شرح المصابيح لابن الملك

ابن المَلَك

مقدمة التحقيق إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يھده والله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. فإن الإمام محمد بن الإمام عز الدين عبد اللطيف بن عبد العزيز، الرُّومي، الكَرْمانيّ، الحنفي، المشهور بـ (ابن الملك)، والمتوفى سنة (854 هـ)، كان إماماً وفقيهاً حَنفياً ضالعاً بمذهبه، وكان ذا معرفة بعلوم اللغة والحديث، وقد ظهر ذلك جليا في مؤلفاته التي ترکها، ومنها کتابه: «شرح مصابيح السنة»، والذي اشتمل علي شرح غالب مادّة أحاديث مصابيح السنة للإمام البغوي، والتي

قارَبَت الخمسةَ آلافِ حديث. فقد عُنِيَ فيه - رحمه الله - ببيانِ الألفاظِ، وحَلِّ الإشكالات، وبَثَّ فيه فقه الأئمة الأربعةِ، خُصوصاً فقه الإمامِ أبي حنيفةَ رحمه الله تعالى. فجاء شرحاً لَطيفاً، لخَّصَ فيه كلامَ الشُّرَّاح قبلَه؛ كالإمامِ البَغَوِيِّ والطيْبِيِّ والتُّوْرِبِشْتيِّ والمُظْهِرِيِّ وزَينِ العَرَب في كلامهم على "مصابيح السنة"، وأفادَ مما كَتَبه والدُه الإمامُ عبدُ اللطيفِ على "مشارق الأنوار" للصَّغَاني، فأجادَ - رحمه الله - في التَّلخيص، وأَبدعَ في التقريبِ والتَّيسيرِ وجَمعِ الفوائدِ المُتناثرةِ في بُطُون تلك الكتب. وقد أفادَ من هذا الشرح كثيراً العلامةُ مُلاَّ علي القَارِي في كتابه: "مرقاة المفاتيح في شرح مِشْكاة المصابيح". هذا، وقد قامَتْ لجنة علميَّة مختصَّة مِنَ المحقِّقين في دار النَّوادر بإشرافِ الشَّيخ نورِ الدِّين طالب بتحقيقِ هذا السِّفْرِ تَحقيقاً عِلمياً مُتميزاً مِنْ عنايةٍ خاصَّةٍ بضبطِ النَّصِّ، معتمدِينَ في نشرِه على أربعِ نسُخٍ خَطيَّةٍ.

كما حُفَّ إصدارُه بجَودَةِ التَّنضيدِ والإِخْراجِ والطباعةِ، مع التَّنْويهِ بجهودِهم المَشْكورةِ في نشرِ شُروحِ مصابيحِ السُّنَّة التي تصدُرُ لأوَّلِ مَرَّةٍ إلى عالم المَطْبوعات، فجزاهم اللهُ على حُسْنِ صَنِيعهم خيرَ الجزاءِ، وأثابهم خيرَ العَطَاء. وإنَّ إدارةَ الثقافةِ الإِسْلامية، إذ يَسُرُّها أنْ تَزُفَّ هذا الكتابَ النَّفِيسَ إلى رُوَّامِ العلمِ ومُحبِّيه، تأمَلُ مِنَ اللهِ أنْ يكونَ عَملُها مُتقبلاً، وتَدعوه سبحانه أنْ يبارِكَ جهودَها في نشرِ الإِرثِ الثَّمينِ مِنْ تراثِ الأمَّةِ الإسلامية، لِما يُسْهِمُ في رِفْعة الأمَّة وعُلُوِّ مَكانتها، وأَنْ يوفِّقَها للكثيرِ الطَّيِّبِ مِنْ ذلك، إنَّه سبحانه نعمَ المَولى ونعمَ النَّصير. إدارة الثقافة الإسلامية

مَوْسُوعَةُ شُرُوْحِ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ المُشْرِفُ العَام نُوْرُ الدِّيْن طَالِب اللَّجْنَةُ العِلْمِيَّةُ الَّتِي شَارَكَتْ فِي تَحْقِيقِ هَذَا الكِتَابِ - محمد خَلُّوف العبد الله - توفيق محمود تكلة - ياسِيْن عَبد الله حمبول - محمَّد عَبد الحليم بَعَّاج - عَلاء الدِّين بَدْرَان - جَمال عَبد الرحيم الفارس

مقدمة التحقيق

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مُقَدِّمَةُ التَّحْقِيق الحمدُ لله منزلِ الشرائعِ والأحكام، وجاعلِ سنةَ نبيِّه - صلى الله عليه وسلم - مبينةً للحلال والحرام، والهادي من اتبعَ رضوانَه سُبلَ السّلام. وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريك له، شهادةَ تحقيقِ على الدوام. وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه، أرسلَه رحمة للأنام، وعلى آله وصحبِه الكرام. أمّا بعد: فإنَّ الله - جل وعلا - قد هيَّأ لهذه الأمةِ علماءَ ربَّانيين، حَفِظوا حديثَ نبيِّه محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - في دواوين ألفوها في السُّنن والأحكام، والحلال والحرام، وما جاء عنه - صلى الله عليه وسلم - في فضائل الأعمال ونَفَائسِ الأحوال الداعيةِ إلى طُرق الخيرِ وسُبُل الرشاد، وما دعا إليه من مكارم الأخلاقِ ومحاسنِ الآداب. وكان كتابُ "مصابيح السُّنة" للإمام محيي السنة، شيخِ الإسلام البَغَويِّ أجمعَ كتابٍ صُنَّف في بابه، وأضبطَ لشواردِ الأحاديث وأَوابِدها (¬1). وهو الكتابُ الذي عكف عليه المتعبِّدون، واشتغل بتدريسه الأئمةُ ¬

_ (¬1) انظر: "مشكاة المصابيح" للتبريزي (1/ 3).

المعتبرون، وأقرَّ بفضله وتقديمه الفقهاءُ المحدثون، وقال بتمييزه الموافقون والمخالفون (¬1). وهو كتاب مُبَارك، وفيه عِلمٌ جَمٌّ من سُنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬2)، ناهزت أحاديثُه الخمسةَ آلاف حديث، أحسنَ الإمامُ في ترتيبها، وفاقَ ترتيبُه للكتب كثيراً من كتب الحديث المصنَّفة، فإنه وضَعَ دلائلَ الأحكام على نَهجٍ يستحسنُه الفقيهُ، فوضع الترغيبَ والترهيب على ما يقتضيه العلم، ولو فكَّر أحدٌ في تغيير بابٍ عن موضعه لم يجدْ له موضعاً أنسبَ مما اقتضى رأيُه (¬3). وقد كثُرت عناية العلماءِ بهذا الكتاب الجليل، وتنوَّعت الشروحُ والتعليقاتُ والتخريجاتُ عليه، وكان من بين تلكَ الشروحِ: - "شرح المصابيح" لعلَم الدين السَّخَاوي (ت 643 هـ). - "الميسَّر في شرح مصابيح السنة" لشهاب الدين فضل الله التوربشتي (ت 661 هـ). - "المفاتيح في شرح المصابيح" للحسين بن محمود الزَّيداني المُظْهِري. - "شرح المصابيح" لابن المَلَك الحنفي. - "التجاريح في فوائد متعلقة بأحاديث المصابيح" للفيروزأَبادي (ت 817 هـ). - "شرح المصابيح" لابن كمال باشا (ت 940 هـ). وقد اختصر "المصابيح" غيرُ واحدٍ من الأئمة، كان من أبرزِها: "مشكاة ¬

_ (¬1) انظر: "كشف المناهج والتناقيح في تخريج أحاديث المصابيح" لصدر الدين المناوي (1/ 5). (¬2) انظر: "الميسر في شرح المصابيح" للتوربشتي (1/ 29). (¬3) كما قال محمد بن عتيق الغرناطي (ت 646 هـ).

المصابيح" للتَّبْرِيزي، والذي شرح الإمامُ الطّيبيُّ في كتاب سماه: "الكاشف عن حقائق السُّنن"، وكذا شرحه العلامةُ ملا علي القَارِيُّ في "مِرقاة المفاتيح". كما قام بتخريج "المصابيح" الإمامُ صدرُ الدين المَنَاويُّ (ت 803) في "كشف المناهج والتَّناقيح في تخريج أحاديث المصابيح"، ولخَّصه الحافظُ ابنُ حجر في "هداية الرواة إلى تخريج المصابيح والمشكاة". إلى غيرِ ذلك من الشروحِ والتَّعاليق القيمة، ومِنْ هنا عُنينا بتلك المؤلَّفاتِ عناية خاصةً في مشروعنا "موسوعة شروح السنة النبوية" التي نسألُ الله أن يكتبَ لها القَبول والتَّمامَ، وأن يوفقنا لإصدارها كما أرادها مؤلِّفوها أنْ تخرجَ لأهل الإسلام، إنَّه وليُّ ذلك والقادر عليه. وقد تناولنا في تحقيقنا جملةً من الشُّروح النفيسةِ التي لم تَرَ النورَ بعد، وألفينا فيها علومًا جَمَّةَ لا يستغني عنها مَنْ تَشَرَّب لِبَانَ السنَّةِ النبوية، وحَرَصَ على أخذِها رِواية ودِرايةً. وحسبُ المرءِ احتفاءً بجملة الشُّروح المحقَّقةِ، والتي نُخرجها إلى عالم المطبوعات لأول مرة، أنَّها تاتي بعد نشرِ شَرحٍ واحدٍ يتيمٍ لهذا الكتابِ الجليل، وهو شرحُ الإمام التُّوْرِبِشْتي، فلله الحمدُ على مَنِّه وتوفيقه. ومن تلكَ الشروحِ الحافلةِ، شرحُ الإمامِ مُحمَّدِ بنِ عَبْد اللَّطيفِ، المعروفِ بـ (ابن المَلَك) الرُّوميِّ، والذي نقومُ بإصداره لأوَّلِ مرةٍ مقابَلاً على أربعِ نسُخ خَطِّيَّةٍ. وقد اشتملَ هذا الشَّرْحُ على غَالبِ مادَّةِ "مَصابيح السُّنَّة" للإمام البَغَويّ رحمه الله تعالى. وقد عُنِيَ فيه - رحمه الله - ببيان الألفاظِ، وحَلِّ الإشكالات، وبَثَّ فيه فِقْه الأئمَّةِ الأربعةِ، خصوصًا فقه الإمامِ أبي حنيفةَ رحمه اللهُ تعالى.

فجاء شَرحًا لطيفًا مُفيداً للقارى، قد لَخَّصَ فيه الإمامُ ابنُ المَلَك كلامَ الشّراحِ قَبْلَه؛ كالإمام البَغَويِّ والطيبيِّ والتُّوْرِبِشْتيِّ والمُظْهِرِيِّ، وأفاد ممَّا كتبه والدُه الإمامُ عبدُ اللَّطيفِ على "مَشَارق الأنوار للصَّغَاني"، فأجاد - رحمه الله - في التَّلخيصِ، وأَبْدَعَ في التَّقْريبِ والتَّيسيرِ وجَمعِ الفوائدِ المتناثرة في بطونِ تلكَ الشُّروح. وقد أفادَ من هذا الشَّرحِ كثيراً العلامةُ مُلاَّ علي القَاريُّ في كتابه: "مرقاة المَفاتيح في شرح مِشْكاة المصابيح". هذا، وقد تمَّ التقديمُ للكتاب بترجمة الإمام البغوي، وترجمة الإمام ابن المَلَك - رحمهما الله تعالى - ثم تلاه تعريف بمنهج المؤلِّف في هذا الشرح. وتمَّ تذييلُ الكتابِ بِفِهْرسِ أطرافِ الأحاديث النبوية الشريفة التي شرحها المؤِّلفُ، ثم فِهرسٍ لعناوينِ الكُتب والأبواب. اللهم اجعلنا ممَّنْ يَسْتَنهج كتابَكَ وسنَّةَ نبيِّكَ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -، واجعلْ نيتَنا خالصةً لوجهكَ الكريمِ في نشرِ السُّنةِ المُطَهَّرة، يدومُ الأجرُ فيها بعد الممات، ونبلُغُ بها منزلةً مرضيَّةً عندك، إنَّكَ وليُّ ذلك والقادرُ عليه، ولا حولَ ولا قوة إلا بك. وصلى الله على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آلهِ وأصحابِه أجمعين، والحمدُ لله ربِّ العالمين. حَرَّرُه نور الدين طالب ذو الحجة/ 1432 هـ

الفصل الأول

الفَصلُ الأوَّل تَرْجَمَةُ الإِمَامِ البَغَويِّ (¬1) صَاحب "مَصَابِيحِ السُّنَّةِ" هو الشَّيخ الإمام، العلامة القدوة الحافظ، شيخ الإسلام، محيى السُّنة، أبو محمد الحسين بن مسعود بن محمد بن الفَرَّاء البَغَوي الشافعي المفسِّر، صاحب التصانيف كـ "شرح السنة"، و"معالم التنزيل"، و"المصابيح"، وكتاب "التهذيب" في المذهب، و"الجمع بين الصَّحيحين"، و"الأربعين حديثاً"، وأشياء. تفقه على شيخ الشَّافعية القاضي حُسين بن محمد المَرْورُّوذي صاحب "التعليقة" قبل الستين وأربع مئة، وسمع منه، ومن أبي عمرَ عبدِ الواحد بنِ أحمد المَليحي، وأبي الحسن محمد بن محمد الشِّيرزي، وجمال الإسلام أبي الحسن عبد الرحمن بن محمد الدَّاودي، ويعقوب بن أحمد الصَّيرفي، وأبي الحسن علي بن يوسف الجُويني، وأبي الفضل زياد بن محمد الحنفي، وأحمد ابن أبي نصر الكُوفاني، وحسان المَنيعي، وأبي بكر محمد بن أبي الهيثم التُّرابي ¬

_ (¬1) نقلًا عن "سير أعلام النبلاء" للذهبي (19/ 439). وانظر ترجمته في "وفيات الأعيان" لابن خلكان (2/ 136)، و"تذكرة الحفاظ" للذهبي (4/ 1257)، و"طبقات الشافعية الكبرى" للسبكي (7/ 75)، و"طبقات الشافعية" لابن قاضي شهبة (1/ 311)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (4/ 48)، وغيرها.

وعدة، وعامَّةُ سماعاته في حدود الستين وأربع مئة، وما علمتُ أنه حَجَّ. حدث عنه أبو منصور محمد بن أسعد العَطَّاريُّ عُرِف بحفدة، وأبو الفُتوح محمد بن محمد الطَّائي، وجماعة. وآخر مَنْ روى عنه بالإجازة أبو المكارم فضل الله بن محمد النُّوقاني الذي عاش إلى سنة ست مئة، وأجاز لشيخنا الفخرِ بن علي البُخاري. وكان البَغَوي يلقَّب بمحيي السنة وبركن الدين، وكان سيّداً إماماً، عالماً علامة، زاهداً قانعاً باليسير، كان يأكل الخبز وحدَه، فَعُذِل في ذلك، فصار يَأْتدم بزيتٍ، وكان أبوه يعمل الفِراءَ ويبيعها. بُورك له في تصانيفه، ورُزق فيها القَبول التام لحُسن قصده وصدق نيته، وتنافس العلماءُ في تحصيلها، وكان لا يُلقي الدرس إلا على طهارة، وكان مقتصِداً في لباسه، له ثوبُ خام، وعمامة صغيرة على منهاج السَّلف حالاً وعَقْدًا، وله القدمُ الراسخ في التفسير، والبدع المديد في الفقه، رحمه الله. توفي بمَزو الرُّوذ مدينةٍ من مدائن خراسان، في شوال سنة ست عشرة وخمس مئة، ودفن بجنب شيخه القاضي حسين، وعاش بضعاً وسبعين سنة، رحمه الله.

ترجمة الشارح المحدث الفقيه ابن الملك

تَرجَمَة الشَّارِح المُحَدِّثِ الفَقِيهِ ابنِ المَلَك (¬1) هو الإمام الفقيهُ محمَّدُ بنُ الإمام عزِّ الدِّينِ عبدِ اللطيف بنِ عبد العزيز بن أمين الدِّين بنِ فِرِشْتَا (¬2)، الرُّوميُّ الكَرمانيّ، الحنفيُّ، المشهور بـ (ابن المَلَك). كان والدُه عالماً فاضلاً ماهراً في جميع العلوم، وكان معلِّماً للأمير محمد ابن آيدين، ومدرِّساً بمدينة (تيره) (¬3). ¬

_ (¬1) لم نعثر على ترجمة مفصَّلة للإمام ابن المَلَك محمد في المصادر والمراجع المتداولة، وإنما جاء له ذكرٌ في "الشقائق النعمانية في علماء الدولة العثمانية" لطاش كُبري زاده (ت 968 هـ)، (ص: 31)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (2/ 1701)، و"هدية العارفين" للبغدادي (2/ 198)، و"الأعلام" للزركلي (6/ 217). (¬2) فِرِشْتَا: بكسر الفاء والراء وسكون الشين هو المَلَك، ولذا كان يقال لوالده: ابن المَلَك، قال السخاوي (في ترجمة والده عبد اللطيف): وكذا كان يكتب بخطه المعروف بابن الملك. انظر: "الضوء اللامع" للسخاوي (4/ 329). (¬3) وكان والده - رحمه الله - أحد المشهورين بالحفظ الوافر من أكثر العلوم، وأحد المبرِّزين في عويصات العلوم، وله القبول التام عند الخاص والعام، وصنف تصانيف كثيرة الفوائد منها: "مبارق الأزهار شرح مشارق الأنوار للصغاني - ط"، شرحه شرحاً لطيفاً أتى فيه من النكت اللطيفة ما لا يحصى، وشرح أيضاً: "مجمع البحرين وملتقى النهرين لابن الساعاتي ت 694 هـ"، وهو كثير الفوائد معتمد في بلاد الروم، وشرح =

تأثر الإمامُ محمد بوالده، فكان ذا معرفةٍ بعلوم اللغة والحديث والفقه، وظهرَ ذلك جليًّا في مؤلفاته التي تركها، ومنها: 1 - "شرح مصابيح السنة"، وسيأتي الحديث عنه. 2 - "شرح وقاية الرواية في مسائل الهداية للإمام برهان الشريعة" (¬1)، وهو شرحٌ لطيفٌ، وقد كان والدُه الإمام عبد اللطيف قد شرحه أولاً، لكنه بقي مسودةً، قال حاجي خليفة: شَرَحَه عبدُ اللطيف بن عبد العزيز المعروف بابن ملك، ذكر في أوله أنه شرحه حين قرأه ابنُه جعفر، لكنه بقي في المسودة، فبيَّضه ابنُه محمد وقال: كان أبي قد ألَّف شرحاً للوقاية، لكن لما ضاعت النسخةُ التي بيَّضها قبل الانتشار خِفْتُ ضياعَ الئصنيف بالكلِّية، فكتبت من مسودتها مع بعض الإلحاقات شرحاً آخر، انتهى. قال حاجي: ولهذا نرى في زماننا شرحين للوقاية منسوبين إلى ابن ¬

_ = "منار الأنوار في الأصول لحافظ الدين النسفي ت 710 هـ"، وعليه حواشي كثيرة، وغير ذلك من المؤلفات، وكانت وفاته سنة (801 هـ) على اختلاف في ذلك بين مترجميه. انظر ترجمته في: "الضوء اللامع" للسخاوي (4/ 329)، و "الشقائق النعمانية" لطاش كُبري (ص: 49)، و"كشف الظنون" لحاجي خليفة (ص: 231، 375، 1601، 1689، 1825)، و"شذرات الذهب" لابن العماد (7/ 342)، و "الطبقات السنية في تراجم الحنفية" للغزي (4/ 383)، و"البدر الطالع" للشوكاني (1/ 374)، و"هدية العارفين" للبغدادي (1/ 617)، و"الفوائد البهية في تراجم الحنفية" للكنوي (ص: 107)، و"الأعلام" للزركلي (4/ 59)، و"معجم المؤلفين" لكحالة (6/ 11). (¬1) ذكره طاش كُبْري وحاجي خليفة والزركلي، قال اللكنوي في "الفوائد البهية" (ص: 107): وأخذ عنه - أي: عن عبد اللطيف - ابنه محمد بن عبد اللطيف شارح الوقاية، وهو شرح لطيف، جامع لمهمات المسائل، وموضحات الدلائل.

وفاته

ملك، أوَّلُ شرح ابنه محمد: "الحمد لله الذي جعل العلمَ أريجَ المتاجرِ والمكاسب. . . إلخ " قال: كان شيخي ووالدي شارح المجمع (¬1) يقول: أردت أنْ أشرحَ الوقاية، فشرع فيه وأتمه في آخر الأوان، فلما قضي عليه ومات، سرق الكتاب منه وفات، فما ظَفِرتُ بالوصول إليه، فتأسفتُ عليه، فالتمسوا مني أن أنتسخَه من مسوداته الموجودة، فكتبت، وألحقت فوائد كثيرة، انتهى حاصل كلامه. 3 - "روضة المتقين في مصنوعات ربِّ العالمين"، في المواعظ والعبادات (¬2). 4 - "بحر الحكم" في الأخلاق، وهو باللغة التركية (¬3). 5 - "شرح تحفة الملوك لزين الدين الرازي في الفروع" (¬4). * وفاته: لم ينصَّ على سنة وفاة الإمام محمد في شيء من المصادر، وإنما ذكر الزّرِكليُّ في "الأعلام": أنه توفي سنة (854 هـ) معتمداً في ذلك على ما جاء في النسخة الخطية لمكتبة شستربتي (رقم 3611) لكتاب "شرح الوقاية". وذكر البغدادي في "هدية العارفين" أنه فرغ من "شرح تحفة الملوك" سنة (854 هـ). ¬

_ (¬1) أي: "مجمع البحرين وملتقى النهري لابن الساعاتي". (¬2) ذكره طاش كبري وحاجي خليفة والبغدادي في "هدية العارفين" وقال: في مجلد ضخم. (¬3) ذكره البغدادي في "هدية العارفين". (¬4) كذا نسبه إليه البغدادي في "هدية العارفين" وقال: فرغ سنة (854 هـ)، ونسبه حاجي خليفة والزركلي إلى والده الإمام عبد اللطيف، ولعله الصواب.

الفصل الثاني

الفَصْلُ الثَّانِي دِرَاسَة الكِتَاب * أولاً: تحقيق اسم الكتاب، وإثبات صحة نسبته إلى المؤلف: لم ينصَّ المؤلفُ - رحمه الله - في مقدمة كتابه على اسمٍ له، وكذا لم يأتِ على غلاف النسخِ الخطية المعتمدة في التحقيق اسم للشَّرح. وقد ذكره حاجِّي خليفة والزِّركِلي بـ "شرح المصابيح" فقط. وكذا كان ينقُل عنه العلاَّمة مُلاَّ علي القاريُّ في كتابه "مِرْقاة المفاتيح في شرح مِشْكاة المصابيح" مقتصراً على قوله: "قال ابن الملك" أو "قال ابن الملك في شرح المصابيح". - هذا وقد جاء في مقدمة هذا الشرح قولُ المصنف: "يقول العبد الضعيف محمدُ بن عبد اللطيف". وكذا جاءت نسبةُ هذا الشرح إليه على غلاف النسخة الخطية لمكتبة حاجي محمود بتركيا، والمرموز لها بـ "ت". وكذا نسبه إليه كلٌّ من حاجِّي خليفة والزّركلي. كما جاء بين دَفَّتي الكتاب الكثيرُ من مسائل فقهِ الإمام أبي حنيفة، يتقدم بعضَها قولُه: "وعندنا"؛ أي: الحنفية، وهو يتناسب تمامًا مع ما ذُكر من دِرايته في المذهب الحنفي، بل وتأليفُه فيه كما مرَّ في ترجمته.

تنبيه

وقد ذكر الشَّوكانيُّ في "البدر الطالع" (¬1) في ترجمة والد المؤلف (الإمامِ عبد اللطيف) أن له شرحاً على المصابيح، وقد انفرد الشوكانيُّ بهذه النسبة، ولعله سهو منه - رحمه الله -، فإنَّ المترجمين لوالد المؤلف لم ينسبوا إليه شرحاً في المصابيح، كما أنَّ مقدمةَ هذا الشرح مفصِحةٌ ببيان أكيد في تأليف هذا الكتاب للإمام محمدِ بنِ عبد اللطيف. * تنبيه: بعد تتبُّع مئات المواضع من شرح العلامة ملا علي القاري المسمى: "مِرقاة المفاتيح في شرح مِشْكاة المصابيح"، ألفيناه ينقلُ عن الإمام ابن المَلَك دونَ تمييزِ الوالد (عبد اللطيف) عن ولدِه (محمد صاحب شرح المصابيح هذا)، فيجد المطالعُ هناك قولَ العلاَّمة مُلاَّ علي القاريّ: (قال ابن الملك في شرح المشارق)، وتارة يقول: (في شرح المنار)، وتارة: (في شرح المجمع)، وتارة: (في شرح المصابيح)، وتارة يقول - وهو الأكثر -: (قال ابن الملك) دون الإشارة إلى الكتاب المنقول منه، وهذا ما يوقع المطالع في تحديد مرجع الكتاب الذي نقل منه القاري، كما يوهم أنَّ الجميعَ من تأليفِ واحدٍ، وبمطالعةِ مؤلفاتِ الوالد عبد اللطيف وولدِه محمد تتميَّزُ نسبةُ كلِّ واحد من تلك الكتب. * ثانياً: منهج المؤلف في الكتاب: ذكر المؤلفُ - رحمه الله - في مقدمة كتابه أنَّ شروحًا أُلِّفت في "مصابيح السنة"، وأنَّ بعضَها بسيطٌ، وبعضَها وسيطٌ، وقد التمسَ منه إخوانُه أنْ لو كانَ له ¬

_ (¬1) انظر: (1/ 374).

شرح جامع لفوائد تلك الشُّروحِ على طريقة الحلِّ، لصار المتنُ بلا مهلٍ انحل، فأجابهم - رحمه الله - إلى ملتَمسِهم ذاك، وشَرعَ في المقصود المطلوب. - فجمع المؤلفُ - رحمه الله - كلامَ الشُّرَّاح قبلَه في كلِّ حديث من الأحاديث؛ كشرحِ السنَّةِ للإمام البَغَوي، وشَرحِ التُّورِبِشتي المسمَّى "المُيسَّر في شرح مصابيح السنة"، وشَرحِ الإمام المُظْهِري المسمَّى: "المفاتيح"، وشرح الطَّيبي على مِشْكاة المصابيح، وما جَمَعَه من الفوائد الحِسان من كُتبِ والدهِ الإمامِ الحديثية منها والفقهية؛ كـ "مَبَارق الأزهار شرح مشارق الأنوار للصغاني"، وشروحه الفقهية، فهذَّب واختصر - رحمه الله - ما وجدَه من كلام القوم في أحاديث المصابيح، تارةً - قليلة - يذكرُ صاحبَ القول، وكثيراً ما يُغْفِل نسبةَ الأقوال إلى أصحابها. - وقد بثَّ - رحمه الله - كثيراً من فِقْهِ الأئمة الأربعة خصوصاً مذهبَ إمامهِ أبي حنيفةَ، ثم مذهبَ الإمام الشَّافعيِّ رحمهما الله تعالى. وقد ظَهرَ في عرضه لتلك المسائل عدمُ تعصُّبِه لمذهبه، بل إنّه ظهر في مواضعَ عدَّةٍ تقديمُه لفقهِ الإمام الشَّافعي، وأنَّ الحديث الذي هو بصدد شرحِهِ هو حجة للشَّافعيِّ ومؤيّدٌ لمذهبه الذي ذهب إليه (¬1). وهذا من مَحَاسن الشَّرحِ التي تندُر في كثيرٍ من الشروح. - والمَأثَرةُ الأخرى لهذا الشرح: تبسيطُه وتذليلُه لكلامِ الأئمة السَّابقين في الجوانب اللُّغوية والحديثيَّة والفقهيَّة، وحُسْنُ عَرضِها حتى لا يبقى لسائلٍ أو مُسْتَشْكِلٍ استفهام. ¬

_ (¬1) انظر أمثلة لذلك: (1/ 220، 280)، (2/ 177، 430)، (4/ 61).

ثالثا: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق

- ولمَّا كان الإمامُ ابن المَلَك ممَّن سارَ على مذهب الأشاعرة في باب صِفات الباري سبحانه وتعالى، كالنزول والغضب واليد والوجه وغيرها، فقد أكثرَ مِنْ تأويل تلك الصفات في المواضع التي جاءت في أحاديث الكتاب، وذلك كقوله في حديث: "قلوبُ بني آدم كلُّها بين إصبعبنِ من أصابع الرَّحمن" قال: إطلاقُ الإصبعِ عليه تعالى مجازٌ، قيل: هذا استعارة تخييليةٌ والمستعارُ له التقليبُ، وقيل معناه: بين أثرينِ من آثار رحمته وقَهْرِه (¬1). وكقوله في حديث: "ينزلُ ربُّنا تبارك وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا. . . " قال: هذا مُتَشابِه معناه: ينتقلُ كلَّ ليلةٍ من صفات الجلال إلى صفاتِ الرحمة والكَمال، وقيل: نزولُ الرحمةِ والأَلْطاف الإلهيَّة" (¬2). * ثالثاً: وصف النسخ الخطية المعتمدة في التحقيق: تمَّ الاعتماد في تحقيق هذا الكتاب على أربع نسخ خطية معتمدة في التوثيق، بل إحداها قريبة العهد بالمؤلف رحمه الله، وهذا وصف لكل واحدة منها: * النسخة الأولى: وهي النسخة الخطية المحفوظة في مكتبة غازي خسرو ¬

_ (¬1) انظر: (1/ 108). (¬2) انظر: (2/ 164). وانظر أمثلة أخرى في: (1/ 437، 3/ 491). ويجب التنبيه هنا: أن مذهب الجمهور من السلف والخلف إثبات هذه الصفات كما جاءت في القرآن وصحيح السنة النبوية، من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تأويل وقد اكتفينا بالتنبيه هنا من التنبيه في كل موضع من الكتاب. لأن هذا منهج المؤلف الذي سار عليه، وهو كثير في كتابه.

النسخة الثانية

بيك بسراييفو، تحت رقم (289)، وهي نسخة تامة، تتألف من (356) ورقة، في كل ورقة وجهان، وفي الوجه (28) سطراً، وفي السطر (16) كلمة تقريباً. جاء على غلافها وقف المرحوم مميشاه أفندي على المسجد القديم في مدينة فوتشا. كما جاء في أولها فهرست للكتب والأبواب في الشرح، وقد بلغت مئتان وتسعة وثمانون. تبدأ هذه النسخة بقوله في أول الكتاب: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، رب تمم بالخير، الحمد لله الذي بصَّرنا بالصراط المستقيم. . . ". وتنتهي بقوله في شرح آخر الحديث: "وفضيلة [القرن] الأول من هذه الأمة لا بكثرة العمل، بل لأنهم صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وصادفوا زمان الوحي". وقد جاء في آخرها اسم الناسخ: عبد الرحمن الشريف بن حاجي نصوح فقه بن حاجي طور حسن، وذلك في قرية (بك). وجاء تاريخ النسخ: يوم الثلاثاء، السادس من شهر ربيع الأول، سنة أربع عشر وتسع مئة من الهجرة. وهذه النسخة جدُّ قيمة، لقرب نسخها من حياة المؤلف رحمه الله، وقد حلِّيت هوامشها بالتعاليق المفيدة، والتصويبات، ورؤوس المسائل والفوائد. وتم الرمز لهذه النسخة بالرمز "غ" * النسخة الثانية: وهي نسخة خطية محفوظة في خزانتي الخاصة بالمخطوطات الأصلية، وهي تشتمل على الجزء الأول من الكتاب، وتقع في (521) ورقة من القطع الصغير، في كل ورقة وجهان، وفي الوجه (23) سطراً، وفي السطر (8) كلمات تقريباً.

النسخة الثالثة

جاء في أولها فهرست للكتب والأبواب بعنوان: "هذا فهرست كتاب المصابيح". وهي مخرومة في أولها، ويقدَّر هذا الخرم بخمسة عشر ورقة. تبدأ بقوله في الحديث رقم (18): " [وفي رواية] ابن عباس - رضي الله عنه - في هذا الحديث بعد قوله: "اتخذ الله ولدا. . . " (¬1). وتنتهي بقوله في الحديث رقم (2583): "وعَطَفَ عليه من حيث المعنى قوله: ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا يملك" (¬2). وجاء في آخرها اسم ناسخها: خير بن البلوي في بلد بروسة، بمدرسة مرادي. وجاء تاريخ النسخ: سنة ست وستين وألف من الهجرة. وهي نسخة جيدة، جاء على هوامشها بعض التصويبات والتصحيحات مما يدل على أنها مقابلة، كما حلِّيت هوامشها بجملة من الفوائد منقولة من "شرح المصابيح" لزين العرب، وغيره. وتم الرمز لهذه النسخة بالرمز "م" * النسخة الثالثة: وهي نسخة خطية محفوظة في خزانتي الخاصة بالمخطوطات الأصلية، وتشتمل على الجزء الثاني من الكتاب، وتقع في (233) ورقة، من القطع المتوسط، في كل ورقة وجهان، وفي الوجه (23) سطراً، وفي السطر (14) كلمة تقريبًا. ¬

_ (¬1) وهو في مطبوعتنا (1/ 52). (¬2) وهو في مطبوعبها (4/ 114).

النسخة الرابعة

وهي نسخة مخرومة الأول، تبدأ بقوله من الحديث (3080): "صاحب دومة الجندل بضم الدال وقد تفتح، وهي من بلاد الشام قريب تبوك. . . " (¬1). وتنتهي بقوله في شرح آخر حديث من الكتاب: "ففضلُ أمته عليه الصلاة والسلام ثابت على سائر الأمم، لا بكثرة العمل، بل لأنهم صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وصادفوا زمان الوحي". وجاء في آخرها تاريخ النسخ: سنة ستين وألف من الهجرة. وهي نسخة جيدة، جاء على هوامشها بعض العناوين والمطالب لرؤوس المسائل والفوائد، وفيها بعض التصويبات، وحليِّت بجملة من الفوائد من شروح المصابيح للإمام التوربشتي والمظهري وغيرهما. وتم الرمز لهذه النسخة بالرمز "م" * النسخة الرابعة: وهي النسخة الخطية المحفوظة في مكتبة حاجي خليفة بالمكتبة السليمانية بتركيا، تحت رقم (472)، وتقع في (346) ورقة، وهي مشتملة على الجزء الثاني من الكتاب. في كل ورقة وجهان، وفي الوجه (27) سطراً، وفي السطر (11) كلمة تقريباً. وهي تبدأ من قوله: "كتاب العتق، من الصحاح: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أعتق رقبة مسلمة" (¬2). وتنتهي بقوله في شرح آخر حديث: "وفضيلة القرن الأول من هذه الأمة لا بكثرة العمل، بل لأنهم صحبوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وصادفوا زمان الوحي". ¬

_ (¬1) وهو في مطبوعتنا (4/ 384). (¬2) وهو في مطبوعتنا (4/ 81).

رابعا: بيان منهج التحقيق

وجاء في آخرها اسم الناسخ: مصطفى بن أحمد استانبولي الشهير بكلامئ جهانكيري. وجاء تاريخ النسخ سنة (1096 هـ). وتم الرمز لهذه النسخة بالرمز "ت" * رابعاً: بيان منهج التحقيق: 1 - نسخُ الأصل المخطوط، بالاعتماد على نسختين خطيتين محفوظتين في خزانتي الخاصة بالمخطوطات الأصلية، وهي تشتمل على الجزء الأول والثاني من الكتاب، وتم الرمز لهما بـ "م"، وذلك بحسب رسمِ وقواعد الإملاء الحديثة. 2 - معارضةُ المنسوخ بالمخطوط؛ للتأكُّد من صحة النص وسلامته. 3 - إثباتُ الفروق والأسقاط والزيادات المهمة بين هاتين النسختين الخطيتين في جزأيها الأول والثاني، وبين النسختين الخطيتين لمكتبة غازي خسرو بسراييفو والمرموز لها بـ "غ"، والنسخة الخطية لمكتبة حاجي محمود بتركيا والمرموز لها بـ "ت"، وذلك بإثبات الصَّواب في النص والإشارة إلى خلافه في حواشي الكتاب، وإهمال الفروق التي لا تؤثر على النص كثيراً؛ كبعض الأخطاء والتصحيفات، وتكرير بعض الجمل والكلمات. 4 - إدراجُ نصوصِ أحاديث "مصابيح السنة" التي تكلم عنها المؤلف - رحمه الله - في هذا الشرح، وذلك بعد مقابلة النصوص مقابلةً تامةً على نسختين خطيتين هما غاية في الجَوْدة والضبط، إحداهما النسخة الخطية الموقوفة في مدرسة بايزيد خان بتركيا، تحت رقم (835)، وهي منسوخة سنة (673 هـ)

بيد محمد بن عبد الرحمن بن حبشي بن أحمد. والثانية: النسخة الخطية المحفوظة في مكتبة كُوبريلي بتركيا، تحت رقم (445)، وهي منسوخة سنة (729 هـ) بيد الحسين بن عبد الله بن النيار الحافظ البغدادي الأسدي وقد تمَّ ضبطُ الأحاديث بالشكل شبهِ التام، وتمَّ ترقيمُها ترقيماً تسلسلياً، وبَلَغَ عددُها (4931) حديثاً. 5 - ترقيمُ الأحاديثِ التي تكلم عنها الإمام ابن المَلَك ترقيماً تسلسلياً. 6 - ضبطُ الأحاديث النبوية والأشعار بالشَّكل شبهِ التام، وضبط ما أشكل من الألفاظ والكلمات الغريبة. 7 - عزوُ الآيات القرآنية الكريمة إلى مواضعها من الكتاب العزيز، وإدراجُها برسم المصحف الشريف، وجعلُ العزوِ بين معكوفتين في صلب الكتاب بذكر اسم السورة ورقم الآية. 8 - التعليقُ الضروري على النص، وعدمُ الإطالةِ فيه. 9 - كتابةُ مقدمة للكتاب مشتملة على ترجمة الإمام البَغَويّ صاحب "مصابيح السنة"، وعلى ترجمة الشَّارح الإمامِ ابن المَلَك، ثم دراسة عامة عن الكتاب. 15 - تذييلُ الكتاب بفِهْرسِ لأطراف الأحاديث النبوية الشريفة التي شرحها المؤلف - رحمه الله - وفهرسِ لعناوين الكتب والأبواب. والحمدُ لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات

صُوَر المخطُوطات

صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة غازي خسرو بسراييفو، والمرموز لها بـ "غ"

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية لمكتبة غازي خسرو بسراييفو، والمرموز لها بـ "غ"

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية لمكتبة غازي خسرو بسراييفو، والمرموز لها بـ "غ"

صورة اللوحة الأولى من الجزء الأول من النسخة الخطية المحفوظة بخزانتي الخاصة لمخطوطاتي الأصلية، والمرموز لها بـ "م"

صورة اللوحة الأخيرة من الجزء الأول من النسخة الخطية المحفوظة بخزانتي الخاصة لمخطوطاتي الأصلية، والمرموز لها بـ "م"

صورة غلاف النسخة الخطية لمكتبة حاجي محمود بتركيا، والمرموز لها بـ "ت"

صورة اللوحة الأولى من النسخة الخطية لمكتبة حاجي محمود بتركيا، والمرموز لها بـ "ت"

صورة اللوحة الأخيرة من النسخة الخطية لمكتبة حاجي محمود بتركيا، والمرموز لها بـ "ت"

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

مقدمة الشارح

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله الذي بصَّرنا بالصراط المستقيم، وعرَّفنا بمنهج الدين القويم، على لسان نبيه الكريم، محمد المبعوث لكشف الظلام، عليه أفضل التحيات وأكمل السلام، وعلى آله وأصحابه الكرام، بعد: يقول العبد الضعيف محمد بن عبد اللطيف، غفر الله له ولوالديه، وأجازهم برحمة من لديه: إن كتابَ "المصابيح" في السنن الهدى كتابٌ فاخر، والنفعُ فيه للمنقطعين إلى العبادة وافر، له شروحٌ بعضها بسيط، وبعضها وسيط، التمس مني بعضُ إخواني أن لو كان له شرح جامع لفوائدها على طريقة الحل، لصار المتن بلا مهل انحل، فأجبت لملتمسهم مع قلة البضاعة، وقصور الباعة، مستعيناً بالله الميسر لكل عسير، وهو نعم المولى ونعم النصير. "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" الحمد لله، وسلامٌ على عباده الذين اصطفى، والصلاة التامة الدائمة على رسوله المُجْتبى محمدٍ سيدِ الورى، وعلى آله نجوم الهُدى. قال الشيخ الإمام، الأجَلُّ السيدُ، محيي السنَّةِ، ناصرُ الحديث، ركن الإسلام، قُدوة الأمّة، إمام الأئمة، أبو محمد الحسينُ بنُ مسعودٍ الفَرَّاءُ البَغويُّ، نوَّر الله قبره:

مقدمة المصابيح

أمّا بعد، فهذه ألفاظٌ صدرَتْ عن صدر النُّبوة، وسُنن سارت عن مَعدِن الرسالة، وأحاديثُ جاءت عن سيدِ المرسلين وخاتَم النَّبيين، هُن مصابيحُ الدُّجى، خرجَتْ عن مِشْكاةِ التقوى التَّقيِّ، ممّا أوردها الأئمةُ في كتبهم، جمعتُها للمنقطعين إلى العبادة؛ لتكونَ لهم بعد كتاب الله حظًّا من السنن، وعَوناً على ما هم فيه من الطاعة. تركتُ ذكرَ أسانيدها حَذَراً من الإطالة عليهم، واعتماداً على نقل الأئمة، وربّما سمّيتُ في بعضها الصحابيَّ الذي يرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعنًى دعا إليه، وتجدُ أحاديثَ كلِّ بابٍ منها تنقسم إلى صحاح وحِسان. أعني بـ (الصّحاح): ما أخرجه الشيخانِ؛ أبو عبد الله محمدُ بن إسماعيلَ الجعفيُّ البخاريُّ، وأبو الحسينِ مسلمُ بنُ الحجاجِ القُشيري النيسابوريُّ رحمهما الله، في جامِعيهما، أو أحدهما. وأعني بـ (الحسان): ما أورده أبو داودَ سليمانُ بنُ الأشعثِ السجستانيُّ، وأبو عيسى محمدُ بن عيسى الترمذيُّ، وغيرهما من الأئمة في تصانيفهم - رحمهم الله - مما لم يخرجه الشيخان، وأكثرُها صحاحٌ بنقل العدل عن العدل، غير أنها لم تبلُغ غايةَ شرطِ الشيخين في عُلُو الدرجة من صحة الإسناد؛ إذ أكثرُ الأحكامِ ثبوتُها بطريقٍ حسنٍ. وما كانَ فيها من ضَعيف أو غريب أشرتُ إليه، وأعرضتُ عن ذِكْرِ ما كان منكراً أو موضوعاً، والله المستعان وعليه التُّكلان. روي عن عمرَ بنِ الخطَّابِ - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما الأعمال بالنّيَّاتِ، وإنَّما لامرِئٍ ما نَوى، فَمَنْ كانتْ هِجرتُهُ إلى اللهِ ورسولهِ، فهجرتُهُ إلى اللهِ ورسولهِ، ومَنْ كانتْ هِجْرتُه إلى دُنيا يُصِيبُها أو إلى امرأةِ يتزوَّجُها فهِجْرته إلى ما هاجَرَ إليه".

شرح مقدمة المصابيح

قال المصنف رحمة الله تعالى عليه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، الحمد لله": إنما ابتدأ بذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلٌّ أمر ذي بال لا يُبدَأ باسم الله"، وفي رواية: "بالحمد الله، فهو أبتر" (¬1)؛ أي: أقطع. و (الحمد): عبارة عن ثناءٍ باللسان أعمَّ من أن يكون في مقابلة نعمةٍ أو لا، بشرط أن يكون للمحمود في تحصيل ما يُحمَد عليه نوع اختيار. و (المدح): هو الحمد، لكنه أعمُّ من أن يكون للممدوح فيه نوعُ اختيار أم لا. و (الشكر): عبارة عن ثناء في مقابلة النعمة أعمَّ من أن يكون باللسان أو بغيره. (الله): اسم للمعبود بالحق. "وسلام"؛ أي: سلام من الله تعالى واقعٌ أو نازلٌ "على عباده الذين اصطفى"؛ أي: اصطفاهم الله واختارهم من الأنبياء والملائكة والأولياء ومتابعيهم. وهذا الحمد من المصنف، كما عَلَّم الله تعالى رسولَهُ في كتابه العزيز بقولى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى}، وتعليمٌ منه لأمته أيضاً، وتوفيقٌ لهم على رعاية هذا الأدب أمامَ كلّ كلام يفتتحون به. "والصلاة" وهي من الله على النبي عليه السلام: التشريف ورفع الدرجة، ومن الملائكة: الاستغفارُ له والثناء عليه، ومن المؤمنين الدعاءُ له وزيادةُ رفع الدرجة. "الدائمة"؛ أي: الغير المنقطعة بتتابع أمثالها. ¬

_ (¬1) رواه ابن ماجه (1894)، والخطيب البغدادي في "الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع" (2/ 69 - 70)، من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -، بلفظ: "أقطع".

"التامة"؛ أي: الكاملة البالغة في الكمال، وذلك لحصول جميع ما ينبغي بها. "على رسوله" هو فَعُول بمعنى: المرسَل؛ أي: المبعوث إلى الناس لتشريعِ الأحكام. "المجتبى"؛ أي: المصطفى للرسالة. "محمد" عطف بيان، مفعول من التحميد، وهو مبالغة في الحمد والتكثير فيه، يعني: هو مَنْ حمد الله تعالى حمداً كثيراً؛ لما فيه من الخصال الحميدة. "سيد الورى"؛ أي: الخلق. "وعلى آله"؛ أي: أهله، والصحيح: أنهم أهل بيته المشهورين، وآل الرجل أيضاً: من يؤول إليه في دين أو نسب أو مذهب. "نجوم الهدى"؛ أي: هم النجوم في طريق الهداية؛ لإرشادهم المؤمنين إلى طريق الدين إرشادَ النجوم لسلاك السبيل في الليل البهيم، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي كالنجوم"، وإنما سلك المصنف مسلكَ الاستعارة مبالغةً في التشبيه. وفي بعض النسخ: "مصابيح الهدى" جمع: مصباح، وهو السراج، شبههم بالمصابيح لأن السالكين في الدين اهتدوا بأنوار علومهم المقتبسة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، كاهتداء السالكين بالمصابيح في المسالك. وإنما أفرد الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنه - بالصلاة الموصوفة مع اندراجهم تحتَ السلامِ المذكورِ؛ لزيادة شرفهم. "قال الشيخ الإمام مُحيي السنة" سمي به؛ لأنه لما جمع "شرحَ السنة" رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال له: أحياك الله كما أحييتَ سنتي، فصار عَلَماً له بطريق الغلبة. "أبو محمد الحسين بن مسعود الفرَّاء البَغَوي" أي: منسوب إلى بَغْشُور،

وهي من مدائن خرسان بين هراة ومَرو الروذ، يقال لها: بغ، وبَغْشُور، وتوفي سنة عشر وخمس مئة بمرو روذ. والاسم المركب تركيباً مزجياً يُنسَب إلى جزئه الأول كـ (معدي)، وإنما جاءت الواو في النسبةِ إجراءً لفظة (بغ) مجرى (دم)، وجعلوه محذوف العجز تقديراً، ثم ردوه في النسب، "قدس الله روحه". "أما بعد": لفظة لتفصيل المجمل، وهو كلمة شرط محذوف وجوباً، و (بعد) من الظروف الزمانية، متعلق بالشرط المحذوف؛ أي: مهما نذكر بعد شيء من هذه الأشياء المارة. "فهذه" إشارةٌ إلى ما تضمَّنه الكتاب من السنن، أو إلى ما في ذهنه من ذلك. "ألفاظ صدرت" صفة (ألفاظ)، والجملة وقعت جواباً لى (أما)، ولهذا دخلها الفاء؛ أي: صادرة وجائية "عن صدر النبوة"؛ أي: أصلهم وأكبرهم رتبة، أو المراد بالصدر: العضو المخصوص الذي في الصدر، وهو القلب. فإن قيل: الألفاظ تصدر من مخارجها، فكيف قال: صدرت عن صدر النبوة؟ قلنا: ذلك باعتبار ارتسامِ مدلولاتها في الصدر، وإضافته إلى النبوة إما بتقدير مضاف؛ أي: صاحب النبوة، أو بجعله استعارة تخييلية كـ: معدن الرسالة، أو غير تخييلية بجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه نبوة. "وسنن": جمع: سنة، وهي الطريقةُ المسلوكة لغة، وقولُ الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعله وتقديره اصطلاحاً. "سارت"، أي: سائرة. "عن معدن الرسالة"؛ أي: عمن تستخرج منه الرسالة، والمراد: الرسل،

وإنما كان - صلى الله عليه وسلم - أصلهم ومعدنهم؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنتُ نبياً وآدم بين الماء والطين" (¬1)، وقوله أيضًا: "أولُ ما خلق الله تعالى نوري" (¬2). "وأحاديث": جمع (أحدوثة)، وهو ما يُحدَّث به مما فيه غرابةٌ، أو جمع (حديث) على غير قياس، وقيل: إنه اسم جمع للحديث، وهو الخبر لغة، وقيل: كلام مشافهة. "جاءت عن سيد المرسلين، وخاتم النبيين" بفتح التاء: الطابع؛ أي: ختم به الأنبياء، وبكسرها: اسم فاعل؛ أي: ختم هو نفسُهُ الأنبياء، فلا نبيَ بعده. "هنّ"، أي: تلك الأحاديث، أو الضمير لألفاظ السنن والأحاديث. "مصابيح الدجى" جمع مصباح، قيل: هو السراج الزاهر الاشتعال، والأولى أن يقال: هو دون السراج؛ لتشبيهه تعالى النجوم بالمصابيح في قوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} والشمس بالسراج في قوله تعالى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16]. و (الدُّجى): جمع دجية، وهي الظلمة، وإنما شبَّهها بالمصابيح للاهتداء بها في الدين اهتداءَ المستضيء بالمصابيح في المسالك. "خرجت عن مشكاة التقوى"، وهي الكُّوةُ تكون في الحائط وغيره، يوضع فيها المصباح، وقيل: هي الوعاء الذي يُجعل فيه الدهن والفتيلة، والمراد هنا: ¬

_ (¬1) قال السخاوي في "المقاصد الحسنة" (1/ 521): لم نقف عليه بهذا اللفظ، فضلاً عن زيادة: "كنت نبياً ولا آدم ولا ماء ولا طين" وفد قال شيخنا؛ يعني: ابن حجر في بعض أجوبته: إنها ضعيفة، والذي قبلها قوي. قلت: وروى الإمام أحمد في "مسنده" (5/ 59)، والترمذي (3609) من حديث ميسرة الفجر - رضي الله عنه -: "قال: قلت: يا رسول الله متى كُتبت نبياً، قال: وآدم عليه السلام بين الروح والجسد"، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب. (¬2) قال الشيخ عبد الحي اللكنوي في الآثار المرفوعة (ص 43): "وهو حديث لم يثبت بهذا المبنى، وإن ورد غيره موافقاً له في المعنى".

فمه - صلى الله عليه وسلم - أو صدره أو قلبه، وهي استعارة تخييلية، أو المراد بالتقوى نفسُهُ مبالغةً. "مما أوردها"؛ أي: اهتمَّ بها "الأئمة" في كتبهم. "جمعتُها للمنقطعين إلى العبادة"؛ أي: لمن انقطع عن الدنيا، وتوجَّه إلى العبادة، فمَنْ هذه صفته لا بد له من معرفة الأحاديث؛ إذ لا يمكنه سلوكُ هذا السبيل إلا بدليل حاذق يقتدي به في أفعاله وأقواله وهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سبيلَ إلى معرفة أفعاله وأقواله بعد الصحابة إلا بتتبع الأحاديث، فمن حُرِمها حُرِمَ خيرَ الدنيا والآخرة، ومن رُزِق منها رزق حظاً كاملاً من خيرها. "لتكون"؛ أي: الأحاديث المذكورة. "لهم"؛ أي: للمنقطعين إليها. "بعد كتاب الله تعالى"؛ أي: القرآن. فيه إشارةٌ إلى أن العناية به مقدمة على العناية بالسنة. "حظاً من السنن"؛ أي: نصيباً من سنن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن من علم القرآن وعمل به، ولم يعمل بالأحاديث، لم يكن حظه تاماً؛ لأن أحكام الشريعة من الأمر والنهي والحلال والحرام وغيرها من الأحوال والأهوال ليس كلُّها مذكوراً في القرآن، بل بعضها مذكور فيه، وبعضها غير مذكور. والدليل عليه ما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أيحسب أحدُكم متكئاً على أريكته، [قد] يظنُّ أنَّ الله تعالى لم يحرِّم شيئاً إلا [ما] في [هذا] القرآن، ألا وإني والله قد أمرتُ ووعظتُ ونهيتُ عن أشياء إنها كمثلِ القرآنِ أو أكثر" (¬1). "وعوناً"؛ أي: معينة لهم. "على ما هم فيه من الطاعة": بتعلمهم كيفية العبادة، وقدر وظائف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصوم والصلاة وغير ذلك، فإن العملَ بسنةٍ من سنن رسول الله يتضاعف ثوابه - وإن كانت قليلة - على عبادة ليست بسنة، وإن كانت كثيرة. ¬

_ (¬1) رواه أبو داود (3050)، والبيهقي في "السنن الكبرى" (9/ 204)، عن العِرباض بن سارية - رضي الله عنه -.

"وتركت ذكر أسانيدها": جمع إسناد، وهو العنعنة المتصلة به - صلى الله عليه وسلم -. وإنما ترك ذكرها لعدم الفائدة؛ لأن المطلوبَ من ذكرها هو أن يُعلَم عند التعارض راجحُ الحديث من مرجوحها، وناسخها من منسوخها، بسبب زيادة عدالة الرواة بعضهم على بعض، وتقدم البعض على البعض، ونحو ذلك من المرجحات التي لابد للمجتهد من معرفتها؛ ليمكنه الاجتهاد. ولما عدم المجتهدون في هذه الأعصار أو ندر وجودهم، فلم يكن في ذكرها سوى التطويل من غير أن يجدي نفعاً في المطلوب، وأيضاً فالتعرض للحسن والصحيح والضعيف والغريب وغير ذلك كافٍ في معرفة الترجيح فترك ذكرها. "حذراً"؛ أي: للحذر. "من الإطالة"؛ أي: من تطويل الكتاب. "عليهم واعتماداً"؛ أي: اكتفاء. "على نقل الأئمة": الذين استخرجتُ هذه الأحاديث من كتبهم ذكروا الرواة؛ يعني: هم ذكروا رواة الأحاديث بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصححوها، فلا حاجةَ إلى ذكرهم. "وربما سَمَّيتُ في بعضها"؛ أي: بعض الأحاديث "الصحابيّ الذي يرويه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعنى": متعلق بـ (سميت). "دعا إليه"؛ أي: إلى تسمية الصحابي الراوي عنه - صلى الله عليه وسلم -، فمن ذلك المعنى امتياز بعض الرواة عن بعض بعبارته، إذا روى عنه عليه الصلاة والسلام جميعٌ من الصحابة بألفاظ مختلفة، أو يكون في رواية بعضهم ضعفاً أو إنكاراً؛ إما لجهالة الراوي، أو لكونه مرسلاً، أو منقطعاً، وليس في رواية بعضهم ضعفٌ وخلل، أو يكون الحديث قد اشتهر برواية، أو يكون رواية أحد في الحديث مطلقاً، ورواية الآخر فيه مقيداً. ومن ذلك معرفة الحديث السابق واللاحق المفيدة في معرفة الناسخ والمنسوخ، ومنه رجحان الحديث بسبب العلم بحال الراوي من علمه، أو كبر سنه، أو قدمه في الإسلام، أو فطنته، أو ورعه، أو زيادته في كلها، أو أحدها،

ونحو ذلك، وهذان الأخيران ينتفعُ بهما المجتهد. "وتجدُ أحاديث كل باب منها"؛ أي: من الأحاديث المجموعة في هذا الكتاب. "تنقسم إلى صحاح وحسان"؛ أي: إلى أحاديث صحاح وأحاديث حسان. "أعني"؛ أي: أريد "بالصحاح: ما أخرجه"؛ أي: أورده أو جمعه "الشيخان، أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي"؛ أي منسوب إلى جُعفة، وهي اسم بلد، وفيها مولده. رُوي أنه وُلد يوم الجمعة بعد صلاة العصر لثلاث عشرة ليلة خَلَت من شوال سنة أربع وتسعين ومئة، وتوفي في عيد ليلة الفطر سنة ستة وخمسين ومئين، وقيل: الجُعْفُ حيٌّ من اليمن. "البخاري"، وإنما نُسِبَ إليهما؛ لسكونه فيهما. "وأبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري"؛ أي: منسوباً إلى قُشَير، وهو اسم قبيلة، وُلِد سنة ست ومئتين، وتوفي عشية الأحد لخمس أو ست بقين من شهر رجب سنة إحدى وستين ومئين. "في جامعيهما": متعلق بإخراجه؛ أي: في كتابيهما الجامع. "أو أحدهما"؛ أي: أخرجه أحدُ الشيخين في "جامعه". "وأعني بالحسان: ما أورده أبو داود سليمانُ بن الأشعث السجستاني، وأبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي، وغيرهما من الأئمة في تصانيفهم، رحمهم الله تعالى": كأبي عبد الرحمن أحمد بن شُعيب النسائي، وأبي محمد عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي السمرقندي، وأبي عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني، فإن أحاديث "المصابيح" لا تتجاوز عن كتب الأئمة السبعة؛ كتب هؤلاء الخمسة المذكورة، وصحيحي الشيخين.

"وأكثرها"؛ أي: أكثر الأحاديث الحسان "صحاح"، أراد بها: الصِّحاح التي في مقابلة السِّقام، وهي ما كان رُواتها عدولاً، ولهذا قيَّدها "بنقل العدل عن العدل"، وهذا القدرُ كافٍ في صحتها، "غير أنها لا تبلغُ غاية شرط الشيخين؛ يعني": البخاري ومسلم "في علو الدرجة وفي صحة الإسناد"، وشرطهما: أن يروي الصحابي المشهور بالرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً، ثم يرويه عنه راويان ثقتان أو أكثر من التابعين المشهورين بالرواية عن ذلك الصحابي، ثم يرويه عن كل واحد ثقتان من أتباع التابعين مشهوران بالحفظ والإتقان، ثم يرويه عن كل منهما رواة ثقات، ثم يرويه عن كل منهم الشيخان، أو أحدهما، وهذا النوع من الأحاديث في المرتبة العليا، وهي قريبةٌ من عشرة آلاف حديث احتجَّ بها الأئمة في المسائل، الشرعية وجعلوها متمسَّكاتهم في المناظرات. وأما مطلق الصحاح فقد قال الإمام أحمد بن حنبل: أنه سبع مئة ألف حديث. اعلم أن ما نُقِلَ عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - على ثلاثة أقسام: الأول: ما عُلِم صدقه، وهو كلُّ خبر بلغت رواته في كل طبقة مبلغاً أحالَ العقلُ تواطؤهم على الكذب، ويُسمَّى متواتراً. والثاني: ما عُلِم كذبه، وهو ما خالف قطعيًّا، ولم يقبل التأويل، أو متضمناً لما يتوفَّر الداعي على نقله وإشاعته؛ إما لغرابته، أو لكونه أصلًا في الدين، ولم يتواتر، ويسمى موضوعاً، ولا يجوز روايته لمن علم حالَهُ إلا مقرونًا ببيان وضعه. والثالث: ما لم يعلم أحدهما، وهو أيضاً على ثلاثة أقسام: راجح الصدق، وراجح الكذب، أو مساوي الطرفين: فالأول: ما سلم لفظه من الركاكة، ومعناه من مخالفة آية أو خبر متواتر أو

إجماع، واتصل إسناده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بعنعنة ثقات معلومي العدالة، ويسمى صحيحًا ومسنداً ومرفوعاً، وقد يقسم هذا القسم بنوعين من التقسيم إلى أربعة أقسام: أحدهما: أن رواته إن كانت مثنى أو أكثر في كل طبقة إلى الصحابي كالأحاديث التي أوردها الشيخان، تسمى صحاحاً، وإن كانت فرادى في كل الطبقات، أو في بعضها، تسمى حساناً. وثانيهما: أن الحديث إن كان مما دوَّنه الحفاظُ، وشاع فيما بينهم، يسمى مشهوراً، وإن تفرد به حافظٌ واحد، ولم يذكره غيره، يسمى غريباً، وقد يطلق الغريبُ على ما رواه التابعي عن صحابى لم يكن مشهوراً به. والثاني: أي: ما يكون راجح الكذب، وهو: ما في لفظه ركاكةٌ أو خلل لا يحسن إصلاحه، أو في معناه: بأن كان على خلاف آية أو خبر متواتر أو إجماع، ويسمى سقيماً، أو في أحد رواته قدحٌ وتهمةٌ، ويسمى ضعيفاً. والثالث: ما لا يكون في متنه علةٌ، ولا في رواته خللٌ بينٌ، ولكن بعض رواته لم يُعلَم بعينه؛ فإن كان هو الصحابي يُسمَّى مرسلًا، وإن كان غيره يسمى منقطعاً، وإن كان كلاهما يُسمَّى معضلاً. أو بصفته من العدالة وغيرها يسمى مجهولاً. والمنقطعُ والمعضلُ لا استدلالَ بهما، وفي المرسل والمجهول خلافٌ. "إذ أكثر الأحكام": جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال: لم ذكرت الحسان وما اقتصرت على الصحاح التي أخرجها الشيخان؟ فأجاب بأن أكثر الأحكام؛ أي: الأحكام الشرعية التي حكم بها الأئمة الأربعة "ثبوتُها بطريق حسن"؛ أي: أكثرها ثبتَ بالأحاديث الحسان، والظاهر أنه تعليل لقوله: "وأكثرها صحاح"، إذ لو لم تكن الحسان صحيحة، لم تثبت بها الأحكام.

"وما كان فيها"؛ أي: في الأحاديث الحسان "من ضعيف أو غريب أشرتُ إليه بالبيان"، وما لم أذكر أنه ضعيف أو غريب أو غير ذلك، فاعلم أنه متصل الإسناد، وليس فيه ضعفٌ بوجه من الوجوه. وإنما ذكر الضعيف للاختلاف بين الأئمة في أسباب الجرح، فما هو ضعيف عند بعض للجرح في رواته قد يكون قوياً عند آخر، وكثيراً ما وقعَ الخلافُ في المسائل الشرعية، وكان مَنشؤوه ذلك، فأثبته المؤلف تعميماً لنفعه، وأشار إلى ضعفه تنبيهاً على ما هو عليه عنده. "وأعرضتُ عن ذكر ما كان منكراً"؛ يعني: ما أوردت في هذا الكتاب حديثاً منكراً "أو موضوعاً"، وأما ذكرُهُ المنكرَ في بعض المواضع - هان كان ادَّعى الإعراضَ - عنه فلقلَّتِهِ، أو لأنه إنما أعرض عما هو منكرٌ باتفاق أئمة الحديث، والذي ذكره غيرُ منكر كذلك، فلا يخلو ذكره عن فائدة. "والله المستعان"؛ أي: الذي يُطلَب منه العونُ، وهو النصرة، لم يذكر متعلقه، بل تركه مبهماً؛ لأن ترك الشيء كذلك مُعظِم لشأنه؛ أي: في نفسي أشياء مبهمة لا يفي بها الواصفُ، والله المستعان عليها، أو المراد: والله المستعان على إتمام هذا الكتاب. "وعليه التكلان"؛ أي: الاعتماد، وأصله: وكلان، قلبت الواو تاءً؛ لقرب مخرجها، كـ (تجاه) و (وجاه). قيل: المؤلف لم يُسمِّ هذا الكتاب بـ "المصابيح" نصاً منه، وإنما صار هذا الاسم علماً له بالغلبة من حيث إنه ذكر بعد قوله: أما بعد: إن أحاديث هذا الكتاب مصابيح. وعددُ الأحاديث المذكورة في "كتاب المصابيح": أربعة آلاف وأربع مئة وأربعة وثمانون حديثاً؛

فمنها ما هو من الصحاح ألفان وأربع مئة وأربعة وثلاثون حديثاً، ومنها ما هو من الحسان: ألفان وخمسون حديثاً. "رُوِيَ عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما الأعمال": قيل: أشار - صلى الله عليه وسلم - بكلمة (إنما) إلى أن قَوامَ الأعمال "بالنيات"، وأن لا عبرةَ بها إذا خَلَت عن النيات؛ لأنها العاملة بركنيها إيجابًا ونفياً؛ فبحرف التحقيق يثبت الشيء، وبحرف النفي يُنفَى ما عداه. واعترض عليه بأن (ما) النافية تقتضي صدر الكلام، وكذا (إن) فكيف يجتمعان، فالأولى أن يجعل (ما) زائدة للتأكيد، كما في (سيما) وأخواتها، و (إن) لتأكيد الإثبات، وضاعفه يفيد القصر؛ لأنه ليس إلا تأكيداً للحكم على تأكيد، فالمعنى: ليست الأعمال حاصلة إلا بالنيَّة، ولا يمكنُ هاهنا نفيُ نفسِ الأعمال؛ لثبوتها حساً وصورة من غير اقتران النية بها، فلا بد من إضمار شيء يتوجَّهُ إليه النفي، وهو الصحة على رأي الشافعي رحمه الله، والتقدير: إنما صحة الأعمال واعتبارها بالنيات، وعلى رأي أبي حنيفة هو الفضيلة والكمال. أورد الشيخ هذا الحديث في عنوان كتابه تفاؤلاً بحسن النية، وتيمنًا بهذا الحديث، واقتداء بجماعة من المحدثين المؤلفين المفتتحين به في مؤلفاتهم، منهم البخاريُّ، وليتمكنَ في النفوس: أن الأعمالَ بالإخلاص، فينبغي للمتعلم والمعلم أن يُزكيا أسرارهما، ويتوجَّها بقلوبهما إلى الحضرة الإلهية قاصدين بسعيهما - لاسيما في هذا النوع - إلى الفوزِ بالمغفرة، والتقربِ إلى الله تعالى. "وإنما لامرئ ما نوى"؛ أي: ما حصلَ من العمل إلا ما نواه فما لم ينوِهِ لم يعتدَّ به؛ يعني: إذا كان غرضُهُ من عمله رضاءَ الله تعالى وطاعته، حصل له الثواب، وإلا لا، كما إذا جلس أحدٌ في المسجد لشغل من الأشغال الدنيوية، فلا يحصلُ له من جلوسه فيه، وإن كان للاعتكاف، أو لانتظار الصلاة، يحصلُ

بقدرِ جلوسِهِ فيه. "فمن كانت هجرته"؛ أي: قصده بالهجرة، وهي: تركُ الوطن الذي بين الكفار، والانتقالُ إلى دار الإسلام. "إلى الله ورسوله"؛ أي: إلى موضع أمرهما، لا يخلطها بشيء من أغراض الدنيا. "فهجرته إلى الله ورسوله"؛ أي: فهجرته مقبولة عندهما، وأجره على الله تعالى. "ومن كانت هجرته إلى دنيا": وزنه (فُعلى) مقصورٌ غير منون، تأنيث (أدنى)، ثم غلبت على هذه الدار؛ لدناءتها وخسَّتها، أو لدنوها إلى الزوال، أراد بها: متاع الدنيا. "يصيبها"؛ أي: يصلُ إليها من الغنيمة، أو التجارة، أو نحو ذلك. "أو امرأة"؛ أي: أو إلى امرأة "يتزوجها، فهجرته إلى ما هاجر إليه"؛ يعني: لا مهيمابُ على هجرته، إنما ذكرها مع كونها مندرجة تحت (دنيا) تعريضًا لمن هاجر إلى المدينة في نكاح مهاجِرةٍ، فقيل له: مهاجر أم قيس، وتنبيهًا على زيادة التحذير من ذلك. * * *

1 - كتاب الإيمان

1 - كِتَابُ الإيمَانِ

1 - كِتَابُ الإيمَانِ (كِتَابُ الإيمَانِ) مِنَ الصِّحَاحِ: 1 - قال عمرُ بن الخَطَّاب - رضي الله عنه -: بينما نحنُ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ طلعَ علينا رجل شديدُ بياضِ الثيابِ، شديدُ سوادِ الشَّعرِ، لا يُرى عليهِ أثَرُ السَّفَرِ، ولا يعرفُهُ منا أحد، حتى جلسَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأسندَ رُكبتَيْه إلى رُكبتَيْهِ ووضَعَ يدَيْهِ على فَخِذَيْهِ، فقال: يا محمَّدُ! أخبرني عن الإيمان، فقال: "الإيمانُ أنْ تُؤمنَ بالله وملائكتِهِ وكتبهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخرِ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ خيرهِ وشرِّه"، فقال: صدقتَ، قال: فأخبرْني عن الإسلام، قال: "الإِسلامُ أنْ تشهدَ أنْ لا إلهَ إلاّ الله وأنَّ محمَّداً رسولُ الله، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتُؤتي الزَّكاةَ، وتصومَ رمضانَ، وتحُجَّ البيتَ إن استطعتَ إليه سبيلاً"، قال: صدقتَ، قال: فأخبرْني عن الإحسان، قال: "الإحسانُ أنْ تعبدَ الله كأنَّكَ تراهُ، فإنْ لمْ تكُنْ تراهُ فإنَّهُ يراكَ"، قال: فأخبرني عنِ السَّاعة، قال: "ما المسؤولُ عنها بأعلمَ مِنَ السَّائلِ"، قال: فأخبرْني عن أَمَاراتِها، قال: "أنْ تلدَ الأَمَةُ ربتها، وأنْ ترى الحُفاةَ العُراةَ العالةَ رِعاءَ الشَّاءَ يتطاولونَ في البنيانِ"، ثمَّ انطلقَ، فلبثْتُ مليًّا، ثمَّ قال لي: "يا عمرُ! أتدري مَنِ السَّائلُ؟ "، قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال: "فإنَّهُ جبريلُ أتاكُمْ يُعلمُكُم أَمْرَ دينِكُم".

ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، وفي روايته: "وأنْ ترَى الحُفاةَ العُراةَ الصُّمَّ البُكْمَ مُلوكَ الأرض في خمسٍ لا يَعلمُهُن إلاَّ الله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية. "من الصحاح": " قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: بينما نحن عندَ رسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم": (بينما) ظرف كـ (وسط) في زمان أو مكان حسب المضاف إليه، وإذا قُصِدَ إضافة (بين) إلى أوقات مضافة إلى جملة، حذف الأوقاتَ، وعوَّض عنها الألف أو (ما)، فيقال: (بينما) منصوب المحل، والعامل فيه معنى المفاجأة التي تضمنه (إذ) في قوله: "إذ طلع علينا رجل"، والمعنى: بين أوقات جَلستنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاجأنا طلوعُ رجل علينا وظهوره، وهو جبرائيل عليه السلام. يدلُّ على أن الملك يقتدر بقدرة الله تعالى على التشكل شكل البشر ليستأنسَ به القوم. "شديد بياض الثياب": بإضافة (الشديد). فيه إرشادٌ إلى استحباب النظافة بأبلغ الوجوه في مجالس السادات والعلوم، واستحباب البياض في الثياب. "شديد سواد الشعر": بالإضافة أيضًا. وفيه إرشادٌ إلى أن العلم ينبغي أن يُطلَب في عنفوان الشباب؛ لأن سواد الشعر يكون في زمان الشباب. وقُدم البياض على السواد؛ لشرفه، ولئلا يفتتحَ بغتة بلون مستوحش. "لا يُرى عليه أثر السفر": من شعث وقشف ونحوهما. فيه إشار إلى أن إزالة أثرِ السفرِ مقدَّمٌ على حضور مجالس السادات.

"ولا يعرفه منا"؛ أي: من الصحابة "أحد" وإلا فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كان يعرفه. "حتى جلس"؛ أي: الرجل "إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: إلى جانبه أو معه، (حتى) متعلق بمحذوف تقديره: استأذن وأتى حتى جلس، أو متعلق بقوله: طلع، و (جلس) بمعنى: قرب بقرينة (إلى)؛ أي: حتى قرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: جلس بقربه. "وأسندَ ركبتيه إلى ركبتيه"؛ أي: ألصقهما إلى رُكبتي النبي - صلى الله عليه وسلم -. فيه إشارةٌ إلى أن هذه الجلسة كانت كجلسة المتشهد، إلا أنه كان مفترش القدمين يتحقق إسناد الركبتين. "ووضع"؛ أي: جبرائيل عليه السلام "يديه على فخذيه"؛ أي: فخذي النبي - صلى الله عليه وسلم - طلباً لإحضاره؛ ليكون أبلغَ في الاستماع إلى كلام جبرائيل عليه السلام. وقيل: الضمير في (فخذيه) راجعٌ إلى جبرائيل، وهذا أقربُ إلى التواضع؛ لأنه جاء على صورة المتعلم، ومن شأنه التواضعُ وتوقيرُ المعلم. وفي هذا رخصةُ دنوِّ السائل من المسؤول لأجل الاستكشافِ بهيئة الأدب. "فقال: يا محمد أخبرني"؛ أي: أعلمني "عن الإيمان فقال: الإيمان أن تؤمن بالله"؛ أي: تصدق جزمًا بوجوده بأنه موجودٌ واحدٌ قديم أزلي متصفٌ بما يليق به من صفات الكمال. "وملائكته"؛ أي: تعتقد بأنهم عباد الله لا يَفتُرون عن عبادته لحظةً، جمع (ملك)، أصله: (مَأْلَك) من (الألوكة)، وهي الرسالة، فقُدِّم اللامُ على الهمزة، فصار (ملأكاً)، ثم حُذِفت الهمزة لكثرة الاستعمال، وإذا جُمعَ رُدَّت، والتاء لتأكيد الجمع.

"وكتبه": جمع كتاب، وهو يشمل كلَّ كتاب أُنزِل على الرسل؛ أي: تعتقد بوجودها، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ} [النساء: 136]، والكتبُ المنزلة مئة وأربعة كتب، منها عشرُ صحائف أُنزِلت على آدم عليه السلام، وخمسون على شيث، وثلاثون على إدريس، وعشرة على إبراهيم عليه السلام، والتوراة والإنجيل والزبور والفرقان. "ورسله": جمع رسول؛ أي: تعتقد بأنهم مبعوثون إلى الخلق بالحقِّ، وبينهم تفاوتٌ في الفضل، قال الله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [البقرة: 253]، ونبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ من جميعهم وأكمل. وعدد الرسل في حديث أبي ذر - رضي الله عنه -: ثلاث مئة وثلاثة عشر، وعدد الأنبياء: مئة وأربعة وعشرون ألفاً. وإنما قدم الملائكة على الكتب والرسل رعاية للترتيب الواقع، فإنه تعالى يرسل الملك بالكتاب إلى الرسل، لا للتفضيل. "واليوم الآخر"؛ أي: القيامة، وُصِف به لتأخُّره عن أيام الدنيا، أو لأنه أخر إليه الحساب، والإيمانُ به تصديقُ ما فيه من الأحوال والأهوال. "وتؤمن بالقدر؛ خيرِه وشرِّه": بالجر بدلٌ من (القدر) بدلَ البعض؛ أي: تعتقد بأن كلَّ ما يجري في العالم من الخير والشر والنفع والضر ونحو ذلك بقضاء الله تعالى وقدره. أعاد ذكر الإيمان هنا لزيادة الاهتمامِ به نفياً لقول القدرية، وإنما لم يذكر القضاء؛ لأن الإيمان بالقدر مستلزمٌ للإيمان بالقضاء. والفرق بين القضاء والقدر: أن القضاء هو الإرادة الأزلية والعناية الإلهية المقتضية لنظام الموجودات على ترتيب خاص، والقدرَ تعلُّقُ تلك الإرادة

بالأشياء في أوقاتها الخاصة بها، وفي هذا مذاهبُ مختلفة من طوائف متفرقة موضعه علم الكلام. "فقال"؛ أي: الرجل: "صدقت"؛ إظهاراً لصحة الجواب ومطابقته لما عنده، ولتأكيد ذلك عند السامعين. "قال: فأخبرني عن الإسلام، قال: الإسلام أن تشهد"؛ أي: تخبر قطعاً بعلمِ يقين "أن لا إله إلا الله، وأن محمد رسول الله"، قيل: لو أتى بالشهادتين بغير هذا اللفظ نحو: أشهد أن لا إله إلا الرحمن الرحيم، أو القدوس، أو نحوهما، وأشهد أن محمداً نبي الله، لا يصح؛ لأن اسمَ الله علم للمعبود بالحقِّ الجامع بالكمالات اللائقة به، وغيرُهُ من الألفاظ العربية لا يؤدي معناه، والرسولُ أخصُّ من النبي، فلا يُستفادُ منه ما يستفاد من الرسول، وقِسْ عليه لو غيرَّ (محمد) باسم آخر. "وتقيم الصلاة"؛ أي: تؤديها في أوقاتها مع المحافظة عليها بشرائطها، وإنما عبَّر عن الأداء بالإقامة إشارة إلى أن الصلاة عمادُ الدين، أو أراد أن تُعدَّل الأركان، من (أقام العود): إذا قوَّمه وسواه. "وتؤتي الزكاة"؛ أي: تعطيها، وهي في الشرع: الطائفة من المال المزكى بها، وفي اللغة: النماء والطهارة، فإن المال بإعطائها يزيد ويطهر صاحبُها، قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103]. "وتصوم رمضان"؛ أي: شهره، والصوم لغة: الإمساك مطلقاً، وشرعاً: الإمساك عن المفطرات الثلاثة من أول النهار إلى آخره مع النية. و (رمضان) من (الرمض)، وهو: شدة وقع حرِّ الشمس على الرمل وغيره، سمي به؛ لأنهم لما وضعوا أسماء الشهور العربية عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق هذا الشهر أيام شدة الحر، فسمي به.

"وتحج البيت"؛ أي: تقصده؛ إذ الحجُّ لغة: القصد مطلقًا، وشرعاً: قصد معين، وهو زيارة الكعبة مع وقوف عرفة ومراعاة أركان الحج، و (البيت): اسم جنس، ثم غلب على الكعبة - شرفها الله تعالى - كالعَلَم لها. "إن استطعت إليه"؛ أي: إلى البيت، أو إلى الحج؛ لدلالة (تحج) عليه، وهو متعلق بـ (سبيلاً)؛ لأنه بمعنى: موصل ومبلغ. "سبيلاً": تمييز أو مفعول به، والكلامُ في الاستطاعة مذكورٌ في الفروع. "قال: صدقت"، قيل في انحصار الأركان في الخمسة: إن الأعمال الشرعية؛ إما قولية وهي الإقرار باللسان، أو فعلية وهي إما إتيان وهو الصلاة، أو ترك وهو الصوم، وإما مالية وهي الزكاة، وإما جامعة للنفس والمال وهو الحج. وفي قوله: (فأخبرني عن الإسلام) بفاء التعقيب إشارةٌ إلى أن الإيمان والإسلام شيئان متباينان؛ لأن سؤله عن الإسلامِ بعطف الفاء بعد سؤله عن الإيمان، وجوابه - صلى الله عليه وسلم - عن الإيمان بما بطن من الاعتقاد، وعن الإسلام بما ظهر من الأعمال = دليلٌ واضح على تغايرهما؛ فالإيمانُ تصديقُ القلب للأشياء الستة، والإسلامُ أعمالُ الجوارح. وذهب بعض المحدثين وجمهور المعتزلة إلى أنهما عبارتان عن شيء واحد، وهو مجموع التصديق بالجنان، والإقرار باللسان، والعمل بالأركان. "قال: فأخبرني عن الإحسان"، يقال: (أحسن الشيء): إذا زينه وأجمله، كانه يقول: أخبرني عن الشيء الذي يزين أركان الإسلام ويحسِّنها، والمراد به: الإخلاص، فأشار - صلى الله عليه وسلم - في جوابه إلى حسن الاستقامة على حسب الطاقة بأن "قال: الإحسانُ أن تعبدَ الله كأنك تراه"، وإلى المراقبة وحسن الطاقة بقوله: "فإن لم تكن تراه فإنه يراك"؛ يعني: الإحسان عبادته تعالى على نعت الهيبة والتعظيم له

كأنك تنظر إليه، فإنَّ إطاعةَ الملك في حضرته تزيدُ المطيعَ جداً ونشاطاً في العمل وطمعاً في معروفه وخوفاً من تأديبه في تقصيره وتفريطه، وذلك واقعٌ لاطلاع الملك على حاله، وهو المراد من قوله: (فإنه يراك) بكلمة التحقيق. وإنما قال في رؤبة العبد: (كأنك تراه) بكلمة التشبيه، وهو من باب التشبيه بالمخيَّل الذي لا وجودَ له، لاسيما عند من لا يجوِّز الرؤيةَ أصلاً، والجملة حال. قيل: ترك قوله: (صدقت) في هذا الجواب وقعَ من إغفال بعض الرواة، وفي "كتاب مسلم" مذكور في الأجوبة الثلاثة. "قال: فأخبرني عن الساعة"؛ أي: عن وقت قيام الساعة، وإنما استعيرت لاسم يوم القيامة؛ لأن [في] ذلك اليوم ساعةً حقيقة يقع فيها أمر عظيم، فلقلةِ الوقتِ سميت بها. "قال: ما المسؤول عنها"؛ أي: عن الساعة، أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - به نفسه. "بأعلمَ من السائل"؛ يعني: كلانا في عدم علمها سواء، بل هو مختصٌ بالثه تعالى، قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} [لقمان: 34]، والغرضُ منه قطعُ الطمع عن معرفة وقتها؛ لأنهم لا يزالون يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، قال الله تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 63]. "قال: فأخبرني عن أماراتها"؛ أي: علاماتها. "قال: أن تلد الأمة": عن مولاها. "ربتها": أنَّثَها على إرادة البنت، فتناول الابن بطريق الأولى، أو على تأويل النفس والتسمية، أو على كراهة إطلاق الرب تعظيمًا لجلال رب العباد، وإن جاز إطلاقه مضافاً إلى غيره. ويروى: (ربها)؛ أي: سيدها سمي المولود به؛ لأنه صار سبباً لعتقها، أو

لأنه مولاها بعد الأب لأنه كهو في النسب، والمراد: أنه يكثر السبي والتسري، وذلك دليلٌ على استعلاء الدين واستيلاء المسلمين الدال على التراجع والانحطاط المؤذن بقرب القيمة. وقيل: المراد به أنهم يكتفون عن الحرائر بالسرائر، حتى يكثر الاستيلاد، فتعتق الأمة به، فإن العتق بعد موت السيد بسبب الاستيلاد مخصوصٌ بشريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وإن وُجِد الاستيلاد بدونه في الأمم السالفة. "وأن ترى الحفاة": جمعْ الحافي، وهو: الذي لا شيءَ في رجله من نعل وغيره. "العراة": جمع العاري، وهو: المتجرد عن الثياب. "العالة": جمع عائل، وهو: الفقير المراد بهم العاجزون المقصودون في الدين كعجزهم في السير والعيش. "رعاء": جمع راع. "الشاء": جمع شاة؛ يعني: ملوكًا، عبَّر عن الخلق بالشاء؛ لكونهم في العجز كالشاء. "يتطاولون في البنيان"؛ أي: حال كونهم متفاخرين بارتفاع أبنيتهم؛ يعني: من أماراتها أن تفوَّض الإمارة إلى الأراذل والأجلاف، فحينئذٍ ينعكس الزمان، ويتذلل الأشراف. "قال"؛ أي: عمر. "ثم انطلق"؛ أي: ذهب ذلك الرجل. "فلبثت"؛ أي: مكثت بعد ذهابه. "ملياً"؛ أي: حيناً، صفة مصدر محذوف؛ أي: لبثاً مليًّا، ولم أستخبر عن السائل استهابةً لحضرة النبوة.

"ثم قال لي"؛ أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عمر! أتدري"؛ أي: أتعلم "من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم"، وفيه رعاية الأدب التام حيث أحال العلم إلى الله ورسوله، وأشارت إلى أن وظيفة المتعلم عند شيخه هي الاعترافُ بالجهل واستخراج ما عند شيخه، لا المبادرة في الجواب. "قال: فإنه جبرائيل أتاكم": جملة استئنافية؛ أي: أتى مجلسكم. "يعلمكم دينكم" جملة حالية من الضمير المرفوع في (أتاكم)؛ أي: عازمًا تعليمكم، أو مفعول له بتقدير اللام. المراد به تثبيتهم على علمهم؛ لأنهم كانوا عالمين بدينهم قبله وإنما سأل عن أمارتها؛ لأنه لمَّا لم يكن الاهتمام بها إلا لمن يؤمن بالله واليوم الآخر، جعل ذلك من الدين. "ورواه"؛ أي: هذا الحديث "أبو هريرة - رضي الله عنه - " كما روى عمر، ولكن: "في روايته" نقصان ما بعد العالة، وبعد قوله: "وأن ترى الحفاة العراة العالة" زيادة: "الصم": جمع الأصم، وهو الذي لا يسمع، أراد بهم الصم عن المواعظ والآيات، وهم الذين لا يهتدون ولا يقبلون من صمم العقل. "البكم": جمع الأبكم، وهو الأخرس، والمراد بهم: البكم عن تعرُّف أحوال الطلمة ودفعهم عن المظالم. "ملوك الأرض" فإنهم ملكوها من المشرق إلى حدود المغرب، وفيهم هذه الصفات المذكورة إلا نادراً، وهذا بخلاف العرب فإنهم في الزمن الذي كانوا فيه ملوك الأرض كانت الأرض ممتلئة عدلاً وأمنا كما هي ممتلئة من المذكورين اليوم ظلماً وجوراً. "في خمس" متعلق بـ (أعلم) أو منصوب المحل على الحال، والعامل فيه (ترى)؛ أي: تراهم ملوك الأرض متفكِّرين في خمس "لا يعلمهن إلا الله" إذ من شأن الملوك الجهَّال الفكر في أشياء لا تعنيهم، كاهتمامهم بأن القيامة متى تقوم؟

والقَطْر متى ينزل؟ وما تلد خليلتي؟ وأيُّ شيء يصيبني غداً أخير أم شر؟، وكم يكون عمري؟ وأين تكون وفاتي؟ ويتخذون لذلك منجِّمين ورمَّالين. والمراد بـ (خمس): خمس كلمات، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} بيان لها؛ أي: علم قيامها عنده {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ}؛ أي: المطر إذا شاء {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}. "الآية" من قول المؤلف منصوب بتقدير: أعني. * * * 2 - وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بنيَ الإسلامُ على خمسٍ: شهادةِ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسولُ الله، وإقامِ الصَّلاةِ، وإيتاءِ الزَّكاةِ، والحجِّ، وصَوْمِ رمضان". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بني الإسلام على خمس"؛ أي: خمس خصال. "شهادة" بالجر بدل عن (خمس)، وبالنصب بتقدير أعني، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فهي شهادة. "أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، ولم يذكر الاستطاعة هنا لشهرتها "وصوم رمضان" فإن قيل: لم قدَّم الحج على الصوم هنا؟ أجيب: بأن الواو لمطلق الجمع لا للترتيب، وقد وقع الترتيب في الحديث السابق عليه. وقد عُلم ترتيب وجوب هذه الأركان مما روي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: بعث الله - صلى الله عليه وسلم - بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدَّق به المؤمنون زادهم الصلاة، فلما صدَّقوا زادهم الزكاة، فلما صدَّقوا به زادهم الصيام، فلما صدقوا به زادهم الحج، فلما صدقوا به زادهم الجهاد، ثم أكمل لهم الدين جعل هذه الأركان

الخمسة أصولاً للإسلام وما عداها من أحكام الشريعة فرعاً لها. ومثال الإسلام كقصر، وهذه الأركان كالأسطوانة لذلك القصر، وما بقي من أحكام الشريعة كجدار سطح ذلك القصر وكالجدار التي حواليه، فمَن حفظ هذه الأركان الخمسة وسائر أحكام الشريعة يكون قصرُ إسلامه تاما كاملاً. * * * 3 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الإيمانُ بِضعٌ وسبعونَ شُعبةً، فأفضلُها قولُ: لا إله إلا الله، وأدناها إماطةُ الأَذى عن الطَّريق، والحياءُ شُعبة مِنَ الإيمانِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الإيمان بِضع" بكسر الباء: اسم لعدد مبهم من الثلاثة إلى التسعة "وسبعون شعبة"؛ أي: قطعة، يعني بها خصلة، ولما كان الأعمال الصالحة خُلُقاً لأهل الإيمان، وأنها من جملة الدلائل عليه، أطلق اسم الإيمان عليها مجازاً. لم يُعلم بالتعيين كمية ما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - من البضع، وقد جاء في بعض الروايات: (الإيمان سبع وسبعون شعبة). "فأفضلها"؛ أي: أفضل الشعب وأعلاها منزلة: "قول: لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى"؛ أي: تنحية ما يتأذى به مروراً وإزالته "عن الطريق" كالشوك والحجر ونحو ذلك، كما في حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: "بينما رجل يمشي في الطريق إذا وجد غصن شوك فأخَّره، فشكر الله تعالى له"؛ أي: رضي عنه بسبب تنحيته الأذى عن الطريق وغفر له. "والحياء" وهو انقباض النفس عن شيء وتركُه حذراً عن اللوم فيه، والمراد به هنا هو الحياء الإيماني، وهو ما يمنع المؤمن من فعل المعاصي خوفاً من الله تعالى.

"شعبة من الإيمان" وإنما خصه بالذكر؛ لأنه كالداعي إلى سائر الشعب؛ لأن الحَييَّ يخاف فضيحة الدنيا والآخرة فينزجر عن المعاصي. وأما الحياء النفساني فهو الذي خلقه الله تعالى في النفوس كلها، كالحياء عن كشف العورة والجماع بين الناس. * * * 4 - وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المُسلمُ مَنْ سَلِمَ المُسلمونَ مِنْ لِسانِهِ ويده، والمُهاجِرُ مَنْ هجَرَ ما نَهى الله عنه". "وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المسلم"؛ أي: المسلم الكامل في إسلامه "من سلم المسلمون من لسانه ويده" بأن لا يتعرض لهم بما حرِّم من دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وإنما خصَّ اللسان واليد لأن أكثر الإيذاء يحصل بهما. "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"؛ يعني: المهاجر في الحقيقة مَن اجتنب عما نهى الله عنه؛ لأن فضله على الدوام، وفضل الهجرة من مكة كان في وقت. * * * 5 - وقال: "لا يُؤمِنُ أحدكمْ حتَّى أكون أحبَّ إليهِ مِنْ والده، وولده، والناس أجمعين"، رواه أنس. "وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يؤمن أحدكم"؛ أي: لا يكون مؤمنًا كاملاً "حتى كون أحب إليه، بالحب الاختياري الحاصل من الإيمان "من والده وولده والناس أجمعين، مثلاً لو أمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل أبويه وأولاده الكافرين، أو بأن يقاتل الكافر حتى يكون شهيداً، لأحبَّ أن يختار ذلك

لعلمه أن السلامة في امتثال أمره - صلى الله عليه وسلم -، لا بالحب الاختياري الطَّبْعي؛ لأن حب الإنسان نفسَه وولده ووالده أمرٌ غريزي ولا سبيل إلى قلبه، إذ لا تكلَّفُ نفس إلا وسعها. * * * 6 - وقال: "ثلاث مَنْ كُنَّ فيهِ وجدَ حَلاوةَ الإيمانِ: مَنْ كانَ الله ورسولُهُ أحبَّ إليهِ ممَّا سِواهُما، ومَنْ أحبَّ عبداً لا يُحبُّهُ إلا لله، ومَنْ يكرهُ أنْ يَعُودَ في الكُفْر بعدَ إذْ أنقذَهُ الله منهُ كما يكرهُ أنْ يُلقى في النَّارِ"، رواه أنس. "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث"؛ أي: ثلاث خصال "من كن فيه"؛ أي: من اجتمعت فيه هذه الخصال "وجد حلاوة الإيمان" وهي استلذاذ الطاعة وتحمُّل المشاق في طلب رضاه. "من كان الله ورسوله أحب إليه": بالحب الاختياري المذكور "مما سواهما" وإنما لم يقل: ممن سواهما؛ لتعمَّ ذا لعقل وغيره، وإنما ثنَّى الضمير فيه مع أنه ذم - صلى الله عليه وسلم - رجلاً خطب بحضرته فقال: ومن يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى، إيذانًا بأن وجدان الحلاوة يتوقف على المحبتين معًا، وأن إحداهما بدون الأخرى غير مفيدة، وثَمَّ إرشاد بأن كل واحد من العصيانين مستقل في تحصيل الغواية. "ومن أحب عبداً" أراد به الموسوم بعبودية الله أعم من الحر والمملوك. "لا يحبه إلا لله" فالاستثناء مفرَّغٌ، ولا يَرِدُ الاعتراض بقوله - صلى الله عليه وسلم - لعائشة في حق أسامة: "أحبيه فإني أحبه"؛ لأنه لا منافاة بينهما؛ لأن محبة الشيء لأجل محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأجل الله؛ لأن محبتهما متلازمان. "ومن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه"؛ أي: أنجاه من الكفر.

اعلم أنه إن أُريدَ بالعود العودُ الحقيقي وهو الرجوع إلى الكفر، لم يتناول هذا إلا مَن كان له سابقة كفر، ويكون تخويفًا للصحابة؛ لأنهم كانوا كفاراً فأسلموا، وفي نفوس بعضهم حب ما اعتاده من قبلُ، فحذرهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وإن أريد به مجرد المصير والتحول، كقوله تعالى في قصة شعيب: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] فهو شامل للكل. "كما يكره أن يلقى في النار" وفيه تنبيه على أن الكفر كالنار، وهو كذلك لأنه جازّ إليها، فباعتبار عدم كونه ناراً حقيقةً جعله مشبَّها وجعل النار الحقيقية مشبَّها بها؛ إذ العود إليه كالإلقاء فيها؛ لأن عاقبة الكفار دخول النار. * * * 7 - وقال: "ذاقَ طعْمَ الإِيمانِ مَنْ رضيَ بالله ربًّا وبالإسلام ديناً وبمحمدٍ رسولاً"، رواه العبَّاس بن عبد المطَّلِب. "وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاق طعم الإيمان" أثبت للإيمان طعماً بطريق الاستعارة وذكر (¬1) الذوق الذي هو يلائم المستعار منه؛ فالاستعارة ترشيحية؛ أي: وجد الإيمان. "من رضي بالله"؛ أي: اكتفى به "رباً"، ولم يتخذ إلهًا غيره، نصب على التمييز. "وبالإسلام دينًا"؛ أي: رضي بكون الإسلام دينه ولم يبتغ دينًا غيره. "وبمحمد رسولاً"؛ أي: رضي من الرسل والأنبياء بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولم يتخذ سواه رسوله ونبيه، فالحاصل أنه لا بد في الإيمان من الرضاء بكل واحد من ¬

_ (¬1) في "غ": "وذلك".

الباعث والمبعوث له (¬1) بنعوتها الثلاثة؛ أعني: الربوبية والرسالة والدينية. * * * 8 - وقال: "والذي نفسُ محمدٍ بيده"، لا يسمعُ بي أحدٌ مِنْ هذهِ الأمَّةِ يهوديٌّ أو نصراني، ثمَّ يموتُ ولمْ يُؤمِن بالذي أُرْسِلْتُ بهِ إلاَّ كانَ مِنْ أصحابِ النَّار"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفس محمد بيده"؛ أي: بقدرته وأمره، والواو للقسم، أراد بالنفس النفس الإنسانية وأعم منها، واليد هي النعمة؛ أي: نفس محمد كائنة بنعمته. "لا يسمع بي"؛ أي: بمبعثي أو بنبوتي "أحد من هذه الأمة" المراد به أمة الدعوة، فاللام للاستغراق أو للجنس. "يهودي ولا نصراني" صفتان لـ (أحد)، أو بدلان عنه بدل البعض عن الكل. "ثم يموت ولم يؤمن"؛ أي: يموت غير مؤمن "بالذي أرسلت به" وهو القرآن، أو الدين الحنيفي. "إلا كان من أصحاب النار" فيه إشارة إلى أن الإيمان بجميع أحكام الإسلام واجب فيكفَّر من قال: آمنت بان محمداً رسول الله ولكنه إلى بعض الناس؛ لأنه لم يؤمن بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} [سبأ: 28]؛ أي: إلا لتكون رسولاً للناس كافة. وكذا من قال: آمنت أنه كافة للناس ولكن أعظِّم أمر السبت، أو أحرم لحم الإبل، كما كان في دين موسى - عليه السلام -، أو ما أشبه ذلك من تحليل ¬

_ (¬1) في "غ": "والمبعوث والمنعوت".

حرام أو عكسه؛ لأنه لم يؤمن بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة: 208]؛ يعني: اقبلوا جميع ما أمركم محمد - صلى الله عليه وسلم - واتركوا ما نهاكم. ويحتمل أن يكون [المراد] بالأمة: المعاصرين، وأما من سيوجد بعدهم فمندرجٌ في ذلك قياساً على المعاصرين كما في سائر أحكام الإيمان، صمانما خضَت اليهود والنصارى بالذكر؛ لأنهما أهلا كتابي التوراة والإنجيل، وهم أشرف وأخص ممن لم يكن لهم كتاب من الأمم الباقية، فإذا كانوا كفاراً بترك الإيمان لمحمد فغيرهم كان أولى بذلك. * * * 9 - وقال: "ثلاثةٌ لهم أجرانِ: رجلٌ مِنْ أهلِ الكتابِ آمنَ بنبيهِ وآمنَ بمحمدٍ، والعبدُ المملوكُ إذا أدَّى حقَّ الله وحقَّ مَواليهِ، ورجلٌ كانتْ عندهُ أمَةٌ يَطؤها، فأدَّبها فأحسنَ تأدِيبَها وعلَّمَها فأحسنَ تعليمَها، ثمَّ أعتَقَها فتزوجَها، فلهُ أَجران"، رواه أبو موسى الأَشْعَري - رضي الله عنه -. "وعن أبي موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثة"؛ أي: ثلاثة أشخاص، مبتدأ خبره: "لهم أجران: رجل من أهل الكتاب" المراد بهم النصارى؛ لأن اليهود لا يثابون على دينهم؛ لأن الإيمان بعيسى عليه السلام كان واجبًا عليهم. "آمن بنبيه"؛ يعني: بعيسى عليه السلام. "وآمن بمحمد" - صلى الله عليه وسلم - بعد مبعثه، فإن له أجرين: أجر على العمل بدين نبيه، وأجر على الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - والعمل بدينه، قال الله تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54].

ويجوز أن يُجرى على عمومه؛ إذ لا يبعد أن يكون الإيمان به - صلى الله تعالى عليه وسلم - سبباً لقبول أعماله في دينه وإن كان منسوخاً، كما ورد في الخبر أن مبرات (¬1) الكفار وحسناتهم مقبولة بعد إسلامهم، وإنما لم يقل: وبمحمد، مع أنه أخصر، إيذانًا باستقلال كل منهما بالإيمان. "والعبد المملوك" قيد بالمملوك لأنه المراد لا مطلق العبد. "إذا أدى حق الله"؛ أي: قضى ما فرض الله من الصلاة وغيرها، قدَّم (حق الله) بالذكر لأنه أهم، إذ ليس لمولاه منعه عن أداء حقوق تعالى، وأما النوافل فلا بد فيه من إذن السيد. "وحق مواليه" من الخدمة والطاعة، وإنما قال: (مواليه) دون مولاه؛ لأن العبد يتداوله أيدي الناس غالباً. "ورجل كانت عنده أمة يطؤها"؛ أي: يجامعها، فيه إشارة إلى أنه ليس له أن يَحرِم أمته عن الوطئ صيانة لها عن الزنا؛ لأنها تشتهي كما تشتهي الحرة. "فأدبها" الأدب: حسن الأحوال في القيام والقعود واجتماع الخصال الحميدة. "فأحسن تأديبها" المراد بإحسانه أن يكون باللطف والتأني لا بالعنف. "وعلمها"؛ أي: ما لا بد من الفرائض، ترك المفعول الثاني لقصد التعميم والاختصار. "فأحسن تعليمها، ثم أعتقها" ابتغاءً لمرضاة الله تعالى، ذُكر بـ (ثم) لتراخيه عن التأديب والتعليم. "فتزوجها" ذكر بالفاء ليدل على أن للمعتِق تزوُّجَها من غير تربُّصٍ، سواءٌ ¬

_ (¬1) في"غ": "ثواب".

كانت أم ولد له أو لم تكن. "فله أجران" أجز لتعليمها وتأديبها، وأجر لعتقها وتزوجها، وقيل: أجر لإعتاقها وأجر لتزوَّجها، فيكون ذكر الأوصاف قبلهما؛ لأنها داعية إليهما غالبًا. وإنما خص هذا الأخير بقوله: (فله أجران)؛ لأن جهة الأجر فيه متعددة، فكانت مظنة أن يستحق أكثر من ذلك، ويجوز أن يعود قوله: (فله) إلى كل واحد من الثلاث؛ يعني: الرجلين والعبد المملوك. * * * 10 - وقال: "أُمِرتُ أنْ أُقاتلَ النَّاسَ حتَّى يَشهدوا أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ مُحمَّداً رسولُ الله، ويُقيموا الصَّلاة، ويُؤْتوا الزكاة، فإذا فَعَلوا ذلكَ عَصَمُوا مِنِّي دِماءَهُم وأموالَهُم إلا بحقّ الإسلام، وحسابُهم على الله"، رواه ابن عمر - رضي الله عنهما -. "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمرت أن أقاتل الناس"؛ أي: أمرني الله بأن أقاتلهم، "حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة" وإنما خصهما بالذكر: إما لأن هذا الحديث ورد قبل وجوب الصوم والحج، وإما لعظم شأنهما وصعوبة موقعهما على الطباع لتكرارهما، مع أن النفس مجبولة على حب المال فكانتا مظنتي التفويط. "فإذا فعلوا ذلك" المذكور من الشهادة والصلاة والزكاة. "عصموا"؛ أي: حفظوا "مني دمائهم" من السفك، "وأموالهم" من النهب. "إلا بحق الإسلام" استثناء مفرغ؛ أي: إذا فعلوا ذلك عصموهما، ولا يجوز لنا تعرُّضهما بسبب من الأسباب، إلا بسبب حق الإسلام من استيفاء قصاصِ نفسٍ أو طرفي إذا قتل أو قطع، ومن أخذ مالٍ إذا غصب، وإلى غير ذلك من الحقوق

الإسلامية، أو استثناء من الدماء والأموال بحذف موصوف؛ أي: إلا دماءً ومالاً ملتبسين بحق الإسلام. "وحسابهم على الله" مما يسترون به في غير الأحكام الواجبة عليهم في الظاهر. وفي الحديث دليل على أن أمور الناس في معاملاتهم جارية على الظاهر من أحوالهم دون باطنها، وأن المُظْهِرَ لشعار الدين يجري عليه حكمه، ولم يستكشف من باطن أمره والله يتولى حسابه. * * * 11 - وقال: "مَنْ صَلَّى صلاتَنا، واستقبلَ قِبلتَنا، وكلَ ذَبيحتَنا، فذلكَ المسلمُ الذي لهُ ذِمَّةُ الله وذِمَّةُ رسولهِ، فلا تُخْفِرُوا الله في ذِمَّتهِ"، رواه أنسَ - رضي الله عنه -. "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صلى صلاتنا"؛ أي: مثل صلاتنا، ولا توجد الصلاة الشرعية إلا من معترف بالتوحيد والنبوة، فلذا جعل عَلَماً لإسلامه، ولم يتعرض للزكاة وغيرها من الأركان استغناءً بالصلاة التي هي عنوان الدين، أو لتأخّر وجوب تلك الفرائض عن زمان صدور هذا القول. "واستقبل قبلتنا": وإنما ذكر الاستقبال مع أن صلاتنا مشروطة به ترغيباً للناس عليه لاحتمال صدور الحديث وقت تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، أو لأن صلاتنا تشابه صلاة غيرنا في كثير من أعمالها وقبلتنا ليست كذلك. "وأكل ذبيحتنا"؛ أي: مذبوحتنا، وهي فعيلة بمعنى المفعول، والتاء للجنس كما في الشاة، وقيل: للتأنيث؛ لأنه لم يُذكر موصوفها معها. "فذلك"؛ أي: من جمع هذه الثلاثة "هو المسلم الذي له ذمة الله"؛ أي: عهده وأمانه.

"وذمة رسول الله" لا يستباح منه ما حرم عن المسلمين، وإنما ذكر ذمة رسوله ليعلم أن له ذمتين فيمسك عن التعرض له بأبلغ الوجوه. "فلا تخفروا الله في ذمته" الضمير فيه لله أو للمسلم، والإخفار: إزالة الخفرة، وهو العهد؛ يعني: لا تزيلوا عهد الله في حقِّ مَن في أمانه. وبهذا قال أبو حنيفة: إذا صلى كافر بجماعة يحكم بإسلامه. ثم هذه العصمة ثابتة له بشرط أن لا يكون عليه شيء من حقوق الإسلام، أما إذا كانت فلا، وكذا من أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا له ذمة الله، ولكن بصفة النقصان من استيفاء قصاص نفس أو طرف أو قطع، ومن أخذ مالي إذا غصب، إلى غير ذلك من الحقوق الإسلامية، فإنه إذا قُتل فلا قصاص فيه ولا دية؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] جعل التحرير كل الجزاء (¬1). * * * 12 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى أعرابيٌّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلُّنِي على عَمل إذا عملتُهُ دخلتُ الجنَّةَ، قال: "تعبدُ الله ولا تشركُ به شيئاً، وتُقيمُ الصَّلاةَ المكتوبةَ، وتُؤدِّي الزكاةَ المفروضةَ، وتصومُ رمضانَ"، فقال: والذي نفسي بيدِهِ، لا أزيدُ على هذا، ولا أنقُصُ منه، فلما ولَّى قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سرَّهُ أنْ ينظرَ إلى رجل مِنْ أهلِ الجنَّةِ فلينظُرْ إلى هذا". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: أتى أعرابي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: دلُّني" بضم الدال وفتح اللام: أمرٌّ من دلَّ يَدُلُّ: إذا أرشد؛ أي: أرشدني. "على عمل إذا عملته دخلت الجنة، قال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعبد الله": ¬

_ (¬1) في "ت": "كالجزاء" بدل "كل الجزاء".

خبر بمعنى الأمر؛ أي: اعبده، وكذا ما عطف عليه، أو في تأويل المصدر بتقدير: أن، فيكون خبر مبتدأ محذوف؛ أي: ذلك العمل أن تعبد الله؛ أي: توحِّده. "ولا تشرك به شيئاً": جملة حالية؛ أي: غير مشرك به، المراد به التحذير عن الرياء فإنه شرك خفي. أو كما قالت اليهود والنصارى في حق عزير والمسيح، وإنما لم يذكر - صلى الله عليه وسلم - شهادة كونه رسول الله مع أن دخول الجنة لا يتحقق بدون الاعتراف برسالته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن السائل لعله كان مسلمًا مقراً برسالته - صلى الله عليه وسلم - بدليل سؤاله عما يُدخل الجنة من العمل، فذكر التوحيد يكون لشرفه وكونه أصلًا، أو لأن التوحيد لا يعتبر بدونها فذكره مغن عن ذكرها. "وتقيم الصلاة المكتوبة"؛ أي: المفروضة. "وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال"؛ أي: الأعرابي: "والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا"؛ أي: لا أزيد على هذا المذكور من عند نفسي شيئًا، "ولا أنقص منه"، أو المعنى: لا أزيد على هذا السؤال وأنقص في العمل مما سمعته، أو يكون الرجل وافداً فيكون معناه: لا أزيد على ما أسمع في تبليغه ولا منه أنقص. "فلما ولى"؛ أي: أدبر وذهب. "قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: من سره أن ينظر" - فاعل (سر) - "إلى رجل من أهل الجنة" والجملة شرطية وجواب الشرط: "فلينظر إلى هذا"؛ أي: إلى هذا الرجل. وإنما حكم بكونه من أهل الجنة مع قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34]، ومع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالخواتم"؛ لأنه حصل

له غلبة الظن بدوام الرجل على الخير، أو لعله علم ذلك بالوحي. * * * 13 - عن سُفيان بن عبد الله الثَّقَفِي قال: قلتُ: يا رسولَ الله قُلْ لي في الإسلامِ قولاً لا أَسالُ عنهُ أحداً غيركَ، قال: "قُلْ: آمنتُ بالله، ثُمَّ اسْتَقِمْ". "عن سفيان بن عبد الله الثقفي - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسول الله قل لي في الإسلام"؛ أي: فيما يكمل به الإسلام. "قولاً"؛ أي: قولاً جامعًا لأصوله وفروعه أستغني به بحيث "لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل: آمنت بالله"؛ أي: اشهد بوحدانيته وصدِّقه في جميع مأموراته. "ثم استقم"؛ أي: الزم القيام على ذلك ممتثلاً أمر الله مجتنباً نهيه. قيل: عطفُ الاستقامة على الإيمان بكلمة النزاخي دليل على أن الكفار غير مكلَّفين بفروع الإسلام بل بأصوله فقط، فإذا آمنوا كلفوا بفروعه أيضاً. وقيل: (ثم) هنا للتراخي الرتبي؛ لأن درجة الاستقامة قاصية لا ينالها أحد، قال - صلى الله عليه وسلم -: "شيبتني سورة هود"؛ لأنه أمر بالاستقامة فيها بقوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]. * * * 14 - عن طلْحة بن عُبيد الله - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ من أهلِ نجدٍ ثائرَ الرأسِ، نسمعُ دَويَّ صوتِه ولا نفقَهُ ما يقولُ، حتَّى دنا، فإذا هو يسألُ عنِ الإسلامِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمسُ صلَواتٍ في اليومِ واللَّيلةِ"، فقال: هلْ عليَّ غيرهُنَّ؟ فقال: "لا، إلا أنْ تطوَّعَ"، قال: "وصيامُ شهرِ رمضانَ"، قال: هلْ عليَّ غيرُه؟ قال: "لا، إلاَّ أنْ تطوَّعِ"، قال: وذكرَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الزَّكاةَ، فقالَ: هَلْ عليَّ

غيرُها؟ فقال: "لا إلاَ أنْ تطَوَّعَ". قال: فأدبرَ الرجلُ وهو يقولُ: والله لا أزيدُ على هذا ولا أنقُصُ منهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفلَحَ الرَّجلُ إنْ صدقَ". "عن طلحة بن عبيد الله أنه قال: جاء رجل" يقال له: ضمام بن ثعلبة وافد بني سعد. "إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل نجد" وهو في الأصل: ما ارتفع من الأرض، ضد التهامة، وهي الغور، وكل ما ارتفع من تهامة الأرض إلى أرض العراق نجد، كذا في "الصحاح". "ثائر الرأس" بالرفع: صفة (رجل)، من ثار الغبار: إذا ارتفع وانتشر؛ أي: منتشر شعر الرأس بحذف المضاف، إذ من عادة أهل البادية انتشار الشعر، وبالنصب: حال لوصفه، وإنما لم يتقدم على ذي الحال وهو منكَّر؛ لأنه قد تخصَّصَ بالصفة وهي: (من أهل نجد). "نسمع دوي صوته"؛ أي: خفيف صوته؛ لأن الدوي: الصوت الذي ليس بالعالي كصوت النحل. "ولا نفقه"؛ أي: لا نفهم من البعد "ما يقول" لضعف صوته. "حتى دنا"؛ أي: قرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - "فإذا هو"؛ أي: الرجل "يسأل عن الإسلام"؛ أي: عن فرائضه لا عن حقيقته، ولهذا لم يذكر الشهادتين فيه. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات"؛ أي: هي خمس صلوات "في اليوم والليلة" ولم يبين أوقاتها وكمية ركعاتها وكيفيتها واختصاص البعض بالليل والبعض بالنهار؛ لشهرتها وعلم السائل بها. "فقال"؛ أي: الرجل: "هل علي غيرهن" من الصلوات؟ "فقال: لا" ليس عليك غيرهن "إلا أن تطوَّع، بحذف إحدى التائين، وهو من الطاعات: ما يفعله الرجل عن طوعه ورغبته من غير أن يوجبه الشرع.

"قال: وصيام شهر رمضان": عطف على (خمس). "قال: هل علي غيره؟ "؛ أي: هل علي صوم فرض سوى شهر رمضان؟ "قال: لا إلا أن تطوع" "قال"؛ أي: الرواي "وذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الزكاة فقال: هل عليَّ غيرها؟ فقال: لا إلا أن تطوع" ولم يذكر الحج هنا لاحتمال أنه سقط ذكره من بعض الرواة. "قال"؛ أي: الراوي: "فأدبر الرجل"؛ أي: ذهب "وهو" يحلف "ويقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفلح الرجل"؛ أي: دخل في الفلاح وهو الظفر بالمراد الصالح "إن صدق" إنما حكم - صلى الله عليه وسلم - بكونه من أهل الجنة مطلقاً في رواية أبي هريرة، وهنا علق الفلاح بصدقه. وقد روي أن الحديثين واحد؛ لأنه يحتمل أنه قال بحضور الأعرابي لئلا يغتر فيتكل عليه، فلما ذهب قال: (من سره. . .) إلخ، ويحتمل أنه كان قبل أن يُطلعه الله على صدقه ثم أطلعه الله عليه. وأيضًا لا يلزم من كون الرجل من أهل الجنة أن يكون مفلحاً؛ لأن المفلح هو الناجي من السخط والعذاب، وكل مؤمن من أهل الجنة، وليس كل مؤمن بمفلح. وأيضًا إنما يَرِدُ هذا إذا كان اللام في (الرجل) للعهد، وإذا كان لتعريف الجنس فلا. * * * 15 - وعن ابن عبَّاس أنَّه قال: إنَّ وفدَ عبدِ القَيْسِ لمَّا أتَوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ القومُ - أو: مَنْ الوفدُ -؟ "، قالوا: ربيعةُ، قال: "مرحبًا بالقومِ - أو: بالوفدِ -

غيرَ خَزايا ولا نَدامَى"، قالوا: يا رسولَ الله اإنَّا لا نستطيعُ أنْ نأتيكَ إلاَّ في الشهر الحرام، وبيننا وبينكَ هذا الحيُّ من كُفَّارِ مُضَرَ، فَمُرنا بأمرٍ فَصْلٍ نُخبرُ بهِ مَنْ وراءنَا، وندخُلُ بهِ الجنَّةَ، وسألوهُ عنِ الأشربةِ، فأمرهُم بأربعٍ، ونهاهُم عن أربع: أمرهُمْ بالإيمانِ بِالله وحدَه، فقال: "أتدرونَ ما الإيمانُ بِالله وحده؟ "، قالوا: الله ورسولهُ أعلمُ، قال: "شهادةُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأنَّ محمداً رسولُ الله، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزكاةِ، وصيامُ رمَضانَ، وأنْ تُعطُوا من المَغْنَم الخُمُس"، ونهاهُمْ عن أربَعٍ: عنِ الحَنتم، والدُّبَّاء والنَّقيرِ، والمُزفَّت، وقال: "احفظوهنَّ، وأخبروا بهنَّ مَنْ وَراءكم". "عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: إن وفد": جمع وافد، من وَفَدَ فلان على الأمير: إذا ورد إليه رسولًا. "عبد القيس": اسم قبيلة معروفة، وهم يتفرقون قبائل كثيرة، إحدى قبائلهم ربيعة؛ يعني: الجماعة الذين أرسلهم قومهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليتعلموا الدين. "لما أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - " وأُخبر - صلى الله عليه وسلم - بقدومهم. "قال: من القوم؟ أو: من الوفد؟ ": شك من الراوي. "قالوا"؛ أي: الوفد: "ربيعة"؛ أي: نحن ربيعة، أو وفد ربيعة. "قال: مرحبًا": هو مفعول به لمقدَّرٍ، والباء في: "بالقوم أو بالوفد" زائدة؛ أي: أتى القوم موضعًا رحباً؛ أي: واسعًا لا ضيقاً، أو مفعول مطلق فالباء للتعدية؛ أي: أتى الله بالقوم مرحباً. "غير": منصوب على الحال من (القوم)، "خزايا": جمع خزيان، من الخزي وهو الذل والإهانة. "ولا ندما": جمع ندمان، من الندامة، وإنما قال لهم ذلك لأنهم دخلوا

في الإسلام طوعاً لم يصبهم مكروه من حرب أو سبي يخزيهم، أو لأن الوفد قد يلحقه نقيصة من قِبَل مَن وفد عليه، أو ندامة أو خيبة من سفره حيث لم يجد قضاء حاجته. والمعنى: ما كنتم بالإتيان إلينا خاسرين خائبين كبعض الأمراء إذا أتاهم وفد فلا يعطونهم حقهم ولا يقضون حاجتهم. "قالوا: يا رسول الله! إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام" قالوا ذلك اعتذارًا إليه - صلى الله عليه وسلم - عن عدم الإتيان في غير هذا الوقت؛ لأن أهل الجاهلية كانوا يحاربون بعضهم بعضًا ويكفُّون عن ذلك في الأشهر الحرم: ذي القعدة وذي الحجة والمحرم ورجب تعظيمًا لها، وكان هذا في أول الإسلام، فنسخ بقوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}. "وبيننا وبينك هذا الحي" يريد به بطناً من بطون مضر، فتكون (من) في: "من كفار مضر" تبعيضية، أو يريد به نفس مضر فتكون (من) للتبيين؛ أي: هذا الحي الذي هو مضر، وهو اسم قبيلة، وكان بينهم وبين قبيلة الوفد عداوة. "فمرنا بأمر فصل" صفة لـ (أمر)، مصدر بمعنى فاصل؛ أي: فاصل بين الحق والباطل، أو المعنى: ذي فصل؛ أي: بين واضح ينفصل بها المراد ولا يشكل. "نخبر": بالرفع صفة ثانية لـ (أمر) أو استئناف، وبالجزم جواب الأمر. "به"؛ أي: بسببه. "من ورائنا"؛ أي: خلفنا؛ يعني: من تركناهم في أوطاننا من قبائلنا وعشائرنا. "وندخل به" عطف على (نخبر)؛ أي: ندخل بسبب قبول أمرك والعمل به "الجنة"، فإن دخول الجنة إنما هو بفضل الله، والعملُ الصالح سببه، كما أن

الأكل سبب الشبع والمُشبع هو الله. "وسألوه"؛ أي: الوفدُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - "عن الأشربة": جمع الشراب، وهو اسم لكل ما يشرب، وإنما سألوه عنها تورعًا منهم عن الشبهة، فإن العرب معتادة شرب الأنقعة والأنبذة، ويرونه نافعًا عن مضارِّ المياه والأهوية الردية في الأراضي الوخمة. "فأمرهم بأربع" خصال "ونهاهم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده" نصب على الحال؛ أي: واحدًا لا شريك له. "قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم" تأدبًا بين يديه، وطلبا لسماع الكلمتين منه عليه السلام. "قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله" والمراد بالإيمان هنا الإسلام والتصديق بهاتين الشهادتين، فيتحقق الإيمان بهما. "وإقام الصلاة" خبر مبتدأ محذوف. وفي الكلام تقديم وتأخير، تقديره: أمرهم بالإيمان بالله وحده قال: أتدرون ما الإيمان. . . إلى آخر الشهادتين، وأمرهم عقيب ذلك بأربع وهي: إقام الصلاة. "وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا من المغنم" الحاصل من المحاربة مع الكفار "الخمس" وفيه إشعار بأن الخمس واجب على المخاطَبين وغيرهم من الغانمين وإن لم يكن الإمام حاضرًا. وإنما لم يذكر الحج لاحتمال أنه لم يكن واجبًا بعدُ أو لنسيان الراوي، أو ذكر إعطاء الخمس موضع الحج لمَّا رأى أن القوم إلى هذا الحكم أحوج، وذِكْرُ الأهم أولى من غيره. "ونهاهم عن أربع: عن الحَنتم" وهو - بفتح الحاء المهملة -: جرة خضراء ينبذ فيها.

"والدُّبَّاء" بضم الدال وتشديد الباء بالمد والقصر: القَرْع. "والنقير" أصله: نخلة أو خشبة ينقر فيتخذ منه أوعية ينبذ فيها. "والمزفت": الوعاء المطلي بالزفت، يعني: نهاهم عن أشربة الأواني الأربع؛ لأن في هذه الأربعة يصير الماء مسكراً عن قريب؛ لأنها غليظة لا منفذ للريح فيها، ولا يترشح منها الماء، فيتغير عن زمان قريب. "وقال: احفظوهن"؛ أي: هذه الكلمات المذكورة من الأوامر والنواهي واعملوا بهن "وأخبروا بهن من ورائكم" قيل: فيه دلالة على أن إبلاغ الخبر وتعليم العلم الشرعي واجب إذ الأمر للوجوب. * * * 16 - وعن عُبادة بن الصَّامِت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحوله عِصابةٌ من أصحابهِ: "بايعوني على أنْ لا تُشرِكوا بالله شيئاً، ولا تَسْرِقوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلوا أَولادكم، ولا تأتوا ببُهتانٍ تفترونه بينَ أيديكمْ وأرجُلِكُمْ، ولا تَعْصُوا في مَعْروفٍ، فمنْ وَفَى منكم فأجْرُهُ على اللهِ، ومَنْ أصابَ مِنْ ذلك شيئاً فعُوقِبَ في الدُّنيا فهوَ كفَّارةٌ له، ومَنْ أصابَ مِنْ ذلك شيئاً ثمَّ سَتَرهُ الله عليه فهُوَ إلى الله، إنْ شاءَ عَفا عنهُ، وإنْ شاءَ عاقَبَهُ، فبايعْناهُ على ذلك". "وعن عبادة بن صامت أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وحوله" الواو للحال، نُصب على الظرف خبر المبتدأ الذي هو: "عصابة" وهي بالكسر: الجماعة يشد بعضهم بعضا، مأخوذ من العصب: الشد، كأنهم يشد بعضهم بعضًا شدَّ الإعصاب. وقيل: هي اسم جماعة من الرجال ما بين العشرة إلى أربعين. "من أصحابه: بايعوني"؛ أي: اضمنوا وأقبلوا "إلي وتعاهدوا على هذه الأشياء.

"على أن لا تشركوا بالله شيئًا، مفعول به أو مفعول مطلق، نحو: ما ضربت زيداً شيئا، أي: لا تتخذوا إلهًا غيره. "ولا تسرقوا"؛ أي: لا تأخذوا مال أحد خفية من حرزٍ. "ولا تزنوا" الزنا مداً وقصراً: إيلاج فرج في فرج بلا علاقةِ نكاحٍ وملكِ يمينٍ وشبهة. "ولا تقتلوا أولادكم" وإنما خص الأولاد لأن عادة العرب كانوا يقتلون أولادهم خشية الفقر، وربما يقتل الرجل البنت من خوف لحوق العار به بظهور الزنا عليها، فنهاهم عنه. "ولا تأتوا ببهتان" الباء للتعدية؛ أي: بما يبهت المكذوب عليه؛ أي: يدهشه ويجعله متحيراً لفظاعته فيبقى مبهوتا، والمراد: قذف أهل الإحصان. "تفترونه" صفة بهتان؛ أي: تختلقونه. "بين أيديكم وأرجلكم"؛ أي: من عند أنفسكم، فاليد والرجل كنايتان عن الذات والنفس إطلاقاً للبعض على الكل؛ لأن معظم أفعال الإنسان بهما. وقيل: معناه: لا تبهتوا الناس بالعيوب كفاحًا يشاهد بعضهم بعضا، كما يقال: فعلت هذا بين يديك؛ أي: بحضرتك، وهذا النوع أشد البهت. وقيل: معناه: لا تُلحقوا بالرجال الأولاد من غير أصلابهم، فإن إحداهن في الجاهلية كانت تلتقط المولود وتقول لزوجها: هو ولدي منك، فعبر بالبهتان المفترى بين يديها ورجليها عن الولد الذي تُلحقه بزوجها كذبا؛ لأن بطنها الذي يحمله بين يديها، وفرجها الذي تلده منه بين رجليها. "ولا تعصوا في معروف"؛ أي: لا تخالفوا أمرَ مَن يأمركم بالمعروف، وهو ما عرف أنه من أوامر الشرع وما فيه خير وثواب، وإنما قيَّد النهي عن العصيان بكونه في معروف؛ لأن عصيان مَن يدعو إلى المعصية لازم.

"فمن وفى منكم" بذلك؛ أي: بالانتهاء عن المنهيَّات المذكورة. "فأجره"؛ أي: ثوابه "على الله، ومن أصاب"؛ أي: فعل "من ذلك"؛ أي: من المنكرات، حال من "شيئاً". "فعوقب" به "في الدنيا"؛ أي: أقيم عليه حد ذلك الفعل. "فهو"؛ أي: عقابه في الدنيا بإقامة الحد عليه "كفارة له"؛ أي يكفِّر إثمه (¬1) ذلك، ولم يعاقب في الآخرة، وهذا خاصٌّ بغير الشرك، فإن المشرك لا يكفو عنه إئم شركه بقتله بالشرك في الدنيا. وفي الحديث إرشاد إلى أن الأجر إنما يُنال بالوفاء بالجميع، وأن العقاب ينال بترك أيِّ واحد كان من الجميع. "ومن أصاب من ذلك شيئاً ثم ستره الله"؛ أي: ذلك الشيء المصاب. "عليه" ولم يهتك ستره بين الناس في الدنيا، ولم يُقَمْ عليه حد ذلك الفعل. "فهو"؛ أي: المستور عليه مفوَّض أمره "إلى الله" يوم القيامة "إن شاء عفى عنه"؛ أي: ترك عقوبته عن الذنب "وإن شاء عاقبه" بقَدْرِ ذنبه. "فبايعناه على ذلك" وفي هذا دلالة صريحة على أنه لا يجب عليه تعالى عقاب عاصٍ، فهو دليل على المعتزلة؛ فإنهم يوجبون العقاب على الكبائر قبل التوبة، وإنما قدم العفو على العقاب لقوله تعالى: "سبقت رحمتي عذابي". * * * ¬

_ (¬1) في "غ". "إثم".

17 - وعن أبي سعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه - أنه قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في أَضْحَى - أو: فِطْر - إلى المُصلَّى، فمرَّ على النّساء فقال: "يا معشرَ النّساءِ تصدَّقْنَ، فإني أُريتُكنَّ أكثرَ أهلِ النارِ"، فقُلْنَ: وبمَ يا رسولَ الله؟ قال: "تُكثِرْنَ اللَّعْنَ، وتكفُرن العَشيرَ؛ ما رأيتُ مِنْ ناقِصاتِ عقل ودِينٍ أذْهبَ لِلُبِّ الرجلِ الحازِم مِنْ أحداكنَّ"؛ قُلن: وما نُقصانُ ديننا وعَقْلنَا يا رسولَ الله؛ قال: "أليسَ شهادةُ المرأةِ مثلَ نصْفِ شهادةِ الرجل؟ "، قُلن: بلى، قال: "فذلك من نُقصان عَقْلِها"، قال: "أليسَ إذا حاضَتْ لم تُصَلِّ؟ ولم تَصُمْ؟ "، قُلن: بلى، قال: "فذلك من نُقصانِ دينها". "وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: خرج رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - في أَضحًى" بفتح الهمزة والتنوين، واحده أضحاة لغة في أُضحية؛ أي: في عيد أضحية. "أو فطر": شك من الراوي. "إلى المصلى" وهو الموضع الذي يصلى فيه. "فمر على النساء" يتعدى (مر) بـ (على) كما بالباء. "فقال: يا معشر النساء"؛ أي: يا جماعة النساء. "تصدقن"؛ أي أعطين الصدقة. "فإني أريتكن": مجهول من أرى إذا أعلم، وله ثلاثة مفاعيل: أحدها التاء القائم مقام الفاعل، والثاني (كن)، والثالث: "أكثر أهل النار"؛ يعني: أعلمت بأنكن أكثر دخولاً في النار من الرجال. "فقلن: وبم" أصله: (بما) حذفت ألف (ما) الاستفهامية بدخول حرف الجر، عطف على مقدر؛ أي: كيف يكون ذلك وبأي شيء أكثرنا في النار؟ "يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن": أصل اللعنة: الإبعاد والطرد من

الخير، ويستعمل في الشتم والكلام القبيح لأحد، يعني: عادتكن كثرة الشتم وإيذاء الناس باللسان. "وتكفرن العشير" اسم من المعاشرة، والمراد هنا الزوج؛ لأنه يعاشرها وتعاشره، من العشرة بمعنى الصحبة، وكفرانُها جحود نعمته، يعني: تنكرن حق أزواجكن ولا تؤدين حق إنعامهم عليكن، ومَن لم يشكر الناس لم يشكر الله، ومَن لم يشكر الله يستحق العذاب. "ما رأيت" مفعوله الأول محذوف؛ أي: ما أبصرت أحداً "من ناقصات عقل" صفة لمفعوله المحذوف "ودين أذهب" صفة أخرى له، ويجوز أن يكون "رأيت" بمعنى علمت و (من) زائدة لتأكيد النفي داخلة على المفعول الأول، ومفعوله الثاني (أذهب) أفعل التفضيل من الإذهاب لمكان اللام في: "للب الرجل" فمعناه: أكثر إذهابا للُّب، وهو العقل، وهذا جائز على رأي سيبويه كـ (هو أعطاهم للدراهم). "الحازم" صفة (الرجل)؛ أي: الضابط لأمره، المحترز الآخذ بالثقة فيه، وذكرُه مع ذكر اللب مشعرٌ بأن فتنتهن عظيمة تذهب بعقول الألباب الحازمين، فما ظنك بغيرهم؟! "من إحداكن" وإنما لم يقل: منكن؛ لأن الواحدة إذا كانت على هذه الصفة الذميمة فكونهن عليها أولى من غير عكس. "قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى، قال: فذلك من نقصان عقلها" اعلم أن العقل في الشرع عبارة عن معنًى في الشخص يعقله؛ أي: يمنعه عن الهلاك والخسران في الآخرة بعاقل، فمَن كان ذا تجربة في أمور ولم ينته عما هو سبب هلاكه وخسرانه في الآخرة فليس بعاقل، فالمراد بالعقل هنا العقل الديني.

"قال أليس" اسمها ضمير الشأن وخبرها: "إذا حاضت" وإنما لم يقل: إن حاضت؛ لأن المرأة قلما تخلو عن الحيض، "لم تصل ولم تصم، قلن: بلى، قال: فذلك"؛ أي: كونها غير مصلية ولا صائمة "من نقصان دينها" والدين عبارة عن جميع الخصال الحميدة، وفيه دلالة على أن النقص عن الطاعات نقص من الدين. * * * 18 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قال الله تعالى: كذَّبني ابن آدمَ، ولم يكنْ له ذلك، وشَتمني، ولمْ يكنْ له ذلك، فأمَّا تكذيبهُ إيَّايَ فقوله: لن يُعيدَني كما بدأَني، وليسَ أولُ الخلق بأهونَ عليَّ من إعادتهِ، وأما شَتْمُهُ إيَّايَ فقوله: اتَّخذَ الله ولداً، وأنا الأَحدُ الصَّمدُ، لم ألِدْ ولم أُولَد، ولم يَكُنْ لي كُفُواً أحدٌ". وفي رواية: "فسُبحاني أن أتَّخذَ صاحبةً أو ولداً"، رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -. "وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: كذبني ابن آدم"؛ أي: نسبني إلى الكذب، وهو اختراع الكلام على خلاف الواقع. "ولم يكن له ذلك" التكذيب؛ لأن لله تعالى أنعم أنواع الإنعام والفضل على العباد، فتكذيبهم ربَّهم يكون على غاية القبح. "وشتمني" (الشتم): وصف الغير بما فيه نقصٌ وإزراء (¬1). "ولم يكن له ذلك" الشتم. "فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني" (الإعادة): هي الإيجاد بعد العدم المسبوق بالوجود؛ يعني: لن يحييني بعد موتي. ¬

_ (¬1) في "ت": "وازدراء".

"كما بدأني"؛ أي: أوجدني عن عدم. "وليس أول الخلق" يجوز أن يكون من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: ليس الخلق الأول للمخلوقات، أو من قبيل حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه؛ أي: ليس أول خلق الخلق. "بأهون" الباء زائدة للتأكيد، من هان يهون: إذا سهُل الأمر؛ أي: ليس أسهل "علي من إعادته" بل الإعادة أسهل لوجود أصل البنية وأثرِها، فإنكارهم الأعادةَ بعد أن أقروا بالبداية تكذيب منهم إلى الله. "وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولداً" كما قالت اليهود: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وكما قال الكفار: الملائكة بنات الله. "وأنا الأحد" جملة حالية؛ أي: المنفرد بصفات الكمال من القدم والبقاء والتنزُّه عن المكان وغيره. "الصمد" هو السيد الذي ليس فوقه أحد بحيث يصمده كلُّ أحد؛ أي: يقصده بقضاء الحوائج (¬1). "الذي لم ألد"؛ أي: ولداً قط؛ لأني (¬2) منزَّهٌ مقدَّس عن الاحتياج بالزوج والولد. "ولم أولد"؛ يعني: ليس لي أب ولا أم. "ولم يكن لي كفواً أحد"؛ أي: ليس أحد يماثلني ويشابهني في صفات الألوهية، فتوصيفهم ربهم بما لا يليق به شتم له، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. "وفي رواية ابن عباس - رضي الله عنهما - " في هذا الحديث بعد قوله: (اتخذ الله ولدًا): ¬

_ (¬1) في "غ": "كل حوائجه". (¬2) في "غ": "لأنه".

"فسبحاني"؛ أي: أنزِّه ذاتي تنزيهًا عن "أن أتخذ صاحبة"؛ أي: زوجة "أو ولداً" شك من الراوي (¬1). * * * 19 - وقال: "قال الله تعالى: يُؤْذيني ابن آدمَ، يَسُبُّ الدَّهْرَ، وأنا الدَّهرُ، أُقَلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم"؛ أي: يقول في حقي ما أكرهه وأبغضه. "يسب الدهر"؛ أي: يشتمه، وهو اسم لزمان مبدأ إيجاد العالم إلى انصرامه، وقد يعبَّر به عن المدة الطويلة. "وأنا الدهر" بالرفع، قيل: هو الصواب؛ أي: حْالق الدهر ومقلِّبه، بحذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، فما يصيبه من حوادث الدهر هو مني؛ لأن الدهر لا يقدر على إيصال نفع وضر، أو مصدر بمعنى الفاعل؛ أي: أنا الداهر المتصرف المدبر لما يحدث، ويروى بالنصب على الظرفية مقدَّما على فعله وهو: "أقلب"؛ أي: أقلب "الليل والنهار" في الدهر، وإنما عقَّب قوله: (أنا الدهر)، بقوله: (أقلب الليل والنهار)، لرفع وَهم أن الدهر حقيقة به (¬2) تعالى؛ خلافًا لمن زعم ذلك إذ مقلب الشيء ومصرِّفه يستحيل أن يكون نفسه. * * * ¬

_ (¬1) كذا قال، والظاهر أن (أو) للنوع، يدل عليه ما في "جامع الحميدي": (ولا ولدًا). انظر: "مرقاة المفاتيح" (1/ 170). (¬2) في "ت": "حقيقته" مكان "حقيقة به".

20 - وقال: "قال الله تعالى: أَنا أغنَى الشُّركاءِ عنِ الشِّرْكِ، مَنْ عمِلَ عَملاً أشركَ فيه معِي غيْري؛ تركتُهُ وشِرْكهُ"، رواه أبو هُريرة - رضي الله عنه -. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء" أفعل التفضيل من غَني به عنه غنية؛ أي: استغنى به عنه، وإضافته إما للزيادة المطلقة من غير أن يكون في المضاف إليهم شيء مما يكون في المضاف؛ أي: أنا أغنى من بين الشركاء (عن الشرك) وهو اسم المصدر الذي هو الشركة، وإما للزيادة على من أضيف إليه؛ أي: أنا أكثر الشركاء استغناء عن الشرك، فإن بعض الناس قد يكون غنياً عن الشريك، ولكن لم يكن استغناؤه عنه في جميع الأوقات. "من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري"؛ أي: لم يُخْلص العمل لي، بل كان للرياء والسمعة. "تركته وشركه" الضمير راجع إلى (مَن)، والواو للمعية أو للعطف على الضمير المنصوب في (تركته)؛ أي: أجعله وعمله المشرك فيه مردوداً من حضرتي. قيل: فيه دليل على أنه لا تجوز الأضحية بسُبعِ بدنة إذا كان فيها شِركةُ لحم، وأنه لا يجوز أكل ذبيحة ذكر عليها اسم الله وغيره كـ: بسم الله ومحمدٍ بالجر. * * * 21 - وقال: "قال الله تعالى: الكِبرياءُ ردائي، والعظَمةُ إزاري، فمنْ نازَعَني واحداً منهما أدخلتُهُ النَّار"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: قال الله

تعالى: الكبرياء ردائي": قيل: الكبرياء هي الترفع عن الانقياد للغير بأن يرى لنفسه فضلاً وشرفاً عليه، وذلك لا يستحقه غير الله. "والعظمة إزاري": وهي: أن يكون الشيء في نفسه كاملًا شريفًا مستغنياً، والكبرياء أرفع منها، ولذلك مثلها بالرداء؛ لأنه أشرف من الإزار، فكبرياؤه تعالى: عبارة عن ألوهيته التي هي استغناؤه عما سواه، واحتياج ما سواه إليه، وعظمته وجوبه الذاتي الذي هو عبارة عن استغنائه تعالى عن الغير. وإنما مثَّلهما بالإزار والرداء إبرازًا للمعنى المعقول في صورة المحسوس، فكما لا يشارك الرجل في ملبوسه من ردائه وإزاره، ويستقبح طلب الشركة فيهما، لا يمكن مشاركته تعالى في هذين الوصفين اللذين اختصَّ بهما، وإطلاقهما عليه تعالى من باب الكناية؛ فإنهم يكنون عن الصفة اللازمة بالثوب يقولون: شعار فلان الزهد ولباسه التقوى. "فمن نازعني واحداً منهما"؛ بأن استعظم نفسه، واستعلى على الناس "أدخلته النار": أعاذنا الله تعالى منه، وإنما قال: (واحداً) دون واحدة؛ نظراً إلى الرداء والإزار. * * * 22 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَحَدٌ أصبَرُ على أذًى يسمعه مِنَ الله تعالى، يَدَّعونَ له الولَد، ثم يُعافيهم ويرزُقهم"، رواه أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه -. "وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: ما أحدٌ أصبر"؛ أي: ليس أحداً أشدُّ صبراً. "على أذى"؛ بمعنى: مؤذ، صفة محذوف؛ أي: على كلام مؤذ قبيح صادر عن الكفار.

"يسمعه": صفة (أذى). "من الله تعالى": متعلق بـ (أصبر)، والصبر من الله تعالى: حبس العقوبة عن مستحقها إلى وقت، ومعناه قريب من معنى الحلم، إلا أن المذنب لا يأمن في صفة الصبور، كما يأمن في صفة الحليم. "يدعون له الولد": هذا بيان للأذى؛ يعني: ينسب بعضُ الكفار له ولداً. "ثم يعافيهم"؛ أي: يدفع عنهم البلاء والضرر في الدنيا. "ويرزقهم": فهذا كرمه، ومعاملته تعالى مع من يؤذيه، فما ظنكم بمعاملته تعالى مع من يحتمل الأذى منه، ويثني عليه؟ * * * 23 - وعن مُعاذ - رضي الله عنه - قال: كنت رِدْفَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على حمارٍ، ليس بيني وبينه إلاَّ مُؤْخِرَةُ الرَّحْلِ، فقال: "يا معاذُ! هلْ تدري ما حقُّ الله على عبادِه؟ وما حق العِبادِ على الله؟ "، قلتُ: الله ورسولهُ أعلم، قال: "فإنَّ حَقَّ الله على العباد أنْ يعبُدُوهُ، ولا يُشْرِكُوا به شيئًا، وحق العبادِ على الله أنْ لا يُعذِّبَ مَنْ لا يُشركُ بهِ شيئًا"، فقلت: يا رسول الله، أفلا أُبَشِّرُ به الناسَ؟ قال: "لا، فَيتَّكِلُوا". "وعن معاذ - رضي الله عنه - أنه قال: كنت رِدْف النبي عليه الصلاة والسلام": بكسر الراء وسكون الدال؛ بمعنى: الرديف الذي يركب خلف الراكب؛ يعني: كنت رادفاً خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -. "على حمار ليس بيني وبينه إلا مُؤْخِرة الرحل": بسكون الهمزة بعد الميم المضمومة وكسر الخاء؛ أي: آخرة الرحل، وهي: الخشبات التي تكون على آخر الرحل يستند إليها الراكب، والمراد به: المبالغة في شدة قربه. "فقال: يا معاذا هل تدري"؛ أي: هل تعلم؟

"ما حق الله على عباده؟ "؛ أي: أيُّ شيء واجب لله تعالى عليهم؟ "وما حق العباد على الله تعالى؟ "؛ أي: أي شيء حقيق وجدير أن يفعل الله تعالى بهم؛ إذ لا يجب على الله تعالى شيء خلافًا للمعتزلة. "قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حق الله على العباد أن يعبدوه": هذا إرشادٌ إليه؛ لأن العبادة إنما تتحقق بامتثال الواجبات، والانتهاء عن المنهيات. "ولا يشركوا به شيئاً"، وفي عطفه بالواو دليلٌ على عدم الترتيب؛ إذ العبادةُ لا تتحقق إلا بعد عدم الإشراك، فالتقدير: أن لا يشركوا ويعبدوه، وإنما ذكر عدم الإشراك وإن كان مندرجًا تحت العبادة؛ لأن ترك الإشراك أصلُ العبادة، فكان مقصوداً لعظم شأنه. "وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئًا، فقلت: يا رسول الله! أفلا أبشر"، الفاء جواب شرط محذوف تقديره: إذا كان كذلك، أفلا أبشر. "به"؛ أي: بما ذكرت من حقِّ العباد على الله تعالى، "الناس؟ قال: لا"؛ أي: لا تبشرهم، "فيتكلوا" منصوب بتقدير (أن) بعد الفاء؛ لأنه جواب النهي؛ أي: فيعتمدوا عليه ويقعدهم ذلك عن العبادات. روي: أن معاذاً روى هذا الحديث آخر عمره، وكان زمان النهي زمان استيلاء الكسل على النفوس، وغلبة التثاقل على الطِّباع بسبب عدم استقرار الشرع، فلما انتفى الكسل عن الطباع، ووقع الأمن عن ذلك، علم معاذ أمد النهي، فروى هذا الحديث. 24 - وقال: "ما مِنْ أحدٍ يشهدُ أنْ لا إله إلاَّ الله وأن محمداً رسولُ الله، صدْقًا مِنْ قلبهِ، إلاَّ حرَّمهُ الله على النَّارِ"، رواه مُعاذٌ.

"وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: ما من أحد": (من) زائدة، و (أحد) مبتدأ. "يشهد": صفة. "أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله صدقاً"؛ بمعنى: صادقًا، حال من ضمير (يشهد). "من قلبه": صفة لـ (صدقاً)، قيَّده به؛ لأن الصدق قد لا يكون عن قلب - أي: عن اعتقاد - كقول المنافق، قال الله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167]. "إلا حرمه الله على النار": قيل: صدور هذا الحديث منه عليه الصلاة والسلام يحتمل أن يكون قبل وجوب شيء من أركان الإسلام، أو يكون في حقِّ من تاب عن الكفر، فمات قبل أن يتمكن من الإتيان بفرض آخر، أو يكون الامتثال بالأوامر والانتهاء عن المعاصي مندرجًا تحت شهادته، والأقرب أن يراد بالتحريم: تحريم الخلود. * * * 25 - وعن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: أَتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوبٌ أبيضُ وهو نائمٌ، ثم أتيتهُ وقد استيقظَ، فقال: "ما مِنْ عبدٍ قال: لا إله إلا الله، ثمَّ ماتَ على ذلك، إلاَّ دخلَ الجنَّة"، قلتُ: وإنْ زَنى، وإن سَرق؟ قال: "وإنْ زَنى وإنْ سَرق"، قلت: وإنْ زَنى وإن سَرق؟ قال: "وإنْ زَنى وإنْ سَرق"، قلت: وإنْ زَنى وإن سرق؟ قال: "وإنْ زَنى وإنْ سَرق، على رَغْم أنْفِ أبي ذر"، وكان أبو ذر إذا حدَّث بهذا الحديث قال: وإن رَغِمَ أَنْفُ أبي ذَرٍّ. "وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال: أتيت النبي - عليه الصلاة والسلام - وعليه ثوب أبيض": حال من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيه تقرير تثبت الراوي وإتقانه فيما يرويه عنه - صلى الله عليه وسلم - في أذن

السامعين وفي قلوبهم. "وهو نائم"، فرجعت، "ثم أتيته": مرة أخرى، "وقد استيقظ"؛ أي: وجدته منتبهاً من النوم. "فقال: ما من عبد قال: لا إله إلا الله": وإنما لم يذكر: محمد رسول الله؛ لأنه معلوم أنه بدونه لا ينفع. "ثم مات على ذلك"؛ أي: على الثبات على الإيمان، وفيه إشعارٌ بأن من ارتذَ عن دينه، ومات على الردة، لا ينفعه إيمانه في الزمان الماضي. "إلا دخل الجنة"؛ أي: كان عاقبته دخول الجنة، وإن كان له ذنوبٌ كثيرة؛ لأن الله تعالى إن شاء عفا، وإن شاء عذَّب بقدر ذنوبه، ثم أدخله الجنة. قال أبو ذر: "قلت: وإن زنى وإن سرق"؟ وتسمى هذا الواو واو المبالغة، ولا بد فيه من تقدير حرف الاستفهام، وإنما كان تعجب أبي ذر من هذا الحديث؛ لأجل أن الزنا والسرقة وغيرهما من الذنوب موجبة العقوبة، فكيف يدخله الجنة مع استحقاق العقوبة؟ "قال - صلى الله عليه وسلم -: وإن زنى وإن سرق": فيه دلالةٌ على أن أهل الكبائر لا يُسلَب عنهم اسم الإيمان، فإن من ليس بمؤمن لا يدخل الجنة اتفاقاً، وعلى أنها لا تحبط الطاعات؛ لتعميمه - صلى الله عليه وسلم - الحكمَ وعدم تفصيله. "قلت: وإن زنى وإن سرق": تكرار أبي ذر هذا ليس للإنكار، بل لظنه أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لعله يجيب بجواب آخر، فيجد فائدة أخرى. "قال - صلى الله عليه وسلم -: وإن زنى وإن سرق. قلت: وإن زنى وإن سرق؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: وإن زنى وإن سرق، على رغم أنف أبي ذر"، يقال: رغم أنفه؛ أي: ألصقه بالرغام، وهو التراب، ويستعمل بمعنى: الذل؛ أي: على خلاف مراده، ولأجل مذلته. وقيل: بمعنى كره؛ إطلاقًا لاسم السبب على المسبب؛ أي: وإن كره

أبو ذر ذلك؛ يعني: أتبخل يا أبا ذر برحمة الله تعالى؟ ورحمة الله واسعة على خلقه، قال الله تعالى: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53]، ففرح أبو ذر بهذا. "وكان أبو ذر إذا حدث بهذا الحديث قال" تفاخراً: "وإن رغم أنف أبي ذر"، وعدَّ قوله - صلى الله عليه وسلم - له ذلك شرفاً وكرامة. * * * 26 - وعن عُبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من شهدَ أنْ لا إله إلاَّ الله وحدهُ لا شريكَ له، وأنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُه، وأنَّ عيسى عبدُ الله ورسولُه وابن أمَتِه وكلمتُه ألقاها إلى مريمَ وروح منه، والجنةَ حقّ، والنارَ حق = أدخلَهُ الله الجنةَ على ما كانَ منَ العمل". "وعن عبادة بن الصامت، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن عيسى عبد الله": فيه إبطال قولِ النصارى بأنه ابنه، وبأنه هو الله، وإنما أضاف لفظ (العبد) إلى ظاهر الاسم دون ضميره؛ ليكون أصرح دلالة في إبطال مذهبهم. "ورسوله": فيه إبطال مذهب اليهود المنكرين لرسالته. "وابن أمته"؛ يعني: مريم، وهي أمة الله، وفيه إشارة إلى بطلان ما يقولونه من اتخاذ الله إياها صاحبة، تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً. "وكلمته": سماه كلمة مبالغةً؛ لأنه تكلَّم في غير أوانه، وهو حين كان في المهد، وأضيف إلى الله تعالى تعظيمًا، أو لأنه كان بالكلمة من غير واسطة أب، كما قال الله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ} إلى قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 59]. "ألقاها إلى مريم"؛ أي: أوصلها إليها.

"وروح منه": سماه روحاً؛ لأنَّ الله تعالى أحيا به الأمواتَ، فكان كالروح، أو لأنَّه حدث من نفخ الروح بإرساله جبرائيل إلى أمه، فنفخ في درعها مشقوقاً من قدامها، فوصل النفخ إليها، فحملت به مُقدَّساً عن لوث النطفة، والتقلُّبِ في أطوار الخلقة، وفيه أقوال كثيرة تطلب في التفاسير. "والجنة والنار حق": أفرد لفظاً (الحق)؛ لأنَّه مصدر يقع على القليل والكثير، أو لإرادة كلِّ واحدة منهما. "أدخله الله تعالى الجنة على ما كان من العمل"؛ يعني: على أيِّ عمل كان سيئاً أو حسنًا. * * * 27 - وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أَتيتُ النبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فقلت له: ابْسُطْ يمينكَ فلأَبايعْكَ، فبسطَ يمينَهُ، فقبضْتُ يدي، فقال: "ما لَكَ يا عمرو؟ "، قلت: أردتُ أنْ أشترطَ، قال: "تشترطُ ماذا؟ "، قلت: أنْ يُغفرَ لي، قال: "أما علمتَ يا عمرو! أنَّ الإسلامَ يهدِمُ ما كانَ قبلَهُ، وأنَّ الهجرةَ تهدِمُ ما كانَ قبلَها، وأنَّ الحجَّ يهدمُ ما كان قبلَهُ؟ "، فبايعتُه. "وقال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أتيت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ابسط"؛ أي: امدد "يمينك فلأبايعك": الفاء فيه لو جُعِلت جوابَ الأمر، واللام لام كي، وهما للسببية، لاجتمع حرفا السببية، فيُجعَلُ أحدهما زائدًا؛ لئلا يجتمع حرفان لمعنى، وهو منصوب بإضمار (أن). "فبسط يمينه، فقبضت يدي"؛ أي: إلى نفسي. "فقال: مالك يا عمرو؟ "؛ أي: أي شيء ظهر في خاطرك حتَّى امتنعت عن المبايعة في الإسلام؟

"قلت: أردت أن أشترط" مفعوله محذوف؛ أي: شرطًا أو شيئاً. "قال: تشترط ماذا؟ " قوله: (ماذا) حقه أن يكون مقدَّماً على (تشترط)؛ لأنَّه متضمن معنى الاستفهام، وهو يقتضي الصدارة، فيُقدَّر أصل الكلام: ماذا تشترط؟ فحذف (ماذا)، وأعيد بعد (تشترط)؛ تفسيرًا للمحذوف. "قلت: أن يغفر لي" إن أسلمت. "قال - صلى الله عليه وسلم -: أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم"؛ أي: يمحو "ما كان قبله" من الكفر والمعاصي؟ قيل: سواء كان مظلمة إنسان من الدم والمال وغيرهما، أو كان شيئًا يكون بين العبد وبين الله تعالى من الزنا وشرب الخمر، وغير ذلك من الكبائر. ولكن فيه نظر؛ لأنَّ الإسلام لا يهدم حقوق العباد إن كان المسلم ذميًّا في الأصل، سواء كان الحق عليه مالياً أو غير مالي كالقصاص، وإذا كان حربيًا - وكان الحق مالياً بالاستقراض أو بالشراء، وكان المال غير الخمر ونحوه - فإنَّه لا يسقط أيضًا بإسلامه. "وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها" من الصغائر قطعًا؟ لا ما تتعلق به حقوق العباد، وما كان من الكبائر، فهي في مشيئة الله تعالى، لا يجوز القطع بأنها تُهدَم بالهجرة قطعًا. "وأن الحج يهدم ما كان قبله" من الصغائر أيضاً؟ لا من حقوق العباد. * * * مِنَ الحِسَان: 28 - عن مُعاذ - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسولَ الله! أخبرني بعملٍ يُدخلُني الجنَّة، ويُباعدُني من النار، قال: "لقد سأَلتَ عن عظيمٍ، وإنَّه ليسيرٌ على مَنْ يسَّره الله عليه: تعبُدُ الله ولا تشركُ بهِ شيئًا، وتقيمُ الصَّلاةَ، وتُؤْتي الزكاةَ،

وتصومُ رمضانَ، وتحجُّ البيتَ"، ثم قال: "ألا أدلّكَ على أبوابِ الخير؟ الصَّومُ جُنَّة، والصَّدقةُ تطُفئُ الخطيئةَ كما يُطفئ الماءُ النَّارَ، وصلاةُ الرجلِ في جوفِ الليلِ"، ثمَّ تلا: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} حتَّى بلغ {يَعْمَلُونَ} "، ثم قال: "ألا أُخبرك برأْسِ الأمرِ وعَمودِهِ وذِرْوةِ سَنامِهِ؟ "، قلتُ: بلى يا رسولَ الله! قال: "رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعَمودُهُ الصَّلاةُ، وذِرْوةُ سَنامِهِ الجهادُ"، ثم قال: "ألا أُخبركَ بمِلاكِ ذلك كلِّه؟ "، قلت: بلى يا نبيَّ الله! فأخذَ بلِسانِه وقال: "كُفَّ عليكَ هذا"، فقلتُ: يا نبيَّ الله! إنَّا لَمُؤاخذون بما نتكلَّمُ به؟ قال: "ثكلتْكَ أُمُّك يا مُعاذُ! وهلْ يَكُبّ النَّاسَ في النَّارِ على وجُوهِهِمْ - أو: على مَنَاخِرِهم - إلَّا حصائدُ ألسنتهِم؟ ". "من الحسان": " عن معاذ - رضي الله عنه -: أنه قال: قلت: يا رسول الله! أخبرني بعمل يدخلنى" بالرفع صفة (عمل)، وبالجزم جواب الأمر؛ أي: يدخلني ذلك العمل "الجنةَ، ويباعدني" - بالرفع فقط - "من النار، قال: لقد سألت عن عظيم"؛ أي: عن عمل عظيم من جهة معرفته؛ لأنَّ معرفة ذلك من علم الغيب لا يعلمه إلَّا الله. "وإنه"؛ أي: ذلك العظيم. "ليسير"؛ أي: سهل. "على من يسَّره الله"؛ أي: جعله سهلاً "عليه". فيه إشارة إلى أن أفعال العباد بإرادته تعالى، وأن تيسير العبادات على بعضٍ لطف وتعسيرَها على بعض خُذلان منه تعالى. "تعبدُ الله": أمر بصيغة الخبر، وكذا ما بعده، أو خبر مبتدأ محذوف بتنزيله منزلةَ المصدر بـ (أن) المقدرة؛ أي: العمل الذي يدخلك الجنة: هو أن تعبد الله؛ أي: تطيعه في أوامره ونواهيه؛ لأنَّ العبادة هي الطاعة.

وقيل: أي: توحده؛ لأنَّ التوحيد أصل العبادة، ويؤيد هذا قوله: "ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصَّلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت"، وفيه بيان الأركان الخمسة، ودلالةٌ على أن المؤدي للفرائض مقتصراً عليها يدخل الجنة، ويباعد عن النار. "ثم قال: ألا أدلك؟ " قيل: الهمزة للاستفهام، و (لا) للنفي. "على أبواب الخير": يمكن أن يقال: (بلى) كان موجودًا هنا، فنسيه الرواة بدليل وجوده مرتين بعد السؤالين الآخرين في هذا الحديث. "الصوم جنة" هي بالضم: الترس والسترة؛ يعني: يقي صاحبه عن النار في العُقبى، كما يقيه عن سَورةِ الشهوة في الدُّنيا. "والصدقة تطفئ الخطيئة"؛ أي: تمحوها وتزيلها. "كما يطفئ الماء النار"، شبه الصدقةَ؛ لكثرة نفعها، أو لكونها ماحيةً السيئاتِ مطهرةً عن الآثامِ = بالماء الكثير النفع المطهر عن الأنجاس، وشبَّه الخطيئة بالنار؛ لأنها تأكل الحسنات على قول بعض: كما تأكل النار الخطيب. "وصلاة الرجل": خبره محذوف؛ أي: صلاة الرجل. "في جوف الليل" كذلك؛ يعني: تطفئ الخطيئة، وإنَّما خُصَّ الرجل؛ لأنَّ السائل كان رجلًا، وإلا فالحكم يشتمل الرجل والمرأة. والمراد بالصلاة وأخواتها: النوافل، وإلا فالفرائض قد ذُكِرت قبلُ. وإنَّما جعل عليه الصَّلاة والسلام هذه الثلاثة من أبوابه؛ لأنَّه إذا اعتيد قلة الأكل بالصوم، انقمعت الشهوات، وانقلعت مواد الذنوب من أصلها، فإذا انضم إليه الصدقة والصلاة في جوف الليل الذي هو أبعدُ من الرياء، دخل المرءُ في الخير من كلِّ وجه، وأحاطت به الحسنات.

"ثم تلا"؛ أي: قرأ رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم - في بيان فضيلة المصلين ورفعة درجتهم بأنَّ استحقوا بسبب صلاة الليل أن يمدحهم الله في كتابه القديم: {تَتَجَافَى}؛ أي: تتنحى {جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}؛ أي: عن الفُرشِ والوساد؛ لترك النوم. {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا}؛ أي: وهم داعون ربهم؛ لأجل خوفهم من سخطه، وطمعهم في رحمته. "حتَّى بلغ {يَعْمَلُونَ}؛ يعني: قرأ هذه الآية إلى قوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]. "ثم قال: ألا أخبرك برأس الأمر"؛ أي: أمر الدين، والمراد منه: أصل الأمر. "وعموده": أراد به: ما يعتمد عليه الأمر، ويقوم به. "وذروة سنامه؟ ": (الذروة) بالكسر والضم: أعلى الشيء، (السنام) بالفتح: ما ارتفع من ظهر الجمل وغيره. "قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام"؛ فإنَّه من بين سائر الأعمال بمنزلة الرأس من الجسد في احتياجه إليه، وعدم بقائه دونه، فكما لا أثرَ سائر الأعضاء بدون الرأس، كذلك لا أثرَ لسائر الأعمال بدون الإسلام؛ الذي هو كلمة الشهادة. "وعموده الصَّلاة"؛ فإنَّها عمود الدين من جهة أن القوة له تحصل بالصلاة؛ لأنها هي العمل الظاهر الدائم العام بين جميع المسلمين الفارق بينهم وبين الكفار. "وذروة سنامه الجهاد"؛ فإن الجهاد يحصل به للدين رفعة، وفيه إشارة إلى صعوبة الجهاد وعلو أمره وتفوقه على سائر الأعمال.

"ثم قال: ألا أخبرك بملاك ذلك كله؟ ": (ملاك) بالكسر، وقد يفتح أيضًا: ما يقوم به إحكام الشيء وتقويته وإكماله، من (ملك) - كـ (ضرب) -: إذا أحسن عجنَ الدقيق وبالغ فيه، و (ذلك): إشارة إلى ما ذُكِر من أول الحديث إلى هنا من العبادات؛ أي: ألا أخبرك بما تُحكَم به العبادات المذكورة، ويقوى به أمرها، ويتم به ثوابها. "قلت: بلى يا نبي الله، فأخذ بلسانه" الباء زائدة؛ أي: أخذ عليه الصَّلاة والسلام لسان نفسه. "وقال: كفَّ عليك هذا": مفعول (كف)، إشارة إلى اللسان، والتقدير: كف اللسان عليك؛ أي: احفظه عن أن يوقع عليك ضررًا وهلاكاً وخساراً في الدُّنيا، أو في الآخرة؛ يعني: لا تتكلم بما لا يعنيك؛ فإن من كثر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه، كثر ذنوبه، وفي كثرة الكلام مفاسد لا تحصى. وإنما أخذ - عليه الصَّلاة السلام - لسانه وأشار إليه من غير اكتفاء بالقول تنبيهاً على أن أمر اللسان صعب. "فقلت: يا نبي الله! إنا لمؤاخذون"؛ أي: هل يؤاخذنا ربنا "بما نتكلم به" من الكلام؟ "قال: ثكلتك" - من (ثكِل) كـ (علِم) -: إذا فقدت المرأة ولدها، ومات عنها؛ أي: فقدتك "أمك يا معاذ"، وهذا دعاء عليه من غير أن يراد وقوعه، بل يراد الحثُّ على التيقظ في الأمر، والتنبيه من الغفلة. "وهل يكب النَّاس"؛ أي: هل يلقيهم "في النار على وجوههم أو على مناخرهم": شك من الراوي، جمع: منخر، وهو: ثقبة الأنف، والمراد هنا: الأنف؛ أي: على أنوفهم، والاستفهام للنفي، خصَّها بالكب؛ لأنَّه أول الأعضاء سقوطاً. "إلَّا حصائد ألسنتهم": جمع (حصيدة) بمعنى المحصود، من حصد الزرع: إذا قطعه، وهذا مبالغة لشأن الكلام، والمراد: أن معظم أسباب الكبِّ في النار

الكلامُ كالكفر والقذف وغيرهما، شبَّه عليه الصَّلاة والسلام اللسانَ وما يُقطَع به من القول نحو المنجل وما يُقطَع به من النبات، وهو من بلاغة النبوة. * * * 29 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحبَّ لله، وأبغضَ لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكملَ الإيمانَ"، رواه أبو أُمامة - رضي الله عنه -. "وقال أبو أمامة: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله"، وإنَّما حذف المفاعيل من هذه الأفعال؛ ليذهب الوهمُ كلَّ المذهب، وإنَّما خصَّ الأفعال الأربعة؛ لأنَّ هذه الخصال حظوط نفسانية؛ إذ قلما يُمحضها الإنسان لله تعالى، فإذا محَّضها مع صعوبة تمحيضها كان تمحيضُ غيرها بالطريق الأولى، فلهذا أشار إلى استكمال الدين بتخليصها بقوله: "فقد استكمل الإيمان"؛ يعني: من حصل فيه هذه الخصال المرضية، وزال منه الحظوظ النفسانية، وخلَّص أفعاله لله تعالى، فقد أكمل إيمانه. * * * 30 - وقال: "أَفْضَلُ الأَعمالِ الحُبُّ في الله، والبُغضُ في الله"، رواه أبو ذَر. "وعن أبي ذر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: أفضل الأعمال الحبُّ في الله والبغضُ في الله"؛ أي: في طريق الله، أو يكون (في) بمعنى: اللام الجارة، والمراد من الأعمال هنا: الباطنة؛ لئلا يعترض بقوله - عليه الصَّلاة والسلام -: "أفضل الأعمال طول القيام". * * *

31 - وقال: "المُسلمُ من سَلِمَ المُسلمونَ من لِسانِه ويَدِه، والمُؤمن من أَمِنَه النَّاسُ على دِمائهم وأَموالهم، والمُجاهد من جاهد نفسَه في طاعة الله، والمُهاجر من هجَر الخَطايا والذنوب"، رواه فَضالة بن عُبيد - رضي الله عنه -. "وعن فَضالة بن عُبيدٍ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده": تقدم بيانه. "والمؤمن من أمنه النَّاس"؛ أي: المؤمن الكامل هو الذي ظهرت أمانته وعدالته وصدقه بحيث لا يخاف منه الناس. "على دمائهم وأموالهم". وفيه تنبيهٌ على اشتقاق هذين الاسمين من (السلم) و (الأمان)، فمن زعم أنه متصف به ينبغي أن يطالب نفسه بما هو مشتق منه، فإن لم يُوجَد، فهو كمن يزعم أنه كريم، ولا كرمَ له. "والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله تعالى"؛ أي: المجاهد الكامل ليس من قاتل الكفار فقط، بل من قاتل نفسه بالمجاهدة في طاعة الله تعالى؛ لأنَّ نفس الرجل أشد عداوة معه من الكفار؛ لأنها تلازمه، وتمنعه عن الخيرات والطاعات. وإليه أشار عليه الصَّلاة والسلام بقوله: "أعدى عدوِّك نفسُك التي بين جنبيك"، ولا شك أن القتال مع الذي يلازمه أهم منه [مع] الذي هو أبعد منه، كما قال الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]؛ عن بعض المحققين أن المراد بهم: نفوس المخاطبين؛ فإنَّها أقرب إليهم من كل قريب، وقد أمروا بقتال الأدنى فالأدنى. وسمى - عليه الصَّلاة والسلام - المجاهدةَ مع النفس الجهاد الأكبر حين رجوعه من غزوة تبوك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر".

"والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب"؛ أي: تركها؛ لأنَّ الحكمة في الهجرة التمكُّن من الطاعات بلا مانع، والتبرُّئ عن صحبة الأشرار المؤثرة في اكتساب الخطايا، فالهجرة التحرز عنها، فالمهاجر الحقيقي هو المتجانب عنها. والفرق بين الذنب والخطيئة: أنه أعم منها؛ لأنَّه قد يكون عن عمد؛ بخلاف الخطيئة. * * * 32 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قلَّما خَطَبنا رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إلَّا قال: "لَّا إيمانَ لمنْ لا أَمانةَ له، ولا دينَ لمنْ لا عَهْدَ لهُ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قلما": هو يستعمل في النفي؛ أي: ما. "خطبنا رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم - ": (الخطبة): الموعظة والتذكير. "إلَّا قال: لا إيمان لمن لا أمانة له": هذا وعيد يقصد به الزجر، ونفي الفضيلة والكمال؛ يعني: من كان في نفسه خيانة مال أحد أو نفسه أو أهله، لم يكن إيمانه كاملًا. ويحتمل أن يراد به الحقيقة، فمعناه: إذا اعتاد المرء هذه الأمور لم يؤمن عليه أن يقع في ثاني الحال في الكفر، كما قيل: من يرتعْ حول الحِمى يوشك أن يواقعه. "ولا دين لمن لا عهد له"؛ يعني: من جرى بينه وبين أحد عهد وميثاق، ثم غدر ونقض العهد من غير عذر شرعي، فدينُهُ ناقص. * * *

2 - باب الكبائر وعلامات النفاق

2 - باب الكبائر وعلامات النِّفاق (باب الكبائر وعلامات النفاق) الكبائر: جمع كبيرة، وهي: السيئة العظيمة التي إثمها كبير، وعقوبة فاعلها عظيمة بالنسبة إلى ذنب ليس بكبيرة. مِنَ الصِّحَاحِ: 33 - قال عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: قال رجل: يا رسولَ الله! أيُّ الذنبِ أكبرُ عند الله؟ قال: "أنْ تدعُوَ لله ندّاً وهو خلَقكَ"، قال: ثمَّ أيُّ؟ قال: "ثم أنْ تقتُلَ ولدكَ خشيةَ أنْ يَطعمَ معكَ"، قال: ثم أيّ؟ قال: "ثم أنْ تُزانيَ حَلِيلَةَ جارِكَ"، فأنْزلَ الله تَصْدِيقَها: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ} الآية. "من الصحاح": " قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: قال رجل: يا رسول الله! أي الذنب أكبر عند الله؟ قال: أن تدعو": خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو أن تدعو. "لله نداً"؛ أي: مِثلاً ونظيراً، وقيل: النِّدُ: المثل المزاحم الذي لا يجتمع. "وهو خلقك": حال من الله تعالى، أو من فاعل (أن تدعو)، وفيه إشارة إلى ما استحق به تعالى أن تتخذه رباً؛ أي: اتخذه رباً واعبده؛ فإنَّه خلقك، أو إلى ما به امتيازُهُ تعالى عن غيره في كونه إلهاً، أو إلى ضَعْفِ الند؛ أي: أن تدعو له نداً، وقد خلقك غيره، وهو لا يقدر على خلق شيء. "قال: ثم أيّ": للاستفهام، والتنوين عوض عن المضاف إليه؛ أي: ثم أي شيء من الذنوب أكبر بعد الكفر؟

"قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك"؛ فإن من عادة العرب قتلَ أولادهم خشية الإملاق، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} [الإسراء: 31] الآية. "قال: ثم أي؟ "؛ أي: أي ذنب أكبر بعد القتل؟ "قال: ثم أن تزاني حليلةَ جارك"؛ أي: امرأته؛ فإن الزنا مع امرأة جاره الذي التجأ بأمانته وبينهما حق الجوار أفحشُ منه مع غيرها، مع ما فيه إبطال حقّ الجوار والخيانة معه، فيكون أقبح، وإثمه أعظم. "فأنزل الله تصديقها": مفعول له لـ (أنزل)، والضمير للأحكام المذكورة؛ أي: أنزل لتصديقها. {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ}؛ أي: لا يعبدون إلهاً غير الله. {وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ}: قتلها؛ يعني: نفس المسلم والذمي والمعاهد. {إِلَّا بِالْحَقِّ}: متعلق بالقتل المحذوف، وقيل: بـ (لَّا يقتلون)؛ أي: بإحدى الخصال الثلاث، وهي: الردة، وزنا الإحصان، والقصاص. {وَلَا يَزْنُونَ} [الفرقان: 68]: الآية. * * * 34 - وقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "الكبائرُ: الإشراكُ بالله، وعقوقُ الوالدَيْنِ، وقتْلُ النَّفْسِ، واليمينُ الغَمُوسُ"، رواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. وفي رواية أنَسٍ: "وشَهادةُ الزُّورِ" بدل: "اليَمينُ الغَمُوسُ". "وعن عبد الله عمرو: أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: الكبائر الإشراك بالله"؛ أراد به: الكفر، اختار لفظ الإشراك؛ لكونه

غالبًا في العرب. "وعقوق الوالدين"؛ أي: قطع صلتهما، مأخوذٌ من (العق)، وهو: القطع، وقيل: عقوقُهما مخالفةُ أمرهما فيما لم يكن معصية. "وقتل النفس"؛ أي: بغير الحق. "واليمين الغموس": وهو الحلف على فعل ماضٍ كاذباً، سميت غموساً؛ لأنها تغمس صاحبها في الإثم. وليس المراد من هذا الحديث حصر الكبائر في هذه الأربعة؛ بل جاء أكثر منها. "وفي رواية أنس: وشهادة الزور"؛ أي: الكذب. "بدل: اليمين الغموس"؛ أي: مكانه، ولعل مخالفة أنس لابن عمرو؛ لاختلاف المجلس، وتعدد الحديث، أو لنسيان كل منهما. * * * 35 - وقال: "اجتنِبُوا السَّبع المُوبقات: الشِّركُ بالله، والسِّحْرُ، وقَتلُ النَّفسِ التي حَرَّمَ الله إلَّا بالحق، وأكلُ الرِّبا، وأكلُ مالِ اليتيم، والتَّولِّي يومَ الزَّحفِ، وقذْف المُحصناتِ المُؤمناتِ الغافِلاتِ"، رواه أبو هريرة. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: اجتنبوا السبع الموبقات"؛ أي: احذروا عن فعل الذنوب السبع المهلكة لمن ارتكبها. "الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرَّم الله إلَّا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف"؛ أي: الفرار يوم الحرب، هذا إذا كان بإزاء كلِّ مسلم كافران، وأمَّا إذا كان أكثر فيجوز الفرار.

"وقذف المحصنات"؛ أي: رميهن بالزنا، جمع: محصنة، من أحصن: إذا حفظ عن الزنا. "المؤمنات"، احترز بها عن قذف الكافرات، فإنَّه ليس من الكبائر، فإن كانت ذمية لا يجوز قذفها، ولكن يكون من الصغائر. "الغافلات" عن الاهتمام بالفاحشة، قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور: 23]. * * * 36 - وقال: "لا يَزني الزَّاني حينَ يَزني وهو مُؤمن، ولا يَشْربُ الخَمرَ حينَ يشربُ وهو مؤمن، ولا يَسرِقُ حينَ يَسرِقُ وهو مؤمن، ولا ينتهبُ نُهبةً يَرفعُ النَّاسُ إليهِ فيها أبصارَهم حينَ يَنتهبُها وهو مؤمنٌ، ولا يَغُلّ أحدكمْ حينَ يَغُل وهو مؤمن، فإياكم وإياكُمْ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن": الواو للحال؛ أى: حال كونه كاملًا في إيمانه، أو: ذو أمْنٍ من عذاب الله تعالى، أو المراد: مؤمن لله؛ أي: مطيع له، يقال: أمِنَ له: إذا انقاد وأطاع. وقيل: المراد به: خروجه عن الإيمان بدليل ما روى أبو هريرة عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا زنى أحدكم خرج منه الإيمان، وكان فوق رأسه كالظّلةِ، فإذا انقطع رجع إليه الإيمان". "ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب": من نهب: إذا أغار على أحدٍ وأخذَ ماله قهراً. "نهبة" بالفتح: مصدر، وبالضم: المال الذي انتهبه.

"يرفع النَّاس": صفة (نهبة). "إليه فيها"؛ أي: إلى الناهب في تلك النهبة. "أبصارهم": مفعول (يَرفع). "حين ينتهبها وهو مؤمن، ولا يغل أحدكم": من غل غلولاً: إذا سرق من الغنيمة، أو خان في أمانته. "حين يغل وهو مؤمن": وقيل: المراد به: الزجر والوعيد والإنذار لمرتكب هذه الكبائر بسوء العاقبة؛ إذ لا يؤمن عليه أن يقع في الكفر. "فإياكم": نصب على التحذير؛ أي: أحذركم من فعل هذه الأشياء المذكورة. "وإياكم": كرره للتأكيد والمبالغة فيه. * * * 37 - وفي رواية ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: "ولا يقتُلُ حينَ يقتُلُ وهو مؤمن". "وفي رواية ابن عباس - رضي الله عنه -: ولا يقتل حين يقتل وهو مؤمن"؛ يعني: رواية ابن عباس كرواية أبي هريرة، إلَّا أنه يزيد: ولا يقتل. . . إلى آخره. * * * 38 - وقال: "آيةُ المُنافق ثلاثٌ وإنْ صامَ وصلَّى وزعمَ أنَّهُ مسلمٌ: إْذا حدَّثَ كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا ائتمِنَ خانَ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة أنه قال - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: آية المنافق"؛ أي: علامته. "ثلاث"؛ أي: ثلاث خصال.

"وإن صام وصلى وزعم"؛ أي: ادَّعى. "أنه مسلم"؛ يعني: لا ينفعه صومه وصلاته يوم القيامة. "إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف"؛ أي: لم يُوفِ بوعده، والاسم منه: الخُلف بالضم. "وإذا ائتُمِن"؛ أي: إذا جُعِل أميناً، ووضع عنده أمانة. "خان": قيل: هذا على سبيل إنذار المسلم وتحذيره أن يعتادَ هذه الخصال، فتفضي به إلى النفاق، ولذا قيَّدها بـ (إذا) المقتضية للتكرار. * * * 39 - وقال: "أربعٌ مَنْ كنَّ فيهِ كان مُنافِقاً خالصاً، ومَنْ كانتْ فيهِ خَصْلة مِنهنَّ كانتْ فيهِ خَصلة مِنَ النفاقِ حتَّى يدَعَها: إذا ائتُمِنَ خانَ، وإذا حدَّثَ كذبَ، وإذا عاهدَ غدرَ، وإذا خاصَم فجَرَ"، رواه عبد الله بن عمْرو - رضي الله عنهما -. "وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: أربع من كنَّ فيه"؛ أي: اجتمعت هذه الخصالُ فيه بتأويل اعتقاد استحلالها. "كان منافقاً خالصاً"؛ لأنَّه يظهر الإسلام، ويخفي الكفر، أما من كُنَّ فيه هذه الخصال لا عن اعتقاد استحلالها، فلا يكون منافقاً شرعياً، بل يكون عُرفياً، وهو الذي يراعي أمور الدين علناً، ويترك محافظتها سراً، ويدل عليه قوله: "ومن كانت فيه خصلة منهن، كانت فيه خصلة من النفاق حتَّى يدعها"؛ أي: يتركها. "إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر"؛ أي: ترك الوفاء بذلك العهد. "وإذا خاصم فجر"؛ أي: مالَ عن الحق، والمراد به هنا: الشتم والرمي

بالأشياء القبيحة. وقيل: هذا مخصوص بزمانه عليه الصَّلاة والسلام؛ لاطلاعه بنور الوحي [على] بواطن المتصفين بهذه الخصال، فأَعلمَ أصحابه نفاقهم؛ ليحترزوا عنهم، وإنَّما لم يعينهم حذراً عن الفتنة بأنَّ يلحقوا بالمحاربين. * * * 40 - وقال: "مَثَلُ المنافِقِ كمثَلِ الشَّاةِ العائرةِ بينَ الغَنميْنِ، تَعِيرُ إلى هذه مرَّةً، وإلى هذه مرَّةً"، رواه ابن عمر - رضي الله عنهما -. "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مثل المنافق كمثل الشَّاةِ العائِرَة": من (عار يعير): إذا تفرَّد وشرد. "بين الغنمين؛ تعير إلى هذا مرَّة، وإلى هذه مرَّة": شبَّه - عليه الصَّلاة والسلام - تردَّدَ المنافقين بين الطائفتين من المؤمنين والمشركين تبعًا لهواه وقصداً لغرضه الفاسد بالشاة المترددة بين طائفتين من الغنم؛ طلباً للفحل، فلا يستقرُّ على حالة، ولا يثبت مع إحدى الطائفتين، وقد وصفهم الله تعالى بذلك فقال: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النساء: 143]، وفي تشبيهه بالشاة من أعلى ذكره بالشناعة وأوفره، وهو من باب تشبيه المحسوس بالمحسوس بمعنى عقلي، وهو تشبيه مركَّب. * * * مِنَ الحِسَان: 41 - عن صَفوان بن عسَّال - رضي الله عنه - قال: قال يهوديٌّ لصاحبهِ: اذْهَبْ بنا إلى هذا النبيِّ، فقال له صاحبهُ: لا تقُل: نبيّ، إنَّه لو سمعكَ لكان له أربعة أعيُن، فأتَيا رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، فسألاه عن تِسْعِ آياتٍ بيناتٍ، فقال لهما رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -:

"لا تُشرِكُوا بالله شيئًا، ولا تَسْرِقُوا، ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلوا النَّفْسَ التي حرَّمَ الله إلَّا بالحقِّ، ولا تمشُوا ببريءٍ إلى ذِي سُلطانٍ ليقتُلَهُ، ولا تَسْحَرُوا، ولا تأكلوا الرِّبَا، ولا تَقْذِفُوا مُحصَنَةً، ولا تَوَلَّوْا للفِرار يومَ الزَّحْفِ، وعليكُمْ خاصَّةً اليهود أنْ: {لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ}، قال: فقبَّلا يديْهِ ورِجْلَيْهِ، وقالا: نشهدُ أنَّكَ نبِيٌّ، قال: "فما يمنعُكُمْ أنْ تتَّبعوني؟ " قالا: إنَّ داودَ دعا ربَّهُ أن لا يزالَ من ذُريتهِ نبِيٌّ، وإنَّا نخاف إنِ تَبعْناكَ أنْ تَقْتُلَنَا اليهودُ. "من الحسان": " عن صفوان بن عسال أنه قال: قال يهودي لصاحبه: اذهب بنا": الباء للتعدية، أو بمعنى: مع؛ أي: كن صاحبي ورفيقي لنأتي "إلى هذا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "، ونسأل عنه مسائل، "فقال له صاحبه: لا تقل له: نبي؛ إنه لو سمعك"؛ يعني: لو سمع محمد أنك تقول له: نبي. "لكان له أربع أعين": هذا كناية عن شدة الفرح والسرور التام، فإن مَنْ فرحَ يزداد به نوراً إلى نور عينه، فيصير كأنه يبصر بأربع أعين. "فأتيا رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم - فسألاه عن تسع آيات": جمع آية، وهي: العلامة الواضحة. "بينات": جمع بينة، وهي: الظاهرة، والمراد بها الأحكام المفصَّلة المبينة في التوراة التي أخبر الله تعالى عنها في كتابه في (سورة بني إسرائيل): {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101]، لا التسع التي هي المعجزات. "فقال لهما رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلَّا بالحق، ولا تمشوا ببرئ": الباء للتعدية، و (البريء): عن الإثم.

"إلى ذي سلطان": هو بمعنى: السلطنة هنا، وهي: القدرة؛ يعني: لا تقولوا السوء [في] من ليس له ذنب عند السلطان، ولا تنسبوه إلى ذنبٍ إذا لم يكن له ذنبٌ. "ليقتله، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الرِّبا، ولا تقذفوا محصنة، ولا تولوا": أصله بتائين حُذِفت إحداهما؛ لأنَّه من (التولي)، وهو: الإعراض، وقيل: بضم التاء، من ولَّى تولية: إذا أدبر للفرار. "يوم الزحف"؛ أي: الحرب. "وعليكم": كلمة الإغراء؛ أي: الزموا واحفظوا هذا الحكم. "خاصة": نصب على أنه حال عامله ما في (عليكم) من معنى الفعل، أو تمييز، والخاصة: ضد العامة. "اليهودَ": نصب على التفسير؛ أي: أعني: اليهود، والمراد به: اليهوديون، كما يقال: زنجي وزنج، وعُرِّف على هذا التأويل، وإلا لم يجز دخول لام التعريف فيه؛ لأنَّه معرفة يجري مجرى القبيلة. وفي بعض الروايات: (يهود) - بالرفع بدون التعريف - منادى حُذِف حرف ندائه، وإنَّما حُذِف هنا مع أنه اسم جنس، لأنَّه لشدة اختصاصه بهذه الأمة الخبيثة جرى مجرى العلم؛ يعني: ما مضى من الأحكام مشترك فيها جميع النَّاس، وأمَّا هذا الأخير؛ فخطابها لليهود خاصةً، وهو: "أن لا تعدوا في السبت"؛ أي: لا تجاوزوا أمرَ الله فيه بأنَّ لا تصيدوا السمك يوم السبت، وهذا حكاية ما كان ثابتًا في شريعتهم. "قال"؛ أي: الراوي. "فقبلا يديه"؛ أي: اليهوديان يدي رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم. "ورجليه": لما أجابهما عمَّا سألاه.

"وقالا: نشهد أنك نبي، قال - صلى الله عليه وسلم -: فما يمنعكم أن تتبعوني": وإنَّما قال بصيغة الجمع والمخاطب اثنان: لأنَّه - عليه الصَّلاة والسلام - أرادهما وغيرهما من اليهود؛ لاعتراف اليهود كلهم بنبوته، ولكن إلى العرب خاصة، فغلَّب من حضر على غيره؛ أي: أي شيء يمنعكم عن الإسلام؟ فإنكم مأمورون في التوراة بمتابعتي وبالإيمان بي إذا بُعِئت. "قالا: إن داود - عليه السلام - دعا ربه أن لا يزال"؛ أي: لا ينقطع "من ذريته نبيًا إلى يوم القيامة، ويكون دعائه مستجاباً البتة، فسيكون نبيٌّ من ذريته، ويتبعه اليهود، وربما يكون لهم الغلبة والشوكة. "وإنَّا نخاف إن اتبعناك أن يقتلنا اليهود": وهذا عذرٌ منهم في عدم متابعتهم إياه، وقولهم: (إن داود عليه السلام دعا ربه) كذبٌ منهم وافتراء عليه؛ لأنَّ داود - عليه السلام - قرأ في التوراة والزبور نعتَ محمد - عليه الصَّلاة والسلام - أنه خاتم النبيين، وتنسخ به جميعُ الأديان والكتب، فكيف يدعو على خلاف ما أخبره الله تعالى من شأن محمد عليه الصَّلاة والسلام؟ ولئن سُلِّم، فعيسى - عليه السلام - من ذريته، وهو نبي باقٍ إلى يوم القيامة. * * * 42 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثٌ من أصلِ الإيمانِ: الكفُّ عمَّنْ قال: لا إله إلَّا الله، لا تُكفِّرْهُ بذنبٍ، ولا تُخرجْه من الإسلامِ بعمَلٍ، والجهادُ ماضٍ مُذْ بعثَني الله إلى أن يُقاتِلَ آخرُ أُمتي الدجَّالَ، لا يُبطلهُ جوْرُ جائرٍ، ولا عَدلُ عادلٍ، والإيمانُ بالأَقْدارِ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: ثلاث"؛ أي: ثلاث خصال "من أصل الإيمان: الكف عمن قال: لا إله إلَّا الله، لا تكفر بذنب": بيان للكفِّ، ولذا قطعه عنه، والتكفير: نسبة أحدٍ إلى الكفر، والخطابُ فيه مع

الراوي؛ يعني: لا يصير كافرًا بعد الإقرارِ بكلمتي الشهادة بسبب ذنب اجترحَهُ، ما لم يدخل الكفرَ. "ولا تخرجه من الإسلام بعمل" سوى الكفر، وفيه دلالة على أن أصحاب الكبائر لا يخرجون بالفسق عن الإيمان. "والجهاد ماض"؛ أي: نافذ. "منذ بعثني الله"؛ أي: من ابتداء زمان بعثتي. "إلى أن يقاتل آخرُ أمتي الدجَّال": وهذا لأن بعده يكون خروج يأجوج ومأجوج، ولا طاقة لأحد بمقاتلهم، وبعد إهلاك الله إياهم لا يبقى على وجه الأرض كافرٌ ما دام عيسى حياً في الأرض، أما ما بعده؛ فسيجيء إن شاء الله تعالى في ذكر الدجَّال. "لا يبطله"؛ أي: الجهاد. "جورُ جائر"؛ يعني: لا يجوز تركه بأنَّ يكون الإمام ظالماً، بل يجب على النَّاس طاعته في الجهاد، قال عليه الصَّلاة والسلام: "الجهادُ واجبٌ عليكم مع كل أمير؛ براً كان أو فاجراً، وإن عمل الكبائر". "ولا عدل عادل"؛ أي: لا يبطله عدل الإمام العادل بحيث يحصل مع عدله سكونُ المسلمين وتقويتهم وغناؤهم بحيث لا يحتاجون إلى الغنيمة. "والإيمان بالأقدار": جمع: القدر، تقدم بيانه. * * * 43 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إذا زنى العبدُ خرجَ منه الإيمانُ، فكان فوقَ رأسِهِ كالظُّلَّةِ، فإذا خرج منْ ذلكَ العمَلِ رجعَ إليهَ الإيمانُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه: قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: إذا زنى العبد"؛ أي:

فصل في الوسوسة

العبد المؤمن بقرينة قوله: "خرج منه الإيمان": قيل: ليس المراد منه: حقيقة الخروج؛ بل هو نوره أو كماله، سلك مسلك المبالغة والتشديد في باب الزجر والوعيد. "وكان فوق رأسِهِ كالظُّلة": وهي سحابة تُظِلُّ على الأرض، وهذا تشبيه المعنى بالمحسوس بجامع معنوي، وهو: الإشراف على الزوال؛ لأنَّه من شأن الظُّلة. "فإذا خرج من ذلك العمل، رجعَ إليه الإيمان": وفيه إيذان بأنَّ المؤمن في حال اشتغاله بالشهوة يصير فاقداً أو كالفاقد للإيمان، ولكن لا يزول حكمه واسمه، بل هو بعدُ في ظل رعايته، وكنف بركته؛ إذ يصيرُ فوقه كالسحابة تظله، فإذا فرغ من شهوته، عاد الإيمان إليه. وقيل لابن عباس: كيف ينزع الإيمان منه؛ قال: هكذا، وشبك بين أصابعه ثم أخرجها، فإن تاب عاد إليه هكذا، وشبك بين أصابعه. * * * فصل في الوَسْوَسةِ (فصل في الوسوسة) مِنَ الصِّحَاحِ: 44 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تَجاوَزَ عنْ أُمَّتي ما وَسوستْ به صُدورُهَا ما لمْ تعمَلْ به أو تتكلَّم". "من الصحاح": " عن أبي هريرة: أنه قال: قال رسول الله - صلَّي الله تعالى عليه وسلم -:

إن الله تجاوز"؛ أي: عفا. "عن أمتي ما وسوست به صدورُها" بالرفع فاعلاً، والمراد: القلوب؛ أي: ما خطرت في قلوبهم من الخواطر المذمومة، ويجوز نصبه مفعولاً به؛ أي: وسوست النفوسُ به صدورَها، وهي إما ضرورية، وهي: التي يستجلبها الطبع البشري من غير قصد، وإما اختيارية، وهي: التي تُلقَى في نفس المؤمن من تزيين المعصية والكفر. والمراد بها في الحديث هي الاختيارية؛ لأنَّ الضرورية معفوٌ عن جميع الأمم إذا لم يصر عليه؛ لامتناع الخلو عنها؛ يعني: لا يؤاخذهم بما وقع في قلوبهم من القبائح، "ما لم تعمل به أو تتكلم". وأمَّا قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] فمنسوخ بقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286]، والوُسع: اسم لما يسع الإنسان، ولا يضيق عليه. * * * 45 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاءَ ناسٌ منْ أصحابِ النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فسألُوه: إنَّا نجدُ في أنفُسِنَا ما يتعاظَمُ أحدُنَا أنْ يتكلَّمَ بِهِ، قال: "أَوَقَدْ وجدتُمُوهُ؟ "، قالوا: نعم، قال: "ذاكَ صريحُ الإيمانِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال: جاء ناس"؛ أي: جماعة. "من أصحاب النَّبيّ - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم - إلى النَّبيّ فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به"؛ أي: عظم وشقَّ علينا ذلك بأن يجري في قلوبنا؛ من خلق الله؟ فكيف هو؟ ومن أيِّ شيء هو؟ وغير ذلك ممَّا نعلم أنه قبيحٌ لا نعتقده. "قال - عليه الصَّلاة والسلام -: أوقد وجدتموه؟ ": الهمزة للاستفهام

والواو المقرونة بها عطف على مقدر؛ أي: أكان ذلك، وقد وجدتم ذلك المخاطر في أنفسكم؟ "قالوا: نعم، قال: ذلك"؛ أي: تعاظمك التكلم بذلك الخاطر إجلالاً لله تعالى وخشية منه هو: "صريح الإيمان"؛ أي: خالصه؛ فإن من كان إيمانه مشوباً غير صريح يقبل الوسوسة، ولا يردها. وقيل: المعنى: أن الوسوسة أمارة الإيمان في قلوبكم، ولولا ذلك لما وسوس في أنفسكم؛ لأنَّه لمن لا يدخل الموضع الخالي. * * * 46 - وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأْتي الشَّيطانُ أحدَكُمْ فيقول: مَنْ خلقَ كذا؟ من خلَق كذا؟ حتَّى يقول: مَنْ خلَقَ رَبَّك؟ فإذا بلغَهُ فليَسْتَعِذْ بالله، وَلْيَنتهِ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - عليه الصَّلاة والسلام -: يأتي الشيطان أحدكم"؛ أي: يوسوس في قلبه. "فيقول: من خلق كذا؟ "؛ يعني: السماء. "من خلق كذا؟ "؛ يعني: الأرض، وعلي هذا يسأله. "حتَّى يقول: من خلق ربك؟ " وغرضه أن يوقع الرجلَ في الغلط والكفر والاعتقادات الباطلة. "فإذا بلغه"؛ أي: الشيطان أو أحدكم هذا القول. "فليستعذ بالله"؛ طرداً للشيطان عنه. "ولينته"؛ أي: عن تلك الوساوس؛ لئلا يستحوذَ الشيطان عليه بها. * * *

47 - وقال: "لا يزالُ النَّاسُ يَتَساءَلونَ حتَّى يُقالَ: هذا خَلَقَ الله الخلْقَ، فمَنْ خلَقَ الله؟ فمنْ وجدَ مِنْ ذلكَ شيئًا فليقُلْ: آمنتُ بالله ورُسُلِهِ"، رواهما أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزال النَّاس يتساءلون"؛ أي: سأل بعضهم بعضاً في كلِّ نوع. "حتَّى يقال: هذا": قيل: لفظُ (هذا) مع ما عُطِف بيانه المحذوف - وهو القول - مفعولُ (يقال) أُقيمَ مقام الفاعل. "وخلق الله الخلق": تفسير لـ (هذا). "فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك"؛ أي: من ذلك القول شيئًا، "فليقل: آمنت بالله ورسله". * * * 48 - وقال: "ما مِنْكُمْ مِنْ أحدٍ إلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قرينُهُ مِنَ الجنِّ"، قالوا: وإِيَّاكَ يا رسولَ الله! قال: "وإيَّايَ، إلَّا أنَّ الله أَعَاننِي عليه فأَسْلَمُ، فلا يأْمُرُني إلَّا بخيْرٍ"، رواه ابن مسعود. "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: ما من أحد إلَّا وقد وُكِّل به" عليّ بناء المجهول، من (التوكيل)؛ بمعنى: التسلبط. "قرينه"؛ أي: مصاحبه "من الجن"؛ أي: الشياطين أولاد إبلبس، تأمره بالشرِّ وتحثه عليه. "قالوا: وإياك يا رسول الله؟ "؛ أي: وقد وُكِّل به وإياك. "قال": وُكلِّ به "وإياي"، فالضمير المنفصل فيهما عطف على محل الضمير المجرور المقدر، وقيل: وقع الضمير المنصوب المنفصل موقع

المنفصل المرفوع؛ إذ حقه أن يقال: وأنت يا رسول الله وُكِّل بك قرينك؟ فيقول: وأنا، وهذا شائع. "إلَّا أن الله أعانني عليه فأسلم": بفتح الميم؛ أي: انقاد وامتنع عن وسوستي، أو معناه: دخل في الإسلام الحقيقي، فسلمت من شره، يؤيده قوله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "فلا يأمرني إلَّا بخير"، ويروى برفع الميم؛ أي: أسلم من شره. وقيل: هو أفعلُ التفضيل خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: فأنا أسلمُ منكم؛ لأنَّ النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام - كان يجري عليه بعضُ الزلات في بعض الأوقات بوسوسة، فيكون المراد بقوله - عليه الصَّلاة والسلام -: "فلا يأمرني إلَّا بخير" في أعم الأوقات. وفي رواية: (ما منكم من أحد إلَّا وقد وُكِّل به قرينه من الجن، وقرينه من الملائكة). "رواه ابن مسعود". وعن بعض المشايخ: أن قرينه من الجن ربما يدعوه إلى الخير، وقصده بذلك الشرُّ بأنَّ يدعو إلى المفضول؛ ليمنعه عن الفاضل، ويدعوه إلى الخير؛ ليجره إلى ذنب عظيم لا يفي خيره بذلك الشرِّ من عُجبٍ أو غيره. * * * 49 - وقال: "إنَّ الشَّيطانَ يجري مِنَ الإنسانِ مَجْرَى الدَّمِ". "وعن أنس - رضي الله عنه - فيه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشيطان يجري من الإنسان مَجرى الدمِ"؛ أي: كيد الشيطان يجري، ووساوسه تسري في الإنسان حيث يجري فيه الدم؛ أي: في جميع عروقه، أو يجري فيه مثل جريان الدم في أعضائه من غير إحساس له بجريانه، أو معناه: أن الشيطان لا ينفكُّ عن الإنسان ما جرى دمه في عروقه؛ أي: ما دام حيًّا.

وقيل: يجوز إرادة الحقيقة؛ فإن الشياطين أجسامٌ لطيفةٌ قادرة بأقدار الله تعالى على كمال التصرف ابتلاء للبشر. * * * 50 - وقال: "ما مِنْ بني آدَمَ [مِنْ] مَوْلُودٍ إلَّا يَمسُّهُ الشيطانُ حين يولد، فيَستهلُّ صارخاً من مسِّ الشيطانِ، غيرَ مريمَ وابنها"، رواه أبو هريرة. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: ما من مولود من بني آدم إلَّا يمسُّهُ الشيطانُ"؛ يعني: لا يولد مولود في حال من الأحوال إلَّا في حال مسِّ الشيطان. "حين يولد": قالوا: المراد بالمس هنا: المسُّ الحسي؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسلام -: "كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبه بإصبعه حين يُولَد". "فيستهلُّ"؛ أي: يصيح. "صارخاً"؛ أي: رافعاً صوته بالبكاء. "من مسِّ الشيطان غيرَ مريم وابنها"؛ أي: إلَّا مريم وعيسى عليهما السلام؛ فإنَّ الله تعالى عصمهما من مسِّه؛ لاستجابة دعاء حَنَّةَ أمِّ مريم في حقهما حين قالت: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، وتخصيصاً لهما بهذه الفضيلة. والأوجه أن يراد من المس: الطمعُ في الإغواء، لا حقيقة المسِّ، واستعاذة حَنَّةَ يجوز أن تكون من الإغواء، لا من المس؛ لأنَّ الاستعاذة كانت بعد وضعها، والمسُّ إنَّما كان بحال الولادة. * * *

51 - وقال: "صِياحُ المولودِ حينَ يقَعُ نزغةٌ مِنَ الشَّيطانِ"، رواه أبو هريرة. "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: صياح المولود حين يقع"؛ أي: حين يسقطُ وينفصلُ عن أمه. "نَزْغَة من الشيطان"؛ أي: وسوسة، وقيل: إفساد؛ فإن النزغ هو الدخول في أمر لإفساده، والشيطان يبتغي إفساد ما وُلِدَ المولود عليه من الفطرة. وقيل: معناه: سببُ صياحه نزغةٌ من الشيطان، من باب تسمية الشيء بما هو من بعض أسبابه، فإن صياحَهُ يُسمَّى نزغة؛ لأنها سببه. "رواه أبو هريرة". * * * 52 - وقال: "إنَّ إبْلِيْسَ يضَعُ عرْشَهُ على الماءَ، ثم يبعثُ سَراياهُ يفتِنُونَ النَّاسَ، فأدناهُمْ منه منزلة أعظمُهُمْ فِتْنةً، يجيءُ أحدُهُمْ فيقولُ: فعلتُ كذا وكذا، فيقولُ: ما صنعْتَ شيئًا، قال: ثم يجيءُ أحدُهُمْ فيقولُ: ما تركتُهُ حتَّى فرَّقْتُ بينَهُ وبينَ امرأَتِهِ، فيُدْنِيهِ منه ويقولُ: نِعْمَ أنتَ؟ "، قال الأعمش: أُراهُ قال: "فيلتزِمُهُ". "وعن جابر أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: إن إبليس يضع عرشه"؛ أي: سريره. "على الماء": قيل: وضعُهُ كناية عن التسلط التَّام والاستيلاء العظيم. وقيل: عمله يحمل على حقيقته بأنَّ جعله الله تعالى قادرًا عليه استدراجاً؛ ليغترَّ بأنَّ له عرشاً على هيئة عرش الرحمن، تؤيده قصة ابن صيَّاد حيث قال لرسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: أرى عرشاً على الماء، فقال - عليه الصَّلاة والسلام -: "ترى عرش إبليس".

