اجتمع في آخِر الفعل حرفا علّةٍ، لم يمكن إعلالُهما معًا, لأنّه إجحاف، وربّما أدّى إلى حذف أو تغيير، وإنّما يُعَلّ أحدهما، والأوْلى بالإعلال الأخيرُ الذي هو اللام على نحو: "شَوَى"، و"ذَوَى"، فأمّا "حَيِيَ"، و"عَيِيَ" ونحوهُما من مضاعَف الياء، فالقياسُ هنا أن تقلب الياء الأولى ألفًا؛ لتحرّكها وانفتاح ما قبلها، وأن يصير اللفظ إلى "حَايَ"، و"عَايَ"، فيعتلّ العين. وقد اعتلّت هذه اللام في المضارع بقلبها ألفًا وسكونِها في حال الرفع، وحذفِها في حال الجزم، والأفعالُ كلّها جنس واحد، فكرهوا أن يجمعوا عليه اعتلالَ عينه ولامِه، فنزّلوا الأوّل منزلةَ الصحيح، وأقرّوه على لفظه في الماضي، ووفّوه ما يستحقّه من الحركات. ولحق الثاني القلبُ والتغييرُ والسكونُ، وذلك: نحو: "حَىَّ"، "يَحْيَى"، و"عَيَّ"، "يَعْيَى"، فهذا معنى قوله أجروا "حَيِيَ" و"عَيِيَ" مجرى "بَقِيَ" و"فَنِيَ"، يعني أجروا الياء الأولى مجرى النون في "فني" والقاف في "بقي"، ولم يغيرّوها مع وجود مقتضِي التغيير، كما لم يغيّروا الصحيح فيما ذكرناه. وأكثرُ العرب يدّغم العين في اللام إذا تَحرّكت اللام، نحو: "حَيَّ"، و"عَيَّ"، أجروه في ذلك مجرَى نحو: "شَدَّ"، والإظهارُ جائز. وإنّما جاز الإظهار؛ لأنّ هذه اللام قد تعتلّ، وتسكن في الرفع، وتحذف في الجزم، نحو: "هو يَحْيَى" و"لم يَحْيَى"، فلمّا لم تلزمها الحركةُ، انفصلت من دال "شَدَّ"؛ لأنّها متحرّكة في الرفع، ولا تحذف على وجه. فإذا أظهرتَ، فقلتَ: "قد حَيِيَ زيدٌ"، قلت في الجمع: "قد حَيُوا"، كما تقول: "قد عَمُوا". قال الشاعر [من الطويل]: 1362 - وكُنَّا حَسِبْناهم فَوارِسَ كَهْمسٍ ... حَيُوا بعد ما ماتُوا من الدَّهْر أَعْصُرا ¬
والمعنى: حسبتُ حالهم بعد سُوءٍ قد صلحتْ. وكَهْمَسٌ الذي ذكره: رجلٌ من بني تميم مشهورٌ بالفُروسيّة والشجاعة. والشاهدُ فيه قوله: "حَيُوا"، وبناؤه علي بناءِ "خَشُوا" و"فَنُوا"؛ لأن "حَيِيَ" إذا ضُوعفت الياء ولم تُدّغم، بمنزلةِ "خَشِيَ" و"فَنِيَ". وإذا لحقها واوُ الجمع، لحقها من الإعلال والحذفِ ما لحق "خشي" إذا كانت للجمع. ومن قال: "حَيَّ فلانٌ" فادّغم، ثم جمع، قال: "حَيُّوا"؛ لأنّ الياء إذا سكن ما قبلها في مثل هذا، جرت مجرى الصحيح، ولم يثقل عليها الضمّةُ. وعليه أنشد الأصمعىّ لْعَبِيدٍ [من مجزوء الكامل]: عيّوا بأمرهم ... إلخ وبعده: وضعت له عودين من ... ضعة وآخر من ثُمامَهْ الشاهد فيه قوله: "عيّوا"، و"عيّت"، وإجراؤهما مجرى "ظَنُّوا"، و"ظَنَّتْ" ونحوهما من الصحيح، ولذلك سلِم من الاعتلال والحذفِ لِما لحقه من الادّغام. وصف قومًا يخرقون في أمورهم ويعجزون عن القيام بها، وضرب لهم المثلَ في ذلك بُخْرق الحمامة وتَفْرِيطِها في التمهيد لبَيْضها؛ لأنّها لا تتّخدْ عُشَّها إلا من كُسار الأعواد، وربّما طارت ¬
عنها العِيدان فتَفرَّق عشّها، وسقطت البيضةُ، ولذلك قالوا في المثل: "أخرقُ من حمامة" (¬1). وقد بين خُرْقَها في البيت بعده , أي: جعلت لها مِهادًا من هذين الصنفين من الشجرِ، ولم يُرِد عودَيْن فقط ولا ثلاثة كما ظنّ بعضُهم. * * * قال صاحب الكتاب: وكذلك "أُحِيَّ"، و"اسْتُحِيَّ"، و"حُويَّ" في "أُحيِيَ"، و"اسْتُحْيِيَ"، و"حُويِيَ"، وكلُّ ما حركتُه لازمةٌ، ولم يدّغموا فيما لم تلزم حركتُه، نْحو: "لَنْ يُحْيِيَ"، و"لن يستحْيِىَ"، و"لن يُحايِيَ". * * * قال الشارح: وكذلك كل فعلِ ما لم يسمّ فاعله، نحو: "حُيَّ" في هذا المكان، و"اسْتُحِيَّ"، و"حُويَّ". فـ"حُيَّ" مبنيّ للمجهول من "حُيِيَ" بالجارّ والمجرور ليصحّ بناؤه لما لم يسمّ فاعله إذ كان لازمًا، فيقوم الجارّ والمجرور مقامَ الفاعل، وأنت مخيَّرٌ في ضمّ الحاء وكسرها، والكسرُ أكثرُ لأنّه أخفّ، فالضمّ على الأصل، والكسر لضرب من التخفيف, لأنّ الحرف المشدّد قد ينزل في بعض المواضع منزلةَ الحرف الواحد، نحو: "دابَّةٍ"، و"شابَّةٍ"، فإنّ الباء المشدّدة قد تتنزّل عندهم منزلةَ الحرف الواحد المتحرّك، ولولا ذلك، لَما جاز أن تُجامِع الألفَ الساكنةَ، وذلك أنّ اللسان تنبو عنه نَبْوَة واحدةً. فكما امتنع أن تقع ياءٌ في الطرف وقبلها ضمّةٌ، فكذلك قل الضمُّ هنا , ليس بممتنع. ومثلُه قولهم: "قرنٌ أَلْوَى"، و"قرونٌ لِيٌّ".يجوز فيه الضمّ والكسر، والكسرُ أكثرُ، فقلّةُ الضمّ تُوازِي امتناعَ "أَدْلُوٍ" و"أَظبُي". وأمّا "أُحِيَّ"، فهو مبنيّ من "أَحْيَا"، والحاء مكسورة لا غير؛ لأنّها حركةُ الياء المدّغمةَ تُقلب إلى الحاء الساكنة على حد "يَشُدّ" و"يَمُدّ". وكذلك "اسْتُحِيَّ"، العملُ واحد، والأصل: "اسْتُحْيِيَ". وفيه لغتان إحداهما "استحيَيْت"، والأخرى "استحَيْت". فأمّا "استحييت" بياءين، فهي لغةُ أهل الحجاز على ما ينبغي من القياس, لأنّهم صحّحوا الياء الأولى، وهي عين الفعل، وأعلّوا الثانية، وهي لام الفعل، فقالوا: "استحْيَا، يستحْيِي، واستَحْيَيْت"؛ وأمّا "استحَيْت" فهي لغة بني تميم، ووزنها "استفَلْت" والعين محذوفة. واختلف العلماء في كيفية الحذف، فذهب الخليل إلى أنّ حذف العين لالتقاء الساكنين، وهو الذي حكاه سيبويه (¬2)، وذلك أنّ "استحيَيْت" "استفعلت"، وعينُ الفعل منه معتلّة، كأنّه في الأصل قبل دخول السين والتاء "حَايَ"، كقولك: "بَاعَ" بإعلال ¬
العين، ثمّ دخلت السين والتاء على "حَايَ"، فصار: "اسْتَحايَ"، كما تقول: "استباع"، ثمّ دخلت تاء المتكلّم، فسكنت الياء، وقبلها الألفُ ساكنةً، فحُذفت لالتقاء الساكنين. والقولُ الثاني أن "استحيت" أصلُه "استحييت"، فاستثقلوا اجتماعَ ياءَيْن، فألقوا الأولى منهما تخفيفًا، وألقوا حركتَها على الحاء، وألزموها الحذفَ تخفيفًا في لغة بني تميم، كما ألزمت العرب الحذفَ في "يَرَى" و"يُرِي" تخفيفًا، وألقوا حركتها على الفاء، وهو رأيُ المازنيّ أيضًا. قال أبو عثمان: لو كان الحذف لالتقاء الساكنين، لزِدْتَ في المضارع، وكنت تقول: "يَسْتَحْيِي"، ولم يفعلوا ذلك. فإذا بنيتَ لما لم يسمّ فاعله من الأوّل قلت: "اسْتُحِيَّ" والأصل: "استحْيِيَ"، فادُّغم الأوّل في الثاني, لأنّه متحرّك، وبعد إسكانه تُنقل حركته إلى الحاء، والإظهارُ جائز. وإن بنيتَه من اللغة الثانية، قلت: "اسْتُحِيَ" لا غير؛ وأما "حُويِيَ" فهو من "حَايَى يُحايِي"، فلمّا بنيته لما لم يسمّ فاعله، قلت: "حُويِيَ" على الأصل، وان شئت ادّغمت وقلت: "حُويَّ"؛ لأنّ حركة آخِره لازمة. ومن قال: "حُيّ"، و"أُحِيَّ" فادّغم، لم يقل: "يُحَىُّ" فيدّغم, لأنّ هذه الأفعال لا يدخلها ضمٌّ بحال, لأنّ اللام فيها تُعاقِب الضمّةَ، ولا تجتمع معها، وكذلك لو نصبت، فقلت: "لن يُحْيِيَ"، فإنّك لا تدّغم, لأنّ الفتحة عارضة, لأنّها حركةُ إعراب لا تلزم، إذ قد تزول في حال الرفع والجزم. * * * قال صاحب الكتاب: وقالوا في جمع "حَياءٍ"، و"عَيِيٍّ": "أَحِيَّةٌ"، و"أَعِيّاء", و"أَحْيِيةٌ", و"أَعْيياء". و"قَوِيَ" مثلُ "حَيِيَ" في ترك الإعلال، ولم يجيء فيه الادّغامُ، إذ لم يلتقِ فيه مثلان لقَلبِ الكسرة الواوَ الثانية ياء. * * * قال الشارح: أمّا "أَحِيَّةٌ"، و"أَحِيّاء" في جمع "حَياء" الناقة، فهذا يجوز فيه الوجهان: الإظهار والادّغام، فالإظهار قولك: "أَحْيِيَةٌ" على "أَفْعِلَةَ", "أَحْيِياء" على "أَفْعِلاء". وإنّما جاز الإظهار؛ لأنّ الجمع فرعّ على الواحد، واللامُ في الواحد غير ثابتة، وإنّما هي مبدلة على حدّ إبدالها في "وَراءٍ"، و"سِقاءٍ"، فلم يُلتفت إلى إظهاره, لأنّ الياء لم تكن ثابتة في الواحد. وأمّا الادّغام نحو "أَحِيَّةٍ"، و"أَحِيّاء" فلاجتماع الياءَيْن ولزوم تحرِّك الثانية. وأمّا "عَيِىٌّ"، و"أعيِيَةٌ"، و"أَعْيِيَاءُ"، فالّادغامُ فيه أوجبُ منه في "أَحِيَّةٍ"؛ لأنّ اللام لا تثبت في واحد "أحيّة"، بل تُبْدَل همزةً، فلم يلزم اللامَ التحريكُ، وإنّما لزم الهمزةَ التي هي بدلٌ منها.
فصل [الإعلال في مضاعف الواو]
وأمّا "أَعِيّاء"، و"أَعِيَّةٌ"، فاللام ثابتةٌ في واحده متحركةٌ، نحو: "عَيِىٌّ"، فقويت فيها الحركةُ لوجودها في الجمع والواحد، وقوي وجهُ الادّغام. قال أبو عثمان: وسمعنا من العرب من يقول: "أَعْيِياء"، و"أَعْيِيَةٌ"، فيُبيِّن، قال: وأكثرُ العرب يُخْفِي، ولا يدّغم، وإنّما كثُر الإخفاء, لأنّه وسيطٌ بين الإظهار والادّغام، فعدلوا إليه لاعتداله، إذ فيه محافَظةٌ على الجانبَيْن، وهو شِبْهُ الهمزة بين بين. وأمّا "قَوِيَ"، فهو من مضاعَف الواو والعينُ، واللامُ واو. يدلّ على ذلك قولهم في المصدر: "القُوَّةُ"، ولم يُعِلّوا الواو بقلبها ألفًا، لتحرّكها وانفتاح ما قبلها لاعتلال اللام في المضارع، نحو: "يَقْوَى"، فلم يكونوا يجمعون عليه إعلال العين واللام، كما قلنا في "عَيِيَ" و"حَيِيَ". ولا يجوز الادّغامُ كما جاز في "حَيَّ" و"عَيَّ"؛ لاختلاف الحرفَيْن، ولم يكونا مثلَيْن لانقلاب الواو الثانية ياءً، فاعرفه. فصل [الإعلال في مضاعف الواو] قال صاحب الكتاب: ومضاعف الواو مختصٌّ بـ "فَعَلْتُ" دون "فعَلت"؛ لأنهم لو بنوا من القوة نحو غزوت وسروت, للزمهم أن يقولوا: "قَوَوْتُ", و"قَوُوتُ". وهم لاجتماع الواوين أكرَهُ منهم لاجتماع الياءين. وفي بناء نحو: "شَقِيتُ", تنقلب الواو ياء؛ وأما القُوّة والصُوّة والبَوّ والحُوّ, فمحتملاتٌ للادّغام. * * * قال الشارح: اعلم أنّ ما كان من مضاعَف الواو ماضيًا، فإنّه يكون على "فَعِلْت"، بكسر العين، فلا يأتي منه "فَعَلْت" ولا "فَعُلْت"، فلم يقولوا: "قَوَوْت"، ولا "قَوُوت"؛ لأنّهم إذا استثقلوا الواو الواحدة فبنوا الماضي على "فَعِلْت" لِتُقْلَب ياءً، نحو: ياء "شَقِيت"، و"رَضِيت", فهم باستثقال الواوين والضمّة أجدرُ، وكنت تقول في المضارع: "يَقْوُو"، فاستثقلوا اجتماع الواوين، كما استثقلوا اجتماع الهمزتين، فعدلوا إلى بناء "فَعِلْت"، لتنقلب الواو ياءٌ، ويزول الثقلُ باختلاف الحرفين على حدّ صنيعهم في "حَيَوان"، والأصل: "حَيَيان". وإذا كانوا قد قلبوا الأخفّ إلى الأثقل ليخفّ اللفظُ بزوال التضعيف، فقلبُهم الأثقلَ إلى الأخفّ لزوال التضعيف أجدرُ، فلذلك قالوا: "قَوِيت"، و"خَوِيت"، والأصل: "قَوِوت"، و"خَوِوت"، فانقلبت اللام التي هي واوٌ ياءً لانكسار ما قبلها، وصحّت العين في "قويت" و"خويت"، لاعتلال اللام، وجرى ذلك مجرَى ما لامه ياءٌ، نحو: "لوَيْت" و"رَوْيت"، كما أجروا "أَغْزَيْت" مجرَى بنات الياء. هذا إذا كان أصل العين التحريكَ، فأمّا إذا سكنت العين، أو انفتحت، فلا يلزم قلبُ اللام ياءً، نحو: "التَّوَى"، وهو الهلاك، وهو من مضاعَف الواو يدلّ على ذلك
فصل [الإعلال بدل الادغام]
قولهم: "التوُ" الفَرْد، ومنه الحديث: "الطوافُ تَوٌّ، والاستجمارُ تَوٌّ" (¬1)، فهو من معناه ولفظه, لأنّ الهلاك أكثرُ ما يكون مع الواحد. وكذلك إذا كان أصلها السكون، فإن الواو تثبت، ولا تُقلب، نحو: "القُوة"، و"الصُوَّة"، وهو مختلَف الريح، و"الحُوّ"، و"البَوّ" وهو جِلْد الحُوار يُحشَى إذا مات ولدُ الناقة لتعطِف عليه، و"القَوُّ" وهو اسم مكان، و"الجَوُّ" وهو ما بين السماء والأرض، وقيل في قوله [من الرجز]: 1363 - خَلا لَكِ الجَوُ فبِيضِي واضفِرِي قال: هو ما اتسع من الأودية، جعلوه إذ سكن ما قبل الواو الأخيرة مثلَ "غزوٍ" و"عَدْوٍ". وقوله: "فمحتمَلات"، يريد أنه احتُمل ها هنا ثقلُ التضعيف لسكونِ ما قبل الواو والادّغامِ، وكونِ اللسان تنبو بهما دفعةً واحدةً، فاعرفه. فصل [الإعلال بدل الادغام] قال صاحب الكتاب: وقالوا في "افْعالَّ" من "الحُوّةِ": "احْواوَي" فقلبوا الواو الثانية ألفًا, ولم يدّغموا؛ لأن الادغام كان يصيرهم إلى ما رفضوه من تحريك الواو بالضم ¬
في نحو: "يَغْزُو" و"يَسْرُو" لو قالوا: "احْواوَّ، يَحواوُّ". وتقول في مصدره: "احْوِيواءٌ"، و"احْوِياءٌ". ومن قال: "اشْهِبابٌ" قال: "احْوِواءٌ"، ومن ادّغم "اقتِتالًا"، فقال: "قِتالٌ"، قال: "حِوّاءٌ". * * * قال الشارح: تقول في "افْعالَّ" مثل "احْمارَّ" من "الحُوَّة" و"القُوَّة": "احْواوَى"، و"اقْواوَى"، والأصل: "احْواوَوَ"، و"اقْواوَوَ"، فوقعت الواو طرفًا متحرّكةً، وقبلها فتحةٌ، فقلبوها ألفُا, ولم يدّغموا لاختلاف الحرفين وخروجهما بانقلاب الواو الثانية ألفًا عن أن يكونا مثلَيْن. وقوله: لأن الادّغام كان يصيّرهم إلى ما رفضوه من تحريك الواو بالضمّ في نحو: "يَغْزُو"، و"يَسْرُو" لو قالوا: "احْواوَّ يَحْواوُّ"، ليس بصحيح؛ لأن الواو المشدّدة لا تثقل عليها حركاتُ الإعراب، نحو: "هذا عَدُوٌّ وعُتُوٌّ". وتقول في مصدره "احْوِيّاءٌ". هذا هو الوجه الذي ذكره سيبويه (¬1)، والأصل "احْوِيواوٌ" مثل "احْمِيرار" و"اشْهِيباب". وإنّما قلبوا الواو الوُسْطَى ياءٌ؛ لوقوع الياء ساكنة قبلها على حدّ "سَيِّدٍ" و"مَيِّتٍ". وهذه الياء مبدلة من الألف للكسرة قبلها، وقُلبت الواو الأخيرة همزةً لوقوعها طرفًا بعد ألف زائدة على القاعدة، نحو: "كِساءٍ"، و"رِداءٍ". وقال بعضهم: "احْوِيواء"، فلم يدّغم كما لم يدّغم في "سُويِرَ"، إذ كانت الواو بدلًا من ألفِ "سايَرَ". وقد قالوا: "اشْهِبابٌ"، فحذفوا الياء تخفيفًا لطول الاسم، ومن قال ذلك قال في مصدرِ "احواوَى" "احوِواءٌ"، فلم يدّغم لتوسُّط الواوين، كما لم يدّغم في "اقتتال"؛ لأنّ التائين، وإن كانتا مثلين، فقد قويتا بكونهما حشوًا ,ولم تُجْعَلا كالدالّ من "شَدَّ" و"مَدَّ"، لتطرُّفهما. وقد قال بعضهم "قِتالٌ"، فادّغم التاء في التاء بعد نقل حركة التاء الأولى إلى "القاف"، ولمّا تحركت القاف استغنى عن همزة الوصل، فقال: "قِتّال". ومن قال ذلك قال: "حوّاءٌ"، فادّغم الواو في الواو، ونقل حركةَ الواو الأولى إلى الحاء قبلها، فاستغنى عن همزة الوصل، فاعرفه. ¬
الادغام
ومن أصناف المشترك الادّغام فصل [الادّغام الواجب والادّغام الجائز] قال صاحب الكتاب: ثقل التقاء المتجانسين على ألسنتهم, فعمدوا بالادغام إلى ضرب من الخفة. والتقاؤهما على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يسكن الأول ويتحرك الثاني, فيجب الادّغامُ ضرورة, كقولك: "لم يَرُح حاتمٌ", و"لم أَقُل لك". والثاني: أن يتحرك الأول ويسكن الثاني, فيمتنع الادّغام, كقولك: "ظَلِلْتُ", و"رسولُ الحَسَنِ". والثالث: أن يتحركا, وهو على ثلاثة أوجه: ما الادّغام فيه واجبٌ, وذلك أن يلتقيا في كلمة, وليس أحدهما للإلحاق, نحو: "رَدَّ, يَرُدَّ". ما هو جائزٌ, وذلك أن ينفصلا وما قبلهما متحرك أو مدة نحو: "أنعت تلك" والمال لزيد"، و"ثوب بكر"، أو يكونا في حكم الانفصال, نحو: "اقتتل", لأن تاء الافتعال لا يلزمها وقوع تاء بعدها فهي شبيهة بتاء "تلك". * * * قال الشارح: اعلم أن معنى الادّغام إدخال شيء في شيء، يقال: أدغمتُ اللِّجامُ في فَم الدابّة"، أي: أدخلتُه في فيها، وأدغمتُ الثياب في الوعاء: أدخلتها فيه، ومنه قولهمَ: "حمارٌ أَدّغَمُ"، وهو الذي يسمّيه العجم دَيْزَج، وذلك إذا لم تصدُق خُضرتُه ولا زُرقتُه، فكأنّهما لونان قد امتزجا. والادّغامُ بالتشديد من ألفاظ البصريين، والإدْغام بالتخفيف من ألفاظ الكوفيين. ومعناه في الكلام أن تصل حرفًا ساكنًا بحرف مثله متحرِّكٍ من غير أن تفصل بينهما بحركة أو وقفٍ، فيصيران لشدّة اتّصالهما كحرف واحد، ترتفع اللسانُ عنهما رفعةً واحدةً شديدةً، فيصير الحرف الأوّل كالمستهلَك على حقيقة التداخل والادغام، وذلك نحو: "شَدَّ" و"مَدَّ" ونحوهما.