"ثم يبعث سراياه"؛ أي: جنوده التي يسيرها لإثارة الفتنة، جمع: سرية، وهي: قطعة من الجيش. "يفتنون النَّاس"؛ أي: يضلونهم، ويأمرونهم بالمعاصي، وقيل: معناه: يمتحنون ويتعرفون إيمانكم بنبوتي؛ إذ الفتنة في كلامهم الابتلاء والامتحان. "فأدناهم منه"؛ أي: أقربهم من إبليس "منزلة أعظمهم فتنةً، يجيء أحدهم فيقول: فعلت كذا وكذا"؛ يعني: يقول: أمرت النَّاس بشرب الخمر والسرقة وغير ذلك من المعاصي. "فيقول" إبليس: "ما صنعت شيئًا، قال" - صلى الله عليه وسلم -: "ثم يجيء أحدهم سيقول: ما تركته"؛ أي: الإنسان. "حتَّى فرقت بينه وبين امرأته، فيدنيه منه"؛ أي: يقرب إبليس ذلك الغَوِيَّ من نفسه. "فيقول: نعم أنت": (نعم) حرف إيجاب، و (أنت) مبتدأ خبره محذوف؛ أي: أنت صنعت شيئًا عظيمًا. وفي بعض النسخ: نِعمَ - بكسر النون - على أنه فعل مدح، وفاعله مضمر على خلاف القياس؛ أي: نعمَ العونُ أنت، والصواب هو الأول. "قال الأعمش": هو راوي هذا الحديث عن جابر: "أراه"؛ أي: أظن أن جابراً "قال" في حديثه: "فيلتزمه"؛ أي: يعانقه إبليس ويعذره من غاية حبه للتفريق بينهما؛ لأنَّه أعظم فتنة؛ لما فيه من انقطاع النسل، والوقوع في الزنا؛ الذي هو أفحش الكبائر بعد الإشراك بالله. * * * 53 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشَّيطانَ قد أَيسَ من أنْ يعبدَهُ المُصلُّونَ في جزيرةِ

العَرَبِ، ولكنْ في التَّحريشِ بينهُم"، رواهما جابرٌ - رضي الله عنه -. "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: إن الشيطان قد أيس"؛ أي: صار محروماً. "من أن يعبده المصلون"؛ أي: المؤمنون، عبَّر عنهم بالمصلين: لأنَّ الصَّلاة هي الفارقة بين الإيمان والكفر، أراد بها: عبادة الصنم، وإنَّما نسبها إلى الشيطان؛ لكونه داعياً إليها. "في جزيرة العرب": وهي كل أرض حولها الماء، فعيلة بمعنى مفعولة، من جزر عنها الماء؛ أي: ذهب، وقد اكتنفت تلك الجزيرةَ البحارُ والأنهار، كبحر البصرة وعمان وعدن إلى بركة بني إسرائيل التي أهلك الله تعالى فرعونَ بها، وبحر الشام والنيل ودجلة والفرات، أضيفت إلى العرب؛ لأنها مسكنهم، وخُصَّت بالذكر؛ لأنها معدنُ العبادة ومهبطُ الوحي، ولم يكن الإسلام يومئذٍ إلَّا بها. "ولكن في التحريش بينهم"؛ أي: لكن الشيطان غيرُ آيس في إغراء المؤمنين وحملهم على الفتن، بل له مطمع في ذلك، من حرَّش بين القوم: إذا أغرى بينهم. * * * 54 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جاءَهُ رجل فقال: إنِّي أُحَدِّثُ نفْسي بالشيء، لأَن أَكون حُمَمَةً أحبُّ إليَّ مِنْ أنْ أتكلَّمَ بِهِ، قال: "الحمدُ لله الذي رَدَّ أمرَهُ إلى الوَسْوَسة". "من الحسان": " عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النَّبيّ - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم - جاءه رجل

فقال: إنِّي أحدث نفسي بالشيء لأنَّ أكون حُمَمَةً"؛ أي: فحماً، اللام توطئة للقسم، أو للابتداء، والجملة صفة للشيء؛ يعني: يجري في قلبي من الأشياء لأَنْ احترقتُ وصرتُ فحماً "أحبَّ إلي من أن تكلم به"؛ أي: بذلك الشيء من غاية قبحه. "قال"؛ أي: النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "الحمد لله الذي ردَّ أمره"؛ أي: أمرَ هذا القائل المسلم، أو أمرَ الشيطان. "إلى الوسوسة" بأن لم يجعل له سلطاناً على المسلم غير الوسوسة، فإنَّه قبل الإسلام كان يأمرهم بالكفر وعبادة الأوثان. * * * 55 - وقال: "إنَّ للشيطان لَمَّةً بابن آدمَ، وللملَك لَمَّةً، فأمَّا لَمَّةُ الشيطانِ فإيعادٌ بالشرِّ وتكذيب بالحق، وأمَّا لَمَّةُ الملَكِ فإِيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمنْ وجدَ ذلك فلْيَعلَمْ أنه مِنَ الله، فليحمَدِ الله، ومَنْ وجدَ الأخرى فليتعوذْ بالله من الشَّيطان"، ثم قرأ: " {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} "، غريب. "وعن ابن مسعود: أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: إن للشيطان لمة بابن آدم"؛ أي: نزلة في قلبه بالدعوة، من قولهم: لَمَّ بالمكان، وألمَ به: إذا نزل. "وللملك لمة، فأمَّا لمة الشيطان؛ فإيعاد بالشر" كالكفر والفسق. "وتكذيب بالحق" كأحوال القيامة والقبر. "وأمَّا لمة الملك؛ فإيعاد بالخير": كالصلاة والصوم وغيرهما من الخيرات، وإنما ذكر الإيعاد مجرى الوعد بالخير على سبيل الإتباع والازدواج؛

للاكتفاء عن الفارق بين الوعد والوعيد بكلمتي (الخير) و (الشر). "وتصديق بالحق" ككتب الله تعالى ورسله. قيل: إن اللمة الشيطانية تكون عن يسار القلب، والرحمانية عن يمينه. وزاد بعض الصوفية: عليهما خاطران؛ خاطر الحق، وخاطر النفس. وفي "العوارف": هذان اللمتان هما الأصل، والخاطران الآخران فرع عليهما؛ لأنَّ لمة الملك إذا حرَّكت الروح واهتز بالهمة الصالحة، قرب باهتزازه بها إلى حظائر القرب، فورد عليه عند ذلك خواطرُ من الحق، وإذا تحقق بها بالقرب يتحقق الغناء، فتثبت الخواطرُ الربانية عند ذلك، فيكون أصل خواطر الحقِّ لمة الملك. ولمة الشيطان إذا حرَّكت النفسَ، هوت بجبلَّتها إلى مركزها من الغريزة والطبع، فظهر من ذلك خواطرُ ملائمة بحالها، فصارت خواطرُ النفس نتيجةَ لمة الشيطان. "فمن وجد"؛ أي: في نفسه. "ذلك"؛ أي: لمة الملك على تأويل المذكور. "فليعلم أنه من الله، فليحمدِ الله" على هذه النعمة بأنَّ أرسل عليه ملكاً يأمره بالخير، ويهديه إلى الحق، وإنَّما قدَّمها هنا وأخرها أولاً؛ لأنَّ لمة الشيطان شرّ، والابتلاءُ بها أكثر، فكان الحاجة إلى بيانها أمَس، ولما فرغ منه قدَّم لمة الملك تعظيماً لشأنها. "ومن وجد الأخرى"؛ أي: لمة الشيطان. "فليتعوذ بالله من الشيطان" وليخالفه فيما يأمر به من فعل السوء. "ثم قرأ" عليه الصَّلاة والسلام هذه الآية استشهاداً لما قال:

{الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ}؛ أي: يخوِّفكم الفقر، ويقول: لا تنفقوا أموالكم في الزكاة والصدقات فإنكم تحتاجون إلى ذلك. {وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ}؛ أي: بالبخل وسائر المعاصي. {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ}؛ أي: لذنوبكم. {وَفَضْلًا}؛ أي: خلفاً في الدُّنيا؛ يعني: يقول لكم: أنفقوا أُعطكم أضعاف ما تنفقون في الدُّنيا. "غريب". * * * 56 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يزال النَّاسُ يَتسَاءَلون حتَّى يُقال: هذا خَلَقَ الله الخلْقَ، فمَنْ خَلَقَ الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: {اللَّهِ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}، ثمَّ ليتفُلَ عنْ يسارِه ثلاثًا، وليستعِذْ بالله من الشَّيطان". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: لا يزال النَّاس يتساءلون حتَّى يقال: هذا خلق الله الخلق فمن خلق الله" وقد مر البيان فيه. "فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد" تقدم معناه. "ثم ليتفل عن يساره ثلاثاً" والتفل شبيه بالبزاق وهو أقل منه، أوله البزاق، ثم التفل، ثم النفث، ثم النفخ، كذا في "الصحاح"، وهذا كناية عن كراهيته (¬1) ¬

_ (¬1) في "م" و "غ": "كراهية".

ذلك وتنفرِ طبعه عنه، كمن وجد جيفة منتنة كره ريحها وتفل من نتنها. وتخصيص اليسار لإكرام اليمين، وقيل: لأنَّ مأتاه من اليسار. "وليستعذ بالله من الشيطان"؛ أي: ليطلب المعاونة من الله الكريم على دفعه. * * * 57 - عن عَمْرو بن الأَحْوَص - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول في حَجَّة الوداع: "ألا لا يجني جانٍ على نفسِهِ، ألا لا يجني جانٍ على ولده، ولا مَولود على والِده، ألا إنَّ الشيطانَ قَدْ أيسَ أنْ يُعبَدَ في بلادِكُمْ هذ أبدًا، ولكنْ ستكونُ له طاعةٌ فيما تحتَقِرُونَ مِنْ أعمالكُمْ، فسيرضى بهِ". "وعن عمرو بن الأحوص أنه قال: سمعت النَّبيّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يقول في حجة الوداع" إنَّما سمي بها؛ لأنَّه عليه الصَّلاة السلام لما قال: "هل بلغت" وقالوا: نعم، قال صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: "اللهم اشهد"، ثم ودعَّ النَّاس، فقالوا: هذه حجة الوداع. "ألا لا يجني جان على (¬1) نفسه" الأَوْلى أنه نفيٌ بمعنى النَّهي؛ لئلا يخلو الكلام عن الفائدة؛ لأنَّ الجاني إذا جنى فإنما يجني على نفسه، وبجنايته يؤخذ في الدُّنيا والآخرة، فكيف ينفي عنه الجناية؟ فيحمل على معنى النَّهي، وفيه مزيد التأكيد والحث على الانتهاء، ولذا أضاف الجناية إلى نفسه، والمراد الجناية على الغير بسبب الجناية على النفس؛ لأنَّ تلك الجناية سبب الجناية على النفس، فإضافتها إليها ليكون أدعى إلى الكف، وتتأيد إرادة النهي من هذا الخبر برواية بعضهم إياه بصيغة النَّهي. ¬

_ (¬1) في "ت": "إلَّا على"، وهي رواية كما في "م".

"ألا لا يجني جان على ولده، ولا مولود على والده": المراد منه النَّهي عن الجناية عليهما، وخصَّهما بالذكر لمزيد قبح الجناية عليهما وشناعته. وقيل: المراد حقيقة النفي، وذلك لأنَّ أهل الجاهلية كانوا يعتقدون مؤاخذة المرء بجناية غيره من قرابته وذوي أرحامه، فكانوا يقتلون الولد بجناية الوالد وبالعكس، وكذا القريب والحميم، فأعلمهم أن الجاني إنَّما يجني على نفسه لا على غيره. واقتصر على ذكر الولد والوالد لكون (¬1) نسبهما أقرب الأنساب، وإنَّما يحتمل العواقل للمعاقل أخذاً بجنايتهم وهو التقصير في الحفظ والمنع. "إلَّا أن الشيطان قد أيس أن يعبد في بلادكم هذه أبدًا" والمراد من الأبد طول المدة؛ لئلا ينافي الأحاديث التي في (باب قيام الساعة على الأشرار). "ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم"؛ أي: فيما لا تعظمون قَدْرَه من الذنوب كالصغائر منها، أو المراد من الأعمال: الواجبة، وذلك إما بتركها أو بإقامتها على وجه غير مَرْضيٍّ. "فسيرضى به"؛ أي: الشيطان بذلك القدر من الاحتقار ولا يأمركم بالكفر؛ لأنَّه يعلم أنكم لا تطيعونه في ذلك وبالله العون. * * * 58 - عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال، قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "كتبَ الله مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يخلُقَ السماواتِ والأَرضَ بخمسينَ ألْفَ سَنَة. قال: وكان عرشُهُ على الماءَ". * * * ¬

_ (¬1) في "م": لأن.

3 - باب الإيمان بالقدر

3 - باب الإِيمان بالقَدَرِ (باب الإيمان بالقدر) مِنَ الصِّحَاحِ: 58 - عن عبد الله بن عَمْرو بن العاصِ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "كتَبَ الله مَقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يخلُقَ السَّماواتِ والأَرضَ بخمسينَ ألْفَ سَنَة، قال: وكان عرشُهُ على الماء". "من الصحاح": " عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم -: كتب الله"؛ أي: عيَّن وقدَّر، وقيل: أي: أجرى القلم على اللوح المحفوظ وأثبت فيه. "مقادير الخلائق": ما كان وما يكون وما هو كائن إلى الأبد، على وَفْق ما تعلقت به إرادته أزلاً، كإثبات الكاتب ما في ذهنه بقلمه على الوجه الذي يريد. "قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" والمراد طول الأمد، يعني: تمادي الزمان بين التقدير والخلق خمسون ألف سنة ممَّا تعدون، أريد بالزمان مقدار حركة الفلك الأعظم الذي هو العرش، وهو موجود حينئذ بدليل أنه قال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]؛ يعني: كان عرش الله قبل أن يخلق السماوات والأرض على وجه الماء، والماء على متن الريح، والريح على القدرة، وهذا يدل على أن العرش والماء كانا مخلوقين قبل خلقهما. وقيل: ذلك الماء هو العلم.

وفيه دليل لمن زعم أن أول ما خلق الله تعالى في هذا العالم الماء، وإنَّما أوجد سائر الأجسام منه تارة بالتلطيف وتارة بالتكثيف. * * * 59 - وقال: "كُلُّ شيءٍ بقَدَرٍ، حتَّى العجْزُ والكَيْسُ"، رواه عبد الله بن عمرو. "وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: كل شيء بقدر"؛ أي: مقدَّر مرتَّب مكتوب في اللوح المحفوظ قبل أن يوجد في الخارج على حسب ما اقتضته الحكمة. "حتَّى العجز والكيس" روي بالرفع عطفاً على (كل) وبالجر عطفاً على (شيء)، لكن الأَولى أن يكون مجروراً بـ (حتَّى). و (العجز): عدم القدرة، و (الكيس): كمال العقل وشدة معرفة الأمور وتمييز ما فيه النفع عما فيه الضر، والعجز مُقابلُه. * * * 60 - وقال: "احتجَّ آدمُ وموسى عند ربهِمَا، فحجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنتَ آدمُ الذي خلقكَ الله بيَدِهِ، ونفخَ فيكَ مِنْ روحِهِ، وأسجدَ لكَ ملائكتَهُ، وأسكنَكَ في جنَّتِهِ، ثمَّ أَهبَطْتَ النَّاسَ بخطيئَتِكَ إلى الأرضِ؟ فقال آدمُ: أنتَ موسى الذي اصطفاكَ الله برسالَتِهِ وبكلامِهِ، وأعطاكَ الألواحَ فيها تِبْيَانُ كُلِّ شي، وقربَكَ نجَيّاً فَبكَمْ وجدتَ الله كتبَ التوراةَ قبلَ أنْ أُخْلَقَ؟ قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدمُ: فهلْ وجدْتَ فيها: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى}؟ قال: نعم، قال: أفتلُومُني على أنْ عَمِلْتُ عمَلاً كتبَهُ الله علَيَّ أَنْ أعملَهُ قبلَ أنْ يخلُقَني بأربعينَ سنةً؟ "، قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "فحجَّ آدمُ مُوسَى"، رواه أبو هريرة.

"وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: احتج آدم وموسى"؛ أي: جرى بينهما الخصومة ومطالبة الحجة، قيل: هذه المحاجة كانت روحانية، يؤيده قوله: "عند ربهما"، ويجوز أن تكون جسمانية بأنْ أحياهما واجتمعا، كما ثبت في حديث الإسراء أنه - عليه الصَّلاة والسلام - اجتمع مع الأنبياء وصلى بهم. "فحج آدم موسى"؛ أي: غلب عليه بالحجة بأنَّ كلَّ ما صدر عنه كان بتقدير الله تعالى. "قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده"؛ أي: بقدرته بلا واسطة أبٍ وأم. "ونفخ فيك من روحه" فصرت به حياً، أضاف الروح إليه تعالى تشريفاً وتخصيصاً، كما قال الله تعالى: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]). "وأسجد لكَ ملائكته"؛ أي: أمرهم بأنَّ يسجدوا لك تعظيماً. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان سجودهم له انحناءً لا خروراً على الذقن. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: أمروا بأنَّ يأتموا به، فسجد وسجدوا لله. وقال أبي بن كعب: خضعوا له وأقروا بفضله. "وأسكنك في جنته ثم أهبطت الناس"؛ أي: أسقطتهم وأنزلتهم، فإنهم وإن لم يكونوا موجودين لكنهم كانوا على شرف الوجود، فكانوا مهبطين منها "بخطيئتك"؛ أي: بسبب عصيانك الله تعالى في أكل الشجرة. "إلى الأرض" متعلق بـ (أهبطت). يعني: إن الله تعالى أنعم عليك هذه النعم، فأنت عصيته بأكلها حتَّى أُخرجت من الجنة بسببها، وبقي أولادك في دار المشقة والابتلاء من المرض والفقر وغير ذلك.

"فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه وأعطاك الألواح": وهي التوراة، "فيها"؛ أي: في تلك الألواح "تبيان كل شيء"؛ أي: بيانُه وإظهاره، من الحلال والحرام، والقصص، والمواعظ، وغير ذلك، قال الله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145]. "وقربك"؛ أي: خصك بسره ونجواه بلا واسطة ملك. "نجياً"؛ أي: مناجياً، نصبٌ على الحال. "فَبكَم": مميزُه محذوف منصوب؛ أي: بكم زماناً "وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق" على صيغة المجهول. "قال موسى: بأربعين عامًا" والمراد منه التكثير لا التحديد. "قال آدم: فهل وجدت فيها"؛ أي: في التوراة: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ}؛ أي: بمخالفة أمره {فَغَوَى} [طه: 121]؛ أي: فخرج بالعصيان من أن يكون راشداً في فعله، وليس المراد لفظه بهذا التركيب، بل معناه بالعبرية. "قال" موسى عليه السلام: "نعم، قال" آدم عليه السلام: "أفتلومني" بهمزة الاستفهام للإنكار، والفاء جواب شرط مقدر؛ أي: إذا وجدتَ فيها ذلك فلا ينبغي لك أن تلومني "على أن عملت عملًا كتب الله عليّ" في الألواح التي أعطاك "أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة، قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فحج آدم وموسى" لامتناع ردّ علم الله في حقه، حيث أخبر الله تعالى عنه أنه إنَّما خلقه للأرض، وأنه لا يترك في الجنة بل ينقله منها إلى الأرض ليكون خليفته تعالى فيها. وفي رواية: "فقال موسى عليه السلام: يا آدم! أنت أبونا وأخرجتنا من الجنة، فقال آدم: يا موسى! اصطفاك الله بكلامه، وخط لك التوراة بيده،

يا موسى! أتلومني على أمر قدره الله عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة". * * * 61 - وقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إنَّ خَلْقَ أَحَدِكم يُجمعُ في بطنِ أُمِّهِ أربعينَ يوماً نطفة، ثمَّ يكونُ علَقة مثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ مُضْغة مثْلَ ذلك، ثمَّ يَبعثُ الله إليهِ ملَكاً بأربعِ كلمات، فيكتُبُ عملَهُ، وأجلَهُ، ورزْقَهُ، وشَقي أو سعيد، ثم يُنفخُ فيهِ الروحُ، وإنَّ الرجلُ ليعملُ بعملِ أهلِ النَّارِ حتَّى ما يكونُ بينهُ وبينها إلَّا ذراع، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعمَلُ بعملِ أهلِ الجنَّة، فيدخل الجنة، وإن الرجلَ ليعمَلُ بعمَلِ أهلِ الجنَّةِ حتَّى ما يكونُ بينهُ وبينها إلَّا ذراع، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعملُ بعملِ أهل النَّارِ، فيدخُلُ النَّارَ" رواه ابن مَسْعود - رضي الله عنه -. "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: إن خلق أحدكم"؛ أي: مادة خلقه. "يجمع" - مجهولاً -؛ أي: يُحرز ويقرَّر. "في بطن أمه"؛ أي: في رحمها. "أربعين يومًا نطفة" قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: إن النطفة إذا وقعت في الرحم فأراد الله أن يخلق منها بشراً طارت في بشرة المرأة تحت كل ظفر وشعر، ثم تمكث أربعين ليلة ثم تنزل دمًا في الرحم، فذلك جمعُها. "ثم تكون علقة" وهي قطعة دم غليظٍ جامد. "مثل ذلك"؛ أي: أربعين يومًا. "ثم تكون مضغة" وهي قطعةُ لحم قَدْرَ ما يُمضغ. "مثل ذلك"؛ أي: أربعين يومًا، ويظهر التصوير في هذه لأربعين. "ثم يبعث الله إليه ملكًا بأربع كلمات"؛ أي: بكتابة أربع قضايا مقدرة،

وكل قضية تسمى كلمة قولاً كان أو فعلاً. "فيكتب عمله"؛ يعني: أنه يعمل الخير أو الشر. "وأجله" والمراد به هنا مدة حياته، يعني: أنه كم يعيش في الدُّنيا. "ورزقه"؛ يعني: أنه قليل الرزق، أو كثير الرزق. "وشقي أو سعيد" هذا إذا لم يعلم من حاله ما يقتضي تغيير ذلك، فإن علم من ذلك شيئًا كتب له أوائل أمره وأواخره، وحكم عليه على وفق ما يتم به عمله، فإن مِلاك العمل خواتمه. قيل: المراد بكتبه هذه الأشياء: إظهاره للملك، وإلا فقضاؤه تعالى سابق على ذلك. قال مجاهد: يكتب هذه الكلمات في ورقة وتعلق في عنقه بحيث لا يراها النَّاس، قال الله تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] قال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قُضي عليه أنه عاملُه، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وخص العنق؛ لأنَّه موضع القلائد والأطواق. "ثم ينفخ فيه الروح" وهذا يدل على أن نفخ الروح يكون بعد الأطوار الثلاثة في الأربعينات بزمان. "فإن الرجل": هذا شروع لبيان أن السعيد قد يشقى وبالعكس. "ليَعملُ بعمل أهل النار حتَّى ما يكون": قيل: (حتَّى) هي الناصبة، و (ما) نافية غير مانعة لها من العمل، والأوجَهُ أنها عاطفة و (يكون) بالرفع معطوف على ما قبله. "بينه وبينها"؛ أي: بين الرجل وبين النار. "إلَّا ذراع": هذا تمثيل لغاية قربه منها.

"فيسبق"؛ أي: يغلب. "عليه الكتاب"؛ أي: كتاب السعادة، فالتعريف للعهد، والكتاب بمعنى المكتوب؛ أي: المقدَّر. "فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخل الجنة، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتَّى ما يكون بينه وبينها"؛ أي: بين الجنة والنار. "إلَّا ذراع فيسبق عليه الكتاب"؛ أي: كتاب الشقاوة "فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار". * * * 62 - وقال: "إنَّ العَبْدَ ليعمَلُ عمَلَ أهلِ النَّارِ وإنَّهُ مِنْ أَهْلِ الجنَّةِ، ويعملُ عملَ أهلِ الجَنَّةِ وإنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وإنَّما الأعمالُ بالخَواتيم"، رواه سَهْل بن سَعْد الساعدي. "وعن سهل بن سعد أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: إن الرجل ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنَّما الأعمال بالخواتيم"؛ يعني: إنَّما اعتبار الأعمال بما يُختم عليه أمرُ عاملها، فرب كافر متعنِّدٍ يُسلم في آخر عمره ويُختم له بالسعادة، ورب مسلم متعبد يسلب إيمانه فيُختم له بالشقاوة. * * * 63 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: دُعي رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إلى جَنازةِ صبي من الأنْصارِ، فقلتُ: طُوبى لهذا! عُصفور من عصافيرِ الجنَّةِ، لمْ يعمَل سُوءاً، قال: "أَوْ غيرُ ذلك يا عائشةُ! إن الله خلقَ الجنَّةَ وخلقَ النَّار، فخلقَ لهذه أهلاً، ولهذه أهلاً، خلقَهم لهما وهم في أَصلابِ آبائِهم".

"وقالت عائشة - رضي الله عنها -: دُعي رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إلي جنازة صبي من الأنصار فقلت: طوبى" تأنيث أطيب من الطيب في المعيشة؛ أي: الراحةُ وطِيبُ العيش حاصل "لهذا" الصَّبي، "عصفور"؛ أي: هو عصفور "من عصافير الجنة" شبهته بالعصفور إما لصغره كما أنه صغير بالنسبة إلى من هو أكبر منه من الطيور، وإما لكونه خالياً من الذنوب من عدم كونه مكلفاً. "لم يعمل سوءاً"؛ أي: ذنباً. "قال: أو غير ذلك" بتحريك الواو ورفع (غير)، وهو المشهور روايةً، فالهمزة للاستفهام والواو للحال؛ أي: أتعتقدين ما قلت والحق غير ذلك "يا عائشة" وهو عدم الجزم بكونه من أهل الجنة، وإنَّما نهاها - عليه الصَّلاة والسلام - عن ذلك مع أن أطفال المؤمنين أتباع لآبائهم؛ لأنها إشارة (¬1) إلى طفل معين، فالحكم على شخص معيَّن بأنه من أهل الجنة لا يجوز من غير ورود النص؛ لأنَّه من علم الغيب. ويحتمل أن يكون نهاها قبل نزول ما نزل في حق وِلْدان المؤمنين بأنهم تبع لآبائهم، والتبعية في الدُّنيا من الإيمان والكفر، وحكمها من أمور الآخرة. "إن الله تعالى خلق الجنة والنار وخلق لهذه أهلاً ولهذه أهلاً خلقهم لهما"؛ أي: لكل واحد منهما. "وهم في أصلاب آبائهم": جمع صلب، وهو وسط الظهر، يعني: عيَّن في الأزل من سيكون من أهل الجنة، ومن سيكون من أهل النار، فعبَّر عن الأزل بأصلاب الآباء لأنَّه أقرب إلى فهم النَّاس. وفي الحديث: دلالة على أن الجنة والنار مخلوقتان موجودتان الآن كما ¬

_ (¬1) في "م": "أشارت".

هو مذهب أهل السنة، وإشارة إلى أن الثواب والعقاب ليسا لأجل الأعمال، بل الموجب لهما اللطف الربانيِّ أو الخذلان السابق المقدَّر لهم أزلاً. * * * 64 - وقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ما منكم من أحدٍ إلَّا وقد كُتِبَ مَقْعدُهُ مِنَ النَّارِ ومَقْعدُهُ منَ الجنَّةِ"، قالوا: يا رسولَ الله! أفلا نتَّكِلُ على كتابنا وندع العملَ؟ فقال: "اعملوا، فكل مُيسَّرٌ لما خُلِقَ له، أَمَّا مَن كان من أهلِ السعادة فسَيُيسَّر لعمَل السَّعادة، وأمَّا مَن كان من أهل الشَّقاوة فسيُيسَّر لعملِ الشَّقاوةِ"، ثمَّ قرأَ: " {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6)} الآية"، رواه عليّ بن أبي طالب. "وعن عليّ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: ما منكم من أحد إلَّا وقد كتب" الواو للحال والاستثناء مفرغ؛ أي: ما وجد أحد منكم في حال من الأحوال إلَّا وقد قدر له "مقعده من النار ومقعده من الجنة" الواو فيه بمعنى (أو) لمَا جاء في بعض الروايات: بـ (أو) مصرحاً، لكن حديث أنس في إثبات عذاب القبر يدل على أن لكل مؤمن مقعدين: أحدهما في الجنة، والآخر في النار. "قالوا: يا رسول الله! أفلا نتكل" الفاء جواب شرط مقدر؛ أي إذا كان الأمر كذلك أفلا نعتمد "على كتابنا" المقدَّرِ لنا في الأزل "وندع العمل؟ "؛ أي: نتركه، إذ لا فائدة في إتعاب أنفسنا بالأعمال؛ لأنَّ قضاء الله لا يغيَّر، فلم يرخص عليه الصَّلاة والسلام في ذلك، بل أعلمهم أن ها هنا أمرين لا يُبطل أحدهما الآخر: باطن هو حكم الربوبية، وظاهر هو سمة العبودية، وهو غير مفيد حقيقة العلم، فأمر عليه الصَّلاة والسلام بكليهما ليتعلق الخوف بالباطن المغيب، والرجاء بالظاهر البادي؛ ليستكمل العبد بذلك صفة الإيمان. "قال: اعملوا فكل": الفاء للسببية، والتنوين عوض عن المضاف إليه؛ أي: كلُّ خلق "ميسر"؛ أي: موفق ومهيَّأ "لما خلق له"؛ أي: قدَّر له ذلك من

عمل الجنة أو النار، فيسوقه العمل إلى ما كتب له من سعادة أو شقاوة، ونظيره الرزق المقسوم مع الأمر بالكسب. ثم فصل - صلى الله عليه وسلم - ما أجمله بقوله: "أما من كان من أهل السعادة فسييسر لعمل السعادة"؛ أي: سيوفَّق لذلك العمل بإقداره عليه وتمكينه منه. "وأمَّا من كان من أهل الشَّقاوة" بفتح الشين بمعنى الشقاوة ضد السعادة "فسيُيَسَّر لعمل الشِّقوة" بكسر الشين؛ أي: يسهَّل عليه ذلك بأنَّ اتبع هواه وران على قلبه الشهوات حتَّى أتى بأعمال أهل النار، وأصر عليها حتَّى طوى صحيفة أعماله على ذلك. "ثم قرأ"؛ أي: النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى}؛ أي: حق الله من ماله {وَاتَّقَى}؛ أي: خاف من الله {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}؛ أي: بكلمة لا إله إلَّا الله {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7]؛ أي: الجنة. "الآية". * * * 65 - وقال: "إن الله - تعالى - كتبَ على ابن آدمَ حظَّهُ مِنَ الزِّنا، أدركَ ذلكَ لا محالةَ، فزِنا العين النَّظر، وزِنا اللِّسان المَنْطقُ، والنَّفسُ تتمنَّى وتشتَهي، والفَرْج يُصدِّقُ ذلك أو يُكَذِّبُه". وفي روايةٍ: "الأذُنَانِ زناهُما الاستماعُ، واليدُ زناها البَطْشُ، والرجلُ زناها الخُطا"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى كتب"؛ أي: أثبت في اللوح المحفوظ. "على ابن آدم حظه من الزنا" أراد به مقدِّماتِه من النظر الحرام والاستماع والبطش والتخلي له والتكلم به والاشتهاء له.

"أدرك ذلك لا مَحالة" بفتح الميم؛ أي: أصاب ذلك الحظَّ المكتوب عليه البتة. وقيل: معناه: خلق لابن آدم الحواس التي يجد بها لذة من الزنا، وأعطاه القوى التي بها يقدر عليه، وركز في جبلَّته حب الشهوات. "فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي" والتمنِّي أعم من الاشتهاء؛ لأنَّه يكون في الممتنعات دونه. "والفرج يصدق ذلك": أي: ما تتمناه النفس فيدعو إليه الحواس وهو الجماع. "أو يكذبه": ومعنى تكذيبه تركُه والكف عنه، وإسناد التصديق والتكذيب إلى الفرج بطريق المجاز. أعلم أن هذا ليس على عمومه فإن الخواصَّ معصومون عن الزنا ومقدِّماته، ويحتمل أن يبقى على عمومه بأنَّ يقال: كتب الله على كل فرد من بني آدم صدور نفس الزنا، فمن عصمه الله تعالى بفضله عن الزنا صدر عنه شيء من مقدماته الظاهرة، ومن عصمه بمزيد فضله ورحمته عن صدور مقدماته، وهم خواص عباده، صدر عنه لا محالة بمقتضى الجبلة مقدماتُه الباطنةُ التي هي تمني النفس واشتهاؤها. "وفي رواية: الأذنان زناهما الاستماع، واليد زناها البطش"؛ أي: الأخذ بها. "والرجل زناها الخطى": جمع خطوة، وهي ما بين القدمين، يعني: زناها نقل الخطى؛ أي: المشي إلى ما فيه الزنا. * * *

66 - وعن عِمْران بن حُصَيْن: أنَّ رجلَيْنِ من مُزَيْنَةَ قالا: يا رسول الله! أرأيتَ ما يعملُ النَّاسُ، ويكْدَحُونَ فيهِ، أشيء قُضيَ عليهم ومضَى فيهِم مِنْ قَدَرٍ سبَقَ، أمْ فيما يستقبلُونَ؟ فقال: "لَّا، بل شيء قُضيَ عليهم، وتصديقُ ذلكَ في كتابِ الله - عز وجل -: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 - 8] ". "وعن عمران بن حصين: أن رجلين من مزينة": اسم قبيلة. "قالا: يا رسول الله! أرأيت"؛ أي: أخبرني. "ما يعمل النَّاس" من الخير والشر. "ويكدحون فيه"؛ أي: يسعون في العمل. "أشيء" خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أهو شيء. "قُضي عليهم": فقضي صفة (شيء)، أو (شيء) مبتدأ و (قضي) خبره. "ومضى فيهم من قدر قد سبق، أم فيما يستقبلون"؛ أي: أم شيء لم يُقض عليهم في الأزل، بل هو كائن فيما يستقبلون من الزمان الذي فيه يتوجهون إلى العمل ويقصدون (¬1) من غير سَبْقِ تقديرٍ قبل ذلك. "فقال: لا بل شيء قضي عليهم، وتصديق ذلك" إشارة إلى ما ذكر من أنه قضي عليهم. "في كتاب الله تعالى: {وَنَفْسٍ} الواو فيه للقسم عطفًا على {وَالشَّمْسُ}، أراد بها نفس آدم عليه السلام؛ لأنَّه الأصل، فالتنوين للتقليل. وقيل: المراد: جميع النفوس، فالتنوين للتكثير. {وَمَا سَوَّاهَا} (ما) بمعنى (مَن)؛ أي: ومن خلقها؛ يعني به ذاته تعالى؛ أي: خلقها على أحسن صورة، وزينها بالعقل والتمييز. ¬

_ (¬1) في "م": "ويقصدونه".

{فَأَلْهَمَهَا}؛ أي: أعلمها وركب فيها {فُجُورَهَا} الذي قضى به عليها {وَتَقْوَاهَا} الذي حكم به لها في السابق، والغرض: أنه تعالى ذكر {فَأَلْهَمَهَا} بلفظ الماضي الدال على أن ما يعمل النَّاس من الخير والشر قد جرى في الأزل. * * * 67 - وقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "يا أبا هريرةَ! جَفَّ القلمُ بما أنتَ لاقٍ، فاختَصِ على ذلكَ أو ذَرْ". "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - ": أتيت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فقلت: إنِّي رجل شاب، وإني أخاف العنت، ولست أجد طولاً أتزوج به النساء (¬1)، فأذن لي أن أختصي. "قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: يا أبا هريرة! جف القلم": جفافه كناية عن الفراغ عن التقدير، وثبت المقادير، إذ جفاف قلم الكاتب يكون بعد فراغه عن الكتابة. "بما أنت لاق"؛ أي: بما تفعله وتقوله ويجري عليك. "فاختصِ": أمر من الاختصاء، وهو جعلُ المرء نفسَه خصياً. "على ذلك" في موضع الحال؛ يعني: إذا علمتَ أن كل شيء مقدرٌ فاختصِ حال كون اختصائك واقعاً على ما جف القلم به من الاختصاء. "أو ذر"؛ أي: اترك الاختصاء حال كون تركك واقعًا على ما جف القلم به من تركك، وهذا على وجه اللوم على استئذانه قطع العضو من غير فائدة. * * * 68 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ قُلوبَ بني آدمَ كُلَّهَا بينَ إصبعينِ من أصابعِ الرَّحمنِ، ¬

_ (¬1) في "غ": "بالنساء" بدل "به النساء".

كقلْبٍ واحدٍ يُصرِّفُه كيفَ يشاءُ" ثمّ قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "اللَّهمَّ! مُصَرِّفَ القُلُوبِ، صَرِّفْ قُلُوبنا على طاعَتِكَ" رواهُ عبد الله بن عمرو. "وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين" إطلاق الإصبع عليه تعالى مجاز، قيل: هذا استعارة تخييلية والمستعارُ له التقليب؛ أي: تقليب القلوب في قدرته يسيرٌ. وقيل: معناه: بين أثرين من آثار رحمته وقهره؛ أي: هو قادر على أن يقلِّبها من حال إلى حال، من الإيمان، والكفر، والطاعة، والعصيان، والغلظ، واللين، وغير ذلك. "من أصابع الرحمن": وفي إضافة الأصابع إلى الرحمن إشعار بأنَّ الله تعالى من كمال رحمته على عباده تولى بنفسه أمر القلوب، ولم يكل ذلك إلى أحد من ملائكته كيلا يطَّلع على سرائرهم، ولا يكتب عليهم ما في ضمائرهم. "كقلب واحد يصرفه كيف يشاء"؛ يعني: يتصرف في جميع القلوب كتصرفه في قلب واحد لا يشغله قلب عن قلب. "ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم": أصله: يا الله، فحذف (يا) من أوله وأدخل ميم مشددة في آخره عوضاً عنه. "مصرف القلوب" بالإضافة، نصب صفة (اللهم) عند المبرد والأخفش، ومنادى برأسه عند سيبويه، وقد حذف منه النداء. "صرف قلوبنا إلى طاعتك" وإنَّما قال عليه الصَّلاة والسلام ذلك إرشاداً للأمة التعوذ بالله في جميع أحوالهم من تحول النعمة إلى النقمة، يعني: اطلبوا من الله توفيق الإيمان والطاعة والثبات والدوام على الخيرات، ولا تأمنوا مكر الله. * * *

69 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ مَولودٍ إلَّا يُولَدُ على الفِطرَةِ، فأبَواهُ يُهَوِّدانِهِ، أو يُنصرانِهِ أو يُمَجِّسانِه، كما تُنْتَجُ البَهيمَةُ بَهيمةً جَمْعاء، هل تُحِسُّونَ فيها مِنْ جَدْعاءَ حتَّى تكونُوا أنتمْ تَجدعونهَا؟ "، ثم يقول: " {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: ما من مولود إلَّا يولد على الفطرة"؛ أي: على استعداد قبول الإسلام الذي خلقه الله تعالى في الإنسان من العقل والتمييز بين الحق والباطل والخير والشر بواسطة الشريعة، ولو لم تعترضه آفة من جهة أبويه لاستمر عليها، ولم يختر غير دين الإسلام. "فأبواه يهودانه"؛ أي: يعلمانه اليهودية، ويجعلانه يهودياً. "أو ينصرانه"؛ أي: يجعلانه نصرانياً. "أو يمجسانه"؛ أي: يجعلانه مجوسياً، أو غير ذلك من الأديان ومذاهب البدعة، فإن [طبيعة] الإنسان مخلوقة على قبول ما عرض عليها من الاعتقاد والأفعال والأقوال. "كما تنتج البهيمة": صفة لمصدر محذوف، و (ما) مصدرية؛ أي: يولد على الفطرة ولادةً مثلَ إنتاج البهيمة. "بهيمة جمعاء" الجمعاء من البهيمة هي التي لم يذهب من بدنها شيء، صفة لبهيمة، و (بهيمة) منصوب على الحال على تقدير كون (تنتج) مجهولاً؛ أي: ولدت في حال كونها بهيمة سليمة الأعضاء، أو على أنه مفعول ثان لتنتج معروفاً من أنتج: إذا ولد. "هل تحسون فيها"؛ أي: هل تجدون وتبصرون في تلك البهيمة "من جدعاء": تأنيث الأجدع، وهو مقطوع الأنف أو الأذن أو الشفة، صفة أخرى لبهيمة بتقدير: مقولاً في حقها.

"حتَّى تكونوا أنتم تجدعونها"؛ أي: حتَّى يكون جادعها أنتم لا غيركم، ولولا تعرضكم لها بالجدع لبقيت سليمة كما ولدت، شبه النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ولادته على الفطرة السليمة بولادة البهيمة السليمة عن العيوب، غير أن المراد فيها سلامتها عن العيوب الظاهرة، وهنا سلامتها عن العيوب المعنوية. "ثم يقول": بمعنى قال؛ أي: قرأ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: {فِطْرَتَ اللَّهِ}: منصوب على الإغراء؛ أي: الزموا فطرة الله وداوموا عليها ولا تغيروها. {الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ}؛ أي: خلقهم {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] ": هذا نفي بمعنى النَّهي؛ أي: لا تبدلوا ولا تغيروا ما خلق الله فيكم من قبول الإسلام. * * * 70 - وعن أبي مُوسَى الأَشعَري - رضي الله عنه - قال: قامَ فينا رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - بخمسِ كلِماتٍ، فقال: "إنَّ الله تعالى لا يَنامُ، ولا ينبغي له أَنْ يَنامَ، يخفِضُ القِسْطَ ويرفعُهُ، يُرْفَعُ إليه عملُ الليلِ قبلَ عملِ النهارِ، وعملُ النهارِ قبلَ عملِ الليلِ، حِجَابُهُ النُّورُ، لَوْ كشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ ما انتهى إليهِ بصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ". "وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قال: قام فينا رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - "؛ أي: خطبنا وذكَّرنا. "بخمس كلمات": جمع كلمة، والمراد بها الكلام المفيد المستقل. "فقال: إن الله لا ينام": لأنَّ النوم استراحة القوى والحواس، تعالى الله عن ذلك، كما قال الله تعالى: {لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ} [البقرة: 255]. "ولا ينبغي له أن ينام"؛ أي: يستحيل عليه ذلك؛ لأنَّه المتصرف في ملكه أبدًا بميزان العدل، والأولى تدل على عدم صدور النوم عنه، والثانية على نفي

جوازه عنه مؤكِّدة للأولى. "يخفض القسط ويرفعه" المراد بالقسط: الميزان؛ يعني: يخفض ويرفع ميزان أعمال العباد المرتفعة إليه، يقللها لمن يشاء، ويكثرها لمن يشاء، كمن بيده الميزان يخفض تارة ويرفع أخرى، وميزان أرزاقهم النازلة من عنده، قال تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} [الحجر: 21]. وقيل: المراد به العدل؛ يعني: ينقص العدل في الأرض بغلبة الجور وأهله، ويرفعه تارة بغلبة العدل وأهله. "يرفع إليه"؛ أي: إلى مخزنه. "عمل الليل قبل عمل النهار"؛ أي: قبل أن يشرع العامل في عمل النهار. "وعمل النهار قبل عمل الليل"؛ أي: قبل أن يشرع في عمل الليل، هكذا إلى يوم الجزاء؛ يعني: يعرض عمل كل منهما على حدة قبل عرض الآخر؛ لأنه تعالى وكّل كل واحد منهما إلى ملائكة يتعاقبون في الناس تعاقب الليل والنهار ليكتبوا أعمالهم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار". وإنما رفعت إليه وإن كان أعلمَ بها ليأمر ملائكته بإمضاء ما قضى لفاعله جزاء له على فعله. وقيل: معناه: يقبل الله أعمال المؤمنين في ليلهم قبل النهار، وفي نهارهم قبل الليل، فيكون عبارة عن سرعة الإجابة. "حجابه النور" هذا استئناف جواب عمن قال: لم لا نشاهد الله؟ يعني: هو محتجب بنور عظمته فلا يشاهد، وهذا بالنسبة إلى العباد. "لو كشفه" استئناف أيضًا جواب عمن قال: لم لا يكشف ذلك الحجاب؟ يعني: لو رفع ذلك الحجاب "لأحرقت سبحات وجهه": جمع سبحة وهي العظمة، وقيل: أي: أنوار وجهه، ووجهه ذاته.

"ما انتهى" (ما) موصولة مفعول به لـ (أحرقت)؛ أي: لأحرقت ما وصل "إليه بصره"؛ أي: عِلمه "من خلقه" بيان للموصول أو متعلق بـ (أحرقت)، والمراد جميع الموجودات؛ لأن علمه تعالى محيط بجميع الكائنات ومنتهٍ إليه، يعني: لاضمحل جميع الموجودات من هيبته وفنوا. * * * 71 - وقال: "يَدُ الله مَلأَى، لا تَغِيضُها نفَقَةٌ، سَحَّاءُ الليلَ والنهارَ، أرأيتُمْ ما أنفقَ منذ خَلَقَ السماءَ والأرضَ؟ فإنه لم يَغِضْ ما في يديه، وكانَ عرشُهُ على الماء، وبيدهِ الميزانُ، يَخفِضُ ويَرْفَعُ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. وفي روايةٍ أُخرى: "يمينُ الرَّحمنِ مَلأَى سَحَّاءُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يد الله" هذا كناية عن محل عطائه؛ أي: خزائنه. "ملأى" تأنيث الملآن. "لا تغيضها نفقة"؛ أي: لا ينقصها إنفاقٌ وإعطاءُ رزق لمخلوقاته أبداً؛ لأن له القدرة على إيجاد المعدوم. "سحاء الليل والنهار" من سح: إذا سال من فوق؛ أي: دائمةُ الصبِّ في الليل والنهار، صفة لـ (يد). "أرأيتم"؛ أي: أتعلمون وتبصرون. "ما أنفق" (ما) مصدرية؛ أي: إنفاق الله تعالى على عباده. "مذ خلق السماء والأرض، فإنه"؛ أي: الإنفاق "لم يغض"؛ أي: لم ينقص "ما في يده" (ما) هذه موصولة، وهي مع صلتها مفعول (لم يغض). "وكان عرشه على الماء وبيده الميزان"؛ أي: ميزانُ الأرزاق والأعمال

بقدرته. "يخفض ويرفع" "وفي رواية: يمين الرحمن ملأى سحاء" خص اليمين؛ لأنها مظنة العطاء، وأشار إلى أنها المعطية عن ظهر غنًى؛ لأن الماء إذا انصب من فوق انصب بسهولة، وإلى جزالة عطاياه؛ لأن السح يستعمل فيما بلغ وارتفع عن القطر حد السيلان، وإلى أنه لا مانع لعطائه؛ لأن الماء إذا أخذ في الانصباب لم يستطع أحد أن يرده. * * * 72 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ ذَرَارِي المشركينَ فقال: "الله أعلمُ بما كانوا عامِلين". "وعنه أنه قال: سئل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - عن ذراري المشركين": جمع ذرية؛ أي: سئل عن حكم أطفالهم أنهم من أهل الجنة أو من أهل النار. "فقال - عليه الصلاة والسلام -: الله أعلم بما كانوا عاملين" من الكفر والإيمان، يعني: من علم الله أنه إن عاش وبلغ يصدر منه الكفر يدخله النار، ومن علم الله أنه لو عاش وبلغ يصدر منه الإيمان يدخله الجنة، فلم يقطع - عليه الصلاة والسلام - بكونهم من أهل الجنة، ولا بكونهم من أهل النار، بل أمرهم بالاعتقاد الذي عليه أكثر أهل السنة من التوقف في أمرهم. * * * مِنَ الحِسَان: 73 - عن عُبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أوَّلَ ما خلَقَ الله تعالى القلَمُ، فقال له: اكتُبْ، فقال: ما أكتبُ؟ قال: القَدَر، ما كانَ

وما هو كائن إلى الأَبَدِ"، غريب. "من الحسان". " عن عبادة بن الصامت أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أول ما خلق الله القلم" معناه: أول ما خلق الله من جنس الأقلام ذلك القلم؛ لا أنه أولُ من جميع الأشياء، وكذا تأويل قوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث آخر: "أول ما خلق الله نوري"؛ أي: أنه أولُ من جنس الأنوار، إذ الأوَّلية من الأمور الإضافية. "فقال"؛ أي: الله للقلم: "اكتب، فقال"؛ أي: القلم: "وما أكتب؟ " (ما) استفهامية مفعولٌ مقدمٌ على الفعل. "قال: القدر" منصوب بفعل مقدَّر؛ أي: اكتب القدر؛ أي: المقدَّر المقضيَّ. "ما كان، بدل من (القدر)، أو عطفُ بيان له، "وما هو كائن إلى الأبد". "غريب". * * * 74 - وسُئلَ عمرُ بن الخطَّاب عنْ هذهِ الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية، قال عمر - رضي الله عنه -: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسأَلُ عنها، فقال: "إنَّ الله خلقَ آدمَ، ثمَّ مسحَ ظهرَهُ بيمينهِ، فاستخرَجَ منهُ ذُرِّيَّةً، فقال: خلقْتُ هؤلاء للجنّةِ، وبعملِ أهل الجنةِ يعملون، ثم مَسَحَ ظهرَهُ، فاستخرجَ منه ذُرِّيَّةً، فقال: خلقْتُ هؤلاء للنَّارِ، وبعملِ أهلِ النارِ يعملونَ"، فقالَ رجلٌ: ففيمَ العملُ يا رسولَ الله؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ إذا خَلَقَ العَبْدَ للجنَّةِ استعمَلَهُ بعملِ أهلِ الجنَّةِ حتى يموتَ على عمَلٍ مِنْ أَعمالِ أهلِ الجنَّةِ، فيُدخِلُهُ بِهِ الجنَّة، وإذا خلقَ العبدَ للنَّارِ استعمَلَهُ بعملِ أهلِ النَّارِ، حتى يموتَ على عمَلٍ

مِنْ أَعْمالِ أهلِ النَّارِ، فيُدخِلُهُ بِهِ النَّارَ". "وسئل عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - عن هذه الآية"؛ أي: عن كيفية أخذ الله ذرية بني آدم عن ظهورهم، المذكورِ في هذه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ}؛ أي: أخرج {مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ} بدل من {بَنِي آدَمَ} بدلَ البعض من الكل؛ أي: من ظهور بني آدم {ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ [عَلَى أَنْفُسِهِمْ]}؛ أي: أشهد بعضهم على بعض على هذا الإقرار وعلى هذه الحالة، وقال للذرية: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} استفهام تقرير. {قَالُوا بَلَى} [الزمر: 71] أنت ربنا. "الآية" قيل: كان ذلك قبل الدخول في الجنة بين مكة والطائف. وقيل: ببطن نعمان وادٍ بقرب عرفة. وقيل: كان في الجنة. وقيل: بعد النزول منها بأرض هند. "قال عمر - رضي الله عنه -: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يسأل عنها"؛ أي: عن هذه الآية. "فقال: إن الله خلق آدم ثم مسح ظهره" والماسح إما الملك الموكَّل على تصوير الأجنة، فإسناده إلى الله بأنه هو الآمر به والمتصرف في عباده بما يشاء، كإسناد التوفِّي إليه في قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42] والمتوفي لها الملائكة؛ لقوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} [النساء: 97]، وإما البارئ تعالى فالمسح من باب التمثيل. وقيل: هو من المساحة بمعنى التقدير، كأنه قال: قدَّر وبيَّن ما في ظهره من الذرية. "بيمينه"؛ أي: بقدرته، وفي التنصيص على لفظ اليمين دون اليد تنبيهٌ على تخصيص آدم بالكرامة.

"فاستخرج منه ذريته" قيل: أخرجهم كأمثال الذر وجعلهم على هيئة الرجال والنساء، وجعل فيهم العقول ثم كلمهم. "فقال: خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره بيده فاستخرج منه ذريته فقال: خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون" قيل: الآية تدل على أخذ الذرية من ظهور بني آدم، والحديث يدل على أخذها من ظهر آدم، فالتوفيق أنه كان بعض الذر في ظهر بعض الذرية، والكل في ظهر آدم. "فقال رجل: ففيم العمل" الفاء في (ففيم) جواب شرط مقدَّر؛ أي: إذا كان الأمر كما ذكرت "يا رسول الله" فأي شيء يفيد العمل؟ أو بأي شيء يتعلق العمل؟ "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله"؛ أي: ألزم العمل عليه وأمره "بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به"؛ أي: بسبب ذلك العمل "الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار". * * * 75 - وقال عبد الله بن عَمْرو بن العاص - رضي الله عنهما -، قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يديهِ كتابانِ، فقال للذي في يدهِ اليُمنى: "هذا كتاب مِنْ رَبِّ العالمينَ، فيهِ أسماءُ أهلِ الجنَّةِ وأسماءُ آبائهمْ وقبائلهِمْ، ثمَّ أُجْمِلَ على آخِرِهم، فلا يُزَادُ فيهمْ ولا يُنقَصُ منهمْ أبدًا"، ثمَّ قال للذي في شِمالِهِ: "هذا كتابٌ من ربِّ العالمينَ، فيهِ أسماءُ أهلِ النَّارِ وأسماءُ آبائِهِمْ وأسماء قبائِلِهِمْ، ثمّ أُجْمِلَ على آخِرِهِمْ، فلا يُزَادُ فيهمْ ولا يُنْقَصُ منهمْ أبدًا"، ثمَّ قال بيدَيْهِ فنبذَهُمَا، ثمَّ قال:

"فرغَ ربُّكُمْ مِنَ العِباد، {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} ". "وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي يديه كتابان" الواو للحال، وهذا على سبيل التمثيل والتصوير؛ ليكون أقرب إلى التفهيم. "فقال للذي"؛ أي: لأجل الذي "في يده اليمنى" أو في شأنه، أو المعنى: أشار إليه. "هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم" بأن كتب فيه: إن فلان بن فلان الذي من قبيلة فلان، أو من القرية الفلانية، أو المعروف بفلان، من أهل الجنة، وكذلك اسم كل واحد على هذه الصفة. "ثم أجمل على آخرهم": بأن جميع هؤلاء المذكورين في هذا الكتاب من أهل الجنة، من الإجمال خلاف التفصيل، يقال: أجملت الحساب: إذا رددته من التفصيل إلى الجملة في الرفعة. "فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا"؛ لأن حكم الله لا يتغير. "ثم قال للذي في شماله: هذا كتاب من رب العالمين فيه أسماء أهل النار وأسماء آبائهم وقبائلهم، ثم أجمل على آخرهم فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبدًا، ثم قال بيده"؛ أي: أشار بها "فنبذهما"؛ أي: طرح الكتابين وراء ظهره. "ثم قال: فرغ ربكم من العباد"؛ أي: من أمرهم وشأنهم، يعني: قدَّر أمرهم فجعلهم فريقين. "فريق في الجنة، وفريق في السعير": فلا يتغير تقديره أبدًا، ولا يُعترض عليه بقوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]؛ لأن ذلك عينُ ما قدِّر

وجرى في الأزل كذلك، لا أن يكون تغييرًا وتبديلًا للتقدير. أو المراد منه: محو المنسوخ من الأحكام وإثبات الناسخ، أو محو السيئات عن التائب وإثبات الحسنات بمكافأته وغير ذلك من الوجوه المذكورة في تفسيره. * * * 76 - عن أبي خِزامَةَ، عنْ أبيه قال: قلت: يا رسول الله! أرأيتَ رُقًى نَسترقيهَا، ودواءً نتَداوَى بهِ، وتُقاةً نتَّقيها، هلْ تَرُدُّ مِنْ قدَرِ الله شيئًا؟ قال: "هيَ مِنْ قَدَرِ الله". "وعن أبي خزامة، - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت رُقَى" بضم الراء وفتح القاف: جمع رقية، وهي الدعوات التي تقرأ لطلب الشفاء. "نسترقيها"؛ أي: نطلب تلك الرقى أن يقرأها علينا أحد. "ودواء نتداوى به"؛ أي: نستعمله في الأعضاء. "وتقاةً" بمعنى الاتقاء، وهو الشيء الذي التجأ به الناس كالترس ليُحفظوا من الأعداء، من وقى يقي وقاية؛ أي: حفظ والتاء مقلوبة من الواو. "نتقيها"؛ أي: نلتجئ بها ونحترز (¬1) بسببها من شر الأعداء. "هل تَردُّ"؛ أي: هذه الأسباب. "من قدر الله شيئًا؟ قال: هي"؛ أي: المذكورات من الاسترقاء والاتقاء والتداوي "من قدر الله أيضًا"؛ يعني: كما أن الله تعالى قدَّر الداء قدَّر زوالَه بالدواء، أو بالرقية، وكما أنه خلق في العدو قصد عدوه بالإيذاء خلق في الذي ¬

_ (¬1) في "م": "ونحذر".

يقصده العدوُّ أن يلتجئ إلى قلعة، وأن يدفعه بشيء من الأسباب، فكل من أصابه داء فتداوى بدواء وبرء، فاعلم أنه قدَّر هذا الدواء نافعًا في ذلك الداء، وإلا لن ينفعه دواء جميع أطباء العالم، وعلى هذا فقس جميع الأسباب. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: "فلا رقية إلا من عين أو حمى" فمعناه: لا رقية أولى وأنفع. * * * 77 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خَرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحنُ نتنازع في القَدَرِ، فغضبَ حتَّى احمرَّ وجهُهُ، فقال: "أبهذا أُمِرتُمْ؟ أَمْ بهذا أُرْسِلْتُ إليكُمْ؟ إنَّما هلكَ مَنْ كانَ قَبْلَكُمْ حينَ تنازَعُوا في هذا الأمرِ، عَزَمْتُ عليكُمْ أنْ لا تتنازَعُوا فيهِ"، غريب. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: خرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نتنازع"؛ أي: نتخاصم ونتناظر "في القدر": بأن يقول أحد: إذا كان جميع ما يجري في العالم بقضاء الله تعالى وقدره فلمَ يعذَّب المذنبون، ولم ينسب الفعل إلى الشيطان، حيث قال تعالى: {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} [البقرة: 168] {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} [طه: 120] وغير ذلك. "فغضب - عليه الصلاة والسلام - حتى احمر وجهه" من الغضب، ولم يرض منهم التنازعَ في القدر؛ لأن القدر سرٌّ من أسرار الله لا يطَّلع عليه أحد، وطلبُ سر الله تعالى منهيٌّ عنه. "فقال" - صلى الله عليه وسلم -: "أبهذا" التنازع "أمرتم" الاستفهام للإنكار، يعني: لم يأمركم الله ورسوله بالتنازع في القدر. "أم بهذا أرسلت إليكم؟! إنما هلك من كان قبلكم" من الأمم السالفة

"حين تنازعوا في هذا الأمر"؛ أي: الذي لم يأمرهم الله ورسله (¬1) به من البحث في القدر، وتفضيل بعض الرسل على بعض من تلقاء أنفسهم. "عزمت"؛ أي: أقسمت "عليكم" كان أصله: عزمت بإلقاء اليمين أو إلزام اليمين عليكم. "عزمت عليكم أن لا تنازعوا فيه"؛ بحذف إحدى التاءين؛ أي: أن لا تبحثوا في القدر بعد هذا، و (أن) هذه يمتنع كونُها مصدرية وزائدة؛ لأن جواب القسم لا يكون إلا جملة، و (أن) لا تزاد مع (لا) فهي إذن مفسِّرة كـ (أقسمت أن لا أضربن). "غريب". * * * 78 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله تعالى خلقَ آدمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جميعِ الأرضِ، فجاءَ بنو آدمَ على قَدْرِ الأرضِ، منهمُ الأحمرُ، والأبيض، والأسودُ، وبَيْنَ ذلكَ، والسَّهلُ، والحَزْنُ، والخَبيثُ، والطَّيبُ". "وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى خلق آدم من قبضة" وهي ملءُ الكف من كل شيء، وهنا من التراب. "قبضها من جميع الأرض"؛ أي: من جميع ما قدَّر الله تعالى أن يسكنه بنو آدم من الأرض، والقابض قيل: عزرائيل، وإنما نسب إليه تعالى لأنه بأمره وإرادته. ¬

_ (¬1) في "م": "ورسوله".

"فجاء بنو آدم على قدر الأرض"؛ أي: على لون الأرض وطبعها. "منهم الأحمر والأبيض والأسود" بحسب لون ترابهم. "وبين ذلك"؛ أي: بين الأحمر، والأبيض، والأسود باعتبار أجزاء أرضه. "والسهل" وهو اللين، "والحزن" وهو الغليظ، "والخبيث" المراد: خبث الخصال، "والطيب"؛ أي: طيب الخصال، على طبع أرضهم، وكل ذلك بتقدير الله لونًا وطبعًا وخلقًا. * * * 79 - وعن عبد الله بن عَمْرو - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الله تعالى خلَقَ خلقَهُ في ظُلْمَةٍ، فألقَى عليهِمْ مِنْ نُوره، فمَنْ أصابَهُ مِنْ ذلكَ النُّورِ اهتَدَى، ومَنْ أخطأهُ ضَلَّ، فلذلكَ أقولُ: جفَّ القلمُ على عِلمِ الله". "وعن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله خلق خلقه" من الجن والإنس "في ظلمة"؛ أي: كائنين فيها، والمراد: ظلمة الطبيعة من الميل إلى الشهوات، والركون إلى المحسوسات، والغفلة عن أسرار عالم الغيب. "فألقى عليهم من نوره" صفة لمفعول محذوف؛ أي: ألقى عليهم شيئًا من نوره، فيكون (من) للبيان، ويجوز أن يكون للتبعيض، والمراد منه: نور الإيمان وتوفيق الطاعة وقبول الشريعة. "فمن أصابه من ذلك النور اهتدى"؛ أي: إلى طريق الحق وخرج من ظلمة الطبيعة إلى نور الإيمان. "ومن أخطأه"؛ أي: جاوزه ولم يصل إليه من ذلك النور.

"ضل"؛ أي: خرج من طريق الحق، فبقي في ظلمة الهواء الإنسانية (¬1) والجهل والتكبر وغير ذلك من الخصال المذمومة. "فلذلك"؛ أي: من أجل أن الاهتداء والضلال قد جرى في الأزل. "أقول: جف القلم على علم الله"؛ أي: على ما علمه في الأزل. * * * 80 - قال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثرُ أنْ يقول: "يا مُقلِّبَ القُلوبِ! ثَبتْ قلبي على دينِكَ"، فقلتُ: يا نبيَّ الله! آمنَّا بِكَ، وبما جئتَ بهِ، فهلْ تخافُ علينا؟ قال: "نعمْ، إنَّ القُلوبَ بين أَصبُعَيْنِ مِنْ أصابعِ الله يُقَلَّبهَا كيفَ يشاءُ". "وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك، فقلت: يا نبي الله! آمنا بك وبما جئت به" ليس قولك هذا لأجل نفسك؛ لأنك معصوم عن الخطأ والزلة خصوصًا عن تقلب قلبك عن الدين، وإنما المراد تعليم أمتك. "فهل تخاف علينا" من أن نرتد عن الدين بعد أن آمنا بك. "قال: نعم"؛ يعني: أخاف عليكم. "إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء" مفعول مطلق؛ أي: يقلِّبها تقليبًا يريده، أو حال من الضمير المنصوب؛ أي: يقلبها على أيِّ صفة شاء. * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "النفسانية".

81 - وقال: "مَثَلُ القلْبِ كرِيْشةٍ بأرضٍ فَلاةٍ تُقَلِّمُها الرياحُ ظَهْرًا لِبَطْنٍ"، رواه أبو موسى الأَشْعَري - رضي الله عنه -. "وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مثل القلب كريشة" هي واحدة الريش الذي للطائر. "بأرضٍ فلاةٍ" صفة (أرض)؛ أي: مفازة خالية من النبات والشجر. "تقلبها"؛ أي: تلك الريشة. "الرياح ظهرًا" بدلٌ من الضمير المنصوب بدلَ البعض من الكل. "لبطن" اللام هنا بمعنى إلى، يعني: تقلبها الرياح [من] ظهر إلى بطن، ومن بطن إلى ظهر كل ساعة يقلبها على صفة، فكذلك القلوب تنقلب ساعة من الخير إلى الشر، وساعة من الشر إلى الخير. * * * 82 - عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُؤمنُ عبدٌ حتَّى يُؤمنَ بأربعٍ: يشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله، وأنِّي رسولُ الله بعثَني بالحقِّ، ويؤمنَ بالموتِ، وبالبعْثِ بعدَ الموتِ، ويؤمنَ بالقَدَرِ". "وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يؤمن عبد" نفي لأصل الإيمان. "حتى يؤمن بأربع" فمن لم يؤمن بواحدة منها لم يكن مؤمنًا. "يشهد" بالنصب بدل من (يؤمن). "أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله بعثني بالحق" على كافة الجن والإنس. "ويؤمن بالموت"؛ أي: يعتقد فناء الدنيا وأهلها، كما قال تعالى: {كُلُّ مَنْ

عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] و {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص: 88] لا كما ذهب الدهري من قدم العالم وبقائه، أو الإيمان بالموت اعتقاده أن الموت يحصل بأمر الله، لا كمن زعم أنه يحصل بفساد المزاج. "وبالبعث"؛ أي: يعتقد أن الله يحشر الناس "بعد الموت": ويجمعهم في العرصات للحساب والجزاء. "ويؤمن بالقدر"؛ أي: يعتقد أن جميع ما يجري في العالم بقضاء الله تعالى وقدره. * * * 83 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتي ليسَ لهما في الإسلامِ نَصيبٌ: المُرْجِئه والقَدَرِيَّةُ"، غريب. "وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب" والمراد: سوء حظهم لقلَّته، لا تكفيرهم، كما يقال للمتموِّل البخيل: ليس له من ماله نصيب؛ أي: نصيب كامل. "المرجئة" بالهمزة من الإرجاء وهو التأخير، وهم الذين يقولون: الإيمان إقرار باللسان من غير عمل، سُموا بذلك؛ لتأخيرهم العمل. وقيل: المرجئة هم الجبرية، وهذا أصح، وهم الذين يقولون: إن الأفعال والأقوال كلها بتقدير الله وليس للعباد فيها اختيار، وأنه لا تضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة. "والقدَرية" بفتح الدال وسكونها: هم المنكرون للقدر، القائلون بأن أفعال العباد مخلوقة بقدرته ودواعيهم لا بقدرة الله وإرادته، وإنما نُسبت هذه

الطائفة إلى القدر؛ لأنهم يبحثون في القدر كثيرًا. "غريب". * * * 84 - عن ابن عمر قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يكونُ في أُمَّتي خَسْفٌ ومَسْخٌ، وذلك في المكذِّبينَ بالقَدَرِ". "وعن ابن عمر أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يكون في أمتي خسف" وهو أن يدخل الله أحدًا في الأرض كقارون. "ومسخ": وهو أن يغير الله صورةَ إنسانٍ على غير صورته كما فَعَلَ بقوم من بني إسرائيل فجعلهم قردة وخنازير. "وذلك"؛ أي: الخسف والمسخ. "في المكذبين بالقدر" وإنما عاقبهم الله بهما لأنهم بإضافتهم الكوائن إلى غير الله محقوا خلق الله ومسخوا صور خلقه، فجازاهم الله بمحقٍ ومسخ. وقيل: معناه: إن يكن الخسف والمسخ في أمتي كانا في المكذبين بالقدر؛ لأن هذه الأمة مأمونة منهما، وقيل: محمول على الزجر والوعيد. * * * 85 - وعنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "القَدَرِّية مَجُوسُ هذهِ الأُمَّة، إِنْ مَرِضُوا فلا تعودُوهم، وإنْ ماتُوا فلا تشهدُوهم". "وعنه، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: القدرية مجوس هذه الأمة": سماهم مجوسًا لأن قولهم يشبه قول المجوس، فإنهم يقولون: الخير من فعل النور، والشر من فعل الظلمة، كذلك القدرية يقولون: الخير من الله،

والشر من الشيطان، أو من النفس، فصار مذهبهم مضاهيًا لمذهب المجوس من حيث إضافُة الكوائن إلى إلهين. "إن مرضوا فلا تعودوهم" فإنهم ظهر بينكم وبينهم عداوة ومخالفة في الاعتقاد، فلا يجوز مقاربتهم ومجالستهم. "وإن ماتوا فلا تَشهدوهم"؛ أي: فلا تحضروا جنائزهم للصلاة، فالنهي محمول على الزجر وتقبيحِ اعتقادهم على قولِ مَن لم يَحكُم بكفرهم، وعلى الحقيقة على قول من حكم بكفرهم. * * * 86 - وعن عمر - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُجالسوا أهلَ القدَرِ، ولا تفاتحوهم". "وعن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم"؛ أي: لا تبدؤوهم بالكلام ولا تناظروهم في الاعتقادات؛ لكونهم ضالين مضلِّين. وقيل: معناه: لا تحاكموهم؛ أي: لا ترفعوا الخصومة إلى حاكمهم، قال الله تعالى: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89]؛ أي: احكم به، فعلم من هذه الآية مجيء الفتح بمعنى الحكم. وقيل: لا تبدؤوهم بالسلام. * * * 87 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستةٌ لعنتُهُمْ، لعنَهُمُ الله، وكل نبيٍّ مُجابٍ: الزائدُ في كتابِ الله، والمكذبُ بقدَرِ الله، والمُتسلِّطُ بالجَبَروتِ ليُعزَّ مَنْ أَذَلَّ الله ويُذلَّ مَنْ أَعَزَّ الله، والمستحِلُّ لحُرَمِ الله، والمستحِلُّ منْ عِترتي ما حرَّمَ الله، والتاركُ لسُنَّتي".

"وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: ستة"؛ أي: ستة أشخاص. "لعنتهم"؛ أي: دعوت عليهم باللعن، وهو الطرد والإبعاد من الخير. "ولعنهم الله" بالواو العاطفة، ويروى بدونها إخبارًا؛ أي: إذا لعنتهم فقد لعنهم الله، أو إنشاء دعاء عليهم باللعن من الله تعالى. "وكل نبي" مبتدأ خبره: "يجاب" بصيغة المضارع المجهول؛ أي: تجاب دعوته، ويروى بالميم؛ أي: مجاب الدعوة، والأولى أن تُجعل الجملة حالًا؛ أي: والحال أن من شأن كل نبي إجابة دعائه. "الزائد في كتاب الله تعالى"؛ أي: في نظم القرآن، أو في حُكمه بأن يُدخل فيه ما ليس منه، وكذلك في التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب. "والمكذب بقدر الله والمتسلط"؛ أي: المستولي والغالب "بالجبروت" مبالغة من الجبر، وهو القهر بالتكبر والعظمة. "ليعز من أذل الله تعالى"؛ أي: لإعزاز من أذل الله كالكفار. "ويذل من أعز الله"؛ أي: ولإذلال من أعزه الله كالمسلمين. "والمستحل لحرم الله"؛ يعني: من يفعل في حرم مكة ما لا يجوز فعله من الاصطياد وقطع الشجر ودخولها بغير الإحرام معتقدًا حلَّها. "والمستحل من عترتي" العترة: القرابة، وعترته عليه الصلاة والسلام: أهل بيته الذين حرِّمت عليهم الزكاة، وهم أولاده - عليه الصلاة والسلام - وعليٌّ وأولاده من فاطمة، يعني: من يفعل بهم "ما حرم الله" من إيذائهم وترك تعظيمهم معتقدًا تحليله. ويحتمل أن يراد به: مَن يستحل من عترته - عليه الصلاة والسلام - شيئًا

من المحرمات، فـ (من) بيانية. وخص مستحل الحُرَم والعترة بالذكر، وإن كان كلُّ مستحل لمحرم ملعونًا؛ لأن حرمتهما آكد وأشد؛ لاختصاص الأول بالله، والثاني برسوله - صلى الله عليه وسلم -. "والتارك لسنتي"؛ أي: المعرض عنها بالكلية، أو عن بعضها استخفافًا. * * * 88 - عن مَطَرَ بن عُكامِس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قضَى الله لِعبْدٍ أنْ يموتَ بأرضٍ جعَلَ لَهُ إليها حاجةً". "وعن مطر بن عكامس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قضى الله"؛ أي: إذا أراد "لعبد أن يموت بأرض" وكان هو في غير تلك الأرض "جعل الله"؛ أي: أظهر له "إليها حاجة" من تجارة أو زيارة أو غير ذلك؛ ليأتي بها فيموت فيها. * * * 89 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت: يا رسول الله! ذَرَارِيُّ المؤمنين؟ قال: "مِنْ آبائهم"، فقلتُ: يا رسول الله! بلا عملٍ؟ قال: "الله أعلَم بما كانوا عاملين"، فقلتُ: فذراري المشركين؟ قال: "مِنْ آبائهم"، قلتُ: بلا عمَلٍ؟ قال: "الله أَعلَمُ بما كانوا عامِلين". "وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قلت: يا رسول الله! ذراري المؤمنين"؛ أي: ما حكم أطفالهم. "قال: من آبائهم"؛ أي: يُعلم حكمهم من حكم آبائهم، أو هم معدودون من جملة آبائهم، يعني: إن كان آباؤهم من أهل الجنة فهم كذلك. وقيل: معناه: أتباع لآبائهم، فإن الشرع يَحكم بإسلامه لإسلام أحد

الأبوين، فيصلَّى عليه بموته ويجري التوارث. "فقلت: يا رسول الله! بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين، قلت: فذراري المشركين"؛ أي: فما حكمهم. "قال من آبائهم"؛ أي: يعلم من حكم آبائهم. "قلت: بلا عمل؟ قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" أو معناه: أتباع لآبائهم، فلا يصلَّى عليهم ولا يثبت الإرث بينهم وبين المسلمين كآبائهم. * * * 90 - عن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الوائدةُ والمَوؤدةُ في النَّارِ". "وعن ابن مسعود عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: الوائدة"؛ أي: التي تدفن بنتها في القبر وهي حية فرارًا من الفقر أو العار. "والموؤدة"؛ أي: المدفونة حية. "في النار" روي: أن ابني مليكة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالا: إن أُمَّنا وأدت بنتًا لها، فقال - عليه الصلاة والسلام - هذا الحديث. أما الوائدة فلأنها كانت كافرة، وأما الموؤدة فلأنها ولد الكافر، فيحتمل أنها كانت بالغة، ويحتمل أن تكون غير بالغة ولكن علم - صلى الله عليه وسلم - بالمعجزة كونها من أهل النار، فلا يتعين القطع بهذا الحديث على تعذيب أطفال المشركين؛ لأنه ورد في قضية خاصة فلا يجوز حمله على العموم مع الاحتمال. وقيل: المراد بالوائدة: القابلة، وبالموؤدة لها وهي أم الطفل، وكان من عادة نساء العرب إذا أخذ إحداهن الطلقُ حفرت لها حفرة عميقة فجلست عليها، والقابلة وراءها تترقب الولد، فإن أتت بابن أمسكته، وإن أتت بنتٌ ألقتها في

4 - باب إثبات عذاب القبر

تلك الحفرة وأهالت عليها التراب. * * * 4 - باب إِثْبات عَذَاب القَبْر (باب إثبات عذاب القبر) مِنَ الصِّحَاحِ: 91 - عن البَرَاء بن عازِب - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُسلم إذا سُئِلَ في القَبْر، يشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله وأنَّ محمدًا رسولُ الله، فذلكَ قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}. وفي روايةٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ}: نزلَتْ في عذابِ القَبْرِ، إذا قيلَ له: مَنْ ربُكَ؟ وما دينُكَ؟ ومن نبيُّكَ؟؛ فيقول: ربيَ الله، وديني الإسلامُ، ونبيي محمدٌ - صلى الله عليه وسلم - ". "من الصحاح": " عن البراء بن عازب عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله فذلك قوله"؛ أي: مصداق هذا الحكم قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] وهو كلمة الشهادة. {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}: بأن لا يزلُّوا عنه إذا فُتنوا (¬1). {وَفِي الْآخِرَةِ} [الأعراف: 156]؛ يعني: في القبر عند سؤال منكر ونكير. ¬

_ (¬1) في "م": "افتتنوا".

"وفي رواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} نزلت"؛ أي: هذه الآية "في عذاب القبر إذا قيل له"؛ أي: للميت بعدما وضع في القبر: "من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ " فإن كان مسلما أزال الله الخوف، وثبَّت لسانه في جواب الملكين (¬1). "فيقول: ربي الله، ونبيي محمد، وديني الإسلام" وأما الكافر فيغلب عليه الخوف ولا يقدر على جوابهما، فيكون معذبًا فيه. * * * 92 - وعن أنسٍ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ العبْدَ إذا وُضعَ في قَبْرِه، وتولَّى عنه أصحابُهُ، وإنَّه ليسمَعُ قَرْعَ نِعالِهِم = أتاهُ مَلَكانِ، فيُقعدانه، فيقولانِ: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ - لمحمدٍ -، فأمَّا المؤمنُ فيقولُ: أشهدُ أنَّه عَبدُ الله ورسولهُ، فيقال له: انظُرْ إلى مَقْعدِكَ مِنَ النَّارِ، قد أبدلَكَ الله بهِ مَقْعدًا من الجنَّةِ، فيراهُمَا جميعًا، وأمَّا المُنافِقُ والكافِرُ فيُقالُ له: ما كنتَ تقولُ في هذا الرجلِ؟ فيقول: لا أَدري، كنتُ أقولُ ما يقولُ الناسُ، فيُقالُ له: لا دَرَيتَ ولا تَلَيتَ، ويُضربُ بمِطْرقةٍ من حديدٍ ضربةً، فيصيحُ صَيْحةً يسمعُها مَنْ يليهِ غير الثقلَيْنِ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى"؛ أي: أدبر وأعرض "عنه أصحابه إنه ليسمع قرع نعالهم"؛ أي: صوت دقها، فيه دلالة على حياة الميت في القبر؛ لأن الأحساس بدون الحياة ممتنعٌ عادة، واختلفوا في ذلك؛ قال بعضهم: يكون بإعادة الروح، وتوقَّف أبو حنيفة في ذلك. ¬

_ (¬1) في "م": "في جوابهما".

"أتاه ملكان" قبل أن يمضي زمان طويل. "فيقعدانه" وقد جاء في بعض الروايات: (فيجلسانه) وهو أولى؛ لأن القعود في مقابلة القيام، والجلوس في مقابلة الاضطجاع، يؤيده ما روي: أن نضر بن شميل مثلَ بين يدي المأمون، فقال له: اجلس، فقال: يا أمير المؤمنين! لست بمضطجع فأَجلِسَ، قال: كيف أقول؟ قال: قل: اقعُد. ويحتمل أن يراد بالإقعاد: الإيقاظ والتنبيه لما يسألان عنه بإعادة الروح. "فيقولان ما"؛ أي: أيَّ شيء "كنت تقول في هذا الرجل" الذي بعث إليكم بالنبوة: هل كنت اعتقدت وأقررت بأنه نبي أم لا؟. "لمحمد" عطف بيان لـ (الرجل)، أو بدل منه من لفظ المصنف أو الراوي. "فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار" لو لم تكن مؤمنًا ولم تُجب الملكين. "قد أبدلك الله به"؛ أي: بمقعدك هذه "مقعدًا من الجنة" بإيمانك وإجابة الملكين. "فيراهما جميعًا" ليزداد فرحه ويعرف نعمة الله عليه بتخليصه من النار، وإعطائه من الجنة. "وأما المنافق والكافر فيقال له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول: لا أدري"؛ أي: لا أعلم على الحقيقة أنه نبي أم لا. "كنت أقول"؛ أي: في الدنيا "ما يقول الناس"؛ أي: المؤمنون، قيل: هذا قول المنافق، وأما الكافر فلا يقول في القبر شيئًا، ويحتمل أن يقول الكافر أيضًا دفعًا لعذاب القبر عن نفسه. "فيقال له: لا دريت"؛ أي: لا علمت ما هو الحق والصواب.

"ولا تليت" من تلا يتلو: إذا قرأ؛ أي: ولا قرأت في الكتاب دعاء عليه أو إخبار. قيل: رواية: "ولا تليت" غلط، والصواب: "ولا أتليت" من أتلاه: إذا اتبعه، فالمعنى: ما علمت بنفسك بالنظر والاستدلال حقِّية نبوته، ولا اتَّبعت العلماء بالتقليد فيكون إخبارًا. "ويضرب بمطرقة": وهي آلة الضرب. "من حديد ضربة بين أذنيه فيصيح"؛ أي: يرفع صوته بالبكاء من تلك الضربة. "صيحة يسمعها"؛ أي: تلك الصيحة. "من يليه"؛ أي: يقربُه من الحيوانات. "غير الثقلين" نصب على الاستثناء؛ أي: غير الإنس والجن، فإنهم لا يسمعون صوته؛ لأنهم مكلفون بالإيمان بالغيب، والغيب ما لم يروه من أحوال القبر والقيامة، إذ الإيمان بالمشاهدة والمرئيِّ ضروريٌّ ليس موجبًا للثواب. * * * 93 - عن عبد الله بن عمر: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أحدكم إذا ماتَ عُرِضَ عليهِ مَقْعدُهُ بالغَداةِ والعَشيِّ، إنْ كان مِنْ أهلِ الجَنَّةِ فمنْ أهلِ الجنَّةِ، وإنْ كان مِنْ أهلِ النَّارِ فمنْ أهلْ النارِ، فيُقالُ: هذا مَقْعدُكَ حتى يبعثَكَ الله يومَ القيامَةِ". "وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان"؛ أي: الميت "من أهل الجنة فمن أهل الجنة"؛ أي: فالمعروض عليه من مقاعد أهل الجنة؛ ليزداد شكرًا وفرحًا بطيب

المعروض ونزاهته. "وإن كان من أهل النار فمن أهل النار"؛ أي: فالمعروض عليه من مقاعد أهل النار ليزداد حسرة وندامة. "فيقال: هذا"؛ أي: المقعد المعروض عليك "مقعدك حتى يبعثك الله إليه يوم القيامة" أو المعنى: القبر مقعدك حتى يبعثك الله منه إلى مقعدك الآخر المعروض عليك (¬1). * * * 94 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ يهوديةً دخلتْ عليها، فقالت: أعاذكِ الله مِنْ عذابِ القبرِ، فسأَلتْ عائشةُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ عذابِ القَبْرِ، فقال: "نعَم، عذابُ القبْرِ حقٌّ" قالت عائشةُ: فما رأَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدُ صلَّى صلاةً إلَّا تعوَّذَ مِنْ عذابِ القبرِ. "وعن عائشة رضي الله عنها: أن يهودية دخلت عليها فقالت: أعاذك الله"؛ أي: حفظك "من عذاب القبر" جاز علم اليهودية بعذاب القبر بقراءتها في التوراة، أو سماعها ممن قرأ التوراة، وكانت عائشة لم تعلم ولم تسمع ذلك. "فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عذاب القبر فقال: نعم عذاب القبر حق، قالت عائشة رضي الله عنها: فما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد"؛ أي: بعد ذلك "صلى صلاة إلا تعوذ بالله من عذاب القبر". قيل: يحتمل أنه - عليه الصلاة والسلام - كان قبل هذا يتعوذ منه سرًا، فلما رأى تعجبها منه أعلن به خلف كل صلاة ليَثبت في قلبها ولتقتدي به أمتُه، وجاز أنه - عليه الصلاة والسلام - كان متوقِّفا في شأن أمته فيه قبل أن يوحى إليه، ¬

_ (¬1) في "م" زيادة: "بالغداة والعشي".

فلما أوحي إليه تعوذ منه، أعاذنا الله تعالى بلطفه منه. * * * 95 - عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لولا أنْ لا تَدافَنُوا لَدَعَوْتُ الله أنْ يُسمِعَكُمْ مِنْ عذابِ القَبْرِ"، ثم قال: "تَعَوَّذوا بالله مِنْ عذابِ النّار"، فقالوا: نعوذُ بالله مِنْ عذابِ النَّار، ثم قال: "تَعوَّذُوا بالله مِنْ عذابِ القبرِ"، قالوا: نعوذُ بالله مِنْ عذابِ القَبْرِ، قال: "تعوَّذُوا بالله مِنْ الفِتَنِ ما ظهرَ منها وما بطَنَ"، قالوا: نعوذُ بالله مِنَ الفِتَنِ ما ظهرَ منها وما بطنَ، قال: "تعوَّذُوا بالله مِنْ فتْنَةِ الدَّجَّالِ"، قالوا: نعوذُ بالله مِنْ فتنَةِ الدَّجَّالِ. "وعن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لولا أن لا تدافنوا" بحذف إحدى التاءين؛ أي: لولا مخافة أن لا تدافنوا الدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر"؛ أي: يوصل إلى آذانكم أصوات المعذبين في القبر، فإنكم لو سمعتم ذلك لتركتم التدافن من خوف قلع صياح الموتى أفئدتكم، أو خوف الفضيحة بعذاب أقاربكم (¬1) لئلا يطلع على حالهم. "ثم قال: تعوذوا بالله"؛ أي: اطلبوا منه أن يدفع عنكم. "من عذاب النار" وهذا يدل على أنه لا يجوز لأحد أن يأمن من عذاب الله، بل ينبغي أن يكون خائفًا منه باكيًا على ذنوبه سائلًا من الله العفو والعافية. "فقالوا: نعوذ بالله من عذاب النار، ثم قال: تعوذوا بالله من عذاب القبر، فقالوا: نعوذ بالله من عذاب القبر، ثم قال: تعوذوا بالله من الفتن" جمع فتنة وهي الامتحان، ويستعمل في البلاء والمكر (¬2). ¬

_ (¬1) في "ت" و"غ": "في القرائب" بدل "بعذاب أقاربكم". (¬2) في "م": "والمكروه".

"ما ظهر منها": بدل من (الفتن)، يعني: الجهر. "وما بطن"؛ يعني: السر. وقيل: (ما ظهر) ما يجري على ظاهر الإنسان، و (ما بطن) ما يكون في القلب من الشر (¬1) والرياء والحسد وغير ذلك من مذمومات الخواطر. "قالوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، ثم قال: تعوذوا بالله من فتنة الدجال" وإنما خصص التعوذ من فتنته، لكونها فتنةً عظيمةَ الشأن. "قالوا: نعوذ بالله من فتنة الدجال". * * * مِنَ الحِسَان: 96 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قُبرَ الميتُ أتاهُ ملَكَانِ أسودانِ أزرقان، يُقالُ لأحدهِما: المُنْكَرُ، وللآخرُ: النَّكيرُ، فيقولانِ: ما كُنْتَ تقولُ في هذا الرَّجُلِ؟ فيقولُ: هوَ عبدُ الله ورسولُهُ، أشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمدًا رسول الله، فيقولان: قَدْ كنَّا نعلمُ أنَّكَ تقولُ هذا، ثمَّ يُفْسَحُ لهُ في قبْرِه سبعونَ ذِراعًا في سَبعين ذِراعًا، ثمّ يُنَوَّرُ لهُ فيهِ، ثمَّ يقال له: نَمْ، فيقول: أَرجِعُ إلى أهلي فأُخْبرهُمْ؟ فيقولان: نَمْ كنومة العَرُوسِ الذي لا يُوقظُهُ إلَّا أحبُّ أهلِهِ إليه، حتى يبعثَهُ الله مِنْ مَضْجَعِهِ ذلك، وإنْ كانَ مُنافِقًا قال: سمعتُ الناسَ يقولونَ فقلتُ مِثْلَهُ، لا أَدري، فيقولان: قَدْ كُنَّا نعلمُ أنَّك تقولُ ذلك، فيقولان للأرض: التئِمي عليه، فتلتئمُ عليه، فتختَلِفُ أَضلاعُهُ، فلا يَزالُ فيها مُعذَّبًا حتى يبعَثَهُ الله مِنْ مَضْجَعِهِ ذلك". ¬

_ (¬1) في "م": "الشرك".

"من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قبر الميت"؛ أي: دُفن. "أتاه ملكان أسودان"؛ أي: منظراهما. "أزرقان"؛ أي: عيناهما، وإنما يبعثهما الله تعالى على هذه الصفة لما في السواد وزرقة العين من الهول والوحشة، فيكون خوفهما على الكفار أشد ليتحيروا في الجواب. "يقال لأحدهما: المنكر" مفعول من أَنْكَرَ بمعنى: نكر: إذا لم يعرف أحدًا. "وللآخر: النكير" فعيل بمعنى مفعول من نَكِرَ كعلم: إذا لم يعرفه أحد، سمِّيا بهما لأن الميت لم يعرفهما ولم ير صورة مثل صورتهما. "فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ " فإن كان مؤمنًا "فيقول: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا"؛ أي: الإقرار بالوحدانية ورسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وعلمُهما بذلك إما بإخبار الله تعالى إياهما بذلك، أو بمشاهدتهما في جبينه أثر السعادة وشعاع نور الإيمان. "ثم يفسح"؛ أي: يوسع له "في قبره سبعون ذراعًا في سبعين"؛ أي: طوله وعرضه كذلك؛ لأنه غالب أعمار أمته عليه الصلاة والسلام، فيفسح له في مقابلة كل سنة عبد الله تعالى فيها ذراعًا، أو المراد به الكثرة. "ثم ينوّر له فيه"؛ أي: يجعل له في قبره الضياء والنور، فيه دلالة على أن التنوير بعد الفسح بمهلة، وأن الفسح بعد الجواب بمهلة.

"ثم يقال له: نم" أمر من نام ينام. "فيقول"؛ أي: الميت: "أرجع"؛ أي: أريد الرجوع "إلى أهلي فأخبرهم" بأن حالي طيب ولا حزن لي ليفرحوا بذلك. "فيقولان: نم كنومة العروس" وهو يطلق على الذكر والأنثى. "الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه" والجملة (¬1) صفة للعروس، وإنما شبه نومه بنومة العروس؛ لأنه يكون في طِيْبِ العيش ونيل (¬2) المراد فينام طيب العيش. "حتى يبعثه الله من مَضجَعه ذلك" بفتح الميم والجيم: موضع الضجع، وهو النوم. "وإن كان منافقًا قال: سمعت الناس يقولون: إنه رسول الله، فقلت مثله"؛ أي: مثل قولهم "لا أدري" أنه نبي في الحقيقة أم لا، ومحله نصب على الحال، أو على أنه صفة لـ (مثله). "فيقولان: قد كنا نعلم" برؤيتنا في وجهك أثر الشقاوة وظلمة الكفر. "أنك تقول ذلك"؛ أي: ذلك القول. "فيقال للأرض: التئمي"؛ أي: انضمِّي واجتمعي عليه ضاغطةً له، يعني: ضيقي عليه، وهو على حقيقة الخطاب لا أنه تخييل لتعذيبه وعصره. "فتلتئم عليه الأرض فتختلف أضلاعه": جمع ضلع وهو عظم الجنب؛ أي: تزول عن الهيئة المستوية التي كانت عليها من شدة التئامها عليه، وشدة الضغطة وانعصار جنبيه، ويتجاوز جنبيه من كل جنب إلى جنبه الآخر. ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، والصواب: "والموصول". (¬2) في "م": "وقيل".

"فلا يزال فيها"؛ أي: في الأرض "معذبًا حتى يبعثه الله تعالى من مضجعه ذلك". * * * 97 - ورواه البَراء بن عازِب - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأْتيه مَلَكَانِ فَيُجْلِسانِهِ فيقولان له: مَنْ ربُكَ؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دِينُكَ؟ فيقول: دِيني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعثَ فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان: وما يُدريك؟ فيقول: قرأْتُ كتابَ الله، فآمنتُ بهِ وصدَّقْتُ، فذلك قوله: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، قال: فينادي مُنادٍ من السماء: أنْ صَدَقَ عبدي، فأفْرِشوهُ مِنَ الجنَّةِ، وأَلبسوهُ مِنَ الجنَّةِ، وافتحُوا له بابًا إلى الجنَّة، قال: فيأْتيه من رَوْحِها وطِيْبها، ويفتح لها فيها مَدَّ بصَرِهِ، وأمَّا الكافرُ"، فذكر موتَه، قال: "ويُعادُ رُوحه في جسَده، ويأْتيه مَلَكَانِ، فيُجلِسانِهِ، فيقولان: من ربُّكَ؟ فيقول: هَاه هَاه، لا أدري، فيقولان له: ما دينُك؟ فيقول: هَاه هَاه، لا أَدري، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بُعث فيكم؟ فيقول: هَاه هَاه، لا أدري، فينادي مُنادٍ من السماء: أنْ كذَب، فأَفرِشُوه من النَّار، وأَلبسُوه من النَّار، وافتحوا له بابًا إلى النَّار"، قال: "فيأْتيه من حَرِّها وَسَمُومِها"، قال: "ويُضَيَّقُ عليهِ قبْرُهُ حتَّى تختلفَ فيهِ أضلاعُه، ثُمَّ يُقَيَّضُ لهُ أَعمى أصمُّ، معه مِرْزَبّةٌ من حديدٍ لو ضُرِبَ بها جبلٌ لصار تُرابًا، فيضربه بها ضَربةً يسمعها ما بين المَشرق والمَغرب إلا الثَّقلَيْنِ، فيَصير تُرابًا، ثم يُعادُ فيه الرُّوح". "ورواه"؛ أي: هذا الحديث "براء بن عازب عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " كما رواه أبو هريرة، إلا أن ألفاظهما مختلفة.

قال في رواية البراء: "يأتيه"؛ أي: المؤمن "ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ ": استخبارًا عن صفته. "فيقول: هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيقولان: وما يدريك": استفهام؛ أي: أيُّ شيء أعلمك وأخبرك بما تقول. "فيقول: قرأت كتاب الله"؛ أي: القرآن "فآمنت به" أنه حق. "وصدقت" بما فيه، فوجدت فيه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] و {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [غافر: 62] وغير ذلك من الآيات الدالة على أن ربي وربَّ المخلوقات هو الله تعالى. وفيه أيضًا: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران: 19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]، فعلمت أن لا دين مرضيًا عنده غير الإسلام. وفيه أيضًا: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] و: {قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف: 158] وغير ذلك. "فذلك"؛ أي: مصداق هذا "قوله تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} الآية [إبراهيم: 27]. "قال: فينادي منادٍ من السماء: أن صدق" (أن) مفسِّرة للنداء لأنه في معنى القول، يعني: صدق "عبدي" بما يقول فإنه كان في الدنيا على هذا الاعتقاد فهو مستحق للإكرام. "فأفرِشوه" بألف القطع؛ أي: اجعلوا له فراشًا "من الجنة"؛ أي: من فُرشها، وأصله: أفرشوا له، فحذف اللام الجارة، ووصل الضمير بالفعل اتساعًا، والفاء فيه جواب شرط مقدر.

وقيل: معناه: أعطوه فُرشًا منها. وقيل: أي: اجعلوه ذا فراش منها، وهو الأصوب. "وألبسوه" بقطع الهمزة؛ أي: اكسوه وأعطوه لباسًا "من الجنة، وافتحوا له بابًا إلى الجنة، قال: فيأتيه من رَوْحها وطِيبها"؛ أي: بعض من كل الراحة والطيب أو شيء منهما، وكلُّ طِيبٍ رَوْحٌ بلا عكس. "ويفسح له فيها"؛ أي: في الجنة "مد بصره" قيل: نصب (مد) على الظرف؛ أي: مداه، وهي الغاية التي إليها البصر، والأصوب على المصدر؛ أي: فسحًا قَدْرَ مدِّ بصره. قيل في التوفيق بين هذا وبين قوله: "سبعون ذراعًا في سبعين": إن هذه الفسحة عبارة عما يعرض عليه من الجنة، وتلك عن توسيع مرقده عليه، ويحتمل أن يكون بحسب اختلاف الأشخاص في الأعمال والدرجات. "وأما الكافر فذكر"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام "موته"؛ أي: حالَ موت الكافر وشدته. "قال: ويعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان: من ربك؟ فيقول: هاه هاه" بسكون الهاء بعد الألف: كلمة يقولها المتحير الذي لا يقدر من حيرته أن يستعمل لسانه في فيه. "لا أدري": هذا كأنه بيان وتفسير لقوله: (هاه هاه). "فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فيقولان له: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء أن كذب" (أن) مفسرة للنداء أيضًا؛ أي: كذب هذا الكافر في قوله: (لا أدري) بل جحد نبوته بعدما عَلِمَها حسدًا وبغضًا. "فأفرشوه من النار وألبسوه من النار، وافتحوا له بابًا إلى النار، قال:

فيأتيه من حرها"؛ أي: حر النار وهو تأثيرها "وسمومها" وهو الريح الحارة. "قال: ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه" تقدم بيانه. "ثم يقيض"؛ أي: يقدر "له" ويسلط عليه "أعمى"؛ أي: زبانية لا عين له لكيلا يرحم عليه. "أصم" لا يسمع صوت بكائه واستغاثته فيرقَّ له. "معه مِرْزبَةٌ": وهي ما يدق به المدر، مخففة الباء عند أهل اللغة، والمحدِّثون يشدِّدونها، يعني: عصية. "من حديد لو ضرب بها جبل لصار ترابًا" أي: اندقَّ أجزاؤه كالتراب. "فيضربه بها ضربة يسمعها ما بين المشرق والمغرب إلا الثقلين"؛ أي: الجن والإنس. "فيصير ترابًا ثم يعاد فيه الروح"؛ يعني: لا ينقطع عنهم العذاب بموتهم، بل يعاد فيهم الروح بعد موتهم ليزدادوا عذابًا، قال الله تعالى: {زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ} [النحل: 88]. وإنما ذكر - صلى الله عليه وسلم - في هذا الحديث إعادة الروح في الكافر مرتين إلزامًا لهم بما ينكرونه. * * * 98 - عن عُثمان بن عفَّان - رضي الله عنه -: أنه كان إذا وقفَ على قبرٍ بكى حتَّى يبُلَّ لِحيتَهُ، فقيل له: تذكرُ الجنَّة والنَّار فلا تبكي، وتبكي من هذا؟ فقال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ القبْرَ أوَّلُ منزلٍ مِنْ منازِلِ الآخرة، فإنْ نجَا منهُ فما بعدَهُ أيسَرُ منهُ، وإنْ لمْ ينجُ منهُ فما بعدَهُ أشدُّ منهُ". قال: وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رأَيتُ مَنْظَرًا قطُّ إلا والقبْرُ أفظَعُ منهُ"، غريب.

"وعن عثمان - رضي الله عنه -: أنه كان إذا وقف على قبر"؛ أي: على رأس قبر، أو عنده "بكى حتى يبل لحيته" من الدمع. "فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي" من خوف النار واشتياق الجنة، "وتبكي من هذا؟! "؛ أي: من القبر، يعني: من خوفه. "فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن القبر أول منزل من منازل الآخرة" منها عرصة القيامة عند العرض، ومنها الوقوف عند الميزان، ومنها المرور عند الصراط، ومنها الجنة والنار. "فإن نجا"؛ أي: المقبور. "منه"؛ أي: من القبر، يعني: من عذابه. "فما بعده": من المنازل "أيسر منه" وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه". قيل: إنما يبكي عثمان - رضي الله عنه - وإن كان من جملة المشهود لهم بالجنة، إما لاحتمال أن شهادته - عليه الصلاة والسلام - له بذلك كان في غيبته، ولم تصل إليه، أو وصلت آحادًا فلم يفد اليقين، أو لأنه كان يبكي ليُعلم أنه يخاف مع عظم شأنه وشهادة النبي - صلى الله عليه وسلم - له بالجنة، فغيره أولى بأن يخاف من ذلك ويحترز منه. "قال" عثمان - رضي الله عنه -: "قال رسول الله: ما رأيت منظرًا قط"؛ أي موضعًا ينظر إليه "إلا والقبر أفظع منه"؛ أي: أشد وأفرغ وأنكر من ذلك، قيل: المستثنى جملة حالية من (منظر)، وهو موصوفٌ حذفت صفته؛ أي: ما رأيت منظرًا فظيعًا على حالة من أحوال الفظاعة قط إلا في حالة كون القبر أقبح منه، فالاستثناء مفرَّغ. "غريب". * * *

99 - وعن عُثمان - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا فرَغَ منْ دَفْنِ الميتِ وقفَ عليهَ فقال: "استَغْفِرُوا لأخيكم، ثمَّ سَلُوا له بالتثبيت، فإنه الآنَ يُسْأَل". "وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه"؛ أي: على رأس القبر. "فقال: استغفروا"؛ أي: اطلبوا المغفرة من الله. "لأخيكم (¬1) ثم سلوا له بالتثبيت"؛ أي: بأن يثبته بالقول الثابت، وهو كلمة الشهادة عند سؤال منكر ونكير. "فإنه الآن يسأل" وفيه إشارة إلى أن دعاء الحي ينفع الميت، وأنه يستحب للأحياء أن يدعوا للأموات. * * * 100 - عن درَّاج، عن أبي الهَيْثَم، عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُسلَّطُ على الكافرِ في قبْرِه تسعةٌ وتسعون تِنِّينًا تَنْهَشُهُ وتلدغُه حتى تقومَ الساعةُ، لو أنَّ تِنِّينًا منها نفَخ في الأَرضِ ما أنبتتْ خَضْراء". "وعن دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلط على الكافر"؛ أي: يجعل موكَّلًا عليه ليعذبه ويؤذيه "في قبره تسعة وتسعون تنينًا" وهي حية كبيرة، وتخصيص العدد لا يُعلم إلا بالوحي، ويحتمل أن يقال: إن لله تسعة وتسعين اسمًا فالكافر أشرك بمن له هذه الأسماء فسلط عليه بعدد كل اسم تنينًا. ¬

_ (¬1) في "م": "الميت"، وفي "غ" زيادة: "أي: اطلبوا من الله أن يثبت لسانه بجواب المنكر والنكير".

5 - باب الاعتصام بالكتاب والسنة

أو يقال: قد روي أن لله تعالى مئة رحمة أنزل منها واحدة في الدنيا بين الإنس والجن والبهائم والهوام، بها يتعاطفون، وأخَّر تسعة وتسعين للآخرة لعباده المؤمنين، فسلط عليه في مقابلة كل رحمة للمؤمنين تنينًا. "تنهشه وتلدغه" معناهما واحد، وإنما ذكرهما للتأكيد، قيل: النهش أقوى من اللدغ، إذ [إن] له تأثيرًا عظيمًا كلدغ الحية ونهش الكلب. "حتى تقوم الساعة"؛ أي: القيامة. "لو أن تنينًا منها نفخ"؛ أي: لو وصل ريح فمه وحرارته "في الأرض" لاحترقت الأرض من حرارته بحيث "ما أنبتت خضرًا"؛ أي: نباتًا أصر ولم يبق فيها نباتٌ أو شجر. * * * 5 - باب الاعتِصام بالكتاب والسنة (باب الاعتصام بالكتاب والسنة) الاعتصام: الاستمساك بالشيء، قال الله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} [آل عمران: 103]: أي: تمسكوا القرآن والسنة. مِنَ الصِّحَاحِ: 101 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أحدَثَ في أَمرِنا هذا ما ليسَ منهُ فهوَ رَدٌّ". "من الصحاح": " عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أحدث

في أمرنا هذا"؛ أي: في ديننا وطريقتنا. "ما ليس منه"؛ أي: شيئًا لم يكن له سند ظاهر أو خفي من الكتاب والسنة. "فهو رد"؛ أي: الذي أحدثه مردود باطل. * * * 102 - وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أمَّا بعدُ، فإنَّ خَيرَ الحديث كتابُ الله، وخَيْرُ الهُدي هَدْي محمدٍ، وشرُّ الأُمورِ مُحدثاتُها، وكلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعةٌ، وكلُّ بِدْعةٍ ضَلالةٌ. "وعن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أما بعد": هاتان الكلمتان يؤتى بهما لفصل الخطاب كأنه صدَّر هذا الحديث في أثناء خطبته - صلى الله عليه وسلم - ووعظه. "فإن خير الحديث"؛ أي: الكلام "كتاب الله" الفاء جواب لـ (أما)؛ لأن فيه معنى الشرط. "وخير الهدي هَدْي محمد" (الهدي) بفتح الهاء وسكون الدال: الطريق والسيرة، يطلق على الواحد والتثنية والجمع، فالأول الجمع، والثاني الواحد؛ أي: خير الطريق والسير طريق محمد وسيرته. "وشر الأمور محدَثاتها" بفتح الدال: جمع محدثة، وهي البدعة من الأفعال والأقوال. "وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة" لأن الضلالة ترك الطريق المستقيم والذهاب إلى غيره، والطريق المستقيم الشريعة، وخُص من هذا الحكم البدعةُ الحسنة. * * *

103 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبغَض النَّاسِ إلى الله ثلاثةٌ: مُلْحِدٌ في الحَرَم، ومُبتغٍ في الإسلام سنَّةَ الجاهلية، ومُطلِبٌ دمَ امرئ بغير حق ليُهريقَ دمَه"، رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبغض الناس" (أبغض): أفعل التفضيل من المفعول على الشذوذ، واللام في (الناس) للعهد، والمراد منه عصاة المسلمين، وما قاله بعضٌ من أنها للجنس فبعيد، إذ لا معصية أعظم من الكفر، اللهم إلا أن يُحمل على التهديد. "إلى الله ثلاثة: ملحد في الحرم"؛ أي: مائل عن الحق في حق الحرم، بأن يهتك حرمته ويفعل معصية فيه، فإن المعصية قبيح، وفي الموضع الشريف أقبح، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]. "ومبتغ"؛ أي: طالب "في الإسلام سنة الجاهلية"؛ أي: طريق أهل الجاهلية كالميسر والنياحة، وجزاءِ شخص بجنايةِ مَن هو من قبيلته. "ومطّلب" بتشديد الطاء؛ أي: مجتهد في الطلب. "دم امرئ مسلم بغير حق ليهريق دمه" من هَرَاقَ الماء: إذا صبه، والأصل: أراق، فقلبت الهمزة هاءً. * * * 104 - وقال: "كلُّ أُمتي يَدخلونَ الجنَّة إلَّا مَنْ أَبى"، قالوا: ومَنْ يأْبى يا رسول الله؟ قال: "مَنْ أَطاعني دخلَ الجنَّةَ، ومَنْ عصاني فقد أَبى"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل أمتي يدخلون

الجنة إلا من أبى" إن أريد من الأمة أمةُ الإجابة فالاستثناء منقطع، وإن أريد أمة الدعوة فالاستثناء متصل. "قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى" المراد من العصيان: عدم تصديقه - عليه الصلاة والسلام -، لا الإتيان بمنهيه. * * * 105 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: جاءتْ ملائكةٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو نائمٌ فقالوا: "إن لصاحبكُم هذا مثَلًا فاضرِبُوا له مثَلًا، قال بعضُهُمْ: إنَّه نائمٌ، وقال بعضُهُمْ: إنَّ العيْنَ نائمة والقلبَ يَقْظانُ، فقالوا: مثَلُهُ كمثَلِ رجل بنى دارًا، وجعل فيها مَأْدُبةً، وبعثَ داعيًا، فمَنْ أجابَ الداعي دخلَ الدَّارَ وأكَلَ من المأْدُبة، ومَنْ لمْ يُجبِ الداعي لمْ يدخُلِ الدَّارَ ولمْ يأكْلْ مِنَ المأدُبة، فقالوا: أوِّلُوها لهُ يَفْقَهْها، قال بعضُهمْ: إنَّه نائمٌ، وقال بعضُهُمْ: أنَّ العينَ نائمةٌ والقلْبَ يَقْظانُ، فقال بعضهم: الدارُ الجنَّةُ، والدَّاعي محمدٌ، فمَنْ أطاعَ محمدًا فقد أطاعَ الله، ومَنْ عصى محمدًا فقدْ عصَى الله، ومحمدٌ فرق بينَ الناس". "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: جاءت ملائكة"؛ أي: جماعة من الملائكة "إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ": ليضربوا له مثلًا ليحفظه ويخبر به أمته. "وهو نائم فقالوا"؛ أي: قال بعض أولئك الملائكة لبعض: "إن لصاحبكم هذا"؛ أي: لمحمد - صلى الله عليه وسلم -. "مثلًا" المثل - بفتح الميم - يستعمل في القصة التي فيها غرابة وحُسن؛ أي: له شأنًا عجيبًا. "فاضربوا له مثلًا، قال بعضهم: إنه نائم": فلا يسمع، فلا يفيد ضرب المثل شيئًا.

"وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان" فلا يفوت منه شيء مما تقولون، هذا مناظرة جرت بينهم لبيان [أن] إدراك النفوس القدسية لا يضعف بضعف الحواس واستراحة الأبدان. "فقالوا: مثله كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها"؛ أي: في الدار "مأدُبة" بضم الدال، هو الطعام الذي يصنع للأضياف. "وبعث"؛ أي: أرسل باني الدار "داعيًا" يدعو الناس إلى تلك المأدبة. "فمن أجاب الداعي دخل الدار وكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي لم يدخل الدار ولم يأكل من المأدبة، فقالوا"؛ أي: الملائكة بعضهم لبعض: "أوِّلوها له"؛ أي: فسِّروا القصة أو التمثيل لمحمد - عليه الصلاة والسلام - "يفقهها" بالجزم جواب الأمر؛ أي: يفهمها. "قال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة والقلب يقظان، فقالوا: الدار الجنة والداعي محمد عليه الصلاة والسلام" وإنما لم يذكر المأدبة والباني في تأويلهم؛ لاشتمال الجنة عليها؛ لأنها دار المأدبة (¬1) والمطالب، والباني هو الله تعالى، وهو ظاهر. "فمن أطاع محمدًا فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا فقد عصى الله تعالى" لأنه عليه الصلاة والسلام لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله تعالى ونهى. "ومحمد صلى الله تعالى عليه وسلم فرق" بالتشديد؛ أي: ميَّز وفصَّل "بين الناس": فتبين به المطيع عن العاصي، ويروى بالسكون مصدر بمعنى الفارق؛ أي: فارِقٌ بين المؤمن والكافر. قيل: يحتمل أن يكون جابر قد سمع هذا الحديث منه عليه الصلاة ¬

_ (¬1) في "ت": "المآرب".

والسلام فحكاه كما سمعه، ويحتمل أنه أخبر عما شاهده بنفسه وانكشف له. * * * 106 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَ ثلاثةُ رهطٍ إلى أَزْواجِ النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأَلونَ عن عِبادةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا أُخبرُوا كأنهم تَقالُّوها، فقالوا: أينَ نحنُ مِنَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وقد غَفَرَ الله لهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذنبهِ وما تأخَّر؟ فقال أحدُهم: أمَّا أنا فأُصلِّي الليلَ أبدًا، وقال الآخر: أنا أصومُ النهارَ ولا أُفطِر، وقال الآخر: أنا أَعتزلُ النِّساءَ فلا أَتزوَّجُ أبدًا، فجاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: "أنتمُ الذين قُلْتمْ كذا وكذا؟ أما والله إنِّي لأَخشاكم للهِ وأتقاكُم له، لكنِّي أَصومُ وأُفطِرْ، وأُصلِّي وأَرقُدْ، وأتزوَّجُ النِّساءَ، فمَنْ رغِبَ عن سُنَّتي فليسَ مِنِّي". "وعن أنس - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: جاء ثلاثة رهط" وهي جماعة من الثلاثة إلى العشرة؛ أي: ثلاثة أنفس، قيل: هم عليٌّ وعثمان بن مظعون وعبد الله بن رواحة، وقيل: المقداد، بدل: عبد الله. - رضي الله عنهم -. يعني: جاؤوا "إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي عليه الصلاة والسلام"؛ أي: عن قَدْر عبادته ووظائفه في كل يوم وليلة حتى يفعلوا ذلك. "فلما أخبروا بها كأنهم تقالُّوها"؛ أي: وجدوا تلك العبادة قليلة على أنفسهم، وقد ظنوا أن وظائفه عليه الصلاة والسلام من العبادات كثيرة، وإنما قلَّلها عليه الصلاة والسلام رحمة وشفقة على أمته؛ لئلا يلحقهم ضرر ومشقة بالاقتداء فيها. "فقالوا: أين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: بيننا وبينه عليه الصلاة والسلام بعدٌ بعيد، وفرقٌ عظيم؛ لأنا مذنبون محتاجون إلى مغفرته تعالى، "وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" فينبغي أن تكون العبادةُ نُصبَ أعيننا، ولا نصرف عنها وجوهنا ليلًا ونهارًا.

"فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل"؛ أي أحييها بالصلاة "أبدًا، وقال الآخر: أنا أصوم النهار ولا أفطر"؛ أي: بالنهار. "وقال الآخر: أنا أعتزل النساء"؛ أي: أجتنب وأتباعد منهن "فلا أتزوج أبدًا، فجاء النبي - عليه الصلاة والسلام - إليهم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا" كناية عما وضعوا على أنفسهم شيئًا من العبادات. "أما" مخففٌ: حرف تنبيه، وأكثر ما يقع بعده القسم. "والله إني لأخشاكم"؛ أي: أشدكم خشية "لله وأتقاكم"؛ أي: أشدكم تقوى "له"؛ يعني: إن وضعتم هذه العبادات على أنفسكم من شدة خشيتكم وتقواكم لله، فإن خشيتي وتقواي أشد، ومع هذا ما وضعت على نفسي شيئًا مما وضعتم على أنفسكم. "لكني أصوم وأفطر، وأصلي"؛ أي: في بعض الليل "وأرقد"؛ أي: أنام في بعضها. "وأتزوج النساء" لأن الله تعالى خلقهن للرجال وركَّب فيهم وفيهن الشهوة، كما خلق فيهم الاحتياج إلى الطعام، كما أنه لابد من الطعام فكذلك لا بد للرجال منهن، والتزوُّجُ مباح وسببٌ للعبادة؛ لأنه يحصل به دفع الزنا منهما، ويؤجَر بما يُعطي من النفقة والكسوة. "فمن رغب عن سنتي"؛ أي: تركها وأعرض عنها استهانة بها. "فليس مني"؛ أي: من المقتدين بي والعاملين بسنَّتي. * * * 107 - وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بالُ أقوامٍ يتنزَّهُونَ عنِ الشيءِ أصنَعُه؟ فوالله إنِّي لأَعلَمهُمْ بالله، وأشدُّهُم له خَشْيةً".

"وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما بال أقوام" استفهام للإنكار بمعنى التوبيخ؛ أي ما حالُهم "يتنزهون"؛ أي: يتباعدون ويحترزون "عن الشيء أصنعه" جملة حالية عن (الشيء)، أو اللام في (الشيء) زائدة و (أصنعه) صفته؛ أي: عن شيء أفعله مثل النوم والأكل بالنهار والتزوج. "فو الله أني لأَعلمهم بالله"؛ أي: بعذابه "وأشدهم له خشية" فلو حصل بهذه المباحات عذاب فأنا أولى أن أحترز عنها، قدَّم العلم على الخشية؛ لأنها نتيجته. * * * 108 - وقال رافع بن خَدِيْج: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتم أَعلَمُ بأمرِ دُنياكُم، إذا أُمرتُكُم بشيءٍ منْ أَمرِ دينكُمْ فخُذُوا بهِ". "وقال رافع بن خديج": لما قدم عليه الصلاة والسلام المدينة ورأى أهلها يؤبرون النخل قال: "لعلكم لو لم تفعلوا لكان خيرًا لكم" فتركوا التأبير فنقصت ثمارهم، فذكروا له عليه الصلاة والسلام "قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: أنتم أعلم بأمر دنياكم" وأنا أعلم بأمر دينكم "إذا أمرتكم بشيء من أمر دينكم فخذوا به"؛ أي: افعلوا به. * * * 109 - عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما مَثَلي ومَثَلُ ما بَعَثني الله بهِ كمثلِ رجُلٍ أتى قومًا فقال: يا قوم! إنِّي رأيتُ الجيشَ بعَينَيَّ، وإنِّي أنا النَّذيرُ العُريانُ، فالنَّجاءَ النَّجاءَ، فأطاعَهُ طائفةٌ مِنْ قومهِ فأَدلَجوا، فانطلَقُوا على مَهَلِهِمْ، فَنَجَوا، وكذَّبتْ طائفةٌ منهم، فأصبحوا مكانهمْ فصبَّحَهُمُ الجيشُ فأهلكَهُمْ واجتاحَهُمْ، فذلك مثَلُ من أطاعَني فاتَّبعَ ما جئتُ بِهِ

مِنَ الحقِّ، ومَثَلُ مَنْ عصاني وكذَّب بما جئت بهِ مِنَ الحقِّ". "وعن أبي موسى الأشعري، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إنما مثلي"؛ أي: صفتي "ومثل"؛ أي: صفة "ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومًا فقال: يا قوم إني رأيت الجيش بعينيّ" وفيه إشارة إلى أنه - عليه الصلاة والسلام - تحقق عنده جميع ما أخبره من المغيبات بالمعاينة، ولا كذلك سائر الأنبياء، إذ لم يكن لهم معراج ظاهر حتى يعاينوا تلك الأحوال. "وإني أنا النذير": وهو الذي يخوف غيره بالإعلام. "العريان": هو الذي لقي العدو فسلبوا ما عليه من الثياب، فأتى قومه عريانًا بخبرهم، وهذا مثلٌ يضرب لشدة الأمر ودنوِّ المحذور منه وبراءة المخبر عن التهمة. "فالنجاء النجاء" بالمد والقصر: نصب على الإغراء؛ أي: اطلبوا النجاء، أو على المصدر؛ أي: انجوا النجاء، وهو الإسراع كرِّر للتأكيد. "فأطاعه طائفة": من قومه. "فأدلجوا"؛ أي ساروا من أول الليل. "فانطلقوا على مَهلهم" بفتح الميم والهاء؛ أي: هِيْنتهم وسكونهم "فنجوا، وكذبت طائفة منهم فأصبحوا مكانهم"؛ أي: دخلوا في وقت الصباح في ذلك المكان. "فصبحهم الجيش"؛ أي: أتوهم صباحًا ليُغيروا عليهم. "فأهلكهم واجتاحهم"؛ أي استأصلهم وأهلكهم بالكلية بشؤم التكذيب. "فذلك"؛ أي: المثل المذكور "مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به" وهذا ليعلم أنه لا ينبغي أن يستريح بظاهر الطاعة من غير اتِّباع ما جاء به.

"من الحق ومثل من عصاني وكذب بما جئت به من الحق" فيه إشارة إلى أن مطلق العصيان غير مستأصل، بل العصيان مع التكذيب بالحق. * * * 110 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلي كمثَلِ رجلٍ استوقدَ نارًا، فلمَّا أضاءتْ ما حولها جعلَ الفَراشُ وهذهِ الدوابُّ التي تقعُ في النَّارِ يقعنَ فيها، وجعلَ يحجُزُهُنَّ، ويغلِبنهُ فيقتَحمنَ فيها، قال: فذلكَ مَثَلي ومَثَلُكم، أنا آخذ بحُجَزِكُمْ عَنِ النَّارِ: هلُمَّ عنِ النارِ، هلمَّ عنِ النارِ، فتغلِبونني فتقحَّمُون فيها". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مثلي كمثل رجل استوقد نارًا" بمعنى أوقد. "فلما أضاءت" من الإضاءة، وهو فرطُ الإنارة. "ما حولها"؛ أي: جوانب تلك النار. "جعل"؛ أي: طفق. "الفراش"؛ أي: دويبة تطير تتساقط في النار. "وهذه الدواب": إشارة إلى غير الفراش. "التي تقع في النار"؛ أي: عادتها إلقاء أنفسها في النار كالبق والبعوض. "يقعن فيها"؛ أي: الفراش والدواب في النار. "وجعل"؛ أي: الرجل المستوقد. "يحجزهنَّ"؛ أي: يمنعهن عن الوقوع ويبعدهن عنها. "فيغلبنه"؛ أي: الفراشُ وتلك الدوابُّ عليه، فلا يقدر أن يدفعهن عنها. "فيتقحمن فيها"؛ أي: يلقين أنفسهن في النار بغتةً من غير رويَّةٍ.

"قال: فذلك"؛ أي: المثل المذكور. "مثلي ومثلكم أنا آخذ بحُجَزكم" بضم الحاء وفتح الجيم: جمع حُجْزة، وهي مقعد الإزار، وإنما خصها - صلى الله عليه وسلم - لأن محلَّ الزنا الذي هو أفحش الفواحش تحتها، أو لأن أخذ الوسط أقوى وأوثق من الأخذ بأحد الطرفين في التبعيد. يعني: أمنعكم "عن النار": قائلًا لكم: "هلم"؛ أي: أسرعوا إليَّ وأبعدوا أنفسكم "عن النار، هلم عن النار" كرَّر لفرط الاهتمام. "فتغلبوني" بالنون المشددة، أصله: فتغلبونني، فأدغم نون الجمع في نون الوقاية. "تقحَّمون فيها" بحذف إحدى التاءين تخفيفًا؛ أي: ترمون أنفسكم في النار بفعل المعاصي، وهو حال من فاعل (تغلبوني). وفي الحديث: إخبار عن فرط شفقته - صلى الله عليه وسلم - على أمته وحفظهم عن العذاب. * * * 111 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مثلُ ما بعثَني الله بهِ منَ الهُدَى والعِلْم كمثلِ الغَيْثِ الكثير، أصابَ أرضًا، فكانتْ منها طائفةٌ طيبةٌ قَبلتِ الماءَ، فأَنبتتِ الكلأَ والعُشْبَ الكثيرَ، وكانتْ منها أَجادِبُ أَمسكتِ الماءَ، فنفعَ الله بها الناسَ، فشرِبُوا وسَقَوْا وزَرَعوا، وأصابَ منها طائفةً أُخرى إنَّما هيَ قِيعان لا تُمسكُ ماءً ولا تُنبتُ كلأً، فذلكَ مثَلُ مَنْ فَقهَ في دينِ الله ونفعَهُ ما بعثني الله بهِ فعَلِمَ وعَلَّم، ومثَلُ مَنْ لمْ يرفعْ بذلكَ رأْسًا ولم يقبَلْ هُدَى الله الذي أُرسِلْتُ بهِ"، رواه أبو مُوسَى الأَشْعَري - رضي الله عنه -. "وعن أبي موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَثَلُ ما بعثني الله به من الهدى والعلم"، (الهدى): الدلالة الموصلة إلى الحق، والمراد

بـ (العلم) هنا: الوحيان الظاهر والخفي، والهدى وسيلةٌ إلى العلم، فلذا قدمه - صلى الله عليه وسلم -، وفي "العوارف": العلم جملةٌ موهوبة من الله تعالى للقلوب، والهدى وجدان القلوب ذلك. ويجوز أن يكون المراد منهما شيئًا واحدًا. "كمثل الغيث"؛ أي: المطر. "الكثير": وإنما مثَّل - عليه الصلاة والسلام - العِلْمَ بالغيث؛ لأنه يحيي القلب الميت إحياء الغيث البلدَ اليابس، وشبهه بالغيث دون المطر لأن الغيث هو المطر المحتاج إليه، وقد كان الناس محتاجين إلى الهداية والعلم قبل مبعثه، فأفاض الله عليهم سجال العلم والهدى ببعثه عليه الصلاة والسلام، ووصفه بالكثير لأن الإنبات لا يحصل إلا بالكثير منه. "أصاب أرضًا": صفة للغيث على تقدير أن تكون اللام فيه للجنس أو زائدةً. "فكانت منها"؛ أي: من الأرض، صفة (طائفة) قدِّمت عليها فصارت حالًا. "طائفة"؛ أي: قطعة. "طيبة"؛ أي: غير خبيثة بسباخٍ ونحوه. "قبلت الماء"؛ أي: دخل الماء فيها لِلِينها. "فأنبتت" عقيب قبول الماء. "الكلأ والعشب الكثير" قيل: (الكلأ) هو العشب يابسًا كان أو رطبًا، و (العشب) الكلأ الرطب، فيكون عَطَفَ الأخصَّ على الأعم للاهتمام بشأنه. "وكانت منها أجادب" بالجيم والدال المهملة: جمع أجدب، وهي الأرض الصلبة التي لا تنبت. "أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا" دوابهم.

"وزرعوا به" فهذان القسمان من الأرض منتفع بهما. "وأصاب منها طائفةً أخرى إنما هي قيعان": جمع قاع، وهي الأرض المستوية. "لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً" لكونها سبخةً، وإنما نفًى الكلأ لأن بعض القيعان قد ينبت كلأً وإن لم يمسك ماء. وفيه تنبيه على أنها غير قابلة أصلًا لا للانفعال ولا للفعل. "فذلك"؛ أي: المذكور من الأنواع الثلاثة للأرض "مثل من فقُه" بالضم؛ أي: صار فقيهًا "في دين الله، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلَّم" بتشديد اللام، هذا مثل الطائفة الأولى التي قبلت الماء وأنبتت الكلأ، فقبول الماء إشارة إلى العلم، وإنبات الكلأ إشارة إلى التعليم. "ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا" عدم رفع رأسه بالعلم كنايةٌ عن عدم الانتفاع به؛ لعدم العمل به، أو للإعراض عنه إلى حطام الدنيا، هذا مَثَلُ الطائفة الثانية التي لم تقبل الماء، فأمسكته فنفع الله بها الناس. "و" مثل من "لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به": وهو الدين هذا مثل الطائفة الثالثة التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً. * * * 112 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: تلا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} "، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا رأيتِ الذينَ يتَّبعون ما تشابهَ منه، فأولئكَ الذينَ سمَّى الله، فاحذَروهم". "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ

{الْكِتَابَ"؛ أي: القرآن. {مِنْهُ}؛ أي: بعضه {آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} قيل: المحكم: ما أمن من احتمال التأويل والنسخ والتبديل كالنصوص الدالة على ذات الله تعالى وصفاته. {هُنَّ}؛ أي: تلك الآيات. {أُمُّ الْكِتَابِ}؛ أي: أصله. {وَأُخَرُ}؛ أي: آيات أُخَر. {مُتَشَابِهَاتٌ} المتشابه: ما بلغ في الخفاء نهايته ولا تُرجى معرفته، كقوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10]. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}؛ أي: ميلٌ عن اتباع الحق إلى الباطل. {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ}؛ أي: يبحثون فيه. {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}؛ أي: لطلب إيقاع الشك والخصومة بين المسلمين. {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}؛ أي: استنباط معانيه. {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} الآية". "قالت"؛ أي: عائشة: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإذا رأيت": خطاب لعائشة، رضي الله تعالى عنها، وغيرها داخل فيه بطريق التبعية، بقرينة (فاحذروهم). "الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك سمى الله"؛ أي: سماهم أهل الزيغ. "فاحذروهم"؛ أي: لا تجالسوهم ولا تكالموهم. * * * 113 - وقال عبد الله بن عمْرو - رضي الله عنهما -: هجَّرْتُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فسمعَ صوتَ رَجلينِ اختلفا في آيةٍ، فخرجَ يُعرفُ في وجههِ الغضَبُ، فقال:

"إنما هلكَ مَنْ كانَ قبلكُمْ باختلافِهِمْ في الكتابِ". "وقال عبد الله بن عمرو: هجَّرت" بالتشديد؛ أي: سِرْتُ وقتَ الهاجرة، وهو نصف النهار عند اشتداد الحر. "إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا"، وإنما سار في هذا الوقت؛ ليكون حاضرًا في المسجد، أو في بابه قبل خروجه عليه الصلاة والسلام؛ حتى لا يفوت منه شيء مما صدر عنه - عليه الصلاة والسلام - من الأفعال والأقوال. وفيه: إشارة إلى اهتمام الراوي بأمر الدين واقتباس العلم. "فسمع رسولُ الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - من حُجرته صوتَ رجلين اختلفا": صفة (رجلين)؛ أي: تنازَعَا وتخاصَمَا. "في آية"؛ أي: في معنى آية متشابهة، ويحتمل أن يكون اختلافهما في لفظهما حتى ارتفعت أصواتهما. "فخرج" عليه الصلاة والسلام "يُعرف في وجهه الغضب": جملة حالية من فاعل (خرج). "فقال: إنما هلك مَن كان قبلكم" من اليهود والنصارى "باختلافهم في الكتاب": المنزل على نبيهم من التوراة والإنجيل، بأنْ قال كل واحد منهم ما شاء من تلقاء نفسه. * * * 114 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَرُوني ما تركتُكُمْ، فإنَّما هلكَ مَنْ كان قبلَكُمْ بكثْرةِ سُؤالهمْ واختلافِهِمْ على أنبيائهِمْ، فإذا أمرتُكُمْ بشيءٍ فأْتُوا منهُ ما استطعتُمْ، وإذا نهَيْتُكُمْ عَنْ شيءٍ فَدَعُوه"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذروني": اتركوني

ولا تسألوني من الأمر بشيءٍ والنهي عنه. "ما تركتكم"؛ أي: مدةَ تركي إياكم. "فإنما هلك مَن كان قبلكم بكثرة سؤالهم": فيه إشارة إلى أن بعض السؤال لا يضرُّ إذا كان بقَدْر الحاجة. "واختلافهم على أنبيائهم"؛ فإن كثرة السؤال والاختلاف عليهم كان سببًا لهلاكهم؛ لأنها من أمارات التردد في الباعث والمبعوث. "فإذا أمرتكم بشيء فَأْتُوا منه ما استطعتم"، ولا تتركوا أمري على الجحود. "وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه"؛ أي: اتركوه. * * * 115 - وقال: "إن أعظمَ المُسلمينَ في المُسلمينَ جُرْمًا مَنْ سألَ عَنْ شيءٍ لمْ يُحرَّمْ، فَحُرِّمَ من أجلِ مسألتِه"، رواه سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه -. "وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا"؛ أي: ذنبًا كائنًا فيهم. "مَن سأل نبيَّه عن شيء لم يُحرَّم": هل هو حرام أم لا؟ "فُحرِّم من أجل مسألته": هذا في حق مَن سأل عبثًا وتكلُّفًا فيما لا حاجةَ به إليه، فسكوتُ النبي - عليه الصلاة والسلام - في مثل هذا عن جوابه ردعٌ لسائله (¬1). وإن أجيب عنه كان تغليظًا له، فيكون بسببه تغليظًا على غيره، وإنما كان ¬

_ (¬1) في "م": "لقائله".

أعظمَ جرماً؛ لتعدي جنايته إلى جميع المسلمين بشؤم لَجَاجه. وأما مَن سألَ لاستبيان حكمٍ واجبٍ أو مندوبٍ أو مباحٍ قد خفيَ عليه فلا يدخل في هذا الوعيد، قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43]. * * * 116 - وقال: "يكونُ في آخرِ الزَّمانِ دجَّالونَ كذَّابونَ، يأْتُونكُمْ مِنَ الأحاديثِ بما لمْ تسمعُوا أنتمْ ولا آباؤُكم، فإيَّاكُمْ وإيَّاهُمْ، لا يُضلُّونكمْ، ولا يفتِنُونَكُمْ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون في آخر الزمان دجَّالون" جمع: دجَّال، وهو كثير المكر والتلبيس؛ أي: الخدَّاعون؛ يعني: سيكون جماعة يقولون للناس: نحن علماء ومشايخ ندعوكم إلى الدين وهم "كذَّابون" في ذلك. "يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم"؛ أي: يتحدثون بالأحاديث الكاذبة، ويبتدعون أحكاماً باطلة، ويعلِّمون الناسَ اعتقاداتٍ فاسدةً، كالروافض والمعتزلة والجَبْرية وغيرهم من أهل البدع. "فإياكم"؛ أي: بعِّدوا أنفسَكم عنهم. "وإياهم"؛ أي: باعدوهم عنكم. "لا يُضلُّونكم": استئناف جواب لقائلٍ: لِمَ نتَّقيهم؟ أي: لئلا يُضلُّونكم. "ولا يفتنونكم"؛ أي: يوقعونكم في الفتنة، وهي الشرك، قال تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة:191]، أو يراد بها عذاب الآخرة، قال تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14].

117 - وقال: "لا تُصدِّقُوا أهلَ الكتابِ ولا تُكذبوهم، و {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} الآية"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعنه أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تصدِّقوا أهلَ الكتاب" فيما لا يتبيَّن لكم صدقه؛ لاحتمال أن يكون كذباً؛ لأنهم حرَّفوا كتابهم. "ولا تكذِّبوهم"؛ لاحتمال أن يكون صدقاً. "وقولوا: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} "؛ يعني: القرآن. "الآية". وفيه: إشارة إلى التوقُّف فيما أَشكل من الأمور والعلوم، وعليه كان السَّلَف. * * * 118 - وقال: "كفَى بالمَرءَ كَذِبًا أَنْ يُحدِّثَ بكلِّ ما سَمعَ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعنه أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كفى بالمرء"، والباء زائدة. "كذبًا": نصب على التمييز. "أن يُحدِّث": فاعل (كفى)؛ يعني: لو لم يكن للمرء كذبٌ إلا تحدُّثُه "بكل ما سمع" من غير تيقُّن أنه صدق أو كذب لكفاه من الكذب؛ إذ لا يكون بريئا منه، وهذا زجر عن التحدُّث بشيءٍ لم يُعلَم صدقُه. * * * 119 - وقال: "ما مِنْ نبي بعثَهُ الله في أُمَّتهِ قبلي إلَّا كان لهُ مِن أُمّتهِ حواريُّونَ وأصحابٌ يأخذونَ بسنَّتهِ ويقتدُونَ بأمرهِ، ثمَّ إنَّها تخلُفُ منْ بعدِهم

خُلوفٌ يقولونَ ما لا يفعلون، ويفعلونَ ما لا يُؤمَرُون، فمنْ جاهدَهُمْ بيدِه فهوَ مؤمنٌ، ومَنْ جاهدَهُمْ بلسانهِ فهوَ مُؤمنٌ، ومَنْ جاهدَهُمْ بقلبهِ فهوَ مُؤمنٌ، ليسَ وراءَ ذلكَ منَ الإيمانِ حبَّةِ خَردلٍ" رواه ابن مَسْعود - رضي الله عنه -. "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي"، وروي: "في أمة"، قيل: هو الصواب. "إلا كان له من أمته حَوارُّيون" جمع: حَواري، وهو الناصر وصاحب السِّر. "وأصحابٌ يأخذون بسُنَّته ويقتدون"؛ أي: يتبعون "بأمره": يُحمل هذا على الغالب؛ لأنه قد جاء في حديث آخر: "أن نبيّاً يجيء يومَ القيامة ولم يتبعه من أُمته إلا واحد". "ثمَّ إنها" - الضمير للقصة - "يخلف من بعدهم"؛ أي: يَحدُثون بعدَهم "خُلوف" بضم الخاء: جمع خَلْف بفتح الخاء مع السكون، وهو الخليفة السيئ، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ} [مريم:59]. "يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يُؤمَرُون، فمَن جاهَدَهم"؛ أي: حارَبَهم وآذاهم "بيده فهو مؤمن، ومَن جاهَدَهم بلسانه"؛ أي: يؤذيهم به بالأمر المعروف والنهي عن المنكر "فهو مؤمن، وليس وراء ذلك"؛ أي: وراء الجهاد بالإنكار "من الإيمان حَبَّةُ خَردل"؛ يعني: مجرد الإنكار أدنى المراتب، فمَن لم يجده في قلبه فَلْيعلَمْ أنه لم يبق فيه من نور الإيمان مقدار هذه الحَبة، فَلْيعالِجْ باطنَه. * * * 120 - وقال: "لا يَزالُ من أُمَّتي أُمةٌ قائمةٌ بأمرِ الله لا يضرُّهم مَنْ خذلَهُمْ

ولا مَنْ خالَفَهُمْ حتى يأتي أمرُ الله وهم على ذلك"، رواه مُعاوية - رضي الله عنه -. "وعن معاوية أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزال من أُمتي" يريد: أمة الإجابة. "أُمةٌ"؛ أي: طائفةٌ قائمةٌ "بأمر الله"؛ أي: بشريعته ودينه، وقيل: الجهاد؛ يعني: لا يزال منهم مواظبون ومحافظون عليه. "لا يضرُّهم مَن خَذَلَهم"؛ أي: ترك عَونَهم ونصرتَهم. "ولا مَن خالَفَهم، حتى يأتي أمرُ الله"؛ أي: القيامةُ "وهم على ذلك" وهذا إشارة إلى أن وجه الأرض لا يخلو من الصُّلَحاء الثابتين على أوامر الله؛ متباعدين عن المناهي، حافظين أمورَ الشريعة، يستوي عندهم معاونة الناس ومخالفتهم، أو المجاهدين في سبيل الله. * * * 121 - وقال: "لا تزالُ طائفة مِنْ أُمّتي يُقاتِلُونَ على الحقِّ ظاهرينَ إلى يومِ القيامةِ"، رواه جابر - رضي الله عنه -. "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق": متعلق بـ (يقاتلون)، أو بقوله: "ظاهرين"؛ أي: حالَ كونهم غالبين، ويجوز أن يكون الجار والمجرور خبر (لا يزال)، فيكون (يقاتلون): صفة (طائفة). قيل: هم جيوش الإِسلام، وقيل: هم العلماء والآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، فتكون مقاتلتُهم معنويةً. "إلى يوم القيامة"؛ أي: إلى قربه، وهو حين تأتي الريح، فتأخذ رُوحَ كل مؤمن ومؤمنة. * * *

122 - وقال: "مَنْ دعا إلى هُدًى كان لهُ مِنَ الأجرِ مثلُ أُجورِ منْ تَبعَهُ، لا ينقُصُ ذلكَ مِنْ أُجورِهِمْ شيئًا، ومَنْ دعا إلى ضلالةٍ كان عليهِ مِنَ الإثْم مثلُ آثامِ مَنْ تبعهُ، ولا ينقصُ ذلكَ مِنْ آثامهِمْ شيئًا". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن دعا إلى هدى"؛ أي: ما يُهتدَى به من الأعمال الصالحة. "كان له"؛ أي: لذلك الداعي "مِن الأجر مثلُ أجور مَن تبعَه"؛ وذلك لأنَّ الدعاءَ إلى الهُدى خصلةٌ من خِصال الأنبياء. "لا ينقص ذلك": إشارة إلى مصدر (كان). "من أجورهم شيئًا": مفعول به أو تمييز، بناءً على أن (نقص) يأتي لازمًا ومتعدياً، وهذا دفعٌ لِما يُتوهَّم أن أجرَ الداعي إنما يكون مِثْلًا بالتنقيص من أجر التابع وضمِّه إلى أجر الداعي. "ومَن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مِثلُ آثام مَن تبعَه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا". * * * 123 - وقال: "بدَأَ الإِسلامُ غريبًا، وسَيعودُ غَريبًا كما بدأَ، فطُوبَى للغُرباءَ". "وعنه أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بدأ الإِسلام غريبًا"؛ يعني: الإِسلام حين بدأ كان غريباً لقلته وعزة وجوده وقلة أعوانه. "وسيعود" في آخر الزمان غريبًا "كما بدأ؛ فطُوَبى": مصدر من: طاب، كـ (بُشْرَى)، أو هو اسم شجرة من الجنة.

"للغرباء"؛ أي: للمسلمين الذين في أوله وآخره؛ لصبرهم على الأذى، وقيل: المراد بالغرباء: المهاجرون الذين هاجروا إلى الله - عز وجل -. * * * 124 - وقال: "إنَّ الإِيمانَ لَيَأْرِزُ إلى المدينةِ كما تأرِزُ الحيَّةُ إلى جُحرِها". روى هذه الأحاديث الثلاثة أبو هُريرة - رضي الله عنه -. "وعنه أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الإيمان لَيَأرِزُ"؛ أي: ينضمُّ "إلى المدينة"، ويجتمع بعضه إلى بعض فيها؛ لأنها وطنُه الذي ظهرَ وقويَ فيها. "كما تَأْرِزْ الحيةُ إلى جُحرِها"؛ أي: ثقبها، أو المراد: أن أهل الإيمان يفرُّون بإيمانهم إليها وقاية بها عليه، هذا إخبار عن آخر الزمان حينَ يقلُّ أهلُ الإِسلام. وقيل: هذا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لاجتماع الصحابة في ذلك الزمان فيها، والمراد بـ (المدينة): جميع الشام؛ فإنها من الشام وخُصَّت بالذّكر لشرفها. * * * مِنَ الحِسَان: 125 - عن رَبيعةَ الجُرَشيِّ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: لِتنَمْ عينُك، ولْتسمَعْ أذُنُك، ولْيَعقِلْ قلْبُك، قال: "فنامتْ عَيْني، وسمعَتْ أُذُني، وَعقَلَ قلْبي، قال: فقيل لي: سيدٌ بني دارًا، فصنعَ فيها مَأدُبةً، وأرسلَ داعيًا، فمنْ أجابَ الدّاعيَ دخلَ الدارَ، وكلَ من المَأدُبة، ورضيَ عنهُ السيدُ، ومَنْ لمْ يُجب الدّاعيَ لمْ يدخلِ الدّارَ، ولمْ يأكْل من المأدُبة، وسخِطَ عليه السيد، قال: فالله السيدُ، ومحمدٌ الداعي، والدارُ الإِسلامُ، والمَأدبةُ الجنَّة".

"من الحسان": " عن ربيعة الجُرَشي" بضم الجيم وفتح الراء المهملة: ناحية من اليمن. "أنَّه قال: أُتي نبي الله - صلى الله عليه وسلم - " على صيغة المجهول؛ أي: أتاه آت. "فقيل له"؛ أي: للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "لِتَنَمْ عينُك وَلْتَسمَعْ أذنُك وَلْيعقِلْ قلبُك"، قيل: هذا أمر في معنى الخبر، والظاهر أنَّه أمر به - عليه الصلاة والسلام - استجماعًا لحواسِّه؛ يعني: لتكنْ عينُك وأذنُك وقلبُك حاضرةً؛ لتَفهمَ هذا المَثَلَ. "قال: فنامت عيناي، وسمعت أذناي، وعقل قلبي، قال عليه الصلاة والسلام: فقيل لي: سيدٌ": - خبر مبتدأ محذوف، (بني): صفته؛ أي: الممثَّل به سيدٌ "بني دارًا"، ويجوز أن يكون (سيد) مبتدأ، و (بني): خبره "فصنع فيها مأدُبةً وأرسل داعيًا، فمَن أجاب الداعيَ دخل الدارَ، وأكلَ مِن المأدُبة ورضي عنه السيدُ" اللام: للعهد. "ومَن لم يُجبِ الداعيَ لم يدخل الدارَ، ولم يأكل مِن المأدُبة، وسخط عليه السيدُ، قال - صلى الله عليه وسلم -: فالله السيد"، فيه: دلالة على جواز إطلاق (السيد) عليه. "ومحمدٌ الداعي، والدارُ الإِسلامُ" بطريق الاستعارة. "والمَأدُبة الجنةُ"، وهذا يُؤذِن بأن الإِسلامَ أوسعُ من الجنة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - مثَّل الإِسلامَ بالدار، والجنةَ بالمأدُبة المصنوعة في الدار، والمحيطُ أوسعُ من المُحاط. * * * 126 - وعن أبي رافِعِ - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أُلفِيَنَّ أحدكُمْ متَّكِئاً على أَريكتِه، يأتيه الأمرُ مِنْ أمري مما أَمَرتُ بهِ أو نهيتُ عنه، فيقول:

لا أَدري، ما وجدنا في كتابِ الله اتَّبعناه". "وعن أبي رافع: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا أُلفِيَنَّ" بالنون المؤكدة؛ أي: لا أجدَنَّ. "أحدكم متكئًا": مفعول ثانٍ. "على أريكته": وهي سرير مزيَّن في قُبة أو بيت، والمراد بهذه الصفة: أصحاب الترفُّه والدَّعَة، كما هو عادة المتكبرين المتجبرين القليلي الاهتمام بأمر الدِّين. "يأتيه الأمرُ"؛ أي: الشأنُ من شؤون الدِّين. "من أمري": بيان للأمر. "أمرتُ به": بيان لـ (أمري)، أو بدل منه. "أو نهيتُ عنه، فيقول": عطف على (يأتيه)؛ أي: يقول ذلك الأحد: "لا أدري"؛ أي: غيرَ القرآن. "ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه"؛ أي: يقول: هذا الأمر الذي أَمَرَ به - صلى الله عليه وسلم - أو نهَى عنه لم نجده في كتاب الله تعالى، فلا نتبعه؛ يعني: لا يجوز الإعراض عن حديثه - عليه الصلاة والسلام -؛ لأنَّ المُعرِضَ عنه مُعرِضٌ عن القرآن، قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]. * * * 127 - عن المِقْدام بن مَعْدِيْ كَرِب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلا إنِّي أُوتيتُ القرآنَ ومثْلَهُ معهُ، لا يُوشكُ رجلٌ شَبْعانُ على أريكتِه يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتُم فيه مِنْ حلالٍ فأَحِلُّوه، وما وجدتُمْ فيهِ مِنْ حرامٍ فحرّمُوه، وإن ما حرَّم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما حرَّم الله، ألا لا يحلُّ لكم الحمارُ

الأهليُّ، ولا كلُّ ذي نابٍ من السِّباع، ولا لُقَطَةُ مُعاهِدٍ إلَّا أن يستغنيَ عنها صاحبُها، ومَنْ نزلَ بقومٍ فعليهم أن يَقْرُوه، فإنْ لم يَقْرُوه فله أنْ يُعقِبَهُمْ بمثْلِ قِراه". "عن المقداد بن معدي كرب أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أني أُوتيت"؛ أي: آتاني الله "القرآن ومِثْلَه"؛ أي: مِثْلَ القرآنِ "معه" في وجوب القَبول والعمل به، وهو الوحي الغير المتلوِّ والسُّنَن التي لم يَنطق القرآن بها، قال الله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. (ألا): حرف تنبيه؛ أي: أنبئكم بأن. "يُوشِك"؛ أي: يَقرُب. "رجلٌ شبعانُ على أريكته يقول" لأصحابه: "عليكم"؛ أي: الزَمُوا "بهذا القرآن" واعملوا به، ولا تلتفتوا إلى غيره، وصفه بالشِّبَع كنايةً إما عن التنعُّم والغرور بالمال والجاه الحامل على هذا القول بَطَراً وحماقةً، أو عن البَلادة وسوء الفهم الذي من أسبابه الشِّبَع، كما فعلت الخوارج والظواهر؛ فإنهم تعلَّقوا بظاهر القرآن، وتركوا السُّنة المبينة للكتاب، فتحيَّروا وضلُّوا. "فما وجدتم فيه"؛ أي: في القرآن "من حلالٍ فأَحِلُّوه، وما وجدتم فيه من حرامٍ فحرِّموه؛ وإن ما حرَّم"؛ أي: الذي حرَّمه "رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - " في غير القرآن "كما حرَّم الله" في القرآن، وهذا ابتداء كلام من النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثمَّ أكَّد ذلك بقوله: "ألا لا يَحِلُّ لكم الحِمارُ الأهليُّ": هذا وما بعده بيانٌ للقِسم الثابت بالسُّنة، ولم يوجد له في كتاب الله ذِكرٌ، والتخصيص بالصفة لنفي عموم الحكم؛ فإن البَرِّيَّ حلالٌ. "ولا كل ذي ناب من السِّباع": كالأسد والذئب وغير ذلك.

"ولا لُقَطَةُ مُعاهِدٍ": وهو الكافر الذي جرى بين المسلمين وبينه عهدٌ بأمانٍ في تجارة أو رسالة؛ يعني: لا يحل لكم ما سقط من المُعاهِد. "إلا أن يستغني عنها صاحبُها"؛ أي: يتركها لمن أخذها استغناء عنها، بأن كانت شيئًا حقيراً يُعلَم أن صاحبَه لا يطلبه، كالنَّواة وقشور الرمَّان ونحوهما، فيجوز الانتفاع به، وهذا تخصيص بالإضافة، ويثبت الحكم في لُقَطة المسلم بطريق الأَولى. "ومَن نزل بقومٍ فعليهم أن يَقْرُوه" - بفتح الياء - من (قَرَيتُ الضيفَ قِرى): إذا أحسنتُ إليه وضفْتُه، وهذا سُنةٌ لا فرض، لقول الأعرابي المتقدم: هل عليَّ غيرهن؟ فقال - عليه الصلاة والسلام -: "لا، إلا أن تطوَّع". وقيل: واجب؛ لأنَّ كلمة (على) للوجوب، وهذا كان في بدء الإِسلام؛ فإنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان يبعث الجيوش إلى الغزو، وكانوا يمرُّون في طريقهم بأحياء العرب، وليس هناك سوق يشترون الطعام، ولا معهم زاد، فأوجب عليهم ضيافتهم؛ لئلا ينقطعوا عن الغزو. "وإن لم يَقْرُوه فله"؛ أي: للنازل بهم "أن يُعَقِّبَهم"؛ أي: يُتبعهم ويجازيهم بصنيعهم. "بمِثْلِ قِراه"؛ أي: بأن يأخذ من مالهم مِثلَ قِراه قهراً، ثمَّ نسُخ هذا الحكم. وقيل: هذا في حق المضطرين الذين لا يجدون طعاماً ويخافون على أنفسهم التلفَ، فلا يكون منسوخًا. * * * 128 - عن العِرباض بن ساريَة - رضي الله عنه - قال: قام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أيحسِبُ أحدُكُمْ مُتكئاً على أريكتِه يظنُّ أنَّ الله لمْ يُحرَّمْ شيئًا إلَّا ما في هذا

القرآن، ألا وإنِّي والله قد أَمَرتُ، ووعَظتُ، ونَهيتُ عن أشياءَ، إنَّها لمثْلُ القرآن أو أكثر، وإنَّ الله لم يُحِلَّ لكم أنْ تدخلُوا بُيوتَ أهلِ الكتابِ إلا بإذنٍ، ولا ضَربَ نسائهمْ، ولا أكلَ ثمارهمْ إذا أعطَوكُمُ الذي عليهم". "وعن العِرباض بن سارية أنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: خطب فقال: "أيَحسِب"؛ أي: أيظنُّ. "أحدُكم متكأ على أريكته يظنُّ": بدل من قوله: (أيحسب). "أن الله تعالى لم يحرِّم شيئًا إلا ما في هذا القرآن، ألا وإني والله" - بثلاثة تأكيدات - "قد أَمرتُ ووَعظتُ بأشياءَ، ونهَيتُ عن أشياء، إنها كمثلِ القرآن"، قيل: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يزيد علمه وإلهامه مِن قِبَل الله تعالى ومكاشفاته لحظةً فلحظةً، فلما رأى زيادة علمه بعد قوله: (إنها لمثل القرآن) قال متصلًا به: "أو أكثر"؛ أي: بل أكثر. "وإن الله لم يحلُّ لكم من الإحلال أن تدخلوا بيوتَ أهل الكتاب"؛ يعني: أهل الذمَّة الذين قَبلوا الجِزية. "إلا بإذن"؛ أي: إلا أن يأذَنوا لكم بالطَّوع والرغبة، كما لا يحلُّ لكم أن تدخلوا بيوتَ المسلمين بغير إذنهم. "ولا ضربَ نسائهما يريد به: الضرب المعروف بالخشب، يعني: لا يجوز أن تضربوا نساءَهم، وتأخذوا منهن طعاماً أو غيره بالقهر أو المجامعة؛ يعني: لا تظنُّوا أن نساءَهم محلَّلاتٍ لكم كنساء أهل الحرب. "ولا أكلَ ثمارهم" بالقهر. "إذا أعطَوكم الذي عليهم" من الجزية، وإذا أبَوا عنها بطلتْ ذمَّتُهم، وحلَّ دمُهم ومالُهم، وصاروا كأهل الحرب في قول صحيح.

129 - وعن العِرباض بن سارِيَة قال: وعظَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغةً ذرفتْ منها العُيونُ، ووجِلَتْ منها القُلُوبُ، فقالَ قائلٌ: يا رسول الله!؛ كأنَّ هذه مَوعظةُ مُودِّعٍ فأوصِنا، فقال: "أُوصيكُم بتقوَى الله والسَّمْعِ والطاعةِ وإنْ كان عبدًا حبَشيًا، فإنهُ مَنْ يعِشْ منكُمْ بعدي فسَيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنَّتي وسنةِ الخلفاءَ الراشدينَ المهديينَ، تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنَّواجِذِ، وإيَّاكُمْ ومُحدَثاتِ الأُمورِ، فإنَّ كُلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضَلالةٌ". "وعن العِرباض بن سارية أنه قال: وعظنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موعظةً بليغةً"؛ أي: بالغةً تامةً في الإنذار والتخويف. "ذرفتْ منها"؛ أي: سالت من موعظته "العيونُ"، أي: دموعُها. "ووَجِلتْ"، أي: خافتْ "منها القلوبُ"؛ لتأثيرها في النفوس، واستيلاء الخشية على القلوب. "فقال قائل: يا رسولَ الله! كأنها موعظة مودعِّ" بالإضافة، كأنك تودِّعنا بها، لِما رأى من مبالغته - صلى الله عليه وسلم - في الموعظة. "فأَوصِنا"؛ أي: فمُرنا بما فيه إرشادنا وصلاحُنا بعد وفاتك. "فقال: أوصيكم بتقوى الله"، أي: بمخافته والحذر من عصيانه، هذا فيما بينهم وبين الله تعالى. "والسمع والطاعة" لمن يَلِي أمرَكم من الأمراء؛ ما لم يَأمر بالمعصية. "وإن كان المُطاع عبدًا حبشيًا"؛ أي: لو استَولى عليكم عبدٌ حبشيٌ فأطيعوه؛ مخافةَ إثارةِ الفتن. "فعليكم بالصبر" والمداراة "حتى يأتي أمرُ الله"، وقيل: هذا وارد على سبيل الحث والمبالغة على طاعة الحكام، وقيل: ذُكر على طريق المَثَل؛ إذ

لا يصحُّ خلافته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأئمة من قريش". "فإنه [مَن] يَعِشْ منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا" مِن مِلَلٍ شتى؛ كلٌّ يدَّعي اعتقادًا غير اعتقاد أهل السُّنة، ويُظهر البدَعَ والأهواءَ. "فعليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين"؛ أي: الذين هداهم الله إلى الحق، وقيل: هم خلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي الله عنهم -؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخلافة بعدي ثلاثون سنة"، وقد انتهت بخلافة عليٍّ. وقيل: هم ومَن سار بسيرتهم من أئمة الإِسلام المجتهدين في الأحكام؛ فإنهم خلفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - في إحياء الحق وإعلاء الدِّين وإرشاد الخلق إلى الحق. "تمسَّكوا بها"؛ أي: بالسُّنَّة. "وعَضُّوا عليها بالنواجذ" جمع: ناجذ، قيل: هو النابُ، والعَضُّ بها: كناية عن المبالغة في التمسك بهذه الوصية، كالذي يتمسك بالشيء مستعينًا عليه بأسنانه زيادةً للمحافظة. "وإياكم ومُحدَثاتِ الأمور"؛ أي: التي حَدَثَتْ على خلاف أصل من أصول الدِّين؛ أي: احذروا عنها؛ "فإن كلَّ مُحدَثٍ بدعةٌ، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ". * * * 130 - عن عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه - قال: خَطَّ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا، ثمَّ قال: "هذا سبيلُ الله"، ثمَّ خطَّ خُطوطًا عن يمينهِ وعن شمالهِ، وقال: "هذه سُبُل، على كلِّ سبيلٍ منها شيطانٌ يَدعو إليه"، ثمَّ قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] الآية. "وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: خطَّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطًّا، ثمَّ قال: هذا سبيل الله": وهو الرأي القويم والصراط المستقيم، وهما الاعتقاد الحق

والعمل الصالح، وهذا الخط للمكان لمَّا كان مثالًا سماه (سبيل الله). " [ثمَّ] خَطَّ خطوطًا عن يمينه"؛ أي: يمين الخطأ وعن شماله، وقال: هذه سُبُلٌ، [على كل سبيل] منها شيطانٌ يدعو إليه"؛ أي: إلى السبيل. وفيه: إشارة إلى أن سبيلَ الله وسطٌ، ليس فيها تفريط ولا إفراط، وسبيلَ أهل البدع ما يلي إلى جانبٍ فيه تقصيرٌ أو غلوٌّ. "وقرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا} ": نُصب على الحال، عامله معنى التنبيه أو الإشارة. {فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ}؛ أي: السُّبل التي هي غير صراطي. {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ}؛ أي: تُفرقكم وتُبعِدُكم {عَنْ سَبِيلِهِ}؛ أي: عن سبيل الله. "الآية". * * * 131 - عن عبد الله بن عَمْرو - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يؤمنُ أحدُكُمْ حتَّى يكونَ هواهُ تَبَعاً لِما جئتُ بهِ". "وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يؤمن أحدكم"؛ أي: لا يَبلغُ كمالَ الإيمان، ولا يستكمل درجاته. "حتى يكون هواه"؛ أي: ميلُ نفسه واشتهاؤها "تبعًا"؛ أي: منقاداً بالرغبة "لِما جئت به" من الهدى والأحكام الشرعية. وقيل: المراد: نفي أصل الإيمان؛ أي: لا يؤمن حتى يخالفَ هواه، ويجعلَه تَبَعاً لِما جئت به من الحق عن اعتقادِ، لا عن إكراهِ وخوفِ سيفٍ.

132 - وقال: "مَنْ أَحيا سُنَّةً مِنْ سُنَّتي قدْ أُميتَتْ بعدي؛ فإنَّ لهُ منَ الأَجْرِ مثْلُ أُجور مَنْ عملَ بها مِنْ غيرِ أنْ ينقُصَ مِنْ أُجورهِمْ شيئًا، ومنِ ابتدع بِدعةَ ضلالةٍ لا يَرضاها الله ورسولُه كان عليهِ من الإثْم مثلُ آثامِ مَنْ عَمِلَ بها لا ينقُصُ ذلكَ منْ أَوزارِهمْ شيئًا"، رواه بلال بن الحارث المُزَنيُّ. "وعن بلال بن الحارث المُزَني أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن أحيا سُنَّة من سُنَّتي قد أُميتَتْ"؛ أي: تُركت تلك السُّنة عن العمل بها؛ يعني: مَن أحياها "بعدي" بالعمل بها، أو حثِّ الغير على العمل بها. "فإن له من الأجر مِثلُ أجور مَن عملَ بها": يشمل بإطلاقه العمّالَ قبل الإحياء وبعده. "من غير أن ينقص من أجورهم شيئًا، ومَن ابتدع بدعةً ضلالةً": وهي ما أنكرها أئمة المسلمين، كالبناء على القبور وتحصينها. "لا يرضاها الله ورسوله": صفة كاشفة لها. "كان عليه من الإثم مثلُ آثام مَن عملَ بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئًا"، قيَّد البدعة بالضلالة لإخراج البدعة الحسنة كالمنارة، فلا يستحق مبتدعُها الذنبَ. * * * 133 - وقال: "إنَّ الدِّينَ ليَأرِزُ إلى الحِجازِ كما تأرِزُ الحية إلى جُحرِها، ولَيَعْقِلَنَّ الدِّينُ منَ الحجازِ مَعْقِلَ الأروَّيةِ من رأْسِ الجبَلِ، إنَّ الدينَ بدأَ غَريباً ويرجعُ غَريباً، فطُوبى للغُرباءَ الذينَ يُصلحونَ ما أفسدَ الناسُ منْ بعدي منْ سُنَّتي"، رواه كثير بن عبد الله بن عمرو بن عَوْف بن زيد بن مِلْحَةَ عن أبيه، عن جدِّه. "وعن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف بن زيد بن مِلْحَة، عن أبيه، عن

جدِّه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الدِّينَ لَيَأرِزُ"؛ أي: ينضمّ عند ظهور الفتن واستيلاء الكفر "إلى الحجاز": اسم مكة والمدينة وحواليهما من البلاد، سُميت حجازاً؛ لأنها حَجَزَتْ؛ أي: مَنعتْ وفَصلتْ بين بلاد نجد والغَور؛ أي: المنخفَض. "كما تأرِز الحية إلى جُحرها، ولَيَعقِلَنَّ": جواب قسم محذوف؛ أي: لَيمتنعنَّ. "الدِّين": إلى مكانٍ "من الحجاز"، ويتخذَنَّ منه حِصناً ومَلجأً. "مَعقِلَ الأُروِيَّةِ": وهي الأنثى من المَعز الجبلي؛ أي: كاتخاذها حصناً. "من رأس الجبل. إن الدِّينَ بدأ" - بالهمزة - "غريبًا، ويرجع غريباً"؛ يعني: إن أهلَ الدّين في الأول كانوا غرباء ينكرهم الناسُ ولا يخالطونهم، فسيكون كذا في الآخر. "فطُوبى للغرباء الذين يُصلحون ما أفسدَ الناسُ من بعدي من سُنَّتي"؛ يعني: يعملون بها، ويُظهرون الدِّينَ بقَدر طاقتهم. * * * 134 - وقال: "لَيَأتِيَنَّ على أُمَّتي كما أَتى على بني إسرائيلَ حَذْوَ النَّعْل بالنَّعْلِ حتَّى إنْ كان منهمْ مَنْ أتَى أُمَّهُ علانيةً لكانَ في أُمَّتي منْ يصنَعُ ذلك، وإنَّ بني إسرائيلَ تفرَّقتْ على ثِنتيْنِ وسَبعينَ مِلَّةً، وتفترقُ أمَّتي على ثلاثٍ وسَبعينَ مِلَّةً، كلُّهمْ في النَّارِ إلَّا مِلَّةً واحدةً"، قالوا: مَنْ هيَ يا رسول الله؟ قال: "ما أنا عليهِ وأصحابي"، رواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -. "وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لَيأتينَّ على أُمتي كما"؛ أي: مِثلُ ما "أتى على بني إسرائيل حَذوَ النعل": نُصب على المصدر؛

أي: يَحذُونهم حَذواً مثلَ حَذْوِ النعل "بالنعل"، والحَذْو: القطع والتقدير، يقال: حَذَوتُ النعلَ بالنعلِ: إذا قدَّرت كلَّ واحدة على صاحبتها؛ ليكونا على السواء. "حتى إنْ كان منهم"؛ أي: من بني إسرائيل، (حتى) هذه: ابتدائية، والواقع بعدها جملة شرطية. "مَن أتى أُمَّه علانيةً"، إتيانها: كناية عن الزِّنا بها، ويحتمل أن يكون المراد بها: زوجة الأب أو موطوءته، وسائر مَن حُرِّمْن عليه برضاعٍ أو مصاهرةِ. "لكان في أمتي مَن يصنعُ"؛ أي: يفعل (ذلك): الإتيان. "وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين مِلَّةً"، سَمَّى - عليه الصلاة والسلام - طريقةَ كل واحدة منهم مِلَّةً اتساعاً؛ لكثرتها، وهي في الأصل: ما شَرعَ الله تعالى لعباده على ألسنة أنبيائه عليهم السلام؛ ليتواصلوا به إلى القُرب من حضرته تعالى. "وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين مِلَّةً"، قيل: يحتمل أن يكون المراد بالأمة: أمة الدعوة؛ فيندرج سائر أرباب المِلَل الذين ليسوا على قِبلتنا في عدد الثلاث والسبعين، أو أمة الإجابة؛ فتكون المِلَل الثلاث والسبعون منحصرةَ في أهل قِبلتنا. "كلُّهم في النار"؛ لأنهم يتعرضون لِما يُدخلهم النارَ. "إلا مِلَّة واحدة، قالوا: مَن هي يا رسولَ الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي" من الاعتقاد والقول والفعل، فإن ذلك يُعرف بالإجماع، فما أَجمعَ عليه علماءُ الإِسلام فهو حقٌّ، وما عداه باطل.

135 - وفي رواية أخرى: "واحدةٌ في الجنَّة، وهي الجماعة، وإنه سيَخرجُ في أُمَّتي قومٌ تَتَجارى بهم تلك الأَهواءُ كما يَتَجارَى الكَلَبُ بصاحبهِ، لا يبقى منهم عِرقٌ ولا مَفْصِلٌ إلا دخَله". "وفي رواية معاوية: واحدةٌ في الجنة، وهي الجماعة"، والجماعة عند أهل اللغة: هم أهل العلم والفقه، وعن سفيان: لو أن فقيهاً على رأس جبل لكان هو الجماعةَ، وزاد في روايته: "وإنه سيخرج في أمتي قوم تتجارى بهم"؛ أي: تدخل فيهم وتجري "تلك الأهواء" والبدَع في مفاصلهم. "كما يتجارى الكَلَب" بفتحتين: داء يَعرِض للإنسان من عضِّ الكَلْب المجنون، ويتفرَّق أثره. "بصاحبه"؛ أي: مع صاحبه إلى جميع أعضائه، فكذلك تدخل البدَعُ فيهم وتؤثر في جميع أعضائهم. "بحيث لا يبقى منهم عرقٌ ولا مِفصلٌ إلا دخلَه"، وذكر (الأهواء) بصيغة الجمع؛ تنبيهًا على اختلاف أنواع الهوى. * * * 136 - وقال: "لا تجتمعُ هذه الأُمةُ - أو قال: أُمة محمدٍ - على ضَلالةٍ، ويدُ الله على الجَماعةِ، ومَنْ شَذَّ شذَّ في النّارِ". "وعن ابن عمر وأنس - رضي الله عنهم - أنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تجتمع هذه الأمة، أو قال: أمة محمَّد"، والمراد: أمة الإجابة؛ أي: لا يجتمعون "على ضلالة" غير الكفر، ولذا ذهب بعضهم إلى أن اجتماعَ الأمة على الكفر جائز؛ لأنها لا تبقى بعد الكفر أمةً له، والمَنفيُّ اجتماعُ أُمة محمَّد على الضلالة. والحديث يدل على أن اجتماع المسلمين حق، والمراد: اجتماع العلماء؛

إذ لا عِبرةَ لاجتماع العوام؛ لأنه لا يكون عن عِلم. "ويدُ الله"؛ أي: حفظُه ونصرتُه "على الجماعة" المجتمعين على الدّين، يحفظهم الله، من الضلالة والخطأ. "ومَن شذَّ"؛ أي: انفرد عن الجماعة باعتقاد أو قول أو فعل لم يكن هم عليه "شذَّ في النار"؛ أي: انفرد فيها، معناها: انفرد عن أصحابه الذين هم أهل الجنة، وأُلقي في النار. * * * 137 - ويُروى عن ابن عمر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اتَّبعوا السَّوادَ الأعظمَ، فإنَّه مَنْ شذَّ شذَّ في النّارِ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: اتَّبعوا السوادَ الأعظمَ": وهو ما عليه أكثر علماء المسلمين، وقيل: جميع المسلمين الذين هم في طاعة الإمام. "فإنَّه مَن شذ شذَّ في النار". * * * 138 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بنيَّ! إنْ قدرتَ أن تُصبحَ وتمسيَ ليسَ في قلْبكَ غِشٌّ لأِحدٍ فافعلْ"، ثمَّ قال: "يا بني وذلكَ مِنْ سنَّتي، ومَنْ أحبَّ سُنَّتي فقد أحبني، ومَنْ أحبني كانَ معي في الجنَّة". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا بني! " بضم الباء: تصغير (ابن). "إنْ قَدرتَ أن تُصبحَ"؛ أي: تدخل في وقت الصباح.

"وتُمسيَ"؛ أي: تدخل في وقت المساء، والمراد: جميع الليل والنهار. "ليس في قلبك غِشٌّ": الجملة حال من فاعل (تصبح)؛ أي: غيرُ كائنٍ في قلبك غشّ "لأحدٍ فافعلْ"، والغش: نقيض النصح، الذي هو إرادة الخير. "ثم قال: يا بني! وذلك"؛ أي: خلوُّ القلب من الغش "من سُنَّتي، ومَن أَحبَّ سُنَّتي فقد أحبني" فيه: تنبيه على أن محبةَ سُنةٍ واحدةٍ من سُنَنه محبتُه - صلى الله عليه وسلم -. "ومَن أحبني كان معي في الجنة". * * * 139 - وقال: "مَنْ تمسَّكَ بسُنَّتي عندَ فَسادِ أمُّتي فلهُ أجرُ مئة شَهيدٍ"، رواه أبو هريرة. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن تمسَّك بسُنَّتي"؛ أي: عَمِلَ بها. "عند فساد أمتي"؛ أي: عند غلبة الفسق والجهل بهم. "فله أجرُ مئة شهيد"؛ لِما يلحقه من المشقة بالعمل بها وإحيائها، وإنْ تركَهم لها فهو كالشهيد المقاتل مع الكفار لإحياء الدِّين. * * * 140 - وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حين أَتاهُ عمرُ - رضي الله عنه - فقال: إنّا نسمَعُ أحاديثَ منْ يهود تُعجبنا، أفترى أنْ نكتبَ بعضَها؟ فقال: "أَمُتَهَوِّكونَ أنتم كما تهوَّكَتِ اليهودُ والنَّصارى؟ لقد جئتُكُمْ بها بيضاءَ نقيّةً، ولوْ كان موسى حيّاً لَما وَسِعَهُ إلَّا اتِّباعي". "وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أتاه عمر - رضي الله عنه - قال: إنّا لَنَسمعُ

أحاديث"؛ أي: حكايات ومواعظ "من يهود تُعجبنا"؛ أي: تَحسُنُ عندنا وتَميل قلوبنا إليها. "أفتَرى": أفتَأذَنُ لنا "أنْ نكتبَ بعضَها؟ فقال عليه الصلاة والسلام؛ زجرًا لعمر - رضي الله عنه -: "أمُتهوِّكون أنتم"؛ أي: أتصيرون متحيرين متردِّدين في دِينكم. "كما تَهوَّكتِ اليهود والنصارى"؛ أي: مثلَ تحيُّرهم. "لقد جئتكم": جواب قسم محذوف. "بها"؛ أي: بالمِلَّة الحنفية، بقرينة الكلام. "بيضاءَ": حال عن ضمير (بها). "نقيةً": صفة (بيضاء)، كلاهما عبارة عن الظهور والصفاء والخلوص عن الشك والشُّبهة، أو المراد بهما: أنها مَصُونةٌ عن التبديل والتحريف والإصر والأغلال، خالية عن التكاليف الشاقة؛ لأنَّ في دين اليهود إخراجَ رُبعِ مالهم زكاةً، وقطعَ موضع النجاسة من الثوب بدلًا من الغسل وغير ذلك. "ولو كان موسى حياً ما وسعه"؛ أي: لا يجوز له "إلا اتباعي" في الأفعال والأقوال؛ يعني: لا يفعل فعلًا ولا يقول قولًا إلا بأمري، فأنتم تطلبون فائدةً من موسى مع وجودي؟! * * * 141 - عن أبي سعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "منْ أكلَ طيبًا، وعملَ في سُنَّةٍ، وأمِنَ النّاسُ بوائقَهُ دخلَ الجنّةَ"، فقال رجلٌ: يا رسولَ الله! إنَّ هذا اليومَ في الناسِ لكثيرٌ، قال: "وسيكونُ في قُرونٍ بَعْدي".

"وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن أكلَ طيبًا"؛ أي: كان قُوتُه حلالًا. "وعملَ في سُنَّةٍ"؛ أي: في موافقتها؛ يعني: كان قولُه وفعلُه على وفق الشرع، وتنكيرها لإشعار أن العمل في موافقة واحدة منها مع أختَيها مما يوجب دخولَ الجنة. "وأَمِنَ الناسُ بَوائقَه" جمع: بائقة، وهي الداهية والمشقة، والمراد به هنا: الشُّرور. "دخلَ الجنةَ، فقال رجل: يا رسولَ الله! إن هذا"؛ أي: الذي تصفه وتذكره "اليومَ لَكثيرٌ" في الناس بحمد الله، فما حالُ المستقبل؟ "قال: وسيكون" مَن لم يكن موصوفًا بهذه الصفة "في قرون بعدي" جمع: قَرن، وهو أهل عصر؛ فإن كلَّ عصر هو أبعدُ من زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - يكون الصُّلَحاءُ فيهم أقلَّ ممن قبلَهم. * * * 142 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنكمْ في زمانٍ مَنْ تركَ منكمْ عُشْرَ ما أُمِرَ بهِ هلكَ، ثمَّ يأتي زمانٌ مَنْ عملَ منهمْ بعُشْرِ ما أُمِرَ بهِ نَجا"، غريب. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنكم" أيها الصحابةُ. "في زمانٍ"؛ أي: زمانِ نزولِ الوحي وسماعِ كلام صاحب الرسالة. "مَن تركَ منكم عُشرَ ما أُمر به" من الأمر المعروف والنهي عن المنكر "هلكَ"؛ لأنَّ الدِّينَ عزيزٌ، والحقَّ ظاهرٌ، وفي أنصاره كثرة.

"ثمَّ يأتي زمان مَن عملَ منهم بعُشر ما أُمر به نجا"؛ لانتفاء، تلك المعاني المذكورة. "غريب". * * * 143 - عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ضَلَّ قومٌ بعدَ هُدًى كانوا عليهِ إلا أُوتُوا الجَدَلَ"، ثمَّ قرأَ - صلى الله عليه وسلم - هذه الآيةَ: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]. "وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ضلَّ قومٌ بعد هُدًى كانوا عليه"؛ أي: على الهدى. "إلا أُوتُوا"؛ أي: أُعطُوا "الجَدَلَ"؛ أي: ما كان ضلالُهم ووقوعُهم في الكفر إلا بسبب الجدل، وهو الخصومةُ مع نبيهم وطلبُ المعجزة منه عنادًا وجحوداً. وقيل: مقابلة الحُجة بالحُجة، وقيل: المراد به هنا: العناد والمِراء في القرآن وضرب بعضه ببعض، والتعصُّب لترويج مذاهبهم وآراء مشايخهم، من غير أن يكون لهم بصيرة على ما هو الحق. "ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {مَا ضَرَبُوهُ} ": ما ضربوا هذا المَثَلَ " {لَكَ} ": يا محمدُ، وهو قولهم: {أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58]، أرادوا بالآلهة هنا: الملائكة؛ يعني: الملائكة خير أم عيسى؟ يريدون أن الملائكةَ خيرٌ من عيسى، فإذا عَبدتِ النصارى عيسى فنحن نَعبد الملائكةَ؛ يعني: ما قالوا هذا القولَ " {إِلَّا جَدَلًا} ": إلا لمخاصمتك وإيذائك بالباطل.

" {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} "؛ أي: كثيرو الخصومة. * * * 146 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "لا تُشدِّدوا على أنفُسِكُم، فيُشدِّدَ الله عليْكُمْ، فإنَّ قومًا شدَّدوا على أنفُسِهم فشدَّدَ عليهم، فتلْكَ بقاياهُمْ في الصَّوامعِ والدِّيار {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27] ". "وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: لا تشدِّدوا على أنفسكم"؛ أي: بالأعمال الشاقة، كصوم الدهر وإحياء الليل كله واعتزال النساء؛ لئلا تَضعُفُوا عن العبادة وأداء الحقوق والفرائض. "فيُشدِّدَ" بالنصب: جواب النهي؛ أي: يُشدِّدَ "الله عليكم؛ فإن قومًا" من بني إسرائيل "شدَّدُوا على أنفسهم" حين أُمروا بذبح بقرة، فسألوه عن لونها وسنِّها وعن غير ذلك من صفاتها، "فشدَّد الله عليهم"، بأن أمرهم بذبح بقرة على صفة لم توجد بتلك الصفة إلا بقرة واحدة، لم يبعْها صاحبها إلا بملء جِلدها ذهباً. "فتلك" الجماعة. "بقاياهم في الصوامع" جمع: صَومَعة، وهي موضع عبادة الرُّهبان. "والديار" جمع: الدَّير. "رهبانية": نُصب بفعل يفسِّره ما بعده، وهو "ابتدعوها"، يقال: ابتَدَعَ: إذا أتى بشيء بديع؛ أي: جديد، لم يفعله قبلَه أحدٌ، و (الرَّهبانية) بفتح الراء المهملة: الخَصلة المنسوبة إلى الرَّهبان، وهو الخائف، فَعْلاَن من: رَهِبَ رَهبةً؛ أي: خافَ، وبالضم: نسبة إلى الرُّهبان، جمع: الراهب. "ما كتبناها"؛ أي: ما فَرَضْنا تلك الرهبانيةَ "عليهم": من تركهم التلذُّذ

بالأطعمة، وترك التزوُّج ومخالطة الناس، والتوطُّن في رؤوس الجبال والمواضع البعيدة عن العمرانات. * * * 144 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نزلَ القرآنُ على خمسةِ وجوهٍ: حلال، وحَرام، ومُحكَمٍ، ومُتشابهٍ، وأَمْثالٍ، فأَحِلُّوا الحَلالَ، وحرِّموا الحَرامَ، واعمَلُوا بالمُحكَم، وآمِنوا بالمُتشابه، واعتبروا بالأَمثال". "عن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نزل القرآن على خمسة أوجه: حلال": كقوله تعالى: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 57]، وقوله: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4]، الآية. "وحرام": كقوله تعالى: {حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} [النحل: 115] الآية. "ومُحكَم": كقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151]، وغير ذلك من الأمر والنهي والموعظة. "ومُتشابه": كقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22]، وما أشبه ذلك. "وأمثال"؛ يعني: قصص الأمم الماضية، كقوم نوح وصالح وغير ذلك. "فأحِلُّوا الحلالَ، وحرِّموا الحرامَ، واعملوا بالمُحكَم، وآمنوا بالمُتشابه" من غير اشتغال بكيفيته، "واعتبروا بالأمثال". * * * 145 - وعن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَمْرُ ثلاثةٌ: أمر بَينٌ رُشدُه فاتَّبعْهُ، وأَمرٌ بَينٌ غَيُّهُ فاجتنِبْهُ، وأمرٌ اختُلِفَ فيه فكِلْه إلى الله - عز وجل -.

"وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأمر ثلاثة: أمرٌ بينٌ رُشدُه"؛ أي: ظاهرٌ صوابُه، كأصول العبادات، مثل وجوب الصلاة والزكاة وغير ذلك. "فاتبعْه، وأمرٌ بينٌ غيُّه"؛ أي: ظلالته، كموافقة أهل الكتاب في أعيادهم ونحوها. "فاجتنبْه"؛ أي: احترِزْ عنه. "وأمرٌ اختُلِفَ فيه"؛ أي: اختَلف فيه الناس من تلقاء أنفسهم، من غير أن يبين الله ورسولُه حكمَه، كتعيين وقت القيامة، وحكم أطفال الكفار. "فكِلْه"؛ أي: فوِّضْه "إلى الله - عز وجل - "، فلا تقل فيه شيئًا من نفي أو إثبات.

2 - كتاب العلم

2 - كِتابُ العِلْمِ

2 - كِتابُ العِلْمِ (باب العلم) مِنَ الصِّحَاحِ: 147 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بلَّغوا عنِّي ولو آيةً، وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حَرَج، ومَنْ كذبَ عليَّ مُتعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مقعدَهُ مِنَ النّارِ"، رواه عبد الله بن عمرو. "من الصحاح": " عن عبد الله بن عمرو أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بلَّغوا عني" ما استطعتم. "ولو": كان "آيةً"، المراد بـ (الآية) هنا: الكلام المفيد، وهذا تحريضٌ على نشرِ العلم، وتعليمِ الناسِ العلمَ وأحكامَ الدِّين، ونشرِ الحديث. "وحدِّثوا عن بني إسرائيل"؛ أي: عما وقع فيهم من القصص والوقائع العجيبة، كحكاية عُوج بن عُنُق، وقتل بني إسرائيل أنفسَهم لتوبتهم عن عبادة العِجل، ونحو ذلك. "ولا حَرَجَ"؛ أي: لا إثمَ عليكم إنْ تحدَّثتم عنهم ما سمعتم؛ فإن في ذلك لعِبرةً وموعظة لأولي الألباب. وأما نهيُه - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر عن أن يُكتب من أحاديثهم؛ فلأنهم أرادوا الكتابة من أحكام التوراة وشريعة موسى عليه السلام، فإن جميع شرائع الأديان والكتب قد صارت منسوخة بشريعة نبينا - صلى الله عليه وسلم -.

"ومَن كَذَبَ على متعمدًا": نصب على الحال، ليس حالًا مؤكدة؛ لأنَّ الكذب قد يكون من غير تعمُّد، وفيه: تنبيهٌ على عدم دخول الناسي فيه. "فَلْيتبوَّأْ": لفظه أمر ومعناه خبر؛ يعني: فإن الله يُبَوِّئه "مقعده من النار"، فتعبيره بصيغة الأمر للإهانة. وفيه: إشارة إلى أن مَن نَقلَ حديثاً وعلمَ كذبه يكون مستحقاً للنار؛ إلا أن يتوب، لا مَن نَقلَ عن راوٍ عنه - أو رأى في كتابٍ ولم يعلم كذبَه. * * * 148 - وقال: "مَنْ حدَّثَ عني بحديثٍ يُرى أنَّه كذبٌ فهُوَ أحدُ الكاذِبَينَ". "وعن سَمُرة بن جندب والمغيرة بن شعبة أنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن حدَّث عني بحديث يُرَى" - بضم الياء وفتح الراء - بمعنى: يظن، وفتحهما بمعنى يعلم. "أنَّه كَذب" بكسر الكاف وفتحها: مصدر؛ أي: ذو كذب، على حذف المضاف، أو المصدر بمعنى الفاعل. "فهو أحد الكاذبين"، رُوي على صيغة التثنية باعتبار المفترِي والناقل عنه، وبصيغة الجمع باعتبار كثرة النقَلَة. * * * 149 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يُردِ الله بهِ خيرًا يُفقهْهُ في الدِّينِ، وإنَّما أنا قاسمٌ والله يُعطي، ولا تَزالُ منْ أُمَّتي أُمَّة قائمةٌ بأمر الله لا يضرُّهمْ مَنْ خَذَلَهُمْ ولا مَنْ خالفهُمْ حتى يأتيَ أمرُ الله وهمْ على ذلك"، رواه مُعاوية - رضي الله عنه -. "وعن معاوية أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن يُرِدِ الله به خيرًا": تنكيره للتفخيم.

"يُفقّهْه في الدِّين"؛ أي: يجعله عالمًا بأحكام الشريعة، ذا بصيرةٍ فيها، يستخرج المعاني الكثيرةَ من الألفاظ القليلة. "وإنما أنا قاسم": لا أرجح أحدًا على غيره في قسمةِ ما أُوحي إليَّ من العلم والحكمة، بل أُسوِّي في الإبلاع، وإنما التفاوتُ في الفهم الذي يُهتدَى به إلى خفيات علوم الكتاب والسُّنة، فهو طريق عطاء الله. "والله يعطي" ذلك لمن يشاء مِن عباده، وإنما لم يقل: مُعْطٍ؛ لأنَّ إعطاء الله تعالى يتجدَّد كلَّ ساعة. وقيل: المراد به: قسمة المال، قاله عليه الصلاة والسلام؛ لئلا يكونَ في القلوب تنكُّر من التفاضل في القِسمة، فإنَّه أمرُ الله تعالى. "ولا يزال من أمتي أمةٌ قائمةٌ بأمر الله، لا يضرُّهم مَن خَذَلَهم ولا مَن خالَفَهم، حتى يأتي أمرُ الله وهم على ذلك": تقدم بيانه. * * * 150 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الناسُ معادنُ كمعادنِ الذَّهبِ والفضَّةِ، خِيارُهم في الجاهليَّةِ خِيارُهم في الإِسلامِ إذا فَقُهوا"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الناسُ معادنُ" جمع: مَعدن، وهو مُستقَر الجواهر، والمُستوطَن أيضًا، من: عَدَنَ بالمكان: استقرَّ به، وعَدَنتُ البلدَ توطَّنته؛ أي: الناسُ معادنُ الأخلاق والأعمال والأقوال، ولكن يتفاوتون فيها. "كمعادن الفضة والذهب" وغيرهما، إلى أن ينتهي إلى الأدنى فالأدنى؛ فمَن كان اسعداده أقوى كانت فضيلتُه أتمَّ، ومَن كان على خلافه ففضيلتُه أنقصُ. وفيه: إشارة إلى أن ما في معادن الطبائع من جواهر مكارم الأخلاق ينبغي

أن يُستخرجَ برياضة النفوس، كما تُستخرج جواهر المعادن بالمقاساة والتعب. "خيارهم في الجاهلية" بمكارم الأخلاق. "خيارهم في الإِسلام" أيضًا بها. "إذا فقهوا"؛ أي: صاروا فقهاءَ عالِمينَ. * * * 151 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَسَدَ إلا في اثنتَيْنِ: رجل أَعطاه الله مالًا فسَلَّطهُ على هَلَكَتِهِ في الحقِّ، ورجل آتاهُ الله حِكْمةً فهُوَ يقضي بها ويُعلِّمُها"، رواه ابن مَسْعود - رضي الله عنه -. "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حسدَ"، المراد بالحسد هنا: الغِبْطَة، وهي أن تتمنى أن يكون لك مثلُ ما لأخيك المسلم من غير تمنّي زواله عنه، والحسد على عكسه؛ أي: لا غِبطةَ "إلا في اثنتين"؛ أي: في خصلتين اثنتين، ويروى "في اثنين"؛ أي: في شأن اثنين: "رجل أتاه الله مالًا فسلَّطه"؛ أي: وكَّلَه الله ووفَّقَه "على هَلَكته" بفتحتين؛ أي: إنفاقه. "في الحق"، قُيدَ به؛ لأنَّ الإنفاقَ في الحق دون الباطل. "ورجل آتاه الله"؛ أي: أعطاه "حكمةً"؛ أي: علمَ أحكامِ الدّين، وقيل: أي: إصابةَ الحقِّ بالعلم والفعل. "فهو يقضي بها"؛ أي: يحكم بالحكمة التي أُوتيَها. "ويعلِّمها" غيرَه، وفي الحديث: ترغيب على التصدق بالمال وتعليم العلم.

152 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ماتَ الإنسانُ انقطعَ عنهُ عملُهُ إلا منْ ثلاثةٍ: إلا منْ صَدَقَةٍ جاريةٍ، أو عِلم يُنتفَعُ بهِ، أو ولدٍ صالح يدعُو لهُ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا مات الإنسان انقطع عملُه"؛ أي: لا يُكتب له بعد موته أجرٌ وثوابٌ؛ لأنَّ الأجرَ جزاءُ العمل الصالح، وهو انقطع عنه بموته. "إلا من ثلاثة: من صدقة جارية"؛ أي: يجري نفعُها ويدوم أجرُها، كالوَقْف، وبناء المسجد والجامع، وحفر البئر، والطريق، وإحياء العيون، وغيرهما من الأفعال في وجوه الخير. "أو علم ينتفع به"، قيَّد العلم بالمُنتفَع به؛ لأنَّ ما لا يُنتفَع به لا يثمر أجرًا، والمراد بالمُنتفَع به؛ العلم بالله وصفاته وأفعاله وملائكته، ويدخل فيه علم الكلام؛ أي: العقائد، والعلم بكتبه]، ويدخل فيه التفسير، وبملكوت أرضه وسمائه، ويدخل فيه علم الرياضي، والعلم بشريعة محمَّد عليه الصلاة والسلام، ويدخل فيه علم التفسير أيضًا والحديث والفقه وأصوله. "أو ولد صالح يدعو له"، قيَّد الولد بالصالح؛ لأنَّ الأجر لا يحصل من غيره، وإنما ذَكَرَ الدعاءَ له تحريضاً للولد على الدعاء لأبيه، حتى قيل: يحصل للوالد ثوابٌ مِن عملِ الولد الصالح، سواءٌ دعا لأبيه أو لا، كما أن مَن غرسَ شجرةً مثمرةً يحصل للغارس ثوابٌ بأكل ثمراتها، سواءٌ دعا له الآكِلُ أو لا؛ فإن ثوابَ هذه الأشياء الثلاثة غيرُ منقطع بالموت. * * * 153 - وقال: "مَنْ نفَّسَ عنْ مُؤمنٍ كُربَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا نفسَ الله عنهُ كُربةً مِنْ كُرَبِ يومِ القيامةِ، ومَنْ يَسَّرَ على مُعسِرٍ يَسَّرَ الله عليهِ في الدُّنيا

والآخرة، ومَنْ سَتَرَ مُسلِماً ستَرهُ الله في الدُّنيا والآخرة، والله في عَوْنِ العبْدِ ما دام العبْدُ في عَوْنِ أَخيه، ومَنْ سلكَ طَريقاً يلتمِسُ فيهِ عِلْماً سهَّلَ الله لهُ بهِ طريقًا إلى الجنَّة، وما اجتمعَ قومٌ في مَسْجدٍ مِنْ مَساجدِ الله تعالى يتْلُونَ كتابَ الله ويتدارسُونه بينهُمْ إلَّا نزلَتْ عليهِمُ السَّكينةُ، وغشِيتهُمُ الرَّحمةُ، وحفَّتْ بهِم الملائكةُ، وذكرهُمُ الله فيمنْ عنده، ومَنْ بطَّأ به عمَلُهُ لمْ يُسْرعْ بهِ نسَبُه"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن نفس"؛ أي: فرَّج "عن مؤمنٍ كُربةً"؛ أي: حزناً، وهي شدة الغَمّ، تنوينها للتحقير؛ يعني: جعله في سَعَة. "من كُرَب الدنيا" بماله أو مساعدته أو رأيه أو إشارته، قُيد بالمؤمن؛ لأنه مَظنةُ الكُرَب في الدنيا، فأما الكافر فالله تعالى قد وسَّع عليه في الدنيا على الأعم. "نفَّس الله عنه كربةً": تنوينها للتعظيم. "من كُرَب يوم القيامة، ومَن يسَّر"؛ أي: سهَّل (على مُعسِر)؛ أي: فقير، وهو يشمل المؤمن والكافر؛ أي: مَن كان له على فقير دَينٌ، فسهَّل عليه بإمهالِه أو تركِ بعضه. "يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومَن سَتَرَ مسلمًا" ملتبساً بفعلٍ قبيحٍ، بألا يفضحه، أو سترَ عرياناً بأن أَلبسَه ثوباً. "سترَه الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد"؛ أي: في نصره. "ما كان العبد": مشغولاً "في عون أخيه" المسلم وقضاء حاجته. "ومَن سَلَكَ"؛ أي: ذهبَ.

"طريقًا يلتمس"؛ أي: يطلب، حال أو صفة. "فيه علمًا"، نكَّره ليشملَ كلَّ نوع من أنواع علوم الدِّين، قليله وكثيره، وفيه: استحباب الرحلة في طلب العلم. وقد ذهب موسى إلى خضر - عليه السلام - وقال: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66]. ورحل جابر بن عبد الله مسيرةَ شهر إلى عبد الله بن أُنيس في حديث واحد. "سهَّل الله له به"؛ أي: بسبب ذلك "طريقاً إلى الجنة"؛ يعني: جعلَ الله ذهابَه في طلب العلم سبباً لوصوله إلى الجنة من غير تعب، ويُجازَى عليه بتسهيل قطع العقبات الشاقة، كالوقوف والجواز على الصراط وغير ذلك. "وما اجتمع قومٌ في مسجد من مساجد الله ": احترز به عن مساجد اليهود والنصارى؛ فإنه يُكره الدخولُ فيها. "يتلون كتاب الله"؛ أي: يقرؤون القرآن. "ويتدارسون بينهم": وهو قراءة بعض مع بعض تصحيحاً لألفاظه، أو كشفاً لمعانيه. "إلا نَزلتْ عليهم السَّكينة"؛ أي: الوقار والخشية. "وغشيتْهم الرحمة"؛ أي: أحاطت بهم، وقيل: أي: تَعْلُوهم الرحمة والبركة من الله تعالى. "وحفَّت"؛ أي: أَحدقَتْ "بهم الملائكة": أو طافُوا بهم ودارُوا حولَهم، يسمعون القرآنَ ودراستَه، ويحفظونهم من الآفات، ويصافحونهم ويزورونهم. "وذكرَهم الله فيمَن عنده"، المراد من العِنْدية: الرُّتبة؛ يعني: في الملائكة المقرَّبين، ويقول: انظروا إلى عبادي يذكرونني ويقرؤون كتابي، وأيُّ شرفٍ

أعظمُ من ذِكر الله تعالى عبادَه بين ملائكته؟ "ومَن بطَّأ به" - بتشديد الطاء - من: التبطئة، ضد التعجيل، والباء للتعدية؛ أي: أخَّره في الآخرة "عملُه" السيئ، أو تفريطُه في العمل الصالح. "لم يُسرِع به نَسَبُه"؛ أي: لم ينفعه شرفُ نسبه، ولم ينجبر نقيضه به؛ فإن التقرُّبَ إلى الله تعالى لا يحصل بالنسب وكثرة العشائر والأقارب، بل بالعمل الصالح. * * * 154 - وقال: "إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يُقضى عليهِ يومَ القيامةِ: رجلٌ استُشْهِدَ، فأَتى بهِ الله فعرَّفهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَها، قال: فما عَمِلْتَ فِيها؟ قال: قاتلْتُ فيكَ حتَّى استُشْهِدتُ، قَالَ: كذبتَ، ولكنَّكَ قاتلتَ لأنْ يُقالَ: إنك جَريءٌ، فقد قيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجْهِهِ حتى أُلقيَ في النّار، ورجلٌ تعلَّم العِلْمَ وعلَّمَهُ وقَرأَ القُرآنَ، فأُتيَ بهِ فعَرَّفهُ نِعَمَهُ فعرفَها، قال: فما عمِلْتَ فيها؟ قال: تعلمت العِلْمَ وعلَّمْتُهُ وقرأْتُ فيكَ القرآنَ، قال: كذبْتَ ولكنَّكَ تعلمتَ العِلمَ لِيُقالَ: عالمٌ، وقرأْتَ القُرآنَ ليقالَ: هو قارئٌ، فقدْ قيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فَسُحِبَ على وجهِهِ حتَّى أُلقيَ في النّار، ورجلٌ وسَّعَ الله عليهِ وأعطاهُ مِنْ أصنافِ المالِ كلِّهِ، فأُتيَ بهِ فعرَّفهُ نِعَمَهُ فَعرفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ مِنْ سَبيلٍ تُحبُّ أنْ يُنفقَ فيها إلَّا أنفقتُ فيها لكَ، قال: كذبتَ، ولكنَّكَ فعلْتَ ليُقالَ: هو جَوادٌ، فقدْ قيلَ، ثمَّ أُمِرَ بهِ فسُحِبَ على وجهِهِ، ثُمَّ أُلقيَ في النّار"، رواه أبو هُريرة - رضي الله عنه -. "وعنه أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أولَ الناس يُقضَى عليه يومَ القيامة"؛ أي: يُسأل فيه عن أفعاله ويُحاسَب. "رجلٌ استُشهد"؛ أي: قُتل في سبيل الله.

"فأُتي به"؛ أي: بالرجل للحساب. "فعرَّفه الله نِعَمَه"؛ أي: أَعلَمَه وذكَره بما أنعم عليه من أنواع النعم، من إعطاء القوة والشجاعة والفرس والسلاح، وغير ذلك من أسباب المحاربة مع الكفار. "فعَرَفَها"؛ أي: الرجلُ تلك النعمَ وأقرَّ بها. "قال"؛ أي: الله تعالى: "فما عملتَ فيها؟ " وعلى أيِّ وجه صرفتَها؟ "قال"؛ أي: الرجلُ: "قاتلتُ فيك"؛ أي: حاربتُ لإعلاء دينك ولرضاك "حتى استُشهدتُ"؛ أي: قُتلتُ في سبيلك. "فقال"؛ أي: الله تعالى: "كذبتَ، ولكنك قاتلتَ لأنَّ يقال: رجل جريء"؛ أي: شجاع؛ يعني: غرضُك مِن قتالِك إظهارُ شجاعتك، لا لإعلاء دِيني ولا لرضائي. "فقد قيل ذلك، ثمَّ أُمر به"؛ أي: قيل لخَزَنة جهنم: ألقوه "في النار، فسُحِبَ"؛ أي: جُرَّ "على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل تعلَّم العلمَ وعلَّمه الناسَ وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه بنعمه"؛ أي: ما أنعم عليه من الفهم والفصاحة والعلم والقرآن. "فَعَرفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلَّمتُ العلمَ وعلَّمتُه وقرأتُ فيك"؛ أي: القرآنَ في رضاك. "قال: كذبتَ، ولكنك تعلَّمتَ العلمَ ليقال: هو عالم، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثمَّ أُمر به فسُحب"؛ أي: جُرَّ "على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجل وسَّع الله عليه"؛ أي: كثَّر مالَه. "وأعطاه من أصناف المال كله"؛ أي: من أنواعه من الإبل والبقر وغيرهما، ومن الذهب والفضة وغير ذلك.

"فأتي به، فعرَّفه نعمَه، فعَرَفَها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيل تحب أن يُنفَق فيها إلا أنفقت فيها لك"، كبناء المساجد والمدارس، وإعطاء الزكاة والصدقات، وغير ذلك من وجوه الخيرات. "قال: كذبتَ، ولكنك فعلتَ ليقال: هو جَواد"؛ أي: سَخِيٌّ. "فقد قيل، ثمَّ أُمر به فسُحب"؛ أي: جُرَّ "على وجهه، ثمَّ أُلقي في النار". * * * 155 - وقال: "إنَّ الله تعالى لا يقبضُ العِلْمَ انتزاعاً ينتزِعُهُ مِنَ العِبادِ، ولكنْ يَقبضُ العلمَ بقبضِ العُلماء حتى إذا لم يُبقِ عالِمًا اتَّخذَ الناسُ رُؤَساءَ جُهّالاً، فسُئِلُوا، فأَفْتَوْا بغيرِ عِلْم، فضَلُّوا، وأَضَلُّوا"، رواه عبد الله بن عَمْرو بن العاص. "وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لا يقبض العلم"، المراد به: علم الكتاب والسُّنة وما يتعلق بهما. "انتزاعًا": مفعول مطلق للفعل بعده، وهو "ينتزعه"، والجملة حالية؛ يعني: لا يقبض العلم "من العباد" على سبيل أن يرفعه من بينهم إلى السماء، ويجوز أن يكون (انتزاعا) مفعولاً مطلقًا لـ (يقبض) من غير لفظه، و (ينتزعه): صفته. "ولكن يقبض العلمَ بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالمًا" يقبضُ أرواحهم "اتخذ الناس رؤُوساً" بضم الهمزة والتنوين: جمع رأس، ورأس القوم: كبيرهم، ويروى: "رؤساء" بالمد، جمع: رئيس. "جُهّالًا، فسُئلوا فأَفْتَوا بغير علم، فضَلُّوا"؛ أي: صاروا ضالِّين. "وأَضَلُّوا"؛ أي: جعلوا قومَهم ضالِّين أيضًا؛ لأنَّ مَن اتبع جاهلاً يدلُّه

على سبيل الضلال. * * * 156 - وقال عبد الله بن مَسْعُود - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتخَوَّلُنا بالمَوعظةِ في الأَيامِ كراهَةَ السّآمَةِ علَينا. "وقال عبد الله بن مسعود: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتخوَّلنا" بالخاء المعجمة؛ أي: يتعهدنا. "بالموعظة في الأيام"؛ يعني: لا يَعِظُنا متوالياً. "كراهةَ السّآمَة"؛ أي: المَلالة "علينا"؛ إذ لا تأثير له عند المَلالة، بل يَعِظُنا يوماً دون يوم، ووقتاً دون وقت. ويروى بالحاء المهملة أيضًا؛ أي: يتأمَّل أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة، فيعظُنا فيها، وكذلك لِيَفعلِ المشايخُ والوعّاظُ في تربية المُرِيدين. * * * 157 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلَّمَ بكلمةٍ أعادَها ثلاثًا حتى تُفهمَ عنه، وإذا أتى على قوم فسلَّمَ عليهِمْ سَلَّم عليهم ثلاثًا. "وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تكلم بكلمة"؛ أي: بكلام مفيد. "أعادها ثلاثًا حتى تُفهَم"؛ أي: لِتُفهَمَ "عنه" تلك الكلمة. "وإذا أتى على قوم فسلَّم عليهم سلَّم عليهم ثلاثاً": تسليمة للاستئذان، وتسليمة للوداع، وتسليمة للتحية، وهذه التسليمات كلُّها مسنونة، وكان - عليه الصلاة والسلام - يواظب عليها.

158 - وعن أبي مَسْعُودٍ الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دلَّ على خَيْرٍ فلهُ مِثْلُ أَجْرِ فاعلِهِ". "وعن أبي مسعود الأنصاري أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن دلَّ على خير فله مثلُ أجر فاعله": معناه ظاهر. * * * 159 - وقال: "مَنْ سَنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً حسنةً فلهُ أجرُها وأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بها بعدَهُ، مِنْ غيرِ أنْ ينقُصَ مِنْ أُجورِهم شيءٌ، ومَنْ سنَّ في الإِسلامِ سُنَّةً سيِئَةً كان عليهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَنْ عملَ بها بعدَهُ، مِنْ غيرِ أنْ ينقُصَ مِنْ أَوزارِهم شيءٌ"، رواه جَرِيْر - رضي الله عنه -. "وعن جرير أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن سَنَّ في الإِسلام سُنةً حسنةً"؛ أي: أتى بطريقةٍ مَرضيةٍ يُقتدَى به فيها. "فله أجرُها"؛ أي: أجرُ عملِه. "وأجرُ مَن عملَ بها"؛ أي: ومثلُ أجرِ مَن عملَ بتلك السُّنة. "بعدَه"؛ أي: بعد ممات مَن سَنَّها، قُيد به دفعاً لِما يُتوهَّم أن ذلك الأجر يُكتب له ما دام حيّاً. "من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومَن سَنَّ في الإِسلام سُنَّةً سيئةً كان عليه وِزْرُها ووِزْرُ مَن عملَ بها بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء". * * * 160 - وقال: "لا تُقْتَلُ نفس ظُلْمًا إلَّا كانَ على ابن آدمَ الأوَّلِ كفْلٌ مِنْ

دَمِها؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ"، رواه ابن مَسْعُود - رضي الله عنه -. "وعن ابن مسعود أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا تُقتَلُ نفسٌ ظلماً": نصب على التمييز. "إلا كان على ابن آدم الأول": صفة لـ (ابن)، وهو قابيل، قَتلَ أخاه هابيل. "كِفْل"؛ أي: نصيب. "من دمها"؛ أي: دم النفس؛ يعني: كلُّ قتل باطل يجري بعد قابيل إلى نفخة الصُّور يكون لقابيل نصيبٌ من ذلك الإثم؛ "لأنه أولُ مَن سَنَّ القتلَ". * * * مِنَ الحِسَان: 161 - عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَلَكَ طَريقاً يطلُبُ فيهِ عِلْمًا سَلَكَ الله به طَريقاً من طُرُق الجنَّةِ، وإنَّ الملائكةَ لتضَعُ أجنحتَها رِضًا لطالبِ العِلْم، وإنَّ العالمَ ليَستغفرُ لهُ مَنْ في السَّماواتِ وَمَنْ في الأَرضِ، والحِيْتانُ في جَوْفِ الماء وإنَّ فَضْلَ العالم على العابدِ كفضْلِ القمَرِ ليلةَ البَدرِ على سائرِ الكواكِبِ، وإِنَّ العُلَماء وَرثَةُ الأنبياءَ، وإِنَّ الأنبياء لم يوَرِّثوا دِيْنارًا ولا دِرهمًا، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ، فَمَنْ أَخَذَهُ أخذَ بحظٍّ وافِرٍ". "من الحسان": " عن أبي الدرداء أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن سلكَ طريقًا يطلب فيه علمًا سلك الله به طريقاً"؛ أي: أذهبه الله تعالى بسبب طلب العلم في طريق "من طرق الجنة" حتى يوصلَه إليها، وفيه: إشارة إلى أن طرق الجنة كثيرة؛ فكلُّ عملٍ صالحٍ طريقٌ من طرقها، وطلبُ العلم أقربُ طريق إليها وأعظم.

"وإن الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضاً": حال أو مفعول له؛ أي: يتواضعون "لطالب العلم" توقيراً للعلم، والسلام تتعلّق بـ (تضع). وقيل: المراد به حقيقته، وهي فَرشُ الجناحِ وبسطُها له؛ لتحملَه عليها، وتبلِّغَه مقصدَه من البلاد تعظيماً لعلمه. "وإن العالِم لَيَستغفر له مَن في السماوات"؛ لأنهم عُرفوا بتعريف العلماء، وعُظِّموا بقولهم. "ومَن في الأرض"؛ لأنَّ بقاءَهم وصلاحَهم مربوطٌ برأي العلماء وفتواهم، ولذلك قيل: ما من شيء من الموجودات حيها وميتِها إلا وله مصلحة متعلقة بالعلم. "والحِيتان" جمع: الحُوت. "في جوف الماء"، وخصَّ الحِيتان بالذِّكر؛ لعدم دخولها في جملة المذكور، إذ هي في الماء، وإن سلم أن قوله: (في الأرض) يشملها فذِكرُها للإيماء إلى أن العلم ما به حياة كل شيء، فلذلك استغفر للعالِم المسبب له مَن بقاؤُه مختصٌّ به. قال الله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]، قال ابن عباس: الماء العلم، والأودية القلوب. "وإن فضل العالِم" الذي يقوم بنشر العلم وتعليمه مع أدائه ما توجَّه إليه من فرائض الله تعالى. "على العابد" الذي يصرف أوقاتَه بالنوافل، ويشتغل بالتطوعات، مع كونه عالمًا بما يصح به العبادة. "كفضل القمر ليلةَ البدر": وهي الليلة الرابع عشر من الشهر. "على سائر الكواكب"، شبَّه العالِم بالقمر والعابد بالكواكب؛ لأنَّ كمالَ

العبادة ونورَها لا يتخطى العابد، وكمالَ العلم ونورَه يتعدى إلى غيره، فيُستضاء بنوره المتلقَّى من نور النبي - عليه الصلاة والسلام - كالقمر المتلقِّي نورَه مِن الشمس المنيرة بالذات من خالقها - عز وجل -. "وإن العلماءَ وَرثَةُ الأنبياء"، وإنما لم يقل: وَرثَةَ الرُّسل؛ ليشملَ الكلَّ. "وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهماً"، خصَّ الدرهم بالذكر؛ لأنَّ نفيَ الدينار لا يستلزم نفيَه. ولا يَرِدُ الاعتراض على هذا بأنّه - عليه الصلاة والسلام - كان له صفايا بني النضير، وفَدَك خيبر إلى أن مات، وخلَّفها، وكان لشعيب - عليه السلام - أغنام كثيرة، وكان أيوب وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - كلٌّ منهما ذا نعمة كثيرة؛ لأنَّ المراد: أنَّه ما وَرِثَتْ أولادهم وأزواجهم شيئًا من ذلك، بل بقي ذلك بعدهم مُعداً لنوائب المسلمين. "وإنما ورَّثوا العلمَ" وإظهارَ الدِّين ونشرَ الأحكام. "فمَن أخذَه"؛ أي: العلمَ؛ يعني: تَعَلَّمَه. "أخذَ بحظٍّ": الباء زائدة للتأكيد؛ أي: [أخذَ] حظًّا، وهو النصيب، أو المعنى: ملتبساً بحظ "وافر" من الحظوظ؛ أي: تام كامل؛ أي: لا حظَ أوفرُ منه، ويجوز أن يكون (أخذ) بمعنى: الأمر، والمعنى: مَن أراد أخذَه فَلْيأخذْ وافراً منه، ولا يَقْنع بقليله؛ فإن وضعَ الملائكةِ أجنحتَها واستغفارَ المخلوقات لطالِبه من أعلى المراتب للإنسان. * * * 162 - وقال أبو أُمامة الباهلي: ذُكِرَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رَجُلانِ أحدُهُما عابدٌ والآخَرُ عالمٌ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فضلُ العالِم على العابدِ كفَضْلي على

أَدناكُمْ"، ثمَّ قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله وملائكتَهُ وأهلَ السَّماواتِ والأرضِ حتَّى النَّملَةَ في جُحرِها وحتَّى الحوتَ لَيُصلُّونَ على معلّم النّاسِ الخير". "وقال أبو أمامة الباهلي - رضي الله عنه -: ذُكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: وُصف عندَه "رجلان: أحدهما عابد والآخر عالِم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضل العالِم على العابد كفضلي على أدناكم" في العلم، وهو يُشعِر أن درجةَ العلماء قاصيةٌ لا تُنال إلا باجتهاد عظيم. "ثمَّ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النَّملةَ في جُحرها"؛ أي: ثقبها. "وحتى الحوتَ في الماء لَيُصلُّون على معلِّم الناسِ الخيرَ"؛ أي: يدعُون له. قيل: أراد بالخير هنا: علم الدّين وما به نجاة الرَّجل. وإنما لم يطلق (المعلّم) ليُعلَم أن استحقاق الصلوات لأجل تعليم علم يوصل إلى الخير؛ أي: إلى الله تعالى. * * * 163 - وقال أبو سَعيد الخُدريُّ - رضي الله عنه -: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ النّاسَ لكُمْ تَبَعٌ، وإِنَّ رِجالًا يأتونكُمْ مِنْ أقطارِ الأرضِ يتفقَّهُونَ في الدِّينِ، فإذا أتوْكمْ فاسْتَوْصُوا بهِمْ خَيْرًا". "وقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الناسَ لكم تَبَعٌ" جمع: تابع، والخطاب لعلماء الصحابة - رضي الله عنه -؛ يعني: يتبعونكم في أفعالكم وأقوالكم؛ لأنكم أخذتم أفعالي وأقوالي. "وإن رجالاً يأتونكم من أقطار الأرض"؛ أي: جوانبها. "يتفقَّهون"؛ أي: يطلبون الفقه ويتعلَّمونه.

"في الدِّين"؛ أي: في أمور الدِّين وأحكامه. "فإذا أتَوكم فاستَوصُوا بهم"؛ أي: اطلبوا من أنفسكم الوصيةَ مني بالإحسان إليهم وتعليمهم العلمَ، وقيل: معناه: مُرُوهم بالخير وعِظُوهم. "خيراً": وعلّموهم إياه. * * * 164 - وقال: "الكلِمةُ الحِكْمَةُ ضالَّةُ الحَكيم، فحيثُ وجدَها فَهُوَ أَحَقُّ بها"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. غريب. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الكلمةُ الحكمةُ"، يروى بالإضافة وبالوصف، والمراد بـ (الكلمة) هنا: الجملة المفيدة، وبـ (الحكمة): المُحكَمة الممنوعة عن الخطأ والفساد. وقيل: الحكمة: الفقه في الدِّين، فُسّر به في قوله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]. "ضالَّة الحكيم"؛ أي: مطلوبه، والحكيم: هو المُتقِن للأمور، الذي له غَور فيها. "فحيث وجدَها فهو أحقُّ بها"؛ أي: بقَبولها والعمل بها، أو المعنى: كلمة الحكمة ربما تفوَّه بها مَن ليس لها بأهل، فإذا وقعت في أهلها فهو أَولى بها من قائلها من غير التفاتٍ إلى حاسة قائلها، كالضالَّة؛ إذا وجدها صاحبها فإنَّه أحقُّ بها من غيره. "غريب". * * * 165 - وقال: "طلَبُ العِلْم فريضةٌ على كُلِّ مُسلم"، رواه أنسٌ - رضي الله عنه -.

"وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طلبُ العلم"؛ أي: العلمِ الشرعيِّ "فريضة"؛ أي: فرضُ عينِ. "على كل مسلم"؛ أي: بالغِ، كعلم الكلام المتكفل ببيان معرفته تعالى بالوحدانية ومعرفة صفاته وصدق الرسول، وكعلم الطهارة والصلاة والصوم، والزكاة إن كان له مال، والحج إذا وجبَ عليه، وأما بلوغُ رتبة الاجتهاد والفُتيا ففرضُ كفايةٍ. * * * 166 - وقال: "لَفَقيهٌ أشدُّ على الشيطانِ مِنْ ألفِ عابدٍ"، رواه ابن عباس - رضي الله عنهما -. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لَفقيهٌ واحدٌ"؛ أي: بقاؤُه وحياتُه. "أشدُّ" وأبغضُ "على الشيطان مِن" بقاءِ "ألف عابدٍ" غيرِ فقيهِ وحياتِهم؛ لأنَّ الفقيه يأمر الناس بالإيمان والطاعة، ويدعوهم إلى سبيل الرحمن، فيكون عدوّاً للشيطان، ولا كذلك العابد، والمراد بالألف هنا: الكثرة. * * * 167 - وقال: "خَصلَتانِ لا تجتمعانِ في مُنافِقٍ: حُسْنُ سَمْتٍ، ولا فِقْهٌ في الدِّين"، رواه أبو هُريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خصلتان لا تجتمعان في منافق": بألا يكون فيه واحدة منهما، أو تكون واحدة منهما دون الأخرى. "حسن سَمْت"؛ أي: سيرة وطريقة في الدِّين.

"ولا فقه في الدِّين"؛ أي: معرفة بالعلوم الشرعية؛ إذ لا اعتقادَ له، ولو تعلم منها يكون لمصلحة الأمور الدنيوية ودفع السيف عن نفسه. والحديث يدل على عظم قَدر هاتين الخصلتين، وفيه: تحريض للمسلمين عليهما لينالوا فضيلةَ ما لا يناله المنافقون. * * * 168 - وقال: "مَنْ خَرَجَ في طَلَبِ العِلْمِ فهو في سَبيلِ الله حتَّى يرجِعَ"، رواه أنس - رضي الله عنه -. "وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن خرج" من بيته "في طلب العلم فهو في سبيل الله"؛ أي: في الجهاد. "حتى يرجع" إلى بيته؛ يعني: يحصل له أجر الجهاد؛ لأنَّ الدِّينَ يعلو بالعلم ويحيا به، كما يعلو بالجهاد. * * * 169 - وقال: "مَنْ طَلَبَ العِلمَ كان كفّارةً لِما مضَى"، رواه عبد الله بن سَخْبَرَة الأزدي - رضي الله عنه -. ضعيف. "وعن سَخْبَرة الأزدي، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: مَن طلبَ العلمَ كان كفارة لما مضى" من ذنوبه، والكفارة: ما يَستر الذنوبَ ويُزيلها، من "كَفَرَ" إذا سَتَرَ. "ضعيف". * * * 170 - وقال: "لَنْ يَشبَعَ المؤمنُ مِنْ خَيْرٍ يسمَعُهُ حتَّى يكونَ مُنتهاهُ الجنَّةُ"،

رواه أبو سَعيد الخُدري - رضي الله عنه -. "وعن أبي سعيد الخُدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: لن يَشبعَ المؤمنُ من خيرٍ"؛ أي: من علمٍ. "يسمعُه حتى يكونَ منتهاه"؛ أي: غايتُه ونهايتُه "الجنةَ"؛ يعني: يكون حريصاً على طلب العلم، ولا يَشبَع ولا يَمَلّ منه، حتى يموتَ فيدخلَ الجنةَ. * * * 171 - وقال: "مَنْ سُئلَ عن عِلْمٍ عَلِمَهُ ثمَّ كتمَهُ أُلجمَ يومَ القيامَةِ بِلِجامٍ مِنْ نارٍ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن سُئل عن علمٍ عَلِمَه"، والسائل محتاجٌ إليه في أمور دينه. "ثمَّ كتَمَه"؛ أي: سترَه. "أُلجمَ يومَ القيامة بلِجامٍ"؛ أي: أُدخل في فمه لِجامٌ "من نارٍ"، وإنما عُذِّبَ فمُه؛ لأنه موضعُ خروج العلم منه، فلما لم يُجِبِ السائلَ وسكتَ جازاه الله تعالى عن سكوته بإلجامه من النار. * * * 172 - وقال: "مَنْ طلَبَ العِلْمَ ليُجارِيَ بِهِ العُلماءَ، أو ليُمارِيَ بِهِ السّفهاءَ، أو يَصرِفَ بِهِ وُجُوهَ النّاسِ إليهِ أدخلَهُ الله النّار"، رواه كعب بن مالك - رضي الله عنه -. "وعن كعب بن مالك، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال: مَن طلبَ العلمَ ليُجارِيَ"؛ أي: ليُقاوِمَ، وقيل: لِيُفاخرَ.

"به العلماءَ"، ويقول لهم: أنا عالِمٌ مثلُكم، ويترفَّع ويتفاخر، كما ابتُلي به أكثر الناس إلا مَن عصمَه الله تعالى. "أو لِيُمارِيَ": أو ليُجادلَ. "به السفهاءَ" جمع: سفيه، وهو خفيف العقل، والمراد به هنا: الجاهل؛ يعني: ليجادل الجاهلين ويقول لهم: أنا عالِمٌ، وأنتم لستُم بعالِمين، فأنا خيرٌ منكم. وقيل: المراد بـ (السفهاء): شِرار العلماء، الذين ضيَّعوا أعمارَهم في الطلب، ولم ينفعهم علمهم، بل زادهم ذلك سفاهةً وشرًا، سماهم سفهاء؛ لأنَّ عقولَهم ناقصةٌ، بالنسبة إلى العلماء الربّانيين. "أو يصرفَ به"؛ أي: يُميلَ بالعلم "وجوهَ الناس إليه"، فيُعظّمونه ويُعطونه المال. "أدخلَه الله النارَ". وفي الحديث: وعيد لمن لم يكن له غرض صحيح في طلب العلم. * * * 173 - وقال: "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مما يُبتغى بهِ وَجْهُ الله، لا يتعلَّمُهُ إلا لُيصيبَ بهِ عَرَضًا مِنَ الدُّنيا لمْ يَجد عَرفَ الجنةِ يومَ القيامَةِ"؛ يعني: ريحَها، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَن تعلَّم علمًا مما مما يُبتغَى"؛ أي: يُطلَب. "به وجهُ الله"؛ أي: رضاه، كالعلوم الشرعية. "لا يتعلَّمه إلا ليُصيبَ به عَرَضًا من عَرَض الدنيا"؛ يعني: لم يَقصد في تعلُّمه إلا أن ينالَ الحظوظَ الدنيويةَ كالمال والجاه، نكَّر (عَرَضاً) ليتناول جميعَ

أنواع الأغراض، قليلَه وكثيرَه. "لم يجد عَرفَ الجنة يومَ القيامة؛ يعني: ريحها" الطيبة حين يجدها علماء الدِّين من مكان بعيد، فيكون يومَئذٍ كصاحب الأمراض الكائنة في الدماغ المانعة عن إدراك الروائح، وهذا تهديدٌ وزجرٌ عن طلب الدنيا بعمل الآخرة. * * * 174 - وقال: "نضَّرَ الله عبدًا سَمعَ مَقالَتي فحفِظَها ووَعاها وأَدّاها، فرُبَّ حامِلٍ فِقْهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فِقْهٍ إلى مَنْ هو أفقهُ مِنْهُ". "وعن ابن مسعود، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال: نضَّر الله عبدًا"؛ أي: يجعله ذا نَضارة، وهي النعمة والبَهجة. "سمعَ مقالتي، فحفظَها"؛ أي: عملَ بموجبها؛ فإن الحفظَ قد يُستعار للعمل، قال الله تعالى: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112]؛ أي: العاملون لفرائضه. "ووَعاها"؛ أي: دامَ على حفظها. "وأدّاها"؛ أي: أوصلَها إلى الناس وعلَّمها، وفيه: إشارة إلى الفُسحة في الأداء؛ حيث لم يُوجبْه معجَّلًا، وإنما دعا - عليه الصلاة والسلام - بالنضارة؛ لأنه جدَّد بحفظِه ونقلِه طراوةَ الدِّين وجلبابَه، ورواه كما سمعه غضّاً طريّاً من غير تحريف وتغيير. "فرُبَّ حاملِ فقهٍ غيرِ فقيهٍ": صفة لـ (حامل)، وهذا تعليل للحفظ والوعي؛ فإن الحاملَ قد لا يكون فقيهاً، فيجب عليه أن يحفظَ كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - ويؤدِّيَه إلي الفقيه ليَفهمَ المرادَ به. "ورُبَّ حاملِ فقهٍ" قد يكون فقيهاً ولا يكون أفقه، فيحفظه فيَعِيه ويبلِّغه

"إلى مَن هو أفقهُ منه"؛ ليُبرزَ الأفقهُ من جوامع الكلم النبوية كوامنَ الأحكام. * * * 174/ -م - وقال: "ثلاث لا يُغَلُّ عليهِنَّ قلبُ مُسلمٍ: إخلاصُ العَملِ لله، والنَّصيحةُ للمُسلمينَ، ولزومُ جماعَتِهِمْ، فإنَّ دعوتَهُمْ تُحيطُ مِنْ ورائِهِمْ"، رواه ابن مَسْعود - رضي الله عنه -. "وعن ابن مسعود، عن النبي - عليه الصلاة والسلام -: ثلاث"؛ أي: ثلاث خصال. "لا يَغِلُّ" بفتح الياء وكسر الغين: وهو الحِقد. "عليهن قلب مسلم"؛ أي: لا يكون ذا حقد على هذه الخِصَال، ويروى بضم الياء من: الإغلال، وهو الخيانة؛ أي: لا يخون قلب مسلم في هذه الخصال، والنفي هنا بمعنى النهي. "إخلاص العمل لله": بألا يكونَ للرِّياء وتحصيل جاهٍ أو مالٍ. "والنصيحة للمسلمين": بإرادة الخير لهم، وبأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه. "ولزوم جماعتهم": بألا يخالفا في الاعتقاد وفيما عليه إجماعُ المسلمين. "فإن دعوتَهم"؛ أي: دعوة الجماعة. "تُحيط"؛ أي: تَدُورُ "مِن ورائهم"، فيحرسهم ويحفظهم عن كيد الشيطان وإغوائه. وفيه: تنبيه على أن مَن خرجَ مِن جماعتهم لم تَنَلْه بركةُ دعائهم؛ لأنه خارجٌ عما أحاطَ بهم. * * *

175 - وقال: "نَضَّرَ الله امْرءًا سَمعَ مِنَّا شيئًا فَبَلَّغَهُ كما سَمِعَهُ، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى له مِنْ سامِعٍ"، رواه ابن مَسْعود - رضي الله عنه -. "وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: نضَّر الله امرأً سمع منَّا شيئًا فبلَّغَه كما سمعه": هذا أخص من قوله: "سمع مقالتي"؛ لأنه لا يندرج فيه غير الصحابي. "فرُبَّ مبلَّغ أَوْعَى له"؛ أي: أحفظُ "مِن سامعٍ". * * * 176 - وقال: "اتَّقُوا الحديثَ عنِّي إلاَّ ما عَلِمْتُمْ، فَمَنْ كَذبَ عليَّ مُتَعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مَقْعدَهُ مِنَ النَّار". "وعنه، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: اتَّقُوا الحديثَ"؛ أي: احذروا روايةَ الحديث "عني" فيما لا تعلمون أنه حديثي؛ أي: لا تُحدِّثوا. "إلا ما عَلِمتُم" أنه حديثي. "فمَن كَذَبَ عليَّ متعمدًا فَلْيتبوَّأْ مقعدَه من النار": تقدم بيانه. * * * 176/ -م - وقال: "مَن قالَ في القُرْآنِ برأْيهِ فليتبوَّأْ مَقعدَهُ مِنَ النَّار"، رواه ابن عباس - رضي الله عنه -. وفي روايةٍ أُخرى: "مَنْ قالَ في القُرآنِ بغيْرِ علْمٍ فليتبوَّأْ مَقْعدَهُ مِنَ النَّارِ". "وعن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مَن قال في القرآن برأيه"؛ أي: فسَّره مِن تِلقاء نفسه من غير أن يتبعَ (¬1) أقوالَ الأئمة. ¬

_ (¬1) في "م": "من غير تتبع".

"فَلْيتبوَّأْ مقعدَه من النار، وفي رواية: مَن قال في القرآن"؛ أي: قال فيه قولًا "بغير علم": من غير أن يكونَ له وقوفٌ على لغة العرب ووجوه استعمالاتها من الحقيقة والمجاز، والمشترك والعام والخاص، وغير ذلك من سبب نزول الآية والناسخ والمنسوخ. "فَلْيتبوَّأْ مقعده من النار". * * * 177 - وقال: "مَنْ قالَ في القُرآنِ برأْيهِ فأَصابَ فقدْ أخطَأَ"، رواه جُندُب - رضي الله عنه -. "وعن جُندب، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: مَن قال في القرآن برأيه" على حَسْب ما يقتضيه عقله. "فأصاب"؛ أي: صار مصيبًا فيما قاله. "فقد أَخطَأ" وأَثِمَ؛ لأنه لا إذنَ في التكلُّم فيه من غير علم. * * * 178 - وقال: "المِراءُ في القُرآنِ كُفْرٌ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: المِرَاءُ في القرآن كفرٌ"؛ أي: الشك في كونه كلامَ الله، أو المِراء: المجادلة فيما فيه مِرية؛ أي شك، وهو من أعمال الكفار، أو المِرَاء: الجدال المشكِّك في الآي المتشابه منه، المؤدِّي إلى الجُحود، فسمَّاه كفرًا باسم ما يُخشى عاقبتُه إلا مَن عصمَه الله. وقيل: هو المِرَاء في قراءته المَروية، بأن يُنكرَ بعضَها، فتوعَّدهم به لينتهوا

عن المِرَاء فيها والتكذيب بها؛ إذ كلُّها يجب الإيمان به. * * * 179 - وقال عَمْرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه: سمعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قومًا يَتَدَارَؤُنَ في القُرآن، فقال: "إنَّما هلكَ مَنْ كَانَ قبلَكُمْ بهذا، ضَربُوا كتابَ الله بعضَهُ ببعضٍ، وإنَّما نزَلَ كتابُ الله يُصدِّقُ بعضُهُ بعضًا، فلا تُكَذِّبُوا بعضَهُ ببعضٍ، فما عَلِمْتُمْ منه فقولُوه، وما جهلتُم فكِلُوهُ إلى عالمِهِ". "وقال عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: سمع النبي - عليه الصلاة والسلام - قومًا يَتَدارَؤُون"؛ أي: يختلفون "في القرآن"، ويدفع بعضُهم دليلَ بعضٍ منه، كما يَستدل أهلُ السُّنة على كون الخير والشر من الله بقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [النساء: 78]، وأنكره القَدَري مستدلًا بقوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. "فقال: إنما هلك مَن كان قبلكم بهذا" التدارُؤ. "ضَرَبُوا"؛ أي: خَلَطُوا. "كتابَ الله بعضَه ببعضٍ"، فلم يميزوا بين المُحكَم والمُتشابه، والناسخ والمنسوخ، والمُطلَق والمُقيَّد ونحوها، بل حَكَمُوا في كلِّها حكمًا واحدًا. وقيل: معناه: صرفوا كتاب الله بعضه ببعض عن المعنى المراد إلى ما مالَ إليه أوهامهم، كما فعلت اليهود بالتوراة، والنصارى بالإنجيل. "وإنما نزل كتاب الله مصدقًا (¬1) بعضُه بعضًا"؛ يعني: الإنجيلُ بيَّن أن التوراةَ كلامُ الله، وهو حق، والقرآنُ بيَّن أن جميع الكتب المنزلة من الله تعالى كلامُ الله، أنزله بالحق على عباده. ¬

_ (¬1) في "م": "يصدق".

"فلا تكذِّبوا بعضَه ببعض"، بل قولوا: كل ما أنزل الله على رسوله حق، وفيه: حثٌّ على طلب التخلُّص من التناقض الظاهر. "فما عَلِمتُم منه فقولوا، وما جهلتم" كالمتشابهات وغيرها "فكِلُوه"؛ أي: فوِّضُوه "إلى عالِمِه"، وهو الله تعالى، أو مَن هو أعلمُ منكم مِن العلماء، ولا تقولوا معنًى من تِلقاء أنفسكم. * * * 180 - وقال: "أَلا سأَلوا إذْ لم يعلَمُوا، فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤال"، رواه جابر. "وعن جابر رضي الله تعالى عنه، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: ألا": حرف تخصيص بمعنى: هلا. "سألوا إذا لم يعلَموا": وهذا يدل على أن السؤالَ عند عدم العلم واجبٌ. "فإنما شفاءُ العِيِّ" بكسر العين وتشديد الياء: التحيُّر في الكلام، والمراد به هنا: الجهل؛ يعني: شفاء الجهل "السؤال" والتعلُّم، فكلُّ جاهل لا يستحيى عن التعلُّم يجد شفاء دائه الذي هو الجهل، وإلا فلا يَبرَأ أبدًا منه. * * * 181 - وقال: "أُنْزِلَ القُرآنُ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، لكلِّ آيةٍ منها ظَهْرٌ وبَطْنٌ، ولكلِّ حدٍّ مَطْلَعٌ"، رواه ابن مسعود - رضي الله عنه -. "وعن ابن مسعود، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: أُنزل القرآنُ على سبعة أحرف" جمع: حرف، وهو الطَّرَف، والمراد: أطراف اللغة العربية.

وقيل: المراد بها: القراءات السبع المعروفة، وقيل: اللغات السبع المشهورة بالفصاحة، وهي قريش وهُذَيل وهوازن واليمن، وبنو تميم، وطيئ وثقيف. وقيل: معناه: أُنزل مشتملًا على سبعة معانٍ، هي: الأمر، والنهي، والقصص، والأمثال، والوعد، والوعيد، والموعظة. "لكل آية منها"؛ أي: من القرآن. "ظَهر": وهو لفظها المَتلوُّ. "وبَطن": وهو تأويلها، وقيل: ظَهرها: ما ظَهر بيانُه من غير رؤية وفكر، وبَطنها: ما هو بخلافه. "ولكلِّ حدٍّ" من حدود الله تعالى، وهي أحكام الدِّين التي شُرعت للعباد. "مُطَّلَع"؛ أي: موضع اطِّلاع من القرآن، فمَن وُفِّق أن يرتقيَ ذلك المُرتقَى اطَّلع منه على الحد الذي يتعلق بذلك المُطَّلع. وقيل: المطَّلع: الفَهم، وقد يفتح الله تعالى على المتدبر المتفكِّر فيه من المعاني والتأويلات ما لا يَفتحَ على غيره، {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ}. * * * 182 - وقال: "العِلْمُ ثلاثةٌ: آيةٌ مُحْكَمَةٌ، أو سُنَّةٌ قائمةٌ، أو فريضةٌ عادِلَةٌ، وما كان سِوى ذلكَ فَهُوَ فَضْلٌ"، رواه عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -. "وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: العلم"؛ أي: أصل علوم الدِّين ومسائل الشرع. "ثلاثة: آية مُحْكَمَة"؛ أي: غير منسوخة. "أو سُنَّة قائمة"؛ أي: ثابتة صحيحة عن أصحاب الحديث.

"أو فريضة عادلة"، قيل: هي الحكم المستنبط من الكتاب والسُّنة لمعادلة الحكم المنصوص فيهما، ومساواته له في وجوب العمل به. وقيل: معناه: معدَّلة بالكتاب والسُّنة والفريضة: ما اتفق عليها المسلمون، وهو إشارة إلى الحكم الثابت بالإجماع. "وما كان سوى ذلك" المذكور "فهو فَضْلٌ"؛ أي: زائدٌ لا ضرورةَ إلى معرفته، كالنحو والتصريف والعروض والطب، وغير ذلك. * * * 183 - وقال: "لاَ يَقُصُّ إلاَّ أميرٌ، أو مأْمورٌ، أو مُختالٌ" رواه عَوْف بن مالك الأَشجَعي - رضي الله عنه -. "وعن عوف بن مالك الأشجعي، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: لا يَقُصُّ"، القَصُّ: التكلُّم بالقصص، ويُستعمل في الوعظ؛ أي: لا يَعِظ. "الناسَ إلا أمير"؛ أي: حاكم. "أو مأمور": وهو الذي يأمره الأمير ويَأذَن له، فهذان يجوز لهما الوعظ. "أو مختال" من اختالَ: إذا تكبَّر، فالمراد به: الواعظ بلا إذن الأمير، فهو متكبر فُضُولي طالب للرئاسة. وفي هذا زجر عن الخطابة والوعظ بغير إذن الإمام؛ فإن الإمامَ أعرفُ بمصالح الرعية وبمن هو أهلٌ للوعظ من العلماء؛ وهو مَن كان فيه ديانةٌ وتركُ الطمعِ، وحسنُ العقيدةِ، وسكونُ النفس عن العداوة مع الناس. * * *

184 - وقال: "مَنْ أُفتيَ بغيرِ عِلْمٍ كان إثمُهُ على مَنْ أفتاه، ومَنْ أشارَ على أخيهِ بأمْرٍ يعلَمُ أنَّ الرُّشْدَ في غيرهِ فقدْ خانَهُ"، رواه أبو هريرة. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: مَن أُفتي" على صيغة المجهول من: الإفتاء. "بغير علم"؛ يعني: كلُّ جاهلٍ سألَ عالِمًا عن مسألة من أحكام الشرع، فأفتاه العالِم بجواب باطل، فعملَ السائلُ بها ولم يعلم بطلانها. "كان إثمه على مَن أفتاه، ومَن أشار على أخيه" بعد الاستشارة "بأمر يعلم"، المراد بالعلم أعمُّ من الظَّنِّ وغيره. "أن الرُّشدَ" والمصلحةَ "في غيره فقد خانَه"؛ لأنه دلَّه على ما ليس فيه مصلحة. * * * 185 - وقال مُعاوية - رضي الله عنه -: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأُغلوطات. "وقال معاوية - رضي الله عنه -: إن النبي - عليه الصلاة والسلام - نَهَى عن الأُغلوطات" جمع: أُغْلُوطة، وهي ما يُغلَط به من المسائل الملتبسة، وإنما نهى عنها لعدم نفعها في الدِّين. وقيل: الأُغلُوطة: هي المسألة التي يُوقِع السائلُ بها المسؤولَ عنها في الغلط؛ لغموضه فيها، فيَمتحنه ليظهر فضل نفسه، وهذا مَنهيٌّ عنه؛ لأن فيه تحقيرًا وإذلالًا (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في "م": "إيذاء وإذلالًا".

186 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَلَّمُوا الفَرائضَ والقُرآنَ؛ فإنِّي مَقْبُوضٌ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: تعلَّموا الفرائضَ"، قيل: هو علم الميراث، وقيل: ما فرضَه الله تعالى على عباده، وقيل: المراد بها: السُّنَن المشتملة على الأوامر والنواهي، والصحيح: أنه أراد بها جميع ما يجب على الناس معرفتُه، وإنما حثَّ على تعلُّمها؛ لأن العقابَ لا يتعلق إلا بها. "والقرآنَ"؛ وإنما حث عليه صلى الله تعالى عليه وسلم لقوله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وهو الأصل الذي لا بد منه. "فإني مقبوضٌ"؛ أي: سأُقبَض، وخصَّهما لانقطاعهما بقبضه عليه الصلاة والسلام. * * * 187 - عن - رضي الله عنه -: أنه قال: كُنَّا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فشخَصَ ببصرهِ إلى السَّماءِ، ثمَّ قال: "هذا أَوانٌ يُخْتَلَسُ فيه العِلْمُ مِنَ النَّاسِ حتَّى لا يقدِرُوا منهُ على شيءٍ". "وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فشَخَصَ ببصره"؛ أي: نظرَ بعينيه. "إلى السماء، ثم قال: هذا أوانُ"؛ أي: وقتُ. "يُختلَس"؛ أي: يُسلَب "فيه العلم" بسرعة "من الناس"، قيل: المراد: استلاب علم الوحي، بأن كُوشِفَ - صلى الله عليه وسلم - باقتراب أجله، فأَعلَمَهم بذلك.

"حتى لا يَقدروا منه"؛ أي: من العلم. "على شيء"، إلا ما تعلَّموه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 188 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - روايةً: "يُوشِكُ أنْ يضربَ النَّاسُ أكبادَ الإبلِ يطلُبُونَ العِلْمَ، فلا يَجِدُونَ أحدًا أعلمَ مِنْ عَالِم المدينةِ". قال ابن عُيَينة: هو مالك - رضي الله عنه -، ومثله عن عبد الرزَّاق، وقيل: هو العُمَرِيُّ الزَّاهِدُ. "وعن أبي هريرة روايةً: يُوشِك"؛ أي: يَقرُب. "أن يَضربَ الناسُ أكبادَ الإبل"، أي: يُجهدون الإبلَ ويُركضونها، كنى بضرب الأكباد عن سرعة السَّير والرَّكض؛ لأن أكبادَ الإبل والفَرَس وغيرهما تتحرك عند الركض، ويلحقها ضررٌ من قطع المسافة؛ يعني: قَرُبَ أن يأتي زمانٌ يسير الناس سيرًا شديدًا من البلاد البعيدة. "يطلبون العلمَ، فلا يجدون أحدًا أعلمَ من عالم المدينة"، وهذا في زمان الصحابة والتابعين، وأما بعد ذلك فقد ظهرت العلماء الفحول في كل بلدة من بلاد الإسلام أكثر مما كانوا في المدينة. "وقال ابن عيينة"، اسمه سفيان: هذا العالِم الذي أشار إليه - عليه الصلاة والسلام - "هو مالك" بن أنس، وهو أستاذ الشافعي، وكان صاحبَ فراسة وحديث واجتهاد. "ومثله"؛ أي: مثل ما قال ابن عيينة في مالك. "عن عبد الرزاق"، وهو من فُضَلاء أصحاب الحديث. "وقيل: هو العُمَري الزاهد"، أراد به: عمر بن عبد العزيز الخليفة، قيل

له: العُمَري نسبةً إلى عمر بن الخطاب؛ لأنه ابن ابن ابنته. وقيل: هو عبد الله [بن عمر] بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهم -. قيل: كان أحد العلماء الراسخين، وكان يُقدَّم على مالك بن أنس. * * * 189 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - فيما أعلمُ - عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله عز وجل يَبْعَثُ لهذهِ الأُمَّةِ على رأْسِ كلِّ مئةِ سنةٍ مَنْ يُجَدِّدُ لها دينَهَا". "عن أبي هريرة فيما أعلم"؛ أي: هذا الحديث كائنًا في علمي هو عن أبي هريرة. "عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله عز وجل يبعث لهذه الأمة" إذا قلَّ العلمُ وغلبت المبتدعون. "على رأس كل مئة سَنةٍ مَن يجدِّد": مفعول (يبعث)؛ أي: يبعث عالِمًا ربَّانيًا يجدِّد. "لها"؛ أي: لهذه الأُمة. "دِينَها"، بأن يعلِّمَهم علومَ الدِّين، ويُبينَ لهم السُّنةَ عن البدعة، وَيكسرَ أهلَ البدعة ويُذلَّهم، ويؤيدَ الدِّينَ، ويُعزَّ أهلَه، ويكثرَ العلمَ بين الناس. * * * 190 - وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يحملُ هذا العلمَ مِنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ، يَنفُون عنهُ تَحْريفَ الغالِيْن، وانتِحالَ المُبْطِلين، وتأْويلَ الجاهلين". والله أعلم وأحكم. "وعن إبراهيم بن عبد الرحمن العُذْري أنه قال: قال رسول الله - قال

الله تعالى عليه وسلم -: يَحملُ"؛ أي: يَحفظُ. "هذا العلمَ" الذي صدر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو الكتاب والسُّنة؛ أي: يأخذ ويقوم بإحيائه وتعليمه. "مِن كل خَلَف"، وهو بتحريك اللام: الرجل الصالح الآتي بعد السَّلَف الصالح. "عُدُولُه"؛ أي: يَحملُه منهم مَن كان عَدْلًا صاحبَ التقوى والدِّيَانة. "يَنْفُون": جملة حالية؛ أي: نافين "عنه"؛ يعني: طاردين عن هذا العلم "تحريفَ الغالِين"؛ أي: تبديلَ المتجاوزين في أمر الدِّين عما حُدَّ وبُين له؛ يعني: المبتدعين الذين يتجاوزون في الكتاب والسُّنة عن المعنى المراد، فيحرِّفونه عن جهته، كأقوال القَدَرية والجَبْرية والمشبهة وغيرهم من أهل البدع. "وانتحالَ المُبطِلين"؛ أي: كذبَهم في نسبة القول، أراد بـ (المُبطِلين) هنا: الواضعين أحاديثَ وأقوالًا مِن تِلقاء أنفسهم، ويقولون: هذا حديث رسول الله أو فعله أو سُنته؛ ليَستدلَّ به على باطله. "وتأويلَ الجاهلين" في القرآن والأحاديث بما ليس بصواب؛ أي: يبين العلماءُ للناس بطلان تلك التأويلات، ويمنعهم عن قَبولها، وفيه: ثناءٌ منه - عليه الصلاة والسلام - على طَلَبَة العلم ونَقَلَته، وشهادةٌ لهم بالعدالة. * * *

3 - كتاب الطهارة

3 - كِتَابُ الطَّهَارَةِ

3 - كِتَابُ الطَّهَارَةِ (كتاب الطهارة) مِنَ الصِّحَاحِ: 191 - عن أبي مالك الأَشْعَري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطُّهُورُ شَطْرُ الإيمانِ، والحمدُ لله تَملأُ المِيْزانَ، وسُبحانَ الله والحمدُ لله تملآن - أو: تملأُ - ما بينَ السماواتِ والأرضِ، والصَّلاةُ نورٌ، والصَّدقةُ بُرهانٌ، والصَّبْرُ ضياءٌ والقُرآنُ حُجَّةٌ لكَ أو عليك، كُلُّ النَّاسِ يَغْدو، فبائعٌ نفسَهُ، فَمُعْتِقُهَا أو مُوبقُهَا"، وفي روايةٍ أخرى: "ولا إلهَ إلاَّ الله والله أكبرُ يملآن ما بينَ السَّماءِ والأرض". "من الصحاح": " عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: الطهور": قيل: هو بالضم وبالفتح مصدر. وقيل: بهما اسم لِمَا يُتطهر به، والأكثرون على أنه بالضم: مصدر، وبالفتح: اسم له، وهنا أُريد معنى المصدر. "شَطر الإيمان"، والمراد بالإيمان هنا: الصلاة، كما قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]؛ أي: صلاتكم، وإنما جُعلت الطهارةُ

شطرَها؛ لأن صحة الصلاة باستجماع شرائطها وأركانها، جعل الطهارةَ التي [هي] أقوى شرائطها كالشطر منها، ولا يلزم في الشطر أن يكون نصفًا حقيقيًا، أو المراد بالإيمان: حقيقته. ومعنى كونه شطرًا: أن الإيمانَ طهارةُ الباطن عن الشِّرك، والطهور: طهارة الظاهر عن الحَدَث والخَبَث. وقيل: معناه: يُضاعَف أجره إلى نصف أجر الإيمان. وقيل: المراد بالطهور: تزكية النفس عن الأخلاق الرديئة، فيكون شطرًا للإيمان الكامل. "والحمدُ لله"؛ أي: التلفُّظ به. "تملأ الميزانَ"؛ أي: ميزانَ قائله من الأجر، من عظمة هذا اللفظ، وقيل: هذا شطر الثاني للأول؛ لأن الإيمان نصفانِ: نصفُ صبرٍ، ونصفُ شكرٍ، فعبَّر عن الصبر بالطهور، وعبَّر عن الشكر بالحمد؛ لأنه رأسُ الشكر، فالصبر مع الشكر يملأ الميزانَ. "وسبحان الله والحمد لله تملآن أو يملأ": شك من الراوي؛ أي: يملأ كلُّ واحدٍ منهما؛ أي: ثوابُهما بتقدير فرضِ الجسمية "ما بين السماوات والأرض"؛ لكون الحمد والتسبيح أعلى مقامات العباد. "والصلاةُ نورٌ"؛ أي: في القبر وظلمة القيامة، تسعى بين يدَي صاحبها حتى توصلَه إلى الجنة، كما قال الله تعالى: {يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8]، ويحصل للمصلِّي نور في الدنيا أيضًا؛ لأن العبدَ يخرج بها عن ظلمة الضلالة إلى ضياء الهُدى. "والصدقةُ برهانٌ"؛ أي: دليلٌ واضحٌ وحُجةٌ على صدق صاحبها في دعوى الإيمان؛ لطِيبِ نفسه بإخراجها، إذ المالُ شقيقُ الروح.

"والصبرُ"؛ أي: حبسُ النفس عما تشتهي وتتمنَّى من الشهوات "ضياءٌ"؛ أي: نور ينكشف به الكُرُبات، وتنقلع به الظُّلمات؛ لأنه يخرج به عن عهدة التكاليف الشرعية، ويتقوَّى على مخالفة هَوَى الشيطان. "والقرآنُ حُجَّةٌ لك"؛ أي: دليلٌ على نجاتك وفوزك إنْ عملتَ به. "أو عليك"؛ أي: دليلٌ على سوء حالك إن أَعرضتَ عنه ولم تَعملْ به. "كلُّ الناس يغدو"؛ أي: يُصبح. "فبائعٌ نفسَه" بإعطائها وأخذ عوضها، وهو عملُه وكسبُه، فإنْ عملَ خيرًا فقد باعَها وأخذَ الخيرَ من ثمنها. "فمُعتِقُها" من النار بذلك. "أو مُوبقُها"؛ أي: مُهلِكها، بأن باعَها وأخذَ الشرَّ عن ثمنها. وقيل: المراد بالبيع هنا: الشراء بقرينة قوله: (فمُعتِقها)؛ لأن الإعتاقَ إنما يصحُّ من المشتري، فمعناه: مَن تركَ الدنيا وآثَرَ الآخرةَ يكون مشتريًا نفسَه من ربه بالدنيا، فيكون مُعتِقَها، ومَن تركَ الآخرةَ وآثَرَ الدنيا يكون مشتريًا بالآخرة، فيكون مُوبقَها. "وفي رواية: لا إله إلا الله والله أكبر يملآنِ ما بين السماء والأرض". * * * 192 - وقال: "ألا أُخْبرُكُمْ بما يَمْحُو الله بهِ الخَطايَا ويرفَعُ بِهِ الدرجاتِ؟ إسباغُ الوُضُوءِ على المَكَارِهِ، وكَثْرَةُ الخُطَا إلى المَساجِدِ، وانتِظارُ الصلاةِ بعدَ الصَّلاةِ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ، فذلِكُمُ الرِّباطُ، فَذلِكُمُ الرِّباطُ"، رواه أبو هُريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخبركم بما يمحو الله به

الخطايا" جمع: خطيئة، ومحوها: كناية عن غفرانها، والمراد به: محوها من كتاب الحَفَظَة. "ويرفع به الدرجات؟ إسباغُ الوضوء على المَكَاره" جمع: مَكْرَه - بفتح الميم - بمعنى: الكره والمَشقة؛ يعني به: إتمامه، بإيصال الماء إلى مواضع الفَرض حالَ كراهةِ فعلِه، من شدة البرد أو ألم الجسم. "وكثرة الخُطا" جمع: خُطوة بضم الخاء، وهي ما بين القدمين، وكثرتها أعم من أن تكون ببُعد الدار أو بكثرة التكرار. "إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة"، سواءٌ أدَّاها بجماعة، أو مفردًا في المسجد أو في بيته. "فذلكم الرِّباط"؛ أي: الخِصَالُ المذكورة الرِّباط المذكورُ في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا} [آل عمران: 200] الآية، والرباط: الجهاد؛ أي: ثوابُ هذه كثواب الجهاد؛ إذ فيه مجاهدة النفس بإذاقتها المكارهَ والشدائدَ، وهو الجهاد الأكبر. "فذلكم الرِّباط، فذلِكم الرِّباط"، كرَّره لأجل زيادة الحثِّ، وقيل: يريد با لأول: ربط الخيل، وبالثاني: جهاد النفس، وبالثالث: طلب الحلال. * * * 193 - وقد قال: "مَنْ توضَّأَ فأَحسنَ الوُضُوءَ خرجتْ خطاياهُ مِنْ جسَدِهِ حتَّى تخرجَ مِنْ تحتِ أَظْفارِهِ"، رواه عُثمان - رضي الله عنه -. "وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: مَن توضَّأ، فأَحسنَ الوضوءَ"، إحسان الوضوء: إكماله بمراعاة فرائضه وسُنَنه وآدابه.

"خرجت خطاياه"، المراد بها: الصغائر، وخروجها: مجاز عن غفرانها. "من جسده"؛ أي: من جميع بدنه. "حتى تخرج من تحت أظفاره". * * * 194 - وقال: "إذا توضَّأَ العبدُ المُسلمُ - أو: المُؤمن - فغَسلَ وَجهَهُ خرجَ مِنْ وَجهِهِ كُلُّ خطيئةٍ نظرَ إليها بعَينه مَعَ الماءِ - أو: معَ آخرِ قَطْرِ الماءِ - فإذا غسلَ يَدَيْهِ خرجَ مِنْ يَديْهِ كُلُّ خطيئَةٍ بَطَشَتْها يداهُ مع الماءِ - أو: مع آخرِ قَطْرِ الماءِ - فإذا غسلَ رِجْلَيْهِ خرجَ كلُّ خطيئةٍ مَشَتْها رِجلاهُ مَعَ الماءِ - أو: معَ آخرِ قطْرِ الماءِ حتى يَخْرُجَ نَقِيًّا مِنَ الذُّنُوبِ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: إذا توضَّأ العبدُ المسلمُ أو المؤمنُ": شك من الراوي. "فغسلَ وجهَه خرج من وجهه كلُّ خطيئة نظر إليها بعينَيه": والجملة صفة (خطيئة) مجازًا، وكذا أخواته. "مع الماء، أو مع آخر قطر الماء": شك من الراوي، القَطْر: إجراء الماء وإنزاله قطرةً قطرةً. "فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بَطَشَتْها"؛ أي: أخذتْها "يداه"، من ملامسة النساء المُحرَّمة وغيرها. "مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل رِجلَيه خرج كل خطيئة مَشَتْها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء، حتى يَخرجَ نقيًّا"؛ أي: يَفرغَ المتوضئ من وُضوئه طاهرًا "من الذنوب"؛ أي: من الخطايا التي اكتسبَها بهذه الأعضاء، والحديث يدل على أن المغفورَ ذنوبُ أعضاء الوضوء.

فالتوفيق بينه وبين الحديث المتقدم: أن غفرانَ جميع الجسد يكون عند التوضُّؤ بالتسمية، يشير إليه إحسان الوضوء، وغفران أعضاء الوضوء يكون عند عدم التسمية. * * * 195 - وقال: "ما مِنِ امرئٍ مُسلمٍ تحضُرُهُ صلاةٌ مكتوبةٌ، فيُحْسِنُ وُضوءَها وخُشُوعَها ورُكُوعَها، إلاَّ كانَتْ كَفَّارة لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ ما لَمْ يأْتِ كبيرةً، وذلكَ الدَّهْرَ كُلَّهُ"، رواه عثمان - رضي الله عنه -. "وعن عثمان - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: ما من امرئٍ مسلمٍ تحضره صلاةٌ مكتوبةٌ"؛ أي: يدخل عليه وقت صلاة مفروضة كتبها الله تعالى على عباده. "فيُحسن وُضوءَها وخشوعَها"، بإتيان كل ركن على وجه هو أكثر تواضعًا وإخباتًا. "وركوعَها"، وإنما خصَّ الركوع بالذِّكر؛ لأن تحمُّلَ النفس فيه أشقُّ من السجود الذي يضعها فيه على الأرض، أو لأنه من الهيئات الخاصة بصلاة المسلمين دون السجود. "إلا كانت"؛ أي: تلك الصلاةُ. "كفَّارةً"؛ أي: ساترةً ومُزِيلةً. "لِمَا قبلَها من الذنوب"؛ يعني: الصغائر. "ما لم يأتِ"؛ أي: ما دام لم يعملْ "كبيرةً"، فإذا أتاها لم تكن كفارةً لجميع ما قبلَها من الذنوب، هكذا في أكثر النسخ. وقيل: هو تحريف لم تأتِ به رواية، والصواب: "ما لم يؤتِ كبيرة" على

بناء الفاعل من: الإيتاء، ويروى: "لم يُؤتَ" على بناء المجهول؛ أي: ما لم يُصَبْ بكبيرة. "وذلك"؛ أي: تكفير الصلاة الذنوب الصغائر. "الدهرَ كلَّه": نُصب على الظرف؛ أي: يكون في جميع الدهر، لا يختص بفرض واحد، بل كل فرض يكفِّر صغائرَ ما قبلَه، ويجوز أن يكون ذلك إشارةَ إلى عدم الإتيان بالكبيرة، فمعناه: عدم إتيانها في كل الدهر مع إتيان المكتوبة كفارةٌ لِمَا قبلَها، أو إلى ما قبل المكتوبة؛ أي: المكتوبة تكفِّر ما قبلَها، ولو كان ذنوبَ العمر. * * * 196 - وعن عثمان: أنَّهُ توضَّأَ فأَفْرغَ على يديْهِ ثلاثًا، فغسَلَهُمَا، ثُمَّ مضمضَ واستنشَقَ واستنثر، ثمَّ غسلَ وَجهَهُ ثلاثًا، ثمَّ غسلَ يدَهُ اليُمنى إلى المِرْفَقِ ثلاثًا، ثمَّ غسلَ يدهُ اليُسرى إلى المِرْفَقِ ثلاثًا، ثمَّ مسحَ برأسِهِ، ثمَّ غسلَ رِجلَهُ اليُمنى ثلاثًا، ثمَّ اليُسرى ثلاثًا، ثمَّ قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ نحوَ وُضوئِي هذا، ثم قال: "مَنْ توضَّأ نحوَ وُضوئِي هذا ثم يُصلِّي ركعتَيْنِ لا يُحدِّثُ نفسَهُ فيهما بشيء غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ مِنْ ذَنبهِ". "وعن عثمان - رضي الله عنه -: أنه توضَّأ، فأفرغ"؛ أي: صبَّ الماءَ. "على يديه ثلاثًا، فغسلَهما، ثم مَضْمَضَ"؛ أي: ردَّ الماء في فمه. "واستَنْثَرَ (¬1) "؛ أي: جعلَ الماءَ في أنفه وجوَّه إلى فوقه، وأخرج نَفَسَه ليخرج ما في أنفه من المُخاط. "ثم غسلَ وجهَه ثلاثًا، ثم غسلَ يدَه اليمنى إلى المِرْفَق ثلاثًا، ثم غسلَ ¬

_ (¬1) في "غ": "واستنشق"، وجاء على هامش "غ": "وفي بعض النسح: "استنثر"، وكلاهما واحد؛ أي: ردَّ الماءَ في أنفه. مظهر".

يدَه اليسرى إلى المِرْفَق ثلاثًا، ثم مسح برأسه، ثم غسل رِجلَه اليمنى ثلاثًا، ثم اليسرى ثلاثًا"؛ أي: غسلَ رِجلَه اليسرى، "ثم قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - توضَّأ نحو وُضوئي هذا، ثم قال"؛ أي: النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - حينَ فرغَ من وضوئه: "مَن توضأ وُضوئي"؛ أي: مثلَ وُضوئي "هذا"، جامعًا لفرائضه وسُنَنه. "ثم يصلي ركعتين"، فريضةً كانت أو نافلةً. "لا يُحدِّث نفسَه فيهما بشيء"؛ أي: لا يجري في قلبه وسوسةٌ بأمر دنيوي، وذلك يكون بالإقبال عليها بالقلب والبدن. "غُفر له ما تقدَّم من ذَنْبه"؛ أي: من الصغائر. يُفهَم من هذا الحديث أن الغفرانَ مرتَّب على الوضوء مع الصلاة، ومن الحديث المتقدم: ترتبه على مجرد الوضوء. فالتوفيق: أن يُحمل الحديث المتقدم على كونه متأخرًا في الصدور عنه - عليه الصلاة والسلام - بأن كان الغفرانُ مرتبًا أولًا على الوضوء مع الصلاة، ثم جُعل مرتبًا على مجرد الوضوء لمزيد فضله. * * * 197 - وقال: "ما مِنْ مُسلمٍ يتوضَّأُ فيُحسِنُ وُضُوءَهُ، ثمَّ يقومُ فيُصلِّي ركعتَيْنِ مقبلًا عليهِمَا بقلبهِ ووجهِهِ إلاَّ وَجَبَتْ له الجنَّة". وقال: "مَنْ توضَّأَ فأحسنَ الوُضوءَ ثمَّ قال: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهمَّ اجعلْني من التوَّابينَ، واجعلني من المتطهِّرينَ، فُتِحَتْ لهُ ثمانيةُ أبوابٍ من الجنَّة يدخلُ مِنْ أيها شاءَ"، رواه عُقبة بن عامر.

"وعن عقبة بن عامر، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: ما من مسلم يتوضَّأ، فيُحسن وُضوءَه، ثم يقوم فيصلي ركعتين مُقبلًا عليهما"؛ أي: حالَ كونه متوجِّهًا على تلك الركعتين "بقلبه ووجهه"؛ أي: بظاهره وباطنه. "إلا وجبت له الجنة"؛ يعني: أنه تعالى يعطيه الجنةَ تفضُّلًا وتكرُّمًا، بحيث لا يخالف وعده، كمَن وجب عليه شيء؛ لأنه كريمٌ لا يُضيع أجرَ المحسنين. "ومَن توضَّأ، فأَحسنَ الوضوءَ ثم قال": عقيبَ وضوئه: "أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، اللهم اجعلْني من التوَّابين، واجعلني من المتطهِّرين فُتحت له ثمانيةُ أبواب الجنة، يدخل مِن أيها شاء". * * * 199 - وقال: "إنَّ أُمَّتي يُدْعَوْنَ يومَ القِيامَةِ غُرًّا مُحَجَّلينَ مِنْ آثارِ الوُضوءِ، فَمَنِ استطاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطيلَ غُرَّتَهُ فلْيَفْعَلْ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إن أمتي يدعون يوم القيامة غرًا": نصب على أنه مفعول ثان لـ (يدعون) بمعنى يسمَّون (غُرًّا) جمع أغر، وهو أبيَضُ الوجه. "محجَّلين": وهو أبيض الرِّجْلِ واليد لما يُرى عليهم "من آثار الوَضوء" بفتح الواو، وهو الماء الذي وصل إلى أعضاء المتوضيء، وينادون على رؤوس الأشهد: أيها الغُرُّ المحجلون هلمُّوا إلى الجنة، أو على الحال؛ أي: يدعون حال كونهم غُرًّا محجَّلين؛ أي: يكونون على هذه السِّمة. "فمن استطاع منكم أن يطيل غرته" وتحجيله بإيصال الماء إلى أكثر من

محل الفرض "فليفعل". * * * 198 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "تَبْلُغُ الحِلْيَةُ مِنَ المُؤْمِنِ حيثُ يبلُغُ الوَضُوءُ"، رواهما أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: تبلغُ الحِليَةُ" المراد به: البياض الحاصل للمؤمن يوم القيامة في أعضاء الوضوء؛ أي: يبلغ النور. "من المؤمن حيث يبلغ الوَضوء" بالفتح؛ أي: ماءُ وضوئه من الأعضاء، وقيل: المراد بـ (الحلية): الزينة في الجنة من السِّوار والخَلْخَال. * * * مِنَ الحِسَان: 200 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَقِيمُوا ولَنْ تُحْصُوا، واعْلَمُوا أنَّ خيرَ أعمالِكُمُ الصَّلاةُ، ولا يُحافِظُ على الوُضُوءِ إلاَّ مُؤْمِنٌ"، رواه ثَوبان - رضي الله عنه -. "من الحسان": " عن ثوبان - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: استقيموا"؛ أي: الزموا الطريق المستقيم. "في كل شيء": بجميع المأمورات والنواهي. "ولن تُحْصُوا"؛ أي: ولن تطيقوا أن تستقيموا حقَّ الاستقامة؛ لأنها شديدة، ولكن ابذلوا جهدَكم في طاعة الله تعالى بقدر ما تطيقون. "واعلموا أن خير أعمالكم"؛ أي: أفضلها وأتمها دلالة على الاستقامة.

2 - باب ما يوجب الوضوء (باب ما يوجب الوضوء)

"الصلاة": لأن فيها من كل عبادة شيئًا كالقراءة، والتسبيح، والتحميد، والتكبير وترك الأكل وغير ذلك. "ولا يحافظ"؛ أي: لا يداوم. "على الوضوء إلا المؤمن": كاملٌ في إيمانه، دائم الشهود بقلبه وبدنه في حضرة ربه؛ لأن الحضور في الحضرة القدسية بدون الطهارة بعيد عن الأدب. * * * 201 - وقال: "مَنْ توضَّأ على طُهْرٍ كُتب له عشْرُ حسَناتٍ"، رواه ابن عمر. غريب. "وقال: من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات"، تجديد الوضوء إنما يُستحَبُّ إذا صلَّى بالوضوء الأول صلاة، وإلا فلا يستحب. قيل: هذا حديث برأسه: "رواه ابن عمر" وفي بعض النسخ مكتوب من حديث (استقيموا) من غير فاصلة. * * * 2 - باب ما يُوجِب الوضوءَ (باب ما يوجب الوضوء) مِنَ الصِّحَاحِ: 202 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقْبَلُ صلاةُ مَنْ أحدثَ حتَّى يتوضَّأَ".

"من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقبل صلاة من أحدث"؛ أي: صار ذا حدث. "حتى يتوضأ"؛ أي: لا يقبل الله تعالى صلاة بغير الوضوء، فإن لم يجد الماء يقوم التيمم مقامَهُ، فإن لم يجد ماءً ولا ترابًا ذكر المُظْهِر: أنه يصلِّي فرضَ الوقت وحده لحرمة الوقت، ثم إن مات قبل وجدانهما لا إثم عليه. * * * 203 - وقال: "لا تُقْبَلُ صلاةٌ بغيرِ طُهُورٍ، ولا صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ"، رواه ابن عمر - رضي الله عنهما -. "وعن ابن عمر عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: لا تقبل صلاة بغير طُهُور": وهو بالضم: التطهر، وبالفتح: الماء الذي يُتَطهر به، وفي هذين الحديثين دلالة على شرطية الطهارة في صحة الصلاة. "ولا صدقة"؛ أي ولا يقبل صدقة. "من غلول"؛ أي: خيانة كسرقة ونحوها، يعني: لا يقبل من مال حرام. * * * 204 - وقال علي - رضي الله عنه -: كنتُ رجلًا مَذَّاءً، فكنتُ أَستحي أن أسألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأَمرتُ المِقْدادَ فسألَهُ، فقال: "يَغسِلُ ذكَرَهُ ويتوّضأُ". "وقال علي: كنت رجلًا مذَّاء" بالتشديد والمد؛ أي: كثير المذي، وهو أرقُّ من المني يخرج من الرجل عند الملاعبة بامرأته أو عند النظر إليها. "فكنت أستحيى أن أسأل النبي - عليه الصلاة والسلام - ": عن حكم

المذي، هل هو نجس وموجب للغسل أم لا؟ وإنما استحيى من سؤاله - عليه الصلاة والسلام -؛ لأن فاطمة كانت تحته. "فأمرْتُ المقداد فسأله فقال: يغسل ذَكَرَه" لنجاسته، ولتتقلص العروق وتنكسر الشهوة، فينقطع المذي. "ويتوضأ": لأنه يبطل الوضوء ولا يغتسل. * * * 205 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "توضَّؤوا مما مَسَّتِ النَّارُ"، وهذا منسوخٌ بما روي: 206 - عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أكلَ كَتِفَ شاةٍ ثمَّ صلَّى ولم يتوضَّأ. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضئوا مما مست النار": وهو الذي أثَّرت فيه النار، وغيرته كاللحم والدبس والخبز وغير ذلك. "وهذا منسوخ": على قول من حمل الوضوء هنا على الشرعي الواجب "بما روي" عن عبد الله بن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكل كتف شاة ثم صلى ولم يتوضأ". * * * 207 - وعن جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا سألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضَّأُ مِنْ لُحُومِ الغَنَمِ؟ قالَ: "إنْ شِئْتَ فَتَوَضَّأْ، وإن شِئْتَ فَلا"، وقال: أَنتَوضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإبلِ؟، قالَ: "نعم". قال: أُصَلّي في مَرابضِ الغَنَمِ؟ قال: "نعم"، قال: أُصَلِّي في مبارِكِ الإبلِ؟ قال: "لا".

"وبما روي: عن جابر بن سمرة: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئْتَ فتوضأ، وإن شئْتَ فلا"، والأولى: أن يحمل الوضوء في الحديث المتقدم على اللغوي، وهو النظافة وإزالة الزُّهومة، والأمر على الاستحباب بدليل ما قال الرجل: "أنتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم": لأن لحم الإبل له رائحة كريهة؛ بخلاف لحم الغنم، فعلى هذا لا يكون منسوخًا. "قال"؛ أي: الرجل. "أصلي": بحذف حرف الاستفهام. "في مرابض الغنم": جمع مَرْبض - بفتح الميم وكسر الباء -: موضع الرُّبوض. "قال: نعم قال: أأصلي في مبارك الإبل": جمع مَبْرَك - بفتح الميم والراء -: موضع البُروك. "قال: لا": لأن الرجل لا يأمن فيه من نفار الإبل فيلحقه منها صَدْمَة، فلا يكون له حضور في الصلاة؛ بخلاف مرابض الغنم. * * * 208 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وجدَ أَحَدُكُمْ في بَطْنِهِ شيئًا فَأَشْكَلَ عليهِ: أخَرَجَ منهُ شيءٌ أمْ لا؟؛ فلا يخرُجَنَّ مِنَ المَسجِدِ حتى يسمَعَ صَوْتًا أو يجدَ ريحًا". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا وجد أحدكم في بطنه شيئًا"؛ أي: تردد في بطنه ريح. "فأشكل عليه أَخَرَج": الهمزة للاستفهام؛ أي: هل خرج.

"منه شيء أم لا، فلا يخرجن من المسجد"؛ أي: للتوضؤ؛ لأن التيقن لا يبطله الشك. "حتى يسمع صوتًا"؛ أي: حتى يحصل علمه بصوت ريح. "أو يجد ريحًا"؛ أي: رائحة ريح، وفيه دلالة على أن خروج الريح من أحد السبيلين يوجب الوضوء خلافًا لأصحاب الرأي في القُبُل. * * * 209 - وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شَرِبَ لَبنًا، فمَضْمَضَ وقال: "إنَّ لهُ دَسَمًا". "وقال عبد الله بن عباس: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شَرِبَ لبنًا فمضمض"؛ أي: غسل فمه. "وقال: إن له دسمًا"؛ أي: زُهومة وأثرًا في الفم، فالسنَّة غسل اليد والفم عند أكل شيء له زُهومة وبقاء أثرٍ في اليد والفم. * * * 210 - عن بُرَيْدَة: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الصَّلواتِ يومَ الفَتْح بِوُضُوءٍ واحدٍ، ومسحَ على خُفَّيْهِ. "وعن بريدة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصلوات الخمس يوم الفتح"؛ أي: فتح مكة "بوضوء واحد"، وهذا دليل على أن من قدر أن يصلي صلوات كثيرة بوضوء واحد لا يُكره، ولكن يشترط: أن لا يغلب عليه البول والغائط، فإن غَلَبا عليه تكره صلاته. "ومسح على خفيه": فيه دليل على جواز مسح الخفين. * * *

211 - وعن سُويد بن النُّعمان: أنَّهُ خرجَ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ خيبرَ حتَّى إذا كانوا بالصَّهْبَاءِ - وهيَ أدنى خَيْبر - نزلَ، فصلَّى العصرَ، ثمَّ دعا بالأزْوادِ فلم يُؤْتَ إلاَّ بالسَّويقِ، فأَمرَ بِهِ فثُرِّيَ، فأكَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأكَلنا، ثمَّ قامَ إلى المَغربِ فَمَضْمَضَ ومَضْمَضْنَا، ثمَّ صلَّى ولم يَتوضَّأْ. "وعن سويد بن النعمان: أنه خرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر حتى إذا كانوا"؛ أي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه نازلين. "بالصهباء وهي"؛ أي: الصهباء. "أدنى خيبر"؛ أي: موضع أقرب إليه. "صلى" رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "العصر ثم دعا بالأزواد"؛ أي: طلب ما كان معهم من الزاد ليأكلوا. "فلم يُؤْتَ إلا بالسويق"؛ أي: فلم يحضر إلا السويق. "فأمر" عليه الصلاة والسلام "به فثُرِّي"؛ أي: بُلَّ ليسهل أكله. "فأكل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأكلنا، ثم قام إلى المغرب فمضمض ومضمضنا ثم صلى ولم يتوضأ". * * * مِنَ الحِسَان: 212 - وقال: "لا وُضُوءَ إلاَّ مِنْ صَوْتٍ أو رِيحٍ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - لا وضوء"؛ أي: لا يجب الوضوء.

"إلا من صَوْتٍ"؛ أي: من سماع صوتِ ريحٍ خارجٍ منه. "أو" من وجدان رائحة "رِيْحٍ" خرج منه؛ يعني: لا يبطل الوضوء إلا بيقين، وليس المراد منه: شرطية سماع الصوت ووجدان الريح؛ لأن الرجل قد يكون أصم فلا يسمع، وقد يكون أخشم فلا يُدرك الشم. * * * 213 - وقال: "مِنَ المَذْيِ الوُضوءُ، ومِنَ المَنيِّ الغُسْلُ"، رواه علي. "وعن علي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من المذي الوضوء"؛ أي: من خروجه يجب التوضؤ. "ومن المني الغسل"؛ أي: من خروجه يجب الاغتسال. * * * 214 - وقال: "مِفْتَاحُ الصَّلاةِ الطُّهُورُ، وتحريمُهَا التَّكبيرُ، وتحليلُها التسليمُ"، رواه علي. "وعنه عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: مفتاح الصلاة"؛ أي: سبب الدخول في الصلاة "الطُّهور"؛ أي: الوضوء. "وتحريمها التكبير"؛ يعني: لا يجوز الدخول فيها إلا بقول: (الله أكبر) مقارنًا بالنية، وسمي تحريمًا لأنه يحرِّم ما لا يجوز في الصلاة. "وتحليلها التسليم"؛ أي: الخروج منها يكون بالتسليم، سمي تحليلًا لأنه يحل به ما لا يجوز في الصلاة، وإضافة التحريم والتحليل إلى الصلاة لملابسةٍ بينهما. * * *

215 - وقال: "إذا فَسَا أحدُكُمْ فَلْيَتَوَضَّأْ". "وقال: إذا فسا أحدكم"؛ أي: خرج من دبره ريح بلا صوت "فليتوضأ". * * * 216 - وقال: "وِكاءُ السَّهِ العَيْنَانِ فمَنْ نامَ فَلْيَتَوَضَّأ"، رواه علي - رضي الله عنه -. "وقال: وكاء السَّهِ": (الوِكَاءُ): ما يشد به الأوعية، (السَّه): الدبر، أصله: سته فحذفت التاء؛ أي: وكاء الدبر. "العينان"؛ يعني: حفظ الدبر وإمساكها من خروج الريح إنما يكون إذا لم تنم عيناه، فإذا نامَت انحلَّ الوِكَاء، فربما يخرج منه الريح وليس له علم بذلك فينقض طهارته. "فمن نام فليتوضأ": قال المصنِّف محيي السنة - رحمه الله تعالى -: وهذا في غير القاعد؛ أي: فيمَن نام مضطجعًا، فأما من نام قاعدًا متمكنًا مقعده من الأرض ثم استيقظ ومقعده متمكن كما كان، فلا يبطل وضوئه وإن طال نومه؛ لما صح: * * * 218 - عن أنس قال: كانَ أصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظِرُونَ العِشَاءَ، فينامُونَ حتَّى تخفِقَ رُؤوسُهم، ثم يُصلُّونَ ولا يتوضَّؤُونَ. "عن أنس أنه قال: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينتظرون صلاة العشاء فينامون حتى تَخفِق" بفتح التاء وكسر الفاء؛ أي: تتحرك وتضطرب "رؤوسهم": من النوم، وتسقط أذقانهم على صدورهم. "ثم يصلون": بذلك الوضوء.

"ولا يتوضئون": وضوءًا جديدًا. * * * 219 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الوُضوءَ على مَنْ نامَ مُضْطَجِعًا، فإنَّهُ إذا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ مَفَاصِلُهُ". "وعن ابن عباس عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إن الوضوء"؛ أي: وجوبه. "على من نام مضطجعًا، فإنه إذا اضْطَجَعَ اسْتَرْخَتْ"؛ أي: فَتَرَتْ وضعفت. "مفاصله": جمع مفصل، وهو رؤوس العظام والعروق، فلا يخلو عن خروج شيء عادة، والثابت عادة كالمتيقن به. * * * 220 - وعن بُسْرةَ رضي الله عنها قالتْ: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مسَّ أحدكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ". "وعن بسرة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا مسَّ أحدكم ذَكَرَهُ فليتوضَّأ"، والحديث حجة للشافعي في انتقاض الوضوء به. * * * 221 - وما رُوي عن طَلْق بن عليٍّ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عنهُ فقال: "هَلْ هُوَ إلاَّ بَضْعةٌ مِنْكَ؟ "، منسوخٌ؛ لأن أبا هريرة - رضي الله عنه - أسلَم بعد قُدوم طَلْق. "وما روي عن طَلْق بن علي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عنه"؛ أي: عن الذَّكَرِ،

هل يبطل الوضوء بمسه؟ "فقال: هل هو إلا بَضْعَة" بفتح الباء؛ أي: قطعة لحم. "منك": فلا ينتقض الوضوء بمسه، كما لا ينتقض بمسِّ سائر الأعضاء. "منسوخ؛ لأن أبا هريرة أسلم": عام خيبر، وهو السنة السابعة من الهجرة، وكان إسلامه "بعد قدوم طَلْق" من اليمن، وقدومه كان عام بناء مسجد المدينة، وهو السنة الأولى منها. * * * 222 - وقد روى أبو هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أَفْضَى أحدُكُمْ بِيَدِهِ إلى ذكَرِهِ ليسَ بينَهُ وبينها شيءٌ فليتوضَّأْ". "وقد روى أبو هريرة عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إذا أفضى أحدكم بيده"؛ أي: أوصلها، والباء للتعدية. "إلى ذَكَرِهِ ليس بينه وبينها شيء"؛ أي: بين ذكره ويده مانع من الثوب وغيره. "فليتوضأ"، فحديثه يحكم ببطلان الوضوء بمسِّه، وحديث طَلْق يحكم بأنه لا يبطل بمسِّه فيكون المتأخر ناسِخًا. وقال أصحاب أبي حنيفة: يحتمل أن طَلْقًا عاد مرة أخرى بعد إسلام أبي هريرة، وسمع هذا الحديث، فعلى هذا يكون حديث طلق ناسخًا لحديث أبي هريرة، فإذا تعارض الاحتمالان سقط الاحتجاج بكليهما، ونعود إلى قول الصحابة فنعمل بقولهم، فإن قول علي بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدرداء وحذيفة وعمار بن ياسر - رضي الله تعالى عنهم -: أنه لا يبطل الوضوء بمسِّ

الذَّكَرِ، فوافق أبو حنيفة أقوالهم (¬1). * * * 223 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَبلُ بعضَ أزواجِهِ، ثُمَّ يُصلِّي ولا يتوضَّأْ. ضعيف. "وعن عائشة - رضي الله تعالى عنه - أنها قالت: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يقبلُ بعضَ أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ": وهذا دليل على أنه لا يبطل الوضوء بمسِّ المرأة، وبه قال أبو حنيفة. "ضعيف". * * * 224 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أكلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كَتِفًا، ثمَّ مسحَ يدَهُ بمِسْحٍ كَانَ تحتَهُ، ثمَّ قامَ وصلَّى. "وعن ابن عباس أنه قال: أكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَتِفًا": - بفتح الكاف وكسر التاء -؛ أي: كتف شاة مشويًا. "ثم مسح يده بمِسْح"؛ أي: بكساء. "كان تحته"؛ أي: تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "ثم قام فصلى": ولم يتوضأ. * * * ¬

_ (¬1) في هامش "غ": "وقال عمرو بن زيد وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وأبو رافع وعائشة: إنه يبطل الوضوء بمسِّه، فوافق الشافعي أقوال هؤلاء".

3 - باب أدب الخلاء

225 - وعن أُم سلمة رضي الله عنها: أنَّها قرَّبتْ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - جَنْبًا مَشْوِيًّا، فأكلَ منهُ، ثمَّ قامَ إلى الصَّلاةِ وما توضَّأَ منه. "وعن أم سلمة أنها قربت إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - جَنْبًا"؛ أي: ضلْعًا. "مَشْوِيًّا فأكل منه، ثم قام إلى الصلاة وما توضَّأ"، فهذان الحديثان دليل على أن أكل ما مسَّته النار لا يبطل الوضوء. * * * 3 - باب أَدَب الخَلاءِ (باب الخلاء) هو بالمدِّ: الموضع الذي يقضي فيه الإنسان حاجته، سمي به؛ لأنه يخلو فيه بنفسه. مِنَ الصِّحَاحِ: 226 - عن أبي أَيُّوب الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتيتُمُ الغائطَ فلا تستقبلُوا القِبلَةَ، ولا تَسْتَدْبرُوهَا، ولكنْ شرِّقُوا أو غرِّبُوا". قال المصنف: هذا الحديث في الصَّحراء، أما في البنيان فلا بأْس به، لِمَا رُوي. "من الصحاح": " عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتيتم الغائطَ"؛ يعني: موضع قضاء الحاجة.

"فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها، ولكن شرِّقوا أو غرِّبوا"؛ أي: توجهوا إلى جهة الشرق أو الغرب، وهذا فيما لا تكون القبلة فيه إلى المشرق أو المغرب. "قال المصنف: هذا الحديث في الصحراء": لأن الصحراء لا تخلو عن مصلَّى مَلَك أو إنسي أو جني، فإذا قعد في مستقبل القبلة أو في مستدبرها فربما وقع بصره على عورته. "فأما البنيان فلا بأس لما روي": * * * 227 - عن عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما - قال: ارْتَقَيْتُ فوقَ بيتِ حَفْصَةَ بنت عمر لبعضِ حاجَتِي، فرأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْضي حاجَتَهُ مُسْتَدْبرَ القِبْلَةِ مُستقبلَ الشَّأْمِ. "عن عبد الله بن عمر أنه قال: ارتقيت"؛ أي: صعدت. "فوق بيت حفصة": وهي أخت الراوي، زوجة النبي - عليه الصلاة والسلام -. "لبعض حاجتي فرأيت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام"؛ أي: مستقبل بيت المقدس، وكان ذلك في البنيان. قيل: هذا مبني على مذهب الشيخ، ومدفوع بأن عموم الحديث لا يختصُ بالأثر، وذهب بعض: إلى أن استقبال القبلة واستدبارها يستوي في الصحراء والبنيان في التحريم؛ لاستواء العلة فيهما، وهو احترام القِبْلَة وصيانة جهتها الشريفة عن المواجهة في خروج القذر، وعليه أبو حنيفة. * * *

228 - وقال سلمان - رضي الله عنه -: نَهانا - يعني رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نستقبلَ القِبلَةَ بغائطٍ أو بَوْلٍ، أو أنْ نستنجِيَ باليمينِ، أو أنْ نستنجِيَ بأقلَّ مِن ثلاثةِ أحجارٍ، أو أنْ نستنجِيَ برَجِيعٍ أو عظمٍ. "وقال سلمان: نهانا يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القِبْلَة لغائط أو بول": (أو) فيه وفيما بعده للعطف. "أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجيَ بأقلَّ من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برَجِيْعٍ"؛ المراد به: الرَّوْث والعَذِرَة، سمي رَجِيْعًا لرجوعه من حال إلى أخرى. "أو عظم"، النهي عن الاستنجاء باليمين: نهي تنزيه وكراهة لا نهي تحريم، وعن الاستنجاء بأقل من ثلاثة أحجار: دليل على أنه لا يقتصر على أقل منها وإن حصل النقاء به، وبه قال الشافعي، وعن الاستنجاء بالرَّجيع والعظم: لنجاسة الرجيع، وكون العظم زادًا للجن. * * * 229 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ أنْ يَدخلَ الخَلاءَ قال: "اللهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنَ الخُبُثِ والخَبائِثِ". "وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يدخل الخلاء قال: اللهم إني أعوذ بك من الخبث" بضم الباء: جمع الخبيث وهو المؤذي من الجن والشياطين. "والخبائث": جمع الخبيثة، وهي الأنثى المؤذية من الجن، وإنما عاذ - عليه الصلاة والسلام - من الجن والشياطين عند دخول الخلاء؛ لأن الخلاء مأواهما غالبًا. * * *

230 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: مَرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقبرَيْنِ فقال: "إنَّهما يُعذَّبان، وما يُعذَّبانِ في كبيرٍ، أما أحدهما فكانَ لا يستبرِئُ مِنَ البَوْلِ - ويروى: لا يستنْزِهُ مِنَ البَوْلِ - وأما الآخرُ فكانَ يمشي بالنَّمِيمةِ"، ثمَّ أخذَ جَريدةً رطبةً فشقَّها بنصفَين، ثمَّ غرزَ في كُلِّ قبرٍ واحدةً، وقال: "لَعَلَّهُ أنْ يُخفِّفَ عنهُمَا ما لَمْ يَيْبَسَا". "وقال ابن عباس: مر النبي - عليه الصلاة والسلام - بقبرين فقال: إنهما يعذبان وما يعذبان في كبير"؛ أي: في أمرٍ يشق ويكبر عليهما تركه والاحتراز منه. "أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، ويروى: لا يستْنِزهُ من البول"؛ ومعناهما: لا يحترز من البول ولا يبعد منه. "وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة" إلى: كلِّ واحد من الشخصين اللَّذَين بينهما عداوة، ويلقي بينهما العداوة، بأن ينقل إلى كل واحد منهما ما يقول الآخر من الشَّتم والإيذاء. "ثم أخذ": رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. "جَرِيْدَةً": وهي الغصن من النخل. "رطبةً فشقَّها بنصفين، ثم غرز في كلِّ قبرٍ واحدة فقال: لعله"؛ أي: لعل العذاب. "أن يُخَفَّفَ"؛ أي: يزول عنهما. "ما لم ييبسا"؛ أي: ما دام لم ييبس النصفان، وسبب تخفيف العذاب عنهما مدة ذلك: أنه - عليه الصلاة والسلام - سأل ربه أن يخفف عنهما لوصول بركته إليهما؛ لأنه رحمة لا يمر بموضع إلا أصابه بركته فكأنه جعل مدة بقاء النداوة فيهما حَدًّا لما وقعت به المسألة من التخفيف عنهما.

وفي الحديث: إثبات عذاب القبر وتخفيفه بزيارة الصالحين ووصول بركتهم إليه. * * * 231 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقُوا اللاَّعِنِينَ"، قالوا: وما اللاَّعِنَانِ يا رسول الله؟ قال: "الذي يتخلَّى في طريقِ النَّاسِ أو في ظِلِّهِمْ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اتقوا"؛ أي: احذروا واجتنبوا. "اللاَّعِنَيْنِ"؛ أي: الآمرين الذين هما سببا اللعنة، سُمِّي ذلك لاعنًا لأنه إذا حصل اللعنة بسببه فكأنه هو اللاعن. "قالوا: وما اللاعنان يا رسول الله؟ قال: الذي" بحذف المضاف؛ أي: الخلاء الذي. "يتخلَّى"؛ أي: يقضي الحاجة. "في طريق الناس، أو في ظلهم"؛ أي: في مُستَظَلِّهم الذي اتَّخذوه محلَّ نزولهم ومَقِيْلهم، والنهي عن هذا النوع من الظلِّ دون سائر الظلال. * * * 232 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شَرِبَ أحدُكُمْ فلا يتنفَّسْ في الإِناءِ، وإذا أَتى الخَلاءَ فلا يَمسَّ ذكرَهُ بيمينِهِ، ولا يتمسَّحْ بيمينِهِ"، رواه أبو قَتادة. "وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا شرب أحدكم فلا يتنفس"؛ أي: فلا يُخْرِجُ نَفَسَهُ.

"في الإناء": كراهة أن ينحدر قذر من تنفسه، أو لئلا تقل برودة الماء الكاسر للعطش بحرارة النَّفَسِ، بل إذا أراد التنفس، فليرفع فمه عن الإناء، ويتنفس ثم يشرب. "وإذا أتى الخلاء فلا يمسَّ ذكرَهُ بيمينه"؛ أي: لا يأخذه بيده اليمنى عند الاستنجاء. "ولا يتمسح"؛ أي: لا يستنجِ. "بيمينه": لكرامتها، وطريقه: أن يأخذ الذَّكَرَ بشماله ويمسحه على جدار أو حجر كبير بحيث لا يستعمل يمينه لا في أخذ الذَّكَرِ ولا في أخذ الحجر. * * * 233 - وقال: "مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من توضأ فليستنثر" أي: ليخرِجْ نَفَسَهُ من أنفه بعد الاستنشاق؛ ليخرج ما فيه من الأذى. "ومن استجمر"؛ أي: استنجى بالجَمْرَة، وهي الحجر. "فليوتر"؛ أي: فليستنجِ وترًا ثلاثًا، أو خمسًا، أو سبعًا. * * * 234 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدخلُ الخَلاءَ، فأَحمِلُ أنا وغُلامٌ إداوَةً مِنْ ماءٍ وَعَنَزَةً، يستنجي بالماءِ. "وقال أنس: كان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: يدخل الخلاء، فأحمِلُ أنا وغُلامٌ إداوَةً": وهي ظرفٌ من جلد يُتوضأ منه.

"من ماء وعَنَزَةٍ": وهي - بفتحتين -: رمح قصير يُحمل لحفر الأرض، ويُلين التُّراب كيلا يصيبه رشاش البول؛ أي: أحدنا يحمل الإداوة والآخر العنزة. "يستنجي بالماء". * * * مِنَ الحِسَان: 235 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلَ الخلاءَ نزَعَ خاتَمَهُ. غريب. "من الحسان": " عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: كان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إذا دخل الخلاء نزع"؛ أي: أخرج "خاتمه": من إصبعه قبل دخول الخلاء؛ لأن اسم الله مكتوب عليه، وهو محمد: رسول الله. وفيه دليل على وجوب تَنْحِيَةِ اسمِهِ تعالى واسمِ رسوله والقرآن عند الخلاء. "غريب". * * * 236 - وقال جابر - رضي الله عنه -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ البَرَازَ انطلقَ حتَّى لا يراهُ أَحَدٌ. "قال جابر - رضي الله عنه -: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا أراد البَرَاز" فتح الباء؛ أي: قضاء الحاجة.

"انطلق"؛ أي: ذهب في الصحراء. "حتى": وصل إلى موضعٍ. "لا يراه أحد"، ثم يجلس. * * * 237 - وقال أبو موسى: كنتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ، فأرادَ أنْ يبولَ، فأتى دَمْثًا في أصلِ جِدارٍ فبالَ، ثم قال: "إذا أرادَ أحدُكُمْ أنْ يبولَ فليرتَدْ لبَولِهِ". "قال أبو موسى: كنت مع النبي - عليه الصلاة والسلام - ذات يوم"؛ أي: يومًا، و (الذَّات) زائدة. "فأراد أن يبول فأتى دَمِثًا"؛ أي: أرضًا لينة. "في أصل جدار فبال، ثم قال: إذا أراد أحدكم أن يبول فَلْيَرْتَدْ"؛ أي: فليطلب مكانًا مثل هذا. "لبوله": لئلا يرجع إليه رشاش البول، وإنما الجدار الذي قعد النبي - عليه الصلاة والسلام - إليه كان غير مملوك لأحد، فإنه - عليه الصلاة والسلام - لا يفعل ذلك في ملك أحد بغير إذنه؛ لأن البولَ يضرُّ الجدار؛ لأنه مالح يجعل التراب سَبَخًا ويجعله خربًا، أو كان قعوده متراخيًا عن أصل البناء فلا يصيبه البلل. * * * 238 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ الحاجةَ لمْ يَرْفعْ ثوبَهُ حتَّى يَدْنُوَ مِنَ الأرضِ.

"وقال أنس - رضي الله تعالى عنه -: كان النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - إذا أراد الحاجة"؛ أي: قضاء الحاجة. "لم يرفع ثوبَهُ حتى يدْنُو"؛ أي: يقرب. "من الأرض"؛ احترازًا عن كشف العورة بغير ضرورة، وهذا من آداب قضاء الحاجة. * * * 239 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: "إنَّما أنا لَكُمْ مِثْلُ الوالِدِ، فإذا ذَهَبَ أحدُكُم إلى الغائِطِ فلا يستقبلَ القِبْلَةَ، ولا يَسْتَدْبرْها لغائطٍ ولا لِبَوْلٍ، ولْيستنْج بِثلاثةِ أحجارٍ"، ونهى عَنِ الرَّوْثِ والرِّمَّةِ، وأنْ يستنجِيَ الرَّجُلَ بيمينِهِ. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إنما أنا لكم مثل الوالد"؛ أي: في الشفقة والرحمة وتعليم الخير وصلاح دينكم ودنياكم، وهذا كلام بسط وتأنيس للمخاطبين؛ لئلا يحتشموا ويستحيوا عن مسألته فيما يعرض لهم من أمر دينهم. "فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط"؛ يعني: الخلاء. "فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها لغائط ولا بول": وفيه دليل على أن البول لا يسمى غائطًا للعطف عليه. "وليستنج بثلاثة أحجار، ونهى عن الرَّوْثِ": وهو السرقين، والمراد به: كل نجس. "والرِّمَّة" بكسر الراء وتشديد الميم: العظم البالي، والمراد بها: مطلق العظم، يعني: نهى عن الاستنجاء بشيء نجس وبالعظم، ونهيه - عليه الصلاة

والسلام - عن الاستنجاء بهما دليل على أنه لا يختصُّ بالحجر، بل يجوز بكل ما يقوم مَقَامه في الإنقاء كالمدر والخشب والخزف ونحوها. "وأن يستنجي الرجل بيمينه". * * * 240 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَتْ يدُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - اليُمنى لطُهورِهِ وطَعامِهِ، وكانتْ يدُهُ اليُسْرى لخلائِهِ وما كانَ مِنْ أذَى. "وقالت عائشة: كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لِطُهوره"؛ أي: يستعمل يده اليمنى لوضوئه. "وطعامه وكانت يده اليسرى لخلائه"؛ أي: يستعملها للاستنجاء. "وما كان من أذى"، ويندرج تحته الخارج من السبيلين، والمخاط والرعاف ونحوه مما فيه خِسَّة. * * * 241 - وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ذهبَ أحدُكُمْ إلى الغائطِ فليذْهَبْ معَهُ بثلاثةِ أحجارٍ يَسْتَطِيب بهنَّ، فإنَّها تُجْزِئُ عنْهُ". "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: قال رسول الله: إذا ذهب أحدكم إلى الغائط فليذهب معه بثلاثة أحجار": الباء للتعدية؛ أي: فليأخذ بثلاثة أحجار. "يستطيب"؛ أي: يستنجي "بهنَّ": سُمي الاستنجاء استطابة لإزالته النجاسة وتطهير موضعها من البدن، والجملة استئناف أو حال بمعنى: عازمًا على الاستطابة بهنَّ. "فإنها"؛ أي: الأحجار الثلاثة.

"تجزئ"؛ أي: تكفي. "عنه"؛ أي: الاستنجاء، فلا حاجة إلى الماء إذا حصل النَّقاء بها. * * * 242 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسْتَنْجُوا بالرَّوْثِ ولا بالعِظامِ، فإنَّها زادُ إخوانِكُمْ مِنَ الجِنِّ"، رواه ابن مسعود - رضي الله عنه -. "وقال ابن مسعود: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تستنجوا بالروث ولا بالعظام فإنها زاد إخوانكم من الجن"، روي: أنهم طلبوا الزَّاد منه - عليه الصلاة والسلام - ليلة الجن، فجعل - عليه الصلاة والسلام - العظم زادًا لهم، فإذا وجدوا عظمًا يجعله الله تعالى كأن لم يُؤْكَل منه لحم، والرَّوْث زادًا لدوابهم ويكون شعيرًا إن كانت تلك الدابة أكلت الشعير، وتبنًا إن كانت أكلت التبن وغير ذلك من العلوفة فيعلفون دوابهم وذلك معجزة له - عليه الصلاة والسلام -. وفي قوله: (إخوانكم) إشارة إلى إسلام بعضهم؛ لأن الإخوانية إنما هي في الإسلام. * * * 243 - وقال رُوَيْفِع بن ثابت - رضي الله عنه -: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا رُوَيْفِعُ! لعلَّ الحياةَ ستطولُ بكَ بعدي، فأخبر النَّاسَ أنَّ مَنْ عَقدَ لحيتَهُ، أو تَقَلَّدَ وَتَرًا، أو استنجى برجيعِ دابَّةٍ أو عظمٍ فإنَّ محمدًا منه بَرِيءٌ". "وقال رويفع بن ثابت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا رويفع لعل الحياة ستطول"؛ أي: ستمتد الحياة. "بك بعدي"، وفيه دلالة على أنَّ من الغيب ما يعلمه النبي - عليه الصلاة والسلام - بتعليمه تعالى إياه، وبشارة له بطول عمره.

"فأخبر الناس أن من عَقَدَ لحيته": قيل: عقدها هو معالجتها حتى تنعقد وتتجعد، وهو مخالف لسُنَّةِ أهل المِلَّة؛ إذ السُّنَّة تسريح اللحية، وذلك أن العرب كانوا يعقدونها في الحرب في زمن الجاهلية، وكان ذلك من زي العجم أيضًا، فنهوا عنه؛ لأنه تغيير خلق الله تعالى. "أو تقلد وَتَرًا"؛ أي: خيطًا، وقيل: وَتَر القوس، كان عادة أهل الجاهلية أنهم يجعلون في رقاب دوابهم الوَتَر ويزعمون أنه يدفع العين، ويحفظ من الآفات فنهى - عليه الصلاة والسلام - عنه؛ احترازًا عن اختناقها لا سيما عند شدة الركض. وقيل: المراد به: خرزات تعلق على رقاب الولدان للعين، وهو أيضًا من شِعَار الجاهلية. "أو استنجى برجيع دابة أو عظم فإن محمدًا منه بريء": وهذا من باب الوعيد والمبالغة في الزجر. * * * 244 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اكْتَحَلَ فليُوتِرْ، مَنْ فَعَلَ فقدْ أَحسنَ، وَمَنْ لا فلا حَرَجَ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فليُوتِرْ، مَنْ فعلَ فقدْ أحسنَ ومَنْ لا فلا حرجَ، ومَنْ أكلَ فما تخلَّلَ فليلفِظْ، وما لاكَ بلسانِهِ فَلْيَبْتَلِعْ، مَن فعلَ فقدْ أحسنَ، وَمَنْ لا فلا حَرَجَ، ومَنْ أتَى الغائِطَ فليستَتِرْ، فإنْ لم يَجِدْ إلاَّ أنْ يجمَعَ كَثيبًا مِنْ رَمْلٍ فليستدْبرْهُ، فإنَّ الشَّيطانَ يلعبُ بمَقاعِدِ بني آدمَ، مَنْ فَعَلَ فقدْ أحسَنَ، ومَنْ لا فَلاَ حرجَ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اكتحل"؛ أي: جعل الكحل في عينيه. "فليوتر"؛ أي: فليكن عدد الأميال في كل عين وترًا ثلاثة أميال أو

خمسة، وهذا يدل على استحباب الإيتار في كل الأمور. "من فعل" ذلك "فقد أحسن"؛ لأنه أطاعني وأتى سنتي. "ومن لا"؛ أي: لم يفعل وترًا، بل فعل شفعًا في كل عين. "فلا حرج"؛ أي: فلا إثم عليه؛ لأن الإيتار ليس بواجب. "ومن استجمر فليوتر، من فعل فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن أكل فما تخلَّلَ"؛ أي: فما أخرج بالخِلاَل مِنْ بين أسنانه من الطعام. "فليلفظ"؛ أي: فليسقطه؛ لأنه ربما يخرج معه دم. "وما لاك"؛ أي: ما أخرجه من بين أسنانه. "بلسانه فليبتلع"؛ أي: فليأكله؛ لأنه لا يخرج معه دم. "من فعل" ذلك "فقد أحسن، ومن لا فلا حرج، ومن أتى الغائط فليستتر، فإن لم يجد" سترة. "إلا أن يجمع كثيبًا"؛ أي: تلًا (¬1). "من رمل فليستدبره"؛ أي: فليجعل ذلك الرَّمل المجتمع خلفه، ويقعد كي لا يراه أحد. "فإن الشيطان يلعب بمقاعد بني آدم"؛ أي: إنه يحضر أمكنة الاستنجاء ويرصدها بالأذى والفساد؛ لهجران ذكر الله تعالى وكشف العورات، وحينئذٍ يأمره بالبول في موضع صلب، أو في مستقبل الريح؛ ليصل إلى ثيابه الرشاش، وكل هذا لعب الشيطان ببني آدم. "من فعل ذلك فقد أحسن" بإتيان السنة. ¬

_ (¬1) في "غ": "قدرًا كثيرًا" بدل "تلًا".

"ومن لا فلا حرج": لأن ذلك الاستتار وجمع الكثيب غير واجب إذا لم يره أحد. * * * 245 - وقال: "لا يبُولَنَّ أحدُكُمْ في مُسْتَحَمِّهِ، ثمَّ يغتسلُ فيهِ أو يتوضأُ فيه؛ فإنَّ عامَّةَ الوسْواسِ مِنْهُ"، رواه عبد الله بن مغفل - رضي الله عنه -. "وعن عبد الله بن مغفل أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبولَنَّ أحدُكُمْ في مُسْتَحَمِّه"؛ أي: في موضع استحمامه، وهو الاغتسال بالحميم؛ أي: الماء الحار، ويقال لكل موضع يُغتسل به: مُستَحَم، وإن لم يكن الماء حارًا. "ثم يغتسل فيه أو يتوضأ فيه فإن عامة الوسواس"؛ أي: أكثره يحصل "منه"؛ أي: من البول في المستَحَم؛ لأنه يصير ذلك الموضع نجسًا فيصيبه منه رشاش، فيقع في قلبه وسوسة، بأنه هل أصابه منه رشاش أم لا؟ * * * 246 - وقال: "لا يَبُولَنَّ أحدُكُمْ في جُحْرٍ"، رواه عبد الله بن سَرْجِس - رضي الله عنه -. "وعن عبد الله بن سَرْجِس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبولَنَّ أحدُكُمْ في جُحْرٍ"؛ أي: ثقبة في الأرض؛ لأنها مأوى الهوام وذوات السُّموم، وربما يصيبه مضرة منها، نقل أن سعد بن عبادة الخزرجي بال في جُحْرِ بأرض حَوْرَان فقتله الجنُّ. * * * 247 - وقال: "اتَّقُوا المَلاَعِنِ الثلاثة: البَرَازَ في المَوارِدِ، وقارِعَةِ الطريقِ، والظِّلِّ"، رواه مُعاذ - رضي الله عنه -.

"وعن معاذ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اتقوا"؛ أي: احذروا. "الملاعن الثلاثة": جمع مَلْعَنَة، وهي الموضع الذي يكثر فيها اللَّعن. "البَرَاز"؛ أي: التَّغوط. "في المَوَارد": جمع مَوْرِد، وهو الموضع الذي يأتيه الناس، مِنْ رأسِ عَيْنٍ أو نهر لشرب الماء والتوضؤ، وقيل: هو موضع ورودهم للتَّحدث. "وقارعة الطريق"؛ أي: الطريق الواسع الذي يقرعه الناس بأرجلهم؛ أي: يدقونه ويمررون عليه. "والظل"؛ أي: ظل الشجر وغيره، وإنما جعل هذه المواضع ملاعن؛ لأن أصحابها يلعنهم المارة لفعلهم القبيح، ولأنه عَسَّرَ على الناس وأفسد عليهم منفعتهم فكان ظالمًا، وكل ظالم ملعون. * * * 248 - وقال: "لا يَخْرُجِ الرجُلانِ يضرِبان الغائطَ كاشِفَيْنِ عَنْ عَوْرَتِهِمَا يتحدَّثَانِ، فإنَّ الله يمقُتُ على ذلك"، رواه أبو سعيد - رضي الله عنه -. "وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يخرج (¬1) الرجلان يضربان الغائط"؛ أي: يمشيان إلى قضاء الحاجة حال كونهما. "كاشفين عن عورتهما": ينظر كل منهما إلى عورة صاحبه. "يتحدثان": حال ثانية. "فإن الله" تعالى "يمقت"؛ أي: يغضب ويبغض. ¬

_ (¬1) زاد في "غ": "قيل: نفيٌ بمعنى النهي فيكون مرفوعًا، وقيل: بل نهيٌ صريحٌ فيكون مكسورًا لالتقاء الساكنين".

"على ذلك": الفعل. * * * 249 - وقال: "إنَّ الحُشُوشَ مُحتَضَرَةٌ، فإذا دخل أحدكم الخلاءَ فَلْيقُلْ: أعوذُ بالله مِنَ الخُبُثِ والخَبَائِثِ"، رواه زيد بن أرقَم - رضي الله عنه -. "وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الحشوش": جمع الحش - بالفتح والضم -: بستان النخيل، ثم استعمل في موضع قضاء الحاجة؛ لأنهم كانوا يقضون الحاجة فيها. "مُحْتَضَرَة"؛ أي: أمكنة يحضرها الشياطين، وتَرْصُدُ فيها بني آدم بالأذى. "فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ بالله من الخبث والخبائث". * * * 250 - وقال: "سِتْرُ ما بينَ أَعيُنِ الجنِّ وعَوْرَاتِ بني آدمَ إذا دَخَلَ أحدُهُمْ الخلاءَ أن يقولَ: بِسْم الله"، رواه علي - رضي الله عنه -. غريب. "وعن علي - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستر ما بين أعين الجن وعورات بني آدم إذا دخل أحدكم الخلاء أن يقول: بسم الله": فإنه إذا ذكر اسم الله عند دخول الخلاء كان حجاباً بينه وبينهم حتى لم يروه ببركة اسم الله تعالى. * * * 251 - وقالت عائشة: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خرجَ مِنَ الخَلاءَ قال: "غُفْرَانَكَ". "وقالت عائشة: كان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إذا خرج من

الخلاء قال: غفرانك": مصدرٌ انتصابه بفعل مقدَّر؛ أي: أسألُ غفرانَكَ، وإنما كان يقول ذلك؛ لأنه استغفر عن خلوِّه من ذكر الله (¬1) تعالى في الوقت الذي كان في الخلاء، فكان تقصيراً منه فتداركه بالاستغفار، أو الاستغفار هنا: كناية عن الاعتراف بالقصور عن بلوغ حقِّ شكر نعمة الإطعام، وتربية الغداء من حين التناول إلى أوان الانهضام وتسهيل خروج الأذى لسلامة البدن من الآلام. * * * 252 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى الخَلاءَ أتيتُهُ بماءٍ في تَوْرٍ أو رَكوَة فاستَنْجَى، ثمَّ مسحَ يدَهُ على الأرضِ، ثمَّ أتيْتُهُ بإناءٍ آخرَ فتوضَّأ. "وقال أبو هريرة: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا أتى الخلاء أتيته بماء في تَوْرٍ": وهو إناء من صُفْرٍ أو حجر كالإِجَّانة يُتَوضأ منه. "أو ركوَة": وهي إناء صغير من جلد يُتَوَضَّأ منه، ولفظ (أو) إما للشك ممن يروي عن أبي هريرة، أو لأن أبا هريرة كان يأتيه تارة بالتَّور، وأخرى بالرِّكوة. "فاستنجى، ثم مسح يده على الأرض": وفيه إشارة إلى أن مسح اليد على الأرض بعد الاستنجاء سنة؛ لإزالة الرائحة. "ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ": إتيانه بإناء آخر للتوضؤ، لا لعدم جواز التوضؤ بالماء الباقي من الاستنجاء، بل لفناء الماء الكافي للتوضؤ. * * * ¬

_ (¬1) في "غ": "لأنه استفرغ عن ذكر الله تعالى".

253 - وعن الحكَم بن سُفيان الثَّقَفي: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بالَ توضَّأ، ونضحَ فَرْجَهُ. "وعن الحكم بن سفيان الثقفي أنه قال: كان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إذا بال توضأ ونضح"؛ أي: رشَّ "فرجه": بكفٍ من الماء بعد الاستنجاء؛ إما لدفع نزول البول وقطعه، وإما لدفع الوسوسة؛ فإن الرجل إذا لم ينضح به ووجد بعد ذلك بللاً ربما يظن أنه خرج منه بول؛ بخلاف ما إذا نضح فإنه إذ ذاك يعلم أن البلل منه فلا يقع في الوسوسة. * * * 254 - عن أُمَيْمَة بنت رُقَيْقَة قالت: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَدَحٌ مِنْ عَيْدان تحتَ سريرِه يَبُولُ فيهِ باللَّيْلِ. "وعن [حُكَيْمَة بنت] أُمَيْمَة بنت رُقَيْقَة عن أمها" عمة النبي - عليه الصلاة والسلام - (¬1) "أنها قالت: كان للنبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قَدَحٌ من عِيدَان": جمع عود، وهو الخشب. "تحت سريره يبول فيه بالليل": وفيه إشارة إلى أنه لو صلَّى على سريره أو سجادة تحته نجس يجوز؛ لأن قَدَح بول النبي - عليه الصلاة والسلام - تحت سريره، والغالب أنه - عليه الصلاة والسلام - كان لا يخلو في الليل من الصلاة. * * * 255 - وقال عمر - رضي الله عنه -: رآني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أبولُ قائماً، فقالَ: "يا عُمَرُ لا تَبُلْ قائمًا". ¬

_ (¬1) في "غ" و"م": "أميمة بنت رقيقة عمة النبي عليه السلام عن أمها".

"وقال عمر - رضى الله عنه -: رآني النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - أبول قائماً فقال: يا عمر! لا تبل قائمًا": وإنما نهى عنه لأنه تبدو عورته بحيث يراه الناس من بعيد، وأيضاً لا يأمن من رُجوع البول إليه، وهذا نهي تنزيه لا تحريم. * * * قال الشيخ الإمام - رضي الله عنه -: قد صحَّ: 256 - عن حُذَيفَة: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى سُباطَةَ قومٍ، فبالَ قائماً. قيل: كان ذلك لعُذرٍ به، والله أعلم. "قال الشيخ الإمام - رحمه الله -: قد صح عن حذيفة أنه قال: أتى النبي - عليه الصلاة والسلام - سُبَاطة قوم": وهي موضع يلقى فيه التراب والأوساخ وما يكنس الناس من المنازل. "فبال قائمًا"، فيكون بين فعله - عليه الصلاة والسلام - وبين نهيه عمرَ - رضي الله عنه - تناقضاً. "قيل": في التوفيق بينهما: "كان ذلك"؛ أي: فعله - عليه الصلاة والسلام - "لعذر" لأنه لا يجد مكاناً للقعود؛ لامتلاء الموضع بالنجاسة. وقيل: لأنه إن استدبر السُّبَاطة تبدو العورة للمارَّة، وإن استقبلها خِيْفَ عليه أن يقع على ظهره مع احتمال ارتداد البول. وقيل: لأنه كان برجله جرح، بخلاف بول عمر - رضى الله عنه -. * * *

4 - باب السواك

4 - باب السِّواكِ (باب السواك) مِنَ الصِّحَاحِ: 257 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أنْ أشُقَّ على أُمَّتي لأمرتُهُمْ بتأخِيرِ العِشاء، وبالسِّواكِ عندَ كُلِّ صلاةٍ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: لولا أن أشق"؛ أي: أثقل، من المشقة، وهي الشدة؛ أي: لولا خشية الشَّقِّ. "على أمتي لأمرتهم"؛ أي: لفرضت عليهم. "بتأخير العشاء وبالسواك عند كل صلاة، لغاية فضليهما، وفيه دليل على أن أمره - عليه الصلاة والسلام - للوجوب؛ لنفيه الأمر به مع ثبوت الندبية، (السواك) يطلق على الفعل، وعلى العود الذي يُتَسوَّك به الفم. * * * 258 - عن المِقْدامِ بن شُرَيح، عن أبيه: أنَّه قال: سألتُ عائشةَ رضي الله عنها: بأيِّ شيء كانَ يبدأُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلَ بيتَهُ؟ قالت: بالسِّواكِ. "وعن المقداد بن شريح عن أبيه أنه قال: سألت عائشة - رضي الله عنها -: بأي شيء كان يبدأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل بيته؟ قالت: بالسواك": وإنما بدأ - عليه الصلاة والسلام - بالسواك؛ لأنه يزيل تغير رائحة الفم؛ إذ الغالب أنه - عليه الصلاة والسلام - لا يتكلم في الطريق من المسجد إلى بيته أو من موضع آخر،

والفم يتغير بعدم التكلم، وهذا يدل على استحباب السواك عند المكالمة مع أحد، كيلا يتأذى من ريح فمه. * * * 259 - وقال حُذَيْفَة: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ للتهجُّدِ مِنَ الليْلِ يَشُوصُ فاهُ بالسِّواكِ. "وقال حذيفة: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا قام للتهجد": وهو ترك الهجود - أي: النوم - للصلاة. "من الليل يشوص": من الشَّوْصِ وهو الغسل والتنظيف؛ أي: يغسل. "فاه بالسواك"؛ أي: باستياكه من سفل إلى علو، وقيل: الدَّلك؛ أي: يدلك أسنانه وينقيها، وفيه دليل على استحباب السواك أيضًا عند القيام من النوم. * * * 265 - وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"عَشْرٌ مِنَ الفِطْرَةِ: قَصُّ الشارِبِ، وإعفاءُ اللِّحْيةِ، والسِّواكُ، واستِنْشَاقُ الماء وقَصُّ الأظْفَارِ، وغسْلُ البَرَاجِم، ونتفُ الإبطِ، وحَلْقُ العَانَةِ، وانْتِقَاصُ الماء - يعني: الاستِنْجَاء - ". قال الراوي: ونسيتُ العاشرةَ إلاَّ أنْ تكونَ المَضْمَضَةَ. وفي روايةٍ: "الخِتانِ" بدل: "إعفاء اللِّحْيةِ" "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عشر"؛ أي: عشر خِصَال.

"من الفطرة"؛ أي: من السُّنَّة، بتأويل أن هذه الخِصال من سُنَنِ الأنبياء الذين أُمِرْنا أن نقتدي بهم، فكأنَّا فُطِرْنا وجُبلْنا عليها، كذا نُقل عن أكثر العلماء. وقيل: أي: من الذين وهذا أوجه؛ لأن فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها مُفَسَّرة بالدين بالاتفاق، والمضاف هنا محذوف؛ فالمعنى: عشر من توابع الدين ولواحقه. "قص الشارب"؛ أي: قطعه، قيل: المختار فيه أن يقص حتى يبدو طَرَفُ الشَّفَةِ. "وإعفاء اللحية"؛ أي: توفيرها وترك قطعها؛ لتكثر، من عَفَا الشعر: إذا وَفَرَ وكَثُرَ، ويكره قصها كفعل الأعاجم وبعض الكفار والقلندرية والهنود وغيرهم، كانوا يقصِّرونها ويوفرون الشوارب، وأما الأخذ من طولها أو عرضها ليناسب فحَسَنٌ، لكن المختار أن لا يتعرض لها بقص شيءٍ منها، إلا إذا نبتت للمرأة لحية فيستحب لها حلقها. "والسواك"؛ أي: استعماله. "واستنشاق الماء"؛ أي: جعله في الأنف في الوضوء. "وقص الأظفار"؛ أي: قلمها، وهو القطع، والمستحب فيه أن يبدأ باليدين قبل الرجلين، فيبدأ بمسبحة يده اليمنى، ثم الوسطى، ثم البنصر، ثم الخنصر، ثم الإبهام، ثم يعود إلى اليسرى فيبدأ بخنصرها، ثم بنصرها إلى آخرها، ثم يعود إلى الرجل اليمنى فيبدأ بخنصره اليمنى، ويختم بخنصره اليسرى. "وغسل البَراجم" بفتح الباء: جمع البُرْجُمة - بضم الباء والجيم - وهي عقدة الأصابع ومفصلها أمر بغسلها؛ لئلا يبقى الوسخ فيها.

"ونتف الإبط"؛ أي: قلع شعرها، بحذف المضاف، عُلِمَ منه أن حلقه ليس بسنة. قيل: النتف أفضل لمن قوي عليه لما حكي: أن الشافعي كان يحلق إبطه فقال: علمت أن السنة النَّتف لكن لا أقوى على الوجع. "وحلق العانة": وإن أزال شعرها بغير الحلق لا يكون على وجه السُّنَّة. عن أنس بن مالك: أنه وقَّتَ قصَّ الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة: أن لا يُتْرَك أكثر من أربعين ليلة. "وانتقاص الماء" يعني: الاستنجاء": فسر الانتقاص به؛ لأن الماء ينقص بإراقته في الاستنجاء. وقيل: هو تصحيف، والصحيح: (انتفاض الماء) - بالفاء والضاد المعجمة - وهو الانتضاح بالماء على الذَّكَر وهذا أقرب؛ لأن في "كتاب أبي داود": "والانتضاح". "قال الراوي: ونسيت العاشرة" لا أظنها "إلا أن تكون المضمضة"؛ لأن المضمضة والاستنشاق قد يذكران معا كثيراً. "وفي رواية: الختان": وهو قطع الجلدة الزائدة من الذَّكَر. "بدل إعفاء اللحية". * * * مِنَ الحِسَان: 261 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السِّواكُ مَطْهَرَةٌ للفَم مَرْضاةٌ للرَّبِّ".

"من الحسان": " عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السِّواك مَطْهَرَ": مصدر بمعنى الفاعل؛ أي: مُطَّهرٌ. "للفم ومَرْضَاة للرب"؛ أي: محصِّل رضاه، أو بمعنى المفعول؛ أي: مَرْضيٌّ، ويجوز أن يكونا باقيين على أصل مصدريتهما؛ أي: سبب للطهارة والرضاء. * * * 262 - وقال: "أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ المُرسَلِينَ: الحياء والتَّعَطُّرُ، والسِّواكُ، والنكّاحُ، - ويُروى: "الخِتان" -، رواه أبو أيوب. "وقال أبو أيوب: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أربع"؛ أي: أربع خصال. "من سنن المرسلين: الحياء"؛ أراد به: الحياء الذي هو التنزه عما تأباه المروءة ويذمه الشرع، وهو ستر العورة، وترك الفواحش، وغير ذلك، لا الحياء الجِبلِّي. "ويروى: الختان، بدل: (الحياء). "والتَّعطُّر": وهو التطيب بالطيب. "والسواك والنكاح". * * * 263 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَرْقُدُ مِنْ لَيْلٍ ولا نهَارٍ فيستَيْقِظُ، إلاَّ يتَسَوَّكُ قبلَ أَنْ يتوضَّأْ. "وقالت عائشة: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - لا يَرْقُدُ"؛ أي: لا ينام.

"من ليل ولا نهار فيستيقظ"؛ أي: فينتبه من النوم. "إلا يتسوَّك"؛ أي: يستعمل السواك. "قبل أن يتوضَّأ" إزالةً لتغير الفم الذي حصل بالنوم؛ لتكون رائحة فمه طيبة إذا ذَكَرَ الله أو قرأ القرآن، أو تكلَّم مع أحد من الملك والإنس، وهذا تعليم لأمته. * * * 264 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَستاكُ، فيُعطيني السِّواكَ لأغسِلَهُ، فأبْدَأُ بِهِ فاستاكُ، ثمَّ أغسِلُهُ، وأدفَعُهُ إليه. "وقالت عائشة: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يستاك فيعطيني السواك لأغسله" فيه دليل على أن غَسْلَ السِّواك سنة بعد التَّسوك. "فأبدأ به"؛ أي: باستعمال السواك في فمي قبل الغسل لتنال بركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا أرضى أن يذهب الماء ما أصابَ السواك من أسنانه - عليه الصلاة والسلام -. "فأستاك ثم أغسله وأدفعه إليه" وفيه إشارة: إلى أن استعمال سواك الغير غير مكروه بشرط أن يكون بإذن صاحبه. وقيل: يحتمل الحديث معنى آخر، وهو أنها - رضي الله عليها - تخبر أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يستاك، فكان عند إرادته ذلك يدفع السواك إليها لتغسله بالماء ليلين، فتبدأ هي فتستاك به، ثم تغسله بعد ذلك وتدفعه إليه ليستاك هو به، وإنما فعلت ذلك للانبساط بين الزوجين. * * *

5 - باب سنن الوضوء

5 - باب سُنن الوُضوء (باب سنن الوضوء) مِنَ الصِّحَاحِ: 265 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا استَيقظَ أحدكمْ مِنْ نَومِهِ فلا يغمِسْ يدَهُ في الإناء حتَّى يغسِلَهَا ثلاثاً، فإنَّهُ لا يدري أينَ باتتْ يدُه". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمسن"؛ أي: فلا يدخلن. "يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً": وهذا يُؤْذِن بأن الباعثَ على الأمر بالغسل احتمالُ النجاسة؛ لترتبه عليه بالفاء بقوله: "فلا" وبـ "أن" قوله: "فإنه لا يدري أين باتت يده" من مكان طاهر أو نجس، وذلك أن أكثرهم كانوا يتجمَّرون لقلَّة الماء في ديارهم، وينامون عراة، ويعرق منهم محلُّ النَّجاسة، فربما وصلت أيديهم إلى منافذهم وهم لا يشعرون، فأمرهم أن يغسلوها ثلاثًا استحبابًا لتوهم النجاسة. * * * 266 - وقال: "إذا استيقظَ أحدُكُمْ مِنْ مَنَامِهِ فتوضَّأ فلْيَسْتَنْثِر ثلاثاً، فإنَّ الشيطانَ يبيتُ على خَيْشومِه"، رواه أبو هريرة. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استيقظ أحدكم من

منامه فتوضأ فليستَنْثِر": جواب الشرط، أي: فليغْسِلْ داخل أنفه. "ثلاثاً فإنَّ الشيطان" إذا لم يمكنه الوسوسة عند النوم لزوال الإحساس بالنوم. "يبيت على خَيْشومه" وهو أقصى الأنفِ ليُلْقِي في دماغه الرُّؤيا الفاسدة، ويمنعه عن الرؤيا الصالحة، لأن محلها الدماغ فأمر - عليه الصلاة والسلام - أُمَّته أن يغسلوا داخل أنوفهم؛ لإزالة لوث الشيطان ونتنه منها. * * * 267 - وقيل لعبد الله بن زَيد بن عاصم: كيفَ كانَ يتوضَّأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فدعا بوَضُوءٍ، فأفرغَ على يده اليُمْنَى، فغسَلَ يدَيْهِ مرَّتين مرتين، ثم مَضْمَضَ واسْتَنْثَرَ ثلاثاً، ثمَّ غسلَ وجهَهُ ثلاثاً، ثمَّ غسلَ يديهِ مرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إلى المِرْفَقَيْنِ، ثمَّ مسَحَ رأسَهُ بِيَدَيْهِ، فأقبَلَ بهما وأدبَرَ، بدأ بمُقدَّمِ رَأْسِهِ ثمَّ ذهبَ بهما إلى قَفَاهُ، ثمَّ ردَّهُمَا حتى رجعَ إلى المكانِ الذي بدأَ منهُ، ثم غسلَ رِجلَيْهِ، وفي روايةٍ: فمضمَض واستنشَقَ ثلاثاً بثلاثِ غَرَفَاتٍ مِنْ ماء، وفي روايةٍ: مضمَضَ واستنشقَ مِنْ كفٍّ واحدةٍ، فعلَ ذلكَ ثلاثاً، وقال: مسحَ رأسَهُ فأقبلَ بهما وأدبرَ مرةً واحدةً، ثُمَّ غسلَ رِجلَيْهِ إلى الكَعْبَيْنِ، وفي روايةٍ: فمَضْمض واستنثَرَ ثلاثَ مرَّاتٍ مِنْ غرفةٍ واحدةٍ. "وقيل لعبد الله بن زيد بن عاصم: كيف كان رسول الله يتوضأ؛ فدعا بوَضوء": بفتح الواو؛ أي: بماء يتوضأ به. "فأفرغ"؛ أي: صبَّ الماء. "على يده اليمنى فغسل يديه مرتين، ثم مضمض واستنثر ثلاثاً، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين، ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما

وأدبر، فَسَّرَ كيفية الإقبال والإدبار بقوله: "بدأ بمُقَدَّم رأسه"؛ أي: وضع كفيه وأصابعه عند مقدَّم رأسه. "ثم ذهب بهما"؛ أي: أمرَّهما حتى وصلاً إلى قفاه، ثم ردَّهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه، وفي رواية: فمضمض واستنشق ثلاثاً بثلاث غَرَفَات" بفتح الغين والراء: جمع غَرْفَة وهي بالفتح: مصدر؛ بمعنى: مرة واحدة من غرف الماء، وبالضم: اسم؛ معناه: مِلء كَفٍّ. "من ماء". "وفي رواية: فمضمض واستنشق من كف واحدة": بأن جعل ماء الكفِّ بعضه في فمه، وبعضه في أنفه. "فعل ذلك ثلاثاً"، وفيه حجة للشافعي. "وقال: مسح رأسه فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة، ثم غسل رجليه إلى الكعبين". "وفي رواية: فمضمض واستنثر ثلاث مرات من غرفة واحدة". * * * 268 - رُوي عن ابن عباس أنَّه قال: توضَّأ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّة مَرَّةً. "روي عن ابن عباس أنه قال: توضأ النبي - عليه الصلاة والسلام - مرة مرةً"؛ أي: غسل كل عضوٍ مرة واحدة، ومسح برأسه مرة واحدة، هذا هو أقلُّ الوضوء. * * * 269 - وعن عبد الله بن زيد: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ مرَّتينِ مرَّتَين.

"وعن عبد الله بن زيد أن النبي - عليه الصلاة والسلام - توضأ مرتين مرَّتين" هذا هو الأفضل في الوضوء. * * * 270 - وروي عن عثمان - رضى الله عنه -: أنَّهُ توضأ ثلاثاً ثلاثاً. "وروى عثمان - رضي الله عنه - أنه - عليه الصلاة والسلام - توضأ ثلاثاً ثلاثاً"، هذا هو الأكمل، وقد فعل - عليه الصلاة والسلام - كل ذلك تبيينًا لأمته أنَّ جميع ذلك جائز، فمن فعل الأكمل يكون ثوابه أكثر. * * * 271 - وقال عبد الله بن عمرو: رأى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قوماً توضَّؤُوا وأعقابُهُمْ تَلُوحُ لم يمسَّهَا الماء فقال: "ويل للأَعقابِ مِنَ النَّارِ، أَسبغُوا الوُضُوء". "وقال عبد الله بن عمرو: رأى النبي - عليه الصلاة والسلام - قوماً توضؤوا وأعقابهم": جمع عقيب. "تلوح"؛ أي: تظهر يبوستها، جملة حالية، وكذا: "لم يمسَّها الماء": جملة حالية مبينة لـ (تلوح). "فقال: ويل للأعقاب"؛ أي: لأصحابها المقصِّرين في غَسلها. "من النار"؛ يعني: يصل النار إلى المواضع التي لم يصل إليها الماء. "أَسْبغُوا الوُضوء"؛ أي: أتمُّوه بإتيان جميع فرائضه وسننه. قيل: لعلهم كانوا حديثي عهد بالإسلام وأحكامه، فتجوزوا في غَسْل أرجلهم لجهلهم بأحكام الشرع، وفيه دليل على وجوب غَسْلِ الرِّجلين وهو المنقول من فعله - عليه الصلاة والسلام - وفعل الصحابة. * * *

272 - وقال المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه -: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توضَّأ، فمَسحَ بناصيتهِ وعلى عِمَامَتِهِ وخُفَّيْهِ. "وقال المغيرة بن شعبة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ فمسح بناصيته": إن جعلت الباء فيه للتبعيض دليل للشافعي على وجوب مَسْحِ قَدْر ما يطلق عليه اسم المسح وإن قل، وإن جُعِلَت زائدة ففيه دليل لأبي حنيفة في التقدير بالرُّبع وهو قَدْر النَّاصِيَة. "وعلى عِمَامته" حمل الشافعي المسحَ عليها لتكميل السّنة بعد مَسْحِ الواجب من الرأس لا لسقوط الفرض، وجوَّزه أحمد إن تعمَّمَ على طهْر كلبس الخف، وجوَّزه داود مطلقا، ولم يجوِّزه أبو حنيفة مطلقا. وقيل: يحتمل أنه كان جائزاً قبل نزول الآية، والأخذ بظاهر التنزيل أولى. "وخُفَّيه"؛ أي: مسح على خفيه. * * * 273 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُحبّ التَّيَمُّنَ ما استطاعَ في شأنِهِ كُلِّهِ: في طُهُورِه، وتَرَجُّلِهِ، وتَنَعّلِهِ. "وقالت عائشة: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يحب التَّيمُّن"؛ أي: يختار الابتداء باليمين من اليد والرجل وبالجانب الأيمن. "ما استطاع في شأنه"؛ أي: في أمره. "كُلِّه، في طُهُوره": بدل من (شأنه) بإعادة العامل؛ أي: في وضوءه، يعني: يغسل يده اليمنى ورجله اليمنى قبل اليسرى. "وترجُّلِهِ"؛ أي: امتشاط شعر رأسه؛ يعني: يمتشط الجانب الأيمن من رأسه قبل اليسار.

"وتنعُّلِهِ"؛ أي: لبس نعليه، يعني: يُدْخِل رجله اليمنى في النَّعل قبل اليسرى. * * * مِنَ الحِسَان: 274 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا لَبسْتُمْ وإذا توضَّأْتُمْ فابْدَؤُا بأيمانكم". "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لبستم وإذا توضَّأتم فابدؤوا بِأَيَامِنِكُم": جمع الأيمن، وهو بمعنى اليمين. * * * 275 - وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نُفيل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرِ اسمَ الله عليهِ". "وعن سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا وُضُوء لمن لم يَذْكُرِ اسم الله، أكثر الأئمة على أنه أريد به نفي الكمال والفضيلة بدليل ما روى ابن عمر وابن مسعود: أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "مَنْ توضَّأ وذَكَرَ اسم الله كان طَهُوراً لجميع بَدَنِهِ، ومن توضَّأَ ولم يذْكُرِ اسمَ الله كان طَهُوراً لأعضَاءِ وُضُوئه". والمراد من الطهور هنا: الطهور من الذُّنوب لا عن الحدث فإنه لا يتجزأ، فدلَّ على حصول الوضوء بدون ذكر اسم الله عليه فيكون مستحباً. وذهب بعضهم إلى وجوبه عند ابتداء الوضوء تمسُّكاً بظاهر الحديث حتى

إن تركه في ابتدائه بطل وضوؤه. وقيل: إن تركه عامداً بطل، وإن تركه ناسياً (¬1) أو متاؤلاً فلا. * * * 276 - وقال لَقيط بن صَبرة: قلت: يا رسولَ الله! أخبرْني عن الوُضُوء قال: "أسْبغِ الوُضُوء، وخَلِّلْ بينَ الأَصابعِ، وبالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ إلاَّ أن تكونَ صائماً". "وقال لقيط بن صَبرَة: قلت: يا رسول الله! أخبرني عن الوضوء قال: أسْبغِ الوضوء، وخلِّلْ بين الأصابع، وبالِغْ في الاستنشاق" بإيصال الماء إلى باطن الأنف. "إلا أن تكون صائماً" فلا تبالغ حينئذٍ، كيلا يصل الماء إلى باطنه فيبطل الصوم، وإنما أجاب ببعض سنن الوضوء لعلم السائل بأصل الوضوء. * * * 277 - وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا توضَّأتَ فخللْ أصابعَ يدَيْكَ ورِجْلَيْكَ"، غريب. "وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا توضَّأْتَ فخلِّلْ أصابعَ يدَيْكَ ورِجْلَيْك"، فالتخليل سُنَّة إن وصل الماء إلى أَثْنَائِهَا، وإن لم يصل بأن كانت الأصابع مُنْضَمَّةً فواجبٌ. "غريب". * * * ¬

_ (¬1) في "غ": "ساهياً".

278 - وقال المُسْتَوْرِدُ بن شدَّاد: رأَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضَّأ يَدْلُكُ أصابعَ رِجْلَيْهِ بِخِنْصَرِه. "وقال المُسْتَوْرِدُ بن شدَّاد: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضَّأ يَدْلُكُ أصابع رِجْلَيْه"؛ أي: يخلِّلها. "بِخِنْصَرِه"؛ أي: بِخِنْصَرِ يده اليسرى؛ يبدأ برجله اليمنى من الخنصر إلى الإبهام، وبرجله اليسرى من الإبهام إلى الخنصر. * * * 279 - وقال أنس: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضَّأ أخذَ كفًّا مِنْ ماء، فأدخَلَهُ تحتَ حَنَكِهِ، فخلَّلَ بِهِ لحيتَهُ، وقال: "هكذا أمرَني ربي". "وقال أنس: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضَّأ أخذَ كفّاً من ماء فأدخله تحت حَنَكِهِ"؛ أي: تحت لحيته، وذلك كان عند غسل وجهه. " فخلَّلَ به لحيته" من جانب حلقه؛ ليصل الماء إلى كل جانب من اللحية. "وقال: هكذا أمرني ربي". * * * 280 - وعن عثمان - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُخلِّلُ لِحْيتهُ. "وعن عثمان أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يُخلل لحيته". * * * 281 - عن أبي حَيَّة - رضى الله عنه - قال: رأيتُ عليًّا - رضى الله عنه - توضَّأ فغسلَ كفَّيْهِ حتَّى أنقاهُما، ثمَّ مَضْمَضَ ثلاثاً، واستنشَقَ ثلاثاً، وغسلَ وجهَهُ ثلاثاً، وذِراعَيْهِ ثلاثاً،

ومسحَ برأْسِهِ مَرَّة، ثمَّ غسلَ قَدَمَيْهِ إلى الكعبَيْنِ، ثمَّ قامَ، فأخذَ فَضْلَ طَهُورِه فشَرِبَهُ وهو قائم، ثم قال: أَحبَبْتُ أنْ أُرِيَكُمْ كيفَ كانَ طُهُورُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ويُروى: فمضمضَ واستنْشَقَ ونثرَ بيَده اليُسرى، فعلَ ذلك ثلاثاً، ويُروى: ثم تمضمضَ واستنْشَقَ بكفٍّ واحدةٍ ثلاثَ مرات. "وعن أبي حَيَّة أنه قال: رأيت علياً - رضي الله عنه - توضَّأَ فغسلَ كفَّيْه حتى أَنْقَاهُما"؛ أي: أزالَ الوسخ منهما. "ثم مَضْمَضَ ثلاثاً، واسْتَنْشَقَ ثلاثاً، وغسَلَ وجهَهُ ثلاثاً، وذراعَيْه"؛ أي: يديه من رؤوس الأصابع إلى المرفقين. "ثلاثاً، ومسح برأسه مرة، ثم غسل قدميه إلى الكعبين، ثم قام فأخذ فَضْلَ طَهُوره" بالفتح؛ أي: بقية مائه الذي توضأ به. "فشربه وهو قائم" أما شرب فَضْله فلأنه ماء أدَّى به عبادة، وهي الوضوء، فيكون فيه بركة فيَحْسُنُ شربه، وأما شربه من القيام فلتعليم الأمة أنَّ الشُّرب قائماً جائز. "ثم قال: أحببت أن أريكم كيف كان طُهور رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بضم الطاء؛ أي: توضُّؤُه. "ويروى: ثم تمضمض (¬1) واستنشق ونثر"؛ أي: طرح من أنفه الأذى. "بيده اليسرى ففعل ذلك ثلاثاً". "ويروى: ثم تمضمض واستنشق بكفٍّ واحدة ثلاث مرات". * * * ¬

_ (¬1) في "غ":"مضمض".

282 - وعن ابن عباس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مسحَ برأسِهِ ثلاثَ مرَّات. "وعن ابن عباس أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مسح برأسه ثلاث مَرَّات": وفيه حُجَّة للشافعي في تثليث مسح الرأس. * * * 283 - عن ابن عباس: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مسحَ برأسِهِ وأُذُنيهِ باطِنِهِمَا بالسَّبَّابَتَيْنِ، وظاهِرِهما بإبهامَيْهِ. "وعنه أن النبي - عليه الصلاة والسلام - مسح برأسِهِ وأُذُنيهِ بَاطِنِهِمَا بالسَّبَّابَتَيْنِ" باطن الأذن: الجانب الذي فيه الثقبة. "وظاهرهما لإبْهَامَيْهِ": ظاهر الأذن الطرف الذي ملتصق بالرأس. وفي بعض النسخ: "بالسَّبَّاحَتَيْنِ" مكان "السَّبَّابتين" والسَّبَّاحة والمسبحة بمعنى واحد، وهما من التسميات الإسلامية، وضعوها مكان السَّبَّابة لما فيها من المعنى المكروه. * * * 284 - وعن الرُّبَيع بنت مُعَوِّذ: أنَّها رأَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يتوَضَّأُ، قالت: ومسَحَ رأْسَهُ ما أقبلَ مِنْهُ وما أدْبَرَ، وصُدْغَيْهِ، وأُذُنيهِ مَرَّةً واحِدةً، وقالت: وأَدخلَ أُصْبُعَيْهِ في جُحْرَيْ أُذُنيهِ. "وعن الرُّبَيع بنت مُعَوِّذ: أنها رأت النبي - عليه الصلاة والسلام - يتوضأ قالت: ومسح رأسه ما أَقْبَلَ منه وما أَدْبَرَ وصُدْغَيْهِ": وهو الشعر الذي بين الأذن وبين النَّاصية من كل جانب من جانبي الرأس.

"وأذنيه مرة واحدة، وقالت: وأدخل أُصْبُعَيْه في جُحْري أُذُنيهِ"؛ أي: صِمَاخيهما. * * * 285 - وعن عبد الله بن زَيد: أنَّه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - توضَّأَ، وأنَّه مسحَ رأسَهُ بماءٍ غيْرِ فَضْلِ يَدَيْهِ. "وعن عبد الله بن زيد: أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام توضأ، وأنه مسح رأسه بماء غير فَضْلِ يديه"؛ أي: بماء جديد، لا بماء بقي على يديه من غسلهما؛ لأنه مستعمل، وفيه حجة للشافعي. * * * 286 - عن أبي أُمامة، ذكرَ وُضوءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمسحُ المَأقَيْن، قال: وقال: "الأذُنَانِ مِنَ الرَّأسِ"، وقيل: هذا من قول أبي أُمامة. "وعن أبي أمامة: ذَكَرَ وضوء رسول الله قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمسح المأقَيْن"؛ أي: طرف العينين الذي يلي الأنف؛ أي: ينقيها ويغسلهما من الغمض وهو قيح العين. "قال": أبو أمامة: "وقال - عليه الصلاة والسلام - الأذنان من الرأس"؛ أي: يمسحهما مع مسح الرأس بماء واحد، وبه أخذ أبو حنيفة ومالك وأحمد. "وقيل هذا من قول أبي أمامة". * * * 287 - وعن عمْرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده: أنَّ أعرابيًّا سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الوُضُوءَ، فأراهُ ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: "هكذا الوُضُوءُ، فمنْ زادَ على هذا فقدْ

أَساءَ وتعدَّى وظلَم". "وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن أعرابياً سأل النبي - عليه الصلاة والسلام - عن الوضوء فأراه"؛ يعني: غَسْل كل عضو. "ثلاثاً ثلاثاً، ثم قال: هكذا الوضوء، فمن زاد على هذا فقد أساء"؛ أي: أساء الأدب؛ لأن الازْدِيَاد على ما استكْمَلَهُ الشَّرع استنقاصٌ له. "وتعدَّى"؛ أي: وجاوز الحدَّ المحدود، وهو التوضُّؤ ثلاثاً ثلاثاً. "وظلم"؛ أي: نفسه بمخالفته - عليه الصلاة والسلام -، وإنما ذمّه بهذه الكلمات الثلاث إظهاراً لشدة النَّكير عليه وزجراً له عن ذلك. قال الإمام حافظ الدين النسفي: هذا إذا زادَ معتقِدًا أن السُّنَّة هذا، فأما لو زاد لطمأنينة القلب عند الشكِّ أو بنيَّةِ وضوءِ آخر فلا بأس به؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - أمر بترك ما يريبه إلى ما لا يريبه. * * * 288 - عن عبد الله بن المُغَفَّل - رضى الله عنه -: أنَّه سمعَ ابنهُ يقولُ: اللهمَّ إنِّي أسألُكَ القَصْرَ الأبيضَ عَنْ يمينِ الجنَّةِ، قال: أيْ بنيَّ، سَلِ الله الجنَّةَ، وتعوَّذْ بِهِ مِنَ النَّارِ، فإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنه سيكونُ في هذه الأُمَّةِ قوْمٌ يعتدونَ في الطُّهُورِ والدُّعاء". "وعن عبد الله بن مُغَفَّل: أنه سمع ابنه يقول: اللهم إني أسألك القَصْرَ الأبيض عن يمين الجنة قال"؛ أي: عبد الله لابنه: "أي بنيَّ": لا تسأل شيئاً معيناً من الجنة؛ لأنه ربما يكون ذلك في تقدير الله لشخص غيرك، بل "سَلِ الله تعالى الجنَّة وتعوَّذْ به من النار، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنه سيكون في هذا الأمَّة قومٌ يعتدون في الطَّهُور والدُّعاء"؛ أما الاعتداد في الطهور: فبأن

يزيد على الوضع الشرعي والسنة المأثورة، وأما في الدعاء قيل: فبأن يسأل ما لا حاجة له إليه. وقيل: أن يطلب ما لا يبلغه عملاً وحالاً، كما فعله ابن [عبدالله بن] مغفل حيث سأل منازل الأنبياء. * * * 289 - وعن أُبَيّ بن كعب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنَّ للوُضُوءَ شيطاناً يُقالُ له: الوَلْهَانُ، فاتَّقُوا وَسْوَاس الماء"، ضعيف. "وعن أُبَيِّ بن كعب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنَّ للوُضُوء شيطاناً يُقال له: الوَلَهان" بفتحتين: مصدر، وَلَهَ: إذا تحيَّر من شدَّة العِشْق، سُمِّي شيطان الوضوء به لإلقائه الناس في التّحير، حتى لا يعلمون: هل وصل الماء إلى أعضاء الوضوء أو لا؟ وهل غسل أكثر من ثلاث أو أقل؟ "فاتقوا"؛ أي: احذروا. "وسواس الماء"؛ يعني: وسواس الوَلْهَان، وضع الماء موضع ضميره مبالغة في كمال وسواسه في شأن الماء. "ضعيف، قال الترمذي: غريب". * * * 290 - عن مُعاذ بن جَبل قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضَّأ مسحَ وجهَهُ بطَرَفِ ثوْبهِ. غريب. "وعن معاذ بن جبل أنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا توضَّأ مسحَ وجهَهُ"؛ أي: يَنْشِفه بعد الوضوء.

6 - باب الغسل

"بطرت ثوبه"، "غريب". * * * 291 - ورُوي عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كانَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خِرْقَةٌ يُنَشِّفُ بها بعدَ الوُضُوء، وهو ضعيف. "روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت للنبي - عليه الصلاة والسلام - خِرْقَة ينشِّف بها"؛ أي: بتلك الخرقة أعضاء وضوئه. "بعد الوضوء". "وهو ضعيف". * * * 6 - باب الغسل (باب الغسل) مِنَ الصِّحَاحِ: 292 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا جلسَ أحدكم بينَ شُعَبهَا الأربَعِ، ثمَّ جهدَهَا فقدْ وجبَ الغُسْلُ وإنْ لم يُنْزِل". قال الشيخ الإمام رحمه الله: وما رُوي: 293 - عن أبي سعيد الخُدري، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما الماءُ مِنَ الماء"، منسوخ. قال ابن عباس - رضي الله عنه -: "إنَّما الماءُ مِنَ الماء" في الاحْتِلاَمِ. "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جلس أحدُكُم بين شُعَبها

الأربَعِ": وهي يداها ورجلاها، وقيل: فخذاها وأستاها. "ثم جَهَدَها"، أي: جامعها. " فقد وجب الغُسْل وإن لم يُنزل. قال الشيخ الإمام - رحمه الله -: وما روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنما الماء من الماء"؛ أي: وجوب استعمال الماء من أجل خروج الماء الدافق. "فمنسوخ" بحديث أبي هريرة هذا، وبحديث عائشة رضي الله عنها: "إذا التقى الختانان وجب الغُسْل". "وقال ابن عباس: إنما الماء من الماء": معمول به "في الاحتلام": فإن من رأى في النوم أنه يجامع ثم استيقظ فرأى المني، وجب عليه الغسل، وإلا فلا. * * * 294 - وقالت أُمُّ سُلَيْم: يا رسولَ الله! إنَّ الله لا يَسْتَحْيي مِنَ الحقّ، فهلْ على المرأةِ مِنْ غُسْلٍ إذا احتَلَمَتْ؟ قال: "نعمْ، إذا رأَتِ الماءَ"، فغطَّتْ أُم سَلَمَة وَجْهَهَا وقالت: يا رسولَ الله! أوتَحْتَلِمُ المرأةُ؟ قال: "نعم، تَرِبَتْ يَمينُكِ فبمَ يُشْبهُهَا وَلَدُها؟ إنَّ ماءَ الرجلِ غليظٌ أبيض، وماءَ المرأةِ رقيقٌ أصْفَرُ، فَمِنْ أَيهِما عَلاَ وسبقَ يكونُ منهُ الشَّبَهُ". "وقالت أمُّ سُلَيْم": هي أم أنس بن مالك. "يا رسول اللْه! إن الله لا يَسْتَحْيي"؛ يعني: لا يمتنع "من الحق" ولا يتركه، وأنا أيضاً لا أستحيى من سؤالي هو حق. "فهل على المرأة من غُسْلٍ إذا احتَلَمَتْ؟ قال: نعم، إذا رأت الماء، فغطَتْ أمُّ سلمة"؛ أي: سَتَرَتْ.

"وجهها": من استحياء ما سألت أم سليم. "وقالت: يا رسول الله! أَوَ تَحْتَلِمُ المرأة" ويكون لها منيٌّ ويخرج مَنِيّها كالرجل؟ "قال: نعم، تَرِبَتْ يمينُكِ": هذا دعاء لا يراد وقوعه، بل يُقال عند ذمِّ أحد على فعلٍ أو قولٍ، والمراد: التنبيه والتعجب على استعجابها وإنكارها احتلام المرأة. "فَبمَ يشبهها ولدها" لأن المشابهة إنما تكون إذا كان الولد جزءاً منها، فيه دلالة على أن لها مَنِيًّا كالرجل. "إن ماء الرجل غليظٌ أبيضُ، وماء المرأة رقيقٌ أصْفَرُ"، وهذا الوصف باعتبار الغالب وحال السلامة؛ لأن منيَّ الرجل قد يصير رقيقاً بسبب المرض ومحمرًّا بكثرة الجماع، وقد يَبْيَض مَنِيّ المرأة لفضل قوتها. "فَمِنْ أَيهِمَا عَلاَ"؛ أي: غَلَبَ المنيّ فيما إذا وقع منيّهما في الرَّحم معاً. "أو سبق" وقوع منيه في الرَّحم قبل وقوع مَنِي صاحبه "يكون منه الشبه". * * * 295 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغتَسَلَ مِنَ الجَنابَةِ بدأَ فغسَلَ يَدَيْهِ، ثمَّ توضَّأ كما يتوضَّأُ للصلاةِ، ثمَّ يُدخِلُ أصابعَهُ في الماء فيُخَلَّلُ بها أُصولَ شعرِه، ثمَّ يَصُبّ على رأْسِهِ ثلاثَ غَرَفَاتٍ بيدَيْهِ، ثمَّ يُفيضُ الماءَ على جِلْدِهِ كلِّه، ويُروى: يبدأُ فيغسِلُ يدَيْهِ قبلَ أنْ يُدْخِلَهُمَا الإناءَ، ثمَّ يُفْرغ بيمينِهِ على شمالِهِ، فيغسِلُ فرجَهُ، ثمَّ يتوضَّأُ. "وقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اغْتَسَلَ من الجنابة بدأَ بغسل يديه"؛ أي: كفيه.

"ثم يتوضَّأ كما يتوضَّأ للصلاة، ثم يُدْخِلُ أصابعه في الماء فيخلِّل بها أصول شعره، ثم يصُبُّ الماء على رأسه ثلاث غَرَفَات بيدَيْهِ، ثم يُفِيْض الماء"؛ أي: يَصُبُّه "على جلده كله". "ويُروى: يَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يديه قبل أن يُدْخِلَهُمَا الإناء، ثم يُفْرغُ الماء"؛ أي: يصبُّه "بيمينه على شماله، فيغسِلُ فرجَهُ ثم يتوضَّأ". * * * 296 - وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: أنَّه قال: قالت مَيْمُونة رضي الله عنها: وضعتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسْلاً فَسَتَرْتُهُ بِثَوْبٍ، وَصَبَّ على يَدَيْهِ فَغَسَلَهُما، ثُمَّ أَدْخَل يَمينَهُ في الإناءَ، فَأفْرَغَ بها على فَرجِهِ، ثم غسَلَهُ بِشمَالِهِ، ثم ضربَ بشِمالِهِ الأرضَ، فدلَكَها دلْكاً شديداً، ثم غسلَهَا، فمضمضَ واستنْشَقَ، وغسلَ وجهَهُ وذِرَاعَيْهِ، ثم أَفْرَغَ على رأْسِهِ ثلاث حَفَنَاتٍ مِلءَ كَفَّيهِ، ثم غسلَ سائرَ جسدِهِ، ثم تَنَحَّى فغَسَلَ قَدَميْهِ، فناولْتُهُ ثوباً فلم يأخُذْهُ، فانطلقَ وهو يَنْفُض يَدَيْهِ. "وعن ابن عباس أنه قال: قالت ميمونة: وضعْتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - غسلاً" بضم الغين، هو الماء الذي يُغْتَسَل به. "فَسَتَرْتُهُ بثوب"؛ أي: ضربْتُ له - عليه الصلاة والسلام - سِتْراً يغتسل بها وراءه كيلا يراه أحد. "فصبَّ على يديه فغسَلَهُما، ثم أدخل يمينَهُ في الإناء فأفْرَغَ"؛ أي: صَبَّ بها "على فَرْجِهِ، ثم غَسَلَهُ بشماله، ثم ضرب بشماله الأرض فَدَلَكَها دلكاً شديداً"؛ أي: مسح يده على الأرض؛ لتزول منها الرائحة الكريهة. "ثم غسلها فمضمض واستنشق وغسل وجهه وذراعيه، ثم أفرَغَ على

رأسه ثلاث حَفَنَات" بالفتحات: جمع حَفْنَة. "مِلْءَ كفيه": ذكره بعدها لتأكيدها. "ثم غسل سائر جسده، ثم تنحَّى"؛ أي: تباعد من مكان الغسل. "فغسل قدميه" إن كان لم يغسلهما حين توضَّأ. "فناولته"؛ أي: أعطيته. "ثوباً" لينشف به أعضاءه. "فلم يأخذه"؛ أي: الثوب؛ احترازاً عن تنشيف الأعضاء، فإذاً يكون ترك التنشيف سُنَّة. "فانطلق"؛ أي: فمشى. "وهو ينفض يديه"؛ أي: يحركهما في المشي كما هو عادة أهل القوة عند مشيهم. قيل: ليس نفضها لإزالة ما على يديه من الماء؛ لأن نفضَ اليد في الوضوء والغسل مكروه لما فيه من إماطة أثر العبادة. وقيل: نفضها لإزالة الماء المستعمل عنه، فعلى هذا لا يكون النَّفض فيهما مكروهاً. * * * 297 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إن امرأةً سأَلت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن غُسلِها مِنَ المَحيضِ، فأمَرَهَا كيفَ تغتَسِلُ، ثمَّ قال: "خُذِي فِرْصة مِنْ مِسْكٍ فتطهري بها"، قالت: كيفَ أتطهَّرُ بها؟ قال: "سُبحانَ الله! تطهرِّي بها"، قالت: كيفَ أتطهَّرُ بها؟ فَاجْتَذَبْتُهَا إليَّ فقلتُ: تتَبَّعي بها أثرَ الدمِ. "وقالت عائشة رضي الله عنها: إن امرأة سألَت النبي - عليه الصلاة

والسلام - عن غسلها من المحيض"؛ أي: الحيض. "فأمرها"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك المرأة أن تغتسل. "كيف تغتسل"؛ أي: كغسلها من الجنابة. "ثم قال: خذي فِرْصَة" بكسر الفاء، هو قطعة من صوف أو قطن أو غيره. و (من) في: "مِنْ مِسْك" للتَّبيين لمقدَّر؛ أي: فِرْصَة مطيَّبة من مسك. "فتطهري": فتطيبي. "بها"؛ أي: بالفِرْصَة، فاستعمليها في الموضع الذي أصابه دم الحيض حتى يصير مُطَيَّباً. "قالت: كيف أتطهَّر بها؟ قال: سبحان الله! تطهري بها، قالت: كيف أتطهَّر؟ ". قالت عائشة - رضي الله عنها -: "فَاجْتَذَبْتُها إليَّ"؛ أي: قربتها إلى نفسي. "فقلت"لها سراً: "تتبعي بها"؛ أي: بالفِرْصة. "أثر الدم": لقطع رائحة الأذى. * * * 298 - وقالت أم سَلَمَة: قلت: يا رسول الله! إنِّي امرأةٌ أشُدُّ ضَفْرَ رأْسي، أفأنْقُضُهُ لِغُسْلِ الجَنابةِ؟ فقال: "لا، إنَّما يكفيكِ أنْ تَحْثِي على رأْسِكِ ثلاثَ حَثَيَاتٍ، ثمَّ تُفيضينَ علَيْكِ الماءَ فتطْهُرين". "وقالت أم سلمة: قلت: يا رسول الله! إني امرأة أَشُدُّ ضَفْرَ رأسي"، "الضفر": نَسْجُ شعر الرأس، وإدخال بعضه في بعض؛ أي: أجعل نسج شعر رأسي شديداً.

"أفأنقضه" وأفرقه "لغسل الجنابة؟ قال: لا، إنما يكفيك أن تَحْثي"؛ أي: تصبي. "على رأسك" بالكفِّ "ثلاث حَثَيَات" أو بظَرْف ثلاث مرات، وليس المراد منه الحصر في ثلاث، بل إيصال الماء إلى الشعر، فإن وصل إلى ظاهره وباطنه بمرة، فالثلاث سنة، وإلا فالزيادة واجبة حتى يصل إليها، ولا يجب نقض الضَّفائر إذا تخللها الماء، وإلا فيجب، وعند النخعي يجب مطلقاً. "ثم تُفِيْضيْنَ"؛ أي: تَصبين. "عليك الماء"؛ أي: على سائر أعضائك. "فتطْهُرِيْنَ"؛ أي: فتصيرين بعد إيصال الماء إلى جميع أعضائك طاهرة. * * * 299 - وقال أنس: كانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأ بالمُدِّ، ويغتَسِلُ بالصَّاع إلى خَمْسَةِ أَمدادٍ. "وقال أنس: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يتوضأ بالمُدِّ"، وهو رطل وثلث رطل بالبغدادي، أو رطلان على اختلاف في مقدار الصاع. "ويغتسل بالصَّاع": وهو أربعة أمداد وكان غسله يصل "إلى خمسة أمداد". * * * 300 - وعن مُعاذةَ رضي الله عنها قالت: قالت عائشة رضي الله عنها: كُنْتُ أغتسِلُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إناء واحد بيني وبَيْنَهُ، فيبادِرُني، فأقول: دع لي، دع لي، قالت: وهُما جُنُبان.

"وعن مُعَاذَة أنها قالت: قالت عائشة رضي الله عنها: كنْتُ أغتسِلُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من إناء واحد" يوضع "بيني وبينه": وهو واسع الرأس نجعل أيدينا فيه ونأخذ الماء. "فيبادرني"؛ أي: يسبقني بأخذ الماء ويأخذ قَبْلي. "فأقول: دع لي، دع لي"؛ أي: اترك لي الماء. "قالت"؛ أي: عائشة، وقيل: أي: معاذة، وهو أنسب. "وهما"؛ أي: الرسول وعائشة. "جُنُبان" وهذا يدل على أن الماء الذي يُدْخِل الجنب فيه يده طاهر ومُطَهِّر سواء فيه الرجل والمرأة. * * * مِنَ الحِسَان: 301 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرَّجُلِ يجدُ البَلَلَ ولا يَذكُرُ احتِلاماً؛ قال: "يغتَسِلُ"، وعَنِ الرَّجلِ يرى أنَّهُ قَدِ احْتَلَمَ ولا يجدُ بللاً؟ قال: "لا غسْلَ عَلَيْهِ"، قالَتْ أُمُّ سُليم: هَلْ على المرأةِ تَرى ذلك غسْل؟ قال: "نعَمْ، إنَّ النِّساءَ شَقَائِقُ الرِّجالِ". "من الحسان": " عن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يجد البلل"؛ أي: يجد المني إذا استيقظ. "ولا يَذْكُرُ احتلاماً"؛ أي: لا يذكر أنه جامع أحداً في النوم. "قال: يغتسل. وعن الرجل يرى"؛ أي: يظن.

"أنه قد احتلم ولا يجد بللاً، قال: لا غسْلَ عليه، قالت أم سليم: هل على المرأة ترى ذلك"؛ أي: الاحتلام أو البلل. "غسل؟ قال: نعم، إن النساء شقائق الرجال"؛ أي: نظائرهم وأمثالهم في البشرية والخَلْق والطباع، وكأنهن شُقِقْنَ من الرجال، وحواء خُلِقَتْ من آدم وشُقَّتْ منه؛ يريد أن المرأة والرجل من أصل واحد هو آدم، فيجب الغسل عليها بما يجب عليه. * * * 302 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاوَزَ الخِتَانُ الخِتَانَ وجَبَ الغُسلُ". "وعن عائشة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جَاوَزَ الختانُ الختانَ": وهو موضع القطع من فرج الذَّكَر والأنثى، ومجاوَزَةُ ختانهما: كناية لطيفة عن الإيلاج. "وجب الغسل". * * * 303 - وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تحتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جنابَةٌ، فاغسِلُوا الشَّعرَ، وَأَنْقُوا البَشَر"، ضعيف. "وقال أبو هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تحت كل شَعَرة" بفتحات متواليات. "جنابة" فلو بقيت شعرة واحدة لم يصل إليها الماء بَقِيَت جنابته. "فاغسلوا الشعر"؛ أي: أوصلوا الماء إليها.

"وأَنْقُوا البَشَرَة": وهي ظاهر الجلد؛ أي: نظفوها من الوسخ، فلو كان في موضعٍ وسخٌ بحيث لا يصل الماء إلى ما تحته، لم ترتفع الجنابة. "ضعيف". * * * 304 - وقال علي - رضى الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تركَ مَوْضعِ شَعرةٍ من الجنابَةِ لَمْ يَغْسِلْهَا؛ فُعِلَ بها كذا وكذا من النَّار"، قال علي - رضي الله عنه -: فمِنْ ثَمَّ عاديتُ رأسي. "وقال علي - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: من ترك مَوْضع شَعْرَة من الجنابة لم يَغْسِلْهَا فُعِلَ بها"؛ أي: بتلك الشعرة. "كذا وكذا من النار"، وهذا إما كناية عن أقبح ما يُفعل به، أو إيهام عن شدة الوعيد. "قال علي: فمن ثَمَّ"؛ أي: من أجل هذا التهديد. "عاديت رأسي"؛ أي: عاملت معه معاملة المعادي، بأن قطعت شعور رأسي مخافة أن لا يصل الماء إلى جميع شعري. * * * 305 - قالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يتوضَّأ بعدَ الغُسْلِ. "وقالت عائشة: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - لا يتوضأ بعد الغسل" اكتفاء بتوضئه في ابتداء الغسل، أو باندراج ارتفاع الحدث الأصغر تحت ارتفاع الحدث الأكبر بإيصال الماء إلى جميع أعضائه. * * *

306 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغسِلُ رأْسَهُ بالخِطْمِيِّ وهو جُنُب، يجتزئُ بذلك، ولا يصبُّ عليه الماءَ. "وقالت عائشة: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يغسل رأسه بالخِطْمِي" بكسر الخاء، معروف. "وهو جُنُب": جملة حالية. "يجتزئ بذلك"؛ أي: يكتفي بالماء المخلوط به الخِطْمي عن رأسه. "ولا يصبُّ عليه"؛ أي: على رأسه. "الماء": بعد ذلك لإزالة الخِطمي، بل يتركه بحاله؛ قصداً للتَّبرد، ثم يصب على سائر بدنه لترتفع الجنابة. * * * 307 - عن يَعْلى بن أُمية: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله حَيي سِتِّير يُحبُّ الحَياءَ والتسترَ، فإذا اغْتَسَلَ أحدكمْ فليَسْتَتِرْ". "وعن يعلى: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله حَيي" بياءين الأولى مخففة والثانية مشددة؛ أي: كريم تارك للقبائح، يعامل عباده معاملة الحييِّ بالعفو والصَّفْح. "سِتِّير"؛ أي: ساتر للعيوب والذنوب، لا يهتك أستارهم. "يحب الحياء والتستر"؛ أي: يحبُّ هاتين الصفتين من عباده، فإنهما خصلتان تفضيان به إلى التَّخلق بأخلاق الله. "فإذا اغتسل أحدكم فليستتر"؛ أي: فليجعل لنفسه سِتْراً كيلا يراه أحد. * * *

7 - باب مخالطة الجنب وما يباح له

7 - باب مُخالَطة الجُنُب وما يُباح لَهُ " باب مخالطة الجنب"؛ أي: مجالسته ومؤاكلته ونحو ذلك. "وما يباح له"؛ أي: يحل. مِنَ الصِّحَاحِ: 308 - قال أبو هُريرة - رضي الله عنه -: لَقِيني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جُنُب، فأخذَ بيدي فمشيتُ معَهُ حتى قعدَ، فَانْسَلَلْتُ فأتيتُ الرحلَ فاغتسلتُ، ثمَّ جئتُ وهو قاعدٌ، فقال: "أينَ كنتَ يا أبا هِر؟ "، فقلت له: لَقِيتَني وأنا جُنُب، فكرِهْتُ أنْ أُجالِسَكَ وأنا جُنُب، فقال: "سُبْحَانَ الله، إِنَّ المُؤْمِنَ لا يَنْجُس". "من الصحاح": " قال أبو هريرة: لقيني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جُنُب، فأخذ بيدي فمشيْتُ معه حتى قعد، فانْسَلَلْتُ"؛ أي: ذهبت بخُفية. "فأتيت الرَّحْل"؛ أي: البيت؛ لأن بيوتهم كانت محلاً للرحال. "فاغتسلت، ثم جِئْتُ وهو قاعد"، وفيه دليل على جواز مصافحة الجنب، ومخالطته، وتأخير الاغتسال، والسعي في حوائجه. "فقال: أين كنت يا أبا هر" كان اسمه في الإسلام عبد الرحمن هذه الكنية وضعها النبي - عليه الصلاة والسلام - حين رأى في ثوبه شيئًا يحمله فقال: "ما هذا يا عبد الرحمن؟ " فقال: هرة. "فقلت له: لقيتني وأنا جُنُب، فكرهْتُ أن أجالسك وأنا جُنُب" فمشيْتُ واغتسلْتُ. "فقال" - عليه الصلاة والسلام - تعجباً: "سبحان الله! إن المؤمن لا ينجَسُ"

بفتح الجيم؛ أي: لا تصير عينه نجاسة، وهذا غير مختصٍّ بالمؤمن، بل الكافر كذلك. وأما قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، فالنَّجاسة في اعتقاداتهم، لا في أصل خِلْقَتِهم، وما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن أعيانهم نجسة كالخنزير، وعن الحسن: من صافحهم فليتوضأ، فمحمول على المبالغة. * * * 309 - وذكر عُمرُ - رضى الله عنه - لِرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّهُ تُصيبُهُ الجَنابةُ مِنَ اللَّيْلِ، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "توضَّأ، واغْسِلْ ذَكَرَكَ، ثمَّ نَمْ". "وذكر عمر - رضى الله عنه - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه تصيبه الجنابة من الليل، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: توضَّأ واغسِلْ ذَكَرَكَ ثم نَمْ". * * * 310 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كانَ جُنُباً فأرادَ أنْ يأكل أوْ يَنَامَ توضَّأ وُضُوءَهُ للصَّلاةِ. "وقالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كان جُنُباً فأراد أن يأكُلَ أو ينام توضَّأ وضُوُءَهُ للصلاة". * * * 311 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أتى أحدكمْ أهلَهُ، ثمَّ أرادَ أنْ يعودَ فليتوضَّأ بينَهُمَا وُضُوءاً"، رواه أبو سعيد الخدري. "وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أتى أحدكمْ أهلَهُ"؛ أي: جامعها.

"ثم أراد أن يعود" إلى الجماع. "فليتوضَّأْ بينهما"؛ أي: بين الإتْيَانينِ وضوءاً؛ لأن هذا أطيب وأكثر للنَّشاط والتَّلذذ. وفي هذا الحديث وحديث عمر وعائشة: إشارة إلى أنه يستحبُّ للجُنُب أن يغسلَ ذَكَرَه ويتوضأ كما يتوضأ للصلاة إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو يجامع مرة أخرى أو ينام. * * * 312 - وقال أنس - رضى الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يطوفُ على نِسائِهِ بِغُسْل واحدٍ. "وقال أنس - رضى الله عنه -: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يطوفُ على نسائه"؛ أي: يجامعهنَّ. "بِغُسْلٍ واحد" وهذا يدل على أن الجُنُب يجوز له أن يجامع مرةً أخرى من غير أن يغتسل لكل مجامعة، ويكفيه لجميع الوطئات غسل واحد. فإن قيل: أقل القسم ليلة لكل امرأة، فكيف كان يطوف على نسائه في ليلة واحدة؟ فالجواب: أن القسم في حقه - عليه الصلاة والسلام - كان تكرماً وتبرعاً لا وجوباً، وعلى قول من ذهب بوجوبه يحمل على أنه كان برضائِهنَّ. * * * 313 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَذْكرُ الله على كُلِّ أَحيَانِهِ. "وقالت عائشة: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَذْكرُ الله على كل أَحْيَانِهِ": حين الطهارة

والحدث والجنابة، والذِّكْرُ: منه ما يكون بالقلب، وما يكون باللسان، وما يكون بهما، والأول أعلى، وهو المشار إليه في هذا الحديث. وهو المراد بالذِّكر الكثير في قوله تعالى: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41]، فالرسول - عليه الصلاة والسلام - يذكر الله في جميع أوقاته، ففي وقت الجنابة ودخول الخلاء يقتصر على الذِّكْرِ القلبي. وفيه إشارة: إلى أن العبد ينبغي له أن لا يخلو عن ذِكْرِ؛ تعالى ساعة. * * * 314 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الخلاء، فأتِيَ بطعامٍ، فَذَكرُوا لهُ الوُضُوءَ، فقال: "أُريدُ أنْ أُصلِّيِ فأتوضَّأَ؟ ". "وقال ابن عباس: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الخَلاَءَ فأتي بطعامٍ، فذكروا له الوضوء"؛ أي: قالوا له: أتتوضأ ثم تأكل. "فقال: أريد" بحذف همزة الاستفهام؛ أي: أأريد. "أن أصلي فأتوضأ" بالنصب جواباً للاستفهام الإنكاري؛ والمعنى: لا أريد أن أصلي حتى أفتقر إلى الوضوء. وأشار بهذا: أن الوضوء شُرِعَ لإقامة الصلاة لا لأكل الطعام، قاله تيسيراً للأمة وتعليماً للرخصة لا لنفي الفضيلة. * * * مِنَ الحِسَان: 315 - قالت مَيْمُونة رضي الله عنها: أجْنَبْتُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاغْتَسَلْتُ مِنْ جَفْنَة وفضَلَ فيها فَضْلَةٌ، فجاءَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لِيَغْتَسِلَ مِنْهَا، فقلتُ: إنِّي

قد اغْتَسَلْتُ منها، فاغْتسَلَ، وقال: "إنَّ الماءَ ليسَ علَيْهِ جَنَابَة"، وفي رواية: "إنَّ الماءَ لا يُجْنِب". "من الحسان": " قالت ميمونة - رضي الله عنها -: أجنبت أنا"؛ أي: صرْتُ جُنُباً. "ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاغتسلْتُ من جَفْنَةٍ": وهي القَصْعَةُ الكبيرة. "وفَضَلَتْ فيها"؛ أي: في الجَفْنَةِ. "فَضْلَةٌ، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ليغتسل منها، فقلت: إني قد اغتسلت منها" حسبت ميمونة أنَّ الماء ينجس بالنَّجاسة الحكمية كالنَّجاسة الحقيقية؛ لأنها كانت أدخلَتْ فيها يدها. "فاغتسل" عليه الصلاة والسلام منها. "وقال" تنبيهًا لها على الحكم: "إن الماء ليس عليه جَنَابة" فلا يخرجُ عن كونه مُطَهِّرًا إذا لم ينوِ المغتسلُ بإدخال يده في الإناء رفع الجنابة من كَفّه. "وفي رواية: إن الماءَ لا يُجْنِبُ"، أي: لا يأخذ حكم الجنابة، فلا يصير بمثل هذا الفعل إلى حالةِ لا يستعمل. * * * 316 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُجنِبُ فيغتَسِلُ، ثمَّ يستَدْفِئَ بي قبلَ أن أَغْتَسِل. "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُجنِبُ"؛ أي: يصير جُنُباً. "فيغتسل ثم يستدفئ"؛ أي: يستسخن.

"بي قبل أن أغتسل"؛ يعني: يضع أعضاءه على أعضائي من غير حائلٍ؛ ليجد حرارة من أعضائي فتزول عنه البرودة. وفيه دليلٌ على عدم نجاسة بَدَنِ الجُنُب، وعلى جواز المخالطة والمماسة. * * * 317 - وقال علي - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يخرجُ مِنَ الخلاءِ، فيُقْرِئُنا القُرآنَ، ويأكلُ معنَا اللحمَ، وكان لا يحجُبُهُ - أو لا يحجُزُهُ - عَنْ قِراءةِ القُرآنِ شيءٌ ليسَ الجنابة. "وقال علي - كرم الله وجهه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج من الخلاء فَيُقْرِئُنا"؛ أي: يعلّمُنا "القرآن ويأكل معنا اللَّحم وكان لا يحجُبُه أو لا يحجزُه": شكّ من الراوي؛ أي: لا يمنعه. "عن قراءة القرآن شيء ليس الجنابةَ"؛ أي: إلا الجنابة. * * * 318 - وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقرأُ الجُنُبُ ولا الحائضُ شيئاً مِنَ القُرآنِ". "وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تَقْرَأ الحائض "على صيغة النهي. "ولا الجُنُبُ شيئاً من القرآن"، لا القليل ولا الكثير، وبه قال الشافعي، إلا أن يقول: بسم الله، والحمد لله، على قَصْدِ الذِّكْرِ، وجَوَّزَ مالك قراءة القرآن للحائض لخوفِ النسيان، وللجنب بعض آيةٍ دون إتمامها.

وعن أبي حنيفة روايتان؛ أحدهما كمالك، وأصحُّهما كالشافعي. * * * 319 - وقالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَجِّهُوا هذه البُيوتَ عَنِ المسجدِ، فإنِّي لا أُحِلُّ المسجدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ". "وقالت عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وجهوا هذه البيوت"؛ أي: حَوّلوا أبوابها. "عن المسجد": إلى جانب آخر كي لا يمرَّ الجنب والحائض. "فإني لا أحلُّ المسجد لحائض ولا جنب"، قيل: هذا فيمن يتَّخذ تأخيرَ الاغتسال عادة تهاوناً، وإلا فالجنب غير ممنوعٍ من العُبور فيه على قول مالك والشافعي دون المُكْث خلافاً لأحمد، وعند أبي حنيفة يحرُمُ المرورُ فيه. * * * 320 - وقال: "لا تدخُلِ الملائكَةُ بيتاً فيهِ صُورة ولا كلبٌ ولا جُنُب" رواه علي. "وعن عليٍّ - رضى الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تدخل الملائكة"؛ أي: الملائكة النازلة على العباد بالرحمة والبركة والزيارة واستماع الذّكْرِ، لا الكَتَبة فإنهم لا يفارقون المكلَّفين في أحوالهم السيئة والحسنة، لقوله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]؛ يعني: هم لا يدخلون. "بيتاً فيه صورة"؛ أي: صورة حيوانٍ على شيءٍ مرتفعٍ من الأرض كالجدار والستر لشبه ذلك البيت ببيوت الأصنام، وأما صورة الحيوان في البساط وما يُجْلَسُ عليه وتوضَعُ عليه الرّجْلُ فلا بأس به، وكذا صورةُ غير الحيوان من الأشجار وغيرها.

"ولا كلب"؛ أي: ولا بيتاً فيه كلب؛ لأنه نجسٌ، والملائكة أطهار مكرَّمون، وخُصَّ عمومه بكلب الماشية والزَّرع والصَّيد لمسيس الحاجة. "ولا جنب"؛ أي: جُنُبٌ يتهاون في الغُسْل حتى يمرَّ عليه وقتُ الصلاة، ويجعل ذلك دَأْباً وعادةَ له؛ لأنه مستخفّ بالشرع. * * * 321 - وعن عمَّار بن ياسر - رضى الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثةٌ لا تَقْرَبُهُمُ الملائكةُ: جيفةُ الكافِرِ، والمتضمِّخُ بالخَلوقِ، والجُنُبُ إلاَّ أن يتوضَّأ". "عن عمار بن ياسر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاثة لا يقربهم الملائكة: جيفة الكافر"؛ أي: جسده الذي هو بمنزلتها، حيث لا يحتَرِزُ عن النجاسات كالخمر والخنزير والدم ونحوها سواء كان حياً أو ميتاً. "والمتضَمِّخ"؛ أي: المتلطِّخ. "بالخَلوق"، وهو - بفتح الخاء المعجمة - طِيْبٌ معروفٌ متَّخذٌ من الزعفران وغيره من أنواع الطيب، ويغلب عليه حمرةٌ مع صفرة، وقد أبيحَ تارةً ونُهي عنه أخرى، وهو الأكثر، وهو مختص بالرجال دون النساء، وإنما لا تقربه الملائكة لما فيه من التَّشبُّه بالنساء والتوسُّع والرعونة. "والجنب"؛ أي: لا يقربه الملائكة أيضاً. "إلا أن يتوضَّأ"، أراد به الوضوء المتعارف كما مرَّ، وهذا تهديدٌ وزجْرٌ عن تأخير الغسل كي لا يعتاد. وقيل: يحتمل أن يريد بالوضوء هنا الغُسْل. * * *

322 - وفي الكتاب الذي كتبَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعمْرِو بن حَزْم: "وأَنْ لا يَمَسَّ القُرآنَ إلاَّ طاهِر". "وفي الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لعَمِرو بن حَزْم: أن لا يمسَّ القرآن إلا طاهر"؛ أي: لا يجوز حملُ المصحَفِ ولا مَسُّه إلا طاهراً. * * * 323 - وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: مَرَّ رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يَبُولُ، فسلَّمَ علَيْهِ، فلمْ يَرُدَّ عليهِ حتَّى كادَ الرَّجُلُ أنْ يتوارى، فضَربَ بيدَيْهِ على الحائطِ ومسحَ بهِما وجهَهُ، ثمَّ ضربَ ضَربَة أُخرى فمسحَ ذراعَيْهِ، ثمَّ رَدَّ على الرَّجُلِ السَّلامَ، وقال: "إنَّهُ لمْ يمنَعْني أنْ أرُدَّ عليكَ السَّلامَ إلاَّ أنِّي لَمْ أَكُنْ على طُهْرٍ". وروي: أنه لمْ يَرُدَّ علَيْهِ حَتَّى توضَّأ، ثمَّ اعتذَرَ إليْهِ فقال: "إنِّي كَرِهْتُ أنْ أَذْكُرَ الله إلاَّ على طُهْرٍ". "وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: مرَّ رجل"، قيل: هو من المهاجرين قُنْفُذ بن عُمَير المطَّلبي. "على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام -. "يبول، فسَلَّم عليه"؛ أي: الرجل على النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فلم يرُدَّ عليه"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام - على الرجل. "حتى كاد الرجل أن يتوارى"؛ أي: قرب أن يستتر ويغيب. "ضرب - صلى الله عليه وسلم - بيديه على الحائط" للتيمم. "ومسح بهما وجهَهُ، ثم ضرب ضربة أخرى فمسح ذراعيه، ثم رَدَّ على

8 - باب أحكام المياه

الرجل السلام وقال: إنه لم يمنعني أن أردَّ عليك السلام إلا أني لم أكن على طُهْرٍ"، فيه دليل على أن من قَصَّرَ في الرَّدِّ لعذرِ يُستحبُّ أن يعيده ويعتذِرَ إليه، ويخبره أنه أَخَّرَه لعذر. "وروي: أنه لم يردَّ عليه حتى تَوَضَّأ، ثم اعتذرَ إليه فقال: إني كرهتُ أن أذكر الله إلا على طُهْرٍ": فيه دليلٌ على أنه يستحبُّ أن يكون ذِكْرُ الله على الوضوء أو التيمم؛ لأن السلام اسم من أسمائه تعالى. والتوفيق بين هذا وحديث عليٍّ: أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يخرجُ من الخلاء فَيُقْرِئُنا القرآنَ= أنه - صلى الله عليه وسلم - أخذ في ذلك بالرخصة تيسيراً على الأمة، وفي هذا بالعزيمة. * * * 8 - باب أحكام المِيَاهِ (باب أحكام المياه) مِنَ الصِّحَاحِ: 324 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبُولَّنَ أحدكُمْ في الماء الدَّائِم الذي لا يَجري ثمَّ يغتَسِلُ فيهِ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبولَنَّ أحدكم في الماء الدَّائم"، أي: الرَّاكد. "الذي لا يجري" صفة ثانية للماء مؤكّدة للأولى.

"ثم يغتسلُ فيه"، وهذا لأنَّ الماء الواقف إن كان دون القُلَّتين ينجس، فلا يجوز الاغتسال منه، وإن كان قُلَّتين فلعلَّه يتغيَّرُ به فيصير نَجِساً بالتغير، وكذا إن كَثُرَ غايةَ الكثرة، إذ لو جُوِّزَ البول فيه لبال واحدٌ بعد واحد فيتغيَّر من كثرة البول. * * * 325 - وقال: "لا يَغتسِلُ أحدكمْ في الماء الدَّائم وهو جُنُبٌ"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وقال: لا يغتسل أحدكم في الماء الدائم وهو جنب"، وهذا النهي إنما يكون في الماء الذي دون القلتين؛ لأنه يصير مستعملاً باغتسال الجنب، فحينئذ قد أفسدَ الماء على الناس لأنه لا يصحُّ الاغتسال والتوضّؤ منه بعد ذلك. * * * 326 - وقال جابر: نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُبالَ في الماءَ الرَّاكِدِ. "وقال جابر - رضي الله عنه -: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يبال في الماء الرَّاكد"؛ أي: الواقف. * * * 327 - وقال السَّائب بن يَزيد: ذهَبَتْ بي خالَتي إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ الله! إنَّ ابن أُخْتِي وَجِع، فَمسحَ برأْسي، فدعا لي بالبَرَكةِ، ثم توضَّأ، فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئهِ، ثمَّ قُمْتُ خلفَ ظهرِهِ، فنظرتُ إلى خاتَم النّبوَّةِ بينَ كتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ. "وقال السَّائب بن يزيد: ذهبت بي خالتي إلى النبي - عليه الصلاة والسلام -، فقالت: يا رسول الله! إن ابن أختي وَجِع" بكسر الجيم؛ أي: مريضٌ.

"فمسح رأسي ودعا لي بالبركة، ثم توضَّأ فشربْتُ من وَضوئه" بفتح الواو؛ أي: من ماء وضوئه. عدمُ نهيه - عليه الصلاة والسلام - عن شربه يدلُّ على طهارة الماء المستعمَل، والمانع: حملُهُ على التَّداوي، أو على أنه شرب من فَضْلِ وضوئه، لا ما انفصل من أعضاء وضوئه. "ثم قمت خلف ظهره، فنظرت إلى خاتم النبوة": وهو طابعه الذي خُتمت به النبوة، وهو أثرٌ كان"بين كتفيه مثلَ" نصب على نزع الخافض؛ أي: كمِثْلِ. "زر الحَجَلَة" (الزرُّ) بتقديم الزاي المكسورة على الراء المشددة: واحدُ الأزرار التي يُشَدُّ بها على ما يكون في حَجَلَةِ العَرُوس، وهي بيتٌ كالقُبّة يُستَرُ بالثياب ويكون له أزرار كِبار. وقيل: بتقديم الراء المهملة على الزاي: بمعنى البَيْض، والحَجَلَة هي القَبَجَة، وهي طائر معروف، وبيضها فيه نقوش تضرب إلى الحمرة؛ أي: شَبَّه خاتم النبوة بزر حجل العروس، أو بيض القَبَج، كان ذلك عَلَما من أعلام النبوة نُعِتَ به في الكتب المنزلة يُعلَم به أنه النبي الموعود، المُبَشَرِ به فيها. * * * مِنَ الحِسَان: 328 - عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانَ الماءُ قُلَّتيْنِ لَمْ يَحْمِل نَجساً"، ويروى: "فإنَّه لا يَنْجُس". "من الحسان": " عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان الماء قُلَّتين"، (القُلَّة):

جَرة كبيرة معروفة بالحِجاز تَسَع مئتين وخمسين رَطْلاً بالبغدادي، فالقُلَّتان خمس مئة رَطْل، وقيل: ست مئة رطل. "لم يحمِلْ نَجَساً"؛ أي: لا يقبَلُ نجاسة، بل يدفعها عن نفسه، يقال: فلان لا يحمِلُ ضَيماً؛ أي: يمتنع عن قَبوله: إذا كان يأباه ويدفعه عن نفسه. "ويروى: فإنه لا ينجُسُ"، وهذا بشرط ألا يتغيَّر بها، فإن تغيَّر بها ينجس؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: "خُلِقَ الماء طَهوراً لا ينجِّسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه". وهذا الحديث يدلُّ بمنطوقه على أنَّ الماء البالغ قُلَّتين لا ينجس بملاقاة النجاسة، وبمفهومه يدلّ على أن ما دونه ينجس بالملاقاة وإن لم يتغيَّر، فمن قال بحجيّة المفهوم كالشافعي خص عمومَ واحدٍ من الحديثين بالأخرى؛ يعني: خصَّ عموم منطوق الأول بمنطوق الثاني، وعموم منطوق الثاني بمفهوم الأول، ومن لم يقل بحجيَّته أَجْرَى الثاني على عمومه، والظاهر أنه يكون مخصصاً للأول عنده. * * * 329 - وقال أبو سعيد الخُدرِيّ - رضي الله عنه -: قيلَ: يا رسولَ الله! أنتوضَّأ مِنْ بِئْرِ بُضاعَةَ، وهِيَ بئرٌ تُلْقَى فيها الحِيَضُ ولُحومُ الكلابِ والنتنُ؟ فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الماءَ طَهُورٌ لا يُنَجِّسُهُ شيءٌ". "وقال أبو سعيد الخدري: قيل: يا رسول الله! أنتوضأ من بئر بُضاعَةَ" بضم الباء وأجيز كسرها، وحكي أيضاً: بالصاد المهملة، دار بني ساعدة بالمدينة، وهم بطنٌ من الخزرج. "وهي بئر": معروفة بالمدينة.

"تُلْقَى فيها الحِيَض" بكسر الحاء وفتح الياء: جمع حِيْضة - بكسر الحاء وسكون الياء - وهي الخِرْقة التي تستعملها المرأة في دم الحيض. "ولحوم الكلاب والنَّتن"؛ وهو الرائحة الكريهة، والمراد به هنا: الشيء المنِتنُ كالعَذِرَةِ والجِيْفَة. قيل: كانت السيول تَكْسَحُ الأقذار من الطرق والأفنية، وتحملُها وتلقيها في هذه البئر، وكان ماؤها كثيراً سيَّالاً يجري بها، فسألوا عن حكمها في الطهارة والنجاسة. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الماء طهور لا ينجِّسه شيء" قيل: الألف واللام في (الماء) للعهد الخارجي، فتأويله: أن الماء الذي تسألون عنه وهو ماءُ بئر بُضَاعة طاهر؛ لأنه أكثر من قُلَّتين، فلا يخالف حديث ابن عمر. قال أبو داود: مددْتُ فيه ردائي، فإذا عرضُهُ ستَّةُ أَذْرُعٍ. * * * 330 - ورُوي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خُلِقَ الماءُ طَهوراً لا يُنجِّسُهُ إلاَّ ما غيَّرَ طعمَهُ أو ريحَهُ". "وروي عن النبي - عليه الصلاة والسلام - " في جواب السؤال المذكور "أنه قال: خُلِقَ الماء طَهوراً لا ينجِّسُه شيء إلا ما غَيَّرَ طَعْمَه أو ريحه"، قاس الشافعى اللونَ على الطَّعْمِ والريح المنصوص عليهما في الحديث. * * * 331 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: "سألَ رجل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! إنَّا نركبُ البحرَ، ونحمِلُ مَعَنَا القليلَ مِنَ الماء، فإنْ تَوَضَّأنَا بهِ عَطِشْنَا، أفنتوضَّأ بماء البحر؛ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " هُوَ الطَّهُورُ ماؤُهُ، والحِلُّ مَيْتَتُهُ".

"وقال أبو هريرة: سألَ رجلٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء، فإن توضَّأنا به عَطِشْنَا، أفتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هو"؛ أي: البحر. "الطَّهور ماؤه"؛ أي: المطهِّر؛ لأنهم سألوه عن تطهير مائه لا عن طهارته، وهذا يدل على أن التوضؤ بماء البحر جائز مع تغير طعمه ولونه، ولما سُئِلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ماء البحر وعَلِمَ جهلَهُم بحكم مائه، قاسَ جهلهم بحلّ صيده مع عموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، فزاد في الجواب: "والحل مِيْتَتُهُ": فالحوت حلال بالاتفاق، والسرطان أيضاً في أصحِّ القولين، وكذلك ما يعيش في الماء والبَر، فأما ما لا يعيش في البر ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن جميعه حلال، والثاني: حرام، والثالث: ما يؤكَل شبهه في البَر يؤكَل، وما لا فلا. * * * 332 - عن أبي زيد، عن عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لَهُ ليلةَ الجن: "ما في إداوَتك؟ "، قال: قلت: نبَيذٌ، قال: "تمرةٌ طيبة وماءٌ طَهُور"، فتوضَّأ مِنْهُ. قال الإمام: هذا ضعيف، وأبو زيد مجهولٌ، وقد صحَّ: "وعن أبي زيد، عن عبد الله بن مسعود: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال له ليلةَ الجن"، وهي الليلة التي جاءت الجِنُّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذهبوا به إلى قومهم ليتعلموا منه الدين، وكان معه - عليه الصلاة والسلام - عبد الله بن مسعود، وفي رواية: معه زيد بن ثابت. "ما في إداوتك؟ "؛ أي: أيُّ شيءٍ في مِطْهَرتك.

"قال"؛ أي: ابن مسعود. "قلت: نبيذٌ"، وهو التمر أو الزبيب المنبوذ؛ أي: المُلْقَى في الماء. "قال: تمرة طيبة وماء طَهور فتوضأ منه"، يدل على أن التوضُّؤ بنبيذ التمر جائزٌ، وبه قال أبو حنيفة خلافاً للشافعي إذا تغيَّر. "وهذا ضعيفٌ، وأبو زيد مجهول، وقد صح": * * * 333 - عن عَلْقمة، عن عبد الله بن مَسْعُود - رضى الله عنه - قال: لَمْ أكُنْ ليلةَ الجنّ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "عن علقمةَ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لم أكن ليلة الجنِّ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، فلم يكن ما رُوي عنه ثابتاً، ولئن ثبتَ فلم يكن نبيذاً متغيراً، بل كان ماء مُعَداً للشرب، كانوا يفعلون ذلك ليجتذب ملوحة مائهم فيكون أوفقَ وأنفع لأمزجتهم. * * * 334 - عن كبْشَة بنت كعْب بن مالك - رضي الله عنه -، وكانت تحت ابن أبى قَتادة: أنَّ أبا قتادة دخلَ عليها، فسكبَتْ لهُ وَضوءاً، فجاءتْ هِرَّةٌ تشربُ مِنْهُ، فأصغَى لها الإناءَ، قالت: فرآني أنظُرُ إليه، فقال: أتعجبين يا بنتَ أخي؟ قالت: فقلت: نعم، فقال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنِّها لَيْسَتْ بنجَسٍ، إنَّها مِنَ الطَّوَّافينَ عليكُمْ والطَّوافاتِ". "وعن كبشة - رضي الله عنها - بنت كعب بن مالك، وكانت تحت ابن أبي قتادة"؛ أي: كانت زوجته، وكان اسم ابن أبي قتادة عبد الله.

"أن أَبا قَتادة دخل عليها"؛ أي: على كبشة. "فسكبتْ له"؛ أي: صبَّت لأبي قَتادة. "وَضوءًا" بفتح الواو؛ أي: ماءً الوضوء في إناء. "فجاءت هرة تشرب منه، فأصغى لها الإناء"؛ أي: أمالَه إليها ليسهُلَ عليها شربُه منه. "قالت: فرآني" أبو قتادة "أنظر إليه، فقال: أتعجبين يَا ابنة أخي" شربَها من وَضوئي؟ وهذا على عادة العرب، فإن بعضهم يقول لبعض: يَا أخي، وإن كانا ابني عمين "فقالت: قلت: نعم، فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها"؛ أي: الهرة. "ليست بنجَس إنها"؛ أي: لأنها "من الطَّوَافين عليكم"؛ أي: في منازلكم، ويقع عليها ثِيابكم وأبدانكم، فلو كانت نَجِسَة لأُمرتم بالمجانبة عنها وإخراجها من البيوت. "أو الطَّوافات"، شك من الراوي، شبَّهها بالمماليك وخَدَمَة البيت الذين يطوفون للخِدْمة، قال تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النور: 58]، وألحقها بهم لأنها خادمة أَيضًا حيث تقتلُ المؤذِيات، أو لأن الأجر في مواساتها كالأجر في مواساتهم، وهذا يدل على أن سُؤْرها طاهر، وبه قال الشَّافعيّ، وعند أبي حنيفة مكروه. * * * 335 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضَّأُ بفَضْلِها.

"وعن عائشة أنها قالت: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتوضأ بفضلها"؛ أي: فضلِ الهرة؛ أي: بما بقي في الإناء بعد شربها. * * * 336 - وقال جابر: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضَّأُ بما أفْضَلَتِ الحُمُر؟ قال: "نعم، وبما أَفْضَلَتِ السِّباعُ كُلُّها". "وقال جابر: سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتوضَّأ بما أَفْضَلَتِ الحُمُر؟، جمع حمار؛ أي: أبقت من فُضَالة مشروبها. "قال: نعم، وبما أفضلتِ السباع كلُّها" و (ما) في كلا الموضعين موصولة، وهذا يدل على أن سُؤْر السباع طاهر، وبه قال الشَّافعيّ إلَّا سُؤْرَ الكلب والخنزير، وعند أبي حنيفة سُؤْرُ كلِّها نَجِس. * * * 337 - وقالت أُمّ هانئ: اغتسلَ هو - تعني: رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَمَيْمُونة في قَصْعَةٍ فيها أثرُ العَجين. "قالت أم هانئ" بالهمزة؛ هي أخت علي بن أبي طالب. "اغتسلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو وميمونةُ في قَصْعَة فيها أثرُ العجين"؛ وهو الدقيق المعجون بحيث لم يكن أثرُه في تلك القَصْعة كثيرًا مغيرًا للماء، فإنْ كان كثيرًا مغيرًا للماء جازت الطهارةُ به أَيضًا عند أبي حنيفة خلافًا للشافعي. * * *

9 - باب تطهير النجاسات

9 - باب تَطْهير النَّجاسات (باب تطهير النجاسات) مِنَ الصِّحَاحِ: 338 - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شرِبَ الكلْبُ في إناءَ أحدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا شربَ الكلبُ في إناء أحدِكم فليغسِلْه سبعا"، وفيه حجةٌ لمالك حيث يغسله سبعًا من غير تراب. * * * 339 - وقال: "طُهُورُ إناءَ أحدِكُمْ إذا وَلَغَ فيهِ الكلبُ أنْ يغسلَهُ سَبع مَرَّاتٍ أُولاهُنَّ بالتُّرابِ"، رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طُهور إناء أحدكم"، بضم الطاء، بمعنى التطهير أو الطهارة. "إذا ولغ فيه الكلب"؛ أي: شرب منه بلسانه. "أن يغسله سبع مراتٍ أُولاهن بالتراب"؛ أي: معه. وفي رواية أخرى: "أُخراهن بالتراب"، فيجب استعمال التُّراب في مرة من السبعة أيةَ مرةٍ كانت، وهذا لأن التُّراب طَهور في التيمم، والماء طَهور، فيجب استعمال الظهورين في ولوغ الكلب؛ لكون نجاسته أغلظَ النجاسات، ولو ولغ كلبان أو كلب واحد سبع مرات، فالصحيح أنَّه يكفي للجميع سبعٌ،

وهذا مذهب الشَّافعيّ. وعند أبي حنيفة: يغسل من ولوغه ثلاثًا بلا تقصير كسائر النجاسات. * * * 340 - وقال أبو هريرة: قامَ أعرابيٌّ، فبالَ في المَسْجد، فتناوَلَهُ النَّاسُ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "دَعُوهُ، وأهريقُوا على بَولهِ سَجْلًا - أَوْ ذَنُوبًا - مِنْ ماءٍ، فإنَّما بُعِثتمْ مُيَسِّرينَ، ولم تُبْعَثُوا مُعَسِّرين". ويُروى: أنَّه دَعاهُ فقال: "إنَّ هذهِ المساجِدَ لا تَصْلُحُ لشيءٍ مِنْ هذا البَوْلِ ولا القَذَرِ، وإنَّما هِيَ لِذِكْرِ الله، والصَّلاةِ، وقراءَةِ القُرآن"، أو كما قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقال أبو هريرة: قام أعرابي فبال في المسجد، فتناولَه"؛ أي: فأخذه الناس" ليضربوه. "فقال النَّبِيُّ - عليه الصلاة والسلام -: دَعُوه"؛ أي: اتركوه فإنَّه معذور؛ لأنه لم يعلم عدمَ جواز البول في المسجد. "وأَهَريقوا"؛ أي: صبُّوا "على بوله سَجْلًا" بفتح السين: هو الدلو الذي فيه الماء قل أو كثر. "أو ذَنوبًا" بفتح الذال: هو الدلو الملأى، قيل: (أو) فيه للشك من الراوي، وهو الأظهر، ويحتمل أن يكون للتخيير؛ يعني: خيَّرهم بين أن يُهْرِقوا فيه سَجْلًا غير ملآن، أو ذَنوبًا ملآنَ. "من ماء"، قيل: (من) زائدة للتأكيد؛ لأن السَّجْل والذَّنْوب لا يكونان إلَّا من الماء. وقيل: للتبيين؛ لاحتمال أن يكونا من ماء وغيره، وهذا قول مَن يجوِّز

التطهير بغير الماء. والحديث يدل على أن الأرض إذا أصابها نجاسةٌ مائعة فصُبَّ عليها الماء حتَّى غلبها طَهُرت، وبه قال الشَّافعيّ. وعند أبي حنيفة: لا تطهير حتَّى يُحفَر ذلك التُّراب، فإن وقع عليها الشَّمس وجفَّت وذهبت أثرُها طَهُرَت عنده من غير حفر ولا صبِّ ماء، وعلى أن غسالة النجاسات طاهرة إذا لم تتغيَّر، وإن لم تكن مُطهَّرة، ولولاه لكان المصبوب على البول أكثرَ تنجيسًا للمسجد من البول نفسه. "إنما بُعثتم ميسِّرين": مسهِّلين على النَّاس. "ولم تُبعثوا معسِّرين"، فعليكم بالتيسير أيتُها المِلة. "ويروى: أنَّه دعاه"؛ أي: النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - ذلك الأعرابي. "فقال: إن هذه المساجد لا تصلح"؛ أي: لا تليق "لشيء من هذا البول"، اسم الإشارة فيه للتحقير. "ولا القذَر"، وهو بفتح الذال المعجمة: ما يتنفَّر منه الطبع كالنجاسات والأشياء المنتنة، فذِكْرُه بعد البول يكون تعميمًا بعد التخصيص. "إنما هي"؛ أي: المساجد "لذِكْرِ الله والصلاة وقراءة القرآن، أو كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -" شك من الراوي أنَّه - عليه الصلاة والسلام - قال هذه الكلمات، أو قال شيئًا آخر مثلَها. * * * 341 - قالت أسماءُ بنت أبي بكر: سألتِ امرأةٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأَيْتَ إحدانا إذا أصابَ ثَوْبَها الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أصابَ ثَوْبَ إحْداكُنَّ الدَّمُ مِنَ الحَيْضَةِ فَلْتَقْرُصْهُ، ثمَّ لتَنْضَحْهُ بماءً، ثمَّ تُصلِّي فيه".

وفي رواية: "حُتِّيه، ثم اقْرُصيهِ، ثم اغسِليهِ بالماء". وفي روايةٍ: "ثُمَّ رُشِّيهِ بالماءِ، وصلِّي فيه". "قالت أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها -: سألت امرأةٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالت: يَا رسول الله! أرأَيتَ"؛ أي: أخبر. "إحدانا"؛ أي: عن حال إحدانا بحذف المضاف. "إذا أصابَ ثوبَها الدمُ من الحِيضة"، - بكسر الحاء؛ أي: الخِرْقَة، وقد يكون اسمًا من الحَيْض ونوعًا منه، ويفرَّق بينهما بالقرائن السابقة، وبالفتح المرة، تريد أنها يصيبها من دم الحيض شيءٌ. "كيف تصنع؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أصاب ثوبَ إحداكن الدمُ من الحَيْضة فلتقرُصْه": فلتمسحه بيدها مسحًا شديدًا قبل الغُسْل حتَّى تتفتَّت. "ثم لتنضَحْه"؛ أي: لتغسِلْه "بماءٍ" بأن تصبَّه عليه شيئًا فشيئًا حتَّى يذهبَ أثرُه تحقيقًا لإزالة النجاسة. "ثم لتصلِّ فيه"؛ أي: في ذلك الثوب، فإنَّه لا بأس بعد هذا؛ لأن إزالة لون الدم متعسِّر، وفيه دليل على تعيُّن الماء في إزالة النجاسة. "وفي رواية: حُتِّيه"؛ أي: حكيه. "ثم اقرُصِيه"، والقَرْصُ أبلغُ من الحتِّ؛ لأنه الدلك بأطراف الأصابع والأظفار، مع صبِّ الماء. "ثم اغسليه بالماء وصلِّي فيه". * * * 342 - عن سُليمان بن يَسار قال: سأَلتُ عائشةَ عن المَنيِّ يُصيبُ الثَّوبَ، فقالت: كنتُ أغسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فيخرُجُ إلى الصَّلاةِ وأثَرُ

الغَسْلِ في ثَوْبهِ. "وعن سليمان بن يَسَار أنَّه قال: قال: سألت عائشة عن المَنيِّ يصيب الثوب، فقالت: كنت أغسِلُه من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيخرج إلى الصلاة وأثرُ الغَسْل في ثوبه"، وفيه دليل على نجاسة المَنِيِّ، وهو قول أبي حنيفة ومالك. * * * 343 - وعن عَلقمة والأسود، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنتُ أفركُ المنيَّ مِن ثَوْبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ يُصَلِّي فيه. "وعن علقمةَ والأسود، عن عائشة أنها قالت: كنت أفرُكُ المَنِيِّ"؛ أي: أدلكُه وأمسحه "من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"، حتَّى يذهبَ أثره. "ثم يصلي فيه"، وفيه دليل على طهارة المَنِيِّ، وهو مذهب الشَّافعيّ وأَحمد، إذ لو كان نجسًا لما طهر الثوب بفرْكِه إذا يبسَ كالعَذِرَة. وحديث غَسله لا ينافي حديث فَرْكه؛ لأنه للاستحباب والنظافة، كما يُغسل الثوب من النُّخَامة والمُخَاط جمعًا بينهما. * * * 344 - عن أُمِّ قَيْس بنت مِحْصَن رضي الله عنها: أنَّها أتت بابن لها غيرٍ لمْ يكُل الطَّعامَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجْلَسَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجْرِه، فبالَ على ثَوْبهِ، فدعا بماءٍ فنضَحَهُ ولم يغسِلْهُ. "عن أم قيس بنت مِحْصَن: أنها أتت بابن لها صغير لم يأكل الطعام إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأجلَسه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - في حَجْرِه"؛ أي: قدَّامَه.