والغرضُ بذلك طلبُ التخفيف, لأنّه ثقُل عليهم التكريرُ والعودُ إلى حرف بعد النطق به، وصار ذلك ضِيقًا في الكلام بمنزلة الضيق في الخَطْو على المقيَّد, لأنّه إذا منعه القيدُ من توسيع الخَطْو، صار كأنّه إنّما يُقيَّد قَدَمُه إلى موضعها الذي نقلها منه، فثقُل ذلك عليه، فلمّا كان تكريرُ الحرف كذلك في الثقل، حاولوا تخفيفَه بأن يدّغموا أحدهما في الآخر، فيضعوا ألسنتهم على مَخْرج الحرف المكرَّر وضعةً واحدةً، ويرفعوها بالحرفَيْن رفعةً واحدةً، لئلا ينطقوا بالحرف، ثمّ يعودوا إليه , وهذا المراد من قوله: "ثقل التقاء المتجانسين على ألسنتهم"، أي: المِثْلَيْن اللذَيْن من جنس واحد، فإذا أسكنوا الأوّل منهما ادّغموا، فيتّصل بالثاني، وإذا حرّكوه، لم يتّصل به لأنّ الحركة تحول بينهما, لأنّ محلّ الحركة من الحرف بعده، ولذلك يمتنع ادّغامُ المتحرّك. والمدّغَم أبدًا حرفان: الأوّل منهما ساكنٌ والثاني متحرّكٌ. وجميعُ الحروف تُدّغَم ويُدّغَم فيها إلَّا الألفَ؛ لأنّها ساكنة أبدًا، فلا يمكن ادّغامُ ما قبلها فيها ولا يمكن ادّغامُها, لأن الحرف إنّما يُدّغَم في مثله، وليس الألف مثلَ متحرّك، فيصحَّ الادّغام فيها. واعلم أن التقاء المثلين على ثلاثة أضرب: أحدها أن يسكن الأوّل ويتحرّك الثاني، وهذا شرط المدّغَم، فيحصل الادّغامُ ضرورةً سواءٌ أريد أو لم يُرَد، إذ لا حاجزَ بينهما من حركة ولا غيرها، نحو: "لم يرح حاتم"، و"لم أقل لك"، فالادّغامُ حصل فيهما ضرورةً, لأنّ الأوّل اتّصل بالثاني من غير إرادة لذلك، ألا ترى أنّ إسكان الأوّل لم يكن للادغام بل للجازم، فوُجد شرطُ الادغام بحكم الاتّفاق من غير قصد، وذلك بأن اعتمد اللسان عليهما اعتمادةً واحدةً , لأنّ المَخْرج واحدٌ ولا فَصْلَ. وأمّا الثاني وهو أن يكون المِثْل الأوّل متحرّكًا، والثاني ساكنًا، نحو: "ظلِلْت"، و"رسولُ الحسن". وما كان كذلك، فإنّ الادغام يمتنع فيه لأمرين: أحدهما تحرُّكُ الأوّل، والحرفُ الأوّلُ متى تحرّك امتنع الادغام, لأنّ حركة الحرف الأوّل قد فصلت بين المتجانسَيْن، فتَعذّر الاتّصال. والأمر الثاني، سكون الحرف الثاني، والادغامُ لا يحصل في ساكن؛ لأنّ الأوّل لا يكون إلا ساكنًا، فلو أُسكن الثاني، لاجتمع ساكنان على غير شرطه، وذلك لا يجوز. وأمّا الثالث، وهو أن يتحرّكا معًا، وهما سواء في كلمة واحدة، ولم يكن الحرف مُلْحِقًا قد جاوز الثلاثةَ، ولا البناء مخالفًا لبناء الفعل، فإنّه يجب أن يُدّغَم بأن يسكن المتحرّكُ الأولُ لِتزولَ الحركةُ الحاجزةُ، فيرتفع اللسانُ بهما ارتفاعة واحدةً، فيخفّ اللفظ، وليس فيه نقضُ معنى، ولا لبسٌ، وذلك نحو: "رَدَّ يَرُدُّ"، و"شَدَّ يَشُدَّ"، فكلُّ العرب يدغم ذلك.
فإن كان المثلان من كلمتين منفصلتين، كنت مخيَّرًا في الادغام وتركِه، وذلك نحو قولك: "أنْعَتُ تَلك"، "المالُ لزيد" و"ثوبُ بّكْر". فإذا أردتَ الادغام أسكنتَ الأوّل منهما, لأنّهما مثلان، فأرادوا أن يرتفع اللسانُ بهما رفعةً واحدةً، فيكون اللفظ بهما أخف، وكلّما كثُرت الحركات، حسُن الادّغام، وذلك نحو قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُم} (¬1) بالادغام، فإن شئت قلت: "وَجَعَلَ لَكَ" من غير الادغام. وإنّما كان تركُ الادغام جائزًا في المنفصلين، ولم يجز في المتّصلين؛ لأنّ الكلمة الثانية لا تلزم الأولى، وإنّما وجب في المتّصلين للزوم الحرفين. قال الله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} (¬2) على ما ذكرتُ لك. وأمّا "اقْتَتَلَ"، فيجوز فيه الوجهان: الادغامُ والإظهار، فالادغامُ لاجتماع المثلين في كلمة واحدة. وإذا أدغمت ففيه وجهان: فتحُ القاف، وكسرُها، فالفتحُ لأنّه لمّا كُره ظهور تائَيْن في كلمة، أُسكن الحرف الأوّل، ونُقل حركتها إلى القاف، فاستُغني عن همزة الوصل، فحذفوها، وقالوا: "قَتَّلَ" بفتح القاف وتشديد التاء. ومن كسر وقال: "قِتَّلَ"، فإنّه حذف حركةَ التاء حذفًا, ولم ينقلها إلى ما قبلها، ثمّ كسر القاف لالتقاء الساكنين. وأمّا الوجه الثاني -وهو الإظهارُ- فلأنّ التاءين في حكمِ منفصلين من جهةِ أنّ تاء الافتعال لا يلزم أن يقع بعدها مثلُها، بل قد يقع بعدها غيرُ تاء، نحو: "اقتصر"، و"اقترب"، و"ابتدع"، و"ارتوى"، فصارا لذلك كالمنفصلين. وقوله: "فهي شبيهة بتاء تلك" يريد في قوله: "أنْعَتُ تّلك" أي: هي كالمنفصلة. وهذا موضعُ جَمْل، وسيوضح ذلك مفصَّلًا. * * * قال صاحب الكتاب: وما هو ممتنعٌ فيه، وهو على ثلاثة أضرب: أحدُها أن يكون أحدُهما للإلحاق، نحو: "قَرْدَد"، و"جَلْبَبَ". والثاني أن يُؤدّيَ فيه الادّغامُ إلى لَبْس مثال بمثال، نحو: "سُرُرٍ"، و"طَلَلٍ"، و"جُدَدٍ". والثالثُ أن ينفصلا، ويكونَ ما قبل الأوّل حرفًا ساكنًا غيرَ مدّة، نحو: "قَرْمُ مالِكٍ"، و"عَدُوُّ وَلِيد". ويقع الادّغامُ في المتقاربَين كما يقع في المتماثلَين، فلا بدّ من ذكرِ مَخارج الحروف لتُعْرَفَ متقاربتُها من متباعدتها. * * * قال الشارح: قد تقدّم قولنا: إِنّ الادغام إنّما جىء به لضرب من التخفيف؛ فإذا أدّى ذلك إلى فساد، عُدل عنه إلى الأصل، وكان احتمال التثقيل أسهلَ عندهم. وذلك على ثلاثة أضرب: ¬
فصل [مخارج الحروف]
أحدهما: أن يكون الحرف الثاني من المثلين مزيدًا للإلحاق، نحو قولهم في الفعل: "جَلْبَبَ"، و"شَمْلَلَ"، فالحرفُ الثاني من المثلين كُرّر ليُلْحق ببناء "دَحْرَجَ"، فلو ادّغمتَ لزم أن تقول: "جَلَبَّ"، و"شَمَلَّ"، فتُسكِن المِثْل الأوُل، وتنقل حركتَه إلى الساكن قبله، فيخرج عن أن يكون مُوازِنًا لـ "دحرج"، فيبطل غرضُ الإلحاق، والأحكامُ الموضوعةُ للتخفيف إذا أدّت إلى نقصِ أغراض مقصودة تُركت. ومثله في الاسم "مَهْدَدُ"، و"قَرْدَدٌ"، و"قُعْدُدٌ"، و"رِمْدِدٌ"، فـ"مهدد": عَلَمٌ من أسماء النساء، وهو "فَعْلَلٌ". قال سيبويه (¬1): الميمُ فيه من نفس الكلمة، ولو كانت زائدة لادُّغمت مثلَ "مَفَرٍّ" و"مَرَدٍّ"، فثبت أنّ الدال ملحقة، والملحقُ لا يُدّغم. وكذلك "قُعْدُدٌ" ملحق بـ "برثنِ"، و"رِمْدِدٌ" ملحق بـ "زِبْرِجٍ"، وكذلك "عَفَنْجَجٌ" و"ألَنْدَدٌ" ملحقان بـ "سَفَرْجَلٍ" في الخماسيّ. والضرب الثاني أن يؤدّي الادغام إلى لبس، نحو: "سُرُرٍ"، و"طَلَلٍ"، و"جُدَدٍ"، فإنّه لا يدّغم المِثْلان هنا، وإن كانا أصلين مثلهما في "شَدَدَ" و"مَدَدَ"، من قبل أنّ الادغام فيها يُحْدِث لبسًا واشتباهَ بناء ببناء، إذ لو ادُّغمت لم يُعلم المقصود منها، ألا ترى أنّك لو ادّغمتَ فقلت: "طَلٌّ"، و"سُرٌّ" و"جُدٌّ", لم يُعلم أنّ "طَلَلاً" فَعَلٌ، وقد ادُّغم, لأنّ في الأسماء ما هو على زنةِ "فَعْلٍ" ساكنَ العين، نحو: "صَدّ"، و"جَدّ"، ولو ادُّغم نحْو: "سُرُر"، فقيل: "سُرٌّ"، لم يعلم هل هو "فُعُلٌ" مثلُ: "طُنُب" وقد ادُّغم، أو هو على "فُعْلٍ" أصلًا نحو: "جُبّ"، و"دُرّ"، وكذلك "جُدَدٌ". ولم يكن مثلُ هذا اللبس في نحو: "شَدَّ"، و"مَدَّ"؛ لأنّه ليس في زنة الأفعال الثلاثيّة ما هو على زنة "فَعْلَ" ساكنَ العين، فيلتبسَ به. وأمّا الضرب الثالث، فهو أن يلتقي المِثْلان من كلمتين، وما قبل الأوّل حرفٌ صحيحٌ ساكنٌ، نحو: "قَرْمُ مالِكٍ"، فإنّك لو ادغمتَ ههنا الميم في الميم، لاجتمع ساكنان لا على شرطه، وهو الراء والميم الأولى، وذلك لا يجوز. فأمّا ما يُحكى من الادغام الكبير لأبي عمرو من {نَحْنُ نَقُصُ} (¬2)، فليس بادغام عندنا، وإنّما يقول به الفرَّاء، وإنّما هو عندنا على اختلاس الحركة وضُعْفِه ,لا على إذهابها بالكلّيّة. ولمّا كان الادغام إنّما هو تقريبُ صوت من صوت، فقد يقع في المتقاربين، كما قد يقع في المثلين. وإذا كانت كذلك، فلا بدّ من معرفة مخارج الحروف حتى يعرف المتقاربان من المتباينين. فصل [مخارج الحروف] قال صاحب الكتاب: ومخارجها ستة عشر, فللهمزة والهاء والألف أقصى الحلق, ¬
وللعين والحاء أوسطُه، وللغين والخاء أدناه، وللقاف أقصى اللسان وما فوقه من الحَنَك، وللكاف من اللسان والحنك ما يلي مَخْرَجَ القاف، وللجيم والشين والياء وَسَطُ اللسان، وما يُحاذيه من وسط الحنك، وللضاد أوّل حافة اللسان وما يليها من الأضراس، وللام ما دون أوّلِ حافةِ اللسان إلى منتهَى طَرَفه وما يُحاذي ذلك من الحنك الأعْلى فُوَيْقَ الضاحِكَ والناب والرَّباعِيَةِ والثَّنِيّةِ، وللنون ما بين طرف اللسان وفُوَيْقِ الثَّنايَا, وللراء ما هو أَدْخَلُ في ظَهْرِ اللسان قليلًا من مخرجِ النون، وللطاء والدال والتاء ما بين طرف اللسان وأصولِ الثَّنايَا, وللصاد والزاى والسين ما بين الثنايا وطرف اللسان، وللظاء والذال والثاء ما بين طوف اللسان وأطراف الثنايا, وللفاء باطنُ الشَّفَة السُّفْلَى وأطرافُ الثنايا العُلَى، وللباء والميم والواو ما بين الشفتَيْن. * * * قال الشارح: لمّا كان الغرض من الادغام تقريب الأصوات بعضها من بعض وتداخُلَها، والحرفُ إنّما هو صوتٌ مقروعٌ في مخرج معلوم، وجب معرفةُ مخارج الحروف ليُعْلَم المتقارب من المتباعد. وجملة مخارج الحروف ستّة عشر مخرجًا، والمخرجُ هو المَقْطَع الذي ينتهي الصوتُ عنده. فمن ذلك الحلق، وفيه ثلاثةُ مخارجَ، فأقصاها من أسفله إلى ما يلي الصدرَ مخرجُ الهمزة، ولذلك ثقُل إخراجُها لتباعُدها، ثمّ الهاء، وبعدها الألفُ، هكذا يقول سيبويه (¬1). وزعم أبو الحسن أنّ ترتيبها: الهمزةُ، ثمّ الهاء. ومخرجُ الهاء هو مخرجُ الألف، لا قبله، ولا بعده، والذي يدلّ على فساده أنّنا متى حرّكنا الألف، انقلبت إلى أقرب الحروف إليها، وهي الهمزة، ولو كانت الهاء من مخرجه, لكانت أقربَ إليها من الهمزة، فكان ينبغي إذا حرّكتَها أن تصير هاءً. ثمّ العين والحاء من وَسَط الحلق. وروى اللَّيْثُ عن الخليل أنّ الألف والواو والياء والهمزة جُوفٌ, لأنّها تخرج من الجَوْف، ولا تقع في مَدْرَجه من مدارج الحلق، ولا اللَّهاةِ، ولا اللسانِ، إنّما هي هَواء، وكان الخليل يقول: الألف والواو والياء هَوائيّةٌ، أي: أنّها في الهواء. وأقصى الحروف العينُ، ثمّ الحاء، ثمّ الهاء. فلولا بُحّةٌ في الحاء، لكانت كالعين. ولولا هَهَّةٌ في الهاء، لكانت كالحاء لقربها منها. فهذه الثلاثةُ في حيّز واحد، بعضُها أرفعُ من بعض. وللغين والخاء أدنى الحلق، فالخاء أقربُ إلى الفم من الغين. والقاف والكاف في حيّز واحد، فالكاف أرفعُ من القاف، وأدنى إلى مُقدَّم الفم، وهما لَهَويّتان, لأنّ مبدأهما من اللهاة، ثمّ الجيم والشين والياء، ولها حيّز واحد، وهو ¬
وسط اللسان بينه وبين وسط الحنك، وهي شَجْريّةٌ. والشَّجْرُ: مَفْرِجُ الفم, لأن مبدأها من شجر الفم، يقال: "اشتجر الرجلُ" إذا وضع يدَه تحت شَجْره على حنكه. قال الشاعر [من البسيط]: 1364 - نام الخَلىُّ ونِمْتُ الليلَ مُشتجِرًا ... كأنّ عَينِيَ فيها الصاب مَذْبُوحُ والضاد من حيّز الجيم والشين والياء، ولها حيّزٌ واحدٌ؛ لأنّها تقرب من أوّل حافة اللسان وما يليها من الأضراس، إلَّا أنّك إن شئت تكلّفتها من الجانب الأيمن، وإن شئت من الجانب الأيسر. واللام والنون والراء من حيّز واحد، وبعضُها أرفعُ من بعض، فاللامُ من حافة اللسان من آخِرها إلى منتهى طرف اللسان من بينها وبين ما يليها من الحنك الأعلى ممّا فُوَيْقَ الضاحك والنابِ والرَّباعية والثَّنيّة. ومن خلف اللسان بينه وبين ما فويق الثنايا مخرجُ النون، ومن مخرجه، غير أنّه أدخلُ في ظهر اللسان قليلًا لانحرافه إلى اللام مخرجُ الراء، وهي ذَلْقيّةٌ، يقال: "حرفٌ أَذْلَقُ"، وذَلْقُ كل شيء: تحديدُ طرفه وكذلك ذَولَقُه. والطاء والدال والتاء من حيّز واحد، وهو ما بين طرف اللسان وأصول الثنايا، وهي ¬
فصل [حروف العربية]
نِطْعيّةٌ؛ لأنّ مبدأها من نِطْع الغار الأعلى، وهو وسطه يظهر فيه كالتحزيز، ثمّ الصاد والسين والزاي من حيّز واحد، وهو ما بين الثنايا وطرف اللسان، وهي أَسَليّةٌ؛ لأنّ مبدأها من أسَلَة اللسان، وهو مستدَقُّ طرف اللسان، وهي حروف الصفير. والظاء والذال والثاء من حيّز واحد، وهو ما بين طرف اللسان وأصول الثنايا، وبعضُها أرفعُ من بعض، وهي لِثَويّةٌ؛ لأنّ مبدأها من اللِّثَة، والفاء والباء والميم من حيّز واحد وهي الشفة، ويقال لها لذلك: "شَفَهيّةٌ"، و"شَفَويّةٌ"، فالفاء من باطن الشفة السُفلَى وأطرافِ الثنايا العُلَى. وممّا بين الشفتين مخرجُ الميم والباء؛ إلَّا أنَّ الميم ترجع إلى الخياشيم بما فيها من الغنّة، فلذلك تسمعها كالنون؛ لأنّ النون المتحرّكة مُشْرَبةٌ غنّةً، والغنّةُ من الخياشيم. والواوُ أيضًا فيها غنّةٌ، إلَّا أنّ الواو من الجَوْف؛ لأنّها تهوى من الفم لِما فيها من اللين حتى تتّصل بمخرج الألف، كما أنّ الشين تتفشّى في الفم حتى تتّصل بمخرج اللام. وهذه الاتّصالاتُ تقُرِّب بعضَ الحروف من بعض وإن تراخت مخارجُها, فاعرفه. فصل [حروف العربية] قال صاحب الكتاب: ويرتقي عدد الحروف إلى ثلاثة وأربعين, فحروف العربية الأصول تلك التسعة والعشرون, ويتفرع منها ستة مأخوذ بها في القرآن, وكل كلام فصيح، وهي: النون الساكنة التي هي غنة في الخيشوم, نحو: "عَنْكَ", وتسمى النون الخفيفة والخفية. وألفا الإمالة والتفخيم, نحو: "عالم", و"الصلاة". والشين التي هي كالجيم نحو: "أشدق". والصاد التي كالزاي, نحو: "مصدر". والهمزة بين بين, والبواقي حروف مستهجنة, وهي الكاف التي كالجيم، والجيم التي كالكاف، والجيم التي كالشين, والضاد الضعيفة، والصاد التي كالسين، والطاء التي كالتاء، والظاء التي كالثاء، والباء التي كالفاء. * * * قال الشارح: اعلم أنّ أصل حروفِ المُعْجَم عند الجماعة تسعةٌ وعشرون حرفًا على ما هو المشهور من عددها. أوّلها الهمزة، ويقال لها: "الألف"، وإنّما سمّوها ألفُا؛ لأنّها تُصوَّر بصورة الألف، فلفظُها مختلفٌ، وصورتُها وصورةُ الألف الليّنة واحدةٌ، كالباء والتاء والثاء والجيم والحاء والخاء، لفظُها كلِّها مختلفٌ، وصورتها واحدةٌ. وكان أبو العبّاس المبرّد يعدّها ثمانية وعشرين حرفًا، أوّلُها الباء، وآخرها الياء, ويدع الهمزة من أوّلها: ويقول: الهمزة لا صورةَ لها، وإنّما تُكْتَب تارةً واوًا، وتارة ياءً، وتارةً ألفًا، فلا أَعُدُّها مع التي أشكالُها محفوظةٌ معروفةٌ، فهي جاريةٌ على الألْسُن موجودةٌ في اللفظ، ويستدل عليها بالعلامات في الخطّ, لأنّه لا صورةَ لها.