"فبال" ذلك الابن "على ثوبه" عليه الصلاة والسلام. "فدعا بماء"؛ أي: طلبه، "فنضحه"؛ أي: أسألَ الماء على ثوبه حتَّى غلبَ عليه، "ولم يغسِلْه"؛ أي: لم يبالغ في الغَسْل بالرش والدَّلْك لانعدام عفونة بوله. * * * 345 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دُبغَ الإِهابُ فقدْ طَهُرَ". "عن ابن عباس أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دُبغَ الإهاب" وهو الجلد الغير المدبوغ. "فقد طَهُرَ"، وهذا بعمومه حُجة على مالك في قوله: جلد الميت لا يطهر بالدباغ. وعلى الشَّافعيّ في قوله: جِلد الكلب لا يطهر بالدباغ، واستثنى بعمومه الآدميَّ تكريمًا له، والخنزيرَ لنجاسة عينه. * * * 346 - وقال عبد الله بن عبَّاس - رضي الله عنهما - تُصُدِّقَ على مَولاةٍ لمَيْمُونةَ بشاةٍ، فماتَتْ، فَمَرَّ بها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "هَلاَّ أَخَذْتُمْ إهابَهَا فدبَغْتُمُوهُ فانتفَعْتُمْ بهِ؟، فقالوا: إنَّها مَيْتَةٌ، فقال: "إنَّما حَرُمَ أكْلُها". "وقال عبد الله بن عباس: تُصُدِّقَ"؛ أي: دُفعت صدقة. "على مولاةٍ"؛ أي: عتيقةٍ. الميمونة بشاةٍ، فماتت، فمرَّ بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلاَّ"؛ أي: لمَ

لا "أخذتم إهابها فدبغتموه فانتفعتم به، فقالوا: إنها ميتة، فقال: إنما حَرُمَ"؛ أي: من الميتة. "أَكْلُها" وأما جلدها فيجوزُ دباغتُه، ويطهر بها حتَّى يجوز استعماله في الأشياء الرطبة، والوضوء منه والصلاة معه وعليه. * * * 347 - وقالت سَوْدَة رضي الله عنها زَوجُ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ماتَتْ لنا شاةٌ، فَدَبَغْنَا مَسْكَها، ثم ما زِلْنَا ننَبذُ فيهِ حتَّى صارَ شَنًّا. "وقالت سَوْدَة زوج النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: ماتت لنا شاة فدبَغْنا مَسْكَها" - بفتح الميم -: أي: جِلدها. "ثم ما زلنا ننبذ فيه"؛ أي: نتخذ فيه نقيعًا من تمر وغيره ليَحْلُو. "حتَّى صارت شَنًّا" - بفتح الشين -؛ أي: سِقاء خَلَقًا، يعني: عتيقًا بكثرة الاستعمال، وهو أشدُّ تبريدًا للماء من الجديد، وفيه بيان طهارة الجلد المدبوغ. * * * مِنَ الحِسَان: 348 - عن لُبابة بنت الحارِث قالت: كانَ الحُسَيْنُ بن عليٍّ - رضي الله عنهما - في حَجْرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَبَالَ، فقلتُ: أعْطِنِي إزارَكَ حتَّى أغسِلَهُ، قال: "إنَّما يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الأنثى، ويُنْضَحُ مِنْ بَوْلِ الذَّكَرِ". وفي روايةٍ: "يُغْسَلُ مِنْ بَوْلِ الجاريَةِ، ويُرَشُّ مِنْ بَوْلِ الغُلامِ". "من الحسان": " عن لُبابةَ بنت الحارث أنها قالت: كان الحسين بن عليّ - رضي الله عنهما - في حَجْر

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبال فقلت: أعطنِي إزاركَ حتَّى أَغسِلَه، قال: إنما يُغسَل"؛ أي: الثوبُ، على وجه المبالغة في الغَسل، وبالدَّلْك مع الإجراء. "من بول الأنثى، ويُنْضَح"؛ أي: يصَبُّ عليه الماء بحيث يصل الماءُ إلى جميع موارده من غير إجراء. "من بول الذَّكر". "وفي رواية: يُغسَل من بول الجارية، ويُرَشُّ من بول الغلام"، بحيث يكون الماءُ أكثرَ منه. قيل في حَدِّه: ليكن الماء مثلَ البول، وظاهر الحديث يدل على الفرق بين بولهما، وهو أن بوله كالماء رقةً وبياضًا، وبولها أصفر ثخين، وتكثر نجاسته بمخالطة رطوبة فرجها، وهي نَجِسة، ولأن المذكور أقوى مزاجًا من الإناث، والرخاوة غالبةٌ على أمزجتهن، فتكون الفضلات الخارجة منهن أشدَّ احتياجًا إلى الغسل. وأيضًا مَسَّت الحاجة إلى التَّخفيف في حق الصبيان؛ لأن العادة جرت بحملهم في المجالس دون الجواري. وفي الحديث: إشارة إلى قول علي بن أبي طالب، وعطاء، والحسن البَصْرِيّ، والشافعي، وأَحمد، وأما مذهب أبي حنيفة وأصحابه أنَّه يُغسل بولهما معًا كسائر النجاسات الغير المرئية. * * * 349 - وقال: "إذا وَطِيءَ بنعْلِهِ أحدُكُم الأَذَى فإنَّ التُّرابَ لهُ طَهُورٌ". "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا وَطِيءَ"؛ أي: ضرب ومسح. "بنعله أحدُكم الأذى"؛ أي: النجاسة.

"فإن التُّراب له طَهُورًا" فلو مسحه على الأرض فدلكَه بها حتَّى يذهبَ أثرُها جازت الصلاة به. وبه ذهب الأَوْزَاعِيّ، وأبو ثور، والشافعي في قوله القديم. وقال في الجديد: لا بد من غَسله بالماء، ويُؤول الحديث بأنه إذا وَطِيء نجاسة يابسة فتثبَّتَ (¬1) بنعله غبارُها يزول بالمشي على مكان طاهر. وقال أبو حنيفة: يطهر بالدَّلْك إذا جَفَّت النجاسة عليه؛ بخلاف الرطبة. * * * 350 - وسألتِ امرأةٌ أُمَّ سَلَمَة رضي الله عنها فقالت: إنِّي أُطيلُ ذَيْلي، وأَمشي في القَذرِ، فقالتْ أُمُّ سلمَةَ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُطَهِّرُهُ ما بَعْدَهُ". "وسألت امرأة"، قيل: هي أم ولد إبراهيم بن عبد الرَّحْمَن. "أم سلمة فقالت: إنِّي أُطيل ذيلي وأمشي في المكان القَذِر"؛ أي: في مكان ذي قذر. "فقالت أم سَلَمة: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يطهِّرُه"؛ أي: الذيلَ. "ما بعده"؛ أي: المكان الذي بعد المكان القَذِر بزوال ما تَثَبَّتَّ بالذيل من القذر يابسًا. فيؤوَّل الحديث بأن السؤال جرى فيما جُرَّ من الثياب على القَذَر اليابس عند تثبُّت شيء منه بها، وإلا فالإجماع انعقد على أن الثوب لا يطهُر بغير الغَسْل إذا أصابته نجاسة. * * * ¬

_ (¬1) في "م". "فتشبث".

351 - عن المِقْدَامِ بن مَعْدِ يْكَرِب - رضي الله عنه - قال: نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لُبْسِ جُلودِ السّباعِ والرُّكوبِ عليها. "عن المِقدام بن مَعْدِي كرب أنَّه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لبس جلود السِّباع والركوبِ عليها"؛ لأنه من دَأْب السلاطين، وسُنَن الجبابرة، وعمل المشركين، وفيه تكبُّر وزينة لا يَليق هذا بالصلحاء، فيكون نهيَ تنزيه، أو لنجاسة ما عليها من الشعر؛ لأن شعرها لا يطْهُر بالدباغ كما هو ظاهرُ مذهب الشَّافعيّ، فالنهي للتحريم. * * * 352 - وعن أبي المَليح عن أَبيه - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن جُلُودِ السِّباعِ أنْ تُفْتَرشَ. "وعن أبي المَليح" بفتح الميم: اسمه عامر. "عن أَبيه" اسمه أسامة. "أن النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - نهى عن جلود السباع أن يُفْتَرشَ"؛ أي: يُبسَط ويجلَسَ عليه لِمَا بيَّنَّا. * * * 353 - ورُوي عن أبي المَليح - رضي الله عنه -: أنَّهُ كَرِهَ ثَمنَ جُلُودِ السِّباعِ. "وروي عن أبي المَلِيح أنَّه"؛ أي: النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام. "كرِه ثمنَ جلود السباع"؛ يعني: كُرِه بيعُها وشراؤُها، وذلك قبل الدباغ لنجاستها قبلَه، وأما بعده فيجوز. * * *

354 - وعن عبد الله بن عُكَيْم قال: أتانا كتابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنْ لا تنتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بِإِهابٍ ولا عَصَبٍ". قيل: هذا فيما لم يُدبغ لِمَا رُوي: "وعن عبد الله عُكَيم أنَّه قال: أتانا كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن لا تَنتفِعوا من المَيْتَة بإهاب ولا عَصَب"، فـ (أنْ) هذه مفسِّرة أو مخفَّفة، ذهب بعض أهل الحديث إلى أنَّه ناسخ للأحاديث الواردة في الدباغ، وجمهور العلماء على خلافه؛ لأنه لا يقاوم الأحاديثَ الواردة في هذا الباب صحةً. ثم إنه لم يَلْقَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، والظاهر حكايته حالة. "قيل: هذا فيما لم يدبغ لِمَا رُوي": * * * 355 - عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أنْ يُسْتَمْتَعَ بِجُلُودِ المَيْتَةِ إذا دُبغَتْ. "عن عائشة: أن رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرَ أن يُسْتَمتَعَ بجلود الميتة إذا دُبغَت". * * * 356 - وعن مَيْمُونة رضي الله عنها قالت: مرَّ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رِجالٌ يَجُرُّون شاة، قال: "لو أخذْتُمْ إهابَهَا"، قالوا: إنَّها مَيْتَةٌ، فقال: "يُطَهِّرُهُ الماءُ والقَرَظُ"، ويُروى: "دِباغُها طُهُورُها". "وعن ميمونة أنها قالت: مر على رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجالٌ يجزُون شاةً، فقال: لو أخذتم إهابَها"؛ أي: لو أخذتموها فدبغتموها لكان حَسَنًا، فـ (لو) للشرط بحذف الجواب، وقيل: للتمني، يعني: ليتكم أخذتم إهابها فانتفعتم به.

10 - باب المسح على الخفين

"قالوا: إنها ميتة، فقال: يُطَهّره الماء والقَرَظ" بفتح القاف والراء: ورق السَّلَم يُدْبَغ به، يعني: يطهّره خلطُ القَرَظ بالماء ودباغة الجلد به. "ويروى: دِباغُها طُهورها" وهذا يدل على عدم وجوب استعمال الماء بعد الدباغ وفي أثنائه، وهو أحد قولَي الشَّافعيّ. * * * 10 - باب المَسْح على الخُفَّيْنِ (باب مسح على الحُفَّيْن) مِنَ الصِّحَاحِ: 357 - سُئِلَ عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - عَن المَسْح على الخُفَّيْنِ، فقال: جَعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أيامٍ ولَيالِيَهُنَّ للمُسافِر، ويومًا وليلةً للمُقيم. "من الصحاح": " سُئل عليّ بن أبي طالب كرم الله وجهه عن المسح على الحُفَّيْن، فقال: جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أيام ولياليَهنَّ للمسافر، ويومًا وليلة للمقيم"، وهو حجة على مالك، حيث لم يرَ للمقيم مَسْحًا، ولم يقيد للمسافر بمدة. * * * 358 - عن المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه -: أنَّه غَزا معَ رسولِ الله غَزْوَةَ تبوكَ، قال المُغيرةُ: فتبزَّزَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ الغائطِ، فحمَلْتُ معهُ إداوةً، فلمَّا رَجَعَ أخذتُ أُهريقُ على يَدَيْهِ مِنَ الإداوةِ، فغسلَ يَدَيْهِ ووجْهَهُ، وعليهِ جُبَّةٌ مِنْ صوفٍ، ذهبَ يَحْسِرُ عَنْ ذِراعَيْهِ، فضاقَ كُمُّ الجُبَّةِ، فأخرجَ يَدَيْهِ مِنْ تحتِ

الجُبَّةِ، وألقى الجُبَّة على مَنْكِبَيْهِ، وغسلَ ذِراعَيْهِ، ثم مسحَ بناصِيتِهِ وعلَى العِمامةِ، ثم أَهويتُ لأنزِعَ خُفَّيْهِ فقال: "دَعْهُمَا، فإنِّي أدْخَلْتُهُما طاهِرتيْنِ"، فمسحَ عليهِما، ثمَّ ركِبَ ورَكبْتُ، فانتهَيْنَا إلى القَوْمِ وقدْ قامُوا إلى الصَّلاةِ يُصلِّي بهم عبدُ الرَّحمنِ بن عَوْفٍ - رضي الله عنه - وقدْ ركعَ بهم ركعةً، فلما أحسَّ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذهبَ يتأخَّرُ، فأَوْمأ إليهِ، فأدركَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إحدى الرَّكعتَيْنِ معهُ، فلمَّا سلَّمَ قامَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وقُمْتُ، فَرَكَعْنا الرَّكْعَةَ التي سَبَقَتْنا. "وعن المغيرة بن شعبة أنَّه غزا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غرْوة تبوك"، غيرُ منصرف للعلَمية والتأنيث، وإن جُعل اسمَ الموضعِ جاز الصرف. "قال المغيرة: فتبرَّز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ الغائط" بكسر القاف؛ أي: خرج إلى البرَاز للحاجة. "فحملتُ معه إِداوة" بكسر الهمزة؛ أي: رَكْوَة ليتوضأ منها، وكان خروجه - عليه الصلاة والسلام - لقضاء الحاجة. "قبل الفجر"، وفيه دليل على استحباب تحصيل أسباب الصلاة من الوضوء وغيره قبل دخول الوقت. "فلمَّا رجع"؛ أي: من قضاء الحاجة. "أخذت"؛ أي: شرعت "أُهريقُ"؛ أي: أصبُّ الماء "على يديه من الإداوة، فغسلَ يديه"؛ أي: كفَّيه، "ووجهَه"، وفيه دليل على جواز الاستعانة في الطهارة. "وعليه جُبَّةٌ من صوف"، فيه دليل أن لبس الصوف سنة. "ذهب"؛ أي: شرع "يَحْسِر"؛ أي: يكشف كُميه "عن ذراعيه، فضاق كمُّ الجُبَّة"، بحيث ما قَدِرَ أن يُخرج يده إلى المِرفق عن كمِّ الجبة من غاية ضيقه.

"فأخرج يديه من تحت الجُبَّة، وألقى الجُبَّة على منكبيه، وغسَلَ ذراعيه، ثم مسح بناصيته وعلى العِمامة ثم أهويتُ"؛ أي: قصدت من القيام إلى القعود، يعني: انحنيت. "لأنزعَ خُفَّيه فقال: دعهما"؛ أي: اتركهما ولا تنزِعْهما عن رِجلَيَّ. "فإنِّي أدخلتهما"؛ أي: لبستهما حال كون قدميَّ "طاهرتين"؛ يعني: كنت على وضوء كامل حين لبسْتُهما، فيجوز المسح عليهما. "فمسح عليهما، ثم ركب وركبتُ، فانتهينا"؛ أي: وصلْنا "إلى القوم، وقد قاموا إلى الصلاة يصلي بهم عبد الرَّحْمَن بن عوف"؛ أي: كان هو إمامهم. "وقد ركع"؛ أي: صلى "بهم" رَكعةَ. "فلمَّا أحسَّ" عبدُ الرَّحْمَن. "بالنبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: علمَ مجيئَه. "ذهب يتأخَّر"؛ أي: عزم على أن يتأخر من موضعه ليتقدم النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام. "فأومأ"؛ أي: أشار عليه الصلاة والسلام "إليه" أن يكون على حالة. "فأدرك النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - إحدى الركعتين معه"؛ يعني: اقتدى به في ركعتهم الباقية، وفيه دليل جواز اقتداء الأفضلٍ بالمفضول إذا عَلِمَ أركان الصلاة. "فلمَّا سَلَّم قام النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - وقمتُ، فركعنا"؛ أي: صلَّينا "الركعة التي سبقَتْنا"؛ أي: فاتت عنا مع الإِمام. وجاء في رواية أخرى: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لهم بعد الفراغ منها: "أحسنتم، صلُّوا الصلاة لوقتها"، يعني: لا تؤخِّروها بعد دخول الوقت لانتظار الإِمام، وإنما

يُستحب ترك انتظاره إذا عَلِموا أنَّه يجيء بعد مضيِّ زمان كثير، أو لم يعلموا متى يجيء، أما إذا علموا يُستحبُ الانتظار، وإن كان موضع الإِمام قريبًا من المسجد يُستحب إعلامُه وقتَ الصلاة. * * * مِنَ الحِسَان: 359 - قال أبو بَكْرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ رخَّص للمُسافرِ ثلاثةَ أيّامٍ وليالِيَهُنَّ، وللمُقيمِ يومًا وليلةً، إذا تطهَّرَ فلبسَ خُفَّيْهِ أنْ يمسحَ عليهِما. "من الحسان": " قال أبو بَكْرة"، اسمه نُفيع بن الحارث. "عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه أَرْخَصَ"؛ أي: جَوَّز "للمسافر ثلاثةَ أيام ولياليَهنَّ، وللمقيم يومًا وليلةً إذا تطهَّر فلَبسَ"، الفاء للتعقيب؛ أي: لبس "خُفَّيه" بعد تمام الطهارة. "أن يمسَح عليهما" متعلِّق بأرخص. * * * 360 - وقال صَفوان بن عسَّال - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأْمُرُنا إذا كُنَّا سَفْرًا أنْ لا ننزِعَ خِفافَنا ثلاثةَ أيامٍ ولَيالِيَهُنَّ إلَّا مِنْ جنابةٍ، ولكنْ مِنْ غائطٍ وبَوْلٍ ونَوْمٍ. "وقال صفوان بن عسَّال المُرَادي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمرُنا إذا كنا سَفْرًا" بسكون الفاء؛ بمعنى: مسافرين. "أن لا ننزِعَ خِفَافنا" جمع خف، يعني: أن نمسحَ عليها.

"ثلاثةَ أيام ولياليَهنَّ إلَّا من جَنَابة"، فإنَّه لا يجوز للمغتسل أن يمسحَ على الخُفِّ، بل يجب عليه النزعُ وغَسلُ الرجلين كسائر الأعضاء، ولما كان قوله: (إلَّا من جنابة) مؤذِنًا بإثبات النزع منها استدركه بالأحداث التي لم يُشرع فيها النزع؛ ليعلم اختصاص وجوب النزع بالجَنابة دون غيرها من أسباب الحدث، فقال: "ولكن مِن غائط"، متعلق بمحذوف؛ أي: ولكن لا ينزعها من غائط. "وبولٍ، ونومٍ" بل نتوضأ ونمسَح عليهما. * * * 361 - عن المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه - أنَّه قال: وضَّأْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في غزوةِ تبوك، فمسحَ أعلى الخُفِّ وأسفله. قال الشيخ الإِمام - رضي الله عنه -: هذا مرسلٌ لا يثبت، ورُوي متصلًا. "عن المغيرة بن شعبة أنَّه قال: وَضَّأْتُ النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - "؛ أي: سكبتُ ماء الوُضوء على يديه. "في غرْوة تبوك، فمسح أعْلَى الخُفِّ وأسفلَه"، وبهذا قال الشَّافعيّ، ومالك مسح أعلاه واجب، ومسح أسفله سُنة. "وقال الشيخ الإمام رحمه الله: هذا مرسَل لا يثبُت"؛ أي: لم يثبت إسناده إلى المغيرة، وإنما رُوي مرسَلًا عن مولاه وزاد كاتب المغيرة، وهو تابعي رواه عنه - عليه الصلاة والسلام - وترك ذكر المغيرة. " وروي متصلًا". * * *

11 - باب التيمم

362 - عن المُغيرة - رضي الله عنه - قال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يمسحُ على الخُفَّيْنِ على ظاهرهِما. "عن المغيرة أنَّه قال: رأيتُ النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - يمسَح على الخُفَّين على ظاهرهما"، وهو مذهب أبي حنيفة. * * * 363 - وعن المُغيرة - رضي الله عنه - قال: توضَّأ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ومسحَ على الجَوْرَبَيْنِ والنَّعْلَيْنِ. "وعن المغيرة أنَّه قال: توضَّأ النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام -، ومسحَ على الجَوْرَبَين والنعلين"؛ أي: ونعليهما، فيجوز المسح على الجوربين المنعلين بحيث يمكن متابعة المشي عليهما. قال الخطابي: معناه: والنعلين لبسُهما فوق الجوربين، وقد ضَعَّف أبو داود هذا الحديث. * * * 11 - باب التَّيمُّم (باب التيمم) مِنَ الصِّحَاحِ: 364 - عن حُذَيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فُضلْنا على النَّاسِ بثلاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنا كصُفُوفِ الملائكَةِ، وجُعِلَتْ لنا الأرضُ كُلُّهَا مسجدًا، وجُعِلَتْ تُرْبَتُها لنا طَهُورًا إذا لمْ نَجدِ الماءَ".

"من الصحاح": " عن حُذيفة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فُضلْنا على الناس"، بصيغة المجهول، يعني: فَضَّلَنا الله تعالى على الأمم السابقة. "بثلاث"؛ أي: بثلاث خِصال لم يكن لهم واحدة منها. "جُعِلَت صفوفُنا"، يعني: وقوفنا في الصلاة صفًا صفًا. "كصفوف الملائكة" فإن الأمم الماضية يقِفُون في صلاتهم كيف اتفق من غير الصف. "وجُعِلَت لنا الأرض كلُّها مسجدًا": ولم يَجُزْ لهم أن يصلُّوا إلَّا في كنائسهم وبيَعهم. "وجُعِلَت تربتُها"؛ أي: تراب الأرض. "لنا طَهورًا"؛ أي: مطهِّرًا. "إذا لم نجد الماء" ولم يَجُزْ ذلك للأمم المتقدمة. * * * 365 - وقال عِمْران: كُنَّا في سَفَرٍ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى بالنَّاسِ، فلمَّا انفتلَ إذا هو برَجُلٍ مُعتزلٍ لم يُصَلِّ مع القومِ، فقال: "ما منعَكَ أنْ تصلِّيَ معَ القومِ؟ "، قال: أصابَتْني جنابةٌ ولا ماءَ قال: "عليكَ بالصَّعيدِ فإنَّه يكفيك". "وقال عِمران: كنَّا في سَفَرٍ مع النَّبِيِّ - عليه الصلاة والسلام - فصلى بالنَّاس، فلما انفتلَ"؛ أي: فرغَ من الصلاة. "إذا هو"؛ أي: النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - "برجل معتزِلٍ" عن القوم؛ أي: خارج من بينهم، واقفٍ في ناحية.

"لم يصلِّ مع القوم، فقال: ما منعك أن تصلي مع القوم؟ قال: أصابتني جَنابة ولا ماء، قال: عليك بالصَّعِيد"، أي: يَلزم عليك التيمُّم بالصعيد، وهو التُّراب عند الشَّافعيّ، ووجهُ الأرض عند أبي حنيفة، سواءٌ كان عليه التُّراب أولا. "فإنَّه يكفيك"؛ أي: يستغنيك عن الوضوء، ويرفع عنك القضاء، سواء كان من الحَدَث أو من الجَنَابة. * * * 366 - وقال عمَّار - رضي الله عنه -: كُنَّا في سَرِيَّةٍ فاجْنَبْتُ، فتمعَّكْتُ فصلَّيْتُ، فذكرتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنَّما كانَ يكفيكَ هكذا"، فضربَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بكَفيْهِ الأرضَ ونفخَ فيهما، ثمَّ مسحَ بهما وجهَهُ وكفَّيْهِ. وفي رواية قال: فأتيتُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "إنما يَكفيكَ أنْ تضربَ بيَدَيْكَ الأرضَ، ثمَّ تنفُخَ، ثمَّ تمسحَ بهما وجهَكَ وكفَّيْكَ". "قال عمار: كنا في سَرِيَّة"؛ أي: جيش. "فأجْنَبْتُ"؛ أي: صرت جُنُبًا. "فتمعَّكْتُ"؛ أي: تمرَّغْتُ في التُّراب، ظانًّا بأن إيصال التُّراب إلى جميع الأعضاء واجب في الجنابة كالماء. "فصلَّيتُ فذكرتُ للنَّبيِّ - عليه الصلاة والسلام - فقال: إنما يكفيك هكذا، فضرب النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بكفيه الأرض ونفخ فيهما"، ليقِل الترابُ الذي حصل في كفيه، "ثم مسح بهما وجهه وكفيه" وهذا يدل على أنَّه يكفي ضربةٌ واحدة للوجه والكفين، وبه قال أَحْمد والأوزاعي.

وأما عند مالك والشافعي وأبي حنيفة: لا يجوز إلَّا بضربتين: ضربةٍ للوجه، وضربةٍ لليدين إلى المرفقين، بدليل حديث ابن عمر المار في آخر (باب مخالطة الجنب). "وفي رواية قال" عمار: "فأتيتُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنما يكفيك أن تضرب بيديك الأرض ثم تنفخ، ثم تمسحَ بهما وجهَك وكفَّيك". * * * 367 - عن أبي جُهَيْم بن الحارِث بن الصِّمَّة قال: مَرَرْتُ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يبولُ، فسلَّمْتُ عليه، فلمْ يَرُدَّ عليَّ حتَّى قامَ إلى جِدارٍ، فحتَّهُ بعَصًا كانت معه، ثمَّ وضعَ يده على الجدارِ، فمسحَ وجهَهُ وذِراعَيْهِ، ثمَّ ردَّ عليَّ. "عن أبي الجُهَيم بن الحارث بن الصِّمَّة"، بكسر الصاد وتخفيف الميم. "أنَّه قال: مررتُ على النَّبِيّ - علبه الصلاة والسلام - وهو يبول، فسلَّمتُ عليه فلم يردَّ عليَّ، حتَّى قام إلى جِدار فحَتَّه"؛ أي: خَدَشَه "بعصًا كانت معه"؛ حتَّى يحصلَ منه التُّراب. "فوضع يديه"؛ أي: ضرَبَ بهما "على الجدار، فمسح وجهه وذراعيه، ثم رَدَّ عليَّ" السلامَ، والحديث يدلُّ على استحباب الطهارة لذِكْر الله تعالى؛ لأن السلام من أسماء الله تعالى، وفي تأخيره - صلى الله عليه وسلم - ردَّ الجواب تعليمٌ بأن رَدَّه من الواجبات المطلَقة، وعلى أن التيمُّمَ لا يصح ما لم يَعْلَق باليد غبارُ التُّراب. وبه قال محمَّد؛ لأنه لو كان مجردُ الضرب كافيًا لم يحثَّ - صلى الله عليه وسلم - الجدار بالعصا. * * *

مِنَ الحِسَان: 368 - عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الصَّعيدَ الطَّيبَ وَضُوءُ المسلمِ وإنْ لمْ يجدِ الماءَ عَشْرَ سنِينَ، فإذا وجدَ الماءَ فَلْيُمِسَّهُ بَشَرتَهُ، فإنَّ ذلك خَيْرٌ". "من الحسان": " عن أبي ذر أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إن الصَّعِيد الطَّيب"؛ أي: التُّراب الطاهر. "وَضوء المسلم" بفتح الواو، يعني: بمنزلة ماء الوضوء في صحة الصلاة به. "وإن لم يجد الماء عَشْرَ سنين"، (إن) للوصل، والمراد منه الكثرة لا المدة المقدَّرة. "فإذا وجد الماءَ فليُمِسَّه"، من الإمساس؛ أي: ليمْسَحْ "بَشَرتَه" بالماء وليوصِلْه إليه، يعني: فليتوضَّأْ. "فإنَّ ذلك خيرٌ"، ليس معناه أن كليهما جائز عند وجود الماء، لكن الوضوء خير له، بل المراد منه أن الوضوءَ واجبٌ عند وجود الماء، ونظيرُه قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24] مع أنَّه لا خيريةَ ولا أحسنيةَ لمستقَرِّ أصحاب النَّار. * * * 369 - وقال جابرٌ: خَرَجْنا في سفَرٍ، فأصابَ رَجُلًا مِنَّا حجَرٌ فشجَّهُ في رأسِهِ، فاحتلَمَ، فسألَ أصحابَهُ: هَلْ تجدُونَ لي رُخصةً في التَّيمُّم؟ قالوا: ما نجدُ لكَ رُخصةً وأنتَ تقدِرُ على الماءِ، فاغتَسَلَ فمات، فلمَّا قدِمْنا على

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُخْبرَ بذلك، قال: "قتلُوهُ قتلَهُمُ الله، ألا سألُوا إذْ لم يعلَمُوا، فإنَّما شِفاءُ العِيِّ السُّؤالُ، إنَّما كانَ يَكفيهِ أنْ يتيمَّمَ، ويَعصبَ على جُرْحِهِ خِرْقَةً، ثمَّ يمسحَ عليها، ويغسِلَ سائرَ جسَدِهِ". "قال جابر: خرجْنا في سفر فأصاب رجلًا منا حجرٌ فشجَّه"؛ أي: كَسَرَه. "في رأسه"، ذكر الرأسَ لزيادة التأكيد، فإن الشجَّ هو كسر الرأس. "فاحتلَمَ" الرجلُ؛ أي: أصابته جَنابة وخاف أن يقع الماءُ في الجِرَاحة لو اغتسل. "فسأل أصحابَه: هل تجدون لي رُخْصةً في التيمم؟ قالوا: ما نجد لك رُخْصةً وأنت تقدِرُ على الماء"، هذه جملة حالية. "فاغتسَلَ فماتَ، فلمَّا قَدِمْنا على النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أُخبر بذلك، قال: قتلوه"؛ أي: أسند القتل إليهم بطريق المغَايَبَة؛ ليكون أدلَّ على الإنكار عليهم. "قتلهم الله"؛ أي: لعنهم. "ألا سألوا إذا لم يعلموا"، عاتبهم - عليه الصلاة والسلام - بالإفتاء بغير علم، وألحقَ بهم الوعيد بأن دعا عليهم؛ لكونهم مقصِّرين في التأمل في النص، وهو قوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. "فإنما شفاء العِيِّ" بكسر العين: هو التحيُّر في الكلام وغيره. "السؤالُ"، فلمْ يسألوا ولم يتعلَّموا ما لا يعلَمون، فإنَّه لا شفاء لداء الجهل إلَّا التعلُّم. "إنما كانَ يَكفيه"؛ أي: الرَّجل المحتلِم. "أن يتيمَّمَ ويَعْصِبَ"؛ أي: يشدَّ "على جُرحه خِرْقةً" حتَّى لا يصلَ إليه الماء.

12 - باب الغسل المسنون

"ثم يمسحَ عليها"؛ أي: على الخِرْقة بالماء. "وبغسلَ سائر جسده"، وهذا يدل على الجمع بين التيمُّم وغسل سائر البدَن بالماء دون الاكتفاء بأحدهما، كما هو مذهب الشَّافعيّ رحمه الله تعالى. * * * 12 - باب الغُسْل المَسْنون (باب الغسل المسنون) مِنَ الصِّحَاحِ: 371 - عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاءَ أحدكُم الجُمعَة فَلْيَغْتَسِل". "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسِل" هذا أمر سُنة لا وجوب، والحديث يدل على أنَّ غسلَ يوم الجمعة للصلاة فلا يصح قبلَ الصبح. * * * 372 - وقال: "غُسْلُ يومِ الجمعةِ واجِبٌ؛ على كُلِّ مُحْتَلِمٍ"، رواه أبو سعيد الخُدري - رضي الله عنه -. "وعن أبي سعيد الخُدرِيّ أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غسلُ يومِ الجمعة" من باب إضافة المظروف إلى ظرفه، كمَكْرِ الليل.

"واجبٌ على كل مُحتلِمٍ"؛ أي: بالغٍ مدركِ أوأنَ الاحتلام، والمراد بالوجوب هنا التأكيد والمبالغة في الاستحباب، وهذا لأن القومَ كانوا يعملون في المهنة ويلبَسون الصوف، وكان المسجد ضيقًا متقاربَ السقف، فإذا عَرِقُوا تأذَّى بعضهم برائحة بعض، خصوصًا في بلادهم التي في غاية من الحرارة، فندبهم - عليه الصلاة والسلام - إلى الاغتسال بلفظ الوجوب؛ ليكون أدعى إلى الإجابة. * * * 373 - وقال: "حقٌّ على كُلِّ مُسلمٍ أنْ يَغْتَسِلَ في كُلِّ سَبعةِ أيَّامٍ يومًا يَغسِلُ فيه رأسَهُ وجَسَدَهُ"، رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حقٌّ"؛ أي: جديرٌ. "على كل مسلم أن يغتسل في كلِّ سبعة أيام يومًا، يغسل فيه رأسه وجسده"، والمراد: غسل يوم الجمعة. * * * مِنَ الحِسَان: 374 - عن سَمُرَة بن جُنْدب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ توضَّأَ يومَ الجمعةِ فَبها ونعْمَتْ، ومن اغتسَلَ فالغُسْلُ أفْضَلُ". "من الحسان": " عن سَمُرة بن جُنْدب أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن توضَّأَ يوم الجمعة فبها"، الباء متعلقة بمقدر؛ أي: فبالشريعة، أو بالرخصة أَخذ. "ونعْمَت"؛ أي: نعمت الخصلة هي.

"ومن اغتسل فالغسل أفضل" والحديث صريح بأن غسل يوم الجمعة سنة. * * * 375 - وقال: "مَنْ غَسَّلَ مَيتًا فَلْيَغْتَسِلْ، ومَنْ حَمَلَهُ فَلْيَتَوَضَّأ" رواه أبو هريرة. "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من غسل ميتًا فليغتسل"، وهذا الأمر للاستحباب والنَّدْب؛ لإزالة الرائحة الكريهة التي حصلت له منه، لا أمر إيجاب، وعليه الأكثر. وقيل: أمر وجوب؛ لأنه لا يؤمَن أن يصيبَه شيء من رَشَاش المغسول. "ومن حَمَلَه"؛ أي: الميت. "فليتوضَّأ"؛ أي: ليكنْ على الوضوء حالة حَمْلِه؛ ليمكِنَه الصلاة عليه إذا وضعه، ويجوز أن يكون لمجرد العمل؛ لأنه قُربة. وقيل: معناه: ليجدّد الوضوء احتياطًا؛ لأنه ربما خرج منه ريح لشدة دهشته وخوفه من حمل الجنازة وثقل حملها، وهو لا يعلم بذلك. * * * 376 - عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يغتسِلُ مِنْ أربَعٍ: مِنَ الجَنابةِ، ويومَ الجُمعةِ، ومِنَ الحِجامَةِ، وغُسْلِ الميتِ. "وعن عائشة أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يغتسِل من أربع: من الجَنابة ويومَ الجمعة ومن الحِجَامة" اغتساله من الحِجَامة لإماطة الأذى، ولمَا لا يُؤْمَن أن يصيبه من رشاش الدم، فيستحَبَّ النظافة. "ومن غسل الميت" قيل: معناه: أمرَ الاغتسالَ من غسل الميت، فإنَّه - عليه

13 - باب الحيض

الصلاة والسلام - ما غسلَ ميتًا قطُّ، وهذا كرواية أنَّه رجم ماعزًا؛ أي: أمر برجمه. * * * 377 - عن قَيْس بن عاصم - رضي الله عنه -: أنَّهُ أسلمَ، فأَمَرَهُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يغتسِلَ بماءً وسِدْرٍ. "وعن قيس بن عاصم أنَّه أسلم فأمره النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - أن يغتسل بماء وسِدْر"، ذهب الأكثرون إلى استحباب اغتسال مَن أسلم وغسلَ ثيابه إذا لم يكن لزمَه غسل في حال الكفر. والغرض منه: تطهيره من النجاسة المحتملة على أعضائه من الوسَخ والرائحة الكريهة، وإنما أمر النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - الغُسْلَ بالماء والسِّدْر للمبالغة في التنظيف؛ لأنه يطيب الجسد، واغتسالُه مؤخر على قول كلمتي الشهادة في الأصح. وعند أَحْمد ومالك: يجب عليه الغسل وإن لم يكن جُنُبًا، وأما إذا أسلمَ وقد جامع أو احتلم في الكفر يفترض عليه الغسل، وإن اغتسل فيه عند الشَّافعيّ؛ لأنه لا يحتاج إلى النية، وهي عبادة لا تصح من الكافر، وعند أبي حنيفة يَكفيه اغتساله فيه. * * * 13 - باب الحيض (باب الحيض) مِنَ الصِّحَاحِ: 378 - قال أنسٌ - رضي الله عنه -: إنَّ اليهودَ كانُوا إذا حاضَتْ المرأةُ منهُمْ لمْ

يُؤاكِلُوها، فسألَ أصحابُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فأنزلَ الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} الآية، فقالَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "اصنَعُوا كُلَّ شيءٍ إلَّا النِّكاحَ". "من الصحاح": " وقال أنس: إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأةُ منهم لم يؤاكِلُوها"؛ يعني: يحتَرِزون عنها في الأكل والشرب. "فسأل أصحابُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -"، عند عدم المؤاكلة حالةَ الحيض كما يفعل اليهود. "فأنزل الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} "؛ عن حكم زمان الحيض. {قُلْ هُوَ أَذًى} أي: الحيض قذَر، يتأذَّى الأزواج بمجامعتهن في ذلك الوقت. {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ}؛ أي: ابعدوا منهن. {فِي الْمَحِيضِ}؛ أي: في مكان الحيض، وهو الفرج، يعني: إنَّ الحيض أذى يتأذى به الزوج في المجامعة فقط، دون المؤاكلة والمجالسة والافتراش معها. "الآية، فقال النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - اصنعوا"؛ أي: افعلوا. "كلَّ شيء" من المؤاكلة والمجالسة والملامسة والمضاجعة، "إلا النكاح"؛ أي: الجِمَاع، إطلاقًا لاسم السبب على المسبب، وهذا يدل على جواز التمتُّع بالحائض سواءٌ كان فوق الإزار أو تحته دون المجامعة. وبه قال أبو يوسف، ومحمَّد بن الحسن، والشافعي في قوله القديم. * * * 379 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كنتُ أغتَسِلُ أنا والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ إناءٍ واحدٍ وكِلانا جُنبٌ، وكانَ يأمُرُني فأتَّزِر، فيُباشِرُني وأنا حائضٌ، وكان يُخرِجَ

رأسَهُ إليَّ وهو مُعتكِفٌ فأغسِلُه وأنا حائض. "وقالت عائشة: كنت أغتسلُ أنا والنبي - عليه الصلاة والسلام - من إناء واحدٍ، وكلانا جُنُب، وكان يأمرني فأتَّزِر"، صوابه: بهمزتين ثانيتهما مقلوب ألفًا كما في: آدم، فإن إدغام الهمزة في التاء لا يجوز؛ أي: أعقد الإزار في وسطي. "فيباشِرُني"؛ أي: فيلامِسُني فوق الإزار. "وأنا حائض"، وإنما أمرَها بالاتِّزار اتقاءً عن موضع الأذى، وهذا يدل على جواز الاستمتاع بما فوق الإزار دونَ تحته. وبه قال أبو حنيفة، ومالك، والشافعي في قوله الجديد. "وكان يُخرج رأسَه إليَّ وهو معتكِفٌ" في المسجد، بأنْ كان باب الحُجْرة مفتوحًا إلى المسجد، فيُخْرج رأسَه منه إلى الحُجْرة وهي فيها. "فأغسِلُه وأنا حائض"، وهذا يدل على أن المعتكِف إذا أخرج بعض أعضائه من المسجد لم يَبطُل اعتكافُه. * * * 380 - وقالت: كنتُ أشربُ وأنا حائضٌ، ثمَّ أُناوِلُهُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فيضَعُ فاهُ على مَوضعِ فِيَّ، فيشرَبُ، وأتعَرَّقُ العَرْقَ وأنا حائضٌ، ثم أُناوِلُهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَيَضَعُ فَاهُ على موضعِ فِيَّ. "وقالت: كنت أشربُ وأنا حائضٌ ثم أناوله"؛ أي: أعطي الإناءَ يدَ "النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - فيضع فاه"؛ أي: فمَه. "على موضعِ فيَّ" بتشديد الياء؛ أي: فمي.

"فيشرب، وأتعَرَّقُ العَرْقَ" بفتح العين وسكون الراء؛ أي: أَفْصِلُ اللَّحم بفمي مِن العَرْق، وهو العَظْم الذي عليه اللَّحْم، من قولك: عَرقْتُ العظمَ أَعْرُقه - بالضم - إذا أكلتَ معظم اللحم الذي عليه. "وأنا حائض، ثم أناوله النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام -، فيضعُ فاه على موضع فِيَّ"، وهذا يدل على جواز مؤاكلة الحائض ومجالستها، وعلى أنَّ أعضاءَه من اليد والفم وغيرهما ليست بنجسة. * * * 381 - وقالت: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتَّكِيءُ في حَجْري وأنا حائضٌ، ثمَّ يقرأُ القُرآنَ. "وقالت عائشة: كان النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - يتَّكِيءُ في حَجْرِي وأنا حائض، ثم يقرأ القرآن". * * * 382 - وقالت: قالَ لي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ناوِلِيني الخُمْرَةَ مِنَ المسجِدِ"، فقلت: إنِّي حائضٌ! فقال: "إنَّ حَيْضَتَكِ لَيْسَتْ في يدِكِ". "وقالت: قال لي النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام -: ناوليني"؛ أي: أعطيني. "الخُمْرَة"، وهي - بالضم - سجادةٌ صغيرة تُعمَل من سَعَف النخل، وتُرمَل بالخيوط. "من المسجد"، حالٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتكون الخُمْرة في الحجرة والنبي - عليه الصلاة والسلام - في المسجد.

وقيل: حال من الخمرة، فيكون الأمر على العكس. "فقلت: إنِّي حائض فقال: إن حَيضتك"، بفتح الحاء: هي الدفعة من الدم. "ليست في يدك"؛ يعني: ليست يدك نجسةً؛ لأنها لا حيض فيها. وروي بكسر الحاء، وهي الحالة التي تلزَم الحائض، معناه: أن حالتك ومجيء حيضتِك ليست بقدرتك واختيارك. * * * 383 - وقالت ميمونة رضي الله عنها: كانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي في مِرْطٍ، بعضُهُ عليَّ وبعضُهُ عليهِ، وأنا حائضٌ. "وقالت ميمونة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلِّي في مِرْطٍ", وهو شِبْه ملحفة كساء من صوف أو خَزِّ أو غيره، تأتزر به المرأة، وربما ألقته على رأسها ويتلفَّعُ به. "بعضُه عليَّ وبعضُه عليه"؛ يعني: بعض المِرْط ألقاه على كتفه يصلِّي، وبعضُه عليَّ. "وأنا حائض" ملتفَّةٌ به، وهذا يدل على أن أعضاء الحائض سوى الفرج طاهرةٌ، وإلا فالصلاة في مِرْط واحد بعضُه ملقَى على النجاسة، وبعضُه متصلٌ بالمصلي غيرُ جائز. مِنَ الحِسَان: * * * 384 - قال أبو هُريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَتى حائضًا أو امرأةً

في دُبُرِها، أو كاهِنًا فقدْ كفَر بما أُنزِلَ على مُحَمَّدٍ"، ضعيف. "من الحسان": " قال أبو هريرة عن النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال: مَن أتى حائضًا"؛ أي: جامعَها، يشمل المنكوحةَ والأَمَة وغيرهما، وكذلك قوله: "أو امرأةً في دُبُرها، أو كاهنًا"؛ أي: أتى كاهنًا، وهو الذي يُخبر عن الكوائن في المستقبَل، ويدَّعي معرفةَ الأسرار. "فقد كفر بما أُنزِلَ على محمَّد"، ويؤوَّل الحديث بالمستَحِلِّ والمُصَدِّق؛ لأن تحليل الحرام كفرٌ، وإلا يكون فاسقًا، فمعنى الكفر حينئذٍ كفرانُ نِعمة الله، أو إطلاق اسم الكفر عليه لكونه من خصال الكفار الذين عادتُهم عصيان الله تعالى. "ضعيف". * * * 386 - عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: سأَلتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عمَّا يَحِلُّ للرجلِ مِنْ امرأتِهِ وهي حائضٌ؟ قال: "ما فَوْقَ الإِزار، والتَّعفُّفُ عن ذلكَ أفضل" إسناده ليس بقوي. "وعن معاذ بن جبل أنَّه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما يحِلُّ للرجل من امرأته وهي حائض، قال: ما فوق الإزار والتعفّف"؛ أي: الاحتراز "عن ذلك"؛ أي: عما فوق الإزار. "أفضل، إسنادُه ليس بقوي"، وحكمُه أَيضًا ضعيفٌ لمَا مرَّ أنَّه - عليه الصلاة والسلام - أمرَ عائشة بالاتزار، ويباشِرُها فوق الإزار، ولو كان التعفُّف عما فوق الإزار أفضلَ لتعفَّفَ - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك. * * *

14 - باب المستحاضة

385 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وقَعَ الرجلُ بأهلِهِ وهي حائضٌ فلْيَتَصَدَّقْ بنصْفِ دِينارٍ". ويُروى: "إذا كانَ دَمًا أحمرَ فدِيْنارٌ، وإذا كانَ أصفَرَ فنِصْفُ دينارٍ". "عن ابن عباس عن النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال: إذا وقعَ الرجلُ"؛ أي: جامعَ "بأهله وهي حائضٌ فليتصدق بنصفِ دينار"، وإنما أمره - عليه الصلاة والسلام - بالتصدُّق بطريق الاستحباب، وعليه الاستغفار. وبه ذهب مالك، والشافعي في قوله الجديد الأصح، وأبو حنيفة، وذهب أَحْمد بن حنبل والقول القديم للشافعي إلى أنَّه بطريق وجوب الكَفارة المذكورة. "ويُروى: إذا كان دمًا أحمرَ فدينارٌ"، وهذا لأن أقلَّ المقادير المتعلقة بالفروج عشرة دراهم، وهو دينار. "وإنْ أصفرَ فنصف دينار"؛ لأن الصفرة متردِّدة بين الحمرة والبياض، فبالنظر إلى الثاني لا يجب بشيء، وبالنظر إلى الأول يجب الكل فينصف. * * * 14 - باب المستحاضة (باب المستحاضة) مِنَ الصِّحَاحِ: 387 - قالت عائشة رضي الله عنها: جاءتْ فاطمةُ بنتُ أبي حُبَيْشٍ رضي الله عنها إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يَا رسولَ الله! إنِّي امرأةٌ أُسْتَحاضُ فلا أَطْهُرُ، أَفأدعُ الصَّلاةَ؟ فقال: "لا، إنَّما ذلك عِرْقٌ وليسَ بحَيْضٍ، فإذا أقبَلَتْ حَيْضَتُكِ فدَعي الصَّلاةَ، وإذا أدبَرَتْ فاغسِلي عنكِ الدَّمَ ثمَّ صَلِّي".

"من الصحاح": " قالت عائشة - رضي الله عنها -: جاءت فاطمةُ بنت أبي حُبَيْش إلى النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - فقالت: يَا رسول الله! إنِّي امرأة أُسْتَحاض"، بصيغة المجهول، يقال: استحيضت المرأةُ فهي مستحاضةٌ: إذا استمرَّ بها الدم بعد أيامها. "فلا أَطْهُر، أفأدع الصلاة؟ "، بهمزة الاستفهام؛ أي: أفأتركُها. "فقال: لا"؛ أي: لا تدَعيها. "إنما ذلك"؛ أي: الذي تشتكينه. "عِرْقٌ" قد انشق، وانفجرَ منه الدم، "وليس بحيض"، فإنَّ دم الحيض دمٌ تميزه القوة المولَّدة بإذن خالقها لأجل الجنين، وتدفعُه إلى الرَّحِم في مجاريه المعتادة ويجتمع فيه، ولذا سُمي حيضًا من قولهم: استحوض الماء: إذا اجتمع، فإذا كثر وامتلأ ولم يكن فيه جنين، أو كان أكثرَ مما يحتمله انصبَّ منه. "فإذا أقبلتْ حِيضَتُك" بالكسر، قيل: اسم للحيض بأن كانت المرأة معتادة؛ أي: إذا كان أيام حيضتك. "فدَعِي الصلاة، وإذا أدبرت"؛ أي: تولت حيضتُك، وجاوزَ دمك أيامَ عادتك. "فاغسلي عنك الدم"؛ أي: دمَ الاستحاضة، واغتسلي مرة واحدة. "ثم صلِّي"، قال الشَّافعيّ: تغسِلُ فرجَها لكل صلاة مفروضة. وعند أبي حنيفة: لوقت كل صلاة، وتشدُّه بعِصابة، وتتوضأ، وتستعجل في أدائها، وهي معذورة في جريان الدم فيها. * * *

مِنَ الحِسَان: 388 - عن عُرْوةَ بن الزُّبَيْر - رضي الله عنهما - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حُبَيْشٍ رضي الله عنها: "إذا كَانَ دمُ الحَيْضِ فإنَّه دَمٌ أسْوَدُ يُعْرَفُ، فإذا كانَ ذلكَ فأمْسِكي عَنِ الصَّلاةِ، فإذا كانَ الآخَرُ فتَوَضَّئي وصَلِّي، فإنَّما هو عِرْقٌ". "من الحسان": " عن عروة بن الزُّبير أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة بنت أبي حُبَيش: إذا كان دمُ الحَيْض"، (كان) هذه تامة. "فإنَّه دمٌ أسودُ"، وذلك باعتبار الأغلب، وإلا فقد يكون أحمر وغيره. "يُعرَف"؛ أي: يعرفه النساء، فإن المستحاضة إذا كانت ذاتَ تمييز، بأن ترى في بعض الأيام دمًا أسود، وفي بعضها دمًا أحمرًا أو أصفر، فالدم الأسود حَيضٌ بشرط ألاَّ ينقص من يوم وليلة، ولا يزيدَ على خمسة عشر يومًا. "فإذا كان ذلك فأمسكي عن الصلاة"؛ أي: اتركيها. "وإذا كان الآخر"؟ بأن كان دمًا أحمرَ أو أصفرَ فدمُ استحاضة، بشرطِ ألاَّ ينقض الدم الأحمر أو الأصفر الواقعُ بين أسودين عن خمسةَ عشر يومًا، فإذا كان كذلك "فتوضَّئِي وصَلِّي، فإنما هو عِرْقٌ" منشقٌّ، فإذا زال شرطٌ من هذه الشروط فليست بمميزة، فإذا كانت كذلك، أو فقدت شرطَ تميزها فليس لها عادة، أو كان فنسيتها تجعل حيضها في أول كل شهر يومًا وليلة في قول، وستة أو سبعة في قول، ثم تؤمَر بالوضوء والصلاة إلى آخر الشهر. * * * 389 - عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: أنَّ امرأةٌ كانت تُهراقُ الدَّمَ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاسْتَفْتَتْ لها أُمُّ سَلَمَةَ رضي الله عنها النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لِتَنْظُرَ

عددَ اللَّيالي والأيَّامِ التي كانتْ تَحيضُهُنَّ مِنَ الشَّهْر قَبْلَ أنْ يُصيبَها الذي أصابَها، فلتُترُك الصَّلاةَ قَدْرَ ذلكَ مِنَ الشَّهْرِ، فإذا خلَّفَتْ ذلكَ فَلْتَغْتَسِلْ، ثُمَّ لِتَسْتَثْفِرْ بثَوْبٍ، ثمَّ لِتُصلِّي". "عن أم سلَمة أن امرأة كانت تُهراقُ" علي بناء المجهول؛ أي: تُهرَاقُ هي. "الدَّمَ" بالنصب على التشبيه بالمفعول؛ أي: صيرت ذات هراقة الدَّم، أو على التمييز، وإن كان معرفة بزيادة اللام، ويجوز الرفع على تقدير تهراق دماؤُها؛ أي: ينصَبُّ، واللام بدل من الإضافة، يعني: صارت مستحاضة. "على عهد رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " وكانت معتادة. "فاستفتَتْ لها"؛ أي: سألت لهذه المرأة. "أم سَلَمة النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - فقال: لتنظُرْ عددَ الليالي والأيام التي كانت تحيضُهنَّ" مِن باب إجراء المفعول فيه مُجرى المفعول به؛ أي: تحيضُ فيهنَّ. "من الشهر قبلَ أن يُصيبَها الذي أصابها"؛ أي: قبل إصابة الاستحاضة. "فلتترُك الصلاة قدرَ ذلك"؛ أي: قَدْرَ عادة حَيْضها "من الشهر، فإذا خَلَّفَتْ ذلك"؛ أي: جاوزت ذلك القَدْر ودخلت في أيام الاستحاضة "فلتغتسِل، ثم لتَسْتَثْفِر"؛ أي: لتشُدَّ فَرْجَها "بثوبٍ" وكيفيتُه: أن تشدَّ المرأة ثوبًا بين رِجْلَيها بحيث يكون دُبُرها وفرجُها مشدودًا مِن خلف، ويكون أحد طرفي ذلك الثوب مشدودًا من خلف دُبُرها إلى وسَطِها، والطرف الآخر من قُبُلها إلى وسطها منه مشدودًا أيضًا.

"ثم لتصلِّ"، وفيه دليل: أن المستحاضة يجب عليها أن تَسْتَثْفِرَ، وأن تعالجَ نفسها بما يسدُّ المَسْلَك. * * * 390 - ويُروى عن عَديّ بن ثابتٍ، عن أَبيه، عن جَدّه، عن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنَّه قال في المُستَحاضة: "تَدع الصَّلاةَ أيَّامَ أَقرائها التي كانتْ تَحيضُ فيها، ثمَّ تغتسِلُ وتتوضَّأُ عندَ كلّ صلاةٍ، وتصومُ وتُصلِّي". "ويُرْوَى عن عدي بن ثابت، عن أَبيه، عن جده - رضي الله عنه -، عن النَّبِيّ عليه الصلاة والسلام أنَّه قال في المستحاضة: تدع الصلاة"؛ أي: تتركُها. "أيامَ أَقْرائِها"، جمع قُرْء، وهو مشترك بين الحَيْض والطُّهْر، والمراد به هنا الحيض بقرينة وصفِها بقوله: "التي كانت تَحيض فيها، ثم تغتسلُ وتتوضَّأ عند كل صلاة، وتصوم وتصلي". * * * 391 - وقالت حَمْنَة بنت جَحْش: كنت أُستَحاضُ حَيْضةً كثيرةً شديدةً، فجئتُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أسْتَفْتيه، فقال: "إنِّي أنْعَتُ لكِ الكُرْسُفَ، فإنَّه يُذْهِبُ الدَّمَ"، فقلتُ: هو أكثرُ مِنْ ذلكَ، قال: "تَلَجَّمي"، قلتُ: هو أكثرُ من ذلك، إنما أثُجُّ ثَجًّا، قال: "إنَّما هيَ رَكْضَةٌ مِنْ رَكضاتِ الشَّيطانِ، فتحَيَّضي سِتةَ في أيَّام أو سَبْعَةَ أيَّام في عِلْم الله، ثمَّ اغْتَسِلي، فَصَلّي أرْبَعًا وعشرينَ ليلةً وأيامَها، أو ثلاثًا وعشرينَ ليلة وأيامَها، وصُومي، وكذلك افعَلي في كلِّ شَهْرٍ كما تحيضُ النساء وكما يَطْهرْنَ، ميقاتَ حَيْضهِنَّ وطُهْرِهِنَّ".

وفي روايةٍ: "وإنْ قَوِيتِ على أنْ تُؤخِّري الظُّهْرَ وتُعَجِّلي العَصْرَ فتَغْتَسِلينَ وتجمعينَ بينَ الصَّلاتينِ، وتُؤخِّرينَ المغْرِبَ وتُعجِّلينَ العِشاءَ، ثم تَغْتَسِلينَ وتجمعينَ بينَ الصَّلاتينِ فافعلي، وصُومي إنْ قَدَرْتِ على ذلك"، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهذا أَعجَبُ الأَمرَيْنِ إليَّ". "وقالت حَمْنَة بنت جَحْش: كنت أُسْتحاضُ حيضةً كثيرةً شديدةً"؛ يعني: يجري دمي أشدَّ جريًا من دمِ الحيض، والكثرةُ من حيث الوقتُ والدم. "فجئت إلى النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - أستفتيه"؛ أي: أسأله عن حكمها. "فقال: إنِّي أَنْعَتُ"؛ أي: أصِفُ "لك الكُرْسُفَ"، وهو القطن، لتعالجَ به مقطرَ الدم. "فإنَّه يُذْهِبُ الدم"؛ يعني: استعمليه لعلَّ دمك ينقطع، إنما أمرَها - عليه الصلاة والسلام - باستعمال الكُرْسُف؛ لأنه ظنَّ أن دمها ليس بشديد الجريان. "فقلت: هو أكثرُ من ذلك"؛ أي: من أن ينقطعَ بالكُرْسُف. "قال: تَلَجَّمِي"؛ أي: شُدِّي خِرقةً على هيئة اللّجام كالاستثفار. "فقلت: هو أكثرُ من ذلك، إنما أثجُّ ثَجًّا"؛ أي: أصبُّ الدمَ صبًا. "قال: إنما هي"؛ أي: هذه الحالة، أو هذه العِلَّة "ركضَةٌ"؛ أي: مرة من الرَّكْض، وهو ضربُ الأرض بالرجل حال العدو. "من ركضات الشيطان"؛ يعني: هذه الحالة مما وجدَ الشيطان إليك سبيلَه، ومراده بأن يحيرَك في أمر دينك من الصلاة والصوم وغير ذلك، ويأمرك بتركهما. وإنما أضاف إلى الشيطان؛ لأنه قد وجدَ بذلك طريقًا إلى التَّلْبيس عليها

في أمر دينها وقتَ طُهْرها وصلاتها وصومها حتَّى أنساها ذلك، فصار كأنها ركضةٌ نالتها من رَكَضاته. "فتحيَّضي"؛ أي: اقعدي أيام حَيْضَتك عن الصلاة فيها، واجعلي نفسك حائضًا. "ستةَ أيام أوسبعةَ أيام"، قيل: شكٌّ من الراوي، وقيل: للتخيير، وقيل: على معنى اعتبار حالها بحال مَن هي مثلُها ومثل سِنِّها من نساء أهل بيتها، فإنْ كانت عادةُ مثلِها ستًا فسِتًّا، وإن كانت سبعًا فسبعًا. وقيل: كانت معتادةً نسيت أن عادتها ستًا كانت أو سبعًا، فأمرها - عليه الصلاة والسلام - أن تتحرى وتجتهد وتبني على ما تيقَّنت من أحد العددين بدليل قوله: "في علم الله"؛ أي: فيما علم الله تعالى من أمرك. "ثم اغتسلي فصلِّي أربعًا وعشرين ليلةً وأيامها" إن كانت مدة الحيض ستةً. "أو ثلاثًا وعشرين ليلة وأيامها" إن كانت سبعة. "وصومي، وكذلك افعلي في كل شهر كما تحيضُ النساء وكما يطْهُرْن"؛ يعني: اجعلي حيضتَك بقدْر ما يكون عادة النساء من ست أو سبع، وكذلك طهرك بقدر ما يكون عادة النساء من ثلاث وعشرين، أو أربع وعشرين. "ميقات حيضهن وطهرهن"، نصب على الظرف، يعني: إن كان وقتُ حيضهن في أول الشهر فليكنْ حيضكِ في أول الشهر، وإن كان في وسطه أو آخره فليكن حيضك في ذلك الوقت. "وفي رواية: وإن قدرتِ على أن تؤخِّري الظهر وتُعجِّلي العصرَ فتغتسلين وتجمعين بين الصلاتين" بغسل واحد.

"فافعلي، وصُومي إن قدرتِ على ذلك"، رَخَّصَ - عليه الصلاة والسلام - لها في الجمع بين الصلاتين، لمَّا رأى أن الأمر قد طال بها، وقد جَهَدَها الاغتسالُ لكل صلاة كالمسافر، رُخِّص له في الجمع بين الصلاتين لما يلحقه من مشقة السفر. "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وهذا"؛ أي: أمر الاستحاضة. "أعجَبُ الأمرين إلى"، وهما السفر والاستحاضة. * * *

4 - كتاب الصلاة

4 - كِتابُ الصَّلَاةِ

4 - كتاب الصلاة (كتاب الصلاة) اشتقاقها من الصِّلى وهو دخول النَّار، والخشبة إذا تعوَّجت عُرضت على النَّار فتقوَّم، وفي العبد اعوجاج لوجود نفسه الأمَّارة بالسوء، والمصلِّي يصيبه من وهج السطوة الإلهية والعظمة الربانية ما يزول به اعوجاجُه، فهو كالمصطلِي بالنار، ومن اصطلى بنار الصلاة وزال بها اعوجاجه لا يُعرض على النَّار ثانية إلَّا تَحِلَّةَ القسم. مِنَ الصِّحَاحِ: 392 - عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - منه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّلواتُ الخَمْسُ، والجُمعةُ إلى الجُمعةِ، ورمضانُ إلى رمضانَ، مُكَفِّراتٌ لمَا بينهُنَّ إذا اجْتَنَبَ الكبائرَ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الصلواتُ الخمس، والجمعةُ إلى الجمعة، ورمضانُ إلى رمضان مكفِّرات لما بينهن"، روي: بالإضافة وغيرها؛ أي: الصلوات الخمس مكفِّرةٌ في حق مَن يحافظ عليها، وفي حق الجمعة، والجمعة في حق مَن لم يحافظ عليها، ورمضان في حق من لم

يحافظ عليهما؛ لئلا يردَ أن الخمس إذا كفرت فماذا يكفر الجمعة، أو رمضان بالنسبة إليهما، أو معناه: أن المجموع مكفِّرات لذنوبه الصغائر. "إذا اجتُنبت الكبائر"، على صيغة الماضي المجهول، يعني: إذا اجتنب المصلي والصائم عن الكبائر حتَّى لو أتاها لا يغفر شيءٌ مما بينهن. قال الله تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]، وإنما قال: (إذا) دون (إن)؛ لأن الغالب من المسلم الاجتناب عن الكبائر. * * * 393 - وقال: "أرأيتُمْ لو أنَّ نهرًا ببابِ أحدِكُمْ يَغتسِلُ فيهِ كُلَّ يومٍ خَمْسًا، هل يَبقى مِنْ دَرَنه شيءٌ"، قالوا: لا، قال: "فذلكَ مَثَلُ الصَّلواتِ الخَمْسِ يمحُو الله بهِنَّ الخَطايا"، رواه أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -. "وعنه عن النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال: أَرَأَيْتُم"؛ أي: أخبروني. "لو أنَّ نهرًا بباب أحدِكم يغتسلُ فيه كل يوم خمسًا هل يبقى من درنه"؛ أي: وسخه، (من) فيه زائدة. "شيء؟ قالوا: لا"؛ أي: لا يبقى شيء. "قال: فذلك"؛ أي: النهر المذكور. "مَثَلُ الصلواتِ الخمس يمحو الله بهن الخطايا"؛ جمع خطيئة وهي الذنب؛ أي: يزيل ويغفر ببركة صلوات الخمس الذُّنوبَ الصغائر. * * *

394 - عن ابن مَسْعود - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلَا أَصابَ مِنْ امرأةٍ قُبْلةً، فأتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبَرَهُ، فأنزلَ الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}، فقالَ الرَّجُلُ: يَا رسولَ الله! ألي هذا خاصةً؟ قال: "لجميعِ أُمَّتي كلِّهم". وفي روايةٍ: "لَمِنْ عملَ بها مِنْ أُمَّتي". "وعن ابن مسعود: أن رجلًا أصاب من امرأة"، حال من قوله: "قُبْلَة"، قيل: ذلك الرَّجل أبو اليَسَر كعب بن عمرو (¬1) الأَنْصَارِيّ، صحابي مشهور كان يبيع التمر، فاتته امرأة فأعجبته، فقال لها: إن في البيت أجودَ من هذا التمر، فذهب بها إلى بيته فضمَّها إلى نفسه وقبَّلَها، فقالت: اتقِ الله، فندم. "فأتى النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - فأخبره"، فقال النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام -: أنتظر أمر ربي، فصلى العصر معه. "فأنزل الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ}، قال مقاتل: صلاة الفجر والظهر طرف، وصلاة العصر والمغرب طرف، وقيل أحد طرفيه صلاة الصبح والطرف الآخر صلاة الظهر والعصر؛ لأن ما بعد الزوال من العشي. {وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ}، جمع زُلْفة، وهي قطعة من الليل، والمراد صلاة العشاء، يعني: مَن صلى هذه الصلوات الخمس يُغفَر صغائر ذنوبه. " {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]، فقال الرجل: يَا رسول الله! أي هذا؟ "؛ أي: هذه الآية مختصة بي أم لجميع المسلمين؟. "قال: لجميع أمتي كلِّهم". ¬

_ (¬1) في "م" و"غ": "أبو اليَسَر عمرو بن غَزِية".

"وفي رواية: لمن عمل بها من أمتي". * * * 395 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا رسولَ الله! إنِّي أصَبْتُ حدًّا فأقِمْهُ عليَّ، ولم يسألهُ عنه، وحضَرَتِ الصَّلاةُ، فصلَّى مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا قضى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاةَ قامَ الرجُلُ، فقال: يَا رسولَ الله! إنِّي أصَبْتُ حدًّا فأقِم فيَّ كتابَ الله، قال: "أليسَ قَدْ صلَّيْتَ معنا؟ "، قال: نعم، قال: "فإنَّ الله قَدْ كَفرَ لكَ ذنبَكَ أو حدَّكَ". "عن أنس أنَّه قال: -: جاء رجل فقال: يَا رسول الله! إنِّي أصبتُ حَدًّا". من باب إطلاق اسم المسبب على السبب؛ أي: فعلت شيئًا يوجِب. الحدَّ. "فأقمه عليَّ"، قال أنس: "ولم يسأله"؛ أي: النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - ذلك الرَّجل "عنه"؛ أي: ذلك الذنب، قيل: لأنه - عليه الصلاة والسلام - عرف ذنبه، وغفرانه بطريق الوحي. "وحضرت الصلاة، فصلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - الصلاةَ قام الرجلُ فقال: يَا رسول الله! إنِّي أصبتُ حَدًّا، فأقمْ فيَّ كتاب الله"؛ أي: أقم عليَّ الحدَّ الذي ثبتَ بكتاب الله تعالى. "قال: أليس قد صليتَ معنا؟ قال: نعم، قال: فإن الله تعالى قد غفر لك ذنبك أو حَدَّك"، شكّ من الراوي، فيه دليل على أن الصغائر تُكفَّر بالحسنات، وكذا ما خَفِيَ من الكبائر؛ لعموم قوله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114]. وقوله - عليه الصلاة والسلام -: "أتبعِ الحسنةَ السيئةَ تَمْحُها"، وخطيئة

هذا الرَّجل في حكم المخفيِّ؛ لأنه ما بينهَا، أو يكون غفران الكبائر منه بأداء الصلاة حكمًا مختصًّا به. * * * 396 - وقال عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: سأَلتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمالِ أَحَبُّ إلى الله؟ قال: "الصَّلاةُ لوقتِها"، قلتُ: ثمَّ أيٌّ؟ قال: "برُّ الوالِدَيْنِ"، قلتُ: ثمَّ أي؟ قال: "الجهادُ في سبيلِ الله"، قال: حدَّثَني بهنَّ، ولو استَزَدْتُهُ لزادني. "وقال عبد الله بن مسعود: سألت النَّبِيّ - عليه الصلاة والسلام - أي الأعمال أحب إلى الله تعالى؟ قال: الصلاة لوقتها"؛ أي: أداؤها في أول وقتها. "قلت: ثم أي؟ "؛ أي: أيها أحبُّ؟ "قال: بِرُّ الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهادُ في سبيل الله - عز وجل - "، وفي حديث أبي ذَر حين سأل: أي العمل خير؟ قال: "إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيل الله". وقيل في حديث عائشة: "أحسنُ الأعمال الحجُّ"، وغير ذلك من الأحاديث الواردة في أفضل الأعمال. فالتوفيق بين هذه الأحاديث: أنَّه - عليه الصلاة والسلام - أجاب في كلِّ منها بما كان موافقًا لغرض السائل، أو ترغيبًا له فيما هو بصدده، أو إرشادًا له إلى ما هو الأصلَح. "قال": ابن مسعود، "حدَّثَني"؛ أي: النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، "بهنَّ"؛ أي: بالمذكورات من الأفضل فالأفضل. "ولو استزدتُه"؛ أي: لو سألتُه أكثرَ من هذه "لزادني" في الجواب. * * *

397 - وقال: "بينَ العبدِ وبينَ الكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاة"، رواه جابر. "وعن جابر أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بينَ العبدِ وبين الكُفْرِ تَرْكُ الصلاةِ"، متعلق (بين) محذوف، تقديرُه: تركُها وصلة بينه وبين الكفر؛ أي: يوصله إليه؛ لأن إقامتها هي الخصلة الفارقةُ بين الفئتين، فالتهاون بحفظها يكاد يُفضي بصاحبه إلى حد الكفر. ومن العلماء من كفَّر تاركها، ومنهم مَن لم يكفِّر، وحملوا الحديث على تركها جحودًا، أو على الزَّجْر والوعيد. * * * مِنَ الحِسَان: 398 - عن عُبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسُ صَلواتٍ افترضَهُنَّ الله تعالى، مَنْ أحسَنَ وُضُوءَهُنَّ، وصَلاَّهُنَّ لوقتهِنَّ، وأتمَّ رُكُوعَهُنَّ وخُشُوعَهُنَّ؛ كانَ لهُ على الله تعالى عنها أنْ يغفرَ له، ومَنْ لمْ يفعلْ فليسَ له على الله عهدٌ، إنْ شاءَ غفرَ له، وإنْ شاءَ عذَّبَه". "من الحسان": " عن عبادةَ بن الصامت أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خمس صلوات افترضهنَّ الله تعالى، مَنْ أحسنَ وُضوءَهنَّ"، إحسانه إكمالُه بمراعاة فرائضه وسننه وآدابه. "وصلاَّهنَّ لوقتهن، وأتمَّ ركوعهنَّ وخشوعهنَّ"، وهو حضور القلب وطمأنينةُ الأعضاء، والتواضع. "كان له على الله عهدٌ"، وهو حفظ الشيء ومراعاتُه حالًا فحالًا. "أن يغفرَ له" خبر مبتدأ محذوف، والجملة صفة (عهد) أو بدل منه، أو

يتعلَّق بـ[(عهد) بتقدير الباء الجارة، سمَّى ما كان منه تعالى على طريق المجازاة لعباده عهدًا على جهة مقابلة عهده على العباد، أو لأنه وعدَ القائمين بحفظ عَهْدِه ألاَّ يُعذّبَهم، ووعدُه حقيقٌ بأنه لا يخلفه، فسمى وعدَه عهدًا؛ لأنه أوثقُ من كل عَهْد. "ومن لم يفعل فليس له على الله عهدٌ"، بل يُوكَل إلى مشيئته تعالى. "إن شاء غفر له" فضلاً. "وإن شاء عَذَّبه" عَدْلاً، وهذا صريح بأنه لا يجب عقاب العاصي. * * * 399 - وقال: "صلُّوا خَمْسَكُمْ، وصُومُوا شَهْرَكُمْ، وأدُّوا زكاةَ أموالِكُمْ، وأطيعُوا ذا أمْرِكُمْ، تدخُلُوا جنَّةَ ربكُمْ" رواه أبو أُمامة. "وعن أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صَلُّوا خَمْسَكم"؛ أي: خمس الصلوات المفروضة عليكم. "وصوموا شهرَكم"؛ أي: رمضان. "وأدُّوا زكاةَ أموالكم، وأطيعوا ذا أَمْرِكم"؛ أي: صاحب أَمْرِكم وهو الخليفة وغيرُه من الأمراء. "تَدْخُلُوا" جواب الأوامر السابقة؛ يعني: فماذا فعلتم هذه الأشياء فجزاؤكم أن تدخلوا "جنةَ ربكم". * * * 400 - وقال: "مُرُوا أولادَكُمْ بالصَّلاةِ وهُمْ أبناءُ سَبع سِنينَ، واضرِبُوهُمْ عليها وهُمْ أبناءُ عَشْرِ سنين، وفرِّقوا بينهُمْ في المَضاجِعِ"، رواه سَبْرَة بن مَعْبَد الجُهَنيُّ. "وعن سَبْرَة بن مَعْبَد الجُهَني أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم: مُرُوا"، أمرٌ حُذفت همزته للتخفيف. "أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين"؛ يعني: إذا بلغ أولادُكم سبعَ سنين فأْمُروهم بأداء الصلاة ليعتادُوا أو يستأنِسُوا بها. "واضربوهم عليها"، على تركِ الصلاة. "وهم أبناء عشرِ سنين، وفَرِّقوا بينهم في المضاجع"، جمع المَضْجَع، وهو موضع الجَنْب بالأرض، يعني إذا بلغوا عشر سنين فَرّقوا بين الأخ والأخت في المَضْجَع؛ لأنه يحتمل فيها البلوغ، فربما يغلب الشهوة على المذكور فيفعلون فاحشةً بالإناث، فأمر عليه الصلاة والسلام بالتفريق بينهم حَذَرًا من ذلك. * * * 401 - وقال: "العَهْدُ الذي بينَنا وبينَهُمُ الصَّلاةُ فمَنْ تركَها فقدْ كَفَر"، رواه بُرَيْدَة. "وعن بُرَيدةَ أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: العَهْد الذي بيننا وبينهم"؛ أي: بين المنافقين. "الصلاةُ"، فهي الموجِبة لأمانهم وحَقْن دمائهم، والمشبه لهم بالمسلمين في حضور صلاتهم ولزوم جماعتهم، وانقيادهم للأحكام الظاهرة. "فمن تركَها"؛ أي: الصلاة. "فقد كفر"؛ أي: دخل في حكم الكفار لارتفاع ذلك العَهْد فيحل سَفْك دمه. قال عبد الله بن شَقِيق: كان أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يرون شيئًا من الأعمال تركُه كفرٌ غير الصلاة. * * *

2 - باب المواقيت

2 - باب المَواقيْتِ (باب المواقيت) مِنَ الصِّحَاحِ: 402 - عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لَمْ يحضُرِ العَصْرُ، ووقْتُ العَصْرِ ما لَمْ تصفَرَّ الشَّمسُ، ووقتُ صَلاةِ المَغربِ إذا غابتِ الشَّمسُ ما لَمْ يَسقُطِ الشَّفَقُ، ووقْتُ صَلاةِ العِشاءَ إلى نِصْفِ اللَّيْلِ الأَوْسَطِ، ووقْتُ صَلاةِ الصُّبْح مِنْ طُلُوعِ الفَجْرِ ما لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ، فإذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ فأَمْسِكْ عَنِ الصَّلاةِ، فإنَّها تَطْلُعُ بينَ قَرْني الشيطانِ". "من الصحاح": " عن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وَقْتُ الظهر"؛ أي: أولُ وقت الظهر "إذا زالت الشمس"، أي: مالت بعد الاستواء إلى جهة المغرب. "ما لم يحضُرِ العصر": وهذا يدل على أنْ لا فاصلةَ بين وقتيهما ولا مشترك بينهما، وعلى أن لا كراهة في تأخير الظهر إلى آخر الوقت. وعند مالك: إذا صار ظلُّ كل شيء مثلَه من موضع الزيادة، كان قَدْر أربع ركعات من ذلك مشتركًا بينهما. "ووقت العصر ما لم تصفرَّ الشمس"، والمراد منه: وقت الاختيار، لقوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث آخر: "مَن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر"، والحديث يدلُّ على كراهة التأخير إلى وقت الاصفرار.

"ووقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس ما لم يسقُط"؛ أي: لم يغرب "الشفق"؛ وهو الحمرة التي تلي الشمس بعد الغروب عند الشافعي وأبي يوسف ومحمد، والبياض الذي يكون بعد غروب الحُمْرة عند أبي حنيفة. وهذا يدل على امتداد وقت المغرب إلى سقوط الشَّفَق، فلو سقط بعضه لا يدخل وقت العشاء كما لا يدخل وقتُ المغرب بغروب بعض القُرْص، وتأخير المغرب إلى آخر الوقت أقلُّ كراهة بالنسبة إلى تأخير العصر. "ووقت صلاة العشاء إلى نصف الليل الأوسطِ"، صفة الليل؛ أي: بقدْر نصف ليل أوسطَ لا طويلِ ولا قصيرِ، وهذا وقتُ الاختيار أيضًا؛ لأن وقت الجواز يمتد إلى طلوع الفجر. "ووقت صلاة الصبح من طلوع الفجر"، وهو تبيُّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ويدخل وقته بأدنى الطلوع. "ما لم تطلع الشمس": ولا كراهة في تأخيرها إلى آخر الوقت. "فإذا طلعت الشمس فأمسِك عن الصلاة"؛ أي: اتركْها. "فإنها"؛ أي: فإن الشمس "تطلع بين قَرْنيَ الشيطان"؛ أي: بين جانبي رأسه، وذلك أن الشيطان يقف عند طلوع الشمس مستدبرًا لها مستقبلًا لسجود مَن يسجد لها؛ ليكون ذلك عبادة له، فنهى - عليه الصلاة السلام - عن الصلاة في هذا الوقت كراهةَ موافقة عُبَّادِ الشمس. وقيل: المراد بقرنيه: حزباه السابقون واللاحقون بالليل والنهار. وقيل: هو من باب التخييل، تشبيهًا له بذوات القرون التي تناطح الأشياء؛ لأن اللعين مناطِحٌ للحق ومدافع له. * * *

403 - عن بُرَيْدة: أنَّ رجلًا سألَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عنْ وَقْتِ الصَّلاةِ فقال: "صَلِّ مَعَنا هذَيْنِ" يعني: اليَوْمَيْنِ، فلما زالتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بلالاً فأذَّنَ، ثم أَمَرَهُ فأقامَ الظُّهْرَ، ثمَّ أَمَرَهُ فأقامَ العَصْرَ والشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ بيضاءُ نقيَّه، تمَ أمَرَهُ فأقامَ المَغْرِبَ حِينَ غابَتِ الشَّمْسُ، ثم أمَرَهُ فأقامَ العِشاءَ حِينَ غابَ الشَّفَقُ ثمَّ أمَرَهُ فأقامَ الفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الفجر، فلمَّا أن كانَ اليَوْمُ الثَّاني أمَرَهُ فأبْرَدَ بالطهْرِ فأنْعَمَ أنْ يُبْرِدَ بها، وصلى العَصْرَ والشَّمْسَ مُرتفعةٌ، أخَّرَها فَوْقَ الذي كان بالأمس، وصلَّى المَغْرِبَ قَبْلَ أَنْ يَغيبَ الشَّفَقُ، وصلَّى العِشاءَ بَعْدَما ذَهَبَ ثُلُثُ اللَّيْلِ، وصلَّى الفَجْرَ فأسْفَرَ بها، ثمَّ قال: "أينَ السَّائلُ عَنْ وَقْتِ الصَّلاةِ؟ "، فقالَ الرَّجُلُ: ها أنا، يا رسولَ الله، قال: "وَقْتُ صَلاتِكُمْ بينَ ما رأيْتُمْ". "وعن بريدة: أن رجلًا سأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن وقت الصلاة فقال: صل معنا هذين اليومين، فلما زالت الشمس أمر بلالاً فأذن، ثم أمره فأقام الظهر": نصب بنزع الخافض؛ أي: للظهر. "ثم أمره فأقام العصرَ والشمسُ مرتفعةٌ"؛ أي: في أول وقته. "بيضاءُ"؛ أي: لم يختلِط بها صفرة. "نقيةٌ"؛ أي: طاهرة صافية من الاصفرار؛ يعني: أي في أول وقته. "ثم أمرَه فأقام المغرب حين غابت الشمس، ثم أمره فأقام العشاء حين غاب الشَّفَق، ثم أمره فأقام الفجر حين طلع الفجر، فلما أنْ كان"، (أن) هذه زائدة و "كان" تامة؛ أي: دخلَ "اليومُ الثاني أمرَه فأبردَ بالظهر"، قيل: معنى الإبراد: انكسارُ شدة حَرِّ الظهيرة. "أنعم أن يبرِد بها"، الباء للتعدية؛ أي: زاد على الإبراد في صلاة الظهر وبالغ فيه حتى تمَّ انكسار الحَر. "وصلى العصرَ والشمسُ مرتفعةٌ أَخرها"؛ أي: صلاة العصر في اليوم الثاني.

"فوقَ الذي كان" بالأمس. "وصلى المغرب قبلَ أن يغيب الشفقُ"؛ يعني صلاها في آخر الوقت. "وصلى العِشاء بعد ما ذهب ثلثُ الليل، وصلى الفجر فأسفرَ بها"، الباء للتعدية؛ أي: صلاها وقت الإسفار، وهو الإضاءة. "ثم قال: أين السائل عن وقت الصلاة؟ فقال الرجل: أنا"؛ أي: السائل أنا "يا رسول الله، قال: وقتُ صلاتكم بين ما رأيتم"؛ أي: هذا الوقت المقتصِد الذي لا إفراطَ فيه تعجيلًا ولا تفريطَ فيه تأخيراً. * * * مِنَ الحِسَان: 404 - عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَّني جِبرِيلُ عند بابِ البَيْتِ مَرَّتِيْنِ، فصلَّى بيَ الظُّهْرَ حِينَ زالَتِ الشَّمْسُ وكانَ الفَيْءُ مِثْلَ الشِّراكِ، وصلَّى بيَ العَصْرَ حِينَ كانَ كُلُّ شيءٍ مثلَ ظِلِّه، وصَلَّى بيَ المَغْرِبَ حِينَ أفطَرَ الصَّائمُ، وصلَّى بيَ العِشاءَ حِينَ غابَ الشَّفقُ، وصلَّى بيَ الفَجْرَ حِينَ حَرُمَ الطَّعامُ والشَّرابُ على الصَّائِمِ، وصلَّى بيَ الغَدَ الظُّهْرَ حِينَ كانَ كُلُّ شيءٍ مِثْلَ ظلِّهِ، وصلَّى بيَ العَصْرَ حِينَ كانَ ظِلُّ كُل شيءٍ مِثْلَيْهِ، وصلَّى بيَ المَغْرِبَ حِينَ أفطَرَ الصَّائمُ، وصلَّى بيَ العِشاءَ حِينَ ذهبَ ثُلُثُ الليلِ، وصلَّى بيَ الفَجْرَ حِينَ أسفَرَ، ثمَّ التفتَ إليَّ فقال: يا مُحمَّدُ، هذا وَقْتُ الأنبياءِ مِنْ قبلِكَ، والوقتُ ما بينَ هذينِ الوَقْتَيْنِ". "من الحسان": " عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أمَّني جِبْرَائيل"؛ أي: صار إمامًا لي.

"عند باب البيت"؛ أي: الكعبة. "مرَّتين"؛ أي: في يومين؛ ليعرِّفَني كيفية الصلاة وأوقاتَها. "فصلى بي"، الباء للمصاحبة والمعية؛ أي: صَلَّى معي "الظهرَ حين زالت الشمس، وكان الفيءُ"؛ أي: الظِلّ الراجع من النقصان إلى الزيادة. "مِثلَ الشِّرَاك"؛ أي: كان بقدْر شِراك النعل، وهذا على وجه التقدير لا التحديد؛ لأن زوال الشمس لا يتبيَّنُ بأقلَّ ما يُرى من الظل في جانب المشرق، وكان حينئذٍ بمكة هذا القَدْر والظِّلُّ يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكل بلد هو أقربُ إلى خط الاستواء ومعدَّل النهار كان الظل فيه أقصرَ، وكل بلد كان أبعدَ عنهما إلى جانب الشمال كان فيه أطولَ. "وصلى بي العصرَ حين كان ظِلُّ كل شيء مثلَ ظِلِّه"، معناه: زاد ظِلّ كل شيء عن مثلِه أَدْنىَ زيادة. "وصلى بي المغربَ حين أفطر الصائم"؛ يعني بعد غروب الشمس؛ لأن الصائم يُفطر في هذا الوقت. "وصلى بي العِشاء حين غاب الشفق، وصلى بي الفجرَ حين حَرُمَ الطعامُ والشراب على الصائم"؛ يعني: أول طلوع الفجر الثاني. "وصلَّى بي الغداةَ"؛ أي: صلى في اليوم الثاني "الظهرَ حين كان كلُّ شيء مثلَ ظِلِّه، وصلى بي العصر حين كان ظِلّ كلِّ شيءٍ مثليه، وصلى بي المغرب حين أفطر الصائم، وصلى بي العشاء حين ذهب ثلثُ الليل، وبي الفجر حين أسفرَ"؛ أي: أضاء. "ثم التفتَ"؛ أي: نظرًا "إليَّ" جبرائيل عليه السلام. "فقال: يا محمدا هذا وقت الأنبياء من قبلِك"، إذ المحافظةُ عليه شاقّةٌ على النفس لا يقدِر عليها إلا المراعون للظلال والمنتظِرون للصلوات.

3 - باب (تعجيل الصلاة)

"والوقت"؛ أي: الوقت المستحبُّ الذي لا حرج فيه "ما بين هذين الوقتين"، فيجوز الصلاة في أَوَّلِه وأوسطِه وآخرِه. * * * 3 - باب (تَعْجيل الصلاةِ) (باب تعجيل الصلاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 405 - قال أبو بَرزة الأسْلَميُّ - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي الهَجيرَ التي تَدْعونهَا الأُولى حينَ تَدْحَضُ الشَّمْسُ، ويُصلِّي العصرَ ثمَّ يجيءُ أحَدُنا إلى رحلِهِ في أقصى المدينةِ والشمسُ حَيَّة، ونسَيتُ ما قالَ في المَغرِبِ، وكانَ يَستحِبُّ أنْ يُؤَخِّرَ العِشاءَ، ولا يُحِبُّ النَّوْمَ قبلَها والحديثَ بعدَها، وكان يَنفتِلُ مِنْ صلاةِ الغَداةِ حينَ يَعرِف الرجُلُ جَليسَهُ، ويقرأ بالستِّينَ إلى المئةِ، وفي روايةٍ: ولا يُبالي بتأخيرِ العِشاء إلى ثُلُثِ اللَّيْل. "من الصحاح": " قال أبو بَرْزَة الأسْلَمي: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلِّي الهجيرَ"، وهو الظهرُ في لغة بعض العرب، سُمي الظهر هَجِيراً؛ لأنها تصلَّى في الهاجرة، وهي وقت انتصاف النهار؛ يعني: يصلي صلاة الظهر. "التي تَدْعُونها"؛ أي: تسمُّونها الصلاة. "الأولى حين تَدْحَضُ الشمس"؛ أي: تزول عن وسط السماء إلى جهة المغرب؛ لأنها إذا انحطَّت للزوال فكأنها دَحَضَتْ؛ أي: زَلقَتْ.

وغرض الراوي: أن يعرف المخاطَبين أن الهجيرَ والأُولى والظهرَ واحدٌ. "ويصلي العصر، ثم يرجع أحدُنا إلى رحله"؛ يعني يصلِّي أحدُنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العصرَ، ثم يذهب إلى بيته. "في أقصى المدينة"؛ أي: آخرها. "والشمس حَيَّةٌ"؛ أي: باقٍ لونُها على صفاته وقوته لم يتغيَّر إلى الصفرة، وكل ما ضَعُفَ قُوَّته فكأنه قد مات. قال عوف: وهو راوي هذا الحديث عن أبي بَرْزَة. "ونسيت ما قال" أبو بَرْزَة. "في المغرب"؛ أي: في وقت صلاة المغرب. "وكان"؛ أي: الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. "يستحبُّ أن يؤخِّر العِشاء"؛ أي: يحبُّ تأخيرَها. "ولا يحب النوم قبلَها"، بل كان يجلِس ويذكر الله تعالى، فالتأخير بشرط عدم النوم قبلها مستحَبٌ. "ولا الحديث بعدها"، لا يحبُّ الحديث بعد صلاة العشاء. "وكان ينفتِلُ"؛ أي: ينصرف، يعني: يفرغُ "من صلاة الغداة"؛ أي: الصبح. "حين يعرِف الرجل جليسَه"؛ يعني حين يرى كل واحد من الجماعة مَن هو يقرُبه من ضوء الصبح. "ويقرأ"؛ أي: في صلاة الصبح "بالستين"، الباء زائدة؛ أي: يقرأ فيها ستين آية، وربما يزيد "إلى المئة"، وهذا التفسير أنسَبُ بمذهب الشافعي. وقيل: معناه: يسَعُ الوقت بعده لقراءة ستين آية إلى المئة، وهذا أنسبُ

بمذهب أبي حَنيفة. "وفي رواية: لا يبالي بتأخير العِشاء إلى ثلث الليل. * * * 406 - وسُئل جابر - رضي الله عنه - عَنْ صلاةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: كانَ يُصلِّي الظُّهرَ بالهاجرةِ، والعصرَ والشَّمسُ حيَّةٌ، والمغربَ إذا وَجَبَتْ، والعِشاءَ إذا كَثُرَ النَّاسُ عَجَّلَ وإذا قفُوا أخَّر، والصُّبحَ بغَلَسٍ. "وسُئلَ جابر عن صلاة النبي عليه الصلاة والسلام فقال: كان يصلي الظهر بالهاجرة"، وهي شدة الحرارة، يعني يصلي في أول الوقت. "والعصر"؛ أي: يصلي العصر. "والشمسُ حَيَّةٌ والمغرب إذا وجَبَت"؛ أي: سقطت الشمس للمغيب. "والعِشاءَ إذا كَثُرَ الناسُ عَجَّلَ، وإذا قلُّوا أَخَّر"، والجملتان الشرطيتان في محل النصب حالان من الفاعل. "والصبحَ بغَلَس"؛ وهي ظلمة آخر الليل مختلطة بضوء الصبح، يعني كان يصلي الصبحَ في أول الوقت. * * * 407 - قال أنس - رضي الله عنه -: كُنَّا إذا صلَّيْنا خلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالظَّهائرِ سجَدْنا على ثِيابنا اتِّقاءَ الحرِّ. "وقال أنس: كنَّا إذا صلَّينا خلف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالظَّهائر"، جمع الظهيرة وهي نصف النهار، أراد به ظهرَ كلِّ يوم، والباء زائدة. "سجدْنا على ثيابنا اتقاءَ الحَرِّ"؛ أي: احترازًا وحَذَراً من احتراق جباهِنا

من غاية الحرارة؛ يعني: كنا نصلِّي الظهرَ في أول وقته. وفيه دليل: على أن المصلي لو سجد على ثياب بدنِه يجوز، وإليه ذهب أكثرُ الفقهاء، ولم يجوِّزه الشافعي متأوِّلاً الحديث على ثوب هو غير لابسِه. * * * 408 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اشتدَّ الحرُّ فأَبرِدُوا بالصَّلاة"، وفي رواية: "بالظُّهرِ، فإنَّ شِدَّةَ الحرِّ مِنْ فَيْح جهنَّمَ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا اشتدَّ الحَرُّ فأبرِدُوا بالصلاة"؛ أي: بصلاة الظهر. "وفي رواية: بالظهر، فإن شدة الحَرِّ من فَيْح جهنم"، فيحُها سطوعُ حَرِّها وانتشاره، أو غليانها، يعني: شدةُ حَر الصيف من حرارة جهنم، فالإبراد بالظهر في شدة الحَرِّ. قيل: مندوب لطالب الجماعة أخذًا بهذا الحديث. وقيل: التعجيل أَولى لحديث خَبّاب أنه قال: "شكونا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حَرَّ الرَّمْضاء في جباهنا وأَكُفِّنا، فلم يُشْكِنا"؛ أي: لم يُزِلْ شكوانا؛ يعني: لم يرخِّص لنا في التأخير. * * * 408/ -م - "واشْتكَتِ النَّارُ إلى ربها، فقالت: يا ربِّ! أكلَ بعضي بعضاً، فأَذِنَ لها بنفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشتاءِ ونَفَسٍ في الصيف، أشد ما تجدُونَ مِنَ الحرِّ، وأشدُّ ما تجدُونَ مِنَ الزَّمْهرير". "واشتكت النار إلى ربها": جملة مبينة للأُولى، وإن دخلت الواو بين البيان والمبين.

"فقالت: ربي! كلَ بعضي بعضاً"، اشتكاؤها من أكلِ بعضها بعضاً مَجازٌ عن كثرتها وغليانها بحيث يَضيق عنها مكانُها، فيسعى كل جزء منها في إفناء الآخر واستيلائه على مكانها. "فأذِنَ لها بنفَسَين"، نفسُها لهبُها وخروجُ ما يَظهَرُ منها. "نَفَسٍ في الشتاء، ونَفَسٍ في الصيف، أشدُّ"، بالرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: ذلك أشدّ "ما تَجِدون من الحَرِّ"، بيان الماء الموصول من حرها؛ أي: حرِّ نار جهنم، وروي: بنصب (أشدَّ) صفة لـ (نَفَسَين) أو بدلًا عنه. "وأشدُّ ما تَجدون من الزَّمْهَرِير"؛ وهو البرد الشديد من زَمْهَريرها، فعُلم منه أن في النار شدةَ الحَرِّ وشدةَ البرد. قيل: كلٌّ منهما طبقةٌ من طبقات الجحيم، وهذا من جملة الحكمة الإلهية، حيث أظهر آثار الفيح في زمان الحَرِّ، وآثار الزَّمْهَرير في زمان الشتاء لتعودَ الأمزجة بالحَرِّ والبرد، فلو انعكس لم يتحمَّلْه، أو لأن الباطن في الصيف بارد فيقاوم حَرَّ الظاهر، وفي الشتاء حَرٌّ فيقاوم برد الظاهر. وأما اختلاف حَرِّ الصيف وبرد الشتاء في بعض الأيام فلعله تعالى يأمر بأن تُحفظ تلك الحرارة في موضع، ثم يرسلَها على التدريج حفظاً لأبدانهم وأشجارهم، وكذلك البرد. * * * 409 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي العَصْرَ والشَّمْسُ مُرتفِعة حيَّة، فيذهبُ الذَّاهبُ إلى العَوالي، فيأْتيهِمْ والشَّمْسُ مُرتفعة، وبعضُ العَوالي مِنَ المدينةِ على أربعةِ أمْيالٍ أو نحوِهِ. "وقال أنسٌ: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلِّي العصر

والشمسُ مرتفعةٌ حيَّةٌ، فيذهب الذاهبُ"؛ أي: يذهب واحد بعد صلاة العصر "إلى العوالي": جمع عالية وهي أماكن معروفة بأعلى أراضي المدينة. "فيأتيهم"؛ أي: يرجع إلى المدينة. "والشمسُ مرتفعةٌ" لم تصفر؛ يعني: كان يصلي العصر في أول وقته. "وبعض العَوالي من المدينة على أربعة أميال"، جمع ميل، وهو ثلث فرسخ، والفرسخ اثنا عشر ألف خطوة، وكل خطوة ثلاث أقدام. "أو نحوها"؛ أي: نحو المقدار المذكور يعني: قريب من ذلك، وأبعدُ العوالي من جهة نجد على ثمانية أميال. * * * 410 - وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تلْكَ صلاةُ المُنَافِقِ، يجلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْس، حتى إذا اصفرَّتْ، وكانتْ بينَ قَرْنيَ الشَّيطانِ؛ قامَ فنقرَ أربعاً لا يذكُرُ الله فيها إلَّا قليلاً". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تلك"، إشارة إلى المذكور حكمًا؛ أي: صلاةُ العصر التي أُخّرت إلى الاصفرار "صلاةُ المنافقين"، فبيَّنهَا بقوله: "يجلِسُ يرقُبُ الشمس"؛ أي: يرصُد وينتظر دنَوَّ الشمس من المغرب، وهي جملة حالية أو استئنافية. "حتى إذا اصفرَّت"؛ أي: الشمس. "وكانت بين قَرنيَ الشيطان" قَرُبَت من الغروب. "قام فنقَرَ أربعاً"؛ أي: أربع ركعات، من نقرَ الطيرُ الحباتِ إذا لقطَها بمنقاره سريعًا، يعني صلاَّها خفيفة بلا طمأنينة وخشوع ولا رعايةِ تَعْدِيل. "لا يذكر الله فيها إلا قليلًا"، فإنَّ مَن أخر صلاة العصر إلى الاصفرار فقد

شَبَّه نفسَه بالمنافقين، فإنهم لا يصلُّون عن اعتقاد حقيقتها, ولا يبالون بتأخيرها، فلا ينبغي للمسلم أن يفعل ما يفعلونه. * * * 411 - وقال: "الذي تفُوتُهُ صَلاةُ العصرِ فكأنَّما وترَ أهلَهُ ومالَهُ"، رواه ابن عمر. "وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الذي تفوته صلاة العصر فكأنه وترَ"، مجهولاً؛ أي: نقصَ وأُهْلِك. "أهلُه ومالُه"؛ يعني فوتُ ثواب صلاة العصر عنه أكثر خساراً من فوت أهله وماله. وقيل: معناه: فليكن حذرُه من فوتها كحذَره من ذهابهما، وإنما أوعده بهذا؛ لأنه وقت اشتغال الناس بتجاراتهم ومعايشهم لأهليهم ونفوسهم، وذلك مَظِنَّة الفَوت أو التفويت مع ما فيها من الفضيلة. * * * 412 - وقال: "مَنْ تَرَكَ صلاةَ العَصْرِ حَبطَ عملهُ"، رواه بُريدة. "وعن بُرَيدةَ عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: مَن ترك صلاة العصر حَبطَ عملُه"؛ أي: نقص ثوابُ عملِ ذلك اليوم؛ لأنها خاتمة فرائض النهار، فإذا فاتته بقي عمل نهاره أبترَ لا يكمل ثوابه، فتعبيره بالحبوط - وهو البطلان - للتهديد. * * * 413 - قال رافِع بن خَدِيج: كُنَّا نُصلِّي المغربَ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فينصرِفَ

أحدُنا وأنَّه ليُبصِرُ مَواقِعَ نبلِهِ. "وقال رافع بن خُدَيج: كنا نصلي المغرب مع النبي - عليه الصلاة والسلام - فينصرفُ أحدُنا"؛ أي: من الصلاة. "وإنه ليبصِرُ مواقع نبلِه"، جمع موقع: وهو موضع الوقوع، والنبل السهمُ؛ يعني: يصلي المغرب في وقت لو رمى أحدنا سهمه لأبصره أين يقع، وهذا دليل على تعجيل المغرب. * * * 414 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانُوا يُصلُّونَ العَتَمةَ فيما بينَ أنْ يَغيبَ الشَّفَقُ إلى ثُلُثِ اللَّيْلِ الأولِ. "وقالت عائشة: كانوا يصلُّون العَتَمة"؛ يعني صلاة العشاء. "فيما بين أن يغيبَ الشفقُ إلى ثلث الليلِ الأولِ"، ولعل قولها: (العَتَمة) للعشاء قبلَ ورود النهي عن تسميته بذلك، وفيه استحباب تأخير العشاء. * * * 415 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيُصلِّي الصُّبحَ، فتَنصَرِف النِّساءُ مُتَلفِّعات بمُرُوطِهِنَّ ما يُعْرَفْنَ مِنَ الغَلَسِ. "وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لَيُصَلِّي"، اللام فيه للابتداء، وقد دخل الخبر، وهو جائز عند الكوفية على تقدير مبتدأ محذوف عند البصرية؛ أي: لهو يصلي. "الصبحَ، فتنصرِف النساءُ متلفِّعات"، نصب على الحال؛ أي: متلحّفَات "بمروطِهَّن": جمع المِرْط وهو المِلْحَفة. "ما يُعرَفْنَ من الغَلَس" أنها امرأة أم رجل، وبهذا قال الشافعي: التغليس

بالفجر أفضلُ، وعليه الأكثر، وبعضهم ذهب إلى أن الإسفار أفضل. * * * 416 - وعن قَتادة، عن أنس: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - وزيدَ بن ثابتٍ تَسحَّرا، فلمَّا فَرَغا مِنْ سَحُورِهما قامَ نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الصَّلاةِ فصلَّى، قُلنا لأنس: كَمْ كانَ بينَ فَراغِهِما مِنْ سَحُورِهما ودُخُولهما في الصَّلاةِ؟ قال: قدرُ ما يقرأُ الرجُلُ خمسينَ آيةً. "عن قَتادة عن أنس: أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم وزيدَ بن ثابت تسحرا"؛ أي: أكلا السحور. "فلما فرغا من سَحُورهما قام نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى الصلاة"؛ أي: إلى صلاة الصبح. "فصلى، قُلْنا لأنس: كم كان"، (كم) هذه استفهامية مبتدأ وخبرها الجملة؛ أي: كم زمانا كان "بين فراغهما"؛ أي: فراغ النبي - عليه الصلاة والسلام - وزيد بن ثابت. "من سَحُورِهما وفي خولهما في الصلاة؟ قال: قَدْرَ" بالنصب خبر لـ (كان) المقدرة؛ أي: كان المقدار ما بينهما قَدْرَ. "ما يقرأ الرجلُ خمسين"، ويجوز الرفع، خبر مبتدأ محذوف، وهذه الفاصلة بين أكلِ السَّحور والدخولِ في الصلاة لا يجوز لكل أحدٍ، وإنما جاز للنبي - عليه الصلاة والسلام - لأنه كان عارفًا بدخول الصبح من طريق الوحي والمعجزة، فإن كان رجلٌ حاذقٌ عارفٌ بدخول الصبح يقينًا بعلم النجوم جاز له هذا التأخير أيضًا إلى هذه المقدار. * * *

417 - عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال لي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذَرٍّ! كيفَ بِكَ إذا كانتْ عليكَ أُمراءُ يُميتُونَ الصَّلاةَ - أو قال: يُؤَخِّرُونَ الصَّلاةَ؟ "، قلتُ: يا رسولَ الله فما تأمُرُنِي؟ قال: "صَل الصَّلاةَ لِوَقْتِهَا، فإنْ أَدْركتَها معهُمْ فصلِّها؛ فإنَّها لك نافِلَة". "وعن أبي ذر أنه قال: قال لي النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أبا ذر! كيف بك"؛ أي: كيف الحال أو الأمر بك "إذا كانت عليك أُمراءُ": جمع أمير، ومُنع صرفه لألف التأنيث. "يميتون الصلاة"؛ يعني يضيعونها ويؤخرونها إلى آخر الوقت لعدم المبالاة بها. "أو قال: يؤخرون الصلاة"، شك من الراوي، وإنما ذكر الأمراء؛ لأنهم كانوا الخطباءَ في ذلك الزمان، والأئمة بالناس؛ يعني: إذا رأيتهم يؤخرونها أفَتُوافِقُهم في التأخير أم لا؟. "قلت: يا رسول الله! فما تأمرني؟ قال: صَلِّ الصلاةَ لوقتها"؛ أي: في أول الوقت ولا تؤخرها. "فإن أدركتَها معهم فصلِّهْ"، الهاء للسكت، أو كناية يعود إلى ما أدرك، ويروى: "فصلِّ" و"فصلِّها". "فإنها لك نافلة" وهذا دليل على أن الصلاة في أول الوقت أفضلُ، ولا يستَحبُّ ترك فضيلة أولِ الوقت؛ لأجل إمام يؤخر الصلاة، وعلى سُنية إعادة الفرض بالجماعة خلافًا لمن كره ذلك، وعلى أن الثاني نقل خلافًا لمن قال: إن الأُولى أو واحدة منهما لا على التعيين نفل. * * *

418 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أدركَ ركعةً مِنَ الصُّبْح قبلَ أنْ تطلُعَ الشَّمْسُ فقدْ أدركَ الصُّبْحَ، ومَنْ أدركَ ركعةً مِنَ العَصْرِ قبلَ أنْ تغرُبَ الشَّمْسُ فقدْ أدركَ العَصْر". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن أدركَ ركعةً مِن الصبح"؛ أي: بركوعها وسجودها. "قبلَ أن تطلُعَ الشمس فقد أدرك الصبحَ، ومَن أدركَ ركعةً من العصر قبل أن تغربَ الشمس فقد أدرك العصر"، قيل: معناه فقد أدركَ وقتَها، فإنَّ مَن لم يكن أهلاً للصلاة فصار أهلاً، وقد بقي من الوقت قَدْرُ ركعة لزمته تلك الصلاة. وقيل: معناه فقد أدرك فضيلةَ تلك الصلاة مع الجماعة. * * * 419 - وقال "إذا أَدْرَكَ أحدكمْ سَجدةً مِنْ صلاةِ العصرِ قبلَ أَنْ تغرُبَ الشَّمْسُ فلْيتمَّ صَلاتَهُ، وإذا أدركَ سَجدةَّ مَنْ صَلاةِ الصُّبح قبلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمسُ فلْيتمَّ صَلاتَه"، رواه أبي هريرة. "وعنه عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إذا أدركَ أحدكم سجدةً"؛ أي: ركعة، سميت الركعة سجدة؛ لأن تمامَها بها. "من صلاة العصر قبل أن تغربَ الشمسُ فليتمَّ صلاتَه"؛ أي: ليمضيَ فيها ولا يقطعها في أثنائها. "وإذا أدركَ سجدةً من الصبح قبل أن تطلعَ الشمس فليتمَّ صلاته"، والحديث يدل على أن مَن صلى ركعة في الوقت والباقي خارجَه لا يكون كمن صلى الكلُّ خارجَ الوقت. قيل: يكون جميعها أداءً، وقيل: قضاءً، وقيل: القَدْر الواقع فيه أداء،

والقَدْر الخارج قضاء، وإن من طلعت عليه الشمس وهو في صلاة الصبح، أو غربت وهو في صلاة العصر فإن صلاته لا تبطل، وعند أبي حنيفة: تبطل بالطلوع دون الغروب. * * * 420 - وقال: "مَنْ نَسِيَ صَلاةً أو نامَ عَنْها، فكَفَّارتُها أنْ يُصلِّيَها إذا ذكرها"، رواه أنس، وفي روايةٍ: "لا كفَّارَة لها إلَّا ذلك". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه سلم: من نَسِيَ صلاة أو نام عنها"؛ أي: كان نائماً "حتى تفوتَ الصلاة فكفارتُها أن يصلِّيهَا إذا ذكرها"، وليس عليه إثم إذا قضاها؛ لأنه لا تقصيرَ منه في النسيان والنوم. "وفي رواية: لا كفارةَ لها إلا ذلك"؛ يعني لا يكفِّرُها غير قضائها، أو لا يلزمه في نسيانها غرامة ولا زيادة تضعيف، ولا كفارة من صدقة كما مِن ترك الصوم من رمضان بلا عُذْر، وكما يلزم المُحْرِم إذا ترك شيئًا من فِدية من دم أو طعام. والحديث يدلُّ على أن الفائتة المتذكَّرة لا تؤخَّر. * * * 421 - وقال: "ليسَ في النَّوْمِ تَفْريطٌ، إنَّما التَّفريطُ في اليَقَظَةِ، فإذا نَسِيَ أحدكمْ الصلاة أو نام عنها فليصلِّها إذا ذكَرها"، رواه أبو قَتادة. ورواه أبو هريرة - رضي الله عنه -، وزاد: "قالَ الله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ". "عن أبي قَتادة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس في النوم تفريط"؛ أي: تقصير في فوت الصلاة "إنما التقصير في اليقظة"؛ أي:

التقصير إنما يكون إذا لم يكن الرجل نائماً ولا ناسيًا وترك الصلاة عامدًا حتى تفوت. "فإذا نسي أحدكم صلاةً أو نام عنها فليصلِّها إذا ذَكَرَها، فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ": اللام تعني الوقت والحسين؛ أي: وقت ذِكْرِ صلاتي. * * * مِنَ الحِسَان: 422 - عن علي كرَم الله وجهه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يا عليُّ! ثلاثٌ لا تُؤخِّرْها: الصَّلاةُ إذا أتتْ، والجنازةُ إذا حَضَرَتْ، والأيمُ إذا وجدْتَ لها كفْؤاً". "من الحسان": " عن عليٍّ - رضي الله عنه - أن النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال له: يا علي! ثلاث لا تؤخِّرْها: الصلاةُ إذا آتت"، على وزن حانت، من: آنَ يئين أَيْنًا: إذا دخل الوقت، وقيل: مِن أَنى يَأْنىَ بمعنى: حان. "والجنازة إذا حضرتْ"، وهذا يدل على عدم كراهة صلاتها في الأوقات المكروهة. "والأَيم" بتشديد الياء: المرأة بلا زوج بِكرًا كانت أو ثَيبًا. "إذا وجدتْ لها كفْواً"، وهو المِثْل، وكُفْوُ النكاح أن يكون الرجلُ مثلَ المرأة في الإِسلام والحرية والصلاح والنَّسَب. * * *

423 - وقال عليه السلام: "الوقْتُ الأوَّلُ مِنَ الصَّلاةِ رِضْوانُ الله، والوقتُ الآخِرُ عَفْوُ الله"، رواه ابن عمر. "وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الوقت الأول من الصلاة"؛ أي: التعجيلُ فيه. "رضوانُ الله"؛ لأنه عجَّل إلى الله وهو مؤدٍّ إلى رضاه. "والوقت الآخر عفوُ الله"، وبهذا قال الشافعي: تعجيل الصلوات في أول الأوقات أفضل؛ لأن العفو يتبع التقصير. وعند أبي حنيفة تأخير الصبح إلى الإسفار، والعصر ما لم تتغير الشمس، والعشاء إلى ما قبل ثلث الليل أفضل؛ لأن في تأخيرهن فضيلةَ انتظارِ الصلاة، وتكثير الجماعة ونحوهما، فالعفو يجيء بمعنى الفضل، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} [البقرة: 219] يعني: أنفقوا ما فضَلَ عن قُوتكم وقُوتِ عيالكم، فالمعنى: في آخر الوقت فضلُ الله كثير. * * * 424 - وعن أُمِّ فَرْوَة رضي الله عنها قالت: سُئلَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الأعمالِ أفضَلُ؟ قال: "الصَّلاةُ لأِوَّلِ وَقْتِها"، ضعيف. "عن أم فَرْوَةَ أنها قالت: سئل النبي - عليه الصلاة والسلام -: أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاةُ لأولِ وقتِها"، اللام بمعنى (في)؛ أي: في أول وقتها. "ضعيف". * * *

425 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما صَلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلاةً لِوَقْتِها الآخِرِ مَرَّتَيْنِ حتَّى قبضَهُ الله تعالى. "عن عائشة أنها قالت: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً لوقتها الآخِرِ مرتين حتى قبضَه الله تعالى"؛ يعني صلى عليه الصلاة والسلام كلَّ صلاة في آخر وقتها مرةً واحدة لتعليم آخر وقتها, ولم يصلِّها مرة أخرى في آخر الوقت، بل صلاَّها في أوله، وهذا دليل على فضيلة أولِ الوقت. * * * 426 - وقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَزالُ أُمَّتي بخيرٍ ما لَمْ يُؤخِّرُوا المَغربَ إلى أنْ تَشتبكَ النُّجومُ"، رواه أبو أيُّوب. "وعن أبي أيوبَ أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تزال أمتي بخير ما لم يؤخِّروا المغرب إلى أن تشْتَبك النجوم"، واشتباكُها أن يختَلِطَ بعضُها ببعض حتى تفسير السماءُ بطلوعها كالشبابيك، يعني: تكون أمتي مشغولين بالخير إذا عجَّلُوا أداء صلاة المغرب قبل أن تَظهرَ نجوم كثيرة، فإن أَخَّروها إليه لم يكونوا كذلك، وهذا يدل على أن الكراهة بمجرد الطُّلوع. * * * 427 - وقال: "لولا أنْ أشُقَّ على أُمَّتي لأَمرْتُهُمْ أنْ يُؤخِّرُوا العِشاءَ إلى ثُلُثِ اللَّيْلِ أو نِصْفِهِ"، رواه أبو هريرة. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لولا أن أشُقَّ على أمتي لأَمَرْتُهم أن يؤخِّروا العشاء إلى ثلث الليل أو نصفه"، وفيه دليل على فضل تأخير العشاء، وهذا محمول على إرادة انتظار كثرة الناس. * * *

428 - وقال: "أَعتِمُوا بهَذه الصَّلاةِ، فإنكمْ قد فُضلْتُمْ بها على سائر الأُمَم ولمْ تُصَلِّها أُمَّةٌ قَبْلَكُمْ"، رواه مُعاذ بن جبل. "وعن معاذ بن جبل أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أَعْتِموُا بهذه الصلاة"؛ أي: أخروا صلاة العشاء إلى العَتَمة، عن الخليل: أنه الثُّلُث الأول من الليل بعد غيبوبة الشفق، وعَتَمةُ الليل ظُلْمَتُه، والإعتامُ التأخير. "فإنكم قد فُضلْتم بها على سائر الأمم، ولم تصلِّها أمةٌ قبلَكم"، فعظِّموها واجلسِوا ذاكِرين منتظِرين لها إلى أن يذهبَ بعضُ الليل. وقيل: معناه ادخلُوا في العَتَمة وهي صلاة العِشَاء، والباء في (بهذه) للتعدية؛ يعني: بالغوا في المحافظة على أدائها، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالا؛ أي: أَعْتِمُوا ملابسين بهذه الصلاة. * * * 429 - وقال: النُّعمان بن بشير - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّيها لِسُقُوطِ القمَرِ ليلةَ الثَّالِثة. "وقال النعمان بن بَشير: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصليها"؛ أي: العشاء. "لسقوط القمر"؛ أي: لوقت غروبها. "ليلة الثالثة" من الشهر، وإضافة الليلة إليها بتأويل العشيَّة لئلا يَلزَم إضافة الموصوف إلى الصفة، وعلى رأي الكوفيين لا يحتاج إلى تأويل. * * * 430 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَسْفِرُوا بالفَجْرِ فإنَّه أعظَمُ للأَجْرِ"، رواه

فصل

رافع بن خَدِيج. "وعن رافع بن خَديج أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أَسْفِروا بالفجر"؛ أي: صلاة الفجر في وقت الإسفار، وهو إضاءَة الصبح وذهاب الظلمة. "فإنه أعظمُ للأجر"، فبهذا ذهب أبو حنيفة إلى أن الإسفار بالفجر أفضل. قيل: معناه طوِّلُوها إلى الإسفار توفيقًا بينه وبين حديث التغْلِيس. وقيل: معناه أخِّروها إلى ما بعد الفجر الثاني، فإنهم حين أُمروا بالتغليس كانوا يُصلُّونها عند الفجر الأول رغبة في الأجر جمعا بين الحديثين. * * * فصل (فصل) مِنَ الصِّحَاحِ: 431 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لنْ يَلجَ النَّارَ أحدٌ صلَّى قبلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وقبلَ غروبهَا يعني الفجرَ والعصر. "من الصحاح": إنما أفرد هذا الفصلَ عما تقدم؛ لأن أحاديثهَ من جنس آخر. "عن عمار بن رُوَيبة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لن يَلجَ"؛ أي: لن يدخلَ "النارَ أحدٌ صلى قبلَ طلوع الشمس وقبلَ غروبها؛ يعني الفجر والعصر". * * *

432 - وقال عليه السلام: "مَنْ صَلَّى البَرْدينِ دَخَلَ الجنَّةَ" رواه أبو موسى. "وعن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن صلى البَرْدَين"، هما الغداة والعَشِيُّ، والمراد بهما صلاةُ الفجر والعصر، سُمِّيا به لطيبِ الهواء وبَرْدِه فيهما لكونهما في طريق النهار، يعني مَن داوم على أداء هاتين في وقتهما. "دخل الجَنَّة" خُصَّتا بهذا الفضل؛ لأنهما مشهودتان يشهدُهما ملائكةُ الليل وملائكة النهار، ولأنهما أعسَرُ الصلوات موقعا لكونهما وقتَ التثاقل والتشاغل. * * * 433 - وقال: "يتعاقَبُونَ فيكُمْ ملائكَة باللَّيْلِ وملائكَة بالنَّهارِ، ويَجْتمِعُونَ في صَلاةِ الفَجْرِ وصَلاةِ العَصْرِ، ثمَّ يَعْرُجُ الذينَ باتُوا فيكُمْ فَيسألهُمْ ربُّهُمْ وهو أعلمُ بهم: كيفَ تَركتُمْ عِبادي؟ فيقولونَ: تركناهمْ وهم يُصلُّونَ، وأتَيْنَاهُم وهم يُصلُّونَ" رواه أبو هريرة. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يتعاقَبون فيكم ملائكةٌ بالليل وملائكةٌ بالنهار"؛ يعني: تأتي طائفة منهم عَقِيب أخرى، وهذه الملائكة يَكتُبون أعمال العباد وقيل: غيرهم. "ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر" وإنما جمعهم الله ليكونوا شهداء لعبادة عباده خص هذين الوقتين؛ لأن العبادة فيهما مع كونهما وقتَ اشتغال وغفلةٍ أدلُّ على الخلوص. "ثم يعرُجُ الذين باتوا فيكم فيسأَلُهم ربُّهم وهو أعلم بهم، كيف تركتم

عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون"؛ يعني: الصبح. "وأتيناهم"؛ أي: نزلنا عليهم. "وهم يصلُّون"؛ يعني: العصر، سؤالُه تعالى عن الملائكة إما لأن يَتَباهى بعباده العاملين، وإما للتوبيخ على القائلين: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]. وفيه تحريضُ الناس على المواظبة على هذين الوقتين. * * * 434 - وقال: "مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فهو في ذِمَّةِ الله، فلا يَطْلُبنكُمُ الله مِنْ ذِمَّتِهِ بشيءٍ، فإنَّهُ مَنْ يَطْلُبْه مِنْ ذِمَّتِهِ بشيء يُدْرِكْهُ، ثم يَكُبُّهُ على وجهِهِ في نارِ جهنَّمَ"، رواه جُنْدَب القَسْرِيُّ. "وعن جُنْدَب القُشَيري أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن صلَّى الصبح"؛ أي: صلاة الصبح بإخلاص "فهو في ذمة الله"؛ أي: في أمانه في الدنيا والآخرة، وهذا غير الأمان الذي ثبتَ بكلمة التوحيد، إنما ذكر الصبح؛ لأن فيها كلفة لا يواظِبُها إلا خالصُ الإيمان, فيستحقُّ أن يدخل تحت الأمان. "فلا يَطْلُبنكم الله مِن ذمته بشيء"، (مِن) بمعنى: لأجل، والمضاف محذوف؛ أي: لأجل تركِ ذمَّته، أو بيانية، الجار والمجرور حال عن شيء ظاهره نَهْيٌ عن مطالبة الله إياهم بشيء من عهده، والمراد النهيُ عما يوجِبُ المطالبةَ، وهو التعرُّضُ بمكروه لمن صلَّى الصبح، أو المراد بالذِّمةِ الصلاةُ الموجِبةُ للذِّمة، يعني: لا تضيعُوا صلاةَ الصبح. "فإنه": الضمير فيه للشأن.

"مَن يطلُبه مِن ذمته بشيء"؛ يعني مَن يطلبه الله للمؤاخذة بما فَرطَ في حقه والقيام بعهده. "يُدْرِكه" الله، إذ لا يفوت منه هارب. "ثم يَكُبُّه"؛ أي: يلقيه "على وجهه في نار جهنم". * * * 435 - وقال: "لو يعلمُ الناسُ ما في النداء والصفِّ الأوَّلِ ثمَّ لمْ يجدُوا إلَّا أنْ يَسْتَهِمُوا عليهِ لاستَهَمُوا عليه، ولو يَعلمونَ ما في التَّهْجير لاستَبقُوا إليهِ، ولو يَعلمونَ ما في العَتَمةِ والصُّبح لأتَوْهما ولو حَبْوًا"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو يعلم الناسُ ما في النداء"، يحتمل أن يرادَ به التأذين؛ أي: لو يعلَمون ما فيه من الثواب والأجر، وأن يرادَ به الإقامةُ على حذف المضاف؛ أي: في حضور الإقامة. "والصف الأول"؛ أي: في الوقوف فيه، والتحريمة مع الإِمام من الثواب. "ثم لم يجدوا إليه سبيلاً إلا أن يَسْتَهِمُوا عليه"، يقال: استهمَ القوم إذا أخرجوا القُرْعَة بينهم. "لاستهموا" حرصاً "عليه"، حتى أخذوا المواضع منه بالاستهام. "ولو يعلَمون ما في التهجير"، وهو الإتيان في الهاجرة للظهر، وقيل: هو التبكير إلى كل صلاة. "لاستبقُوا"؛ أي: لبادَرُوا "إليه، ولو يعلمون ما في العَتَمة"؛ أي: العِشاء.

"والصبح لأَتَوْهما ولو حَبْواً"؛ أي: ولو كانوا حابين، والحَبْوُ بالسكون: المشيُ على اليدين والركبتين، أو على الاسْتِ كفعل الصبي، وإنما حثَّ عليهما لأنهما مَظِنَّة التفويت. * * * 436 - وقال: "ليسَ صلاةٌ أثقلَ على المُنافِقينَ مِنَ الفَجْرِ والعِشاءِ، ولو يَعلمُونَ ما فيهما لأتَوْهما ولو حَبْواً"، رواه أبي هريرة - رضي الله عنه -. "وعنه، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس صلاةٌ أثقلَ على المنافقين من الفجر والعشاء"، وإنما ثَقُلَتا عليهم؛ لأن العِشاء وقتُ الاستراحة، والصبحَ في الصيف وقتُ لَذَّةِ النوم، وفي الشتاء وقتُ شدة البرد. "ولو يعلمون ما فيهما" من الأجر "لأتَوهما ولو حَبْوًا". * * * 437 - وقال: "مَنْ صَلَّى العِشاءَ في جماعةٍ كانَ كقِيامِ نِصْفِ ليلةٍ، ومَنْ صَلَّى العِشاءَ والفَجْرَ في جماعةٍ كانَ كقيامِ ليلةٍ"، رواه عُثمان بن عفان - رضي الله عنه -. "وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومَن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة"، أراد بالقيام إحياء اللَّيل بالصلاة والذِّكر. * * * 438 - وقال: "لا يَغْلِبنكُمْ الأَعرابُ على اسم صلاتِكُمُ المَغرِبِ"، قال: "وتقولُ الأَعرابُ: هي العِشاءُ"، رواه عبد الله المُزَنيُّ. "وعن عبد الله بن مُغَفَّل أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم: لا يغلِبنكم الأعرابُ"، وهم سكان البوادي خاصة، والمراد أعراب الجاهلية. "على اسم صلاتكم المغربُ" بالرفع: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي المغرب، وبالنصب: بتقدير أعني، وبالجر: صفة أو بدل. "قال: ويقول الأَعْراب: هي العشاء"؛ يعني يسقُون المغرب بالعشاء فلا توافِقوهم في هذه التسمية، بل قولوا: المغرب، واعتادُوا على تسميته بهذا الاسم ليغلب تسميتكم لها على تسميتهم. * * * 439 - وقال: "لا يَغْلِبنكُمْ الأَعرابُ على اسم صلاتِكُمُ العِشاء, فإنَّها في كتابِ الله تعالى العِشاءُ, فإنَّها تُعْتِمُ بحِلابِ الإبلِ"، رواه ابن عمر. "وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يغلبنكُم الأعرابُ على اسم صلاتكم العشاء، فإنها في كتاب الله"؛ أي: في القرآن. "العشاءُ"، حيث قال في سورة النور: {وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ} [النور: 58]. "فإنها تُعْتَمُ"، مجهولاً، فالضميران للصلاة، ومعلوما فهما للأَعْراب؛ أي: إنما تسمَّى عَتَمَةً. "بحِلاَبِ الإبل"؛ أي: بسبب حِلاَبها؛ لأنهم كانوا يؤخِّرون حِلاَب إبلِهم إلى غيبوبة الشفَق، فسمَّوا ذلك الوقت عَتَمةَ مِن باب تسمية الشيء باسم وقتِه، فنهاهم - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك تغليبًا لتسمية الله على مصطلحهم. وأما قوله - عليه الصلاة والسلام - في حديث أبي هريرة: "لو يعلمون ما في العَتَمة"، فيُحمل على أنه قبل نزول تسمية الله تعالى، أو على أن أبا هريرة سمع بلفظ (العِشاء) ونقله بالمعنى، ولم يصل إليه النهي. * * *

440 - عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ الخَنْدَقِ: "حَبَسُونا عَنْ الصَّلاةِ الوُسطى صَلاةِ العَصْرِ، مَلأَ الله بُيوتَهُمْ وقُبورهُمْ ناراً". "وعن عليٍّ - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال يوم الخندق"، وهو يومَ اجتمعَ الكفار حول المدينة ليحاربوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فحفر - عليه الصلاة والسلام - حولها خندقًا. "حَبَسُونا"؛ أي: منعَنا الكفارُ "عن صلاة الوسطى" باشتغالنا بحفر الخندق؛ لأجل دَفْعهم. "صلاة العصر": بالجَرِّ بدل من صلاة الوسطى، أو عطف بيان لها، وبهذا ذهب أبو حنيفة وأكثرُ الصحابة على أن صلاة الوسطى هي العصر؛ لأنها بين صلاتين من النهار وصلاتين من الليل، ويؤيده حديثُ ابن مسعود بعده. "ملأَ الله بيوتَهم وقبورَهم ناراً"، دعاء عليهم بجعِله تعالى النارَ ملازمتَهم في حياتهم في بيوتهم، وفي مماتهم في قبورهم. * * * مِنَ الحِسَان: 441 - عن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة الوُسْطَى صَلاةُ العَصْرِ". "من الحسان": " عن ابن مسعود أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: صلاة الوسطى صلاةُ العصر"، وذهب الشافعي ومالك إلى أن صلاة الوسطى صلاةُ الفجر، وذهب جماعة إلى أنها صلاة الظهر، وقيل: صلاة المغرب، وقيل: العشاء. * * *

4 - باب الأذان

442 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} قال: " تَشْهدُهُ مَلائكَةُ اللَّيْلِ ومَلائكَةُ النَّهارِ". "وعن أبي هريرة عن النبي - عليه الصلاة والسلام - في قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْر} "؛ أي: صلاة الصبح سُميت قرآنًا لمَا يُقرأ فيها من القرآن أكثرَ من غيرها. " {كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78] قال: تشهده"؛ أي: تحضُره "ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار". * * * 4 - باب الأَذان (باب الأذان) مِنَ الصِّحَاحِ: 443 - قال أنس - رضي الله عنه -: ذَكَرُوا النَّارَ والنَّاقوسَ، فَذَكَرُوا اليهودَ والنَّصارَى، فَأُمِرَ بِلالٌ أنْ يشفَعَ الأذانَ، وأنْ يوتِرَ الإقامةَ إلا الإقامة. "من الصحاح": لما قَدِمَ النبي - عليه الصلاة والسلام - المدينةَ وبنى المسجد، شاور الصحابة فيما يَجعل عَلَمًا لأوقات الصلاة. "قال أنس: ذَكَرُوا النارَ والناقوسَ"؛ أي: ذكر جمعٌ منهم إيقادَ النار، وجمع منهم ضَرْبَ الناقوس؛ وهي خشبةٌ طويلة تُضرَبُ بأخرى أقصرَ منها. "فذكروا اليهود والنصارى"؛ أي: ذكرَ جميع آخرُ بأنَّ النارَ شعارُ اليهود،

والناقوسَ شعارُ النصارى فتلتَبسُ أوقاتنا بأوقاتهم، فتفرَّقوا من غير اتفاق على شيء. فاهتمَّ عبد الله بن زيد لهمِّ النبي - عليه الصلاة والسلام - فنام، فرأى في المنام أن رجلًا ينادي بالصلاة قائلًا: الله أكبر الله أكبر. . . إلى آخره. فذكر ذلك له - عليه الصلاة والسلام - فقال: "إن هذا الرؤيا حقٌّ، قم مع بلال فأذنا؛ فإنه أندى صوتًا منك"، فلما أذنا وسمع عمر - رضي الله عنه - أتى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال: والذي بعثك بالحق نبيا، لقد رأيتُ مثل ما قال، فقال - عليه الصلاة والسلام -: "فلله الحمد". وروي: أنه رأى الأذان في المنام تلك الليلة أحدَ عشرَ رجلًا من أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. "فأُمِر بلالٌ" على بناء المجهول؛ أي: أمره عليه الصلاة والسلام. "أن يشفع الأذان"؛ أي: يقول كل كلمة مرتين سوى آخرها. "وأن يوتر الإقامة"؛ أي: يقول كلمة الإقامة مرة سوى التكبير في أولها وآخرها، "لا الإقامة"؛ يعني: إلا قوله: قد قامت الصلاة؛ فإنه يقولها مرتين. * * * 444 - قال أبو مَحْذُورة: ألْقَى عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - التَّأذينَ هو بنفْسِهِ، فقال: "قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله، أشهدُ أنَّ مُحَمَّداً رسول الله، أشهدُ أن محمدًا رسولُ الله"، ثمَّ قال: "ارجعْ فمُدَّ مِنْ صَوْتكَ: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، أشهدُ أنَّ مُحَمَّداً رسولُ الله، أشهدُ أنَّ مُحمداً رسولُ الله، حيَّ على الصَّلاةِ، حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفَلاح، حيَّ على الفَلاح، الله أكبر، الله

أكبر، لا إلهَ إلَّا الله". "وقال أبو محذورة: ألقى علي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم التأذين"؛ أي: لقَّنني كل كلمة من هذه الكلمات. "هو بنفسه فقال: قل: الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: ارجع"؛ أي: بعد قول الشهادتين مرتين مرتين في السرِّ. "فمد من صوتك"؛ أي: ارفعه. "وقيل: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، أشهد أن محمدًا رسول الله، حي على الصلاة"؛ أي: أسرعوا وأقبلوا وتعالوا مسرعين إليها. "حي على الصلاة، حي على الفلاح"؛ أي: الخلاص من كلِّ مكروه، والظفر بكل مراد. وقيل: الفلاح: البقاء، فمعناه: أسرعوا إلى سبب البقاء في الجنة، وهو الصلاة بالجماعة. "حي على الفلاح، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله": والترجيع في الشهادتين سنةٌ عند الشافعي بهذا الحديث. وعند أبي حنيفة ليس بسنة؛ لاتفاق الروايات على أن لا ترجيعَ في أذان بلال وعمرو بن أم مكتوم إلى أن توفيا، وأوَّلنا الحديث بأن تعليمه - عليه الصلاة والسلام - أبا محذورة الأذان كان عقيب إسلامه، فأعاد - عليه الصلاة والسلام - كلمة الشهادة وكرَّرها؛ لتثبت في قلبه، فظنها أبو محذورة من الأذان. * * *

مِنَ الحِسَان: 445 - قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: كانَ الأذانُ على عَهْدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، والإقامَةُ مَرَّةً مَرَّةً، غيرَ أنَّهُ يقولُ: قدْ قامَتِ الصَّلاةُ، قَدْ قامَتِ الصَّلاة. "من الحسان": " قال ابن عمر - رضي الله عنه -: كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مرتين والإقامة مرة مرة"؛ يعني: يقول المؤذن كل واحدة من كلمات الأذان مرتين مرتين، ومن كلمات الإقامة مرة واحدةً. "غير أنه يقول: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة"؛ أي: يقولها مرتين، وهذا يدل على أن الأذان مثنى، والإقامة فرادى. * * * 446 - عن أبي مَحْذورة: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَّمَهُ الأذانَ تِسْعَ عَشْرَةَ كلمةً، والإقامةَ سَبع عشْرَةَ كلمةً. "وعن أبي محذورة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - علمه الأذان تسع عشر كلمة"؛ أي: مع الترجيح، والكلمة هنا: الجملة المفيدة، فالتكبيرُ أربعَ مرات، أربعُ كلمات، ثلاث منها تواكيد، والشهادتان أربع مرات ثمان كلمات ثلاث منها تواكيد، والحيعلتان مرتين أربع كلمات المرة الثانية من كل منهما تأكيد، والتكبير الأخير كلمتان الثانية تأكيد، والشهادة كلمة، صار المجموع تسع عشر كلمة. "والإقامة سبع عشرة كلمة": لأنه لا ترجيعَ فيها، فانحذف عنها أربع كلمات، وزيدت الإقامة شفعًا، فصارت سبع عشرة، وبهذا قال أبو حنيفة. وعند الشافعي الإقامة إحدى عشرة كلمة؛ لأنه يقول كل كلمة مرة إلا

كلمة الإقامة، كما رواه ابن عمر. * * * 447 - وعن أبي مَحْذورة - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسولَ الله! علِّمْني سُنَّةَ الأذانِ، فذكرَ الأذانَ، وقال بعدَ قولهِ حيَّ على الفَلاحِ: "فإن كانَ في صَلاةِ الصُّبح قُلتَ: الصَّلاةُ خير مِنَ النَّوْمِ، الصَّلاةُ خير مِنَ النَّوْمِ، الله أكبرُ الله أكبرُ، لا إلهَ إلاّ الله". "وعن أبي محذورة أنه قال: قلت يا رسول الله! علمني سنة الأذان"؛ أي: كيفيته وطريقته في الشرع. "فذكره" عليه الصلاة والسلام "الأذان"؛ أي: كلماته. "وقال بعد قوله: حي على الفلاح، فإن كان صلاة الصبح قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله". * * * 448 - وعن بِلالٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُثَوِّبن في شيءٍ مِنَ الصَّلاةِ إلَّا في صَلاةِ الفَجْرِ"، ضعيف. "وعن بلال أنه قال: قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُثوبن في شيء من الصلاة إلا في صلاة الفجر": التثويب في أذان الفجر: أن يقول المؤذن بعد قوله: حي على الفلاح: الصلاة خير من النوم مرتين، سمي تثويبا؛ لأنه رجع بهذه الكلمة إلى دعائهم وحثهم بعد ما دعاهم بقوله: حي على الصلاة، من (ثاب): إذا رجع. "ضعيف". * * *

449 - وعن جابر بن عبد الله: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال: "إذا أَذَّنْتَ فتَرَسَّلْ، وإذا أقمْتَ فاحْدُرْ، واجعلْ بينَ أذانِكَ وإقامَتِكَ قَدْرَ ما يَفْرغٌ الآكلُ مِنْ أكلِهِ، والشَّارِبُ مِنْ شُرْبهِ، والمُعْتَصِرُ إذا دخلَ لِقضاء حاجتِهِ، ولا تَقُومُوا حتَّى تَرَوْني". "وعن جابر: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لبلال: إذا أذنت فترسَّل"؛ أي: اقطع كلمات الأذان بعضها عن بعض بسكتة خفيفة. "فإذا أقمت فاحدر"؛ أي: أسرع ألفاظ الإقامة، ولا تسكت بينها. "واجعل بين أذانك واقامتك قدرَ ما يفرغ الآكل من أكله": قيل: كأنه في العشاء؛ لاتساع وقته. "والشارب من شربه": كأنه في المغرب لضيق وقته. "والمعتصر"؛ أي: الحاقن؛ يعني: الذي يؤذيه البول والغائط. "إذا دخل": الخلاء. "لقضاء الحاجة": كأنه في الفجر والظهر والعصر؛ لتقارب أوقاتها. "ولا تقوموا"؛ أي: للصلاة من مجالسكم إذا قام المؤذن. "حتى تروني"؛ لأن القيام قبل مجيء الإِمام عبثٌ لا فائدةَ فيه. "ضعيف". * * * 450 - وقال: "مَنْ أذَّنَ فهو يُقيمُ"، رواه زِباد بن الحارِث الصُّدَائيُّ. "وعن زياد بن الحارث الصُّدائي": بضم الصاد؛ أي: منسوب إلى صُداء، وهي حي من اليمن.

5 - باب فضل الأذان وإجابة المؤذن

"عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: من أذَّن فهو يقيم"؛ يعني: أن الإقامة حق من أذن، فيكره أن يقيم غيره، وبه قال الشافعي. وعند أبي حنيفة: لا يكره؛ لما روي أن ابن أم مكتوم ربما كان يؤذن ويقيم بلال، وربما كان عكسه، فالحديث محمولٌ على ما إذا لحقته الوحشة بإقامة غيره. * * * 5 - باب فَضْل الأَذان وإجابة المؤذّن (باب فضل الأذان) مِنَ الصِّحَاحِ: 451 - عن مُعاوية - رضي الله عنه - أنَّه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "المؤذَّنُونَ أطولُ النَّاسِ أَعناقاً يومَ القِيامَةِ". "من الصحاح": " عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: المؤذنون أطول الناس أعناقًا يوم القيامة"؛ أي: يكونون سادات، والعرب تصف السادات بطول العنق. وقيل: معناه: أكثر ثوابًا، يقال: لفلان عنقٌ من الخير؛ أي: قطعة منه. وقيل: أكثر الناس رجاءً لرحمة الله تعالى؛ لأن من رجا شيئًا أطال عنقه إليه، فالناس حين يكونون في الكرب يكون المؤذنون في الروح يمدون أعناقهم، وينتظرون أن يؤذن لهم في دخول الجنة.

وقيل: معناه: لا يلجمهم العرق عند بلوغه أفواه الناس يوم القيامة. وروي: (إِعناقا) بكسر الهمزة؛ أي: أشدهم إسراعاً إلى الجنة، من (أعنق): إذا أسرع. * * * 452 - عن أبي هُريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وإذا نُودِيَ للصَّلاةِ أَدبَرَ الشَّيطانُ لهُ ضُراط حتَّى لا يَسمعَ التَأذِينَ، فإذا قُضى النِّداءُ أقبلَ، حتَّى إذا ثُوُّبَ بالصَّلاةِ أدبرَ، حتَّى إذا قُضي التثويبُ أقبلَ حتَّى يَخطرَ بينَ المَرءِ ونفسِهِ، يقول: اذكُرْ كذا، واذكُرْ كذا لِمَا لمْ يكُنْ يَذْكُرُ حتَّى يظلَّ الرجلُ لا يَدري كَمْ صَلَّى". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان له ضراط": وهو ريح أسفل الإنسان وغيره. "حتى لا يسمع التأذين": شبَّه - عليه الصلاة والسلام - شغلَ الشيطان نفسَهُ وإغفالها عن سماع التأذين بالصوت الذي يملأ السمع، ويمنعه عن سماع غيره، وسماه ضراطاً تقبيحاً لتلك الحالة. وقيل: هذا محمولٌ على الحقيقة؛ لأن الشياطين يأكلون ويشربون، كما ورد في الأخبار، فلا امتناعَ في وجود ذلك منهم خوفاً من ذكر الله تعالى، أو لثقل الأذان عليه، كما يضرط الحمار من ثقل الحمل. أو المراد: استخفاف العين بذكر الله تعالى من قولهم: أضرط به فلان: إذا استخفَّه. "فإذا قُضي النداءُ"؛ أي: فرغ المؤذن منه. "أقبل"؛ أي: الشيطان. "حتى إذا ثُوِّبَ بالصلاة": من التثويب: الإعلام، والمراد هنا: الإقامة،

سميت به؛ لأنه إعلامٌ بإقامة الصلاة. "أدبر حتى إذا قُضي التثويبُ"؛ أي: فرغ المؤذن منه. "أقبل"، ودخل المسجد. "حتى يخطر بين المرء ونفسه"؛ أي: يدور ويجري في خلده بالوسوسة وحديث النفس. "يقول"؛ أي: الشيطان للمصلي: "اذكر كذا، واذكر كذا؛ لما لم يكن"؛ أي: لشيء لم يكن المصلي "يذكر" قبل شروعه في الصلاة؛ من ذكر ماله وحسابه، أو بيع وشِرَاء، ونحو ذلك من الأشغال الدنيوية. "حتى يظَل الرجل": بفتح الظاء؛ أي: يصير من الوسوسة "بحيث لا يدري كم صلى". * * * 453 - وقال: "لا يَسمعُ مَدَى صَوْتِ المؤذِّن جِنٌّ ولا إنسٌ ولا شيءٌ إلَّا شَهِدَ لهُ يومَ القيامَةِ"، رواه أبو سعيد الخُدَرِيُّ - رضي الله عنه -. "وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يسمع مدى صوت المؤذن"؛ أي: غايته. "جن ولا إنس": تنكيرهما في سياق النفي؛ لتعميم الأحياء والأموات. "ولا شيء" من الجمادات. "إلا شهد له يوم القيامة"، وفيه حثٌّ على رفع المؤذن صوته؛ لتكثر شهداؤه، ودلالة على أنه يشهد له ذو [و] العلم وغيرهم. * * *

454 - وقال: "إذا سمعتُمُ المؤذِّنَ فقولُوا مِثْلَ ما يقولُ، ثمَّ صَلُّوا عليَّ، فإنَّه مَنْ صلَّى عليَّ صَلاةً صلَّى الله عليه بها عَشْراً، ثمَّ سَلُوا الله تعالى لي الوَسِيلَةَ، فإنَّها منزِلَة في الجنَّةِ لا تَنْبَغِي إلا لعبدٍ مِنْ عِبادِ الله، وأَرجو أنْ أكُونَ أنا هُوَ، فَمَنْ سألَ لي الوَسِيلَةَ حلَّتْ عليه الشَّفاعَةُ"، رواه عبد الله بن عمرو. "وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إذا سمعتم المؤذن"؛ أي: أذانه. "فقولوا مثلَ ما يقول": إلا في الحيعلتين. "ثم صلوا علي"؛ أي: بعد فراغكم منه. "فإنه من صلى علي صلاةً، صلى الله عليه بها عشراً"؛ أي: أعطاه الله بها عشراً من الرحمة. "ثم سلوا الله"؛ أي: اطلبو منه. "تعالى لي الوسيلة": وهي ما يُتوسَّل به إلى الشيء، ويتقرب به إليه. "فإنها"؛ أي: تلك الوسيلة "منزلةٌ في الجنة"، سميت تلك المنزلة بها؛ لأن الواصل إليها يكون قريبًا منه تعالى فائزًا بلقائه، كالواصلة التي يُتوصل بها إلى الزلفى من الله تعالى. "لا تنبغي"؛ أي: لا تُستحق "إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو": يحتمل أن يكون (هو) من باب وضع الضمير موضع اسم الإشارة؛ أي: أكون أنا ذلك العبد، ويحتمل أن يكون (أنا) مبتدأ، و (هو) خبره، والجملة خبر (أكون)، وإنما قال: (أرجو) تواضعًا؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - إذا كان أفضل الأنام، فلمن يكون ذلك المقام غير ذلك الهمام؟ "فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة"؛ أي: وجبت، وقيل: من

الحلول بمعنى: النزول؛ يعني: استحقَّ أن أشفع له مجازاة لدعائه. * * * 455 - وقال عمر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قالَ المؤذِّنُ: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكمْ: الله أكبر الله أكبر، ثمَّ قالَ: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، قالَ: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، ثمَّ قال: أشهدُ أنَّ مُحمداً رسولُ الله، قال: أشهدُ أنَّ مُحمداً رسولُ الله، ثمَّ قال: حَيَّ على الصَّلاة، قال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، ثم قالَ: حَيَّ على الفلاحِ، قال: لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر، قال: الله أكبر الله أكبر، ثمَّ قال: لا إلهَ إلَّا الله، قال: لا إلهَ إلَّا الله، خالصاً مِنْ قَلْبهِ دخلَ الجَنَّةَ". "وقال عمر - رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، قال: أشهد أن محمدًا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة قال: لا حول ولا قوة إلا بالله": قيل: معناه: لا انصرافَ عن المعصية إلا بعصمة الله، ولا قوةَ على الطاعة إلا بمعونة الله وتوفيقه. "ثم قال: حي على الفلاح قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: الله أكبر الله أكبر قال: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله قال: لا إله إلا الله خالصةً من قلبه = دخل الجنة". * * * 456 - وقال: "مَنْ قالَ حِينَ يَسمعُ النداءَ: اللهمَّ ربِّ هذهِ الدَّعوةِ التَّامَّةِ

والصَّلاةِ القائمةِ، آتِ مُحمداً الوَسيلةَ والفَضيلةَ، والدَّرجةَ الرَّفيعةَ، وابعثْهُ مَقاماً مَحموداً الذي وعدْتَهُ يا أَرحم الراحمين، حلَّتْ لهُ شفاعَتِي يومَ القِيامَةِ"، رواه جابر. "وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من قال حين يسمع النداء"؛ أي: الأذان. "اللهم رب هذه الدعوة التامة": سمي الأذان دعوة؛ لأنه يدعو الناس إلى الصلاة والذكر، ووصفها بالتامة؛ لتمامها في طلب الإجابة، أو لأنها آمنة من النسخ والإبدال. "والصلاة القائمة": وصفها بالقائمة؛ لبقائها إلى يوم القيامة، أو لأنه أمر بإقامتها، فتكون هي قائمة. "آت"؛ أي: أعطِ "محمداً الوسيلة": فسرها - عليه الصلاة والسلام - بأنها منزلة في الجنة. "والفضيلة، والدرجة الرفيعة، وابعثه"؛ أي: أرسله وأوصله "مقاماً محموداً الذي وعدته": وهو الموعود في قوله تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79]. وعن ابن عباس؛ أي: مقاماً يحمدك فيه الأولون والآخرون، وتشرف فيه على جميع الخلائق؛ تسألُ فتعطى، وتشفع فتُشفَّع، ليس أحد إلا تحت لوائك. "حلت له شفاعتي يوم القيامة". * * * 457 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُغيرُ إذا طلَعَ الفجرُ، وكانَ يستمعُ الأذانَ، فإنْ سَمعَ أَذاناً أمسكَ، وإلا أَغارَ، فسمعَ رجُلاً يقولُ: الله أكبر

الله أكبر، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "على الفِطْرَةِ"، ثمَّ قال: أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خرجْتَ مِنَ النَّارِ"، فنظروا فإذا هو رَاعِي مِعْزَى. "وعن أنسٍ أنه قال: كانَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُغِيرُ"؛ أي: يسِيرُ إلى بلادِ الكفارِ لِلغَارَةِ. "إذا طلع الفجر"؛ ليعلم أنهم مسلمون أو كفار. "وكان يستمع الأذان"، ويعرف حالهم به. "فإن سمع أذانًا أمسك" عن الغارة؛ أي: تركها. "وإلا"؛ أي: وإن لم يسمع الأذان. "أغَارَ": من (الإِغَارَةِ)، وهو: النَّهْبُ. وقيل: استماعه - عليه الصلاة والسلام - للأذان وانتظاره إياه كان حذراً من أن يكون فيهم مؤمنٌ، فَيُغِيرُ - صلى الله عليه وسلم - غَافِلاً عن حَالِه. "فسمع رجلًا يقول: الله أكبر الله أكبر، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: على الفطرة"؛ أي: أنت أو هو على الإِسلام؛ لأن الأذان لا يكون إلا للمسلمين. "ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: خرجت من النار"؛ أي: بسبب أنك تركت الشرك بالله بذلك القول. "فنظروا": بعد فراغه من الأذان. "فإذا هو راعي مِعزىً": بكسر الميم، وهو من الغنم: خلاف الضأن، اسم جنس.

458 - عن سَعْد بن أبي وقَّاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ قالَ حِينَ يَسْمَعُ المؤذِّنَ: أشهدُ أنْ لا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شَريكَ لهُ، وأشهد أنَّ مُحَمَّدًا عبدُهُ ورسوُلُهُ، رَضيتُ بالله ربًّا، وبمُحَمَّدٍ رسولاً، وبالإِسلام دِينًا غُفِرَ لَهُ ذَنبهُ". "وعن سعد بن أبي وقاص، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنه قال: من قال حين يسمع المؤذن": المضاف محذوف؛ أي: أذانه. "أشهد أن لا إله إلا الله وحده"؛ أي: منفردًا. "لا شريك له": تأكيد لما قبله. "وأن محمدًا عبده ورسوله، رضيتُ بالله": استئنافٌ، كأنه قيل: ما سبب شهادتك؟ فقال: رضيت بالله ربا، "وبمحمد رسولاً، وبالإِسلام دينًا، غفر له ذنبه"؛ أي: من الصغائر، وهذا يحتمل أن يكون إخبارًا، وأن يكون دعاءً له. * * * 459 - وقال: "بَينَ كُلِّ أذانينِ صَلاةٌ، بينَ كلِّ أذانينِ صَلاةٌ" قال في الثالثة: "لِمَنْ شاء"، رواه عبد الله بن مُغفَّل. "وعن عبد الله بن مغفَّل، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنه قال: بين كل أذانين"؛ أي: بين الأذان والإقامة. "صلاة": سماهما أذانين على سبيل التغليب. "بين كل أذانين صلاة": كرر تأكيدًا؛ للحثِّ على النوافل بينهما؛ لأن الدعاء لا يرد بينهما، لشرف الوقت، فيكون ثواب العبادة فيه أكثر وأفضل.

"ثم قال في الثالثة: لمن شاء"؛ ليعلم أن الصلاة بينهما لا تختصُّ بمن يؤذن ويقيم، بل هو عام للمؤذن وغيره. * * * مِنَ الحِسَان: 460 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأئمَّةُ ضُمَناء، المُؤذَّنُون أُمناء، فأَرشدَ الله الأئمَّةَ، وغَفَرَ للمؤذِّنين". "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الأئمة ضمناء"؛ بمعنى: الضامن؛ يعني: أنهم مُراعُون مُحافظون على القوم صلاتهم؛ لأنها في عهدتهم، كالمتكفّلين لهم صحة صلاتهم وفسادها وكمالها ونقصانها بحكم المتبوعية والتابعية، ولهذا الضمانِ كان ثوابُهم أوفرُ إذا رَعَوا حقها، ووزرُهم أكثر إذا خلوا بها، أو المراد: ضمان الدعاء بأن يعمَّ القومَ به. "والمؤذنون أمناء": جمع أمين؛ يعني: هم الذين يعتمد الناس عليهم في الصلاة والصيام والإفطار وسائر الوظائف المؤقتة، أو لأنهم يرتقون على أمكنة عالية، فينبغي أن لا يشرفوا على بيوت الناس؛ لكونهم أمناء. ثم دعا عليه الصلاة والسلام لهم بقوله: "فأرشد الله الأئمة"؛ أي: إلى العلم بما تكفلوه، والخروج عن عهدته. "وغفر الله المؤذنين" ما عسى يكون منهم فيه تفريط في الأمانة التي حملوها من جهة تقديم الأذان على الوقت أو تأخيره سهوًا. * * *

461 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَذَّنَ سبْعَ سِنينَ مُحتسِباً كُتِبَ له بَراءَةٌ مِنَ النَّار". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من أذن سبع سنين محتسباً"؛ أي: طالباً لثواب الله من غير أن يطمع في شيء من الدنيا. "كتبت له براءة"؛ أي: خلاص "من النار". * * * 462 - وقال: "يَعجَبُ ربُّكَ مِنْ راعي غَنَمٍ في رأْسِ شظِيةٍ للجبَل يُؤَذِّنُ بالصَّلاةِ، ويُصلِّي، فيقولُ الله تعالى: انظُروا إلى عَبْدي هذا، يُؤَذِّن ويُقيمُ الصَّلاة، يخافُ منّي، قدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، وأدخلْتُهُ الجنَّةَ"، رواه عُقبة بن عامر - رضي الله عنه -. "وعن عقبة بن عامر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يعجب ربك"؛ أي: يرضى؛ لأن التعجبَ عليه تعالى مجاز عن الرِّضا. وقيل: معناه: يعظم هذا الفعل عند ربك؛ فإن من شأن المتعجب عن شيء أن يعظم عنده ذلك الشيء، والخطاب إما للراوي أو الواحد من الصحابة. "من راعي غنم في رأس شَظِيّة للجبل": وهي قطعة من رأس الجبل، وقيل: هي الصخرة العظيمة الخارجة من الجبل، كأنها أنفه. "يؤذن بالصلاة ويصلي": وفائدة تأذينه إعلام الجن والملائكة بدخول الوقت؛ فإن لهم صلاةً أيضًا، وإنما لم يذكر الإقامة؛ لأنها للإعلام بقيام الصلاة، وليس أحد يصلي خلفه حتى يقيم لإعلامه. "فيقول الله عز وجل: انظرواه يا ملائكتي "إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصلاة"؛ أي: يحافظها ويداوم عليها.

"يخاف مني": يفعل ذلك خوفًا من عذابي، لا ليراه أحد. "قد غفرت لعبدي، وأدخلته الجنة"، وفيه دليل على استحباب الأذان للمنفرد. * * * 463 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة على كُثبانِ المِسْكِ يومَ القِيامَةِ: عبدٌ أدَّى حقَّ الله تعالى وحقَّ مَوْلاَهُ، ورجلٌ أمَّ قَوْمًا وهُمْ بِهِ راضُونَ، ورجل يُنادي بالصَّلواتِ الخمسِ كُلَّ يومٍ وليلةٍ"، رواه ابن عُمر. غريب. "وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ثلاثة على كثبان المسك": جمع الكثيب، وهو: الموضع المرتفع أعلى، شكل جبل صغير، وهو في الأصل: التلُّ من الرمل. "يوم القيامة: عبد أدَّى حقَّ الله وحق مولاه، ورجل أمَّ قومًا وهم به راضون"؛ فبرضاهم يكون ثواب الإِمام أكثر. "ورجل ينادي بالصَّلوات الخمس"؛ أي: يؤذن "كلَّ يوم وليلة": وإنما أثيبوا بذلك؛ لأنهم صبَّروا أنفسهم في الدنيا على كرب الطاعة، فروَّحهم الله في عرصات القيامة بأنفاس عطرةٍ على تلال مرتفعة من المسك؛ إكراماً لهم بين الناس، لعظم شأنهم وشرف أفعالهم. "غريب". * * * 464 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "المؤذن يُغْفَرُ لهُ مدَى صَوْتهِ، ويَشْهَدُ له كُلُّ رَطْبٍ ويابسٍ، وشاهِدُ الصَّلاةِ يُكتَبُ له خَمسٌ وعِشْرُونَ صلاةً، ويُكَفَّرُ عنه ما بينهُما".

"عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: المؤذن يغفر له مدى صوته"، مدى الشيء غايته، نصب على الظرف، أو رفع على أنه أقيم مقام الفاعل، والمراد: تكميل المغفرة؛ يعني: إذا كان صوته أبعد تكون مغفرته أكثر. وقيل: معناه: تغفر ذنوبه لأجله وإن كان يملأ ما بين قدميه وبين ما بلغه صوته من الأرض، والمراد به التمثيل. "ويشهد له كل رطب ويابس"؛ أي: يشهد له يوم القيامة ما سمع صوته من الحيوانات والجمادات بسماع أذانه، وتحمل شهادتهم على الحقيقة؛ لقدرته تعالى على إنطاقهما، أو على المجاز بقصد المبالغة. "وشاهد الصلاة"؛ أي: حاضر صلاة الجماعة. "يكتب له خمسٌ وعشرون صلاةً"؛ أي: ثواب خمس وعشرين، وقد جاء في رواية: (تفضل صلاة الجماعة على صلاة الفدِّ - أي: المنفرد - بسبع وعشرين درجة). "ويكفر عنه ما بينهما"؛ أي: بين كل صلاة وصلاة. وقيل: يعطف و (شاهد الصلاة) على (كل رطب ويابس)، وقوله: (ما بينهما)؛ أي: ما بين أذان إلى أذان آخر (¬1). * * * 465 - وقال عُثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه -: قلتُ: يا رسولَ الله! اجعلني إمامَ قَوْمِي، قال: "أنْتَ إمامُهُمْ، واقْتَدِ بأضعفِهِم، واتخِدْ مؤذِّناً لا يأخُذُ على أذانِهِ أجرًا". ¬

_ (¬1) في "م" زيادة: "لا يخفى سقوطه".

"وقال عثمان بن أبي العاص: قلت: يا رسول الله! اجعلني إمام قومي قال: أنت إمامهم"؛ أي: جعلتك إمامهم؛ فيفيد الحدوث، أو أنت كما قلت؛ فيكون للدوام. "واقتدِ بأضعفهم"؛ أي: تابع أضعفَ المقتدين في تخفيف الصلاة من غير ترك شيء من الأركان؛ يريد: تخفيف القراءة والتسبيحات حتى لا يملَّ القوم. وقيل: لا تسرع حتى يبلغك أضعفهم، ولا تطوِّلْ حتى لا تثقل عليه. "واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجرًا": استدل مَنْ منعَ الاستئجار على الأذان بالحديث، ولا دليلَ له فيه؛ لجواز أنه - عليه الصلاة والسلام - أمر بذلك أخذاً بالأفضل. * * * 466 - وقالت أمُّ سلَمة رضي الله عنها: عَلَّمني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أقولَ عِنْدَ أذانِ المغرِبِ: "اللهمَّ هذا إِقْبالُ لَيْلِكَ، وإدْبَارُ نهارِكَ، وأصْواتُ دُعاتِكَ، فاغفِرْ لي". "وقالت أم سلمة رضي الله عنا: علمني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أن أقولَ عند أذان المغرب: اللهم هذا إقبال ليلك"؛ أي: هذا الأوان أوانُ إقبال ليلك. "وإدبار نهارك"؛ أي: أوان إدباره. "وأصوات دعاتك": جمع الداعي، وهو: المؤذن هنا. "فاغفر لي": بحق هذا الوقت الشريف. * * *

467 - ورُوي: أنَّ بِلالًا - رضي الله عنه - أخذَ في الإقامة، فلمَّا أنْ قالَ: قدْ قامَتِ الصَّلاةُ قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: " أقامَها الله، وأدامَها"، وقالَ في سائرِ الإقامةِ: كنحوِ حديثِ عمر في الأذانِ. "وروي أن بلال أخذ"؛ أي: شرع "في الإقامة، فلما أن قال ": (لما) شرطية تستدعي فعلًا، فيكون التقدير: فلما انتهى إلى أن قال: (قد قامت الصلاة، قال النبي عليه الصلاة والسلام: أقامها الله تعالى"؛ أي: ثبَّت الله الصلاة "وأدامها، وقال: في سائر الإقامة"؛ أي: في سائر كلماتها. "كنحو حديث عمر في الأذان"؛ يعني: وافق المؤذن في كلماته في غير الحيعلتين. * * * 468 - عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُرَدُّ الدُّعاءُ بينَ الأَذانِ والإقامَةِ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة"، وذلك لشرف الوقت. * * * 469 - وقال: "ثِنْتَانِ لا تُرَدَّانِ: الدُّعاءُ عندَ النِّداءَ، وعِندَ البأْسِ حينَ يَلحَمُ بعضُهم بعضاً"، ويُروى: "وتحتَ المَطَرِ"، رواه سَهْل بن سَعْد. "وعن سهل بن سعد أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ثنتان"؛ أي: دعوتان ثنتان. "لا تردان": بل تستجابان.

فصل

"الدعاء عند النداء"؛ أي: الأذان. "وعند البأس"؛ أي: الحرب مع الكفار. "وحين يَلحَم": بفتح الياء والحاء المهملة؛ أي: يقتل "بعضهم بعضاً"، ويجوز أن يكون (حين يلحم) بدلاً من (عند البأس). والمناسبة بين النداء والبأس: أن الأول من خواص الجهاد الأكبر وحثٌّ عليه، والثاني جهاد أصغر. "ويروى: وتحت المطر"؛ أي: عند نزول المطر. * * * 470 - وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: قالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! إنَّ المؤذِّنينَ يفضُلونَنَا، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُلْ كما يقولونَ، فإذا انْتَهَيْتَ فسَلْ تُعْطَ". "وقال عبد الله بن عمرو: قال رجل: يا رسول الله! إن المؤذنين يفضلوننا"؛ أي: حصل لهم فضلٌ ومزيدٌ علينا في الثواب بسبب الأذان. "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: قل كما يقولون"، إلا عند الحيعلتين كما ذكرنا من قبل، فيحصل لك الثواب. "فإذا انتهيت"؛ أي: إذا فرغت. "فسَلْ"؛ أي: من الله ما تريد. "تُعطَ"؛ أي: يقبل الله دعاءك، ويعطيك سُؤلك. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: 471 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ بلالاً يُنادي بالليل، فكُلوا واشربُوا حتَّى

يُنادي ابن أُمِّ مَكْتُوم". (فصل) "من الصحاح": إنما أفرد هذا الفصل؛ لأن أحاديثه كلها صحاح، وليست فيه أحاديث مناسبة لصحاح الباب السابق، فكانت مظنة الإفراد. "عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن بلالاً ينادي بليل"؛ أي: يؤذن فيه، [فـ]ــلا يحرم (¬1) أكل السحور على الصائم بأذانه. "فكلوا واشربوا حتى يناديَ ابن أم مكتوم": اسمه عبد الله بن قيس، سمي بذلك؛ لأنه ضرير، وكان ينادي بعد طلوع الفجر الصادق. * * * 472 - وقال: "لا يَمنعنَكُمْ مِنْ سُحورِكُم أذانُ بلالٍ، ولا الفجرُ المُستَطِيلُ، ولكن المُسْتَطِيرُ في الأُفُق"، رواه سَمُرة بن جُنْدُب. "عن سمرة بن جُندب، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: لا يمنعنكم من سحوركم أذانُ بلال ولا الفجرُ المستطيل": وهو الفجر الكاذب يطلع أولاً مستطيلاً صاعداً إلى السماء، ثم يغيب، وبعد غيبته بزمان يسير يظهرُ الفجر الصادق. "ولكن المستطير"؛ أي: الذي ينتشرُ ضوءه. "في الأفق" الشرقي، ولا يزال يزداد ضياءً، وإنما لم يذكر صلاة العشاء ¬

_ (¬1) في "غ" و"ت" و"م": "يؤذن فيها يحرم".

مع أنهما لا يمنعانها؛ لأن الظاهر من حال المسلم عدم تأخيرها إليهما؛ لكونه مكروهاً. * * * 473 - وقال مالك بن الحُويرِث - رضي الله عنه -: قدمتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنا وابن عمِّ لي، فقال لنا: "إذا سافَرْتُما فأَذِّنا، وأقِيما، ولْيَؤُمَّكُما أكبَرُكُما". "وقال مالك بن الحويرث: قدمت على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنا وابن عم لي، فقال لنا: إذا سافرتما فأذِّنا وأقيما، وليؤمكما أكبركما"، والحديث يدل على أن الأذان لا يختص بالأكبر والأفضل؛ بخلاف الإقامة؛ فإنها يندب فيها إمامة الأكبر رتبة أو سناً. * * * 474 - وقال: "صَلُّوا كما رأَيْتُمُوني أُصلِّي، فإذا حَضَرتِ الصَّلاةُ فلْيُؤَذِّنْ لكُمْ أحدُكُمْ، ثمَّ لِيَؤُمُّكُمْ أكبرُكُمْ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صلوا كما رأيتموني أصلي"؛ يعني: اجعلوا ركوعكم وسجودكم وسائر أركان الصلاة مثل ما رأيتموني أفعل. "وإذا حضرت الصلاة، فليؤذنْ لكم أحدكم، ثم ليؤمكم أكبركم". * * * 475 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قفَلَ مِنْ خَيْبَرَ سارَ ليلةً، حتَّى إذا أدركَهُ الكَرَى عرَّسَ، ونامَ هو وأصحابُهُ، فلمْ يستيقِظْ أحدٌ مِنَ الصَّحابَةِ حتى ضَرَبَتْهُمُ الشَّمْسُ، فكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أوَّلَهُمْ استِيقاظاً، فقال:

"اقتادُوا"، فَاقْتَادُوا رَوَاحِلَهُمْ شيئاً، ثمَّ تَوَضَّأَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرَ بلالاً فأقامَ الصَّلاةَ، فصلَّى بهِمُ الصُّبْحَ، فلمَّا قَضَى الصَّلاةَ قال: "مَنْ نَسِيَ الصَّلاة فَلْيُصَلِّها إذا ذكرَها، فإنَّ الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي}. "وقال أبو هريرة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قفل من خيبر"؛ أي: حين رجع من غزوة خيبر إلى المدينة. "سار ليلة حتى إذا أدركه الكَرَى"؛ أي: النوم. "عرَّس"؛ أي: نزل في آخر الليل للاستراحة. "ونام هو وأصحابه": عطف على الضمير المرفوع المستتر في (نام). "فلم يستيقظ أحد من الصحابة حتى ضربتهم الشمس"؛ أي: وقع عليهم حرارتها. "فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولهم استيقاظاً فقال: اقتادوا"؛ أي: سوقوا رواحلكم من هذا الموضع. "فاقتادوا رواحلهم شيئاً"؛ يعني: ذهبوا من ثَمَّةَ مسافة قليلة. "ثم توضأ رسولُ الله، فأمر بلالاً، فأقام الصلاة": وإنما لم يؤذن؛ لأن القوم حضور. "فصلى بهم الصبح": وإنما لم يقضِ في الموضع الذي استيقظ فيه؛ لترتفع الشمس حتى يخرج وقت الكراهة، وبه قال أبو حنيفة، ومن جَوَّز قضاء الفائتة في الوقت المنهي - وهم الأكثرون - قالوا: أراد أن يتحول عن المكان الذي أصابتهم فيه هذه الغفلة والنسيان. وقد روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "حولوا عن مكانكم الذي أصابتكم فيه هذه الغفلة".

وفي رواية: "ليأخذ كل واحد من راحلته؛ فإن هذا منزل حضرنا فيه الشيطان". "فلما قضى الصلاة قال: من نسي الصلاة، فليصلها إذا ذكرها؛ فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14] ": إضافة المصدر إلى المفعول، واللام بمعنى: الوقت والحين؛ أي: إذا ذكرت صلاتي بعد النسيان. * * * 476 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ فلا تقُومُوا حتَّى تَرَوْنِي خَرَجْتُ"، رواه أبو قَتادة. "وعن أبي قتادة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقيمت الصلاة"؛ أي: نادى المؤذن بالإقامة؛ إقامةً للمسبَّب مقام السبب. "فلا تقوموا حتى تروني خرجت": هذا يدل على جواز تقديم الإقامة على خروج الإمام. * * * 477 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُقيمَتِ الصَّلاةُ فلا تأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوها تَمشُون، وعلَيْكُمُ السَّكينَة، فما أدْرَكْتُمْ فصَلُّوا، وما فاتَكُمْ فأَتِمُّوا"، ويُروى: "فإنَّ أحدَكُمْ إذا كانَ يَعْمِدُ إلى الصَّلاةِ فهو في صَلاةٍ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعَون": المراد بالسعي هنا: الإسراع؛ يعني: كونوا في المشي إلى المسجد غير مسرعين وإن خفتم فوتَ الصلاة. "وأتوها تمشون، وعليكم السكينةَ": نصب على أنها مفعول بها؛ أي:

6 - باب المساجد ومواضع الصلاة

الزموا السكينة، وهي: الوقار، ومن خاف التكبيرة الأولى، قيل: إنه يسرع، وقيل: يهرول، وقيل: يمشي على وقار؛ للحديث. "فما أدركتم": الفاء جزاء شرط محذوف؛ أي: إذا بينت لكم ما هو أولى لكم فما أدركتم. "فصلوا وما فاتكم فأتموا"، ويحصل لكم الثواب كاملاً. وفيه دليل على أن ما أدركه المرء من صلاة إمامه هو أول صلاته؛ لأن لفظ الإتمام يقع على باقي شيء تقدم أوله، وإلى هذا ذهب الشافعي وأحمد. "ويروى: فإن أحدكم إذا كان يعتمد"؛ أي: يقصد. "إلى الصلاة فهو في الصلاة" من حين قصدها؛ لأن المشارِفَ قريبٌ من الشيء كأنه فيه، وهذا إذا لم يقصِّرْ في التأخير. * * * 6 - باب المَساجِد ومَواضع الصَّلاةِ (باب المساجد ومواضع الصلاة) وهي أعم من المساجد. مِنَ الصِّحَاحِ: 478 - قال ابن عبَّاسٍ: لمَّا دَخَلَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - البيتَ دَعا في نواحيهِ كُلِّها، ولم يُصَلِّ حتى خرجَ، فلمَّا خرجَ ركعَ ركعَتَيْنِ في قُبُلِ الكَعْبَةِ، وقال: "هذِهِ القِبْلةُ". "من الصحاح": " قال ابن عباس: لمَّا دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - البيت"؛ أي الكعبة عام فتح مكة.

"دعا في نواحيه كلها"؛ يعني: وقف في كل جانب من جوانب الكعبة من داخلها ودعا. "ولم يُصلِّ حتى خرج، فلما خرج ركع"؛ أي: صلى "ركعتين في قُبل الكعبة": بضم القاف؛ أي: مُقدَّمها، والمراد: الجهة التي فيها الباب؛ أي: في مستقبل باب الكعبة. روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة مستقبلاً بيت المقدس، وكان يحب أن يُوجَّه إلى الكعبة، فأنزل عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144]. "وقال هذه"؛ أي: تلك البقعة "القبلة"؛ أي: أمرها قد استقر على الكعبة، لا تنسخُ بعد اليوم، فصلوا إليها أبداً، فهي قبلتكم. * * * 479 - وقال عبد الله بن عمر: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دخلَ الكعبةَ هو وأُسامَةُ بن زيدٍ وعُثْمَانُ بن طَلحةَ الحَجَبيُّ وبلالُ بن رَباح، فأغلقَها عليه، ومكثَ فيها، فسألتُ بلالاً حينَ خرجَ: ماذا صنعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: جَعَلَ عَموداً عن يسارِهِ، وعَمودَيْنِ عن يمينِهِ، وثلاثةَ أعمدةٍ وراءَهُ، ثمَّ صلَّى. "وقال عبد الله بن عمر: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة هو وأسامة بن زيد وعثمان بن طلحة الحجبي وبلال بن رباح، فأغلقها"؛ أي: الكعبة؛ يعني: بابها. "عليه"؛ أي: على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي رواية: (عليهم)، وهو ظاهر. "ومكث فيها، فسألت بلالاً حين خرج: ماذا صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال جعل عموداً عن يساره وعمودين عن يمينه وثلاثة أعمدة": جمع عمود.

"ورائه"، والوراء يطلق على الخلف والقدام، فللكعبة يومئذٍ ستة أعمدة، وأما الآن فهي ثلاثة أعمدة؛ لأنه غيَّرها حجاج بن يوسف. "ثم صلى" ركعتين، وهذا يدل على جواز الصلاة داخل الكعبة، وبه قال الأكثرون، ويتوجَّه كيف شاء. * * * 480 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاةٌ في مسجدي هذا خيرٌ مِنْ ألفِ صلاةٍ فيما سِواهُ إلاَّ المسجدَ الحرامِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة في مسجدي هذا"؛ يعني: مسجد المدينة. "خير من ألف صلاة فيما سواه إلا في المسجد الحرام"؛ فإن صلاةَ فيه أفضل من ألف صلاة في مسجدي. * * * 481 - وقال: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلاَّ إلى ثلاثةِ مساجِدَ: المسجدِ الحرامِ، والمسجدِ الأقصى، ومَسجدِي هذا"، رواه أبو سعيد الخُدْرِيُّ - رضي الله عنه -. "وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تشد الرحال": جمع الرحل، وهو: رحل البعير على قدر سنامه، هذا خبر بمعنى النهي، والمراد نفي الفضيلة التامة؛ يعني: لا فضيلة في شدِّ الرحال إلى مسجد للصلاة فيه. "إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجد الأقصى"، وصفه بالأقصى؛ لبعده عن المسجد الحرام.

"ومسجدي هذا"؛ يريد: مسجد المدينة، ومزية هذه المساجد؛ لكونها أبنية الأنبياء ومساجدهم، ولهذا قالوا: لو نذر أن يصلي في أحد هذه الثلاثة تعيَّن بخلاف سائر المساجد؛ فإن من نذر أن يصلي في أحدها له أن يصلي في آخر. * * * 482 - وقال: "ما بينَ بَيتي ومِنبَري رَوضةٌ مِنْ رِياضِ الجَنَّةِ، ومِنْبَرِي على حَوْضي"، رواه أبو هريرة. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بين بيتي ومنبري": المراد بالبيت: بيت سكناه، وقيل: قبره؛ لما جاء في حديث آخر: "ما بين قبري ومنبري"، ولا تنافيَ بينهما؛ لأن قبره في بيته. قيل: أراد بذلك المحراب؛ لأنه بين المنبر وبين بيته؛ لأن باب حجرته كان مفتوحاً إلى المسجد. "روضة من رياض الجنة"؛ يعني: أن العبادة في ذلك الموضع تؤدِّي إلى روضة من رياضها، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "الجنة تحت ظلال السيوف"؛ يريد: أن الجهاد يؤدي إلى الجنة. قيل: سماه روضة لأن زوَّار قبره وعُمَّار مسجده من الملائكة والإنس والجن مُكِبُّون على الذكر والعبادة، إذا صدرَ عنها فريقٌ ورد آخر. وقد سمى - صلى الله عليه وسلم - حِلَق الذكر رياضاً في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا". "ومنبري على حوضي"؛ أي: على حافته، وقد رُوي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومنبري على ترعة حوضي"، وهذا يدل على أن يكون له - صلى الله عليه وسلم - في الآخرة منبر، ويجوز أن يراد به: منبره في الدنيا.

وفيه تنبيهٌ على استمداده من الحوض الزاخر النبوي. وقيل: فيه تنبيهٌ على مناسبة بينهما من حيث إن المنبر مورد القلوب الصادية في بيداء (¬1) الجهالة، كما أن الحوض مورد الأكباد الظامئة من حرِّ يوم القيامة، وأن كلاً منهما متعلق بالآخر، لا مطمعَ لأحد في الآخر دون الاتعاظ بالأول، فمن شهد المنبر مستمعاً اليوم يشهد الحوض غداً. * * * 483 - عن ابن عُمر قال: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأْتي مسجدَ قُباءٍ كُلَّ سَبْتٍ ماشِياً وراكباً، فيُصلِّي فيهِ ركعَتْينِ. "وعن ابن عمر أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأتي مسجد قُباء" بضم القاف ممدوداً: قرية على ثلاثة أميال من المدينة، قيل: أصحاب الصفة كانوا في ذلك المسجد، فيأتيه - صلى الله عليه وسلم -. "كلَّ سبت ماشياً وراكباً، فيصلي فيه ركعتين"، وهذا يدل على أن التقرب بالمساجد ومواضع الصلحاء مستحب، وأن الزيارة يوم السبت سنة. * * * 484 - وقال: "أحبُّ البلادِ إلى الله مسَاجِدُها، وأبغضُ البلادِ إلى الله تعالى أسواقُها"، رواه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحب البلاد": جمع بلد، والمراد منه: مأوى الإنسان. "إلى الله مساجدها"؛ لأن المسجد موضع الصلاة والذكر. ¬

_ (¬1) في "ت": "ميدان".

"وأبغض البلاد إلى الله أسواقها"؛ لأن السوق موضع الغفلة عن الله والحرص والطمع والخيانة، والمراد بحب الله المسجد: إرادة الخير لأهله، وببغضه السوق: خلافها لأهله. * * * 485 - وقال: "مَنْ بنى لله مسجداً بنى الله لهُ بَيْتاً في الجَنَّةِ"، رواه عثمان - رضي الله عنه -. "وعن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من بنى لله مسجداً"؛ أي: مَعْبَداً، فيتناول معبدَ الكفرة فيكون لله؛ لإخراج ما بنى معبداً لغير الله. "بنى الله له بيتاً في الجنة". * * * 486 - وقال: "مَنْ غَدا إلى المسجدِ أو رَاحَ، أعدَّ الله لهُ نُزُلَهُ مِنَ الجَنَّةِ كُلَّما غَدا أو راحَ". "وعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من غدا إلى المسجد"؛ أي: ذهب إليه في الغفلة. "وراح"؛ أي: ذهب إليه بعد الزوال. "أعد الله"؛ أي: هيَّأ له "نزله" بضم الزاي وسكونها: ما يهيأ للضيف. "من الجنة، كلما غدا أو راح": ظرف، وجوابه ما دلَّ عليه ما قبله، وهو العامل فيه، المعنى: كلما استمر غدوه أو رواحه يستمر إعداد نزله في الجنة.

487 - وقال: "أعظمُ النَّاسِ أجْراً في الصَّلاةِ أبعَدُهُمْ فأبعَدُهُمْ مَمْشًى، والذي يَنتظِرُ الصَّلاةَ حتَّى يُصَلِّيها مع الإمام أعظمُ أجراً مِنَ الذي يُصَلِّي ثمَّ ينامُ"، رواه أبو موسى - رضي الله عنه -. "وعن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعظم الناس أجراً في الصلاة أبعدهم فأبعدهم مَمشى": مصدر ميمي أو اسم مكان؛ يعني: من كان بيته إلى المسجد أبعد مسافة، فأجره أكثر؛ لأن الأجر بقدر التعب. "والذي ينتظر الصلاة حتى يصليها مع الإمام أعظم أجراً من الذي يصلي"؛ أي: منفرداً، "ثم ينام"، ولا ينتظر الإمام. * * * 488 - وقال جابر: أرادَ بنو سَلِمَةَ أَنْ يَنتقِلُوا إلى قُرْب المسجدِ، فقال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني سَلِمَةَ! دِيارَكُمْ، تُكْتَبْ آثارُكُمْ، دِيارَكُمْ، تُكْتَبْ آثارُكم". "وقال جابر: أراد بنو سَلِمة" بكسر اللام: قبيلة من الأنصار. "أن ينتقلوا إلى قرب المسجد": وكان ديارهم على بعد من المسجد، وكان يلحقهم مشقة من المشي في سواد الليل إلى المسجد؛ خصوصاً عند وقوع المطر، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - انتقالهم إلى قرب المسجد؛ لئلا تعرى جوانب المدينة، فرغبهم فيما عند الله من الأجر على نقل الخطأ. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا بني سلمة! ديارَكم" بالنصب على الإغراء؛ أي: الزموا دياركم، ولا تنقلوا عنها. "تكتب" بالجزم جواب الأمر المقدر؛ أي: حتى تكتب. "آثاركم": أجر خطاكم؛ فإن لكل خطوة درجة، فما كان الخطأ أكثر يكون الأجر أيضًا أكثر، وبالرفع حال أو استئناف.

"وتكتب آثاركم": كرره للتأكيد. * * * 489 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سبعة يُظلُّهُمُ الله في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلاّ ظِلَّهُ: إمامٌ عادلٌ، وشابٌّ نشأَ في عِبادَةِ الله تعالى، ورجُلٌ قلبُهُ مُعَلَّقٌ بالمَسجدِ إذا خَرَجَ مِنْهُ حتَّى يَعودَ إليه، ورجُلاَنِ تحابَّا في الله اجتَمَعَا عليهِ، وتَفرَّقا عليه، ورجُلٌ ذكرَ الله خالِياً ففاضَتْ عَيْنَاهُ، ورجُلٌ دَعَتْهُ امرأَةٌ ذاتُ حَسَبٍ وجَمالٍ فقال: إنِّي أَخافُ الله، ورجُلٌ تَصَدَّقَ بصدَقَةٍ فأَخْفاهَا حتَّى لا تعلمَ شِمالُهُ ما تُنْفِقُ يمينُهُ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سبعة يظلهم الله في ظله"؛ أي: يدخلهم في رحمته ورعايته. "يوم لا ظلَّ إلا ظله"؛ أي: لا قدرة ولا رحمة في يوم القيامة إلا لله، وقيل: المراد ظل العرش. "إمام عادل": المراد هنا: من يلي أمور المسلمين من الأمراء وغيرهم. "وشاب نشأ"؛ أي: نما "في عبادة الله"؛ أي: يكون في العبادة من أول بلوغه من التمييز إلى أن كبر. "ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يعود إليه، ورجلان تحابا في الله"؛ أي: جرى المحبة بينهما لله، لا لغرض دنيوي. "إن اجتمعا اجتمعا عليه"؛ أي: على التحابِّ في الله. "وإن تفرقا"، تفرقا "عليه"؛ أي: على ذلك التحابِّ؛ أي: يكون تحابهما في الله غيبةً وحضوراً.

"ورجل ذكر الله خالياً"؛ أي: خاف الله في خلوته من ذنوبه السالفة وتقصيره السابق. "ففاضت عيناه"؛ أي: جرت دموعه من عينيه خوفاً من عذاب الله؛ لتقصيره في الطاعات، وانهماكه في الشهوات. "ورجل دعته امرأة" إلى الزنا بها. "ذات حسب": وهو ما يعده الإنسان [من] مفاخر آبائه، وقيل: الخصال الحميدة له ولآبائه. "وجمال"؛ أي: لها جمال كامل، والمرأة إذا كانت شريفة ذات خصال حميدة تكون النفس أميل إليها ممن لم تكن بهذه الصفة. "فقال: إني أخاف الله"، وهذا القول أعم من أن يكون بلسانه أو في قلبه. "ورجل تصدق بصدقة فأخفاها": هذا محمولٌ على التطوع؛ لأن الزكاة إعلانها أفضل. "حتى لا تعلمَ شماله ما تنفق يمينه"، وهذا تأكيد ومبالغة في كتم الصدقة وإخفائها؛ فإن نسبة العلم إلى الشمال استعارة، أو معناه: لا يعلم من شماله ما تنفق يمينه، قال الله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271]. * * * 490 - وقال: "صلاةُ الرجلِ في الجماعةِ تُضَعَّفُ على صلاتِهِ في بيتِهِ وفي سُوقِهِ خَمْساً وعشرينَ ضعفاً، وذلكَ أنَّهُ إذا تَوَضَّأَ فأحسَنَ الوُضوءَ, ثمَّ خرجَ إلى المسجد لا يُخرجُهُ إلاّ الصَّلاةُ، لم يَخْطُ خُطوةً إلاَّ رُفِعَتْ له بها درجةٌ، وحُطَّ عنهُ بها خَطيئةٌ، فإذا صَلَّى لمْ تَزَلِ الملائكةُ تُصَلِّي عليهِ ما دامَ في

مُصَلاَّهُ: اللهم! صلِّ عليه، اللهم! ارحمْهُ". وقال: "لا يزالُ أحدُكُمْ في صَلاةٍ ما دامَ ينتظِرها، ولا تزالُ الملائكَةُ تُصلِّي على أحدِكُمْ ما دامَ في المسجدِ تقول: اللهمَّ! اغفِرْ لهُ، اللهمَّ! ارحَمْهُ ما لم يُحدِثْ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: صلاة الرجل في الجماعة تضعف"؛ أي: تزداد الأجر. "على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً"؛ أي: مثلاً، والمراد: الكثرة لا الحصر. "وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه"؛ أي: من بيته إلى المسجد، "إلا الصلاة"، لا شغلَ آخر، جملة حالية. "لم يخط خطوةً إلا رفعت له بها درجة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه"؛ أي: تدعو له وتستغفر له. "ما دام في مصلاه"؛ أي: في الموضع الذي صلى فيه. "ولا يزال أحدكم في صلاة ما انتظر الصلاة"؛ أي: مادام ينتظرها. "وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يزال أحدكم في صلاة ما دام ينتظرها، ولا تزال الملائكة تصلي عليه ما دام في المسجد، تقول"؛ أي: الملائكة: "اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، ما لم يحدث" بالتخفيف من (الحدث)؛ أي: ما لم يبطل وضوءه؛ لما روي أن أبا هريرة لما روى هذا الحديث قال له رجل من حضرموت: وما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: فساء أو ضراط، ومن شدَّد الدال فقد غلط.

491 - وقال: "إذا دَخَلَ أحدُكُمُ المسجدَ فليَقُلْ: اللهمَّ! افتَحْ لي أبوابَ رَحمَتِكَ، وإذا خرجَ فليَقُل: اللهمَّ! إني أسألُكَ مِنْ فَضْلِكَ". "وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دخل أحدكم المسجد فليقل: اللهم افتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج فليقل: اللهم إني أسألك من فضلك": لعل السر في تخصيص ذكر الرحمة بالدخول والفضل بالخروج: أن من دخل اشتغل بما يؤلفه إلى الله تعالى وإلى ثوابه وجنته، فناسب أن يذكر الرحمة، فإذا انتشر في الأرض اشتغل بابتغاء الرزق، فناسب أن يذكر الفضل، كما قال تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10]. * * * 492 - وقال: "إذا دخلَ أحدُكُمُ المسجدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قبلَ أنْ يَجْلِسَ". "وعن أبي قتادة السلمي أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دخل أحدكم المسجد فليركع"؛ أي: فليصل "ركعتين"؛ يعني: تحية المسجد "قبل أن يجلس". * * * 493 - وقال كعب بن مالك - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَقْدُمُ مِنْ سفَرٍ إلاَّ نهاراً في الضُّحى، فإذا قَدِمَ بدأَ بالمسجدِ، فصلَّى فيهِ ركعَتَيْنِ، ثمَّ جلسَ فيه. "وقال كعب بن مالك: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقدم من سفر إلا نهاراً في الضُّحى": وهو وقت تشرق الشمس، فالسنة إذا رجع من السفر أن يدخل في أول نهاره.

"فإذا قدم بدأ بالمسجد"؛ أي: بدخوله. "فصلى فيه ركعتين، ثم جلس فيه" لحظة؛ ليزوره المسلمون ويزورهم، ثم يدخل بيته. * * * 494 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَمعَ رجُلاً ينشُدُ ضالَّةً في المسجدِ فَلْيَقُلْ: لا رَدَّها الله عليكَ، فإنَّ المساجِدَ لمْ تُبن لهذا". "عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من سمع رجلاً ينشد ضالة"؛ أي: يطلبها برفع الصوت. "في المسجد فليقل: لا ردها الله تعالى عليك؛ فإن المساجد لم تُبن لهذا"؛ أي: لنشدان الضالة، بل لذكر الله تعالى وتلاوة القرآن والوعظ، يعرف منه كراهة كلِّ أمر لم يُبن المسجد لأجله، حتى كره مالك البحث العلمي فيه، وجوَّزه أبو حنيفة وغيره؛ لأنه مما يحتاج إليه الناس؛ لأن المسجد مجمعهم. * * * 495 - وقال: "مَنْ أَكَلَ مِنْ هَذِهِ الشَّجرةِ المُنْتَنِةَ فلا يَقْرَبن مَسجدَنَا، فإنَّ الملائكَةَ تتأذَّى ممَّا يَتَأَذَّى منهُ الإِنسُ". "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: من أكل من هذه الشجرة المنتنة": كالثوم والبصل والكراث. "فلا يقربن مسجدنا": قيل: النهي يتعلق بكل المساجد، فالإضافة للملابسة، أو التقدير: مسجد أهل ملتنا؛ لأن العلةَ وهي "فإن الملائكة": أريد بهم: الحاضرون مواضع العبادات "تتأذى مما يتأذى منه الإنس" = عامةٌ؛ أي:

توجد في سائر المساجد، فيعم الحكم، ويدل هذا التعليل على أنه لا يدخل المسجد وإن كان خالياً عن الإنسان؛ لأنه محل الملائكة. * * * 496 - وقال: "البُزاقُ في المَسجدِ خَطيئةٌ، وكفَّارتُها دَفْنُها". "وعن أنسٍ أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: البزاق في المسجد خطيئة"؛ أي: إلقاء البزاق في أرض المسجد وجدرانه إثمٌ. "وكفارتها دفنها"؛ يعني: إذا أزال ذلك البراق أو ستره بشيء طاهرٍ عقيبَ الإلقاء، أزال عنه تلك الخطيئة. * * * 497 - وقال: "عُرِضَتْ عليَّ أَعمالُ أُمَّتِي حَسَنُها وسيئُها، فوجدتُ في مَحاسِنِ أعمالِها الأَذَى يُماطُ عنِ الطَّريقِ، ووجدتُ في مَساوئ أعمالِها النُّخَاعةَ في المسجدِ لا تُدْفَنُ". "وعن أبي ذر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: عرضت علي أعمال أمتي؛ حسنها وسيئها": بالرفع بدل من (أعمال). "فوجدت في محاسن أعمالها": جمع (حُسن) - بضم الحاء - على غير قياس. "الأذى"؛ أي: إزالة الأذى، وهو: ما يتأذى به الناس من حجر أو غيره، واللام فيه للعهد الذهني. "يماط"؛ أي: يبعد. "عن الطريق": وهذه الجملة صفته.

"ووجدت في مساوئ أعمالها": جمع السُّوء على غير قياس أيضًا، والباء فيها مقلوبة عن الهمزة. "النُّخاعة" - بضم النون: البزقة التي تخرج من أصل الفم، والمراد بها: إلقاءُها. "تكون في المسجد لا تدفن"؛ أي: لا تستر، الجملتان صفة (النخاعة)، أو حال؛ يعني: إماطة الأذى عن الطريق من جملة الحسنات وإلقاء البزاق في المسجد من جملة السيئات. * * * 498 - وقال: "إذا قامَ أحدُكُمْ إلى الصَّلاةِ فلا يَبصُقْ أَمامهُ، فإنما يناجي الله ما دام في مُصلاه، ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملَكاً، وليبصُق عن يَسارِهِ أو تحتَ قدَمِهِ فَيَدْفِنُها"، وفي رواية: "أو تحتَ قَدَمِهِ اليُسْرَى". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقْ أمامه"؛ أي: لا يرمي البزاق تلقاءَ وجهه نحو القبلة. "فإنما يناجي الله تعالى"؛ أي: يخاطبه. "ما دام في مصلاه"، ومن يناجي أحدٌ لا يبصق نحوه، وتخصيص القبلة مع استواء جميع الجهات بالنسبة إليه تعالى؛ لتعظيمها. "ولا عن يمينه؛ فإن عن يمينه ملكاً"، وتخصيص يمين المصلي بالملك، وقد قال الله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]؛ للإيذان بمزية ملك اليمين على الشمال بالشرف؛ لأنه كاتب الحسنات التي هي علامة الرحمة، فالتنكير للتعظيم؛ أي: ملكاً عظيم الشأن، فكان حقه الإكرام، ولذا قال - عليه

الصلاة والسلام -: "كاتب الحسنات أمير على كاتب السيئات". قيل: هذا النهي عام في المسجد وغيره. "وليبصق عن يساره أو تحت قدمه فيدفنها". "وفي رواية": أبي سعيد "أو تحت قدمه اليسرى". * * * 499 - وقال: "لَعنةُ الله على اليَهودِ والنَّصارَى، اتَّخَذُوا قُبورَ أَنبيائهم مَساجِدَ". "وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لعنة الله على اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد": وذلك إما لسجودهم لقبور أنبيائهم تعظيماً لها، وهذا شرك جلي؛ لأن السجود لا يجوز إلا لله، وإما لاعتقادهم أن الصلاة إلى قبورهم أفضل وأعظم موقعاً عند الله؛ لاشتماله عبادةَ الله تعالى وتعظيمَ أنبيائهم، وهذا شرك خفيٌّ من حيث إنه أتى في عبادته بما يرجع إلى تعظيم مخلوق، ولذا قال - عليه الصلاة والسلام -: "اللهم لا تجعل قبري وثناً يُعبَدُ". * * * 500 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا فلا تتَّخِذُوا القُبُورَ مساجَدَ، إنِّي أنهاكمْ عَنْ ذلك". "ألا فلا تتخذوا القبور مساجد": نهى - عليه الصلاة والسلام - أمته عن الصلاة في المقابر؛ احترازاً عن المشابهة لليهود والنصارى. "إني أنهاكم عن ذلك": تأكيد للنهي قبله، أما من صلَّى في مقبرة، وقصدَ به وصول أثرٍ من آثار عبادته إليه، لا التعظيم والتوجُّه نحوه؛ فجائز.

501 - وقال: "اجْعَلُوا في بُيوتِكُمْ مِنْ صَلاتِكُمْ، ولا تتَّخِذُوهَا قُبوراً". "عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اجعلوا في بيوتكم من صلاتكم": مفعول (اجعلوا)؛ أي: اجعلوا بعضَ صلاتكم في بيوتكم. "ولا تتخذوها قبوراً" بإخلائها عن الصلوات وقراءة القرآن، وهو من باب الاستعارة، أو المراد: لا تجعلوا بيوتكم أوطاناً للنوم الذي هو أخٌ للموت، لا تصلون فيها. وقيل: إن مثل الذاكر لله ومثل غير الذاكر لله كمثل الحي والميت؛ الساكن في البيوت والساكن في القبور، فالذي لا يصلي في بيته جعله بمنزلة القبر، كما جعل نفسه بمنزلة الميت. * * * مِنَ الحِسَان: 503 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بينَ المَشرقِ والمَغربِ قِبْلةٌ". "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بين المشرق والمغرب قبلة": المراد به: قبلة أهل المدينة؛ لوقوعها بينهما، وهي إلى طرف الغرب أميلُ. قال ابن عمر: إذا جعلت المغرب عن يمينك والمشرق عن يسارك فما بينهما قبلة.

504 - وقال طَلْق بن علي: خرجْنَا وَفْداً إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فبايعناهُ، وصَلَّيْنَا معهُ، وأخبَرْنَاهُ أنَّ بأرضنَا بِيْعةٌ لنا، فقال: "إذا أَتيتُمْ أرضَكُمْ فاكسِروا بِيعَتَكُمْ، وانضَحُوا مَكانهَا بهذا الماءِ, واتَّخِذُوهَا مسجداً". "وقال طَلْق بن علي: خرجنا وفداً": نصب على الحال؛ أي: حال كوننا وافدين "إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: قاصدين لتعلم الدين منه. "فبايعناه، وصلينا معه، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا": وهي الموضع الذي تعبد فيه النصارى. "فقال: إذا أتيتم أرضكم، فاكسروا بيعتكم"؛ أي: غيروا محرابها، وحولوه إلى الكعبة، وقيل: خرِّبوها. "وانضحوا"؛ أي: رشوا وأريقوا. "مكانها بهذا الماء": قيل: الإشارة إلى فضل وَضوئه عليه الصلاة والسلام؛ لما روي: أنه صلى الله تعالى عليه وسلم دعا بماء فتوضأ منه، فتمضمض، ثم صبَّه في إداوة، وقال: "اذهبوا بهذا الماء، فإذا قدمتم بلدكم، فاكسروا بيعتكم، ثم انضحوا مكانها بهذا الماء". "واتخذوها مسجداً فقلنا: يا نبي الله! إن البلد بعيد، والماء ينشف، فقال: أمدوه من الماء؛ فإنه لا يزيده إلا طيباً". * * * 505 - قالت عائشة رضي الله عنها: أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببناءِ المَساجدِ في الدُّورِ، وأنْ تُنَظَّفَ وتُطَيَّبَ. "قالت عائشة: أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: أذِن

"ببناء المسجد في الدُّور": جمع الدار، والمراد هنا: المحلات؛ فإنهم كانوا يسمون المحلة التي اجتمعت فيها قبيلةٌ داراً، أو محمولٌ على اتخاذ بيت في الدار للصلاة كالمسجد يصلي فيه أهلُ البيت. "وأن ينظف"؛ أي: يُطهَّر بإزالة التبن والتراب والقاذورات. "ويطيب"، أي: يُجعَل فيه الطيب. * * * 506 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أُمِرْتُ بتشييدِ المَساجِدِ"، قال ابن عباس: لَتُزَخْرِفُنَّها كما زَخْرَفَتِ اليهودُ والنَّصارى. "وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أمرت بتشييد المساجد": (ما) نافية، و (تشييدها): رفع بنائها وتطويلها، وقيل: تجصيصها. "قال ابن عباس: لتزخرفنها": بفتح اللام توطئة للقسم؛ أي: والله لنزينن المساجد. "كما زخرفت اليهود والنصارى"؛ أي: مساجدهم عندما حرَّفوا وبدَّلوا أمر دينهم، وأنتم تصيرون إلى مثل حالهم من المراءاة والمباهاة بالمساجد بتشييدها وتزيينها. * * * 507 - عن أنس - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مِنْ أشراطِ السَّاعةِ أنْ يتَبَاهَى النَّاسُ في المساجِدِ". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إن

من أشراط الساعة": جمع شرط، وهو: العلامة؛ أي: من علامات القيامة. "أن يتباهى الناس"؛ أي: يتفاخر. "في المساجد"؛ أي: في شأنها، فيقول كل واحد: مسجدي أرفع بناء وأكثر زينة من مسجد فلان. * * * 508 - وقال: "عُرِضَتْ عليَّ أُجُورُ أُمَّتي حتَّى القَذَاةَ يُخرِجُها الرجُلُ مِنَ المسجدِ، وعُرِضَتْ عليَّ ذُنُوبُ أُمَّتي، فلمْ أَر ذنباً أعظمَ مِنْ سورَةٍ مِنَ القُرآنِ أو آيةٍ أُوتيَها رجلٌ، ثمَّ نسَيَها". "وقال عليه الصلاة والسلام: عرضت علي أجور أمتي"؛ أي: أجور أعمال أمتي. "حتى القَذاة" بفتح القاف: التبن والتراب وغير ذلك مما يُطهَّر منه المسجد. "يخرجها الرجل من المسجد"؛ يعني: تطهير المسجد حسنة، ويجوز في (القذاة) الرفع والجر. "وعرضت علي ذنوب أمتي، فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن، أو آية أوتيها رجل"؛ أي: تعلمها. "ثم نسيها"؛ يعني: يكون ذنبه أعظم من سائر الذنوب الصغائر؛ لأن نسيان القرآن من الحفظ ليس بذنب كبير إن لم يكن عن استخفاف وقلة تعظيم، وإنما قال - عليه الصلاة والسلام - بهذا للتشديد والتحريض على مراعاة حفظ القرآن.

509 - وقال: "بَشِّر المشَّائينَ في الظُّلَم إلى المساجِدِ بالنُّور التَّامِّ يومَ القِيامَةِ". "وعن بريدة الأسلمي أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بشِّر المشائين": جمع المشَّاء، وهو: كثير المشي. "في الظلم إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة": قيل: لو مشى في الظلام بضوء وأرأد به دفع آفات الظلام، فالجزاءُ بحاله، وإلا فلا. * * * 510 - وقال: "إذا رأَيتُم الرجل يتعاهد المَسجدَ فاشهدوا له بالإيمان، فإن الله يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} ". "وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا رأيتم الرجل يتعاهد المسجد"؛ أي: يخدمه ويعمره. وقيل: المراد التردد إليه في أوقات الصلاة وإقامة جماعته، وهذا هو التعهد الحقيقي؛ إذ ذلك عمارته صورة ومعنى. "فاشهدوا له بالإيمان"؛ أي: بأنه مؤمن. "فإن الله تعالى يقول: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}: قال صاحب "الكشاف": عمارتها: كنسها وتنظيفها وتنويرها بالمصابيح، وتعظيمها واعتيادها للعبادة والذكر، وصيانتها عما لم تُبن له المساجد من أحاديث الدنيا فضلاً عن فضول الحديث. * * * 511 - قال عُثمان بن مَظْعُون - رضي الله عنه -: قلت: يا رسولَ الله! ائذَنْ لنا في الاخْتِصَاءِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ مِنَّا مَنْ خَصَى، ولا مَنِ اخْتَصى، إنَّ

خِصَاءَ أُمَّتِي الصِّيامُ"، فقال: ائذَنْ لنا في السِّياحَةِ، فقال: "إنَّ سياحَةَ أُمَّتِي الجهادُ في سَبيلِ الله"، فقال: ائذَنْ لنا في التَّرَهُّبِ، فقالَ: "إنَّ تَرَهَّبَ أُمَّتِي الجُلُوسُ في المَساجِدِ انتِظارَ الصَّلاةِ". "وقال عثمان بن مظعون": حين أرسله جماعة من أهل الصُّفة؛ ليستأذن لهم في الاختصاء؛ لأنهم يشتهون النساء، ولا طَول لهم بذلك: "يا رسول الله! ائذن لنا في الاختصاء، فقال: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ نهياً عن ذلك: "ليس منا"؛ أي: ممن يتمسك بسنتنا ويقتدي بهدينا. "من خصى"؛ أي: أخرج خصية أحد. "ولا اختصى": بحذف (من)؛ لدلالة ما قبله عليه؛ أي: أخرج وسلَّ خصية نفسه. "إن خِصاءَ أمتي الصيام"؛ فإنه يكسر الشهوة، وجعل الصيام خصاءً مجاز؛ لأنه يكاد يلحق الصوام بالخصيان في اشتهاء النكاح. "فقال"؛ أي: عثمان: "ائذن لنا في السياحة": وهو التردد والسفر في البلاد والذهاب في الأراضي، كفعل عُبَّاد بني إسرائيل. "فقال: إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله، فقال: ائذن لنا في الترهُّب": وهو التزهد والتعبد، والمراد به هنا: العزلة عن الناس، والفرار من بينهم إلى رؤوس الجبال والمواضع الخالية، كما فعلت زهاد النصارى، حتى إن منهم من خصى نفسه، ووضع السلسلة في عنقه، وغير ذلك من أنواع التعذيب، فنهى - عليه الصلاة والسلام - المسلمين عنها. "قال: إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد انتظار الصلاة": نصب بأنه مفعول له للجلوس؛ أي: لانتظار الصلاة.

512 - عن عبد الرحمن بن عائش - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأَيتُ رَبي تَبَارَكَ وتعالى في أَحْسَنِ صُورَةٍ، فقال: فيمَ يَخْتَصِمُ المَلأَ الأَعْلَى يا مُحَمَّد؟ قلتُ: أنتَ أَعْلَمُ أَي رَبِّ - مَرَّتَيْنِ - قال: فَوَضَعَ كَفَّهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ، فَوَجَدْتُ بَرْدَهَا بَيْنَ ثَدْيَيَّ، فَعَلِمْتُ ما في السَّماءِ والأَرْضِ، ثُمَّ تلا هذه الآية: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ}، ثم قال: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأَ الأَعْلَى يا مُحَمَّد؛ قلتُ: في الكَفَّاراتِ، قالَ: وما هُنَّ؟ قُلْتُ: المَشْيُ على الأقْدَامِ إلى الجماعَاتِ، والجُلُوسُ في المَساجِدِ خَلْفَ الصَّلواتِ، وإبلاغُ الوُضوءِ أماكِنَهُ في المَكَارِهِ، مَنْ يَفْعَلْ ذلكَ يَعِشْ بِخَيْرٍ وَيَمُتْ بِخَيْرٍ، ويكونَ مِنَ خَطِيئَتِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، ومِنَ الدَّرَجَاتِ إطْعَامُ الطَّعامِ، وبَذْلِ السَّلامِ، وأنْ يَقُومَ بالليلِ والنَّاسُ نِيامٌ، قال: قُلِ: اللهمَّ! إنِّي أَسْأَلُكَ الطَّيبَاتِ، وتَرْكَ المُنْكَراتِ، وحُبَّ المساكين، وأَنْ تَغْفِرَ لي خَطِيئتِي وتَرْحَمَني وتَتُوبَ عَلَيَّ، وإذا أَرَدْتَ فِتْنَةً في قَوْمٍ فَتَوَفَّني غَيْرَ مَفْتُونٍ". "وعن عبد الرحمن بن عائش أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رأيت ربي تبارك وتعالى في أحسنِ صورة": حال من النبي عليه الصلاة والسلام؛ أي: رأيته وأنا في تلك الحالة في أحسن صورة وصفة من غاية لطفه تعالى بي وإنعامه علي. ويحتمل أن يكون حالاً من المرئي؛ فالسلفُ على الإيمانِ بظاهر مثله، وتفويضِ أمر باطنه إليه تعالى. ثم هذا الحديث مرسل؛ لأن عبد الرحمن بن عائش يرويه عن مالك بن عامر، عن معاذ بن جبل: قال معاذ - رضي الله عنه -: لم يخرج علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً لصلاة الغداة حتى كادت الشمس تطلع، فخرج، فصلى بنا صلاة الغداة على العجلة، ثم قال: "قمت الليلة، وصليت ما قدر الله لي أن أصلي، ثم غلبني

النعاس، فوضعت جنبي في المسجد، فرأيت ربي في المنام في أحسن صورة". "فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ ": المراد بهم: الملائكة المقربون، وصفوا به لعلوِّ مكانهم، وهو السماوات، أو لعلو منزلتهم عند الله. واختصامهم: عبارة عن تبادرهم إلى تثبيت تلك الأعمال المكفرة للذنوب والصعود بها إلى السماء، أو عن تقاولهم فيما بينهم في فضل تلك الأعمال وشرفها. "قلت: أنت أعلم أي رب": وإنما نادى بـ (أي) دون (يا) أدباً؛ لأن (يا) ينادى به البعيد، والله تعالى أقرب من حبل الوريد. وأما ما روي من النداء بـ (يا) في الدعوات، فلهضم النفس واستبعادها عن مظانِّ الإجابة، وهو اللائق بحال الدعاء. "مرتين": متعلق بقوله: (فيم يختصم)؛ أي: جرى السؤال من ربي مرتين، والجواب مني مرتين. "قال: فوضع كفه بين كتفي": وهذا مجاز عن تخصيصه إياه بمزيد الفضل عليه وتكريمه؛ فإن من شأن الملوك إذا أراد أحدهم أن يقرب من نفسه بعضَ خدمه، ويذكر معه بعض أحوال مملكته: أن يضع يده على ظهره؛ تعظيماً لشأنه وتكريماً له. "فوجدت بردها"؛ أي: برد الكفِّ؛ يعني: راحة لطفه تعالى. "بين ثديي": أراد به: قلبه، وذلك عبارة عن نزول الرحمة على فؤاده، وانصباب العلوم الوجدانية إلى صدره. "فعلمت ما في السماوات والأرض": كناية عن سعة علمه الذي فتحه الله تعالى. "ثم تلا هذه الآية: {وَكَذَلِكَ} "؛ أي: كما نريك يا محمد أحكام الدين

وعجائب ما في السماوات والأرض. {نُرِي إِبْرَاهِيمَ}: مضارع في اللفظ، ومعناه الماضي؛ أي: أرينا إبراهيم. {مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: الربوبية والإلهية، ووفقناه بمعرفتها وأرشدناه بما شرحنا صدره. {وَلِيَكُونَ}: عطف على مقدر؛ أي: نريه الملك العظيم، وهو عالم المعقولات؛ ليستدلَّ به علينا، وليكون {مِنَ الْمُوقِنِينَ}: في أن لا إله غيري. "ثم قال تعالى" سائلاً مرة أخرى: "فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: في الكفارات"؛ أي: الأشياء التي تكفر الذنوب؛ أي: تمحها، وفي رواية ابن عباس: (في الدرجات والكفارات). "قال: وما هن؟ ": استفهام عن تلك الكفارات، والغرضُ منه إظهار علمه التفصيلي الذي علَّمه تعالى إياه، وأن يخبرها أمته؛ ليفعلوها. "قلت: المشي على الأقدام إلى الجماعات، والجلوس في المساجد خلف الصلوات، وإبلاغ الوَضوء": بفتح الواو؛ أي: إيصال ماء الوضوء بطريق المبالغة. "أماكنه"؛ يعني: مواضع الفروض والسنن. "في المكاره"؛ أي: في شدة البرد، وإنما خصَّ هذه الأشياء بالذكر حثاً على فعلها؛ لأنها دائمة، فكانت مظنة أن تُملَّ. "ومن يفعل ذلك يعش بخير ويمت بخير، ويكون من خطيئته كيوم ولدته أمه": (يوم) مبني على الفتح؛ لإضافته إلى الماضي؛ يعني: يخرج من ذنوبه الصغائر طاهراً، أما الكبائر ففي مشيئة الله تعالى. "ومن الدرجات"؛ أي: ومما يرفعها، أو يوصل إليها، فـ (من) هذه للتبعيض.

"إطعام الطعام، وبذل السلام"؛ أي: إفشاؤه على من عرف ومن لم يعرف. "وأن تقوم بالليل والناسُ نيام"، وإنما عُدَّت هذه الأشياء منها؛ لأنها فضل منه على ما وجب عليه، فلا جرمَ استحقَّ بها فضلاً، وهو علوُّ الدرجات. قال الله تعالى لمحمد - صلى الله عليه وسلم -: "قل: اللهم إني أسألك الطيبات"؛ أي: الأقوال والأفعال الصالحة. "وفعل الخيرات، ترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي، وإذا أردت فتنة"؛ أي: ضلالةً. "في قوم، فتوفني إليك": فقدِّرْ موتي "غير مفتون"؛ أي: غير ضالٍّ. * * * 513 - عن أبي أُمامة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثةٌ كُلُّهُمْ ضامِنٌ على الله: رَجُلٌ خرجَ غازِياً في سبيل الله، فهو ضامِنٌ على الله حتَّى يَتوفَّاهُ فيُدْخِلَهُ الجنَّةَ أو يَرُدَّهُ بما نالَ مِنْ أَجرٍ أو غنيمةٍ، ورجُلٌ راحَ إلى المسجدِ فهو ضامِنٌ على الله، ورجُلٌ دخلَ بيتَهُ بسلامٍ فهو ضامِنٌ على الله". "عن أبي أمامة: عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: ثلاثة كلهم"؛ أي: كلُّ واحد منهم. "ضامن"؛ أي: ذو ضمان، وقيل: بمعنى: مضمون. "على الله"؛ يعني: وعد الله وعداً لا خُلفَ فيه أن يعطيهم مرادهم. "رجل خرج غازياً في سبيل الله، فهو ضامنٌ على الله حتى يتوفاه"؛ أي: يقبض روحه؛ إما بالموت، أو بالقتل في سبيل الله. "فيدخله الجنة، أو يرده بما نال"؛ أي: بما وجده "من أجر أو غنيمة،

ورجل راح"؛ أي: مشى "إلى المسجد، فهو ضامن على الله": أن يعطيه الأجر؛ لئلا يضيعَ سعيه. "ورجل دخل بيته بسلام"؛ أي: مسلِّماً على أهله. "فهو ضامن على الله": أن يعطيه البركة والثواب الكثير؛ لما رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لأنس: "إذا دخلت على أهلك فسلِّم، يكون بركةً عليك وعلى أهل بيتك". وقيل: معناه سالماً من الفتن؛ أي: طلبًا للسلامة منها؛ فإنه يأمن، كقوله تعالى: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ}؛ أي: سالمين من العذاب. وإنما لم يذكر المضمون به في الأُخريين اكتفاءً. * * * 514 - وقال: "مَنْ خرجَ مِنْ بيتِهِ مُتطهراً إلى صَلاةٍ مكتوبةٍ فأجرُهُ كأجرِ الحاجِّ المُحرِمِ، ومَنْ خرجَ إلى تَسبيحِ الضُّحى لا يُنصِبُهُ إلاَّ إيَّاهُ فأجرُهُ كأجرِ المُعْتَمِرِ، وصلاةٌ على إثر صلاةٍ لا لَغْوَ بينَهُما كِتابٌ في عِلِّيِّين". "عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة"؛ أي: مفروضة. "فأجره كأجر الحاج المحرم" في استكمال المثوبات، واستيفاء الأجر من جهة التضعيف، لا بيان المماثلة من سائر الوجوه. وخُصَّ بأجر الحاج المحرم؛ لأن الإحرامَ شرطُ الحج كالطهارة للصلاة، فكما أن الحاج إذا كان في حالة الإحرام كان عمله أتم وأفضل، كذلك الخارج إلى الصلاة متطهراً، يكون ثوابه أوفر، وسعيه أفضل. "ومن خرج إلى تسبيح الضحى"؛ أي: إلى صلاة الضحى، وكلُّ صلاة

نافلة فهي تسبيحٌ وسُبحة، كأنها شُبهت بالأذكار في كونها غير واجبة. "لا ينصبه": من (الإنصاب): الإتعاب. "إلا إياه": ضمير منفصل منصوب وقع موقع المنفصل المرفوع؛ لأنه استثناء مفرغ؛ يعني: لا يعتبه إلا الخروج إلى تسبيح الضحى. "فأجره كأجر المعتمر": إشارة إلى أن فضلَ ما بين المكتوبة والنافلة، والخروج إلى كل واحد منهما، كفضل ما بين الحج والعمرة، والخروج إلى كل واحد منهما. "وصلاة على إِثْر صلاة" بكسر الهمزة ثم السكون، أو بفتحتين؛ أي: عقيبها. "لا لغو بينهما كتاب"؛ أي: عمل مكتوب في عليين، أو مرفوع فيه، أو سببٌ لكتب اسم عامله. "في عليين": وهو موضع تكتب فيه أعمال الصالحين، وقيل: هو علم لديوان الخير الذي دُوِّنَ فيه أعمال الأبرار. * * * 515 - وقال: "إذا مَرَرْتُمْ برياضِ الجنَّةِ فارتَعوا"، قيلَ: يا رسولَ الله! وما رياضُ الجنَّة؟ قال: "المساجِدُ"، قيل: وما الرَّتْعُ يا رسولَ الله؟ قال: "سُبحانَ الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلاَّ الله والله أكبر". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا مررتم برياض الجنة فارتَعوا"؛ أي: انعموا والهوا. "قيل: يا رسول الله! وما رياض الجنة؟ قال: المساجد، قيل: وما الرتع يا رسول الله؟ قال: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر"؛ فإن هذه

الكلمات لما كانت سبباً للرتع سُمِّيت به. * * * 516 - وقال: "مَنْ أتى المسجدَ لشيءٍ فهو حظُّه". "وعنه عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: من أتى المسجد لشيء فهو حظه"؛ يعني: من أتى المسجد لعبادة، حصل له الثواب، ومن أتاه لشُغل دنيوي، لا يحصل له إلا ذلك الشُّغل. * * * 517 - عن فاطمة الكبرى رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلَ المسجدَ صَلَّى على مُحمَّدٍ وسَلَّمَ عليه السلام، وقال: "رَبِّ اغفِرْ لي ذُنوبي، وافتَحْ لي أبوابَ رحمتِكَ"، وإذا خرجَ صلَّى على مُحمَّدٍ وسَلَّمَ، وقال: "رَبِّ اغفِرْ لي ذُنوبي، وافتَحْ لي أبوابَ فضلِكَ"، ليس بمتصل. "وعن فاطمة الكبرى رضي الله عنها": وهي بنت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وُصِفت بالكبرى؛ لكبر شأنها وفضلها. "أنها قالت: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا دخل المسجد صلَّى على محمد وسلم"؛ يعني قال: اللهم صلى على محمد وسلم. "وقال: رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج صلَّى على محمد وسلم وقال: رب اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب فضلك". "ليس بمتصل"؛ أي: هذا الحديث ليس بمسند؛ لأن فاطمة الصغرى بنت حسين بن علي تروي هذا الحديث عن جدتها، وهي لم تُدركها.

518 - وعن عَمْرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ نهى عن تَناشُدِ الأشعارِ في المسجدِ، وعن البيعِ والاشتِراءَ فيه، وأنْ يَتحلَّقَ النَّاسُ يومَ الجمعةِ قبلَ الصَّلاةِ في المسجدِ". "وعن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد": التناشد: أن ينشد كل من المتناشدين شعراً لنفسه أو لغيره، والنهي عن ذلك خاصٌّ بغير الشعر الحسن؛ لأن حسَّان أنشده بحضرة النبي - عليه الصلاة والسلام - في المسجد مستحسناً لما أنشده. "وعن البيع والاشتراء فيه"؛ أي: في المسجد. "وأن يتحلق الناس"؛ أي: أن يجلسوا على هيئة الحلقة. "يوم الجمعة قبل الصلاة في المسجد"، وإنما نهاهم عن ذلك؛ لأنهم إذا تحلقوا فالغالب عليهم التكلم ورفع الصوت، فلا يستمعون الخطبة. * * * 519 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأَيْتُمْ من يبيعُ أو يَبتاعُ في المسجدِ فقولوا: لا أربَحَ الله تجارتَكَ، وإذا رأيتُمْ مَنْ ينشُدُ فيهِ ضالَّة فقولوا: لا ردَّ الله علَيْكَ". "وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع"؛ أي: يشتري "في المسجد فقولوا: لا أربحَ الله تعالى تجارتك"؛ أي: لا يزيد المال في تجارتك عن أصل مالك. "وإذا رأيتم من ينشد فيه ضالة فقولوا: لا ردَّها الله تعالى عليك": دعاء

عليه؛ زجراً له عن ترك تعظيم المسجد. * * * 520 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُسْتَقادَ في المسجدِ، وأنْ يُنْشَدَ فيهِ الأشعارُ، وأنْ تُقامَ فيه الحُدودُ. "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يُستقاد"؛ أي: يُقتصَّ. "في المسجد"؛ لئلا يقطر الدم فيه. "وأن ينشد"؛ أي: يقرأ "فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود"؛ لئلا يتلوث المسجد. * * * 521 - عن مُعاوية بن قُرَّة، عن أبيه - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهى عنْ هاتَيْنِ الشَّجرتَيْنِ - يعني البصلَ والثُّومَ - وقال: "مَنْ أكلهُما فلا يَقْرَبن مَسجدَنا"، وقال: "إنْ كنتُمْ لا بُدَّ آكليهِما فأَمِيتُوهُما طَبْخاً". "وعن معاوية بن قُرَّة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن هاتين الشجرتين - يعني: البصل والثوم - وقال: من أكلهما فلا يقربن مسجدنا"؛ أي: مسجد أهل مِلَّتنا. "وقال: إن كنتم لابد آكليهما، فأميتوهما طبخاً"؛ أي: أنضجوهما حتى تذهبَ رائحتهما الكريهة بالطبخ. * * * 522 - وقال: "الأرضُ كُلُّها مسجدٌ إلاَّ المقبرةَ والحمَّامَ"، رواه أبو سعيد الخُدريُّ.

"وعن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: الأرض كلها مسجد"؛ يعني: تجوز الصلاةُ في جميع الأرض من غير كراهة. "إلا المقبرة والحمام"؛ فإنها تكره فيهما. * * * 523 - عن ابن عمر: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهَى أنْ يُصلَّى في سبعةِ مَواطِنَ: في المَزبلةِ، والمَجزرَةِ، والمَقبَرةِ، وقارِعَةِ الطريقِ، وفي الحمَّامِ، وفي مَعاطِنِ الإِبلِ، وفوقَ ظهرِ بيتِ الله تعالى. "وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى أن يُصلَّى في سبعة مواطنَ": جمع الموطن، وهو: الموضع. "في المزبلة": وهو الموضع الذي يكون فيه الزبل، وهو السرجين. "والمجزرة": وهو الموضع الذي تُجزَر فيه الإبل؛ أي: تذبح؛ لأن هذا المواضع محل النجاسة، فإن صلى فيهما بغير سجادة بطلت، ومع السجادة تكره؛ للرائحة الكريهة. "والمقبرة"؛ لأنه تشبُّه باليهود. "وقارعة الطريق": أراد به الطريق الذي يقرعه الناس والدواب بأرجلهم. "وفي الحمام"؛ لأنه محل النجاسة. "وفي معاطن الإبل": جمع معطِن بكسر الطاء، وهو الموضع الذي تبرك فيه الإبل عند الرجوع عن الماء، ويستعمل في الموضع الذي تكون فيه بالليل أيضًا. وهذا ظاهر؛ لأن الرجلَ لا يأمن من ضرر الإبل هناك؛ لأنها شديدةُ النِّفارِ قويةُ الشرادِ، فيها أخلاق خبيثة وخصال شيطانية، إذا نَدَّت لا يقاومها شيء،

فربما تقطع الصلاة وتشوش قلبه، فتمنعه عن الحضور. "وفوق ظهر بيت الله": فالصلاة فوق ظهره لا تصحُّ عند الشافعي إن لم يكن بين يديه سترة يستقبلها، وعند أبي حنيفة: تصح. وإنما ذكر الظهر مع الفوق؛ إذ لا تكره الصلاة على موضع هو فوق البيت كجبل أبي قُبيس، وذكر (فوق)؛ لأن الحيطان كلها ظهر البيت. * * * 524 - وقال: "صَلُّوا في مَرابضَ الغنمِ، ولا تُصَلُّوا في أَعطانِ الإِبلِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صلوا في مرابض الغنم": جمع المربض بكسر الباء، وهو الموضع الذي تكون فيه الغنم بالليل. "ولا تصلوا في أعطان الإبل": جمع عطن، وهو مثل المعطن. قيل: في الفرق بين المرابض الغنم ومعاطن الإبل: إن أصحاب الإبل كانوا يتغوطون ويبولون في المعاطن، فنُهي عن الصلاة فيها لذلك، فلو صلى والمكان طاهر يصح عند الأكثر، وأصحاب الغنم كانوا ينظفون المرابض، فأبيحت فيها لذلك، وإليه ذهب أبو حنيفة. * * * 525 - وعن ابن عباس قال: لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زائراتِ القُبورِ، والمتَّخِذينَ عليها المساجِدَ والسُّرُجَ. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زائرات القبور": إنما نهى - عليه الصلاة والسلام - النساء من زيارة القبور؛ لقلة

صبرهن، وكثرة جزعهن. ذهب بعض العلماء إلى أن هذا قبل ترخيص النبي - عليه الصلاة والسلام - في زيارة القبور، فلمَّا رخَّص دخل في الرخصة الرجال والنساء. وفي بعض النسخ: (زوارات القبور): جمع: زوَّاة، وهي للمبالغة، يدل على أن من زار منهنَّ على النُّدرة فهي غير داخلة في الملعونات. "والمتخذين عليها المساجد": إنما حرم اتخاذ المساجد عليها؛ لأن في الصلاة فيها استناناً بسنة اليهود. "والسرج": جمع سراج، وهو المصباح، وإنما حرم اتخاذ السرج عليها؛ لأنها من آثار جهنم، وفيه تضييع المال بلا نفع، وللاحتراز عن تعظيم القبور، كالنهي عن اتخاذها مساجد. * * * 525/ -م - عن أبي أُمامة الباهلي: أنَّ حَبْراً من اليهود سأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ البقاع خيرٌ؟ فسكت عنه، وقال: "اسكت حتى يجيء جبريلُ"، فسكت، فجاء جبريل عليه السلام، فسأله، فقال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، ولكن أَسالُ ربي تعالى، ثم قال جبريل: يا محمد! إني دنوتُ من الله دُنوًّا ما دنَوتُ منه قطُّ، قال: "كيف كان يا جبريلُ؟ "، قال: كان بينه وبيني سبعون ألف حجابٍ من النور، فقال: "شرُّ البقاع أَسواقها، وخير البقاع مَساجدها"، في نسخةٍ: "بيني وبينه". "وعن أبي أمامة الباهلي: أن حَبراً": بفتح الحاء على الأشهر؛ أي: عالماً. "من اليهود سأل النبي عليه الصلاة والسلام: أي البقاع خير؟ " بكسر

7 - باب الستر

الباء: جمع البقعة، وهي الموضع الذي يجتمع الناس فيه مطلقاً. "فسكت عنه، وقال عليه الصلاة والسلام: أسكتُ": على صيغة المتكلم. "حتى يجيء جبرائيل عليه السلام، فسكت، وجاء جبرائيل - عليه الصلاة والسلام - فسأله، فقال: ما المسؤول منها بأعلم من السائل، ولكن أسأل ربي تبارك وتعالى"؛ أي: لكن أرجعُ إلى حضرة ربي، وأسأله عن هذه المسألة. "ثم قال جبرائيل" بعد رجوعه إلى الحضرة: "يا محمد! إني دنوت"؛ أي: قربت. "من الله تعالى دنواً ما دنوت مثله قط"؛ يعني: أذن لي بأن أقرب منه تعالى أكثر مما قربت في سائر الأوقات، لعل زيادة تقريبه منه تعالى في هذه المرة؛ لتعظيمه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أتى من عنده عليه السلام، وقد يزيد المحب في احترام رسول الحبيب؛ لتعظيمه. "قال: كيف كان يا جبرائيل؟ قال: كان بيني وبينه"؛ أي: بيني وبين العرش "سبعون ألف حجاب من نور، فقال: شر البقاع أسواقها، وخير البقاع مساجدها". * * * 7 - باب السَّتْر (باب الستر) هو - بفتح السين - مصدر ستره يستره: إذا غطاه، وبالكسر: واحد الستور والأستار.

مِنَ الصِّحَاحِ: 526 - قال عمر بن أبي سَلَمة - رضي الله عنه -: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي في ثَوْبٍ واحِدٍ مُشْتَمِلاً بهِ في بيتِ أُمِّ سَلَمَةَ واضعاً طَرَفَيْهِ على عاتِقَيْهِ. "من الصحاح": " قال عمر بن أبي سلمة: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد"؛ أي: إزار طويل. "مشتملاً به": بأن لفَّه ببدنه. "في بيت أم سلمة واضعاً طرفيه على عاتقيه"؛ يعني: مُتَّزراً ببعضه، ومُلقياً طرفيه على عاتقيه، فكان بمنزلة الإزار والرداء. العاتق: ما بين المنكب إلى أصل العنق. وهذا يدل على جواز الصلاة في ثوب واحد إذا كان يستر ما بين سرته وركبته. * * * 527 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُصَلِّيَنَّ أحدُكُمْ في ثوبٍ واحدٍ ليسَ على عاتِقَيْهِ مِنْه شيءٌ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يصلينَّ أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه شيء"، وهذه الجملة المنفية حال؛ يعني: من صلَّى في ثوب واسع ينبغي له أن يلقي طرفيه على عاتقيه مخالفاً بينهما؛ ليكون آمناً عن انكشاف عورته، ومن صلى ولم يفعل ذلك لا تصحُّ صلاته عند أحمد؛ لظاهر الحديث، والجمهور على صحتها؛ لأن النهي للتنزيه.

528 - وعنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلَّى أحدُكُمْ في ثَوْبٍ فلْيُخالِفْ بطرفَيْهِ على عاتِقَيْهِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا صلى أحدكم في ثوب، فليخالفْ بطرفيه"؛ يعني: فليتزرْ بأحد طرفيه، وليطرحْ طرفه الآخر "على عاتقيه"، فهذا هو المخالفة، هذا إذا كان الثوب واسعاً، فإن ضاق شدَّه على حقويه. * * * 529 - عن عائشة رضي الله عنها: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى في خَميصةٍ لها أَعلامٌ، فنظرَ إلى أعلامِها نَظرةً، فلمَّا انصرفَ قال: "اذهَبُوا بخَميصَتي هذه إلى أبي جَهْمٍ، وائتوني بأنْبجانِيَّةِ أبي جَهْمٍ، فإنَّها ألهتْني آنِفاً عنْ صلاتي". وفي روايةٍ: "كنتُ أنظُرُ إلى عَلَمِها وأنا في الصَّلاةِ، فأخافُ أن تَفْتِنَني". "وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - صلَّى في خميصة": وهي كساء أسود من صوفٍ مربع له علمان، أو خزٍّ معلم في طرفيه، فإن لم يكن معلَّماً فليس بخميصة؛ فقول عائشة: "لها أعلام" على وجه البيان أو التأكيد. "فنظر إلى أعلامها نظرة، فلما انصرف قال: اذهبوا بخميصتي هذه إلى أبي جهم": وهو ابن حذيفة بن غانم القرشي العدوي. "وائتوني بأنبجانية أبي جهم": وهي كساء غليظ من صوف بغير عَلَم، منسوب إلى الأنبجان، وهو اسم بلد، وأصحاب الحديث يروونها بكسر الياء، وأهل اللغة يفتحونها. "فإنها": فإن الخميصة "ألهتني آنفًا"؛ أي: شغلتني في هذه الساعة "عن

صلاتي"، ومنعتني الحضورَ فيها. قيل: إنما بعثها - عليه الصلاة والسلام - إلى أبي جهم؛ لأن أرسل إليه - صلى الله عليه وسلم - تلك الخميصة بالهدية، فلمَّا كره الصلاة معها لما وجد فيها من الرعونة، ردَّها على صاحبها، وطلب منه بدلها؛ ليطيبَ قلبه. "وفي رواية: كنت أنظر إلى علمها وأنا في الصلاة، فأخاف أن تفتنني"؛ أي: تمنعني عن الصلاة. وفي الحديث: إشارةٌ إلى حفظ البصر في الصلاة عما يفتن. * * * 530 - عن أنس - رضي الله عنه - قال: كانَ قِرامٌ لعائشةَ رضي الله عنها سَتَرَتْ بهِ جانبَ بَيْتِها، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمِيطي عنَّا قِرامَكِ، فإنَّهُ لا تزالُ تصاوِيرُهُ تَعْرِضُ في صَلاتي". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: كان قِرام لعائشة": وهو - بكسر القاف - سترٌ رقيق فيه رقم ونقوش، وقيل: من الصوفِ ذي ألوان. "سترت به جانب بيتها، فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: أميطي عنا قِرامك"؛ أي: أبعديه وارفعيه من تلقاء وجهي. "فإنه": الضمير للشأن أو للقرام. "لا تزال تصاويره": جمع تصوير؛ بمعنى: الصورة. "تعرض"؛ أي: تظهر لي "في صلاتي": وتشغلني منها، وفيه إيذان بأن لصور الأشياء الظاهرة تأثيراً في النفوس الزكية.

531 - وعن عُقْبة بن عامِر - رضي الله عنه - قال: أُهدِيَ لرسولِ - صلى الله عليه وسلم - فَرُّوجُ حَريرٍ، فلبسَهُ، ثمَّ صلَّى فيهِ؛ ثمَّ انصرَفَ فنزعَهُ نزعاً شديداً كالكارِهِ لهُ، ثم قال: "لا يَنْبَغي هذا للمُتَّقينَ". "وعن عقبة بن عامر أنه قال: أُهدي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فَرُّوجُ حرير": بفتح الفاء وتشديد الراء: القباء الذي فيه شقٌّ من خلفه، قيل: المهدي هو مقوقس صاحب الإسكندرية، وقيل: أكيدر صاحب دومة الجندل؛ على اختلاف القولين. "فلبسه"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام - ذلك الفروج. "ثم صلَّى فيه، ثم انصرف فنزعه نزعاً شديداً كالكارِهِ له"؛ لما رأى فيه من الرعونة. "ثم قال: لا ينبغي"؛ أي: لا يليق. "هذا للمتقين": قيل: إنه كان قبل البعثة، وقيل: إنه كان بعد البعثة وقبل التحريم، ويجوز أن يُحمَل على أول التحريم؛ لأنه جاء في رواية أخرى أنه - عليه الصلاة والسلام - صلَّى في قباء ديباج، ثم نزعه وقال: "نهاني عنه جبرائيل عليه السلام". * * * مِنَ الحِسَان: 532 - قال سَلَمة بن الأَكْوَع: قلتُ: يا رسولَ الله! إنِّي رجُلٌ أَصيدُ، أفاُصلِّي في القَميصِ الواحِدِ؟ قال: "نعمْ وازْرُرْه ولو بشَوْكةٍ". "من الحسان": " قال سلمة بن الأكوع: قلت: يا رسول الله! إني رجل أَصِيدُ": المشهور

أنه من (الاصطياد)، وفي رواية: (أَصْيَد)، وهو الذي في رقبته علةٌ، لا يمكنه الالتفات معها. "أفأصلِّي في القميص الواحد؟ قال: نعم، وازرره"؛ أي: اجعله مزروراً؛ أي: شد جيبه. "ولو بشوكة"؛ أي: بقصٍّ، هذا إذا كان القميصُ واسعاً تظهر منه عورته عند الركوع. * * * 533 - وقال: "إنَّ الله لا يقبَلُ صَلاةَ رجُلٍ مُسبلٍ إزارَهُ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله لا يقبل"؛ أي: لا تقعُ عنده كاملةً. "صلاة رجلُ مسبلٍ إزاره" حتى وصل إلى الأرض من غاية طوله، يفعل ذلك تكبراً واختيالاً بين يدي الله، فكره الشافعي إطالة الذيل في الصلاة كما في غيرها، وجَوَّز مالك ذلك قال: لأن المصلي قائم في موضع واحد، فلا يكون في طول ذيله تكبر؛ بخلاف الماشي، والنهيُ عن ذلك لئلا يتشبث به عند النهوض فيعثر؛ أو يشتغل بإمساكه وتشميره المانع عن الحضور. * * * 534 - وقال: "لا تُقْبَلُ صَلاةُ حائضٍ إلاَّ بِخِمارٍ". "عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُقبلَ صلاةُ حائض": أراد بها: الحرةُ التي بلغت سنَّ الحيض، [وأنها] جارٍ عليها القلم.

"إلا بخمار"؛ أي: بمقنعة؛ يعني: لا يجوز كشف الرأس للحرة البالغة في الصلاة. قيل: الأصوب أن يراد بالحائض: مَنْ شأنُها الحيضُ؛ ليتناول الصغيرة أيضًا؛ فإن ستر رأسها شرط صحة صلاتها أيضًا، وفيه دليل على أن رأسها عورة بخلاف الأمة. * * * 535 - وعن أُمِّ سَلَمة: أنَّها سألتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: أتُصلِّي المرأَةُ في دِرْعٍ وخِمارٍ ليسَ عليها إزارٌ؟ قال: "إذا كانَ الدِّرْعُ سابغاً يُغطِّي ظُهورَ قَدَمَيْها"، ووقفَه جماعةٌ على أُمِّ سَلَمة. "وعن أم سلمة: أنها سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أتصلي المرأة في درع؟ ": وهو القميص، وقيل: قميصٌ لا كمَّ له. "وخمار، ليس عليها إزار"؛ أي: ليس تحت قميصها إزار ولا سراويل. "قال: إذا كان الدرعُ سابغاً"؛ أي: واسعاً بحيث "يغطي"؛ أي: يستر "ظهور قدميها" = جازت صلاتها، يدل على أنهما عورةٌ يجب سترهما. "ووقفه جماعة على أم سلمة"؛ يعني: قال بعض أصحاب الحديث: إن هذه عبارة أم سلمة، لا عبارة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. * * * 536 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عَنِ السَّدْلِ في الصَّلاةِ، وأنْ يُغطِّي الرجُلُ فاهُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن السدلِ

في الصلاة": قيل: هو إرسال اليد، وقيل: إرسال الثوب حتى يصيب الأرض من الخيلاء، وقيل: من غير أن يضمَّ جانبيه، وقيل: أن يتلحَّف بثوبه، ويدخل يديه من داخل، فيركع ويسجد وهو كذلك، كانت اليهود تفعله في صلاتهم، فنهى عن التشبه بهم. "وأن يغطي الرجل"؛ أي: يستر "فاه"، وكان من عادة العرب التلثم بالعمائم على الأفواه، وجعل أطرافها تحت أعناقهم؛ كيلا يصيبهم حر وبرد، فنهوا عنه في الصلاة؛ لمنعه عن القراءة على نعت الكمال، فإن عرض له تثاؤبٌ، جاز التغطية بثوبه، أو يده اليسرى؛ لحديث ورد فيه. * * * 537 - وقال: "خالِفُوا اليَهودَ، فإنَّهُمْ لا يُصَلُّونَ في نِعالِهِمْ ولا في خِفافِهِمْ". "عن يعلى بن شدَّاد بن أوس، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خالفوا اليهود؛ فإنهم لا يصلون في نعالهم ولا خِفافهم"؛ يعني: يجوز الصلاة فيهما إذا كانا طاهرين. * * * 538 - قال أبو سعيد الخُدريُّ - رضي الله عنه -: بينما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي بأصحابهِ إذْ خَلَعَ نعلَيْهِ فوضعَهُما عَنْ يَسارِ؛، فلمَّا رأى ذلكَ القومُ ألقَوْا نِعالَهمْ، فلمَّا قضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاتَهُ قال: "ما حَمَلَكُمْ على إلقائكُمْ نِعَالِكُمْ؟ "، قالوا: رأَيْناكَ ألقيتَ نعلَيْكَ، فقال: "إنَّ جِبريلَ أتاني فأخبَرَني أنَّ فيهما قَذَراً"، وقال: "إذا جاءَ أحدُكُم المسجِدَ فلْيَنْظُرْ فإنْ رأَى في نعلَيْه قَذَراً فلْيَمْسَحْهُ، ولْيُصَلِّ فيهِما"، وفي روايةٍ: "خَبَثاً".

"قال أبو سعيد الخدري: بينما رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلعَ نعليه"؛ أي: نزعهما من رجليه. "فوضعهما عن يساره": فيه تعليم للأمة بوضع النِّعالِ على اليسار دون اليمين. "فلما رأى ذلك القومُ ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلاته قال: ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فقال: إن جبرائيل أتاني فأخبرني أن فيهما قذراً": وهو ما يكرهه الطبعُ من النجاسة وغيرها. استدل بهذا من صحَّح صلاة الجاهل بنجاسة ثوبه حملاً للقذرِ على النجاسة؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يستأنفْ تلك الصلاة، ومن رأى خلافه حمل القذرَ على ما تكرهه الطباعُ عرفاً كالنخامة والبزاق، فإخباره إياه بذلك؛ كيلا تتلوث ثيابه بشيء مستقذر عند السجود. "إذا جاء أحدكم المسجد، فلينظر فإن رأى في نعليه قذراً، فليمسحه" بالأرض؛ صيانة للمسجد عن الأشياء القذرة. "وليصلِّ فيهما": فيه دليل على أن النعل إذا أصابته نجاسة، فمسحت بالأرض حتى ذهب أثرها، جازت الصلاة فيه. * * * 539 - وقال: "إذا صَلَّى أحدُكُمْ فلا يَضَعْ نعلَيْهِ عَنْ يمينِهِ، ولا عَنْ يَسارِهِ فيكونَ على يمينِ غَيْرِهِ، إلاَّ أنْ لا يكونَ عن يَسارِهِ أحدٌ، ولْيَضَعْهُما بينَ رِجْلَيْهِ، أو لِيُصَلِّ فيهِما". "عن أبي هريرة: أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا

8 - باب السترة

صلَّى أحدكم فلا يضعْ" بالجزم جواب (إذا). "نعليه عن يمينه، ولا عن يساره، فيكونَ" - بالنصب جواب النهي - "على يمين غيره، إلا أن [لا] يكون على يساره أحد"، فيضعهما عن يساره. "وليضعهما بين رجليه": إن لم يكن وضعهما عن يمينه أو يساره، "أو ليصلِّ فيهما": إن كانا طاهرين. * * * 8 - باب السُّتْرة (باب السترة) وهي ما يُستر به كائناً ما كان، وقد غلب على ما ينصبه المصلي قدامه من عصا أو سوط أو غير ذلك مما يظهر به موضع سجود المصلي؛ كيلا يمر مارٌّ بينه وبين موضع سجوده. مِنَ الصِّحَاحِ: 540 - قال ابن عمر: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَغْدُو إلى المُصَلَّى وَالعَنَزَةُ بينَ يَدَيْهِ تُحْمَلُ، وَتُنْصَبُ بالمُصَلَّى بينَ يَدَيْهِ، فيُصلِّي إِليها. "من الصحاح": " قال ابن عمر: كان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - يغدو إلى المصلى والعنزة"؛ أي: رمح قصير. "بين يديه، تُحمل وتُنصب"؛ أي: تُغرز بالمصلى بين يديه؛ ليعرف موضع سجوده، "فيصلِّي إليها"، وهذا يدل على أن المصلي ينبغي أن يبينَ

موضع صلاته بسجادة، أو يقف قريبا من أُسطُوانة المسجد، أو يغرز عصاً، أو يخط خطاً مثل شكل المحراب. * * * 541 - عن عَون بن أبي جُحَيْفة، عن أبيه قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِالأَبْطَح في قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أدَمٍ، ورأيتُ بلالاً أخذَ وَضُوءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورأيتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ ذلك الوَضوءَ، فمَنْ أصابَ منهُ شيئاً تمسَّحَ بِهِ، ومَنْ لم يُصِبْ أخذَ مِنْ بَلَلِ يَدِ صاحبهِ، ثُمَّ رأيتُ بلالاً أخذَ عَنَزةً فَرَكَزَها، وخرجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في حُلَّةٍ حمراءَ مُشَمِّراً صلَّى إلى العَنَزَةِ بالنَّاسِ الظُّهْرَ ركعتَيْنِ، ورأيتُ النَّاسَ وَالدَّوَابَّ يَمُرُّونَ بين يَدَي العَنَزةِ. "وعن عون بن أبي جُحيفة، عن أبيه: أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالأَبطح" بفتح الهمزة: مسيلٌ واسع فيه رقاق الحصى لغةً، وهنا علم للمسيل الذي ينتهي إليه السيلُ من وادي منى. "في قبة حمراء من أَدَم": جمع أديم. "ورأيت بلالاً أخذ وَضوءَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: الماء الذي يتوضأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "ورأيت الناس يبتدرون"؛ أي: يسرعون. "ذلك الوَضوء، فمن أصاب منه شيئاً تمسَّح به"؛ أي: مسح به وجهه وأعضاءه؛ لينال بركته عليه الصلاة والسلام. "ومن لم يصبْ أخذ من بلل يد صاحبه": قيل: هذا يدل على أن ماء الوضوء طاهر، وقيل: هذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام، ولهذا حجمه أبو طيبة، فشرب في مه عليه الصلاة والسلام.

"ثم رأيت بلالاً أخذ عنزة، فوكزها"؛ أي: غرزها في الأرض. "وخرج النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في حُلَّة حمراء": (الحلة): إزار ورداء، ولا يسمى حلة حتى يكون ثوبين. قيل: تأويله أنه لم تكن تلك الحلة حمراء جميعها، بل كان فيها خطوط حمر؛ لأن الثوب الأحمر من غير أن يكون فيه لون آخر مكروه للرجال؛ لما فيه من المشابهة بالنساء. "مشمراً": أذيالها. "وصلَّى إلى العنزة بالناس الظهر ركعتين، ورأيت الناس والدواب يمرون بين يدي العنزة". * * * 542 - عن نافع، عن ابن عمر: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَرِّضُ راحلتَهُ فيُصلِّي إلَيْهَا، قلتُ: أفَرَأَيْت إذا هَبَّتِ الرِّكابُ؟ قال: كانَ يأخُذُ الرَّحْلَ فَيُعَدِّلُهُ فيُصلِّي إلى آخِرَتِهِ. "وعن نافع، عن ابن عمر: أنه قال: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يعرض راحلته"، أي: يُنيخُها بين يديه بالعرض حتى تكون معترضة بينه وبين المارة، "فيصلي إليها". قال نافع: "قلت: أفرأيتَ"؛ أي: أخبرني يا ابن عمر "إذا هبت الركاب"؛ أي: إذا قامت الإبل للسير، فبأي شيء يستر للصلاة؟ "قال: كان يأخذ الرحل فيعدِّله": بتشديد الدال؛ أي: يسويه، وينصبه بين يديه.

"فيصلي إلى آخرته": بالمد؛ أي: آخرة الرجل، وهي خلفه. * * * 543 - وقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إذا وضَعَ أحدَكُمْ بينَ يدَيْهِ مِثْلَ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ فَلْيُصَلِّ، ولا يُبالِ مَنْ مرَّ وراءَ ذلك". "وعن موسى بن طلحة، عن أبيه، عن رسول الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مُؤْخِرةِ الرحل": وهي - بضم الميم وسكون الهمزة وكسر الخاء - خشبة عريضة يستند إليها الراكب من خلفه. "فليصلِّ، ولا يبال بمن مرَّ وراء ذلك". * * * 544 - قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لو يَعلَمُ المارُّ بينَ يَدَي المصلِّي ماذا عليهِ لكانَ أنْ يقفَ أربعينَ خيراً له مِنْ أَنْ يَمُرَّ بينَ يَدَيْهِ" قال الراوي: لا أدري أقال: "أربعينَ يومًا، أو شهرًا، أو سنةً". "عن أبي جُهيم، عن النَّبيِّ - عليه الصَّلاة والسلام - أنه قال: لو يعلم المارُّ بين يدي المصلي ماذا عليه"؛ أي: أي شيء عليه من الإثم بسبب مروره بين يديه. "لكان أن يقف أربعين خيراً له من أن يمرَّ بين يديه. قال الراوي: لا أدري أربعين يومًا أو شهرًا أو سنة". ذكر الطحاوي في "مشكل الآثار": أن المراد أربعون سنة، واستدل بحديث أبي هريرة عن النَّبيِّ - عليه الصَّلاة والسلام -: "لو يعلم الذي يمرُّ بين يدي أخيه معترضاً وهو يناجي ربه تعالى، لكان أن يقفَ مكانه مئة عام خيراً من

الخطوة التي خطاها". ثم قال: هذا الحديث متأخر عن حديث أبي جهيم؛ لأنَّه فيه زيادةُ الوعيد، وذلك لا يكون إلَّا بعد ما أوعدهم بالخفيف. * * * 545 - وقال: "إذا صَلَّى أحدَكُمْ إلى شيءٍ يستُرُهُ مِنَ النَّاسِ فأرادَ أحدٌ أنْ يجتازَ بينَ يدَيْهِ فليَدْفَعْهُ، فَإنْ أبي فلْيُقَاتِلْهُ فَإنمَّا هو شَيْطانٌ". "عن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: إذا صَلَّى أحدكم إلى شيء يستره من النَّاس، فأراد أحد أن يجتاز": من الجواز؛ أي: يعبر. "بين يديه فليدفعه" بالإشارة، أو وضع اليد على نحره. "فإن أبي، فليقاتله": أراد به الدفع بعنف، لا القتل؛ فإن قتله عمدًا بظاهر الحديث؛ ففي العمد القصاص، وفي الخطأ الدية، هذا إذا أراد المرور بينه وبين السترة، وإن لم يكن بين يديه سترة، فليس له الدفع؛ لأنَّ التفريطَ منه بتركها. "فإنما هو شيطان"؛ أي: يفعل فعلَ الشيطان: لأنَّ تشويشَ المصلي فعلُهُ، أو جعله شيطان"؛ لأنَّ الشيطانَ هو المارد من الإنس والجن. وفيه دليل: على أن العمل اليسير لا يبطل الصَّلاة. * * * 546 - عن أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[قال]: "تَقطعُ الصَّلاةَ المرأةُ، والحمارُ، والكَلْبُ، وَيَقي ذلك مِثْلُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ". "وعن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: أنه قال:

تقطع الصلاةَ المرأةُ والحمارُ والكلبُ": المراد بقطعها هذه الأشياء: شغلُها قلبَ المصلي عن الخشوع والحضور، ولسانه عن التلاوة والذكر، وبدنه عن محافظة ما يجب من أمر الصَّلاة، لا بطلانها، بدليل الأحاديث الثلاثة بعدُ، وعليه الجمهور، وذهب بعض إلى بطلانها؛ لظاهر الحديث. "ويقي"؛ أي: يحفظ ويدفع. "ذلك"؛ أي: القطع. "مثل مؤخرة الرحل": يكون سترة بين يديه، فلا يضره المرورُ وراءها. * * * 547 - قالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يُصلِّي مِنَ اللَّيْلِ وأنا مُعْتَرِضَةٌ بينهُ وبينَ القِبْلَةِ كاعْتراضِ الجَنازَةِ. "وقالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يصلِّي من الليل وأنا معترضة": (الاعتراض): صيرورة الشيء حائلًا بين شيئين، ومعناه هنا: أنا مضطجعة. "بينه وبين القبلة، كاعتراض الجنازة": والغرض منه بيان أن المرأة لا تقطع الصَّلاة إذا مرت أو اضطجعت بين يدي المصلي. * * * 548 - وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -: أقبلتُ راكباً على أتانٍ وأنا يومئذٍ قد ناهزتُ الاحتِلامَ، ورسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يُصلِّي بالنَّاسِ بمِنًى إلى غيرِ جِدارٍ، فمرَرْتُ بينَ يَدَيْ بعضِ الصَّفِّ، فنَزَلَتُ، وأرسَلْتُ الأتانَ تَرتَعُ، ودخلتُ الصفَّ، فلمْ يُنْكِرْ ذلكَ عليَّ أحَدٌ.

"وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنه -: أقبلت"؛ أي: جئت. "راكباً على أتان"؛ أي: حمارة. "وأنا يومئذٍ قد ناهزتُ الاحتلام"؛ أي: قاربت البلوغ. "ورسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يصلِّي بالنَّاس بمنى إلى غيرِ جدارٍ"؛ أي: إلى غير سترة؛ أي: استقبل إلى الصحراء، ولم يكن بين يديه سترة. "فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت، وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك عليّ أحد"، والغرض منه: أن مرور الحمار بين يدي المصلي لا يقطع الصَّلاة. * * * مِنَ الحِسَان: 549 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إذا صلَّى أحدُكُم فليَجْعَلْ تِلقاءَ وجهِهِ شيئًا، فإن لمْ يجدْ فليَنْصِبْ عصَاه، فإن لمْ يَكُنْ معهُ عصاً فليَخْطُطْ خطًّا، ثمَّ لا يضُرُّهُ ما مرَّ أمامَهُ". "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: إذا صلي أحدكم، فليجعلْ تلقاء وجهه شيئًا، فإن لم يجد، فلينصبْ عصاه، فإن لم يكن معه عصاه، فليَخطُطْ خطاً": قيل: يخط من عند قدمه خطاً طويلاً نحو القبلة، سُئِل أحمد عنه فقال: هكذا؛ يعني: عرضًا مثل الهلال. وقيل: يخط عند موضع سجوده خطاً على العرض مثل جنازة موضوعة بين يديه.

قيل: والأول هو المختار استحباباً. قال سفيان بن عيينة: رأيت شريكاً صلَّى بنا، فوضع قلنسوته بين يديه. "ثم لا يضره ما مر أمامه". * * * 550 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلَّى أحدَكُمْ إلى سُتْرَة فلْيَدْنُ منها، لا يقطَعِ الشيطانُ عليهِ صلاتَه". "عن أبي سهل بن أبي حَثْمة أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: إذا صَلَّى أحدكم إلى سترة، فليدنُ منها"؛ أي: فليقرب من السترة، والدنو منها بقدر إمكان السجود، وقيل؛ أدناه أن يكون بين المصلي وبينها ثلاثة أذرع، وبه قال الشَّافعي وأحمد. "لا يقطعْ الشيطان": بالجزم جواب الأمر، والمراد منه هنا: المار بينه وبين سترته؛ أي: حتَّى لا يشوش "عليه صلاته". * * * 551 - وقال المِقْداد بن الأسْوَد: ما رأيتُ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يُصلِّي إلى عمودٍ ولا عُودٍ، ولا شجرةٍ إلَّا جعلَهُ على حاجبهِ الأيمنِ أو الأيسر، ولا يَصْمُدُ له صَمْداً. "وقال المقداد بن الأسود: ما رأيت رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يصلِّي إلى عودٍ، ولا عمود، ولا شجرة، إلَّا جعلَهُ على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمُدُ له صَمْداً": من باب (طلب)؛ أي: لا يطلب مقابلته؛ لئلا

يشابه فعلُهُ عبادةَ الأصنام في التوجُّه إليها كلَّ التوجه، بل يجعلها مائلًا عن يمينه أو يساره. * * * 552 - وقال الفضل بن عباس: أَتانا رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ونحنُ في باديةٍ لنا ومعه عباس، فصلَّى في صحراءَ ليسَ بينَ يدَيْهِ سُترةٌ، وحمارةٌ لنا وكلْبةٌ تعبَثان بينَ يدَيْهِ، فما بالَى بذلك. "وقال الفضل بن عباس: أتانا رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم ونحن في بادية لنا، ومعه عباس، فصلَّى في صحراء ليس بين يديه سترة، وحمارةٌ لنا وكلبةٌ": التاء فيهما للوحدة أو للتأنيث. "تعبثان"؛ أي: تلعبان "بين يديه، فما بالى بذلك"؛ أي: ما التفت إليه، وما اعتدَّ به، والغرضُ منه بيانُ أن مرور الحمار والكلب بين يدي المصلي لا يقطع الصَّلاة. * * * 553 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقطعُ الصَّلاةَ شيءٌ، وادْرَؤُوا ما استطَعتُمْ، فإنَّما هو شَيطانٌ". "وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: لا يقطع الصَّلاة"؛ أي: لا يبطلها "شيء": مر بين يدي المصلي. "وادرؤوا"؛ أي: ادفعوا المارَّ "ما استطعتم، فإنما هو شيطان": قيل: حديث القطع بمرور المرأة وغيرها منسوخٌ بهذا الحديث. * * *

9 - باب صفة الصلاة

9 - باب صِفَة الصَّلاةِ (باب صفة الصَّلاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 554 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أَنَّ رجلًا دخل المسجدَ ورسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - جالِسٌ في ناحِيَةِ المسجدِ، فصَلَّى، ثمَّ جاءَ فسلَّمَ عليهِ، فقالَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - "وعلَيْكَ السَّلام، ارْجِعْ فصَلِّ فإنَّكَ لمْ تُصَلِّ"، فرجَعَ فصلَّى، ثمَّ جاءَ فسلَّمَ، فقال: "وعليكَ السَّلام، ارْجِعْ فصلِّ، فإنَّكَ لمْ تُصلِّ"، فقال: يا رسول الله! عَلِّمْني فقال: "إذا قُمْتَ إلى الصَّلاةِ فأسبغِ الوُضوءَ، ثمَّ استقبل القِبلةَ، فكبرْ، ثمَّ اقرأ ما تيسَّرَ معكَ مِنَ القُرآن، ثمَّ اركعْ حتَّى تَطمئنَّ راكعاً، ثمَّ ارفَعْ حتَّى تَسْتَوِي قائمًا، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تَطمئنَّ ساجِداً، ثُمَّ ارفعْ حتَّى تطمئنَّ جالساً، ثمَّ اسجُدْ حتَّى تَطمئنَّ ساجداً، ثمَّ ارفعْ حتَّى تَسْتَوِيَ قائمًا، ثمَّ افعلْ ذلك في صَلاتِكَ كُلِّها". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أن رجلًا دخل المسجد، ورسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم جالسٌ في ناحيته المسجد"؛ أي: في جانب منه. "فصلَّى، ثم جاء فسلَّم عليه - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله عليه الصَّلاة والسلام: وعليك السلام، ارجعْ فصلِّ؛ فإنَّك لم تصلِّ"؛ أي: صلاة صحيحة، يدل على أنَّ اسم الصَّلاة لا يقع إلَّا على الصحيحة دون الفاسدة. "فرجع فصلَّى، ثم جاء فَسلم، فقال: وعليك السلام، ارجعْ فصلِّ؛ فإنَّك لم تصل، فرجع فصلَّى، ثم جاء فسلم، فقال: وعليك السلام، ارجعْ

فصلِّ؛ فإنَّك لم تصل": فعل ذلك ثلاث مرات. "فقال"؛ أي: الرجل. "علمني يا رسول الله، فقال: إذا قمت إلى الصَّلاة"؛ أي: إذا أردت القيام إليها. "فأسبغ الوضوء"؛ أي: أتممه؛ يعني: توضأ وضوء تاماً مشتملاً على فرائضه وسننه. "ثم استقبل القبلة فكبّر"؛ أي: تكبيرة الإحرام. "ثم اقرأ بما تيسر معك"؛ أي: اقرأ ما تعلم من القرآن، وقيل: أراد الفاتحةَ إذا كان يحسنها، وإليه ذهب الشَّافعي. "ثم اركع حتَّى تطمئن راكعاً، ثم ارفع حتَّى تستوي قائمًا، ثم اسجد حتَّى تطمئن ساجداً، ثم ارفع حتَّى تطمئن جالساً، ثم اسجد حتَّى تطمئن ساجداً": فيه دلالة ظاهرة على وجوب الطمأنينة في جميع أركان الصَّلاة، ومنهم من ذهب إلى أنها سنة، وأوَّله على نفي الكمال. "ثم ارفع حتَّى تستوي قائمًا، ثم افعل في صلاتك كلها": وفي أمره بفعل ذلك في صلاته كلها دليل على وجوب القراءة في كلِّ الركعات كوجوب الركوع والسجود، وإليه ذهب الشَّافعي. * * * 555 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يَسْتَفْتِحُ الصَّلاةَ بالتكبيرِ والقِراءةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وكانَ إذا ركعَ لمْ يُشْخصْ رأْسَهُ ولمْ يُصَوِّبْهُ، ولكنْ بينَ ذلك، وكانَ إذا رفعَ رأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ لمْ يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَوِيَ قَائِماً، وكانَ إذا رفعَ رأسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ لمْ يَسْجُدْ حتَّى يَسْتَوِيَ جالِساً،

وكانَ يقولُ في كُلِّ ركعتَيْنِ التَّحِيَّات، وكانَ يَفرشُ رِجْلَهُ اليُسرى ويَنْصِبُ رِجْلَهُ اليُمنى، وكانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيطانِ، ويَنهى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِراعَيْهِ افْتِراشَ السَّبُعِ، وكانَ يَخْتِمُ الصَّلاةَ بالتسليم. "وقالت عائشة: كان رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يستفتحُ الصلاةَ بالتكبيرِ"؛ أي: يجعل تكبيرة التحريم فاتحتها. "والقراءةَ"؛ أي: يبتدأ القراءة "بالحمدُ": بالرفع على الحكاية وإظهار ألف الوصل. "لله رب العالمين"؛ فيقرأ هذه السورة، وهذا لا يمنع تقديم دعاء الاستفتاح؛ لأنَّه لا يسمى قراءة عُرفاً، ولا يدل على أن التسمية ليست من الفاتحة؛ إذ المراد: أنه كان يبتدأ بقراءة السورة التي مفتتحها {الْحَمْدُ لِلَّهِ} كما يقال: ابتدأت بـ (البقرة). "وكان إذا ركع لم يشخص رأسه"؛ أي: لم يرفعه. "ولم يصوِّبه"؛ أي: ولم ينكسه. "ولكن بين ذلك"؛ أي: يجعل رأسه بين التصويب والتشخيص بحيث يجعل ظهره وعنقه كالصفحة الواحدة. "وكان إذا رفع رأسه من الركوع، لم يسجدْ حتَّى يستوي قائمًا، وكان إذا رفع رأسه من السجدة، لم يسجدْ حتَّى يستوي جالساً": فيه دليل على وجوب الاعتدال؛ لأنَّ فعله - عليه الصَّلاة والسلام - في الصَّلاة للوجوب ما لم يُعارَضْ بالندب؛ لقوله عليه الصَّلاة والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي". "وكان يقول"؛ أي: يقرأ في كل ركعتين "التحية": سُمّي الذكرُ المعين تحيةً وتشهداً؛ لاشتماله عليهما. "وكان يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى": بحيث يضع أصابع

رجله اليمنى على الأرض، ويرفع عقبها. "وكان ينهى عن عُقبةِ الشيطان": وهي الإقعاء، قيل في تفسيره: هو أن يضعَ أليته على عقبيه بين السجدتين. وقيل: أن يضع وركه على الأرض، وينصبَ ركبتيه بحيث تكون قدماه عليها. وقيل: عقبة الشيطان: أن يقدم إحدى الرجلين على الأخرى في القيام. وقيل: هي ترك عقبيه غير مغسولين في الوضوء. "وينهى أن يفرشَ الرجلُ ذراعيه"؛ أي: عن إلصاقهما بالأرض في السجود. "افتراشَ السبع"؛ أي: كافتراشه؛ لما فيه من التهاون بأمر الصَّلاة، بل ينبغي أن يضع كفّه، ويرفع مرفقه عن الأرض. "وكان يختم الصَّلاة بالتسليم"، وفيه دليل على وجوب التسليم أيضًا؛ لما ذكرنا. * * * 556 - وقال أبو حُمَيد السَّاعِدِيُّ في نَفَرٍ مِنْ أصحابِ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: أنا أحفظُكُمْ لصَلاةِ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، رأيتُهُ إذا كبَّرَ جعلَ يدَيْهِ حِذاء مَنْكِبَيْهِ، وإذا ركعَ أمكَنَ يدَيْهِ مِنْ رُكبتَيْهِ، ثمَّ هَصَرَ ظهرَهُ، فإذا رفعَ رأسَهُ استوَى حتَّى يعودَ كُلُّ فَقارٍ مكانهُ، فإذا سجدَ وضعَ يدَيْهِ غيرَ مُفْتَرِشٍ ولا قَابضهِما، واستقبَلَ بأطرافِ أصابعِ رِجلَيْهِ القِبلَةَ، فإذا جلسَ في الرَّكْعَتَيْنِ جلسَ على رِجلِهِ اليُسرَى ونصَبَ اليُمنى، فإذا جلسَ في الرَّكعةِ الأخيرة قدَّمَ رِجلَهُ اليُسرَى وَنصبَ الأخرى وَقعدَ على مَقْعَدَتِهِ.

"وقال أبو حميد الساعدي في نفرٍ"؛ أي: في جماعة "من أصحاب رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: أنا أحفظكم لصلاة رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم، رأيته إذا كبَّر جعل يديه حِذاءَ منكبيه"؛ أي: إزاءه. "وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه"؛ أي: وضع كفيه على ركبتيه وقبضهما. "ثم هصر"؛ أي: ثنى وعوج. "ظهره": ثنياً شديداً في استواء رقبته وظهره. "فإذا رفع رأسه، استوى حتَّى يعودَ كلُّ فَقارٍ": بفتح الفاء؛ أي: مفاصل الصُّلب. "مكانه"؛ أي: موضعه، ويستقر كل عضو في مقره. "فإذا سجد وضع يديه غيرَ مفترش": نصب على الحال؛ أي: غير واضع مرفقه على الأرض. "ولا قابضَهما": عطف على (غير)؛ أي: غيرَ قابض أصابع يديه، بل يبسطها قِبَلَ القِبلة. "واستَقبلَ بأطراف أصابع رِجلَيه القِبلةَ، فإذا جلس في الركعتين"؛ أي: الأولَيين "جلس على رِجله اليسرى ونصبَ اليمنى، فإذا جلس في الركعة الآخرة قدَّم رِجلَه اليسرى"؛ أي: أخرجَها من تحت وِركه إلى جانب الأرض "ونصبَ الأخرى، وقعد على مَقْعَدَتِه". * * * 557 - وقال سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يرفعُ يدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ إذا افتَتَحَ الصَّلاةَ، وإذا كبَّرَ للرُّكُوعِ، وإذا رفعَ رأسَهُ منَ

الرُّكُوعِ رفَعَهُما كذلك، وقال: "سَمعَ الله لمنْ حَمِدَهُ ربنا ولكَ الحمدُ"، وكانَ لا يفعلُ ذلكَ في السُّجودِ. "وقال سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه: إن رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم كان يرفع يديه حَذْوَ مَنْكِبَيه إذا افتتحَ الصلاةَ، وإذا كبَّر للركوع، وإذا رفع رأسَه من الركوع" رفعَهما كذلك. "وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، وكان لا يفعل ذلك"؛ أي: رفعَ اليدين "في السجود"؛ يعني: لا يرفع يدَيه إذا قصدَ السجودَ. * * * 558 - وقال نافعٌ: كانَ ابن عُمَر إذا دخلَ الصَّلاة كبَّرَ ورفعَ يدَيْهِ، وإذا ركعَ رفعَ يدَيْهِ، وإذا قالَ سَمعَ الله لمنْ حَمِدَهُ رفعَ يدَيْهِ، وإذا قامَ مِنَ الرَّكعتَيْنِ رفعَ يدَيْهِ، ورفعَ ذلك ابن عمرَ إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقال نافعٌ: كان ابن عمر إذا دخل الصلاةَ كبَّر ورفعَ يديه، وإذا ركعَ رفعَ يدَيه، وإذا قال: سمع الله لمن حمده رفعَ يدَيه، فإذا قام من الركعتين"؛ أي: من الركعة الثَّانية إلى الركعة الثالثة "رفعَ يدَيه"، ورفعُهما في هذا الموضع ليس في مذهب الشَّافعي، بل مذهبه: أن يرفعَ يدَيه عند تكبيرة الافتتاح، وإذا ركع، وإذا رفع رأسَه من الركوع، وعند أبي حنيفة: لا يرفع إلَّا عند تكبيرة الإحرام. "ورفعَ ذلك ابن عمر"؛ أي: رفعَ ابن عمر رفعَ اليدين في هذه المواضع "إلى النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام - "؛ أي: قال: إنه صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فعلَ ذلك كلَّه. * * *

559 - وروى مالك بن الحُويرِث: عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - رفعَ اليَدَيْنِ إذا كبَّرَ، وإذا ركعَ، وإذا رفَعَ رأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، وقال: حتَّى يُحاذي بِهِما أُذُنيهِ. وفي روايةٍ: "إلى فُروعَ أُذُنيهِ". "وروى مالك بن الحُوَيرث، عن رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: رفعَ اليدين إذا كبَّر، وإذا ركعَ، وإذا رفع رأسَه من الركوع، وقال: حتَّى يحاذيَ بهما أُذنيَه". "وفي رواية: فروعَ أُذنيَه"؛ أي: أعلاهما، وفرع كل شيء: أعلاه. وقيل: فرع الأُذن: شحمته. رفع اليدين عند تكبيرة الافتتاح حذاءَ أُذنيَه عند أبي حنيفة، وعند الشَّافعي: حِذاءَ منكبَيه، وذُكر: أن الشَّافعي حين دخل مصرَ سأله أهلُ مصر عن كيفية رفع اليدين عند التكبير، فقال: يرفع يديه بحيث يكون كفَّاه حذاءَ منكبَيه، وإبهاماه شحمتَي أذنيه، وأطراف أصابعه فرعَي أُذنيَه؛ لأنَّه جاء في رواية: "رفع اليدين إلى المَنكِبَين"، وفي رواية: "إلى الأُذنيَن"، وفي رواية: "إلى فروع الأُذنيَن"، ففعل ما ذكر فيه؛ جمعاً بين الروايات الثلاث. * * * 560 - وعن مالك بن الْحُويرِثِ: أَنَّهُ رَأَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي، فإذا كانَ في وِتْرٍ مِنْ صَلاتِهِ لمْ يَنْهَضْ حتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِداً. "وعن مالك بن الحُوَيرث: أنه رأى النبيَّ - عليه الصَّلاة والسلام - يصلِّي، فإذا كان في وِترٍ"؛ أي: في الركعة الأولى والثالثة "من صلاته لم ينهض"؛ أي: لم يَقُمْ "حتَّى يستويَ قاعداً"؛ أي: حتَّى يَقرُب إلى الجلوس، وهذا يدل على سُنِّية جلسة الاستراحة، وبه قال الشَّافعي. * * *

561 - وعن وائل بن حُجْرٍ: أَنَّهُ رَأَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَفَعَ يدَيْهِ حينَ دخلَ في الصَّلاةِ وكبَّرَ، ثمَّ التَحفَ بِثَوْبهِ، ثمَّ وضعَ يدَهُ اليُمنى على اليُسرَى، فلمَّا أرادَ أنْ يركَعَ أخرجَ يَدَيْهِ مِنَ الثَّوْبِ، ثمَّ رفعَهُمَا وكبَّرَ فركَعَ، فلمَّا قالَ: "سَمعَ الله لمنْ حَمِدَه" رفعَ يَدَيْهِ، فلمَّا سجدَ سجدَ بَيْنَ كَفَّيْه. "وعن وائل بن حُجْر: أنه رأى النبيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم رفعَ"؛ أي: رافعاً يدَيه. "حين دخل في الصَّلاة وكبَّر، ثم التحفَ"؛ أي: تستَّر "بثوبه"؛ أي: يريد أنه كان يخرج يديه من كمَّيه إذا كبَّر للإحرام، فإذا فرغ من التكبير أدخلَ يدَيه في كمَّيه. "ثم وضع يده اليمنى على اليسرى، فلما أراد أن يركع أخرج يدَيه من الثوب، ثم رفعَهما وكبَّر فركع، فلما قال: سمع الله لمن حمده رفعَ يدَيه، فلما سجدَ سجدَ بين كفَّيه"؛ أي: وضع كفَّيه بإزاء مَنْكِبَيه في السجود، ولعل التحافَ يدَيه بكُمَّيه لبرد شديد، أو لبيان أن كشفَ اليدين عند التكبير غيرُ واجب. * * * 562 - وقال سَهْل بن سَعْد: كانَ النَّاسُ يُؤْمَرُونَ أَنْ يضعَ الرَّجُلُ اليَدَ اليُمنى على ذِرَاعِهِ اليُسرى في الصَّلاةِ. "وقال سهل بن سعد: كان النَّاس يُؤمَرون أن يضعَ الرجلُ اليدَ اليمنى على ذراعه اليسرى في الصَّلاة"، وفيه حجة على مالك في الإرسال. * * * 563 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصَّلاةِ يُكَبرُ حِينَ يقومُ، ثمَّ يُكَبرُ حِينَ يَركعُ، ثُمَّ يقولُ: "سَمعَ الله لمنْ حَمِدَه" حِينَ يَرفعُ صُلبَهُ

مِنَ الرَّكعةِ، ثمَّ يقولُ وهو قائمٌ: "ربنا لكَ الحمدُ"، ثمَّ يُكبرُ حِينَ يَهوي، ثمَّ يُكبرُ حِينَ يرفعُ رأْسَهُ، ثمَّ يكبرُ حِينَ يسجُدُ، ثمَّ يكبرُ حِينَ يَرْفَعُ رأْسَهُ، ثمَّ يَفعلُ ذلكَ في الصَّلاةِ كُلِّهَا حتَّى يَقْضيَهَا، ويُكَبرُ حِينَ يَقُومُ من الثِّنتيْنِ بعدَ الجُلوسِ. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم إذا قام إلى الصَّلاة يكبر حين يقوم، ثم يكبر حين يركع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده"، معناه: قيل: الله حمدَ مَن حمدَه، اللام في (لمن) للمنفعة، والهاء في (حمده) للكناية، وقيل: للسَّكينة والاستراحة. "حين يرفع صُلبَه من الركعة"؛ أي: من الركوع. "ثم يقول وهو قائم: ربنا لك الحمد، ثم يكبر حين يَهْوِي"؛ أي: ينزل إلى السجود. "ثم يكبر حين يرفع رأسه، ثم يكبر حين يسجد، ثم يكبر حين يرفع رأسَه، ثم يفعل ذلك في الصَّلاة كلِّها حتَّى يقضيَها"؛ أي: يُتمَّها. "وبكبر حين يقوم مِنَ الثنتين بعد الجلوس". * * * 564 - وقال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أفضلُ الصَّلاةِ طولُ القُنُوتِ". "عن جابر أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: أفضلُ الصَّلاة طولُ القُنوت"؛ أي: ذاتُ طول القيام؛ يعني: أفضلُ الصلاةِ صلاةٌ فيها طولُ القيام والقراءة، استدل به أبو حنيفة والشافعي على أن طولَ القيام أفضلُ من كثرة السجود ليلاً كان أو نهارًا، وذهب بعضهم إلى أن الأفضلَ في النهار كثرةُ السجود. * * *

مِنَ الحِسَان: 565 - قال أبو حُمَيْد السَّاعِدِيُّ في عَشَرَةٍ مِنْ أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنا أعلَمُكُمْ بصلاةِ رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، قالوا: فَاعْرِضْ، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى الصَّلاةِ رفعَ يدَيْهِ حتَّى يُحاذيَ بهِما مَنْكِبَيْهِ، ثم يُكَبرُ، ثمَّ يقرأُ، ثمَّ يكبرُ، ويرفعُ يدَيْهِ حتَّى يُحاذِيَ بهِما مَنْكِبَيْهِ، ثمَّ يركعُ ويضعُ راحَتَيْهِ على رُكْبَتَيْهِ، ثم يعتدِلُ فلا يُصبي رأسَهُ ولا يُقْنِعُ، ثمَّ يرفعُ رأسَهُ فيقولُ: "سمعَ الله لمنْ حَمِدَه"، ثمَّ يرفعُ يدَيْهِ حتَّى يُحاذِي بهما مَنْكِبَيْهِ مُعتدلاً، ثمَّ يقولُ: "الله أكبرُ"، ثمَّ يَهْوِي إلى الأرضِ ساجداً، فيُجافي يديهِ عنْ جَنْبَيْهِ، ويفتح أصابعَ رِجْلَيْهِ، ثمَّ يرفعُ رأسَهُ، وتثْني رِجْلَهُ اليُسْرى، فيقعُدُ عليها، ثمَّ يعتدِلُ حتَّى يرجعَ كُلُّ عظم في موضعِه مُعتدِلاً، ثم يسجُدُ، ثمَّ يقولُ: "الله أكبر"، ويرفعُ ويَثْني رِجلَهُ اليُسرى فيقعُدُ عليها، حتَّى يرجِعَ كُلُّ عظمٍ إلى موضعِهِ، ثمَّ ينهضُ، ثمَّ يصنعُ في الركعةِ الثانيةِ مِثْلَ ذلكَ، ثمَّ إذا قامَ مِنَ الركعتَيْنِ كبَّرَ ورفعَ يدَيْهِ حتَّى يُحاذِيَ بهِما مَنْكِبَيْهِ كما كبَّرَ عندَ افتِتاحِ الصَّلاةِ، ثمَّ يصنعُ ذلكَ في بقيَّةِ صلاتِهِ، حتَّى إذا كانَتِ السَّجدةُ التي فيها التَّسليمُ أخَّرَ رِجْلَهُ اليُسرى، وقعدَ مُتورَساً على شِقِّه الأيسرِ، ثمَّ سَلَّم، قالوا: صدَقتَ، هكذا كانَ يُصلِّي، صحيح. وفي روايةٍ من حديث أبي حُمَيْد: ثمَّ ركعَ فوضعَ يدَيْهِ على رُكبَتَيْهِ كأنَّه قابضٌ عليهِما، ووتَّرَ يدَيْهِ فنحَّاهما عَنْ جنبَيْهِ، وقال: ثمَّ سجدَ فأمكنَ أنفَهُ وجبهتَهُ الأرضَ، ونحَّى يدَيْهِ عنْ جنبَيْهِ، ووضعَ كفَّيْهِ حَذْوَ مَنْكِبَيْهِ، وفرَّجَ بينَ فخذَيْهِ غيرَ حامِلٍ بطنَهُ على شيءٍ مِنْ فخِذَيْهِ حتَّى فرغَ، ثمَّ جلسَ فَافْتَرَشَ رِجلَهُ اليُسرى، وأَقبلَ بِصدْرِ اليُمنى على قِبْلتِه، ووضَعَ كفَّه اليُمنى على رُكبتِهِ اليُمنى، وكفَّهُ اليُسرى على رُكبتِهِ اليُسرى، وأشارَ بإصبعِهِ، يعني: السَّبَّابَة. وفي روايةٍ: وإذا قعدَ في الركعتَيْنِ قعدَ على بَطْنِ قَدَمِهِ اليُسرى، ونصبَ

اليُمنى، وإذا كانَ في الرابعةِ أفْضى بِوَرِكِهِ اليُسرى إلى الأرضِ، وأخرجَ قَدَمَيْهِ مِنْ ناحيةٍ واحدة. "من الحسان": " قال أبو حُميد الساعدي في عشرة"؛ أي: بين عشرة أَنْفُسٍ "من أصحاب رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: أنا أعلمُكم بصلاة رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم، قالوا: فاعرِضْ"؛ أي: بين علمَك بصلاته - عليه الصَّلاة والسلام - إن كنتَ صادقاً فيما تدَّعيه. "قال: كان رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم إذا قام إلى الصَّلاة يرفع يديه حتَّى يحاذيَ بهما مَنْكِبَيه، ثم يكبر، ثم يقرأ، ثم يكبر ويرفع يديه حتَّى يحاذيَ بهما مَنْكِبَيه، ثم يركع ويضع راحتَيه على رُكبتَيه، ثم يعتدل"؛ أي: يستوي "قائمًا، فلا يصبي"؛ أي: لا يخفض. "رأسَه ولا يُقْنِع"؛ أي: لا يرفعه حتَّى يكونَ أعلى من جسده. "ثم يرفع رأسَه فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتَّى يحاذيَ بهما مَنْكِبَيه معتدلاً، ثم يقول: الله أكبر، ثم يَهْوِي"؛ أي: ينزل. "إلى الأرض ساجداً، فيجافي يدَيه"؛ أي: فيُبعد مِرْفَقَيه "عن جنبيه، ويفتخ" - بالخاء المعجمة - "أصابعَ رِجلَيه"؛ أي: يَثنِيها ويُلينها. "ثم يرفع رأسَه ويَثنِي رِجلَه اليسرى"؛ أي: يعوجها إلى باطن الرجل، "فيقعد عليها، ثم يعتدل حتَّى يرجع كل عظم في موضعه معتدلاً، ثم يسجد، ثم يقول: الله أكبر، ويرفع ويثني رجله اليسرى، فيقعد عليها، ثم يعتدل حتَّى يرجعَ كل عظم إلى موضعه"، وفيه: دليل على سُنِّية جلسة الاستراحة. "ثم ينهض"؛ أي: يقوم. "ثم يصنع"؛ أي: يفعل "في الركعة الثَّانية مثل ذلك، ثم إذا قام عن

الركعتين كبَّر ورفع يديه حتَّى يحاذيَ بهما مَنْكِبَيه، كما كبَّر عند افتتاح الصَّلاة، ثم يصنع ذلك في بقية صلاته، حتَّى إذا كانت السجدة التي فيها التسليم أخَّر رجلَه اليسرى، وقعد متورَكاً على شقه الأيسر"؛ أي: مفضياً بوِركه اليسرى إلى الأرض غير قاعد على رِجليه. "ثم يسلِّم، قالوا: صدقتَ، هكذا كان يصلِّي. صحيح"، أراد بهذا (الصحيح): ما ذكره في آخر خطبة الكتاب، لا ما ذكره الشيخان. "وفي رواية من حديث أبي حُميد: ثم ركع فوضع يدَيه على رُكبتَيه كأنه قابضٌ عليهما، ووتَّر يديه"؛ أي: جعلهما كالوَتَر من: التوتير، وهو جعل الوَتَر على القَوس. "فنحَّاهما"؛ أي: أَبعدَهما "عن جنبيه"، حتَّى كان يدُه كالوَتَر وجنبُه كالقَوس. "وقال: ثم سجد فأَمكنَ أنفَه وجبهتَه الأرض"؛ أي: وضعهما على الأرض مع الطمأنينة. "ونَحَّى"؛ أي: أَبعدَ "يدَيه عن جنبيه، ووضع كفَّيه حَذْوَ مَنُكِبَيه، وفرَّج"؛ أي: فرَّق "بين فخذيه غيرَ حاملٍ"؛ أي: غيرَ واضعٍ "بطنَه على كل شيء من فخذيه حتَّى فرغ" من السجود. "ثم جلس فافترش رِجلَه اليسرى، وأقبل بصدر اليمنى على قِبلته"؛ أي: وجَّه أطرافَ أصابع رِجله اليمنى إلى القِبلة. "ووضع كفَّه اليمنى على ركبته اليمنى، وكفه اليسرى على ركبته اليسرى، وأشار بإصبعه"؛ يعني: السبَّابة. "وفي رواية: إذا قعد في الركعتين قعد على بطن قدمه اليسرى ونصب اليمنى، وإذا كان في الرابعة أفضى"؛ أي: أوصلَ

"بوِرْكِه اليسرى إلى الأرض، وأخرج قدمَيه من ناحية واحدة"، وفيه: دليل للشافعي على سُنية التورُّك في القعدة الثَّانية. * * * 566 - وعن وائل بن حُجْر: أَنَّهُ أبصَرَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ قامَ إلى الصَّلاةِ رفعَ يدَيْهِ حتَّى كانتا بِحِيَالِ مَنْكِبَيْهِ، وحاذَى إبْهَامَيْهِ أُذُنيهِ، ثُمَّ كَبَّرَ. وفي روايةٍ: يرفعُ إبْهَامَيْهِ إلى شَحْمَةِ أُذُنيهِ. "وعن وائل بن حُجْر: أنه أبصرَ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسلام - حين قام إلى الصَّلاة رفعَ يدَيه حتَّى كانتا بحِيَال مَنْكِبَيه"؛ أي: تلقاءَهما. "وحاذَى إبهامَيه أُذنيَه، ثم كبَّر". "وفي رواية: يرفع إبهامَيه إلى شحمة أُذنيَه": وهي ما لانَ من أسفلهما. 567 - وعن قَبيْصة بن هُلْب، عن أبيه أنَّه قال: كانَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يَؤُمُّنا فيأخُذُ شِمالَهُ بيمينهِ. "وعن قَبيصة بن هُلْب، عن أبيه أنه قال: كان رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يؤمُّنا، فيأخذ شمالَه"؛ أي: كوعَه الأيسرَ "بيمينه"؛ أي: بكفه اليمنى، وهذا عند القيام. * * * 568 - وعن رِفاعة بن رافِع قال: جاء رجُلٌ فصلَّى في المسجدِ، ثمَّ جاءَ فسلَّمَ على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فقال النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أعَدْ صَلاتَكَ، فإنَّكَ لمْ تُصَلِّ"، فقال: علِّمْني - يا رسولَ الله! - كيفَ أصلِّي؟، فقال: "إذا توجَّهْتَ إلى القِبلةِ فكبرْ،

ثمَّ اقرأْ بأُمِّ القرآنِ، وما شاءَ الله أنْ تقرأَ، فإذا ركَعْتَ فاجعَلْ راحتَيْكَ على رُكبتَيْكَ، ومكِّنْ رُكُوعَكَ، وامدُدْ ظَهْرَكَ، فإذا رفعتَ فأقِمْ صُلْبَكَ، وارفَعْ رأْسَكَ حتَّى ترجعَ العِظامُ إلى مَفاصِلِها، فإذا سَجَدْتَ فَمَكِّنْ للسجُودِ، فإذا رَفَعْتَ فَاجلِسْ على فَخِذِكَ اليُسرى، ثمَّ اصنَعْ ذلكَ في كُلِّ ركعةٍ وسَجْدَةٍ حتَّى تطمئن". وفي روايةٍ: "إذا قُمْتَ إلى الصَّلاةِ فتوضَّأْ كما أمرَكَ الله، ثمَّ تشهَّدْ فأقِمْ، فإن كانَ معكَ قُرآن فأقْرَأْ، وإلاَّ فاحْمَدِ الله وكبرْهُ وهَلِّلْهُ، ثمَّ ارْكَعْ". "وعن رِفاعة بن رافع: أنه قال: جاء رجل، فصلَّى في المسجد، ثم جاء فسلَّم على النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام، فقال النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام -: أَعِدْ صلاتَك؛ فإنَّك لم تصلِّ"؛ وذلك لعدم كمالها وتفاحُش نقصانها. "فقال"؛ أي: الرجلُ: "علِّمْني يا رسولَ الله كيف أصلِّي، قال: إذا توجَّهت إلى القِبلة فكبّر، ثم اقرأ بأم القرآن"؛ أي: بالفاتحة، سُميت بأم القرآن؛ لأنها أوله في التلاوة والكتابة. "وما شاء الله أن تقرأ"؛ أي: ما رزقَك الله من القرآن بعد الفاتحة. "فإذا ركعتَ فاجعلْ راحتَيك على رُكبتَيك، ومكِّن ركوعَك"؛ أي: اركعْ ركوعاً تامًّا مع الطمأنينة. "وامدُدْ ظَهرَك، فإذا رفعتَ فأَقِمْ صلبَك وارفْع رأسَك حتَّى ترجعَ العظامُ إلى مفاصلها، وإذا سجدتَ فمكِّن للسجود"؛ أي: اسجد سجوداً تاماً مع الطمأنينة. "فإذا رفعتَ فاجلسْ على فخذك اليسرى، ثم اصنعْ ذلك في كل ركعة وسجدة حتَّى تطمئنَّ"، يريد به: الجلوس في آخر الصَّلاة؛ فإنَّه موضعُ الاستقرار؛ يعني: حتَّى تفرغ.

"وفي رواية: إذا قمتَ إلى الصَّلاة فتوضَّأ كما أمرك الله، ثم تشهَّدْ"؛ أي: بعدَ الفراغ من الوضوء قل: أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. وقيل: أي: أذِّنْ؛ لأنَّه مشتملٌ على كلمتَي الشهادة. "فأَقِمْ"، يريد به: الإقامة للصلاة، وقيل: معنى (تشهد)؛ أي: احضرْ وانوِ وكبر وأحضرْ قلبَك واستَقِمْ. "وإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا"؛ أي: وإن لم يكن معك قرآن "فاحمدِ الله"؛ أي: قل: الحمد لله. "وكبره"؛ أي: قل: الله أكبر. "وهلِّله"؛ أي: قل: لا إله إلَّا الله. "ثم اركع". * * * 569 - عن الفضل بن عبَّاس أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصلاةُ مَثْنَى مَثْنَى، تَشَهَّدُ في كُلِّ ركعتَيْنِ، وتَخَشَّعُ، وتَضَرَّعُ، وتَمَسْكَنُ، ثمَّ تُقْنِعُ يديك - يقول: ترفعُهما - إلى رَبكَ مُستقبلاً ببُطُونهِما وجهَكَ، وتقولُ: يا ربِّ يا ربِّ، ومَنْ لمْ يفعلْ ذلكَ فهو خِداجٌ". "عن الفضل بن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: الصلاةُ مثنى مثنى"؛ يعني: الصَّلاة تُصلَّى ركعتين ركعتين، وهذا في النوافل عند الشَّافعي؛ إذ الأفضلُ أن يسلّم من كل ركعتين ليلاً كان أو نهارًا. وعند أبي حنيفة: الأفضل أن تصلّي أربع ركعات بتسليمة ليلاً كان أو نهاراً.

10 - باب ما يقرأ بعد التكبير

"تشهَّد": مصدر منوَّن، وكذا المعطوفات بعده؛ أي: ذات تشهُّد. "في كل ركعتين وتخشَّع": وهو سكون الظاهر والباطن، وطمأنينة الرجل بحيث لا يتحرك ولا يلتفت يميناً وشمالاً. "وتضرَّع" إلى الله تعالى. "وتَمَسْكَن": وهو إظهارُ الرجلِ المسكنةَ من نفسه. "ثم تُقنِع يدَيك، يقول"؛ أي: الراوي: معناه: "ترفعهما إلى ربك" لطلب الحاجة، وقيل: (يقول) مقول المصنف، وفاعله (النَّبيّ) عليه الصَّلاة والسلام، (ترفعهما) يكون تفسيراً لقوله: (ثم تُقنِع يديك). "مستقبلًا ببطونهما وجهَك وتقول: يا ربِّ! يا ربِّ! ومَن لم يفعل ذلك"؛ أي: الأشياءَ المذكورةَ في الصَّلاة "فهو خِدَاج" بكسر الخاء المعجمة؛ أي: فعل صلاته ناقص غير كامل، وقيل: تقديره: فهي منه ذات خِدَاج؛ أي: صلاة ذاتُ خِدَاج، ووصفها بالمصدرِ نفسِه مبالغة، والمعنى: أنها ناقصة. * * * 10 - باب ما يَقْرأُ بعد التكبيرِ (باب ما يقرأ بعد التكبير) مِنَ الصِّحَاحِ: 570 - قال أبو هُرَيرَةَ - رضي الله عنه -: كانَ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يَسْكُتُ بين التَّكْبيرِ وَبَيْنَ القِرَاءَةِ إسْكَاتَةً فقلت: بِأبي وَأُمِّي يا رَسُولَ الله! إسْكَاتُكَ بين التَّكْبيرِ وَالقِرَاءَةِ ما تَقُولُ؟، قال: أقولُ: "اللهم بَاعِدْ بَيْني وَبَيْنَ خَطَايَايَ كما بَاعَدْتَ بين المَشْرِقِ

وَالمَغْرِبِ، اللهم نَقِّنِي من الخَطَايَا كما يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ من الدَّنسِ، اللهم اغسِلْ خَطَايَايَ بِالمَاء وَالثَّلْج وَالبَرَدِ". "من الصحاح": " قال أبو هريرة: كان رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يَسكُت" من: أَسكَتَ بمعنى: سَكَتَ. "بين التكبير وبين القراءة إسكاتة"، والمراد به: ترك الجهر، لا ترك الكلام أصلًا. "فقلت: بأبي وأمي"، الباء: للتفدية؛ أي: أنتَ مُفدى بأبي وأمي. "يا رسولَ الله! إسكاتك": منصوب بفعل مُضمَر؛ أي: أسألك عن إسكاتك. "بين التكبير والقراءة ما تقول فيها؟ قال: أقول: اللهم باعِدْ بيني وبين خطاياي كما باعدتَ بين المشرق والمغرب، اللهم نقِّني"؛ أي: طهِّرْني "من الخطايا والذنوب كما يُنقَّى الثوبُ الأبيضُ من الدنسَ"؛ أي: الوَسَخ. "اللهم اغسلْ خطاياي بالماء والثلج والبَرَد"، ذلك كلُّه مبالغة في التطهير؛ لا لأنه يحتاج إليها؛ أي: طهِّرْني من الخطايا بأنواع مغفرتك، التي هي في محو الذنوب بمثابة هذه الأشياء في إزالة الأدناس. قيل: خص الثلج والبَرَد بالذِّكر؛ لأنهما ماءان مقطوران على خلقتهما، لم يُستعملا ولم تَنَلْهما الأيدي، ولم تَخُضْهُما الأَرْجُلُ كسائر المياه التي خالطت التراب، وجرت في الأنهار وجُمعت في الحِيَاض، فهما أحقُّ بكمال الطهارة. * * * 571 - وقال عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ إلى

الصَّلاةِ - وفي رواية: كان إذا افتتحَ الصلاةَ - كبَّرَ، ثمَّ قالَ: "وجَّهْتُ وجْهِيَ للذي فطرَ السَّماواتِ والأرضَ حنيفاً مسلمًا، وما أنا مِنَ المُشْركِينَ، إنَّ صَلاتي ونُسُكي ومَحْيايَ ومَماتي لله رَبِّ العالمينَ لا شَريكَ لهُ، وبذلكَ أُمِرْتُ، وأنا منَ المُسلمينَ، اللَّهمَّ أنتَ المَلِكُ لا إله إلَّا أنتَ، سُبحانك وبحمْدِكَ، أنتَ رَبيَ وأنا عبدُكَ، ظلَمتُ نفْسي، واعترفْتُ بذَنْبي، فاغفِرْ لي ذُنوبي جميعًا، إنَّهُ لا يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أنتَ، واهْدِني لأحسَنِ الأخلاقِ، لا يهدي لأَحسَنِها إلَّا أنتَ، واصْرِفْ عنِّي سَيئَها، لا يَصْرِفُ عنِّي سَيئها إلَّا أنتَ، لبيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ، والشَّرُّ ليسَ إليكَ، أنا بكَ وإليكَ، تَباركتَ وتعالَيْتَ، أستَغْفِرُكَ وأتُوبُ إليكَ"، وإذا ركعَ قال: "اللَّهمَّ لكَ ركَعْتُ، وبكَ آمنْتُ، ولكَ أسْلَمْتُ، خشعَ لكَ سَمْعي، وبَصَري، ومُخِّي، وعَظْمي، وعَصَبي"، وإذا رفعَ رأسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قال: "اللَّهمَّ ربنا لكَ الحَمْدُ مِلءَ السَّماواتِ ومِلْءَ الأرضِ وما بينهُما، ومِلءَ ما شِئْتَ مِنْ شيءٍ بعدُ"، وإذا سجدَ قال: "اللَّهمَّ لكَ سَجدْتُ، وبكَ آمنْتُ، ولكَ أسلَمْتُ، سجَدَ وجْهِي للذي خلقَهُ وصوَّرَهُ، وشَقَّ سَمْعَهُ وبصَرَهُ، فتباركَ الله أحسَنُ الخالِقينَ"، ثمَّ يكونُ مِنْ آخِرِ ما يقوله بين التشَهُّدِ والتَّسْليم: "اللهمَّ اغفرْ لي ما قَدَّمْتُ، وما أخَّرْتُ، وما أسْرَرْتُ، وما أعْلَنْتُ، وما أسْرَفْتُ، وما أنتَ أعلم بهِ منِّي، أنتَ المُقَدِّمُ وأنتَ المُؤخِّرُ، لا إله إلَّا أنتَ". وفي روايةٍ: "والشرُّ ليسَ إليكَ، والمَهدِيُّ مَنْ هدَيتَ، أنا بكَ وإليكَ، لا مَنْجا مِنكَ ولا ملْجأ إلَّا إليكَ، تباركتَ وتعالَيْتَ". "وقال عليّ بن أبي طالب: كان رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم إذا قام إلى الصَّلاة قال، وفي رواية: كان إذا افتتح الصلاةَ كبَّر ثم قال: وجَّهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض"؛ أي: صَرَفتُ وجهي وعملي ونيَّتي إلى

الذي خلقهما، وأعرضت عما سواه. "حنيفاً": نُصب على الحال من ضمير (وجهت)؛ أي: مائلاً عن كل دينٍ باطلٍ إلى الإسلام ثابتاً عليه، وهو عند العرب قد غلب على مَن كان على مِلَّة إبراهيم صلوات الله وسلامه على نبينا وعليه، وقيل: هو المُسلِم المستقيم. "وما أنا من المشركين، إن صلاتي"؛ أي: عبادتي "ونُسُكي"؛ أي: تقرُّبي، أو حَجِّي، وجمعَ بينهما كما في قوله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]. "ومحياي"؛ أي: حياتي. "ومماتي"؛ أي: موتي. "لله" تعالى، لا تصرُّفَ لغيره فيهما، أو ما أنا عليه من العبادة في حياتي ما أموت عليه خالصةٌ لوجه الله. "ربِّ العالمين، لا شريكَ له، وبذلك أُمرت وأنا من المسلمين"؛ أي: المنقادين والمطيعين لله. "اللهم أنتَ المِلكُ لا إلهَ إلَّا أنتَ سبحانك": اسمٌ أُقيم مقامَ المصدر، وهو التسبيح، منصوب بفعل مضمر، تقديره: أُسبحك تسبيحاً، أُنزِّهك تنزيهاً من كل السوء والنقائص، وأُبعدك ممَّا لا يليق بحضرتك من أوصاف المخلوقات من الأهل والولد. "وبحمدك"، قيل: تقديره: أُسبحك تسبيحاً ملتبساً ومقترناً بحمدك؛ فالباء للملابسة، والواو زائدة. وقيل: الواو بمعنى: مع؛ أي: أُسبحك مع حمدك، أو وبحمدك أُسبحك؛ أي: لك الحمد على توفيقك إياي على تسبيحك. "أنت ربي وأنا عبدك، ظلمتُ نفسي" بالغفلة.

"واعتَرفتُ"؛ أي: أَقررتُ "بذنبي فاغفرْ لي ذنوبي جميعاً، إنه لا يَغفر الذنوبَ إلَّا أنت، واهدِني لأحسن الأخلاق"، اللام بمعنى (إلى)؛ يعني: أعطِني أحسنَ الأخلاق في عبادتك. "لَّا يهدي لأحسنها إلَّا أنت، واصرفْ عني سيئَها"؛ أي: سيئَ الأخلاق. "لا يصرف عني سيئَها إلَّا أنت، لبَّيك" معناه: دواماً على طاعتك وإقامةً عليها مرةً بعد أخرى، من (ألبَّ بالمكان): أقام به، وألَبَّ على كذا: إذا لم يفارقه، ولم يُستعمل إلَّا مثنى بمعنى التكرير للتكثير، فلذلك وجب إضمار ناصبه، كأنه قال: ألبَّ إلباباً بعد إلباب، وقيل: معناه: اتجاهي إليك، من قولهم: داري تَلُبُّ دارَك؛ أي: تواجهها. "وسعدَيك"؛ أي: ساعدتُ طاعتَك مساعدةً بعد مساعدة، وهما الموافقة. "والخير كلُّه في يديك"؛ أي: كلُّه عندك كالشيء المُوثوق به المقبوض عليه، لا يُدرَك منه شيءٌ ما لم تسبق به كلمتُك. "والشر ليس إليك"؛ أي: لا يُتقرَّب به إليك أو لا يُنسَب إليك على الانفراد، وهذا لرعاية الأدب. "أنا بك وإليك"؛ أي: أنا أعوذ بك وأتوجَّه إليك. "تباركتَ" من: البركة، وهي الكثرة؛ أي: زاد خيرُك وكَثُرَ في خلقك. "وتعاليتَ"؛ أي: تعظَّمت عن توهُّم الأوهام وتهوّر الأفهام. "أستغفرك وأتوب إليك، وإذا ركع قال: اللهم لك ركعتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ"؛ أي: لك ذللتُ وانقدتُ، أو لك أخلصتُ وجهي، أو لك خَذلتُ نفسي وتَركتُ أهواءَها. "خشعَ"؛ أي: خضعَ وتواضَعَ وأطاعَ لك "سمعي وبصري": هذا غاية

الخشوع لله تعالى بذِكر معظم بنيَّة الحيوان، وتخصيص السمع والبصر من بين الحواس؛ لأنَّ أكثرَ الآفات بهما، فإذا خشعتا قلَّت الوساوس. "ومُخّي وعظمي وعصبي": وهم عُمُد بنيَّة الحيوان وأطنابها، والعَصَب خزانة الأرواح النفسانية أيضاً، واللحم والشحم غادِ ورائحٌ. "وإذا رفع رأسَه من الركوع قال: اللهم ربنا لك الحمد، ملءَ السماوات والأرض وما بينهما، وملءَ ما شئتَ من شيء بعدُ"؛ أي: بعدَ السماواتِ والأرضِ، هذا غاية الحمد لله تعالى؛ حيث حمدُه ملء مخلوقاته الموجودة، وملء ما يشاء من خلقه من المعدومات الممكنة المغيَّبة. "وإذا سجد قال: اللهم لك سجدتُ، وبك آمنتُ، ولك أسلمتُ، سجد وجهي للذي خلقَه وصوَّره، وشقَّ سمعه وبصره، فتبارك الله أحسن الخالقين"؛ أي: المصوِّرين والمقدِّرين. "ثم يكون من آخر ما يقول بين التشهُّد والتسليم: اللهم اغفرْ لي ما قدمتُ" من سيئة "وما أخَّرتُ" من عمل، قال تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ}، أو المراد بهما: جميع ما فَرَطَ مني، أو ما قدمتُ قبل النبوة وما أخرتُ بعدها، أو ما أخَّرتَه في علمك ممَّا قضيتَه عليّ. "وما أسررتُ وما أعلنتُ وما أسرفتُ": مبالغة في طلب الغفران من الله تعالى، والإسراف: مجاوزة الحَدِّ. "وما أنتَ أعلم به مني"؛ أي: من ذنوبي التي لا أعلمها. "أنتَ المقدّم"؛ أي: الموفِّق لبعض عبادك على الطاعات. "وأنتَ المؤخّر"؛ أي: الذي يخذل البعض عن الطاعات وعن التوفيق للخيرات، أو المعنى: أنت الرافع والخافض والمُعِز والمُذِلّ. "لَّا إله إلَّا أنت".

وفي رواية: "والشر ليس إليك، والمَهديُ مَن اهَدَيتَ، أنا بك وإليك، لا مَنْجَى منك": مقصور لا ممدود ولا مهموز، مصدر ميمي، أو اسم مكان؛ أي: لا مَهْرَبَ من عذابك. "ولا مَلْجَأ" بالهمزة وبدونه؛ أي: لا مخلص لمن طالبته. "إلَّا إليك تباركت". * * * 572 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رجُلاً جاءَ إلى الصَّلاةِ وقدْ حَفَزَهُ النَّفَسُ، فقال: الله أكبرُ، الحمدُ لله حَمداً كثيراً طَيباً مُباركاً فيه، فلمَّا قضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاتَهُ، فقال: "أيكُمُ المُتكَلِّمُ بالكلماتِ؟، لقدْ رأيتُ اثنَيْ عَشَرَ مَلَكاً يَبْتَدِرُونهَا، أيهُمْ يرفعُها". "وعن أنس: أن رجلًا جاء إلى الصَّلاة وقد حَفَزَه"؛ أي: جَهَدَه النَّفَس من شدة السعي إلى الصَّلاة لإدراكها. "فقال: الله أكبر، الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه"؛ أي: حمداً جُعلت البركة فيه؛ يعني: حمداً كثيراً غايةَ الكثرة. "فلما قضى رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم صلاتَه قال: أيكم المتكلم بالكلمات؟ لقد رأيتُ اثني عشر ملَكاً يبتدرونها"؛ أي: ثوابَ هذه الكلمات. "أيُّهم يرفعها"؛ يعني: سبق بعضهم بعضاً في كتابة هذه الكلمات، ورفعها إلى حضرة الله تعالى؛ لعِظَم قَدْرها، وتخصيصُ العدد نؤمن به ونُفوِّض إلى عالمه. * * *

مِنَ الحِسَان: 573 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا افْتَتَحَ الصَّلاةَ قال: "سُبحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدكَ، وتباركَ اسمكَ، وتعالى جَدُّكَ، ولا إلهَ غيرُك"، ضعيف. "من الحسان": " عن عائشة أنها قالت: كان النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام - إذا افتتح الصلاةَ قال: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك"؛ أي: زاد بركة اسمك في السماوات والأرض؛ إذ وجدَ كلَّ خيرٍ مَن ذَكَرَ اسمَك. "وتعالى جَدُّك"؛ أي: علا ورفع عظمتك على عظمة غيرك غايةَ العُلوّ والرِّفعة. "ولا إله غيرك". "ضعيف"، قيل: ضعَّفه عند قليل من الصحابة، لكنَّه حديثٌ حسن عالي الإسناد قوي عند أكثرهم، أخذ به عمر وعبد الله بن مسعود وغيرهما من فقهاء الصحابة، وذهب إليه الأجلَّة من العلماء، كأبي حنيفة وأصحابه، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل. * * * 574 - عن جُبَيْر بن مُطْعِم: أنَّهُ رأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي صَلاةً قال: "الله أكبرُ كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمدُ لله كثيرًا ثلاثًا، وسُبحانَ الله بُكرةً وأَصيلاً ثلاثًا، أعوذُ بالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم، مِنْ نفخِهِ ونَفْثِهِ وهَمْزِه". "عن جُبير بن مُطعِم: أنه رأى رسولَ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يصلِّي صلاةً قال: الله أكبر كبيراً": منصوب بإضمار فعل، أو على حال أو صفة

لمحذوف؛ أي: تكبيراً كبيراً. "الله أكبر كبيراً، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً": صفة لموصوف مقدَّر؛ أي: حمداً كثيراً "ثلاثًا". "وسبحان الله بُكرةً"؛ أي: في أول النهار "وأصيلاً"؛ أي: في آخر النهار، منصوبان على الظرف، والعامل (سبحان). "ثلاثاً"، خصَّ هذين الوقتين؛ لاجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار فيهما. "أعوذ بالله من الشيطان من نَفْخِه": بدل اشتمال، وهو إثارته الشرَّ فيه من الخُيَلاء والغضب والكِبْر، سَمَّى ذلك نفخاً لِمَا يوسوس إليه الشيطان في نفسه، فيعظمها عنده، ويحقر النَّاسَ في عينيه حتَّى يدخله الزهو، ويبقى كالذي نُفخَ فيه. "ونفثِه"؛ أي: ممَّا يأمر النَّاسَ وإنشاء الشِّعر المذموم ممَّا فيه هَجْوُ مُسلِمٍ أو كفرٌ أو فسقٌ؛ لأنَّه كالشيء الذي يُنفَث من الفم كالرُّقية. وقيل: النَّفْث: السِّحر الذي هو من الضلالات الشيطانية، كقوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4]. "وهَمْزِه"؛ أي: من جعلِه أحداً مجنوناً، وقيل: الهَمْز: الوسوسة، كقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} [المؤمنون: 97]. * * * 575 - عن سَمُرة بن جُنْدُب: أنَّهُ حفِظَ عن رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - سكتتَيْنِ: سَكتَة إذا كَبَّرَ، وسَكْتَةً إذا فرغَ مِنْ قراءةِ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فصدَّقَهُ أُبيُّ بن كَعْبٍ.

11 - باب القراءة في الصلاة

"عن سَمُرة بن جُندب: أنه حفظَ عن رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم سكتتَين: سكتةً إذا كبَّر"، وفائدتها: أن يفرغَ المأمومُ من النيَّة وتكبيرة الإحرام؛ لئلا يفوتَه سماعُ بعض الفاتحة. "وسكتةً إذا فرغ من قراءة: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} "، والغرض منها: أن يقرأَ المأمومُ الفاتحةَ بعد فراغ الإمام منها، ويرجعَ الإمامُ إلى التنفُّس والاستراحة. "فصدَّقه أُبي بن كعب"، وهاتان السكتتان سُنَّةٌ عند الشَّافعي وأحمد، والثانية مكروهة عند أبي حنيفة ومالك. * * * 576 - وقال أبو هُريرة - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نهضَ من الرَّكعةِ الثانيةِ استفتحَ القِراءةِ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ولمْ يسكُت. "وقال أبو هريرة: كان رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم إذا نهضَ"؛ أي: قامَ "من الركعة الثَّانية" إلى الثالثة "استفتح القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ولم يَسكُت"؛ وذلك لأنَّ هذا الموضعَ ليس من الموضعَين اللذَين روى فيهما السكتة. * * * 11 - باب القِراءةِ في الصلاة (باب القراءة في الصَّلاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 577 - قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا صلاةَ لمْن لمْ يقرأْ بفاتِحَةِ الكِتابِ".

ويروى: "لِمَنْ لمْ يقرأْ بأُمَ القُرآنِ فصاعِداً". "من الصحاح": " عن عبادة أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: لا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب"، "ويروى: لمن لم يقرأ بأم القرآن"، سُميت الفاتحة به؛ لِمَا ذكرْنا أنها أولُه وأصلُه. "فصاعداً" من: الصعود، وهو الارتقاء من سفل إلى علو، ومعناه هنا: الزائد، نُصب على الحال؛ أي: حالَ كون قراءته زائداً على أم القرآن. * * * 578 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صلَّى صلاةً لم يَقْرأْ فيها بأُمِّ القُرآنِ فهيَ خِداج ثلاثاً، غيرُ تمامٍ"، وقيل لأبي هريرة - رضي الله عنه -: إنَا نكونُ وراءَ الإمام؟، قال: اقْرَأ بها في نفَسِكَ، فإني سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قال الله - عز وجل -: قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْني وبينَ عَبْدي نِصْفَيْنِ، ولعَبْدِي ما سألَ، وإذا قالَ العبدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله: حَمَدني عَبْدي، وإذا قالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قالَ الله: أَثنَى عليَّ عَبْدي، وإذا قالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: الله تعالى مَجَّدَنِي عَبْدي، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قال: هذا بَيْني وبَيْنَ عَبْدي، ولعَبْدِي ما سألَ، وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قال: هذا لِعَبْدِي، وَلعَبْدِي ما سألَ". "وعن أبي هريرة، عن النَّبيِّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: مَن صلَّى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِدَاجٌ"؛ أي: صلاتُه ناقصةٌ. "ثلاثًاً"؛ أي: قالها ثلاثاً. "غير تام"، قيل: تأكيد، وقيل: هو من قول المصنف، ذكره تفسيراً للخِدَاج.

"فقيل لأبي هريرة: إنا نكون وراءَ الإمام، قال: اقرَأْ بها"؛ أي: بأم القرآن "في نفسك"؛ أي: سرًّا غير جهر، وإليه ذهب الشَّافعي. "فإني سمعتُ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسلام - يقول: قال الله تعالى: قَسَمتُ الصلاةَ"؛ أي: الفاتحةَ؛ سُميت صلاةً لِمَا فيها من القراءة، وكونها جزءاً من أجزائها. "بيني وبين عبدي نصفَين"، وحقيقة القِسمة هنا راجعة إلى المعنى، لا إلى مَتلوّ اللفظ؛ لأنَّ نصفَها ثناءٌ، وهو إلى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، ونصفَها دعاء ومسألةٌ؛ وهو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ولو كان من قسمة الحروف لَزادَ النصف الأخير زيادةً بينةً. "ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قال الله تعالى: حمدني عبدي". "وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قال الله تعالى: أثنَى عليَّ عبدي". "وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قال: مجَّدني عبدي"، التمجيد: نسبة إلى المجد، وهو الكَرَم، وقيل: العَظَمة. "وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} "؛ أي: نطلب العونَ على الأمور منك. "قال: هذا بيني وبين عبدي"؛ لأنَّ قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} له تعالى، و {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} للعبد، "ولعبدي ما سأل. وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} "؛ يعني به: كل فعل وقول ونية برضاء الله تعالى. {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من الأنبياء والأولياء. {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}؛ يعني: اليهود. {وَلَا الضَّالِّينَ}؛ يعني: النصارى.

"قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل": وهذا يرشد إلى سرعة إجابته تعالى. * * * 579 - وعن أنس: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمرَ - رضي الله عنهما - كانوا يفتَتِحُونَ الصَّلاةَ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. "وعن أنس - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - عليه الصَّلاة والسلام - وأبا بكر وعمر كانوا يستفتحون الصلاةَ"؛ أي: يبتدئونها "بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} "؛ أي: لا بسورة أخرى. وقيل: معناه: أنهم يسُّرون بالبسملة كما يسرُّون بالتعوُّذ، ثم يجهرون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ}. وهذه الأحاديث تدل على وجوب قراءة الفاتحة على مَن يَقدِر عليها. * * * 580 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمَّنَ الإمامُ فأمنُوا، فإنَّه مَنْ وافَقَ تأمينُهُ تأمينَ الملائكةِ غفِرَ له ما تقدمَ مِن ذنبه". وفي روايةٍ: "إذا أمَّنَ القارِئُ فأمِّنُوا، فإنَّ الملائكةَ تؤمِّنُ، فمنْ وافَقَ تأمينُهُ تأمينَ الملائكة غفِرَ له ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ". وفي روايةٍ: "إذا قالَ الإمامُ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين، فإن الملائكةَ تقولُ: آمين، وإن الإمامَ يقولُ: آمين، فمَنْ وافَقَ تأمينُهُ تأمِينَ الملائكةِ غفِرَ لَهُ ما تقدمَ مِنْ ذَنْبهِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: إذا

أمَّنَ" بتشديد الميم "الإمامُ فأمِّنُوا"؛ أي: قولوا: آمين، مقارناً لتأمين الإمام. "فإن الملائكةَ يُؤمِّنون معكم، فمَن وافَقَ تأمينُه تأمينَ الملائكة"؛ أي: في الإخلاص والخشوع، وقيل: في الإجابة، وقيل: في الوقت؛ وهو الصحيح. اختُلف في هؤلاء الملائكة؛ قيل: هم الحَفَظَة، وقيل: غيرهم. "غُفر له ما تقدَّم من ذَنْبه". وفي رواية: "إذا أمَّنَ القارئ فأَمِّنُوا؛ فإن الملائكةَ تؤمِّن، فمَن وافَقَ تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذَنْبه". وفي رواية: "إذا قال الإمام: {وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين" مدًّا وقصراً، معناه: اسمعْ واستَجِبْ، أو معناه: كذلك فَلْيكنْ، أو اسم من أسمائه تعالى (¬1). "فإن الملائكة تقول: آمين، فمَن وافَقَ تأمينُه تأمينَ الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذَنْبه". * * * 581 - وعن أبي مُوسَى الأَشْعَري، عن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "إذا صلَّيْتُمْ فأقِيمُوا صفوفَكُمْ، ثمَّ لْيؤمَّكُمْ أحدَكُمْ، فإذا كَبَّرَ فكبرُوا، وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقُولُوا: آمين يُجبْكُمُ الله، فإذا كَبَّرَ وركعَ فكبرُوا وارْكَعُوا، وإذا قالَ: سَمعَ الله لِمَنْ حَمِدَه فقولُوا: اللَّهمَّ رَبنا لَكَ الحَمْدُ، يسمَعِ الله لَكُمْ". وفي روايةِ: "وإذا قرأَ فأنْصِتُوا". "وعن أبي موسى الأشعري، عن رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم ¬

_ (¬1) جاء على هامش "غ": "وهو اسم مبني على الفتح، مثل: أين، وكيف؛ لالتقاء الساكنين".

أنه قال: إذا صلَّيتُم فأقِيموا"؛ أي: سوُّوا "صفوفَكم، ثم ليؤمَّكم أحدكم، فإذا كبَّر فكبروا"، يريد: أن موافقةَ الإمام واجبةٌ. "وإذا قال: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} فقولوا: آمين يُجبْكم الله" بالجزم: جواب الأمر بالقول. "وإذا كبَّر وركع فكبروا واركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، يسمعِ الله لكم" بكسر العين؛ أي: يَقْبَلْه، وكان مجزوماً لجواب الأمر، حُرِّك بالكسر. قال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يكتفي الإمام بقوله: سمع الله لمن حمده، ولا يقول: ربنا لك الحمد؛ لأنَّ القِسمةَ بين الذِّكرين تقطع الشركة. "وفي رواية: فإذا قرأ فأنصتوا"؛ أي: اسكتوا. قال أبو حنيفة: لا يقرأ المأمومُ خلفَ الإمام، بل يسكت (¬1). * * * 582 - عن أبي قَتادة: أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - كانَ يقرأُ في الظُّهْرِ في الأُولَيَيْنِ بأُمِّ الكِتابِ وسُورتَيْنِ، وفي الرَّكعَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ بأُمِّ الكِتابِ، ويُسْمِعُنا الآيةَ أحياناً، ويُطيلُ في الرَّكعةِ الأُولى ما لا يُطيلُ في الرَّكعةِ الثَّانية، وهكذا في العَصْرِ، وهكذا في الصُّبْحِ. "وعن أبي قتادة: أن النَّبيّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ في الظُّهر في الأوليين بأمِّ الكتاب وسورتين، وفي الركعتين الأخريين بأمِّ الكتاب، ويُسمعنا الآيةَ أحياناً": يحتمل أنه - عليه الصَّلاة والسلام - كان يُسمعهم إياها ليعلموا السورةَ التي هو فيها، فيقرؤوا نحوَها من السُّوَر في نحوها من الصلوات. ¬

_ (¬1) في "م" زيادة: "وعند الشَّافعي يجب عليه قراءة الفاتحة".

"ويطوِّل في الركعة الأولى ما لا يُطِيل": يحتمل أن تكون (ما) نكرة موصوفة؛ أي: تطويلاً لا يطيله "في الركعة الثَّانية"، وأن يكون مصدرية؛ أي: غير إطالته في الركعة الثَّانية. "وهكذا في العصر، وهكذا في الصُّبح". * * * 583 - قال أبو سعيدٍ الخُدري: كنَّا نَحزرُ قِيامَ رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - كما في الظُّهْرِ والعَصْرِ، فَحَزَرْنَا قِيامَهُ في الرَّكْعَتَيْنِ الأُوْلَيَيْنِ مِنْ الظُّهْرِ قَدْرَ قِراءةِ {الم (1) تَنْزِيلُ} السَّجْدَة - وفي روايةٍ: في كُلِّ ركعةٍ قَدْرَ ثلاثينَ آية - وفي الأُخْرَيَيْنِ قدر النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ، وفي الرَّكعَتَيْنِ الأُوْلَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ على قَدْرِ قِيامِهِ في الأُخرَيَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ، وفي الأخْرَيَيْنِ مِنَ العَصْرِ على النِّصْفِ مِنْ ذلك. "وقال أبو سعيد الخُدري: كُنَّا نَحزِر"؛ أي: نُقدِّر، من (الحَزْر): التقدير. "قيامَ رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم في الظُّهر والعصر، فحَزَرْنا"؛ أي: قدَّرْنا "قيامه في الركعتين الأوليين من الظهر قَدْرَ قراءة: {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة". وفي رواية: "في كل ركعة قَدْرَ ثلاثين آية، وفي الأُخريين قَدْرَ النصف من ذلك، وفي الركعتين الأوليين من العصر على قَدْر قيامه في الأُخريين من الظّهر، وفي الأخريين من العصر على النصف من ذلك". * * * 584 - وقال جابر بن سَمُرة: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الظُّهْرِ بـ {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَىي} - ويروى: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} - وفي العَصْرِ نَحْوَ ذلك، وفي الصُّبْح أطولَ مِنْ ذلك.

"قال جابر بن سَمُرة: كان النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام - يقرأ في الظُّهر بـ: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1]. "ويروى: بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وفي العصر نحو ذلك، وفي الصُّبح أطولَ من ذلك". * * * 585 - وقال جُبَيْر بن مُطْعِمْ: سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرَأُ في المغرِب بالطُّور. "وقال جُبير بن مُطعِم: سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم - يقرأ في المغرب بالطُّور": وهذا يدل على أن وقت المغرب باقٍ إلى غروب الشفق؛ لأنَّه - عليه الصَّلاة والسلام - كان يقرأ على التأنِّي، و (سورة الطور) إذا قَرَأَ على التأنِّي يَقرُب الفراغ منها من غروب الشفق. * * * 586 - وقالت أم الفَضْل بنت الحارِث: سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في المغربِ بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا}. "وقالت أم الفضل بنت الحارث": هي أخت ميمونة زوجة النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام. "سمعتُ النبيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في المغرب بـ {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا}. * * * 587 - وقال جابر: كانَ مُعاذُ بن جَبَلٍ يُصلِّي مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثمَّ يأتِي قَوْمَهُ فيُصَلِّي بهِمْ الصلاةَ، فصلَّى ليلةً مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العِشَاءَ، ثمَّ أَتى قَوْمَهُ فأَمَّهُمْ فافتَتَحَ

سُورةَ البقرةِ، فانْحَرَفَ رجلٌ فسلَّمَ ثمَّ صلَّى وحدَهُ وانصرفَ، فبلغَ ذلكَ مُعاذاً فقال: إنه مُنافِق، فبلغَ ذلكَ الرجُلَ، فأتَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله!، إنَّا قَوْمٌ نعملُ بأَيْدينا ونَسْقي بنواضحِنا، وإنَّ مُعاذاً صلَّى بنا البارحةَ فقرأَ البقرةَ فتجوَّزْتُ، فزعم أنِّي مُنافِقٌ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا معاذُ!، أفتَّانٌ أنت؟ - ثلاثاً - اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، ونحوهما". "وقال جابر: كان معاذ بن جبل يصلِّي مع النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام، ثم يأتي قومَه فيصلِّي بهم، فصلَّى ليلة مع النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام - العشاءَ، ثم أتى قومَه فأمَّهم": هذا يدل على جواز اقتداء المُفترِض بالمتنفِّل، وبه قال الشَّافعي. "فافتتح بسورة البقرة، فانحرف رجل"؛ أي: مالَ عن الصفِّ وخرجَ منه، والرجل حزم بن أبي كعب (¬1) الأنصاري. "فسلَّم، ثم صلَّى وحده"؛ أي: استأنَفَ الصلاةَ منفردًا؛ لأنَّه لم يَعلَم أنه لو فارَقَ بالنية وانفرد وأتَمَّ بلا استئناف لَجازَ له ذلك. "وانصرفَ"؛ أي: خرجَ من المسجد. "فبلغَ ذلك معاذاً، فقال: إنه منافق، فبلغ ذلك"؛ أي: قولُ معاذ أنه منافق. "الرجلَ، فأتى"؛ أي: الرجلُ "النَّبيّ - صَلَّى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا رسولَ الله! إنَّا قومٌ نعمل بأيدينا، ونسقي بنواضحنا" جمع: ناضحة، أنثى: ناضح، وهو ما يُستَقى عليه من البعير. "وإن معاذاً صلَّى بنا البارحةَ"؛ أي: الليلةَ الماضيةَ. ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "حزام بن أبي بن كعب".

"فقرأ البقرة، فتجوَّزت من صلاتي"؛ أي: اختصرتها وخفَّفتها، وقيل: أي: ترخَّصت بترك متابعته، وقيل: من (الجَوز) بمعنى: القطع، وهذا يدل على أن للمأموم إذا عَرَضَ له أمرٌ أن يخرجَ من إمامة الإمام ويتمَّها لنفسه. "فزعم أني منافق، فقال - عليه الصَّلاة والسلام -: يا معاذُ! أفتَّان أنتَ؟ ثلاثاً": استفهام على وجه التوبيخ والإنكار، وأصل الفتنة: الامتحان والابتلاء؛ أي: أتَصرِف النَّاسَ عن دينهم وتَحمِلَهم على الضلال؟! "اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} ونحوهما": يدل على سُنِّية تخفيفِ الإمامِ الصلاةَ، وأن يقتديَ بأضعفهم. * * * 588 - وقال البَرَاء: سمعتُ النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يقرأُ في العِشاءَ {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، وما سمعتُ أحدًا أحسنَ صوتًا منهُ. "وقال البراء: سمعتُ النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام - يقرأ في العشاء {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ}، وما سمعتُ أحدًا أحسنَ صوتاً منه". * * * 589 - وقال جابر بن سَمُرة: كانَ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقرأُ في الفَجرِ بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ونَحْوِهَا. "وقال جابر بن سَمُرة: كان رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في الفجر بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} ونحوها". * * * 590 - وعن عَمْرو بن حُرَيْثٍ - رضي الله عنه -: أنَّهُ سَمعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الفَجْرِ

{وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}. "وعن عمرو بن حريث: أنه سمع النبيَّ - عليه الصَّلاة والسلام - يقرأ في الفجر: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}، يريد: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} ". * * * 591 - وعن عبد الله بن السَّائب - رضي الله عنه - قال: صلَّى لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الصُّبْحَ بمكَّةَ، فاستفتحَ سُورَةَ (المؤمنين) حتَّى جاءَ ذِكْرُ موسى وهارونَ - أو ذِكْرُ عيسى - أخذَتِ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - سَعْلَةٌ فَرَكَعَ. "وعن عبد الله بن السَّائب أنه قال: صَلَّى لنا رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم الصبحَ بمكة، فاستفتح سورةَ المؤمنين" أراد: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون: 1]. "حتى جاء ذكرُ موسى وهارون" أراد به: قوله تعالى: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ}. "أو ذكر عيسى" أراد به: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50]. "أخذَتِ النبيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم سَعْلَةٌ"، وهي فَعْلَة من: السُّعال، وهو صوت يكون من وجع الحلق واليبوسة فيه. قيل: إنما أخذتْه بسبب البكاء؛ أي: بَكَى حتَّى غلبَ عليه السعالُ، ولم يتمكن من إتمام السورة، "فركع". * * * 592 - قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ في الفَجْرِ يومَ الجُمُعَةِ بـ {الم (1) تَنْزِيلُ} في الرَّكْعَةِ الأُوْلَى، وفي الركعة الثَّانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ

حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ}. "وقال أبو هريرة: كان النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام - يقرأ في الفجر يومَ الجمعة: بـ {الم (1) تَنْزِيلُ} في الركعة الأولى، وفي الثَّانية: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} ". * * * 593 - وقال عُبَيْد الله بن أبي رافعٍ: صلَّى لنا أبو هريرة - رضي الله عنه - فيه الجُمعة فقرأَ سُورةَ الجُمعةِ في السَّجْدَةِ الأُولَى، وفي الآخرة: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، فقال: سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقرأُ بهِمَا يومُ الجُمعة. "وقال عبيد الله بن أبي رافع: صَلَّى بنا أبو هريرة يومَ الجمعة، فقرأ سورةَ الجمعة في السجدة الأولى"؛ أي: في الركعة الأولى. "وفي الآخرة: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ}، فقال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ بهما يومَ الجمعة". * * * 594 - وقال النُّعمانُ بن بشيرٍ: كانَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقرأُ في العِيدَيْنِ وفي الجُمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، وإذا اجتمعَ العيدُ والجُمعةُ في يومٍ واحدٍ قرأَ بهما في الصَّلاتَيْنِ. "وقال نعمان بن بشير: كان رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} وإذا اجتمع العيد والجمعة في يومٍ واحدٍ قرأ بهما"؛ أي: بتلك السورتَين "في الصلاتين". * * *

595 - وسأل عمرُ بن الخطَاب - رضي الله عنه - أبا واقدٍ اللَّيثيُّ - رضي الله عنهما -: ما كانَ يَقرأُ بِهِ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطرِ؟، فقال: كانَ يقرأُ فيهما بـ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. "وسأل عمرُ بن الخطاب أبا واقد": لم يُعرَف اسمه ولا اسم أبيه. "اللَّيثي"؛ أي: هو من قبيلة لَيث بن بكر. "ما كان يقرأ به رسولُ الله - صلَّى الله تعالى عليه وسلم في الأضحى والفطر"؛ أي: أيَّ شيء يقرأ فيهما؟ "فقال: كان يقرأ فيهما بـ: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ}، و {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} (1). * * * 596 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قرأَ في ركعتي الفجرِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلَّى الله تعالى عليه وسلم قرأ في ركعتَي الفجر" أراد به: سُنَّة الفجر. " {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". * * * 597 - وقال ابن عباسٍ: كانَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقرأُ في ركعتي الفجر: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} والتي في آل عمران: {تعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}. "وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله صلَّى الله تعالى عليه وسلم يقرأ في ركعتَي الفجر": أراد به: السُّنَّة أيضاً.

"بـ: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} والتي"؛ أي: التي "في آل عمران، أولها: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} الآية". * * * مِنَ الحِسَان: 598 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانَ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يَفتَتِحُ صلاتَهُ بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ضعيف. "من الحسان": " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النَّبيُّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم يفتتح صلاته بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} "؛ أي: يَجهَر به في أول الفاتحة بحيث يُسمَع، وهذا مذهب الشَّافعي، ومذهب أبي حنيفة: الإسرار به. (ضعيف)؛ لأنَّه تفرد لإخراجه أبو عيسى لا غير. * * * 599 - عن وائل بن حُجْر أنه قال: سمعتُ النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قرأَ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقالَ: "آمين" مدَّ بها صوْتَهُ. "وعن وائل بن حُجْر أنه قال: سمعت النبيَّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم قرأ: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، فقال: آمين، مدَّ بها صوتَه" فيه: دليل على أنه يجهر بها، وبه قال الشَّافعي. * * * 600 - وعن أبي زُهير النُّميري أنه قال: خرجْنَا معَ رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ، فأتَيْنَا على رجلٍ قد ألحَّ في المَسألةِ، فقال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوْجَبَ إن خَتَم! "،

فقالَ رجلٌ من القومِ: بأيِّ شيءٍ يختمُ؟، قال: "بآمين". "وعن أبي زهير النُّمَيري أنه قال: خرجْنَا مع رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ، فأَتَيْنا على رجل قد ألحَّ"؛ أي: بالَغَ "في المسألة من الله تعالى"؛ أي: في الدعاء والسؤال منه تعالى. "فقال النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام -: أَوْجَبَ"؛ أي: أوجبَ إجابةَ دعائه. "إن خَتَمَ"؛ أي: المسألةَ. "فقال رجل من القوم: بأيِّ شيءٍ يختم؟ قال: بآمين": وهذا يدل على أن مَن دعا يُستحب أن يقول بعد دعائه: آمين، وإن كان الإمامُ يدعو للقوم يكفي له تأمينُ القوم. * * * 601 - عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قرأَ في صلاةِ المغربِ بسورةِ الأعرافِ، فرَّقَها في ركعتين. "عن عائشة رضي الله عنها: أن رسولَ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم قرأ في صلاة المغرب بسورة الأعراف، فرَّقها في ركعتين"؛ أي: قرأ بعضَها في ركعة وبعضَها الآخر في أخرى، وذلك يحتمل أنه - عليه الصَّلاة والسلام - قرأ قليلاً منها في الركعة الأولى، فأدرك بذلك الركعةَ في الوقت، ثم قرأ باقيها في الثَّانية، ولا بأسَ بوقوع الثَّانية خارجةً منه. أو أطلق الراوي (سورة الأعراف) وأراد بعضها، هذا إن قلنا: إن وقت المغرب مضيَّق، وإلا كان ذلك لبيان الجواز واتساع الوقت، كما قال به قوم. * * *

602 - وقال عُقْبة بن عامر: كنتُ أقودُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقتَهُ في السفَرِ، فقالَ لي: "يا عقبةُ! ألا أُعَلِّمُك خيرَ سورتينِ قُرِئتَا؟ " فَعَلَّمني {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، قال: فَلَمْ يَرَني سُرِرْتُ بهما جِدًّا، فلمَّا نزلَ لصلاةِ الصبح صلَّى بهما صلاةَ الصُّبح للناسِ، فلمَّا فرغَ التفتَ إليَّ فقالَ: "يا عقبةُ!، كيفَ رأيتَ؟ ". "وقال عقبة بن عامر: كنت أقود لرسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم ناقتَه في السفر، فقال لي: يا عقبةُ! ألا أعلِّمك خير سورتَين قُرِئتا؟ فعلَّمَني: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ". تخصيصهما [منه]- عليه الصَّلاة والسلام - بالخيرية باعتبار حال الراوي وما هو فيه من الوقت؛ فإنَّه كان في سفر وقد أظلم عليه الليل، ورآه مفتقراً إلى تعلُّم ما يستعيذ به من شرِّ الليل، ولم يَرَ أسهلَ تعلُّماً وأوفرَ حظًّا في الاستعاذة من هاتين؛ لوجازة لفظهما، واشتمالهما على المعنى الجامع، ولم يفهم عقبة المعنى المراد من تخصيصه - عليه الصَّلاة والسلام - إياهما، ولذا قال: "فلم يَرَني"؛ أي: النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام "سُرِرتُ بهما جدًّا"؛ وذلك لظنه أن الخيريةَ إنَّما تقع بالطول والقِصَر. "فلما نزل - صلى الله عليه وسلم - لصلاة الصبح صَلَّى بهما صلاةَ الصبح للناس"؛ تنبيهاً إلى أنهما يسدَّان مسدَّ الطويلتين. "فلما فرغ" من الصَّلاة "التفتَ إلي فقال: يا عقبة! كيف رأيتَ؟ "؛ أي: كيف رأيتَني قرأتُهما في صلاة الصبح لعِظَم قَدْرهما، فلو لم تكونا عظيمتَي القَدْر لَمَا قرأتُهما فيها؟ * * *

603 - وقال جابر بن سَمُرة: كانَ النبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يقرأُ في صلاةِ المغربِ ليلةَ الجمعةِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1)}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}. "وقال جابر بن سَمُرة: كان النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام - يقرأ في صلاة المغرب ليلةَ الجمعة: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ". أعلم أن هذا وأشباهَه ليس على الدوام، بل يقرأ في كل وقت شيئاً؛ ليَعلَم النَّاسُ جوازَ ما يقرأ. * * * 604 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ما أُحصِي ما سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ في الركعتين بعدَ المغربِ وفي الركعتين قبلَ صلاةِ الفجرِ بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. "وقال عبد الله بن مسعود: ما أُحصِي ما سمعتُ رسولَ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم"، (ما) الأولى: نافية، والثانية: موصولة؛ أي: لا أَقدِر أن أعدَّ المرات "التي كان يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل صلاة الفجر بـ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}: وهذا كناية عن الكثرة. * * * 605 - وقال سليمانُ بن يسارٍ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: ما صليتُ وراءَ أحدٍ أشبهَ صلاة برسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - من فلانٍ، قال سليمانُ: صلَّيتُ خلْفَهُ، فكانَ يُطيلُ الركعتينِ الاُولَيَيْنِ من الظهرِ، ويُخَفِّفُ الأخريينِ، ويُخَفِّف العصرَ، ويقرأُ في الركعتينِ الأوليينِ من المغربِ بِقِصَارِ المُفَصَّلِ، وفي العشاءِ بوسَطِ المُفَصَّلِ،

وفي الصُّبح بطِوالِ المُفَصَّلِ. "وقال سليمان بن يسار، عن أبي هريرة: ما صلَّيتُ وراءَ أحدٍ أشبهَ صلاةً برسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم من فلان"، قيل: هو عليٌّ، وقيل: أمير بالمدينة، وقيل: عمر بن عبد العزيز. "قال سليمان: فصلَّيت خلفَه"؛ أي: خلفَ ذلك الفلان. "وكان يطيل الركعتين الأُوليين من الظُّهر، ويخفِّفُ الأُخريين، ويخفِّف العصر، ويقرأ في الركعتين الأُوليين من المغرب بقِصَار المفصَّل": وهو السبع الأخير، سُمي به لكثرة فصوله؛ أي: سُوَره، وقِصَاره مثل: {إِذَا زُلْزِلَتِ} [الزلزلة: 1]، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]. "وفي العشاء بأوساط المفصَّل"، أوساطه مثل: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} [البروج: 1]، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]. "وفي الصبح بطِوَال المفصَّل"، طواله مثل: (سورة محمد) و (القمر). وقيل: طِوَاله من سورة: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا} [الحجرات: 1]، إلى سورة {عَمَّ}، وأوساطه: من {عَمَّ} إلى {وَالضُّحَى}، وقِصَاره: من {وَالضُّحَى} إلى آخر القرآن. * * * 606 - وقال عُبادة بن الصَّامت: كنا خلفَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في صلاةِ الفجرِ، فقرأَ فَثَقُلَتْ عليهِ القراءةُ، فلمَّا فرغَ قالَ: "لعلَّكم تَقْرَؤونَ خلفَ إمامِكُمْ؟! "، قلنَا: نعمْ يا رسولَ الله، قال: "لا تَفعلوا إلَّا بفاتِحَةِ الكتابِ، فإنَّه لا صلاةَ لمن لم يقرأْ بها" وفي روايةٍ قال: "وأنا أقولُ مالي يُنازِعُنِي القرآنُ!، فلا تَقْرؤوا بشيءٍ من القرآنِ إذا جهرتُ إلَّا بِأُمِّ القرآنِ".

"وقال عُبادة بن الصَّامت: كُنَّا خلف النَّبيّ صَلَّى الله تعالى عليه وسلم في صلاة الفجر، فقرأ، فثَقُلَتْ عليه القراءةُ"؛ أي: تعسَّرت؛ لشغل أصوات المأمومين بالقراءة. "فلما فرغ قال: لعلكم تقرؤون خلف إمامكم؟ قلنا: نعم يا رسولَ الله! قال: لا تفعلوا إلَّا بفاتحة الكتاب"؛ فإنَّه لا صلاةَ لمن لم يقرأ بها. "وفي رواية: قال: وأنا أقول: ما لي ينازعني القرآن؟! "؛ أي: ينازعني مَن ورائي فيه بقراءتهم على التغالُب؛ يعني: تشوِّش قراءتهم على قراءتي. "فلا تقرؤوا بشيءٍ من القرآن إذا جهرتُ إلَّا بأم القرآن"، ذهب الشافعي به إلى أن المأمومَ يقرأ الفاتحة خلف الإمام، قلنا: هذا محمول على ابتداء الإسلام. * * * 607 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - انصرفَ من صلاةٍ جهرَ فيها بالقراءةِ، فقال: "هل قرأَ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ "، فقالَ رجلٌ: نعم يا رسولَ الله، قال: "إنِّي أقولُ: ما لي أُنازَعُ القرآنَ! "، قال: فانتهى النَّاسُ عن القراءةِ مع النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فيما جهرَ فيه بالقراءة من الصلاةِ حينَ سَمِعُوا ذلكَ من رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم انصرف"؛ أي: فرغَ "من صلاةِ جهرَ فيها بالقراءة، فقال: هل قرأ معي أحدٌ منكم آنفًا؟ "؛ يعني: الآن. "فقال رجل: نعم يا رسول الله! قال: إنِّي أقول: ما لي أُنازَع القرآنَ؟! " قيل: على صيغة المجهول؛ أي: أُداخَل في القراءة وأُشارَك فيها وأُغالَب عليها؛ وذلك لأنهم جهروا بالقراءة خلفه، فشغلوه، كأنهم نازَعُوه.

"قال" أبو هريرة: "فانتهى النَّاس عن القراءة"؛ أي: تركوها. "مع رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصَّلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم" ومَن قال بقراءتها خلفَ الإمام في الجهرية حملَه على ترك الصوت في القراءة خلفَه. * * * 608 - وقال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إنَّ المُصلِّي يُنَاجي ربَّه، فلينظرْ ما يُناجيه به، ولا يجهرْ بعضُكم على بعضٍ بالقرآنِ". "عن البَيَاضي أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: إن المصلِّي مناجٍ ربَّه": اسم فاعل من (ناجَى): إذا جرى سِرٌّ وكلامٌ خفيٌّ بين اثنين. "فَلْينظرْ ما يناجيه به" (ما): استفهامية، والضمير في (ما يناجيه) راجع إلى (الربِّ)، وفي (به) إلى (ما)؛ يعني: فَلْيتأملْ في جواب ما يناجيه به من القول على سبيل التعظيم، ومواطأة القلب اللسانَ، والإقبال إلى الله تعالى، وذلك إنَّما يحصل إذا لم ينازعه صاحبُه بالقراءة. "ولا يَجهَرْ بعضُكم على بعض بالقرآن"، عدَّى بـ (على) لإرادة معنى الغَلَبة؛ أي: لا يَغْلِبْ ولا يُشوِّشْ بعضُكم بعضاً جاهراً بالقراءة. * * * 609 - وعن أبي هريرة أنه قال: قال النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إنَّما جُعِلَ الإمامُ ليؤُتَمَّ بِهِ، فإذا كبَّر فكبروا، وإذا قرأَ فَأنصِتُوا". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم:

إنما جُعل الإمامُ لِيُؤتَمَّ"؛ أي: ليُقتدَى "به". "فإذا كبَّر فكبروا، وإذا قرأ فأَنْصِتُوا": يدل على أنه لا يقرأ خلفَ الإمام. 610 - وقال عبد الله بن أبي أَوْفَى: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني لا أستطيعُ أن آخُذَ من القرآنِ شيئًا، فعلِّمْنِي ما يُجْزِئني، قالَ: "قلْ: سُبحانَ الله، والحمدُ للَّهِ، ولا إلهَ إلا الله، والله أكبرُ، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيم"، قال: يا رسولَ الله!، هذا للَّهِ، فما لي؟، قال: "قلْ: اللهمَّ ارحمني، وعافِنِي، واهدِنِي، وارزُقني". "وقال عبد الله بن أبي أَوْفَى: جاء رجلٌ إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال: إني لا أستطيع"؛ أي: في هذه الساعة "أن آخُذَ من القرآن شيئًا"، وقد دخلت عليَّ وقتُ الصلاة. "فعلِّمْني ما يُجزِئني"؛ أي: في الصلاة. "قال: قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، قال الشافعي: مَن تعذَّر عليه تعلُّم الفاتحة؛ إما لضيق الوقت أو لبلادته، ولم يعلم شيئًا من القرآن بقَدْر آيات الفاتحة وجب عليه أن يأتي بالتسبيح والتهليل بدل الفاتحة، فإذا فرغ من تلك الصلاة لزمَه أن يتعلَّمَها. وقيل: معناه: لا أستطيع أن آخذَ من القرآن حزبًا أتقرَّب بتلاوته إلى الله في آناء الليل وأطراف النهار؛ والمعنى الأول أنسب بالباب. (قال: يا رسولَ الله! هذا لله"؛ أي: هذه الكلمات ذِكرُ الله تعالى. "فمالي؟ " علِّمْني شيئًا يكون لي فيه دعاء واستغفار.

"قال: قل: اللهم ارحمني وعافني واهدني وارزقني". 611 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "سبُحان ربيَ الأَعلى". "عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: سبحان ربي الأعلى": هذا الحديث - كما في الحديثين الأخيرين - يدل على استحباب الإجابة فيما يُقرَأ من القرآن في الصلاة وغيرها، وإليه ذهب الشافعي، وعند أبي حنيفة: لا يجوز في الصلاة. 612 - ورُوِيَ عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قرأَ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} فليقلْ: بلى، وأنا على ذلكَ مِنَ الشَّاهِدِينَ، ومَنْ قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقلْ: بلى، ومَنْ قرأَ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} فليقلْ: آمَنِّا بالله". "ورُوي عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: مَن قرأ {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}؛ أي: أقضى القاضين، يحكم بينك وبين أهل التكذيب بك يا محمد. "فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، ومَن قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ}؛ أي: الذي جعلَ خَلْقَ الإنسانِ مِن نطفةِ تُمْنَى في الرَّحِم {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فليقل: بلى، ومَن قرأ: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ}؛ أي: بعدَ القرآن {يُؤْمِنُونَ} " إذا لم يؤمنوا به، مع أنه معجزةٌ باهرةٌ من بين الكتب المُنزَلَة.

"فليقل: آمنا بالله". 613 - وعن جابرٍ قال: قرأ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابهِ سورَةَ الرحمنِ فسكَتُوا، فقال: "لقدْ قرأتُها على الجنِّ فكانُوا أحسنَ مَرْدُودًا مِنْكُمْ، كلَّما أَتيتُ على قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} قالوا: لا بشيءٍ من نِعَمِكَ رَبنا نكذبُ، فَلَكَ الحَمْدُ"، غريب. "وعن جابر أنه قال: قرأ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أصحابه سورة الرحمن، فسكتوا، فقال: لقد قرأتُها على الجن ليلةَ الجن فكانوا أحسنَ مردودًا": مفعول بمعنى المصدر؛ أي: أحسنَ ردًّا وإجابة "منكم"، وإنما نزَّلَ سكوتَهم منزلةَ إجابتهم من حيث اعترافُهم بأن في الإنس والجن مَن هو مكذِّب بآلاء الله، وكذلك في الجن مَن هو معترِف بذلك أيضًا، لكنَّ نفيَهم التكذيبَ عن أنفسهم باللفظ أيضًا أدلُّ على الإجابةِ وقَبولِ ما جاء به الرسول - عليه الصلاة والسلام - من سكوت الصحابة أيضًا، فلذا قال: (كانوا أحسنَ مردودًا منكم). "كلما أتيت على قوله: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ": الخطاب للإنس والجن: بأي نعمة مما أنعم الله عليكم تكذِّبون وتجحدون نِعَمَه بترك شكره وتكذيب رسله وعصيان أمره؟ "قالوا: لا بشيء مِن نِعَمِك ربنا نكذِّب"؛ أي: لا نكذِّب بشيءٍ منها. "فلك الحمد. غريب".

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ مَصَابِيحِ السُّنَّةِ لِلإمَامِ البَغَوِيِّ [2]

12 - باب الركوع

تَابع (4) كِتابُ الصَّلاَةِ 12 - باب الرُكُوع (باب الركوع) مِنَ الصِّحَاحِ: 614 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقيموا الركوعَ والسجودَ، فوالله إني لأراكم مِن بعدِي". "من الصحاح": أنه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم - "عن أنس الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أَقِيموا"؛ أي: أَتِمُّوا "الركوعَ والسجودَ"، وعدِّلوهما، من (أقام العُودَ): إذا قوَّمَه. "فوالله إني لأَراكم من بعدي"؛ أي: من خلف ظَهري؛ يعني: أَعلَمُ ما تفعلون خلفَ ظهري من نقصان الركوع والسجود، وهو من الخوارق التي أُعطِيَها عليه الصلاة والسلام، وفيه: حثٌّ على الإقامة ومنع التقصير وترك الطمأنينة فيهما. 614/ -م - وقال البراء: كانَ ركوعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَسجودُهُ وجلوسُه بين

السجدَتَيْن، وإذا رَفَعَ من الركوعِ ما خَلاَ القيامَ والقُعُودَ قريبًا من السَّواءِ. "وقال البراء: كان ركوعُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وسجودُه وجلوسُه"؛ أي: زمانُ ركوعِه عليه الصلاة والسلام وسجودِه وجلوسِه "بين السجدتين وإذا رفعَ رأسَه"؛ أي: زمانُ رفعِه "من الركوع ما خلا القيامَ والقعودَ للتشهد"؛ أي: ما عداهما؛ فإنهما كانا طويلَين بالنسبة إلى باقي الأفعال، استثناء من المعنى. "قريبًا من السواء": خبر (كان)؛ أي: كان قريبًا من التماثُل، لا طويلًا ولا قصيرًا. 615 - وقال أنس: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قالَ: "سَمِعَ الله لِمَنْ حمدَهُ" قام حتى نقول: قد أَوْهَمَ، ثم يسجدُ ويقعدُ بينَ السجدتينِ حتى نقولَ: قد أوهمَ. "وقال أنس: كان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - إذا قال: سمع الله لمن حمده قام حتى نقول"، قيل: بالرفع: حكاية حال ماضية؛ أي: نظنُّ؛ إذ القولُ قد جاء بمعناه. "قد أُوهِمَ"، يقال: أَوْهَمْتُ الشيءَ: إذا تركتُه، وأَوْهَمْتُ في الكلام والكتاب: إذا أسقطتُ منه شيئاً. والمعنى: أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يَلبَث في الاعتدال من الركوع زمانا نظنُّ أنه أسقطَ الركعةَ التي ركعَها، وعاد إلى ما كان عليه من القيام. ويقال: أَوهمتُه: إذا أوقعته في الغلط، وعلى هذا يكون (أُوهِمَ) على صيغة الماضي المجهول؛ أي: أُوقِعَ عليه الصلاة والسلام في الغلط ووَقَفَ سهوًا. "ثم يسجد ويقعد بين السجدتين حتى نقول: قد أُوهِمَ"؛ أي: نظنُّ أنه أَسقطَ السجدةَ.

616 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثرُ أن يقولَ في ركوعُهُ وسجودِهِ: "سبحانَكَ اللهمَّ ربنا وبحمدِك، اللهمَّ اغفرْ لي" يَتَأَوَّلُ القرآنَ. "وقالت عائشة: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُكثر أن يقولَ في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك"؛ إجابةً لقوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48]. "اللهم اغفر لي"؛ إجابةً لقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ} [المؤمنون: 118]. "يتأَوَّل القرآن"؛ أي: يفسِّره، جملة حالية من فاعل (يقول)؛ أي: يقولُ ويَنظرُ ما يَؤُولُ إليه القرآن من التسبيح والحمد والاستغفار. 617 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ في ركوعهِ وسجودِه: "سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ ربُّ الملائكةِ والرُّوحِ". "وعن عائشة: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده سُبُّوح قُدُّوس"؛ أي: منزَّه طاهر عن كل عيب، وهما خبر مبتدأ محذوف؛ أي: ركوعي وسجودي لمن هو سُبُّوح قُدُّوس. "ربُّ الملائكة والرُّوح"، قيل: هو جبرائيل، وقيل: صنفٌ من الملائكة أفردَه (¬1) بالذِّكر للتشريف. 618 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إني نُهيتُ أنْ أَقْرَأَ القرآنَ راكعًا أو ساجِدًا، فأمَّا الركوعُ فعظِّمُوا فيهِ الربَّ، وأمَّا السُّجودُ فاجتهدُوا في الدُّعاءِ، ¬

_ (¬1) في "ت": "خُصَّ".

فَقَمِنٌ أن يُستجَابَ لكم". "عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا إني نُهيتُ أن أقرأَ القرآنَ راكعًا وساجدًا"، الناهي هو الله تعالى، وهو نهيُ تنزيهٍ لا تحريم؛ إذ القراءةُ فيهما لا تُبطل الصلاةَ، وخُصَّت القراءة بالقيام أو القعود؛ لأنهما من الأفعال العادية، وبالقراءة يتميزان عن العادة ويتمحَّصان للعبادة، بخلاف الركوع والسجود؛ لأنهما بذواتهما يخالفان العادةَ، ويدلاَّن على الخضوع والعبادة. "فأما الركوع فعظِّموا فيه الربَّ"، تعظيمه تعالى قول: سبحان ربي العظيم، الأمر للندب لا للوجوب؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - حين علَّم الأعرابيَّ لم يَأمُرْه به. "وأما السجود فاجتَهِدُوا"؛ أي: بالِغُوا "في الدعاء" بعد قول: سبحان ربي الأعلى. "فقَمِنٌ": بفتح الميم وكسرها؛ أي: جديرٌ وحقيقٌ "أن يُستجابَ لكم"؛ لأن السجودَ أقربُ ما يكون فيه العبدُ إلى ربه، فيكون الدعاءُ في تلك الحالة أقربَ إلى الإجابة. 619 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قالَ الإِمامُ: سمعَ الله لِمَنْ حمدَهُ؛ فقولُوا: اللهم رَبنا لك الحمدُ، فإنَّه مَن وافَقَ قولُه قولَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تَقَدَّم من ذنبهِ". "وعن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده فقولوا: ربنا لك الحمد"؛ فإن الملائكة يقولون: ربنا لك الحمد.

"فمَن وافَقَ قولُه قولَ الملائكة غُفر له ما تقدَّم من ذَنْبه". 620 - وعن عبد الله بن أبي أَوْفَى - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفعَ ظهرَه من الركوع قال: سمعَ الله لمن حمدَه، اللهمَّ ربنا لكَ الحمدُ مِلْءَ السموات، ومِلْءَ الأرضِ، ومِلْءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ" "وعن عبد الله بن أبي أَوْفَى أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا رفع ظَهرَه من الركوع قال: سمع الله لمن حمده، اللهم ربنا لك الحمدُ ملء السماوات" بالنصب: صفة مصدر محذوف، وبالرفع: صفة (الحمد)، وهو اسم ما يأخذه الإناء عند الامتلاء، مجاز عن الكثرة. "وملء الأرضِ وملء ما شئتَ من شيءٍ بعدُ": إشارة إلى الاعتراف بالعجز عن أداء حق الحمد بعد استفراغ المجهود فيه، فأَحالَ الأمرَ فيه إلى المشيئة، وليس وراء ذلك الحمد مُنتهًى. 621 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفعَ رأسهُ من الركوع، قال: "ربنا لكَ الحمدُ مِلْءَ السماواتِ ومِلْءَ الأرضِ ومِلْءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ، أهلَ الثناءَ والمَجْدِ، أَحَقُّ ما قالَ العبدُ، وَكُلُّنا لكَ عبدٌ، اللهم لا مانِعَ لِمَا أَعطيتَ، ولا مُعطيَ لِمَا مَنعتَ، ولا ينفعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ". "وعن أبي سعيد الخُدري أنه قال: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا رفع رأسَه من الركوع قال: ربنا لك الحمد ملءَ السماواتِ وملءَ الأرضِ وملءَ ما شئتَ من شيءٍ بعدُ"؛ أي: بعدَ السماواتِ والأرضِ. "أهلَ الثناء" بالنصب: على المدح أو النداء، وبالرفع: خبر مبتدأ محذوف؛

أي: أنتَ أهلُ الثناء. "والمجد، أحقُّ" بالرفع: خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الحمدُ والثناءُ أحقُّ. "ما قال العبدُ"، ويجوز كونه فعلًا ماضيًا من: أحقَّ؛ أي: أصابَ العبدُ الحقَّ فيما قال بأنك أهلُ الثناءِ والمجدِ، وبجوز أن يكون (أحق) مبتدأ وخبره (اللهم). "وكلُّنا لك عبدٌ": جملة معترضة بين المبتدأ والخبر. "اللهم لا مانعَ لِمَا أعطيتَ، ولا مُعطِيَ لِمَا منعتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك"، الجدُّ: الحظُّ منك والإقبال، وقيل: الغنى والعظمة؛ أي: لا ينفع ذا الغنى والحظ الدنيوي غناؤُه وحظُّه منك؛ أي: بذلك؛ يعني: بدلَ طاعتك وعبادتك، وإنما ينفعُه الإيمانُ والطاعةُ. 622 - عن رِفَاعة بن رافعٍ قال: كنا نُصلِّي وراءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا رفعَ رأْسهُ من الركعةِ قال: "سمعَ الله لمن حَمدَه"، فقالَ رجلٌ وراءَه: ربنا ولكَ الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيهِ، فلما انصرفَ قال: "مَن المُتكلِّم؟!، رأيتُ بضعةً وثلاثينَ مَلَكًا يَبْتَدِرُونَها أيُّهُم يكتُبها أَوَّل". "عن رِفاعة بن رافع أنه قال: كنا نصلي وراءَ النبي عليه الصلاة والسلام، فلما رفعَ" رسولُ الله "رأسَه من الركعة قال: سمع الله لمن حمده، فقال رجل وراءَه: ربنا ولك الحمد"؛ أي: لك النعمة ولك الحمد. "حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف قال: مَنِ المتكلِّمُ؟ رأيتُ بضعةً وثلاثين مَلَكًا يبتدرونها"؛ أي: يسارعون في كتابة هذه الكلمات. "أَيُّهُم يكتبها أولَ" بالنصب؛ وهو الأوجه؛ أي: أولَ مرةٍ، ويصعد بها؛ لعِظَم قَدْرها.

مِنَ الحِسَان: 623 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُجْزِئُ صلاةُ الرجلِ حتى يُقيمَ ظهرَهُ في الركوعِ والسُّجودِ"، صحيح. "من الحسان": " عن أبي (¬1) مسعود الأنصاري أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُجزِئ صلاةُ الرجل حتى يقيمَ ظَهرَه في الركوع والسجود"، والمراد بإقامة الظهر: الطمأنينة. "صحيح". 624 - وعن عُقْبة بن عامر قال: لمَّا نَزلَتْ: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجعلُوهَا في ركوعِكُم"، فلما نزلَتْ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "اجْعَلُوهَا في سجودِكم". "وعن عقبة بن عامر أنه قال: لمَّا نزلت: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اجعلوها في ركوعكم"؛ أي: قولوا في الركوع: سبحان ربي العظيم. "فلما نزلت: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: اجعلوها في سجودكم"؛ أي: قولوا في السجود: سبحان ربي الأعلى. ¬

_ (¬1) في سائر النسخ: "ابن".

625 - عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ركعَ أحدُكم فقالَ في ركوعِهِ: سبحانَ ربي العظيمِ ثلاثَ مراتٍ؛ فقد تَمَّ ركوعُه، وذلك أَدناهُ، وإذا سجدَ فقالَ في سجودِه: سبحانَ ربي الأَعلى ثلاثَ مراتٍ؛ فقد تمَّ سجودُه، وذلكَ أَدناه"، ليس بمتصلٍ. "عن عبد الله بن مسعود: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: إذا ركع أحدكم، فقال في ركوعه: سبحان ربي العظيم ثلاث مرات فقد تم ركوعُه، وذلك أدناه"؛ أي: أدنى الكمال في العدد. "وإذا سجد، فقال في سجوده: سبحان ربي الأعلى ثلاث مرات فقد تم سجودُه، وذلك أدناه. ليس بمتصلٍ". 626 - عن حُذيفة - رضي الله عنه -: أنه صلَّى مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فكانَ يقولُ في ركوعِهِ: "سبحانَ ربي العظيمِ"، وفي سجودِهِ: "سبحانَ ربي الأَعلى"، وما أتَى على آيةِ رحمةٍ إلاَّ وقفَ وسألَ، وما أَتَى على آيةٍ عذابٍ إلا وقفَ وتَعَوَّذَ. صحيح. "عن حذيفة: أنه صلى مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فكان يقول في ركوعه: سبحان ربي العظيم، وفي سجوده: سبحان ربي الأعلى، وما أتى على آيةٍ رحمةٍ إلا وقفَ وسألَ"؛ أي: رحمتَه. "وما أتى على آيةٍ عذابٍ إلا وقفَ وتعوَّذ" بالله من عذابه. "صحيح".

13 - باب السجود وفضله

13 - باب السُجود وفَضْله (باب السجود وفضله) مِنَ الصِّحَاحِ: 627 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ أن أَسجُدَ على سبعةِ أَعْظُمٍ: على الجَبْهةِ، واليدَينِ، والرُّكبتَينِ، وأطرافِ القَدَمينِ، ولا نكَفِتَ الثِّيابَ والشَعْرَ". "من الصحاح": " عن عبد الله بن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أُمرت أن أَسجدَ على سبعة أَعظُم" جمع: العظم؛ يعني: أُمرتُ أن أَضعَ هذه الأعضاءَ السبعةَ على الأرض إذا سجدتُ. "على الجبهة واليدين"؛ أي: الكفَّين. "والرُّكبتَين وأطراف القدمَين"، أوجب بعضُهم وضعَ جميعها في السجود؛ أخذًا بظاهر الحديث، وهو أحد قولَي الشافعي، وفي الجديد: الواجب وضع الجبهة فقط، وعليه أكثر الأئمة؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - اقتصر عليه في قصة رِفاعة، فقال: "اسجدْ، فمكِّنْ جبهتَك من الأرض". ووضعُ الستةِ سُنَّةٌ، والأمرُ محمولٌ على المشترك بين الوجوب والندب؛ توفيقًا بين الحديثين. "ولا نكَفِتَ": بالنصب؛ أي: نُهينا أن نَضُمَّ "الثيابَ والشَّعرَ"، ونجمعَهما عند الانتشار باليدين؛ احترازًا من الغبار، بل تُترك حتى تقعَ على الأرض؛ ليسجدَ جميعُ الأعضاء والثياب معه.

628 - وقال: "اعتدلُوا في السُّجود، ولا يبسُطْ أحدُكم ذراعَيْهِ انبساطَ الكلبِ". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اعتَدِلُوا فيِ السجود"، وذلك بوضع كفيه على الأرض، ورفعِ مِرْفَقَيه عنها وبطنِه عن فخذيه. "ولا يَبسُطْ أحدُكم ذراعَيه"؛ أي: لا يَفتَرِشْهما على الأرض في الصلاة. "انبساطَ الكلب"؛ أي: كافتراشه؛ فإنه يضعُ مِرْفَقَيه وكفيه على الأرض. 629 - وعن البَرَاء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سجدتَ فضعْ كفيْكَ، وارفَعْ مِرْفَقَيكَ". "وعن البراء بن عازب أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا سجدتَ فضَعْ كفَّيك وارفَعْ مِرْفَقَيك". 630 - وقالت مَيْمُونة: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدَ جافَى بينَ يديهِ، حتى لو أنَّ بَهْمَةً أرادَتْ أن تمرَّ تحتَ يديْهِ لَمَرَّتْ. "وقالت ميمونة: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سجد جافَى"، أي: أَبعدَ بين يديه. "حتى لو أن بَهْمةً": وهي - بفتح الباء وسكون الهاء - ولد الضأن، أكبر من السَّخلة، اسم يقع على الذكر والأنثى. "أرادت أن تمرَّ تحتَ يدَيه لَمَرَّتْ".

631 - وقال عبد الله بن بُحَيْنَة: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدَ فرَّج بينَ يديهِ، حتى يبدُوَ بياضُ إبْطَيْهِ. "وقال عبد الله ابن بُحينة: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سجدَ فرَّج"؛ أي: وسَّع "بين يدَيه حتى يبدوَ بياضُ إبطَيه". 632 - وقال أبو هريرة - رضى الله عنه -: كانَ يقولُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سجودِهِ: "اللهم اغفرْا لي ذنبي كلَّه، دِقَّه وجِلَّه، وأَوَّلَه وآخرَه، وعلانيتَه وسِرَّه". "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في سجوده: اللهم اغفرْ لي ذنبي كلَّه، دقَّه وجِلَّه" بالكسر فيهما، وقد يُضم الجيم؛ أي: دقيقَه وجليلَه؛ أي: صغيرَه وكبيرَه. "وأولَه وآخرَه، وعلانيتَه وسرَّه". 633 - وقالت عائشةُ: فقدتُ ليلةً رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من الفِراشِ، فالتمستُهُ، فوَقَعَتْ يدي على بطْنِ قدميْهِ - وهو في المسجدِ - وهما منصوبتان، وهو يقول: "اللهم أعوذُ برضاكَ من سخطكَ، وبمُعافاتِكَ من عُقوبَتِكَ، وأَعوذُ بِكَ منكَ، لا أُحصي ثناءً عليك، أنتَ كَما أَثنيتَ على نفْسك". "وقالت عائشة: فَقدتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلةً من الفراش، فالتمستُه"؛ أي: طلبتُه. "فوقعتْ يدي على بطن قدمَيه، وهو في المسجد"؛ أي: في السجود؛ يعني: في الموضع الذي كان يصلي فيه في حجرتها.

"وهما"؛ أي: قدماه "منصوبتان"، ووقوع يدها على بطن قدَميه وهو في السجود يدل على عدم انتقاض وضوء الملموس، وإلا لَمَا استمرَّ - عليه الصلاة والسلام - بعده في السجود. "وهو يقول: اللهم إني أعوذ برضاك مِن سَخَطِك"؛ أي: أطلب رضاك وأسألك ألا تسخطَ عليَّ؛ يعني: لا تُؤاخِذْني بفعلٍ يوجب سخطَك، "وبمعافاتك من عقوبتك"؛ أي أطلب أن تعافيني ولا تعاقبني. "وأعوذ بك منك"؛ أي: أفرُّ إليك من أن تعذِّبني بذنبي وبتقصيري في طاعتك. "لا أُحصِي ثناءً عليك"؛ أي: لا أُطيقُ ولا أَقدِر أن أُثنيَ عليك كما تستحقُّه وتحبُّه، بل أنا قاصر عن أن يَبلُغَ ثنائي قَدْرَ استحقاقك. "أنتَ كما أثنيتَ على نفسك" بقولك: {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 36 - 37]. 634 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْربُ ما يكونُ العبدُ مِنْ ربه وهو ساجدٌ، فأكثِروا الدُّعاءَ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أقربُ ما يكون العبد من ربه": مبتدأ حُذف خبرُه؛ لسدِّ الحالِ، وهو قوله: "وهو ساجد" مَسدَّه؛ يعني: أقربُ حالات العبد من ربه حالَ كونه ساجدًا، وهذا لأن حالةَ السجود تدل على غاية تذللٍ واعترافٍ بعبودية نفسه وربوبية ربه، فكان مظنةَ الإجابة، فأَمرَ - عليه الصلاة والسلام بإكثار الدعاء بقوله: "فأكَثِرُوا" فيه "الدعاءَ"؛ أي: في السجدة، استدلَّ بعضٌ بهذا الحديث

على أفضلية كثرة السجود من طول القيام. 635 - وقال: "إذا قرأَ ابن آدمَ السجدةَ فسجدَ؛ اعتزلَ الشيطانُ يبكي يقولُ: يا ويلتا! أُمِرَ ابن آدمَ بالسجودِ فسجدَ فلهُ الجنةُ، وأُمِرْتُ بالسجودِ فأَبَيْتُ فليَ النارُ". "وعنه أنه قال - عليه الصلاة والسلام - إذا قرأَ ابن آدمَ السجدةَ"؛ أي: آيةَ فيها سجدةٌ. "فسجدَ اعتزلَ الشيطانُ"؛ أي: انفصلَ وانحرفَ من عند القارئ الذي يريد وسوستَه، وبَعُدَ إلى جانب آخر. "يبكي"؛ أي: على خسارته، "ويقول": وهما حالان من فاعل (اعتزل)؛ أي: باكيًا وقائلاً: "يا ويلتا": قيل: أصله: يا ويلي، قُلبت ياء المتكلم تاءً، وزِيدَتْ بعدها ألفُ الندبة، والويل: الحزن والهلاك، فكأنه يقول: يا حزني ويا هلاكي احضرْ فهذا وقتُك وأوانُك، وإنما ينادي بالويل؛ لأنه رأى العبدَ المؤمنَ متقرِّبًا إلى ربه في سجوده، وهو يندم على تركه السجودَ لآدمَ. "أُمر ابن آدمَ بالسجود، فسجد؛ فله الجنةُ، وأُمرت بالسجود، فأبيتُ؛ فلي النارُ". 636 - قال ربيعة بن كعبٍ الأَسْلَمي: كنتُ أبيتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فآتيه بوَضُوئهِ وحاجتِهِ، فقالَ لي: "سَلْ"، فقلْتُ: أسألُكَ مرافقتَكَ في الجنةِ! قالَ: "أَوَ غَيْرَ ذلكَ؟ "، فقلتُ: هو ذاكَ، قال: "فأَعِنِّي على نفسِكَ بكثرةِ السجودِ لِلَّهِ".

"قال ربيعة بن كعب الأسلمي - رضي الله عنه -: كنتُ أَبيتُ مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأتيتُه بوَضوئه وحاجته، فقال لي" في مقام الانبساط: "سَلْ"؛ يعني: اطلبْ مني حاجة. "فقلت: أسألك مرافقتَك في الجنة، قال: أَو غير ذلك؟ " بسكون الواو: عطف على مقدَّر، وبرفع (غير)؛ أي: مسؤولك ذلك أو غيرُ ذلك؛ فإن ذلك درجةٌ عاليةٌ؟ وقيل: بفتحها، فالهمزة للاستفهام و (غير) نصب، فالمعنى: أثابتٌ أنتَ على طلبك أم تسأل غيرَ ذلك؟ وهذا الابتلاء والامتحان ليَنظرَ هل يثبتُ على ذلك المطلوب العظيم الذي لا يقابله شيء؛ فإن الثباتَ على طلب أعلى المقامات من أتم الكمالات. "قلت: هو ذاك"، معناه على تقدير كون (أو) عاطفة: مسؤولي مرافقتك، وعلى تقدير الاستفهام: مسؤولي ذلك لا أتجاوز عنه. "قال: فاعنِّي على نفسك"؛ أي: كُنْ عونًا لي في إصلاح نفسك لِمَا تطلب. "بكثرة السجود"؛ أي: أَكثِرِ السجدةَ في الدنيا حتى ترافقَني في الجنة. وفيه: إشارة إلى أن هذه المرتبةَ العليا لا تحصل بمجرد السجود، بل به مع دعائه - عليه الصلاة والسلام - له إياها من الله تعالى، وفي قوله: (على نفسك): إيذان بأن نيلَ المراتب العَلِيَّة إنما يكون بمخالفة النفس وكسر الشهوة. 637 - وقال مَعْدَان بن أبي طَلْحة: لقيتُ ثوبانَ مَوْلَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: أخبرني بعملٍ يُدخلني الله به الجنةَ؟، فقال: سألتُ عن ذلكَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "عليكَ بكثرةِ السجودِ للهِ، فإنَّك لا تسجدُ للهِ سجدةً إلا

رفَعكَ الله بها درجةً، وحطَّ عنكَ بها خَطيئةً". "وقال مَعدان بن طلحة: لقيتُ ثَوبانَ مولى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلت: أخبرْني بعمل يدخلُني": بالرفع، وقيل: بالجزم جواباً للأمر؛ أي: يُدخِلْني. "الله به الجنةَ، فقال: سألت عن ذلك رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: عليك بكثرة السجود لله"، أراد به: سجود الصلاة، أو سجود التلاوة، أو الشكر. "فإنك لا تسجد لله سجدةً إلا رفعَك الله بها درجةً، وحطَّ عنك بها خطيئة". مِنَ الحِسَان: 638 - عن وائل بن حُجْر قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سجدَ وضعَ ركبتيهِ قَبْلَ يديهِ، وإذا نهضَ رفعَ يديهِ قبلَ ركبتيهِ. "من الحسان": " عن وائل بن حُجْر أنه قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سجد وضعَ ركبتَيه قبل يديه"، وعليه الشافعي. "وإذا نهض"؛ أي: قام "رفع يديه قبل ركبتيه". 639 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سجدَ أحدُكم فلا يَبْرُكْ كما يَبرُكُ البعيرُ، وَلْيَضَعْ يديهِ قبلَ ركبتيهِ". وحديثُ وائل بن حُجْر أثبتُ من هذا، وقيل: هذا منسوخٌ. "وعن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا سجد

أحدُكم فلا يَبْرُكْ كما يَبْرُكُ البعيرُ، وَلْيَضَعْ يدَيه قبل رُكبتَيه"، وبهذا قال أبو حنيفة، فإن قيل: كيف شبَّه وضع الرُّكبة قبل اليدين ببُروك البعير، مع أن البعيرَ يضع يدَيه قبلَ رِجلَيه؟ قلنا: بأن الرُّكبةَ في الإنسان: الرِّجل، وفي الدواب: اليد، فإذا وضع الرَّجلُ رُكبتَه أولًا فقد شابَهَ البعيرَ في البُروك. "وحديثُ وائلِ بن حُجر أثبتُ من هذا"، ولذا لم يَرَ أكثرُ العلماء العملَ بهذا الحديث، مع أنه رُوي عن أبي هريرة مثلُ حديث وائل، فيُؤخَذ بأقوى روايتيه. "وقيل: هذا"؛ أي: حديثُ أبي هريرة "منسوخ" بحديث مصعب بن سعيد بن أبي وقاص: كنَّا نضعُ اليدَين قبلَ الرُّكبتَين، فأَمرَنا رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم بأن نضعَ الركبتَين قبلَ اليدَين. 640 - وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ بين السجدتينِ: "اللهم اغفِرْ لي، وارحَمْني، واهدِنِي، وعافِني، وارزقني". "وقال ابن عباس: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يقول بين السجدتين: اللهم اغفرْ لي وارحمني واهدِني وعافِني وارزقْني". 641 - وعن حُذيفة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ بينَ السجدتينِ: "رب اغفرْ لي". "وعن حذيفة: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يقول بين السجدتين: ربِّ اغفرْ لي".

14 - باب التشهد

14 - باب التَّشهُّدِ (باب التشهد) سُمِّي الذِّكرُ المخصوصُ تشهُّدًا؛ لاشتماله على كلمة الشهادة. مِنَ الصِّحَاحِ: 642 - قال ابن عمر: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعدَ في التشهدِ وضعَ يدَهُ اليُسرى على ركبتِهِ اليُسرى، ووضعَ يدَهُ اليُمْنَى على ركبتِهِ اليُمْنَى، وعقدَ ثلاثةً وخمسينَ، وأشارَ بالسَّبَّابَةِ. وفي روايةٍ: وضعَ يديهِ على ركبتيْهِ، ورفعَ إصبَعَهُ التي تلي الإِبهامَ اليُمنَى يَدعُو بها، ويدَه اليُسرى على ركبتِهِ باسِطَها عليها. "من الصحاح": " عن ابن عمر: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قعد في التشهُّد وضعَ يدَه اليسرى على ركبته اليسرى، ووضعَ يدَه اليمنى على ركبته اليمنى، وعقد ثلاثةً وخمسين"؛ أي: أخذ إصبعه كما يأخذ المُحاسِب، وهو أن يقبضَ الخِنْصِرَ والبنصِرَ والوسطى ويُرسِلَ المسبحةَ، ويضمَّ الإبهامَ إلى أصل المسبحة. "وأشار بالسبَّابة"؛ أي: رفعَها عند قوله: لا إله إلا الله؛ ليطابقَ القول والفعل على التوحيد. "وفي رواية: وضعَ يدَيه على ركبتيه، ورفعَ إصبعَه التي تلي الإبهام يدعو"؛ أي: يشير بها إلى وحدانية الله تعالى بالإلهية، وقيل: أي: يهلِّل، سُمِّي التهليلُ دعاءً؛ لأنه بمنزلته في استجلاب لطفه تعالى.

"ويدَه اليسرى على ركبته باسطَها": بفتح الطاء وضمها، أي: ينشرها "عليها". 643 - عن عبد الله بن الزُّبير أنه قال: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قعدَ يدعو وضعَ يده اليُمنى على فخذِه اليمنى، ويدَه اليُسرى على فخذِه اليُسرى، وأشارَ بإصبعهِ السبَّابةِ، ووضعَ إبهامَه على إصبعِهِ الوسطى، ويُلْقِمُ كفَّه اليُسرى ركبتَه. "عن عبد الله بن الزبير: أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قعدَ يدعو"، أي: يقرأ: التحيات لله. . . إلى آخره. "وضع يدَه اليمنى على فخذه اليمنى، ويده اليسرى على فخذه اليسرى وأشار بإصبعه"، يعني: السبَّابة. "ووضعَ إبهامَه على إصبعه الوسطى، ويُلْقِمُ كفَّه اليسرى ركبتَه"، أي: يُدخل ركبتَه في راحة كفه اليسرى حتى صارت ركبتُه كاللُّقمة في كفِّه. 644 - قال عبد الله بن مَسْعود: كنا إذا صلَّينا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قُلنا: السلامُ على الله - قبلَ عبادِهِ - السلامُ على جبريلَ، السلامُ على ميكائيلَ، السلامُ على فلانٍ، فلما انصرفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ أَقْبَلَ علينا بوجهِهِ فقال: "لا تقولوا: السلامُ على الله، فإنَّ الله هو السلامُ، فإذا جلسَ أحدُكم في الصلاةِ فليقلْ: التحياتُ للهِ والصلواتُ والطيباتُ، السلامُ عليكَ أيها النَّبيّ ورحمةُ الله وبركاتُهُ، السلامُ علينا وعلى عبادِ الله الصالحينَ، فإنه إذا قالَ ذلك، أصابَ كلَّ عبدٍ صالحٍ في السماءَ والأرض، أشهدُ أن لا إله إلا الله، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُهُ ورسولُه، ثم ليتخَيَّرْ من الدعاءَ أعجبَهُ إليه فيدعو به".

"قال عبد الله بن مسعود: كنا إذا صلينا مع النبي - عليه الصلاة والسلام - قلنا: السلام على الله قبل عباده، السلام على جبرائيل، السلام على ميكائيل، السلام على فلان"؛ أي: على ملَك من الملائكة؛ يعني: كانوا يقولون هذه الكلماتِ عوضًا عن التحيات. "فلما انصرف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: فرغَ من صلاته "أقبل علينا بوجهه قال: لا تقولوا: السلام على الله"؛ إذ معنى (السلام): هو الدعاء بالسلامة من آفات الدنيا وعذاب الآخرة، وهذا لا يجوز لله. "فإن الله هو السلام"؛ يعني: هو الذي يخلِّص عبادَه ويحفظهم عن الآفات والضَّرر. "فإذا جلس أحدُكم في الصلاة فَلْيقلْ": الأمر فيه للوجوب. "التحيات لله" جمع: تحية، تَفْعِلَة من: الحياة، بمعنى: الإحياء، أو بمعنى: التمليك، يقال: حيَّاك الله؛ أي: ملَّكك الله، أو بمعنى: السلامة من الحدوث ونقائصه، جُمعت لإرادة استغراق الأنواع. "والصلوات"؛ أي: الصلوات المعروفة وأنواع الرحمة، أو الأدعية التي يراد بها التعظيم. "والطيبات"؛ أي: من الصلاة والدعاء والثناء، أو المراد منها: الكلمات الطيبات المشتملة على التنزيه والتقديس. "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته": وهي اسمٌ لكل خير فائضٍ منه تعالى على الدوام، وإنما جُمعت (البركة) دون (السلام) و (الرحمة)؛ لأنهما مصدران. "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، قيَّدهم بالصلاح؛ لأن التسليمَ لا يليق بالمُفسِد.

"فإنه إذا قال ذلك أصابَ"؛ أي: ثوابُ ذلك "كلَّ عبدٍ صالحٍ في السماء والأرض، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، رُوي: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لمَّا عرج إلى السماء أَثْنَى على الله بهذه الكلمات، فقال الله تعالى: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقال عليه الصلاة والسلام: "السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين"، فقال جبرائيل: أشهد أن لا إله إلا الله. . . إلخ. "ثم لِيتخيَّر من الدعاء أعجبَه إليه"؛ أي: أرضاه وأحبَّه من أمر الدِّين والدنيا. "فيدعو به"، اختار أبو حنيفة روايةَ ابن مسعود في التشهُّد. 645 - وقال عبد الله بن عباس: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعلِّمنا التشهدَ كما يعلِّمنا السُّورةَ من القرآنِ، فكانَ يقولُ: "التحياتُ المُباركاتُ الصَّلواتُ الطَّيباتُ للهِ، سلامٌ عليكَ أَيُّها النبيُّ! ورحمةُ الله وبركاتُهُ، سلامٌ علينا وعلى عبادِ الله الصالحينَ، أشهدُ أنْ لا إله إلا الله وأشهدُ أنَّ محمدًا رسولُ الله". "وقال عبد الله بن عباس: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعلِّمنا التشهُّدَ كما يعلِّمنا السورةَ من القرآن، فكان يقول: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله"، اختار الشافعي رواية ابن عباس.

مِنَ الحِسَان: 646 - عن وائل بن حُجْر - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثم جلسَ فافترشَ رجلَهُ اليُسرى، ووضعَ يدَه اليُسرى على فخذ اليُسرى، وحدَّ مِرْفقَه اليُمنى على فخذِه اليُمنى، وقبضَ ثِنتينِ، وحلَّق حلقةً، ثم رفعَ إصبعَهُ، فرأيتُهُ يُحرِّكُها يَدعُو بها. "من الحسان": " عن وائل بن حُجْر - رضي الله عنه -، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنه قال: ثم جلس": هذا عطف على قوله: "وإذا نهض رفع يديه قبلَ ركبتيه" في أول (حِسَان باب السجود). "فافترش رِجلَه اليسرى"، فجلس عليها ونَصَبَ اليمنى. "ووضعَ يدَه اليسرى على فخذه اليسرى، وحدَّ": بتشديد الدال على صيغة الماضي: عطفًا على (وضع)؛ أي: رفعَ. "مِرْفقَه اليمنى على فخذه اليمنى"، وجعلَ عظمَ مِرْفَقه كأنه رأس وتد، من: الحِدَّة، وقيل بتشديد الحاء من: الوحدة؛ أي: كأنه جعله منفردًا عن فخذه. "وقبض ثنتين"؛ أي: الخِنْصِر والبنصِر. "وحلَّق" بتشديد اللام "حلقة"؛ أي: أخذَ إبهامَه بإصبعه الوسطى كالحلقة. "ثم رفعَ إصبعَه"؛ أي: السبَّابة. "فرأيتُه يحرِّكها يدعو"؛ أي: يشير "بها" إلى وحدانية الله تعالى.

647 - وعن عبد الله بن الزُّبير: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُشيرُ بإصبعِهِ إذا دَعَا، ولا يُحَرِّكها، ولا يُجاوزُ بصرُه إشارَتَهُ. "وعن عبد الله بن الزبير: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يشير بإصبعه إذا دعا" المراد به: التشهد. "ولا يحرِّكها": يدل على أنه لا يحرِّك الإصبعَ إذا رفعَها للإشارة، وعليه أبو حنيفة. "ولا يجاوز بصرُه إشارتَه"؛ يعني: لا ينظر إلى السماء حين أشار بإصبعه إلى وحدانية الله تعالى، كما هو عادة بعض الناس؛ [. . .] بل ينظر إلى إصبعه المشيرة إلى ذلك. 648 - عن أبي هريرة: أن رجلًا كانَ يدعو بإصبَعَيْهِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَحِّدْ أَحِّدْ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلًا"، قيل: هو سعد. "كان يدعو"؛ أي: يشير "بإصبعيه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَحِّدْ أَحِّدْ": أمر بالوحدة من: التوحيد، وهو القول والشهادة بأن الله واحدٌ؛ أي: أشِرْ بإصبعٍ واحدةٍ؛ لأن المَدعوَّ والمُشارَ إليه واحدٌ، كرَّر للتأكيد، أصله: وَحِّدْ، قُلبت الواو همزة. 649 - وعن ابن عمر أنه قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجلسَ الرجلُ في الصلاةِ وهو مُعتمِد على يدَيه.

ويُروى عنه: نهى أن يعتَمِدَ الرجلُ على يديهِ إذا نهضَ في الصلاةِ. "وعن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنه قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجلسَ الرجلُ في الصلاة وهو معتمدٌ على يدَيه"؛ أي: متكئًا عليهما؛ يعني: نهى أن يضعَهما المصلِّي على الأرض إذا جلس للتشهد، بل يضعهما على رُكبتَيه. "ويُروى: نهى أن يعتمدَ الرجلُ على يدَيه إذا نهض"؛ أي: قامَ "في الصلاة"، بل ينهض على صدور قدميه من غير اعتماد على الأرض، وبه قال أبو حنيفة. 650 - قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأُوليينِ كأنه على الرَّضْفِ حتى يقومَ. "قال عبد الله بن مسعود: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - في الركعتين الأوليين"؛ أي: فيما بعدهما، وهو التشهُّد الأول من صلاة ذات أربع أو ثلاث. "كأنه على الرَّضْف" جمع: رَضْفَة، وهي الحجارة المحمَّاة على النار. "حتى يقوم"، قيل: كأنه أراد تخفيفَ التشهد الأول وسرعةَ القيام منه إلى الركعة الثالثة.

15 - باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضلها

15 - باب الصَّلاةِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وفَضْلِها (باب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -) مِنَ الصِّحَاحِ: 651 - قال كعْب بن عُجْرة: سَأَلْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقُلْنا: يا رسولَ الله!، كيف الصلاةُ عليكم أهْلَ البَيْتِ، فإنَّ الله تعالى قد علَّمنا كيف نُسَلِّمُ عليكَ؟، قالَ: "قولوا: اللهمَّ صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلَّيت على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ، إنَّك حَميدٌ مَجيدٌ، اللهمَّ بارِكْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركتَ على إبراهيمَ وعلى آل إبراهيمَ، إنك حَميدٌ مَجيدٌ". "من الصحاح": " قال كعب بن عُجْرة: سألْنا رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلنا: يا رسولَ الله! كيف الصلاةُ عليكم أهلَ البيت" بالنصب: على المدح والاختصاص، أو منادى مضاف. "فإن الله قد علَّمَنا كيف نسلِّم عليك"، قيل: التقدير: قد علَّمنا كيف نصلِّي ونسلِّم عليك في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [الأحزاب:56]، ولكن لا نَعلَم كيف الصلاةُ على أهل بيتك؟ وقيل: معناه: أن الله تعالى قد علَّمَنا بلسانك وبواسطة بيانك كيف نسلِّم عليك، كما بيَّنت لنا في: التحيات السلام عليك أيها النبي، فكيف الصلاةُ عليك وعلى أهل بيتك؟ "قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارِكْ على محمد"؛ أي:

أثبت عليه ما أعطيته من الشرف والكرامة، "وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". 652 - عن أبي حُمَيدٍ السَّاعِدِيِّ - رضي الله عنه -: قالوا يا رسولَ الله!، كيفَ نُصَلِّي عليكَ؟، قال: "قولوا: اللهمَّ صَلِّ على محمَّدٍ وأزواجِهِ وذُرِّيَّتِهِ، كما صلَّيتَ على آل إبراهيمَ، وبارِكْ على محمَّدٍ وأزواجِهِ وذُرِّيَّتِهِ كما باركتَ على آل إبراهيم، إنَّكَ حَميدٌ مَجيدٌ". "وعن أبي حُميد الساعدي أنه قال: يارسولَ الله! كيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلِّ على محمد وأزواجه وذُرِّيَّاته، كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارِكْ على محمد وأزواجه وذُرِّيَّاته كما باركتَ على إبراهيم، إنك حميد مجيد"، فيه: جواز الصلاة على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتبعية. 653 - وقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صلاةً صَلَّى الله عَلَيْه عَشْرًا". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن صلَّى عليَّ صلاةً صلى الله عليه عشرًا"، الصلاة من الله تعالى على العبد: رحمة الله له. مِنَ الحِسَان: 654 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صلاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ عَشْرًا،

وحُطَّتْ عَنْهُ عَشْرُ خَطيئاتٍ، ورُفِعَتْ لهُ عَشْرُ دَرَجاتٍ". "من الحسان": " قال أنس: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله تعالى عليه عشرًا، وحُطَّت عنه عشرُ خطيئات، ورُفعت له عشرُ درجات". 655 - وقال: "إنَّ أَوْلَى الناسِ بي يَوْمَ القِيامَةِ أكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلاةً". "وعن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أَولى الناس بي"؛ أي أقربَهم مني وأحقَّهم بشفاعتي "يومَ القيامة أكثرُهم عليَّ صلاةً". 656 - وقال: "إنَّ لِلَّهِ مَلائِكةً سَيَّاحِينَ في الأَرْضِ يُبَلِّغُوني عَنْ أُمَّتي السَّلامَ". "وعنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن لله ملائكة سيَّاحين"؛ أي: ذاهبين "في الأرض يبلِّغونني عن أمتي السلام". 657 - وقال: "ما مِنْ أحَدٍ يُسَلِّمُ عَلَيَّ إلاَّ رَدَّ الله عَلَيَّ رُوحي حَتَّى أَرُدَّ عَلَيْهِ السَّلامَ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما مِن أحدٍ يسلِّم عليَّ إلا ردَّ الله عليَّ روحي"، رَدُّ الرُّوحِ: كناية عن إعلام الله

تعالى إياه بأنَّ فلانًا صلَّى عليك. "حتى أردَّ عليه السلامَ"؛ يعني: أقول: وعليك السلام. 658 - وقال: "لا تَجْعَلُوا قَبْري عِيْدًا، وصَلُّوا عَلَيَّ، فإنَّ صَلاتَكُمْ تَبْلُغُني حَيْثُ كُنْتُم". "وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تجعلوا قبري"؛ أي: زيارةَ قبري "عيدًا" نهاهم عن الاجتماع لها اجتماعَهم للعيد زينةً ونزهة، كانت اليهود والنصارى يجتمعون لزيارة قبور أنبيائهم ويشتغلون باللهو والطرب، أو العيد اسم من: الاعتياد؛ أي: لا تجعلوا قبري عادةً ورسمًا كاليهود والنصارى، أو محلَّ اعتيادٍ لذلك؛ لئلا يُظَنَّ بأن دعاء الغائب لا يصل إلى الغائب، ولذا عقَّب بقوله: "وصلُّوا عليَّ؛ فإن صلاتَكم تَبلُغني حيث كنتم"؛ يعني: لا تتكلفوا المعاودة إلى قبري، فقد استغنيتم عنها بالصلاة عليَّ، ولأن اعتيادَ ذلك يُفضي بهم إلى حال يرتفع دونهَا حجابُ الهيبة والتعظيم عن خواطرهم بكثرة الزيارة، ولذا كره بعض العلماء مجاورةَ حَرَم مكة؛ نعم، يُستحب لمن حجَّ زيارةُ الرسول عليه الصلاة والسلام؛ إذ لا تلحقه مشقة عظيمة لكونه مرةَ في كل سنة أو في العمر. 659 - وقال: "رَغِمَ أنفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أبَواهُ الكِبَرَ أَوْ أَحَدُهما، فَلَمْ يُدْخِلاهُ الجَنَّةَ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رَغِمَ أنفُ

رجلٍ": هذا دعاء عليه؛ يعني: لحقَه ذلٌّ وهوانٌ؛ مجازاةً بترك تعظيمي بأني: "ذُكرت عندَه فلم يصلِّ عليَّ، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ دخلَ عليه رمضان" ولم يتب، ولم يعظِّمه بالمبالغة في الطاعة، حتى يُغفَرَ له بذلك. "ثم انسلخَ"؛ أي: تمَّ الشهرُ وانقضى "قبل أن يُغفَر له، ورَغِمَ أنفُ رجلٍ أدركَ عنده أبواه الكِبَرَ أو أحدُهما، فلم يُدخلاه الجنةَ"؛ أي: لم يعملْ في حقِّهما عملًا يدخل بسببه الجنةَ بأن يخدمَهما، وخاصة عند الكِبَر؛ فإنهما عند الكِبَر أحوجُ إلى مَن يخدمهما. 660 - عن أبي طَلْحَةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جاءَ ذاتَ يومٍ والبشْرُ في وَجْهِهِ، فقالَ: "إنَّه جاءَني جِبْريلُ عليه السَّلامُ فقال: إنَّ رَبَّكَ يَقولُ: أما يُرْضيكَ يا مُحَمَّدُ أن لا يُصَلِّيَ عليكَ أحدٌ مِنْ أُمَّتِكَ إلاَّ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ عَشْرًا، ولا يُسَلِّمُ عليكَ أحَدٌ مِنْ أمَّتِكَ إلا سَلَّمْتُ عَلَيهِ عَشْرًا". "عن أبي طلحة: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم جاء ذاتَ يومٍ والبشْرُ" بكسر الباء؛ أي: أثر السرور والبهجة "في وجهه، فقال: إنه"؛ أي: إن الشأنَ. "جاءني جبرائيل - عليه السلام - فقال: إن ربك يقول: أَمَا يُرضيك يا محمدُ أنْ لا يصلي"، (أن) هذه: مصدرية. "عليك أحدٌ من أمتك إلا صلَّيتُ عليه عشرًا، ولا يسلِّم عليك وأحدٌ من أمتك إلا سلَّمتُ عليه عشرًا؟ ". 661 - وعن أُبَيِّ بن كعْبٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: قلتُ: يا رسولَ الله!، إني أُكْثِرُ

الصلاةَ عَليكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتي؟، فقالَ: "ما شِئْتَ"، قلتُ: الرُّبعَ؟، قال: "ما شِئْتَ، فإنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لكَ"، قلتُ: النِّصفَ؟، قالَ: "ما شِئْتَ، فإنْ زِدْتَ فهو خيرٌ لكَ"، قلتُ: فالثُّلُثَيْن؟، قالَ: "ما شئتَ، فإنْ زِدْتَ فهوَ خَيْرٌ لكَ"، قلتُ: أَجْعَلُ لكَ صَلاتي كلَّها؟، قال: "إذًا تُكْفَى هَمَّكَ، ويُكفَّرُ لكَ ذَنْبُكَ". "عن أُبي بن كعب أنه قال: قلت: يا رسولَ الله! إني أُكْثِرُ الصلاةَ عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ "؛ أي: من دعائي؛ فإن الصلاةَ من الخلق الدعاء؛ يعنى: لي زمان ومدة أدعو إلى الله لنفسي، فكم أصرف من ذلك في الدعاء لك؟ "فقال: ما شئتَ، قلت: الرُّبع؟ قال: ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خير لك، قلت: النصفَ؟ قال: ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خير لك، قلت: فالثلثَين؟ قال: ما شئتَ، فإن زدتَ فهو خير لك"، فلم يحدَّ له - عليه الصلاة والسلام - حدًّا في ذلك؛ لئلا تلتبسَ الفضيلةُ بالفريضة، ويغلقَ عليه باب المزيد، فلم يزل يفوِّض الاختيارَ إليه مع مراعاة الحب عليه. "قلت: أجعلُ لك صلاتي كلَّها؟ "؛ أي: أصلِّي عليك بدل ما أدعو به لنفسي؟ "قال: إذًا تُكفَى همَّك"، الهم: ما يقصده المرء من أمر الدِّين والدنيا؛ أي: إذا صرفتَ جميعَ زمانك في الصلاة عليَّ كُفيتَ ما يهمُّك من أمر دِينك ودنياك؛ لأن الصلاةَ - عليه الصلاة والسلام - أفضلُ للمرء من الدعاء لنفسه. "ويكفَّر لك ذنبُك". 662 - عن فَضالَةَ بن عُبَيْدٍ - رضي الله عنه - قال: دخلَ رجلٌ فصلَّى، فقالَ: اللهمَّ اغفِرْ لي وارْحَمْني، فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَجلْتَ أَيُّها المُصَلِّي، إذا صلَّيْتَ

فقعدتَ فاحمَد الله بما هو أهلُهُ، وصَلِّ عَلَيَّ، ثم ادْعُهُ"، قالَ: ثُمَّ صَلَّى رجلٌ آخرُ بَعْدَ ذلكَ، فَحَمِدَ الله، وصلَّى على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ لهُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّها المُصَلِّي!، ادعُ تُجَبْ". "عن فَضَالة بن عُبيد أنه قال: دخل رجلٌ فصلَّى، فقال: اللهم اغفرْ لي وارحمني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عَجلْتَ"؛ أي: تركتَ الترتيبَ في الدعاء، لأن مِن شرطِ السائل التقرُّبَ إلى المسؤول عنه قبلَ عرض حاجته بما يوجب له التقرُّب إليه، ثم يتوسَّل بشفيع له بين يديه؛ ليكونَ أحقَّ بالإجابة وأطمعَ بالإصابة، فمَن لم يفعل كذلك فقد استعجل. "أيها المصلِّي، إذا صليتَ، فقعدتَ، فاحمد الله"؛ أي: أَثْنِ عليه "بما هو أهلُه، وصلِّ عليَّ ثم ادْعُهُ، قال: ثم صلَّى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله وصلَّى على النبي - عليه الصلاة والسلام -، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أيها المصلِّي! ادْعُ تُجَبْ". 663 - وقال عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: كنتُ أُصَلِّي، فلمَّا جَلَسْتُ بَدَأْتُ بالثَّناءَ على الله تعالى، ثُمَّ بالصَّلاةِ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ دَعَوْتُ لِنفْسي، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "سَلْ تُعْطَهْ، سَلْ تُعْطَهْ". "وقال عبد الله بن مسعود: كنت أصلِّي، فلما جلستُ بدأتُ بالثناء على الله تعالى، ثم الصلاة على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم دعوت لنفسي، فقال النبي - عليه الصلاة والسلام - سَلْ تعطه، سَلْ تُعْطَه": يحتمل أن يكون هاء السكت وهاء الضمير، وإن لم يُذكر مرجعُه، وتقديره: سَلْ تَعْطَ ما تطلب.

16 - باب الدعاء في التشهد

16 - باب الدُعاء في التَّشهُدِ (باب الدعاء في التشهد) مِنَ الصِّحَاحِ: 664 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدْعُو في الصلاة: "اللهمَّ إِنِّي أعوذُ بِكَ منْ عذابِ القَبْرِ، وأعوذُ بِكَ منْ فتنةِ المَسيح الدَّجَّال، وأَعوذُ بِكَ مِنْ فتنةِ المَحْيَا وفتنةِ المَماتِ، اللهمَّ إِنِّي أَعوذُ بِكَ مِنَ المَأثَم والمَغْرَمِ"، فقالَ له قائلٌ: ما أكثرَ ما تستعيذُ مِنَ المَغْرَمَ!، فقال: "إنَّ رجلًا إذا غَرِمَ حدَّثَ فكَذَبَ وَوَعَدَ فأخْلَفَ". "من الصحاح": " قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعو في الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال"، سُمي مسيحًا؛ لأن إحدى عينيه ممسوحة؛ أي: ذاهبة، أو ممسوح عن كل خير؛ أي: مُبعَد عنه. أو هو فعيل بمعنى: فاعل، من: المساحة؛ لأنه يمسح الأرضَ بتردُّده فيها؛ أي: يُقدِّرها وَيعدُّها بالذراع والشِّبر، ويقطعها بحيث لا يكون بلد إلا دخلَه غيرَ مكة والمدينة. "وأعوذ بك من فتنة المحيا" المراد منه: الابتلاء مع زوال الصبر والرضا، والوقوع في الآفات، والإصرار على الفساد، وترك متابعة طريق الهُدَى. "وفتنة الممات": سؤال مُنكَر ونكير مع الحَيرة في جوابهما، والخوف من عذاب القبر وما فيه من أنواع العقاب.