والصوابُ ما ذكره سيبويه (¬1) وأصحابُه من أنّ حروف المعجم تسعة وعشرون حرفًا، أوّلُها الهمزة، وهي الألف التي في أوّل حروف المعجم: وهذه الألفُ هي صورتُها على الحقيقة، وإنّما كُتبت تارةً واوًا وياءً أخرى على مذهب أهل الحجاز في التخفيف، ولو أريد تحقيقُها, لم تكن إلَّا ألفًا على الأصل، ألا ترى أنّها إذا وقعت موقعًا لا تكون فيه إلَّا محقّقةً، لا يمكن فيه تخفيفُها، وذلك إذا وقعت أوّلًا، لا تُكتب إلَّا ألفًا، نحو: "أَعْلَمُ"، "اِذْهَبْ"، "اخرِجُ"، وفي الأسماء "أَحْمَدُ"، "إبْرَاهِيمُ"، "أُتْرُجَّة". وذلك لمّا وقعت أوّلًا، لم يمكن تخفيفها لقربها من الساكن، فكما لا يُبتدأ بساكن، كذلك لا يُبتدأ بما قرب منه. وأمر آخرُ يدلّ أنّ صورة الهمزة صورةُ الألف أنّ كلّ حرف سمّيتَه، ففي أوّل حروف تسميته لفظُه بعينه، ألا ترى أنّك إذا قلت: "ياءٌ" ففي أوّل حروفه ياءٌ, وإذا قلت: "تاءٌ" ففي أوّل حروفه تاءٌ, وكذلك جيمٌ ودال وسائر حُروف المعجم، فكذلك إذا قلت: "أَلِفٌ" فأوّلُ الحروف التي نطقتَ بها همزةٌ، فدلّ ذلك أنّ صورتها صورةُ الألف. فأمّا الألف الليّنة التي في نحو: "قَالَ"، و"بَاعَ"، فإنّها مدّةٌ لا تكون إلَّا ساكنةً، فلم يمكن تسميتُها على منهاج إخواتها؛ لأنّه لا يمكن النطقُ بها في أوّل الاسم، كما أمكن النطقُ بالجيم والدال وغيرِهما، فنطقوا بها البتّة، ولم يمكن النطقُ بها منفردةً، فدعموها باللام؛ ليصحّ النطقُ بها، كما صحّ بسائر الحروف غيرِها. وقد يلحق هذه الحروفَ التسعة والعشرين ستّةٌ أخرى تتفرّع منها، فتصير خمسة وثلاثين حرفًا، فهذه الستّةُ فصيحةٌ يؤخَذ بها في القرآن وفصيح الكلام، وهي النون الخفيفة، ويقال: "الخفيّة"، والهمزة المخفّفة، وهي همزةُ بين بين، وألفُ التفخيم، وألفُ الإمالة، والشين التي كالجيم، والصاد التي كالزاي. وإنّما كانت هذه الحروف فروعًا؛ لأنّهن الحروفُ التي ذكرناها لا غيرُهنّ، ولكن أُزلْن عن معتمَدهنّ , فتغيّرت جروسُهنّ، والمرادُ بها ما ذكرنا. فالنونُ الخفيفة المراد بها الساكنة في نحو: "مِنْكَ" و"عَنْكَ"، فهذه النونُ مخرجُها من الخيشوم، وإنّما يكون مخرجها من الخيشوم مع خمسةَ عشرَ حرفًا من حروف الفم، وهي القاف، والكاف، والجيم، والشين، والصاد، والضاد، والسين، والزاي، والطاء، والظاء، والدال، والتاء، والذال، والثاء، والفاء، فهي متى سكنت، وكان بعدها حرفٌ من هذه الحروف، فمخرجُها من الخيشوم، لا عِلاجَ على الفم في إخراجها. ولو نطق بها الناطقُ مع أحد هذه الحروف، وأمسك أنفَه، لَبان اختلالُها. وإن كانت ساكنة، وبعدها حرفٌ من حروف الحلق الستة، فمخرجُها من الفم من موضع الراء واللام، ¬
وكانت بيّنة غيرَ خفيّة، وذلك من قبل أنّ النون الخفيّة إنّما تخرج من حرف الأنف الذي يحدث إلى داخل الفم لا من المنخر، فلذلك خفيت مع حروف الفم, لأنهنّ يُخالِطنها، وتبيّنت عند حروف الحلق لبُعْدهنّ عن الحرف الذي يخرج منه الغنّةُ. فإذا لم يكن بعدها حرفٌ البتّة، كانت من الفم، وبطلت الغنّةُ، كقولك: "مِنْ"، و"عَنْ" ونحوهما ممّا يوقَف عليه. فأمّا همزةُ بين بين فهي الهمزة التي تُجعل بين الهمزة وبين الحرف الذي منه حركتُها، فإذا كانت مكسورة، كانت بين الهمزة وبين الياء، وإذا كانت مضمومة فهي بين الهمزة والواو، وإذا كانت مفتوحة فهي بين الهمزة والألف. وقد تقدّم بعضُ ذلك في همزةِ بين بين. وأمّا ألف التفخيم فأن يُنْحَى بها نحو الواو، فكتبوا: "الصَّلاة" و"الزّكاة" و"الحياة" بالواو على هذه اللغة. وأمّا ألف الإمالة، فتُسمّى ألفَ الترخيم؛ لأنّ الترخيم تليينُ الصوت، ونقصانُ الجهْر فيه، وهي بالضدّ من ألف التفخيم؛ لأنّك تنحو بها نحو الياء، وألفُ التفخيم تنحو بها نحو الواو. وأمّا الشين التي كالجيم، فقولك في "أَشْدَقُ": "أَجْدَقُ", لأن الدال حرفٌ مجهورٌ شديدٌ، والجيم مجهورٌ شديدٌ، والشين مهموسٌ رِخْوٌ، فهي ضدُّ الدال بالهمس والرخاوة، فقرّبوها من لفظ الجيم؛ لأنّ الجيم قريبةٌ من مخرجها موافقةُ الدال في الشدّة والجهر. وكذلك الصاد التي كالزاي، نحو قولهم في "مصدر": "مصدر"، وفي "يصدق": "يصدق" وقد قُرىء: {الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} (¬1) بإشمام الصادَ الزايَ، وهي قراءة حمزة. وعن أبي عمرو فيها أربع قراءات، منها "الصراط" بين الصاد والزاي، رواها عُرْيان بن أبي شَيْبانَ، قال: سمعتُ أبا عمرو يقرأ: "الصراط" بين الصاد والزاي، كأنّه أشرب الصادَ صوتَ الزاي حتى تُوافِق الطاء في الجهر, لأن الصاد مهموسة، والطاء والدال مجهورتان، فبينهنّ تنافٍ وتنافرٌ، فأشربوا الصاد صوت الزاي, لأنّها أختُها في الصفير والمخرج، وموافقةٌ للطاء والدال في الجهر، فيتقارب الصوتان، ولا يختلفان. ويتفرّع منها أيضًا ثمانية أحرف غير مستحسنة وهي: الكاف التي كالجيم، والجيم التي كالكاف، والجيم التي كالشين، والضاد الضعيفة، والصاد التي كالسين، والطاء التي كالتاء، والظاء التي كالثاء، والباء التي كالفاء، فهذه حروفٌ مسترذَلةٌ غيرُ مأخوذ بها في القرآن العزيز، ولا في كلام فصيح. ¬
فصل [أقسام الحروف وصفاتها]
فأمّا الكاف التي بين الجيم والكاف، فقال ابن دُرَيْد: هي لغةٌ في اليمن، يقولون في "جَمَلٍ": "كَمَل"، وفي "رَجُلٍ": "رَكُل". وهي في عَوامِّ أهل بغداد فاشيةٌ شبيهةٌ باللُّثْغة. والجيم التي كالكاف كذلك، وهما جميعًا شيءٌ واحدٌ، إلَّا أنّ أصل إحداهما الجيم، وأصل الأخرى الكاف، ثمّ يقلبونهما إلى هذا الحرف الذي بينهما. وأمّا الجيم التي كالشين، فهي تكثر في الجيم الساكنة إذا كان بعدها دالٌ أو تاء, نحو قولهم في "اجتمعوا"، و"الأجدر": "اشتمعوا"، و"الأشدر"، فتقرب الجيم من الشين, لأنّهما من مخرج واحد، إلَّا أنّ الشين أبينُ وأفشى، فإن قيل: فما الفرق بين الشين التي كالجيم حتى جُعلت في الحروف المستحسنة، وبين الجيم التي كالشين حتى جُعلت في الحروف المستهجنة؟ قيل: إِنّ الأوّل كُره فيه الجمعُ بين الشين والدال لِما بينهما من التباين الذي ذكرناه؛ وأمّا إذا كانت الجيم مقدّمة كـ"الأجدر"، و"اجتمعوا"، فليس بين الجيم والدال من التنافي والتباعد ما بين الشين والدال؛ فلذلك حسُن الأوّل وضعُف الثاني. وأمّا الطاء التي كالتاء، فإِنَّها تُسْمَع من عَجَم أهل العراق كثيرًا، نحو قولهم في "طالب": "تالب"؛ لأنّ الطاء ليست من لغتهم، فإذا احتاجوا إلى النطق بشيء من العربيّة فيه طاءٌ، تكلّفوا ما ليس في لغتهم، فضعفُ لفظُهم بها. والضاد الضعيفة من لغةِ قوم اعتاصت عليهم، فرُبما أخرجوها طاء، وذلك أنّهم يُخْرِجونها من طرف اللسان وأطرافِ الثنايا، وربّما راموا إخراجَها من مخرجها، فلم يَتَأَتَّ لهم، فخرجت بين الضاد والظاء. ومثال الصاد كالسين قولهم في "صِبْغ": "سبغ"، وليس في حسنِ إبدالِ الصاد من السين, لأنّ الصاد أمضى في السمع من السين، وأصفرُ في الفم. ومثالُ الظاء كالثاء قولهم في "ظلم": "ثلم". ومثال الباء كالفاء قولهم في "بورٍ" "فورٌ"، وهي كثيرة في لغة الفُرْس. وكأنّ الذين تكلّموا بهذه الحروف المسترذَلة قومٌ من العرب خالطوا العجمَ، فتكلّموا بلغاتهم، فاعرفه. فصل [أقسام الحروف وصفاتها] قال صاحب الكتاب: وتنقسم إلى المجهورة والمهموسة، والشديدة والرخوة، وما بين الشديدة والرخوة، والمطبقة، والمنفتحة، والمستعلية والمنخفضة، وحروف القلقة، وحروف الصفير، وحروف الذَّلاقة، والمصمتة، واللينة، وإلى المنحرف، والمكرَّر، والهاوي، والمهتوت.
فالمهجورةُ ما عدا المجموعةَ في قولك: "سَتَشْحَثُكَ خصَفَةٌ"، وهي المهموسةُ. والجَهْرُ إشباعُ الاعتماد في مخرج الحرف، ومنعُ النَّفَس أن يجرى معه , والهَمْسُ بخلافه، والذي يتعرّف به تبايُنُهما أنّك إذا كرّرت القافَ، فقلتَ:"قَقَقْ"، وجدتَ النَّفَسَ محصورًا، لا تُحسّ معها بشيء منه، وتُردّد الكافَ، فتجد النَّفَسَ مِقاوِدًا لها ومُساوِقًا لصوتها. والشديدةُ ما في قولك: "أَجَدْتَ طَبَقَكَ"، أو "أَجِدُكَ قَطَبْتَ". والرِّخْوَةُ ما عداها، وعدا ما في قولك: "لِمَ يَرُوعُنَا"، أو "لَمْ يَرْعَوْنَا". وهي التي بين الشديدة والرخوة. والشِّدّةُ أن ينحصر صوتُ الحرف في مخرجه، فلا يجري. والرَّخاوةُ بخلافها، ويتعرّف تبايُنُهما بأن تَقِف على الجيم والشين، فتقول: "الحَجْ"، و"الطَّشْ"، فإنّك تجد صوت الجيم راكدًا محصورًا لا تقدر على مَدّه، وصوتَ الشين جاريًا تمُدّه إن شئتَ، والكونُ بين الشدّة والرخاوة أن لا يَتِمّ لصوته الانحصارُ ولا الجَرْيُ، كوَقْفك على العين، وإحساسِك في صوتها بِشْبهِ الانسلال من مخرجها إلى مخرج الحاء. والمُطبَقةُ: الضادُ والطاء والصاد والظاء، والمنفتحةُ ما عداها. والإطباقُ أن تُطْبِق على مخرج الحرف من اللسان ما حاذاه من الحنك، والانفتاحُ بخلافه. والمستعليةُ الأربعةُ المُطبَقةُ، والخاء والغينُ والقاف. والمنخفضةُ ما عداها. والاستعلاءُ ارتفاعُ اللسان إلى الحنك أطبقتَ أو لم تُطْبِقْ، والانخفاضُ بخلافه. وحروفُ القَلْقَلة ما في قولك: "قَدْ طَبَجَ". والقلقلةُ ما تُحِسُّ به إذا وقفتَ عليها من شدة الصوت المتصعّد من الصدر مع الحَفْز والضَّغْط. وحروفُ الصغير: الصادُ والزاي والسين, لأنّها يُصْفَر بها. وحروف الذَّلاقة ما في قولك: "مُرْ ينَفَل". والمُصمَتةُ ما عداها. والذَّلاقةُ الاعتمادُ بها على ذَلْقِ اللسان، وهو طرفُه، والإصماتُ أنّه لا يكاد يُبْنَى منها كلمةٌ رباعيةٌ أو خماسيةٌ مُعَراةٌ من حروف الذلاقة، فكأنّه قد صُمِتَ عنها. واللينةُ حروفُ اللِّين، والمنحرفُ اللامُ. قال سيبويه (¬1): هو حرف شديد جَرَى فيه الصوتُ، لانحراف اللسان مع الصوت. والمكرَّرُ الراء , لأنّك إذا وقفت عليه، تَعثّر طرفُ اللسان بما فيه من التكرير. والهاوِي الألفُ, لأنّ مخرجه اتّسع لهَواء الصوت أشدَّ من اتّساعِ مخوج الياء والواو. والمهتوتُ التاء لضَعْفها وخَفائها. وصاحبُ العين (¬2) يسمّي القاف والكاف لَهَويّتين، ¬
لأن مَبْدَأهما من اللَّهاة. والجيمَ والشين والضاد شَجْريّةً, لأنّ مبدأها من شَجْر الفَم، وهو مَفْرِجُه، والصادَ والسين والزاي أَسَليةً, لأنّ مبدأها من أسَلة اللسان، والطاء والدال والتاء نِطْعيةً, لأنّ مبدأها من نِطَع الغار الأَعْلَى، والظاء والذال والثاء لِثَويةً, لأنّ مبدأها من اللِثة، والراء واللام والنونَ ذَوْلَقيّةً؛ لأنّ مبدأها من ذَوْلق اللسان، والواوَ والفاء والباء والميم شَفَويّةً، أو شَفَهيّةً، وحروفّ المَدّ واللّين جُوفًا. * * * قال الشارح: اعلم أنّنا قد ذكرنا عدّةَ الحروف أصولِها وفروعِها, ولها انقساماتٌ بعد ذلك، نحن نذكرها, فمن ذلك انقسامُها إلى الجهر والهمس. فالمهموسة عشرة أحرف، وهي الهاء، والحاء، والخاء، والكاف، والسين، والصاد، والتاء، والشين، والثاء، والفاء، وتجمعها في اللفظ "ستشحثك خصفه". وباقي الحروف الآخر تسمّى مجهورة؛ لأنّ الهمس الصوتُ الخفىُّ، فضعف الاعتمادُ فيها، وجرى النَّفَسُ مع ترديد الحرف لضُعْفه. وضبطنا المهموسةَ بما ذكرنا من قولنا: "ستشحثك خصفه" ليسهلَ ضبطُها لقلّةِ من يصل إليها؛ لأنّها في آخر كُتُب النحو. وللحروف أقسامٌ أُخَرُ إلى الشدّة والرخاوة وما بينهما، فالشديدة ثمانية أحرف، وهي الهمزة، والقاف، والكاف، والجيم، والطاء، والدال، والتاء، والباء، وتجمعها في اللفظ "أجدت طبقك" أو"أجدك قطبت". والحروف التي بين الشديدة والرِّخْوة ثمانيةٌ أيضًا، وهي الألف، والعين، والياء، واللام، والنون، والراء، والميم، والواو، وتجمعها في اللفظ "لم يَرُوعُنَا"، وإن شئت قلت: "لَمْ يَرْعَوْنَا". وما سوى هذه الحروف والتي قبلها هي الرخوة. ومعنى الشديدة أنّه الحرفُ الذي يمنع الصوت أن يجري فيه، وذلك أنّك لو قلت: "الحَجْ" ومددتَ صوتك لم يجز، وكذلك لو قلت: "الحَقْ"، و"الشَّطْ"، ثمّ رُمْتَ مدَّ صوتك في القاف والطاء، لكان ممتنعًا. والرِّخْوُ هو الذي يجري فيه الصوتُ، ألا ترى أنّك تقول: "هو المَسْ والرَّش والسَّحْ" ونحو ذلك، فتجد الصوت جاريًا مع السين والشين والحاء. والفرق بين المجهورة والشديدة أنّ المجهورة يقوى الاعتمادُ فيها، والشديدةُ يشتدّ الاعتمادُ فيها بلزومها موضعَها لا بشدّة الوَقْع، وهو ما ذكرناه من الضَّغْط، ألا ترى انّ الذال والظاء مجهورتان غير مضغوطتين، فتقول: "إذًا ظ" فيجري معها صوتٌ ما. والفرق بين المهموسة والرخوة أنّ المهموسة هي التي تتردّد في اللسان بنَفْسها أو بحرفِ اللين الذي معها, ولا يمتنع النَّفَسُ والصوتُ الذي يخرج معها نَفَسٌ، وليس من الصدر؛ وأمّا الرخوة فهي التي يجري النَّفَسُ فيها من غير ترديد، وهو صوتٌ من الصدر؛
وأمّا التي بين الرخوة والشديدة فهي شديدة في الأصل، وإنّما يجري النَّفَسُ معها لاستعانتها بصوتِ ما جاوَرَ من الرخوة، كالعين التي يستعين المتكلّمُ عند لفظه بها بصوت الحاء، وكاللام التي يجري فيها الصوتُ لانحرافها واتصالِها بما قدّمنا ذكرَه من الحروف، كالنون التي تستعين بصوت الخياشيم لما فيها من الغنّة، وكحروف المدّ واللين التي يجري فيها الصوتُ للينها. ومن أقسامها المُطْبَقة والمنفتحة؛ فأمّا المطبقةُ فأربعةُ أحرف: الصاد، والضاد، والطاء، والظاء، وما سوى ذلك فمفتوحٌ غير مطبق. والإطباقُ أن ترفع ظهرَ لسانك إلى الحنك الأعلى مُطْبِقًا له، ولولا الإطباقُ لصارت الطاء دالًا، والصادُ سينًا، والظاء ذالًا، ولخرجت الضادُ من الكلام, لأنّه ليس من موضعها شيءٌ غيرُها، فتزول الضادُ إذا عدِمتِ الإطباقَ البتّة. وأمّا المستعلية والمنخفضة، فمعنى الاستعلاء أن تتصعّد في الحنك الأعلى، فأربعةٌ منها مع استعلائها إطباق، وقد ذكرناها، وثلاثةٌ لا إطباقَ مع استعلائها، وهي الخاء والغين والقاف، وما عداها فمنخفضٌ. وأمّا حروف القلقلة فهي خمسة: القاف، والجيم، والطاء، والدال، والباء، ويجمعها "قد طبج". وهي حروفٌ تخفى في الوقف، وتُضْغَط في مواضعها، فيُسْمَع عند الوقف على الحرف منها نَبْرَةٌ تتبعُه. وإذا شدّدتَ ذلك وجدتَه، فمنها القاف، تقول: "الحَقْ"، ومنها الكاف إلا أنّها دون القاف, لأنّ حصر القاف أشدُّ، وإنّما تظهر هذه النبرةُ في الوقف، فإن وصلتَ لم يكن ذلك الصوتُ، لأنّك أخرجت اللسان عنها إلى صوت آخر، فحُلْتَ بينه وبين الاستقرار. وهذه القلقلةُ بعضُها أشدُّ حصرًا من بعض كما ذكرنا في القاف. وسُمّيت حروفَ القلقلة، لأنّك لا تستطيع الوقوفَ عليها إلا بصوت، وذلك لشدّة الحصر والضَّغْطِ نحو: "الحقْ"، "اذهبْ"، "اخلطْ"، "اخرجْ". وبعضُ العرب أشدُّ تصويتًا من بعض. ومن ذلك حروف الصفير" وهي: الصاد، والزاي، والسين, لأنّ صوتها كالصفير، لأنّها تخرج من بين الثنايا، وطرف اللسان، فينحصر الصوتُ هناك ويُصْفَر به. ومن ذلك حروف الذلاقة، وهي ما في "مر بنفل". وقيل لها ذلك؛ لأنّها تخرج من ذَوْلَق اللسان، وهو صدرُه وطرفُه، ولا تكاد تجد اسمًا رباعيًّا أو خماسيًّا حروفُه كلُّها أصول عارِيًا من شيء من هذه الحروف الستّة. وأمّا المُصْمَتة فما عدا حروفَ الذلاقة، وقيل لها مصمتة كأنّه صُمِتَ عنها أن يبنى منها كلمةٌ رباعيّةٌ أو خماسيّةٌ معرّاةٌ من حروف الذلاقة، كأنّها أُصمتتْ عن ذلك، أي: أُسكتتْ. وقيل: إنّما قيل لها مصمتة لاعتياصها على اللسان.