"اللهم إني أعوذ بك من المَأثَم": وهو الأمر الذى يَأئَم به الإنسان، أو هو الإثم نفسه، وضعًا للمصدر موضعَ الاسم. "والمَغْرَم": مصدر كـ (الغَرَامة)، وُضع موضعَ الاسم أيضًا، يريد به: مَغْرَم الذنوب والمعاصي، وقيل: المَغْرَم هو الدَّين. "فقال له قائل: ما أَكثَرَ ما تستعيذ"، (ما) الأولى: للتعجب، والثانية: مصدرية؛ أي: ما أكثرَ استعاذتك "من المَغْرَم! فقال" عليه الصلاة والسلام: "إن الرجلَ إذا غَرِمَ"؛ أي: لزمه دَينٌ. "حدَّث فكَذَبَ"؛ لأنه إذا تقاضاه رَبُّ الذَين ولم يحضره ما يؤدِّي دَينَه يَكذِب؛ ليتخلصَ من يده، ويقول له: لي مالٌ غائبٌ إذا حضرَ أؤدِّي دَينَك. "ووعد" بأن يقول: أعطيك غدًا أو في المدة الفلانية. "فأَخلَفَ" في وعده. 665 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فَرَغَ أَحَدُكُمْ مِنَ التَّشَهُّدِ الآخِرِ فليتعوَّذْ بالله من أَرْبَعٍ: مِنْ عذابِ جهنَّمَ، ومِن عذابِ القَبْرِ، وَمِنْ فتنةِ المَحْيا والمَماتِ، ومِنْ شَرِّ المَسيح الدَّجَّالِ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا فرغَ أحدُكم من التشهُّد الأخير فَلْيتعوَّذْ بالله من أربع: من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن شرِّ المسيح الدجال". 666 - وعن ابن عبَّاس: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُعَلِّمهم هذا الدُّعاءَ، كما يُعَلِّمهم السورةَ مِنَ القرآنِ يقولُ: "قولوا: اللهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ مِنْ عذابِ

جهنَّمَ، وأعوذُ بِكَ مِنْ عذابِ القبرِ، وأعوذُ بِكَ مِنْ فتنةِ المسيحِ الدجَّالِ، وأعوذُ بِكَ من فتنةِ المَحْيا والمَماتِ". "وعن ابن عباس: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يعلِّمهم هذا الدعاءَ كما يعلِّمهم السورةَ من القرآن، يقول: قولوا: اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات"، ذهب طاوس إلى وجوب هذا الدعاء فيها، والجمهور على أنه مستحب. 667 - وقال أبو بكر - رضي الله عنه - للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: علِّمني دعاءً أَدْعُو به في صَلاتي، قالَ: "قُلْ: اللهمَّ إنِّي ظلَمتُ نفسي ظُلمًا كبيرًا، ولا يَغفرُ الذُّنوبَ إلا أنتَ، فاغفِرْ لي مغفرةً من عندِك وارْحَمْني، إنَّكَ أنتَ الغَفور الرَّحيم". "وقال أبو بكر - رضي الله عنه - للنبي - عليه الصلاة والسلام -: علِّمْني دعاءً أدعو به في صلاتي"؛ أي: عقيبَ التشهُّد؛ لأن ذلك هو محلُّ الدعاء. "قال: قل: اللهم إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كبيرًا، ولا يغفر الذنوبَ إلا أنتَ"؛ فإن غفرانَ جميع الذنوب لا يُتصوَّر إلا منه تعالى. "فاغفرْ لي مغفرةً": التنوين يدل على أنه غفرانٌ لا يُكتَنَه كُنهُه، ثم وصفه بقوله: "من عندك" مريدًا بذلك التعظيم؛ لأن ما يكون من عند الله لا يحيطه وصفُ واصفٍ، وقيل: معناه: مِن مَحْضِ فضلِك، لا باستحقاق مني. "وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم".

668 - عن عامر بن سَعْدٍ، عن أبيهِ، أنه قال: كنتُ أرى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسَلِّم عن يَمينهِ وعن يَسارِهِ حتى أَرى بَياضَ خدِّه. "عن عامر بن سعد، عن أبيه أنه قال: كنتُ أرى رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسلِّم عن يمينه وعن يساره حتى أرى بياضَ خدِّه"؛ أي: صفحةَ وجهِه. ويروى: "يُرى" مجهولًا؛ يعني: أنه كان إذا سلَّم عن يمينه يُرى صفحةُ وجهه، وإذا سلَّم عن اليسار يُرى صفحةُ وجهه منها أيضًا. 669 - قال سَمُرَةُ بن جُنْدَبٍ: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى صلاة أقْبَلَ علينا بِوَجْهِهِ. "قال سَمُرة بن جُندب - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلَّى صلاةً أقبلَ علينا بوجهه"؛ أي: يَصرِف وجهَه يمينًا ويسارًا عند التسليم. 670 - وقال أنسٌ: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينصرِفُ عن يَمينهِ. "قال أنس - رضي الله عنه -:: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - ينصرف عن يمينه"؛ يعني: أنه كان إذا أتمَّ الصلاةَ وأراد أن يقومَ وينصرفَ يَنصرفُ عن جانبه الأيمن تبرُّكا بالتيامُن؛ لأنه مستحبٌّ. 671 - قال عبدُ الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: لا يجعلُ أحدُكم للشَّيطانِ شيئًا من

صلاتِهِ يَرى أنَّ حقَّاً عليهِ أنْ لا ينصرِفَ إلا عن يَمينهِ، لقدْ رأَيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ينصرِفُ عن يَسارِهِ. "وقال عبد الله بن مسعود: لا يجعل أحدُكم للشيطان شيئًا من صلاته يرى": بضم الياء؛ أي: يظنُّ، وبفتحها؛ أي: يعتقد. "أن حقًّا عليه أن لا ينصرفَ"؛ أي: بعدَ الفراغ من صلاته "إلا عن يمينه"، فمن اعتقد أنه يجب عليه الانصرافُ من جانب الأيمن فقد اعتقد شيئًا غير ما فعلَه رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومَن اعتقد ذلك فقد تابَعَ الشيطانَ، فلم تكنْ صلاتُه كاملةً. "لقد رأيتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرًا ينصرف عن يساره". 672 - وقال البَراءُ: كُنّا إذا صَلَّيْنا خلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أحْبَبنا أنْ نكونَ عن يَمينِه، يُقْبلُ علَيْنا بوَجْهِهِ، قالَ: فسمعتُهُ يقولُ: "ربِّ قِني عذابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عِبادَكَ، أوْ تجمَعُ عبادَكَ". "وقال البراء: كنا إذا صلَّينا خلفَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أحبَبنا أن نكونَ عن يمينه؛ يُقبل علينا بوجهه" عند التسليم قبل أن يُقبلَ على مَن عن يساره. "قال: فسمعته يقول" بعد التسليم. "رب قني عذابك"؛ أي: احفظني منه. "يوم تبعث عبادك، أو تجمع عبادك": شكٌّ من الراوي.

673 - قالت أمُّ سَلَمَةَ: إنَّ النِّساءَ في عَهْدِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كُنَّ إذا سَلَّمْنَ مِنَ المَكْتوبَةِ قُمْنَ، وثَبَتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ صلَّى مِنَ الرِجالِ ما شاءَ الله، فإذا قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قامَ الرِّجالُ. "قالت أم سلمة: إن النساء في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كُنَّ إذا سَلَّمْنَ من المكتوبة قُمْنَ، وثبت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ لينصرف النساء كي لا يختلط الرجال بهنَّ. "ومَنْ صلَّى" عطف على (رسول الله)؛ أي: وثبَتَ مَنْ صلَّى. "مِنَ الرجال ما شاء الله"؛ أي: زمانًا شاء الله أن يثبت فيه. "فإذا قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام الرِّجال"، يُعْلَم مِنْ هذا استحباب ثبات الإمام لهذا، واستحباب عدم قيام المأمومين قبل أن يقوم الإمام. 674 - وقال جابرُ بن سَمُرَةَ: كَانَ - يعني رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقومُ من مُصَلاَّهُ الذي يُصلِّي فيه الصُّبحَ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمسُ، وكانوا يتحدَّثون، فيأخذونَ في أمْرِ الجاهِلِيَّةِ، لْيَضْحَكونَ، ويتَبَسَّم. "وقال جابر بن سَمُرة: كان؛ يعني: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" تفسير لضمير (كان). "لا يقوم من مُصلاَّه الذي يصلِّي فيه الصبح حتى تَطْلُعَ الشمس، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية"؛ أي: يتحدثون بما جرى عليهم قبل الإسلام.

"فيضحكون ويبتسم": - عليه الصلاة والسلام -، فيه دليل على جواز استماع الكلام المباح. مِنَ الحِسَان: 675 - عن مُعاذ بن جبَل - رضي الله عنه - أنه قال: أخذ بيدي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "إِنِّي لأحِبُّكَ يا معاذُ! "، فقلتُ: وأنا أُحِبُّكَ يا رسولَ الله!، قالَ: "فلا تَدعْ أنْ تقولَ في دُبُرِ كُل صلاةٍ: ربِّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ، وشكرِكَ، وحُسْنِ عِبَادَتِكَ". "من الحسان": " عن معاذ بن جبل أنه قال: أخذ بيدي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إني لأحبك يا معاذا فقلت: وأنا أحبُّك يا رسول الله! "، مخاطبته - عليه الصلاة والسلام - بالمحبة أشدُّ تأكيدًا من مخاطبة معاذ له بها. "قال: فلا تدع"؛ أي: فلا تترك. "أن تقول في دبر كل صلاة"؛ أي: في عَقِبها. "اللهم": ربِّ. "أعنِّي على ذِكْرِك"، المطلوب منه: شرح الصدور وتيسير الأمور وإليه لَمَحَ قول الكليم: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} إلى قوله: {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه: 33 - 34]. "وشكرك": المطلوب منه: توالي النِّعم المستجلبة لتوالي الشكر، وإنما طلب المعاونة عليه لأنه عسير جدًا، ولذلك قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13].

"وحسن عبادتك": المطلوب منه: التجرد عما يشغله عن الله تعالى؛ ليفرغ إلى المناجاة. والمذكورات الثلاثة في الحديث غايات، والمطلوب هو البدايات، فذِكْرُ الغايات تنبيهٌ على أنها هي المطالب الأولية وإن كانَتْ نهاياتُ تلك وسائلَ إليها. وهذا يدل على أنَّ مَنْ يحبُّ أحدًا ينبغي أن يريد له كل خير، ويدله على كل خير. 676 - وعن عبد الله بن مَسْعود: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يُسَلِّمُ عن يَمينهِ: "السلامُ عليكم ورحمةُ الله"، حتَّى يُرى بياضُ خَدِّهِ الأَيْمَنِ، وعن يَسارِهِ: "السلامُ عَلَيْكُم ورحمةُ الله" حتَّى يُرى بياضُ خَدِّهِ الأَيْسَرِ. "وعن عبد الله بن مسعود: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يسلِّم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله، حتى يُرى بياضُ خدِّه الأيمن، وعن يساره السلام: عليكم ورحمة الله حتى يُرى بياض خدِّه الأيسر". 677 - وعنه قال: كانَ أكثرُ انصِرافِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ صَلاتِهِ على شِقِّهِ الأَيْسَرِ إلى حُجْرَتِهِ. "وعنه أنه قال: كان أكثرُ انصراف رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من صلاته على شِقِّه الأيسر إلى حجرته"؛ لأن بابها كان على يسار محرابه - عليه الصلاة والسلام -.

17 - باب الذكر بعد الصلاة

678 - وعن المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُصلِّي الإمامُ في المَوْضعِ الذي صَلَّى فيه حتَّى يَتَحَوَّلَ". "عن المغيرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: لا يصلِّي الإمام في الموْضعِ الذي صَلَّى فيه"؛ يعني: لا يصلِّي السُّنَّة والنَّافلة في الموضع الذي صَلَّى فيه الفريضة. "حتى يتحوَّلَ"؛ أي: حتى ينتقل منه إلى آخر؛ ليشهد له موضعان بالطاعة يوم القيامة، ولذلك يستحبُّ تكثير العبادة في مواضع مختلفة، والأولى أن يتحوَّل إلى جانب يمينه. 679 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهَاهُم أن يَنصَرِفُوا قبلَ انْصِرافِهِ مِنَ الصَّلاة. "عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهاهُم أن ينصرفوا قبل انصرافه من الصلاة"؛ لتنصرف النساء، ولا يختلط بهنَّ الرجال. 17 - باب الذِّكر بعد الصَّلاة (باب الذكر بعد الصلاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 680 - قال ابن عبَّاس: كنتُ أَعْرِفُ انقِضاءَ صلاةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالتَّكْبيرِ.

"من الصحاح": " قال ابن عباس: كنت أعرف انقضاء صلاة النبي - عليه الصلاة والسلام - "؛ أي: أعرف انتهاءها. "بالتَّكبير"؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - يكبر الله تعالى في الذِّكر المعتاد بعد الصلاة، وأراد بالتكبير: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. 681 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ إلا مِقدارَ ما يقولُ: "اللهمَّ أنتَ السَّلامُ، ومِنْكَ السَّلامُ، تبارَكْتَ يا ذا الجلال والإكرام". "وقالت عائشة: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سلَّم لم يَقْعُدْ" بين الفريضة والنهوض إلى السُّنَّة بعدها. "إلا مِقْدَار ما يقول: اللهم أنت السلام، ومنك السلام"، وإليك يرجع السلام. "تبارَكْتَ يا ذا الجلال والإكرام"، ثم يشتغل بالسُّنَّة. 682 - وقال ثَوبان: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرفَ مِنْ صلاتِهِ اسْتَغْفَرَ ثلاثًا وقالَ: "اللهمَّ أنتَ السلامُ ومنكَ السلامُ، تبارَكْتَ يا ذا الجَلالِ والإِكرامِ". "وقال ثوبان: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثًا، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام! وإليك يرجع السلام، "تباركت يا ذا الجلال والإكرام".

683 - وعن المُغيرة بن شُعبة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ في دُبُرِ كُلِّ صلاةٍ مَكْتوبَةٍ: "لا إله إلا الله وحدَهُ لا شريكَ له، لَهُ الملكُ ولَهُ الحَمْدُ وهُوَ على كلِّ شيءٍ قَديرٌ، اللهمَّ لا مانِعَ لما أَعْطَيْتَ، ولا مُعْطِيَ لِما مَنَعْتَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ". "وعن المغيرة بن شعبة: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول في دُبُر كلِّ صلاة"؛ أي عقيب كلِّ صلاة. "مكتوبة"؛ أي: مفروضة: "لا إله إلا الله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطَيْتَ، ولا مُعطِيَ لما مَنَعْتَ، ولا ينفع ذا الجدِّ منك الجدُّ". 684 - وعن عبد الله بن الزُّبير قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سَلَّمَ مِنْ صَلاتِهِ قالَ بصَوْتهِ الأَعْلى: "لا إلهَ إلاّ الله وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ الملكُ ولهُ الحُمْد وهُوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا بالله، لا إله إلا الله لا نَعْبُدُ إلا إيَّاهُ، لَهُ النِّعمةُ، ولَهُ الفَضْلُ، ولَهُ الثَّناءُ الحَسَنُ، لا إله إلاَّ الله مُخْلِصينَ لَهُ الدينَ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرونَ". "وعن عبد الله بن الزبير: أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سلَّم من صلاته قال بصوته الأعلى: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله، لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحَسَنُ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين"؛ أي: في حال كوننا مخلصين له الدين، وهو التَّوحيد.

"ولو كره الكافرون"؛ أي: ولو كرهوا كوننا مخلصين لدين الله، وكوننا عابدين له. 685 - وعن سَعْدٍ: أنه كان يُعَلِّمُ بنيه هؤلاءِ الكَلماتِ، ويقولُ: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَتَعَوَّذُ بِهِنَّ دُبُرَ كُلِّ صَلاةٍ: "اللهمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الجُبن، وأَعوذُ بِكَ مِنَ البُخْلِ، وأعوذُ بِكَ مِنْ أَرْذَلِ العُمُرِ، وأَعوذُ بِكَ مِن فِتْنَةِ الدُّنْيا وعذابِ القَبْرِ". "وعن سعد": وهو سعد بن أبي وقاص. "أنه كان يعلّم بنيه هؤلاء الكلمات ويقول: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يتعوَّذ بهنَّ دُبُرَ الصلاة: اللهم إني أعوذ بك من الجُبن"؛ أي: من خوف الخروج في الغَزاة في سبيل الله تعالى. "وأعوذ بك من البخل"؛ أي: من عدم أداء الزكاة خوفًا من الفقر. "وأعوذ بك من أَرْذَل العُمُر" من الرَّذَالة، وهي الخَسَاسة، و (أرذل العمر): آخره في حال الكبر والعجز، فإنه إذ ذاك يكون خَرِفًا حقيرًا في أعين الناس. "وأعوذ بك من فتنة الدُّنيا وعذاب القبر". 686 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه -. قال: قالوا: يا رسولَ الله!، ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثورِ بالدَّرَجاتِ والنَّعيم المُقيم، صَلُّوا كما صَلَّيْنا، وجاهَدوا كما جاهَدْنا، وأنْفَقوا مِنْ فُضولِ أَمْوالِهِمْ، وَلَيْسَتْ لنا أَمْوالٌ، قالَ: "أفلا أُخْبرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ قَبْلَكُمْ، وتَسْبقُونَ مَنْ جاءَ بَعْدَكُمْ، وَلا يَأْتي أَحَدٌ بِمَثْل ما جِئْتُمْ

بِهِ، إلاَّ مَنْ جاءَ بمثْلِهِ!، تُسَبحُونَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ عَشْرًا، وتَحْمَدونَ عَشْرًا، وتُكَبرونَ عَشْرًا". وفي روايةٍ: "تُسَبحُونَ، وَتَحْمَدُونَ، وتُكَبرونَ خَلْفَ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثًا وثَلاثينَ". "وعن أبى هريرة أنه قال: قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذهب أهل الدُّثور": جمع دَثْرٍ، وهو المال الكثير؛ أي: الأغنياء. "بالدرجات [العلى] والنَّعيم المقيم"؛ أي: العيش الدائم، والمراد به: الجنة. "صلُّوا كما صلَّينا، وجاهدوا كما جاهدنا، وأنفقوا من فُضُول أموالهم، وليسَتْ لنا أموال، قال: أفلا أخبركم بأمر تُدْرِكُون به من قَبْلَكم"؛ أي: في الثَّواب. "وتسبقون مَنْ جاء بعدكم"؛ أي: تسبقون به أمثالكم الذين يقولون هذه الأذكار، فتكون البعدية بحسب الرتبة. "ولا يأتي أحدٌ بمثل ما جئتم به إلا مَنْ جاء بمثله"؛ أي: فعد مثل فعله. "تسبحون في دُبُر كلِّ صلاة عشرًا، وتحمدون عشرًا، وتكبرون عشرًا، وفي رواية: تسبحون وتحمدون وتكبرون خَلْفَ كلّ صلاة ثلاثًا وثلاثين"، قيل: معناه: يكون جميعها ثلاثًا وثلاثين، لكن الأشهر: أنَّ كل واحد من الأذكار يكون ثلاثًا وثلاثين. 687 - وعن كعْبِ بن عُجْرَةَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُعَقِّباتٌ لا يَخيبُ قائِلُهُنَّ - أَوْ فاعِلُهُنَّ - دُبُرَ كلِّ صَلاةٍ مَكتوبةٍ: ثَلاثٌ وثَلاثونَ تَسْبيحَةً، وثَلاثٌ

وثَلاثون تَحْميدَةٌ، وأَرْبَعٌ وثَلاثونَ تَكْبيرَةً". "وعن كَعْبِ بن عُجْرَة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مُعَقِّباتٌ": موصوفه محذوف، تقديره: كلمات أو دعوات مُعَقِّبات؛ يعني: كلمات تأتي بعَقْبِ بعض، وقيل: سميت بها لأنهنَّ يعقُبن الصلاة. "لا يخيب قائلُهُنَّ"، من الخَيبة، وهو الحرمان والخسران. "أو فاعلُهُنَّ" شكٌّ من الراوي. "دُبُرَ كلِّ صلاة مكتوبة: ثلاثٌ وثلاثون" خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هنَّ ثلاث وثلاثون "تسبيحة"، والجملة خبر (معقبات). "وثلاث وثلاثون تحميدة، وأربع وثلاثون تكبيرة". 688 - وعن أبي هريرة قال قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَبَّحَ الله في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ ثَلاثاً وثَلاثينَ، وحَمِدَ الله ثلاثاً وثَلاثينَ، وكَبَّرَ الله ثَلاثاً وثَلاثينَ، فَتِلْكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، ثم قالَ تَمامَ المائة: لا إله إلاَّ الله وَحْدَهُ لا شريكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ ولَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلى كلِّ شيءٍ قديرٌ، غُفِرَتْ خَطاياهُ وإنْ كانَتْ مِثلَ زَبَدِ البَحْرِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ سبَّحَ الله في دُبُرِ كلِّ صلاة ثلاثاً وثلاثين، وحَمِدَ الله ثلاثاً وثلاثين، وكَبَّرَ الله ثلاثاً وثلاثين، فتلك"؛ أي: التسبيحات والتحميدات والتكبيرات. "تسعة وتسعون، وقال تمامَ المئة" بالنصب، مفعول به لـ (قال)؛ لأنه في المعنى جملة؛ لأن ما بعده عطف بيان له أو بدل، فصحَّ كونه مقول القول. والمراد من (تمام المئة): ما يتم به المئة، ويجوز أن يكون نصبه بالظرفية؛

أي: في وقت تمام المئة، والعامل فيه (قال)، ويجوز رفع (تمام) على أنه مبتدأ وخبره: "لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير": فيكون (تمام) مع خبره حالاً من ضمير (سبَّح) فلفظة (قال) على هذا تكون للراوي، وضميره عائد إلى الرسول. "غُفِرَتْ خطاياه، وإن كانت مثل زَبَدِ البَحْرِ"، وهو ما يعلو على وجهه عند هيجانه. مِنَ الحِسَان: 689 - عن أبي أُمامَةَ أنه قال: قيلَ: يا رسولَ الله!، أيُّ الدُّعاءِ أَسْمَعُ؟، قالَ: "جَوْفُ الليلِ الآخِرُ، ودُبْرَ الصَّلَواتِ المَكْتوبات". "من الحسان": " عن أبي أمامة أنه قال: قيل: يا رسول الله! أيُّ الدعاء أسمع؟ "؛ أي: أوفق للاستماع، وأولى بالاستجابة. "قال: جَوْف الليل": نصب على الظرفية، خبر مبتدأ محذوف، (الآخر): صفته؛ أي: الدعاء في الجوف الأخير من الليل. أو رفع وهو أكثرُ روايةً على حذف مضاف وإقامته مقامه؛ أي: دعاء جوف الليل الأخير أسمع؛ يعني: ثلثه الأخير، وهو أول الجزء الخامس من أسداس الليل، وقيل: وسط النصف الأخير. "ودُبُر الصلوات المكتويات": عطف على (جوف) تابع له في الإعراب.

690 - عن عُقْبَةَ بن عامِرٍ أنَّه قال: أَمَرني رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أَقْرَأَ المُعَوِّذَتَيْنِ في دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ. "عن عقبة بن عامر أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أقرأ المعوِّذَتين في دُبُرِ كلِّ صلاة"؛ أريد بهما: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} "، سُمِّيتا بذلك؛ لأنهما يدفعان الآفة عن قارئهما. 691 - وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرونَ الله مِنْ صَلاةِ الغَداةِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمسُ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً مِنْ وُلْدِ إسْماعيلَ، ولأَنْ أَقْعُدَ مَعَ قَوْمٍ يَذْكُرونَ الله مِنْ صَلاةِ العَصْرِ إلى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُعْتِقَ أَرْبَعَةً". "عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لأَنْ أَقْعُدَ"؛ أي: لَقَعُودي. "مع قومٍ يذكرون الله من صلاة الغَدَاة حتى تَطْلُعَ الشَّمس أحبُّ إليَّ من أن أُعْتِقَ أربعةً من وَلَدِ إسماعيل"، وإنما خصَّ - عليه الصلاة والسلام - وَلَدَ إسماعيل؛ لأن العرب أفضل الأمم، وأولاد إسماعيل أفضل العرب؛ لكونه - عليه الصلاة والسلام - منهم، وإطلاق الأرقاء والعتق عليهم على الفرض والتقدير. "ولأَن أقعُدَ مع قومٍ يذكرون الله تعالى من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس أحبُّ إليَّ من أن أُعْتِقَ أربعةً"، وإنما خصَّ هذين الوقتين لشرفهما؛ لأن أحدهما أول النهار والآخَر آخِره، ولاجتماع ملائكة الليل وملائكة النهار في هذين الوقتين.

18 - باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح منه

ووجه تخصيصه بأربعة لأن ما فضله - عليه الصلاة والسلام - على إعتاقهم أربعةُ أشياء: القعود، وكونه مع قوم يذكرون الله، وكون ذلك من الغَداة أو العصر، واستمراره إلى طلوع الشمس أو الغروب. 692 - وعن أَنسٍ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صَلَّى الفَجْرَ في جَماعَةٍ، ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كانَتْ لَهُ كأَجْرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ"، قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تامَّةٍ تامَّةٍ". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من صلَّى الفجر في جماعة، ثم قعد يذكر الله حتى تَطْلُعَ الشَّمس، ثم صلَّى ركعتين"؛ أي: بعد أن تطلع الشَّمس قَدْرَ رُمْحٍ، وهذه الصَّلاة تسمى صلاة الإشراق. "كانت له كَأَجْرِ حَجَّةٍ وعُمْرَةٍ، قال"؛ أي: الراوي: "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تامَّة تامَّة": صفته (لحجة وعمرة)، والتكرار للتأكيد. 18 - باب ما لا يَجُوزُ من العَمَل في الصَّلاة وما يُباحُ منه (باب ما لا يجوز من العمل في الصلاة وما يباح) مِنَ الصِّحَاحِ: 693 - عن مُعاوِيَةَ بن الحَكَمِ - رضي الله عنه - قالَ: بَيْنا أَنا أُصَلِّي مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذْ عَطَسَ رَجُلٌ، فَقُلْتُ لَهُ: يَرْحَمُكَ الله، فَرَماني القَوْمُ بِأَبْصارِهِمْ، فَقُلْتُ:

ما شَأْنُكُمْ تَنْظُرُونَ إلَيَّ؟، فَجَعلوا يَضرِبُونَ بأَيْديهمْ عَلى أَفْخاذِهِم، فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ يُصَمِّتُوننَي سَكَتُّ، فَلَمَّا صَلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَبأَبي هُوَ وأُمِّي، ما رَأَيتُ مُعَلِّماً قَبْلَهُ ولا بَعْدَهُ أَحْسَنَ تَعليماً مِنْهُ، والله ما كَهَرَني ولا ضَرَبني ولا شَتَمَني، قال: "إنَّ هذهِ الصلاةَ لا يَصْلُحُ فيها شَيءٌ مِنْ كَلامِ النَّاسِ، إنَّما هِيَ التَّسْبيحُ والتَّكْبيرُ وَقِراءَةُ القُرْآنِ" - أو كما قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قلتُ: يا رسول الله!، إنِّي حَديثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ، وقَدْ جاءَ الله بالإِسْلامِ، وإِنَّ مِنَّا رِجالاً يَأْتُونَ الكُهَّان؟، قالَ: "فَلا تَأْتِهِم"، قُلتُ: ومِنَّا رِجالٌ يَتَطَيَّرُونَ؟، قالَ: "ذاكَ شَيءٌ يَجِدُونَهُ في صُدورِهِمْ، فَلا يَصُدَّنَّهُمْ"، قلت: ومِنَّا رِجالٌ يَخُطُّونَ؟، قالَ: "كانَ نبِيٌّ مِنَ الأنْبياءِ يَخُطُّ، فَمَنْ وافَقَ خَطَهُ فَذاكَ". "من الصحاح": " عن معاوية بن الحَكَم أنه قال: بينا أنا أصلِّي مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ عَطَسَ رجلٌ، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبْصَارهم"؛ أي: أشاروا إليَّ بسرعة التِفَابٍ بأعينهم مِنْ غير كلام. "فقلت: ما شأنكم"؛ أي: حالكم. "تنظرون إليَّ؟! فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلمَّا رأيْتُهُم يُصَمِّتُونني سَكَتُّ، فلما صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فَبأَبي هو وأُمِّي"، والضمير يعود إلى (رسول الله)؛ أي: هو مُفَدًّا بهما. "ما رأيْتُ مُعَلِّماً قبلَه ولا بعدَه أحسنَ تعليماً منه - صلى الله عليه وسلم -، والله ما كَهَرَني"؛ أي: ما زجرني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، (الكَهْر): استقبالك الإنسان بوجهٍ عبوس. "ولا ضَرَبني ولا شَتَمني، قال: إنَّ هذه الصلاة" إشارة إلى جنس الصلاة.

"لا يَصْلُحُ فيها شَيءٌ من كلام الناس"؛ والمراد بـ (كلامهم): ما يجري به الخطاب بينهم. "إنما هي التَّسبيح والتكبير وقراءة القرآن"، استدل به الشافعي على أن تكبير الإحرام جُزْءٌ من الصلاة، قلنا: معناه: إنما هي ذات التَّسبيح والتَّكبير. "أو كما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم" شَكٌّ من الراوي. "قلت: يا رسول الله! إنِّي حديثُ عَهْدٍ"؛ أي: جديد عَهْدٍ. "بجاهليَّة"؛ يعني: انتقلت من الكفر إلى الإسلام عن قريب، ولم أعرف بعدُ أحكام الدين ما تبطل به الصلاة. "وقد جاء الله بالإسلام"، هذا لا يتعلق بما قبله، بل شروعٌ في ابتداء سؤال منه. "وإنَّ منَّا رجالاً يأتون الكهان": جمع كاهن، وهو مَنْ يتكلم بما هو كائن في المستقبل. "قال: فلا تأتهم، قلت: ومنَّا رجالٌ يتطَيَّرون"؛ أي: يتفاءلون بالطِّير؛ فإن طار في سفرهم طير عن يمينهم يقولون: هذا سفر مبارك، وإن طار في سفرهم عن يسارهم يتشاءمون به. "قال: ذلك شيء يجدونه في صدورهم"؛ أي: في أنفسهم؛ يعني: أنه وَهْمٌ منهم وظَنٌّ وليس له حقيقة وتأثير في جَلْبِ نفع أو دفع ضَرٍّ. "فلا يَصُدَّنهم"؛ آي: فلا يمنعنَّهم هذا الوهم عما يقصدونه ويتوجهون إليه من المقاصد، أو عن الطريق المستقيم. "قلت: ومنَّا رجالٌ يَخُطُّونَ"، وكيفيته: أنَّ الرجل إذا عزم على شغل يأخذ

خشباً ويخطُّ على العجلة خطوطاً كثيرةً بلا حساب على الأرض، أو على الرمل، ثم يمحو خطين خطين، فإن بقي زوج فهي علامة الخير في ذلك الشغل، وإلا فلا. "قال: كان نبي من الأنبياء يَخُطُّ"، قيل: هو دانيال، وقيل: إدريس - عليهما السلام -. "فمن وافق": قيل: ضمير الفاعل راجع إلى (من)؛ أي: فمن وافق فيما يخطُّ. "خطه"؛ أي: خطُّ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فذاك"؛ أي: فذاك مصيب. قال الخطابي: يجوز أن يكون النبي - عليه الصلاة والسلام - أراد بقوله: (فذاك) على سبيل الزَّجر عنه؛ لأنهم ما كانوا صادفوا خط ذلك النبي حتى يعرفوا الموافقة من المخالفة؛ لأن خطه كان عَلَماً لنبوته وقد انقضت، والشيء إذا عُلِّق بأمر ممتنع فهو ممتنع. 694 - قال عبد الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -: كُنا نُسَلِّمُ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ في الصَّلاة، يَرُدُّ عَلَيْنَا، فَلَمَّا رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِ النَّجاشِيِّ سَلَّمْنا عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْنا، وقال: "إنَّ في الصلاةِ لَشُغُلاً". "قال عبد الله بن مسعود: كلنا نسلِّم على النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو في الصَّلاة، فيردُّ علينا"، قيل: المراد منه: هو الردُّ بالإشارة؛ أي: كان يردُّ علينا بالإشارة قبل رجوعنا من عند النَّجَاشي. "فلمَّا رجعنا من عند النَّجَاشي" هو ملك الحبشة وقد كان هاجر جماعة

من الصحابة من مكة إلى أرض الحبشة حين كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة فَارِّين منها؛ لِمَا يلحقهم من إيذاء الكفار. فلما خرج - عليه الصلاة والسلام - منها إلى المدينة، وسمع أولئك به هاجروا من الحبشة إلى المدينة، فوجدوا النبي - عليه الصلاة والسلام - في الصلاة، ومنهم ابن مسعود، قال: "سَلَّمْنَا عليه، فلم يردَّ علينا وقال: إنَّ في الصلاة لَشُغُلاً"؛ أي: بالقراءة والتَّسبيح والدُّعاء، وذلك مانع من كلام الناس، والتنوين للتهويل، والأكثر على أن ردَّ السلام باللسان مبطل، وقد كان جائزاً في بدء الإسلام ثم حُرِّم. 695 - وعن مُعَيقيب: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ في الرجلِ يُسَوِّي التُّرابَ حَيْثُ يَسْجُدُ قال: "إنْ كانَ فاعِلاً فَواحِدَةً". "وعن معيقيب أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال في الرَّجُل يسوِّي التُّراب حيث يسجد قال: إن كان فاعلاً"؛ أي: إن كان يفعله البَتَّة. "فواحدةً" منصوب بفعل مضمر؛ أي: فليسوِّه مرةً واحدةً، أو ليفعل فعلة واحدةً. 696 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: نَهى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن الخَصْرِ في الصَّلاةِ. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن الخصر في الصلاة": وهو أن يضع يده على خاصرته، قيل: لأنه صنيع اليهود. وروي في بعض الأخبار: أنَّ إبليس لما هبط إلى الأرض بعد صيرورته مَلْعُوناً هبط على هذه الهيئة.

وقيل: هو أن يأخذ بيده عصاً يتَّكئ عليها. 697 - وقالت عائشة: سَأَلْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الالْتِفاتِ في الصَّلاةِ؟، فقالَ: "هُوَ اخْتِلاسٌ يَخْتَلِسُهُ الشَّيْطانُ مِنْ صَلاةِ العَبْدِ" "وقالت عائشة: سألت رسول الله - عليه الصلاة والسلام - عن الالتفات في الصلاة؟ فقال: هو اختلاس": وهو استلاب الشيء وأخذه بسرعة. "يختِلسُهُ الشيطان من صلاة العبد": يريد به: استلابَ كمالِ صلاته؛ بأن يحمله على هذا الفعل. 698 - عن أبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لَيَنْتهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ رَفْعِهِمْ أَبْصَارَهُمْ عِنْدَ الدُّعاءِ في الصَّلاةِ إلى السَّماءِ أَوْ لَتُخْطَفَنَّ أَبْصَارُهُم". "وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: لينتهِيَنَّ": خبر بمعنى الأمر، ويجوز أن يكون جواب قسم؛ أي: ليمتنِعَنَّ. "أقوامٌ عن رفعهم أبصارَهُم عند الدُّعاء في الصَّلاة إلى السَّماء أو لَتُخْطَفَنَّ"؛ أي: لَتُسْلَبن "أبصارهم" إن لم ينتهوا عن ذلك. وفيه إشارة إلى أن المعصية اللاحقة عن عضو يقع العذاب بذلك العضو، وإنما نُهُوا عن رفع الأبصار إلى نحو السماء لِمَا يُوهم ذلك مِنْ نِسْبَةِ العُلُوِّ المكاني إليه تعالى. 699 - عن أبي قَتَادَةَ الأَنْصارِي أنه قال: رَأَيْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّ الناسَ وأُمامَةُ بنتُ أبي العاصِ عَلى عاتِقِهِ، فإذا رَكَعَ وَضَعَها، وإذا رَفَعَ مِنَ السُّجودِ أَعادَها،

ويروى: رَفَعها. "عن أبي قَتَادة الأنصاري أنه قال: رأيْتُ النبي - عليه الصلاة والسلام - يَؤُمُّ الناس، وأُمَامَةُ بنت أبي العاص على عاتقه"، وكان أبو العاص زوج زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "فإذا رَكَعَ وَضَعَها، وإذا رَفَعَ" رأسه "من السجود أعادها" ويروى: رَفَعَها"، يشبه أن يكون هذا الصَّنيع منه - عليه الصلاة والسلام - لا عن قَصْدٍ وتعمد في الصلاة، بل لعل الصَّبية لكثرة ملابستها له في غير الصلاة كانت تتعلق به، فلا يدفعها عن نفسه. وإذا أراد السجود وهي على عاتقه، وضعها بأن يحطها أو يرسلها إلى الأرض حتى يفرغ من سجوده، فإذا أراد القيام وعادَتْ إلى مثل الحالة الأولى لم يمنعها، حتى إذا قام - عليه الصلاة والسلام - لم يمنعها بل بقيَتْ محمولة. ويحمل الحديث على هذا، لا على التَّعمد بحملها ووضعها وإمساكها في الصلاة مرة بعد أخرى؛ لأن العمل يكثر فيه ويشغل عن الصلاة. 700 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ في الصَّلاةِ فَلْيَكْظِمْ ما اسْتَطَاعَ، فَإنَّ الشَّيطانَ يَدْخُلُ في فيهِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. إذا تَثَاءَبَ أحدُكُم في الصلاة": يقال: تثاءَبَ الرَّجُل: إذا فَتَحَ فاه من غَلَبة النوم أو الغفلة، أو كثرة امتلاء البطن، وكل ذلك غير مَرضي؛ لأنه يكون سبباً للكسل عن الطاعات والحضور فيها. "فَلْيَكْظِمْ"؛ أي: فليَدْفَع ذلك.

"ما استطاع": بأن يضمَّ شفتيه، أو يضع يده على فيه. "فإن الشَّيطان يدخل في فيه"؛ للوسوسة، وخُصَّ دخوله في الفم؛ لأن الفم إذا انفتح لشيء مكروهٍ للشرع صَار طريقاً للشيطان. 701 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عِفْريتاً مِنَ الجنِّ تَفَلَّتَ البارِحَةَ لِتقْطَعَ عَلَيَّ صَلاتي، فَأَمْكَنَني الله مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبطَهُ إلى سارِيَةٍ مِنْ سَواري المَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُروا إلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخي سُلَيْمانَ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي}، فَرَدَدْتُهُ خاسِئاً". "وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن عِفْرِيْتًا" بكسر العين، هو الخبيث المنْكَر من الجنِّ. "تفلَّتَ"؛ أي: تعرَّضَ لي في صلاتي. "البارحة"؛ أي: الليلة الماضية. "ليقطع عليَّ صلاتي"؛ أي: أراد أن يشغلني في صلاتي بوسوسته فيها. "فأمكَنَني الله منه"؛ أي: أعطاني مَكِنَةً من أَخْذِهِ وقُدْرَة عليه. "فأخذته"، وهذا يدلُّ على أن الشيطان عينه غير نجس، وأن الصلاة لاتبطل بمسِّه. "فأردْتُ أن أَرْبطَهُ"؛ أي: أشدَّه. "على سارية"؛ أي: أسطوانة. "من سواري المسجد حتى تنظروا إليه كلكم"، فيه دلالة على أن المصلِّي لا تبطل صلاته بِخُطُور ما ليس من أفعالها بباله. "فذكرت دعوة أخي سليمان: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ

مِنْ بَعْدِي} فرددته خاسئاً"؛ أي: ذليلاً مطروداً؛ لأن التَّسخير التَّام مختصٌّ به. والحديث يدل على أن رؤية الجنِّ غير مستحيلة، وقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف: 27] هو حكم الأعمِّ الأغلب. 702 - وقال: "مَنْ نابَهُ شَيْءٌ في صَلاتِهِ فَلْيُسَبحْ، فَإنَّما التَّصْفيقُ لِلنِّساءَ". "وعن سَهْلٍ أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ نابه شيء"؛ أي: أصابه أمرٌ. "في صلاته": بأن يدعوه أحد، أو يستأذنه في دخول البيت ولم يعلم أنه في الصلاة. "فليسبح"؛ أي: فليقل: سبحان الله. "فإنما التَّصفيق": وهو ضرب إحدى اليدين على الأخرى. "للنِّساء"؛ يعني: إن كان المصلِّي امرأة فليضْرِبْ بطن كفه اليمنى على ظهر كفه اليسرى؛ لأن صوتهنَّ عورة. 703 - وقال: "التَّسْبيحُ لِلرِجالِ، والتَّصْفيقُ لِلنِساءِ". "وعن سهل أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: التَّسبيح للرجال والتَّصفيق للنِّساء".

مِنَ الحِسَان: 704 - قال عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: كُنَّا نُسَلِّمُ عَلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ في الصَّلاةِ قَبْل أن نأْتيَ أَرْضَ الحَبَشَةِ فَيَرُدَّ عَلَيْنا، فَلَمَّا رَجَعْنا مِنْ أَرْضِ الحَبَشَةِ أَتَيْتُهُ فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ، حتَّى إذا قَضى صَلاتَهُ قالَ: "إنَّ الله تَعالى يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ ما يَشاءُ، وإنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لا تَكَلَّمُوا في الصَّلاةِ"، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلامَ. "من الحسان": " قال عبد الله بن مسعود: كنا نسلِّم على النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو في الصلاة، قَبْلَ أن نأتي أرضَ الحبشة فيردُّ علينا، فلمَّا رجعنا من أرض الحبشة أتيتُهُ فوجدْتُهُ يصلِّي، فسلَّمْتُ عليه، فلم يَرُدَّ علي، حتى إذا قضى صلاته قال: إن الله تعالى يُحْدِثُ"؛ أي: يُظْهِرُ "من أمره ما يشاء، وإنَّ مما أحدَثَ أن لا تَكَلَّمُوا في الصلاة، فَرَدَّ عليَّ السَّلام" هذا دليل على استحباب رَدِّ جواب السَّلام بعد الفراغ من الصلاة، وكذلك لو كان على قضاء الحاجة أو قراءة القرآن وسلَّم عليه أحد. 705 - وقال: "إنما الصلاةُ لِقِراءَةِ القُرآنِ، وذِكْرِ الله تعالى، فإذا كنتَ فيها فَلْيَكُنْ ذلكَ شَأْنُكَ". "وقال: إنما الصَّلاة لقراءة القرآن وذِكْرِ الله، فإذا كنْتُ فيها"؛ أي: في الصلاة. "فليَكُنْ ذلك"؛ أي القرآن وذِكْرُ الله.

"شَأْنُكَ"؛ أي: حالك، لا غير ذلك من التَّكلم وغيره. 706 - قال ابن عمر: قلتُ لِبلالٍ: كيفَ كانَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كانُوا يُسَلِّمونَ عَلَيْهِ وهُوَ في الصَّلاةِ؟، قالَ: كانَ يُشيرُ بِيَدِهِ. "قال ابن عمر: قلْتُ لبلال: كيف كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يردُّ عليهم حين كانوا يسلِّمون عليه وهو في الصلاة؟ قال: كان يُشير بيده"، وكذلك لو أشار برأسه أو بعينه جاز. 707 - قال رِفاعَة بن رافِع: صَلَّيْتُ خَلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَعَطَسْتُ، فَقُلْتُ: الحَمدُ لِلَّهِ حَمْداً كَثيراً طَيباً مُبارَكاً فيهِ مُبارَكاً عَلَيْهِ كما يُحِبُّ رَبنا وَيرْضى، فَلمَّا صَلَّى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - انْصَرَفَ فقال: "مَن المُتَكَلِّمُ؟ "، قال رِفاعةُ: أنا يا رسول الله! قال: "وَالذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ ابْتَدَرَها بِضْعَةٌ وثَلاثونَ مَلَكاً أَيُّهُمْ يَصْعَدُ بِها". "قال رِفَاعَة بن رافع: صَلَّيْتُ خَلْفَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فَعَطَسْتُ فقلت: الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه مُبَاركاً عليه" كلاهما واحد، ولعل المراد منه: أنواع البركة وهي الزيادة. "كما يحبُّ ربنا ويرضى، فلمَّا صلَّى النبي - عليه الصلاة والسلام - انصرف فقال: من المتكلم؟ قال رِفاعة: أنا يا رسول الله! قال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده! لقد ابْتَدَرَها بِضْعَةٌ وثلاثون مَلَكًا أيُّهم يصعد بها"؛ أي: سبق بعضهم بعضاً لأن يصعد بها.

والحديث يدل على جواز الحمد للعاطس في الصلاة. 708 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "التَّثاؤُبُ في الصَّلاةِ مِنَ الشَّيْطانِ، فإذا تَثَاءَبَ أَحَدُكُم فَلْيَكْظِمْ ما اسْتَطَاعَ". وفي روايةٍ: "فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلى فِيهِ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إن التَّثاؤب في الصَّلاة من الشَّيطان"؛ يعني: يحصل التثاؤب من الغفلة، أو كثرة الأكل، أو غلبة النوم، وكل ذلك من الشيطان. "فإذا تثاءب أحدكم فْليَكْظِم ما استطاع"، تقدم. "وفي رواية: فليضع يده على فيه". 709 - وقال: "إذا تَوَضَّأَ أَحَدْكُمْ فأَحْسَنَ وُضوءَهُ ثُمَّ خَرَجَ عامِداً إلى المَسْجِدِ فَلا يُشَبكَنَّ بَيْنَ أَصابعِهُ، فإنَّهُ في الصَّلاةِ". "وعن كعب بن عُجْرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا توضَّأ أحدُكُم فَأَحْسَنَ الوضوء" بإسباغه. "ثم خرج عامداً"؛ أي: قاصداً. "إلى المسجد فلا يُشَبكَنَّ بين أصابعَهُ؛ فإنَّه في الصَّلاة"، (تشبيك الأصابع): إدخال بعضها في بعض، وهو مكروه في الصلاة؛ لأنه ينافي الخشوع، ومن قصدها فكأنما هو فيها في حصول الثَّواب.

710 - وقال: "لا يَزالُ الله - تَعالى - مُقبلاً عَلى العَبْدِ وَهُوَ في صَلاتِهِ ما لَمْ يَلْتَفِتْ، فإذا الْتَفَتَ أَعْرَضَ عَنْهُ" يَرويه أبو ذَرٍّ. "وعن أبي ذرٍّ أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يزال الله مُقْبلاً على العبد"؛ أي: ناظرٌ إليه بالرَّحمة وإعطاء الثواب. "وهو في صلاته"؛ يعني: لا يقطع أثر الرحمة عنه. "ما لم يَلْتَفِتْ، فإذا الْتَفَتَ أعَرَضَ عنه"؛ المراد منه: قلة الثواب. 711 - وعن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أَنسُ!، اجْعَلْ بَصَرَكَ حَيْثُ تَسْجُدُ". "وعن أنس: أنَّ النَّبي - عليه الصلاة والسلام - قال: يا أنس! اجعَلْ بَصَرَكَ حيثُ تسجُد"، هذا في حال القيام، وأما في حال الركوع فالمستحبُّ أن ينظر إلى ظهر قدميه، وفي حال السجود إلى أنفه، وفي حال التشهد إلى حِجْره. 712 - وعن أنس قال: قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا بنيَّ! إيَّاكَ والالتِفاتَ في الصلاةِ، فإنَّ الالتِفاتَ في الصَّلاةِ هَلَكَةٌ، فإنْ كانَ لا بُدَّ؛ فَفي التَّطَوُّعِ، لا في الفَريضَةِ". "وقال: قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا بنيَّ! إيَّاك والالتفات في الصلاة، فإن الالتفات في الصلاة هَلَكَة"؛ يعني: طاعةٌ للشيطان، وذلك هَلَكَةٌ للإنسان؛ أي: سبب الهلاك. "فإن كان لا بد"؛ أي: من الالتفات.

"ففي التَّطوُّع لا في الفريضة": لأن مبنى التَّطوُّع على المساهلة، ألا ترى أنه تجوز قاعداً أو مضطجعاً مع القدرة على القيام. 713 - ورُوِيَ عن ابن عبَّاس: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَلْحَظُ في الصَّلاةِ يَميناً وشِمالاً، وَلا يَلْوي عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ. "وروي عن ابن عباس: أنَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يَلْحَظُ"؛ أي: ينظر. "في الصلاة يميناً وشمالاً ولا يَلْوي"؛ أي: لا يَصْرِفُ. "عُنُقَهُ خَلْفَ ظَهْرهِ": قيل: التفاته - صلى الله عليه وسلم - كان مَرَّةً أو مِرَارًا قليلة؛ ليُعْلَم أنه غير مبطل، أو كان لشيء ضروري؛ لأنه يجوز أن ينهى أمَّته عن شيء وهو يفعله لغير ضرورة، فإن كان بحيث يلوي عنقه خلف ظهره فهو مبطل للصلاة. 714 - عن عَدِيِّ بن ثابت، عن أبيه، عن جدِّه رفعَه قال: "العْطَاسُ، والنُّعاسُ، والتَثاؤُبُ في الصَّلاةِ، والحَيْضُ، والقَيْءُ، والرُّعافْ مِنَ الشَّيطانِ". "عن عدي بن ثابت عن أبيه عن جده رفعه"؛ أي: أسند هذا الحديث إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال: "العطاس والنعاس": وهو النوم الخفيف. "والتثاؤب في الصلاة، والحيض، والقيء، والرعاف من الشيطان"؛ يعني: هذه الأشياء مما يرضاه الشيطان ويفرح به؛ لأن بعضها يبطل الصلاة، وبعضها يزيل الحضور.

715 - عن مُطَرِّف بن عبدِ الله بن الشِّخِّير، عن أبيه قال: أتَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ يُصَلِّي، وَلِجَوْفِهِ أَزيزٌ كَأَزيرِ المِرْجَلِ مِنَ البُكاءِ. "عن مُطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير عن أبيه أنه قال: أتيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يصلِّي وَلِجَوْفِهِ أَزِيْزٌ"؛ أى: صوت غليان. "كأزيز المِرْجَلِ": وهو ما يُطْبَخ فيه الشيء من حجر أو حديد أو خزف؛ أي: كصوت غليانه. "من البكاء": وهذا يدلُّ على أن البكاء لا يبطل الصلاة، ولعله غلب عليه - عليه الصلاة والسلام -. 716 - عن أبي ذَرٍّ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قامَ أَحَدُكم إلى الصَّلاةِ فَلا يَمسَحْ الحَصا، فَإنَّ الرَّحْمَةَ تُواجِهُهْ". "عن أبي ذر أنه قال قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يمسح الحصا"، وهي الحجارة الصغيرة. "فإن الرَّحمة تواجِهُهُ"؛ أي: تتوجه إلى المصلِّي من ربه وتنزل عليه، فلا يليق به اللعب بالحصا وغيره. فلعل أثر الرحمة يكون مع غبار الحصا الذي يمسحه عنها. 717 - وقالت أمُّ سَلَمَةَ: رَأَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غُلاماً لنا يُقالُ لهُ: أَفلَح، فإذا سَجَدَ نَفَخَ، فقال: "يا أَفْلَحُ!، تَرِّبْ وَجْهَكَ". "وقالت أمُّ سَلَمَة: رأى النَّبي - عليه الصلاة والسلام - غُلاماً لنا يقال له:

أفلح، إذا سجد نَفَخَ"؛ يعني: نفخ في الأرض ليزول عنها التُّراب ليسجد. "فقال: يا أفْلَح! تَرِّب وجهك": أمر من التَّتْرِيْب، وهو جعل الشيء ملوثاً بالتُّراب؛ أي: أوصله إلى التراب واسجد عليه؛ فإنه أعظم للثواب، فلا تنفخه عن موضع سجودك. "ضعيف". 718 - وقال "الاخْتِصارُ في الصَّلاةِ راحَةُ أَهْلِ النَّارِ". "وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الاختصار"؛ أي: وضع اليد على الخاصِرَة. "في الصلاة راحَةُ أهل النَّار"، قيل: إنهم يتعبون من طول قيامهم في الموقف فيستريحون بالاختصار، أو أنه فعل اليهود والنصارى وهم أهل النار، لا أنَّ لأهل النَّار راحة لقوله تعالى: {لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف: 75] العذاب. 719 - وقال "اقتُلوا الأَسْوَدَيْنِ في الصَّلاةِ: الحَيَّةَ، والعَقْرَبَ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اقتلوا الأَسْوَدَيْنِ في الصلاة: الحيَّة والعقرب": بيان للأسوَدَيْنِ؛ فإنه يجوز قتلهما بضربة أو ضربتين لا أكثر؛ لأن العمل الكثير مبطل للصلاة. 720 - وقالت عائشة - رضي الله عنها -: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي تَطَوُّعاً والبابُ عَلَيْهِ مُغْلَقٌ، فجئْتُ فَاسْتَفْتَحْتُ، فَمَشَى فَفَتَحَ لي، ثُمَّ رَجَعَ إلى مُصَلاَّهُ،

وذَكَرَتْ أنَّ البابَ كانَ في القِبْلَةِ. "وقالت عائشة - رضي الله عنها -؛ كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلِّي تطوُّعاً، والباب عليه مُغْلَقٌ، فجئْتُ فاسْتَفْتَحْتُ"؛ أي: طلبْتُ فَتْحَ الباب. "فمشى ففتح لي، ثمَّ رَجَعَ إلى مصلاَّه"، مشيه - صلى الله عليه وسلم - وفتحه الباب ثم رجوعه إلى مُصلاَّه يدل على أن الأفعال الكثيرة إذا لم تتوالى لا تبطل الصلاة، وإليه ذهب بعضهم. "وذَكَرَتْ"؛ أي: عائشة: "أنَّ الباب كان في القبلة"؛ دفعاً لوهم مَنْ تَوَهَّم أن هذا الفعل يستلزم ترك الاستقبال. 721 - عن عَليِّ بن طلق أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا فَسا أَحَدُكُم في الصَّلاةِ فلينصَرِفْ، فليتوضَّأ، وَلْيُعِدِ الصَّلاةَ". "وعن عَليِّ بن طَلْق - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا فسا أحدكم"؛ أي: خرج منه ريح في الصلاة. "فلينصرف"؛ أي: فليرجع "وليتوضَّأْ وَلْيُعِدْ الصَّلاة". 722 - وعن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَحْدَثَ أَحَدُكم في صَلاتِهِ فَلْيَأْخُذْ بأنْفِهِ، ثمَّ ليَنْصَرِف". "وعن عائشة - رضي الله عنه - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أحْدَثَ أحدُكم في صَلاته فَلْيَأْخُذْ بأنفه ثمَّ ليَنْصَرِفْ"، أمره -

19 - باب سجود السهو

عليه الصلاة والسلام - بأخذ الأنف ليخيَّل إلى غيره أنه مرعوف، ولئلا يسوِّل إليه الشيطان بالمضيِّ في صلاته استحياء من الناس. وفيه نوع من الأخذ بالأدب وإخفاء القبيح والتَّورية بما هو أحسن، وليس هو من باب الرياء والكذب. 723 - وقال: "إذا أَحْدَثَ أَحَدُكُمْ وَقَدْ جَلَسَ في آخِرِ صَلاتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَقَدْ جازَتْ صَلاتُهُ"، ضعيف. "وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أحْدَثَ أحدُكُم وقد جَلَسَ في آخر صلاته"؛ يعني: قَدْرَ التَّشهد. "قبل أن يسلِّم، فقد جازَتْ صلاتُهُ"؛ لوجود القاطع، وهذا مذهب أبي حنيفة، وعند الشافعي بطلَتْ؛ لأن التَّسليم عنده فرض. "ضعيف". 19 - باب سُجُود السَّهْوِ (باب السهو) مِنَ الصِّحَاحِ: 724 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَحَدَكُم إذا قامَ يُصَلِّي جاءَ الشَّيْطانُ فَلَبَّسَ عَلَيْهِ حتَّى لا يَدْري كَمْ صَلَّى، فإذا وَجَدَ ذلك أَحَدُكمْ فَليَسْجُدْ سَجْدَتَيْنِ وهو جالِسٌ".

"من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أن أحدكم إذا قام يصلَّي جاء الشيطان فَلَبَّسَ، بتشديد الباء: خلطه وشَوَّشَ عليه. "حتى لا يدري كَمْ صلَّى، فإذا وجد ذلك أحدُكُم فليسجُدْ سجدتين وهو جالس"؛ يعني: فليسجد سجدتي السَّهو بعد قراءة التَّشهد. 725 - وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شكَّ أحدُكم في صلاته فلم يدْرِ كم صلَّى، ثلاثاً أم أربعاً؛ فليَطرح الشَّكَّ، وليَبن على ما استيقَن، ثمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ، فإنْ كانَ صَلَّى خَمساً شَفَعَها بهاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ، وَإنْ كانَ صلَّى إتماماً لأِرْبَعٍ كانتا تَرغيماً لِلشَيطانِ". "وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا شكَّ أحدكم في صلاته، فلم يدْرِ كم صلى ثلاثاً": تمييز رافع لإبهام العدد في (كم). "أو أربعاً فليطرَح الشَّكَّ"؛ أي: ما شكَّ فيه، وهو الركعة الرابعة. "ولْيَبن على ما استيقن"، وهو ثلاث ركعات. "ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلِّم": استدل الشافعي بهذا الحديث على أن محلَّ سجود السَّهو قبل السلام، ومذهب أبي حنيفة أنه بعد السلام. "فإن كان قد صلَّى خمساً"؛ أي: كان ما صلاه في الواقع أربعاً فصار خمساً بإضافته إليه ركعة أخرى. "شفعها"؛ أي: جعلها شفعاً. "بهاتين السجدتين": لأنها تصير ستاً بهما، حيث أتى بمعظم أركان

الركعة وهو السجود، فكأنه أتى بالركعة السادسة، وبه قال الشافعي، وعند أبي حنيفة: أنه يصلي ركعة سادسة. "وإن كان صلى إتماماً لأربع"، مفعول له؛ يعني: إن كان صلَّى ما شكَّ فيه لإتمام أربع، أو حال؛ أي: حال كونه متمماً له. "كانتا"؛ أي: السجدتان. "ترغيماً للشيطان"؛ أي: إذلالاً له حيث فعل ما أبى عنه اللعين. 726 - وعن عبدِ الله بن مَسْعودٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى الظُّهْرَ خمساً، فقيلَ له: أَزيدَ في الصلاة؟، فقالَ: "وما ذاكَ! "، قالوا: صلَّيتَ خمساً، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَمَا سَلَّمَ، وقال: "إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكُم أَنْسى كما تَنْسَوْنَ، فإذا نسَيتُ فَذَكِّروني، وإذا شَكَّ أَحَدُكُمْ في صَلاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ ليُسَلِّمْ، ثم يسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ". "عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلى الظهر خمساً فقيل له: أزيد في الصلاة؟ ": بصيغة الاستفهام. "فقال: ما ذاك"؛ أي: ما سبب قولك هذا، وقيل: (ما) نافية (وذاك) إشارة إلى الزيادة. "قالوا: صليْتَ خمساً، فسَجَدَ سجدتين للسهو بعدما سلم": لأنه - عليه الصلاة والسلام - علم السَّهو بعده. "وقال: إنما أنا بشر مثلكم، أنسى كما تَنْسَوْنَ، فإذا نَسِيْتُ فَذَكِّروني وإذا شكَّ أحدُكُم في صلاته فلْيَتَحَرَّ الصَّواب"؛ أي: فليطلب بغلبة ظنِّه واجتهاده.

"فَليُتِمَّ عليه"؛ أي: ليتمَّ على ذلك ما بقي من صلاته، "ثم ليُسَلِّمْ، ثمَّ يسجُد سجدتين". 727 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: صلَّى لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ العَصْرِ فَسَلَّم في رَكعتينِ، فقامَ إلى خشبةٍ مَعْروضَةٍ في المَسْجدِ، فاتَّكَأَ عَلَيْها كأنَّه غَضْبانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى على اليُسْرى، وشَبَّكَ بَيْنَ أصابعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَن على ظَهْرِ كَفِّهِ اليُسْرى، وفي القَوْمِ أبو بَكرٍ وعُمَرُ رضوان الله عليهما، فهاباه أن يُكَلِّماه، وفي القَوْم رَجُلٌ وفي يَدَيْهِ طُولٌ يقال له: ذو اليدين، قالَ: يا رسولَ الله! أَقُصِرَتْ الصلاةُ أَمْ نَسَيتَ؟، فقال: "كلُّ ذلكَ لَمْ يَكُنْ"، فقالَ: قَدْ كانَ بعضُ ذلكَ، فأَقْبَلَ على الناسِ، فقال: "أصَدَقَ ذو اليَدَيْنِ؟ " قالوا: نَعَمْ، فتقدَّم، فَصَلَّى ما تَرَكَ، ثُمَّ سَلَّمَ، ثُمَّ كَبَّرَ وسَجَدَ مِثْلَ سُجودِهِ أَوْ أَطْوَلَ، ثُمَّ رَفَعَ رأْسَهُ وكَبَّرَ، ثُمَّ كَبَّر وسَجَدَ مِثْلَ سُجودِهِ أو أَطوَل ثم رَفَعَ وَكَبَّرَ. وقال عِمرانُ بن حُصَيْن: ثُمَّ سَلَّم. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلاة العصر فَسَلَّم في الركعتين، فقام"؛ أي: من ذلك الموضع وأتى "إلى خشبة مَعْرُوضة"؛ أي: موضوعة عرضاً. "في المسجد": وقيل: أي مطروحة، من عرضْتُ الخشبة على الإناء؛ أي: طرحتها عليه. "فاتَّكأ عليها كأنه غضبان، ووضع يده اليمنى على اليسرى، وشَبَّكَ بين أصابعه (¬1) "، إن كان لمَدِّ الأصابع والاستراحة، أو لأخذ اليدين على الركبتين ¬

_ (¬1) في "غ": "وشبك الأصابع".

ليتمكَّن من الجلوس، أو لوضع الوجه أو الرأس على الركبتين فغير مكروه، وإن كان للعب فمكروه. "وفي القوم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - فهاباه"؛ أي: خافاه. "أن يكلِّماه"؛ أي: الرسول - عليه الصلاة والسلام - في نقصان صلاته. "وفي القوم رجل وفي يده طول"، يعني: يده كانت أطول من أيد القوم. "يقال له: ذو اليدين": لطول يده، وأسمه خِرْبَاق، من بني سليم، حجازي. "قال"؛ أي: الرجل: "يا رسول الله" - صلى الله عليه وسلم - "أَقُصِرَت الصلاة أم نَسِيْتَ؟ قال - عليه الصلاة والسلام - كلَّ ذلك"؛ أي: كل من القَصْر والنسيان "لم يكن"، وهذا دليل على أنَّ مَنْ ظنَّ أنه فعل شيئاً، فقال: فعلْتُ، أو قال: ما فعلْتُ، وفي ظنه أنه لم يفعل، ثم تبين خلاف ما ظنَّ= لم يأثم؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل ذلك لم يكن) وقد كان السَّهو. "فقال"؛ أي: الرجل: "قد كان بعض ذلك"؛ يعني: قَصَرْتَ الصلاة، ولكن لا ندري قصرتها سهواً، أو أمر الله تعالى بقصرها. "فأقبل" - عليه الصلاة والسلام - "على الناس فقال: أصدق ذو اليدين قالوا: نعم، فتقدَّم فصلَّى ما ترك". تكلموا فيه قال بعضهم: كانت هذه الواقعة قبل تحريم الكلام في الصلاة. وقال بعضهم: كانت بعده ولكن سبب تكلم ذي اليدين لظنه أنه - عليه الصلاة والسلام - قصر الصلاة بأمر الله تعالى، فكانت بمنزلة السهو، وسبب تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ظنَّ أن ذا اليدين غير صادق، فظن أنه أتمَّ الصلاة وخرج منها. وجواب القوم له - صلى الله عليه وسلم - بقولهم: (نعم) لأنهم لم يعلموا أيضاً أنه - عليه الصلاة والسلام - في الصلاة يقيناً، وهذا التأويل أصح.

"ثم سلَّم ثم كبَّر": بعد السلام. "وسجد" للسهو "مثل سجوده" للفرض "أو أطول"؛ أي: لبث مثل لبثه في سجوده الفرض أو أكثر، ثم رفع رأسه وكبَّر، ثم كبَّر وسجد مثل سجوده أو أطول، "ثم رفع رأسه وكَبَّر". "قال عمران بن حصين: ثم سلَّم" بعد سجوده السهو مرة أخرى. 728 - وقال عَبْدُ الله بن بُحَيْنَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ، فقامَ في الرَّكْعَتَيْنِ الأولَيَيْنِ لَمْ يَجْلِس، فَقامَ الناسُ مَعَهُ، حتى إذا قَضى الصَّلاةَ وانْتَظَرَ الناسُ تَسْليمَهُ كَبَّرَ وهُوَ جالِسٌ، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قبل أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ. "وقال عبد الله ابن بُحَيْنَة: إِن النبي - عليه الصلاة والسلام - صلَّى بهم الظهر فقام في الركعتين الأولَيَيْنِ لم يَجْلِسْ"؛ أي: في التشهد الأول. "فقامَ النَّاس معه حتى إذا قضى الصَّلاة وانتظر النَّاس تسليمَهُ كَبَّرَ وهو جالس فسجد سجدتين" للسهو. "قيل أن يسلِّم ثم سلّم": وهذا مذهب الشافعي. مِنَ الحِسَان: 729 - عن عِمرانَ بن حُصَيْنٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِمْ فَسَها، فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ تَشَهَّدَ، ثُمَّ سَلَّمَ. غريب. "من الحسان": " عن عمران بن حصين: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - صلى بهم

20 - باب سجود القرآن

فَسَهَا فسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ ثم تشهَّد ثم سلَّم". "غريب". 730 - عن المُغِيرَةَ بن شُعْبَةَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قامَ الإِمامُ في الرّكْعَتَيْنِ، فَإنْ ذَكَرَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوي قائماً فَلْيَجْلِسْ، وإنْ اسْتَوى قائماً فَلا يَجْلِسْ، وَيَسْجُد سَجْدَتَيْ السَّهْوِ". "عن المغيرة بن شعبة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إذا قام الإمام في الركعتين"؛ أي: ترك التَّشهد الأول. "فإن ذَكَرَ قبل أن يستوي قائماً فليجْلِسْ، وإن استوى قائماً فلا يجلس، وَيَسْجُدُ سجدَتَي السَّهو". 20 - باب سُجود القُرآن (باب سجود القرآن) مِنَ الصِّحَاحِ: 731 - قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سَجَدَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بـ (النجم)، وسَجَدَ مَعَهُ المُسْلِمونَ، والمُشْرِكُونَ، والجِنُّ، والإِنْسُ. "من الصحاح": " قال ابن عباس: سَجَدَ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بالنَّجم"؛ المراد:

(سورة النجم). "وسجد معه المسلمون والمشركون والجنُّ والإنس": قيل: إنه شقَّ على النبي - عليه الصلاة والسلام - تولي قومه عنه وتباعدتهم عما جاء به، فجلس ذات يوم في نَادٍ من أندية قريش وتمنى في نفسه أن يأتيه بما يقارب به بينه وبين قومه لحرصه على إيمانهم، وأن لا يأتيه مما ينفرون عنه. فأنزل الله تعالى (سورة النجم) فقرأها عليهم حتى بلغ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 19 - 20]، ألقى الشيطان على لسانه: (تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهنَّ لترجى)، ففرحت قريش بذلك ومضى - عليه الصلاة والسلام - على قراءته وسجد في آخر السورة، وسجد المسلمون لسجوده، وسجد جميع من كان هناك من المشركين، وتفرقوا مسرورين بما سمعوا منه - عليه الصلاة والسلام - وما رأوه من السجدة. وقالوا: قد ذَكَرَ محمدٌ آلهتنا فأحسَنَ الذِّكر، فنحن نوافقه كما وافقنا في مدح الأصنام، فلمَّا أمسى عليه الصلاة والسلام أتاه جبريل فقال: ما صنعت؟! تلوْتَ على الناس ما لم آتك به عن الله تعالى، وقلْتَ ما لم أقل لك. فحزن - عليه الصلاة والسلام - حزناً شديداً وخاف منه تعالى خوفاً بليغاً، فأنزل الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52]، فقالت قريش: ندم محمد على ما ذَكَر من منزلة آلهتنا عند الله تعالى، فازدادوا شراً إلى ما كانوا عليه (¬1). وأما سجود الجن فلأن منهم مسلمين ومشركين، فوافقوا الرسول - عليه ¬

_ (¬1) قد تكلم في صحة هذه القصة كثير من العلماء، فمنهم من ضعَّفها ومنهم من صحَّح أنَّ لها أصلاً وضعَّف بعض رواياتها. انظر: "تفسير ابن كثير" (3/ 230)، و"لباب النقول" للسيوطي (1/ 138).

الصلاة والسلام - كما وافقه الإنس. 732 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: سَجَدْنَا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} ". "وقال أبو هريرة: سجدنا مع النبي - عليه الصلاة والسلام - في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". 733 - وقال ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: كانَ النبيُّ يَقْرَأُ السَّجَدَةَ ونحنُ عِنْدَهُ، فَيَسْجُدُ ونسْجُدُ معه، فَنَزْدَحِمُ حَتَّى ما يَجِدُ أَحَدُنا لِجَبْهَتِهِ مَوْضعاً يَسْجُدُ عَلَيْهِ. "وقال ابن عمر: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يقرأ السجدة ونحن عنده، فيسجد ونسجد معه، فنزدحم"؛ أي: نجتمع بحيث ضاق المكان علينا. "حتى ما يجد أحدنا لجبهته موضعاً يسجد عليه"، وهذا يدل على تأكيد سجود التلاوة. 734 - وقال زَيد بن ثابتٍ: قَرَأْتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: {وَالنَّجْمِ} فَلَمْ يَسْجُدْ فيها. "وقال زيد بن ثابت: قرأت على النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَالنَّجْمِ} فلم يسجد فيها": ذهب مالك إلى أنه لا سجدة فيها.

قلنا: هذا لا يدل على عدم السجدة فيها أصلاً؛ لاحتمال أنه - عليه الصلاة والسلام - لم يكن على الوضوء في ذلك الوقت، أو سجد في وقت وترك في آخر؛ إعلاماً بالسنة ودفعاً لتوهم الفرض، وأيضاً فالوجوب ليس على الفور. 735 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: سجدة (ص) لَيْسَتْ مَنْ عَزائِمِ السُّجودِ، وقَدْ رَأَيْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَسْجُدُ فيها. "وقال ابن عباس: سجدة {ص} ليست من عَزَائم السجود": جمع عزيمة، وهي عَقْدُ القلب على إمضاء أمرٍ. وفي الاصطلاح: الحكم الثابت بالأصالة كوجوب الصلاة وحرمة الزنا، واستعمالها في الفريضة أكثر منه في السنة. ذهب الشافعي إلى أنه لا سجدة فيها، فمعناه عنده: أنه ليس من سنن سجدات التلاوة، بل هو من سجدة الشكر. وعند أبي حنيفة: هي من جملة سجدات التلاوة، فيؤول عدم العزيمة هنا بعدم الفريضة، بل هي من الواجبات. "وقد رأيت النبي - عليه الصلاة والسلام - يسجد فيها". 736 - وفي روايةٍ: أَنَّهُ قَرَأَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ}، وقالَ: كانَ داوُدُ مِمَّنْ أُمِرَ نَبيُّكُمْ أَنْ يَقْتَديَ بهِ، فَسَجَدَها داودُ، فَسَجَدَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. "وفي رواية: أنه" - صلى الله عليه وسلم - "قرأ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} "؛ أي: هداهم.

" {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} "؛ أي: افعل يا محمد ما فعلوا من تبليغ الرسالة وتحمل الأذى في سبيلي. "وقال"؛ أي: ابن عباس: "كان داود ممَّن أُمِرَ نبيُّكم أن يَقْتَدِيَ به"؛ يعني: أنه من جملة الأنبياء الذين أُمِرَ النبي - عليه الصلاة والسلام - باقتدائهم. "فسجدها داود" شكراً لقَبول توبته. "فسجدها رسول الله" - صلى الله عليه وسلم - عند قراءته موافقة له. مِنَ الحِسَان: 737 - عن عَمْرو بن العاصِ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشرَةَ سَجْدَة: مِنْهَا ثلاثٌ في المُفَصَّلِ، وفي سورَةِ الحَجِّ سجدتان. غريب. "من الحسان": " عن عمرو بن العاص: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - أقرأه"؛ أي: أعلمه. "خَمْسَ عشرة سَجْدة"، هذا مذهب الشافعي، وعندنا في أربعة عشر موضعاً. "منها ثلاث في المفصل": وهي في (وَالنَّجْمِ) و {انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، و {اقْرَأْ} [العلق: 1]. "وفي سورة الحج سجدتين"، هذا على قوله، وعندنا السجدة في أولى (الحج) فقط. "غريب".

738 - عن عُقْبَةَ بن عامرٍ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسولَ الله!، فُضلَتْ سورةُ الحَجِّ بِأَنَّ فيها سَجْدَتَيْنِ؟، قالَ: "نعمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فلا يَقْرَأْهُمَا"، ضعيف. "عن عقبة بن عامر أنه قال: قلت: يا رسول الله! فُضلت" بتقدير الاستفهام "سورة الحج بأن فيها سجدتين"، وفي غيرها سجدة. "قال: نعم، ومن لم يَسْجُدْهما فلا يقرَأْهُما"، وإنما نهى عن القراءة عند عدم السجدة فيهما؛ لأن الإتيان بالسجدة من تمام حقِّ التلاوة، فإن تركها عند التلاوة فالأَوْلى ترك أصل التلاوة، قلنا: الثانية سجدة الصلاة بدلالة اقترانها بالركوع. "ضعيف". 740 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَجَدَ في صَلاةِ الظُّهْرِ، ثُمَّ قامَ فَرَكَعَ، فَرَأَوْا أَنَّهُ قَرَأَ: {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة. "عن ابن عمر: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - سَجَدَ في صلاة الظُّهر ثم قام"؛ أي: من السجدة "فركع"؛ أي: عقيب القيام من السجدة، ولم يقرأ بعدها شيئاً، وإن كانت القراءة جائزة. "فرأوا"؛ أي: علموا. "أنه" - صلى الله عليه وسلم -. "قرأ: {الم (1) تَنْزِيلُ} السجدة": بأن سمعوا بعض قراءته؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان قد يرفع صوته ببعض ما يقرأ به في الصلوات السِّرية ليعلموا سُنِّيَّة قراءة تلك السورة.

739 - عن ابن عُمَر - رضي الله عنهما -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْرَأُ القرآنَ، فإذا مَرَّ بالسَّجْدَةِ كَبَّرَ وسَجَدَ، وسَجَدْنَا مَعَهُ. "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرأ علينا القرآن، فإذا مرَّ بالسجدة كبَّر وسجد وسجدنا معه"، وهذا يدل على أنه لا يكبر إلا للسجود، وبه أخذ أبو حنيفة. وعند الشافعي: يرفع يديه ويكبر للإحرام ثم يكبر للسجود. 741 - وعنه: قال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأَ عامَ الفَتْحِ سجدةً، فَسَجَدَ الناسُ كلُّهُم، منهم الراكبُ والساجدُ على الأرضِ حتى إنَّ الراكبَ يسجد على يَدِهِ. "وعنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قرأ عام الفَتْحِ سجدةً، فسجد الناس كلهم، منهم الراكب والسَّاجد على الأرض، حتى إنَّ الراكب" بكسر إنَّ "لَيَسْجُدُ على يده": وهذا يدل على أنَّ الراكب لو قرأ آية السجدة يسن له السجود، إلا أنه يشير برأسه، ولا يحتاج إلى وضع جبهته على السَّرج وغيره، فلو سجد على يده يصحُّ إذا انحنى عنقه عند أبي حنيفة، ويبطل عند الشافعي. 742 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَسْجُدْ في شَيْءٍ من المُفَصَّل مُنْذُ تَحَوَّلَ إلى المَدينةِ. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يسجد في شيء من المفصَّل منذ تحوَّل إلى المدينة"، وبه أخذ مالك، قلنا: لا يلزم من هذا عدم

سجود التلاوة في المفصَّل؛ لأن كثيراً من الصحابة يرونها فيه، فإذا تعارضا فالإثبات أولى بالقَبول. ولأن أبن عباس يروي في الصحاح: أنه - عليه الصلاة والسلام - سجد بالنِّجم، ولا شك؛ لأن الحديث المروي في الصحاح أقوى من المروي في الحسان. 743 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في سجودِ القُرأَنِ بالليلِ: "سَجَدَ وَجْهِي للذي خَلَقَهُ، وَشَقَّ سَمْعَهُ وبَصَرَهُ بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ"، صحيح، "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في سجود القرآن بالليل: سجد وجهي للذي خَلَقَهُ وشقَّ سَمْعَه وبصره بحَوْلِه وقُوَّته". "صحيح". 744 - وقال ابن عباس: جاءَ رَجُلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله!، رَأَيْتُني اللَّيلةَ وأنا نائِمٌ كأنِّي أُصَلِّي خَلْفَ شَجَرَةٍ، فَسَجَدَتُ، فَسَجَدَتِ الشَّجَرَةُ لِسُجودِي، فَسَمِعْتُها تَقولُ: اللهمَّ اكتبْ لي بها عِنْدَكَ أَجْراً، وضَعْ عَنِّي بها وِزْراً، واجْعَلْها لي عِنْدَكَ ذُخراً، وتَقَبَّلْها مِنِّي كما تَقَبَّلْتَها مِنْ عَبْدِكَ داودَ وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: فَقَرَأَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سجدَة ثُمَّ سَجَدَ، فَسَمِعْتُه وهُوَ يقولُ مِثلَ ما أَخْبَرَهُ الرَّجُلُ عن قَوْلِ الشَّجَرَةِ. غريب. "وقال ابن عباس: جاء رجل"، قيل: هو أبو سعيد الخدري.

21 - باب أوقات النهي عن الصلاة

"إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال: يا رسول الله! رأيتُني الليلة وأنا نائم كأنِّي أصلِّي خَلْفَ شجرة، فسجدْتُ فسجَدَتِ الشَّجرة لسجودي، فسمعتها"؛ أي: الشجرة "تقول: اللهم اكتب لي بها عندك أَجْراً، وضَعْ عنِّي بها وِزْراً، واجعلها لي عندك ذُخْراً، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود"، ويجوز كون القائل مَلَكاً، أو أنَّ الله تعالى خلق فيها نطقاً كما في شجرة موسى - عليه السلام -. "قال ابن عباس: فقرأ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سجدة ثم سجد، فسمعته وهو يقول مِثْلَ ما أخبره الرجل عن قول الشجرة"، وهذا الدعاء مسنون في سجود التلاوة؛ لقراءته - عليه الصلاة والسلام -. "غريب". 21 - باب أَوقات النَّهْي عن الصَّلاة (باب أوقات النهي) مِنَ الصِّحَاحِ: 745 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَتَحَرَّ أَحَدكُمْ فَيُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ولا عِنْدَ غُروبهَا". وفي روايةٍ: "إذا طَلَعَ حاجِبُ الشَّمْسِ فَدَعُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَبْرُزَ، وإذا غابَ حاجِبُ الشَّمسِ فَدَعُوا الصَّلاةَ حَتَّى تَغيبَ، ولا تَحَيَّنُوا بِصَلاتِكُمْ طُلُوعَ الشَّمْسِ ولا غُروبَها، فإنَّها تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطانِ".

"من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول صلى الله تعالى عليه وسلم لا يتحرَّى"؛ أي: لا يطلب ولا يقصد. "أحدكم فيصلي عند طلوع الشمس وعند غروبها"، النفي فيه بمعنى النهي؛ يعني: لا يصلي عند طلوعها وعند غروبها ظناً منه أنه - صلى الله عليه وسلم - قد عمل بما هو الأحرى؛ لأن الكفار يعبدونها عند هذين الوقتين. "وفي رواية: إذا طلع حاجب الشمس": وهو طرف قرصها الذي يبدو أولاً، مستعارٌ من حاجب الوجه. "فدعوا الصلاة"؛ أي: اتركوها. "حتى تبرز"؛ أي: تظهر وتخرج، والمراد: ارتفاعها قَدْرَ رمح. "وإذا غاب حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب"؛ أي: تغرب بالكلية. "ولا تَحَيَّنوا بصلاتكم"؛ أي: لا تجعلوا وقتاً للصلاة. "طلوع الشمس ولا غروبها، فإنها تطلع بين قَرْنَي الشيطان": قرناه جانبا رأسه؛ لأنه ينتصب قائماً في وجه الشمس عند الطلوع ليكون شروقها بين قرنيه، فيكون قبلة لمن يسجد الشمس من عُبَّاد الأوثان، فنهى - عليه الصلاة والسلام - عن الصلاة في ذلك لئلا يتشبه بهم في العبادة. 746 - وقال عُقْبَهُ بن عامِرٍ - رضي الله عنه -: ثلاثُ ساعاتٍ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَانَا أنْ نُصَلِّي فيهِنَّ، وأَنْ نَقْبُرَ فيهِنَّ مَوْتانا: حينَ تَطْلعُ الشَّمْسُ بازِغَةً حتى تَرْتَفِعَ، وَحِينَ يقومُ قائِمُ الظَّهِيرَةِ حتى تميلَ الشَّمسُ، وحينَ تَضَيَّفُ الشمسُ

للغُروبِ حتى تَغْرُبَ. "وقال عقبة بن عامر: ثلاثُ ساعاتٍ كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ينهانا أن نصلِّي فيهنَّ، وأن نَقْبُرَ"؛ أي: ندفن فيهنَّ موتانا، المراد منه: صلاة الجنازة؛ لأن الدفن فيهنَّ غير مكروه. ذهب الأكثرون إلى كراهة صلاة الجنازة في هذه الساعات، وكان الشافعي يرى جوازها أيَّ ساعة شاء من ليل أو نهار. "حين تطلع الشمس بازغة"؛ أي: ظاهرة بظهور تمام قرصها من المشرق. "حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظَّهيرة"؛ أي: قيام الشمس وقت الزوال، (الظهيرة): نصف النهار. مِنْ (قام) بمعنى وقف، ووقت الظَّهيرة تكون الشمس واقفة عن السير تثبت في كبد السماء لحظة ثم يسير، وقيل: يراها الناس واقفة، وهي في الحقيقة غير واقفة، لكق لا يظهر سيرها ظهوره قبل الزوال وبعده. أو مِنْ (قام) بمعنى اعتدل؛ أي: حين تستوي الشمس وتصل إلى خط نصف النهار. "حتى تميل الشمس" إلى الجانب الغربي من السماء. "وحين تضَيَّف الشمس"؛ أي: تميل. "للغروب حتى تغرب". والحديث بإطلاقه حجة على الشافعي في تخصيص الفرائض. 747 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صَلاَةَ بَعْدَ الصُّبْحِ حَتَّى تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ، ولا صَلاَةَ بَعْدَ العَصْرِ حَتَّى تَغيبَ الشَّمسُ".

"وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس"، قيل: هذا النهي لمن صلَّى الفريضة. 748 - وقال عَمْرُو بن عَبَسَةَ: قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَدينَةَ، فَقَدِمْتُ المَدِيِنَةَ، فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فقلتُ: أَخْبرْني عَنْ الصَّلاةِ؟، فقالَ: "صَلِّ صَلاَةَ الصُّبْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عَن الصَّلاةِ حين تَطلُعَ الشمسُ حتَّى تَرْتَفِعَ، فإنَّها تَطْلُعُ حِينَ تَطْلُعُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيْطان، وحينئذٍ يَسْجُدُ لها الكُفَّارُ، ثُمَّ صَلِّ، فإنَّ الصلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضورَةٌ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الظِّلُّ بالرُّمْحِ، ثُمَّ أَقْصِرْ عنْ الصَّلاةِ، فإنَّهُ حِينَئذٍ تُسْجَرُ جَهَنَّمُ، فإذا أَقْبَلَ الفَيْءُ فَصَلِّ "فإنَّ الصلاةَ مَشْهُودَةٌ مَحْضُورَةٌ حَتَّى نُصَلِّي العَصْرَ، ثُمَّ أقْصِرْ عَنِ الصَّلاةِ حَتَّى تَغْرُبَ الشَّمْسُ، فإنَّها تَغْرُبُ بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّيطانِ، وحينئذٍ يَسْجُدُ لها الكُفَّارُ"، قلتُ: يا نَبِيَّ الله!، فَالوُضُوءُ، حَدِّثْنِي عَنْهُ، قالَ: "مَا مِنْكُمْ رَجُلٌ يُقَرِّبُ وَضُوءَهُ فَيَتَمَضْمَضُ، ويَسْتَنْشِقُ فَيَنْتَثِرُ إلاَّ خَرَّتْ خَطايا وَجْهِهِ وفيهِ وخَياشِيمِهِ مع الماءِ، ثمَّ إذا غسَلَ وَجْهَهُ كما أَمَرَهُ الله إلَّا خَرَّتْ خَطايا وَجْهِهِ مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ مَعَ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَيْهِ إلى المِرْفَقَيْنِ إلاَّ خَرَّتْ خَطايا يَدَيْهِ مِنْ أَنامِلِهِ مَعْ الماءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ إلاَّ خَرَّتْ خطايا رأسِهِ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ مَعْ الماءِ، ثُمَّ يَغْسِلُ قَدَمَيْهِ إلى الكعبيْنِ إلاَّ خرَّتْ خَطايا رِجلَيْهِ مِنْ أَنَامِلِهِ مَعْ الماءِ، فإن هُوَ قامَ فَصَلَّى، فَحَمِدَ الله وأَثْنَى عَلَيْهِ وَمَجَّدَهُ بالذي هُوَ لَهُ أَهْلٌ، وفَرَّغَ قَلْبَهُ للهِ تعالى إلا انْصَرَفَ مِنْ خَطِيئَتِهِ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ". "وقال عمرو بن عَبَسَة: قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينةَ، فقدمْتُ المدينة، فدخلْتُ عليه فقلْتُ: أخبرني عن الصَّلاة"؛ أي: عن أوقاتها؛ أي: في أي وقت أفعلها.

"فقال" - صلى الله عليه وسلم -: "صلِّ صلاة الصبح، ثم أَقْصِرْ عن الصلاة"؛ أي: اتركها وامتنع عنها. "حتى تطلع الشمس حتى ترتفع؛ فإنها تطلع حين تطلع بين قَرْنَي الشيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار، ثم صَلِّ"؛ أي: صلاة الضُّحى؛ "فإن الصلاة مَشْهُودة مَحْضُورة" تفسير للمشهودة وتأكيد لها؛ أي: يشهدها الملائكة ويحضرونها. وفي رواية: (مشهودة مكتوبة)؛ أي: تكتب الملائكة أجرها لمصليها، وهذا بيان لفضيلة صلاة الضحى. "حتى يستقلَّ"؛ أي: يرتفع. "الظِّلُّ بالرُّمح"؛ أي: بارتفاع الرمح من الاستقلال، بمعنى الارتفاع؛ يعني: لم يبْقَ ظل الرمح، وهذا بمكة والمدينة وحواليهما في أطول يوم في السنة، فإنه لا يبقى عند الزوال ظل على وجه الأرض بل يرتفع عنها، ثم إذا مالَت الشمس من جانب المشرق إلى المغرب - وهو أول وقت الظهر - يقع الظل على الأرض. واختصاص (الرمح) بالذِّكْر؛ لأن العرب كانوا غالباً يسكنون البوادي ويسافرون، فإذا أرادوا أن يعلموا نصف النهار رَكَزُوا رماحهم في الأرض، ثم نظروا إلى ظلِّها. وقيل: من القِلَّة، يقال: استقلَّه: إذا رآه قليلاً؛ أي: حتى يقِلَّ الظِّل الكائن بالرمح أدنى غاية القِلَّة والنقص، وهو المسمى بظلِّ الزوال. "ثم أقصر عن الصلاة فإنه حينئذٍ تُسْجَرُ جهنم"؛ أي: تملأ نيراناً وتوقد، ولعل تسجيرها حينئذٍ لمقارنة الشيطان الشمس، وتهيئة عُبَّاد الشمس أن يسجدوا لها.

"وإذا أقبل الفَيْءُ"؛ أي: رجع بعد ذهابه من وجه الأرض "فَصَلِّ" فهذا وقت الظهر. "فإن الصلاة مَشْهُودة مَحْضُورة حتى تصلِّي العصر"؛ أي: فرض العصر. "ثم أقصر عن الصلاة حتى تغرُبَ الشمس؛ فإنها تغرب بين قرْنَي الشَّيطان، وحينئذٍ يسجد لها الكفار، قلت: يا نبي الله! فالوضوء؟ حدثني عنه"؛ أي: أخبرني عن الوضوء؛ يعني عن فضله. "قال: ما منكم رجل يُقَرِّب وَضوءه" بفتح الواو؛ أي: ماء وضوءه. "فيتمضمض ويستنشق فينتثر إلا خَرَّت"؛ أي: سقطت، ويروى بالجيم؛ أي: جَرَتْ. "خطايا وجهه وفِيْهِ"؛ أي: فمه. "وخَيَاشِيمه": جمع خيشوم، وهو باطن الأنف. "مع الماء، ثم إذا غسل وجهه كما أمره الله تعالى إلا خَرَّتْ خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلا خرَّت خطايا يديه من أَنامِلِهِ مع الماء، ثم يمسح رأسه إلا خرَّت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلا خَرَّت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإن هو قام"؛ أي: من الوضوء. "فصلَّى، فحمد الله": تعالى. "وأثنى عليه"؛ يعني ذكر الله في الصلاة كثيراً. "ومجَّده بالذي هو له أهل": ضمير (هو) عائد إلى الموصول، وضمير (له) عائد إلى (الله) تعالى. "وفرَّغَ قلبَه لله"؛ أي: جعله حاضراً خالياً عن الأشغال الدنيوية.

"إلا انصرف من خطيئته كهيئتة يَوْمَ وَلَدَتْهُ أمه". 749 - وعن كَرِيبٍ - رضي الله عنه -: أنَّ أبن عَبَّاسٍ، والمِسْوَرَ بن مَخْرَمَةَ، وعَبْدَ الرَّحْمنِ بن أَزْهَر - رضي الله عنه - أرْسَلُوهُ إلى عائِشَةَ - رضي الله عنها -، فقالوا له: اقْرَأْ عليها السلامَ، وَسَلْهَا عَنْ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ العَصْرِ؟، قالَ: فَدَخَلْتُ على عائشةَ، فَبَلَّغْتُهَا ما أَرْسَلُوني [بِهِ]، فقالَتْ: سَلْ أُمَّ سَلَمَةَ، فَخَرَجْتُ إلَيْهِمْ، فَرَدُّونِي إلى أُمِّ سَلَمَةَ، فقالَت أُمُّ سَلَمَةَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عَنْهُمَا ثُمَّ رأَيْتُهُ يُصَلِّيهِما، ثُمَّ دَخَلَ، فَأَرْسَلْتُ إلَيْهِ الجاريَةَ، فَقُلْتُ: قولي له: تقولُ أُمُّ سَلَمَةَ، يا رسولَ الله!، سَمِعْتُك تَنْهى عَنْ هَاتَيْنِ، فأَرَاكَ تُصَلِّيهِمَا؟، قال: "يا بنتَ أبي أُمَيَّةَ!، سألتِ عَن الرَّكْعَتَيْنِ بعْدَ العَصْرِ، وإنَّهُ أَتَاني ناسٌ مِنْ عَبْدِ القَيْسِ، فَشَغَلُوني عَنْ الرَّكعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ بَعْدَ الظُّهْرِ، فُهُما هاتانِ". "عن كُرَيْب: أن ابن عباس والمِسْوَر بن مَخْرَمَة وعبد الرحمن بن الأزهر أرسلوه"؛ أي: كُرَيْباً. "إلى عائشة فقالوا: اقرأ عليها السَّلام وسلْها عن الركعتين بعد العصر"؛ أي: عن الركعتين اللتين يصليها النبي - عليه الصلاة والسلام - بعد صلاة العصر، وقد نهى عن الصلاة بعدها. "قال"؛ أي: كُريْبٌ: "فدخلت على عائشة - رضي الله عنها - فبلغتها ما أرسلوني، فقالت: سَلْ أمَّ سَلَمَة فخرجْتُ إليهم فردُّوني إلى أمِّ سَلَمَة، فقالَتْ أمُّ سَلَمَة: سمعْتُ النبي - عليه الصلاة والسلام - ينهى عنهما"؛ أي: الركعتين بعد العصر. "ثمَّ رأيتُهُ يصلِّيهما، ثم دخل"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام -. "فأرسلْتُ إليه الجارية فقلت: قولي له: تقول أمُّ سَلَمَة: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

سمعتُكَ تنهى عن هاتين [الركعتين] وأراك تصلِّيهما، قال: يا ابنة أبي أميَّة! سألْتِ عن الركعتين بعد العصر، وإنه أتاني ناس من عَبْدِ القَيْس فشغلوني عن الرَّكعتيق اللَّتين بعد الظهر، فهما هاتان"؛ أي: الركعتان اللَّتان صليتهما بعد العصر هما ركعتا الظهر. وهذا يدل على أن قضاء السُّنة سنة، وبه أخذ الشافعي، وقال أبو حنيفة: كل سنة لها وقت معلوم لا تُقضى إذا فاتَتْ. مِنَ الحِسَان: 750 - عن قَيْسِ بن قَهْدٍ - رضي الله عنه - قال: رآني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأنا أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الصُّبْحِ، فقالَ: "ما هاتانِ الرَّكْعَتانِ؟ "، فَقُلْتُ: إنِّي لَمْ أَكُنْ صَلَّيْتُ رَكْعَتَيْ الفَجْرِ، فَسَكَتَ عَنْهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. غير متصل. "من الحسان": " عن قيس بن قَهْدٍ أنه قال: رآني النبي - صلى الله عليه وسلم - وأنا أصلّي الركعتين"؛ أي: سنة الفجر. "بعد الصُّبح"؛ أي: بعد فرض الصبح. "فقال: ما هاتان الركعتان؟ فقلت: إني لم أكن صلَّيت ركعتي الفجر، فسكَتَ عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسكوته - صلى الله عليه وسلم - يدلُّ على جواز [قضاء] سنة الصبح بعد فرضه لمن لم يصلِّها قبله، وبه قال الشافعي. "غير متصل".

751 - عن جُبَيْر بن مُطْعَمٍ: - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا بني عَبْدِ مَنافٍ!، مَنْ وَلِيَ مِنْكُمْ مِنْ أَمْرِ النَّاسِ شَيْئاً فلا يَمْنَعَنَّ أَحَداً طافَ بِهذا البَيْتِ وصَلَّى أَيَّ ساعَةٍ شاءَ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهارٍ". "عن جبير بن مطعم: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: يا بني عَبْدِ مَنَاف! مَنْ وَلِيَ منكم من أمر الناس شيئاً"؛ أي: جُعِل أميراً أو حاكماً على المسلمين. "فلا يمنعنَّ أحداً طاف بهذا البيت وصلى أيَّ ساعة شاء من ليل ونهار"، وهذا يدلُّ على أن صلاة التَّطوع والطَّواف في أوقات الكراهية غير مكروهة بمكة لشرفها، وبه قال الشافعي. وعند أبي حنيفة: تكره الصلاة فيها في أوقات الكراهة كسائر البلاد. والظاهر أنَّ المراد بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "وصلى أي ساعة شاء": في الأوقات غير المكروهة توفيقاً بين النصوص. 752 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ الصَّلاةِ نِصْفَ النَّهارِ حَتَّى تَزولَ الشَّمْسُ إلاَّ يَوْمَ الجُمُعَةِ. "وعن أبي هريرة: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن الصلاة نِصْفَ النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة" مستثنى عن الكراهة، يدل على أنَّ صلاة النفل نصف نهار يوم الجمعة غير مكروهة، وبه قال الشافعي، وعند أبي حنيفة مكروهة.

22 - باب الجماعة وفضلها

753 - وعن أبي قَتادَةَ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه كَرِهَ الصَّلاةَ نِصْفَ النَّهارِ إلا يوم الجمعة، وقال: "إنَّ جهنم تُسجَر إلا يوم الجمُعة"، وهذا غير متصل. "وعن أبي قَتادة عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه كره الصَّلاة نِصْفَ النهار إلا يوم الجمعة، وقال: إنَّ جهنم تُسجَّر إلا يوم الجمعة، وهذا غير متصل"؛ أي: إسناده. 22 - باب الجَماعة وفَضْلِها (باب الجماعة وفضلها) مِنَ الصِّحَاحِ: 754 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صَلاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلاةَ الفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً". "من الصحاح": " عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صلاة الجماعة تَفْضُلُ"؛ أي: تزيد في الثَّواب على "صلاة الفَذِّ"؛ أي: صلاة المنفرد. "بسبع وعشرين درجة"، وفي رواية أبي هريرة: (بخمس وعشرين جزءاً). قيل: في الفرق بين الدرجة والجزء: أن الدرجة أنقص منه فكأن الخمسة والعشرين جزءاً إذا جُزِّيَتْ درجات سبعاً وعشرين درجة، وفيه دليل على صحة صلاة المنفرد.

755 - قال: "وَالذي نَفْسي بِيَدِهِ!، لقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ بالصَّلاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلاً فَيؤمُّ النَّاسَ، ثُمَّ أخالِفُ إلى رِجالٍ لا يَشْهَدُونَ الصَّلاةَ فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيوتَهُمْ، والَّذِي نَفْسي بِيَدِهِ!، لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ أنَّهُ يَجدُ عِرْقاً سَميناً، أَوْ مِرْماتَيْنِ حَسَنتَيْنِ لَشَهِدَ العِشاء". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والذي نفسي بيده لقد هَمَمْتُ"؛ أي: قَصَدْتُ. "أن آمر بحطب يُحْتَطَب"؛ أي: بجمع الحطب، يقال: حَطَبْتُ: إذا جمعته. "ثم آمر بالصلاة فيؤذَّن لها، ثم أمر رجلاً فيؤمُّ الناس، ثم أُخَالِفُ إلى رجال"؛ أي: آتيهم من خَلْفِهم، أو أخالف ما أظهرت من إقامة الصلاة وأرجع إليهم، فآخذهم على غفلة. "لا يشهدون الصلاة"؛ أي: لا يحضرونها من غير عذر. "فأحرِّق عليهم بيوتهم": قيل هذا يحتمل إن يكون عاماً في حق جميع الناس، وقيل المراد به: المنافقون في زمانه - صلى الله عليه وسلم -. "والذي نفسي بيده! لو يعلَمُ أحدُهُمْ أنه يجد عَرْقاً سميناً" بفتح العين وسكون الراء: مصدر، عَرَقْتُ العظم: إذا أكلت وأخذت أكثر ما عليه من اللحم، وعمفه بالسمين؛ لأنه يجوز أن ينزع عنه أكثر اللحم وهو يكون في نفسه سميناً. "أو مرماتين حسنتين"، (المرماة) بكسر الميم وفتحها: السهم الذي يُرمى به في السبق، وإنما وصفهما بـ (الحسنتين) ليكون مُشْعِراً ببقاء محل الرغبة فيهما؛ يعني: لو يعلم أحدهم أنه إذا حضر صلاة العشاء يجد شيئاً من هذين الشيئين مع حقارتهما.

"لشهد العشاء": يريد أنه يسعى إلى الشيء الحقير في ظلمة الليل، ولا يسعى إليها ليجد نعيم الآخرة، وإنما خصَّ شهادة العشاء من بين سائر الصلوات لزيادة ما في شهادتها من الفضيلة. 756 - وقالَ أبو هريرة - رضي الله عنه -: أَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ أعْمَى فقالَ: يا رسول الله!، إنَّهُ لَيْسَ لي قائِدٌ يَقُودُنِي إلى المَسْجِدِ، فسَأَلَ أَنْ يُرَخِّصَ لَهُ فَيُصَلِّيَ في بَيْتِهِ، فَرَخَّصَ لَهُ، فَلَمَّا وَلَّى دَعاهُ فقالَ: "هَلْ تَسْمَعُ النِّداءَ بالصَّلاةِ؟ "، قالَ: نعم، قالَ: "فَأَجِبْ". "وقال أبو هريرة: أتى النبي - عليه الصلاة والسلام - رجل أعمى"؛ أي: هو ابن أم مكتوم، واسمه عمرو، وقيل: عبد الله. "فقال: يا رسول الله! إنه ليس لي قائدٌ يقودُني إلى المسجد، فسَأَلَ أن يرخِّص له فيصلِّي في بيته فرخَّص له، فلما ولَّى"؛ أي: رجع. "دعاه فقال: هل تسمع النِّداء بالصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب"؛ أي: فأتِ الجماعة، استدلَّ بهذا الحديث أبو ثور على وجوب حضور الجماعة. وقال بعض الشافعية: هي فرض على الكفاية، والأصح أنها سنة مؤكدة، وعليه الأكثرون وإنما لم يرخِّص عليه الصلاة والسلام لابن أم مكتوم مع عدم وجدانه قائداً؛ لعلمه - عليه الصلاة والسلام - بقدرته على الحضور بلا قائد، أو للتأكيد في أمر الجماعة. 757 - وقال ابن عُمَرَ: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَأْمُرُ المُؤَذِّنَ إذا كَانَتْ ليلةٌ ذاتُ

بَرْدٍ وَمَطَرٍ يقولُ: أَلا صَلُّوا في الرِّحالِ. "وقال ابن عمر: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمر المؤذِّن إذا كانت ليلةً ذات بَرْدٍ ومَطَرٍ يقول: ألا صَلُّوا في الرِّحال"؛ أي: في بيوتكم ومنازلكم للعذر. 758 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وُضعَ عَشاءُ أَحَدِكُمْ وَأُقِيمَتْ الصَّلاةُ؛ فَابْدَؤا بالعَشاءَ، ولا يَعْجَل حتى يَفْرُغُ مِنْهُ". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا وضع عَشاء أحدكم" بفتح العين: ما يُؤكل بعد الزَّوال. "وأُقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعَشاء"؛ أي: بأكله. "ولا يَعْجَل"؛ أي: إلى الصلاة. "حتى يَفْرُغُ منه"؛ أي: من العَشَاء، وهذا إذا غلبه جوع يمنع حضور القلب، بشرط أن لا يفوت وقت الصلاة. 759 - وعن عائشة أنها قالت: قال: "لا صلاةَ بِحَضْرَةِ طَعامٍ، وَلاَ وَهُوَ يُدافعُهُ الأَخْبَثانِ". "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا صلاة بحَضْرَةِ طَعَام"، المراد منه: نفي فضيلة الصلاة بحضرة الطعام الذي يريد المصلي أكله لما فيه من اشتغال القلب.

"ولا هو يدافعه الأخبثان"؛ أي: لا صلاة كاملةً حالة مدافعة الأخبثين، وهما البول والغائط. 760 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُقيمتْ الصَّلاةُ فلا صَلاةَ إلاَّ المَكْتُوبَة". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أقيمت الصلاة"؛ أي: نادى المؤذِّن بالإقامة، وفيه إقامة المسبب مقام السبب. "فلا صلاة إلا المكتوبة"؛ أي: المفروضة؛ أي: لا يجوز الاشتغال بالسنة بل يجب موافقة الإمام في الفريضة، وإليه ذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة وأصحابه: سنة الفجر مخصوصة عن هذا بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "صلُّوهما وإن طردتكم الخيل"، فقلنا: نصلِّي سنة الفجر إذا لم يُخْشَ من فوات الركعة الثانية، ونتركها حين يُخْشى عملاً بالدليلين. 761 - وعن ابن عمر أنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اسْتَأْذَنَتْ امْرَأَةُ أَحَدِكُمْ إلى المَسْجِدِ فَلا يَمْنَعْها". "وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا استأذَنَتْ امرأة أحدكم"؛ أي: زوجته. "إلى المسجد فلا يمنعنها"، هذا يدلُّ على جواز خروجهنَّ إلى المسجد للصلاة، ولكن في زماننا مكروه للفتنة.

762 - وعق زينب الثَّقَفية أنها قالت: قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا شَهِدَتْ إحْدَاكُنَّ المَسْجِدَ فَلاَ تَمَسَّ طِيباً". "عن زينب الثَّقفية أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا شهدت إحداكنَّ المسجد"؛ أي: أرادت حضور المسجد. "فلا تمسَّ طيباً"؛ لأنه سبب للفتنة. 763 - وقال: "أيُّما امْرأةٍ أصابَتْ بَخوراً فَلا تَشْهَدْ مَعَنَا العِشَاءَ الآخِرَةَ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيُّما امرأة أصابت بَخوراً": بفتح الباء: ما يُتَبَخَّرُ به؛ أي: يتعطر. "فلا تشهد معنا العشاء الآخرة (¬1)؛ أي: لا تحضرها، خصَّ العشاء الآخرة لأنها وقت انتشار الظلمة فتخلوا الطرقات عن الناس، ويستولي الشيطان بوسوسة المنكرات، ويتمكَّن الفجار من قضاء الأوطار، بخلاف النهار؛ فإنه واضح فاضح، وقيَّد العشاء بـ (الآخرة) ليخرج المغرب. مِنَ الحِسَان: 764 - عن ابن عُمَر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تَمْنَعُوا نِسَاءَكم ¬

_ (¬1) في "م" و"ت": "الأخيرة".

المَساجِدَ، وبُيوتُهُنَّ خَيْرٌ لَهُنَّ". "من الحسان": " عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تمنعوا نسائكم المساجد وبيوتُهُنَّ خيرٌ لهنَّ"، هذا يدل على أن صلاة المرأة في بيتها فريضة كانت أو نفلاً أفضل. 765 - قال: "صَلاةُ المَرْأَةِ في بَيْتِهَا أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهَا في حُجْرَتِهَا، وصَلاتُها في مَخْدَعِها أَفْضَلُ مِنْ صَلاتِهَا في بَيْتِهَا". "وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حُجْرَتها": أراد بـ (الحجرة): ما يكون أبواب البيوت إليها وهي أدنى حالاً في الستر من البيت. "وصلاتها في مُخْدَعها" بضم الميم وفتح الدال: هو المخزن، وهو أخفى من مواضع البيت. "أفضل من صلاتها في بيتها"؛ لأنه أستر من البيت. 766 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقْبَلُ لاِمْرَأَةٍ صَلاةٌ تَطَيَّبَتْ لِهذا المَسْجِدِ حَتَّى تَرْجعَ فَتَغْتَسِلَ غُسْلَها مِنَ الجَنَابَةِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُقْبلُ لامرأةٍ صلاةٌ" قَبولاً كاملاً.

"تطيَّبت لهذا المسجد": إشارة إلى جنس المساجد لا إلى مسجد مخصوص. "حتى ترجع فتغتسل غُسْلَها"؛ أي: كغسلها. "من الجنابة"؛ ليزول عنها ذلك، هذا إذا طَيَّبَتْ جميع بدنها، وإن طَيَّبَتْ ثيابها تبدِّلها أو تزيل الطّيب عنها، وهذا مبالغة في الزَّجر لأن ذلك يهيج الرغبات ويفتح باب الفتن. * * * 767 - وعن أبي موسى الأَشْعَرِيِّ، عَنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُّ عَيْنٍ زانِيَةٌ، فَالمَرْأَةُ إذا اسْتَعْطَرَتْ فَمَرَّتْ بِالمَجْلِسِ فَهِيَ كَذَا وكذا"، يعني: زانية. "وعن أبي موسى الأشعري عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال: كلُّ عينٍ زانية، فالمرأة إذا اسْتَعْطَرَتْ فمرَّت بالمجلس فهي كذا وكذا؛ يعني: زانية"؛ لكونها سبب زنا أعين الرجال بالنظر إليها، لأنها شَوَّشَتْ قلوبهم، وهيَّجَتْ شهوتهم بعطرها، وحملتهم به إلى النظر إليها. وفيه تشديد ومبالغة في منع النسوة عن خروجهن عن بيوتهنَّ إذا تعطرن، وإلا فبعض الأعين قد عصمها الله تعالى عن الزنا بالنظر إليهنَّ. * * * 768 - عن أُبَي بن كَعْبٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ صلاةَ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ أَزْكى مِنْ صلاتِهِ وَحْدَهُ، وصلاتُهُ مَعَ الرَّجُلَيْنِ أَزْكى مِنْ صلاتِهِ مَعَ الرَّجُلِ، وما كَثُرَ فهو أَحَبُّ إلى الله".

"وعن أبي بن كعب - رضي الله عنه -: أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن صلاة الرَّجُل مع الرَّجُل أزكى"؛ أي: أكثر ثوابًا وأنمى، أو أطهر من وساوس الشيطان. "من صلاته وحده، وصلاتُهُ مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل، وما كَثُرَ"، (ما) هذه موصولة، والضمير عائد إليها، وهي عبارة عن الصلاة؛ أي: الصلاة التي كثر المصلُّون فيها. "فهو أحبُّ إلى الله تعالى"، وتذكير (هو) باعتبار لفظ (ما). * * * 769 - عن أبي الدَّرْداء قالَ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا مِنْ ثَلَاثَةٍ في قَرْيَةٍ ولا بَدْوٍ لا تُقامُ فِيهِمْ الصَّلاةُ إلَّا قَدْ اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمْ الشَّيْطانُ، فَعَلَيْكَ بالجماعَةِ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ الذِّئْبُ القاصِيَةَ". "عن أبي الدرداء أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من ثلاثة في قرية ولا بَدْوٍ"؛ أي: بادية. "لا تُقَامُ فيهم الصلاة" مع الجماعة "إلا قد استَحْوَذَ"؛ أي: استولى وغَلَبَ. "عليهم الشيطان"؛ لأن ترك أمر الجماعة بغير عذرٍ؛ متابعةً للشيطان. "فعليك بالجماعة"؛ أي: الزمها؛ فإن الشيطان بعيد عن الجماعة، ويستولي على من فارقها. "فإنما يأكل الذِّئب القاصية"؛ أي: الشاة المنفردة البعيدة عن قطيعها لبعدها

عن عين راعيها، فإن عين الراعي تحمي الغنم المجتمعة. * * * 770 - عن ابن عباس - صلى الله عليه وسلم -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَنْ سَمعَ المُنادي فَلَمْ يَمْنَعْهُ من اتِّباعِهِ عُذْرٌ"، قالوا: وما العُذْرُ؟، قال: "خَوْفٌ، أَوْ مَرَضٌ؛ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الصَّلاةُ التي صَلَّاها". "وعن ابن عباس أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ سمع المنادي"؛ أي: المؤذِّن؛ يعني: سمع نداءه. "فلم يمنعه" فيه حذفٌ اعتمادًا على المعنى؛ أي: لم يتبعه ولم يمنعه. "من اتباعه عُذْرٌ، قالوا: وما العذر؟ قال: خَوْفٌ"؛ أي: خوف ظلمة، أو خوف غريم وكان مفلسًا. "أو مرض لم تقبَلْ منه الصَّلاة التي صلاها"؛ أي: قبولًا كاملًا. * * * 771 - وقال: "إِذَا أُقِيمَتْ الصَّلاةُ وَوَجَدَ أَحَدُكُمْ الغائِطَ فَلْيَبْدَأْ بالغائِطِ". "وعن عبد الله بن أرقم - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أُقيمَتِ الصَّلاة وَوَجَدَ أحدكم الغائِطَ فليبدَأْ بالغائط"؛ أي: بإزالته، فيجوز له ترك الجماعة لهذا العذر. * * * 772 - وقال: "ثَلاثٌ لا يَحِلُّ لِأحَدٍ أَنْ يَفْعَلَهُنَّ: لا يَؤُمَّ رَجُلٌ قَوْمًا فَيَخُصُّ نَفْسَهُ بالدُّعاءِ دُونَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ فَقَدْ خَانَهُمْ، ولَا يَنْظُرْ في قَعْرِ بَيْتٍ

قَبْلَ أَنْ يَسْتَأذِنَ، فَإنْ فَعَلَ فَقَدْ دَخَلَ، ولَا يُصَلِّي وَهُوَ حاقنٌ حَتَّى يَتَخَفَّفَ". "عن ثَوبان أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ثلاثٌ لا يَحِلُّ لأحدٍ أنَّ يفعلهنَّ: لا يؤُمُّ رجلٌ قومًا فيخصُّ نفسَهُ بالدّعاء دونَهُم، فإن فعل ذلك فقد خَانَهُمْ، ولا ينظُرُ في قَعْرِ بَيْتٍ قبل أنَّ يستأذن"، احتراز عن أنَّ يقع نظره على عورات المسلمين. "فإن فعل فقد دخل"؛ أي: فكأنه فد دخل من غير إذْنٍ في حصول الإثم؛ لأن الاطلاع على العورة قد حصل به كما بغير الإذن. "ولا يصلِّي وهو حَقِنٌ"؛ أي: يؤذيه البول والغائط. "حتى يتخفَّف"؛ أي: حتى يزول ما يؤذيه منهما. * * * 773 - عن جَعْفَر بن محمد، عن أبيه - رضي الله عنهما -، عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَا تَؤَخِّروا الصَّلاة لِطعامٍ ولا لِغَيْرِهِ". "عن جعفر بن محمد عن أبيه، عن جابر، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا تُؤَخِّروا الصلاة لطعام ولا لغيره". يحمل هذا على ما إذا كان متماسكًا في نفسه لا يزعجه الجوع، أو كان الوقت ضيقًا يخاف فوته؛ توفيقًا بين هذا وبين قوله - عليه الصلاة والسلام -: "إذا وضع عشاء أحدكم. . . " الحديث. * * *

23 - باب تسوية الصف

23 - باب تَسْوية الصَّفِّ (باب تسوية الصفوف) مِنَ الصِّحَاحِ: 774 - عن نُعمان بن بَشيرٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفوفَنا حَتَّى كَأَنَّما يُسَوِّي القِدَاحَ، فَرَأَى رَجُلًا بادِيًا صَدْرُهُ مِنَ الصَّفِ، فقال: "عِبادَ الله!، لَتُسَوُّنَّ صُفوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ الله بَيْنَ وُجوهكم". "من الصحاح": " عن النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسوِّي صفوفنا حتى كأنما يسوِّي القِدَاح": جمع القِدْح - بالكسر - وهو السَّهم قبل أنَّ يُرَاش ويُركَبُ نَصْلُهُ، وهذا لأن القدح لا يصلح لما عمل له إلا بعد الانتهاء إلى الغاية في الاستواء، وإنما جمع مع الغنية عنه بالمفرد نظرًا للصفوف؛ أي: يسوِّي كل صفٍّ على حدته، كما يسوِّي الصانع كل قدح على حدة. "فرأى رجلًا باديًا"؛ أي: خارجًا عنه. "صدره من الصَّفِّ": الأول. "فقال: عبادَ الله" بحذف حرف النداء. "لتسوُّنَّ صفوفكم أو ليخالفَنَّ الله بين وجوهكم"؛ المراد به؛ وجوه القلوب؛ فإن اختلاف القلوب قد يفضي بهم إلى اختلاف الوجوه، وإعراض بعضهم عن بعض؛ إذ الظاهر عنوان الباطن، فمخالفة الظاهر وأمر الشرع قد يؤدِّي إلى كُدُورة وعداوة فيما بينهم.

وقيل: معناه يحوِّل الوجوه إلى القفاء، فيكون محمولًا على التهديد، أو تغيير صورها إلى صورٍ أخرى. * * * 775 - وقال: "أَقِيمُوا صُفوفَكُمْ وتَرَاصُّوا، فإنِّي أَراكُم مِنْ وَراءِ ظَهْرِي". وفي روايةٍ: "أَتِمُّوا الصُّفوفَ". "عن أنس - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أقيموا"؛ أي: سَوُّوا وأتمُّوا. "صفوفكم وتراصُّوا"؛ أي: تلاصقوا حتى لا يكون بينكم فُرَج. "فإني أراكم من وراء ظَهْرِي": وهذا لأن الله تعالى قادر أنَّ يريه - عليه الصلاة والسلام - وراءه كما يريه قدامه. "وفي رواية: أتمُّوا الصُّفوف". * * * 776 - وقال: "سَوُّوا صُفوفَكُمْ فَإنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفوفِ مِن إقامَةِ الصَّلاةِ". وفي روايةٍ: "مِن تَمامِ الصَّلاةِ". "وعنه عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّه قال: سَوُّوا صُفوفَكُمْ فإن تَسْوِيَةِ الصُّفوف من إقامة الصلاة"؛ أي: من إتمامها وإكمالها. "وفي رواية: من تمام الصلاة". * * * 777 - وقالَ أبو مَسْعودٍ الأَنِصارِي - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَمْسَحُ مَناكبنا في

الصَّلاةِ، ويَقولُ: "اسْتَوُوا، وَلَا تَخْتَلِفوا فَتَخْتَلِفَ قُلوبُكُم". "وقال أبو مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -: كان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - يمسح مناكِبنا في الصَّلاة"؛ أي: يضع يده على أعطافنا حتى لا نتقدم ولا نتأخر في الصف. "ويقول: اسْتَوُوا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم"؛ أي: هواها. * * * 778 - عن أبي مَسْعودٍ الأنصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِيَلِني مِنْكُمْ أُولو الأَحْلَامِ والنُّهى، ثُمَّ الذينَ يَلونَهُم، ثم الذين يلونهم - ثلاثًا - وَإيَّاكُمْ وَهَيْشاتِ الأَسْواقِ". "عن عبد الله بن مسعود أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لِيَلِني" بكسر اللام وتخفيف النون من غير ياء قبلها، ويجوز إثبات الياء مع فتحها أو تشديد النون؛ أي: ليقرب مني. "منكم أُولو الأَحْلام": جمع الحُلُم - بضم الحاء - وهو البلوغ، وقيل: بكسر الحاء، بمعنى: الرقار. "والنُّهى" بضم النون: جمع نُهْيَة، وهو العقل الناهي عن القبائح، وإنما أمره - عليه الصلاة والسلام - بأن يليه أولو الأحلام والنُّهى ليعقلوا عنه صلاته، ويخلفوه في الإمامة إن حدث به عارض. "ثم الذين يلونهم"؛ أي: يقربهم في الحلم والنُّهَى. "ثلاثًا"؛ أي: قالها ثلاثًا، فيه بيان ترتيب الصفوف في الصلاة على سبيل التلويح. "وإياكم وهيشات الأسواق": من التَّهوش، وهو الاختلاط؛ أي:

لا تختلطوا اختلاط الأسواق، فلا يتميز العالم عن الجاهل، ولا الذكور عن الإناث، والمراد: التحذير عن الصلاة في الأسواق، وفي المواضع التي تمنع الحضور من كَثْرَة الأصوات. * * * 779 - وعن أبي سَعيدٍ الخُدْرِي - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رَأَى في أَصْحَابهِ تأَخُّرًا، فقالَ لَهُمْ: "تَقَدَّمُوا وائْتَمُّوا بي، وَلْيَأتَمَّ بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، لا يَزالُ قَوْمٌ يَتَأَخَّرونَ حَتَّى يُؤَخِّرَهُمْ الله". "وعن أبي سعيد الخدري: أنَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأى في أصحابه تأخُّرًا فقال لهم تقدَّموا وائتمُّوا بي"؛ أي: اصنعوا كما أصنع. وليأتم بكم مَنْ بَعْدَكُمْ"كما تصنعون، فإن الصفَّ الثَّاني يقتدون بالصف الأول ظاهرًا لا حكمًا. أو معناه: تعلَّموا مني الصلاة وغيرها من أحكام الشرع، وليتعلَّم التابعون منكم، وهكذا ليتعلم قَرْنٌ من قَرْنٍ إلى انقراض الدنيا. "لا يزال قوم يتأخرون"؛ أي: عن الخيرات. "حتى يؤخِّرهم الله"؛ أي: في دخول الجنة. * * * 780 - وقال جَابرُ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه -: خَرَجَ عَلَيْنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَرَآنَا حِلَقًا، فقالَ: "مَا لي أَرَاكُم عِزينَ؟ "، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فقالَ: "أَلَا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائِكَةُ عِنْدَ رَبها؟ "، فَقُلْنَا: يا رَسولَ الله!، كَيفَ تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِنْدَ رَبهَا؟، قالَ: "يُتِمُّونَ الصُّفوفَ الأُولى، ويَتَرَاصُّونَ في الصَّفِّ".

"وقال جابر بن سَمُرَة: خرج علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرآنا حلقًا" بالفتح: جمع حَلْقة على غير قياس، كذا قاله الجوهري. وقال الأصمعي: بكسر الحاء وفتح اللام، كقَصْعَة وقصَع، وهو الظاهر؛ أي: رآنا - عليه الصلاة والسلام - جلوسًا حلقة حلقة:، كل حلقة في ناحية من المسجد. "فقال ما لي أراكم عِزين": نصب على الحال، جمع عِزَة، وهي الفرقة من الناس؛ أي: ما لي أراكم متفرقين. "ثم خرج علينا فقال: ألا تصفُّون كما تصفُّ الملائكة عند ربها؟ فقلنا: يا رسول الله! وكيف تصفُّ الملائكة عند ربها؛ قال: يتمُّون الصفوف الأولى"؛ أي: لا يخلون من الصفوف المتقدمة شيئًا أبتر. "ويتراصُّون في الصفِّ"؛ أي: يتلاصقون بحيث تتصل مناكبهم. * * * 781 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ صُفوفِ الرِّجالِ أَوَّلُها، وشَرُّهَا آخِرُها، وخَيْرُ صُفوفِ النِّساءَ آخِرُها، وشَرُّها أَوَّلُها". "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خيرُ صُفوف الرِّجال أوَّلُها، وشرُّها آخرُها" المراد بالخيرية: كثرة الثواب، فإن الصفَّ الأول أعلم بحال الإمام، فتكون متابعته أكثر وثوابه أوفر. "وخير الصفوف النساء آخرها، وشرُّها أوَّلها"؛ لأن مرتبة النِّساء متأخرة عن مرتبة الذكور؛ فيكون آخر الصفوف أليق بمرتبتهنَّ. * * *

مِنَ الحِسَان: 782 - قال: "رُصُّوا صُفوفَكُمْ، وَقَارِبُوا بَيْنَها، وحاذُوا بالأَعْنَاقِ، فَوالذي نَفْسي بِيَدِهِ، إنِّي لأَرَى الشَّيْطانَ يَدْخُلُ مِنْ خَلَلِ الصَّفِّ كَأَنَّها الحَذَفُ". "من الحسان": " عن أنس - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رُصُّوا صفوفَكُم"؛ أي: ضُمُّوا مناكِبَكُم بعضها إلى بعض. "وقاربوا بينها": بحيث لا يسع بين كل صفين صفًا آخر. "وحاذوا بالأعناق"؛ أي: لتكن أعناقكم بعضها محاذية لبعض. "فوالذي نفسي بيده! إني لأرى الشَّيطان يدخل من خَلَلِ الصَّفِّ"؛ أي: من الفُرْجَة التي بين الشخصين في الصفِّ. "كأنها"؛ أي: الشيطان، وأنَّث باعتبار الخبر وهو: "الحَذَف" بفتح الذال المعجمة: غنم سُوْدٌ صغار من غنم الحجاز، سُمِّيت حَذَفًا؛ لأنها محذوفة عن مقدار الكبار من نوعها. وقيل: إنما أنَّثَ لأن اللام فيه للجنس، فيكون في المعنى جمعًا، أو بتأويل النفس. * * * 783 - وقال: "أَتِمُّوا الصَّفَّ المُقَدَّمَ، ثُمَّ الَّذي يَليهِ، فما كانَ مِنْ نَقْصٍ فَلْيَكُنْ في الصَّفِّ الآخِر". "وعن أنس أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أتمُّوا الصفَّ المقدَّم، ثم الَّذي يليه"؛ أي: الصفَّ الَّذي بعده.

"فما كان من نَقْصٍ فليكن في الصفِّ المؤَخَّر". * * * 784 - وقال: "إنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى الذينَ يَلونَ الصُّفوفَ الأُولى، وَمَا مِنْ خُطْوَةٍ أَحَبُّ إلى الله مِنْ خُطْوَةٍ تَمْشيها تَصِلُ بها صَفًا". "وقال بَرَاء بن عازب: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله وملائكته يصلون على الذين يَلون الصفوف الأُولى"؛ أي: يقربون من الصفِّ الأول. "وما من خُطْوة أحب"، قيل بالنصب؛ لأنه خبر (ما). "إلى الله، تعالى "من خطوة تمشيها": صفة (خطوة)، وكذا "تصل بها صفًا". * * * 785 - ويُرْوى: "إِنَّ الله وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيامِنِ الصُّفوفِ". "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله وملائكته يصلُّون على مَيَامِنِ الصُّفوف": يدل على شرف يمين الصفِّ كما ذُكِرَ في التفسير: إن الله ينزل الرحمة أولًا على يمين الإمام إلى آخر اليمين ثم اليسار إلى آخره. * * * 786 - وقال النُّعمانُ بن بَشِير - رضي الله عنه -: كانَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسَوِّي صُفوفَنا إذا قُمْنَا إلى الصَّلاةِ، فَإذا اسْتَوينَا كبَّرَ.

"وقال النعمان بن بَشير: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسوِّي صُفوفَنَا إذا قُمْنَا إلى الصَّلاة فإذا استوَيْنَا كَبَّرَ"، يدل على أنَّ السُّنة للإمام أنَّ يسوِّي الصفوف ثم يكبر. * * * 787 - وروي: أنَّه كانَ يقولُ عَنْ يَمينِهِ: "اعْتَدِلُوا، سَوُّوا صُفوفَكُمْ"، وعَنْ يَسارِهِ: "اعْتَدِلُوا، سَوُّوا صُفوفَكُمْ". "وروي أنَّه كان يقول عن يمينه: اعتدلوا"؛ أيَ: استقيموا. "سَوُّوا صفوفكم، وعن يساره: اعتدلوا سَوُّوا صفوفكم". * * * 788 - وقال: "خِيارُكم أليَنُكُم مَناكِبَ في الصَّلاةِ". "وعن ابن عباس أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خيارُكُمْ أَلْيَنُكُمْ مَنَاكِبَ": نصب على التمييز، ومعنى (لين المنكب): لزوم السكينة والخشوع. "في الصلاة" بحيث لا يلتفت ولا يحكُّ منكبه منكب صاحبه. وقيل: أراد به أنَّ لا يمنع من أراد الدُّخول في الصفِّ لسدِّ الخَلَل أو ضيق المكان، بل يمكنه من ذلك، ولا يدفعه بمنكبه؛ لتتراصَّ الصفوف، وتتكاثف الجموع، وهذا المعنى أليق من الأول. * * *

24 - باب الموقف

24 - باب المَوْقِفِ (باب الموقف) مِنَ الصِّحَاحِ: 789 - قال عبدُ الله بن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: بِتُّ في بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ رضي الله عنها، فقامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصَلِّي، فَقُمْتُ عَنْ يسارِهِ، فَأَخَذَ بِيَدي مِنْ وَراءِ ظَهْرِهِ، فَعَدَلَنِي كَذلِكَ مِنْ وَراءِ ظَهْرِهِ إلى الشّقِّ الأَيْمَنِ. "من الصحاح": " قال عبد الله بن عباس: بِتُّ في بيت خالتي مَيْمُونَة فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلِّي، فَقُمْتُ عن يساره، فأَخَذَ بِيَدي مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ فَعَدلَني" في بعض النسخ بالتشديد، وفي بعضها بالتخفيف؛ أي: أمالني وصرفني. "كذلك": الكاف: صفة مصدر محذوف؛ أي: عدلني عدولًا مثل ذلك، والمشار إليه هي الحالة المُشبَهة بها، التي صوَّرها ابن عباس - رضي الله عنهما - بيده عند التحدث. "من وراء ظهره إلى الشق الأيمن": وهذا يدل على أنَّ الرجل الواحد يقف عن يمين الإمام، وعلى جواز العمل اليسير في الصلاة، وامتناع تقدُّم المأموم على الإمام في الموقف لإدارته - عليه الصلاة والسلام - من ورائه. * * * 790 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِيُصَلِّي، فجئْتُ، حَتَّى قُمْتُ عَنْ يَسَارِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخَذ بِيَدي، فَأَدَارَنِي خَلْفَهُ حتَّى أقامَني عَنْ يَمينِهِ، ثم جاء جَبَّارُ بن صَخْرٍ، فَقَامَ عن يَسارِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخَذَ بيَدَيْنا جَميعًا فَدَفَعَنَا

حَتَّى أقامَنَا خَلْفَهُ. "وقال جابر - رضي الله عنه -: قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليصلِّي فجئْتُ حتى قُمْتُ عن يساره، فأخذ بيدي فأدَارَنِي خلفه" أي: أخذني بيده اليمنى من وراء ظهره فدوَّرني. "حتى أقامني عن يمينه، ثم جاء جَبَّار بن صَخْرٍ فقام عن يسار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأخذ بيدينا جميعًا فَدَفَعَنَا"؛ أي: أخَّرَنَا. "حتى أقامنا خَلْفَه": وهذا يدل على أنَّ الرَّجلين يقومان خلف الإمام بالصفِّ كالجماعة. * * * 791 - وقال أَنسٌ: صَلَّيْتُ أَنَا وَيَتِيمٌ في بَيْتِنا خَلْفَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأُمُّ سُلَيْمٍ خلفنا. وقال أنس - رضي الله عنه -: صليت أنا ويتيم"، وهو أخوه، وهذا اسم علم له. "في بيتنا خلف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأمُّ سُليم": هي أمُّ أنس. "خَلْفَنا"، وهذا يدلُّ على تقديم الرجال على النِّساء في الموقف، وأن الصبيَّ يقف مع الرجال. * * * 792 - وعن أَنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى بِهِ وَبأُمِّهِ - أَوْ خَالَتِهِ - قالَ: فَأَقَامني عَنْ يمينِهِ، وَأَقَامَ المَرْأَةَ خَلْفَنا. "وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلَّى به"؛ أي:

بأنس "وبأمِّه أو خالته": شكٌّ من الراوي. "قال: فأقامني عن يمينه، وأقام المرأة خَلْفَنَا". * * * 793 - عن أبي بَكْرَةَ: أنَّهُ انتُهَى إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَهُوَ راكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أنْ يَصِلَ إلى الصَّفِّ، ثُمَّ مَشى إلى الصَّفِّ، فَذكِر ذلِكَ لِلنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "زادَكَ الله حِرْصًا ولا تَعُدْ". "عن أبي بكرة - رضي الله عنه - أنَّه انتهى"؛ أي: وصل. "إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو راكع فركع"؛ أي: نوى وكبَّر ركع. "قبل أنَّ يَصِلَ إلى الصَّفِّ"؛ ليدرك النبي - عليه الصلاة والسلام - في الركوع، فإن من أدرك الركوع فقد أدرك تلك الركعة. "ثم مشى إلى الصف، فَذَكَرَ ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: زادك الله حِرْصًا ولا تَعُد": من العَوْدِ؛ أي: لا تَعُدْ إلى الفعل الَّذي فعلْتَ من الاقتداء والركوع قبل أنَّ تصل [إلى] الصف. وقيل: من الإعادة؛ أي: لا تُعِدْ الصَّلاة التي صليتها، وقيل بضم الدال، من العَدْو؛ أي: لا تسرع في المشي إلى الصلاة بل ليكن عليك السكون والوقار في المشي حتى تصل إلى الصف، فإن مَنْ قصد الصلاة فهو فيها في وجدان الثواب. * * * 794 - عن سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ - رضي الله عنه -، قالَ: أَمَرَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا كُنَّا ثَلَاثةً

أنْ يَتَقَدَّمنَا أَحَدُنا. "من الحسان": " عن سَمُرَة بن جندب أنَّه قال: أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا كنا ثلاثة أنَّ يتقدَّمنا أحدنا"؛ أي: يكون أحدنا إماما، وكذا لو كان اثنين فيؤمُّ أحدهما الآخر. * * * 795 - ورُوِيَ عن عَمَّار: أَنَّهُ قامَ عَلَى دُكَّانٍ يُصلِّي والنَّاسُ أَسْفَلَ مِنْهُ، فتقَدَّمَ حُذَيْفَةُ فَأَخَذَ على يَدَيْهِ، فَاتَّبَعَهُ عَمَّار حَتَّى أَنْزَلَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ عَمَّار مِنْ صَلاتِهِ قالَ لَهُ حُذَيْفَةُ: أَلَمْ تَسْمَعْ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذَا أَمَّ الرَّجُلُ القَوْمَ فلا يَقِفُ في مقامٍ أَرْفَعَ مِنْ مقامِهِم" - أو نحو ذلك -؟ قالَ عمَّار: لِذلِكَ اتَّبَعْتُكَ. "وروي عن عَمَّار: أنَّه قام على دُكَّانٍ يصلي، والنَّاسُ أسفل منه، فتقدَّم حذيفةُ فأخَذَ على يديه"؛ أي: جَرَّ عمارًا من خلفه. "فاتَّبَعَهُ عمَّارُ حتى أنزَلَهُ"؛ أي: من الدُّكَّان. "فلما فَرَغَ"؛ أي: عمار. "من صلاته، قال له حذيفة: ألم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أمَّ الرجلُ القومَ فلا يقف في مَقَامٍ أرفَعَ من مقامهم، أو نحو ذلك، قال عمَّار: لذلك"؛ أي: لأجل سماع هذا النهي. "اتَّبَعْتُكَ" في النزول. وهذا يدل على كراهة كون موضع الإمام أعلى من موضع المأمومين، لكنَّ هذه الكراهة إنما تكون لو كان موضعه أعلى من أهل الصفِّ الَّذي خلفه، لا من موضع أهل جميع الصفوف. * * *

796 - وقد صَحَّ عن سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ أنَّه سُئِلَ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ المِنْبَرَ؟، قالَ: هُوَ مِنْ أَثْلِ الغابَةِ، عَمِلَهُ فلانٌ مَوْلَى فُلانةَ، وقامَ عليهِ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وَكَبَّرَ، وقامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ، وَرَكَعْ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرى، فَسَجَدَ على الأرضِ، ثُمَّ عادَ إلى المِنْبَرِ، ثُمَّ قَرَأَ ثم ركع ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرى حتَّى سَجَدَ بالأَرْضِ، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ على النَّاسِ فقال: "إنَّما صَنَعْتُ هذا لِتَأْتَمُّوا بي، وَلِتَعْلَمُوا صَلاتي". "وقد صَحَّ عن سهل بن سَعْدِ السَّاعدي أنَّه سُئِل: من أيِّ شيء المنبر؟ "، اللام فيه للعهد، إذ السؤال عن منبره - عليه الصلاة والسلام -. "فقال: هو من أَثْل الغابة": (الأَثْل) بفتح الهمزة وسكون الثاء: شجر يشبه الطَّرْفاء إلا أنَّه أعظم منها، و (الغابة): اسم موضع على تسعة أميال من المدينة. "عمله فلان": قيل: اسمه باقوم الرومي. "مولى فلانة": قيل: اسمها عائشة امرأة من الأنصار، وقيل: امرأة من المدينة لم يعرِفْ نسبَهَا أصحابُ الحديث، روي: أنَّ هذا المنبر كان له ثلاث درجات متقاربة؛ يتيسَّر النزول منه بخطوة أو خطوتين. "وقام عليه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - فاستقبل القبلة وكبَّر، وقام الناس خلفه، فقرأ وركع، وركع الناس خلفه، ثم رجع القهقرى"؛ أي: مشى إلى خلف ظهره من غير أنَّ يعيد وجهه إلى جهة مشيه. "فسجد على الأرض، ثم عاد إلى المنبر، ثم قرأ، ثم ركع، ثم رفع رأسه، ثم رجع القهقري حتى سجد بالأرض"، إنما فعل - عليه الصلاة والسلام - ذلك ليبرز للناس فيأخذ منه القريب والبعيد. "فلمَّا فرغ أقبل على الناس فقال: إنما صنعت هذا لتأتمُّوا"؛ أي: لتقتدوا

25 - باب الإمامة

"بي ولتعلموا صلاتي". وهذا يدل على أنَّ الإمام إذا أراد تعليم القوم الصلاة جَاز أن يكون موضعه أعلى من موضع المأمومين. * * * 797 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حُجْرَتِهِ والنَّاسُ يَأتَمُّونَ بِهِ مِنْ وَرَاءِ الحُجْرَةِ. "عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: صلَّى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حجرته": والمراد من الحجرة: المكان الَّذي اتخذه في المسجد من حصير؛ ليعتكف فيه، والمراد بالصلاة: قيامه في ليالي رمضان. "والناس يأتمون به من وراء الحجرة": فإذا كان الإمام والمأموم في المسجد، فلا بأسَ باختلاف مواضعهم. * * * 25 - باب الإِمامةِ (باب الإمامة) مِنَ الصِّحَاحِ: 798 - عن أبِي مَسْعودٍ الأَنْصَارِيِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَؤُمُّ القَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ الله تعالى، فَإنْ كانوُا في القِراءَةِ سَواءً فَأَعْلَمُهُمْ بالسُّنَّةِ، فَإنْ كَانوُا في السُّنَّةِ سَواءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرةً، فَإنْ كانُوا في الهِجْرَةِ سَواءً فَأَقْدَمُهُمْ سِنًّا، وَلَا يَؤمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ في سُلْطانِهِ - ويُرْوَى: في أَهْلِهِ - ولا يَقْعَدْ في بَيْتِهِ

على تَكْرِمَتِهِ إِلَّا بِإذْنِهِ". هو مصدر (أمَّ القوم في صلاتهم). "من الصحاح": " عن أبي مسعود الأنصاري أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يؤم القوم أقرأهم"؛ أي: أحسنهم قراءة. "لكتاب الله تعالى، فإن كانوا في القراءة سواء: فأعلمُهم بالسنة": أراد بها الأحاديث، فالأعلم بها من كان هو الأفقه في عهد الصحابة. استدل به من قال: إن القراءة مقدمة على الفقه كسفيان الثوري وأحمد، وبه عمل أبو يوسف، وخالفه صاحباه، وقالا: الأفقه أولى إذا كان يعلم من القراءة قدر ما تجوز به الصلاة؛ لأن الحاجة في الصلاة إلى الفقه الأكثر. وإليه ذهب مالك والشافعي، وأجابوا عن الحديث بأن الأقرأ في ذلك الزمان كان أعلم بأحوال الصلاة: ولا كذلك في زماننا. "فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة"؛ أي: انتقالًا من مكة إلى المدينة قبل الفتح، فمن هاجر أولًا فشرفُهُ أكثر ممن هاجر بعده. قيل: بقي ذلك الشرف في أولادهم؛ فولد من هاجر أولًا أولى بالإمامة من ولد من هاجر بعده، والمعتبر اليوم الهجرة المعنوية عن المعاصي قال - عليه الصلاة والسلام "المهاجر من هاجر عن ما نهى الله"، فيكون الأورع أولى. "فإن كانوا في الهجرة سواء، فأقدمهم"؛ أي أكبرهم "سنًا": وإنما جعل الأسن أقدم؛ لأن في تقديمه تكثير الجماعة. "ولا يؤمنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه"؛ أي: في محل حكمه وولايته، أراد به في الجمعات والأعياد.

"ويروى: في أهله" أراد به: أنَّ صاحب البيت أولى بالإمامة من الأضياف إذا كان عالمًا بما تصحُّ به الصلاة. "ولا يقعد في بيته على تكرمته"؛ أي: على موضع أُعِدَّ له بوضع وسادة يتكئ عليها، أو بإلقاء ما يجلس عليه. "إلا بإذنه": يتعلق بجميع ما قبله. * * * 799 - وقال "وإِذَا كَانُوا ثَلَاثَةً فَلْيَؤُمَّهُمْ أَحَدُهُمْ، وَأَحَقُّهُمْ بالإِمامَةِ أَقْرَؤُهُمْ". "عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم، وأحقهم بالإمامة أقرؤهم". * * * 800 - وقال: "إِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ فَلْيُؤَذَنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكثَرُكُمْ قُرْآنًا". "عن مالك بن الحُويرثِ أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا حضرت الصلاة فليؤذنْ لكم أحدكم، وليؤمكم أكثركم قرآنًا". * * * مِنَ الحِسَان: 801 - قال أبو ذَرٍّ: "لِيُؤَذَنْ لَكُمْ خِيارُكُم، وَلْيَؤُمَّكُمْ قُرَّاؤُكُمْ".

"من الحسان": " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليؤذنْ لكم خياركم"؛ أي: مَنْ هو أكثر صلاحًا وعدالة؛ لأنه يرتفع مكانًا عاليًا مشرفًا على العورات. "وليؤمكم قراؤكم". * * * 803 - عن مالك بن الحُوَيرِثِ قال: قالَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ زَارَ قَوْمًا فلا يَؤُمَّهُمْ، وَلْيَؤُمَّهُمْ رَجُلٌ مِنْهُمْ". "وعن مالك بن الحويرث: أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من زار قومًا فلا يؤمهم، وليؤمهم رجلٌ منهم"؛ أي: من القوم؛ يعني: صاحب البيت أولى بالإمامة من أضيافه. * * * 802 - وقال أَنسٌ - رضي الله عنه -: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَخْلَفَ ابن أُمِّ مَكْتُومٍ يَؤُمُّ النَّاسَ وَهُوَ أَعْمَى. "قال أنس: إن النبي - عليه الصلاة والسلام - استخلف ابن أم مكتوم"؛ أي: أقامه - عليه الصلاة والسلام - مقامَ نفسه في المسجد في المدينة حين خرج إلى الغزو. "يؤمُّ الناس وهو أعمى": وقد جاء في بعض الروايات: أنَّه - عليه الصلاة والسلام - استخلفه في ثلاث عشرة غزوة من غزواته، وهذا يدل على جواز إمامة الأعمى، والكراهة إنما هي إذا كان في القوم سليمٌ أعلم منه أو مساوٍ له علمًا. * * *

804 - قال أبو أُمامَةَ - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ثَلَاثة لا تُجاوِزُ صَلاتُهُم آذانُهُمْ: العَبْدُ الآبقُ حَتَّى يَرْجِعَ، وامْرَأةٌ باتَتْ وَزَوْجُها عليها ساخِطٌ، وإمامُ قَوْمٍ وهُمْ لَهُ كارِهون"، غريب. "وعن أبي أمامة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ثلاثة لا تجاوز صلاتُهم آذانهَم": جمع الأذن، وهي: الجارحة؛ أي: لا تقبل قبولًا كاملًا، أو لا ترفع عن آذانهم فتظلهم، كما يظل العمل الصالح صاحبه يوم القيامة. "العبد الآبق حتى يرجع، وامرأة باتت وزوجها عليها ساخطٌ"؛ لسوء خلقها وسوء أدبها وقلة طاعتها، أما لو كان سخط زوجها من غير جُرمٍ، فلا إثمَ عليها. "وإمام قوم وهم له كارهون"؛ لبدعته، أو فسقه، أو جهله، أما إذا كان بينه وبينهم كراهة أو عداوة بسبب شيء دنيوي لا يكون له هذا الحكم، وقيل: المراد به أئمة الظلمة، أو من ليس من أهل الإمامة، فيتغلَّب عليها. "غريب". * * * 805 - وقال: "ثلاثةٌ لا تُقْبَلُ مِنْهُمُ صلاةٌ: مَنْ تَقَدَّمَ قَوْمًا وَهُمْ لَهُ كارِهُونَ، وَرَجُلٌ أتى الصَّلاةَ دِبارًا - والدِّبارُ أَنْ يَأتِيهَا بَعْدَ أَنْ تَفُوتَهُ - ورَجُلٌ اعْتبَدَ مُحَرَّرَهُ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ثلاثةٌ لا تُقبَل منهم صلاة": المراد نفي كمال الصلاة. "من تقدم قومًا"؛ أي: أمَّهم، "وهم له كارهون، ورجل أتى الصلاة

دِبارًا": نصب على المصدر؛ أي: إتيانَ دبارٍ، وقيل: جمع دَبر، وهو: آخر أوقات الشيء. "والدِّبارُ: أنَّ يأتيها بعد أنَّ تفوته"، ويتخذ ذلك عادة. "ورجل اعتبدَ مُحرَّرَةً": تأنيثه بالحمل على التسمية؛ ليتناول العبيد والإماء؛ أي: اتخذ النفس المعتقة عبدًا بكتمان إعتاقه إياه، وباستخدامه كرهًا بعد العتق، أو معناه: اتخذ حرّ الأصل عبدًا بادعائه، فيستملكه. * * * 806 - وقال: "إنَّ مِنْ أشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَتَدَافَعَ أَهْلُ المَسْجدِ لا يَجِدُونَ إمامًا يُصَلِّي بِهِمْ". "عن سلامة بنت الحر الفزاري أخت خرشة بن (¬1) الحر الفزاري أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أشراط الساعة"؛ أي: من علاماتها. "أنَّ يتدافعَ أهل المسجد"؛ أي: يدفع كل واحد عن نفسه الإمامة معترفًا بأنه ليس أهلًا لها، أو يدفع بعضهم بعضًا إلى المسجد أو المحراب؛ ليؤم بالجماعة، فيأبى عنها؛ لعلمه بعدم صلاحيته لها؛ لعدم علمه بها. "لا يجدون إمامًا يصلي بهم"؛ يعني: يترك الناس تعلم ما تصحُّ به الصلاة وما يفسدها حتى لا يوجد في جمع كثير مَنْ هو يعلم الإمامة. * * * 807 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجِهادُ واجِبٌ عَلَيْكُمْ مَعَ كُلِّ أَميرٍ بَرًّا أَوْ فَاجِرًا، والصَّلاةُ واجِبَةٌ عَلَيْكُمْ خَلْفَ كُل مُسْلِم بَرًّا كَانَ ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "بنت"، والتصويب من "سنن أبي داود" (581).

26 - باب ما على الإمام

أَو فاجِرًا، وإنْ عَمِلَ الكَبائِرَ، والصَّلاةُ وَاجِبَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا وإن عَمِلَ الكبائِرَ". "عن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الجهاد واجب عليكم مع كل أميرٍ برًا كان أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر"؛ يعني: طاعة السلطان واجبة على الرعية سواء كان ظالمًا أو عادلًا ما لم يَأمرْ بمعصية. "والصلاة واجبة عليكم خلف كلِّ مسلم برًا كان أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر"؛ أي: جائز اقتداءُكم خلفه؛ لورود الوجوب بمعنى: الجواز؛ لاشتراكهما في جانب الإتيان بهما، وهذا يدل على جواز الصلاة خلف الفاسق، وكذا المبتدع إذا لم يكن ما يقول كفرًا، والحديثُ حجةٌ على مالك في عدم إجازته إمامة الفاسق. "والصلاة واجبة على كل مسلم برًا كان أو فاجرًا، وإن عمل الكبائر": وهذا يدل على أنَّ من ارتكب الكبائر لا يخرج عن الإسلام، وأنها لا تحبط العمل الصالح. * * * 26 - باب ما علَى الإِمامِ (باب ما على الإمام من تخفيف الصلاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 808 - قال أنس - رضي الله عنه -: ما صليتُ وراءَ إمامٍ قطُّ أخفَّ صلاةً ولا أَتَمَّ من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنْ كانَ ليَسمعُ بكاءَ الصبيِّ فيُخففُ مخافةَ أن تُفتَنَ أمُّه.

"من الصحاح": " قال أنس - رضي الله عنه -: ما صليت وراء إمام قط أخفَّ صلاةً ولا أتمَّ من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم": تخفيفُها عبارة عن عدم تطويل قراءتها والاقتصار على قراءة أوساط المفصل أو قصاره، وعن ترك الدعوات الطويلة المأثورة، وتمامُها إتيان جميع أركانها وسننها. "وإن كان ليسمعُ بكاء الصبي": (إن) هذه مخففة من المثقلة، ولذلك دخلت على فعل المبتدأ، ولزمتها اللامُ فارقةً بينها وبين النافية والشرطية. "فيخفف"؛ أي: صلاته. "مَخافة": بفتح الميم؛ أي: خوفًا. "أنَّ تفتن أمه": المراد بالافتتان هنا: الحزن والتشويش؛ أي: يشوش قلبها ببكاء ولدها، ويزول ذوقها وحضورها. * * * 809 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأدخلُ في الصلاةِ وأنا أُريدُ إطالَتها، فأَسمعُ بكاءَ الصَّبيِّ، فأَتَجوَّز في صلاتي مما أعلمُ من شِدَّةِ وَجْدِ أُمِّهِ من بكائه". "عن أبي قتادة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاءَ الصبي، فأتجوز في صلاتي"؛ أي: أخففها وأختصرها، كأنه يجاوز عما قصد فعله لولا بكاء الصبي، وقيل: أترخَّص وآتي بما تجوز به الصلاة. "مما أعلم من شدة وجدِ أمه"؛ أي: حزن أمه "من بكائه". * * *

810 - وقال: "إِذا صلَّى أحدكم للناسِ فليُخَفِّف، فإنْ فيهم السَّقيمَ، والضَّعيفَ، والكبيرَ"، وقال: "وإِذا صلَّى أحدكم لنفْسِه فليطوِّل ما شاءَ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا صلى أحدكم للناس، فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف والكبير، وإذا صلى لنفسه، فليطول ما شاء": معناه ظاهر. * * * 811 - عن قَيْس بن أبي حازِم قال: أخبرني أبو مَسْعود - رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا قال: والله يا رسولَ الله، إني لأتأخَّرُ عن صلاةِ الغَداةِ من أجلِ فلانٍ مما يُطيلُ بنا، فما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظةٍ أشدَّ غضَبًا منه يومئذٍ، ثم قال: "إنَّ منكم مُنَفِّرين، فأَيُّكم ما صلى بالناسِ فليتجوَّز، فإنَّ فيهم الضعيفَ والكبيرَ وذا الحاجةِ". "عن قيس بن أبي حازم قال: أخبرني أبو مسعود: أنَّ رجلًا قال: والله يا رسول الله! إني لأتأخر عن صلاة الغداة"، أي: ما أجيءُ الجماعة. "من أجل فلان؛ مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في موعظة أشد غضبًا منه يومئذٍ، ثم قال: إن منكم منفرين"، أي: للناس من الصلاة بالجماعة؛ لتطويلكم الصلاة. "فأيكم ما صلى": (ما) موصولة، معناه: "أيُّكم أيَّ شيء صلَّى "بالناس" من الصلاة، "فليتجوز؛ فإن فيهم الضعيف والكبير وذا الحاجة"، وقيل: (ما) زائدة. * * *

27 - باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق

812 - وقال: "يُصَلُّونَ لكم، فإن أَصابوا فلكم ولهم، وَاِن أخطؤوا فلكم وعليهم". "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يصلون": خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أئمتكم يصلون. "لكم"؛ وأنتم تقتدون وتتابعون بهم. "فإن أصابوا": بأن أتوا بجميع ما كان عليهم من الأركان والشرائط، "فلكم ولهم"؛ أي: حصل الأجر لكم ولهم. "وأن أخطؤوا": وإن أخلُّوا ببعض ذلك عمدًا، "فلكم"؛ أي: الأجر، وقيل: أي: تصحُّ الصلاة لكم إذا لم تعلموا ذلك. "وعليهم"؛ أي: الوزر؛ لأنهم ضمناء. * * * 27 - باب ما على المَأْموم مِنَ المُتابعة وحُكْم المَسْبُوق (باب ما على المأموم من المتابعة وحكم المسبوق) مِنَ الصِّحَاحِ: 813 - قال البَرَاءُ بن عازِبٍ - رضي الله عنه -: كُنَّا نصلي خلفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فإذا قال: "سمعَ الله لمنْ حمده"، لم يَحْنِ منا أحدٌ ظهْرَهُ حتى يضعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جبهتَه على الأرضِ. "من الصحاح": " قال البراء بن عازب: كنا نصلي خلف النبي - عليه الصلاة والسلام -

فإذا قال: سمع الله لمن حمده، لم يحنِ أحد منا ظهره"؛ أي: لم يثنِهِ من القومة قاصدًا للسجود. "حتى يضع النبي - عليه الصلاة والسلام - جبهته على الأرض": فيه دليل على أنَّ السنة في حق المأموم أنَّ يكون فعله بعد فعل الإمام في أفعال الصلاة، لا مقارنًا له. * * * 814 - وقال أنس - رضي الله عنه -: صلى بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ، فلما قَضى أَقْبَلَ علينا بوجهِهِ فقال: "أَيُّها النَّاس، إني إمامُكم، فلا تَسبقوني بالركوعِ ولا بالسجودِ ولا بالقيامِ ولا بالانصرافِ، فإني أَراكم أَمامي ومِنْ خلْفي". "قال أنس - رضي الله عنه -: صلى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذات يوم، فلما قضى صلاته، أقبل علينا بوجهه فقال: أيها الناس! إني إمامكم فلا تسبقوني بالركوع، ولا بالسجود، ولا بالقيام، ولا بالانصراف" يريد به: التسليم أو الخروج من المسجد؛ أي: لا تفعلوا هذه الأفعال قبلي، بل اصبروا حتى أفعل، ثم اتبعوني في ذلك. "فإني أراكم أمامي ومن خلفي"؛ أي: كما أراكم من أمامي أراكم من خلفي، لا تحجبكم عني الخلفية، لعل هذه الحالة تكون حاصلة له في بعض الأوقات حين غلب عليه جهة ملكيته. * * * 815 - عن أبي هريرة قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعلِّمنا يقولُ: "لا تُبادِرُوا الإمامَ، إذا كَبَّر فكبرُوا، وإذا قال: ولا الضَّالين، فقولوا: آمين، وإذا ركعَ فاركعوا، وإذا قال: سَمِعَ الله لمن حَمِدَهُ، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمدُ".

"وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمنا يقول: لا تبادروا الإمام"، أي: لا تسبقوه. "إذا كبر فكبروا، وإذا قال: ولا الضالين فقولوا: آمين، وإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد". * * * 816 - وقال "إنما جُعِلَ الإمام لِيُؤتَمَّ بهِ، فلا تختلِفوا عليه، فإذا ركعَ فاركعوا، وإذا قال: سَمِعَ الله لمن حَمِده فقولوا: اللهم ربنا لك الحمدُ، وإذا سجدَ فاسجدُوا، وإذا صلَّى جالسًا فصلُّوا جلوسًا أجمعون". قال الشيخ الإمام رحمه الله: وقوله: "فصلُّوا جلوسًا" منسوخٌ بما روي: "عن أنس أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنما جُعل الإمام ليُؤْتم"؛ أي: ليقتدى به. "فلا تختلفوا عليه"؛ أي: على الإمام في أعمال الصلاة بالتقدم عليه والتأخر عنه بحيث يوهم قطع القدوة. "فإذا ركع فاركعوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، فقولوا: اللهم ربنا لك الحمد، وإذا سجد فاسجدوا، وإذا صلى"؛ أي: الإمامُ "جالسًا، فصلوا جلوسًا": جمع جالس، وهو حال بمعنى: جالسين. "أجمعون": تأكيد للضمير المرفوع في (صلوا). فيه دليلٌ لمن قال: إذا صلى الإمام قاعدًا لعذر، صلَّى القوم قعودًا، وهو قول أحمد وإسحاق بن راهويه. "قال الشيخ الإمام رحمه الله: وقوله: (فصلوا جلوسًا) منسوخٌ لما روي": * * *

817 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: لمَّا ثَقُلَ رسولُ الله وجاءَ بلالٌ يُؤدِنُهُ بالصلاةِ، فقال: "مُرُوا أبا بكرٍ أنَّ يصليَ بالناسِ"، فصلَّى أبو بكر تلك الأيامَ، ثم إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وجدَ في نفسه خِفَّةً، فَقَامَ يُهَادَى بين رَجُلَيْنِ، ورجلاه تخُطَّان في الأرض حتى دخلَ المسجدَ، فلمَّا سمعَ أبو بكرٍ حِسَّهُ ذَهَبَ يتأخَّرُ، فَأَوْمَأ إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ لا يتأخرَ، فجاءَ حتى جلسَ عن يسارِ أبي بكرٍ - رضي الله عنه -، فكانَ أبو بكرٍ يصلي قائمًا، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قاعدًا، يقتدي أبو بكرٍ بصلاةِ رسولِ الله، والناسُ يقتدونَ بصلاةِ أبي بكرٍ، وفي روايةٍ: وأبو بكرٍ يُسمِعُ الناسَ التكبيرَ. "عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: لما ثقل رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم": هذه عبارة عن اشتداد مرضه - صلى الله عليه وسلم - وتناهي الضعف، وركود الأعضاء عن خفة الحركات. "جاء بلال يؤْذنه": بسكون الهمزة؛ أي: يعلمه ويخبره. "بالصلاة"؛ أي: يدعوه إليها. "فقال: مروا أبا بكر أنَّ يصلي بالناس، فصلى أبو بكر تلك الأيام، ثم إن النبي - عليه الصلاة السلام - وجد في نفسه خفة" أي: قوة وزوال بعض المرض. "فقام يُهادَى" بفتح الدال؛ أي: يمشي. "بين رجلين" معتمدًا عليهما من ضعفه، وهما: عباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب، وقيل: علي وأسامة؛ يعني: يمشي - عليه الصلاة والسلام - إحدى يديه على عاتق أحدهما، والأخرى على عاتق الآخر. "ورجلاه تخطان في الأرض"؛ أي: تمدان فيها، ولا يقدر أنَّ يرفعهما عنها من الضعف.

"حتى دخل المسجد، فلما سمع أبو بكر حِسَّه"؛ أي: حركته عليه الصلاة والسلام، أو صوته. "ذهب"؛ أي: طفق وقصد. "بتأخر": عن موضعه؛ ليقوم - عليه الصلاة والسلام - مقامه. "فأومأ"؛ أي: أشار "إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّ لا يتأخر، فجاء حتى جلس عن يسار أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي قائمًا، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي قاعدًا؛ يقتدي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: يصنع صنيعه. "والناس يقتدون بصلاة أبي بكر"؛ أي: يصنعون صنيع أبي بكر في أفعال الصلاة، معناه: أنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - صار إمامًا لأبي بكر، وأبو بكر كان إمامًا في أولها، لكن اقتدى به - عليه الصلاة والسلام - بعد مجيئه. "وفي رواية: يُسمِع أبو بكر الناسَ التكبيرَ"؛ أي: تكبير النبي عليه الصلاة: والسلام. * * * 818 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا يخشى الَّذي يرفعُ رأْسَهُ قبلَ الإِمام أنْ يُحوِّلَ الله رأسَه رأسَ حِمارٍ". "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أنَّ يحوِّل الله"؛ أي: يقلب الله "رأسَهُ رأسَ حمار": يجوز حمله على الحقيقة، فيكون ذلك مسخًا، ويجوز أنَّ يراد: أنَّ يجعله بليدًا كرأس الحمار الذي هو أبلد الحيوانات. * * *

مِنَ الحِسَان: 819 - عن عليٍّ ومُعاذ بن جبَل - رضي الله عنهما - قالا: سمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا أتى أحدكم الصلاةَ والإمامُ على حالٍ، فليصْنَعْ كما يصنعُ الإمامُ"، غريب. "من الحسان": " عن علي ومعاذ بن جبل قالا: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أتى أحدكم الصلاة"؛ أي: نوى وكبر للإحرام. "والإمام على حال: فليصنع كما يصنع الإمام"؛ أي: فليوافق الإمام فيما هو فيه من القيام أو الركوع أو غير ذلك. "غريب". * * * 820 - وقال: "إِذا جئتم إلى الصلاةِ ونحنُ سُجودٌ فاسجدوا، ولا تَعُدُّوه شيئًا، ومن أدرك الركعةَ فقد أَدرَكَ الصَّلاةَ". "عن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود": جمع ساجد. "فاسجدوا، ولا تعدوه "؛ أي: لا تحسبوه "شيئًا"، يعني: لا تحسبوا ذلك السجود من الركعة التي أدركتم. "من أدرك الركعة، فقد أدرك الصلاة": في: المراد: صلاة الجمعة، وإلا فغيرها يحصل ثواب الجماعة فيه بإدراك جزء من الصلاة. وقيل: معنى الركعة هنا: الركوع، ومعنى الصلاة: الركعة " أي: من أدرك الركوع مع الإمام فقد أدرك الركعة. * * *

821 - عن أنسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صلَّى لِلهِ أربعين يومًا في جماعةٍ يُدركُ التكبيرةَ الأُولى؛ كُتِبَتْ له براءتانِ: براءةٌ من النارِ وبراءةٌ من النِّفاقِ". "عن أنس عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنَّه قال: من صلى لله أربعين يومًا في جماعة يدرك التكبيرة الأولى، كُتِب له براءتان؛ براءةٌ من النار"؛ أي: خلاص ونجاة منها. "وبراءةٌ من النفاق"؛ أي: طهارة منه؛ لأن السعي لإدراك تكبيرة الإحرام دليل على كمال إيمانه وطهارته عن النفاق. * * * 822 - وقال: "مَنْ توضَّأَ فأحسَنَ وُضوءَه، ثم راحَ فوجدَ الناسَ قد صَلَّوا؛ أَعطاهُ الله تعالى مثلَ أجرِ مَنْ صلاها وحَضَرها، لا ينقُصُ ذلك من أُجورهم شيئًا". "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من توضأ فأحسن وضوءه، ثم راح"؛ أي: ذهب. "فوجد الناس قد صلوا، أعطاه الله تعالى مثل أجر من صلاها وحضرها، لا ينقصُ ذلك من أجرهم شيئًا": هذا إذا لم يكن منه تقصيرٌ في تأخير الصلاة من غير عذر، أما لو أخر حضور الجماعة بغير عذر حتى تفوته الجماعة، لم يكن له هذا الثواب. * * * 823 - عن أبي سَعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ وقد صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ألا رجلٌ يتصَدَّقُ على هذا، فيُصلِّيَ معه؟ "، فقامَ رجلٌ فصَلَّى معه.

28 - باب من صلى صلاة مرتين

"عن أبي سعيد الخدري أنَّه قال: جاء رجل وقد صلَّى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ألا رجل": الهمزة للاستفهام، و (لا) بمعنى: ليس؛ أي: هل كان رجل "يتصدَّق على هذا" الرجل، "فيصلي معه"؟ ليحصل له ثواب الجماعة، فيكون كأنه قد أعطاه صدقة؛ لأنه جعل ثواب صلاته من واحد إلى سبعة وعشرين. "فقام رجل، فصلى معه": فيه دليل على أنَّ دلالةَ أحدٍ على الخير وتحريضه عليه صدقة، وعلى أنَّ من صلى بالجماعة يجوز له أنَّ يصلي مرة أخرى بالجماعة، فيكون إمامً أو مأمومًا. * * * 28 - باب مَنْ صلَّى صلاةً مرَّتَين (باب من صلى صلاة مرتين) مِنَ الصِّحَاحِ: 824 - قال جابرٌ - رضي الله عنه -: كان مُعاذُ بن جَبَلٍ - رضي الله عنه - يُصلِّي مع النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم يأتي قَومَه، فيُصلي بهم. وقال جابرٌ: كانَ معاذُ بن جَبَل يُصلِّي معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العِشاءَ، ثم يَرجِعُ إلى قومِهِ، فيُصلي بهم العشاءَ، وهي له نافلةٌ. "من الصحاح": " قال جابر: كان معاذ بن جبل يصلي مع النبي عليه الصلاة والسلام، ثم يأتي قومه، فيصلي بهم" بالإمامة، وهذا يدل على أنَّ من صلى بجماعة، ثم أدرك جماعة أخرى، فله أنَّ يصليها ثانيًا معهم، وأن يؤمَّ فيها قومًا.

"وقال جابر - رضي الله عنه -: كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء، ثم يرجع إلى قومه، فيصلي بهم العشاء، وهي له"؛ أي: الصلاة الثانية لمعاذ "نافلة"؛ أي: زائدة؛ لأن معنى النافلة الزيادة، وتلك زائدة؛ لأنه لو لم يصلِّها لا إثمَ عليه. قيل: جعله من (الصحاح) غير صحيح، فالصواب حمله على أنَّ المؤلف أورد ذلك على وجه البيان لما كان يصليه معاذ ثانيًا. * * * مِنَ الحِسَان: 825 - عن يَزيد بن الأَسْوَد أنَّه قال: شَهِدْتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حجَّتَهُ، فصلَّيْتُ معَهُ صلاةَ الصُّبح في مَسجدِ الخَيْفِ، فلمَّا قضى صلاتَهُ وانحرفَ، فإذا هو برجُلَيْنِ في آخرِ القومِ لم يُصَلِّيا مَعَهُ، قال: "عليَّ بهما"، فَجيءَ بهما تُرْعَدُ فرائصُهما قال: "ما مَنَعَكما أنَّ تُصَلِّيا معَنا؟ "، فقالا: يا رسولَ الله! إنَّا كنا صلَّينا في رِحالِنا، قال: "فلا تَفْعلا، إذا صلَّيتُما في رِحالِكما، ثم أتيْتُما مَسجِدَ جماعةٍ، فصلِّيا معهم، فإنها لكُما نافلةٌ". "من الحسان": " عن يزيد بن الأسود أنَّه قال: شهدت"؛ أي: حضرت "مع النبي - عليه الصلاة والسلام - حجته": أراد به: حجة الوداع. "فصليت معه صلاة الصبح في مسجد الخيف": وهو مسجد منى. "فلما قضى صلاته وانحرف"؛ أي: انصرف ورجع. "فإذا هو برجلين"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام - حاضرٌ مع رجلين في آخر القوم. "لم يصليا معه قال: عليَّ": اسم فعل؛ أي: ائتوني "بهما"، وأحضروهما عندي.

29 - باب السنن وفضلها

"فجيء بهما تُرعَدُ"؛ أي: تتحرك "فرائصُهما" من شدة الخوف منه عليه الصلاة والسلام، جمع فريصة، وهي: اللحم التي بين الجنب والكتف. "قال: ما منعكما أنَّ تصليا معنا؟ قالا: يا رسول الله! إنا كنا قد صلينا في رحالنا، قال: فلا تفعلا"؛ أي: كذلك لا تفعلا. "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجدَ جماعة، فصليا معهم؛ فإنها لكما نافلة": يعلم منه: أنَّ من صلى صلاة ثم أدرك جماعة يصلي تلك الصلاة بهم ويوافقهم فيها أي صلاة كانت عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة في الظهر والعشاء فقط. * * * 29 - باب السُّنَن وفَضْلها (باب السنن وفضلها) مِنَ الصِّحَاحِ: 826 - عن أم حَبيْبة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن صلَّى كل يومٍ وليلةٍ ثنتي عشرةَ ركعةً تَطَوُّعًا بني له بيتٌ في الجنةِ، أربعًا قبلَ الظهرِ، وركعتينِ بعدها، وركعتينِ بعدَ المَغربِ، وركعتينِ بعدَ العِشاءَ، وركعتينِ قبلَ صلاةِ الفَجْرِ". "من الصحاح": " عن أم حبيبة رضي الله عنها": هي أخت معاوية بنت أبي سفيان، زوجة النبي عليه الصلاة والسلام.

"أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من صلى كل يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة تطوعًا": وهو ما ليس بفريضة، والمراد هنا: السنة. "بني له بيتٌ في الجنة؛ أربعًا قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر"، والمراد بهما: سنة الفجر. * * * 827 - وقال ابن عمر: صليتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتينِ قبل الظُّهرِ، وركعتينِ بعدَها، وركعتينِ بعدَ المَغربِ في بيتِهِ، وركعتينِ بعدَ العِشاءَ في بيته، وحدَّثتني حَفْصة: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يصلي ركعتينِ خَفيْفتينِ حينَ يطلُعُ الفجرُ. وفي رواي: وكانَ لا يُصلِّي بعدَ الجمعةِ حتى ينصرِفَ، فيُصلِّي ركعتينِ في بيتِهِ. "وقال ابن عمر: صليت مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب في بيته، وركعتين بعد العشاء في بيته، وحدثتني حفصة": بنت عمر، زوجة النبي عليه الصلاة والسلام: "أنَّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يصلي ركعتين خفيفتين في بيته حين يطلع الفجر" يريد بها: سنة الصبح. "وفي رواية: كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف"؛ أي: يرجع إلى بيته. "فيصلي ركعتين في بيته": يريد بهما: سنة الجمعة، وسنتها كسنة الظهر، وعليه الشافعي في قول. * * *

828 - وسُئلت عائشةُ رضي الله عنها عن صلاةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - من التطوُّعِ، فقالت: كان يُصلِّي في بيتي قبلَ الظُّهرِ أربعًا، ثم يَخرجُ، فيُصلي بالناسِ، ثم يدخلُ فيُصلي ركعتَينِ، ويُصلي بالناسِ المَغربَ، ثم يَدخُلُ فيُصلي ركعتَينِ، ثم يُصلي بالناسِ العِشاء، ثُمَّ يدخُلُ بيتي، فيُصلي ركعتَينِ، وكان يُصلي من اللَّيلِ تِسْعَ ركَعاتٍ فيهنَّ الوِتْرُ، وكانَ يُصلي ليلًا طويلًا قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، فكان إذا قرأَ وهو قائمٌ ركعَ وسجدَ وهو قائمٌ، وإذا قرأَ وهو قاعدٌ ركعَ وسجدَ وهو قاعدٌ، وكان إذا طلَعَ الفَجْرُ صلَّى ركعتينِ، ثم يخرجُ، فيُصلي بالناسِ صلاةَ الفَجْرِ. "وسُئِلت عائشة - رضي الله عنها - عن صلاة رسول الله عليه الصلاة والسلام": من التطوع. "فقالت: كان يصلي في بيتي قبل الظهر أربعًا، ثم يخرج فيصلي بالناس، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يخرج فيصلي بالناس العصر، ثم يدخل بيتي، ثم يخرج ويصلي بالناس المغرب، ثم يدخل فيصلي ركعتين، ثم يصلي بالناس العشاء، ثم يدخل بيتي فيصلي ركعتين": فيه دليل على استحباب أداء السنة في البيت. قيل: في زماننا إظهار السنن الراتبة أولى؛ ليتعلمها الناس، ولا تندرس. "وكان يصلي من الليل تسع ركعات فيهن الوتر": قيل: الوتر والتهجد هما شيء واحد، وقيل: الوتر غير التهجد. قيل: إذا صلى أحدٌ أكثر من ثلاث عشرة ركعة، فهل جميعها وتر، أم ركعة واحدة والباقي صلاة الليل؟ فالمفهوم من الأحاديث الواردة في الوتر: أنَّ جميعها وتر وليس صلاة الليل غير الوتر إلا في حق من صلى الوتر قبل النوم، ثم نام فقام وصلى؛ فإن ذلك حينئذ صلاة الليل.

"وكان يصلي ليلًا طويلًا"؛ أي: زمانًا طويلًا من الليل "قائمًا، وليلًا طويلًا قاعدًا، فكان إذا قرأ وهو قائم، ركع وسجد وهو قائم"؛ يعني: إن صلى عن القيام يركع ويسجد عن القيام. "واذا قرأ وهو قاعد، ركع وسجد وهو قاعد"؛ يعني: إن صلى عن القعود يركع ويسجد عن القعود. "وكان إذا طلع الفجر، صلَّى ركعتين، ثم يخرج فيصلي بالناس صلاة الفجر". * * * 829 - قالت عائشة رضي الله عنها: لم يكنْ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على شيءٍ من النوافلِ أشدَّ تعاهُدًا منه على ركعتَي الفَجْرِ. "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: لم يكن النبي - عليه الصلاة والسلام - على شيء"؛ أي: لم يكن يتعاهد على شيء. "من النوافل"؛ أي: من السنن. "أشد تعاهدًا"؛ أي: تحفظًا ومداومة. "منه على ركعتي الفجر"؛ أي: سنة الفجر. * * * 830 - وعن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ركعتا الفَجْرِ خيرٌ من الدُّنيا وما فيها". "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها": من الأموال، لا من الأعمال

الصالحة الصادرة من عباده تعالى. * * * 831 - وقال: "صلُّوا قبلَ المَغربِ ركعتينِ، صلُّوا قبلَ المغربِ ركعتينِ"، قال في الثالثة: "لمَنْ شاءَ، كراهية أنَّ يتَّخِذها الناسُ سُنةً". "وعن عبد الله بن مغفل أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صلوا قبل المغرب ركعتين"؛ أي: بعد أذان المغرب قبل الشروع في الفرض. "صلوا قبل المغرب ركعتين، وقال في الثالثة: لمن شاء كراهيةً"؛ أي: مخافة "أنَّ يتخذها الناس سنة"؛ أي: فريضة؛ إذ قد يطلق عليها كقولهم: الختان سنة. وشيه دليل على أنَّ أمره - عليه الصلاة والسلام - للوجوب حتى يقوم دليلٌ على خلافه. قال بعضهم: كان ذلك في أول الإسلام؛ ليعرف به خروج الوقت المنهي، ثم أمروا بعد ذلك بتعجيل المغرب. وسُئِل ابن عمر عن الركعتين قبل المغرب، فقال ما رأيت أحدًا على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصليها، وقال إبراهيم النخعي: إنها بدعة. * * * 832 - وقال: "من كان منكم مُصلِّيًا بعدَ الجمُعةِ فليُصَلِّ أربعًا". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:

من كان منكم مصليًا بعد الجمعة، فليصل بعدها أربعًا": هذا يدل على كون السنة بعدها أربع ركعات، وعليه الشافعي في قول. * * * 833 - وفي روايةٍ: "إذا صلى أحدُكم الجمُعةَ فليُصلِّ بعدَها أربعًا". "في رواية: إذا صلى أحدكم الجمعة فليصلي بعدها أربعًا". * * * مِنَ الحِسَان: 834 - عن أم حَبيبة رضي الله عنها قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن حافظَ على أربعِ ركعاتٍ قبلَ الظهرِ وأربعٍ بعدَها حرَّمَه الله على النارِ". "من الحسان": " عن أم حبيبة - رضي الله عنها - أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: من حافظ"؛ أي: داوم وواظب "على أربع ركعات قبل الظهر، وأربع بعدها، حرَّمه الله على النار". * * * 835 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أربعٌ قبلَ الظهرِ ليسَ فيهن تسليمٌ تُفْتَحُ لهنَّ أبوابُ السماءِ"، رواه أبو أَيُّوب. "عن أبي أيوب الأنصاري أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أربع"؛ أي: أربع ركعات "قبل الظهر ليس فيهن تسليم"؛ أي: يصلي بتسليمة واحدة.

"تُفتَحُ لهن أبواب السماء"؛ أي: يرفع بها إلى الحضرة؛ أي: قُبلَتْ. * * * 836 - وروي: أنَّه عليه السلام كان يُصلي أربع ركعاتٍ بعد الزوالِ، لا يسلِّمُ إلا في آخرهنَّ، وقال: "إنها ساعةٌ تُفْتَحُ فيها أبوابُ السماءِ فأُحِبُّ أنَّ يصعدَ لي فيها عملٌ صالحٌ". "عن عبد الله بن السائب: أنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يصلي أربع ركعات بعد الزوال": وهي سنة الظهر التي قبله. "لا يسلم إلا في آخرهن، وقال" - صلى الله عليه وسلم -: "إنها"؛ أي: ما بعد الزوال، أنَّثه باعتبار الخبر، وهو: "ساعة تفتح فيها أبواب السماء، فأحب أنَّ يصعد لي فيها عمل صالح". * * * 837 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رحم الله امْرءًا صلى قبلَ العصرِ أربعًا". "وعن ابن عمر أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رحم الله امْرَءًا": يجوز أنَّ يكون دعاءً، ويجوز أنَّ يكون إخبارًا من الله تعالى. "صلى قبل العصر أربعًا": المراد سنة العصر. * * * 840 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبلَ العصرِ أربعَ ركعاتٍ يَفْصِلُ بينَهُنَّ بالتسليم على الملائكةِ المقرَّبينَ، ومَن تَبعَهم مِن المسلمينَ والمؤمنين.

"وعن علي - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يصلي قبل العصر أربع ركعات يفصل بينهن بالتسليم على الملائكة المقربين، ومن تبعهم من المسلمين والمؤمنين": والمراد به التشهد دون السلام. * * * 841 - وقال: "مَنْ صلى بعدَ المغربِ ستَّ ركعاتٍ لم يتكلَّمْ فيما بَيْنَهُنَّ بسوءً عُدِلْنَ له بعبادةِ ثنتي عشرةَ سنةً". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من صلى بعد المغرب ستة ركعات لم يتكلم فيما بينهن بسوء، عُدلْنَ له بعبادةِ ثنتي عشرة سنة"؛ تعني معادلة العبادة القليلة للكثيرة: هو أنها في هذه الحالة وفي هذا الوقت لعلها تتضاعفُ بسببهما أكثر مما تتضاعف بالكثيرة في غيرهما، وأن ثوابها مضاعفًا يعادل ثوابَ الكثيرة غيرَ مضاعف. قال ابن عباس: الصلاة بين المغرب والعشاء صلاة الأوَّابين. * * * 842 - وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ صلَّى بعدَ المَغربِ عشرينَ ركعةً بنى الله له بيتًا في الجنةِ". "وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنَّه قال: من صلى بعد المغرب عشرين ركعة بنى الله له بيتًا في الجنة". * * * 843 - وقالت عائشة رضي الله عنها: ما صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - العِشاءَ قَطُّ فدخلَ عليَّ إلا صلَّى أربعَ ركعاتٍ أو ستَّ ركعاتٍ.

30 - باب صلاة الليل

"وقالت عائشة - رضي الله عنها -: ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء قط، فدخل عليَّ، إلا صلى أربعَ ركعات، أو ستَّ ركعات"، وهذه الأربع أو الست هي مع الركعتين الراتبتين، وهذه الركعات غير الوتر. * * * 844 - عن ابن عباس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} الركعتينِ قبلَ الفجرِ، و {وَإِدْبَارَ الْسُّجُودِ} الركعتين بعدَ المغربِ". "وعن ابن عباس، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال: {وَإِدْبَرَ النُّجُومِ} [الطور: 49] "؛ أي: عقيب ذهاب نجوم الليل. "الركعتين قبل الفجر": وهما سنة الصبح؛ لأن وقتَ سنة الصبح وقتُ ذهاب النجوم وغروبها. "و {وَإِدْبَارَ الْسُّجُودِ} "؛ أي: عقيب فريضة المغرب. "الركعتين بعد المغرب": وهما سنة المغرب، أطلق السجود وأراد به الصلاة إطلاقًا للجزء الأعظم على الكل. * * * 30 - باب صلاة الليل (باب صلاة الليل) مِنَ الصِّحَاحِ: 845 - عن عُروة، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي فيما بين أنَّ يَفْرُغَ من صلاةِ العشاءِ إلى الفجرِ إحدى عشرةَ ركعةً، يُسلِّم من

كل ركعتينِ، ويُوتِر بواحدةٍ، فيسجدُ السجدةَ من ذلك قدرَ ما يقرأُ أحدكم خمسينَ آيةً قبلَ أنْ يرفعَ رأسَه، فإذا سكتَ المؤذِّنُ من صَلاةِ الفجرِ وتبيَّن له الفجرُ؛ قامَ فركعَ ركعتينِ خفيفتينِ، ثم اضطجَع على شِقِّه الأيمنِ حتى يأتيَهُ المؤذِّنُ للإقامةِ، فيخرجُ. "من الصحاح": " عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي فيما بين أنَّ يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشرة ركعة، يسلم من كل ركعتين، ويُوتِرُ بواحدة": مضمومة إلى الشَّفعِ الذي قبلها. قيل: بنى الشافعيُّ مذهبه في الوتر على هذا الحديث، وقال: إن أكثره إحدى عشر ركعة، والفصل أفضل من الوصل، وجعل وقته ما بين فرض العشاء وطلوع الفجر. "فيسجد السجدة من ذلك"؛ أي: من المذكور من صلاة الليل، و (من) تبعيضية؛ أي: قد كان بعض سجوده طويلًا. "قدر ما يقرأ أحدكم خمسين آية قبل أنَّ يرفع رأسه، فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر"؛ أي: فرغ من آذانها. "وتبيَّن له الفجرُ، قام فركع ركعتين خفيفتين": وهما سنة الصبح. "ثم اضطجع على شقه الأيمن"؛ للاستراحة عن تعب قيام الليل؛ ليصلي فريضة الصبح على نشاط. "حتى يأتيه المؤذن للإقامة فيخرج" للصلاة. * * *

846 - وقالت عائشة: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى ركعتي الفجر فإنْ كُنْتُ مستيقظةً حدَّثني وإلا اضطجعَ. "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا صلى ركعتي الفجر": المراد بهما: سنة الفجر. "فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا"، أي: وإن لم أكن مستيقظة "اضطجع". فيه دليل على أنَّ الفصل بين السنة وبين الفريضة جائزٌ، وعلى أنَّ الحديث مع الأهل سنة. * * * 847 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى ركعتَي الفجرِ اضطجعَ على شِقِّهِ الأيمنِ. وقالت: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلى ركعتي الفجر، اضطجع على شقه الأيمن". * * * 848 - وقال القاسم بن محمد، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل ثلاثَ عشرةَ ركعةً منها الوِتر، وركعتا الفجرِ. "وقال القاسم بن محمد": وهو محمد بن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -. "عن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - يصلي من الليل ثلاث عشرة ركعة؛ منها الوِترُ، وركعتا الفجر": والبقيةُ غيرُ أربع الفرض وركعتي السنة؛ لأن السؤالَ عن صلاة التهجد، وإنما ألحقت الوترَ وركعتي الفجر بالتهجد؛ لأن الظاهر أنَّه - عليه الصلاة والسلام -

كان يصلي الوتر آخر الليل، ويبقى مستيقظًا إلى الفجر، ويصل ركعتي الفجر بتهجُّده. * * * 849 - وقال مسروق: سألتُ عائشةَ رضي الله عنها عن صلاةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بالليلِ؟، فقالت: سبعٌ وتسعٌ وإحدى عشرةَ سوى ركعتَي الفجرِ. "قال مسروق: سألت عائشة - رضي الله عنها - عن صلاة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالليل، فقالت: سبع، وتسع، وإحدى عشرة ركعة"؛ يعني: كان يصلي في بعض الليالي سبع ركعات مع الوتر، وفي بعضها: تسعًا معه، وفي بعضها: إحدى عشرة معه، وهذا كله "سوى ركعتي الفجر"؛ لأن هذا السؤال أيضًا عن التهجد، والوتر معها، لأنه كان يصلها بالتهجد. * * * 850 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ النبيُّ إذا قامَ من الليلِ لِيُصلي افتتحَ صلاتَه بركعتينِ خفيفتينِ. "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا قام من الليل ليصلي، افتتحَ صلاته بركعتين خفيفتين"؛ ليرتفع عنه الثقل، ويحصل به نشاطٌ في الصلاة، ويعتاد بها، ثم يزيدُ عليها بعد ذلك. * * * 851 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قامَ أحدُكم من الليل فليفتتحْ صلاتَه بركعتينِ خفيفتينِ". "وقال أبو هريرة، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال: إذا قام

أحدكم من الليل، فليفتتحْ صلاتَهُ بركعتين خفيفتين"، وهذا إشارة إلى أنَّ من يريد أنْ يَشرَعَ في أمرٍ شرعَ قليلًا قليلًا. * * * 852 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: بِتُّ عندَ خالتي ميمونَة ليلةً والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عندَها، فتحَدَّثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مع أهلِهِ ساعةً ثم رقدَ، فلمَّا كان ثلثُ الليلِ الآخرُ أو بعضُه قعدَ فنظرَ إلى السماء فقرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} حتى خَتَمَ السورةَ، ثم قامَ إلى القِربةِ، فأَطلقَ شِناقَها، ثم صبَّ في الجَفَنة، ثم توضأَ وضوءًا حسنًا بين الوضوءينِ لم يُكْثِرْ وقد أَبْلَغَ، فقامَ يصلي، فقمتُ فتوضأتُ فقمتُ عن يسارِهِ، فأخذَ بأُذُني عن يمينِهِ، فَتَتَامَّتْ صلاتُه ثلاثَ عشرةَ ركعةً، ثم اضطجعَ فنامَ حتى نفخَ، وكان إذا نامَ نفخَ، فآذَنَهُ بلالٌ بالصلاةِ فصلَّى ولم يتوضأ، وكانَ في دعائه: "اللهمَّ اجعلْ في قلْبي نُوْرًا، وفي بصري نورًا، وفي سَمْعي نُورًا، وعن يَميني نُورًا، وعن يَساري نورًا، وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأَمامي نُورًا، وخلْفي نُورًا، واجعل لي نُورًا - وزاد بعضهم - وفي لِساني نورًا - وذكر - وعصَبي، ولَحمي، ودمي، وشَعْري، وبشَري". وفي روايةٍ: "واجعل في نفسي نورًا، وأَعظِم لي نورًا". وفي روايةٍ: "اللهمَّ أَعطني نوُرًا". وفي روايةٍ: عن ابن عباس أنَّه رقدَ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فاستيقظَ فتسوَّكَ وتوضأ وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} حتى ختمَ السورةَ، ثم قامَ فصلى ركعتينِ أطالَ فيهما القيامَ والركوعَ والسجودَ، ثم انصرفَ فنامَ حتى نفخَ، ثم فعلَ ذلك ثلاثَ مراتٍ ستَّ ركعاتٍ، كلُّ ذلكَ يَسْتَاكُ ويتوضأُ ويقرأُ هؤلاء الآياتِ، ثم أوترَ بثلاثٍ.

"عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: بتُّ عند خالتي ميمونة" وهي أم المؤمنين "ليلةً والنبيُّ - عليه الصلاة والسلام - عثدها، فتحدث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مع أهله ساعة ثم رقد"؛ أي: نام. "فلما كان ثلث الليل الآخر": صفة (ثلث)؛ أي: بقي ثلثها. "أو بعضه"؛ أي: بعض الثلث؛ أي: أقل منه. "قعد فنظر إلى السماء، فقرأ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] حتى ختم السورة، ثم قام إلى القِربةِ"؛ أي: قاصدًا إليها. "فأطلق"؛ أي: حلَّ "شِناقها": بكسر الشين؛ أي: حبل القربة الَّذي يشدُّ به رأسها. "ثم صب"؛ أي: أراق الماء منها. "في الجفنة، ثم توضأ وضوءً حسنًا بين الوُضوءين"؛ أي: من غير إسراف ولا تقتير، يدل هذا على أنَّ ما كان بين طرفي الإفراط والتفريط فهو حسن. "لم يكثر" إراقة الماء: بيان للوضوء الحسن، وهو إرشاد إلى عدم الإفراط. "وقد أبلغَ" الماءَ إلى محالِّه المفروضة: إرشاد إلى عدم التفريط. "فقام وصلى فقمت وتوضأت، فقمت عن يساره، فأخذ بأذني، فأدارني عن يمينه": (عن) هنا بمعنى: الجانب؛ أي: أدارني عن جانب يساره إلى جانب يمينه. "فتتامَّت صلاته": بتشديد الميم من (تم)؛ أي: صارت صلاته تامة. "ثلاث عشرة ركعة"، وبه استدل من قال: الوتر ثلاث عشرة ركعة.

"ثم اضطجع، فنام حتى نفخ"؛ أي: تنفس بصوتٍ حتى يسمع منه صوت النفخ، كما يسمع من النائم. "وكان إذا نام نفخ، فآذنه بلال"؛ أي: أعلمه بالصلاة، فصلى ولم يتوضأ، وهذا من خصائصه؛ لأنه نامت عيناه، ولم ينمْ قلبه، ولا يبطل وضوءه بمثل هذا. "وكان في دعائه: اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي بصري نورًا، وفي سمعي نورًا": اعلم أنَّ القلب ممرٌّ للفكر في آلاء الله، والبصر محل النظر في آيات الله تعالى، والسمع محل السماع الحق، والشيطان يأتي الناس في هذه الأعضاء، فيوسوسهم بوسوسة شبيهة بظُلمةٍ، فدعا - عليه الصلاة والسلام - أن يدفعها الله بإثبات النور فيها، أراد بالنور ضياء الحق؛ يعني: استعمِلْ هذه الأعضاء مني في الحق، واجعلْ تصرفي وتقلبي فيها على سبيل الصواب. "وعن يميني نورًا، وعن يساري نورًا": وإنما أورد في هذين الجانبين؛ لأن الأنوار تتجاوز عن قلبه وبصره وسمعه إلى من عن يمينه وشماله من الخلق. "وفوقي نورًا، وتحتي نورًا، وأمامي نورًا، وخلفي نورًا": وفي عدم إيراد حرف الجر في هذه الجوانب إشارة إلى تمام الإنارة وإحاطته؛ إذ الإنسان تحيط به ظلمات البشرية والشهوات النفسانية لم يتخلص منها إلا بالأنوار الإلهية. "واجعل لي نورًا": هذا إجمال بعد التفصيل، أراد به نورًا عظيمًا جامعًا للأنوار كلها. "وزاد بعضهم: وفي لساني نورًا، وذكر"؛ أي: الرواي: "وعصبي ولحمي، ودسي، وشعري، وبشري، وفي رواية: واجعل في نفسي نورًا، وأعظم لي نورًا، وفي رواية: اللهم أعطني نورًا. وفى رواية ابن عباس: أنَّه رقد عند النبي - عليه الصلاة والسلام -

فاستيقظ"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام - من نومه. "فتسوك وتوضأ": تجديدًا للوضوء؛ لعدم بطلانه بنومه عليه الصلاة والسلام. "وهو يقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] حتى ختم السورة، ثم قام فصلى ركعتين أطال فيهما القيام والركوع والسجود، ثم انصرف فنام حتى نفخ، ثم فعل ذلك": إشارة إلى ما ذكر من قوله: (فتسوك). . . إلى قوله: (حتى نفخ). "ثلاثَ مرات ستَّ ركعات": قيل: منصوب بإضمار (أعني)، أو بيان لـ (ثلاث)، وكذا "كل ذلك" بيانٌ له أيضًا؛ أي: كل مرة، ويجوز أن يكون مفعولًا. "يستاك ويتوضأ، ويقرأ هؤلاء الآيات، ثم أوتر بثلاث": ركعات. وهذا الحديث يدل على أن الركعات الست كانت تهجده، وأن الوتر ثلاث ركعات، وإليه ذهب أبو حنيفة. * * * 853 - وعن زيد بن خالدٍ الجُهَني - رضي الله عنه - أنه قال: لأَرْمُقَنَّ صلاةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الليلةَ، فصلَّى ركعتَينِ خفيفتَينِ، ثم صلَّى ركعتينِ طويلتينِ طويلتينِ طويلتينِ، ثم صلى ركعتينِ وهما دونَ اللتينِ قبلَهما، ثم صلَّى ركعتينِ وهما دونَ اللَّتينِ قبلهما، ثم صلى ركعتينِ وهما دونَ اللتينِ قبلهما، ثم صلى ركعتينِ وهما دون اللتينِ قبلَهما، ثم أَوْتَرَ فذلك ثلاثَ عشرةَ ركعةً. "وعن زيد بن خالد الجهني: أنه قال: لأرمقنَّ"، أي: لأنظرن وأحفظن "صلاةَ رسول الله" - صلى الله تعالى عليه وسلم - بلحاظ عينيَّ "الليلة"؛ أي: في

هذه الليلة حتى أرى كم يصلي. "فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين": وإنما كرر تأكيدًا لطول الركعتين الموصوفتين. "ثم صلى ركعتين وهما دون"؛ أي: أقل من الركعتين "اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين فبلهما، ثم صلى ركعتين وهما دون اللتين قبلهما، ثم أوتر، فذلك ثلاث عشرة ركعة": وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أوتر بثلاث؛ لأنه صلى عشرًا في خمس دفعات. * * * 854 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: لمَّا بَدَّنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَثَقُلَ؛ كانَ أكثرُ صلاتِهِ جالسًا. "وقالت عائشة: لما بدَّن رسولُ الله" صلى الله تعالى عليه وسلم: بالتشديد من (التبدين)، وهو: الكبر والضعف؛ أي: أسنَّ وكبر، ويروى بالتخفيف؛ أي: كثر لحمه، قيل: المختار هو الأول؛ لأنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم يُوصَف بكثرة اللحم. "وثقل"؛ أي: ضعف. "كان كثير صلاته": في التطوع "جالسًا". * * * 855 - وقال عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -: لقد عرفتُ النَّظائرَ التي كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقرِنُ بينهن - فذكر عشرينَ سورةً من أولِ المُفَصَّل على تأليفِ ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - سورتينِ في كل ركعةٍ، آخرُهنَّ حم الدُّخان، وعمَّ يتساءلون.

"وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: لقد عرفت النظائر": جمع النظيرة وهي المثل والشبه؛ أي: السور المماثلة بعضها ببعض في الطول والقصر. "التي كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يقرن"؛ أي: يجمع. "بينهن": في ركعة. "فذكر"؛ أي: ابن مسعود. "عشرين سورة من أول المفصل على تأليف ابن مسعود"؛ أي: على جمعه؛ فإنه جمع القرآن على نسقٍ غير النسق الذي جمع زيد بن ثابت بإذن أبي بكر على خلافته، ورضي به الخلفاء الثلاثة وسائر الصحابة، وهو المتلوُّ الآن المكتوب في المصاحف. وتأليف ابن مسعود - رضي الله عنه - غير ملتفت إليه؛ لأنه شاذٌّ جمعه بعد زيد، ولم يتبعه فيه أحد؛ أي: ذكر أنه - عليه الصلاة والسلام - كان يقرأ عشرين سورة في عشر ركعات يقرن بين "سورتين في آخرهن"؛ أي: آخر تلك العشرين سورة: " {حم} الدخان، و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} ": ذكر أبو داود في "صحيحه" السور التي يقرن بينهن - عليه الصلاة والسلام - في صلاته {الرَّحْمَنُ} و {النَّجْمُ} في ركعة، و {اقْتَرَبَتِ} و {الْحَاقَّةُ} في ركعة، {وَالطُّورِ} {وَالذَّارِيَاتِ} في ركعة، و {إِذَا وَقَعَتِ} و {ن وَالْقَلَمِ} في ركعة، و {سَأَلَ سَائِلٌ} {وَالنَّازِعَاتِ} في ركعة، و {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} و {عَبَسَ} في ركعة، و {الْمُدَّثِّرُ} و {الْمُزَّمِّلُ} في ركعة، و {هَلْ أَتَى} و {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} في ركعة، و {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} {وَالْمُرْسَلَاتِ} في ركعة، و (الدخان) و {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} في ركعة. * * * مِنَ الحِسَان: 856 - عن حُذيفة - رضي الله عنه -: أنه رَأى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي من الليلِ فكانَ

يقولُ: "الله أكبر - ثلاثًا - ذا الملكوتِ والجَبَرُوتِ والكبرياءِ والعظَمةِ"، ثم استفتحَ فقرأ البقرةَ، ثم ركعَ فكانَ ركوعه نحوًا من قيامه يقول: "سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم"، ثم رفع رأسه فكان قِيامُه نحوًا من ركوعِه يقولُ: "لِرَبي الحمدُ"، ثم سجدَ فكان سُجودهُ نحوًا من قيامِهِ يقول: "سبحانَ ربي الأعلى"، ثم رفعَ رأسَه، وكان يقعدُ فيما بينَ السجدتينِ نحوًا من سجودِه يقولُ: "ربِّ اغفرْ لي ربِّ اغفرْ لي"، فصلَّى أربعَ ركعاتٍ قرأَ فيهنَّ البقرةَ وآلَ عمرانَ والنساءَ والمائدةَ. "من الحسان": " عن حذيفة: أنه رأى رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي من الليل، فكان يقول: الله أكبر ثلاثًا، ذو الملكوت"؛ أي: الملك. "والجبروت"؛ أي: العظمة. "والكبرياء والعظمة، ثم استفتح فقرأ البقرة، ثم ركع فكان ركوعه نحوًا"؛ أي: مثلًا، "من قيامه"، ثم "يقول: سبحان ربي العظيم، ثم رفع رأسه فكان قيامه نحوًا من ركوعه يقول: لربي الحمد، ثم سجد فكان سجوده نحوًا من قيامه يقول: سبحان ربي الأعلى، ثم رفع رأسه، وكان يقعد فيما بين السجدتين نحوًا من سجوده يقول: ربِّ اغفر لي، ربِّ اغفر لي، فصلى أربع ركعات، قرأ فيهن: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة". * * * 857 - عن عبد الله بن عَمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قامَ بعشْرِ آياتٍ لم يُكتبْ من الغافلينَ، ومَن قامَ بمائةِ آيةٍ كُتِبَ من القانتينَ، ومن قامَ بألف آيةِ كُتب من المُقَنْطِرين".

"عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من قام بعشر آيات"؛ أي: قرأ في صلاته بالليل عشر آيات على التدبر والتأني. "لم يكتب من الغافلين"؛ لأن من فعل هذا لم يكن غافلًا بل حاضرًا، أو مواظبًا على الطاعة. "ومن قام بمئة آية، كتب من القانتين"؛ أي: المطيعين على الطاعة، أو المطوِّلين في القيام. "ومن قام بألف آية، كتب من المُقَنْطِرِينَ"؛ أي: المكثرين الثواب، والمراد بهم: العمال لله تعالى في أرضه؛ لأنهم بلغوا في حيازة الثواب مبلغ المقنطر فحب حيازة الأموال، والمقنطر: صاحب القناطير، كأنه جمع المال فقنطره، من (القنطار)، وهو: سبعون ألف دينار، وقيل: أربعة آلاف دينار، وقيل: مِلْءُ جلد ثور ذهبًا، وقيل: ثمانون ألفًا، وقيل: جملة كثيرة مجهولة المقدار. * * * 858 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانت قراءَةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالليلِ يرفعُ طَوْرًا ويخفضُ طَوْرًا. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانت قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالليل يرفع طورًا"؛ أي: يرفع صوته مرة، "ويخفض طورًا". * * * 859 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كانت قراءةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على قَدْرِ ما يَسمعُهُ مَن في الحُجرةِ وهو في البيت.