فصل [كيفية الادغام]
ومنها الحروف الليّنة، وهي الألف والياء والواو، وهي حروف المدّ واللين، وقيل لها ذلك لاتساع مخرجها. والمَقْطَعُ إذا اتّسع انتشر الصوتُ ولانَ، وإذا ضاق انضغط فيه الصوت وصُلب، إلّا أنّ الألف أشدُّ امتدادًا واستطالةً، إذ كان أوسعَ مخرجًا، وهي الحرف الهاوى، وقد ذُكرت قبلُ. ومنها المنحرف، وهو اللام؛ لأنّ اللسان ينحرف فيه مع الصوت، وتتجافى ناحِيَتَا مستدَق اللسان عن اعتراضهما على الصوت، فيخرج الصوتُ من تَيْنك الناحيتَيْن وممّا فُوَيْقَهما. قال سيبويه (¬1): وهو حرف شديد جرى فيه الصوتُ لانحراف اللسان مع الصوت. ومن ذلك المكرَّر، وهو الراء، وذلك إذا وقفتَ عليه، رأيتَ اللسان يتعثّر بما فيه من التكرير، ولذلك احتُسب في الإمالة بحرفَيْن. والهاوي الألف، ويقال له: "الجَرْسيّ"؛ لأنّه صوتٌ لا معتمَدَ له في الحلق. والجرسُ الصوت، وهو حرفٌ اتّسع مخرجُه لهواء الصوت أشدَّ من اتّساع مخرج الواو والياء، لأنّك تضُمّ شفتيك في الواو، وترفع لسانَك إلى الحنك في الياء؛ وأمّا الألفُ، فتجد الفم والحلق منفتحين غيرَ معترِضين على الصوت بضغطٍ ولا حصرٍ. وهذه الثلاثة أخفى الحروف لاتّساع مخرجها وأخفاهنّ، وأَوْسعُهنّ مخرجًا الألفُ. ومنها المهتوت، وهو التاء، وذلك لما فيه من الضعف والخفاء من قولهم: "رجلٌ مِهَتٌّ وهَتّاتٌ"، أي: خفيف كثيرُ الكلام. وكان الخليل يسمّي القاف والكاف لهويّتين، لأن مَبدأهما من اللَّهاة، واللهاةُ: أقصى سَقْف الفم المُطْبِق على الفم، والجمع اللَّهَا. والجيمَ والشينَ والضادَ شجريّة, لأنّ مبدأها من شَجْر الفم، والشجرُ ما بين اللَّحْيَيْن. والصادَ والسينَ والزايَ أسلية؛ لأنّ مبدأها من أَسَلة اللسان. والظاء والذالَ والثاء لثويّة, لأن مبدأها من اللِّثة. والراء والنونَ واللامَ ذولقيّة, لأنّ مبدأها من ذَوْلَق اللسان. والطاء والدالَ والتاء نطعيّة, لأن مبدأها من نطع الفم. وقد ذكرنا ذلك أوّلُ، وإنّما أعدناه ههنا ليُعرَف ما يحسن فيه الادغامُ، وما لا يحسن، وما يجوز فيه، وما لا يجوز على ما سيأتي، فاعرفه. فصل [كيفية الادغام] قال صاحب الكتاب: وإذا ريم ادّغام الحرف في مقاربة فلا بدّ من تقدمه قلبه إلى لفظه ليصير مثلاً له، لأن محاولة ادّغامه فيه كما هو محالٌ, فإذا رمت ادّغام الدال فى ¬
السين من قوله تعالى: {يكاد سنا برقه} (¬1) فاقلب الدال أولاً سينًا, ثم ادّغمها في السين, فقل: "يكا سَّنَا برقه". وكذلك التاء في الطاء من قوله تعالي: {وقالت طائفة} (¬2). * * * قال الشارح: الحروف المتقاربة في الادغام كالأمثال؛ لأن العلة الموجِبة للادغام في المثلين موجودة في المتقاربين، إذ قربت منها، وذلك لأنّ إعادة اللسان إلى موضع قريب ممّا رفعتَه عنه، كإعادته إلى نفس الموضع الذي رُفع عنه ولذلك شُبّه بمَشْي المقيَّد؛ لأنّه يرفع رِجْله ويضعها في موضعها الذي كانت فيه، أو قريبًا منه، فيثقُل ذلك عليه. كذلك اللسانُ إذا رفعتَه عن مكان، وأعدتَه إليه، أو إلى قريب منه، ثقُل ذلك، فلذلك وجب الادغامُ، إلا أنّك إذا ادغمتَ المثلين المتحرّكين، عملتَ شيئين: أسكنتَ الأوّل وادغمتَه في الثاني مثلَ "جَعَلَ لَكَ"، و"جَعَلَ لَهُمْ". فإن كان الأوّل ساكنًا قبل الادغام عملتَ شيئًا واحدًا, وهو الادغام مثلُ: "قُلْ لَهُ"، و"اجْعَلْ لَهُ". وإذا ادغمتَ المتقاربين المتحرّكين، عملتَ ثلاثة أشياء. أسكنتَ الأوّل منهما، وقلبتَ الحرف الأول إلى لفظ الثاني، وادغمتَ، نحو "بَيْتُ طائِفَةٍ". وإن كان أحدُ المتقاربين ساكنًا في أصله مثلَ لام المعرفة؛ فليس إلّا عَمَلان: قلبُ الأوّل، وادغامُه، مثلُ: "الرّجل"، و"الذّاهب"؛ لأنّ لام المعرفة في اللفظ من لفظ الحرف الذي بعدها، وهي لامٌ في الخطّ. فإذا التقى حرفان متقاربان ادُّغم الأوّل منهما في الثاني، ولا يمكن ادغامُه حتى يُقْلَب إلى لفظ الثاني. فلو أخذتَ في ادّغام المُقارِب في مقاربه من غير قلب، استحال؛ لأنّ الادغام أن تجعلَ الحرفين كحرف واحد، ترفع اللسان بهما رفعةً واحدةً، وذلك لا يتأتّى مع اختلاف الحرفين, لأنّ الحرفين، وإن تَقارب مخرجاهما، فهما مختلفان في الحقيقة، فيستحيل أن يقع عليهما رفعةٌ واحدةٌ، فلذلك وجب قلبُه إلى لفظ الثاني. وهذا معنى قوله: "إذا ريم ادِّغام الحرف في مقاربة"، أي: إذا قُصد، وطُلب. فعلى هذا لا يصح الادغامُ على الحقيقة إلّا في المثلين. من ذلك قوله عر وجل: {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ} (¬3)، فإذا أردتَ ادّغام الدال في السين لتقارُب مخرجيهما، أبدلتَ من الدال سينًا، ثم ادغمتَ السين في السين، وقلت: "يكا سّنا برقه". وكذلك قوله تعالى: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ} (¬4)، تبدل من التاء طاء، ثم تدّغمها حينئذ. وهذا الإبدالُ إنّما يكون في المنفصلين بسكون الحرف الأول, لأنّه لامٌ، ولا يُخِل ببناء الكلمة. ¬
فصل [أوجه التقاء الحرفين المتقاربين]
وهذا القلب والادغام على ثلاثة أضرب: ضربٌ يُقْلَب الأوّل إلي لفظ الثاني، ثمّ يُدّغم فيه، وهذا حقُّ الادغام، وضرب يقلب فيه الثاني إلى لفظ الأوّل، فيتماثل الحرفان، فيُدّغم الأوّل في الثاني، وضربٌ يُبْدَل الحرفان معًا فيه ممّا يقاربهما، ثمّ يدّغم أحدهما إلى الآخر، وسيوضَح ذلك مفضَّلًا إن شاء الله تعالى. فصل [أوجه التقاء الحرفين المتقاربين] قال صاحب الكتاب: ولا يخلو المتقاربين من أن يلتقيا في كلمة, أو كلمتين, فإن التقيا في كلمة, نُظر: فإن كان ادّغامهما يؤدي إلى لبس, لم يجز, نحو:"وتد" و"عتد" و"وتد يتد" و"كنية"، و"شاةٍ زنماء"، و"غنم زنم". ولذلك قالوا في مصدر "وطد" و"وتَدَ": "طِدَةً" و"تِدَةً". وكرهوا "وطداً", و"وتداً"؛ لأنهم من بيانه وادغامه بين ثقل ولبس، وفي "وتد يتد" مانعٌ آخر, وهو أداء الادغام إلى إعلالين, وهما حذف الفاء في المضارع والادغام، ومن ثم لم يبنوا نحو: "وددت" بالفتح؛ لأن مضارعه "كان يكون" فيه إعلالان، وهو قولك: "يَدُّ". وإن لم يلبس جاز نحو: "امَّحى", و"همرش" وأصلهما: "انمحى" و"هنمَرشٌ"، لأن "افَّعَلَ" و"فَعَّلِلاً" ليس في أبنيتهم, فأمن الإلباس. وإن التقيا في كلمتين بعد متحرك أو مدة, فالادغام جائزٌ؛ لأنه لا لبس فيه، ولا تغيير صيغة. * * * قال الشارح: اعلم أنَّ الحروف المتقاربة تجري مجرى الحروف المتماثلة في الادغام؛ لأنّ المتقاربين كالمتماثلين؛ لأنّهما من حيّز واحد، فالعلّةُ الموجِبةُ للادغام في المثلين قريبٌ منها في المتقاربين, لأنّ إعادة اللسان إلى موضع قريب ممّا رفعتَه عنه كإعادته إلى نفس الموضع الذي رفعتَه عنه، ولذلك، شبّه بمَشْي المقيَّد. فإذا التقى حرفان متقاربان، ادُّغم الأوّل منهما في الثاني، ولا يمكن ادغامُه حتى يُقلب إلى لفظ الثاني. فعلى هذا لا يصحّ الادغام إلّا في مثلين، إذ لو تركتَه على أصله من لفظه، لم يجز ادغامُه لما فيهما من الخلاف, لأنّ رفع اللسان بهما رفعةً واحدةً مع اختلاف الحرفين محالٌ؛ لأنّ لكلّ حرف منهما مخرجًا غيرَ الآخر. ولا يمتنع ذلك في المتماثلين؛ لأنّ المخرج واحد يمكن أن يجمعهما في العمل، فيقع اللسانُ عليهما وقعًا واحدًا من حيث لا يفصل بينهما زمانٌ. فالادغامُ في المتقاربة على التشبيه بالأمثال، فكلما كانت أشدَّ تقارُبًا، كان الادغامُ فيهما أقوى. وكلّما كان التقارب أقلَّ، كان الادغام أبعدَ. والحروفُ المتقاربةُ كالمتماثلة في أنّها تكون منفصلة أو متّصلة، فالمنفصلةُ ما كان
من كلمتين، والمّتصلةُ ما كان في كلمة واحدة. فما كان من ذلك متّصلًا في كلمة واحدة، نُظر: فإن كان الأوّل متحرّكًا لم يُدّغم؛ لضُعف الادغام في المتقاربين؛ لأنّ الادغام لمّا كان في المتماثلين هو الأصلَ، أُسكن الأوّل منهما، وادُّغم في الثاني، كقولك: "شَدَّ"، و"مَدَّ"، و"يَشُدّ"، و"يَمُدّ". ولا يُفعل مثل ذلك في المتقاربين، إذا كان الأوّل متحرّكًا, لأنّه يصير كإعلالَيْن: الإسكانِ والقلبِ، فإن أسكنتَ الحرف الأوّل من المتقاربين تخفيفًا على حد الإسكان في "كتْفٍ"، و"فَخْذٍ" لأجل الادغام جاز حينئذ الادغامُ، فتقول في "وَتِدٍ"، و"عَتَدٍ": "وتْد" و"عَتْد"، بالإسكان للتخفيف، ثم تقول: "وَدٌّ"، "وعَدٌ" بالادغام. والأكثرُ في هذا أن لا يُدّغم للإلباس بالمضاعف، فلذلك لم يقولوا في الفعل من نحو: "وَتَدَ يَتِدُ": "ودّ يَدُّ"؛ لئلّا يتوهّم أنّه فعلٌ من تركيب "ودد"، مع أنّهم لو قالوا: "يَدُّ" في "يَتِدُ"، لتَوالى إعلالان: حذفُ الواو التي هي فاء، وَقلبُ التاء إلى الدال. وكذلك كرهوا الادغام في "كُنْيَةٍ"، و"شاةٍ زَنْماءَ"، وهي التي يتدلّى في حَلْقها شِبْهُ اللَّحْية، ولا يكون ذلك إلّا في المَعْز. وقالوا: "غَنَمٌ زُنْمٌ"، فلم يدّغموا، فيقولوا: "كُيَّةٌ"، و"زَمّاءٌ"، "وزُمُّ". ومثله: "قَنْواء"، و"قُنْيَةٌ"، أظهروا في ذلك كلّه، ولم يدّغموا كراهيةَ الإلباس، فيصير كأنّه من المضاعف؛ لأن هذه الأمثلة قد تكون في كلامهم مضاعفًا. ألا ترى أنّهم قد قالوا: "امَّحَى الشيء" فادّغموا حين أمنوا الإلباسَ, لأنّ هذا المثال لا يضاعَف فيه الميمُ؟ قال سيبويه (¬1): وسمعتُ الخليل يقول في "انفعل" من "وَجِلَ": "اوَّجَلَ"، كما قالوا: "امّحى"؛ لأنّها نونٌ زيدت في مثالٍ لا يضاعف فيه الواو. وقالوا:"هَمَّرِشٌ" في "هَنْمَرِشٌ"، فادّغموا حيث لم يخافوا الإلباسَ, لأنّه لم يأت من بنات الأربعة مضاعفُ العين. والهمّرشُ العجوز المُسِنّة، وهو خماسيّ مثلُ "جَحْمَرِشٍ". وقوله: ومن ثمّ لم يبنوا من نحو: "وددت" "فَعَلْت" بالفتح، يريد أنّهم قالوا: "وَدِدْت أوَدُّ" من "المَوَدَّة"، فبنوا الفعل في الماضي على "فَعِلْت" بالكسر؛ ليكون المضارع على "يَفْعَل" مثلِ "يَوْجَل". ولا يلزم فيه حذفُ الفاء التي هي الواو، ولو بُني على "فَعَلْت" بالفتح، لزم المضارعَ "يَفْعِل" بالكسر، وكنتَ تحذف الواو على حدّ حذفها في "يَعِدُ"، ثمّ تدّغم الدال في الدال بعد إسكانها، فيتوالى إعلالان، فاعرفه. ¬
فصل [موانع الادغام في الحرفين المتقاربين, ومواضع الادغام في الحرفين المتباعدين]
فصل [موانع الادّغام في الحرفين المتقاربين, ومواضع الادّغام في الحرفين المتباعدين] قال صاحب الكتاب: وليس بمطلق أن كل متقاربين في المخرج يُدّغم أحدهما في الآخر، ولا أن كل متباعدين يمتنع ذلك فيهما, فقد يعرض للمقارب من الموانع ما يحرمه الادّغام، ويتفق للمباعد من الخواص ما يسوّغ ادّغامه, ومن ثم لم يدّغموا حروف "ضوي مشفَرٌ" فيما يقاربها, وما كان من حروف الحلق أدخل في الفم في الأدخل في الحلق. وادّغموا النون في الميم، وحروف طرف اللسان في الضاد والشين. وأنا أفصل لك شأن الحروف واحداً فواحداً، وما لبعضها مع بعض في الادّغام؛ لأقفك على حدِّ ذلك عن تحقق واستبصار بتوفيق الله تعالى وعونه. * * * قال الشارح: اعلم أنّ اجتماع المتقاربين سببٌ مقتض للادغام، كما كان كذلك في المثلين، إلّا أنّه قد يعرض مانعٌ يمنع من الادغام. فامتناع الادغام ما كان لعدم المقتضى، بل لوجود المانع. فمن ذلك الضاد، والميم، والراء، والفاء، والشين، ويجمعها "ضَمُّ شُفْر". وكذلك كلّ حرف فيه زيادةُ صوت لا يُدّغم فيما هو أنقصُ صوتًا منه، فهذه الحروفُ لا تُدّغم في مقاربها، ويُدّغم مقاربُها فيها، فلا تُدّغم الميم في الباء، نحو: "أَكرِمْ بَكْرًا"، وتُدّغم فيها الباء، نحو: "اصحَبْ مَّطَرًا". ولا تُدّغم الشين في الجيم. وتُدّغم الجيم في الشين. ولا تدّغم الفاء في الباء، نحو: "اعْرِفْ بَكرًا". وتدّغم الباء في الفاء، نحو: "اذهَبْ في ذلك". ولا تدّغم الراء في اللام، نحو: "اخْتَرْ له". وتدّغم اللام في الراء، نحو: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ} (¬1). وذلك لأنّ هذه الحروف فيها زيادةٌ على مُقارِبها في الصوت، فادّغامُها يؤّدي إلى الإجحاف بها وإبطال ما لها من الفضل على مُقارِبها. فالميم فيها غنّةٌ ليست في الباء، فإذا ادّغمتَها في الباء، فأنت تقلبها إلى الباء، وتستهلك ما فيها من زيادة الصوت والغنّة. وفي الشين تَفَشٍّ واسترخاء في الفم ليس في الجيم، وفي الفاء تأفيفٌ. والتأفيفُ هو الصوت الذي يخرج من الفم عقيبَ النطق بالفاء ليس في الباء. وفي الراء تكريرٌ ليس في اللام، وفي الضاد استطالةٌ ليست لشيء من الحروف، فلم يدّغموها في مُقارِبها شَحًّا على أصواتها لئلّا تذهب. وادُّغم فيها مقاربُها إذ لم يكن في ذلك نقصٌ، ولا إجحافٌ. وكذلك ما كان من حروف الحلق ممّا يجوز ادغامُه لأنّ من حروف الحلق ما لا ¬
فصل [ادغام الهمزة]
يُدّغم ولا يدغم فيه وهي الهمزة والألف. وسائرها تدّغم وتدّغم فيها. فما كان منها أدخلَ في الحلق لم يدّغم فيه الأدخلُ في الفم. فالهاء تدّغم في الحاء، نحو: "اجْبَه حَّمَلًا"؛ لأنّ الهاء أدخلُ في الحلق، والحاء أقربُ إلى الفم، فلذلك أدغمت الهاء في الحاء، ولم يدّغم الحاء في الهاء، نحوَ: "اِمْدَحْ هِلالًا". ولا تدّغم العين في الحاء؛ لأنّ العين أقربُ إلى الفم، وذلك من قبل أن الحرف إذا كان أدخلَ في الحلق، وادُّغم فيما بعده كان في ذلك تصعّدٌ في الحلق إلى الفم. وإذا عُكس ذلك، كان ذلك بمنزلة الهُوِيّ بعد الصعود والرجوع عكسًا. وأمّا ما يدّغم أحدهما في الآخر مع التباعد، فإِذ تَقاربا في الصفة، وإن تَباعدا مخرجًا، نحو الواو والياء، فهما متّفقان في صفة المدَ والاستطالة، ومخرجاهما متباعدان، فأحدُهما من الشفة، والآخر من وسط الفم. فإذا التقيا، وكان الأوّل منهما ساكنًا، قلِبَتْ الواو ياءً، وادّغمت في الياء. وكذلك النون تدّغم في الميم، نحو. "مَن مَّعك"؛ لأنّهما، وإن اختلفا من جهة اللسان والشفة، فقد اجتمعا في صفة الغنّة الحاصلة فيهما من جهة الخيشوم، وكذلك حروف طرف اللسان، وهي النون، والراء، والتاء، والدال، والصاد، والطاء، والزاي، والسين، والظاء، والذال، والثاء، تدّغم في الضاد والشين، وذلك لأنّها، وإن لم تكن من مخرجها، إلّا أنّها تُخالِطها, لأنّ الضاد استطالت لرخاوتها، والشين لِما فيها من التفشّي، فالتحقت بحروف طرف اللسان. فلمّا خالطتها، ساغ ادغامُهنّ فيها إلّا حروفَ الصفير. وسيأتي الكلام على الحروف مفصّلًا حرفًا حرفًا إن شاء الله تعالى. فصل [اِدِّغام الهمزة] قال صاحب الكتاب: فالهمزة لا تدغم في مثلها إلا في نحو قولك: "سأَّالٌ", و"رأَّاس" و"الدأَّاث" في اسم وادٍ فيمن يرى تحقيق الهمزتين. قال سيبويه (¬1): فأمّا الهمزتان فليس فيهما ادّغامٌ من قولك: "قرأ أبوك", و"أقرئ أباك". قال: وزعموا أن ابن أبي إسحاق كان يحقق الهمزتين, وناسٌ معه, وهي رديئة, فقد يجوز الادّغام في قول هؤلاء. ولا تدغم في غيرها, ولا غيرها فيها. * * * قال الشارح: اعلم أنّ الهمزة هي التي تُسمّى في أوّل حروف المُعْجَم ألفًا. وإنّما سمّوها ألفًا؛ لأنّها تُصوَّر بصورة الألف، وهي في الحقيقة نَبْرةٌ تخرج من أقصى الحلق، ¬
ولذلك ثقُلت عندهم. وقد تقدّم الكلام عليها في تخفيف الهمزة. وإذا كانت قد استُثقلت، فهي مع مثلها أثقلُ، فلذلك إذا التقت همزتان في غير موضع العين، فلا ادغامَ فيهما. ولهما بابٌ في التخفيف هو أَوْلى بهما من الادغام. فلا تدغم الهمزة إلّا أن تُليَّن إلى الواو، أو إلى الياء، فتُصادِف ما تدّغم الواوُ والياء فيه، فحينئذ يجوز ادغامُها على أنّها ياءٌ أو واوً، كقولنا في "رؤْيَة": "رِيَّةٌ"، إذا خفّفوا، فيجوز الادغامُ وتركُه. فمن لم يدغم، فلأنّ الواو يُنْوَى بها الهمزةُ. ومن ادغم، فلأنّه واوٌ ساكنةٌ بعدها ياءٌ، كقولهم: "طَوَيْته طَيًّا"، وأصله: طَوْيًا. فلا تدغم في مثلها، إلّا أن يكون عينًا مضاعفةً، وذلك في "فَعّالٍ"، و"فُعَّلٍ"، وما أشبههما ممّا عينه همزةٌ، نحو: "سَأّالٍ"، و"رَأّاسٍ"، و"جأّارٍ" من "الجُؤار"، وهو الصوت. ولو جمعت "سائلًا" و"جائرًا" على "فُعَّلٍ" لادغمتَ وقلت: "سُوَّلٌ"، و"جوَّرٌ". قال الهُذَليّ المُتَنَخِّل [من البسيط]: 1365 - لو أنّه جاءني جَوْعانُ مُهْتَلِكٌ ... من بُيَّسِ الناسِ عَنْهُ الخَيْرُ مَحجُوزُ قوله: "بُيَّس" جمع "بائِسٍ"، فهذا في كلمة واحدة. فأمّا إذا التقت همزتان في غير موضع العين، فلا ادغامَ، فإذا قلت: "قَرَأَ أَبوك"، فقد اجتمع همزتان، وإن كان التخفيف لإحداهما لازمًا، غير أنّ سيبويه حكى أنّ ابن أبي إسحاق كان يحقّق الهمزتين، وأنّها لغة رديئة لناسِ من العرب. وأجاز الادغامَ على قولِ هؤلاء، لكن ضعّفه، فقال: "وقد يجوز الادغام في قول هؤلاء" (¬1)، يعني يجوز ادغامُ الهمزتين إذا التقتا في قول هؤلاء، وإن لم تكن مضاعفة. نحو: ¬
فصل [عدم ادغام الألف]
"قَرَأَ أبوك"، و"أَقْرِىء أباك". وقد ذكرنا أحكام الهمزتين إذا التقتا في فصل الهمزة. ولا تدّغم في غيرها, ولا غيرها فيها , لانّها لا تدغم في مثلها، فادغامُها فيما قارَبَها أبعدُ. واعلم أنّ الادغام في حروف الفم واللسان هو الأصل، لأنّها أكثرُ في الكلام، فالثقلُ فيها إذا تَجاورت وتَقاربت أظهرُ، والتخفيفُ لها ألزمُ، وحروفُ الحلق وحروفُ الشفة أبعدُ من الادغام؛ لأنّها أقلُّ في الكلام، وأشقُّ على المتكلّم، وما ادّغم منها فلمقارَبة حروف الفم واللسان، فاعرفه. فصل [عدم ادِّغام الألف] قال صاحب الكتاب: والألف لا تدغم البتة لا في مثلها, ولا في مُقاربها, ولا يُسطاع أن تكون مدغماً فيها. * * * قال الشارح: الألف لا تدغم في مثلها, ولا فيما يقاربها، إذ لو ادغمت في مثلها، لصارتا غير ألفين, لأنّ الثاني من المدّغم لا يكون إلَّا متحرّكًا، والألفُ لا تُحرَّك، فتحريكُها يؤدّي إلى قلبها همزة، والأوّلُ لا يكون إلّا كالثاني، وان كان ساكنًا. فامتنع فيها مع ما قارَبَها ما امتنع فيها مع مثلها. وإن شئت أن تقول: لا تدغم في مثلها؛ لأذنّ الادغام لا يكون إلَّا في متحرّك، ولا يصحّ تحريك الألف، ولا تدغم في مقارب؛ لئلّا يزول ما فيها من زيادة المدّ والاستطالة، فاعرفه. فصل [ادِّغام الهاء] قال صاحب الكتاب: والهاء تُدّغم في الحاء وقعت بعدها أو قبلها, كقولك في "اجبه حاتمًا", و"اذبح هذه": "اجبحاتما", و"اذبحاذه". ولا يُدّغم فيها إلا مثلها, نحو: "اجبه هلالاً". * * * قال الشارح: أمّا الهاء، فإنّها تدغم في الحاء، سواءً وقعتْ قبلها أو بعدها، مثالُ وقوعها قبلها: "اجبه حاتمًا"، ومثالُ وقوعها بعدها: "اذبح هذه"، فتقول فيها: "اجْبَحَّاتِمًا"، و"اذبَحَّاذِهِ". وذلك لأنّهما متقاربان؛ لانّ الحاء من وسط الحلق، والهاء من أوّله، ليس بينهما إلّا العين، وهما مهموستان رخوتان، فالحاء أقربُ إلى الفم، ولذلك لا تدغم الحاء في الهاء، والبيانُ في هذا أحسنُ من الادغام؛ لأنّ حروف الحلق ليست
فصل [ادغام العين]
بأصلٍ للادغام؛ لبُعْدها من مخرج الحروف وقلتِها, ولكن إن شئت قلبت الهاء حاءً إذا كانت بعد الحاء، وادغمتَ ليكون الادغامُ فيما قُرب من الفم، وذلك قولك: "أَصْلِح حَّيْثَمًا" في "أصلح هيثمًا"؛ فامّا أن تدغمها بأن تقلبها هاءً, فلا. ولا يدغم فيها إلّا هاء مثلها, ولا يدغم فيها مقاربٌ؛ لأنه ليس قبلها في المخرج إلّا الهمزة والألف، وليس واحدةٌ منهما ممّا يصحّ ادغامُه، والذي بعدها ممّا يلي الفمَ لا يدغم فيها؛ لأنّها أدخلُ في الحلق، والأدخلُ في الحلق لا يدغم فيه ما كان أقرب إلى الفم، فاعرفه. فصل [ادِّغام العين] قال صاحب الكتاب: والعين تدغم في مثلها كقولك: "ارفع علياً" كقوله عز وجل: {من ذا الذي يشفع عنده} (¬1) وفي الحاء وقعت بعدها أو قبلها, كقولك في "ارفع حاتماً", و"اذبح عتوداً": "ارفحاتما" و"اذبحَّتودًا". وقد روى اليزيدي عن أبي عمرو: {فمن زحزح عن النار} (¬2) بادّغام الحاء في العين. ولا يدغم فيها إلا مثلها. وإذا اجتمع العين والهاء, جاز قلبهما حاءين وادّغامهما؛ في نحو قولك في "معهم", و"اجبه عتبة": "محُّم"، و"اجبحتبة". * * * قال الشارح: أمّا العين فإنّها تدغم في مثلها، نحو قولك: "ارفع عليًّا"، وقرىء: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} (¬3)، وكذلك قوله عزّ وجلّ: {أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ} (¬4). وقد تدغم في الحاء سواء وقعت قبلها أو بعدها. مثالُ كونها قبل الحاء: "ارفحّاتمًا"، ومثال وقوعها بعدها: "أَصْلِحّامِرًا" في "أصلح عامرًا"؛ فأمّا قلبُها حاء إذا وقعت قبل الحاء، فهو حسنٌ؛ لأنّ باب الادغام أن تدغم إلى الثاني وتُحوَّل على لفظه؛ وأمّا قلب العين إلى الحاء إذا كانت بعدها فهو جائز، وليس في حُسْن الأول. ولا يدغم في العين إلّا مثلها, ولا يدغم فيها مقاربٌ؛ فأمّا ما رُوي عن أبي عمرو في قوله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ} (¬5) بإدغام الحاء في العين فهو ضعيف عند ¬
فصل [ادغام الحاء]
سيبويه (¬1)؛ لأنّ الحاء أقربُ إلى الفم، ولا تدغم إلّا في الأدخل في الحلق. ووجهُه أنّه راعى التقاربَ في المخرج، والقياسُ ما قدّمناه. ولا يدغم فيها ما قبلها, لأنّه ليس قبلها في المخرج ما يصحّ ادغامُه إلا الهاء، والهاء لا تدغم في العين، ولا العين في الهاء، فأمّا تركُ ادغامها في الهاء، فلقُرْب العين من الفم، وبُعْد الهاء عنه. وأمّا تركُ ادِّغام الهاء فيها فأنّ العين، وإن قاربتها في المخرج، فقد خالفتها من جهة التجنيس، فالعينُ مجهورة، والهاء مهموسة، والهاء رخوة، والعين ليست كذلك. فلمّا تَباعد ما بينهما من جهة تجنيس الحروف، وإن تَقاربا في المخرج، امتنعا من الادغام إلّا بمُعدِّلٍ يتوسّط بينهما، وهو الحاء لأنّها موافقةُ الهاء بالهمس والرخاوة، والعين بالمخرج، فلذلك لا يجوز في "اقْطَعْ هِلالًا" ادِّغام العين في الهاء؛ لهذه العلّة التي بينهما, ولكن يجوز قلبُهما إلى الحاء، فتقول: "اقْطَحِّلالًا"، و"اجبحّتبة". وحُكي عن بني تميم: "مَحُّمْ" في "معهم"، و"مَحِّاؤُلَاءِ" في "مَعَ هؤلاء" وذلك لقرب العين من الهاء، وهي كثيرةٌ في كلام بنى تميم، وذلك لأنّ اجتماع الحائين أخفُّ عندهم من اجتماع العينين والهائين، وأدنى إلى الفم فاعرفه. فصل [ادِّغام الحاء] قال صاحب الكتاب: والحاء تُدغم في مثلها, نحو: "اذبح حملاً" وقوله تعالى: {لا أبرح حتى} (¬2). وتدغم فيها الهاء والعين. * * * قال الشارح: الحاء تدغم في مثلها، نحو: "اذبح حّملًا" وقوله تعالى: {لَا أَبْرَحُ حَتَّى} (¬3) وقوله: {عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى} (¬4) ولا إشكالَ في ذلك, لأنّ ادِّغام الحاء في الحاء كادغام العين؛ في العين نحو: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} (¬5) وتُدّغم فيها الهاء والعين، إذا لا مانعَ من ذلك, لأنّهما أدخل في الحلق، والعين أقربُ إلى الفم، فلذلك تُدّغمان فيها, ولا تُدّغم فيهما, لأنّ الأبعد لا يُدغم في الأقرب، فاعرفه. فصل [ادّغام الغين والخاء] قال صاحب الكتاب: والغين والخاء تُدّغم كل واحدة منهما في مثلها, وفي أُختها, ¬
فصل [ادغام القاف والكاف]
كقراءة أبي عمرو: {ومن يبتغ غير الإسلام ديناً} (¬1) , وقولك: "لا تمسخ خلقك", و"ادمغ خلقاً"، و"اسلخ غنمك". * * * قال الشارح: الخاء والغين من المخرج الثالث من مخارج الحلق، وهو أدنى المخارج إلى اللسان، ولذلك يقول بعض العرب: "مُنْخُلٌ"، و"مُنْغلٌ" فيُخْفِي النون عندها كما يخفيها مع حروف اللسان والفم؛ لقُرْب هذا المخرج من اللسان، فيجوز ادغامُ كلّ واحدة منهما في مثلها, ولا إشكالَ في ذلك لاتّحاد المخرج، وعدمِ المانع، فمثالُ ادغام الغين في الغين قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا} (¬2)، ولم يلتق في القرآن غينان غيرهما. ومثالُ ادغام الخاء في الخاء "لا تمسخ خْلقك"، و"لم يُصِخ خالِدٌ" ولم يلتق في القرآن خاءان. وتدغم كلُّ واحدة منهما في صاحبتها للتقارب، فإنّه ليس بينهما إلّا الشدّة والرخاوةُ، فتقول في ادغام الغين في الخاء: "أدمغ خّلقًا"، تدغم الغين في الخاء. قال سيبويه (¬3): البيان أحسنُ، والادغامُ حسنٌ ويدلّ على حسن البيان عزّتهُما في باب "رَدَدْت"؛ لأنّهم لا يكادون يُضعِّفون ما يستثقلون. قال أبو العبّاس المبرّد: الادغامُ أحمقُّ من البيان، والبيانُ حسنٌ. وفي الجملة هو أحسنُ من ادغام الخاء في الغين، نحو: "اسلخ غّنمك"؛ لأنّ الخاء أقربُ إلى الفم، وعلى كلّ حال هو جائرٌ, لأنّ هذين الحرفين آخِرُ مخارج الحلق، والبيانُ أحسنُ لأمرين: أحدُهما أنّ الغين قبل الخاء في المخرج، والبابُ في الادغام أن يدغم الأقربُ في الأبعد، والثاني أنّ الغين مجهورة، والخاء مهموسة، والتقاء المهموسين أخفُّ من التقاء المجهورين، والجميعُ جائزٌ حسنٌ. وقد أجاز بعضُهم ادغامَ العين والحاء فيه ما لقربهما من الفم، والذي عليه الأكثرُ المنعُ من ذلك؛ لأنّ الغين والخاء وقد قربا من الفم قربًا شديدًا، فبعدت عن الحاء والعين، فاعرفه. فصل [ادِّغام القاف والكاف] قال صاحب الكتاب: القاف والكاف كالغين والخاء قال الله تعالى: {فلما أفاق ¬
فصل [ادغام الجيم]
قال} (¬1) , وقال تعالى: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} (¬2) , وقال تعالى: {خلق كل دابةٍ} (¬3) , وقال تعالى: {فإذا خرجوا من عندك قالوا} (¬4). * * * قال الشارح: لمّا انتهى الكلام على حروف الحلق، أخذ في الكلام على حروف الفم, لأنّها تَلِيها، وهي حيّزٌ على حِدَةٍ، فأوّلُ مخارج الفم ممّا يلي حروفَ الحلق مخرجُ القاف والكاف، فالقافُ أدنى حروف الفم إلى الحلق، والكافُ تليها، وكلُّ واحدة منهما تدغم في مثلها، وفي صاحبتها, ولا تدغم في غير صاحبتها؛ فأمّا ادغامُهما في مثلهما، فلا إشكالَ فيه، نحو قوله تعالى: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ} (¬5)، وقوله: {حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ} (¬6) ,وقوله: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ} (¬7). ومثال ادغام الكاف في الكاف: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} (¬8)، و {إِنَّكِ كُنْتِ} (¬9). ومثالُ ادغام القاف في الكاف "أطْلَق كَّوْثَرًا"، و"الْحِق كَّلَدَة"، وقوله تعالى: {خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ} (¬10)، فتدغم لقرب المخرجين، وهما شديدتان، ومن حروف اللسان؛ ولأنّ الكاف أدنى إلى حروف الفم من القاف، وهي مهموسة. والادغامُ حسنٌ؛ لإخراج القاف إلى الأقرب إلى حروف الفم التي هي أقوى في الادغام، والبيانُ أحسنُ؛ لأنّ مخرجهما أقربُ مخارج الحلق إلى الفم، إلّا أنّ ادغام القاف في الكاف أقيسُ من عكسه؛ لأنّ القاف أقربُ إلى حرف الحلق، والكاف أبعدُ منها، فاعرفه. فصل [ادِّغام الجيم] قال صاحب الكتاب: والجيم تدغم في مثلها, نحو: "أخرج جابراً"، وفي الشين, نحو: "أخرج شَّبَثًا". قال الله تعالى: {أخرج شطأه} (¬11). وروى اليزيدي عن أبي عمرو ادّغامها في التاء في قوله تعالى: {ذي المعارج تعرج} (¬12) وتدغم فيها الطاء, والدال, والتاء, والظاء, والذال, والثاء, نحو: "اربط جملاً"، و"احمَد جابراً"، و {وجبت جنوبها} (¬13)، و"احفظ جارك"، و {إذ جاؤوكم} (¬14)، و"لم يلبث جالسًا". * * * ¬
فصل [ادغام الشين]
قال الشارح: وأمّا الجيم، فإنّها تدغم في مثلها, نحو: "أَخْرِج جَّمَلَك"، ولا إشكالَ في ذلك لاتّحاد المخرج , وعدمِ ما يمنع من ذلك , ولم يلتق في القرآن جيمان. وتدغم في الشين، نحو: "أخرج شّبثًا". قال الله تعالى: {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} (¬1)، وذلك لقرب مخرجيهما, ولم يذكر سيبويه (¬2) ادغامَها في غير هذين الحرفين. وروى اليزيديّ عن أبي عمرو ادغامها في التاء في قوله تعالى: {ذِي الْمَعَارِجِ تعرج} (¬3)؛ لأنّها وإن لم تُقارِب الجيمُ التاء، فإنّ الجيم أختُ الشين في المخرج. والشينُ فيها تَفَشٍّ يصل إلى مخرج التاء؛ فلذلك ساغ ادغامُها فيها. ولا يجوز ادغامُ الشين في الجيم، لأنّها أفضلُ منها بالتفشّي. وتدغم فيها ستّة أحرف من غير مخرجها، وهي: الطاء، والدال، والتاء، والظاء، والذال، والثاء، وإنّما جاز ادغامُ هذه الحروف في الجيم وإن لم تُقاربِها, لأنّ هذه الحروف من طرف اللسان والثنايا، ومخرج الجيم من وسط اللسان، فكان بينهما تباعدٌ، وأُجريت في ذلك مجرى أختها، وهي الشين، وذلك أنّ الشين وإن كانت من مخرج الجيم، فإنّ فيها تفشّيًا يتّصل بهذه الحروف، فلذلك من الاتّصال جاز أن يدغمن في الجيم، ولا يدغم الجيمُ فيها كما لا تدغم الشينُ، لأنّها أُجريت مجراها، فاعرفه. فصل [ادِّغام الشين] قال صاحب الكتاب: والشين لا تدغم إلا في مثلها, كقولك: "اقمش شيحًا". ويدغم فيها ما يدغم في الجيم، والجيم، واللام، كقولك: "لا تخالط شراً"، و"لم يرد شيئاً"، و"أصابت شرباً"، و"لم يحفظ شعراً"، و"لم يتخذ شريكاً"، و"لم ترث شسعاً"، و"دنا الشاسع". * * * قال الشارح: الشين تدغم في مثلها، وذلك نحو: "اقمش شّيحًا"، و"اخْمُش شَّيْبَةَ". ولم يلتق في القرآن شينان، ولا تدغم في شىء ممّا يقاربها لما فيها من زيادة التفشّي، وقد رُوي عن أبي عمرو ادغامُها في السين مْن قوله تعالى: {إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا} (¬4)، كما رُوي عنه ادغامُ السين فيها من نحو: {وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} (¬5)؛ لأنّهما ¬
فصل [ادغام الياء]
متواخيتان في الهمس والرخاوة والصوت. وليس هذا مذهبَ البصريين لأنّ للشين فضلَ استطالة في التفشّي، وزيادةَ صوتَ على السين فاعرفه. فصل [ادّغام الياء] قال صاحب الكتاب: والياء تدغم في مثلها متصلة كقولك "حيَّ", و"عيَّ"، وشبيهةً بالمتصلة كقولك: قاضيَّ وراميَّ، ومنفصلة إذا انفتح ما قبلها كقولك: اخشي ياسِراً، وإن كانت حركة ما قبلها من جنسها, كقولك: "اظلمي ياسراً" لم تُدّغم. ويُدغم فيها مثلها، والواو, نحو: "طيٍّ",، والنون, نحو: "من يَّعْلَم". * * * قال الشارح: اعلم أنّ الياء، وإن كانت من مخرج الجيم والشين، فإنّها من حروف المدّ، ولها فضيلةٌ على غيرها بما فيها من المدّ واللين، فهي تُبايِن سائرَ الحروف اللاّتي من مخرجها المقاربة لها في المخرج، فلذلك لا تدغم في الجيم، وإن كانت من مخرجها؛ لِما فيها من المدّ واللين؛ لئلّا تخرج إلى ما ليس فيه مدٌّ ولا لينٌ من الحروف الصِحاح. والياء تدغم في مثلها إذا كانت متّصلة بأن كانتا في كلمة واحدة، فمثالُها في الكلمة الواحدة قولك: "حَيَّ"،"عَيَّ" في "حَيِيَ"، و"عَيِيَ". وكذلك تقول فيما هو في حكم الكلمة الواحدة، نحو: "قاضِىَّ"، و"رامِيَّ". وأمّا المنفصل وهو الذي يكون المثلان فيه من كلمتين، فإن كانت الياء الأولى قبلها فتحةٌ، جاز الادغامُ، نحو: "اخْشَى ياسِرًا"، و"ارْضَى يَّسارًا"، فإن انكسر ما قبلها, لم تدغم، كقولك: "اظْلِمِي ياسِرًا". والفرقُ بينهما أنّ الكسرة إذا كانت قبلها، كمل المدُّ فيها، فتصير بمنزلة الألف؛ لأنّ الألف لا يكون ما قبلها إلّا منها، فلا يدغم، كما أنّ الألف لا تدغم؛ لأنّك لو ادغمتَها مع انكسارِ ما قبلها لذهب المدُّ الذي فيها بالادغام، فيجتمع سَبَبان: أحدهما ذهابُ المدّ، والآخرُ ضُعْفُ الادغام في المنفصل: وإنّما ضعُف الادغامُ في المنفصل؛ لأنّ المنفصل لا يُلْزِم الحرفَ أن يكون بعد مثله، ويصلح أن يُوقَف عليه، وليس كذلك المتّصلُ في كلمة واحدة. وتدّغم فيها ثلاث أحرف: مثلُها والواو والنون. فأمّا ادغامُ مثلها فيها فلا إشكالَ فيه؛ لاجتماعهما في المخرج والمدِّ، وكذلك الواو من "طوَيْته طَيًّا"، و"شوَيْته شَيًّا". وذلك أنّ الواو والياء، وإن تَباعد مخرجاهما، فقد اجتمعا في المدّ، فصارا كالمثلين، فادُّغمت الواو فيها بعد قلبها ياءً، مع أنّ الواو تخرج من الشفة، ثمّ تهوي إلى الفم حتى تنقطع عند مخرج الألف والياء، فهما على هذا متجاورتان، فإذا التقتا في كلمة
فصل [ادغام الضاد]
والأولى منهما ساكنةٌ، ادُّغمت إحداهما في الأخرى، وذلك نحو: "لَيَّةٌ"، من "لوَيْت يَدَه"، و"شيُّ" من " شوَيْته"، وأصله: "لَوْيَةٌ", و"شَوْيٌ". وكذلك لو كانت الثانية واوًا قلبتَها ياءً، ثمّ ادغمتَ الياء فيها؛ لأنّ الواو تُقلب إلى الياء، ولا تقلب الياء إليها؛ لأنّ الياء أخفُّ، والادغامُ إنّما هو نقلُ الأثقل إلى الأخفّ. من ذلك "أَيّامٌ" في جمع "يَوْمٍ"، والأصلُ: "أَيْوامٌ"، ومثلُه "سَيِّدٌ"، و"مَيِّتٌ" وأصله: "سَيْوِدٌ"، و"مَيْوِتٌ". وقد تقدّم الكلام على ذلك قبلُ. وأمّا النون، فإنّما جاز ادغامها في الياء، وإن لم يكن فيها لِينٌ، من قبل أنّ فيها غنّة، ولها مخرجٌ من الخيشوم، ولذلك أُجريت مجرى حروف المدّ واللين في الإعراب بها كما، يُعْرَب بحروف المدّ واللين في نحو: "يذهبان"، و"تذهبان"، و"يذهبون"، و"تذهبين"، ويُبْدَل من التنوين التابع للإعراب ألفٌ في حال النصب في نحو: "رأيت زيدًا"، فاعرفه. فصل [ادّغام الضاد] قال صاحب الكتاب: الضاد لا تدغم إلا في مثلها كقولك: "اقبض ضِّعفها"؛ وأما ما رواه أبو شعيب السوسي عن اليزيدي أن أبا عمرو كان يدغمها في الشين في قوله تعالى: {لبعض شأنهم} (¬1) , فما برئت من عيب رواية أبي شعيب. ويدغم فيها ما يدغم في الشين إلا الجيم, كقولك: "حُط ضَّمانَك"، و"زِد ضِّحكاً"، و"شدَّت ضفائرها"، و"احفظ ضأنك"، و"لم يلبث ضارباً"، و"هو الضاحك". * * * قال الشارح: الضاد تدغم في مثلها فقط، كقولك: "أَدْحِض ضَّرْمَةَ". ولا تدغم في غيرها لما فيها من الاستطالة التي يُذْهِبها الادغامُ، وقد رُوي عن أبي عمرو ادغامُ الضاد في الشين في قوله تعالى: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} (¬2). قال ابن مُجاهِدٍ لم يرو عنه هذا إلّا أبو شُعَيْب السُوسىّ. وهو خلافُ قول سيبويه (¬3). ووجهُه أنّ الشين أشدُّ استطالةً من الضاد، وفيه تَفَشٍّ ليس في الضاد، فقد صارت الضاد أنقصَ منها، وادغامُ الأنقص في الأزيد جائرٌ. ويؤيّد ذلك أنّ سيبويه (¬4) حكى أنّ بعض العرب قال: "اطَّجَعَ" في "اضْطَجَعَ". وإذا جاز إدغامُها في الطاء فادغامُها في الشين أَولى، وليس في القرآن ضادٌ بعدها شينٌ إلا ثلاثةُ مواضع: واحدةٌ يدغمها أبو عمرو، وهي: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} (¬5)، واثنتان لا ¬
فصل [ادغام اللام]