"وعن ابن عباس أنه قال: كانت قراءة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قدر ما يسمعه"؛ أي: قدر قراءةٍ يسمعه "مَنْ في الحجرة"؛ يعني: لا يرفع صوته كثيرًا، ولا يُسِرُّ بحيث لا يسمعه أحد، وهذا إذا كان يصلي ليلًا، "وهو في البيت"؛ أي: في بيته، وأما في المسجد فكان يرفع صوته فيها أكثر من ذلك. * * * 860 - عن أبي قَتادة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكرٍ، مررتُ بكَ وأنتَ تصلي تخفِضُ صوتَك"، قال: قد أَسْمَعْت مَن ناجَيتُ يا رسولَ الله، وقال لعُمر: "مررتُ بكَ وأنتَ رافعٌ صوتَك"، فقال: أُوقِظُ الوَسْنَان وأَطردُ الشيطانَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكرٍ، ارفعْ مِن صوتِكَ شيئًا"، وقال لعمر: "اخفِضْ من صوتِكَ شيئًا". "وعن أبي قتادة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أبا بكر! مررت بك وأنت تصلي تخفضُ صوتك، قال أبو بكر: قد أسمعتُ من ناجيتُ يا رسول الله"؛ يعني: أناجي ربي، وهو يسمع لا يحتاج إلى رفع الصوت. "فقال لعمر: مررت بك وأنت رافعًا صوتك، قال: أوقِظُ الوَسْنان"؛ أي: أنبه النائمَ. "وأطرد الشيطان"؛ أي: أبعده. "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أبا بكر! ارفع من صوتك شيئًا، وقال لعمر: اخفض من صوتك شيئًا"، وهذا يدل على أن الإفراط والتفريط غير محمود، بل خير الأمور أوسطها. * * *

861 - عن أبي ذر قال: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أَصْبَحَ بآية، والآيةُ: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}. "وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: أحيا الليلَ كله في الصلاة. "حتى أصبح بآية"؛ أي: كررها متفكرًا في معناها إلى الصبح؛ لما حصل له من الذوق من هذه الآية الشريفة. "والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] "، ومعنى الآية: أن عيسى - عليه السلام - ناجى ربه قائلًا: إن تعذب أمتي فإنهم عبادك، والرب إذا عاقب عبده فلا اعتراضَ لأحد عليه، و {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}؛ أي: إن توفقهم للإيمان والطاعة، {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ}: القوي القادر على ما تشاء، {الْحَكِيمُ}: الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة وصواب. * * * 862 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلَّى أحدُكم ركعتي الفجرِ فليضطجعْ على يمينِهِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر، فليضطجعْ على يمينه": هذا في حقِّ من تهجد في الليل وأصابه تعب، فإنه يستحب له أن يضطجع بعد سنة الفجر لحظة؛ ليستريح، ثم يصلي الفريضة على نشاط، ومَنْ لا فلا. * * *

31 - باب ما يقول إذا قام من الليل

31 - باب ما يقول إذا قام من الليل (باب ما يقول إذا قام من الليل) مِنَ الصِّحَاحِ: 863 - قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ من الليلِ يتهجدُ، قال: "اللهم لكَ الحمدُ، أنتَ قَيمُ السماواتِ والأرضِ ومَن فيهنَّ، ولكَ الحمدُ، أنتَ نورُ السماواتِ والأرضِ ومَنْ فيهنَّ، ولكَ الحمدُ أنتَ مَلِكُ السماوات والأرضِ، وَمَن فيهنَّ، ولكَ الحمدُ، أنتَ الحقُّ، ووعدُكَ الحقُّ، ولقاؤُكَ حقٌّ، وقولُكَ حقٌّ، والجنةُ حقٌّ، والنارُ حقٌّ، والنبيونَ حقٌّ، ومحمدٌ - صلى الله عليه وسلم - حقٌّ، والساعةُ حقٌّ، اللهم لكَ أسلمتُ، وبكَ آمنتُ، وعليكَ توكَّلْتُ، وإليك أَنبْتُ، وبك خاصَمْتُ، وإليكَ حاكمْتُ، فاغفر لي ما قدَّمْتُ وما أَخَّرْتُ، وما أسررْتُ وما أعلنتُ وما أنت أعلمُ به مني، أنت المُقَدِّمُ وأنت المؤخِرُ لا إله إلا أنت". "من الصحاح": " قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا قام من الليل يتهجد"؛ أي: يصلي صلاة الليل، حال من ضمير (قام). "قال": خبر (كان)؛ أي: كان عند قيامه من الليل متهجدًا يقول، وقيل: إنه جواب (إذا)، والجملة الشرطية خبر (كان). "اللهم لك الحمد؛ أنت قَيمُ السماوات والأرض"؛ أي: أنت الدائمُ القيام، القائمُ بحفظهما. "ومن فيهن" من المخلوقات؛ تحفظهم من الآفات، وترزقهم، وإنما قال: (من) دون (ما) تغليبًا للعقلاء.

"ولك الحمد؛ أنت نور السموات والأرض"؛ أى: خالق نورهما، أو منورهما ومظهرهما. "ومن فيهن"؛ فإن النور هو الذي به ظهور كل شيء، وإضافته إليهما؛ للدلالة على سعة إشراقه؛ أي: أنت الذي بك استضاء الكونُ كله، وخرج من ظلمة العدم إلى ضياء الوجود. "ولك الحمد؛ أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق"؛ أي: أنت الثابت. "ووعدك الحق، ولقائك حق": والمراد بلقائه تعالى: المصير إلى دار الآخرة وطلب ما عنده تعالى، لا الموت. "وقولك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد - عليه الصلاة والسلام - حق، والبعث حق"؛ أي: يوم القيامة. "اللهم لك أسلمت"؛ أي: أذعنت. "وبك آمنت"؛ أي: صدقت، وأمَّنت نفسي من عذابك. "وعليك توكلت، وإليكَ أنبت"، أي: رجعت في جميع أحوالي، وفوَّضت أمري أليك. "وبك"؛ أي: بحجتك ونصرتك إياي "خاصمت"؛ أي: أخاصم الأعداء من الكفار وأجاهدهم. "وإليك حاكمتُ"؛ أي: رفعت إليك أمري وجعلتك قاضيًا بيني وبينك، وبين من خالفني فيما أُرسلتُ به من الدين؛ إذ المحاكمةُ رفعُ الأمر إلى القاضي. "فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني؛ أنت المقدِّم، وأنت المؤخِّر، لا إله إلا أنت". * * *

864 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ - تعني النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا قامَ من الليلِ افتتحَ صلاتَه قال: "اللهم ربَّ جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ، فاطرَ السماواتِ والأرضِ، عالمَ الغيبِ والشهادةِ، أنتَ تحكُمُ بينَ عبادِكَ فيما كانوا فيه يختلفونَ، اهدِني لما اختُلِفَ فيه من الحقِّ بإذنِكَ، إنكَ تهدي مَن تشاءُ إلى صراطٍ مستقيمٍ". "وقالت عائشة: كان"؛ يعني: النبي - عليه الصلاة والسلام - تفسير لضمير (كان). "إذا قام من الليل، افتتح صلاته قال: اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل": الإضافة لتشريف هؤلاء. "فاطر السموات والأرض"؛ أي: خالقهما. "عالم الغيب والشهادة": الغيب ضد الشاهد، وهو: الحاضر. "أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف": اللام بمعنى: إلى؛ أي: اهدني إلى الحق مما اختُلِفَ "فيه من الحق بإذنك"؛ أي: بفضلك وقدرتك، "إنك تهدي من نشاء إلى صراط مستقيم". * * * 765 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تَعَارَّ من الليلِ فقال: لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، له الملكُ ولهُ الحمدُ وهو على كلِّ شيءٍ قديرٌ، سبحانَ الله والحمدُ للهِ ولا إلهَ إلا الله والله أكبرُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم"، ثم قال: "ربِّ اغفر لي - أو قال ثم دعا - استُجيبَ لهُ، فإن توضأَ ثم صلَّى قُبلَتْ صلاتُه". "عن عبادة بن الصامت أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم: من تَعارَّ من الليل": يقال: تعار من الليل إذا استيقظ من نومه مع صوت، وهذه اليقظة تكون مع كلام غالبًا، فأحبَّ - عليه الصلاة والسلام - أن يكون ذلك الكلام تسبيحًا وتهليلًا، ولا يوجد ذلك إلا ممن استأنس بالذكر. "فقال: لا إله إلا الله وحده"؛ أي: منفردًا. "لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله": معناه: لا انصرافَ عن المعصية ولا قوة على الطاعة إلا بمعونة الله تعالى. "ثم قال: رب اغفر لي، أو قال: ثم دعا" - شك من الراوي - "استجيب له": والمراد بها: الاستجابة اليقينية؛ لأنْ الاحتماليةَ ثابتةٌ في غير هذا الدعاء. "فإن توضأ": عطف على (دعا). "ثم صلَّى، قبلت صلاته": فريضة كانت أو نافلة، وهذه المقبولية اليقينية مرتبةٌ على الصلاة المتعقبة لما قبلها. * * * مِنَ الحِسَان: 866 - قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استيقظَ مِن الليلِ قال: "لا إلهَ إلا أنتَ سبحانَكَ، اللهم أستغفرُك لذنبي، وأسألُك رحمتَك، اللهم زِدْني عِلْمًا، ولا تُزِغْ قلْبي بعدَ إذ هديتني، وهَبْ لي من لَدُنْكَ رحمةً، إنَّكَ أنتَ الوهَّابُ". "من الحسان": " قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا استيقظ من

الليل قال: لا إله إلا أنت سبحانك، اللهم أستغفرك لذنبي. وأسألك رحمتك، اللهم زدني علمًا، ولا تُزِغْ قلبي"، أي: لا تميلها من الحق والهدى. "بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك"؛ أي: أعطني كان عندك "رحمة"؛ أي: توفيقًا وتثبيتًا للإيمان والهدى. "إنك أنت الوهاب": وهذا تعليم منه - عليه الصلاة والسلام - للأمة أن يدعوا بهذا الدعاء؛ ليعلموا أن لا يجوز لهم الأمن من مكر الله وزوال نعمته. * * * 867 - عن مُعاذ بن جبَل - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلمٍ يَبيتُ على ذكرٍ طاهرًا فَيَتَعَارُّ من الليلِ، فيسألُ الله تعالى خيرًا إلا أَعطاهُ إياه". "عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أنه قال: ما من مسلم يبيتُ على ذكر الله طاهرًا"؛ أي: متوضئًا. "فيتعارُّ من الليل، فيسأل الله تعالى خيرًا، إلا أعطاه إياه". * * * 868 - عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت: بمَ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يفتَتِحُ إذا هبَّ من الليلِ؟، فقالت: كانَ إذا هَبَّ من الليلِ كَبَّر عشرًا، وحَمِدَ عشرًا، وقال: "سبحانَ الله وبحمِده" عشرًا، وقال: "سبحانَ الملكِ القُدُّوس" عشرًا، واستغفر عشرًا، وهلَّلَ عشرًا، ثم قال: "اللهم إني أعوذُ بك من ضِيقِ الدنيا، وضِيقِ يوم القِيامةِ" عشرًا، ثم يفتَتِحُ الصلاةَ. "عن عائشة - رضي الله عنها - أنها سُئِلت: بم كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفتتح"؛ أي: يبتدأ "إذا هبَّ من الليل؟ " أي: استيقظ

32 - باب التحريض على قيام الليل

من النوم في الليل. "فقالت: كان إذا هبَّ من الليل، كبر الله تعالى عشرًا، وحمد الله تعالى عشرًا، وقال: سبحان الله وبحمده عشرًا، وقال: سبحان الله الملك القدوس عشرًا، واستغفر الله تعالى عشرًا، وهلل عشرًا، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا"؛ أن: من مكارهها وشدائدها من مرض أو دين أو ظلم؛ لأن الأرض تصير عليه ضيقةً بذلك. "وضيق يوم القيامة عشرًا، ثم يفتتح الصلاة". * * * 32 - باب التَّحريض على قِيَام اللَّيل (باب التحريض على قيام اللَّيل) مِنَ الصِّحَاحِ: 869 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يعقِدُ الشيطانُ على قافيةِ رأسِ أحدِكم إذا هو نامَ ثلاثَ عُقَدٍ، يضربُ على كلِّ عُقدةٍ: عليكَ ليلٌ طويلٌ فارقُدْ، فإن استيقظ فذكرَ الله تعالى انحلَّتْ عقدةٌ، فإنْ توضَّأَ انحلَّتْ عُقدةٌ، فإنْ صلى انحلَّتْ عُقدةٌ، فأصبح نَشيطًا طيبَ النفسِ، وإلا أصبحَ خبيثَ النفسِ كسلانَ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يعقِد الشيطان": بكسر القاف؛ أي: يشدُّ "على قافية رأس أحدكم"؛ أي: مؤخر رأسه، وقيل: أي: وسطه.

"إذا هو نام ثلاث عقد": جمع عقدة، والمراد بها: عقد الكسل؛ أي: يحمله الشيطان عليه. قيل: تخصيص القافية به؛ لأنه محل الواهمة، وهي أطوع القوى للشيطان. "يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد"؛ يعني: يحبب إليه النوم بقول ذلك. "فإن استيقظ، فذكر الله، انحلت"؛ أي: انفتحت "عقدة، فإن توضأ، انحلت عقدة، فإن صلى، انحلت عقدة": والتقييد بالثلاث إما للتأكيد، أو لأن ما تنحل به عقدته ثلاثة أشياء: الذكر والوضوء والصلاة، فكأن الشيطان منعه عن كل منها بعقدة، فخالفه في جميع ذلك. "فأصبح نشيطًا"؛ أي: ذا فرح. "طيب النفس"؛ لأنه خلص عن قيد الشيطان، وحصَّل رضاء الرحمن. "وإلا"؛ أي: وإن لم يفعل كذلك، بل أطاع الشيطان، ونام حتى تفوته صلاة الصبح (¬1). "أصبح خبيث النفس"؛ أي: محزون القلب متحيرًا في أمره. "كسلان": لا يحصل له مراده فيما يقصده من أموره؛ لأنه مقيدٌ بقيد الشيطان، ومبعد من رضا الرحمن. * * * 870 - وقال المُغيرة: قامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الليلِ حتى تَوَرَّمَت قَدَمَاهُ فقيل له: ¬

_ (¬1) في "غ": "حتى يفوت الصلاة".

لِمَ تصنَعُ هذا وقد غفَرَ الله لك ما تقدَّم من ذنْبكَ وما تأخَّرَ؟، قال: "أفلا أكونُ عبدًا شَكورًا". "قال المغيرة: قام النبي - عليه الصلاة والسلام - من الليل حتى تورَّمت"؛ أي: انتفخت. "قدماه": من الوجع. "فقيل له: لم تصنع هذا وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدًا شكورًا": لنعمة الله علي من غافران ذنوبي، وغير ذلك من أنواع النعم. * * * 871 - وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ذُكِرَ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ فقيل: ما زالَ نائمًا حتى أَصْبَحَ - ما قامَ إلى الصلاة - فقال: "بالَ الشيطانُ في أُذُنِهِ". "وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: ذكر عند النبي - عليه الصلاة والسلام - رجلٌ، فقيل: ما زال قائمًا حتى أصبح ما قام إلى الصلاة، قال": عليه الصلاة والسلام: "بال الشيطانُ في أذنه"؛ أي: جعله خبيثًا لا يقبل الخير، وجعله مسخَّرًا ومطيعًا له، يقبل ما يأمره من ترك الصلاة وغيرها. وقيل: معناه: أنه ملأ سمعه من الكلام الباطل وأحاديث اللغو، فأحدث ذلك في أذنه وقرًا عن استماع دعوة الحق. وقيل: على حقيقته؛ لما رُوي عن بعض مَنْ نام عن الصلاة أنه رأى في المنام كأن شخصًا أسود جاء فشغر برجله يبول في أذنه. وعن الحسن البصري: لو ضرب بيده إلى أذنه، لوجدها رطبة. * * *

872 - وقالت أم سَلَمَةَ: استيقظَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ليلةً فَزِعًا يقول: "سبحانَ الله!، ماذا أُنزِل الليلةَ مِن الخزائنِ، وماذا أُنزِل من الفِتَن؟، مَنْ يُوقِظُ صواحِبَ الحُجُراتِ - يريد أزواجَهُ - لكي يُصلِّين؟، رُبَّ كاسيةٍ في الدنيا عاريةٌ في الآخرة". "قالت أم سلمة: استيقظ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ليلةً فزعًا يقول: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة": استفهام معناه التعجب والتعظيم. "من الخزائن؟ ": أراد بها: الرحمة، عبر عنها بالخزائن؛ لكثرتها. "وماذا أنزل من الفتن؟ ": أراد بها: العذاب، عبَّر عنه بالفتن؛ لأنها مؤدية إليه؛ أي: كم رحمة نزلت؟ وكم عذاب نزل؟ "من يوقظ": استفهام؛ أي: هل أحدٌ يوقظ؟ "صواحبَ الحجرات - يريد أزواجه - لكي يُصلِّين"؛ ليجدن الرحمة، ويفررن من العذاب. "ربَّ كاسيةٍ في الدنيا"؛ أي: رب نفس كاسية أو امرأة كاسية في الدنيا من ألوان الثياب. "عاريةٍ في الآخرة": من أنواع الثواب؛ لكونها غير صالحة في الدنيا، فلا ينفع الشخص في الآخرة إلا العمل الصالح، وهذا عامٌ في الرجال والنساء، فذكر أزواجه؛ لزيادة تخويفهن. * * * 873 - وقال: "ينزلُ ربنا تباركَ وتعالى كلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدنيا حينَ يبقَى ثلثُ الليلِ الآخرُ يقول: مَن يدعوني فأَستجيبَ له، مَن يسألُني فأُعْطِيَهِ، مَن يستغفرني فأَغفِرَ له".

وفي روايةٍ: "ثم يبسُطُ يديهِ يقول: من يُقرِضُ غيرَ عَدومٍ ولا ظَلُوم؟ حتى ينفجرَ الفجرُ". [وفي رواية: "يكون كذلك حتى يُضيء الفجر ثم يعلو ربنا إلى كُرسيه"]. "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخرُ": بالرفع صفة (ثلث)، قيل: هذا متشابه معناه: ينتقل كل ليلة من صفات الجلال إلى صفات الرحمة والكمال. وقيل: المراد نزول الرحمة والألطاف الإلهية، وقربها من العباد، أو نزول ملك من خواص ملائكته، فينقل حكاية الرب تعالى في ذلك الوقت بأمر الله تعالى. "يقول: من يدعوني؟ فأستجيبَ له": بالنصب على تقدير (أن) جوابًا للاستفهام. "من يسألني؟ فأعطيه، من يستغفرني؟ فأغفر له": والتخصيصُ بالليل وبالثلث الآخر منه؛ لأنه وقت التهجد، فيختصُّ بمزيد الشرف والفضل؛ لأن النية تكون فيه أخلص، والرغبة إلى الله تعالى أوفر. "وفي رواية" عن أبي هريرة: "ثم يبسط يديه"؛ أي: لطفه ورحمته. "ويقول: من يقرضُ غير عدوم"؛ أي: غير فقير. "ولا ظلوم": أراد به ذاته تعالى؛ فإنه غني لا يعجز عن أداء حقه، وعادل لا يظلم المقرض ينقص ما أخذه، بل أخذَ يضاعفُ ذلك أضعافًا كثيرة، وإنما وصف تعالى بهذين الوصفين؛ لأنهما المانعان غالبًا من الإقراض، والأولى أن يراد بالقرض هنا: الطاعة؛ مالية كانت، أو بدنية، فمعناه: من يفعل خيرًا يجد

جزاءً" كاملًا عندي. "حتى ينفجر الفجر": يطلع، وفيه دلالة على امتداد وقت ذلك اللطف. * * * 874 - وقال: "إنَّ في الليلِ ساعةً لا يوافقُها رجلٌ مسلمٌ يسألُ الله تعالى خيرًا، مِن أمرِ الدنيا والآخرةِ إلا أَعطاهُ إيَّاهُ، وذلكَ كلَّ ليلةٍ". "وعن جابرك - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن في الليل ساعة لا يوافقها رجلٌ مسلمٌ يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، وذلك كلَّ ليلة": بنصب (كل) بالظرفية، وهو خبر (ذلك)؛ أي: ساعة الإجابة لا تختصُّ ببعض الليل دون بعض، بل هي في جميع الليالي، فليتهجد العبدُ في إحياء كل ليلة أو بعضها، لعله يصادف تلك الساعة. * * * 875 - وقال: "أَحبُّ الصلاةِ إلى الله صلاةُ داوُدَ، وأَحبُّ الصيامِ إلى الله صيامُ داودَ، كانَ ينامُ نصفَ الليلِ، ويقومُ ثُلُثَهُ، وينامُ سُدسَه، ويصومُ يومًا، ويُفْطِرُ يومًا". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله قال الله تعالى عليه وسلم: أحب الصلاة إلى الله"؛ أي: في النوافل. "صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود، كان ينام نصف الليل"؛ أي: نصفه الأول. "ويقوم": بعد ذلك "ثلثه، وينام سدسه": الآخر، ثم يقوم عند الصبح، وإنما صار هذا النوع أحبَّ؛ لأن النفس إذا نامت الثلثين من الليل تكون أخفَّ وأنشط في العبادة.

"ويصوم يومًا ويفطر يومًا"؛ فإن ذلك أشق على النفس؛ لأنها تصادف مألوفها في يوم، وتفارقه في آخر. * * * 876 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ - تعني رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ينامُ أولَ الليلِ ويُحيي آخِرَهُ، ثم إنْ كانت له حاجةٌ إلى أهلهِ قضَى حاجتَه، ثم ينامُ، فإن كانَ عندَ النداءِ الأولِ جُنبًا وثبَ فأفاضَ عليهِ الماءَ، وإن لم يكنْ جنبًا توضأَ للصلاةِ، ثم قال ركعتينِ. "قالت عائشة رضي الله عنها: كان - تعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": تفسير لضمير (كان). "ينام أول الليل، ويحيي آخره، ثم إن كانت له" بعد إحيائه الليلَ "حاجة إلى أهله"؛ أي: أراد مباشرة أزواجه. "قضى حاجته"؛ أي: فعلها. "ثم ينام"، وإنما ذكرت لفظة (ثم)؛ ليعلم أن الجدير به - عليه الصلاة والسلام - تقديم العبادة على الشهوة والعادة. "فإن كان عند النداء الأول جُنبًا"؛ أي: عند أذان بلال؛ فإنه كان يؤذن نصف الليل. "وثب"؛ أي: قام من النوم مستعجلًا. "فأفاض عليه الماء"؛ أي: اغتسل. "وإن لم يكن جنبًا، توضأ للصلاة، ثم صلَّى ركعتين"؛ أي: يبتدأ بهما، كما ذكر في صلاة الليل. * * *

مِنَ الحِسَان: 877 - عن أبي أُمامة قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بقيامِ الليلِ فإنه دَأبُ الصالحينَ قبلَكم، وهو قُرْبَةٌ لكم إلى رَبكم، وَمَكْفَرةٌ للسيئاتِ ومَنْهَاةٌ عن الإثمِ". وفي رواية: "وَمَطرَدَة الداءِ عن الجسدِ". "من الحسان": " عن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأبُ الصالحين قبلكم"؛ أي: عادتهم، يجوز أن يراد بهم: الأنبياء الماضون. "وهو قربة لكم إلى ربكم ومَكفرة": بفتح الميم مصدر بمعنى اسم الفاعل؛ أي: ساترة "للسيئات"، وكذا "منهاة"؛ أي: ناهٍ "عن الإثم"؛ يعني: خصلة تكفر سيئاتكم، وتنهاكم عن المحرمات، وهو قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]. * * * 878 - وقال: "ثلاثةٌ يضحكُ الله إليهم: الرجلُ إذا قامَ باللَّيلِ يُصلِّي، والقومُ إذا صفُّوا في الصلاةِ، والقومُ إذا صفُّوا في قتالِ العدوِّ". "وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ثلاثة يضحك الله إليهم"؛ أي: ينظر إليهم نظرَ الرضاء البالغ والرحمة السابغة. "الرجلُ إذا قام بالليل يصلي، والقومُ إذا صفوا في الصلاة، والقومُ إذا صفوا في قتال العدو". * * *

879 - وقال: "أقربُ ما يكونُ الربُّ مِن العَبْدِ في جوفِ الليلِ الآخرِ، فإن استطعتَ أنْ تكونَ ممن يذكرُ الله في تلكَ الساعةِ فَكُنْ"، صحيح. "وعن عمرو بن عبسة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الآخر": صفة لـ (جوف)؛ أي: في النصف الآخر من الليل. "فإن استطعتَ أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكنْ"، وإنما كان هذا الوقت شريفًا؛ لأنه الوقت الذي ينادي الله تعالى فيه عباده فيقول: من يدعوني فأستجيب له. "صحيح". * * * 880 - وقال: "رحمَ الله رجلًا قامَ من الليلِ فصلَّى، وأَيقظَ امرأتَه فَصَلَّتْ، فإن أَبَتْ نضحَ في وجهِهَا الماءَ، رحمَ الله امرأةً قامَتْ من الليلِ فصلَّتْ، وأيقظَتْ زوجَها فإن أبَى نضحَت في وجهِه الماءَ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رحم الله رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ أهله"؛ يعني: امرأته. "فصلت، فإن أبت نضح"؛ أي: رشَّ "في وجهها الماء، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها، فإن أَبى نضحت في وجهه الماء"، وهذا يدل على أن إكراهَ أحدِ على خير يجوزُ، بل يستحب. * * * 881 - وعن أبي أُمَامة أنه قال: قيل: يا رسولَ الله!، أيُّ الدعاءَ أَسْمَعُ؟

قال: "جوفَ الليلِ الآخرَ، ودُبُرَ الصلواتِ المكتوباتِ". "وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: قيل: يا رسول الله! أيُّ الدعاء أسمع؟ "؛ أي: أقرت إلى أن يسمعه الله؛ أي: يتقبله. "قال: جوفَ الليل": بنصب (جوف) على الظرفية؛ أي: الدعاء في جوف الليل. "الآخر": ويروى: برفعه بتقدير حذف المضاف؛ أي: دعاء جوف الليل. قال الخطابي: المراد: ثلث الآخر، وهو الجزء الخامس من أسداس الليل. "ودبر الصلوات المكتوبات"؛ أي: عقيبها، عطف على (جوف). * * * 882 - وقال: "إن في الجنةِ غُرَفًا يُرَى ظاهِرُها من باطِنها، وباطنُها من ظاهِرها أَعَدَّها الله لمن أَلانَ الكلامَ، وأَطْعَمَ الطعامَ، وتابعَ الصيامِ، وصلى بالليلِ والناسُ نيامٌ". وفي روايةٍ: "لِمَنْ أَطَابَ الكلامَ". "وعن أبي مالك الأشعري أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن في الجنة غرفًا": جمع غرفة، وهو: البناء على علو. "يرى ظاهرها من باطنها، وباطنها من ظاهرها أعدها الله"؛ أي: هيأها "لمن ألان الكلام"؛ أي: لمن له خلقٌ حسن مع الناس. "وأطعم الطعام، وتابع الصيام"؛ أي: أكثر منه بعد الفريضة بحيث تابع بعضها بعضًا، ولا يقطعها رأسًا. "وصلى بالليل والناس نيام": جمع نائم.

33 - باب القصد في العمل

"وفي رواية: لمن أطاب الكلام". * * * 33 - باب القَصْد في العمَل (باب القصد في العمل) مِنَ الصِّحَاحِ: 883 - قال أنس - رضي الله عنه -: كَانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرُ من الشهرِ حتى نظُنَّ أن لا يصومَ منه، ويصومُ حتى نظُنَّ أن لا يفطرَ منه شيئًا، وكانَ لا تشاءُ أن تراهُ من الليلِ مصليًا إلا رأيتَهُ، ولا نائمًا إلا رأيتَه. أي: الاقتصاد والتوسط فيه بلا إفراط ولا تفريط. "من الصحاح": " قال أنس: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفطر": أيامًا كثيرة. "من الشهر حتى نظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى نظن أن لا يفطر منه شيئًا"، ثم يفطر؛ يعني: لا يصوم أبدًا، ولا يفطر أبدًا. "وكان لا تشاء": (لا) بمعنى: ليس، أو بمعنى: لم؛ أي: ليس تشاء، أو لم تكن تشاء "تراه من الليل مصليًا إلا رأيته" مصليًا. "ولا نائمًا"؛ أي: لا تشاء تراه من الليل نائمًا، "إلا رأيته" نائمًا، أو معناه: لا تشاء تراه مصليًا إلا رأيته غير مصلٍّ، ولا نائمًا إلا رأيته غير نائم. * * *

884 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحبُّ الأعمالِ إلى الله تعالى أَدْوَمُها وإن قَلَّ". "وعن عائشة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أحبُّ الأعمال إلى الله تعالى أدومها وإن أقل"؛ أي: العمل، وإنما كان العمل الذي يُداوَم عليه أحبَّ؛ لأن النفس تألف به، ويدوم بسببه الإقبالُ على الله تعالى، ولهذا ينكر أهل التصوف ترك الأوراد، كما يُنكَر ترك الفرائض. * * * 885 - وقال: "خذوا من الأعمالِ ما تُطِيقونَ، فإن الله لا يَمَلُّ حتى تَمَلُّوا". "وعنها رضي الله عنها، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: خذوا من الأعمال ما تطيقون"؛ يعني: لا تحملوا على أنفسكم أورادًا كثيرة بحيث لا تقدرون على مداومتها، فتتركونها. "فإن الله لا يمل": معنى المَلال من الله تعالى: ترك إعطاء الثواب؛ أي: لا يقطع الثواب والرحمة عنكم. "حتى تملوا"، وتتركوا عبادته، وقيل: معناه: لا ينقطع عنكم فضله حتى تملوا سؤاله. * * * 886 - وقال: "لِيُصَلِّ أحدُكم نشاطَه، فإذا فَتَرَ فليقعُدْ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليصلي أحدُكم نشاطَه"؛ أي: وقت نشاطه بالعبادة.

"فإذا فتر"؛ أي: ضعف. "فليقعد"؛ فإن الله تعالى لا ينبغي أن يناجي عن ملالة. * * * 887 - وقال: "إذا نَعِسَ أحدُكم وهو يصلي فَلْيَرْقُدْ حتى يذهبَ عنه النومُ، فإنَّ أحدكم إذا صلى وهو ناعسٌ لا يدري لعلَّه يستغفرُ فَيَسُبُّ نفسَهُ". "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا نعس أحدكم"؛ أي: نام. "وهو يصلي فليرقد"؛ أي: فلينم. "حتى يذهب عنه النوم"؛ أي: ثقله. "فإن أحدكم إن صلى وهو ناعس": النعاس: أول النوم. "لا يدري": مفعوله محذوف؛ أي: لا يدري أيَّ شيء يصدر عنه من غلبة النوم. "لعله يستغفر"؛ أي: يقصد أن يستغفر لنفسه بأن يقول: اللهم اغفر لي. "فيسب نفسه": بأن يقول: اللهم اعفر لي، والعفر: هو التراب، فيكون دعاءً عليه بالذل. * * * 888 - وقال: "إن الدينَ يُسْرٌ، ولن يُشَادَّ الدينَ أحدٌ إلا غَلَبَه، فسدِّدوا وقارِبُوا، وأَبشِروا، واستَعِينوا بالغَدْوَةِ والرَّوْحَةِ وشيءٍ من الدُّلْجَة". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الدين"؛ أي: دين الله الذي أمر به عباده، وهو الإسلام.

"يسر"؛ أي: مبني على اليسر والسهولة، لم يكلفهم الله في الدين ما يشق عليهم، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقال أيضًا: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، فلا ينبغي لأحد أن يحمل على نفسه مشقة عظيمة في العبادات. "ولن يشاد الدين أحد"؛ أي: لن يقوم بشدة بما لم يُؤمَر به، ولم يجبْ عليه. "إلا غلبه"؛ أي: غلب الدينُ عليه، وعجز عن قضاء حقوقه. "فسددوا": الفاء جواب شرط مقدر؛ أي: إذا عرفتم ما في المشادة من الفتور عن العمل، فاطلبوا بأعمالكم السَّداد؛ أي: الصواب في الأمر والعدل فيه. وقيل: أي: الزموا السداد، والمراد: الطريقة التي لا حرجَ فيها في أعمالكم. "وقاربوا"؛ أي: اقتصدوا في الأمور الشرعية كلها، واتركوا الغُلوَّ والتقصير فيها. "وأبشروا"؛ أي: بالجنة، وافرحوا، ولا تحزنوا؛ فإن الله تعالى كريم يرضى عنكم بأداء فرائضه، ويعطيكم الثواب العظيم بالعمل القليل. "واستعينوا بالغدوة": بالفتح: المرة من الغد، وهو: السير أول النهار. "والرَّوحة": المرة من الرواح، وهو: السير آخر النهار. "وشيء من الدُّلجة": وهي اسم من (الادِّلاج) بتشديد الدال، وهو: السير في آخر الليل. وقيل: اسم من (الإدْلاج) بسكون الدال، وهو: السير في أول الليل.

يعني: استعينوا بالطاعة على تحصيل الجنة ونعيمها في أول النهار وآخره، وبشيء من الليل، وكأن هذا بيان لقوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود: 114]. وهذا تحريضٌ على طاعة الله تعالى في هذه الأوقات الشريفة. * * * 889 - وقال: "مَنْ نامَ عن حزبهِ، أو عن شيءٍ منه فقرأهُ فيما بينَ صلاةِ الفجرِ وصلاةِ الظهرِ، كُتِبَ له كأنما قرأ من الليلِ". "وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من نام عن حِزْبه"؛ أي: عن ورده من الليل من قراءة أو صلاة فاته فيها. "أو عن شيء منه"؛ أي: نام عن بعض من حزبه. "فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كُتب له كأنما قرأه من الليل"؛ لأن ما قبل الظهر كأنه من جملة الليل؛ ولهذا تصحُّ نية الصوم فيه. * * * 890 - وقال: "صَلِّ قائمًا، فإن لم تستَطِعْ فقاعدًا، فإن لم تستَطِعْ فعلى جَنبٍ". "وعن عمران بن حُصين أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب": فيجوز ترك القيام بشرط العجز عنه، وكذلك ترك القعود، والانتقال منه إلى الاضطجاع، وهذا في الفريضة، وأما في النوافلة؛ فيجوز القعود مع القدرة على القيام. * * *

891 - وقال: "مَن صلَّى قاعِدًا فله نصفُ أجرِ القائِمِ، ومَن صلَّى نائمًا فله نصفُ أجرِ القاعدِ"، رواهما عِمْران بن حُصين. "وعن عمران أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من صلَّى قاعدًا، فله نصفُ أجر القائم، ومن صلَّى نائمًا"؛ أي: مضطجعًا، "فله نصفُ أجر القاعد"، وهذا محمول على المتنفل قاعدًا مع قدرته على القيام؛ لأن التنفل قاعدًا مع العجز يكون ثوابه كثوابه قائمًا. وقيل: في حق المفترض المريض الذي أمكنه القيام مع شدة مشقة وزيادة في المرض. * * * مِنَ الحِسَان: 892 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أَوَى إلى فِراشِهِ طاهرًا يذكرُ الله تعالى حتى يدركَه النُّعاسُ؛ لم يتقلَّبْ ساعةً من الليلِ يسألُ الله شيئًا من خيرِ الدنيا والآخرةِ، إلا أَعطاه إياه". "من الحسان": " عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من أوى" - بهمزة مقصورة - "إلى فراشه"؛ أي: أتى إلى فراشه "طاهرًا"؛ أي: متوضئًا. "يذكر الله حتى يدركه النعاسُ، لم يتقلب"؛ أي: على فراشه. "ساعة": بالرفع؛ أي: لم تمض ساعةٌ، وبالنصب: فالمعنى: لم يتردد ذلك الرجل في فراشه في ساعةٍ "من الليل، يسأل الله تعالى شيئًا من خير الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه". * * *

893 - وقال: "عجِبَ ربنا من رجلينِ: رجلٌ ثارَ عن وِطائه ولِحافِه من بينِ حِبه وأهلِه إلى صلاتهِ فيقولُ الله لملائكَتِه: انظروا إلى عبدي ثارَ عن فِراشِه ووِطائِه من بينِ حِبه وأهلِه إلى صلاتِه، رغبةً فيما عندي وشفَقًا مما عندي، ورجلٌ غزا في ممبيلِ الله فانهزمَ مع أصحابهِ، فعلمَ ما عليهِ في الانهزامِ وما لَهُ في الرجوعِ، فرجعَ حتي هُريقَ دَمُه، فيقولُ الله تعالى لملائكَتِه: انظروا إلى عبدي رجعَ رغبةً فيما عندي، وشفقًا مما عندي حتى هُريقَ دمهُ". "عن عبد الله بن مسعود: أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: عجب ربنا"؛ أي: رضي وأثاب. وقيل: أي: عظم ذلك عنده، وكبر لديه، فسماه عجبًا مجازًا؛ لأن التعجب يكون مما خفي سببه، ولا يخفى عليه تعالى سببُ شيء. "من رجلين: رجلٌ ثار"؛ أي: قام. "عن وِطائه": بكسر الواو؛ أي: عن فراشه اللين. "ولِحافه": بكسر اللام: وهو ثوب النوم الذي يكون فوق النائم. "من بين حِبه": بكسر الحاء؛ أي: محبوبه. "وأهله، إلى صلاته، فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين حبه وأهله إلى صلاته رغبةً فيما عندي": من الثواب والجنة. "وشفقًا"؛ أي: خوفًا. "مما عندي": من العذاب والعقوبة بالنار. "ورجل غزا في سبيل الله، فانهزم مع أصحابه، فعلم ما عليه" من الإثم "في الانهزام، وما له" من الثواب "في الرجوع"، والإقبال على محاربة الكفار.

34 - باب الوتر

"فرجع حتى هريق دمه"؛ أي: صُبَّ. "فيقول الله تعالى لملائكته: انظروا إلى عبدي رجع رغبةً فيما عندي وشفقًا مما عندي حتى هريقَ دمه". * * * 34 - باب الوِتْر (باب الوتر) مِنَ الصِّحَاحِ: 894 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة الليل مَثْنَى مَثْنَى، فإذا خشِيَ أحدُكم الصُّبحَ صلَّى ركعةً واحدةً تُوتر له ما قد صلَّى". "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صلاة الليل مثنى مثنى"؛ أي: يسلم من كل ركعتين، استدل به أبو يوسف ومحمد والشافعي على أن الأفضل في نافلة الليل مثنى مثنى. "فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة تُوتر له ما قد صلَّى"؛ أي: يجعل هذه الركعة الصلاة التي صلاها في الليل وِترًا بعد أن كانت شفعًا، والحديث حجة للشافعي في قوله: الوتر ركعة واحدة. * * * 895 - وقال: "الوِتْر ركعةٌ من آخِر اللَّيل".

"وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الوتر ركعة من آخر الليل"؛ أي: أقل الوتر ركعة، وآخر وقتها: آخر الليل. * * * 896 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي من اللَّيلِ ثلاثَ عشرةَ ركعةً يُوتِرُ من ذلكَ بخمسٍ لا يَجلِسُ في شيءٍ إلا في آخرِها. "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي من الليل ثلاث عشر ركعة": ثمان ركعات منها بأربع تسليمات. "يوتر من ذلك بخمس"؛ أي: يصلي خمس ركعات من ذلك بنية الوتر. "لا يجلس" للتشهد، "إلا في آخرها"، وإليه ذهب الشافعي في قول. * * * 897 - عن سَعْد بن هشام - رضي الله عنه - أنه قال: انطلقْنا إلى عائشةَ رضي الله عنها فقلتُ: يا أمَّ المؤمنينَ، أَنْبئيني عن خُلُقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟، قالت: أَلَستَ تَقْرأُ القُرآنَ؟، قلت: بلى، قالَت: فإن خُلُقَ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ القرآنَ، قلتُ: يا أمَّ المؤمنينَ، أَنبئيني عن وِتْرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟، قالت: كُنَّا نُعِدُّ لَهُ سواكَه وطَهُورَه، فَيَبعثُه الله ما شاءَ أن يبعثَه من الليلِ، فَيتسوَّكُ ويتوضَّأ ويُصلِّيَ تسعَ ركعاتٍ لا يَجلِسُ فيها إلا في الثامنةِ، فَيذكُر الله، ويَحمَدُه، ويدعُوه، ثم ينهضُ ولا يُسلِّم فيصلي التاسعةَ، ثم يقعدُ فَيذكرُ الله، ويحمدُه، ويدعُوه، ثم يسلِّمُ تسليمًا يُسمِعُنا، ثم يُصلِّي ركعتَينِ بعدَ ما يُسلِّمُ وهو قاعدٌ، فتلكَ إحدى عشرةَ ركعةً، فَلَمَّا أَسَنَّ وأخذَ اللَّحْمَ أَوترَ بسبعٍ، وصنَعَ في الركعتينِ مثلَ صَنيعِه في الأُولى، فتلْكَ تسعٌ يا بنيَّ، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى صلاةً أحبَّ أن يُداومَ عليها، وكان إذا غلبَهُ نومٌ أو وجعٌ عن قيامِ الليلِ صلى من النهارِ ثنتي عشرةَ ركعةً، ولا أعلمُ

نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قرأَ القرآنَ كلَّه في ليلةٍ، ولا صلَّى ليلةً إلى الصُّبح، ولا صامَ شهرًا كاملًا غيرَ رمضان. "وعن سعد بن هشام - رضي الله عنه - أنه قال: انطلقنا إلى عائشة رضي الله عنها، فقلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني"؛ أي: أخبريني. "عن خلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: عن طبعه ومُروءته. "قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى، قالت: فإن خلق نبي الله كان القرآن"؛ أي: كان - عليه الصلاة والسلام - متمسكًا بآداب القرآن وأوامره ونواهيه، وما يشمل عليه من المكارم والمحاسن والألطاف. قيل: ذلك إشارة إلى مثل قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] الآية، و {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل: 90]، {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان: 17 {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} [المائدة: 13] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تهذيب الأخلاق. وقيل: معناه: كان خلقه مذكورًا في القرآن؛ إشارة إلى قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]. "قلت: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن وتر رسول الله عليه الصلاة والسلام، قالت: كنا نُعد": من الإعداد؛ أي: نهييء له عليه الصلاة والسلام "سواكه وطَهوره"؛ أي: ماء وضوئه. "فيبعثه الله"؛ أي: يوقظه من النوم. "ما شاء أن يبعثه"؛ أي: في الوقت الذي شاء بعثه فيه "من الليل، فيتسوك ويتوضأ، ويصلي تسع ركعات، لا يجلس فيها إلا في الثامنة، فيذكر الله تعالى"؛ أي: يقرأ التشهد.

"ويحمده": فالحمد إذن لمطلق الثناء؛ إذ ليس في التحيات لفظ الحمد. "ويدعوه، ثم ينهض"؛ أي: يقوم. "ولا يسلم، فيصلي التاسعة، ثم يقعد، فيذكر الله تعالى ويحمده ويدعوه، ثم يسلم تسليمًا يسمعنا"؛ أي: يرفع صوته بالتسليم بحيث نسمعه. "ثم يصلي ركعتين بعدما يسلم، وهو قاعد": قال النووي: الصواب أنهما لبيان جواز الصلاة بعد الوتر، وبيان جواز النفل قاعدًا. "فتلك إحدى عشرة ركعة، فلما أسن"؛ أي: كبر. "وأخذ اللحمَ"؛ أي: ضعف. "أوترَ بسبع، وصنع في الركعتين مثل صنيعه في الأولى"؛ يعني: صلاهما قاعدًا، كما كان يصنع قبل أن أسنَّ. "فتلك تسعٌ يا بني، وكان نبي الله - صلى الله عليه وسلم - إذ صلَّى صلاة أحبَّ أن يداوم عليها، وكان إذا غلبه نوم أو وجع عن قيام الليل، صلَّى من النهار ثنتي عشرة ركعة، ولا أعلم نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن كله في ليلة، ولا صلَّى ليلة إلى الصبح، ولا صام شهرًا كاملًا غيرَ رمضان". * * * 898 - عن عبد الله بن عُمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اجْعَلوا آخرَ صلاتِكم باللَّيلِ وِتْرًا". "وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اجعلوا آخر صلاتكم بالليل وترًا": وهذا يدل على أن السنة ختم صلاة الليل بالوتر. * * *

899 - وقال: "بادِرُوا الصُّبحَ بالوترِ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بادروا الصبح بالوتر"؛ أي: أسرعوا بأداء الوتر قبل الصبح، قيل: لا وترَ بعد الصبح، وعليه مالك وأحمد. * * * 900 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن خافَ أن لا يقومَ مِن آخرِ الليلِ، فليُوترْ أولَّه، ومن طَمِعَ أن يقومَ آخِرُهُ فليُوترْ آخِرَ الليلِ، فإن صلاةَ آخرِ الليلِ مشهودةٌ، وذلكَ أفضلُ". "وعن جابر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من خاف أن لا يقوم من آخر الليل": (من) فيه للتبعيض، أو بمعنى: في. "فليوتر أوله"؛ أي: ليصلي الوتر في أول الليل، وأمره بالإيتار عند خوف الفوت يدلُّ على وجوبه، وإليه ذهب أبو حنيفة. "ومن طمع أن يقوم آخره، فليوتر آخر الليل، فإن صلاة آخر الليل مشهودة"؛ أي: محضورة تحضرها ملائكة الرحمة. "وذلك"؛ أي: الإيتار في آخر الليل "أفضل". * * * 901 - وقالت عائشة رضي الله عنها: "مِن كُلِّ الليلِ أَوْتَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن أوَّلِ اللَّيلِ وأَوْسَطِه وآخرِه، وانتهى وِتْرُه إلى السَّحَرِ". "وقالت عائشة رضي الله عنها: من كلِّ الليل أوترَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ من أول الليل": (كان) الأولى تبعيضية، و (من) الثانية بدل

منها، أو بيان لمعنى التبعيضية، ويجوز أن تكون الأولى ابتدائية، والثانية بيانًا لـ (كل)، وهذا أوجه. "وأوسطه وآخره وانتهى وتره إلى السحر". * * * 902 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: أَوْصاني خليلي بثلاثٍ: صيامِ ثلاثةِ أيامٍ مِن كلِّ شهرٍ، وركعتي الضحى، وأن أُوتِرَ قبلَ أن أنامَ. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: أوصاني خليلي"؛ يعني: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. "بثلاث"؛ أي: بثلاث خصال. "صيام ثلاثة أيام من كل شهر"؛ يعني: أيام البيض، وهي: الثالث عشر والرابع عشر والخاص عشر من الشهر. "وركعتي الضُّحى، وأن أوتر قبل أن أنام"، والإيتارُ قبل النوم إنما يستحب ممن لا يثقُ بالانتباه في آخر الليل، فإن وثق، فآخرُ الليل أفضل. * * * مِنَ الحِسَان: 903 - عن غُضَيف بن الحارث قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: أرأيتِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يغتسلُ من الجنابةِ في أولِ الليلِ أَمْ في آخرِه؟، قالت: رُبَّما اغتسل في أولِ الليلِ ورَبَّما اغتسلَ في آخره، فقلت: الحمدُ للهِ الذي جعلَ في الأمرِ سَعَةً، قلتُ: كانَ يُوتِرُ في أولِ الليلِ أَمْ في آخِرِه؟، قالت: رُبَّما أَوترَ في أولِ الليلِ ورُبَّما أوترَ في آخرِه قلتُ: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعَةً،

قلت: كانَ يجهرُ بالقراءةِ أم يَخفِت؟، قالت: رُبَّما جهَرَ ورُبَّما خَفَتَ، قلت: الله أكبر، الحمد لله الذي جعلَ في الأمرِ سَعَةً. "من الحسان": " عن غضيف بن الحارث أنه قال: قلت لعائشة: أرأيت"؛ أي: أخبريني "رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يغتسل من الجنابة في أول الليل، أم في آخره؟ قالت: ربما اغتسل في أوَّل الليل، وربما اغتسل في آخره، فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر"؛ أي: في أمر الشرع. "سعة"؛ أي: سهلًا. "قلت: كان يوتر في أول الليل، أم في آخره؟ قالت: ربما أوتر"؛ أي: صلى الوتر. "في أول الليل، وربما أوتر في آخره، فقلت: الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة، قلت: كان يجهر بالقراءة، أم يخفت؟ "؛ أي: يُسِرُّ بها. "قالت: ربما يجهر به، وربما خفَت، قلت: الله أكبر، الحمد لله الذي جعل في الأمر سعة". * * * 904 - وسُئلت عائشة رضي الله عنها: بِكَم كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُوتِر؟، قالت: كان يُوتر بأربعٍ وثلاثٍ، وستٍ وثلاثٍ، وثمانٍ وثلاثٍ، وعشرٍ وثلاثٍ، ولم يكنْ يُوتِر بأَنقَصَ من سبعٍ، ولا بأكثرَ من ثلاثَ عشرةَ. "وسُئِلت عائشة رضي الله عنها: بكم كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوتر؟ قالت: كان يوتر بأربع وثلاث"، فيكون سبعًا. "وست وثلاث"، فيكون تسعًا.

"وثمان وثلاث"، فيكون إحدى عشرة ركعة. "وعشر وثلاث"، فيكون ثلاث عشرة ركعة، ففي كلِّ ذلك يصلي ما قبل الثلاث كلُّ ركعتين بتسليمة، والثلاث بتسليمة. "ولم يكن يوتر بأنقصَ من سبع ولا بأكثر من ثلاث عشرة". * * * 905 - عن أبي أَيُّوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوِترُ حقٌّ على كلِّ مسلمٍ، فمن أَحبَّ أن يُؤتِرَ بخمسٍ فليفعلْ، ومَن أحبَّ أَنْ يُؤتِرَ بثلاثٍ فليفعلْ، ومَن أحبَّ أن يوتِرَ بواحدةٍ فليفعل". "وعن أبي أيوب أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الوترُ حقٌّ"؛ أي: سنة، عبَّر بهذا للتأكيد، هذا على قول الشافعي، وعن أبي حنيفة: معناه واجبٌ. "على كل مسلم، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل". * * * 906 - وقال: "إن الله تعالى وِتْرٌ يُحبُّ الوِترَ، فأَوتِروا يا أهلَ القُرآنِ". "وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله وِترٌ"؛ أي: واحدٌ في ذاته لا يقبل الانقسام، وفي صفاته؛ إذ لا شبهَ له ولا مثلَ، وفي أفعاله؛ فلا شريكَ له ولا معينَ. "يحبُّ الوتر"؛ أي: يثيب عليه، ويقبله من عامله.

"فأوتروا": الفاء تُؤذِنُ بشرط مقدر، كأنه قال: إذا اهتديتم إلى أن الله تعالى يحب الوتر فأوتروا؛ أي: اجعلوا صلاتكم وترًا. "يا أهل القرآن": والمراد بهم المؤمنون المصدقون للقرآن خاصةً من تولَّى قيام تلاوته، ومراعاة حدوده، وأحكامه. * * * 907 - قال: "إن الله أَمَدَّكم بصلاة هي خيرٌ لكم من حُمْرِ النَّعَم: الوِترُ، جعلَه الله فيما بينَ صلاةِ العِشاءِ إلى أنْ يَطلُعَ الفجْر". "وعن خارجة بن حذافة - رضي الله عنه - أنه قال: خرج علينا رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: إن الله أمدكم"؛ أي: زادكم على صلاتكم. "بصلاةٍ هي خيرٌ لكم من حُمرِ النَّعم": الحمر: جمع الأحمر، والنَّعم هنا: الإبل، من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وإنما قال ذلك ترغيبًا للعرب فيها؛ لأن حمر النعم أعزُّ الأموال عندهم. "الوتر": بالجر بدل من (صلاة)، وبالنصب بتقدير: أعني، وبالرفع خبر مبتدأ محذوف. "جعله الله فيما بين صلاة العشاء إلى أن يطلعَ الفجر": يدل على أنه لا يجوز تقديمه على فرض العشاء. * * * 908 - وقال: "مَن نامَ عن وِتْرهِ فليُصَلِّ إذا أَصبَحَ"، مُرسَل. "وعن عبد الله بن زيد بن أسلم، عن أبيه: أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من نام عن وتره فليصلِّ إذا أصبح"؛ أي: فليقضِ الوترَ

بعد الصبح متى اتفق، وإليه ذهب الشافعي في أظهر قوليه. "مرسل". * * * 909 - سُئلت عائشةُ رضي الله عنها: بأي شيءٍ كان يوترُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؟، قالت: كان يقرأُ في الأُولى بـ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وفي الثانية بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمُعوِّذتين. "سُئِلت عائشة بأي شيء كان يوتر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ " أي: أيَّ شيء يقرأ في الوتر؟ "قالت: كان" رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يقرأ في الأولى: بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وفي الثانية: بـ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1]، وفي الثالثة: بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعوذتين". * * * 910 - وعن الحسنِ بن علي - رضي الله عنه - أنه قال: علَّمَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كلماتٍ أقولُهنَّ في قنوتِ الوِترِ: "اللهم اهدِني فيمَن هدَيتَ، وعافِني فيمَن عافيتَ، وتَوَلَّني فيمَن تَوَلَّيْتَ، وبارِكْ لي فيما أعطيتَ، وَقِني شرَّ ما قضيتَ، فإنَّكَ تَقضي ولا يُقضَى عليكَ، إنه لا يَذِلُّ مَنْ والَيْتَ، ولا يَغِرُّ من عاديتَ، ولا يضل من هديت، تباركتَ ربنا وتعالَيْتَ". "عن الحسن بن علي أنه قال: علَّمني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كلماتٍ أقولهنَّ في قنوت الوتر: اللهم اهدني فيمَنْ هديتَ"؛ أي: اجعلني ممن هديتهم إلى الصراط المستقيم.

"وعافني فيمن عافيت"؛ أي: عافيتهم، من (المعافاة): التي هي دفع السوء. "وتولَّني فيمن توليت"؛ أي: توليتهم؛ يعني: أحببتهم، من (تولى): إذا أحب أحدًا، أو ممَّن تقوم بحفظ أمورهم، من (تولَّى العمل): تقلَّده. "وبارك لي فيما أعطيت"؛ أي: أوقع البركةَ فيما أعطيتني من خير الدارين. "وقني شرَّ ما قضيت؛ فإنك تقضي ولا يقضى عليك، إنه لا يذلُّ من واليت": من (الموالاة): ضد المعاداة. "تباركت ربنا"؛ أي: زدت في الخير، من (البركة): وهي النماء والزيادة. "وتعاليت"؛ أي: ارتفعت عن مشابهة كلِّ شيء. * * * 911 - وعن أُبي بن كَعْبٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سلَّم من الوترِ قال: "سُبحانَ المَلِكِ القُدُّوسِ" ثلاثَ مراتٍ يرفعُ في الثالثةِ صَوْتَه. "وعن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا سلَّم من الوتر قال: سبحان الملك القدوس"؛ أي: الطاهر. "ثلاث مرات، يرفع في الثالثه صوته": يدل على أن الذكر برفع الصوت جائزٌ، بل مستحبٌّ إذا لم يكن عن الرياء؛ لإظهار الدين. * * * 912 - وعن علي - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ في آخر وتْرِهِ: "اللهم إنِّي أَعوذُ برِضاكَ من سَخَطِكَ، وبُمعافاتِكَ من عقُوبَتِكَ، وأَعوذُ بكَ منكَ، لا أُحصي ثناءً عليكَ أنتَ كما أَثنيتَ على نفْسِك".

35 - باب القنوت

"وعن علي كرَّم الله وجهه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: اللهم إني أعوذ برضاكَ من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك"؛ أي: برحمتك من عذابك. "لا أحصي ثناءً عليك"؛ أي: لا أطيقه ولا أبلغه حصرًا وتعددًا. "أنت كما أثنيت على نفسك": ومعنى الحديث: الاستغفار من التقصير في بلوغ الواجب من حقِّ عبادته والثناء عليه. * * * 35 - باب القُنوت (باب القنوت) وهو في الأصل: الطاعة، ثم سمي طول القيام في الصلاة قنوتًا، وهو المراد هنا. مِنَ الصِّحَاحِ: 913 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أرادَ أن يدعوَ على أحدٍ، أو يدعوَ لأحدٍ قَنتَ بعدَ الركوعِ، فرُبَّما قال إذا قال: سمعَ الله لِمَن حَمِدَه، ربنا لك الحمدُ: "اللهم أَنْجْ الوليدَ بن الوليدِ، وسلمةَ بن هشامٍ، وعَيَّاشَ بن أبي ربيعةَ، اللهمَّ اشدُدْ وَطْأَتَكَ على مُضَرَ، واجعلْها سِنينَ كَسِنِيِّ يوسفَ" يجهرُ بذلك، وكانَ يقولُ في بعضِ صلاتِه: "اللهم العَنْ فلانًا وفلانًا" لأحياءٍ من العربِ حتى أنزلَ الله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} الآية. "من الصحاح": " عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا أراد أن

يدعوَ على أحد": وذلك طلبُ أن يلحقه ضررٌ. "أو يدعو لأحد": وذلك طلبُ خيره. "قنت بعد الركوع، فربما قال - إذا قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد -: اللهم أَنجْ الوليدَ بن الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة"؛ أي: خلِّصهم، وهم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، أخذهم الكفار، فدعا - صلى الله عليه وسلم - لهم بالخلاص. "اللهم اشددْ وطأتك"؛ أي: عذابك "على" كفار "مضر"، وخذهم أخذًا شديدًا. "واجعلها"؛ أي: الوطأة. "سنين": جمع سنة، وهو: القحط؛ أي: اجعل عذابك عليهم بأن تُسلِّط عليهم قحطًا عظيمًا سبع سنين أو أكثر. "كسني يوسف"؛ أي: كما كان في زمن يوسف - عليه السلام -[التي] ذكرها الله تعالى بقوله: {ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف: 48]؛ أي: سبع سنين فيها قحطٌ وجدبٌ. "يجهر"؛ أي: يرفع صوته. "بذلك"؛ أي: بالدعاء المذكور. "وكان يقول في بعض صلاته: اللهم العنْ فلانًا فلانًا لأحياءَ من العرب": جمع حي؛ بمعنى: القبيلة. "حتى أنزل الله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ} الآية": (أو) بمعنى: (إلى)؛ أي: اصبر على ما يصيبك إلى أن يتوب الله عليهم، أو يعذبهم، وليكون رضاك موافقًا لأمر الله وتقديره. * * *

914 - وقال عاصم الأَحوَلُ: سألتُ أنسَ بن مالكٍ - رضي الله عنه - عن القُنوتِ في الصلاةِ، كانَ قبلَ الركوعِ أو بعدَه؟، قال: قبلَه، إنما قنتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ الركوعِ شهرًا، إنه كانَ بعثَ أُناسًا يقال لهم: القراءُ، سبعونَ رجلًا، فأُصيبوا، فقنتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بعدَ الركوعِ شهرًا يَدعو عليهم. "وقال عاصم الأحول: سألتُ أنسَ بن مالك عن القنوت في الصلاة كان قبل الركوع أو بعده؟ قال: قبله": أخذ بهذا أبو حنيفة. "إنما قنت رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الركوع شهرًا، إنه كان بعث أناسًا": من أهل الصُّفة يتعلمون العلم والقرآن. "يقال لهم: القراء" وهم "سبعون رجلًا"؛ يعني: بعثهم - عليه الصلاة والسلام - إلى أهل نجد؛ ليدعوهم إلى الإسلام، ويقرؤوا عليهم القرآن، فلما نزلوا بئر معونة قصدهم عامر بن الطفيل في أحياء من بني سُليم، وهم: رِعْل وذكوان وعُصية، وقاتلوهم. "فأُصيبوا"؛ أي: قُتلوا إلا كعب بن زيد الأنصاري فإنه تخلَّص وبه رمقٌ، فعاش حتى استشهد يوم الخندق، وهذه الوقعة كانت بعد الهجرة في أول السنة الرابعة. "فقنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعد الركوع شهرًا يدعو عليهم"؛ أي: على قاتليهم. * * * مِنَ الحِسَان: 915 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قنتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شهرًا متتابعًا في الظُّهرِ والعصرِ والمغربِ والعِشاءَ، وصلاةِ الصُّبحِ، إذا قال: "سَمعَ الله لمن

حَمِدَه" من الركعةِ الأَخيرة يدعو على أحياءٍ من سُلَيْمٍ - على رِعْلٍ، وذَكوانَ، وعُصَيَّةَ - ويُؤَمِّنُ مَن خَلْفَهُ. "من الحسان": " قال ابن عباس: قنت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شهرًا متتابعًا في الظهر والعصر والمغرب والعشاء وصلاة الصبح إذا قال: سمع الله لمن حمده من الركعة الأخيرة [في المتن: الآخرة]، يدعو على أحياء من بني سُليم؛ على رعلٍ وذكوان وعُصية، ويؤمِّن مَنْ خلفه": من المؤمنين، وهذا يدل على أن القنوت يسنُّ في جميع الصلوات إذا نزلت بالمسلمين نازلةٌ من قحط، أو غلبة عدوٍّ، أو غير ذلك. * * * 916 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قنتَ شهرًا، ثم تَرَكَه. "عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قنت شهرًا، ثم تركه": الأكثرون على أنه لا يُقنَتُ في الصلوات؛ لهذا الحديث والذي بعده. وذهب الشافعي ومالك إلى أنه يقنت في الصبح، وأوَّل الحديثَ على ترك اللعن والدعاء على أولئك القبائل المذكورة، أو تركه في الصلوات الأربع؛ لما رُوي عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ما زال - عليه الصلاة والسلام - يقنت في صلاة الصبح حتى فارقَ الدنيا، قلنا: معناه: طول القيام. * * * 917 - وعن أبي مالكٍ الأَشجَعي قال: قلتُ لأَبي: إنك قد صلَّيتَ خلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ، وعليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنهم - بالكوفةِ نحوًا من خمسِ سنينَ، أكانوا يَقنُتونَ؟، قال: أَيْ بنيَّ، مُحْدَثٌ.

36 - باب قيام شهر رمضان

"عن أبي مالك الأشجعي": اسمه سعد بن طارق بن أشيم. "أنه قال: قلت لأبي: إنك قد صليت خلفَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم - هاهنا بالكوفة": هما ظرفان متعلقان بقوله: (وعلي)؛ لأنه بالكوفة وحده، تقديره: وصليت خلف علي بالكوفة. "نحوًا"؛ أي: قدرًا "من خمس سنين، أكانوا يقنتون؟ قال: أيْ بنيَّ مُحدَث": بفتح الدال؛ أي: هذا شيء أحدثه التابعون، ولم يقرَّهُ، - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه. * * * 36 - باب قِيَام شَهْر رمَضان (باب قام شهر رمضان) مِنَ الصِّحَاحِ: 918 - قال زَيد بن ثابت - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اتَّخذَ حُجْرةً في المسجدِ من حَصيرٍ، فصلَّى فيها لياليَ حتى اجتمعَ إليه ناسٌ، ثم فَقَدوا صوتَه ليلةً، وظنُّوا أنه قد نامَ، فجعلَ بعضُهم يَتَنَحْنَحُ لِيَخْرُجَ إليهم، فقال: "ما زالَ بكم الذي رأَيتُ من صَنيعِكم حتى خشيتُ أن يُكتَبَ عليكم، ولو كُتِبَ عليكم ما قُمْتُمْ بهِ، فَصَلُّوا أيُّها الناسُ في بيوتكم، فإنَّ أفضلَ صلاةَ المَرْءِ في بيتِه إلا الصلاةَ المكتوبةَ". "من الصحاح": " قال زيد بن ثابت: إن النبي - عليه الصلاة ولسلام - اتخذ حجرة في

المسجد من حَصير"؛ لصلاته تطوعًا. "فصلى فيها"؛ أي: في تلك الحجرة. "ليالي"، فكان يخرج - عليه الصلاة والسلام - منها، ويصلي بالجماعة في الفرائض والتراويح. "حتى اجتمع إليه ناسٌ": وكثر. "ثم فقدوا صوتَهُ ليلةً": بأن دخل الحجرة بعدما صلَّى بهم الفريضة، ولم يخرج إليهم بعد ساعة للتراويح على عادته. "وظنوا أنه قد نام، فجعل بعضهم يتنحنحُ؛ ليخرج، فخرج إليهم، فقال: ما زال بكم الذي رأيتُ من صنيعكم"؛ لشدة حرصكم في إقامتها بالجماعة. "حتى خشيتُ أن يُكتب عليكم": لو واطبتُ على إقامتها. "ولو كتب عليكم ما قمتم به"؛ أي: لم تقوموا به، وفيه بيان رأفته - عليه الصلاة والسلام - لأمته. "فصلوا أيها الناس في بيوتكم؛ فإن أفضل صلاة المرء في بيته": وهذا عامٌّ لجميع النوافل والسنن، إلا النوافل التي من شعائر الإسلام كالعيد والكسوف والاستسقاء. "إلا الصلاة المكتوبة"؛ أي: المفروضة؛ فإنها في المسجد أفضل، وهذا يدلُّ على سُنيَّةِ الجماعة بصلاة التراويح، وعلى سُنيةِ الانفراد بها، والأصح: أن الجماعة فيها في عصرنا أفضل؛ لغلبة الكسل على الناس. * * * 919 - قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُرَغِّبُ في قيامِ رمضانَ من

غيرِ أن يأمُرَهم فيه بعَزيمةٍ، فيقول: "مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ من ذنبهِ"، فتُوفيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والأمرُ على ذلك، ثم كانَ الأمرُ على ذلكَ في خلافةِ أبي بكرٍ - رضي الله عنه -، وصدرًا من خلافةِ عُمر - رضي الله عنه -. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يرغِّبُ"؛ أي: يظهر رغبتهم "في قيام رمضان"؛ أي: في التراويح. "من غير أن يأمرَهم فيه بعزيمة"؛ أي: بعزم وبت. "فيقول: مَن قام رمضانَ"؛ أي: أحيا لياليه بالعبادة، أو معناه: أَدَّى التراويح فيها. "إيمانًا"؛ أي: تصديقًا لثوابه. "واحتسابًا"؛ أي: إخلاصًا، ونصبُهما إما على حال، أو على مفعول له. "غُفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه، فتوفِّي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والأمرُ على ذلك"؛ أي: على قيام تراويح رمضان مُنفرِدِين. "ثم كان الأمرُ على ذلك في خلافة أبي بكر وصَدْرًا من خلافة عمر"؛ أي: في أول خلافته. وصَدْرُ الشيء: أوله، ثم خرج عمر ليلةً من خلافته في رمضان، فرأى الناسَ يصلُّون في المسجد فُرَادى صلاةً غيرَ صلاة الفريضة، فأمر أبيَّ بن كعب وتميمًا الدَّارِيَّ ليصلِّيا بالناس الإمامةَ صلاة التراويح. * * * 920 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قضَى أَحدُكم الصَّلاةَ في مَسجده فليجعَل لبيته نصَيبًا من صلاته، فإنَّ الله جاعلٌ في بيته من صلاته خَيْرًا". "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا قضى أحدُكم الصلاةَ في مسجده فليجعل لبيته نصيبًا من صلاته"؛ أي: يصلي

النوافلَ والسُّنَنَ فيه. "فإنَّ الله جاعلٌ في بيته مِن صلاته خيرًا"؛ أي: جاعل خيرًا من صلاته في بيته؛ أي: يجعلُ البركة والرحمة فيه. * * * مِنَ الحِسَان: 921 - قال أبو ذَرٍّ - رضي الله عنه -: صُمْنا مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يَقُمْ بنا شيئًا من الشهرِ حتى بقيَ سبعٌ، فقامَ بنا حتى ذهبَ ثلثُ الليلِ، فلمَّا كانت السادسةُ لم يَقُمْ بنا، فلمَّا كانت الخامسةُ قام بنا حتى ذهبَ شَطْرُ الليلِ، فقلتُ: يا رسولَ الله لو نفَّلْتَنا قيامَ هذهِ الليلةِ، فقال: "إن الرجلَ إذا صلى معَ الإِمام حتى ينصرفَ؛ حُسِبَ له قيامُ ليلةٍ"، فلمَّا كانت الرابعةُ لم يَقُمْ حتى بقيَ ثلاثٌ، فلمَّا كانت الثالثةُ جمعَ أهلَهُ ونساءَهُ والناسَ، فقامَ بنا حتى خَشِينا أن يفوتَنا الفلاحُ - يعني السُّحور - ثم لم يقمْ بنا بقيةَ الشهرِ. "من الحسان": " قال أبو ذَر: صُمْنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فلم يَقُمْ بنا شيئًا من الشهر"؛ أي: لم يصلِّ بنا غير الفريضة، وكان إذا صلى الفريضة دخلَ حُجْرتَه. "حتى بقي سبعٌ"؛ أي: سبعُ ليال من رمضان. "فقام بنا"؛ أي: كان معنا. "حتى ذهب ثلثُ الليل"، فيصلي ويذكرُ الله ويقرأُ القرآن. "فلمَّا كانت السادسةُ"؛ أي: الليلة السادسة. "لم يقم بنا، فلمَّا كانت الخامسةُ قام بنا حتى ذهب شطر الليل"؛ أي: نصفه.

"فقلت: يا رسول الله! لو نفَّلْتنَا قيامَ هذه الليلة"، "لو": للتمني، والنفل الزيادة؛ أي: إنا نتمنى أن تجعل قيامَ بقية الليل زيادةً لنا على قيام الشطر أو للشرط؛ أي: لو زدت على نصف الليل لكان خيرًا لنا. "فقال: إن الرجلَ إذا صلى مع الإمام"؛ يعني الفريضة. "حتى ينصرفَ": الإمام من المسجد. "حُسِبَ له قيامُ ليلة"؛ أي: يحصل له ثوابُ قيام ليلة تامة. "فلمَّا كانت الرابعة لم يَقُمْ بنا حتى بقيَ ثلث الليل، فلمَّا كانت الثالثة جمع أهلَه ونساءه والناسَ، فقام بنا حتى خَشِينا أن يفوتَنا الفلاحُ"؛ أي: البقاء؛ يعني: السَّحُور، قيل: هو مِن قول أبي ذر، وقيل مِن متن الحديث سُمي ما يؤكَل فيه فلاحًا لكونه سببًا لبقاء قوة الصائم. "ثم لم يقُمْ بنا بقيةَ الشهر"، وهذه الصلاة التي صلاها النبي - عليه الصلاة والسلام - في أوتار العشر الأخير بالجماعة لم نعلم: أهي صلاةُ التراويح، أم التهجُّد الواجب عليه، أم الوتر أم صلاة القَدْر؟ * * * 922 - وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله تعالى ينزلُ ليلةَ النصفِ من شعبانَ إلى السماءَ الدُّنيا، فيغفرُ لأكثرِ من عددِ شعْرِ غَنَمِ كَلْبٍ"، ضعيف. "وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إن الله تعالى ينزل ليلةَ النصف من شعبان"، وهي ليلة البراءة. "إلى السماء الدنيا، فيغفِرُ لأكثر من عدد شعرِ غَنَمِ كلب"، خص قبيلة

37 - باب صلاة الضحى

كَلْب لأنهم أكثرُ نَفَرًا وأكثرُ غَنَمًا من سائر القبائل. "ضعيف". * * * 923 - عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاةُ المرءِ في بيتِهِ أفضلُ من صلاتِهِ في مسجدي هذا إلا المَكتوبة". "عن زيد بن ثابت: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: صلاةُ المرء في بيته"؛ أي: صلاة النافلة فيه. "أفضلُ من صلاته في مسجدي هذا"؛ يعني مسجد المدينة، مع أن صلاةً في مسجد المدينة أفضلُ من ألف صلاة في سائر المساجد غيرِ المسجد الحرام. "إلا المكتوبةَ"؛ أي: الفريضة. 37 - باب صلاة الضُّحى (باب صلاة الضحى) مِنَ الصِّحَاحِ: 924 - عن أم هانئٍ رضي الله عنها أنها قالت: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخلَ بيتَها يومَ فتحِ مكةَ، فاغتسلَ وصلى ثمانيَ ركعاتٍ، فلم أَرَ صلاةً قَطُّ أَخَفَّ منها، غيرَ أنه يُتِمُّ الركوعَ والسجودَ، وذاكَ ضحًى. "من الصحاح": " عن أم هانئ": أختِ عليٍّ، بنت عم النبي عليه الصلاة والسلام، قيل:

إنها زوجته - صلى الله عليه وسلم -. "قالت: إن النبي - عليه الصلاة والسلام - دخل بيتَها يوم فتح مكة، فاغتسلَ وصلَّى ثمانيَ ركعات، فلم أر [هـ يصلي] صلاةً قطُّ أخفَّ منها"، وذلك بترك قراءة السورة الطويلة والأذكار الكثيرة. "غير أنه يتمُّ الركوع والسجود وذلك ضحى"؛ أي: ما فعله - عليه الصلاة والسلام - هو صلاة ضحًى، أو ذلك الوقت وقتُ ضحى. * * * 925 - وقالت مُعاذَةُ: سألتُ عائشةَ رضي الله عنها، كم كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي صلاة الضُّحى؟، قالت: أربع ركعاتٍ، ويزيدُ ما شاءَ الله. "وقالت معاذة: سألت عائشةَ - رضي الله عنها -: كم كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلي صلاة الضحى؟ قالت: أربع ركعات"، لا ينقص ضحى عن أربع. "ويزيد": عليها "ما شاء": من غير حصر، لكنه لم يُنقل أكثرُ من اثنتي عشرة ركعة. * * * 926 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُصبحُ على كلِّ سُلامَى من أحدِكم صدقةٌ، فكلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ، وكل تَحميدةٍ صدقةٌ، وكل تهليلةٍ صدقةٌ، وكل تكبيرةٍ صدقةٌ، وأمرٌ بالمعروفِ صدقةٌ، ونهيٌ عن المُنكرِ صدقةٌ، ويُجزئُ من ذلكَ ركعتانِ يركعُهما من الضُّحى". "عن أبي ذَر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يُصبح

على كل سُلاَمى من أحدكم صدقةٌ"، جمع سَلِيمة: مَفْصِل كل عظم؛ أي: على كل عظم من عظام بني آدم صدقةٌ شكرًا لله على أن جعل له ما يكون به متمكِّنًا على الحركات التامة، وليس الصدقة بالمال فقط، بل كلُّ خيرٍ صدقة. وقيل: المراد بالصدقة الشكرُ، والقيامُ بحقوق النَّعَم. "فكلُّ تسبيحةٍ صدقةٌ"، (الفاء) فيه للتفصيل. "وكلُّ تحميدةٍ صدقة، وكلُّ تهليلةٍ صدقة، وكلُّ تكبيرةٍ صدقة، وأمرٌ بالمعروف صدقة، ونهىٌ عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك"؛ أي: يكفي مما وجب للسلامى من الصدقات. "ركعتان يركَعُهما من الضحى"؛ لأن الصلاة عملٌ بجميع أعضاء البدن، فيقوِّم كل عضو بالشُّكْر. * * * 927 - وقال: "صلاةُ الأوَابينَ تَرْمَضُ الفِصَال". "وعن زيد بن أرقم أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صلاة الأَوَّابين"، الأوَّاب كثير الرجوع إلى الله تعالى بالتوبة، من الأَوْب وهو الرجوع، وقيل: هو المُطِيع، وقيل: هو المسبح. "حين ترمَضُ الفِصَال"، جمع الفَصيل: ولد الناقة إذا فُصِلَ عن أمه. والرَّمَضُ: شدة وقعِ حَرِّ الشمس على الرمل وغيره؛ أي: حين يجدُ الفَصِيلُ حرَّ الشمس فيبرك من شدة الحر وإحراقِها أخفافَها، فذلك الحين حين صلاة الضحى، وإنما أضافَها إلى الأَوَّابين لميلِ النفس فيه إلى الدَّعة والاستراحة، فالاشتغال فيه بالصلاة أوبٌ من مرادات النفس إلى مرضاة الرب.

قيل: قاله - عليه الصلاة والسلام - حين دخل مسجد قباء ووجد أهله يصلُّون في ذلك الوقت. * * * مِنَ الحِسَان: 928 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الله تبارَكَ وتعالى أنه قال: "يا ابن آدمَ، اركَعْ لي أربعَ ركعاتٍ من اْولِ النهارِ أَكْفِكَ آخِرَه". "من الحسان": " عن أبي الدرداء وأبي ذَر - رضي الله عنهما - أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: عن الله تبارك وتعالى أنه قال: يا ابن آدم اركع لي أربعَ ركعات من أولِ النهار أكفِك آخرَه"؛ أي: أقضي شغلَك وحوائجَك، وأدفعُ عنك ما تكره بعد صلاتك إلى آخر النهار. * * * 929 - وقال: "في الإنسان ثلاث مئةٍ وستونَ مَفْصِلًا، فعليه أنْ يتصدَّق عن كل مَفصِل منه بصدقةٍ"، قالوا: ومَن يُطيقُ ذلك يا رسول الله؟، قال: "النُّخاعةُ في المَسجدِ تَدْفِنُها، والشيءُ تُنَحِّيه عن الطَّريقِ، فإنْ لم تجدْ فركعتا الضُّحى تُجزِئكَ". "وعن بريدة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: في الإنسان ثلاث مئة وستون مَفْصِلًا، فعليه أن يتصدَّق عن كل مَفْصِلٍ منه بصدقة، قالوا: ومَن يطيق ذلك يا نبي الله؟ قال: النُّخَاعةُ" بضم النون: النُّخَامَة. "في المسجد تدفنها"؛ يعني دفنُها صدَقة.

"والشيءُ تنحِّيه"؛ أي: تبعدُه "عن الطريق"؛ يعني: تنحيةُ ذلك صدقة. "فإن لم تجد فركعتَا الضحى تُجْزِئك"، أفردَ الخبر باعتبارِ المعنى؛ أي: صلاة الضحى تكفيك. * * * 930 - وقال: "مَنْ صلَّى الضُّحى ثِنتي عشرةَ ركعةً بنى الله تعالى له قَصْرًا من ذهبٍ في الجنةِ"، غريب. "عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن صلَّى الضحى ثِنْتي عشرة ركعة بنى الله له قَصْرًا من ذهب في الجنة". "غريب". * * * 931 - وقال: "من قعدَ في مُصَلَّاهُ حينَ ينصرفُ من صلاةِ الصُّبح حتى يُسبحَ ركعتي الضُّحى لا يقولُ إلا خيرًا؛ غُفِرَ له خطاياهُ وإن كانتْ أكثرَ من زَبَدِ البحرِ". "وعن معاذ بن أنس الجهني أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من قعد في مصلاه حين ينصرف من صلاة الصبح حتى يسبح"؛ أي: يصلي. "ركعتي الضحى لا يقول إلا خيرًا غفرَ له خطاياه وإن كانت أكثرَ من زَبَدِ البحر"، قيل إنما خصَّ الكثرة من زَبَد البحر لاشتهاره بالكثرة عند المخاطَبين. * * *

38 - باب التطوع

38 - باب التطوع (باب التطوع) مِنَ الصِّحَاحِ: 932 - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لبلالٍ عندَ صلاة الفجرِ: "يا بلالُ!، حدَّثني بأَرْجَى عمَلٍ عَمِلْتَه في الإسلاَمِ؟، فإِني سمعتُ دَفَّ نعليكَ بين يديَّ في الجنةِ"، قال: ما عملتُ عملًا أَرْجَى عندِي إلا أني لم أتَطَهَّرْ طهُورًا في ساعةٍ من ليلٍ ولا نهارِ إلا صلَّيتُ بذلكَ الطُّهور ما كُتِبَ لي أنْ أُصَلِّيَ. "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لبلال عند صلاة الفجر: يا بلالُ، حدِّثني بأرجى عملٍ"، أفعل التفضيل هنا يجوز أن يكون للفاعل؛ أي: أخبرني بعمل يكون رجاؤك بثوابه أكثرَ. "عملْتَه في الإسلام"، وإنما أضافه إلى العمل لأنه هو السبب للرجاء. "فإني سمعت دَفَّ"، بفتح الدال: هو السير اللين؛ يعني: صوت دَفِّ "نعليك بين يديَّ في الجنة"، وهذا أمرٌ كوشف به - عليه الصلاة والسلام - من عالم الغيب في نومه، أو يقظته، أو بين النوم واليقظة، أو رأى ذلك ليلةَ المعراج، ومشيُه بين يديه - عليه الصلاة والسلام - كان على سبيل الخِدمة كما جرت العادة بتقديم بعض الخدم بين يدي مخدومه، وإنما أخبره - عليه الصلاة والسلام - بما رآه ليَطِيبَ قلبُه ويداومَ على ذلك العمل، ولترغيب السامعين إليه. "قال" بلال: "ما عملتُ عملًا أرجى عندي من أني لم أتطهَّر طَهورًا" بفتح الطاء؛ أي: وضوءًا، "في ساعةٍ من ليلٍ ولا نهار إلا صليتُ بذلك الطَّهور

ما كُتب لي"؛ أي: قُدَّرَ الله لي من النوافل. "أن أصلي"، وسُمي شكرَ الوضوء. * * * 933 - وقال جابر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَلّمُنا الاستخارَةَ في الأُمورِ كما يُعَلِّمُنا السورةَ من القرآنِ يقولُ: "إذا همَّ أحدُكم بالأمرِ فليركعْ ركعتينِ من غيرِ الفَريضةِ، ثم ليقلْ: اللهم إني أَستخيرُكَ بعلمِكَ، وأستقدرُكَ بقُدرتِكَ، وأَسألُكَ من فضْلِكَ العظيمِ، فإنك تَقدِرُ ولا أَقدِرُ، وتعلَمُ ولا أعلمُ، وأنتَ علَّامُ الغيوبِ، اللهم إنْ كنتَ تعلمُ أنَّ هذا الأمرَ - ويُسمِّي حاجَتَهُ - خيرٌ لي في دِيْني ومَعاشي وعاقبةِ أمري وآجِلِه فاقدرْه لي ويسِّرْه لي ثم بارِكْ لي فيه، وإنْ كنتَ تعلمُ أنَّ هذا الأمرَ شرٌّ لي في دِيْني ومَعاشي وعاقبةِ أَمري وآجله فاصرفْهُ عني واصرفني عنه، واقدرْ ليَ الخيرَ حيثُ كانَ ثم أَرْضني به". "وقال جابر - رضي الله عنه - كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعلِّمُنا الاستخارةَ"؛ وهو طلب الخير "في الأمور كما يعلِّمُنا السورة من القرآن": يدلُّ على شدة اعتنائه بتعليم الاستخارة. "يقول: إذا همَّ أحدُكم بالأمر"؛ أي: قصد أمرًا من نكاح، أو سفرٍ، وغيرهما. "فليركَعْ"؛ أي: فليصلِّ "رَكعتين من غير الفريضة" بنية الاستخارة، يقرأ فيهما فاتحةَ الكتاب وآيةَ الكرسي. "ثم ليقلْ: اللهم إني أستخيرك"؛ أي: أطلب منك الخير. "بعلمك"، الباء للاستعانة؛ أي: مستعينًا بعلمك، فإني لا أعلم فيه خيرًا، أو للاستعطاف؛ أي: بحقِّ عِلمك الشامل لكل الخيرات.

"وأستقدِرُك"؛ أي: أطلب منك القدرة على ما نويته. "بقدرتك": فإنه لا حول ولا قوة إلا بك. "وأسألك من فضلِك العظيم، فإنك تقدِر ولا أقدر، وتعلَمُ ولا أعلم، وأنت علاَّم الغيوب، اللهم إن كنت تعلَم؛ أي: إن كان في علمك "أن هذا الأمر" - ويسمِّي حاجتَه - "خيرٌ لي في ديني ومَعاشي وعاقبةِ أمري فاقدُرْه لي"؛ أي: أطلبُ منك أن تجعلَ لي قدرَةَ عليه. "ويسِّرْه"؛ أي: هيئه. "لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلَمُ أن هذا الأمرَ شرٌّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري فاصرِفْه عني واصرفني عنه"، تأكيد لقوله: (فاصرفه عني)؛ لأنه لا يكون مصروفًا عنه إلا ويكون مصروفًا عنه. "واقدُرْ لي الخير"؛ أي: اقضِ لي به"حيث كان، ثم أَرْضني به"؛ أي: اجعلني راضيًا بخيرك المقدور؛ لأنه ربما قدرَ له ما هو خيرٌ فيراه شرًا. * * * مِنَ الحِسَان: 934 - قال علي - رضي الله عنه -: ما حدَّثني أحدٌ حَديثًا إلا استحلَفتُه، فإذا حلَفَ لي صدَّقتُه، وحدَّثني أبو بكرٍ الصديقُ - رضي الله عنه - وصدَقَ أبو بكرٍ - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِن رجلٍ يُذنِبُ ذَنْبًا ثم يقومُ فيتطهرُ، ثم يُصلِّي، ثم يستغفر الله تعالى إلا غفرَ الله لهُ، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ. . .} ". "من الحسان": " قال علي - رضي الله عنه -: حدثني"؛ أي: أخبرَني أبو بكر الصديق. "وصدق أبو بكر قال: سمعت رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم

يقول: ما من رجلٍ يُذنب ذنبًا ثم يقوم فيتطهَّر، ثم يصلي، ثم يستغفر الله"؛ أي: يتوب من ذلك الذنب ويعزِم على ألَّا يعود إليه؛ لأن هذا شرط التوبة والاستغفار. "إلا غفرَ الله له، ثم قرأ: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} "، قيل: الفاحشة في هذه الآية: الكبائرُ والزِّنَا والظُّلْم. {أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ}: بالصغائر. {ذَكَرُوا اللَّهَ}؛ أيَ: ذكرُوا عذابَه وخافُوا منه. {فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135]، الآية. * * * 935 - وقال حُذيفة: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا حَزَبَه أمرٌ صَلَّى. "قال حُذيفة - رضي الله عنه -: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا حزبَه أمرٌ"؛ أي: نزل به أمر مُهِمٌّ، أو أصابه غَمٌّ. "صلى"؛ ليسهلَ ذلك الأمرُ ببركةِ الصلاة. * * * 936 - عن بُرَيْدَةَ قال: أصبحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَدَعا بلالًا فقال: "بِمَ سَبقتني إلى الجنةِ؟، ما دخلتُ الجنةَ قَطُّ إلا سمعتُ خَشْخَشَتَكَ أَمامي"، قال: يا رسولَ الله!، ما أَذَّنتُ قَطُّ إلا صليتُ ركعتينِ، وما أَصابني حَدَثٌ قَطُّ إلا تَوضأتُ عندَه، ورأيتُ أن للهِ عليَّ ركعتينِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بهما". "عن بُريدة - رضي الله عنه - أنه قال: أصبحَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فدعا بلالًا فقال: بم سَبَقْتَني إلى الجنة"؛ أي: بأي عمل يوجب دخولَ الجنة

سبقتَ وأقدمتَ عليه قبلَ اْن آمرك به وأدعوَك إليه، بجعل السبق في السبب كالسبق في المسبب. "ما دخلت الجنةَ قط إلا سمعتُ خَشْخَشَتَك"؛ أي: صوت نعليك. "أمامي"؛ أي: قُدَّامي. "قال: يا رسول الله! ما أذَّنْتُ قطُّ إلا صليت ركعتين، وما أصابني حدَثٌ قط إلا توضأت عنده، ورأيت"؛ أي: ظننتُ "أن لله عليَّ ركعتين، فقال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: بهما"؛ أي: بهاتين الخصلتين دخلت الجنة. * * * 937 - عن عبدِ الله بن أبي أَوْفَى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانتْ له حاجةٌ إلى الله تعالى، أو إلى أحدٍ مِن بني آدمَ فليتَوضأ فليُحسنِ الوُضوء، ثم ليُصلِّ ركعتينِ، ثم ليُثنِ على الله، وليُصلِّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم ليقلْ: لا إلهَ إلا الله الحليمُ الكريمُ، سُبحانَ الله ربِّ العرشِ العظيم، والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، أَسألُكَ مُوجباتِ رحمتِكَ، وعزائمَ مغفرتِكَ، والغنيمَةَ مِن كلِّ برٍّ، والسَّلامةَ مِن كل إثْمٍ، لا تَدعْ لي ذنبًا إلا غَفرتَهُ، ولا همًّا إلا فرَّجتَهُ، ولا حاجةً هي لك رِضًا إلا قضيتَها يا أرحمَ الراحمين"، غريب. "عن عبد الله بن أبي أَوفى أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحدٍ من بني آدم فليتوضَّأ فليُحْسِن الوضوء، ثم ليصلِّ ركعتين، ثم ليُثْنِ على الله وليصَلِّ على النبي عليه الصلاة والسلام، ثم ليقلْ لا إله إلا الله الحليمُ الكريمُ، سبحان الله رب العرش العظيم، والحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك"، جمع مُوجِبة؛ يعني: الأفعال والأقوال والصفات التي تحصل رحمتُك لي بسببها.

39 - باب صلاة التسبيح

"وعزائم مغفرتك"، جمع عزيمة: وهي الخصلة التي يعزِمها الرجل، يعني: الخصال التي تحصل مغفرتك لي بسببها. "والغنيمة"؛ أي: أسألك أن تعطيَني نصيبًا وافرًا. "من كلِّ بِر، والسلامة من كل إثم، لا تدع"؛ أي: لا تتركْ لي ذنبًا إلا غفرته. "ولا همًا"؛ أي: غمًا "إلا فرَّجته"؛ أي: أزلْتَه. "ولا حاجة هي لك رضًا"؛ أي: مرضيًا "إلا قضيتها يا أرحمَ الراحمين". "غربب". * * * 39 - باب صلاة التَّسْبيح (باب صلاة التسبيح) 938 - عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ للعباسِ بن عبدِ المطلبِ: "يا عَمَّاهُ، ألا أُعلِّمُكَ، ألا أَمنَحُكَ، ألا أَفعلُ بكَ عشرَ خصالٍ إذا أنتَ فعلتَ ذلكَ غُفِرَ لكَ ذنبُك أولُه وآخرُه، خَطَؤه وعَمْدُه، صغيرُه وكبيرُه، سِرُّه وعلانيتُه: أن تُصلِّي أربعَ ركعاتٍ تقرأُ في كلِّ ركعةٍ فاتحةَ الكتابِ وسورةً، فإذا فرغتَ من القراءةِ قلتَ وأنتَ قائمٌ: سُبحانَ الله، والحمدُ للهِ، ولا إله إلا الله، والله أكبرُ خمسَ عشرةَ مرةً، ثم تركعُ فتقولُها عشرًا، ثم ترفعُ رأْسَك من الركوعِ فتقولُها عشرًا، ثم تَهوي ساجدًا فتقولُها عشرًا، ثم ترفعُ رأسَك من السجودِ فتقولُها عشرًا، ثم تَسْجُدُ فتقولُها عَشرًا، ثم ترفَعُ رأسك مِنَ السجودِ فتقولُها عشرًا قبل أن تقومَ، فذلك خمسٌ وسبعونَ في كلِّ ركعةٍ، إنِ استطعتَ أن

تُصلِّيَها في كل يومٍ مرةً فافعلْ، فإن لم تفعلْ ففي كل جمعةٍ، فإن لم تفعلْ ففي كل شهرٍ، فإن لم تفعلْ ففي كل سَنةٍ، فإن لم تفعل ففي عمُرِكَ مرةً". "من الصحاح" " عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال للعباس بن عبد المطلب: يا عمَّاه"، منادى أضيف إلى ياء المتكلم، قُلبت الياء ألفًا وألحقت به هاءالسكت كياءِ غلاماه. "ألا أعلِّمك ألا أمنحُك"؛ أي: أعطيك. "لا أفعلُ بك"؛ أي: أعلِّمك، كذا وقع في بعض نسخ "المصابيح"، والرواية الصحيحة والصواب: (لك) بدل (بك)، وهذه الألفاظ متقارِبةُ المعاني، وإنما أعادها تقريرًا للتأكيد وتخصيصًا على الاستماع إلى ما يقول - عليه الصلاة والسلام -، وأضاف فِعل الخصال إلى نفسه لأنه هو الباعثُ عليها والهادي إلى الاستماع إلى ما يقوله. "عشرَ خصال"، بنصب (عشرَ) على تقدير عَدَّ - عليه الصلاة والسلام - عشر خصال، وبالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، قيل: هذا على حذف مضاف؛ أي: مكفِّرٌ عشرَ خِصَال. "إذا أنت فعلتَ ذلك غفرَ لك ذنبك أولَه وآخرَه، قديمَه وحديثَه، خطأه وعمدَه، صغيرَه وكبيرَه، سرَّه وعلانيتَه"، والخصال العشر هي الأقسام العشرة من الذنوب، والضمائر في هذه كلِّها عائدةٌ إلى قوله: ذنبك. وقيل: المراد بالعشر الخصال التسبيحاتُ والتحميداتُ والتهليلاتُ والتكبيراتُ؛ لأنها فيما سوى القيام عشر خصال. "أن تصلي": (أنْ) مفسرة لأن التعليم في معنى القول، أو هي خبر مبتدأ محذوف والمقدَّر عائد إلى قوله ذلك؛ أي: هو أن تصلي "أربعَ ركعات، تقرأ

في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة قلت وأنت قائم: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر خمس عشر مرة، ثم تركع فتقولها عشرًا، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشرًا، ثم تَهْوِي سَاجدًا فتقولها عشرًا، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشرًا، ثم تسجد فتقولها عشرًا، ثم ترفع رأسك فتقولها عشرًا قبل أن تقوم، فذلك خمسٌ وسبعون في كل ركعة إن استطعتَ أن تصلِّيها في كل يوم مرة فافعل، وإن لم تفعلْ ففي كل جمعة، فإن لم تفعل ففي كل شَهْر، فإن لم تفعل ففي كل سَنة، فإن لم تفعل ففي عمرِك مرة". * * * 939 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ أولَ ما يُحاسَبُ به العبدُ يومَ القيامةِ من عملِه صلاتُه، فإنْ صَلَحَت فقد أَفْلَحَ وأَنْجَحَ، وإن فَسَدَت فقد خابَ وخَسِرَ، فإن انتقَصَ من فَريضَتِه شيءٌ قال الرب تبارك وتعالى: انظُروا هل لعبدي من تطوُّعٍ؟، فيُكَمَّلُ بها ما انتقصَ من الفَريضةِ، ثم يكونُ سائرُ عَمَلِهِ على ذلك". وفي روايةٍ: "ثم الزكاةُ مثل ذلك، ثم تُؤْخذُ الأَعمالُ على حسبِ ذلك". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إنَّ أولَ ما يحاسَب به العبد يوم القيامة من عمله صلاته، فإن صَلَحَتْ"، صلاحُها بأدائها صحيحة. "فقد أفلح وأنجح"؛ أي: صار ذا فَلاَح وذا نَجَاح. وإن فسدت" بأن لم يؤد جميع فرائضها أو أدَّاها غير صحيحة. "فقد خاب"؛ أي: صار محرومًا عن الفوز والخلاص قبَل العذاب.

"وخسرَ، فإنْ انتقصَ من فريضته شيءٌ قال الرب تبارك وتعالى: انظروا هل لعبدي مِن تطوُّعِ فيكمل بها"؛ أي: بالتطوُّع، وتأنيث الضمير باعتبار النافلة. "ما انتقصَ من الفريضة، ثم يكون سائرُ عمله" من الصوم والزكاة "على ذلك"، إن ترك شيئًا من المفروض يكملٌ من التطوع. "وفي رواية: ثم الزكاة مثل ذلك، ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك"، فمَن كان عليه حقٌّ لأحدٍ تؤخَذ من أعماله الصالحة بقدْرِ ذلك ويدفَعُ إلى صاحبه. * * * 940 - وعن أبي أُمامة - رضي الله عنه - أنه قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما أذِنَ الله لعبدٍ في شيءٍ أفضلَ من ركعتينِ يُصليهِما، وإنَّ البرَّ ليُذَرُّ على رأسِ العبدِ ما دامَ في صلاتِهِ، وما تَقَرَّبَ العبادُ إلى الله تعالى بمثْلِ ما خرجَ منهُ"، يعني: القرآن. "وعن أبي أمامة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أَذِنَ الله لعبدِ"؛ أي: ما سمع له سماعَ قَبول. "في شيء أفضلَ من ركعتين يصلِّيهما"؛ يعني: أفضل العبادات الصلاة. وإن البرَّ ليُذَرُّ"؛ أي: ينتشِرُ ويُفرَّق"على رأس العبد"؛ يعني الرحمة والثواب لَينزل على المصلي "ما دام في صلاته، وما تَقَرَّبَ العبادُ إلى الله بمثلِ ما خرجَ منه"؛ يعني: بمثل ما ظهر من الله من شرائعه وأحكامه. والمراد: ما خرج من كتابه المبين، وهو اللوح المحفوظ. "يعني القرآن"، تفسير بعض الرواة وهو أبو النصر، وقيل الضمير في (منه) عائد إلى العبد، وخروجه منه كونه متلوًا على لسانه محفوظًا في صدره

40 - باب صلاة السفر

مكتوبًا بيده؛ يعني: قراءة القرآن أفضلُ من الذِّكْر لأنه كلام الله. وفيه: التسبيح والتحميد والتكبير والمواعظ والحكَم والاعتبارات، وغير ذلك من الفوائد التي لا يمكن إحصاؤها. * * * 40 - باب صلاة السَّفَر (باب صلاة السفر) مِنَ الصِّحَاحِ: 941 - قال أنس - رضي الله عنه -: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صلَّى الظُّهرَ بالمدينةِ أربعًا، وصلى العصرَ بذي الحُلَيْفَةِ ركعتينِ. "من الصحاح": " قال أنس - رضي الله عنه -: إن النبي - عليه الصلاة والسلام - صلَّى الظهر بالمدينة أربعًا" في اليوم الذي أراد فيه الخروج إلى مكة للحج. "وصلَّى العصرَ بذي الحُلَيفة" ميقاتِ أهل مدينة "ركعتين"؛ لأنه كان في السفر. * * * 942 - قال حارثة بن وَهْب الخُزاعي: صلَّى بنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ أكثرُ ما كنَّا قطُّ وآمَنُه بِمِنى، ركعتينِ ركعتينِ. "قال حارثةُ بن وهب الخُزَاعي: صلى بنا النبي - عليه الصلاة والسلام - ونحن أكثرُ ما كنَّا"، (ما) مصدرية، ومعناه الجمع لأنَّ ما أضيف إليه أفعل

التفضيل يكون جمعًا؛ يعني: أكثر أكواننا في سائر الأوقات عددًا. "قَطُّ": ظرفٌ بمعنى الدهر، أو الزمان متعلق بـ (كنَّا). "وآمنه": أفعل تفضيل معطوف على (أكثر)، والضمير عائد إلى (ما)، والجملة حالية معترِضة بين (صلَّى) وبين معموله وهو: "بمنى"؛ أي: صلَّى بمنى "ركعتين"؛ وهذا دليل على جواز قَصْر الرباعية في السفر غير مختصٍّ بالخوف، وإن فهم الاختصاص من ظامر قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] كما يجيء بعد. * * * 943 - وقال يَعْلى بن أُميَّة: قلت لعُمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنما قال الله تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ}، فقد أمِنَ الناسُ؟، قال عمر: عَجِبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: "صدقةٌ تصدَّقَ الله بها عليكم، فاقبلوا صَدَقتَه". "وقال يَعْلَى بن أمية: قلت لعمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: إنما قال الله تعالى: {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] يعني: شرطُ قَصْر الصلاة في السفر خوفُ المسلمين من الكفار. "فقد أَمِنَ الناسُ، فقال عمر - رضي الله عنه -: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسألتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: صَدَقة"؛ أي: القَصْرُ رُخْصَة. "تصدَّقَ الله بها عليكم فاقبلوا صدقتَه"؛ أي: اعملوا له برخصته، وقابلوا فضلَه بالشكر، فيجوز القصرُ عند الأمن أيضًا تفضلًا منه على عباده. وهذا يدلُّ على أنه ليس عزيمةً إذ الواجب لا يسمَّى صدقة. * * *

944 - وقال أنس: خرجْنا مع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِن المدينةِ إلى مكةَ، فكانَ يُصلي ركعتينِ ركعتينِ، حتى رجعْنا إلى المدينةِ، قيل له: أَقَمتم بمكةَ شيئًا؟، قال: أَقمنا بها عشرًا. "وقال أنس - رضي الله عنه - خرجْنا مع النبي - عليه الصلاة والسلام - من المدينة إلى مكة، فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة، قيل له: [هل] أقمتم بمكة شيئًا؟ قال: أقمْنا بها عشرًا"؛ أي: عشر ليال، وإنما قصر - عليه الصلاة والسلام - حين أقامَ عشرًا؛ لأنه عازمٌ على الخروج متى انقضى شغلُه. قال أبو حنيفة: يجوز القصرُ لما لم ينوِ الإقامة خمسة عشر يومًا. * * * 945 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بمكةَ تسعةَ عشرَ يومًا يُصلي ركعتينِ. "وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: أقامَ النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - "؛ أي: لَبثَ "بمكة" لشغلٍ على عزم الخروج. "تسعةَ عشر يومًا يصلِّي ركعتين"، وبهذا جوَّز الشافعي القصرَ إلى تسعة عشر يومًا في أحد أقواله. * * * 946 - وقال حَفْص بن عاصم: صَحِبتُ ابن عمرَ في طريقِ مكةَ، فصلَّى لنا الظهرَ ركعتينِ، ثم جاءَ رَحْلَهُ وجلسَ، فرأَى ناسًا قيامًا فقال: ما يصنعُ هؤلاءِ؟، قلتُ: يُسبحون، قال: لو كنتُ مسبحًا أَتممتُ صلاتي، صحبتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانَ لا يزيدُ في السَفرِ على ركعتينِ، وأبا بكرٍ، وعمرَ، وعثمانَ - رضي الله عنهم - كذلك.

"وقال حفص بن عاصم: صحبتُ ابن عمر - رضي الله عنه - في طريق مكة فصلَّى لنا الظهرَ ركعتين، ثم جاء رَحْلَه"، رحلُ الرجل مسكنُه وما يستصحبُه من الأثاث، وجَلَسَ "فرأى ناسًا قيامًا": جمع قائم. "فقال: ما يصنع هؤلاء؟ قلتُ: يسبحون"؛ أي: يصلُّون السنة والنافلة، وقيل: أي: يصلُّون السُّبْحَةَ، وهي صلاة الضحى قال: "لو كنت مسبحًا"؛ أي: مصليًا النافلة في السفر. "أتممتُ صلاتي"؛ أي: الفريضة. "صحبتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكان لا يَزيد في السفر على ركعتين، وأبا بكر"؛ أي: صحبت أبا بكر "وعمرَ وعثمانَ - رضي الله عنهم - كذلك"؛ أي: لا يَزيدون في السفر على ركعتين. فيه دليل لمن اختار ألَّا يتطوع في السفر قَبولًا للرخصة كما قال به بعض. * * * 947 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يجمعُ بينَ صلاةِ الظُّهر والعصرِ إذا كانَ على ظَهرِ سَيْرٍ، ويجمعُ بينَ المغربِ والعشاءِ، رواه ابن عمر، وأنسٌ، ومعاذ. "وقال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجمَعُ بين صلاة الظهر والعصر إذا كان ظهرِ سَيْر"؛ يعني: في السفر، جعل للسير ظَهْرًا؛ لأن السائر ما دام على سيره فكأنه راكبٌ عليه، يعني: تارة يَنوي تأخير الظهر ليصلِّيَها في وقت العصر، وتارة يقدم إلى العصر وقتَ الظهر ويؤدِّيها بعد صلاة الظهر. "ويجمع بين المغرب والعشاء"كذلك.

"ورواه ابن عمر وأنس ومعاذ"، وإليه ذهب الشافعي. * * * 948 - قال ابن عمر - رضي الله عنهم -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي في السَّفَر على راحلتِه حيثُ توجَّهَتْ بهِ، يومئُ إيماءَ صلاةِ الليلِ إلا الفرائضَ، ويُؤتِرُ على راحلتِه. "وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلِّي في السفر على راحلته"؛ أي: على ظهر دابته. "حيث توجَّهت به، يومئ إيماءً" بالركوع والسجود. "صلاةَ اللَّيل": مفعول (يصلّي). "إلا الفرائضَ"؛ فإنه لا يجوز أداؤها على الدابة بالإيماء إلا لعذر. "ويوتِرُ على راحلته"، يدل على عدم وجوب الوتر، وعند أبي حنيفة لا يجوزُ أداء الوتر إلا مستقبلَ القِبلة؛ لاْنه واجبٌ عنده. * * * مِنَ الحِسَان: 949 - قالت عائشة رضي الله عنها: كلُّ ذلكَ قد فعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَصَرَ الصلاةَ وأتمَّ. "من الحسان": " قالت عائشة - رضي الله عنها -: كلَّ ذلك"، إشارة إلى ما ذكرتْ بعده من العصر والإتمام، نُصب على أنه مفعول. "قد فعلَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، قَصَرَ الصلاةَ" في الرباعية في السَّفَر.

"وأتمَّ"، وبهذا ذهب الشافعي إلى جواز القصر والإتمام في السفر، وعند أبي حنيفة لا يجوز الإتمام بل يأثم. * * * 950 - قال عِمْران بن حُصَين: غزَوتُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وشهدتُ معه الفتحَ، فأقامَ بمكةَ ثماني عشرةَ ليلةً لا يُصلي إلا ركعتينِ، يقول: "يا أهلَ البلدِ، صلُّوا أربعًا فإنَّا سَفْرٌ". "وقال عِمران بن حُصين: غزوت مع النبي - عليه الصلاة والسلام -، وشهدتُ معه الفتح، فأقام بمكة ثماني عشرة ليلةً لا يصلي إلا ركعتين"، وإليه ذهب الشافعي في أصحِّ أقواله. "يقول: يا أهلَ البلد! صلُّوا أربعًا؛ فإنا سفْر" بالسكون: أي مسافرون. * * * 951 - وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: صلَّيتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الظُّهرَ في السفَرِ ركعتينِ، وبعدَها ركعتينِ، والعصرَ ركعتينِ، ولم يُصلِّ بعدَها، والمغربَ ثلاثَ ركعاتٍ وبعدَها ركعتينِ. "وقال ابن عمر: صليتُ مع النبي - عليه الصلاة والسلام - الظهرَ في السفر ركعتين، وبعدها ركعتين، أرادَ بهما سنةَ الظُّهر والعصر ركعتين ولم يصلِّ بعدها، والمغرب ثلاث ركعات، وبعدها ركعتين"، يدلُّ على الإتيان بالرواتب في السفر إتيانهُا في الحضر. * * * 952 - وعن مُعاذ بن جبَل - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ - صلى الله عليه وسلم - كانَ في غزوةِ تبُوكَ إذا

زاغتْ الشمسُ قبلَ أن يرتحِلَ جمعَ بينَ الظُّهرِ والعصرِ، وإنْ تَرَحَّل قبلَ أن تَزيغَ الشمسُ أَخَّرَ الظهرَ حتى ينزلَ للعصرِ، وفي المغربِ مثْلَ ذلكَ، إن غابَت الشمسُ قبلَ أن يرتحِلَ جمعَ بينَ المغربِ والعشاءَ، وإن ارتحل قبل أن تغيبَ الشمسُ أخَّرَ المغربَ حتى ينزِلَ للعشاءِ، ثم جمعَ بينهما. "وعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان في غزوة تبوك إذا زاغت الشمس"؛ أي: مالَتْ عن وسط السماء جانِبَ المغرب، أراد به الزوال. "قبل أن يرتحِلَ جَمعَ بين الظهر والعصر، وإن ارتحلَ قبل أن تَزيغَ الشمس أخَّر الظهر حتى ينزِلَ للعصر، وفي المغرب مثل ذلك إن غابت الشمس قبلَ أن يرتحِلَ جمعَ بين المغرب والعشاء، وإن ارتحلَ قبلَ أن تغيبَ الشمسُ أخَّر المغرب حتى ينزلَ للعشاء، ثم جمع بينهما"، يدلُّ على أن النازل في وقت أُولى الصلاتين يُندَب له التقديمُ، والراكب فيه يندَبُ له وفيه التأخير. * * * 953 - عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا سافرَ وأرادَ أنْ يتطوعَ استقبلَ القِبْلةَ بناقتِهِ، فكبَّرَ ثم صلَّى حيثُ وَجَّهَهُ رِكابُه. "وعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا سافر وأراد اْن يتطوُّع استقبل القِبلة بناقته فكبَّر" للافتتاح. "ثم صلَّى حيث وجَّهه رِكَابُه"؛ أي: يذهب به مركوبه. * * * 954 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: بعثني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حاجةٍ فجئتُ وهو يُصلي على راحلتِهِ نحوَ المشرقِ، ويجعلُ السجودَ أخفضَ من الركوعِ.

41 - باب الجمعة

"وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حاجة فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق"؛ أي كان توجُّهُه؛ أي: جانب المشرق، فصلَّى إليه. "ويجعل السجود أخفضَ من الركوع". * * * 41 - باب الجُمُعة (باب الجمعة) مِنَ الصِّحَاحِ: 955 - عن أبي هريرة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نحن الآخِرون السابقون يومَ القيامةِ بَيْدَ أنهم أُوتوا الكتابَ من قبلِنا، وأُوتيناهُ من بعدِهم، ثم هذا يومُهم الذي فُرِضَ عليهم - يعني الجمعةَ - فاختلَفوا فيه، فهدَانا الله له، والناسُ لنا فيه تَبَعٌ، اليهودُ غدًا والنَّصارى بعدَ غدٍ". وفي روايةٍ: "نحن الآخِرون الأَوَّلون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة". وفي روايةٍ: "نحن الآخِرونَ مِن أهل الدُّنيا، والأولونَ يومَ القيامةِ المَقْضيُّ لهم قبلَ الخلائِق". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: نحن الآخِرون"؛ أي: آخرُ الأنبياء بَعثًا في الدنيا.

"السابقون يوم القيامة" عليهم فضلًا وكرامةً، فإن أمته - عليه الصلاة والسلام - تُحشر قبل سائر الأمم، وتمرُّ على الصراط أولًا، ويَقضي لهم قبل الخلائق كما صرح به في رواية أخرى. "بيدَ": اسمٌ من ألفاظ الاستثناء بمعنى غير؛ أي: غير. "أنهم أُوتوا الكتابَ مِن قَبلِنا، وأوتيناه"؛ أي: الكتاب. "مِن بعدِهم"، فإنَّا وإياهم متساوية الأقدام في إنزال الكتب، والتقدُّم الزمانيُّ لا يوجِب شرفًا ولا فضلًا، فهذا ردٌّ لفضل الأمم السالفة على هذه الأمة. "ثم هذا يومُهم الذي فُرِضَ عليهم"؛ أي: فرض الله على اليهود والنصارى تعظيمَ هذا اليوم. "يعني الجمعة": بالطاعة لكن لم يبين لهم بل أمرهم أن يستخرجوه ويعينوه باجتهادهم، وأوجب على كل قبيل أن يتبع ما أدى إليه اجتهادهم. "فاختلفوا فيه": فقالت اليهود: هو يومُ السبت، فإنَّ فيه الفراغَ عن خلق المخلوقات فتستريحُ فيه عن العمل، وتشتغل بالذكر والعبادة. وقالت النصارى: هو يوم الأحد؛ لأن الله تعالى ابتدأَ فيه بخلق الخليقة فهو أَولى بالتعظيم. "فهدانا الله تعالى له"؛ أي: ليوم الجمعة. "والناسُ لنا فيه تَبَعٌ"؛ أي: اليهود والنصارى تبعٌ للمسلمين في يوم الجمعة. "اليهودُ غدًا"؛ يعني: السبت. "والنصارى بعد غد"؛ يعني: الأحد، وفي رواية: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أولُ مَن يدخل الجنة بيدَ أنهم).

"وفي رواية: نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأوَّلُون يوم القيامة المقضيُّ لهم قبل الخلائق"؛ أي: أول مَن يحاسَب يوم القيامة أمتي. * * * 956 - وقال: "خيرُ يومٍ طَلَعَتْ عليهِ الشمسُ يومُ الجمُعةِ، فيهِ خُلِقَ آدمُ، وفيه أُدخِلَ الجنةَ، وفيه أُخرجَ منها، ولا تقومُ الساعةُ إلا في يومِ الجمُعةِ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خيرُ يومٍ طلعتْ عليه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم، وفيه أُدخل الجنة، وفيه أُخرج منها، ولا تقوم الساعة إلا في يومِ الجمعة"، فإنَّ خروجَ آدم من الجنة سببٌ للذرية، وبعثِ الأنبياء من نسله، وإنزالِ الكتب إليهم، وكلُّ ذلك خير، وكذا قيام الساعة سبب لتعجيل جزاء الصُّلَحاء. * * * 957 - وقال: "إن في الجمُعةِ لساعةً لا يوافِقُها مسلمٌ يسألُ الله فيها خيرًا إلا أَعطاهُ إيَّاهُ قال: وهي ساعةٌ خفيفةٌ". وفي روايةٍ: "لا يوافِقُها مسلمٌ قائمٌ يُصلِّي يَسألُ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن في الجمعة لساعةً"؛ أي: فيها ساعةُ شريفة مستجابٌ فيها الدعاء. "لا يوافقها مسلمٌ يَسأل الله فيها خيرًا إلا أعطاه الله تعالى إياه، وقال: وهي ساعة خفية (¬1) "، والحكمة في إخفائها ليشتغل الناس بالعبادة جميعَ نهارِها رجاءَ أن يوافق دعاؤُهم تلك الساعةَ. ¬

_ (¬1) في "م" و"غ": "خفيفة".

"وفي رواية: لا يوافقها مسلمٌ وقائم يصلِّي يسأل". * * * 958 - قال أبو موسى: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "هي ما بينَ أَنْ يجلِسَ الإمامُ إلى أنْ تُقْضَى الصلاةُ". "وقال أبو موسى: سمعتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: هي"؛ أي: الساعة الشريفة. "ما بين أن يجلِسَ الإمامُ"، المراد جلوسُه عَقِيب صعودِه المنبر، أو جلوسه بين الخطبتين. "إلى أن تُقضَى الصلاة"؛ أي: يُفرَغَ منها. * * * مِنَ الحِسَان: 959 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ يومٍ طلَعتْ عليهِ الشمسُ يومُ الجمعةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه أُهبطَ، وفيه ماتَ، وفيه تِيْبَ عليه، وفيه تَقومُ الساعةُ، وما من دابةٍ إلا وهي مُسِيخَةٌ يومَ الجمعةِ، من حينَ تُصبحُ حتى تَطْلُعَ الشمسُ شفقًا من الساعةِ إلا الجنُّ والإِنسُ، وفيه ساعةٌ لا يصادفها عبدٌ مسلمٌ وهو يُصلي يسألُ الله شيئًا إلا أعطاهُ إياه. وقال أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: لقِيتُ عبدَ الله بن سلامٍ، فحدَّثتُه فقال عبدُ الله بن سَلامٍ: قد علمتُ أيَّةَ ساعةٍ هي، هي آخرُ ساعةٍ في يومِ الجمعةِ، قال أبو هريرةَ: كيفَ تكونُ آخرَ ساعةٍ في يومِ الجمعةِ وقد قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُصادِفُها عبدٌ مسلمٌ وهو يصلي، وتلكَ ساعةٌ لا يُصلَّى فيها؟ "، فقال عبدُ الله

ابن سلام: ألم يَقُلْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن جَلَسَ مجلِسًا ينتظرُ الصلاةَ فهو في الصلاةِ"؟، قال أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: بلى، قال: فهو ذاك. "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خيرُ يومٍ طلعتْ عليه الشمسُ يومُ الجمعة، فيه خُلِقَ آدم، وفيه أُهبط"؛ أي: أنزل من الجنة إلى الأرض. "وفيه مات، وفيه تِيبَ عليه" ماض مجهول، مِن (تاب)؛ أي: قُبلت توبتُه. "وفيه تقومُ الساعةُ، وما من دابة إلا وهي مُسِيخَةٌ"؛ أي: مستمعةٌ ومنتظِرة. "يوم الجمعة": لقيام الساعة. "من حينِ تصبحُ حتى تطلعَ الشمس"، وإساختها في ذلك الوقت؛ بأن الله تعالى ألهمَ جميعَ الدواب أن القيامة تقوم يومَ الجمعة بين الصبح إلى طلوع الشمس، فلا يزالون ينتظرونها كلَّ جمعة. "شَفَقًا"؛ أي: رغْبًا. "من الساعة إلا الجنَّ والإنسَ"، استثناء مِن (مُسِيخَة) وإخفاؤها عنهما ليتحقَّق لهم الإيمان بالغيب؛ ولأنهم لو علموها لتنغَّصَ عليهم عيشُهم ولم يشتغلوا بتحصيل كَفافهم من القُوت خوفًا من ذلك. "وفيه ساعةٌ لا يصادِفُها"؛ أي: لا يوافِقُها "عبدٌ مسلمٌ وهو يصلِّي يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه". "قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: لقيتُ عبدَ الله بن سَلاَم فحدثتُه"؛ أي: قلت له: إن

رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن في يوم الجمعة لساعةُ يُستجاب فيها الدعاء. "فقال عبد الله بن سَلاَم: قد علمتُ"؛ أي: عرفتُ تلك الساعة. "أية ساعة هي، هي آخر ساعة في يوم الجمعة". "وقال أبو هريرة: كيف تكون" - أي: تلك الساعة - "آخرَ ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يصادفُها عبدٌ مسلم وهو يصلِّي، وتلك الساعة لا يُصلَّى فيها؟ فقال عبد الله بن سَلاَم: ألم يقل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن جلس مجلسًا ينتظرُ الصلاةَ فهو في الصلاة؟ ". "قال أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه -: بلى، فهو"؛ أي: الساعة، ذكرَه باعتبار المعنى. "ذلك": إشارة إلى آخر الساعة من يوم الجمعة. * * * 960 - قال أنس: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التمِسُوا الساعةَ التي تُرجى في يومِ الجمُعةِ بعدَ العصرِ إلى غَيبوبةِ الشَّمسِ". 960/ -م - قال أبو سعيد الخُدري: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة التي في يوم الجمُعة فقال: "إني كنتُ أعلمها ثم أُنْسيتُها كما أُنْسيتُ ليلة القدر". "وعن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: التمسوا"؛ أي: اطلُبوا "الساعةَ التي تُرْجَى"، بصيغة المجهول؛ أي: يُطمَع إجابةُ الدعاءِ فيه.

"في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس"، وهذا يؤيد قولَ عبد الله ابن سَلاَم. * * * 961 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن مِن أفضلِ أيَّامِكم يومَ الجمعةِ، فيه خُلِقَ آدمُ، وفيه قُبضَ، وفيه النفخةُ، وفيه الصعقةُ، فأكثِروا عليَّ من الصلاةِ فيه، فإنَّ صَلاتَكُمْ معروضَةٌ عليَّ"، قالوا: يا رسولَ الله!، كيفَ تُعْرَضُ عليكَ صلاتُنا وقد أَرَمْتَ؟ - يقولون: بليتَ - فقال: "إن الله تعالى حرَّمَ على الأرضِ أجسادَ الأنبياءِ". "عن أوس بن أوس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ مِن أفضلِ أيامِكم يومَ الجمعة، فيه خُلِقَ آدم، وفيه قُبضَ، وفيه النفخة"؛ المراد النفخة الثانية، فإنها تصل عندها أربابُ الكمال إلى ما أُعِدَّ لهم. "وفيه الصَّعْقَة": وهي الصوت الهائل الذي يموت الناس مِن هوله، وهو النفخة الأُولى، وقيل: صعقة موسى عليه السلام. "فأكثِروا عليَّ من الصلاة فيه، فإنَّ صلاتكم معروضةٌ عليَّ، قالوا: يا رسول الله! وكيفَ تعرضُ عليك صلاتُنا وقد أَرِمْتَ؟ يقول"؛ أي: الراوي: معناه: "بَلِيتَ": يقال: آَرِمَ المالُ إذا فَنِيَ وأرض أَرِمةٌ لا تُنْبتُ شيئًا، وقيل: هو علي بناء المفعول من الأَرْم؛ أي: الأكل؛ أي: أَكَلَتْك الأرضُ. "فقال: إن الله حرَّمَ على الأرض أجسادَ الأنبياء"، يدل على أن الأرض لا تأكلُ أجسادَهم. * * *

42 - باب وجوبها

962 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}: يومُ القيامةِ، واليومُ التي {مَشْهُودٍ}: يومُ عرفةَ، و (الشاهد): يومُ الجمعةِ، وما طلعَت الشمسُ ولا غَربت على يومٍ أفضلَ منه، فيه ساعةٌ لا يوافِقُها عبدٌ مؤمنٌ يدعو الله بخيرٍ إلا استجابَ الله له، ولا يستعيذُ من شيءٍ إلا أعاذهُ منه، غريب. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلَّم: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُود} [البروج: 2] ": الذي ذُكِر في {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} "يومُ القيامة، واليومُ المشهود: يومُ عرفة، والشاهد: يوم الجمعة، وما طلعت الشمسُ ولا غربت على يوم أفضلَ منه"؛ أي: من يوم الجمعة. "فيه ساعةٌ لا يوافِقُها عبد مؤمن يدعو الله بخير إلا استجابَ الله له، ولا يستعيذ من شيء إلا أعاذَه منه". "غريب". * * * 42 - باب وجوبها (باب وجوب الجمعة) مِنَ الصِّحَاحِ: 963 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَنْتَهِيَن أقوامٌ عن وَدْعِهم الجماعاتِ، أو ليختِمنَّ الله على قُلوبهم، ثم لَيكونُنَّ من الغافلين". "من الصحاح": " عن أبي هريرة (¬1) أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ¬

_ (¬1) في "م": "عمر"، وفي "غ": "ابن عمر".

لينتهيَنَّ أقوامٌ عن وَدْعهم"؛ أي: تركِهم "الجُمُعَات أو ليختِمنَّ الله على قلوبهم" إن لم ينتهُوا؛ لأن مَن خالف أمرًا من أوامر الله تعالى يظهر في قلبه نكتةٌ سوداءُ، فإذا تكرَّرت المخالفة تكررت النُّكَات فيسودُّ قلبُه، ويغلِبُ عليه الغفلة، والخَتْمُ: هو الطبعُ والتغطية. "ثم ليكونَنَّ من الغافلين"؛ أي: يكون معدودًا من جملتهم. * * * مِنَ الحِسَان: 964 - عن أبي الجَعْد الضَّمْري: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ترَكَ ثلاثَ جُمَعٍ تَهاونًا بها طَبَعَ الله على قلْبهِ". "من الحسان": " عن أبي جَعْد الضَّمْرِي أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من ترك ثلاثَ جُمَعٍ تهاونًا بها"؛ أي: عن التقصير لا من عذر. "طبع الله تعالى"؛ أي: ختمَ "على قلبه". * * * 965 - وقال: "مَن تركَ الجمُعةَ من غيرِ عُذْرٍ فليتصدَّقْ بدِينارٍ، فإنْ لم يجدْ فبنصفِ دينارٍ". "وعن جندب أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن تركَ الجمعَة من غير عُذْرٍ فليتصدَّقْ بدينار، فإن لم يجدْ فبنصفِ دينار"، وهذا مستحَبٌّ لدفع إثم ترك الجمعة، وهىِ من فروض الأعيان عند الأكثر، وقيل: فرض كفاية. * * *

966 - عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمُعةُ على مَن سَمعَ النداءَ". "وعن عبد الله بن عمرو، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: الجمعةُ على مَن سمعَ النداء"؛ أي: يجب على مُستمعِ النداء الإتيانُ إليها، وبه قال محمد. * * * 967 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمُعةُ على مَن آوَاهُ الليلُ إلى أهلِهِ"، ضعيف. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: الجمعةُ على مَن آواه الليل"؛ أي: ضمَّه. "إلى أهلهِ"؛ يريد أنها واجبةٌ على مَن كان بين وطنه وبين الموضع الذي يُقام فيه الجمعة مسافةٌ يمكنه الرجوع بعد أداء الجمعة إلى وطنه قبلَ الليل، وبه قال أبو حنيفة. "ضعيف". * * * 968 - وقال: "تَجِبُ الجمُعةُ على كل مُسلمٍ إلا امرأةً أو صَبيًا أو مَملوكًا". "عن طارق بن شِهاب أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تجبُ الجمعة على كل مسلمٍ إلا امرأةٍ"، (إلا) هنا بمعنى غير، وما بعده مجرورٌ صفة لمسلم.

43 - باب التنظيف والتبكير

"أو صبيٍّ أو مملوكٍ أو مريضٍ". * * * 43 - باب التَّنظيف والتَّبكير (باب التنظيف) مِنَ الصِّحَاحِ: 969 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يغتسلُ رجلٌ يومَ الجمُعةِ ويتطهَّرُ ما استطاعَ من طُهرٍ، ويدَّهِنُ من دُهْنِهِ أو يَمَسُّ من طِيْبِ بيتِهِ، ثم يخرجُ، فلا يُفَرِّقُ بين اثنينِ، ثم يُصلي ما كُتِبَ له، ثم يُنْصِتُ إذا تكلَّمَ الإمامُ إلا غُفِرَ له ما بينَه وبينَ الجمُعةِ الأخرى"، وفي روايةٍ: "وفضْلُ ثلاثةِ أيامٍ". وهو التطهيرُ والتبكير وهو الذهاب بُكْرةً، وهي أول النهار. "من الصحاح": " عن سلمان أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يغتسلُ رجلٌ يومَ الجمعة ويتطهَّرُ ما استطاع من طهر"، أراد بهذا الطهر قصَّ الشارب، وقَلْمَ الأظفار، وحَلْقَ العانة، ونَتْفَ الإبط، وتنظيفَ الثياب. "وَيدَّهنُ من دُهنه"؛ أي: يستعمل الدُّهن في شعره، أراد به الدهنَ الذي فيه الطِّيب. "أو يَمَسُّ من طِيب بيته"، شك من الراوي، قيَّده إما توسعةً كما ورد في حديث أبي سعيد: (ومسَّ من طِيبٍ إن كان عنده)، أو استحبابًا ليؤذِنَ بأن السُّنَّهَ أن يتخِذَ الطيبَ لنفسه ويجعلَ استعمالَه عادةً له. "ثم يخرُجُ، فلا يفرِّق" بالجلوس "بين اثنين"، اللَّذين يجلسان متقاربين

بحيث لا يسعُ بينهما لجلوسِ واحدٍ، ويحتمل أن يكون معناه: لا يتخطَّى رقابَ الناس. وقيل: معناه: لا يوقِعُ المخالفَة بينهما بالنميمة. "ثم يصلِّي ما كُتِبَ"؛ أي: ما قُدِّرَ "له" من النوافل. "ثم ينصتُ"؛ أي: يسكتُ "إذا تكلم الإمام"؛ أي: إذا قرأ الخطبة. "إلا غُفِرَ له ما بينَه"؛ أي: ما بين يومِ الجمعة الذي فعلَ فيه: "وبينَ الجمعة الأخرى". "وفي رواية: وفضل ثلاثة أيام"، عطف على (ما) وزيادتها على السبعة؛ لأنه تعالى قال: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. * * * 970 - وقال: "مَنْ مَسَّ الحَصَى فقد لَغَا". "وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من مَسَّ الحصى"؛ أي: سَوَّى الأرض للسجود، فإنهم كانوا يسجدُون عليها، وقيل: قلب السُّبْحَةَ وعَدَّها. "فقد لغا"؛ أي: كان كمن تكلَّم باللغو، وقيل: أي مال عن الصواب وعَدَلَ، وقيل: أي: خابَ. * * * 971 - وقال: "إذا كان يومُ الجمعةِ وقفَت الملائكةُ على بابِ المسجدِ يكتبونَ الأولَ فالأول، ومثلُ المُهَجِّر كمثَل الذي يُهدي بدَنةً، ثم كالذي يُهدي بقَرةً، ثم كَبْشًا، ثم دجاجةً، ثم بيضةً، فإذا خرجَ الإِمام طَوَوْا صُحفَهم،

ويستمعونَ الذِّكرَ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا كان يومُ الجمعة وقفتِ الملائكةُ"، المراد بهم كتبةُ ثواب مَن يحضرُ الجمعةَ، وهمْ غيرُ الحَفظَة، واللام فيه للعهد. "على باب المسجد يكتُبون الأولَ فالأولَ"؛ أي: السابق فالسابق. "ومثَلُ المهجِّر"؛ أي: المبكِّر إليها. "كمثَلِ الذي يهدي بَدَنةً، ثم الذي يُهدي بقرة، ثم كَبْشًا، ثم دجاجة، ثم بيضة، فإذا خرج الإمام للخطبة طَوَوا صُحُفهم"؛ أي: كتُبهم. "ويستمعون الذكر"؛ أي: الخطبة، فلا يكتبون أجرَ مَن جاء في ذلك الوقت، وهل يكتب بعد الفراغ، تكلَّمُوا فيه. * * * 972 - وقال: "إذا قلتَ لصاحِبكَ يومَ الجمعةِ: أَنْصِتْ، والإِمام يخطبُ؛ فقد لغَوْتَ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة أنصتْ"؛ أي: اسكتْ. "والإمام يخطبُ فقد لغوتَ"؛ أي: تكلمتَ باللغو، فالطريق الإشارةُ إلى السكوت بالإصبع واليد ونحوِ ذلك دون التكلُّم به. * * * 973 - وقال: "لا يُقيمَنَّ أحدُكم أخاهُ يومَ الجُمعةِ ثم يخالفُ إلى مَقعدِه فيقعدَ فيه، ولكنْ يقولُ: افسَحُوا"، رواه ابن عمر.

"وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم -: لا يقيمَنَّ أحدُكم أخاه يوم الجمعة"؛ يعني من وجد أخاه جالسًا في المسجد لا يجوز له أن يقيمه. "ثم يخالِفُ إلى مَقْعَدِه"؛ أي: يأتي مِن خلفه إلى موضع قُعوده. "فيقعد فيه"؛ لأنه اختص بذلك الموضع بسبقه. "ولكن يقول"، معناه: ليقُلْ: "افسَحُوا"؛ أي: وسِّعوا. * * * مِنَ الحِسَان: 974 - قال: "من اغتسل يومَ الجمعةِ، ولبسَ من أحسَنِ ثيابهِ، ومَسَّ من طيبٍ إنْ كان عندَه، ثم أَتى الجمُعةَ فلم يتخطَّ أَعناقَ الناسِ، ثم صلَّى ما كتَبَ الله له، ثم أَنصتَ إذا خرجَ إمامُه حتى يفرُغُ من صَلاتِهِ؛ كانت كفارةً لمَا بينَها وبينَ جُمُعَتِهِ التي قبلَها". "من الحسان": " عن أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما - أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن اغتسل يومَ الجمعة ولبسَ من أحسنِ ثيابه"، فيه بيان كونِ لبس الثياب الحسنة سُنة. "ومَسَّ مِن طِيبٍ إن كان عنده"؛ لئلا يتأذَّى جارُه برائحته، و (مِن) فيه للتبعيض، أو زائدة عند مَن يُجوِّز ذلك في الموجب. "ثم أتى الجمعةَ فلم يَتخطَّ أعناق الناس" بالعبور بين اثنين. قيل: قَبُحَ التخطِّي إذا لم يتعلَّق به غرضٌ صحيح، أما إذا تعلَّقَ كالتقدُّم في

مواضع الصفوف المتقدِّمة الخالية لإحراز زيادةِ الثواب، ولزجْرِ مَن تقدَّمَ في المجيء ولم يتقدم بذلك الموضع، فلا قُبْحَ. "ثم صَلَّى ما كتبَ الله له، ثم أنصتَ إذا خرج إمامُه حتى يفرُغَ من صلاته كانت كَفَّارةً لَما بينَها وبينَ جُمُعتِه التي قبلَها". * * * 975 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من غسَّلَ يومَ الجمُعةِ واغتسلَ، وبَكَّرَ وابتكرَ، ومَشَى ولم يركبْ، ودَنَا من الإِمامِ واستَمعَ ولم يَلْغُ؛ كان له بكلِّ خطوةٍ عملُ سنةٍ: أَجْرُ صيامها، وقيامِها"، رواه أَوْس بن أوسٍ. "وعن أوس بن أوس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن غسَّل"، بالتشديد، قيل: معناه: المجامعة، غَسَّلَ الرجلُ امرأته؛ أي: جامَعَها، وهذا لأنه يجمع غَضَّ الطَّرْفِ في الطريق. وقيل: معناه: اغتسلَ بعد الجِماع "يوم الجمعة واغتسل": للجمعة، وقيل غسل غيره واغتسل هو؛ لأنه إذا جامع امرأتَه أحوجَها إلى الغسل، وقيل. غَسَّلَ: بالغ في غسل الأعضاء إسباغًا وتثليثًا، وقيل: غسَّل معناه غسَلَ الرأسَ وحدَه؛ لأن العربَ لهم لِمَمٌ وشعورٌ، وفي غَسلها كُلْفةٌ، فأفردها بالذِّكْر. "واغتسل": بمعنى: غسلَ سائر جسده، ويُروى: بالتخفيف، فيحمل الأول على الوضوء، والثاني على الغسل، أو الأول على غسل الجمعة، والثاني على غَسل رأسه بالخِطْمِيِّ ونحوِه، فإنه أبلَغُ في النظافة. "وبكَّر" بالتشديد؛ أي: أتى المسجدَ في أول وقت الصلاة، وكلُّ مَن أسرع في شيء فقد بَكَّر إليه،

"وابتكر"؛ أي: أدرك أولَ الخطبة، وقيل: بكَّر؛ أي: تصدَّق قبل خروجه إليها. في الحديث: "باكِرُوا بالصدقة، فإن البلايا لا تتخطاها"، وقيل: معناهما بمعنى كَرَّر للتأكيد. "ومشى ولم يركبْ، ودنا من الإمام"؛ أي: قَرُبَ إليه. "واستمع ولم يَلْغُ"؛ أي: لم يقل كلامًا لغوًا. "كان له بكل خطوةٍ عملُ سَنةٍ أجْرُ صيامِها": بَدَل مِن (عملُ سنة)؛ أي: كان له أجرُ صيام سنة. "وقيامِها"؛ أي: قيام لياليها. * * * 976 - وقال: "ما على أحدِكم إنْ وجَد أنْ يتخِذَ ثوبَينِ ليومِ الجمُعةِ سِوىَ ثَوْبَي مِهْنتهَ". "عن عبد الله بن سَلاَم أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما على أحدكم"؛ أي: ليس على أحدكم جُناحٌ. "إن وجد أن يتخذَ ثوبين ليوم الجمعة": يلبسهما فيه. "سوى ثوبي مَهنته" بفتح الميم وكسرها: الابتذال والخدمة. قال الزمخشري: والكسرُ أفصح، وعن الأصمعي مثلُه، والمراد ثيابُ سائرِ الأيام، وإنما قال ثوبين؛ لأن غالب أحوال العرب أن يلبَسوا ثوبين إزار ورداء. * * *

977 - وقال: "احْضُروا الذِّكرَ وادنْوا من الإمام، فإنَّ الرجلَ لا يَزالُ يتباعدُ حتى يُؤَخَّرَ في الجنَّةِ، وإنْ دخلَها". "عن سَمُرَة بن جندب أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: احضُروا الذِّكْر"؛ أي: الخطبة. "وادنوا من الإمام؛ فإن الرجلَ لا يزال يتباعَدُ"؛ أي: يتأخَّر عن الخيرات. "حتى يؤخَّر في الجنة، وإن دخلَها"، وفيه تعريضٌ بأن الداخل قنِعَ من الجنة ومن تلك الدرجات العالية والمقامات الرفيعة بمجرد الدخول. * * * 978 - وقال: "مَنْ تَخَطَّى رقابَ الناسِ يومَ الجمعةِ اتخذَ جِسْرًا إلى جهنَّم"، غريب. "عن سهل بن معاذ بن أنس، عن أبيه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من تخطى رقاب الناس"؛ أي: تجاوز بالخطى. "يوم الجمعة اتخذ": - علي بناء الفاعل -؛ أي اتخذ ذلك الشخص بسبب صنعه هذا. "جسيرًا إلى جهنم": يؤديها إليها؛ أي: يكون إيذاؤه الناس بهذا الوجه سببًا لوروده النار أعاذنا الله لمن ذلك. ويروى: - على بناء المفعول -؛ أي: يجعل هذا التخطي جسرًا إلى جهنم يمشي ويعبر عليه مجازاة له بمثل فعله وهذا مبالغة في تحقيره. "غريب". * * *

44 - باب الخطبة والصلاة

979 - عن مُعاذ بن أنسَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهى عن الحُبْوَةِ يومَ الجمعةِ والإمامُ يخطبُ. "عن معاذ بن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن الحُبوة": - بضم الحاء وكسرها - اسم من الاحتباء وهو أن يجلس الرجل على مقعده وينصِب ركبتيه ويأخذ بيديه خلف ركبتيه، أو يشدُّ ظهره وساقيه بإزار ونحوه، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. "يومَ الجمعة والإمام يخطب"؛ لأن ذلك مَجْلَبةٌ للنوم، فلا يسمع الخطبة، ولا يكون مقعدُه متمكَّنًا على الأرض، فربما يخرجُ منه ريحٌ. قيل: هذه جِلسة سادات المتكبرة من العرب، قالوا: ومن هذا القَبيل ما يتخذهُ بعض الفقراء والشيوخ ويسمُّونه كَمَر الصحبة. * * * 980 - وقال: "إذا نَعَسَ أحدُكم يومَ الجمعةِ فليتحوَّلْ من مَجلِسهِ ذلك". "عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا نَعَسَ أحدكم"؛ أي نام "يوم الجمعة فليتحوَّلْ"؛ أي: فلينتقِل "من مجلسه ذلك" إلى آخر؛ ليذهبَ عنه النومُ بالحركة إليه. * * * 44 - باب الخُطبة والصَّلاة (باب الخطبة والصلاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 981 - عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصلِّي الجمُعةَ حينَ تَميلُ الشَّمسُ.

"من الصحاح": " عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يصلي الجمعة حين تميل الشمس"؛ أي: يصلِّيها في أول وقت الظهر. * * * 982 - وقال سَهْل بن سَعْد: ما كنَّا نقَيلُ ولا نتغدَّى إلا بعدَ الجمُعةِ. "وقال سهل بن سعد: ما كنا نقَيلُ"، من القيلولة؛ وهي نوم نصف النهار، وقيل: هي عند العرب الاستراحةُ نصفَ النهار وإن لم يكن معها نومٌ. "ولا نتغدَّى"؛ أي: لا نأكل الغداء، وهو الطعام الذي يؤكل أولَ النهار. "إلا بعد الجمعة": وفيه إشارةٌ إلى التبكير. * * * 983 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتدَّ البردُ بكَّر بالصلاةِ، وإذا اشتدَّ الحرُّ أَبْرَدَ بالصلاةِ، يعني: الجمعةَ. "وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا اشتدَّ البردُ بكَّرَ بالصلاة"؛ أي: صلَّاها في أولِ وقتِها. "وإذا اشتدَّ الحَرُّ أبردَ بالصلاة يعني الجمعة"؛ أي: صلاَّها بعد وقوع ظِلِّ الجدار في الطرقات لئلَّا يتأذَّى المارة بحر الشمس عند توجههم إلى المسجد. * * * 984 - وقال السائب بن يَزيد: كانَ النِّداءُ يومَ الجمعةِ أَوَّلُه إذا جلسَ الإِمامُ على المِنْبرِ، على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكرٍ، وعمرَ، فلمَّا كانَ عثمانُ وكَثُرَ الناسُ زادَ النداءَ الثالثَ على الزَّوْرَاءِ.

"وقال السائب بن يزيدَ - رضي الله عنه -: كان النداءُ يوم الجمعة أولُه"، بدل من النداء؛ أي: كان النداء الأولُ "إذا جلسَ الإمامُ على المنبر على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - "، ولم يكن قبلَ هذا نداء آخرُ، والنداء الثاني الإقامة بعد فراغه من الخطبة. "فلمَّا كان عثمان - رضي الله عنه - "؛ أي: زمانه. "وكثر الناسُ زاد النداء الثالثُ على الزَّوراء"، قيل: هي دارٌ في سوق المدينة بقرب المسجد يقفُ المؤذِّن على سطحها، وهو الأذان أوَّلَ الوقت كما هو الآن في زماننا؛ ليعلم الناس وقتَ صلاة الجمعة؛ ليحضُروا ويسعَوا إلى ذكر الله تعالى، وإنما زاد عثمان - رضي الله عنه - لينتهيَ الصوتُ إلى نواحي المدينة. * * * 985 - وقال جابر بن سَمُرَة: كانت للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خُطبتانِ يجلسُ بينَهما يقرأُ القُرآنَ، ويُذَكِّرُ الناسَ، فكانت صلاتُه قَصْدًا، وخُطْبَتُه قَصْدًا. "وقال جابر بن سَمُرَة - رضي الله عنه -: كانت للنبي - عليه الصلاة والسلام - خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكرُ الناسِّ"؛ أي: يعظُهم. "فكانت صلاته قَصْدًا"؛ أي: متوسطًا. "وخطبته قَصْدًا"؛ أي: لم تكن طويلًا ولا قصيرًا، بل مقترنة بالرعاية عن طَرَفي التطويل والتقصير. * * * 986 - وقال عمار: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ طُولَ صلاةِ الرجلِ وقِصَرَ خُطبتِهِ مَئِنَّةٌ مِن فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصلاةَ وأقْصُروا الخُطبةَ، وإنَّ من البَيانِ لَسِحرًا".

"وقال عمار: سمعتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إن طُول صلاة الرجل وقِصَرَ خطبته مَئِنَّة"؛ أي: علامة "من فقهه"، وإنما صار علامةً للفقه؛ لأن الفقيه يَعلم أن الصلاة مقصودةٌ بالذات والخطبةَ توطِئةٌ لها، فيصرِفُ العناية إلى ما هو الأهمُّ. "فأطِيلوا الصلاة، وأقْصِرُوا الخطبة"، المراد بهذا الطول ما يكون على وفاق السنة لا قاصرًا عنها ولا فاضلًا عليها، ليكون توفيقًا بين هذا وبين الحديث الأول. "وإنَّ من البيان لسِحرًا"؛ أي: بعضُ البيان يعملُ عمل السحر. قيل: هذا ذم لتزيين الكلام، وتعبيره بعبارة يتحيَّر فيها السامع كالتحيُّر في السحر، فنهى عنه كنهيه عن السحر. وقيل: بل ذلك مدحٌ للفصاحة، يريد أن الفصيح يبعثُ الناسَ على حب الآخرة بفصاحته وبلاغته كالسحر في جعله مائلًا إليه بسحره. * * * 987 - وقال جابر: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطَبَ احمَرَّتْ عيناهُ، وعَلا صوتُهُ، واشتدَّ غضبُهُ حتى كأنه مُنْذِرُ جيشٍ يقولُ: صَبَّحَكم ومَسَّاكم، ويقولُ: "بُعِثْتُ أنا والساعةَ كهاتَيْنِ"، ويَقْرُنُ بينَ أصبعَيْهِ السَّبَّابَةِ والوُسْطَى. "وقال جابر - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب احمرَّت عيناه وعلا"؛ أي: رفع "صوته"؛ لإبلاغ وعظِه إلى آذانهم، وتعظيمِ ذلك الخبر في خواطرهم، وتأثيرِه فيهم. "واشتد غضبُه، حتى كأنه منذِرُ جيشٍ"؛ أي: كمن خبَّر جيشًا أو قومًا بأنه قَرُبَ منهم جيشٌ عظيمٌ ليُغِيرُوا عليهم.

"يقول: صَبَّحكُم"؛ أي: سيصبحكم العدوُّ. "ومسَّاكم"؛ أي: سَيُمَسُّونكم؛ يعني: سيأتيكم في وقت الصباح ووقت المساء. "ويقول: بُعثْتُ أنا والساعة"، بالرفع عطفًا على الضمير وبالنصب على المفعول معه؛ أي: بعثني إليكم قريبٌ من القيامة. "كهاتين، ويقرِنُ بين أُصْبُعَيه السَّبَّابةِ والوسطى"، فإنكم سيأتيكم بغتةً مثلَ الجيش يأتيكم بغتة في هذين الوقتين. * * * 988 - وقال صَفْوان بن يَعْلَى، عن أبيه: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقرأُ على المِنْبرِ: " {وَنَادَوْا يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} ". "وقال صفوان بن يَعْلَى - رضي الله عنه -، عن أبيه: سمعتُ النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - يقرأ على المنبر: {وَنَادَوْا} "؛ أي: يقول الكفار لمالِكِ خازنِ النيران. {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}؛ أي: ليبين قَدْرَ لُبْثِنا، فيقول لهم مالك: إنكم ماكِثون؛ أي: لكم لُبثٌ طويل فيها لا نهاية له، وهذا يدل على أنَّ قراءة آية الوعظ والتخويف على المنبر سُنة. * * * 989 - وقالت أم هشامٍ بنتُ حارثةَ بن النُّعمانِ: ما أَخذتُ {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} إلا عن لسانِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقرؤها كلَّ جمعةٍ على المِنْبرِ إذا خطَبَ الناسَ. "وقالت أمُّ هشام بنت حارثةَ بن النعمان: ما أخذتُ"؛ أي: ما حفظتُ.

{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] إلا عن لسان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقرؤها كلَّ جمعة على المنبر إذا خطبَ الناس"، والمراد أول السورة لا جميعها؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - لم يقرأْ جميعَها في الخطبة. * * * 990 - عن عَمْرو بن حُرَيث: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خطبَ وعليهِ عِمَامةٌ سوداءُ قد أَرْخَى طرفَيْهَا يينَ كتِفَيْهِ. "وعن عمرو بن حُرَيثٍ أن النبي - عليه الصلاة والسلام - خطبَ وعليه عِمامة سوداءُ قد أَرْخَى"؛ أي: سدلَ وأَرْسلَ "طرفَيها بين كتفيه". * * * 991 - وعن جابر قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطُب: "إذا جاءَ أحدُكم يومَ الجمُعةِ والإِمام يخطبُ فليركَعْ ركعتَينِ، وَلْيتجَوَّزْ فيهما". "وعن جابر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وهو يخطب: إذا جاء أحدكم يومَ الجمعة والإمامُ يخطِبُ فليركَعْ ركعتين"، قيل: ينبغي أن تكون هاتان الركعتان بنيَّةِ سُنَّةِ الجمعة لتأدَّى بذلك التحية؛ بخلاف العكس. "وليتجوَّزْ"؛ أي: ليخفِّفْ "فيهما"، وهذا يدل على أنَّ تحية المسجد مستحبة في أثناء الخطبة. * * * 992 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أدركَ ركعةً من الصلاةِ مع الإمام فقد أدركَ الصلاةَ".

"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن أدركَ ركعةً من الصلاة"؛ يعني صلاةَ الجمعة مع الإمام. "فقد أدرك الصلاةَ"، فيقوم بعد تسليم الإمام ويصلِّي ركعةً أخرى. * * * مِنَ الحِسَان: 993 - عن ابن عمر - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ خُطبتينِ، كان يجلسُ إذا صَعِدَ المِنْبرَ حتى يفرغَ - أُراه المُؤذِّن - ثم يقومُ فيخطبُ، ثم يجلسُ ولا يتكلمُ، ثم يقومُ فيخطبُ. "من الحسان": " عن ابن عمرَ أنه قال: كان النبيُّ - صلى الله تعالى عليه وسلم يخطِبُ خُطبتين، كان يجلِسُ إذا صعدَ المنبرَ حتى يفرُغَ"، قال الراوي: عن ابن عمر. "أُراه المؤذن"؛ أي: أظن أن ابن عمر قال: حتى يفرُغَ المؤذِّن من الأذان. "ثم يقوم فيخطبُ، ثم يجلِس ولا يتكلَّم، ثم يقوم فيخطب". * * * 994 - وعن عبد الله بن مَسْعود - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استَوَى عن المِنبرِ استقبلناهُ بوُجوهِنا. ضعيف. "وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا استوى"؛ أي: قام "على المنبر استقبلْناه"؛ أي: توجهنا "بوجوهنا"، فالسُّنةُ أن يتوجَّه القومُ الخطيبَ، والخطيبُ القومَ. "ضعيف". * * *

45 - باب صلاة الخوف

45 - باب صلاة الخَوف (باب صلاة الخوف) مِنَ الصِّحَاحِ: 995 - عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: غزوتُ مَع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَلَ نجْدٍ، فوازينا العدُوَّ فصَافَفْنَا لهم، فقامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلي لنا، فقامَتْ طائفةٌ معه وأَقْبَلَتْ طائفةٌ على العدوِّ، وركعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمن معَهُ وسجَدَ سجدتَين، ثم انصَرفوا مكانَ الطائفةِ التي لم تُصَلِّ، فجاؤوا فركعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بهم ركعةً وسَجدَ سجدتَينِ ثم سلَّم، فقامَ كلُّ واحدٍ منهم فركعَ لنفسِهِ ركعتَهُ، وسجدَ سجدتينِ. ورواه نافعٌ، عن عبد الله بن عمر، وزادَ: فإنْ كانَ خَوفٌ هو أَشدُّ من ذلكَ صلَّوا رِجالًا قيامًا على أقدامِهم، أو رُكْبانا مُسْتَقْبلِي القِبْلةِ أو كيرَ مُستقبلِيها. قال نافع: لا أُرَى عبدَ الله بن عمرَ ذكرَ ذلك إلا عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "من الصحاح": " عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه أنه قال: غزوتُ مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قِبَلَ نَجْدٍ"، بكسر القاف، أي: نحوه. "فوازَيْن"؛ أي: حاذَينا "العدوَّ": ولاقيناه. "فضافَفْنا"؛ أي: أَقمْنَا "لهم"، قيل: ضربنا الصفوف في وجوههم. "فقام رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصلِّي لنا، فقامت طائفةٌ معه، وأقبلتْ طائفة على العدوِّ، وركع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: صلَّى "بمن معه" ركعةً.

"وسجد سجدتين، ثم انصرَفُوا مكانَ الطائفةِ التي لم تصلِّ، فجاؤوا فركع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بهم ركعةً، وسجد سجدتين، ثم سلم - عليه الصلاة والسلام - "، ولم تسلِّم هذه الطائفة. "فقام كلُّ واحدٍ منهم فركع لنفسه ركعة، وسجد سجدتين"، قيل: لمَّا سلم - عليه الصلاة والسلام - أقبلتْ هذه إلى وجهِ العدو ورجعت الأولى، وركعوا ركعتهم الثانية منفرِدين ثم سَلَّمُوا، وذهبوا إلى وجه العدو، ورجعتْ الثانية، وركعوا ركعتهم الثانية وسلَّموا، وبهذا أخذ أبو حنيفة، لكن الحديث لم يُشعِر بذلك. "ورواه نافعٌ عن عبد الله بن عمر وزاد فيه: فإن كان خوفِّ هو أشدُّ من ذلك صلَّوا رِجَالًا"؛ أي: راجِلين. "قيامًا"؛ أي: قائمين "على أقدامهم، أو رُكبانًا مستقبلِي القِبلة أو غيرَ مُستقبِليها، قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر ذكرَ ذلك إلا عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم". * * * 996 - وعن يَزيد بن رُومَان، عن صالح بن خَوَّات، عمَّن صلَّى مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ ذاتِ الرِّقاع صلاةَ الخوف: أنَّ طائفةً صَفَّتْ مَعَهُ، وطائفةً وُجاهَ العدوِّ، فصلى بالتي معَه ركعةً ثم ثبتَ قائمًا، وأَتمُّوا لأنفسِهم، ثم انصرفوا فصفُّوا وجاهَ العدوَ، وجاءَت الطائفةُ الأُخرى فصلى بهم الركعةَ التي بقيَتْ من صلاتِهِ، ثم ثبتَ جالسًا وأَتمُّوا لأنفسِهم ثم سلَّم بهم. ورواهُ القاسمُ، عن صالح بن خَوَّاتٍ عن سهلِ بن أبي حَثْمة - صلى الله عليه وسلم -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.

"عن يزيدَ بن رُومَان، عن صالح بن خَوَّاتٍ، عمَّن صلى مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يومَ ذات الرِّقاع"، بكسر الراء، اسم إحدى غزوات غزاها - عليه الصلاة والسلام - في الخامسة من الهجرة سُميت بها لشدهم على أرجلِهم الخِرَق فيها لعَوَزِ النعال. وقيل: لأن الأرضَ التي التقوا فيها كانت بيضاءَ وسوداءَ وحمراءَ كالرِّقاع المختلِفة الألوان؛ يعني: رُوي عمن صلَّى معه عليه الصلاة والسلام. "صلاةَ الخوفِ، أنَّ طائفةً صَفَّتْ معه وطائفةً وُجاه العدو"، بكسر الواو في وُجاه وضمها؛ أي: مقابلَهم وحذاءَهم، نصب على الظرفية بفعل مقدر. "فصلَّى بالتي معه ركعةً، ثم ثبت قائمًا، وأتمُّوا لأنفسهم"؛ أي: صلَّوا ركعتهم الثانية منفرِدين من غير نية المفارقة. "ثم انصرفوا فصفُّوا وِجاهَ العدو، وجاءت الطائفة الأخرى فصلَّى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم ثبتَ جالسًا وأتمُّوا لأنفسهم، ثم سلَّم بهم"، وبهذه الرواية عمل الشافعيُّ ومالك. "ورواه القاسم، عن صالح بن خَوَّاتٍ، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - ". * * * 997 - قال جابر: أَقبَلْنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بذاتِ الرِّقاعِ فنودِيَ بالصلاةِ، فصلى بطائفهٍ ركعتينِ، ثم تأَخَروا، وصلَّى بالطائفةِ الأُخرى ركعتَينِ، فكانَت لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أربعَ ركعاتٍ وللقومِ ركعتانِ، "وقال جابر: أقبلْنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى إذا كنا بذات الرِّقاع فنوديَ بالصلاة، فصلى بطائفة ركعتين، ثم تأخروا" عن الموضع

الذي صلَّوا فيه، واقتصروا على الركعتين، وسلَّموا عنهما. "وصلى بالطائفة الأخرى ركعتين، فكانت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتان"، وهذه الرواية مخالفةٌ لمَا قبلَها مع أن الموضعَ واحدٌ، فيَحتمل أنه - عليه الصلاة والسلام - صَلَّى في هذا الموضع مرتين: مرة كما رواه سهل، ومرة كما رواه جابر. * * * 998 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: قال: صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الخوفِ، فَصَفَفْنَا خلْفَهُ صَفَّيْنِ، والعدُوُ بَيْنَنَا وبينَ القِبلةِ، فَكَبَّرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وكبَّرنا جميعًا، ثم ركعَ وركعْنَا جميعًا، ثم رفعَ رأسَه من الركوعِ ورفعْنَا جميعًا، ثم انحدَرَ بالسُّجودِ والصفُّ الذي يليهِ؛ وقامَ الصفُّ المُؤخَّرُ في نَحْرِ العدوِّ، فلما قضَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - السجودَ وقامَ الصفُّ الذي يليهِ، انحدرَ الصفُّ المؤخَّرُ بالسجودِ ثم قاموا، ثم تقدَّمَ الصف المؤخَّرُ، وتأخَّرَ المُقَدَّمُ ثم ركعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وركعنَا جميعًا، ثم رفعَ رأسَهُ من الركوعِ ورفعْنَا جميعًا، ثم انحدَرَ بالسجودِ والصفُّ الذي يليهِ، الذي كانَ مُؤَخَّرًا في الركعةِ الأُولى، وقامَ الصفُّ المؤخَّرُ في نحرِ العدوِّ، فلما قضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - السجودَ والصفُّ الذي يليه؛ انحدرَ الصفُّ المؤخَّرُ بالسجودِ، فسجدوا، ثم سلَّم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وسلَّمْنَا جميعًا. "عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: صلَّى بنا رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلاةَ الخوف، فصفَفْنا خلفَه صَفَّين، والعدوُّ بيننا وبين القبلة، فكبَّرَ النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - وكبَّرْنا جميعًا، ثم ركع وركعْنا جميعًا، ثم رفع رأسه من الركوع ورفعْنا جميعًا، ثم انحدر"؛ أي: نزل"بالسجود، والصفُّ"، بالرفع عطفًا على ضمير انحدر" أي: ونزل الصفُّ.

"الذي يليه"؛ أي: يكون أقربَ منه، وبالنصب مفعولًا معه. "وقام الصفُّ المؤخَّر في نَحْر العدو"؛ أي: إزاءه وقبالته؛ كيلا يهجم عليهم. "فلما قضى النبي - عليه الصلاة والسلام - السجودَ قام والصفُّ الذي يليه، وانحدر الصفُّ المؤخَّر بالسجود، ثم قاموا، ثم تقدَّم الصف المؤخر" ووقفوا مكان الصف الأول. "وتأخَّر المقدَّم" بخطوة أو خطوتين. "ثم ركع النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: قام وقرأ الفاتحة والسورةَ ثم ركع. "وركعْنا جميعًا، ثم رفع رأسَه من الركوع ورفعْنا جميعًا، ثم انحدرَ بالسجود والصفُّ الذي يليه الذي كان مؤخَّرًا في الركعة الأولى، وقام الصفُّ المؤخَّر في نحر العدو، فلمَّا قضى النبي - عليه الصلاة والسلام - السجودَ والصفُّ الذي يليه انحدرَ الصفُّ المؤخَّر بالسجود فسجدُوا، ثم سلم النبي - عليه الصلاة والسلام - وسلَّمنا جميعًا". * * * مِنَ الحِسَان: 999 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُصلي بالناسِ صلاةَ الظُّهرِ في الخَوفِ ببطنِ نخْلٍ، فصلَّى بطائفةٍ ركعتينِ ثم سلَّم، ثم جاءَ طائفةٌ أخرى فصلَّى بهم ركعتين، ثم سَلَّم. "من الحسان": " عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يصلي بالناس صلاةَ الظهرِ في الخوف ببطن نَخْلٍ": اسم موضع بين مكة والطائف.

46 - باب صلاة العيد

"فصلى بطائفة رَكْعتين، ثم سَلَّم، ثم جاء طائفةٌ أخرى فصلَّى بهم ركعتين، ثم سلم". * * * 46 - باب صَلاةِ العِيْد (باب صلاة العيد) مِنَ الصِّحَاحِ: 1000 - عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخرجُ يومَ الفِطْرِ والأَضْحى إلى المُصلَّى، فأَولُ شيءٍ يبدأُ به الصلاةُ، ثم ينصرفُ فيقومُ مقابلَ الناسِ والناسُ جلوسٌ على صفوفهم، فَيَعظُهم ويُوصِيهم ويأمُرُهم، وإنْ كانَ يريدُ أن يَقْطَعَ بَعْثًا قطعَهُ، أو يأمر بشيءٍ أَمَرَ به، ثم ينصرفُ. "من الصحاح": " عن أبي سعيد الخُدْري أنه قال: كان النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - يخرجُ يومَ الفطر والأضحى إلى المصلَّى، فأوَّلُ شيء يَبدأ به الصلاةُ"، يدل على تقديمها على الخطبة. "ثم ينصرف فيقومُ مقابلَ الناس والناسُ جلوسٌ على صفوفهم، فيعظُهم ويوصيهم ويأمرُهم، وإن كان يريد أن يقطعَ بعثًا"، القَطْعُ: التوزيع والتقسيم على القبائل، والبعث: الجيش المبعوثُ إلى موضع، مصدر بمعنى مفعول. "قطعه"؛ أي: وَزَّعه عن القبائل، فيقول: يخرج من بني فلان كذا، ومن بني فلان كذا.

"أو يأمر بشيء" من أمور الناس ومصالحهم. "أمر به"؛ لاجتماعهم، حتى لا يحتاج أن يجمَعهم مرة أخرى. "ثم ينصرف"؛ أي: يرجع إلى بيته، وفيه دليل على أن الكلامَ في الخطبة جائزٌ للإمام. * * * 1001 - عن جابر بن سَمُرَةَ أنه قال: صلَّيتُ مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - العيدين غيرَ مرةٍ ولا مرتينِ، بغيرِ أذانِ ولا إقامةٍ. "عن جابر بن سَمُرَة - رضي الله عنه - أنه قال: صلَّيتُ مع النبي - عليه الصلاة والسلام - العيدين غيرَ مَرَّة ولا مرتين"؛ أي: صَلَّيتُ كثيراً. "بغير أذانٍ ولا إقامة"، يدل على أنه لا أذانَ ولا إقامةَ لشيء من النوافل بل يُنادَى في العيد: الصلاة جامعة ليخرجَ الناس عن سماع ذلك. * * * 1002 - وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبو بكرٍ، وعمرَ يُصَلُّونَ العيدينِ قبلَ الخُطبةِ. "وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأبو بكر وعمر يصلُّون العيدين قبل الخطبة"، بخلاف الجمعة؛ لأن خطبتَها فريضةٌ، فلو قُدّمت الصلاةُ عليها ربما يتفرَّقُ الناس إذا صَلَّوا ولا ينتظرونها فيأثَموا، وإنما ذكر الشيخين معه - عليه الصلاة والسلام - تقريراً للسنة وتأكيداً لها. * * *

1003 - وسُئل ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: شهدتَ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - العيدَ؟، قال: نعم، خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى ثم خَطَبَ، ولم يذكُر أَذاناً ولا إقامة، ثم أتى النساءَ فَوَعَظَهُنَّ وذَكَّرَهن وأَمَرَهن بالصدقةِ، فرأيتهنَّ يُهْوينَ إلى آذانِهنَّ وحُلوقهنَّ يدفَعْنَ إلى بلال، ثم ارتفعَ هو وبلالٌ إلى بيتِهِ. "وسئل ابن عباسٍ: شهدتَ" بحذف همزة الاستفهام -؛ أي: أَحضَرْتَ "مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العيدَ؟ قال: نعم، خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلَّى، ثم خطب، ولم يَذْكُر"؛ أي: ابن عباس "أذاناً ولا إقامة" في بيان كيفية صلاته. "ثم أتى النساءَ فوعظهنَّ وذَكَّرهن وأمرهنَّ بالصدقة، فرأيتهنَّ يُهْوِين"؛ أي: يَقْصِدْنَ"إلى آذانهن"، جمع الأذن. "وحلوقهِنَّ"، جمع حَلقة، أو جمع حَلْق وهو الحلقوم؛ أي: إلى ما فيهما من الحَلي من القُرطِ والقِلادة. "يدفَعْنَ"؛ أي: يعطين. "إلى بلال": ليتصدَّق به على الفقراء. "ثم ارتفعَ هو"؛ أي: ذهب الرسول عليه الصلاة والسلام. "وبلالٌ إلى بيتِه"، وفيه دليل على جوازِ عطية المرأةِ بغير إذن زوجها خلافاً لمالك. * * * 1004 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلَّى يومَ الفِطْرِ ركعتينِ لم يُصَلِّ قبْلَها ولا بعدَها. "وقال ابن عباس: إن النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - صلى يومَ الفِطر

ركعتين لم يصلِّ قبلها ولا بعدها"، يدل على أنه ليس قبل صلاة العيد ولا بعدها سنه. 1005 - وقالت أُم عَطيَّة: أُمِرْنَا أنْ نُخرِجَ الحُيَّضَ يومَ العيدينِ وذواتِ الخُدُورِ، فيشهدنَ جماعةَ المُسلمينَ ودعوتَهم، وتعتزلُ الحُيَّضُ عن مُصَلاَّهُنَّ، قالت امرأة: يا رسولَ الله!، إحدانا ليسَ لها جِلْبَاب؟، قال: "لِتُلْبسْها صاحبتُها من جِلْبَابها". "وقالت أم عطية: أُمرنا أن نُخرِجَ الحُيَّض"، جمع حائض. "يومَ العيدين، وذواتَ الخُدور": جمع خِدْر، وهو الستر؛ أي: المَخْدُورات من النساء. "فيشهدْن"؛ أي: يحضُرْن. "جماعةَ المسلمين ودَعْوتَهم"؛ أي: دعاءَهم. "وتعتزِل الحُيَّضُ عن مصلاَّهنَّ"؛ أي: تنفصل وتقفُ في موضع منفرداتِ، وهذا ليصلَ بركةُ الدعاء والصلاة لمن لها عُذْر. "قالت امرأة: يا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: إحدانا ليس لها جِلْبَاب": وهي كساء تسترُ النساءُ بها إذا خرجْنَ من بيتهن. "قال: لتلبسها"، أمر من الإلباس. "صاحبتُها من جِلْبابها"، لكن حضورَهن في زماننا غيرُ مستحَبٍّ؛ لظهور الإفساد بين الناس، وفيه ترغيبُ للناس في حضور الصلاة، ومجالس الذِّكْر، ومقاربة الصلحاء لينالَهم بركتهم. * * *

1006 - وعن عائشة رضي الله عنها: أن أبا بكرٍ - رضي الله عنه - دخلَ عليها وعندَها جاريتانِ في أيامِ مِنَى تُدَفِّفانِ وتضرِبَانِ - وفي رواية: تغنِّيانِ - بما تَقَاوَلَت الأنصارُ يومَ بُعاثٍ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُتَغَشٍّ بثوبِهِ، فانتهرَهُمَا أبو بكرٍ، فكشفَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وجهِهِ فقال: "دَعْهُمَا يا أبا بكرٍ، فإنها أيامُ عيدٍ"، وفي روايةٍ: "يا أبا بكرٍ، إن لكل قومٍ عيداً، وهذا عيدُنا". "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: إنَّ أبا بكر دخلَ عليها وعندها جاريتان في أيام منًى"، وهي أيام التشريق. "تدفِّفان وتضربان"؛ أي: الكفَّ على الكفّ، وقيل: ترقُصان: مِن: ضربَ الأرض وَطِئَها. "وفي رواية: تغنِّيان بما تقاوَلَت الأنصارُ"؛ أي: تقاوضت وتخاطَبت بعضُهم بعضاً من الأشعار التي تفاخَر بها الحَيَّان الأوسُ والخزرج. "يوم بُعاث": وهو يوم مشهور كان فيه مَقْتَلَة عظيمة للأوس على الخزرج قبل الإسلام، يقرؤها كل واحد من القبيلتين في ذلك اليوم لإظهار شجاعتهم، وبقيت المحاربة بينهم مئة وعشرين سنةً، حتى قَدِمَ النبي - عليه الصلاة والسلام - المدينة فألَّف بينهم. وفيهم نزل: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} [الأنفال: 63]. "والنبي - عليه الصلاة والسلام - مُتَغَشٍّ"؛ أي: متغطٍّ ومتستِّر"بثوبه، فانتهرَهما"أي: زجرهما ومنعهما "أبو بكر، فكشف النبي - عليه الصلاة والسلام - عن وجهه فقال: دعْهما يا أبا بكر! فإنها"؛ أي: فإنَّ أيام التشريق "أيام عيد"؛ سماها عيداً لمشاركتها ليوم العيد في عدم جواز الصوم فيها. "وفي رواية: يا أبا بكر! إن لكل قومٍ عيداً، وهذا عيدُنا"، اعتذار عنهما

بأن إظهار السرور في العيدين من شعائر الدين. وفي الحديث: دليل على أن ضَرْب الدف جائز إذا لم يكن فيه جلاجل في بعض الأحيان، وأنَّ إنشاد الأشعار التي ليست بهجو ولا سب جائزٌ. * * * 1007 - وقال أنس - رضي الله عنه -: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يغدو يومَ الفِطْرِ حتى يأكلَ تَمَرَاتٍ، ويأكلُهنَّ وِتراً. "وقال أنس: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان لا يغدو يوم الفطر حتى يأكل تَمَراتٍ، ويأكلهن وتراً"، ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، وإنما أسرعَ - عليه الصلاة والسلام - بإفطار يومِ الفِطْر إظهاراً للمخالفة بين هذا اليوم واليومِ الذي قبلَه؛ لتكونَ مخالفةُ الفعل مُشْعِرة لمخالفة الحكم؛ بخلاف الأضحى. * * * 1008 - وقال جابر: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا كانَ يومُ عيدٍ خالفَ الطريقَ. "وقال جابر: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا كان يومُ عيدٍ خالفَ الطريقَ"؛ أي: يذهب في طريق ويعودُ في آخر ليتبرَّك به أهلُهما، أو ليستفيدَ فيهما، أو ليتصدَّق على فقرائهما، أو ليزور قبورَ أقاربه فيهما، أو ليشهدَ له طريقان، أو ليزداد المنافقون غيظاً إلى غيظهم، أو لئلا يكثر الازدحام. قيل: يقصد أطولَ الطريقين ذهاباً ليكثر خطاه فيزداد ثواباً، وأقصرهما إياباً ليبلغَ مثواه. * * * 1009 - وقال البَرَاءُ - رضى الله عنه -: خَطَبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ النحرِ فقالَ: "إنَّ أولَ

ما نبَدأُ بهِ في يومِنا هذا أن نُصلِّيَ ثم نرَجعَ فننحرَ، فَمَنْ فعلَ ذلك فقدْ أصابَ سُنَّتنًا، ومَن ذَبَحَ قبلَ أنْ يُصَلِّي فإنما هو شاة لحم عَجَّلَهُ لأهلِهِ ليسَ مِن النسُكِ في شيءٍ". "وقال البراء: خطبنا النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - يومَ النحر"؛ أي: يوم عيد الأضحى. "وقال: إنَّ أولَ ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلِّيَ، ثم نرجع فننحَر، فمن فعل ذلك فقد أصاب سُنَّتنًا، ومَن ذبحَ قبل أن يصليَ فإنما هو شاةُ لَحْم عجَّلَه لأهله، ليس من النّسُك في شيء"؛ أي: ليس بقربان، ولا ينال به ثوابَ القربان * * * 1010 - وقال: "مَنْ ذبحَ قبلَ الصلاةِ فليذبحْ مكانَها أُخرى، ومَن لم يَذبَحْ حتى صلينا فلْيذبحْ على اسم الله تعالى". "وعن جندَب بن عبد الله البَجَلِيِّ أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن ذبحَ"؛ أي: الأضحيةَ. "قبلَ الصلاة فليذْبَحْ مكانَها أُخرى"؛ يعني: لم يكن أضحيةً، فينبغي أن يذبحَ بدلَها أضحية أُخرى. "ومن لم يذبحْ حتى صلَّينا، فليَذْبح على اسم الله تعالى"، ذهب أبو حنيفة إلى أن الأُضْحِية واجبةٌ، ووقتُها بعد صلاة الإمام في حقِّ المصري. وعند الشافعي: أنها سُنة، ووقتها بعد ارتفاع الشمس قَدْرَ رمح، أو قَدْر ركعتين وخطبتين خفيفتين، سواء صلى الإمام أو لا في حق المِصري والقروي، ويخرج وقتُها بغروب الشمس في اليوم الثالث من أيام التشريق. * * *

1011 - وقال: "مَنْ ذَبَحَ قبلَ الصلاةِ فإنما يَذبحُ لنفسِه، ومَنْ ذبحَ بعدَ الصلاةِ فقد تَمَّ نُسُكُهُ، وأصابَ سُنةَ المسلمينَ". "وعن البَرَاء أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن ذبحَ قبلَ الصلاة فإنما يذبحُ لنفسِه": لا عن الأضحية. "ومن ذبحَ بعد الصلاة فقد تم نسُكُه وأصاب سُنةَ المسلمين". * * * 1012 - وقال ابن عمر - رضى الله عنه -: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذبحُ وينحرُ بالمُصلَّى. "وقال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يَذْبَح"؛ أي: البقر والغنم، "وينحَر"؛ أي: الإبل "بالمصلى"؛ لإظهار شِعار الأضحية ليقتديَ مَن يراه. والجمهور: على أنه لا يجوز ذَبحُها قبل طلوع الفجر من يوم النحر، ورخَّصَ بعضهم ذلك لأهل القرى. * * * مِنَ الحِسَان: 1013 - قال أنس - رضي الله عنه -: قَدِمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ ولهم يومانِ يلعبونَ فيهما، فقال: "ما هذانِ اليومانِ؟ "، قالوا: كنا نلْعبُ فيهما في الجاهليةِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "قد أَبْدَلَكُم الله بهما خيراً منهما: يومَ الأَضحى، ويومَ الفِطْرِ". "من الحسان": " قال أنس - رضي الله عنه -: قَدِمَ النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - المدينةَ ولهم"؛ أي: لقوم المدينة "يومان يلعبون فيهما"؛ أحدُهما يوم النَّيْرُوز، والآخر يوم المَهْرَجان.

"فقال": النبي - عليه الصلاة والسلام -: "ما هذان اليومان؟ قالوا: كنا نلعبُ فيهما في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: قد أبدلَكم الله بهما خيراً منهما: يومَ الأضحى ويومَ الفطر"؛ أي: اتركوا هذين اليومين وخذُوا بدلَهما. وهذا يدلُّ على أن تعظيمَ يوم النيروز والمَهْرَجان وغيرَهما مما لم يَأمُر الشارع به لا يجوز. * * * 1014 - وقال بُرَيْدَة: كانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يخرُجُ يومَ الفِطْرِ حتى يَطْعَمَ، ولا يَطعَمَ يومَ الأَضحي حتى يُصلي. "وقال بُريدة: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - لا يخرجُ يومَ الفِطر حتى يَطعَم، ولا يَطعَم يومَ الأضحى حتى يصليَ"؛ موافَقةً للفقراء؛ لأن الظاهرَ أنْ لا شيءَ لهم إلا ما أَطعمَ الناس من لحومِ الأضاحي. وقيل: إنما لا يَطعَم قبل الصلاة لتكون أولَ ما يَطعَم لحمُ أُضحية. * * * 1015 - عن كثيرٍ بن عبدِ الله، عن أبيه، عن جدّه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كبَّرَ في العيدينِ في الأُولى سبعاً قبلَ القراءةِ، وفي الآخرةِ خمساً قبلَ القراءةِ. "وعن كَثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جده أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كبَّر في العيدين في الأولى سبعاً قبلَ القراءة"، سوى تكبيرة الإحرام وتكبيرة الركوع. "وفي الآخرة خمساً قبل القراءة"، سوى تكبيرة القيام وتكبيرة الركوع،

وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله تعالى. * * * 1016 - ورويَ مرسلاً عن جَعفر بن محمد: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وأبا بكرٍ، وعمرَ كبَّروا في العيدين والاستسقاء سبعاً، وخمساً، وصلوا قبلَ الخطبةِ وجَهروا بالقِراءةِ. "وروي مرسَلاً عن جعفر بن محمد: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وأبا بكر وعمر كبَّروا في العيدين والاستسقاء سبعاً وخمساً، وصلوا قبل الخطبة وجَهَرُوا بالقراءة". * * * 1017 - وسئل أبو موسى - رضي الله عنه -: كيفَ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يكبر في الأَضْحى والفِطْرِ؟، قال: كانَ يُكَبرُ أربعاً تكبيره على الجَنائزِ. "وسئل أبو موسى: كيف كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يكبر في الأضحى والفطر؛ قال: كان يكبِّر أربعاً تكبيرَه"؛ أي: مثل تكبيرِه "على الجنائز"، وبه أخذ أبو حنيفة. * * * 1018 - عن البَرَاء - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نُووِلَ يومَ العيدِ قَوساً فخطبَ عليه. "وعن البَراء: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نُووِلَ": - مجهول ناول -؛ أي: أُعطي. "يومَ العيد قوساً فخطبَ عليه". * * *

1019 - ورُويَ مُرسَلاً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطبَ يعتمدُ على عَنَزَتِهِ اعتماداً. "وروي مرسلاً: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا خطبَ يعتمِدُ على عَنَزَتِه اعتماداً"، وهي رمحٌ قصير أو عصاً، فالسُّنة أن يأخذ الخطيب بيده اليسرى قوساً أو سيفاً أو عَنَزة، ويأخذ بيده اليمنى خشبَ المنبر. * * * 1020 - وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: شهدتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في يومِ عيدٍ، فبدأَ بالصلاةِ قبلَ الخطبةِ بغيرِ أذانِ ولا إقامةٍ، فلما قَضَى الصلاةَ قامَ متوكَئاً على بلالٍ فحمدَ الله وأثنَى عليهِ، ووعظَ الناسَ وذكَّرهم وحثَّهم على طاعته، ومضَى إلى النِّساءِ ومعَهُ بلالٌ، فأمرهنَّ بتقوى الله ووعظَهن وذكَّرهنَّ. "وعن جابر أنه قال: شهدت مع النبي - عليه الصلاة والسلام - في يوم عيدٍ، فبدأَ بالصلاة قبل الخطبة بعَير أَذانٍ ولا إقامة، فلما قضى الصلاةَ قام متوكَئاً"؛ أي مُتَّكِئًا ومعتمداً "على بلال"، كما يتكئ الخطيب على العصا. "فحمد الله وأثنى عليه، ووعظ الناس وذكرهم"، وهما متقاربان في المعنى. "وحثَّهم"؛ أي: حرضهم "على طاعته، ومضى"؛ أي: ذهب "إلى النساء" وهن واقفات بحيث لم يسمَعْن الوعظ، فأتاهنَّ"ومعه بلال، فأمرهن بتقوى الله، ووعظَهنَّ وذَكَّرَهن". * * * 1021 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خرجَ يومَ العيدِ في

طريقٍ رجَعَ في غيرِه. "وعن أبي هريرة أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا خرجَ يومَ العيد في طريقٍ رجع في غيره"، تقدَّم البيانُ في حديث جابر: "كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا كان يومَ عيد خالف الطريق". * * * 1022 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنه أَصابهم مطرٌ في يومِ عيدٍ، فصلَّى بهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ العيدِ في المسجدِ. "وعن أبي هريرة: أنه أصابهم مطر في يوم عيد، فصلَّى بهم النبي - عليه الصلاة والسلام - صلاةَ العيد في المسجد"؛ يعني: كان صلى الله تعالى وسلم يصلِّي صلاةَ العيد في الصحراء، إلا إذا أصابهم مطرٌ، فيصلِّي في المسجد، فالأفضل أداؤها في الصحراء في سائر البلدان، وفي مكة خلاف. * * * 1023 - رُويَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إلى عَمْرو بن حَزْمٍ وهو بنجْرَان: "عَجِّلْ الأضحى، وأَخر الفطرَ، وذكِّر الناس". "وروي: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى عمرو بن حَزْم وهو بنجْران": اسم بلد في اليمن. "عجِّل الأضحى"؛ ليشتغل الناس بذبح الأضاحي. "وأخر الفِطْرَ"، ليوسِّع على الناس وقت إخراج زكاة الفطر قبل الصلاة. "وذَكِّر الناس"؛ أي: عِظْهم. * * *

فصل في الأضحية

1024 - ورُويَ: عن أبي عُمَيْر بن أنس، عن عمومةٍ له من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أن ركْباً جاؤوا إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَشهدُونَ أنهم رأَوْا الهلالَ بالأمس، فأمَرهم أنْ يفْطِروا، وإذا أصبحُوا بغدوا إلى مُصَلاَّهم. "ورُوي: عن أبي عُمير بن أنس عن عمومة له": جمع عم. "مِن أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - أن ركْباً": جمع راكب. "جاؤوا إلى النبي": - عليه الصلاة والسلام - حين لم ير الهلالُ في المدينة ليلة الثلاثين من رمضان. "يَشْهَدون أنهم رَأَوا الهلال بالأمس" في بلد آخر. "فأمرَهم أن يُفطِروا" ذلك اليوم. "وإذا أصبَحوا" يوم الحادي والثلاثين. "أن يغدُوا إلى مصلاَّهم" لصلاة العيد. * * * فصل في الأُضحيَة (فصل في الأضحية) مِنَ الصِّحَاحِ: 1025 - عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: ضحَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشينِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنينِ، ذَبَحهما بيدهِ وسمَّى وكبَّر، قال: رأيتُه واضعاً قدمَه على صفَاحِهِما ويقولُ: "بسمِ الله والله أكبر". "من الصحاح": " عن أنس أنه قال: ضَحَّى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، من

التضحية؛ وهي ذَبْحُ الأُضْحِية، والأُضْحِية ما يُذْبَح يومَ النحر. "بكَبْشَين أَمْلَحين"، أفعل من المُلْحة، وهي عند أكثر أهل اللغة بياض يخالطه سواد، وقيل: بياضُه اكثرُ من سواده. "أَقْرَنين": الأَقْرَنُ: العظيم القرن. "ذبحَهما بيده"، وإنما قال: بيده لنفي أن ذُبحَ عنه بأمره. "وسمَّى"؛ أي: قال بسم الله. "وكبَّر"؛ أي قال: الله أكبر. "قال"؛ أي: الراوي: "رأيته"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام - "واضعاً قدمَه على صِفاحهما": بالكسر: جمع صَفْح بالفتح، وهو الجَنْب. وقيل: جمع صَفْحَةِ الوجه وهي عُرْضه، وقيل: صفاحهما نواحي عنقهما، وصفح الشيء ناحيته. "ويقول: بسم الله والله أكبر". * * * 1026 - عن عائشة رضي الله عنها: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بكبشٍ أقْرَنَ يَطأُ في سوادٍ، ويَبْرُكُ في سوادٍ، وينظرُ في سوادٍ، فأُتي به ليُضحِّيَ به، قال: "يا عائشةُ، هلُمِّي المُدْيَةَ"، ثم قال: "اشْحَذِيهَا بحجرٍ"، فَفَعَلَتْ ثم أخذَها، وأخذَ الكبشَ فأضجَعَه ثم ذبحه، ثم قال: "بسم الله، اللهم تَقَبَّلْ من محمدٍ وآلِ محمدٍ، ومن أُمَّةِ محمدٍ"، ثم ضحَّى به. "وعن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أمر بكبش أقرنَ يطَأ في سواد"، كناية عن سواد القوائم. "ويبرُكُ"؛ أي: يضطجع "في سواد"، كناية عن سواد البطن، وقيل:

عن سواد ركبتيه. "وينظرُ في سواد"، كناية عن سواد العين. "فأتى به ليضحِّيَ به، قال: يا عائشة! هلمِّي المُدْيَة"؛ أي: هاتي السكين. "ثم قال: اشحذِيها"؛ أي: حَدِّدي المدية" بحجر، ففعلتْ، ثم أخذَها وأخذَ الكَبْش فأضْجَعه ثم ذبَحه"؛ أي: قصد ذبحه. "ثم قال: بسم الله، اللهم تقبَّلْ من محمد وآل محمد، ومن أمة محمد، ثم ضحَّى به"، والمراد إيصال الثواب إليهم؛ لأن الواحدَ من الغَنَم يقع عن أكثرَ مِن واحدٍ، ولكن إذا ضحى واحد من بيتٍ بشاة تأدَّت السنةُ لجميعهم. وبهذا الحديث قال الشافعي ومالك وأحمد: المستحب للرجل أن يقول إذا ذبح أضحية: أضحي هذا عني وعن أهل بيتي، وكُرِهَ هذا عند أبي حنيفة. * * * 1027 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تذبَحوا إلا مُسِنةً إلا أن يَعْسُر عليكم، فتذبَحُوا جَذَعَةً من الضَّانِ". "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تَذبحوا إلا مُسِنَّة": وهي من الضأن والمعز بنتُ سَنة، ومن البقر بنتُ سنتين، ومن الإبل بنتُ خمس سنين. "إلا أن يَعْسُرَ عليكم"؛ أي: ذبُحها، بألاَّ تَجِدُوها. "فتذبحوا جَذَعَة": وهي ما يكون قبلَ المسنة. "من الضأن"، وبهذا قال بعض الفقهاء: الجَذَعةُ لا تُجزئ في الأضحية إذا كان قادراً على مُسِنَّة، ومَن قال بجوازه حمل الحديث على الاستحباب. * * *

1028 - عن عُقْبة بن عامر: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أعطاهُ غنماً يقسِمُها على أصحابهِ ضَحَايَا، فبقيَ عَتُودٌ، فقال: "ضَحِّ به أنتَ". وفي رواية: قلتُ: يا رسولَ الله، أَصابني جَذع، قال: "ضَحِّ به أنت". "وعن عقبة بن عامر: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - أعطاه غَنَماً يقسِمها على أصحابه ضحايا"، حال من الضمير المنصوب في "يقسمها"؛ أي: إرادة التضحية. "فبقي عَتُود" بفتح العين المهملة، قيل: هو من أولاد المَعْز ما أتى عليه حولٌ. "فقال: ضحِّ به أنت". "وفي رواية: قلت: يا رسول الله! أصابني جَذَعٌ، قال: ضحِّ به". * * * 1029 - وقال ابن عمر - رضى الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يذبحُ وينحرُ بالمُصلَّى. "وقال ابن عمر: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يذبَحُ وينحَرُ بالمصلَّى"، قد مر هذا الحديثُ برواية ابن عمر في (صلاة العيد)، وذكره هنا لبيان مكان الذَّبح، وثَمةَ لبيان وقت التَّضْحية. * * * 1030 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البقرةُ عن سبعةٍ، والجَزُورُ عن سبعةٍ". "وعن جابر: أن النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - قال: البقرةُ عن سبعة، والجَزُور"؛ وهو ما يُجْزَر من الإبل؛ أي: يُنْحَر ذكرًا كان أو أنثى.

"عن سبعة"؛ يعني لو اشترك سبعةُ أنفس بذبح بقرة أو نحر جملٍ جاز، فلو أراد بعضُهم أن يأكل نصيبَه، أو يصرف إلى شيء آخرَ جاز عند الشافعي، ولا، يجوز عند أبي حنيفة. * * * 1031 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخلَ العَشرُ وأرادَ بعضُكم أن يُضَحِّي فلا يمس من شعرٍ؛ وَبَشَرِه شيئاً". وفي رواية: "فلا يأخُذَنَّ شعراً، ولا يُقَلِّمَنَّ ظُفْراً". وفي رواية: "مَن رأى هلالَ ذي الحِجَّة وأرادَ أن يُضَحِّي فلا يأخذْ من شعرِه ولا مِن أظفاره". "وعن أم سَلَمة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا دخل العَشْرُ"؛ أي: عَشْرُ ذي الحجة. "وأرادَ بعضُكم أن يضحِّيَ"، قيل: هذا يدلُّ على أنها غيرُ واجبة، وإلا لم يفوِّض إلى إرادتنا بل هي مستحَبة، وبه قال الشافعي، وقال بعضُهم بوجوه. "فلا يمسَّنَّ مِن شَعرِه"؛ أي: من شَعْرِ ما يضحِّي به. "وبَشَرِه"؛ أي: ظُفْره. "شيئاً"، ذهب قومٌ إلى ظاهر الحديث، فمنع من أخذ الشعر والظفر ما لم يذبح، وكان مالكٌ والشافعي يَريان ذلك على الاستحباب، ورخَّص فيه أبو حنيفة وأصحابه. "وفي رواية: فلا يأخذن شعراً ولا يَقْلِمنَّ ظُفْراً": المراد به الظِّلْف. "وفي رواية: مَن رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحِّيَ فلا يأخذنَّ من شَعر؛ ولا من أظفاره"، وهذا لأن التضحيةَ يفدي يوم القيامة للمضحِّي، ويصلُ

بكل عضو وشعر وظفرٍ منها بركةٌ ورحمةٌ إلى كل جزء من المضحِّي، فنهى - عليه الصلاة والسلام - عن إزالتها لينالَ بكلِّ عضو بركةَ الأضحية. * * * 1032 - وقال: "ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله مِنْ هذه الأيامِ العَشْرِ"، قالوا: يا رسولَ الله!، ولا الجهادُ في سَبيلِ الله؟ قالَ: "ولا الجهادُ في سَبيلِ الله إلاَّ رجل خرجَ بنفسِه ومالِهِ فلمْ يرجِعْ من ذلكَ بشيء". "وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من أيام العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى الله تعالى من هذه الأيام العشر"، وإنما كان أحبَّ فيها؛ لأنها أيام زيارةِ بيتِ الله المحرَّم والبلدِ الحرام، والوقتُ إذا كان أفضلَ كان العملُ الصالح فيه أفضلَ. "قالوا: يا رسولَ الله! ولا الجهادُ في سبيل الله؟ قال: ولا الجهادُ في سبيل الله، إلا رجل خرجَ بنفسه وماله" إلى الجهاد. "فلم يرجِع من ذلك بشيءٍ"؛ يعني: أخذَ مالُه، وأريق دمُه في سبيل الله، فهذا الجهاد أفضلُ وأحب إلى الله من الأعمال في هذه الأيام؛ لأن الثوابَ يكون بقدر المشقَّة في سبيل الله تعالى. * * * مِنَ الحِسَان: 1033 - عن جابر - رضى الله عنه - قال: ذبحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوم الذَّبح كبشَين أَقْرنين أملَحين مَوجُوأَين، فلما ذبحهما قال: "إني وَجَّهتُ وجهيَ للذي فطر السَّماواتِ والأرضَ على مِلةِ إبراهيمَ حنيفاً ومَا أنا من المشركين، إن صلاتي

ونُسُكي ومَحْيَايَ ومَمَاتي للهِ ربِّ العالمينَ لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ وأنا من المسلمينَ، اللهم منكَ ولَكَ عن محمدٍ وأُمَّتِهِ، بسم الله والله أكبرُ". وفي روايةٍ: ذبَح بيده وقال: "بسم الله والله أكبرُ، اللهم هذا عني وعمن لم يُضَح مِن أُمَّتي". "من الحسان": " عن جابر - رضى الله عنه - أنه قال: ذبح النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - يومَ الذَّبح كَبْشَين أَقْرَنين أَمْلَحين مُوْجَأين"؛ أي: خَصِيَّين، ويروى: "موجوءَين"، وهو القياس؛ لأنه مفعول من وَجَأَ إذا دقَّ عروقَ الخُصْيتين حتى يصيرَ شبيهاً بالخَصِيِّ، لكن قلَبُوا الهمزة والواو ياءً على غير قياس، وأدغموا مثل: مَرْمَيَيْن. وفيه دليل: على أن الخَصِيَّ في الضحايا غيرُ مكروه، وقد كرهه بعضهم لنقصه. "فلمَّا ذبحهم"؛ أي: أرادَ ذَبْحَهما. "قال: إني وجَّهْتُ وجهي للذي فطر السماوات والأرضَ"؛ أي: خلَقهَما. "على مِلَّة"؛ أي: أنا على ملة. "إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين، إنَّ صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله ربِّ العالمين لا شريكَ له، وبذلك أُمِرْتُ وأنا من المسلمين، اللهمّ منك"؛ أي: حصل لي هذا الكَبْشُ منك. "ولك"؛ أي: جعلتهُ لك، وأتقرَّب به إليك. "عن محمد وأمته، بسم الله والله أكبر". "وفي رواية: ذبح بيده، وقال: بسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعمَّن لم يضحِّ من أمتي". * * *

1034 - عن حَنشٍ أنه قال: رأيتُ علياً يُضَحِّي بِكَبْشَيْنِ، وقال: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْصَاني أن أُضَحِّي عنه، فأنا أُضَحِّي عنه. "وعن حنشٍ أنه قال: رأيت علياً يضحِّي بكبشين، وقال: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أوصاني أن أضحِّي عنه، فأنا أضحي عنه"، يدل على أن التضحية تجوز عمن مات. * * * 1035 - وعن علي - رضى الله عنه - قال: أَمَرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشرِفَ العينَ والأذُنَ، وأن لا نُضَحِّيَ بِمُقابَلَةٍ، ولا مُدابَرَةٍ، ولا شَرْقاء، ولا خَرْقاءَ. "وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نستَشْرِف العينَ والأذن"؛ أي: نتأمَّل سلامتَهما من آفة بهما كالعَوَر والجَدْع، من الاستشراف كالاستكشاف. "وأن لا نضحِّي بمقابَلَة": وهي التي قُطع مقدَّمُ أذنها ثم يُترَك معلَّقاً. "ولا مدابَرة": وهي ما قُطعَ مؤخَّر أذنها. "ولا شَرْقَاء"؛ أي: التي مشقوقة الأذن. "ولا خَرْقَاء"؛ أي: التي مثقوبة الآذن ثقباً مستديراً، وقيل: الشَّرْقَاء ما قُطع أذنها طولاً، والخَرْقَاء ما قطع أذنها عرضاً. فعند الشافعي: لا يجوز التضحية بشاة قُطِعَ بعضُ أذنها، وعند أبي حنيفة يجوز إذا قطع أقلُّ من النصف. * * * 1036 - وعن علي - رضى الله عنه - قال: نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُضَحِّي بأغْضَبِ

القَرنِ والأذُنِ. "وعن علي - رضى الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نُضَحيَ بأغضَبِ القَرْن والأُذُن"؛ أي: مكسور القَرْن ومقطوع الأذن، يقال للمكسور داخل قرنه: أغضب، وللمكسور الخارج: أقصم. * * * 1037 - وعن البَراء بن عازب: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئل ماذا يُتَّقَى من الضحايا؟، فأشارَ بيدِه فقال: "أربعاً: العرجاءُ البَينُ ظَلَعُها، والعوراء البَينُ عَوَرُها، والمريضةُ البينُ مرضُها، والعَجْفاءُ التي لا تُنْقي". "وعن البراء بن عازب: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سُئل: ماذا يتقى"؛ أي: يُحترز. "من الضحايا؟ فأشار بيده فقال: أربعاً"؛ أي: اتقوا أربعاً. "العَرْجَاء البَين ظَلْعها"؛ أي: الظاهر عَرَجُها. "والعوراءُ البَينُ عَوَرُها، والمريضة البَينُ مَرَضُها، والعَجْفَاء"؛ أي: المهزولة. "التي لا تنْقِي"؛ أي: لا نِقْيَ لعظامها، والنِّقْيُ المُخُّ، يقال: أنْقَتِ الناقةُ: إذا سَمِنَت وصار في عظامها النِّقْيُ. والحديث يدل على أن العيب الخفيَّ في الضحايا معفوٌّ عنه. * * * 1038 - وعن أبي سعيد - رضى الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُضَحِّي بكبشٍ أَقْرَنَ فَحيلٍ، يَنظرُ في سواد ويأكلُ في سوادٍ، ويمشي في سوادٍ.

"وعن أبي سعيد أنه قال: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يضحِّي بكبشٍ أقرنَ فَحِيلٍ"، قيل: هو المُنجِب الكريم القويُّ في ضرَابه، وأراد به النُّبْلَ وعِظَمَ الخَلْق. "ينظرُ في سَواد"؛ أي: حوالي عينيه أسود. "ويأكلُ في سواد"؛ أي: فمُه أسود. "ويمشي في سواد"؛ أي: قوائمه سود. * * * 1039 - عن مُجاشِعٍ - من بني سُلَيْم - أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقول: إن الجَذع يُوَفِّي مما يُوَفِّي منه الثَّنِي". "وعن مجاشع من بني سُلَيم: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول: إن الجَذع يوفَّى"، من التوفية؛ أي: يجزئ. "مما يوفَّى منه الثَّنِيُّ"، يجوز تضحية الجَذع من الضأن كتضحية الثنِي من المَعْز. * * * 1040 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "نِعْمَتِ الأضْحيةُ الجَذع مِن الضَّأنِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: نعمتِ الأضحيةُ الجَذع من الضَّأن"، مدحه - عليه الصلاة والسلام - ليَعلمَ الناسُ أنه جائز فيها. * * *

1041 - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: كنا معَ النبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - في سفَرٍ، فحضرَ الأَضحى، فاشتركنا في البقرةِ سبعةً، وفي البعيرِ عشرةً"، غريب. "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سفر، فحضرَ الأضحى، فاشتركنا في البقرة سبعةً": نصب على الحال. "وفي البعير عشرة. غريب". عمل بهذا إسحاق بن راهويه قالوا: هذا منسوخٌ بما مر من قوله: البقرة عن سبعة، والجَزور عن سبعة. * * * 1042 - عن عائشة رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما عَمِلَ ابن آدمَ مِنْ عملٍ يومَ النحرِ أحبَّ إلى الله مِن هِراقةِ الدمِ، وإنه لتأتي يومَ القيامةِ بقُرونها وأَشعارِها وأَظلافِها، وإن الدمَ ليقعُ من الله بمكانٍ قبلَ أن يقعَ بالأرضِ، فَطِيبُوا بها أَنْفُساً". "وعن عائشة - رضي الله عنها - عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: ما عملَ ابن آدم مِن عملٍ يومَ النحر" نصب على الظرفية. "أحبَّ": صفة عمل. "إلى الله مِن هراقة الدم"؛ أي: إراقته؛ يعني: أفضل العبادات يوم النحر إراقة الدم. "وإنه"؛ أي: المضحِّي به، وفي بعض النسخ: "وإنها الأضحية"، وهو الأنسب بالضمائر بعد. "لتأتي يوم القيامة بقرونها": جمع قَرْن، وفي بعض النسخ: بفروثها جمع فَرْث، وهو النجاسة التي في الكرش. "وأشعارِها": جمع شعر.

"وأظلافِها": جمع ظِلْف يعني: أنه يأتي يوم القيامة كما كان في الدنيا من غير أن ينقصَ منه شيء، ليكون بكل عضو منه أجرٌ، ويصير مركبه على الصراط. "وإن الدم يقع من الله تعالى بمكان"؛ أي: بموضع قَبول. "قبل أن يقعَ بالأرض فطِيبوا بها أنفساً": الفاء جواب شرط مقدَّر؛ أي: إذا علمتُم أنه تعالى يقبلُه ويجزيكم بها ثوابا كثيراً، فلتكنْ أنفسُكم بالتضحية طَيبةً غيرَ كارهةٍ لها. * * * 1043 - ويروى أنه قال: "ما من أيامٍ أحبُّ إلى الله أنْ يتعبَّدَ له فيها مِن عشرِ ذي الحِجَّةِ، يَعدلُ صيامُ كلِّ يوم منها بصيامِ سنةٍ، وقيامُ كلِّ ليلةٍ منها بقيامِ ليلةِ القدرِ"، ضعيف. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد" في محل الرفع بالفاعلية من "أحبَّ" الذي هو أفعل تفضيل. "له فيها من عشر ذي الحجة يعدل"؛ أي: يسوَّى. "صيام كل يوم منها"؛ أي: من أول ذي الحجة إلى يوم عرفة. "بصيام سنة" لم يكن فيها عشر ذي الحجة، وقد صح الحديث في أن صوم يوم عرفة كفارة سنتين. "ويُعدل قيام كلِّ ليلة منها بقيام ليلة القدر" ضعيف. * * *

47 - باب العتيرة

47 - باب العَتِيْرةِ (باب العتيرة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1044 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا فَرَعَ ولا عَتِيْرَة"، قال: والفَرَعُ أول نِتاجٍ كان يُنتجُ لهم، كانوا يَذبحونه لطَواغِيتِهم، والعَتِيرَةُ في رجبٍ. "من الصحاح": " عن أبي هريرة عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: لا فرع ولا عتيرة قال: والفرع أول نتاج كان يُنتج لهم كانوا يذبحونه لطواغيتهم" بمنزلة الأضحية في الإسلام، قيل: كان أحدهم إذا تمت إبله مئة قدَّم بكراً فنحره، وهو الفرع. "والعتيرة": ذبيحة كانت تذبح في الجاهلية " في رجب" لأصنامهم، قيل: كان أحدهم ينذر في الجاهلية قائلاً: إن كان كذا فعليه أن يذبح في رجب كذا، وكانوا يسمون ذلك عتيرةً، وكلاهما منهيٌّ في الإسلام. وجوَّز ابن سيرين العتيرة وكان يذبح في شهر رجب، وحمل النهي على التقرُّب به لا لوجهه تعالى، كذبح العرب إياه لآلهتهم. ويدل على ذلك حديث نبيشة: أنه قال رجل: يا رسول الله! إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب، فما تأمرنا؛ فقال: "اذبحوا لله أيَّ شهرٍ كان، وبروا لله، وأطعموا لله". * * *

48 - باب صلاة الخسوف

مِنَ الحِسَان: 1045 - عن مِخْنَفِ بن سُليم: أنه شهدَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يخطبُ يومَ عرفةَ يقولُ: "على كلِّ أهلِ بيتٍ في كل عامٍ أُضحية وعَتِيْرَ"، ضعيفٌ، ومنسوخٌ. "من الحسان": " عن مخنف بت سليم أنه شهد"؛ أي: حضر "النبي - عليه الصلاة والسلام - يخطب عرفة قال: على كل أهل بيت في كل عام أضحية وعتيرة" أوجب أبو حنيفة بهذا الحديث الأضحية على من مَلك نصاباً من المال المزكاة ولم يجوِّز العتيرة. "ضعيف": بحسب الرواية، "ومنسوخ": بحسب الحكم. قيل: في نسخه نظر؛ لأن مخنف بن سليم رواه قبل موته عليه الصلاة والسلام بأشهُرٍ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يخطب بعرفة إلا بحجة الوداع، وهو حين تقرُّر الإسلام والأحكام لا حين نسخها. * * * 48 - باب صلاة الخُسُوف (باب صلاة الخسوف) مِنَ الصِّحَاحِ: 1046 - قالت عائشة رضي الله عنها: إن الشمسَ خَسَفَتْ على عَهْدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَعث مُنادياً: "الصلاةُ جامعة"، فتَقَدَّمَ فصلَّى أربعَ ركعاتٍ في ركعتينِ، وأربعَ سَجَداتٍ.