يدغمهما اتّباعًا للرواية" وهما: {رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا} (¬1)، والآخر: {شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} (¬2). والذي أراه أنّه ضعيفٌ على ما قاله سيبويه، لأمرين: أحدهما ذهابُ ما في الضاد من الاستطالة، والآخرُ سكونُ ما قبل الضاد، فيؤدّي الادغامُ إلى اجتماع ساكنين على غير شرطه. وإلى ذلك أشار صاحب الكتاب بقوله: "ما برئت من عيب". والحقُّ أنّ ذلك إخفاءٌ واختلاسٌ للحركة، فظنّها الراوي ادغامًا. ونحوٌ من ذلك ما رواه ابن صَقْر عن اليزيديّ من ادغامها في الذال من قوله عَزَّ وَجَلَّ: {لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} (¬3)، فحمل ذلك على الإخفاء واختلاس الحركة لا على الادغام. قال: ويدغم فيها ما يدغم في الشين إلّا الجيم. والذي يدغم في الشين ثمانيةُ أحرف، وهي: الطاء، والدال، والتاء، والظاء، والذال، والثاء، واللام، والجيم. وقد استثنى ههنا الجيمَ؛ لأنّ هذه الحروف من طرف اللسان والثنايا، والضاد من حافة اللسان وجانب الأضراس. وفيها إطباقٌ واستطالةٌ تمتدّ حتى تتّصل بهذه الحروف، فصارت مُجاوِرةً لها، فجاز ادغامُهن فيها، وهي أقوى منهنّ، وأوفرُ صوتًا. والادغامُ إنّما هو في الأقوى. وأمّا الجيم فإنّها لا تدغم؛ لأنّها أخت الشين، وحكمُها حكمُ الشين، فكما لا تدغم فيها الشينُ كذلك الجيم، فعلى هذا تقول "حط ضّمانك"، و"زد ضّحكًا"، و"شدّت ضّفائرها"، فهذه الثلاثةُ من جنس واحد، أعني الطاء والدال والتاء، وتقول: "احفظ ضأنك"، و"انْبِذ ضّاربَك"، ولم يذكر الشيخ هذا المثال، وتقول: "لم يلبث ضاربًا"، و"الضَّاربُ"، فتدغم اللامَ في الضاد، فاعرفه. فصل [ادّغام اللام] قال صاحب الكتاب: واللام إن كانت المعرفة فهي لازم ادّغامها في مثلها, وفي الطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء والصاد والسين والزاي والشين والضاد والنون والراء, وإن كانت غيرها نحو لام "هل" و"بل" فادّغامها فيها جائزٌ. ويتفاوت جوازه إلى حسن, وهو ادّغامها في الراء, كقولك: "هل رأيت"، وإلى قبيح وهو ادّغامها في النون, كقولك: هل نخرج، وإلى وسط وهو ادّغامها في البواقي, وقرئ: {هثوب الكفار} (¬4). وأنشد سيبويه [من الطويل]: 1366 - فذر ذا ولكن هتعين متيماً ... على ضوء برق آخر الليل ناضب ¬
وأنشد [من الطويل]: 1367 - تقول إذا أهلكت مالاً للذةٍ ... فكيهة هشيءٌ بكفَّيك لائقُ ولا يدغم فيها إلا مثلها والنون كقولك: "من لك". وادّغام الراء لحنٌ. * * * قال الشارح: اعلم أنّ هذه اللام المُعرِّفة تدغم في حروف طرف اللسان، وما اتّصل بطرف اللسان، وإن كان مخرجُها من غير طرف اللسان، وهي ثلاثةَ عشرَ حرفًا. منها أحد عشر حرفًا، من طرف اللسان، وحرفان اتّصلا بطرف اللسان، وهما ¬
الشين والضاد, لأنّ الضاد استطالت برخاوتها في نفسها حتى خالطت طرفَ اللسان. وكذلك الشينُ للتفشّي الذي فيها خالطت طرفَ اللسان، فالأحدَ عشرَ حرفًا منها متناسبةٌ، وهي الطاء، والتاء، والدال، والصاد، والسين، والزاي، والظاء، والثاء، والذال. وأمّا الرّاء والنون، فهما أقربُ إلى اللام، وقد بيّنّا حالَ الشين والضاد. فهذه ثلاثة عشر حرفًا تدغم لامُ المعرفة فيها, ولا يجوز تركُ الادغام معها؛ لاجتماع ثلاثة أسباب تدعو إلى الادغام، منها المقاربةُ في المخرج؛ لأنّها من حروف طرف اللسان، ومنها كثرة لام المعرفة في الكلام. ومنها أنّها تتّصل بالاسم اتصالَ بعض حروف، لأنّه لا يوقَف عليها، فلهذا لزم الادغامُ فيها. وأمّا ما عدا لامَ المعرفة، فيجوز ادغامُها في هذه الأحرف، ولا يلزم. وبعضُها أقوى من بعض في الادغام، والحروفُ التي يكون الادغامُ فيها أقوى هي الأقربُ إلى اللام، وأقواها الراء في نحو: "هل رأيت" ونحوه؛ لأنّها أقربُ إليها من سائر أخواتها، وأشبهُها بها، فضارعتا الحرفين اللذين يكونان من مخرج واحد، إذ هي من طرف اللسان لا عملَ الثنايا فيها. فإن لم تدّغم، جاز، وهي لغةٌ لأهل الحجاز عربيةٌ جيدةٌ، هكذا قال سيبويه (¬1). وهو مع الطاء والدال والتاء والصاد والزاي والشين جائزٌ، وليس ككثرته مع الراء؛ لأنَّهنّ قد تراخين عنها. وهنّ من الثنايا. وجوازُ الادغام على أن آخِر مخرج اللام قريبٌ من مخرجها، وهي حروف طرف اللسان، وهو مع الظاء والثاء والذال جائزٌ، وليس كحُسْنه مع هؤلاء؛ لأنّ هذه الحروف من أطراف الثنايا متصعّدةٌ إلى أصول الثنايا العُلْيا حتى قاربت مخرجَ الفاء واللامُ مستفِلةٌ، فبعُدت منها بهذا الوجه. ويجوز الادغامُ؛ لأنّهنّ من الثنايا كما أنّ الطاء غير المعجمة وأخواتها من الثنايا، وطرف اللسان. وهي مع الضاد والشين أضعفُ؛ لأنّ الضاد مخرجُها من أوّل حافة اللسان، والشين من وسطه، ولكنّه يجوز ادغامُ اللام فيهما لما ذكرتُ لك من اتّصال محرجَيْهما، فأجودُ أحوالها في الادغام أن تدغم في الراء لما ذكرناه من تقارُبهما في المخرج؛ وأمّا اللام مع النون فهو أضعف من جميع ما ادُّغمت فيه اللام، وذلك أنّ النون تدغم في أحرفِ ليس شىء منها يدغم في النون إلّا اللامُ وحدَها، فاستوحشوا من إخراجها عن نظائرها. قال سيبويه (¬2): وادغامُ اللام في النون أقبحُ من جمع هذه الحروف؛ لأنّها تدغم في اللام كما تدغم في الياء والواو والراء والميم، فلم يجترئوا على أن يُخْرِجوها من هذه الحروف التي شركتْها في ادغام النون، وصارت كإحداها. ¬
فصل [ادغام الراء]
فأمّا ما أنشده من قول الشاعر [من الطويل]: فذر ذا ولكن ... إلخ فالبيت لمُزاحِم العُقَيْليّ، والشاهد فيه ادغامُ اللام في التاء من قوله: "هتّعين"، والمراد: هَلْ تُعِين. والبرقُ الناصبُ: الذي يُرَى من بعيد. والمُتَيَّمُ: الذي قد تَيَّمَه الحُبُّ، أي: استعبده. والمعنى: ذَرْ ذا الحديثَ والأمرَ الذي ذكرتَه، ثمّ استدرك وقال: "ولكن هل تُعِين مُتَيَّمًا"، يعني نفسه، وإعانتُه له أن يسهَر معه، ويحادثَه ليَخفّ عنه ما يجده من الوَجْد عند لَمْع البرق؛ لأنّ ذلك البرق يلمَع من جهة محبوبه فيذكّره، ويأرَق لذلك. واتّفق حمزةُ والكسائىُّ على ادغام لام "بَلْ"، و"هَلْ" في التاء والثاء والسين في جميع القرآن، فقرآ: {تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} (¬1) في "بَلْ تؤثرون" و {هَثُّوِّبَ} (¬2) في "هَلْ ثُوّب"، و {بسَّوَّلَتْ} (¬3) في "بَلْ سوّلت". ويقرأ الكسائيّ وحده بادغام لام "بَلْ"، و"هَلْ" في الطاء والضاد والزاي والظاء والنون، وقرأ {بل طَّبَعَ} (¬4)، و {بَل ضَلّوا} (¬5) , و {بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا} (¬6)، و {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ} (¬7)، و {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا} (¬8)، و {مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ} (¬9). وأمّا قول الآخر [من الطويل]: تقول إذا أهلكت ... إلخ البيت لتَمِيم بن طُرَيف العَنْبَريّ (¬10)، والشاهد فيه ادغامُ اللام في الشين. والمراد: "هَلْ شيءٌ"، والمعنى واضحٌ. ولا تدغم فيها إلّا مثلُها، نحو: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ} (¬11)، والنونُ، كقولك:"مَن لكَ"، و {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} (¬12). وذلك لقرب مخرج النوَن من اللام؛ وأمّا ادغامُ الراء فيها، فسيوضَح أمره بعد هذا الفصل، فاعرفه. فصل [ادّغام الراء] قال صاحب الكتاب: والراء لا تُدّغم إلا في مثلها, كقوله تعالى: {واذكر ربك} (¬13). وتدغم فيها اللام والنون, كقوله تعالى: {كيف فعل ربك} (¬14) , و {إذ تأذن ربكم} (¬15). * * * ¬
فصل [ادغام النون]
قال الشارح: اعلم أنّ الراء تدغم في مثلها؛ لأنّ مَعْدِنهما واحد، وجَرُسهما واحد، كقولك: "اذْكُر رَّاشِدًا" ولا تدغم الراء إلّا فى مثلها, ولا تدغم في غيرها؛ لئلّا يذهب التكريرُ الذي فيها بالادغام. ألا ترى أنّك تقول في الوقف: "هذا عَمْرو"، فينبو اللسانُ نَبْوَةً، ثمّ يعود إلى موضعه. فلو ادُّغم في غيره ممّا ليس فيه ذلك التكريرُ، لذهب تكريرُه بالادغام. واختلف النحويون في ادغام الراء في اللام، فقال سيبويه وأصحابه (¬1): لا تدغم الراء في اللام، ولا في النون، وإن كنّ متقارباتٍ؛ لما في الراء من التكرير، ولتكريرها تُشبَّه بحرفين. ولم يخالف سيبويه أحدٌ من البصرين في ذلك، إلّا ما رُوي عن يعقوب الحَضْرَمىّ أنّه كان يدغم الراء في اللام في قوله عَزَّ وَجَلَّ: {يَغْفِرْ لَكُمْ} (¬2). وحكى أبو بكر بن مجاهِد عن أبي عمرو أنّه كان يدغم الراء في اللام ساكنةً كانت الراء أو متحركةً، فالساكنةُ نحو قوله تعالى: {فَاغْفِرْ لَنَا} (¬3)، و {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ} (¬4)، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} (¬5)، وما كان مثله. والمتحركةُ قوله: {سَخَّرَ لَكُمْ} (¬6)، و {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} (¬7). وأجاز الكسائيّ والفرّاء ادغامَ الراء في اللام. والحجّة في ذلك أنّ الراء إذا ادُّغمت في اللام، صارت لامًا. ولفظُ اللام أسهلُ وأخفُّ من أن تأتى براءٍ فيها تكريرٌ وبعدها لامٌ، وهي مقاربةٌ للفظ الراء، فيصير كالنطق بثلاثة أحرف من موضع واحد. قال أبو بكر بن مجاهد لم يقرأ بذلك أحدٌ عَلِمْناه بعد أبي عمرو سواه، فاعرفه. فصل [ادّغام النون] قال صاحب الكتاب: والنون تدغم في حروف "يَرْمُلُونَ", كقولك: "من يَّقول"، و"من راشدٍ", و"من محمدٍ"، و"من لَّكَ"، و"مَن وَّاقِدٌ", و"من نُّكرمُ". وادّغامها على ضربين: ادّغامٌ بغنةٍ, وبغير غنة. * * * قال الشارح: النون تدغم في هذه الحروف الستة التي يجمعها "يرملون". فأمّا ادغامها في مثلها، فلا إشكال فيه؛ وأمّا الخمسة الباقية - وهي الراء، واللام، والميم، والياء، والواو- فلأنّها مقاربةٌ لها في المنزلة الدُّنْيَا من غير إخلال بها. وادغامُها في الراء واللام أحسنُ من البيان لفرط الجوار، وذلك نحو: "مَن لَّكَ"، و"مِن رَّاشِدٍ"، والبيانُ ¬
جائز. وادغامُها في الميم نحو: "من مُّحَمَّد"، و"مِمَّنْ أَنْتَ". وذلك أنّ الميم، وإن كان مخرجُها من الشفة، فإنّها تُشارِك النونَ في الخياشيم لِما فيها من الغنّة، والغنّةُ تُسمع كالميم، فلذلك تقعان في القوافي المُكْفَأة، نحو قوله [من الرجز]: بُنَيَّ إنَّ البرَّ شيءٌ هَيِّنْ ... ألمَنْطِقُ اللَّيِّنُ والطُعَيِّمُ (¬1) والبيان جائرٌ حسنٌ. وأمّا ادغامها في الياء والواو في نحو:"من يَّأْتِيكَ"، و"مَن وَّالٍ" فذلك من قبل أنّ النون بمنزلة حروف المدّ نحو الواو والياء؛ لأنّ فيها غنّة، كما أنّ فيهما لِينًا ,ولأنّ النون من مخرج الراء، والراء قريبةٌ من الياء، ولذلك تفسير الراء ياءً في اللُثْعْة. وهي تدغم بغنّة وبغير غنّة، فإذا ادُّغمت بغير غنّة؛ فلأنّها إذا ادغمت في هذه الحروف صارت من جنسها، فتصير مع الراء راءً، ومع اللام لامًا، ومع الياء ياءً، ومع الواو واوًا، وهذه الحروفُ ليست لها غنّةٌ. وأمّا إذا ادغمت بغنّة؛ فلأنّ النون لها غنّةٌ في نفسها، والغنّةُ صوت من الخيشوم يتبع الحرف، وإذا كان للنون قبل الادغام غنّةٌ، فلا يُبْطِلونها بالادغام حتى لا يكون لها أثرٌ من صوتها. * * * قال صاحب الكتاب: ولها أربعُ أحوالٍ: إحداها الادّغامُ مع هذه الحروف. والثانيةُ البيانُ مع الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء، كقولك: "من أَجْلك"، و"منْ هانىء"، و"من عِنْدِك"، و"مَنْ حَمَلَك"، و"مَنْ غَبَرَ"، و"مَن خانَك"، إلّا في لغة قومٍ أَخفَوْها مع الغين والخاء، فقالوا: "مُنْخُلٌ"، و"مُنْغَلٌ". * * * قال الشارح: يريد أنّ النون لها أربعُ أحوال: حالٌ تكون فيها مدّغمة، وهي مع حروفِ "يرملون"، وقد تقدمت علّةُ ذلك، إلّا أنّه قد يعرض في بعضها ما يوجب تركَ الادغام فيه، وهي الميم والياء والواو، وذلك نحو قولك: "شاةٌ زَنماء"، و"غَنَمٌ زُنْمٌ"، فإنّ هذا لا يسوغ فيه الادغامُ، والبيان هو الوجةُ. وذلك لئلّا يُتوهّم أنّه من المضاعف لو قالوا: "زَمّاءٌ"، "وزُمٌّ". وكذلك "قُنوَةٌ"، و"قُنْيَة"، و"كنْيَةٌ" لا يسوغ الادغام في ذلك كلّه؛ لئلّا يصير بمنزلةٍ ما عينه ولامه واوان من نحو: "القُوَّة"، و"الحُوَّة"، أو ياءان، كقولك: "حَيَّةٌ"، وقد تقدّم ذلك قبلُ. وأمّا الحال الثانية، وهو أن تُبيَّن، ولا تُدّغم، ولا تُخْفَى، وذلك مع حروف الحلق الستّة، وهي الهمزة، والهاء، والعين، والحاء، والخاء، والغين، كقولك: "من أبوك"، ¬
فصل [ادغام الطاء, والدال, والتاء, والظاء, والذال, والثاء]
و"من هِلال"، و"مِن عندك"، و"مَن حملك"، و"مِن غيرك"، و"من خالَفَك". وإنّما وجب البيان عند هذه الحروف؛ لتباعُدها منها في المرتبة القُصْوَى، فليست من قبيلها، فلم تدغِم لذلك في هذا الموضع، كما أنّ حروف اللسان لا تدغم في حروف الحلق، ولم تُخف عندها كما لم تدغم, لأنّ الإخفاء نوعٌ من الادغام. وبعضُ العرب يُجْرِي الغين والخاء مجرى حروف الفم لقربهما منها، فيُخْفيها عندهما، كما يفعل ذلك عند الكاف والقاف، فيقول: "مُنخُلٌ"، و"منْغَلٌ". والأوّل أجودُ وأكثرُ, لأنّهما من حروف الحلق، فكانتا كأخواتها، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: والثالثةُ القلبُ إلى الميم قبل الباء، كقولك:"شَمْباءُ"، و"عَمْبَرٌ". والرابعةُ الإخفاء مع سائر الحروف، وهي خمسةَ عشرَ حرفًا، كقولك: "مَنْ جابِرٌ"، و"مَن كَفَرَ"، و"مَن قَتَلَ"، وما أشبه ذلك. قال أبو عثمان: وبيانُها مع حروف الفم لحنٌ. * * * قال الشارح: الحال الثالثة أن تنقلب ميمًا، وذلك إذا كانت ساكنة قبل الباء، نحو: "عمبر"، و"شمباء". وإنّما قلبوها ميمًا هنا؛ لأنّه موضعٌ تُقْلَب فيه النون. ومعنى قولنا: "تقلب فيه" أي تُدّغم؛ لأنّها تدغم مع الواو والميم اللذين هما من مخرجها، فلمّا اجتمعت مع الباء، وكانت النون الساكنة بعيدةً من الباء في المخرج ومُبايِنةً لها في الخواصّ التي تُوجِب الشرْكةَ بينهما، لم يكن سبيلٌ إلى الادغام، ففرّوا إلى حرف من مخرج الباء، وهو الميم، فجرى ذلك مجرى الادغام. وليس في الكلام كلمةٌ فيها ميمٌ قبل الباء، فيقعَ فيه لبسٌ، فأمنوا اللبسَ. وأمّا الرابع، وهو الإخفاء مع سائر الحروف، وهي الخمسةَ عشرَ حرفًا التي ذكرها، وإنّما أُخفيت عندها؛ لأنّها تخرج من حرف الألف الذي يحدث إلى داخل الفم، لا من المَنْخَر، فكان بين النون وحروف الفم اختلاطٌ، فلم تَقْوَ قوَّةَ حروف الفم، فتُدّغمَ فيها، ولم تبعد بُعْدَ حروف الحلق، فتظهرَ معها. وإنّما كانت متوسّطة بين القرب والبعد، فتَوّسط أمرُها بين الإظهار والإدغام، فأُخفيت عندها لذلك. فلها ثلاثةُ أحوال: الادغامُ، والإخفاء، والإظهارُ. فالادغام للتقارب بالحدّ الأدنى، والإظهار للتباعد بالحدّ الأقصى، والإخفاء للمناسبة بالحدّ الأوسط. قال أبو عثمان المازنيّ: وبيانها مع حروف الفم لحن لما ذكرناه، فاعرفه. فصل [ادّغام الطاء, والدال, والتاء, والظاء, والذال, والثاء] قال صاحب الكتاب: والطاء والدال والتاء والظاء والذال والثاء ستّتُها يدغم بعضها في بعض، وفي الصاد والزاي والسين. وهذه لا تُدّغم في تلك, إلا أن بعضها
يدغم في بعض, والأقيس في المطبقة إذا ادّغمت تبقية الإطباق, كقراءة أبي عمرو: {فرَّط في جنب الله} (¬1). * * * قال الشارح: هذه الحروف يجمعها كونُها من طرف اللسان وأُصولِ الثنايا، فلذلك لا يمتنع ادغامُ بعضها في بعض، إلّا حروف الصفير خاصّةً، فإنّها يدغم فيها, ولا تدغم هي في غيرها لما فيها من الصفير. وحروفُ طرف اللسان تسعةٌ كلُّ ثلاثة متواخيةٌ بالمخرج، وقد تقدّم ذكرُها. فحكمُ الدال مع الطاء أن يدغم كلُّ واحدة منهما في صاحبتها؛ لأنّهما من مَعْدِن واحد، وهما مجهورتان شديدتان. وإنّما جاز ادغامُ الطاء في الدال مع الإطباق الذي في الطاء؛ لأنّه يمكن إذهابُه وتبقيتُه. فلمّا كان المتكلّم مخيَّرًا فيه، لم يمتنع من الادغام، وذلك "اضْبِط دَّلَمًا"، بادغام الطاء في الدال مع ترك الإطباق على حاله، فلا يُذْهِبه؛ لأنّ الدال ليس فيها إطباقٌ. وهو الأقيسُ، كما أبقيت الغنّة في النون. إنّما كان أقيس؛ لأنّ المطبق أفشى في السمع، فكان تغليبُ الدال على الإطباق كالإجحاف، إذ ليست كالإطباق في السمع. وإن شئتَ أذهبتَه حتى تجعلها كالدال سواء، كما أذهبتَها، أعني الغنّة، عند من يفعل ذلك. وليس كلُّ العرب يفعله، وذلك أنّهم آثروا أن لا تُخالِفها حيث أرادوا أن يقلبوها دالًا مثلَها. وكذلك الطاء في التاء، نحو: "اثْبُط تَّوْءَمًا" تجعلها تاء، وقرأ أبو عمرو: {فرّطّ في جنب الله} (¬2)، بالادغام والإطباق. ويجوز إذهابه، إلّا أنّ إذهاب الإطباق مع الدال أمثل قليلًا؛ لأنّ الدال كالطاء في الجهر، والتاء مهموسةٌ. قال سيبويه (¬3): وكلُّ عربيّ جيّد. وتدغم الدال في الطاء، فتصير طاءً مع الطاء، نحو: "أَبْعِد طَّالِبًا"، وكذلك التاء، نحو: "انْعَت طَّالِبًا"؛ لأنّك لا تُجْحِف بهما في الإطباق، ولا غيره، إلّا أنّ ادغام التاء في الطاء أحسن؛ لأنّها مهموسة، والطاء مجهورة. وليس يمنع الجهرُ ادغامَ المهموس، ولكن يكون ادغامُ المهموس أحسن. وإنّما لم يمنع الجهرُ؛ لأنّ للمهموس حالًا يُقارِب حالَ المجهور بسُهولة المخرج، وقلّةِ الكُلْفة في الاعتماد، إذ الاعتمادُ في المجهور أقوى. والتاء مع الدال يدغم كل واحدة منهما في صاحبتها، إلّا أنّ ادغام التاء في الدال أمثلُ؛ لأنّ الدال مجهورة، فتقول: "انْعَت دُّلامَةَ"، بالادغام على ما بيّنّا. ¬
فصل [ادغام الفاء]
وكل هذه الأحرف يجوز الإظهارُ فيها, لأنّها من المنفصل، وإن ثقُل الكلام لشدّتهنّ، وللزوم اللسان موضعَهنّ لا يتجافى عنه. والادغامُ أحسنُ؛ لأنّه ليس بينهما إلّا الهمس والجهر، وليس في واحد منهما إطباقٌ، ولا استطالةٌ، ولا تكريرٌ. وأمّا الظاء والذال والثاء، فكذلك يدغم بعضهنّ في بعض، فهي مع الذال كالطاء مع الدال، لأنّها مجهورة مثلُها, وليس بينهما إلّا الإطباق، فتقول: "احْفَظ ذّلك"، و"خُذ طالِمًا". ويحسن إذهابُ الإطباق لتكافُئهما في الجهر. والثاء مع الظاء كالطاء مع التاء، تدغم كلّ واحدة في صاحبتها، إلّا أنّ ادغام الثاء في الظاء أحسنُ، فتقول: "ابْعَث ظّالِمًا"، و"أَيقِظ ثّابِتًا" بالادغام و"ابْعَث ذّلك". فالثاء والذال منزلةُ كلّ واحدة من صاحبتها منزلةُ الدال مع التاء. والزاي والصاد تدغم كلّ واحدة منهما في صاحبتها، ويحسن؛ لأنّ إحداهما للجهر، والأخرى للإطباق، فتقول: "أَوْجز صّابرًا"، و"افْحَص زّائدًا". والزاي مع السين تدغم كلّ واحدة في صاحبتها، إلّا أنّ ادغام السين في الزاي أحسنُ، فتقول: "احْبِس زَّرَدَةً"، و"رُزْ سَّلَمَةَ"؛ لأنهما من الحروف المتكافئة في المنزلة. وإذا ادّغمت الصاد فيها، فتصير مع الزاي زايًا، ومع السين سينًا، كما صارت الدال والثاء ظاءً، وتدع الإطباقَ على حاله، وإن شئت أذهبته. وإذهابُه مع السين أمثلُ قليلًا، لأنّها مهموسة مثلُها. قال سيبويه (¬1): وكلُّه عربيّ. وتدغم الستّة الأُوَل التي هى: الطاء. والدال، والتاء، والظاء، والثاء، والذال، في الثلاثة الأُخَر التي هي الصاد والزاى والسين؛ لأنّهنّ من حروف طرف اللسان. ولا تدغم هذه في تلك لقوّتها بما فيها من الصفير. فصل [ادّغام الفاء] قال صاحب الكتاب: والفاء لا تدغم إلا في مثلها, كقوله تعالى: {وما اختلف فيه} (¬2) , وقريء: {نخسف بهم} (¬3) , بادّغامها في الباء, وهو ضعيف, تفرد به الكسائي (¬4) , وتدغم فيها الباء. * * * ¬
فصل [ادغام الباء]
قال الشارح: الفاء لا تدغم إلّا في مثلها؛ نحو قوله تعالى: {وما اختلف فّيه} (¬1)، و {وَالصَّيْفِ* فَلْيَعْبُدُوا} (¬2)، و {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ} (¬3) , ونحوه. ولا تدغم في غيرها؛ لأنّها من حروف "ضمّ شُفْرٍ"، ففيها تفشٍّ يُزيله الادغامُ. فأمّا ما حُكى عن الكسائي من ادغامه لها في الباء في قوله عز وجل: {نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ} (¬4) فشاذّ. وتدغم الباء في الفاء لتقارُبهما في المخرج؛ لأنّهما من الشفة، كقولك: "اذهب فَّانظُرْ"، و {لَا رَيْبَ فِيهِ} (¬5)، فالفاء أقوى صوتًا لما فيها من التفشّي. فصل [ادّغام الباء] قال صاحب الكتاب: والباء تدغم في مثلها, قرأ أبو عمرو: {لذهب بسمعهم} (¬6) , وفي الفاء والميم, نحو: {اذهب فمن تبعك} (¬7) , و {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ} (¬8). ولا يدغم فيها إلا مثلها. * * * قال الشارح: الباء تدغم في مثلها، كقوله عر وجل: {لذهب بّسمعهم} (¬9)، و {الكِتَابَ بِّالْحَقِّ} (¬10)، لاتّحاد المخرج. وتدغم في الفاء على ما ذكرناه، وفي الميم لأنّهما من الشفة، كقولك: "اصْحَب مَّطَرًا"، و"اطْلُب مُّحمّدًا". وقرأ أبو عمرو: {وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاء} (¬11). ويفعل ذلك بـ "يعذّب من يشاء" حيث وقع، ولا يفعل ذلك في مثل "أَنْ يَضْرِبَ" مَثَلًا، و {يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} (¬12)، بل يُظْهِره. وإنما خصّ الأوّلَ بالادغام من قبل أنّه لا يكاد يقع في القرآن إلّا وقبله أو بعده مدّغمٌ، نحو: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} (¬13)، و {وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ} (¬14)، فادّغم للمشاكَلة، ومن ¬
فصل [ادغام الميم]
أصله مراعاةُ المشاكَلة. ومثله: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} (¬1). ولا خلاف في جواز ذلك. وحُكي عنه: {الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ} (¬2)، بالادغام، وهو غير جائز عندنا؛ للجمع بين ساكنين على غير شرطه وصحّةِ مَحْمَله على الإخفاء، وأجازه الكوفيون، فاعرفه. فصل [ادّغام الميم] قال صاحب الكتاب: والميم لا تدغم إلا في مثلها. قال الله تعالى: {فتلقى آدم من ربه} (¬3). وتدغم فيها النون والباء. * * * قال الشارح: الميم تدغم في مثلها كقولك: "لم تَرُم مّا لك" وكقوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (¬4)، {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ} (¬5)، و {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} (¬6). ولا تدغم في غيرها, لأنّ فيها غنّةّ يُذْهِبها الادغامُ. وقد رُوي عن أبي عمرو ادغامُ الميم في الباء إذا تَحرّك ما قبل الميم، مثلَ قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} (¬7)، و {لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} (¬8)، و {هُوَ أَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} (¬9). وأصحاب أبي عمرو لا يأتون بباء مشدّدةً. ولو كان فيه ادغامٌ، لصار في اللفظ باءً مشدّدة؛ لأنّ الحرف إذا ادُّغم في مُقارِبه، قُلب إلى لفظه، ثمّ ادُّغم. قال ابن مجاهد: يُترجِمون عنه بادغام، وليس بادغام، إنّما هو إخفاءٌ، والإخفاء اختلاسُ الحركة، وتضعيفُ الصوت. وعلى هذا الأصل ينبغي أن يُحمل كلُّ موضع يذكر القرّاء أنّه مدّغمٌ، والقياسُ يمنع منه على الإخفاء، مثلُ: {شَهْرُ رَمَضَانَ} (¬10)، وما أشبه ذلك من حرف مدغم قبله ساكنٌ صحيحٌ، فاعرفه. فصل [ادّغام تاء "افْتعل"] قال صاحب الكتاب: و"افْتَعَلَ" إذا كان بعد تائها مثلُها, جاز فيه البيان والادّغامُ. ¬
والادغامُ سبيلُه أن تسكَّن التاءُ الأُولى، وتُدّغمَ في الثانية، وتُنْقَلَ حركتها إلى الفاء، فيُستغنى بالحركة عن همزة الوصل، فيقالَ: "قَتَّلُوا"، بالفتح. ومنهم من يحذف الحركة، ولا ينقلها، فيلتقي ساكنان، فيحرّك الفاء بالكسر، فيقول: "قِتَّلوا". فمَن فتح قال: "يَقَتلون"، و"مُقَتِّلون" بفتح الفاء، ومَن كسر قال: "يَقِتِّلون"، و"مُقِتِّلون" بكسرها، ويجوز "مُقُتِّلون" بالضمّ إتباعًا للميم، كما حُكي عن بعضهم: {مُرُدِّفِينَ} (¬1). * * * قال الشارح: اعلم أنّ تاء "افْتَعَلَ" إذا وقع بعدها مثلُها، نحو: "اقتتل القومُ"، فإنّه يجوز فيه الوجهان. الادغام والبيان، وإن كانا مثلَيْن في كلمة واحدة. والادغامُ ليس لازمًا، بل أنت مخيَّرٌ في الادغام وتركه، وإن كانا الحرمان من كلمة واحدة، فإنّهما يُشْبِهان المنفصلَيْن, لأنّه لا يلزم أن يكون بعد تاءِ "افتعل" مثلُها. ألا ترى أنّهم قالوا: "يَرْتَحِل" و"يَسْتَمِع"؟ فلذلك كنت مخيَّرًا في الادغام والإظهار. فالإظهارُ لِما ذكرناه من عدم اللزوم، والادغامُ لاجتماع المثلين، وكونهما من كلمة واحدة، فلذلك تقول: "قَتَّلُوا"، والأصل: "اقْتَتَلُوا"، فأسكنتَ التاء الأولى، وادّغمتَها في الثانية بعد أن ألقيتَ حركتها على القاف. فلمّا تَحرّكت القافُ، سقطت ألفُ الوصل. ومنهم من يقول: "قِتَّلُوا"، بكسر القاف، وفتح التاء مشدَّدةً. وذلك لأنّه حين أسكن التاء، أسقط حركتَها من غير أن يُلْقِيَها على ما قبلها، فاجتمع ساكنان: التاء الأولى والقاف، فكُسرت القاف للالتقاء الساكنين، فصار اللفظ "قِتَّلُوا". وأمّا مستقبله، وهو "يَقْتَتِلُونَ"، فيجوز فيه مع الادغام أربعةُ ألفاظ. أحدها: "يَقَتِّلون"، بفتح القاف وكسر التاء مشدّدةً، لأنّك ألقيتَ حركة التاء على القاف، ثمّ ادّغمت في التاء الثانية، وهي مكسورة. والثاني: "يَقِتِّلون"، بكسر القاف لالتقاء الساكنين. والثالث: "يِقِتِّلون" بكسر القاف وحرف المضارعة، كما قالوا: "مِنْخِرٌ"، فكسروا الميم إتباعًا لكسرة الخاء. والرابع: - وهو أقلُّها لضُعْفه - "يَقْتِّلُونَ" بادغام التاء في التاء مع سكون القاف، فيجتمع ساكنان. وذلك أنّه لما أُسكن التاء للادغام، لم يُحرَّك القاف، وتُرك على سكونه. وهذا بالاختلاس أشبهُ منه بالادغام، ولكنّا ذكرناه كما ذكروه. وتقول في مصدره: "قِتّالًا" والأصل: "اقْتِتالًا"، فادغمتَ التاء في التاء، وحرّكتَ القاف، وسقطت ألفُ الوصل. وهذا يجوز أن يكون بإلقاء حركة التاء على القاف، ويجوز أن تكون الحركةُ لالتقاء الساكنين، فاعرفه. * * * ¬
قال صاحب الكتاب: وتُقلَب مع تسعة أحرف إذا كنّ قبلها: مع الطاء، والظاء، والصاد، والضاد، طاءً، ومع الدال، والذال، والزاي، دالًا، ومع الثاء والسين: ثاءً وسينًا. * * * قال الشارح: اعلم أنّ تاء الافتعال تقلب إلى غيرها مع تسعة أحرف، وذلك أنّها تقلب إلى الطاء والدال والثاء والسين. فأمّا إبدالها طاءً، فمع حروف الإطباق. ويلزم ذلك، ويُهْجَر الأصل كما هُجر في نحو: "قام"، و"قالَ". وذلك أنّه قد يُستثقل اجتماعُ هذه الحروف المتقاربة كاستثقال اجتماع الأمثال، وإذا كانت في كلمة واحدة، ولم يكن الحرفان منفصلين، ازداد ثقلاً، كما كان المثلان، إذا لم يكونا منفصلين، أثقلَ؛ لأنّ الحرف لا يُفارِقه ما يُستثقل. وكانت هذه الحروف مخالفةً للتاء، لأنّها مستعلية مُطْبَقة، والتاء حرفٌ منفتحٌ غير مطبق، فأبدلوا من التاء طاءً؛ لأنّها من مخرجها، إذ لولا إطباقُ الطاء لكانت دالًا. ولولا جهرُ الدال، لكانت تاءً، فمخرجُهن واحد، إنّما ثمّ أحوالٌ تفترق بهنّ من الإطباق والجهر والهمس، فهي موافقةٌ لما قبلها في الإطباق، فيتجانس الصوتان، وصار العملُ فيهنّ من جهة واحدة. وقد عُلم أنّه لا لبسَ في ذلك. فأما إبدالُها دالاً، فإذا كان قبلها دالٌ أو ذالٌ أو زايٌ، وذلك من قبل أنّ هذه الحروف مجهورة، والتاء حرف مهموس، فأرادوا التقريب بين جَرْسيهما، فأبدلوا من التاء دالًا، إذ كانت من مخرج التاء، وتُوافِق ما قبلها في الجهر، وليس فيها إطباقٌ، كما أنّ ما قبلها ليس فيه إطباقٌ، فكانت الدال أشبهَ بما قبلها، فلذلك أبدلوها دالًا، ولم يبدلوها طاء. وأمّا إبدالُها ثاءً، فقد قالوا: "مُثَّرِدٌ"، وهو "مُفْتَعِل" من "الثَّرْد". ولك فيه ثلاثةُ أوجه: أحدها: البيان وهو الأصل. والثاني: "مُتَّرِدٌ"، بالتاء المدغمة والمعجمة بثِنْتين. والثالث: "مُثَّرِدٌ"، بالثاء المعجمة بثلاتٍ. فأمّا الأول - وهو البيان - فلأنّهما ليسا حرفين متجانسين. فإذا أُسكن الأول، اضطُرّ الناطق إلى الادغام. وأمّا ادغامُ الثاء في التاء فلتقارُبهما، وهما مع التقارب مهموسان، وذلك مما يقوّي ادغامَ أحدهما في الآخر. قال سيبويه (¬1): والبيانُ أحسنُ، وهو القياس؛ لأنّ الأوّل إنّما يدغم في الثاني. وأمّا الثالث فهو"مُثَّرِد"، بقلب التاء إلى جنس الأوّل، وادغامِ الثاني في الأوّل، وعلى هذا قالوا: "يَظَّلِم"، وسيأتي ذلك بعدُ. قال سيبويه (¬2): وهي عربيّة جيدة. وأمّا إبدالُها سينًا فمع السين، نحو: "اسَّمَعَ فهو مُسَّمِعٌ"، ويجوز الأصلُ. ولا ¬
يجوز ادغام السين في التاء، فيقالَ: "اتَّمَعَ"، وإن كانا مهموسين، وذلك لمَزِيّة السين على التاء بالصفير، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: فأما مع الطاء فتُدّغم ليس إلّا، كقولك: "اطَّلَبَ"، و"اطَّعَنوا". * * * قال الشارح: أمّا مع الطاء، فقد قالوا: "اطَّلَبَ"، و"اطَّعَنُوا"، و"اطَّلَعُوا"، والمراد: "اطْتَلب"، و"اطْتَعنوا"، و"اطْتَلعوا"، فثقُل اجتماعُ المتقاربين على ما ذكرنا, لأنهما من حروف طرف اللسان. وكرهوا الادغامَ في التاء، فلم يقولوا: "اتَّلَعَ"، و"اتَّلَمَ"، في "اطّلع"، و"اطّلم"؛ لئلّا يُلْبِس بـ "اتَّعَدَ" و"اتَّزَنَ". هكذا قاله الفرّاء، فأبدلوا من التاء طاء، لأنّها من مخرجها على ما ذكرناه، فادغموا الطاء في الطاء، وصار الادغامُ ههنا لازمًا لسكونه. ومثلُه "اطَّرَدَ"، وكذلك ما تَصرّف منه من نحو: "يَطَّلِع"، و"يَطَّرِد"؛ لأنّ العلّة الموجبة للقلب في الماضي موجودةٌ في المضارع، وما تَصرّف منه. * * * قال صاحب الكتاب: ومع الظاء تُبيَّن، وتُدّغم بقلب الظاء طاء، أو الطاء ظاء، كقولك: "اظْطَلَمَ"، و"اطَّلم"، و"اظَّلم". ورُويت الثلاثة في بيت زهَير [من البسيط]: [هُوَ الجَوادُ الذي يُعطِيكَ نائِلَهُ ... عَفْوًا] ويُظْلَمُ أَحْيانًا فيَظَّلِمُ (¬1) * * * قال الشارح: وأمّا مع الظاء، فيجوز وجهان: البيان والادغام بقلب الظاء طاءً، أو الطاء ظاءً، فتقول: "اظْطَلَم" من "الظُلم"، و"اظْطَنَّ" من "الظنّ". وقد يبدلون من الطاء المبدلة من التاء ظاءً، ثمّ يدغمون الظاء الأولى فيها، فيقولون: "اظَّلَمَ". وذلك لمّا أرادوا تجانُسَ الصوت وتشاكُلَه، قلبوا الحرف الثاني إلى لفظ الأوّل، وأدغموه فيه؛ لأنّه أبلغُ في الموافقة والمشاكلة. ومن العرب من إذا بني ممّا فاؤه ظاءٌ معجمةٌ "افْتَعَلَ"، أبدل التاء طاءً غيرَ معجمة، ثم أبدل من الظاء التي هي فاءٌ طاءً؛ لما بينهما من المقاربة، ثمّ يدّغمها في الطاء المبدلة من تاء "افتعل"، فيقول: "اطَّهَرَ حاجتي"، و"اطَّلَمَ". والأصل: "اظتهر"، و"اظتلم". والصحيح المذهب الأوّل؛ لأنّ القياس في الادغام قلب الحرف الأوّل إلى لفظ الثاني، ولذلك ضعُف الوجه الثاني، وإذًا الوجه الثالث أقيسُ من الوجه الثاني، وإن كان الوجه الثاني أكثرَ في الاستعمال. فأمّا بيت زُهَيْر [من البسيط]: هو الجَوادُ الذي يُعْطِيك نائِلَهُ ... عَفْوًا ويُظْلَمُ أَحْيانًا فَيَظَّلِمُ ¬
فقد رُوي بالأوجه الثلاثة. "فيَظْطَلم" على الأصل بعد قلب التاء طاءً، ويروى: و"يَظَّلِم" بالظاء المعجمة على الوجه الثاني، وهو قلبُ الثاني إلى لفظ الأوّل، وهو شاذّ في القياس كثيرٌ في الاستعمال. ويروى: "فيَطَّلِمُ" بالطاء غير المعجمة على الوجه الثالث، قد رُوي: "فيَنْظَلِم" بنون المطاوعة على حد "كسرته فانكسر". * * * قال صاحب الكتاب: ومع الضاد تُبيَّن وتُدّغم بقلب الطاء ضادًا، كقولك: "اضْطَرَبَ"، و"اضَّرب". ولا يجوز "اطَّرب"، وقد حُكي: "اطّجع" في "اضطجع"، وهو في الغَرابة كـ "الطَجَعَ". * * * قال الشارح: وأمّا الضاد فيجوز فيه وجهان: البيان والادغام. فالبيان نحو قولك: "اضْطَرَبَ"، و"اضْطَجَعَ"، أبدل من التاء طاءٌ لما ذكرناه لا غيرُ، وقالوا: "اضَّرَبَ" واضَّجَعَ، ويَضَّرِبُ، ويَضَّجِعُ، فهو مُضَّربٌ، و"مُضَّجِعٌ"، ولا يجوز إدغامُها في الطاء، فلا تقول: "اطَّرَبَ"، ولا "اطَّجَعَ"؛ لئلّا يذهب تَفَشِّي الضاد بالادغام. وقد حكى سيبويه (¬1) "اطّجع"، وهو قليل غريب، وقد شبّهه بـ "الطَجَعَ" في الغَرابة. يريد أنّ إبدال الضاد هنا لامًا غريبٌ كادغام الضاد في الطاء. وذلك أنّهم كرهوا اجتماع الضاد والطاء، وهما مطبقتان، فمنهم من أبدل من الضاد لامًا؛ لأنّها مثلها في الجهر، وتُخالِف ما بعدها بعدم الإطباق، ومنهم من لم يَرَ الإبدال، فادّغم؛ لينبو اللسانُ بهما دفعهً واحدةً، فيكونا كالحرف الواحد. * * * قال صاحب الكتاب: ومع الصاد تُبيَّن، وتُدّغم بقلب الطاء صادًا، كقولك: "مُصْطَبِرٌ"، و"مُصَّبِر"، و"اصْطَفَى"، و"اصْطَلى"، و"اصَّفى"، و"اصَّلى"، وقرىء: {إلّا أَنْ يَصَّلِحَا} (¬2) ولا بجوز "مُطِّبِرٌ". * * * قال الشارح: وأمّا الصاد فكذلك، تقول: "اصْطَبَرَ يَصْطَبِرُ فهو مُصْطَبِرٌ"، و"اصَّبر يَصَّبِرُ فهو مُصَّبِرٌ"، على قلب الثاني إلى لفظ الأوّل. وقد قُرىء: {إلاّ أن يصّلحا} (¬3)، على ما حكاه سيبويه (¬4) عن هارُون. ومثله قولهم: "اصْطَفَى"، و"اصَّفَى"، و"اصْطَلَى"، ¬
و"اصَّلَى". ولا يجوز ادغام الصاد في الطاء، فلا يقال: "اطَّبَرَ"، ولا "مُطَّبِرٌ"، ولا "اطَّلَحَ"، ولا "مُطَّلِحٌ"؛ لئلّا يذهب صفيرُ الصاد. * * * قال صاحب الكتاب: وتُقَلب مع الدال والذال والزاي دالًا، فمع الدال والذال تدّغم، كقولك: "ادّانَ", و"ادَّكَرَ"، و"اذَّكَرَ". وحكى أبو عمرو عنهم: "اذْدَكر"، وهو "مُذْدَكِرٌ" قال الشاعر [من الرجز]: تَنْحِي على الشَّوْكِ جُرازًا مِقْضَبَا ... والهَرْمَ تَذْرِيهِ اذْدِراءً عَجَبَا (¬1) ومع الزاي تُبيَّن، وتُدّغم بقلب الدال إلى الزاي، كقولك: "ازْدانَ"، و"ازّان". ومع الثاء تدّغم ليس إلّا، بقلب كلّ واحدة منهما إلى صاحبتها، فتقول. "مُثَّرِدٌ"، و"متَّرد". ومنه "اثَّأَرَ"، و"اتَّأر". ومع السين تُبيَّن وتُدّغم بقلب التاء إليها، كقولك: "مُسْتَمِعٌ"، و"مُسَّمِع". * * * قال الشارح: وأمّا قلب التاء مع الدال والذال والزاي دالًا، فنحو قولهم في "افتعل" من "الدَّيْن"، و"الذَّكْر"، و"الزَّيْن": "ادّانَ"، "وادَّكَرَ"، و"ازْدانَ". وإنّما وجب إبدالُها دالًا هنا؛ لأنّهم كرهوا اجتماعَهما للتقارب ولاختلاف أجناسهما. وذلك أنّ الدال والذال والزاي مجهورة، والتاء مهموسة، فأرادوا تجانُس الصوت، فأبدلوا من التاء الدال؛ لأنّها من مخرجها، وهي مجهورة، فتُوافِق بجهرها جهرَ الدال والذال، فيقع العملُ من جهة واحدة، ثم ادغموا الدال والذال فيها. ولم يجز الادغام في الزاي؛ لأنّ الزاي حرفٌ من حروف الصغير, فلو ادغموها, لذهب الصفيرُ. ويجوز فيه بعد قلب التاء قلبان. أحدُهما: أن تُقلب الذال دالًا، وتدغم في الدال التي بعدها، فتصيران في اللفظ دالًا واحدة شديدة. وهذا شرطُ الادغام, لأنّهم يقلبون الحرف الأوّل إلى جنس الثاني، ثمّ يدغمونه فيه. والوجه الثاني: أن تقلب الدال ذالًا، وتدّغم، فيكون اللفظ به ذالًا معجمةً، وهو قولُ من يقول في "اصطبر": "اصَّبَرَ"، وفي "اضطرب": "اضَّرَبَ". فعلى هذا تقول: "اذَّكَرَ" و"ازّانَ". وإنّما جاز قلبُ الأول إلى جنس الثاني, لأنّ الأوّل أصلىٌّ، والثاني زائدٌ، فكرهوا إدغامَ الأصليّ في الزائد، فقلبوا الزائد إلى جنس الأصليّ، وأدغموه لما ذكرناه. وحكى أبو عمرو عنهم: "اذدكر فهو مذدكر"، وأنشد [من الرجز]: تنحى على الشوك ... إلخ ¬
الشاهد فيه قوله: "اذدراء"، بإظهار التضعيف، وهو "افتعال" من "ذَرَتْه الريحُ تَذْرُوه" وهو مصدر جرى على غير فعله على حدٍّ {وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} (¬1). فإن قيل: فلِمَ ساغ "ازْدانَ، فهو مُزدانٌ"، ولم يقولوا: "اذدكر، فهو مذدكر" إلّا على ندرة وقلّة؟ قيل: لأنّ الدال والذال كلّ واحد منهما يدغم في صاحبه، فإذا اجتمعا في كلمة، لزم الادغامُ. وليس كذلك مع الزاي، فإنّها لا تدغم مع الدال لما فيها من الصفير، فجاز لذلك الإظهار والادغام في الزاي، فيقال: "مُزْدانٌ"، و"مُزّانٌ"، فلذلك قال: ومع الزاى تبيّن وتدّغم، ومع الثاء تدغم لا غير، بقلب كل واحدة منهما إلى صاحبتها، تقول: "مُثَّرد"، و"متّرد"، ولا يجوز الإظهار على ما ذكرنا في "مذدكرٌ". ومثله "اتأر"، و"اثّأر". ومع السين تبيّن وتدّغم بقلب التاء سينًا، فيقال: "مستمع"، و"مُسَّمِعٌ". فالبيانُ لاختلاف المخرجين، وهو عربيّ جيّد، قال الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} (¬2). والادغامُ جائز للتقارب في المخرج، واتّحادهما في الهمس، فقرأ بعضهم (¬3): {من يَسَّمع}. ولا يجوز إدغامُ السين في التاء؛ لئلّا يذهب صفيرُها على ما ذكرنا في الزاي، فاعرفه. * * * قال صاحب الكتاب: وقد شبّهوا تاء الضمير بتاء الافتعال، فقالوا: "خَبَطُّه". قال [من الطويل]: وفي كلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطَّ بنِعْمَةٍ ... [فحُقَّ لِشأس مِنْ نَداك ذَنُوبُ] (¬4) و"فُزْدُ"، و"حُصْطُ عينَه"، و"عُدُّه"، و"نَقَدُّه". يريدون: خَبطتُ، وفُزتُ، وحُصْتُ، وعُدْتُ، ونَقَدْتُ. قال سيبويه (¬5): وأَعْرَبُ اللغتين وأَجْوَدُهما أن لا تُقلَب. * * * قال الشارح: اعلم أنّه قد شبه بعضُ العرب ممن تُرْضَى عربيّته تاء الضمير، إذا وقع قبلها أحدُ هذه الحروف الصاد والضاد والطاء والظاء، بتاء الافتعال, لأن التاء لما اتصلت بما قبلها من الفعل، ولم يمكن فصلُها من الفعل، صارت ككلمة واحدة، فأشبهت تاء "افْتَعَل"، وأُسْكِنت كما أسكنت التاء في "افْتَعَل"، وذلك قولك: "حُصْطُ عَيْنَ البازي". يريد: "حُصْتُ"، و"خَبَطُّهُ" يريد:"خبطته"، و"حَفِطُّ" يريد: "حفظت". وقد أنشدوا لعَلْقَمَة [من الطويل]: وفي كلّ حَيّ قد خَبَطَّ بنِعْمَهٍ ... فَحُقَّ لشَأْسٍ من نَداكَ ذنُوبُ (¬6) ¬
فصل [ادغام تاء "تفعل" و"تفاعل"]
قال سيبويه: وأعرب اللغتين وأجودهما أن لا تقلب التاء طاءً؛ لأنّ التاء ههنا علامةُ إضمار، وليست تلزم الفعلَ. ألا ترى أنّك إذا أضمرتَ غائبًا، قلت: "فَعَلَ"، ولم تكن فيه تاءٌ، وهي في "افتعل" لم تدخل على أنّها لمعنًى، ثمّ تخرج، لكنّه بناءٌ دخلته زيادةٌ لا تُفارِقه. وليست كذلك تاء الإضمار؛ لأنّها بمنزلة المنفصل. وقالوا: "فزد"، و"عدّه"، و"نقدّه"، كأنّهم شبّهوها بحالها في "ادَّانَ"، كما شُبّه الصاد وأخواتُها بهنّ في "افتعل". ولم يحك سيبويه (¬1) عنهم إلّا: "ادّان"، والقياس أن تقلب تاء المتكلم مع الدال والذال والزاي كما كان ذلك في "ادّان"، و"اذَّكَرَ"، و"ازّانَ". قال صاحب الكتاب: قال (¬2). وإذا كانت التاء متحرّكة وبعدها هذه الحروفُ ساكنة، لم يكن الادّغامُ. يريد نحو: "اسْتَطْعَمَ"، و"استَضْعف"، و"استَدْرك"؛ لأن الأوّل متحرّكٌ، والثاني ساكنٌ، فلا سبيلَ إلى الادّغام. و"اسْتَدانَ"، و"استَضاء"، و"استَطال" بتلك المنزلة, لأن فاءَها في نِيّة السكون. * * * قال الشارح: وإذا كانت متحرّكة وبعدها هذه الحروف ساكنة، لم يكن ادغام، نحو: "استعظم"، و"استضعف"؛ لأنّ أصل الادغام أن يكون الأوّل ساكنًا؛ لما ذكرناه في المنفصلين. فلمّا لم يكن سبيلٌ إلى الادغام، لم يجز التغيير، إنّما هو من توابع الادغام. قال: وأمّا "استدان"، و"استضاء"، و"استطال"، فهي بتلك المنزلة، لأنّ فاءها في نيّة السكون، إذا الأصل: "اسْتَدْيَنَ"، و"اسْتَضْوَأَ"، و"اسْتَطوَلَ"، فاعرفه. فصل [ادّغام تاء "تفعَّل" و"تفاعَلَ"] قال صاحب الكتاب: وادّغموا تاء "تَفَعَّلَ", و"تَفاعَلَ" فيما بعدها, فقالوا: "اطَّيَّرُوا", و"ازّينوا", و"اثّاقلوا", و"ادّارأووا", مجتلبين همزة الوصل للسكون الواقع بالادّغام. لم يدّغموا نحو: "تذكَّرون"؛ لئلا يجمعوا بين حذف التاء وادّغام الثانية. * * * قال الشارح. اعلم أن "تَفَعَّلَ"، و"تَفَاعَلَ" إذا كان فاء الفعل فيه حرفًا يدغم فيه التاء، جاز إدغامُها وإظهارُها. والحروف التي تدغم فيها التاء: التاء، والطاء، والدال، والظاء، والذال، والثاء، والصاد، والزاي، والسين، والضاد، والشين، والجيم، فاذا وقع شيءٌ من هذه الحروف بعد التاء، وآثرتَ الادغامَ، أدغمتَ التاء فيما بعدها. ولمّا ¬
ادُّغم، أدخلتَ ألف الوصل ضرورةَ الابتداء بالساكن، فقلت: "اطَّيَّرَ زيدٌ"، وكان الأصل: "تَطَيَّرَ"، فأسكنتَ التاء. ولم يجز أن تبتدىء بساكنٍ، فأدخلتَ ألفَ الوصل. وكذلك "ازَّيَّنَ زيدٌ"، إذا أردت: "تَزَيَّنَ". فدخولُ الألف كسقوطها من "اقْتَتَلُوا" إذا قلت: "قَتَّلُوا"، بالتحريك. تُسْقِطها من "اقتتلوا" كما أنّ الإسكان يجلبُها ههنا. ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا} (¬1). إنّما كان "تَدارَأْتُمْ"، فادّغمتَ التاء في الدال؛ فاحتجتَ إلى همزة الوصل لاستحالة الابتداء بساكن. قال الله تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ} (¬2)، وقال: {اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} (¬3). والأصلُ: "تَثاقلتم". وتقول في المستقبل: "تَدارَأُ"، و"تَطَيَّرُ". قال الله تعالى: {تَذَكَّرُونَ} (¬4) و {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى} (¬5). ولا تدغم تاء المضارعة في هذه الحروف، فلا تقول في "تَذَكَّرُونَ": "اِذَّكَّرُونَ"، ولا في "تَدَّعُونَ": "ادَّعُونَ"؛ لأن ألف الوصل لا تدخل الأفعالَ المضارعةَ، لأنّها في معنى أسماء الفاعلين، فكما لا تدخل ألفُ الوصل أسماء الفاعلين، كذلك لا تدخل المضارع؛ لأنّه بمنزلتها؛ لأنّ ألف الوصل بابُها الأفعالُ الماضيةُ، نحو: "انْطلق"، و"اقْتدر"، و"اسْتخرج". ولم تدخل إلا في أسماء معدودة، وذلك بالحمل على الأفعال، ولأنّك لو ادّغمت في الفعل المضارع، لزال لفظُ الاستقبال، فكان يختلّ. فإن اجتمع إلى تاء "تَفعَّل"، و"تَفاعل" تاء أخرى إمّا للمذكّر المخاطَب، أو للمؤنّثة الغائبة، نحو قولك: "تَتَكَلَّمُ"، و"تَتَغافَلُ"، فإنّك تحذف إحدى التائَيْن، فتقول: "يا زيدُ لا تَكَلَّمْ"، و"يا عمرو لا تَغافَلْ"؛ لأنّه لمّا اجتمع المثلان، ثقُل عليهم اجتماعُ المثلين، ولم يكن سبيلٌ إلى الادغام؛ لِما يؤدّي إليه من سكون الأوّل. ولم يمكن الإتيانُ بالألف للوصل لما ذكرناه، فوجب حذفُ أحدهما على ما قدّمناه. قال الله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا} (¬6)، وقال عزّ وعلا: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ} (¬7)، وقال: {وَلَا تَوَلَواْ عَنْهُ} (¬8). والمراد: "تتنزّل"، و"تتمنّون". و"تتولّوا". وقد اختلف العلماء في المحذوفة، فذهب سيبويه (¬9) والبصريون إلى أنّ المحذوفة هي الثانية، وقال بعض الأصحاب: المحذوفة الأُولى، قالوا: ويجوز أن تكون الثانية. والحجّةُ لسيبويه أن الثانية هي التي تسكن، وتدغم في "ازَّيَّنْت"، و"ادَّارَأْتُمْ". ¬
فصل [الادغام الشاذ]
وقول صاحب الكتاب: و"لم يدغموا نحو: "تَذكرون" لئلّا يجمعوا بين حذف التاء وادغام الثانية" إشارةٌ منه بأنه كان يسوغ الادغامُ لولا الحذفُ. وليس ذلك صحيحًا؛ لأنّ هذا النوع من الادغام لا يسوغ في المضارع؛ لما ذكرناه من سكون الأول ودخولِ ألف الوصل، وذلك لا يجوز، فاعرفه. فصل [الادّغام الشاذ] قال صاحب الكتاب: ومن الادّغام الشاذ قولهم: "سِتٌّ", أصله: "سدسٌ"، فأبدلوا السين تاءً, وادّغموا فيها الدال. ومنه "وَدٌّ" في لغة بني تميم, وأصلها "وَتِدٌ", وهي الحجازية الجيدة, ومثله "عدانٌ" في "عتدانٍ". وقال بعضهم: "عُتُدٌ" فرارًا من هذا. * * * قال الشارح: قد نبه في هذا الفصل على أسماءٍ قد وقع فيها الادغامُ على غير قياس، وكثُر ذلك عنهم، فصار شاذًّا في القياس مطّردًا في الاستعمال. فمن ذلك قولهم: "سِتٌّ"، أصله: "سِدْسٌ": فكثرت الكلمةُ على ألسنتهم، والسين مضاعفة ليس بينهما حاجزٌ قويٌّ لسكونه، فكان مخرجُ الحاجز أيضًا أقرَب المخارج إلى السين، فصارت كأنّها ثلاث سينات. وقد تقدّم أن الدال تدّغم في السين، والسين لا تدّغم في الدال. فلو ادُّغم على القياس، لوجب أن يقال: "سِسٌّ" فيجتمع ثلاث سينات، فكرهوا ذلك؛ لأنّهم إذ كرهوا السين بينهما دالٌ كانوا لاجتماع ثلاث سينات ليس بينها حاجزٌ أكرهَ. وكرهوا أن يقلبوا السينَيْن دالًا، ويدغموا الدال الدال كما يُعمَل في الادغام مَن قلب الثاني إلى جنس الأوّل، فيقولوا: "سِدٌّ"، فيصير كأنّهم ادغموا السين في الدال، وذلك لا يجوز، فقلبوا السين إلى أشبه الحروف بها من مخرج الدال، وهو التاء؛ لأن التاء والسين مهموستان، فصار "سِدْتًا". ثمّ ادغموا الدال في التاء؛ لأنّهما من مخرج واحد، وقد سبقت القال التاء، وهي ساكنة، فثقُل إظهارُها. ولم يقلبوها صادًا، ولا زايًا, لأنّهما كالسين، إذ ليس بينهما، إلَّا أن الزاي مجهورة، والسين مهموسة، والصاد مطبقة، والسين منفتحة. فلو قلبوها صادًا أو زايًا، لصارتا كالسينَيْن، فاستُثقل. والذي يدلّ على شذوذه أنّه لو كان يلزم الادغامُ في "سدس"، لوقوع الدال الساكنة بين السينين، للزم أن يقال في "سُدْس الشيء": "سِتٌّ" وفي "سدس" من أَظماء الإبل: "سِتٌّ". وذلك ممّا لا يقوله أحدٌّ، فعُلم أن ادغام "سِتّ" إنما هو على سبيل الشذوذ. ويدل أن أصلَ "سِتَّةٍ": "سِدْسَةٌ" بالدال، أنّك تقول في التصغير: "سُدَيْسَةٌ"، وفي الجمع: "أَسْداسٌ". والتصغيرُ والتكسيرُ ممّا يُرَدّ فيه الأشياء إلى أصولها. ومن ذلك "وَدٌّ"، اْصله: "وَتِدٌ". وهي اللغة الحجازية، ولكنّ بني تميم أسكنوا التاء
فصل [الحذف بدل الادغام]
كما أسكنوا في "فَخذٌ"، ثمّ ادغموا؛ لأنّ المتقاربين إذا كان الأول منهما متحرّكًا لا يدغم. ولم يكن مطردًا؛ لأنّه ربما التبس بالمضاعف حتى إنهم كرهوا "وَطدًا" و"وَتْدًا" في مصدر "وَطَدَ" "يَطِدُ"، و"وَتَدَ" "يَتِدُ". وكان الجيّد عندهم "طِدَةً"، و"تِدَةً". وأمّا "عِتدانٌ" فهو جمعُ "عَتُودٍ"، وهو التَّيْس، وفيه لغتان: "عِتْدانٌ"، و"عِدّانٌ"؛ فأمّا "عِدّانٌ"، فشاذٌ كشذوذ "ودٍّ" في "وَتِدٍ"، فيلتبس بالمضاعف؛ لأنهما في كلمة واحدة، وقال بعضهم: "عُتُدٌ" في جمع "عَتُودٍ" على حد "رَسُولٍ" و"رُسُلٍ"، فِرارًا من الادغام في "عِدّان". فصل [الحذف بدل الادّغام] قال صاحب الكتاب: وقد عدلوا في بعض ملاقي المثلين أو المتقاربين لإعواز الادّغام إلى الحذف, فقالوا في "ظللت", و"مسست", و"أحسست": "ظَلْتُ", و"مَسْت", و"أحَسْت" قال: [من الوافر]: 1368 - [سوي أنَّ العِتاقَ مِن المطايا] ... أحسن به فهن إليه شُوسُ * * * ¬
قال الشارح: اعلم أنّ النحويين قد نظموا هذا النوع من التغيير في سِلْك الادغام، وسمّوه به، وإن لم يكن فيه ادغامٌ. إنما هو ضربٌ من الإعلال للتخفيف كراهيةَ اجتماع المتجانسَيْن كالادغام. وذلك قولهم: "ظلت" في "ظللت"، و"مست" في "مسست"، و"أحست" في "أحسست". وإنّما فعلوا ذلك؛ لأنّه لما اجتمع المثلان في كلمة واحدة، وتَعذّر الادغامُ لسكون الثاني منهما، ولم يمكن تحريكُه لاتّصال الضمير به، فحذفوا الأوّل منهما حذفًا على غير قياس، وهو الحرف المتحرّك. وإنما حذفوا المتحرّك، دون الساكن، لأنّهم لو حذفوا الثاني، لاحتاجوا إلى تسكين الأوّل، إذ كانت التاء التي هي للفاعل تُسكِن ما قبلها، فكان يؤدي ذلك إلى تكثير التغييرات. قال أبو العبّاس: شبّهوا المضاعف ها هنا بالمعتلّ، فحُذف في موضع حذفه، فقالوا: "أَحَسْت" و"أَمَسْت"، كما قالوا: "أَقَمْت"، و"أَرَدْت"، وقالوا: "مِسْت"، و"ظِلْت"، كما قالوا: "كِلْت"، و"بِعْت"، كأنّهما استويا في باب "رَدَّ"، و"قامَ". وإنّما يُفعل ذلك في موضع لا يصل إليه الحركةُ بوجهٍ من الوجوه، وذلَك في "فَعَلْت"، و"فَعَلْنَ". فأمّا إذا لم يتصل به هذا الضميرُ، لا يُحذف منه شيءٌ؛ لأنّه قد تدخله الحركةُ إذا ثنّيتَ أو جمعتَ، نحو: "أَحَسَّا"، و"أمسّا"، و"أَحَسُّوا"، و"أَمَسُّوا"، و"أَحِسِّي"، و"أَمِسِّي". وإنّما جاز في ذلك الموضع للزوم السكون. وليس ذلك بجيّد ولا حسنٍ، وإنّما هو تشبيهٌ. فأما "ظِلْتُ"، ففيه لغتان: كسرُ الأول وفتحُه. فمَن فتح حذف اللامَ، وترك الفاء مفتوحة على حالها. ومن كسر الفاء ألقى عليها كسرةَ العين، ثمّ حذفها ساكنةً، وكذلك "مَستُ". وأمّا "أَحَسْت"، فليس فيه إلَّا وجهٌ واحدٌ، وهو فتحُ الحاء لإلقاء حركة العين عليها، إذ لو حذفوا السين الأوُلى مع حركتها، جتمع ساكنان: الفاء والسين الأخيرة، فكان يؤدّي إلى تغييرٍ ثانٍ، فلذلك قالوا: "أَحَسْت" لا غير. وعليه أنشدوا [من الوافر]: سِوَى أنّ العِتاقَ مِن المَطايا ... أَحَسْنَ به فَهُنَّ إليه شُوسُ وربّما قالوا: "أَحْسَيْنَ"، كأنّه أُعلّ الحرف الثاني بقلبه ياءً على حدٍّ "قَصَّيْتُ أَظفاري". * * * قال صاحب الكتاب: وقول بعض العرب: "استخذ فلان أرضاً"، لسيبويه فيه مذهبان (¬1): أحدهما: أن يكون أصله: "استتخذ", فتحذف التاء الثانية، والثاني: أن يكون "اتخذ", فتبدل السين مكان الأولى. ومنه قولهم: "يسطيع" بحذف التاء، وقولهم: ¬
"يَسْتِيعُ". إن شئت قلت: خذفت الطاء، وتُركت تاء الاستفعال، وإن شئت قلت: حُذفت التاء المزيدةُ، وأُبدلت التاء مكانَ الطاء. وقالوا "بَلْعَنْبَرِ"، و"بَلْعَجْلان" في "بَنِي العَنْبَرِ"، و"بني العَجْلانِ"، و"عَلْماءِ بنو فلانٍ"، أي: على الماء، قال [من الطويل]: 1369 - غَداةَ طَفَتْ عَلْماءِ بَكرٌ بْنُ وائِلٍ ... وعاجَتْ صُدورُ الخَيلِ شَطرَ تَميمِ وإذا كانوا ممن يحذفون مع إمكان الادّغام في "يَتَسَعُ" و"يَتَقِي"، فهم مع عَدَم إمكانه أَحْذَفُ. * * * قال الشارح: اعلم أن قولهم: "اسْتَخَذَ فلان أرضًا"، لسيبويه فيه قولان: أحدهما: أنّ أصله "اتَّخَذَ" على زنةِ "افْتَعَلَ" من قوله تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} (¬1)، فأبدلوا من التاء الأولى، وهي فاء الفعل سينًا، كما أبدلوا التاء من السين في "سِتٍّ"، وأصلها "سِدْسٌ". وليس إبدالُ السين على ما بينهما من الاشتراك في الهمس وتقارُب المخرجين بأشذَّ من حذفها في "تَقَيْت". وذلك لاستثقال التشديد، وفي الجملة الحذفُ شاذّ. والوجه الثاني: أن يكون المراد: "استفعل"، وأصله: "اسْتَتْخَذَ"، فحذفوا التاء الثانية الساكنة؛ لأنّهم لو حذفوا الأولى اجتمع ساكنان، فكان يؤدّي إلى تغيير ثان. وليس ذلك في الحذف بأبعد منه في "ظَِلْت"، و"مَِسْت". ومن ذلك "أَسْطَاعَ"، "يَسْطِيع"،قالوا: الأصل في "أسطاع": "اسْتَطاعَ" وإنّ ¬
التاء حُذفت تخفيفًا، وفُتحت همزة الوصل، وقُطعت، وهو قول الفرّاء. وفي "استطاع" أربعُ لغات: "أسطاعَ يُسْطِيع"، بفتح الهمزة في الماضي، وضمّ حرف المضارعة، فهو من "أَطاعَ، يُطِيع"، وأصله: "أَطْوَعَ، يُطْوع" بقلب الفتحة من الواو إلى الطاء في "أَطْوَعَ" إعلالًا له حملًا على الماضي، فصار "أطاعَ"، ثمّ دخلت السين كالعوض من عين الفعل. هذا مذهب سيبويه (¬1). واللغة الثانية: "اسْتَطاعَ، يَسْتَطِيع" بكسر الهمزة في الماضي، وفتح حرف المضارعة، وهو "استفعل"، نحو: "استقام"، و"استعان". واللغة الثالثة: "اسْطاعَ يَسْطِيع" بكسر الهمزة في الماضي ووصلِها وفتح حرف المضارعة، والمراد: "استطاع"، فحذفت التاء تخفيفًا لاجتماعها مع الطاء، وهما من معدن واحد. واللغة الرابعة: "اسْتاعَ"، بحذف الطاء؛ لأنّها كالتاء في الشدّة، وتَفْضُلها بالإطباق، وقيل المحذوف التاء؛ لأنّها زائدة. وإنّما أبدلوا من الطاء بعدُ تاء لأنَّها من مخرجها، وهي أخفٌّ، وهو حذفٌ على غير قياس، فلذلك ذكره هنا. وممّا حُذف استخفافًا على غير قياس؛ لأنّ ما ظهر دليلٌ عليه قولُهم في قبيلةٍ تظهر فيها لامُ المعرفة، ولا تدّغم، نحو: "بني العَنْبَر"، و"بني العَجْلان"، و"بني الحارث"، و"بني الهُجَيْم": "هؤلاء بَلعَنْبَرِ، وبَلْعَجْلانِ، وبَلْحْارثِ، وبَلهُجَيْمِ"، فحذفوا النون لقربها من اللام. وهم يكرهون التضعيف، إذ الياء الفاصلة تسقط لالتقاء الساكنين. ولا يفعلون ذلك في بني النَّجّار، وبني النَّمِر، وبني التَّيْم؛ لئلّا يجمعوا عليه إعلالين: الادغامَ والحذفَ. وقالوا: "عَلْماء بنو فلان"، يريدون: "على الماء"، فهمزة الوصل تسقط للدرج، وألفُ "عَلَى" تُحذف لالتقائها مع لام المعرفة، فصار اللفظ "عللماء". فكرهوا اجتماع المثلين، فحذفوا لامَ "عَلَى" كما حذفوا اللام في "ظلت"؛ لاجتماع المثلين. وإذا كانوا قد حذفوا النون في "بلحارث"، و"بلعجلان"؛ لاجتماعها مع اللام إذ كانت مُقارِبةً، فلأن يحذفوا اللام مع أختها بطريق الأَوْلى. وأنشدوا [من الطويل]: 1370 - فما سبق القَيْسِيُّ من سُوءِ سِيرَةٍ ... ولكن طَفَتْ عَلْماء غُزْلَةُ خالِدِ ¬
ويُروى: وما غلب القيسيّ من ضُعْفِ قُوَّةٍ قال أبو العبّاس محمد بن يزيد: قال أبو عثمان المازنيّ: رأيتُ في كتاب سيبويه هذا البيت في باب الادغام (¬1). قال أبو عمرو: وهو للفرزدق قاله في رَجُلَيْن أحدُهما من قَيس، والآخر من عَنبَر، فسبق العنبريُّ، وكان اسمُه خالدًا. ومثله قوله [من الوافر]: غداة طفت علماء ... إلخ الشاهد فيه قوله: "علماء"، والمراد: "على الماء"، فحذفوا، فاعرفه. تمّ شرح كتاب المفصّل للزمخشريّ، والحمدُ لله ربّ العالمين، وصلى الله على سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين وأصحابه أجمعين ¬