"من الصحاح": " قالت عائشة - رضي الله عنها -: إن الشمس خسفت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: ذهب نورها. "فبعث منادياً" لينادي: "الصلاةَ"؛ أي: احضروها، نصب على التخصيص. "جامعةً" نصب على الحال، ويجوز رفعهما مبتدأً وخبراً. فاجتمع الناس "فتقدم" عليه الصلاة والسلام "فصلى أربع ركعات"؛ أي: ركوعات. "في ركعتين وأربع سجدات" في كل ركعة ركوعان وسجودان، إذ يقال: لركوع واحد ركعة، ولسجود واحد سجدة، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد. وعند أبي حنيفة: ركعتان في كل ركعة ركوعٌ واحد وسجودان كسائر الصلاة. * * * 1047 - قالت عائشة: ما ركعتُ ركوعاً قطُّ ولا سجدتُ سجوداً قَطُّ كانَ أطولَ منه. "قالت عائشة - رضي الله عنها -: ما ركعت ركوعاً ولا سجدت سجوداً قط كان، ذلك الركوع أو ذلك السجود "أطول منه"؛ أي: من الركوع أو السجود الذي في هذه الصلاة؛ يعني: صلاة الخسوف. * * * 1048 - وعنها رضي الله عنها أنها قالت: جهَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في صلاةِ الخُسوفِ بقِراءتِه.

"وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: جهر النبي - عليه الصلاة والسلام - في صلاة الخسوف بقراءته، قيل: المراد خسوف القمر؛ لأنه يكون بالليل فيجهر بالقراءة فيها، فالخسوف يستعمل في القمر أيضاً. * * * 1049 - عن عبد الله بن عباس قال: خَسَفتْ الشمسُ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والناسُ معَه، فقامَ قِياماً طويلاً نَحواً من سورةِ البقَرةِ، ثم ركعَ ركوعاً طويلاً، ثم رفعَ رأْسَه، فقامَ قياماً طويلاً وهو دُونَ القيامِ الأولِ، ثم ركعَ ركوعاً طويلاً وهو دونَ الركوعِ الأول، ثم رفع ثم سجَدَ، ثم قامَ فقامَ قياماً طويلاً وهو دونَ القيامِ الأولِ، ثم ركعَ ركوعاً طويلاً وهو دونَ الركوعِ الأول، ثم رفعَ فقامَ قياماً طويلاً وهو دونَ القيامِ الأولِ، ثم ركعَ ركوعا طويلاً وهو دونَ الركوعِ الأولِ، ثم رفعَ، ثم سجدَ، ئم انصرفَ وقد تَجَلَّتْ الشَّمسُ فقال: "إنَّ الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ الله، لا يَخْسفان لمَوتِ أحدٍ ولا لحَياتِه، فإذا رأَيتُم ذلكَ فاذكروا الله"، قالوا: يا رسولَ الله، رأَيناكَ تناولتَ شيئاً في مَقامِك هذا، ثم رأيناكَ تَكَعْكَعْتَ؟، قال: " إنِّي رأيتُ الجنةَ، فَتَناولْتُ منها عُنقوداً، ولو أخذتُه لأكلتُم منه ما بقيَتْ الدنيا، ورأيتُ النارَ، فلمْ أرَ كاليومِ مَنظراً أفظَعَ قَطُّ منها، ورأيتُ أكثرَ أهلِها النِّساءَ"، فقالوا: لِمَ يا رسولَ الله؟، قال: "بكفرِهنَّ"، قيل: يَكْفُرْنَ بالله؟، قال: "يكفُرْنَ العَشيرَ، ويكفُرنَ الإحسانَ، لو أَحسنتَ إلى إحداهُنَّ الدهرَ كلَّهُ، ثم رأتْ منكَ شيئاً قالت: ما رأَيتُ منكَ خيراً قطُّ". "وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: خسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والناس معه، فقام قياماً طويلاً نحواً من قراءة سورة البقرة، ثم ركع ركوعاً طويلاً، ثم رفع رأسه فقام قياماً

طويلاً وهو دون القيام الأول"؛ أي: القيام في هذه الركعة أقصر من الأول. "ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول"؛ أي: أقصر منه. "ثم سجد ثم قام" إلى الركعة الثانية. "فقام"؛ أي: وقف. "قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع فقام قياماً طويلاً وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعاً طويلاً وهو دون الركوع الأول، ثم رفع، ثم سجد" وهذا على مذهب الشافعي. "ثم انصرف وقد تجلت الشمس"؛ أي: أضاءت، أصله: تَجفَيَتْ. "فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله"؛ أي: علامتان من علامات الله تعالى. "لا يخسفان لموت أحد"؛ أي: بسبب موته "ولا لحياته"؛ أي: بسبب حياته، فإنهم كانوا يزعمون أن كسوفهما يوجب حدوث تغير في العالم من موت أحد أو ولادة أحد أو قحطٍ، أو غير ذلك من الحوادث، فأعلمهم - عليه الصلاة والسلام - ببطلانه، فخسوفهما علامة كونهما مسخَّرين ومقهورين لأمره كسائر المخلوقات، فكيف يجوز أن يتخذهما بعض الناس معبودينِ؟ "فإذا رأيتم ذلك فاذكروا الله تعالى، قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت"؛ أي: أخذت "شيئاً في مقامك هذا"؛ أي: في الموضع الذي صليت فيه. "ثم رأيناك تكعكعت؟ "؛ أي: تأخرت. "فقال: إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً" ثم غرضت على النار فتأخرتُ خشية أن يصيبني لفحها. "ولو أخذته"؛ أي: العنقود.

"لأكلتم منه" يا أهل الدنيا "ما بقيت الدنيا"؛ أي: مدة بقائها؛ لأن ما كان من الجنة لا يفنى؛ لخلقه تعالى مكان كل حبة حبةً أخرى كما هو المروي في خواص ثمار الجنة، وإنما لم يأخذه عليه الصلاة والسلام لئلا يفوتهم الإيمان بالغيب المأمورون هم به. "ورأيت النار فلم أر كاليوم" صفةُ "منظراً" قدم عليه فانتصب حالاً؛ أي: لم أر منظراً "قط" أخوف مثل المنظر الذي رأيته اليوم شدة وهيبة للنار. "ورأيت أكثر أهلها النساء، فقالوا: لم يا رسول الله؟ قال: بكفرهن، قيل: يكفرن بالله؛ قال: يكفرن العشير"؛ أي: الزوج، سمي به لأنه يعاشرها، والمراد بالكفر هنا ضد الشكر؛ أي: يتركن شكر أزواجهن، ومَن لم يشكر الناس لم يشكر الله. "ويكفرن الإحسان، ولو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً"؛ أي: شيئاً كرهه ولا يناسب خاطرها. "قالت: ما رأيت منك خيراً قط". * * * 1050 - وعن عائشة رضي الله عنها نحوَ حديث ابن عباس، وقالت: "ثم سجَدَ فأطالَ السجودَ، ثم انصرفَ وقد انجلتِ الشمسُ، فخطَبَ الناسَ فحمِدَ الله وأثنى عليهِ، ثم قال: "إن الشمسَ والقمرَ آيتانِ من آياتِ الله لا يَخْسِفانِ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِه، فإذا رأيتم ذلكَ فادعُوا الله وكَبروا وصلُّوا وتَصدقوا"، ثم قال: "يا أمَة محمدٍ!، والله ما من أحد أَغْيَرُ من الله أن يَزنيَ عبدُه أو تَزنيَ أَمَتُهُ، يا أمةَ محمدٍ!، والله لو تعلمون ما أعلم لضحِكتُم قليلاَ ولبكَيْتُم كثيراً". "وعن عائشة نحو حديث ابن عباس، وقالت: ثم سجد فأطال السجود،

ثم انصرف وقد انجلت الشمس"؛ أي: انكشفت. "فخطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله" وإنما أمر - صلى الله عليه وسلم - بالدعاء؛ لأن النفوس عند مشاهدة ما هو خارق العادة تكون مُعْرِضة عن الدنيا ومتوجهة إلى الحضرة العليا فيكون أقرب للإجابة. "وكبروا وصلوا وتصدقوا، ثم قال: يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير"؛ أي: أشد غيرةً "من الله تعالى" الغيرة في الأصل: كراهة شركة الغير في حقه، وغيرة الله: كراهيته الفواحش وعدمُ رضاه بها. "أن يزني عبده" متعلق بـ (أغير). "أو تزني أمته"؛ أي: على زنا عبده أو أمته فإن غيرته تعالى وكراهيتَه لذلك أشد من غيرتكم وكراهيتكم على زنا عبدكم وأمتكم. ووجه اتصال هذا بما قبله: هو أنه عليه الصلاة والسلام لمَّا خوَّف أمته من الخسوفين، وحرَضهم على الفزع والالتجاء إلى الله تعالى بالتكبير والدعاء، أراد أن يروِّعهم عن المعاصي كلها، فخص منها الزنا وفخَّم شأنه في الفظاعة. "يا أمة محمد! والله لو تعلمون ما أعلم" من أهوال الآخرة "لضحكتم قليلاً" قيل: القلة هنا بمعنى العدم "ولبكيتم كثيراً". * * * 1051 - وعن أبي موسى أنه قال: خَسَفتِ الشمسُ، فقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَزِعاً يَخْشَى أن تكونَ الساعةُ، فأتَى المسجدَ، فصلَّى بأطولِ قيامٍ ورُكوعٍ وسجود ما رأيته قطُّ يَفْعَله، وقال: "هذه الآياتُ التي يرسلُ الله لا تكونُ لموتِ أحدٍ ولا لحياتِهِ، ولكنْ يُخَوِّفُ الله بها عبادَهُ، فإذا رأيتُم شيئاً من ذلكَ، فافزَعُوا إلى ذكرِه ودعائه واستغفارِه".

"وعن أبي موسى الأشعري - رضى الله عنه -: أنه قال: خسفت الشمس فقام النبي عليه الصلاة والسلام فزعاً"؛ أي: خائفا من ظهور الخسوف والزلازل والرياح والصواعق، شَفِقاً على أهل الأرض أن يأتيهم عذابٌ كما أتى مَن قبلهم. وأما قول أبي موسى: "يخشى أن تكون الساعة" ظنٌّ منه وليس بصواب؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان متيقناً بأنها لا تقوم حتى ينجز الله ما وعد أمته من فتح بلاد العجم وغير ذلك من المواعيد، فإنه عليه الصلاة والسلام أَخبر بذلك قبل فتح خيبر حيث قال يوم الخندق: "ستظهرون على فارس الروم" وإسلام أبي موسى كان بعد فتح خيبر. "فأتى المسجد فصلى بأطول قيام وركوع وسجود، ما رأيته قط يفعله"؛ أي: ما رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يفعل مثل هذا. "وقال: هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن يخوِّف الله بها عباده، فإذا رأيتم شيئًا من ذلك فافزعوا"؛ أي: التجئوا من عذابه "إلى ذكره ودعائه واستغفاره". * * * 1052 - وعن جابر - رضى الله عنه قال: انكسَفَتِ الشمسُ في عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ ماتَ إبراهيمُ ابن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى بالناسِ ستَّ ركعاتٍ بأربعِ سَجَداتٍ. "وعن جابر أنه قال: انكسفت الشمس في عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم مات إبراهيم ابن النبي عليه الصلاة والسلام" كان له ثمانية عشر شهراً أو أكثر، وأهل التواريخ على أنه مات في السنة العاشرة من الهجرة. "فصلى بالناس ست ركعات"؛ أي: ركوعات، إطلاقاً للكل على الجزء.

"بأربع سجدات"؛ يعني: صلى ركعتين في كل ركعة ثلاث ركوعات مع سجدتين. * * * 1053 - ورُوي عن علي - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه صلَّى ثماني ركعاتٍ في أربعِ سَجَداتٍ. "وروي عن علي - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: صلاة الكسوف ثماني ركعات"؛ أي: ركوعات. "في أربع سجدات، بأن صلى ركعتين، في كل ركعة أربع ركوعات مع سجدتين. * * * 1054 - وقال جابر بن سَمُرَة: كسَفتِ الشمسُ في حياةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأتيتُه وهو قائم في الصلاةِ رافع يديهِ، فجعلَ يُسبح ويهلِّلُ ويكبرُ ويحمدُ ويدعو حتى حُسِرَ عنها، فلما حُسِرَ عنها قرأَ سورتينِ وصلَّى ركعتينِ. "وقال عبد الرحمن (¬1) بن سمرة - رضي الله عنه -: كسفت الشمس في حياة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأتيته وهو قائم في الصلاة رافعاً يديه فجعل يسبح ويهلل ويكبر ويحمد ويدعو حتى حُسِوَ عنها"؛ أي: كشف وأُزيل عن الشمس كسوفُها. "فلما حُسر عنها قرأ سورتين وصلى ركعتين". * * * ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "جابر"، والصواب المثبت.

1055 - وقالت أسماء بنتُ أبي بكر - رضي الله عنها -: أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالعَتاقَةِ في كُسوف الشَّمسِ. "قالت أسماء بنت أبي بكر: أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - بالعَتاقة" بفتح العين: العتق. "في كسوت الشمس" لأن الإعتاق وسائر الخيرات يدفع العذاب. * * * مِنَ الحِسَان: 1056 - عن سَمُرَة بن جُندُب - رضي الله عنه - قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في كسوفٍ لا نسمعُ له صوتاً. "من الحسان": " عن سمرة بن جندب قال: صلى بنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في كسوف"؛ أي: في كسوف الشمس. "لا نسمع له صوتاً" وهذا يدل على أن الإمام لا يجهر بالقراءة في صلاة الكسوف، وبه قال أبو حنيفة. * * * 1057 - وقال عِكْرِمة: قيل لابن عباس: ماتَتْ فلانةُ - بعضُ أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَخَرَّ ساجداً، فقيلَ له: أَتسجدُ في هذه الساعةِ؟، فقال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا رأيتم آيةً فاسجُدُوا"، وأيُّ آيةٍ أَعظمُ مِن ذهابِ أزواجِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟!. "قال عكرمة: قيل لابن عباس: ماتت فلانةُ بعضُ أزواج النبي عليه

فصل في سجود الشكر

الصلاة والسلام" بالرفع عطفُ بيانِ لـ (فلانة)، أو خبر مبتدأ محذوف، قيل: هي صفية، وقيل: حفصة - رضي الله عنها -. "فخر ساجداً، فقيل له: تسجد في هذه الساعة؟ ": بحذف الاستفهام "فقال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا رأيتم آية"؛ أي: علامة مخوفة "فاسجدوا"؛ أي: فصلوا ما قدَّر الله، وقيل: أراد به السجود فحسب. "وأي آية أعظم من ذهاب أزواج النبي عليه الصلاة والسلام" فالسجود عند ذلك لدفع العذاب المتوقعِ الحصولِ بذهابهن. قال - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أَمَنةٌ لأصحابي فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأهل الأرض" الحديث، فكأنه رأى بقاء الأمنة على الأصحاب ببقاء الأزواج، لأن أهل الرجل يعدُّ من جملته لشدة الاتصال بينهما. * * * فصل في سجود الشكر (فصل في سجود الشكر) مِنَ الحِسَان: 1058 - عن أبي بَكرَةَ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا جاءَهُ أمر يُسَرُّ به خر ساجداً شكراً للهِ. غريب. "من الحسان": " عن أبي بكرة - رضي الله عنه -: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا جاءه أمر يسرُّ به" من السرور.

"خر ساجداً"؛ أي: سقط للسجود "شكراً لَلّه" فسجود الشكر سنَة عند الشافعي. "غريب". * * * 1059 - ورُوي أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأَى نُغاشياً، فسجدَ شكراً للهِ تعالى. "وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى نغاشيًّا" بتشديد الياء؛ أي: ناقص الخلق وضعيف الحركة. "فسجد شكراً لله" فالسنَّة لمن رأي مبتلًى ببلاء أن يسجد شكراً لله على أن عافاه الله تعالى من ذلك، ولكنْ ليكتم السجود عنه لئلا يتأذى. * * * 1060 - عن عامر بن سَعْد، عن أبيه قال: خرجْنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن مكةَ نريدُ المدينةَ، فلمَّا كنا قَريباً من عَزْوَزاء نزلَ، ثم رفعَ يديهِ فدَعا الله ساعةً، ثم خَرَّ ساجداً، فمكثَ طويلاً، ثم قامَ فرفعَ يديه ساعة، ثم خرَّ ساجداً، ثم قام فقال: "إني سألتُ ربي، وشفعتُ لأِمَّتِي، فأعطاني ثُلُثَ أُمَّتي، فخرَرْتُ ساجداً لِربي شكراً، ثم رفعتُ رأسي فسألتُ ربي لأِمَّتي، فأعطاني ثُلث أمتي فخررتُ ساجداً لربي شكراً، ثم رفعتُ رأسِي فسألتُ ربي لأِمَّتي، فأعطاني الثلث الآخِرَ، فخررتُ ساجداً لربي شكراً". وروي أن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - رأى نُغاشِياً، فسجد شكراً لله، والنُّغاش: القصير. "عن عامر بن سعد، عن أبيه أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من مكة نريد المدينة، فلما كنا قريباً من عَزْوزَاء" بفتح العين

المهملة وسكون الزاي المعجمة وفتح الواو وبالمد - وقيل: بالقصر -: ثنيةُ الجحفة عليها طريق المدينة إلى مكة، سمي به لصلابة أرضه، مأخوذٌ من العزاز: الأرض الصلبة. "نزل ثم رفع يديه فدعى الله ساعة" نزوله عليه الصلاة والسلام في هذا الموضع للدعاء لأمته بوحي الله تعالى لا لخاصية هذه البقعة. "ثم خرَّ ساجداً فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه ساعةً، ثم خرَّ ساجداً فمكث طويلاً، ثم قام فرفع يديه ساعةً، ثم خر ساجداً، قال: إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجداً لربي شكراً، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني ثلث أمتي، فخررت ساجداً لربي شكراً، ثم رفعت رأسي فسألت ربي لأمتي فأعطاني الثلث الآخر" بكسر الخاء "فخررت ساجداً لربي شكراً" قال الإمام مظهر الدين: ليس معناه أن يكون جميع أمته مغفورين بحيث لا يصيبهم عذاب؛ لأن هذا نقيض الآيات والأحاديث الواردة في تهديد الفاسقين، بل المعنى: أنه سأل أن يخص أمته من بين الأمم بأن لا يمسخ صورهم بسبب الذنوب، وأن لا يخلدهم في النار بسبب الكبائر، وغير ذلك من الخواص التي خصَّ الله أمته - عليه الصلاة والسلام - بها من بين سائر الأمم. وفيه نظر: لأن السنة كما دلت على ذلك دلت أيضاً على هذا، وكذا الكتاب، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر: 53] وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، إلى غير ذلك، والعفوُ من الكريم ينبغي أن يكون أرجى من العذاب، والله أكرم الأكرمين، وأما دخولُ النار فليس بحتم إلا تَحِلَّةَ القسم خلافاً للمعتزلة. * * *

49 - باب الاستسقاء

49 - باب الاستِسقاء (باب الاستسقاءَ) مِنَ الصِّحَاحِ: 1061 - عن عبد الله بن زيد قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالناسِ إلى المصلَّى يستسقي، فصلَّى بهم ركعتين جهرَ فيهما بالقراءةِ، واستقبلَ القِبلةَ يدعُو، ويرفعُ يديهِ، وَحَوَّلَ رداءَهُ حينَ استقبلَ القبلة. "من الصحاح": " عن عبد الله بن زيد أنه قال: خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالناس إلى المصلى يستسقي، فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة" فالسنة أن يصلَّى للاستسقاء بالجماعة كصلاة العيد، وبه قال أبو يوسف ومحمد. "واستقبل القبلة يدعو، ورفع يديه وحوَّل رداءه حين استقبل القبلة" والغرض من تحويل الرداء هو التفاؤل بتحويل الحال من العسر إلى اليسر، ومن الجدب إلى الخصب، وكيفيته إن كان مربعاً يجعل أعلاه أسفله، وإن كان مدوراً كالجبة يجعل جانب الأيمن على الأيسر. * * * 1062 - وقال أنس - رضي الله عنه -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يرفعُ يديهِ في شيء من دعائِه إلا في الاستسقاء وإنه ليرفعُ يديهِ حتى يُرَى بياضُ إبطيْهِ. "وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي عليه الصلاة والسلام لا يرفع يديه في شيء من دعائه"؛ أي: لا يرفعهما كل الرفع حتى يجاوِزَ بهما رأسه.

"إلا في الاستسقاء، فإنه يرفع يديه حتى يُرى بياض إبطيه". * * * 1063 - وعن أنس - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اسْتَسقى، فأشارَ بظهرِ كفَّيهِ إلى السماءَ. "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: كان النبي عليه الصلاة والسلام استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء"؛ يعني: يجعل بطن كفيه إلى الأرض وظهرهما إلى السماء، يشير بذلك إلى قلب الحال سائلاً من الله أن يجعل بطن السحاب إلى الأرض. وقيل: من أراد دفع بلاء من قحط ونحوه فليجعل ظهر كفيه إلى السماء، ومن سأل نعمة من الله فليجعل بطن كفيه إلى السماء. * * * 1064 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رَأَى المطرَ قال: "صَيِّباً نافِعاً". "وقالت عائشة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى المطر قال: صَيِّباً" نصب بمقدر؛ أي: اسقنا صيباً، أو على الحال؛ أي: أنزله علينا صيباً؛ أي: مطراً. "نافعاً": لا مُغْرِقاً كطوفان نوح عليه السلام، وأصله: صَيْوِب، قلبت الواو ياءً وأُدغمت. * * * 1065 - وقال أنس: أصابنا ونحنُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مطرٌ، قال: فحسَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبَه حتى أصابَه من المطرِ، فقلنا: يا رسولَ الله، لِمَ صنعتَ

هذا؛، قال: "لأنه حديثُ عهدٍ بربه". "وقال أنس: أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مطر فحسر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: كشف عن بدنه "ثوبه حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله! لمَ صنعتَ هذا؟ قال: لأنه حديث عهد بربه"؛ أي: قريب العهد بالفطرة لم يخالطه ما يفسده من الأيدي الخاطئة. * * * مِنَ الحِسَان: 1066 - عن عبد الله بن زَيدٍ - رضي الله عنه - قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المُصلَّى فاستَسقَى، وحوَّلَ رداءَه حين استقبلَ القبلَةَ، فجعل عِطافَه الأيمنَ على عاتِقِهِ الأيسرِ، وجعلَ عِطافه الأيسرَ على عاتِقِهِ الأيمنِ، ثم دَعا الله". "من الحسان": " عن عبد الله بن زيد أنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المصلى فاستسقى وحوّل رداءه حين استقبل القبلة، فجعل عِطافَه"؛ أي: رداءه، سمّي به لوقوعه على العِطْفين؛ أي: الجانبين، والضمير فيه للرداء؛ أي أراد أحد شقيه، أو للنبي عليه الصلاة والسلام؛ أي: جانب ردائه "الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله". * * * 1067 - وعنه أنه قال: استسقَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعليهِ خَمِيصَةٌ له سوداءُ، فأرادَ أن يأخذَ أسفَلَها فيجعلَهُ أعلاها، فلمَّا ثَقُلَتْ عليه قلَبَها على عاتِقَيهِ. "وعنه أنه قال: استسقى النبي عليه الصلاة والسلام وعليه خميصة له سوداء" وهي كساء مربع له عَلَمان.

"فأراد أن يأخذ أسفلها فيجعله أعلاها فلما ثقلت"؛ أي: عسر "عليه" جَعْلُ أسفلها أعلاها "قلبها على عاتقيه" أي: جعل ما على عاتقه الأيمن على عاتقه الأيسر. * * * 1068 - عن عُمَير مولى آبي اللحم: أنه رأَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يستسقي عندَ أحجارِ الزيتِ، قائماً يدعُو رافعاً يديهِ قِبَلَ وجهِهِ لا يجاوز بهما رأسَه. "وعن عمير مولى آبي اللحم" بمد الهمزة: اسم رجل من قدماء الصحابة وكبارهم، اسمه عبد الله بن عبد الملك، استشهد يوم حنين، وكان لا يأكل اللحم فلقَّب به لذلك. "أنه رأى النبي عليه الصلاة والسلام يستسقي عند أحجار الزيت": موضع بالمدينة من الحرة، سمي بها لسواد أحجارها كأنها طليت بالزيت. "قائماً يدعو رافعًا يديه قِبَلَ وجهه لا يجاوز بهما رأسه"؛ أي: يرفع يديه بمحاذاة وجهه ورأسِه لا أكثر من هذا، وهذا خلاف حديث أنس، ولعل هذا كان في مرة أخرى. * * * 1069 - وقال ابن عباس: خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعني في الاستسقاءِ - مُبتذلاً مُتَواضعًا مُتخشَعا مُتضرِّعا. "وقال ابن عباس: خرج النبي عليه الصلاة والسلام"؛ يعني: في الاستسقاء. "متبذلاً"؛ أي: لابساً ثياب البذلة، وهي ما يُلبس كلَّ الأيام غيرَ لباس الزينة.

" متواضعاً متخشِّعاً متضرعاً". * * * 1070 - عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ إذا استسقى: "اللهم اسْقِ عبادَكَ وبَهيمَتَكَ، وانشُرْ رحمَتَكَ، وأَحْيِ بلدَكَ الميِّتَ". "وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إذا استسقى: اللهم اسق عبادك وبهيمتك وانشر"؛ أي: ابسط "رحمتك وأحيي بلدك الميت"؛ أي: بإنزال المطر حتى تصير الأرض اليابسةُ رطبةً خضراء بالنبات والماء. * * * 1071 - وعن جابر بن عبد الله قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُواكئ برفع يديه فقال: "اللهم اسقِنا غَيثاً مُغيثاً مَرِيئاً مَرِيعاً نافعاً غيرَ ضارٍّ عاجلاً غيرَ آجلٍ"، فأطبقَتْ عليهم السماءُ. "وعن جابر بن عبد الله أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يواكئ"؛ أي: يتحامل على يديه إذا رفعهما في الدعاء كأنه متكئ عليهما حتى يجد ثقلاً بيديه (¬1) كالمتكئ على عصاً. "فقال: اللهم اسقنا غيثاً"؛ أي: مطراً. "مُغيثاً"؛ أي: مُعيناً. "مَريئاً"؛ أي: هنيئاً صالحاً لا ضرر فيه. ¬

_ (¬1) في "ت" و "م": "ببدنه".

فصل في صفة المطر والريح

"مَرِيعاً"؛ أي: ذا مَراعةٍ وخصبٍ، يقال: أَمرعت الأرضُ أي: أخصبت. ويروى: (مُرْبعاً) بضم الميم والباء الموحدة من الإرباع؛ أي: مُنبتاً للربيع، وهو النبات الذي ترعاه الشاة في الربيع. "نافعاً غير ضارٍ" بالإغراق والإهدام. "عاجلاً غير آجل، فأطبقت عليهم السماء"؛ أي: جُعلت عليهم طَبقاً، و (السماء): السحاب، يقال: أطبق: إذا جَعَل طبقاً على رأس شيء وغطاه به؛ يعني: ظهر السحاب في ذلك الوقت وغطاهم بحيث صار كطبق فوقهم، حتى لم يروا السماء من تراكمه وعمومه الجوانب. وقيل: أطبقت بالمطر الدائم، يقال: أطبق عليه الحمى: إذا دامت. * * * فصل في صفة المَطَر والرِّيح (فصل) مِنَ الصِّحَاحِ: 1072 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نُصِرتُ بالصَّبا، وأُهلِكَتْ عادٌ بالدَّبُورِ". "من الصحاح": " عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: نصرت بالصَّبا"؛ أي: بالريح التي تهبُّ مطلع الشمس في حرب الأحزاب، وذلك أن قريشاً وغطفان وبني قريظة وبني النضير لما حاصروا المدينة يوم الخندق ونزلوا قريباً من المدينة، وكانوا اثني عشر ألفاً سوى مَن انضم إليهم من

اليهود، فأرسل الله عليهم ريح الصبا، فهبت هبوباً شديداً، فخرقت خيامهم وأراقت أوانيهم وقدورهم، ولم يمكنهم القرار، وألقَى في قلوبهم الرعب فانهزموا، وكان ذلك معجزة للنبي عليه الصلاة والسلام وفضلاً من الله تعالى على المسلمين، وفيه نزل قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]. "وأُهلكت عاد بالدبور"؛ أي: بالريح التي تهبُّ من مغرب الشمس، وكانت قامة كل واحد منهم اثني عشر ذراعًا في قول، فهبت عليهم الدَّبُور وألقتهم على الأرض بحيث اندقت رؤوسهم وانشقت بطونهم وخرجت منها أحشاؤهم، فالريح مأمورةٌ تجيء تارة لنصرة قوم وتارة لإهلاك قوم. * * * 1073 - وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أضحى ضاحِكاً حتى أَرَى منه لَهَواتِهِ، إنما كانَ يتَبَسَّمُ، وكانَ إذا رأى غيماً أو ريحاً عُرِفَ في وجهِهِ. "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضاحكاً حتى أرى منه لَهَواتِه": جمع لهاة، وهي قعر الفم قريبٌ من أصل اللسان. "إنما كان يتبسم، وكان إذا رأى غيمًا"؛ أي: سحابًا "أو ريحاً عرف في وجهه"؛ أي: الكراهية وأثر الخوف من حصول ضرر أو عذاب في ذلك السحاب أو الريح. * * * 1074 - وقالت: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا عصَفَتِ الريحُ قال: "اللهم إني أسألُكَ خيرَها وخيرَ ما فيها وخيرَ ما أُرسِلَتْ به، وأعوذُ بكَ من شرِّها وشرِّ ما

فيها وشرِّ ما أُرسِلت به"، وإذا تخيَّلت السماءُ تغيَّر لونُه، وخرجَ ودخلَ وأقبلَ وأدبرَ، فإذا مَطَرَت سُرِّيَ عنه، فعَرَفتْ ذلكَ عائشةُ رضي الله عنها فسألتْه؟، فقال: "لعلَّه يا عائشةُ كما قالَ قومُ عادٍ: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا}. وفي رواية: ويقولُ إذا رأَى المطرَ: "رحمةً". أي: اجعلْها رحمةً. "وقالت: كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا عصفت الريح"؛ أي: اشتد هبوبها. "قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أرسلت به، وإذا تخيلت السماء"؛ أي: تغيَّمت وتُخيِّل منها المطر. "تغير لونه وخرج" من البيت تارة "ودخل"؛ أخرى. "وأقبل" تارة "وأدبر": أخرى، فلا يستقر من الخوف. "فإذا مطرت السماء"؛ أي: السحاب "سرِّي عنه"؛ أي: كشف عنه الخوف. "فعرفت ذلك عائشة - رضي الله عنها - فسألته فقال عليه الصلاة والسلام: لعله"؛ أي: لعل هذا المطر "يا عائشة كما قال"؛ أي: مثل المطر الذي قال في حقه "قوم عاد: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا}؛ أي: سحاباً {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} أي: صحاريهم {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} ظنًّا أنه سحاب ينزل منه المطر {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24]: فظهرت منه ربح فأهلكتهم، فلا يجوز لأحد أن يأمن من عذاب الله تعالى. "وفي رواية: يقول إذا رأى المطر [هذا] رحمةٌ": بالرفع؛ أي: هذه

رحمة، - وبالنصب -؛ أي: اجعله رحمةً. * * * 1075 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مفاتيحُ الغيبِ خمسٌ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية". "قال ابن عمر: قال: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مفاتيح الغيب" أراد به خزائنه تعالى، وقيل: المفتاح في الأصل: كل ما يُتوسَّل به إلى استخراج المُغْلَقات التي يَتعذر الوصول إليها إلا به. "خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} الآية [لقمان: 34]. * * * 1076 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ليست السَّنَةُ بأنْ لا تُمْطَرُوا، ولكنَّ السَّنَةَ أنْ تُمْطَرُوا وتُمْطَروا ولا تُنبتُ الأرضُ شيئاً". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليست السنة"؛ أي: القحط الشديد " بأن لا تمطروا"؛ أي لا ينزل عليكم المطر. "ولكن السنة أن تمطروا وتمطروا"؛ والتكرير للتأكيد. "ولا تنبت الأرض شيئاً" وذلك لأن اليأس بعد توقُّع الرجاء وظهور أسبابه أفظع مما كان حاصلاً من أول الأمر. * * * مِنَ الحِسَان: 1077 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الريحُ من رَوحِ الله تأتي بالرحمةِ وبالعذابِ، فلا تَسُبُّوها، وسَلُوا الله من خيرِها،

وعُوذُوا بهِ مِن شرِّها،. "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: الريح من رَوْح الله"؛ أي: من رحمته. "تأتي بالرحمة وبالعذاب": قيل: الرياح ثمان، أربع للرحمة: الناشرات والذاريات والمرسلات والمبشِّرات، وأربع للعذاب: العاصف والقاصف وهما في البحر، والصَّرْصَر والعقيم وهما في البر، وإتيان الريح بالعذاب رحمةٌ للمؤمنين من حيث إنهم خلّصوا من أيدي الكفار الهالكين بالريح. "فلا تسبوها": بلحوق ضرر منها. "واسألوا الله من خيرها، وعوذوا به من شرها". * * * 1078 - وعن ابن عباس: أن رجلاَّ لَعنَ الريحَ عندَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تَلعنوا الريحَ، فإنها مأمورةٌ، وإنه من لعن شيئاً ليس له بأَهلِ رجعَتِ اللعنةُ عليهِ"، غريب. "وعن ابن عباس: أن رجلاً لعن الريح عند النبي عليه الصلاة والسلام فقال: لا تلعنوا الريح فإنها مأمورة، وإنه"؛ أي: الشأن "مَن لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه"؛ أي: على اللاعن. "غريب". * * * 1079 - وعن أُبيِّ بن كعْبٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسبُّوا الرِّيحَ،

فإذا رأَيتُم ما تَكرهونَ فقولوا: اللهم إنا نسألُكَ من خيرِ هذهِ الريح وخيرِ ما فيها وخيرِ ما أُمِرَتْ به، ونعوذُ بكَ من شرِّ هذه الريح وشرِّ ما فيها وشرِّ ما أُمِرَت به". "وعن أبي بن كعب أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسبوا الريح، فإذا رأيتم ما تكرهون"؛ يعني: تأذَّيتم بشدة هبوبها. "فقولوا: اللهم إنا نسألك من خير هذه الريح وخيرِ ما فيها وخيرِ ما أُمرت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشرِّ ما أُمرت به". * * * 1080 - وعن ابن عباس قال: ما هَبَّت ريحٌ قطُّ إلا جَثَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ركبتيهِ وقال: "اللهم اجعَلها رحمةً ولا تجعَلها عذاباً، اللهم اجعَلها رياحاً ولا تجعَلها ريحاً" قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: في كتابِ الله عز وجل: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا}، و {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ}، وقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ}، {أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ}. "وعن ابن عباس أنه قال: ما هبت ريح قط إلا جثا النبي عليه الصلاة والسلام"؛ أي: جلس "على ركبتيه": تواضعاً لله تعالى، وخوفاً من عذابه. "قال: اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها عذاباً، اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً": كلُّ ما كان بلفظ الجمع فهو رحمة، وما كان بلفظ المفرد فهو عذاب. قيل: العرب تقول: لا تُلْقَحُ السحاب إلا من رياح، فالمعنى: اجعلها لقاحاً للسحاب ولا تجعلها عذاباً.

"وقال ابن عباس: في كتاب الله عز وجل: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت: 16]؛ أي: شديد البرد. " {أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] ": وهو ما ليس فيه خير. "وقال: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] "": جمع لاقحة، وهي بمعنى مُلقحة؛ أي: تلقح الأشجار؛ أي: تجعلها حاملاً بالثمار. " {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] أورد المؤلف تفسير ابن عباس؛ لأجل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (رياح" و (ريحاً). وفيه نظر بقوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] وبقوله عليه الصلاة والسلام: "الريح من روح الله" ونحو ذلك. ويمكن أن يقال: إن الجمع لم يأت إلا في الرحمة، والمفرد أتى فيها وفي العذاب. * * * 1081 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: إذا أَبصرْنا شيئاً من السماءِ - تعني السحابَ - تركَ عملَهُ، واستقبَلَهُ وقال: "اللهم إني أعوذُ بكَ من شرِّ ما فيهِ"، فإن كَشَفَهُ الله حَمِدَ الله، وإن مطرَتْ قال: "اللهم سُقْياً نافعاً". " عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا أبصرْنا شيئاً من السماء، تعني السحاب" سمي به؛ لأنه ينشأ في الهواء؛ أي: يظهر. "ترك عمله واستقبله، ثم قال: اللهم إني أعوذ بك من شر ما فيه، فإن كشفه الله"؛ أي: أذهب ذلك السحاب ولم يمطر.

"حمد الله" على ذهابه. "وإن مطرتْ قال: اللهم سَقْياً"؛ أي: اسقنا سَقْياً " نافعاً". * * * 1082 - عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا سمعَ صوتَ الرعدِ والصَّواعِقِ قال: "اللهم لا تَقْتُلْنا بِغَضَبكَ، ولا تُهلِكنا بعذابكَ، وعافِنا قبلَ ذلكَ". "وعن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان إذا سمع صوت الرعد" بإضافة العامِّ إلى الخاص للبيان، فالرعد هو الصوت الذي يُسمع من السحاب. "والصواعق": جمع صاعقة، وهي نار تسقط من السماء في رعد شديد، فعلى هذا لا يصح عطفها على ما قبلها، وإن أريد بها صيحة العذاب صح عطفها على (صوت الرعد)، وكذا إن أريد بها الصوت الهائل. "قال: اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك". "غريب". * * *

5 - كتاب الجنائز

5 - كِتَابُ الجَنَائِزِ

1 - باب عيادة المريض وثواب المرض

5 - كِتَابُ الجَنَائِزِ (كِتَابُ الجَنَائِزِ) 1 - باب عِيَادة المَريض وثَواب المَرَض (باب عيادة المريض وثواب المرض) مِنَ الصِّحَاحِ: 1083 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أَطْعِموا الجائع، وعُودُوا المَريض، وفُكُّوا العاني". "من الصحاح": " عن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أطعموا الجائع وعودوا المريض" أمر من العيادة، "وفكوا العاني"؛ أي: خلِّصوا الأسير من يد العدو، وهذه الأوامر للوجوب إذا امتَثل بها بعضٌ سقط عن الباقين. * * * 1084 - وقال: "حقُّ المُسلم على المُسلم خمسٌ: ردُّ السلام، وعيادةُ

المَريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدَّعوة، وتشميت العاطِس". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: حق المسلم على المسلم خمس: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وإجابة الدعوة، إذا لم يكن فيها معصية "وتشميت العاطس" وهو أن يقول لمن عطس: يرحمك الله، بعد قوله: الحمد لله. * * * 1085 - وقال: "حقُّ المُسلم على المُسلم سِتٌّ: إذا لقيته فسلِّم عليه، وإذا دعاك فأَجبْه، وإذا استنصحك فانصَح له، وإذا عَطَسَ فحمِد الله فشمِّته، وإذا مَرِضَ فَعُدْهُ، وإذا مات فاتَّبعْه". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: حق المسلم على المسلم ست: إذا لقيتَه فسلِّمْ عليه، وإذا دعاك فأجبه، وإذا استنصحك"؟؛ أي: طلب منك النصيحة "فانصح له، وإذا عطس فحَمِدَ الله فشمِّته، وإذا مرض فعُدْه، وإذا مات فاتَّبعه". * * * 1086 - وقال البَراء بن عازِب: أَمَرَنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بسبعٍ، ونهَانا عن سبعٍ، أَمَرَنا بعِيادةِ المريض، واتباعِ الجنائزِ، وتشميت العاطِسِ، وردِّ السلام، وإجابةِ الداعي، وإبرار المُقْسِم، ونصر المظلوم، ونهانا عن خاتَم الذهب، وعن الحرير، والإسْتَبْرَق، والدِّيباج، والمِيْثَرة الحمراء، والقَسِّيِّ، وآنيةِ الفضة. وفي روايةٍ: وعن الشرب في الفضة، فإنه مَنْ شَرِب فيها في الدُّنيا، لم يشرب فيها في الآخرة.

"وقال البراء بن عازب: أمرنا النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع: أمرنا بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، ورد السلام، وإجابة الداعي، وإبرار المُقْسِم"؛ أي: تصديق الحالف على شيء، ومنه الحديث: "من حلف بالله فصدّقوه"، أو معناه: جَعْلُ يمين صاحبك صادقة، كقوله: والله لا أبرح حتى تجيء معي أو حتى تفعل كذا، فالمستحب لك أن تفعل ذلك الفعل إذا كان في وسعك ولم يكن معصيةً، حتى يصير قسمُه صدقاً. "ونصر المظلوم" مسلماً كان أو ذِمِّياً، قولاً كان أو فعلاً. "ونهانا عن" سبع: "خاتم الذهب، وعن الحرير، والإستبرق، والديباج": وهما نوعان من الإبريسم، فلبس هذه الأشياء حرام على الرجال دون النساء. "والمِيثرة الحمراء"، (الميثرة) بالكسر: مِفْعلة من الوِثار، وهو وسادة توضع في السرج ليكون موضعُ جلوس الراكب ليناً، وهو من فعل العجم، فالحمراء منهيٌّ عنها لنهيه عن ميثرة الأرجوان - وهو صِبغٌ أحمر - لما فيه من الرعونة. "والقَسِّيّ" بفتح القاف وتشديد السين والياء: ثياب منسوب إلى القَسِّ، وهي قرية من ناحية مصر، والنهي إما لغلبة الحرير، أو لكونها ثياباً حمراء. "وآنية الفضة. وفي رواية: عن الشرب في الفضة، فإنه مَن شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة، فيحمل على المستحِلِّ، أو على الزجر والتهديد عنه. * * *

1087 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن المُسلمَ إذا عاد أخاه المسلم لم يَزَلْ في خُرْفَةِ الجنةِ حتى يرجِعَ". "وعن ثوبان أنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خُرْفةِ الجنة حتى يرجع"، (الخرفة) بضم الخاء: ما يُخترف؛ أي: يُجتنى من الثمار حين يدرك، شبه عليه الصلاة والسلام ما يَحوزه عائد المريض من الثواب بما يحوزه المخترف من الثمار، والمراد أنه بسعيه إليه يستوجب الجنة ومَخارِفَها، بإطلاق اسم المسبَّب على السبب. * * * 1088 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى يقول يومَ القيامة: يا ابن آدم، مرضْتُ فلم تَعُدْني، قال: يا ربِّ، كيف أَعُودُكَ وأنت رب العالمين؟، قال: أَما علمتَ أنَّ عبدي فلاناً مرِضَ فلم تَعُدْه، أما علمتَ أنك لَوْ عُدْتَه لَوَجَدْتَني عنده؟، ابن آدم، استطعمتُكَ فلم تُطعِمني، قال: يا ربِّ وكيف أُطعِمُك وأنت رب العالمين؟، قال: أَما علمتَ أنه استطعَمك عبدي فلانٌ فَلَم تُطْعِمْهُ، أَما علمتَ أنك لو أطعمتَه لَوَجدتَ ذلك عندي؟، ابن آدم: استسقيتُك فلَمْ تُسقِني، قال: يا ربّ، كيف أسقيكَ وأنت رب العالمين؟، قال: استسقاك عبدي فلانٌ فلم تَسَقِه، أَما علمتَ أنك لو سَقَيْتَهُ لَوَجَدْتَ ذلك عندي". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا ابن آدم! مرضتُ" أراد به مرض عبده، إنما أضافه إلى نفسه تشريفاً لذلك العبد. "فلم تَعُدْني، قال: يا رب! كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ "؛ يعني: أنت منزَّه عن الأمراض والنقائص والحاجة إلى الغير.

(قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عُدْتَه لوجدتني"؛ يعني لوجدت رضائي "عنده؟ " "يا ابن آدم استطعمتك"؛ أي: طلبت منك الطعام "فلم تطعمني، قال: يا رب! كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه" - الضمير للشأن - "استطعمك عبدي فلانٌ فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك"؛ أي: ثوابه "عندي؟ " "يا ابن آدم! استسقيتك فلم تسقني، قال: يا رب! كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت" - بالتخفيف للتنبيه - "أنك لو سقيته لوجدت ذلك عندي" وإنما قال في العيادة: (لوجدتني عنده)، وفي الإطعام والسقي: (لوجدت ذلك عندي) إشارة إلى أن الله تعالى أقرب إلى المنكسر المسكين، وإرشاداً إلى أن العيادة أكثر ثواباً منهما. * * * 1089 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخَل على أعرابي يعودُه، وكان إذا دخلَ على مريضٍ يعودُه قال: "لا بأْسَ، طَهُورْ إنْ شاء الله تعالى"، فقال له: "لا بأْسَ، طَهُورٌ إن شاء الله"، قال: كلا بل حُمَّى تفورُ، على شيخٍ كبيرٍ، تُزِيرُه القُبورَ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ""فنَعَمَ إذاً". "قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن النبي عليه الصلاة والسلام دخل على أعرابي يعوده، وكان إذا دخل على مريض يعوده قال: لا بأس طهورٌ إن شاء الله تعالى"؛ أي: لا ضرر عليك في مرضك بالحقيقة؛ لأنه سبب لطهارتك من الذنوب. "فقال له"؛ أي: النبي للأعرابي: "لا بأس طهورٌ إن شاء الله تعالى،

قال"؛ أي: الأعرابي: "كلا"؛ أي: ليس كما قلت: إنه لا بأس به. "بل حمى تفور"؛ أي: يظهر حرها ويغلي في بدني، من فوران القدر وهو غليانها. "على شيخ كبير تُزيره القبور"؛ أي: قريب من أن تُزيرني القبور؛ أي: تحملني على زيارتها. "فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: فنعم إذن"؛ يعني: هذا المرض ليس بمطهِّر لك إذا لم تقبل ما قلته، غضب عليه الصلاة والسلام بردِّ الأعرابي كلامه. * * * 1090 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى منَّا إنسانٌ مَسَحه بيمينه، ثم قال: "أَذْهِبِ البأْسَ ربَّ الناسِ، اشفِ أنت الشَّافي، لا شفاءَ إلا شِفاؤك، شفاءً لا يُغادِر سَقَماً". "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكى منا إنسان"؛ أي: مرض. "مسحه"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام ذلك المريض. "بيمينه ثم قال: أَذْهِبِ البأسَ" وهو شدة المرض، أمر من أَذْهَبَ. "ربَّ الناس" بحذف حرف النداء. "واشف أنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك شفاءً لا يغادر سقماً"؛ أي: لا يترك مرضاً. * * *

1091 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان إذا اشتكى الإنسانُ الشيءَ منه، أو كانت به قَرْحَةٌ، أو جَرْحٌ؛ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإصبعه: "باسم الله، تُرْبَةُ أرضنا بِرِيقَةِ بعضنا ليُشْفَى سَقِيمُنَا بإذن ربنا". "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: كان إذا اشتكى الإنسان الشيء" مفعول (اشتكى)، وضمير "منه" عائدٌ إلى (الإنسان)، و (كان) إما زائدة، أو [فيها ضمير الشأن] (¬1) يفسره ما بعده. "أو كانت به قُرحة" بضم القاف وفتحها: ما يخرج على الأعضاء مثل الدُّمَّل. "أو جُرح" بضم الجيم: ما يُجْرح بالسيف وغيره. "قال النبي عليه الصلاة والسلام بإصبعه"؛ أي: أشار به، ويروى: أنه عليه الصلاة والسلام يبل أنملة إبهامه اليمنى بريقه فيضعها على التراب، ثم يرفعها وقد لزق بإصبعه التراب ويشير إلى ذلك المريض. "وقال: بسم الله تربة أرضنا"؛ أي: هذه تربة أرضنا. "بريقة بعضنا"؛ أي: معجونة بها ضمدنا بها "ليُشفى سقيمنا بإذن ربنا" وقيل: التربة إشارة إلى فطرة أول مفطور من البشر، والريقة إلى النطفة التي خلق منها الشخص، كأنه يتضرع بلسان الحال، ويقول: إنك اخترعت الأصل الأول من طين، ثم أبدعت فرعه من ماء مهين، فهينٌ عليك أن تشفي مَن هذا شأنه. * * * ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين وقع بدلاً منه في جميع النسخ كلمة لم تجود. وانظر: "مرقاة المفاتيح" (4/ 10).

1092 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا اشتكَى نفَثَ على نَفْسِه بالمعوِّذات، ومسحَ بيده، فلمَّا اشتكى وَجَعَه الذي تُوفي فيه، كنتُ أنفثُ عليه بالمعوِّذات التي كان ينفثُ، وأمسحُ بيدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. ويروى: كان إذا مَرِض أحدٌ من أهل بيته نفثَ عليه بالمُعوِّذات. "عن عائشة قالت: كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات" أريد بها السورتان المعروفتان إطلاقاً للجمع وإرادة التثنية، أو هما وكلُّ ما أشبههما مثل: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ} [هود: 56] و {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم: 51] ونحو ذلك. "ومسح عنه"؛ أي: عن ذلك النفث "بيده" أعضاءَه. "فلما اشتكى وجعَه الذي توفِّي فيه كنت أنفث علبه بالمعوذات التي كان ينفث وأمسح بيد النبي عليه الصلاة والسلام [رجاء بركتها] ": لعل تركه عليه الصلاة والسلام النفثَ بها على نفسه في ذلك المرض كان لعِلْمِه أنه آخِرُ مرضه، وأنه أوانُ ارتحاله. "ويروى: كان إذا مرض أحد من أهل بيته نفث عليه بالمعوذات" وهذا يدل على أن الرُّقية بكلام الله سنةٌ، وكذلك النفثُ عند الرقية. * * * 1093 - وعن عُثمان بن أبي العاص - رضي الله عنه -: أنه شكى إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وجعاً يجدُه في جسدِه، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضع يدَك على الذي يُؤلم من جسَدِك، وقل: باسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أَعوذ بعزة الله وقُدرته من شرِّ ما أَجِدُ وأحاذِر"، قال: ففعلتُ، فَأَذْهَبَ الله ما كان بي. "وعن عثمان بن أبي العاص: أنه شكى إلى رسول الله صلى الله تعالى

عليه وسلم وجعاً يجده في جسده، فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ضع يدك على الذي يؤلَم"؛ أي: يوجَع "من جسدك وقل: بسم الله ثلاثاً، وقل سبع مرات: أعوذ بعزة الله وقدرته من شر ما أجد"؛ أي: من الوجع "وأحاذر"؛ أي: أخاف. "قال: ففعلت فأذهب الله ما كان بي" وهذه الرقية لم تكن مخصوصةً به، بل فعلها الصحابة - رضي الله عنهم - بأنفسهم. * * * 1094 - وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن جبريلَ أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمد، أَشتَكَيْتَ؟، قال: "نعم"، قال: بسم الله أَرقيكَ، من كل شيءٍ يُؤذيك، من شر كل نفسٍ أو عينِ حاسدٍ، الله يَشفيك، بسم الله أَرقيك. "وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن جبرائيل أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا محمد! أشتكيت؟ " بفتح الهمزة للاستفهام وحذف همزة الوصل. "فقال: نعم، قال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك، من شر كل نفس أو عينِ حاسدٍ الله يشفيك، بسم الله أرقيك". * * * 1095 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُعَوِّذُ الحسنَ والحسينَ ويقول: "إن أباكما - يعني إبراهيم - كان يعوِّذُ بها إسماعيلَ وإسحاق، أُعِيذُكما بكلماتِ الله التامةِ من كل شيطانٍ وهامَّة، ومن كل عينٍ لامَّة". "وعن ابن عباس أنه قال: كان النبي عليه الصلاة والسلام يعوِّذ الحسن والحسين ويقول: إن أباكما" أراد به الجدَّ الأعلى.

"يعني إبراهيم عليه السلام كان يعوِّذ بهما"؛ أي: بهذه الكلمات. "إسماعيل وإسحاق: أعيذكما بكلمات الله التامة" المراد بكلمات الله: جميع المنزَل على أنبيائه، وقيل: أسماؤه الحسنى في كتبه المنزلة، وَصَفها بالتمام لخلوها عن النقائص والاختلال. "من كل شيطان وهامة" وهي كلُّ ذات سم يقتل. "ومن كل عين لامة"؛ أي: جامعة للشر على المعيون، من لمَّه: إذا جمعه، أو يكون بمعنى مُلِمَّة؛ أي: منزلة. قيل: وجه إصابة العين أن الناظر إذا نظر إلى شيء واستحسنه ولم يرجع إلى الله وإلى رؤية صُنعه، قد يُحدث الله في المنظور عليه بجنايةِ نظره على غفلة ابتلاءً لعباده ليقول المحق إنه من الله تعالى، وغيره من غيره. * * * 1096 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يُرِدْ الله به خيراً يُصِبْ منه". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يُرد الله به خيراً" تنوينه للتنويع، والجارُّ والمجرور حال عنه؛ أي: خيراً ملتبساً به. "يصب" بالجزم جواب الشرط، روي مجهولاً؛ أي: يصير ذا مصيبة، وهي اسمٌ لكل مكروه، ومعلوماً؛ أي: يجعله الله ذا مصيبة ليطهِّره بها من الذنوب، وليرفع بها درجاته. "منه" بمعنى لأجله، وضميره عائد إلى الخير. * * * 1097 - وقال: "ما يُصيبُ المسلمَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ، ولا همٍّ ولا

حَزَنٍ، ولا أَذَى ولا غَمٍّ، حتى الشوكةُ يُشاكُها إلا كَفَّر الله بها مِن خطاياه". "وعنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ما يصيب المسلم من نصب" وهو الألم الذي يصيب الأعضاء من جراحة وغيرها، و (من) زائدة. "ولا وصب" وهو السقم اللازم. "ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم" قيل: الهم ما يذيب الإنسان من الحزن، والغم أشد منه، والحزن أسهل منهما، وهو خشونة في النفس منه، وقيل: الهم يختص بما هو آت والحزن بما مضى. "حتى الشوكة": بالرفع على أن (حتى) ابتدائية، وبالجر على أنها بمعنى (إلى) لانتهاء الغاية، أو بمعنى الواو العاطفة. "يشاكها" بالمضارع المجهول، فالضمير مفعوله الثاني، والأول مضمرٌ قائم مقام الفاعل؛ أي: يشاك المسلم تلك الشوكة. "إلا كفَّر الله بها"؛ أي: محى بمقابَلَتها. "من خطاياه"؛ أي: بعضَها. * * * 1098 - وقال: "إني أُوعَكُ كما يُوعَك الرجلانِ منكم"، قيل: ذلك لأن لك أجرين؟، قال: "أجل"، ثم قال: "ما من مسلمٍ يُصيبُه أذًى مرضٌ فما سِواه، إلا حطَّ الله سيئاتِه كما تَحُطُّ الشجرةُ وَرَقَها". "وعن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إني أوعك" على بناء المجهول؛ أي: يأخذني الوعك وهو الحمى. "كما يوعك رجلان منكم"؛ يعني: ألمُ وعكي مثل ألم وعك رجلين منكم.

"قيل: ذلك لأن لك أجرين؟ قال: أجل"؛ أي: نعم، وهذا يدل على أن المرض إذا كاذ أكثر يكون الأجر أكثر. "ثم قال: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه" مما تتأذى به النفس "إلا حط الله سيئاته كما تحطُّ الشجرة ورقها" وفيه بشارة عظيمة؛ لأن كل مسلم لا يخلو من كونه متأذِّياً. * * * 1099 - وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيت أحداً الوجعُ عليه أشدُّ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: ما رأيت أحداً الوجعُ عليه أشدُّ من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم". * * * 1100 - وقالت: مات النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين حاقِنَتي وذاقِنَتي، فلا أكَره شدةَ الموتِ لأحدٍ أبداً بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. "وقالت: مات النبي عليه الصلاة والسلام بين حاقِنتي" بكسر القاف: ما بين الترقوة والحلق، وقيل: أسفل الحلقوم. "وذاقنتي" بالذال المعجمة ثغرة الذقن، وهي طرف الحلقوم من أعلاه، وقيل: ما يناله الذقن من الصدر, تريد أنه عليه الصلاة والسلام وضع رأسه على ترقُوَتها عند النزع، وكان ظنُّها أن شدة الموت علامة كثرة الذنوب , فلما شاهدت شدة موته عليه الصلاة والسلام علمت أن ذلك علامةُ رفع الدرجة وتطهيرِ الذنوب، فلذلك قالت:

"فلا كره شدة الموت لأحد أبداً بعد النبي عليه الصلاة والسلام". * * * 1101 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مثَلُ المؤمنِ كمثل الخامَةِ من الزرعِ، تُفَيِّئُها الرياح، تصرعها مرة، وتَعْدِلها أُخرى حتى يأتِيَه أجلُه، ومثَل المنافقِ كمثَل الأَرْزَةِ المُجْذِيَةِ التي لا يصيبها شيءٌ، حتى يكون انجعافُها مرةً واحدةً". "وعن كعب بن مالك أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَثَلُ المؤمن كمثل الخامة"؛ أي: الغصنة الرطبة "من الزرع". "تفيئها الرياح"؛ أي: تحركها وتُميلها يميناً وشمالاً. "تصرعها"؛ أي: تسقطها "مرة وتعدلها"؛ أي: تُقِيمها "أخرى"؛ يعني: يصيب المؤمنَ من أنواع المشقة من الخوف والمرض "حتى يأتيه أجله"؛ أي: حتى يموت، وكلُّ ذلك علامة السعادة. "ومثل المنافق كمثل الأَرْزة" بفتح الهمزة وسكون الراء: شجر الصنوبر. "المجذية"؛ أي: الثابتة على الأرض. "التي لا يصيبها شيء حتى يكون انجعافها"؛ أي: انقلاعها. "مرة واحدة"؛ يعني: لا يصيب المنافقَ مرضٌ ولا ألمٌ حتى يموت كي لا يحصل له ثواب. * * * 1102 - وقال: "مَثلُ المؤمنِ كمثَلِ الزرعِ لا تزالُ الريح تُميلُه، ولا يزالُ المؤمنُ يُصيبه البلاءُ، ومثل المنافقِ كمثل شجرة الأَرْزة، لا تَهْتَزُّ حتى تَسْتَحْصِدَ".

"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مثل المؤمن كمثل الزرع لا تزال الريح تميله، ولا يزال المؤمن يصيبه البلاء، ومثل المنافق كمثل شجرة الأرزة لا تهتز"؛ أي: لا تتحرك "حتى تستحصد" بصيغة المعروف؛ أي: يدخل وقتُ حصادها. * * * 1103 - وقال جابر - رضي الله عنه -: دخل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أُم السَّائبِ فقال: "ما لَكِ تُزَفْزِفين؟ "، قالت: الحُمَّى، لا بارَكَ الله فيها، فقال: "لا تَسُبي الحُمَّى، فإنها تُذهِبُ خَطايا بني آدم كما يُذْهِبُ الكِيرُ خَبَثَ الحديدِ". "وقال جابر - رضي الله عنه -: دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أم السائب فقال: ما لك تزفزفين"؛ أي: ترتعدين، من الزفزفة وهي الارتعاد من البرد. "قالت: الحمى لا بارك الله فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تسبي الحمى فإنها"؛ أي: الحمى "تذهب خطايا بني آدم"؛ أي: تزيلها "كما يذهب الكير"؛ أي: كير الحداد وهو المبني من الطين، وقمِل: الزِّقُّ الذي ينفخ به النار. "خبث الحديد"؛ يعني: الحمَّى تطهِّر بني آدم من الذنوب كما يطهِّر الكيرُ الحديدَ من الخبث. * * * 1104 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مرَض العبدُ أو سافر كُتِبَ له بمثلِ ما كان يعمل مقيماً صحيحاً".

"وعن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا مرض العبد أو سافر" ففات منه بذلك ما وظَّفه من النوافل "كتب له بمثل ما كان"؛ أي: مثلَ ثواب سا كان "يعمل مقيماً صحيحاً"، لفٌّ ونشرٌ غيرٌ مرتَّب، وفيه دلالة على أن العبد يجازَى على نيته. * * * 1105 - وقال: "الطاعون شهادةُ كلِّ مسلم". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الطاعون" قيل: هي قروح تخرج مع لهيب في الإباط والأصابع وفي سائر البدن، يسودُّ ما حولها أو يخضرُّ أو يحمر، وأما الوباء فقيل: هو الطاعون، والصحيح أنه مرض يكثر في الناس ويكون نوعاً واحداً. "شهادة كل مسلم"؛ يعني: مَن مات منه فهو شهيد. * * * 1106 - وقال: "الشهداءُ خمسةٌ: المطعونُ، والمبطونُ، والغريقُ، وصاحبُ الهَدْم، والشهيدُ في سبيلِ الله". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الشهداء خمسة: المطعون"؛ أي: الذي مات من الطاعون. "والمبطون"؛ أي: الذي مات من وجع البطن كالاستسقاء. "والغريق"؛ أي الذي يموت من الغرق. "وصاحب الهدَم" بفتح الدال: ما يُهدم، وهو الذي يموت تحت الهدم. "والشهيد في سبيل الله" إنما أخَّره؛ لأنه من باب الترقِّي من الشهيد

الحُكْمي إلى الحقيقي. * * * 1107 - وقال: "ليس من أحدٍ يقعُ الطاعونُ فيمكثُ في بلده صابراً محتسِباً، يعلم أنه لا يصيبُهُ إلا ما كتَبَ الله له إلا كان له مثلُ أجرِ شهيدٍ". "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس من أحد" (من) زائدة؛ أي: ليس أحدٌ. "يقع الطاعون فيمكث في بلده صابراً" على الإقامة فيه مع قدرته على الخروج. "محتسباً"؛ أي: طالباً للثواب لا لحفظ مال أو غَرَضٍ آخر. "يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد" لأنه بالإقامة في بلده قد توكَّل عليه، ودرجةُ المتوكلين رفيعة. * * * 1108 - وقال: "الطاعونُ رِجزٌ أُرسِل على طائفةٍ من بني إسرائيل، أو على مَن كان قبلكم، فإذا سمعتُم به بأرض فلا تَقدُموا عليه، وإذا وقعَ بأرضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فِراراً منه". "عن أسامة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الطاعون رِجزٌ" بكسر الراء؛ أي: عذاب "أرسل على طائفة من بني إسرائيل" وهم الذين أمرهم الله تعالى أن يدخلوا الباب سجَّداً فخالفوا أمر الله، فأرسل الله عليهم الطاعون فمات منهم في ساعة أربعةٌ وعشرون ألفاً من شيوخهم وكبرائهم، أراد بالباب باب القبة التي صلَّى إليها موسى عليه السلام ببيت المقدس.

"أو على من كان قبلكم" شكٌّ من الراوي. "فإذا سمعتم به" الباء متعلقة بـ (سمعتم) على تضمين أُخبرتم. "بأرض": حال؛ أي: واقعاً في أرض. "فلا تقدموا عليه" المحفوظ أنه من أقدم إقداماً؛ أي: لا تدخلوا ذلك الأرض، وهذا تحذير منه ونهيٌ عن التعرُّض للتلف إذ لا يجوز إلقاءُ النفس في التهلكة. "وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه" فيه إثباتُ التوكُّل والتسليم لقضائه تعالى، فإن العذاب لا يدفعه الفرار وإنما يدفعه التوبة والاستغفار، ولو خرج لحاجة من غير فرارٍ جاز. * * * 1109 - وقال: "إن الله تعالى قال: إذا ابتلَيتُ عَبْدي بِحَبيْبَتَيْهِ ثم صَبَرَ، عَوَّضْتُه منهما الجنةَ" يُريد: عينَيه. "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه"؛ يعني: أذهبت عينيه. "ثم صبر": ورضي بحكمي. "عوَّضته منهما الجنة، يريد" بحبيبتيه: "عينيه". * * * مِنَ الحِسَان: 1110 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِن مسلمٍ يعودُ مسلماً غُدوةً إلا صلى عليه سبعونَ ألفَ ملَكٍ حتى يُمْسِيَ، ولا يعودُه

مساءً إلا صلى عليه سبعونَ ألف ملَكٍ حتى يُصْبحَ، وكان له خريفٌ في الجنة". "من الحسان": " عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: ما من مسلم يعود مسلماً غُدوة": بضم الغين: ما بين صلاة الغداة وطلوع الفجر. "إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، ولا يعوده مساءً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف"؛ أي: بستان "في الجنة" فعيل بمعنى مفعول، أي: مخروف، وهو في الأصل: الثمر المُجْتَنى. * * * 1111 - وقال زيد بن أَرقَم: عادني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من وجعٍ كان بعينيَّ. "وقال زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: عادني النبي عليه الصلاة والسلام من وجع كان بعيني" وهذا يدل على أن مَن لم يقدر أت يخرج من بيته بعلَّةٍ فعيادتُه سنَّة. * * * 1112 - عن أَنسَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن توضأ فأحسنَ الوضوءَ، وعادَ أخاه المسلمَ محتسِباً؛ بُوعِدَ من جهنم مسيرةَ ستينَ خريفاً". "عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من توضأ فأحسن الوضوء وعاد أخاه المسلم محتسباً بُوعِدَ"؛ أي: يكون بعيداً "من جهنم مسيرة ستين خريفاً"؛ أي: عاماً، إطلاقاً للبعض وإرادةً للكلِّ، ولعل الحكمة في الوضوء هنا أن العيادة عبادةٌ، وأداؤها على الوضوء أكمل وأفضل. * * *

1113 - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يعودُ مسلماً فيقول سبعَ مراتٍ: أسألُ الله العظيمَ ربَّ العرشِ العظيم أن يشفيكَ إلا شُفِيَ إلا أن يكونَ قد حضرَ أجَلهُ"، غريب. "وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مسلم" ما للنفي. "يعود مسلماً فيقول سبع مرات: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك إلا شفي، إلا أن يكون حَضَر أجلُه". "غريب". * * * 1114 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُعلِّمهم من الحُمَّى ومن الأَوجاع كلِّها أن يقولوا: "بسم الله الكبيرِ، أعوذ بالله العظيمِ، من شر كلِّ عِرْقٍ نعَّارٍ، ومن شر حَر النارِ"، غريب. "عن ابن عباس: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعلِّمهم"؛ أي: أصحابه. "من الحمى ومن الأوجاع كلها أن يقولوا: بسم الله الكبير أعوذ بالله العظيم من شر كلِّ عِرْقٍ نعَّار" وهو العِرْقُ الذي يفور منه الدم، يريد أن غلبة الدم في البدن تولِّد الداء، فليتعوَّذ به تعالى منه. "ومن شر حر النار". "غريب". * * *

1115 - عن أبي الدَّرداء أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنِ اشتكى منكم شيئاً أو اشتكاه أخٌ له فليقلْ: ربنا الله الذي في السماء تقدَّسَ اسمك، أَمرُك في السماء والأرضِ، كما رَحَمْتُكَ في السماء، فاجعل رحمتَك في الأرض، اكفرْ لنا حُوْبنا وخطايانا، أنت ربُّ الطَّيِّبينَ، أنْزِلْ رحمةً من رحمتِكَ وشِفاءاً من شِفائك على هذا الوجَعِ، فيبرأَ". "وعن أبي الدرداء أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: من اشتكى منكم شيئاً أو اشتكاه"؛ أي: اشتكى شيئاً "أخ له فليقل: ربنا الله": بالرفع فيهما مبتدأ وخبر. "الذي في السماء": صفة مادحةٌ لله عبارة عن علو شأنه ورفعته؛ لأنه منزَّه عن المكان. "تقدَّس اسمك"؛ أي: تطهَّر عما لا يليق بك. "أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء"؛ يعني: من شأنها أن تختص بالسماء؛ لأنها مكان الطيبين المعصومين عن الآثام؛ بخلاف الأرض، فلذلك أتى بالفاء الجزائية فالتقدير: إذا كان كذلك "فاجعل رحمتك في الأرض، اغفر لنا حُوبنا" بضم الحاء وفتحها؛ أي ذنبنا. "وخطايانا أنت رب الطيبين"؛ أي: مُحبُّهم، والإضافة للتشريف، وهم الذين اجتنبوا الأفعال والأقوال القبيحة كالشرك والفسق. "أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجِع" بكسر الجيم: مَن به وَجَعٌ "فيبرأ". * * * 1116 - عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا جاء

الرجلُ يعودُ مريضاً فليقلْ: اللهم اشفِ عبدَك يَنْكَأُ لكَ عَدُوًّا أو يمشي لك إلى جَنازةٍ". "عن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا جاء الرجل يعود مريضاً فليقل: اللهم اشف عبدك ينكأ لك عدواً" برفع (ينكأ) في موضع الحال، وإلا فالحق الجزم جواباً للأمر؛ أي: يغزو في سبيلك، يقال: أنكأتُ في العدو؛ أي: أكثرتُ فيهم الجراحَ والقتل. "أو يمشي" بإثبات الياء في موضع الحال أيضاً؛ أي: أو هو يمشي "لك إلى جنازة". * * * 1117 - وسُئلت عائشةُ رضي الله عنها عن قول الله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}، وعن قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}، فقالت: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "هذه معاتَبةُ الله العبدَ بما يُصيبهُ من الحُمَّى والنَّكبةِ، حتى البضَاعَةِ يضعُها في يدِ قميصِهِ فيفقِدُها فيفزعُ لها، حتى إن العبدَ ليَخرجُ من ذنُوبهِ كما يخرجُ التِّبْرُ الأحمرُ من الكِيرِ". "وسئلت عائشة - رضي الله عنها - عن قول الله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ} "؛ أي: تُظهروا ما في قلوبكم من السوء {أَوْ تُخْفُوهُ} بأن جرى في خواطركم من قصد الذنوب {يُحَاسِبْكُمْ} أي: يجازيكم {بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 248] ". وعن قوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] ". "فقالت: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: هذه": إشارة إلى مفهوم الآيتين المسؤول عنهما.

"معاتبة الله"؛ أي: محاسبةُ الله عبادَه ومجازاتُهم بما يُبدون وما يخفون من الأعمال هو معاتبة الله، وفي "مسند الترمذي": (معاتبة الله)؛ أي: مؤاخذته. "العبد بما يصيبه" في الدنيا "من الحمى والنكبة"؛ أي: المحنة والأذى، واحدة نكبات الدهر وهي نوازلُه. "حتى البضاعة" بالجر عطف على ما قبلها، وبالرفع على الابتداء، و (البضاعة) بالكسر: طائفة من مال الرجل. "يضعها في يد قميصه"؛ أي: كمه. "فيفقدها فيفزع لها"؛ أي: يحزن لضياع البضاعة فيكون في ذلك كفارةً لذنوبه. "حتى إِن العبد" - بكسر (إن) - "ليخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر"؛ أي: الذهب الذي شُوي في النار تشويةً بالغة؛ أي: خالصة. "من الكبر". * * * 1118 - عن أبي موسى - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصيبُ عبداً نَكْبَةٌ فما فوقها أو دونهَا إلا بذنبٍ، وما يعفو الله عنه أكثرُ، وقرأ: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} ". "عن أبي موسى: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: لا يصيب عبداً نكبةٌ" تنكيرها للتقليل لا للجنس؛ ليصح ترتيب ما بعدها عليها بالفاء، وهو "فما فوقها"؛ أي: في العِظَم، "أو دونها" في الحقارة. "إلا بذنب"؛ أي: بسبب ذنبه صدر منه، وتكون تلك المصيبة التي لحقته في الدنيا كفارةً لذنبه.

"وما"؛ أي: الذي. "يعفو الله عنه" من الذنوب من غير أن يجازيه في الدنيا ولا في الآخرة. "أكثر" وأجزل من ذلك، فانظر إلى حسن لطف الله بعباده جعلنا الله منهم. "وقرأ" عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ}؛ أي: من مرض وشدة وهلاك وتلفٍ في أنفسكم وأموالكم {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} من الذنوب {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [المائدة: 15] من ذنوبكم فضلاً منه تعالى، قيل: هذا يختص بالمذنبين، وأما غيرهم فإنما يصيبهم مصائب لرفع درجاتهم. * * * 1119 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذ العبد إذا كان على طريقةٍ حسنةٍ من العبادةِ ثم مَرِضَ قيل للملك المُوَكَّلِ به: اكتبْ له مثلَ عملهِ إذا كان طليقاً حتى أُطلِقَهُ أو أَكْفِنَهُ إليَّ". وفي روايةٍ: "فإن شفاه غسَّله وطهَّره، وإنْ قبضَه غفرَ له ورَحِمه". "وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن العبد إذا كان على طريقة حسنة من العبادة ثم مرض قيل للملك الموكل: اكتب له مثل عمله إذا كان طليقاً"؛ أي: مُطْلقاً من المرض الذي عرضه؛ أي: إذا كان صحيحاً لم يقيِّده المرض عن العمل. "حتى أطلقه"؛ أي: اكتب إلى حين أرفع عنه قيد المرض. "أو أكفته"؛ أي: أقبضه إلي، الكفت الضم والجمع مجازٌ على الموت. "وفي رواية: فإن شفاه غسَّله" من الذنوب "وطهره، وإن قبضه"؛ أي: أماته "غفر له ورحمه".

1120 - وقال: "الشهادةُ سبعٌ سوى القتلِ في سبيلِ الله: المطعونُ شهيدٌ، والغريقُ شهيدٌ، وصاحبُ ذاتِ الجَنْبِ شهيدٌ، والمَبطون شهيدٌ، وصاحبُ الحريق شهيدٌ، والذي يموتُ تحتَ الهَدْمَ شهيدٌ، والمرأة تموت بجُمْعٍ شهيدٌ". "عن جابر بن عتيك أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله: المطعون شهيد، والغريق شهيد، وصاحب ذات الجنب شهيد" وهي قرحةٌ تصيب الإنسان داخل جَنْبه. "والمبطون شهيد، وصاحب الحريق"؛ أي: الذي أحرقته النار "شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد، والمرأة تموت بجُمع شهيد" بمعنى المجموع؛ أي: ماتت في شيء مجموع فيها غيرِ منفصل عنها من ولدٍ أو بكارة. * * * 1121 - وعن سعد - رضي الله عنه - قال: سئلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناسِ أشدُّ بلاءً؟، قال: "الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلُ، يُبْتَلَى الرجلُ على حَسَبِ دينِهِ، فإنْ كانَ في دينه صُلباً اشتدَّ بلاؤه، وإنْ كانَ في دينِه رِقَّةٌ هُوِّنَ عليه، فما زال كذلك حتى يمشيَ على الأرضِ ما لَهُ ذنبٌ"، صحيح. "وعن سعد: أنه سأل النبي عليه الصلاة والسلام: أيُّ الناس أشد بلاءً؟ قال: الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"؛ أي: الأشرف فالأشرف، والأعلى فالأعلى رتبةً ومنزلةً؛ يعني: من هو أقرب إلى الله يكون بلاؤه أشد ليكون ثوابه أكثر. "يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلباً"؛ أي شديداً "اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة"؛ أي: ضعف "هوِّن"؛ أي: سهِّل وقلِّل "عليه" البلاء؛ ليكون ثوابه أقلَّ.

"فما زال كذلك"؛ أي: أبداً يصيب الصالح البلاء، ويغفر ذنوبه بإصابته إياه "حتى يمشي على الأرض ما له ذنب، كناية عن خلاصه عن الذنب، فكأنه كان محبوساً فأُطلق وخلِّي سبيله. "صحيح". * * * 1122 - وقالت عائشة رضي الله عنها: ما أَغْبطُ أحداً بِهَوْنِ الموتِ بعدَ الذي رأيتُ من شِدَّةِ موتِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: ما أغبطُ أحداً"؛ أي: ما أفرح على أحد "بهونِ موتٍ"؛ أي: بسهولته، وما أتمنى ذلك، "بعد الذي رأيت من شدة موت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم". * * * 1123 - وقالت: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو بالموتِ وعندهُ قَدَحٌ فيه ماء وهو يُدْخِلُ يدَه في القَدَحِ ثم يمسحُ وجهه، ثم يقول: "اللهم أعنِّي على منكراتِ الموت - أو سكرات الموتِ". "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو بالموت"؛ أي: مشغول به "وعنده قدحٌ فيه ماء، وهو يدخل يده في القدح ثم يمسح وجهه ثم يقول: اللهم أعنِّي على منكرات الموت"؛ أي: شدته. "أو سكرات الموت" جمع سكرة، وهي شدة الموت. * * * 1124 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرادَ الله بعبدهِ الخيرَ عجَّل له العقوبةَ في الدنيا،

وإذا أراد الله بعبده الشرَّ أمسكَ عنه بذنبهِ حتى يوافيَه به يومَ القيامةِ". "وقال أنس: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أراد الله بعبده الخير عجَّل له العقوبة"؛ أي: الابتلاء بالمكاره "في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشر أمسك"؛ أي: أخَّر العقوبة "عنه" في الدنيا "بذنبه حتى يوافيه به"؛ أي: يجازيه بذنبه "يوم القيامة". * * * 1125 - وقال: "إنَّ عِظَمَ الجزاءِ مع عِظَم البلاءِ، وإنَّ الله عز وجل إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سَخِط فَلَهُ السُّخطُ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن عظم الجزاء"؛ أي: كثرة الثواب "مع عظم البلاء"؛ أي: يحصل بحسب كثرة البلاء. "وإن الله عز وجل إذا أحب قوماً ابتلاهم فمن رضي"؛ أي: بالبلاء وصبر عليه "فله الرضا"؛ أي: يحصل له رضاء الله ورحمته. "ومن سخِط؛ بكسر الخاء؛ أي: كره البلاء وجزع ولم يرضَ بحكم الله "فعليه السخط" من الله والغضب عليه، والرضاء والسخط يتعلقان بالقلب لا باللسان، فكثير ممن له أنينٌ من وجعٍ وشدةِ مرضٍ مع أن في قلبه الرضاءَ والتسليم بأمر الله تعالى. * * * 1126 - وقال: "لا يزالُ البلاءُ بالمؤمن أو المؤمنة في نفسِه ومالِه وولدِه، حتى يَلْقَى الله وما عليهِ من خطيئةٍ"، صحيح. "عن أبي هريرة: أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:

لا يزال البلاء بالمؤمن أو المؤمنة في نفسه وماله وولده حتى يلقى الله تعالى"؛ أي: يموت "وما عليه من خطيئة، لأنها قد زالت بسبب البلاء. "صحيح". * * * 1127 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن العبدَ إذا سَبَقَتْ له من الله منزلةٌ لم يبلغْها بعملِهِ ابتلاه الله في جسدِهِ، أو في مالِهِ، أو في ولدِهِ، ثم صبَّرَه على ذلك، حتى يُبَلِّغَهُ المنزلةَ التي سبقتْ له من الله". "عن إبراهيم السلمي، عن أبيه، عن جده أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة"؛ أي: إذا قدَّر الله له منزلةً ودرجة في الجنة "لم يبلغها"؛ أي: ذلك العبدُ تلك المنزلةَ "بعمله الصالح ابتلاه الله"؛ أي: يصيبه بلاء "في جسده أو في ولده أو في ماله، ثم صبَّره"؛ أي: أعطاه الصبر "على ذلك حتى يبلِّغه المنزلة التي سبقت له من الله". * * * 1128 - وقال: "مثَلُ ابن آدمَ وإلى جنبهِ تسعةٌ وتسعونَ منيَّةً، إنْ أخطأَته المَنايا وقعَ في الهَرَمِ حتى يموتَ"، غريب. "عن عبد الله بن شخير - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مُثِّل" بضم الميم وتشديد الثاء؛ أي: صوِّر وخُلق "ابن آدم وإلى جنبه"؛ أي: بقربه والواو للحال. "تسعة وتسعون مَنية" بفتح الميم: الموت، أراد به الكثرة دون الحصر. "إن أخطأته"؛ أي: جاوزته "المنايا": جمع منية، والمراد أسبابها من

الأمراض والعلل والجوع والغرق وغير ذلك مرة بعد أخرى. "وقع في الهرم" الذي لا دواء له، "حتى يموت". "غريب". * * * 1129 - وقال: "يَوَدُّ أهلُ العافيةِ يومَ القيامةِ حينَ يُعطَى أهلُ البلاءِ الثوابَ، لو أنَّ جلودَهم كانتْ قُرِضَتْ في الدنيا بالمقاريضِ"، غريب. "عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يود"؛ أي: يتمنى "أهل العافية في الدنيا يوم القيامة حين يعطَى أهل البلاء الثواب لو أن جلودهم كانت قرضت"؛ أي: قطعت "في الدنيا بالمقاريض": قطعةً قطعةً ليجدوا ثواباً كما وجد أهل البلاء. "غريب". * * * 1130 - عن عامر الرَّامِ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمنَ إذا أصابَهُ السَّقَمُ ثم عافاه الله كانَ كفارةً لِمَا مضى من ذُنوبهِ، وموعظةً له فيما يستقبل، وإنَّ المنافقَ إذا مَرِضَ ثم أُعْفِيَ كانَ كالبعير؛ عَقَلَهُ أهلُهُ ثم أرسلوهُ، فلم يدرِ لِمَ عقلُوه ولِمَ أرسلوهُ". "عن عامر الرام - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم عافاه الله تعالى كان كفارةً لما مضى من ذنوبه وموعظة"؛ أي: للمؤمنين "فيما يستقبل" لأنه يحصل له تنبيهٌ واعتبارٌ فيتوب، والمنافق لا يتَّعظ ولا يتوب فلا يفيده مرضه لا فيما مضى ولا فيما يستقبل.

"وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي" بمعنى عوفي، والاسم منه العافية. "كان كالبعير عقله"؛ أي: شده "أهله ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه ولم أرسلوه". * * * 1131 - عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخلتم على المريضِ فنفِّسُوا له في أجلِه، فإن ذلك لا يردُّ شيئاً ويُطَيِّبُ نفسَه"، غريب. "عن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا دخلتم على المريض فنفِّسوا"؛ أي: وسِّعوا "له في أجله" بأن يقول: يطوِّل الله عمرك، لا بأس طهور إن شاء الله، ويشفيك الله، ونحو ذلك. "فإن ذلك"؛ أي: تنفيسكم له "لا يردُّ شيئاً" من قضاء الله وقدره؛ يعني: الموت. "ويطيِّبْ نفسَه" فيخفف ما يجده من الكرب. "غربب". * * * 1132 - وقال: "مَن قَتَله بطنُه لم يُعَذِّبَ في قبرِه"، غريب. "عن سليمان بن صُرَدٍ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من قتله بطنه"؛ أي: مات من وجع بطنه "لم يعذب في قبره": لأنه كان كفارة لذنوبه لشدته. * * *

2 - باب تمني الموت وذكره

2 - باب تمنِّي المَوت وذِكْره (باب تمني الموت وذكره) مِنَ الصِّحَاحِ: 1133 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتمنَّى أحدُكم الموتَ إما محسِناً فلعلَّه يزدادَ خيراً، وإما مُسيئاً فلعله أن يستَعْتِب". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يتمنين" بنون التأكيد، وفي بعض النسخ بدونها ودون الياء بمعنى النهي، وبإثباتها أيضاً نهياً على صيغة الخبر؛ أي: لا يتمنى "أحدكم الموت" من ضر أو مكروه أصابه، وهذا لأن الحياة حكم الله عليه، وطلبُ زوال الحياة عدمُ الرضاء بحكمه. "إما" بكسر الهمزة، والأصل: إن ما، فأدغمت، فـ (ما) زائدة عوضٌ عن الفعل المحذوف؛ أي: إن كان "محسناً فلعله أن يزاد خيراً"، (لعل) هنا بمعنى عسى. "وإما مسيئاً"؛ أي: إن كان مسيئاً "فلعله أن يستعتب"؛ أي: يسترضي؛ أي: يطلب رضاء الله عنه بالتوبة. * * * 1134 - وقال: "لا يتمنَّى أحدُكم الموتَ، ولا يَدْعُ به من قبْلِ أنْ يأتيَهِ، إنه إذا مات انقطع عملُه، وإنه لا يزيدُ المؤمنَ عُمْرُهُ إلا خيراً".

"وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يتمنى أحدكم الموت ولا يدع" في أكثر النسخ بحذف الواو على أنه نهي، ووجهُ صحة عطفه على النفي من حيث إنه بمعنى النهي. "به"، أي: بالموت. "من قبل أن يأتيه إنه" بكسر الهمزة، والضمير للشأن. "إذا مات انقطع عمله، وإنه لا يزيد المؤمنَ عمرُه إلا خيراً". * * * 1135 - وقال: "لا يتمنَّيَنَّ أحدُكم الموتَ من ضُرٍّ أَصابَه، فإنْ كان لا بُدَّ فاعلاً فليقلْ: اللهمَّ أحيني ما كانت الحياةُ خيراً لي، وتَوَفَّني إذا كانت الوفاةُ خيراً لي". "عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يتمنين أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد فاعلاً؛ أي: مريداً أن يتمنى الموت. "فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيراً لي". * * * 1136 - وقال: "مَنْ أحبَّ لِقاءَ الله أحبَّ الله لقاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لقاءَ الله كرِهَ الله لقاءَهُ، والموتُ قبلَ لقاءِ الله، فقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: إنا لنَكْرَه الموتَ؟، قال: "ليس ذلكِ"، ولكنَّ المُؤمنَ إذا حضَرهُ الموتُ بُشِّرَ برِضوانِ الله وكَرامَتِهِ، فليسَ شيءٌ" أحبَّ إليه مما أَمامَه، فأحبَّ لقاءَ الله وأحبَّ الله لقاءَهُ، وإن الكافر إذا حُضره بُشِّرَ بعذابِ الله وعقوبتِه، فليس شيءٌ أكْرَهَ إليه مما

أمامَه، فكرِهَ لقاءَ الله وكرِهَ الله لقاءَهُ". "عن عبادة بن الصامت أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من أحب لقاء الله"؛ أي: المصيرَ إلى دار الآخرة "أحب الله لقاءه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه، والموتُ قبل لقاء الله" فيه بيانُ أن الموت غيرُ اللقاء، ولكنه معترض دون الغرض [المطلوب] (¬1)، فيجب الصبر عليه وتَحمُّلُ مشاقِّه ليصل بعده إلى الفوز باللقاء؛ لأنه إنما يصل إليه بالموت، وهذا يدل على أنه تعالى لا يُرى في الدنيا في اليقظة لا عند الموت ولا قبله، وعليه الإجماع. "فقالت عائشة - رضي الله عنها -: إنا لنكره الموت، قال: ليس ذاك"؛ أي: ليس الأمر كما ظننت يا عائشة "ولكن المؤمن إذا حضره الموت بشِّر برضوان الله تعالى وكرامته، فليس شيء أحب إليه مما أمامه" من المنزلة والكرامة عند الله. "فأحب لقاء الله وأحب الله لقائه" معناه أفاض عليه فضله وأكثر العطايا له. "وإن الكافر إذا حُضرَ" - على بناء المجهول - "بشر بعذاب الله وعقوبته" ذكر التبشير في العذاب للتهكم. "فليس شيء أكره إليه مما أمامه، فكره لقاء الله وكره الله لقاءه" معناه: يبعده عن رحمته ويريه نقمته. * * * 1137 - وقال أبو قَتادة - رضي الله عنه -: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُرَّ عليه بجنازةٍ قال: "مُستريحٌ أو مُستَراحٌ منه"، قالوا: يا رسول الله!، ما المُستريحُ؟ وما المُستَراحُ منه؟، قال: "العبدُ المُؤمنُ يستريح من نصَبِ الدُّنيا وأَذها إلى رحمةِ الله، ¬

_ (¬1) "المطلوب" من، "فتح الباري" (11/ 360).

والعبدُ الفاجرُ يستريحُ منه العبادُ والبلادُ والشجرُ والدَّوابُّ". "وقال أبو قتادة: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مُر عليه بجنازة فقال: مستريحٌ أو مستراحٌ منه، قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: العبد المؤمن يستريح"؛ أي: يجد الراحة "من نصب الدنيا"؛ أي: من تعبها "وأذاها"؛ أي: ذاهباً "إلى رحمة الله" "والعبد الفاجر يستريح منه"؛ أي: يخلص من شره "العباد" من جهة أنه حين فعل منكراً إذا منعوه أذاهم وإن سكتوا أذنبوا. "والبلاد والشجر والدواب" وهذا من جهةِ أن المطر يُمنع بشؤم الفاجر فينقص أغديتهم، فإذا مات ارتفع ذلك فيستريحون. * * * 1138 - عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: أخذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمِنْكَبي فقال: "كُنْ في الدُّنيا كأنكَ غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ"، وكان ابن عمرَ يقول: إذا أَمسيتَ فلا تَنْتَظِر الصَّباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظِر المَساءَ" وخُذْ من صِحَّتِكَ لمرضكَ، ومن حياتِكَ لموتِك". "عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب"؛ أي: لا تَمِلْ إليها فإنك مسافرٌ عنها إلى الآخرة فلا تتخذْها وطناً. "أو عابر سبيل" (أو) فيه للتخيير والإباحة، والأحسن أن يكون بمعنى (بل)، شبَّه النبي عليه الصلاة والسلام الناسك السالك أولاً بالغريب الذي ليس له مسكنٌ يؤويه، ثم ترقَّى وأضرب عنه بقوله أو عابر سبيل لأن الغريب قد يسكن في بلاء الغربة ويقيم فيها، بخلاف عابر السبيل القاصد للبلد الشاسع.

"وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك"؛ أي: اغتنم الصحة وأَكثِرْ من العمل الصالح في حال الصحة ليجبر ذلك ما فات من العمل في حال مرضك. "ومن حياتك لموتك"؛ أي: خذ في حال حياتك زادَ آخرتك، وهو العمل الصالح والتقوى. * * * 1139 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَمُوتَن أَحَدُكُمْ إلا وهو يُحسِنُ الظنَّ بالله". "وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله"؛ يعني: ليكن الرجل عند الموت رجاؤه غالباً على خوفه، وليظنَّ أن الله سيغفر له ذنبه وإن كان عظيماً. وهذا في الحقيقة حثٌّ على الأعمال الصالحة المُفْضية إلى حسن الظن؛ لأنه إنما يُحسن الظنَّ به من حَسُن عمله، فكأنه قال: أحسنوا أعمالكم يَحسُنْ بالله ظنُّكم، فإنه مَن ساء عمله ساء ظنه، والخوفُ والرجاء كالجناحين للسائر إلى الله تعالى لا يمكن السير بأحدهما بل بهما، لكن ينبغي أن يغلِّب الخوفَ على الرجاء في الصحة ليتدرَّج به فيها إلى تكثير الأعمال الصالحة، فإذا حان الموت وانقطع (¬1) الأعمال ينبغي أن يغلِّب الرجاء وحسن الظن بالله. * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "وانقطاع".

مِنَ الحِسَان: 1140 - عن مُعاذ بن جبَل - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ شئتُم أَنبأتُكم ما أولُ ما يقولُ الله للمؤمنينَ يومَ القيامةِ، وما أولُ ما يقولونَ له؟ "، قلنا: نعم يا رسول الله!، قال: "إن الله تعالى يقولُ للمؤمنين: هل أَحْبَبْتُم لقائي؟، فيقولون: نعم، يا ربنا، فيقولُ: لِمَ؟، فيقولون: رَجَوْنا عَفْوَك ومغفرتَك، فيقولُ: قد وجبتْ لكم مغفِرتي". "من الحسان": " عن معاذ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن شئتم أنبأتكم"؛ أي: أخبرتكم "ما أول ما يقول الله للمؤمنين يوم القيامة، وما أول ما يقولون له؟ قلنا: نعم يا رسول الله! قال: إن الله تعالى يقول للمؤمنين: هل أحببتم لقائي؟ فيقولون: نعم يا ربنا! فيقول: لم أذنبتم؟ "؛ أي: لأي شيء أذنبتم؟ "فيقولون: رجونا عفوك ومغفرتك، فيقول: قد وجبت لكم مغفرتي". * * * 1141 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكثِروا ذكْرَ هاذِمِ اللذاتِ" يعني: الموت. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أكثروا ذكر هاذم اللذات"؛ أي: الذي يكسر كل لذة وطيبٍ وعيش. "الموت" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، وبالجر عطف بيان، وبالنصب بتقدير أعني؛ يعني: اذكروه ولا تنسوه حتى لا تغفلوا عن القيامة، ولا تتركوا تهيئة زاد الآخرة. * * *

1142 - وعن ابن مَسْعود - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ ذاتَ يومٍ لأصحابه: "استحْيُوا من الله حق الحَياءِ"، قالوا: إنا نستحْيي من الله يا نبيَّ الله، والحمد لله، قال: "ليسَ ذلك، ولكن مَن استحْيى من الله حقَّ الحياء فليحفظْ الرأسَ وما وَعَى، وليحفظْ البطْنَ وما حَوَى، وليذْكر المَوتَ والبلَى، ومَن أرادَ الآخرةَ تركَ زينةَ الدنيا، فمن فعلَ ذلك فقد استحْمى من الله حق الحَياء"، غريب. "عن ابن مسعود: أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه: استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: إنا نستحي من الله يا نبي الله والحمد لله، قال: ليس ذلك"؛ أي: ليس الحياء ما تحسبونه. "ولكن من استحيى من الله حق الحياء فليحفظ الرأس"؛ أي: لا يستعمله في غير خدمة الله تعالى بأن يسجد - نعوذ بالله - لصنم أو لأحدٍ تعظيماً له، أو يصلي للرياء. "وما وعى"؛ أي: ما وعاه رأسه؛ أي: جمَعه من السمع والبصر واللسان حتى لا يستعملها إلا فيما يحل. "وليحفظ البطن"؛ يعني: لا يأكل إلا الحلال. "وما حوى"؛ أي: ما جمعه البطن من الفرج والرجلين واليدين والقلب حتى لا يستعملها في المعاصي. "وليذكر الموت والبلى، بكسر الباء: من بَلِيَ الشيء: إذا صار خلقاً متفتتاً؛ يعني: وليذكر صيرورته في القبر عظاماً بالية. "ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيى من الله حق الحياء". "غريب". * * *

1143 - وقال: "تُحفَةُ المُؤمن المَوتُ". "وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تحفة المؤمن الموت"؛ يعني: يكون الموت عند المؤمن عزيزاً؛ لأنه شيء أعطاه الله تعالى إياه، وما أعطاه الحبيب يكون عزيزاً عظيم القَدْر؛ لأنه سبب الوصول إلى ربه. * * * 1144 - وقال: "المؤمنُ يموتُ بعَرَقِ الجَبينِ". "عن بريدة الأسلمي أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: المؤمن يموت بعرق الجبين"؛ يعني: يشتد الموت على المؤمن بحيث يعرق جبينه من الشدة؛ ليمحِّص عنه ذنوبه أو ليزيد درجته. * * * 1145 - ويُروى: "موتُ الفَجْأَةِ أَخْذَةُ الأَسَفِ". "عن عبيد الله بن خالد أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: موت الفجأة أخذة الأسَف" بفتح السين: هو الغضب، وبكسرها والمد، والإضافةُ بمعنى مِن؛ أي: [هو] من آثار غضب الله؛ لأنه أخذه بغتة فلم يتركه حتى يتوب ويستعد لمعاده، ولم يُمْرِضه ليكون كفارة لذنوبه، قال تعالى: {أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] وهو خاصٌّ على الكافر لمَا روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذة الآسف للكافر". * * * 1146 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: دخل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دخل على شابٍّ وهو في

3 - باب ما يقال لمن حضره الموت

المَوت، فقال: "كيف تَجدُكَ؟ "، قال: أرجو الله يا رسولَ الله، وإني أخافُ ذُنوبي، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمعانِ في قلْبِ عبدٍ في مثْل هذا المَوطنِ إلا أعطاهُ الله ما يَرجو، وآمنَه مما يَخافُ"، غريب. "وعن أنس أنه قال: دخل النبي - عليه الصلاة والسلام - على شاب وهو في الموت، فقال: كيف تجدك؟ "؛ أي: تجد قلبك أو نفسك في الانتقال من الدنيا إلى الآخرة: راجياً رحمة الله أو خائباً منها؟ "قال: أرجو الله يا رسول الله! وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا يجتمعان"؛ أي: الرجاء والخوف "في قلب عبد في مثل هذا الموطن"؛ يعني: الموت. "إلا أعطاه الله ما يرجو، وآمنه مما يخاف". "غريب". * * * 3 - باب ما يقال لمَنْ حَضَرَهُ الموتُ (باب: ما يقال عند من حضره الموت) مِنَ الصِّحَاحِ: 1147 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقَنوا موتَاكم لا إلهَ إلا الله". "من الصحاح": " عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - وأبي هريرة - رضي الله عنه - أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لقنوا موتاكم"؛ أي: مَن قَرُبَ منكم من الموت،

سماهم موتى باعتبار المآل. "لا إله إلا الله"؛ أي: قولوا له كلمتي الشهادة. * * * 1148 - وقال: "إذا حَضَرْتم المَريضَ أو الميتَ فقولوا خَيراً، فإنَّ الملائكةَ يُؤَمِّنون على ما تقولون". "وعن أم سلمة أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً"؛ أي: ادعوا للمريض بالشفاء بقولكم: اللهم اشفه، وللميت بالرحمة والمغفرة بقولكم: اللهم اغفر له وارحمه. "فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون" فيكون دعاؤكم مستجاباً بحضور الملائكة وتأمينهم. * * * 1149 - وقالت أُم سلَمة رضي الله عنها: قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن مُسلمٍ تُصيبُه مصيبةٌ فيقولُ ما أَمَرَهُ الله به: إنا لله وإنا إليهِ راجعون، اللهم أَجِرْني في مصيبتي، وأَخْلِفْ لي خيراً منها إلا أخلَفَ الله له خيراً منها، فلمَّا ماتَ أبو سلَمة قلتُ: أيُّ المُسلمينَ خيرٌ من أبي سلَمة؟، أولُ بيتٍ هاجر إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم إنِّي قلتُها، فَأَخْلَفَ الله لي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقالت أم سلمة - رضي الله عنها -: قال: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره الله به: إنا لله وإنا إليه راجعون" هذا تفسير لقوله: (ما أمره الله). "اللهم أجرني" بهمزة الوصل؛ أي: اجعلني مأجوراً في مصيبتي.

"وأخلف لي" - بقطع الهمزة - "خيراً منها"؛ أي: عوِّضني خيراً مما فاتني في هذه المصيبة. "إلا أخلف الله له خيراً منها" في الدنيا والآخرة. "فلما مات أبو سلمة قلت: أيُّ المسلمين خير من أبي سلمة؟! " فإنه "أول بيت هاجر" مع عياله من مكة "إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ثم إني قلتها"؛ أي: الكلمة المذكورة "فأخلف الله لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: جعلني زوجته عليه الصلاة والسلام. * * * 1150 - وقالت: دخَل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلَمة وقد شقَّ بَصَرُهُ، فأَغْمَضَهُ، ثم قال: "إنَّ الروح إذا قُبضَ تَبعَه البصرُ"، فَضَجَّ ناسٌ من أهلِهِ فقال: "لا تدعوا على أنفُسِكم إلا بخيرٍ، فإنَّ الملائكة يُؤَمِّنون على ما تقولون"، ثم قال: "اللهم اغفِرْ لأبي سلمةَ، وارفع درجتَه في المهدِيين، واخلفْه في عَقِبه في الغابرين، واغفرْ لنا وله يا ربَّ العالمَين، وافسَحْ له في قبرِه نوِّرْ له فيه". "وقالت: دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أبي سلمة وقد شق بصره"؛ أي: بقي مفتوحاً. "فأغمضه ثم قال: إن الروح إذا قبض تبعه البصر"؛ يعني: ينظر إلى قابض روحه ولا يرتدُّ إليه طَرْفُه فيبقى على تلك الهيئة، فينبغي أن يُغمض لزوال فائدة الانفتاح بزوال البصر. "فضج ناس من أهله"؛ أي: رفع أقارب الميت أصواتهم بالبكاء ودعوا على أنفسهم.

"فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون"؛ أي: في دعائكم خيراً كان أو شراً. "ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين"؛ أي: اجعله في زمرة الذين هديتهم إلى الإسلام، وارفع درجته من بينهم. "واخلُفه" بهمزة الرصل وضم اللام؛ أي: كن خليفة له "في عقِبه" بكسر القاف؛ أي: في أولاده. "في الغابرين" بدل من قوله: (في عقبه)؛ أي: في الباقين برعاية أمورهم وحفظ مصالحهم. "واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح"؛ أي: وشع "له في قبره ونوِّر له فيه". * * * 1151 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ تُوفي سُجِّيَ ببُرْدِ حِبَرَةٍ. "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حين توفي سجي" بصيغة المجهول؛ أي: غطِّي وسُتر. "ببرد حِبَرة": بكسر الحاء وفتح الباء: هو الثوب اليمني، من التحبير وهو التزيين؛ أي: بُرْدٌ من برود اليمن فيه وشيٌ، فيه بيانُ أن السنة سترُ الميت من حين الموت إلى وقت الغسل بثوب خفيف. * * * مِنَ الحِسَان: 1152 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانَ آخرُ كلامِهِ لا إلَهَ إلا الله دخلَ الجنَّةَ".

"من الحسان": " عن معاذ بن جبل أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من كان آخر كلامه لا إله إلا الله" والمراد كلمتي الشهادة. "دخل الجنة" إما قبل العذاب، أو بعدُ إن عذِّب بقَدْر ذنوبه. * * * 1153 - قال: "اقرؤوا على موتاكُم يس". "وعن معقل بن يسار أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اقرؤوا على موتاكم"؛ أي: مَن حضره الموت. "يس"؛ أي: هذه السورة، والحكمة في قراءتها على المحتضَر هو أن أحوال القيامة والبعث مذكور فيها , فقراءتها تذكِّر ذلك. * * * 1154 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قبَّل عُثمانَ بن مَظْعون وهو ميِّتٌ وهو يبكي حتى سالَ دُموعُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على وجه عثمان. "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبل عثمان بن مظعون وهو ميت وهو يبكي حتى سال دموع النبي عليه الصلاة والسلام على وجه عثمان"، يعلم من هذا أن تقبيل المسلم بعد الموت والبكاءَ عليه جائز. * * * 1155 - وقالت: إن أبا بكر - رضي الله عنه - قبَّل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعدَ موته.

4 - باب غسل الميت وتكفينه

"وقالت: إن أبا بكر قبل النبي عليه الصلاة والسلام بعد موته". * * * 1156 - عن الحُصَين بن وَحْوَح: أنَّ طَلْحة بن البَراء مرِضَ، فأتاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعودُه، فقال: "إني لا أرَى طلْحةَ إلا قد حَدَثَ به الموتُ، فآذِنوني به، وعَجِّلوا، فإنه لا ينبغي لجيفةِ مسلم أن تُحْبَسَ بين ظَهْرَانيَ أهلِهِ". "عن الحصين بن وَحْوَح: أن طلحة بن البراء مرض، فأتاه النبي عليه الصلاة والسلام يعوده فقال: إني لا أرى"؛ أي: لا أظن "طلحة إلا قد حدث"؛ أي: ظهر "به الموت، فآذِنوني به"؛ أي: أخبروني بموته لأحضر الصلاة عليه. "وعجِّلوا"؛ أي: أسرعوا في غسله وتكفينه. "فإنه لا ينبغي لجيفة مسلم"؛ أيَ: لجثته. "أن تحبس بين ظهراني أهله"؛ أي: يقام بينهم على سبيل الاستظهار؛ يعني: لا يُترك الميت زماناً طويلًا لئلا يُنْتِنَ ويزيد حزن أهله عليه. * * * 4 - باب غسْلِ المَيِّت وتكفينه (باب غسل الميت وتكفينه) مِنَ الصِّحَاحِ: 1157 - قالت أُم عَطيَّة رضي الله عنها: دخلَ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نغسلُ ابنتَه فقال: "اغْسِلْنَها وِتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً، بماءٍ وسِدْرٍ، واجعلن في الآخرة كافوراً فإذا فرغتُنَّ فآذِننَّي"، فلما فرَغْنَا آذَنَّاهُ، فألقى إلينا حِقوَهُ،

وقال: "أَشْعِرْنهَا إياه". وفي روايةٍ: "ابدأنَ بميامِنِها ومواضعِ الوُضوءِ منها"، وقالت: فضفَرنا شعرَها ثلاثةَ قرونٍ فألقَيناها خلْفها. "من الصحاح": " قالت أم عطية: دخل علينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ونحن نغسل ابنته"؛ يعني: زينب زوجةَ أبي العاص بن الربيع أكبر أولاده - صلى الله عليه وسلم -، توفيت سنة ثمان من الهجرة، وقيل: أم كلثوم زوجة عثمان - رضي الله عنه -، توفيت سنة تسع من الهجرة. "فقال: اغسلنها وتراً ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً" أو أكثر من ذلك إن رأيتن، (أو) فيه للترتيب لا للتخيير، إذ لو حصل الإنقاء بالغسلة الأولى استُحب التثليث، وكُره التجاوز عنه كما في الوضوء وسائر الاغتسال، وإن حصل بالثانية أو الثالثة استُحب التخميس وإلا فالتسبيع. "بماء وسدر" استعماله في الغسل لنظافة البدن، ولأنه بارد يصلِّب الجلد. "واجعلن في الآخرة كافوراً، فإذا فرغتن فآذنَّني، بتشديد النون الأولى؛ أي: أعلمنني. "فلما فرغنا آذنَّاه "؛ أي: أعلمناه. "فألقى إلينا حقوه"؛ أي: إزاره، وأصله مَعْقِدُ الإزار سمي به الإزار للمجاورة. "فقال: أَشْعِرْنها إياه"؛ أي: اجعلنه شعاراً لها، وهو ما يلي الجسد من الثوب، والمراد به: وصول بركته عليه الصلاة والسلام إليها. "وفي رواية: ابدأن بميامنها"؛ أي: اغسلن أولاً يمينها" ومواضع الوضوء منها".

"وقالت فضفرنا"؛ أي: فتلنا "شعرها ثلاثة قرون"؛ أي: ثلاثة أقسام "فألقيناها خلفها" ولعل المراد بفتل شعرها ثلاثة قرون: مراعاةُ عادة النساء في ذلك الوقت، أو مراعاة سنة عدد الوتر كسائر الأفعال. * * * 1158 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كُفِّنَ في ثلاثةِ أثوابٍ يمانيةٍ، بيضٍ، سَحُوليةٍ، من كُرْسُفٍ، ليس فيها قَميصٌ ولا عِمامةٌ. "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كُفِّنَ في ثلاثة أثواب يمانية بيض سحولية" بضم السين وفتحها، منسوب إلى سحول قرية باليمن، وقيل: بالضم جمع سُحل، وهو الثوب الأبيض النقي. "من كرسف" وهو القطن. "ليس فيها قميص ولا عمامة"؛ يعني: السنة في الكفن ثلاثة لفائف: جمع لفافة، وهي مثل الملحفة يلف الميت فيها. * * * 1159 - وعن جابر قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كفَّن أحدكم أخاهُ فليُحْسِن كفنَه". "عن جابر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا كفَّن أحدكم أخاه فليحسّن كفنه" بتشديد السين، أي: ليختر من الثياب أنظفَها على وفق السنَّة، دون فعل المبذِّرين رياءً. * * * 1160 - وقال خبَّاب بن الأرَتِّ - رضي الله عنه -: قُتِلَ مُصْعَب بن عُمَير يومَ أُحُدٍ،

فلم نجدْ شيئاً نُكَفِّنُه فيه إلا نَمِرَةً، كنا إذا غطَّينا بها رأسَه خرَجَتْ رجلاهُ، وإذا غطَّينا رجليهِ خرجَ رأسُهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضَعُوها مما يلي رأْسَه، واجعلوا على رجليهِ من الإذْخِر". "وقال خباب بن الأرت: قتل مصعب بن عمير يوم أحد فلم نجد شيئًا نكفنه فيه إلا نَمِرة" بفتح النون وكسر الميم: شملة مخطَّطة بخطوطٍ بيضٍ في سودٍ. "كنا إذا غطينا"؛ أي: سترنا "بها رأسه خرجت رجلاه، وإذا غطينا بها رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ضعوها مما يلي"، أي: يقرب "رأسه، واجعلوا على رجليه من الإذخر" نبت عريض الورق طيِّبُ الرائحة، وهذا يدل على أن ستر جميع الميت واجبٌ. * * * 1161 - وقال عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما -: إنَّ رجلاً كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَوَقَصَتْهُ ناقتُهُ وهو محرمٌ فماتَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اغسِلُوه بماءِ وسِدْرِ، وكفِّنُوه في ثوبَيهِ، ولا تُمِسُّوهُ بطِيْبٍ، ولا تُخَمِّروا رأسَه، فإنه يُبعث يومَ القيامَة مُلَبياً". "وقال عبد الله بن عباس: إن رجلاً كان مع النبي عليه الصلاة والسلام فوقصته ناقته"؛ أي: أسقطته فدقت عنقه، وأصل الوقص: كسر العنق بالدق. "وهو محرم فمات، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه"؛ أي: في إزاره وردائه الذين لبسهما للإحرام. "ولا تمسوه بطيب" ليبقى عليه أثر الإحرام. "ولا تخمروا رأسه"؛ أي: لا تغطوه. "فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً"؛ أي: قائلًا": لبيك اللهم لبيك، ليَعْلَم الناسُ

أنه مات في حال الإحرام، ذهب الشافعي وأحمد إلى أن المحرم يكفن بلباس إحرامه ولا يُستر رأسه ولا يقرب إليه طيب، وعند أبي حنيفة ومالك يُفعل به كما يُفعل بسائر الموتى. * * * مِنَ الحِسَان: 1162 - قال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "البَسُوا من ثيابكم البَياضَ، فإنها من خير ثيابكم، وكفِّنوا فيها موتاكم، مِنْ خَيْر أكحالِكم الإثْمِد، فإنه يُنْبتُ الشَّعرَ ويَجلُو البصَرَ"، صحيح. "من الحسان": " عبد الله بن عباس أنه قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: البسوا من ثيابكم البيضَ"؛ أي: ذا البياض. "فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم، ومِن خير أكحالكم الإِثمد" بكسر الهمزة: حجر يُكتحل به. "فإنه ينبت الشعر"؛ أي: شعر الهدب، وكثرته زينة ومنفعة. "ويجلو البصر"؛ أي: يزيد في نوره. "صحيح". * * * 1163 - وعن علي - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا تَغَالَوْا في الكَفَنِ فإنه يُسلَبُ سلْباً سَريعاً". "وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:

لا تغالوا في الكفن"؛ أي: لا تبالغوا فيه. "فإنه يُسلب"؛ أي: يَبْلَى "سلباً سريعاً". * * * 1164 - عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه -: أنه لما حَضَرَهُ الموتُ دعا بثيابٍ جُدُدٍ فَلَبسَهَا، ثم قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الميتُ يُبعثُ في ثِيابهِ التي يَمُوتُ فيها". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أنه لما حضره الموت دعا بثياب جدد": جمع جديد. "فلبسها ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها، قالوا: ليس المراد كما فهمه أبو سعيد، بل المراد: أنه يبعث على ما مات عليه من عمله، والعرب قد تستعمل الثوب للعمل، للملابسة بينك وبين عملك كهي بينك وبين ثوبك. * * * 1165 - وعن عُبادة بن الصَّامِت، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "خيرُ الكَفَنِ الحُلَّة، وخيرُ الأُضحيةِ الكبشُ الأقرنُ". "وعن عبادة بن الصامت، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنه قال: خير الكَفنِ الحُلَّة": واحدة الحلل، وهي: برود اليمن، ولا تكون حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد، واختلفوا في اختيار الحلة للتكفين؛ الأكثرون على اختيار البيض؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كُفِّن في السحولية، وقال عليه الصلاة والسلام: "البسوا من ثيابكم البيض" الحديث.

5 - باب المشي بالجنازة والصلاة عليها

ويجوز أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما قال ذلك في الحلة؛ لأنها كانت يومئذٍ أيسرَ عليهم. "وخير الأضحية الكبش الأقرن"، لأنه أعظم جثة وسمناً في الغالب. * * * 1166 - عن ابن عباس قال: أمرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِقَتْلَى أُحُد أن يُنزعَ عنهم الحديدُ والجُلودُ، وأن يُدفَنُوا بدمائهم وثيابهم. "وعن ابن عباس أنه قال: أمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقتلى أحد": جمع القتيل. "أن يُنزَعَ عنهم الحديد": المراد به: السلاح والدرع. "والجلود": المراد منها ما كان معهم من الغِراءِ والكِساء الغير المتلطِّخة بالدم. "وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم": المتلطخة بالدم. * * * 5 - باب المَشْي بالجَنازة والصَّلاة علَيها (باب المشي بالجنازة والصلاة عليها) مِنَ الصِّحَاحِ: 1167 - قال رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَسرِعوا بالجنازَةِ، فإن تَكُ صالحة فخيرٌ تقدمونَها إليه، وإن تكنْ سوى ذلك فشرٌّ تضعونَه عن رقابكم".

"من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أسرعوا بالجنازة؛ فإن تك"؛ أي: الجنازة، أراد بها: الميت. "صالحة، فخيرٌ تقدمونها إليه"؛ يعني: إن كان حال ذلك الميت حسنًا طيبًا، فأسرعوا به حتى يصلَ إلى تلك الحالة الطيبة عن قريب. "وإن تك سوى ذلك، فشرٌّ تضعونه عن رقابكم". * * * 1168 - وقال: "إذا وُضعَتْ الجنازَةُ فاحتمَلَهَا الرجالُ على أعناقِهم؛ فإن كانتْ صالحةً قالت: قدِّموني، وإن كانت غيرَ صالحةٍ قالت لأهلها: يا ويلها، أين تذهبون بها!، يسمعُ صوتَها كل شيءٍ إلا الإنسان، ولو سَمعَ الإنسان لصَعِقَ"، يرويه أبو سعيد الخُدري. "عن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا وضعت الجنازة، فاحتملها الرجال على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدِّموني"؛ أي: أسرعوا إلى منزلي؛ لما يرى من حسنه. "وإن كانت غير صالحة قالت لأهلها: يا ويلها، أين تذهبون بها؟ ": لأنها ترى منزلها، وحالها غير حسن، وهذا الكلام إما الحقيقة فإنه تعالى قادر، وهو كإحيائه في القبر ليسأل، أو المجاز باعتبار ما يؤول إليه بعد الإدخال. "يسمعُ صوتها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمع الإنسات لصعق"؛ أي: مات، أو أغمي عليه. * * *

1169 - وعنه أيضًا قال: "إذا رأيتم الجنازَة فقدمُوا، فمن تَبعَها فلا يقعدْ حتى تُوضعَ". "وعنه، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا": أمر بالقيام عند رؤيتها؛ لإظهار الفزع والخوف عن نفسه، فإنه أمر عظيم، ومن لم يقم، فهو علامة غلظ قلبه وعظم غفلته، فالمراد بالقيام: تغييرُ الحال في قلبه وظاهره، لا حقيقتُهُ. "فمن تبعها، حلا يقعد حتى توضع"؛ أي: الجنازة عن أعناق الرجال، وقيل: في اللحد، وهذا النهي لاستيفاء أجر التشييع على وجه الكمال. * * * 1170 - وقال: "إنَّ الموتَ فَزَعٌ، فإذا رأيتُم الجَنازَة فقُوموا" برويه جابر. "وعن جابر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الموت فزع"؛ أي: ذو فزع وصف به للمبالغة والتأكيد. "فإذا رأيتم الجنازة فقدموا". * * * 1171 - وروي عن علي - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقومُ للجنازةِ، ثم يَقعدُ بعدَه". "ورُوي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقوم للجنازة، ثم يقعد بعد"؛ أي: يقوم إذا رآها، ثم يقعد بعد مرورها؛ ليعلم الناس أن اتباعها غير واجب، بل مستحب، أو كان يقوم لها مدة، ثم تركه،

فيكون نسخًا للوجوب المستفاد من ظاهر الأمر بالقيام. كذا قيل، والمختار: أنه غير منسوخ، فيكون الأمر بالقيام للندب، وقعوده - عليه الصلاة والسلام - لبيان الجواز؛ لعدم تعذر الجمع. * * * 1172 - قالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَنْ تَبعَ جنازةَ مسلم إيمانًا واحتسابًا وكان مَعها حتى يُصلَّى عليها ويُفْرَغَ من دَفْنِها، فإنه يَرْجِعُ من الأجرِ بقيراطيْنِ، كلُّ قيراطٍ مثل أُحُدٍ، ومن صلَّى عليها ثم رجعَ قبلَ أن تُدْفَنَ فإنه يرجعُ بقِيْراطٍ". "وكان أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من اتبع جنازة مسلم إيمانًا" بالله ورسوله، لا للرياء ولتطييب قلب أحد. "واحتساباً"؛ أي: طلبًا للثواب من الله. "وكان معها حتى يصلى عليها ويفرغَ من دفنها، فإنه يرجع من الأجر بقيراطين": القيراط قيل: نصف دانق، وقيل: نصف عُشْر دينار في الأكثر، وعند أهل الشام: جزءٌ عن أربعة وعشرين، وقد يطلق على بعض الشيء، كما هو ها هنا؛ يعني: يرجع بحصتين من جنس الأجر. "كل قيراط مثل أُحُد"؛ أي: لو صُوِّر جسمًا يكون مثل جبل أحد. "ومن صلى عليها، ثم رجع قبل أن تدفن، فإنه يرجع بقيراط". * * * 1173 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ على نعَى للناس النَّجاشِي اليومَ الذي ماتَ فيهِ، وخرجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بهم إلى المُصَلَّى، فصَفَّ بهم وكبَّر أربَعَ تكبيرات.

"عن أبي هريرة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نعى للناس النجاشيَّ"؛ أي: أخبرهم بموته "اليوم الذيَ مات فيه"، والنجاشي كان مسلمًا يكتم إسلامه من قومه الكفار، وذلك معجزة منه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان بينهما مسيرة شهر. "وخرج بهم إلى المصلى، فصفَّ بهم، وكبَّر أربع تكبيرات": ذهب الشافعي إلى جواز الصلاة على الغائب بهذا، وعند أبي حنيفة: لا يجوز، قلنا: يحتمل أن يكون حاضرًا؛ لأنه تعالى قادرٌ على أن يحضره. * * * 1174 - ورُوي: أن زيدَ بن أرقَم كبَّر على جنازة خمسًا، وقال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكَبرُها. "وروي: أن زيدًا": والمراد به: زيد بن أرقم. "كبَّر على جنازة خمسًا، وقال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يكبرها": وبه قال حذيفة، ولم يعمل به واحد من الأئمة، لكن لو كبر خمسًا لم تبطل صلاته على الأصح. * * * 1175 - وروي: أَنَّ ابن عباس - رضي الله عنهما - صلى على جنازة فقرأَ فاتِحَةَ الكتابِ فقال: لِتَعْلموا أنها سُنَّة. "وروي: أن ابن عباس - رضي الله عنهما - صلى على جنازة، فقرأ فاتحة الكتاب، وقال: لتعلموا أنها"؛ أي: قراءة الفاتحة. "سنة"؛ أي طريقة مروية عنه عليه الصلاة والسلام، وهي المقابلة للبدعة. والمراد منه: أنه متبعٌ لفعل النبي عليه الصلاة والسلام، لا أن قراءتها بعد

التكبيرة الأولى فريضة، كما قال الشافعي وأحمد. * * * 1176 - وقال عوف بن مالك: صلَّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازةٍ فحَفظتُ من دُعائه، وهو يقول: "اللهم اغفرْ له، وارحمْه، وعافهِ واعف عنه، وأكَرِمْ نزلَهُ، ووسِّع مُدْخَلَهُ، واغسلْه بالماء والثلج والبَرَدِ، ونقِّه من الخطايا كما نَقَّيتَ الثوبَ الأبيضَ من الدَّنسِ، وأبدِلْه دارًا خيراً من داره وأهلاً خيراً من أهلِه، وزوجًا خيراً من زَوجه، وأدَخِلْه الجنةَ، وقِهِ فِتْنةَ القَبرِ وعذابَ النارِ" حتى تمنيت أن أكون ذلكَ الميتَ. "وقال عوف بن مالك: صلَّى بنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على جنازة، فحفظت من دعائه وهو يقول: اللهم اغفر له، وارحمه، وعافه": أمر من (المعافاة)؛ أي: خلِّصه من المكاره. "واعف عنه، وأكرم نُزله": بضم النون وسكون الزاي وضمها، والضم أفصح، وهو: ما يهيئ للضيف من الطعام؛ أي: أحسن نصيبه من الجنة. "ووسعْ مدخله"؛ أي: قبره. "واغسله بالماء والثلج والبرد"؛ أي: طهره من الذنوب بأنواع المغفرة، كما أن هذه الأشياء أنواع المطهوات من الدنس. "ونقِّه من الخطايا، كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارًا خيراً من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة، وَقِهِ فتنة القبر"؛ أي: احفظه من فتنته، أراد بها: التحير في جواب منكر ونكير. "وعذاب النار"، وقال عوف: "حتى تمنيت أن أكون ذلك الميت"، وهذا يدل على أن الدعاء على الميت سنة. * * *

1177 - وقالت عائشة رضي الله عنها: صلَّى رسولُ الله بمكة على ابني بَيْضاءَ في المسجدِ، سُهيلٍ وأخيهِ. "وقالت عائشة رضي الله عنها: صلَّى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء في المسجد": نُسِبا إلى أمهما، واسمها: دعْد بنت الحزم، وقيل: بنت الجَحْدَم. "سهيل وأخيه": اسمه سهل، قيل: ماتا سنة تسع، فعند الشافعي: يجوز الصلاة على الميت في المسجد، وقال أبو حنيفة: تكره. * * * 1178 - وقال سَمرَة بن جُندَبٍ: صلَّيتُ وراءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عَلى امرأةٍ ماتتْ في نِفاسِها، فقامَ وسَطَها. "وقال سمرة بن جندب: صلَّيت وراء رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على امرأة ماتت في نِفاسها، فكتام النبي - عليه الصلاة والسلام - وسطها": بسكون السين، فالسنة أن يقف الإمام وسط المرأة، كأنه ستر كفلها عن القوم. * * * 1179 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بقبْرٍ دُفِنَ ليلاً فقال: "متى دُفِنَ هذا؟ "، قالوا: البارحةَ، قال: "أفلا آذَنتمُوني؟ "، قالوا: دفنَّاه في ظُلمةِ الليلِ، فكرهْنا أن نوقِظَكَ، فقامَ فَصَفَفْنَا خلفَهُ، فصلَّى عليه. "عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مرَّ بقبر دفن ليلاً، فقال: متى دُفن هذا؟ فقالوا: البارحة"؛ أي: الليلة الماضية. "فقال: أفلا آذنتموني؟ قالوا: دفناه في ظلمة الليل، فكرهنا أن نوقظك،

فقام فصففنا خلفه، فصلَّى عليه": وهذا يدل على أن الدفن في الليل جائز؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - لم ينكر عليهم، وعلى أن الصلاة على القبر جائزة. * * * 1180 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن أسودَ كان يكون في المسجد يَقُمُّ المسجدَ، فماتَ فأَتى - يعني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قبرَهُ فصلَّى عليه، ثم قال: "إنَّ هذه القبورَ مَمْلُوءةٌ ظُلمةً على أهلِها، وإنَّ الله يُنَوِّرُهَا لهم بصلاتي عليهم". "وعن أبي هريرة: أن أسود": يريد: واحدًا من سودان العرب، وقيل: اسم رجل. "كان يكون في المسجد يقُمُّ": بضم القاف وتشديد الميم؛ أي: يكنسه، والقُمامة: الكناسة. "فمات، فأتى - يعني: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم - قبره، فصلى عليه، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: إن هذه القبور": المشار إليها القبور التي يمكن أن يصلي النبي - عليه الصلاة والسلام - عليها. "مملوءةٌ ظُلمةً على أهلها، وإن الله ينوِّرها لهم بصلاتي عليهم": وبهذا ذهب الشافعي إلى جواز تكرار الصلاة على الميت. قلنا: صلاته - صلى الله عليه وسلم - كانت لتنوير القبر، وذا لا يوجد في صلاة غيره، فلا يكون التكرار مشروعاً فيها؛ لأن الفرض منها يؤدَّى بمرة. * * * 1181 - وقال: "ما من مسلم يموتُ فيقومُ على جنازتهِ أربعونَ رجلًا لا يُشركونَ بالله شيئًا إلا شَفَّعَهم الله فيه".

"وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلًا لا يشركون باللهِ شيئًا، إلا شفَّعهم الله فيه"؛ أي: قَبلَ شفاعتهم في ذلك الميت. * * * 1182 - وقال: "ما من ميتٍ تُصلي عليهِ أُمَّة من المسلمين يبلغونَ مائةً، كلُّهم يشفعونَ له إلا شُفِّعُوا فيه". "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من ميت تصلي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مئة، كلهم يشفعون له، إلا شُفِّعوا فيه": علي بناء المجهول؛ أي: قُبلت شفاعتهم في ذلك الميت، والطريق في مثل الأربعين والمئة: أن يكون أقل العدد متأخرًا عن أكثر؛ لأن الله تعالى إذا ومحمد المغفرة لمعنى، لم يكنْ من سنته أن ينقص من الفضل الموعود بعد ذلك، بل يزيد عليه تفضلاً منه على عباده. * * * 1183 - وقال أنس - رضي الله عنه -: مَرُّوا بجنازةٍ فأَثْنَوا عليها خيراً، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "وَجَبَتْ"، ثم مَرُّوا بأُخرى فأَثْنَوا عليها كثراً فقال: "وَجَبَتْ"، فقالَ عمرُ: ما وَجَبَتْ؟، قال: "هذا أَثْنَيْتُم عليهِ خيراً فوجبتْ له الجنةُ، وهذا أثنيتُم عليه شراً فوجبت له النارُ، أنتم شُهداءُ الله في الأرض". وفي روايةٍ: "المؤمنونَ شهداء الله في الأرضِ". "وقال أنس: مروا"؛ أي: الصحابة "بجنازة فأَثنوا عليها خيراً، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: وجبت، ثم مروا بأخرى فأَثْنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقال عمر - رضي الله عنه -: ما وجبت؟ قال: هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له

الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار": والثناء بالخير والشر غيرُ موجب لجنة ولا نار، بل ذلك علامة كونه من أهلهما. وأما جزمه - عليه الصلاة والسلام - للأول بالجنة، وللثاني بالنار؛ فبإطلاعه تعالى عليه. وقيل: إن كل مؤمن مات فألهم الله الناسَ الثناءَ عليه، كان ذلك دليلاً على أنه من أهل الجنة، وأن الله تعالى شاء مغفرته، وإلا لم يكن للثناء فائدة. يؤيده ما روي: أنه - عليه الصلاة والسلام - قال حين أثنوا على جنازة: "جاء جبرائيل وقال: يا محمَّد! إن صاحبكم ليس كما يقولون: إنه كان يعلن كذا، ويُسرُّ كذا, ولكن الله صدَّقهم فيما يقولون، وغفر له ما لا يعلمون". "أنتم شهداء الله في الأرض": وإضافة الشهداء إلى الله للتشريف، ومشعرة بأنهم عند الله بمنزلةٍ في قبول شهادتهم. "وفي رواية: المؤمنون شهداء الله في الأرض". * * * 1184 - وقال عمر - رضي الله عنه -: عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما مسلم شَهِدَ له أربعةٌ بخيرٍ أَدخلهُ الله الجنةَ" قلنا: وثلاثةٌ: قال: "وثلاثة"، قلنا: واثنان؟ قال: "واثنانِ"، ثم لم نسألْه عن الواحدِ. "وقال عمر - رضي الله عنه -: قال النبي عليه الصلاة والسلام: "أيُّما مسلم شهد له أربعة بخيرٍ، أدخله الله الجنة": بفضله وبسبب خيره وصلاحه، وربما يكون له ذنب، فيغفر الله ذنبه، ويدخله الجنة؛ لتصديق ظنِّ المؤمنين في كونه صالحًا. "قلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة، قلنا: واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن الواحد": قيل: يحتمل أن يريد بشهادتهم: صلاتهم عليه ودعائهم وشفاعتهم

له، فيقبل الله ذلك. * * * 1185 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبوا الأَمواتَ، فإنهم قد أَفْضَوا إلى ما قَدَّموا". "عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضَوا إلى ما قدَّموا"؛ أي: وصلوا إلى جزاء ما عملوا، وأما ثناء الشر في الحديث المتقدم فيحتمل أن يكون قبل ورود النهي، أو النهي في شأن غير الكفرة؛ المنافقين والمظاهرين بفسق وبدعة، وأما هؤلاء فلا يحرم ذكرهم بالشر بعد موتهم؛ تحذيرًا من طرائقهم والتخلق بأخلاقهم. * * * 1186 - وعن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يجمعُ بين الرَّجُلينِ مِنْ قتلى أُحُدٍ في ثوبٌ واحدٍ، ثم يقولُ: "أيُّهم أكثرُ أخذاً للقرآن؟ "، فإذا أُشيرَ له إلى أحدٍ قَدَّمَهُ في اللَّحدِ، وقال: "أنا شهيدٌ على هؤلاء يومَ القيامةِ"، وأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ بدمائِهم، ولم يصل عليهم ولم يُغسلوا. "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يجمع بين الرجلين من قتلى أُحُدٍ في ثوب": يريد به: قبرًا واحداً؛ لا أنها مجردان عن الثياب بحيث تلاقي بشرة أحدهما بشرة الآخر، فإنه غير جائز، بل كان على كل منهما ثيابه، ولكن أضجع كلًا منهما بجنب الآخر في قبر واحد. "ثم يقول: أيهم أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدٍ قدَّمه في اللحد"؛ أي: جانب القبلة.

"وقال: أنا شهيد على هؤلاء"؛ أي: أشهد لهم "يوم القيامة"؛ فإنهم بذلوا أرواحهم في سبيل الله تعالى، وقيل: تعدية شهيد بـ (على) لتضمينه معنى: رقيب وحفيظ؛ أي: أنا حفيظ عليهم، أراقب أحوالهم، وأصونهم من المكاره، شفيع لهم. "وأمر بدفنهم بدمائهم، ولم يصلِّ عليهم، ولم يغسلوا": يدل على أن الشهداء لا يغسلون، ولا يصلى عليهم، وبه قال الشافعي، وعند أبي حنيفة: يصلى عليهم. * * * 1187 - قال جابر بن سَمُرَة - رضي الله عنه -: أُتِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بفرسٍ مُعْرَوْرًى فركبه حين انصرفَ من جنازةِ ابن الدَّحْدَاحِ ونحنُ نمشي حوله. "وقال جابر بن سَمُرة: أُتِيَ النبي عليه الصلاة والسلام" بصيغة المجهول "بفرس مُعْرَوْرًى"؛ أي: مجرد عن السرج والأداة. "فركبه حين انصرف من جنازة ابن الدَّحْداح، ونحن نمشي حوله": يدل على جواز الركوب عند الانصراف من الجنازة. * * * مِنَ الحِسَان: 1188 - عن المُغيرة بن زياد - رضي الله عنه - يقال: إنه رفعَهُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الراكبُ يسيرُ خلفَ الجنازةِ، والماشي يمشي خلفَها وأمامَها، وعن يمينِها وعن يسارِها قريبًا منها، والسِّقْط يُصلَّى عليه ويُدْعَى لوالدَيْهِ بالمغفرةِ والرحمةِ". "من الحسان": " عن المغيرة بن شعبة: أنه رفعه"؛ أي: المغيرة الحديثَ "إلى النبي

- عليه الصلاة والسلام - قال: الراكب يسير خلف الجنازة، والماشي يمشي خلفها وأمامها وعن يمينها ويسارها قريباً منها، والسقط يصلى عليه": وهذا مذهب الشافعي، وعند أبي حنيفة: إن استهلَّ حين انفصل عن أمه يصلَّى عليه، وإلا فلا. وقال أحمد: إن كان له أربعة أشهر وعشرًا في البطن، ونفخ فيه الروح، يصلَّى عليه. "ويُدعَى لوالديه بالمغفرة والرحمة". * * * 1189 - عن الزُّهري، عن سالم، عن أبيه قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمرَ يمشونَ أمامَ الجنازةِ. ورواه بعضهم مرسلاً. "عن الزهريّ، عن سالم، عن أبيه" عبد الله بن عمر "قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه ويلم وأبو بكر وعمر يمشون أمام الجنازة": وهذا يدل على أن المشي قُدامها أفضل، وبه قال الشافعي، وذلك لأن الماشين معها شفاء إلى الله، والشفيعُ يمشي قُدَّام المشفوعِ له. "ورواه بعضهم مرسلاً"؛ أني: يشير إسناده بقوي. * * * 1190 - وعن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجَنازةُ متبوعة، ولا تَتْبَعُ"، وإسناده مجهول. "وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام: الجنازة متبوعة"؛ يعني: يُمشى خلفها.

"ولا تتبعُ"؛ أي: الجنازةُ الناسَ، وبه قال أبو حنيفة، والحكمة في ذلك: لينظر الناس إليها، فينتبهوا عن نوم الغفلة، ويعتبروا بها. "إسناده مجهول". * * * 1191 - وقال: "مَنْ تَبعَ جَنازَةً وحَمَلَها ثلاثَ مراتٍ فقد قَضَى ما عليهِ من حَقِّها"، غريب. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من تبع جنازة وحَمَلَها"؛ يعني: يعاونُ الحاملين في الطريق، ثم ينزلها ليستريح، ثم يحملها في بعض الطريق، يفعل ذلك "ثلاث مرات، فقد قضى ما عليه من حقها": من جهة المعاونة، لا من دَينٍ وغِيبةٍ ونحوهما. "غريب". * * * 1192 - وروي: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حملَ جنازَة سَعْدِ بن مُعاذٍ بين العَمُودَين. "وروي أن النبي - عليه الصلاة والسلام - حمل جنازةَ سعدِ بن معاذ بين العمودين": بأن يحملها ثلاثة، يقف أحدهم قُدَّامها بين العمودين، واثنان خلفها، يضع كلّ واحد منهما عموداً على عاتقه، وهذا عند حملها من الأرض، ثم لا بأسَ بأن يعاونهم من شاء كيف شاء، وبهذا قال الشافعي، وعند أبي حنيفة التربيع أفضل، وهو: أن يحملها أربعة بأن يأخذ كل واحد عموداً. * * * 1193 - وروي عن ثَوبانَ أنه قال: خرجنا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في جنازةٍ، فرأى

ناساً، ركبانًا فقال: "ألا تستَحْيُون؟، إنَّ ملائكةَ الله على أقدامِهم وأنتم على ظُهورِ الدوابِّ" ووقفه بعضهم على ثَوبان. "وروي عن ثوبان أنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جنازة، فرأى ناسًا رُكباناً، فقال: ألا تستحيون؟ إن ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدواب": فالمشي ركبانًا خلف الجنازة مكروه؛ لأنه تنعمٌ وتلذذٌ، وهذا غير لائقٍ في مثل هذه الحالة، إلا إذا كان الشخص ضعيفًا. "ووقفه بعضهم على ثوبان". * * * 1194 - وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ على الجنازةِ بفاتِحَةِ الكتابِ. "وعن ابن عباس: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قرأ على الجنازة بفاتحة الكتاب": وبه قال (¬1) الشافعي. 1195 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا صلَّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء". "وعن أبي هريرة، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: إذا صلَّيتم على الميت فأخلصوا له الدعاء"؛ أي: ادعوا دعاء بالاعتقاد. 1196 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى على جنازةِ قال: "اللهم اغفر لِحَينا ومَيتِنَا، وشاهِدنا وغائِبنا، وصغيرِنا وكبيرِنا، وذكرِنا وأُنثانا، اللهم مَن أحييتَه منا فأَحْيهِ على الإِسلام، ومن توفيتَه منا فتوفَّه ¬

_ (¬1) في "م": "إليه ذهب".

على الإيمان" اللهم لا تحرِمْنا أجرَهُ، ولا تَفتِنا بعدَه واغفر لنا وله". "وعن أبي هريرة: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا صلَّى على الجنازة قال: اللهم اغفر لحينا وميتنا، وشاهدنا"؛ أي: حاضرنا. "وغائبنا، وصغيرنا وكبيرنا": واستغفاره - عليه الصلاة والسلام - للصبيان هو من ذنوب قُضيت لهما؛ أي: يصيبوها بعد البلوغ. "وذكرنا وأُنثانا، اللهم من أحييته منا، فأحيِهِ على الإِسلام، ومن توفيته منا، فتوفَّهُ على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره"؛ أي: أجر الإيمان. "ولا تضلَّنا بعده"، وفي بعض النسخ: (ولا تفتنا)؛ أي: لا تلقي علينا الفتنة بعد الإيمان, والمراد بها هنا: خلاف مقتضى الإيمان. * * * 1197 - وعن وَاثِلة بن الأسَقَع قال: صلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على رجلٍ من المسلمين فسمعتُه يقول: "اللهم إنَّ فلانَ بن فلانٍ في ذِمَّتِكَ، وحبلِ جِوَارِكَ، فَقِهِ من فتنةِ القبرِ وعذاب النار، وأنت أهلُ الوفاء والحقِّ، اللهم اغفرْ له وارحَمْهُ، إنَّك أنت الغفورُ الرحيمُ". "وعن واثلة بن الأسقع أنه قال: صلَّى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على رجل من المسلمين، فسمعته يقول: اللهم إن فلان بن فلان في ذمَّتك، وحبلِ جِوارك": الذمة: الأمان، والحبل: العهد؛ أي: في كنف حفظك، وفي عهد طاعتك. قيل: كان من عادة العرب إذا سافر أحدهم أخذ عهدًا من سيدِ كلِّ قبيلة، فيأمن ما دام في حدودها حتى ينتهي إلى الآخر، فيأخذ مثل ذلك، فهذا حبلُ الجِوارِ.

وقيل: أي: في وسيلة قربك، وهو الإيمان أو القرآن. "فَقِهِ"؛ أي: احفظه "من فتنة القبر وعذاب النار، وأنت أهل الوفاء والحق، اللهم اغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم". * * * 1198 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اذكُروا مَحاسِنَ موتَاكم، وكُفُّوا عن مَساوئهم". "وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اذكروا محاسن موتاكم": جمع (حُسن) على غير القياس. "وكفوا عن مساوئهم": جمع (شوء) أيضًا؛ أي: اتركوها. * * * 1199 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنه صلَّى على جنازةِ رجلٍ فقامَ حِيال رأسِه، ثم جاؤوا بجنازةِ امرأةٍ فقامَ عندَ حِيالِ وسطِ السَّرير، فقيلَ له: هكذا رأيتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قامَ على الجنازةِ مَقَامَكَ منها، ومِن الرجلِ مَقَامَكَ منه؟، قال: نعم. "وعن أنس: أنه صلَّى على جنازة رجل، فقام حِيالَ رأسه"؛ أي: إزاءه. "ثم جاؤوا بجنازة امرأة، فقام حيال وسط السرير، فقيل له: هكذا رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام على الجنازة مقامك منها، ومن الرجل مقامك منه؟ قال: نعم". * * *

6 - باب دفن الميت

6 - باب دَفْن الميِّت (باب دفن الميت) مِنَ الصِّحَاحِ: 1200 - قال سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - في مرضه: ألحِدُوا لي لَحْداً، وانصِبوا عليَّ اللَّبن نصباً كما صُنِعَ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "من الصحاح": " قال سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - في مرضهِ: أَلحِدُوا لي لحداً، وانصِبوا على اللَّبن نصباً، كما صُنِعَ برسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: جُعِل اللحد، ونصب اللبن علي قبره عليه الصّلاة والسلام، فيكون سنة بإجماع الصحابة - رضي الله عنهم -. * * * 1201 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: جُعِلَ في قبْرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء. "وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: جُعِلَ في قبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطيفة حمراء": نوع من الكساء له قيمة، قيل؛ إنما جُعِل ذلك في قبره عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كان يستعملها فراشا، فخُشِي أن يستعملها أحدٌ، فيكون إساءةً في الأدب. وقيل: ذلك كان خصائصه عليه الصلاة والسلام، وقد جاء في الخبر: أن الأنبياء أحياء في قبورهم، فيعامل في قبره معاملةَ الأحياء. * * *

1202 - وعن سُفيان التَّمَّار: أنه رأى قبرَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسَنماً. "وعن سفيان التَّمَّار: أنه رأى قبر النبي - عليه الصلاة والسلام - مسنمًا"؛ أي: مرتفعاً على هيئة السنام غير مسطح، فالسنةُ في القبر التسنيم، وبه قال أبو حنيفة، وذهب الشافعيّ إلى التسطيح، وهو: أن يُجعل مثل سرير. * * * 1203 - وقال علي - رضي الله عنه - لأبي الهيَّاج الأَسَدي: ألا أبعثُكَ على ما بَعَثَني عليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أن لا تدع تِمثالاً إلا طمستَه، ولا قبراً مُشْرِفاً إلا سوَّيتَه. "وقال علي - رضي الله عنه - لأبي الهياج الأسَدي: ألا أبعثك على ما بَعَثَني عليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؟ "؛ أي: ألا أرسلك إلى الأمر الذي أرسلني - عليه الصلاة والسلام - له؛ يعني: ألا أجعلك أميرًا عليه؟ "أن لا تدع تمثالاً"؛ أي: لا تترك صورة وشكلًا يشبه شكلَ الحيوان. "إلا طمسته"؛ أي: محوته وأبطلته. "ولا قبراً مُشرِفاً"؛ أي: عاليًا مرتفعا عن الأرض بالبناء عليه. "إلا سويته"؛ أي: أزلت ارتفاعه حتى يرجع إلى قدر شبر، وقد أباح السلف البناء على قبور العلماء المشهورين والمشايخ المعظمين؛ ليزورها الناس، ويستريحوا إليها بالجلوس. * * * 1204 - وقال جابر - رضي الله عنه -: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجصَّصَ القبرْ، وأن يُبنى عليه، وأن يُقعدَ عليه. "وقال جابر - رضي الله عنه -: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يجُصَّص

القبر"؛ لما فيه نوع من الزينة. "وأن يبنى عليه"؛ أي: يجعل بيتا عليه؛ لما فيه من إضاعة المال من غير فائدة، ولأنه من فعل الجاهلية. "وأن يقعد عليه"؛ لما فيه من الاستخفاف للميت، وقيل: المنهي عنه القعود لبول وغائط، وقد روي عن علي - رضي الله عنه -: أنه كان يتوسد القبر، وكان ابن عمر - رضي الله عنه - يجلس عليه. * * * 1205 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تجلِسوا على القُبورِ، ولا تُصَلُّوا إليها". "وعن أبي مرثد الغنوي أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تجلسوا على القبور، ولا تصلُّوا إليها"؛ لأن فيه مشابهة الكفار. * * * 1206 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأن يجلِسَ أحدُكم على جَمْرةٍ فتحرِقَ ثيابَهُ فتَخلُصَ إلى جِلْده خير له مِن أن يجلِسَ على قبرٍ"، يرويه أبو هريرة - رضي الله عنه -. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لأنْ يجلسَ أحدكم على جمرة، فتُحرقَ ثيابه، فتخلص"؛ أي: تصلَ تلك الجمرة. "إلى جلده خيرٌ [له] من أن يجلس على قبر"؛ لأن الجلوس على القبر يوجب عذاب الآخرة، وعذاب الدنيا أهونُ من عذاب الآخرة، وقيل: المراد به: ملازمة القبور، واتخاذ المساكن فيها. * * *

مِنَ الحِسَان: 1207 - قال عروةُ: كانَ بالمدينةِ رجلانِ أحدهما يَلْحَد والآخرُ لا يَلْحَدُ، فقالوا: "أيُّهما جاءَ أولًا عَمِلَ عَمَلَه، فجاءَ الذي يَلْحَدُ، فَلَحَدَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "من الحسان": " قال عروة: كان بالمدينة رجلان أحدهما يلحد"؛ أي: يحفر القبر، ويجعل فيه اللحد، قيل: هو أبو طلحة زيد بن سهل الأنصاري من كبار الصحابة. "والآخر لا يلحد": وهو أبو عبيدة بن الجراح، ولما توفي - عليه الصلاة والسلام - اختلفت الصحابة في أن يجعل قبره مع اللحد أو لا. "فقالوا": نرسل إليهما، "أيهما جاء أولًا عَمِلَ عملَهُ، فجاء الذي يَلحَدُ، فلحد لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم": وهذا يدل على أولوية اللحد، ويتأيد بالحديث الذي بعدُ. * * * 1208 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَّحدُ لنا، والشَّقُّ لغيرنا". "عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اللحدُ لنا"؛ أي: اللحد آثر وأولى لنا. "والشقُّ لغيرنا"؛ أي: هو اختيار من كان قبلنا من أهل الأديان، وليس فيه نهى عن الشق، بل هما جائزان، ولكن اللحد أفضل. * * *

1209 - وعن هشام بن عامرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ أُحُد: "احْفِرُوا، وأَوْسِعُوا، وأَعْمِقُوا، وأَحْسِنُوا، وادفِنُوا، الاثنينِ، والثلاثةَ في قبرٍ واحدٍ، وقدِّموا أكثرَهم قرآناً". "عن هشام بن عامر: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال يوم أحد: احفروا وأوسعوا"؛ أي: اجعلوا القبر واسعًا. "وأَعمِقوا"؛ أي: اجعلوه بعيدَ القعر. "وأحسنوا"؛ أي: اجعلوه حسنًا بتسوية قعره ارتفاعا أو انخفاضا، وتنقية من التراب، وغير ذلك. "وادفنوا الاثنين والثلاثة في قبر واحد، وقدموا أكثرهم قرآناً": وهذا يدل على جواز دفن ميتٍ أكثر من واحدٍ في قبر لحاجة، وتقديم الأفضل إلى جدار اللحد؛ ليكون أقرب إلى القبلة. * * * 1210 - وقال جابر: لمَّا كانَ يومُ أحدٍ جاءتْ عَمَّتي بأبي لتدفِنَه في مقابرنا، فنادَى منادِي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُدُوا القَتْلى إلى مَضاجِعِها". "وقال جابر: لما كان يوم أُحُدٍ جاءت عمتي بأبي؛ لتدفنه في مقابرنا، فنادى منادي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رُدُّوا القتلى إلى مضاجعهم"؛ أي: ادفنوهم حيث قُتلوا, ولا تنقلوهم عنها، وكذا حكم غير الشهيد، لا ينُقَل من البلد الذي مات فيه إلى غيره، قيل: هذا كان في ابتداء أُحُدٍ، وأما بعده فلا، رُوي: أن جابرًا جاء بأبيه عبد الله المقتول في أُحُدِ بعد ستة أشهر إلى البقيع ودفنه فيها. * * *

1211 - عن عكرمة، عن ابن عباس قال: سُلَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن قِبَلِ رأسه. "عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قال: سُلَّ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم": بصيغة المجهول؛ أي: أُدخِل القبر. "من قِبَلِ رأسه": بأن وضعت الجنازة في مؤخر القبر، ثم أخرج من قبل رأسه، وأدخل القبر، وبهذا قال الشافعي. * * * 1212 - وعن عطاء، عن ابن عباس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ قبرًا ليلاً فأسْرِجَ له سراجٌ، فأخَذَ من قِبَلِ القبلةِ، وقال: "رحمكَ الله إنْ كنتَ لأوَّاهاً تلاءً للقرآن"، إسناده ضعيف. "وعن عطاء - رضي الله عنه -، عن ابن عباس: أن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - دخل قبرًا ليلاً، فأُسرِجَ له سراجٌ" على طرف القبر؛ ليضيء القبر، ويتمكن من الدفن، وهذا يدل على أن دفنه ليلاً لا يكره. "فأخذ"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - الميت "من قِبَلِ القبلة". "إن كنتَ": (إن) هذه مخففة بمعنى المشدودة؛ أي: إنك كنت. "لأوَّاهاً"؛ أي: كثير التأوُّه من خشية الله، وقيل: كثير البكاء، وقيل: كثير الدعاء. "تلاء للقرآن"؛ أي: كثير التلاوة. "إسناده ضعيف". * * *

1213 - وعن ابن عمر - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أَدْخَلَ الميتَ القبرَ قال: "بسم الله، وبالله، وعلى مِلَّةِ رسولِ الله". وفي روايةٍ: "على سُنَّةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ". "وعن ابن عمر: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا أدخل الميتَ القبرَ قال: بسم الله، وبالله، وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: سنته عليه الصلاة والسلام. "وفي رواية: وعلى سنة رسول الله". * * * 1214 - وعن جعفر بن محمَّد، عن أبيه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - حَثَى على الميتِ ثلاثَ حَثَيَاتٍ بيدَيْه جميعًا، وأنه رشَّ ماءً على قبر ابنهِ إبراهيم صلى الله عليه، ووضعَ عليه حَصباء"، مرسل. "وعن جعفر بن محمَّد، عن أبيه: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - حثا على الميت": يقال: حَثَيتُ التراب: إذا قضيته ورميته. "ثلاث حثيات"، أي: حفنات. "بيديه جميعًا": فالسنة لمن حضر على اسم، القبر أن لا يحثو التراب, ويرميه في القبر بعد نصب اللبن. "وأنه رش الماء على قبر ابنه إبراهيم، ووضع عليه حصباء": وهو الحصا، يدل على أن رش الماء على القبر سنة، وكذا وضع الحصاء عليه؛ لئلا ينبشه سبعٌ، وليكون علامة له. "مرسل". * * *

1215 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن تُجَصَّص القبورُ، وأن يُكْتَب عليها، وأن تُوطَأ - يعني بالقدم -. "وقال جابر: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن تجصَّص القبور، وأن يكتَبَ عليها": اسم الله واسم رسول الله والقرآن؛ لأنه ربما يبول عليه حيوان. "وأن تُوطَأ": بالأرجل؛ لما فيه من الاستخفاف. * * * 1216 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: رشَّ قبر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فكان الذي رَشَّ الماء على قبره بِلالُ بن رباحٍ - بِقِربةٍ بدأ من قِبَلِ رأسِه حتى انتهى إلى رجْليهِ. "وقال جابر: رُشَّ قبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكان الذي رَشَّ الماء على قبره - عليه الصلاة والسلام - بلالُ بن رباح بقربة، بدأ من قِبَلِ رأسه حتى انتهى إلى رجليه". * * * 1217 - وعن المُطَّلِبِ أنه قال: لمَّا ماتَ عثمانُ بن مَظْعون - رضي الله عنه - فدُفِنَ؛ أمَرَ النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلًا أن يأتِيَهُ بحجرٍ، فلم نستطع حملَها، فقامَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وحَسَرَ عن ذراعيهِ وحملَها، فوضَعها عندَ رأسِه وقال: "أُعَلِّم بها قبرَ أخي، وأَدْفِنُ إليه مَن ماتَ مِن أهلي". "وعن المطلب أنه قال: لما مات عثمان بن مظعون فدفن، أمر النبي - عليه الصلاة والسلام - رجلًا أن يأتيه بحجر، فلم يستطعْ حملها": تأنيث الضمير على تأويل الصخرة.

"فقام النبي عليه الصلاة والسلام، وحسر"؛ أي؛ أبعد كمَّه عن ساعده، وكشف "عن ذراعيه، وحملها، فوضعها عند رأسه، وقال: أُعلِّم بها": من الإعلام؛ أي: أعلم الناس بهذا الحجر. "قبر أخي": سماه أخًا تشريفاً له، قيل: إنه أسلم بعد ثلاثة عشر رجلًا، وهاجر مرتين، وشهد بدراً، وكان ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية، وأول من دُفِنَ بالبقيع، وأول من مات بالمدينة. "وأدفِنُ إليه"؛ أي: بقربه. "من مات من أهلي": وأول من تبعه من أهله - عليه الصلاة والسلام - إبراهيمُ، وقال - عليه الصلاة والسلام - لبنته زينب: ألحقي بسلفنا الخير عثمان ابن مظعون. وفي الحديث: دليلٌ على أن جعلَ العلامة على القبر ليعرفه الناس سنةٌ، وكذا دفن الأقارب بعضهم قريب بعض. * * * 1218 - وقال القاسمُ بن محمدٍ: دخلتُ على عائشةَ رضي الله عنها فقلت: يا أُمَّاهُ!، اكشفي لي عن قبرِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فكَشَفَتْ لي عن ثلاثةِ قُبورٍ لا مُشْرِفَةٍ ولا لاَطِئَةٍ، مبطوحةٍ ببطحاءِ العَرَصَةِ الحمراءِ، غريب. "وقال القاسم بن محمَّد بن أبي بكر الصديق هو: دخلت على عائشة رضي الله عنها، فقلت: يا أماه! اكشفي لي عن قبر النبي عليه الصلاة والسلام، فكشفت لي عن ثلاثة قبور": وهي: قبره عليه الصلاة والسلام، وقبر ضجيعيه؛ أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -. "لا مُشرفةٍ"؛ أي: لا مرتفعة غاية الارتفاع.

"ولا لاطِئةٍ"؛ أي: ولا ملتصقة بالأرض. "مبطوحةٍ"؛ أي: مسوَّاة مبسوطة على الأرض. "ببطحاء"؛ أي: برمل. "العرصةِ الحمراء": وهي اسم موضع. * * * 1219 - وقال البَراءُ بن عازبٍ - رضي الله عنه -: خَرَجْنَا مع رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازةٍ، فوجدْنا القبرَ لم يُلْحَدْ، فجلسَ مستقبَلَ القِبْلَةِ وجلسْنا معَه. "وقال البراء بن عازب: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جنازة، فوجدنا القبر لم يُلحَد، فجلس مستقبلَ القبلة، وجلسنا معه"؛ أي: إلى أن لُحِد، وهذا يدل على أنه يستحب الجلوس مستقبل القبلة إلى الفراغ من القبر، وأما عند زيارة الميت؛ فالمستحب أن يقفَ أو يجلسَ مستقبل وجهه مستدبر القبلة. * * * 1220 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَسْرُ عظمِ المَيِّتِ ككَسْرهِ حَيًّا". "عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: كسرُ عظمِ الميتِ ككسرِهِ حيًا": هذا إشارة إلى أن الميت يتألم، أو إلى أنه لا يُهانُ ميتًا، كما لا يهان حيًّا. * * *

7 - باب البكاء على الميت

7 - باب البُكاء على المَيت (باب البكاء على الميت) مِنَ الصِّحَاحِ: 1221 - قال أنس - رضي الله عنه -: دخلنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سَيْفٍ القَيْنِ - وكان ظِئراً لإبراهيمَ - فأخذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إبراهيمَ فَقَبَّلَهُ وشمَّه، ثم دخلنا عليهِ بعدَ ذلكَ، وإبراهيمُ يجودُ بنفسه، فجعلَتْ عينا رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تَذْرِفَانِ، فقالَ له عبدُ الرحمن بن عَوْفٍ: وأنتَ يا رسولَ الله؟، فقَالَ: "يا ابن عوفٍ! إنها رحمةٌ"، ثم أتبَعَها بأُخرى فقال: "إن العينَ تَدمعُ، والقلب يحزنُ، ولا نقولُ إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفِراقِكَ يا إبراهيم لَمَحْزُونون". "من الصحاح": " قال أنس: دخلنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أبي سيف": زوج أم سيف. "القين"؛ أي: الحداد. "وكان ظئراً لإبراهيم": ابن النبي عليه الصلاة والسلام, (الظئر): المربي والمرضع للطفل، يقع على الذكر والأنثى، والأصل فيه العطف، وسمي زوج المرضعة ظئراً؛ لأن اللبن منه، فصار بمثابة الأب في العطف. "فأخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إبراهيمَ فقبَّله وشمه"؛ أي: وضع أنفه ووجهه على وجهه، كمن يشمُّ رائحة، وهذا يدل على أن محبة الأطفال والترحم بهم سنة. "ثم دخلنا عليه بعد ذلك"؛ أي: بعد أيام.

"وإبراهيم يجود بنفسه": وهو يتردد في الفراش؛ لكونه في النزع والغرغرة. "فجعلت عينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تذرفان"؛ أي: تدمعان، وتجريان بالدموع. "فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت": عطف على مقدر؛ أي: الناس يبكون، وأنت "يا رسول الله تبكي"، كما يبكي غيرك؟؛ يعني: تتفجع للمصائب، وقد نهيتنا عن الجزع، وأمرتنا بالصبر على المصيبة؟ فأجاب - عليه الصلاة والسلام - بقوله: "يا ابن عوف! إنها"؛ أي: الحالة التي تشاهدها مني "رحمةٌ" ورقَةٌ على المقبوض تنبعث عمَّا هو عليه، لا ما توهَّمت من الجزع وقلة الصبر. "ثم أتبعها"؛ أي: أتبعَ النبي - عليه الصلاة والسلام - الدمعةَ الأولى "بأخرى"، وأتبع الكلمة المذكورة، وهي أنها رحمة بكلمة أخرى. "فقال: إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون": وهذا يدل على أنه إذا لم يقل بلسانه شيئًا من الندب والنياحة، وما لا يرضاه الله تعالى، فلا بأسَ بالبكاء. * * * 1222 - وقال أُسامة بن زيد: أَرْسَلَتْ ابنةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليه: إن ابنًا لي قُبضَ فأْتِنَا، فأرسلَ يُقْرِئُ السلامَ ويقول: "إنَّ للهِ ما أَخَذَ وله ما أَعْطَى، وكلُّ عندَه بأجَلٍ مسمًّى، فلتصبرْ ولتحتسبْ"، فَأَرْسَلَتْ إليه تُقْسِمُ عليه ليأتينها، فقامَ ومعَه سعدُ بن عُبادَةَ، ورجالٌ، فَرُفع إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الصبيُّ ونْفسُه تتَقَعْقَعُ، ففاضَتْ عيناهُ، فقال سعدٌ: يا رسولَ الله!، ما هذا؟، قال: "هذه رحمةٌ جعلَها الله في قُلوبِ عبادِهِ، فإنما يرحمُ الله من عبادِه الرحماءَ".

"قال أسامة بن زيد: أرسلت ابنة النبيِّ - عليه الصلاة والسلام - إليه صلى الله تعالى عليه وسلم: إن ابنًا لي قُبضَ"؛ أي: في حال القبض ومعالجة النزع. "فأتنا، فأرسل"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام - أحدًا إلى ابنته؛ ليقول لها: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم "يُقرِئ السلامَ ويقول: إن لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكلُّ شيء عنده بأجل مسمى، فلتصبرْ ولتحتسب"؛ أي: لتطلب الثواب من الله تعالى بالصبر. "فأرسلت"؛ أي: ابنة النبي - عليه الصلاة والسلام - إليه مرة أخرى. "تقسم عليه ليأتينها"؛ أي: تقول له: أقسمت عليك أن تأتيني. "فقام ومعه سعد بن عبادة ورجال، فرُفِعَ إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصبيُّ"؛ أي: وضعه أحدٌ في حجره عليه الصلاة والسلام. "ونفسه تتقعقع"؛ أي: تضطرب وتتحرك؛ لكونه في النزع. "ففاضت عيناه"؛ أي: نزل الدمع من عيني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. "فقال سعد: يا رسول الله! ما هذا"؛ أي: ما هذا البكاء منك؟ "قال: هذه"؛ أي: التبكية من رقة القلب (رحمة جعلها الله في قلوب عباده"، وهذه صفة محمودة. "وإنما يرحم الله من عباده الرُّحماء": جمع الرحيم؛ بمعنى: الراحم. * * * 1223 - وقال عبدُ الله بن عُمرَ: اشتكَى سعدُ بن عُبادَةَ شَكْوى، فأتَاهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يعودُهُ مع عبدِ الرحمن بن عَوفٍ، وسعدِ بن أبي وقَّاص، وعبدِ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنهم -، فلما دخلَ عليه وجدَه في غاشِيةٍ، فبكَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلما رَأَى القومُ

بُكاءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بَكَوا، فقال: "ألا تَسْمَعون؟، إن الله لا يُعَذِّبُ بدمعِ العينِ، ولا بحُزْنِ القْلبِ، ولكن يعذبُ بهذا - وأشار إلى لسانِهِ - أو يرحمُ، وإن الميتَ ليُعَذَّبُ ببكاءِ أهلِهِ عليه". "وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: اشتكى سعد بن عبادة شكوى"؛ أي: مرض مرضًا. "فأتاه النبي - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الله بن مسعود، فلما دخل وجده في غاشية"؛ أي: في شدة من المرض، ولم يرد به حال الموت؛ لأنه لم يمت في مرضه ذلك، بل عاش بعد النبي - عليه الصلاة والسلام - مدة، وتوفي في خلافة عمر - رضي الله عنه -. "فبكى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأى القوم بكاء النبي - صلى الله عليه وسلم -، بكوا فقال: ألا تسمعون"؛ أي: أما سمعتم؟ وأما علمتم؟ "إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا؛ وأشار إلى لسانه"؛ أي: يأثم بما يصدر من لسانه إن [كان] شراً من ندبة، أو نياحة، أو غيرهما. "أو يرحم": بهذا إن خيراً مثل أن يقول: إنالله وإنا إليه راجعون، أو يترحم عليه، أو يستغفر له. "وإن الميتَ ليعذبُ ببكاء أهله عليه": قيل: هذا محمول على ما إذا أوصى أهله أن يبكوا عليه، ويشقوا ثيابهم، ويضربوا خدودهم، كما كان يفعل أهل الجاهلية، فيكون آمراً بمعصية وراضياً بها؛ لأن الله تعالى قال: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]. * * *

1224 - وقال: "ليس منا مَن ضرَبَ الخدود، وشَق الجيوبَ، ودعا بدعَوى الجاهليةِ". "وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس منا"؛ أي: من أهل سنتنا. "من ضربَ الخدود وشقَّ الجيوب": عند المصيبة. "ودعا بدعوى الجاهلية"؛ أي: قال عند البكاء ما يقول أهل الجاهلية مما لا يجوز شرعًا. * * * 1225 - وقال: "أنا بريءٌ ممن حَلَقَ، وسَلَقَ، وخَرَقَ". "وعن أبي موسى الأشعري أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أنا بريءٌ ممن حلقَ"؛ أي: حلق الشعر عند المصيبة إذا حلَّت به، وكان من عادة العرب إذا مات لأحدهم قريب أن يحلق رأسه، كما أن عادة العجم قطع بعض شعر الرأس، وقيل: أراد به التي تحلق وجهها للزينة. "وسَلَقَ"؛ أي: صاح ورفع صوته بالبكاء والنَّوح، وقيل: السلقُ: اللطمُ والخدش. "وخَرَقَ"؛ أي: شقَّ ثوبه عند المصيبة، وكان الجميع من صنيع الجاهلية. * * * 1226 - وقال: "أربعٌ في أُمَّتي من أمرِ الجاهليةِ لا يتركُونهَن: الفخْرُ في الأَحسابِ، والطَّعنُ في الأنسابِ، والاستسقاءُ بالنُّجومِ، والنِّياحةُ". وقال: "النائحةُ إذا لم تتبْ قبلَ موتها، تُقامُ يومَ القيامَةِ وعليها سِرْبالٌ من

قَطِرَانٍ ودِرْعٌ من جَرَبٍ". "وعن أبي مالك الأشعري أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أربع"؛ أي: أربع خصال. "في أمتي من أمر الجاهلية"؛ أي: من أفعال أهلها. "لا يتركونهن": أراد أن الأمة بأسرها لا يتركونهن تركهم غيرها، بل إن تركها طائفة فعلها أُخرى. "الفخر في الأحساب"؛ أي: في شأن الأحساب: جمع حسب، وهو: ما يعده الرجل من مفاخر آبائه من الخصال المحمودة التي تكون فيه كالشجاعة والفصاحة وغيرهما، وقيل: الحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن لآبائه شرفٌ فيفضل نفسه، ويحقر غيره. "والطعن في الأنساب": وهو أن يعيب في نسب أحد، ويفضل آباءه على آبائه. "والاستسقاء بالنجوم"، أي: طلب السُّقيا عند وقوع النجوم، كما كانوا يقولون: مُطرنا بنوء كذا؛ أي: لا يجوز اعتقاد نزول المطر بسبب ذلك. "والنياحة": وهي أن يقول: واويلاه، واحزناه، وقيل: هي: الصوت التي تعد [به] المرأة خصالَ الميت. "وعنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: النائحة إذا لم تتبْ قبل موتها"؛ أي: قبل حضور موتها؛ لأن من شرط التوبة أن يتوبَ، وهو يأمل البقاء. "تقام يوم القيامة": بين أهل الموقف. "وعليها سِربالٌ"؛ أي: قميص. "من قطِران"؛ أي: - بكسر الطاء - طلاء يُطلَى به الإبل الجَرْبَى، فيحرق

بحدته وحرارته الجرب. "ودرع من جرب": خصت النائحة بهذا النوع من الوعيد؛ لأنها كانت تلبس الثياب السود في المصائب، وتجرحُ القلوب بكلماتها المبكية، وتخمشُ وجهها عندها، فألبسها الله قميصاً من قطران، ودرعًا من جرب بأن يسلط عليها، فيغطي جلدها تغطية الدرع، ويجمع لها بين حدة القطران وحرارته وحرقته وسواده ونتنه، وبين الجرب الذي لا صبرَ لها معه إلا بمزق الجلد وتقطيع اللحم؛ لتذوق وبال أمرها. * * * 1227 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بامرأةٍ تبكي عندَ قبرٍ، فقال: "اتقي الله واصْبري"، فقالت: إليكَ عَنِّي، فإنك لم تُصَبْ بمصيبَتي - ولم تعرفه - فقيلَ لها: إنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأتَتْ بابَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَلَم تَجدْ عندَه بَوابينَ، فقالت: لم أعرفْكَ، فقال: "إنما الصبرُ عند الصَّدمةِ الأُولى". "وقال أنس: مر النبي - عليه الصلاة والسلام - بامرأة تبكي عند قبر فقال "اتقي الله واصبري، قالت: إليك": اسم فعل؛ أي: تنحَّى "عني"، ولا تلمني. "فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تعرفه، فقيل لها": بعدما ذهب - صلى الله عليه وسلم -. "إنه النبي عليه الصلاة والسلام"، فندمت على ما جاوبته عليه الصلاة والسلام. "فأتت باب النبي عليه الصلاة والسلام، فلم تجد عنده بوَّابين": كما هو عادء الملوك الجبابرة. "فقالت: لم أعرفك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى"؛ أي:

الصبر المرضي المثاب عليه إنما هو عند ابتداء المصيبة ولحوق المشقة، وأما إذا طالت الأيام عليها، فيصير الصبرُ طبعاً، فلا يؤجر عليه. * * * 1228 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يموتُ لمسليم ثلاثة من الوَلَدِ فيَلِجَ النارَ إلا تَحِلَّةَ القَسَم". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يموت لمسلم ثلاثة من الولد، فيلجُ النار"؛ أي: لا يدخلها، والمعنى هنا: نفي الاجتماع لاعتبار السببية، فالتقدير: لا يجتمع موت الأولاد وولوج النار. "إلا تَحِلَّةَ القسم": استثناء من قوله: (فيلج). (تحلة) بكسر الحاء: مصدر حللت اليمين؛ أي: أبررتها، تحلة القسم: ما يفعله الحالف مما قسم عليه مقدارَ ما يكون بارًا في قسمه بأن يمر على النار بلا ضررِ منها، والقسم: {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ. . . كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم: 68 - 71]. * * * 1229 - وقال لِنِسْوَةٍ من الأنصارِ: "لا يموتُ لإحداكُنَّ ثلاثةٌ من الولد فتحتسبَهُ إلا دخلَتْ الجنةَ"، فقالت امرأة: واثنانِ يا رسول الله؟، قال: "واثنانِ". وفي روايةٍ: "ثلاثةٌ لم يبلغوا الحِنْثَ". قال ابن شُميل: معناه قبل أن يبلغوا فيُكتبَ عليهم الأثمُ.

"وعنه أنه قال قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام - لنسوة من الأنصار: لا يموت لإحداكن ثلاثة من الولد، فتحتسبه"؛ أي: تحتسب موته ثواباً عند الله بالصبر عليه، وتعتده فيما يُدَّخَرُ عند الله. "إلا دخلت الجنة، فقالت امرأة: أو اثنين يا رسول الله! قال: أو اثنين". "وفي رواية: ثلاثة لم يبلغوا الحِنْثَ"؛ أي: الحد الذي يكتب عليه الحنث، وهو الإثم. * * * 1230 - وقال: "يقولُ الله تعالى: ما لِعَبْدي المُؤمنِ عندي جزاءٌ إذا قَبَضْتُ صَفِيَّه مِن أهلِ الدنيا ثم احتسَبَهُ إلا الجنة". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يقول الله تعالى: ما"؛ أي: ليس "لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضتُ صفيَّه من أهل الدنيا": صفي الرجل: الذي يصافيه الودَّ ويخلصه له، فعيل بمعنى: فاعل أو مفعول، وقيل: إنه ولدٌ لا يكون له غيره. "ثم احتسبه"؛ أي: صبر عليه؛ طلباً للثواب من الله تعالى، وضمير المفعول للصفي. "إلا الجنة"؛ أي: ما له جزاء إلا الجنة. * * * مِنَ الحِسَان: 1231 - عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال: لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّائِحَةَ والمُستمعة.

"من الحسان": " عن أبي سعيد الخدري أنه قال: لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم النائحة والمستمعة". * * * 1232 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَجَباً للمؤمن!، إنْ أصابَهُ خيرٌ حَمِدَ الله وشَكَرَ، وإنْ أصابَتْهُ مصيبة حَمِدَ الله وصبَر، فالمؤمن يؤجر في كلِّ أمرِهِ، حتى في اللُّقمةِ يرفعُها إلى في امرأتِهِ". "وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: عجباً للمؤمن": أصله: أعجب عجبًا، فعدل من النصب إلى الرفع للثبات، كقولك: سلام عليك. "إن أصابه خير حمد الله وشكر، وإن أصابته مصيبة حمد الله وصبر": حمده عند المصيبة لعلمه بما يثاب عليه من الثواب العظيم، والثواب نعمةٌ، فحمدَ الله لذلك، يدل على أن الحمد محمود عند النعمة وعند المصيبة. "فالمؤمن يؤجر في كل أمره": من الأمور المباحة، فإنه إذا نوى به الطاعة انقلب المباح مثابًا عليه، ألا ترى أنه لو قصد بالنوم زوال الكلال والملال؛ ليقوم لصلاة الصبح عن النشاط، وبالأكل قوة بدنه؛ ليقدر على الطاعة، لكان مثابًا فيه؟! "حتى في اللقمة يرفعها إلى في امرأته"؛ أي: إلى فمها. * * * 1233 - وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ مُؤمنٍ إلا وله

بابانِ بابٌ يصعدُ منهُ عملهُ، وبابٌ ينزلُ منه رِزْقُهُ، فإذا ماتَ بَكَيَا عليه، فذلكَ قوله عز وجل: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} ". "عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من مؤمن إلا وله بابان من السماء: بابٌ يصعد منه عمله، وباب ينزل منه رزقه، فإذا مات بكيا عليه": وجه بكائهما عليه: أن الله تعالى خلق السماء والأرض لعباده من الملائكة والجن والإنس، فمن صدر منه خيرٌ تحبه السماء والأرض، وما كان من السماء والأرض مشغولاً به يبكي بفراقه؛ لانقطاع خيره منه. وأما الكافر؛ فتتأذى به السماء والأرض؛ لصدور الشر والكفر منه، فيفرحان بموته، ولا يبكيان عليه. "فذلك قوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] ". * * * 1234 - عن ابن عباس قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَن كانَ له فَرَطَانِ من أمتي أدخلَهُ الله بهما الجنةَ"، فقالت عائشةُ رضي الله عنها: فَمَن كانَ له فَرَطٌ مِن أمتِكَ؟، قال: "وَمَن كانَ له فَرَط يا مُوَفَّقة"، فقالت: فمَن لم يكن له فَرَط من أمَّتك؟، فقال: "فأنا فَرَط أمَّتي، لن يُصابوا بمِثلي"، غريب. "وعن ابن عباس: أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من كان له فَرَطان": بفتحتين، أي: ولدان لم يبلغا أوانَ الحلم، بل ماتا قبله. "من أمتي، أدخله الله تعالى بهما الجنةَ": والمعنى: أنهما يتقدمان والديهما! فيهيـ[ئان] لهمـ[ـا] في الجنة نزلاً ومنزلاً، كما يتقدم فارطُ القافلة، وهو: الذي يسبقهم، فيعيِّنُ لهم المنازل وغيرها مما يحتاجون إليه. "فقالت عائشة رضي الله عنها: فمن كان له فرط من أمتك"؛ يعني: مات

له ولد واحدٌ، فهل له هذا الثواب؟ "قال: ومن كان له فرط"؛ أي: من كان له ولد واحد، فله هذا الثواب. "يا موفَّقة": وإنما قال لها ذلك؛ لأنها قد نور الله قلبها بحسن السؤال عن أسباب المثوبات شفقةً على الأمة، ولا شك أن ذلك توفيق من الله الكريم لها، عدا ما كانت عليه من الحرص على تعلم الأحكام الشرعية، ثم تبليغها إلى الأمة، وأيُّ توفيق أبلغ من ذلك؟ "فمن لم يكن له فرط من أمتك قال: فأنا فرط أمتي لن يصابوا بمثلي"؛ أي: أنا مصيبتهم العظمى التي أصيبوا بها، فإنه - عليه الصلاة والسلام - رحمة للعالمين وأمنة لأصحابه، فأي مصيبة أعظم من فقده؟ "غريب". * * * 1235 - وقال: "إذا مات ولدُ العبدِ؛ قال الله لملائكتِهِ: قَبَضْتُم ولَد عبدي؟، فيقولونَ: نعم، فيقول قَبَضْتُم ثَمَرَةَ فؤادِهِ؟، فيقولون: نعم، فيقولُ: ماذا قالَ عبدي؟، فيقولون: حَمِدَكَ واسْتَرْجَعَ، فيقولُ الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنةِ، وسَمُّوهُ بيتَ الحمدِ". "وقال أبو موسى الأشعري: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولدَ عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول الله تعالى: قبضتم ثمرة فؤاده؟ ": قيل للولد: ثمرة الفؤاد؛ لأنه نتيجة الأب، كالثمرة نتيجة الشجرة. "فيقولون: نعم، فيقول: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك واسترجع"؛ أي: قال: إنا الله وإنا إليه راجعون.

"فيقول الله تعالى: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيتَ الحمد"؛ أي: اجعلوا اسم ذلك البيت بيت الحمد، أضاف ذلك البيت إلى الحمد الذي قاله عند المصيبة؛ لأنه يكون جزاءَ ذلك الحمد. * * * 1236 - وقال: "مَنْ عَزَّى مصاباً فله مثلُ أجرِه". "وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من عزَّى مصاباً"؛ أي: حمله على الصبر بوعد الأجر، والتعزية أن يقول: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاك، وغفر لميتك، و (العزاء) بالمد: الصبر. "فله مثل أجره"؛ أي: مثل أجر صبره به. * * * 1237 - عن أبي بَرْزَةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عَزى ثَكْلَى كُسِيَ بُرْدًا في الجنَّةِ"، غريب. "وعن أبي برزة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من عزَّى ثَكلى": وهي المرأة التي مات ولدها، أو التي لا يعيشُ لها ولد. "كُسِي برداً في الجنة". "غريب". * * * 1238 - وروي: أنّه لمَّا جاءَ نَعْيُ جَعْفرَ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اصنَعُوا لآلِ جعفرٍ طعاماً، فقد أتاهُمْ ما يَشْغَلُهم".

8 - باب زيارة القبور

"وعن عبد الله بن جعفر - رضي الله عنه - أنه لما جاء نعيُ جعفر بن أبي طالب"؛ أي: خبر موته. "قال النبي عليه الصلاة والسلام: اصنعوا لآل جعفر طعاماً؟ فقد أتاهم ما يشغلهم"؛ أي: يمنعهم عن تهيئة الطعام لأنفسهم، وهذا يدل على أنه يستحب للجيران والأقارب تهيئة الطعام لأهل المبيت. * * * 8 - باب زيارة القبور (باب زيارة القبور) مِنَ الصِّحَاحِ: 1239 - عن بُرَيْدة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نَهيتُكم عن زيارةِ القُبورِ، فزوروها، ونهيتُكم عن لُحومِ الأَضاحي فوقَ ثلاث، فأمسكوا ما بدَا لكم، ونهيتُكم عن النَّبيذ إلا في سِقَاءٍ، فاشرَبُوا في الأَسْقِيةِ كلِّها, ولا تشرَبُوا مُسْكِرًا". "من الصحاح": " عن بريدة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: نهيتكم عن زيارة القبور"؛ يعني: نهيتكم قبل هذا عن زيارتها، ثم رخَّصت لكم في زيارتها، "فزوروها". قيل: الزيارة مأذونة للرجال، وأما النساء؛ فقد روي: أنه - عليه الصلاة والسلام - لعن زوَّارات القبور. وقيل: إنه كان قبل أن يُرخِّص في زيارتها.

ومنهم من كرهها للنساء؛ لقلة صبرهن وكثرة جزعهن، وأما اتباع الجنازة؛ فلا رخصةَ لهن فيه. "ونهيتكم"؛ أي: في أول الأمر. "عن لحوم الأضاحي": جمع أضحية، وهي: المذبوح عاشر ذي الحجة وأيام التشريق للقربان، كان - صلى الله عليه وسلم - نهاهم عن أكل لحومها. "فوق ثلاث"؛ أي: ثلاث ليال، فأمرهم أن يتصدقوا بالباقي بعدها. "فامسكوا": بحذف المفعول؛ أي: لحومها. "ما بدا لكم": (ما) بمعنى المدة؛ أي: مدة ظهور الإمساك لكم، فرخَّص لهم أن يأكلوا ما بقي منها بعد الثلاث في أيِّ وقت شاؤوا، وإنما اللازمُ إعطاءُ الفقراء شيئًا منها, ولو أعطى الأغنياء جاز، لكنَّ الفقراء أولى. "ونهيتكم عن النبيذ"؛ أي: عن إلقاء التمر والزبيب ونحوهما من الحلاوى في الماء؛ ليصير حلواً. "إلا في سقاء"، فإنه جلد رقيق لا يُسخِّن الماء سريعًا، فلا يصير مسكرًا عن قريب؛ بخلاف سائر الظروف؛ فإنها تسخِّنه سريعًا، فيصير مسكرًا. "فاشربوا في الأسقية كلها, ولا تشربوا مسكراً": رخَّص لهم - عليه الصلاة والسلام -[في] شربِ النبيذ من كلِّ ظرف ما لم يصير مسكرًا. * * * 1240 - وقال أبو هُريرة - رضي الله عنه -: زارَ النبيُّ على قبرَ أُمِّه فَبَكَى وأَبكى مَنْ حَوْلَهُ، فقالَ: "استأذنتُ ربي في أنْ أستَغْفِرَ لها فلم يأذنْ لي، واستأذنتهُ في أن أزورَ قبرَها فأَذِنَ لي، فزوروا القبورَ، فإنها تذكِّرُكم الموتَ". "وقال أبو هريرة: زار النبي - عليه الصلاة والسلام - قبرَ أمه": مع أنها

كافرة؛ تعليمًا منه للأمة حقوقَ الوالدين والأقارب؛ فإنه لم يترك قضاء حقها مع كفرها. "فبكى وأبكى من حوله"؛ أي: حتى بكى الذين معه من كثرة بكائه. وهذا يدل على جواز البكاء عند حضور المقابر. "فقال: استأذنت ربي في أن أستغفرَ لها، فلم يأذنْ لي"؛ لأنها كانت كافرة، والاستغفار للكافرين لا يجوز؛ لأن الله تعالى لن يغفر لهم أبدًا. "واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي، فزوروا القبور؛ فإنها"؛ أي: القبور "تذكر الموتَ". * * * 1241 - عن بُرَيدَة - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعَلمُهم إذا خَرَجوا إلى المقابرِ: "السلامُ عليكم أهلَ الديارِ من المؤمنينَ والمُسلمينَ، وإنَّا إنْ شاءَ الله بكم لاحِقُونَ، نسأَل الله لنا ولكم العافية". وعنه في روايةٍ: "إنَّا إنْ شاء الله بكم لاحِقُون، أنتم لنا فَرَطٌ ونحن لكم تَبَعٌ، نسأل الله العافية". "وعن بُريدة - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر: السلام عليكم أهلَ الديار": سمى المقابر دارًا؛ تشبيها بدار الأحياء؛ لاجتماع الموتى فيها. "من المؤمنين والمسلمين": المراد بالمسلمين: المخلصون لوجه الله تعالى، والذين أسلموا باللسان، ولا يدخلُ الإيمان في قلوبهم، وهذا يدل على أن السلام عليهم كهو على الأحياء، وأنهم يسمعون. "وإنا إن شاء الله بكم لاحقون": قيل: معناه: لاحقون بكم في الوفاة على

الإيمان, فـ (إن) شرطية، وقيل: (إن) هنا بمعنى: (إذ)، وقيل: للتبرك كقوله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] , وقيل: للتأديب كقوله تعالى: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23، 24]. "نسأل الله لنا ولكم العافية"؛ أي: الخلاص من المكروه. فيه دليلٌ على أن مَنْ يدعو للحي والميت ينبغي أن يقدِّم دعاءَ الحي على الميت. * * * مِنَ الحِسَان: 1242 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبُورٍ بالمدينةِ، فأقْبَلَ عليهم بوجهِهِ فقالَ: "السلامُ عليكم يا أهلَ القبورِ، يغفرُ الله لنا ولكم، أنتم سلفُنا ونحنُ بالأثَرِ" وبالله التوفيق. "من الحسان": " عن ابن عباس أنه قال: مرَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - بقبور المدينة، فأقبل عليهم بوجهه فقال: السلام عليكم يا أهل القبور! يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا": من (سلف المال)، كأنه قد أسلفه، وجعله ثمنًا للأجر والثواب الذي يُجازى بالصبر عليه، وقيل: سَلَف الإنسان: مَنْ تقدمه مِنْ قرابته. "ونحن بالأثر". * * *

6 - كتاب الزكاة

6 - كِتَابُ الزَّكَاةِ

6 - كِتَابُ الزَّكَاةِ (كتاب الزكاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1243 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَ مُعاذاً إلى اليَمنِ فقال: "إنك تأتي قومًا أهلَ كتابٍ، فادعُهم إلى شهادةِ أنْ لا إله إلا الله، وأنَّ محمدًا رسولُ الله، فإنْ هُمْ أطاعوا لذلك فأَعْلِمْهُم أن الله قد فَرَضَ عليهم خمسَ صلواتٍ في اليومِ والليلةِ، فإنْ هم أَطاعوا لذلك فأَعْلِمْهم أنَّ الله قد فرض عليهم صدقةً تُؤْخَذْ مِن أغنيائهم فتُرَدُّ على فُقرائهم، فإنْ هم أَطاعوا لذلك فإيَّاكَ وكرائمَ أَموالِهِم، واتَّقِ دعوةَ المَظلومِ، فإنَّه ليسَ بينَها وبينَ الله حِجَاب". "من الصحاح": " عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث معاذاً إلى اليمن فقال: إنك تأتي قومًا أهل كتاب": يريد به؟ اليهود والنصارى. "فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا يدل على وجوب دعوة الكفار إلى الإِسلام قبل القتال، لكن هذا إذا لم تبلغهم الدعوة، أما إذا بلغتهم فغير واجبة؛ لأنه صح أن النبي - عليه الصلاة والسلام - أغار [على] بني المصطلق وهم غافلون.

"فإن هم أطاعوا لذلك": إشارة إلى شهادة أن لا إله إلا الله؛ أي: إن قبلوا الإِسلام. "فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة": يستدل به على أن الكفار غير مخاطبين بالفروع، كما ذهب إليه بعض الأصوليين. "فإن هم أطاعوا لذلك": إشارة إلى (خمس صلوات). "فأعلمهم أن الله قد فرض عليهم صدقة"؛ أي: زكاة. "تُؤخَذ من أغنيائهم": عمومه يدل على لزوم الزكاة على الطفل الغني. "فترد على فقراءهم": يدل على أنها تصرف إلى فقراء بلد المال للإضافة، ولو نقلت عنه إلى آخر كره، وتسقط بالإجماع. "فإن هم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم": جمع كريمة، وهي: خيار المال؛ أي: اتق نفسك أن تأخذ خيار أموالهم، يدل على أن ليس للساعي أخذ خيار المال إلا أن يتبرع رب المال. "واتق دعوة المظلوم": عطف على عامل (إياك) المحذوف؛ يعني: لا تظلم أحدًا بأن تأخذ ما ليس بواجب عليه، أو تؤذيه بلسانك، فإنك إن ظلمت ودعا عليك بسوء، يقبل الله دعاءه. "فإنه ليس بينها"؛ أي: بين دعوته. "وبين الله حجاب": وهذا مجاز عن سرعة القبول وعدم الرد. * * * 1244 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ صاحبِ ذَهبٍ ولا فِضةٍ لا يؤدِّي منها حقَها إلا إذا كانَ يومُ القيامةِ صُفِّحَت له صَفائحَ مِن نارٍ، فأُحمِيَ عليها في نار جهنَّم، فيُكْوَى بها جَنْبُه وجَبينُهُ وظَهْرُهُ، كلَّما بَرَدَتْ

أُعيدَتْ له في يومٍ كانَ مِقدَارَه خمسينَ ألفَ سَنَةٍ حتى يُقْضَى بينَ العبادِ، فَيَرَى سبيلهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النارِ، قال: ولا صاحبِ إبلٍ لا يُؤُدِّي منها حقَّها، ومِن حقِّها حَلْبُها يومَ وِرْدِها إلَّا إذا كانَ يومُ القيامةِ بُطِح لها بقاعٍ قَرْقَرٍ أوفَرَ ما كانت، لا يفقِدُ منها فَصِيلاً واحداً تَطؤه بأَخْفافها، وتَعَضه بأَفواهِهَا، كلَّما مَرَّ عليهِ أُولاهَا رُدَّ عليهِ أُخراها في يومٍ كانَ مِقْدَارُه خمسينَ ألفَ سنةٍ حتى يُقْضى بينَ العبادِ، فيَرَى سبيله إمَّا إلى الجنَّة وإمَّا إلى النارِ، ولا صاحبِ بقَرٍ ولا غنَمٍ لا يُؤَدِّي منْها حَقَّها إلا إذا كانَ يومُ القيامةِ بُطِحَ لها بقاعٍ قَرْقَرٍ لا يَفْقِدُ منها شيئًا ليس فيها عَقْصَاءُ ولا جَلْحَاءُ ولا عَضْبَاءُ تنطحُهُ بُقرونها، وَتَطَؤُهُ بأَظلاَفِهَا، كلَّما مَرَّ عليه أُولاها رُدَّ عليه أُخراها في يومٍ كانَ مِقدارَه خمسينَ ألفَ سنةٍ حتى يُقضَى بينَ العبادِ، فَيَرَى سبيلهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النارِ". قال: "والخيلُ ثلاثَةٌ: لِرَجُلٍ أجرٌ، ولرجلٍ سِتْرٌ، وعلى رجلٍ وِزْرٌ، فأمَّا الذي له أجرٌ: فرجلٌ ربَطها في سبيلِ الله، فأَطالَ لها في مَرْجٍ أو رَوْضَةٍ، فما أصابَتْ في طِيَلِها ذلكَ من المَرْج أو الرَّوضةِ كانَ له حَسَنَاتٍ، ولو أنه انقطعَ طِيَلُها فاسَتنَّت شَرَفاً أو شَرَفَيْنِ كانتْ آثارُها وأرواثُها حسناتٍ له؛ ولو أنها مَرَّت بنهرٍ فَشَرِبَتْ منه ولم يُردْ أنْ يسقيَها كانَ ذلك حسناتٍ له، وأمَّا الذي هي له سِترٌ: فرجلٌ ربَطها تَغَنِّيا وتَعَفُّفًا، ثم لم يَنْسَ حَقَّ الله تعالى في رِقابها ولا ظهورِها، فهي له سِتْرٌ، وأما الذي هي عليه وِزْرٌ: فرجلٌ ربطَها فخرًا ورياءً ونجواءً لأهلِ الإِسلام، فهي على ذلك وِزرٌ". وسُئلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عمر الحُمُرِ؟، فقال: "ما أُنزِلَ على فيها شيءٌ إلا هذه الآيةُ الفاذَّةُ الجامعةُ: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8]. "وعن أبي هريرة: أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:

ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقَّها": الضمير راجع إلى (الفضة) لقربها، أو أراد كل واحد منهما، و (الذهب) مؤنث؛ لأنه بمعنى: العين. "إلا إذا كان يوم القيامة صُفَّحت له": علي بناء المجهول وتشديد الفاء، ضمن فيه معنى: صُيرت. "صفائح": جمع صفيحة وهي: العريضة من حديد وغيره، نصب على أنه مفعول ثانِ؛ يعني: جعلت ذهبه وفضته كأمثال الألواح. "من نار": فإنها لفرط إحمائها في نار جهنم جُعِلت كأنها مأخوذة من نار. "فأُحميَ": على صيغة المجهول، والجار والمجرور، وهو "عليها" قائمٌ مقام الفاعل، والضمير المجرور راجع إلى (الصحائف)؛ أي: تلك الصفائح النارية تحمى مرة ثانية. "في نار جهنم"؛ ليشتد حرها. "فيكوى بها"؛ أي: تلك الصفائح. "جنبه وجبينه"؛ أي: جبهته "وظهره"، وذلك لأنه إذا رأى الفقير الطالب للزكاة أعرض عنه بوجهه، وصرف إليه جنبه، ويُعبس جبهته، فإذا بلغ في السؤال يقوم من موضعه، ويولي ظهره إليه ويذهب، فتكوف مسألة أعضاؤه التي آذى به الفقير. "كلما بردت أعيدت له"؛ يعني: كلما وصل كي هذه الأعضاء من أولها إلى آخرها، أعيدت للكي إلى أولها حتى توصل إلى آخرها، والمراد: دوام التعذيب. " {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] ": يريد به: يوم القيامة بشهادة قوله: "حتى يُقضى": يُحكم "بين العباد"؛ أي: يستمر هذا النوع من العذاب

إلى أن يقضي الله بينهم. "فيرى سبيله؛ إما إلى الجنة": إن لم يكن له ذنب سواه، أو كان ولكنه تعالى عفا عنه. "وإما إلى النار": إن كان على خلاف ذلك. "وقال عليه الصلاة والسلام: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، وكان حقها": من تبعيضية؛ أي: ومن بعض حقوقها "حلْبها": بسكون اللام. "يوم وِرْدها": الورد: الماء الذي ترد الماشية عليه، والمراد: أن يحلبها عند نوبة وردها على الماء؛ ليصيب الناس من لبنها، وخص يوم الورد؛ لاجتماعهم غالبا على المياه، وهذا على سبيل الاستحباب. وقيل: معناه: ومن حقها أن يحلبها في يوم شربها الماء دون غيره؛ لئلا يلحقها مشقة العطش ومشقة الحلب. "إلا إذا كان يوم القيامة بُطِح"؛ أي: ألقي صاحب الإبل على وجهه. "لها"؛ أي: لإبله. "بقاع"؛ أي: في مكان مستوٍ. "قرقر"؛ أي: أملس، وقيل: القرقر بمعنى القاع، ذكره للتأكيد. "أوفر": حال من المجرور في (لها)، والعامل (بطح)؛ أي: حال كونها أوفر. "ما كانت" في الدنيا؛ أي: أتم في القوة والسمن؛ ليكون أثقل وطئًا. "لا يفقد"؛ أي: لا يعدم صاحبها. "منها"؛ أي: من الإبل. "فصيلًا واحداً"؛ أي: ولد الإبل، بل يحضر جميعها، والجملة تأكيد

لقوله: (أوفر). "تطؤه"؛ أي: تضربه الإبل. "بأخفافها"؛ أي بأرجلها. "وتعضه بأفواهها"، أي: بأسنانها، وتشق جلده وتعذبه. "كلما مر عليه،"؛ أي: على صاحبها. "أولاها"؛ أي: أولى الإبل. "ردَّ عليه أخراها": قيل: فيه تحريف، لأن الرد إنما يستعمل في الأول لا في الآخر؛ لأنه تبع للأول في مروره. وفي رواية عن أبي هريرة: (كما مضى عليه أخراها ردت عليه أولاها). " {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدّي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة بُطِح له بقاع قرقرٍ، لا يفقد منها شيئاً، ليس فيها عقصاء"؛ أي: التي التوى - أي: مال - قرنها إلى خلف أذنها. "ولا جلحاء"؛ أي: التي لا قرن لها. "ولا عضباء"؛ أي: التي كسرت قرنها. "تنطحه بقرونها": النطح: الضرب بالقرن. "وتطؤه بأظلافها": جمع ظلف: وهي للبقر والغنم بمنزلة الحافر للفرس. "كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} حتى يُقضَى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار، قال: والخيل ثلاثة"؛ أي: ربطها على ثلاثة أنحاء.

"لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي [هي] له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله"؛ أي: ليجاهد الكفار على ظهرها. "فأطال لها"؛ أي: للخيل حبلها "في مرج": وهو الموضع الذي ترعى فيه، "أو روضة": شك من الراوي. "فما أصابت في طِيَلها ذلك": صفة (طيل)، وهو - بكسر الطاء وفتح الياء -: الحبل الذي يطول للدابة؛ لترعى "من المرج أو الروضة": (من) فيه بيانية. "كانت له حسنات"؛ أي: يحصل لمالكها أجر وحسنة مقدار مواضع إصابتها في ذلك الحبل؛ لأن نيته في ذلك الجهاد، وهو طاعة عظيمة. "ولو أنه"؛ أي: الضمير فيه للشأن. "انقطع طيَلها، فاستنَّت": بتشديد النون؛ أبي: عَدَت ولمزاجها نشاطها "شرفاً أو شرفين"؛ أي: شوطًا أو شوطين، وإنما سمي شرفاً لأن الدابة تعدو حتى تبلغ شرفاً من الأرض؛ أي: مرتفعًا منها، فتقف عند ذلك وقفة، ثم تعدو ما بدا لها. "كانت آثارها"؛ أي: مقدار آثارها. "وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهْرٍ": بسكون الهاء وفتحها: واحد الأنهار. "فشربت منه ولم يرد": والحال أنه لم يرد "أن يسقيها، كان ذلك"؛ أي: ما شربت منه؛ يعني: مقداره. "حسنات له": فالحاصل أنه يحصل لمالكها بجميع حركاتها وسكناتها وفضلاتها حسنات. "وأما الذي هي له ستر، فرجلٌ ربطها تغنياً"؛ أي: استغناء عن الناس، وطالباً لنتاجها.

"وتعففاً" عن السؤال؛ يعني: ليركبها عند الحاجة، ولا يسأل مركوباً من أحد. "ثم لم ينس حقَّ الله في رقابها": أراد به أداء زكاتها إذا كانت سائمة. "ولا في ظهورها": أراد به: ركوبها في سبيل الله، أو إعارتها للركوب عليها أو للفحل. (فهي له ستر): يحفظه عن السؤال والاحتياج. "وأما الذي هي عليه وزر، فرجل ربطها فخراً ورياءً"؛ أي: ليفخر بها على الفقراء، وليظهر من نفسه التكبر والعظمة. "ونواء" بكسر النون؛ أي: معاداة "لأهل الإسلام، فهي"؛ أي: تلك الخيل "على ذلك" القصد والنية "وزر" لصاحبها. "وسئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الحمر": جمع حمار؛ يعني: هل تجب فيها الزكاة؟ "فقال: ما أُنزل علي فيها شيء إلا هذه الآية الفاذة"؛ أي: المنفردة في معناها؛ يعني: ليس في القرآن آية مثلها في قلة الألفاظ وجمع معاني الخير والشر فيها. "الجامعة": سماها جامعة؛ لاشتمال اسم الخير على جميع أنواع الطاعات؛ فرائضها ونوافلها. {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}؛ أي: مقدار نملة صغيرة. {خَيْرًا يَرَهُ}؛ أي: ثوابه في الآخرة. {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8]؛ أي: عقابه في الآخرة.

1245 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن آتَاهُ الله مالاً فلَم يؤدِّ زكَاتَهُ مُثِّلَ له مالُه يومَ القيامةِ شُجاعاً أقرعَ له زَبيبتانِ، يُطَوِّقُه، ثم يأخذُ بِلِهْزِمَتَيهِ - يعني شِدقيه - يقول: أنا مالُكَ أنا كنزُك"، ثم تلا هذه الآيةَ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [آل عمران: 180]. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من آتاه الله"؛ أي: أعطاه. "مالاً، فلم يؤدِّ زكاته مثِّل له": على صيغة المجهول. "ماله يوم القيامة شُجاعاً" بالضم، قيل: وبالكسر: الحية الذكر، وقيل: الحية مطلقاً. "أقرع": وهو الذي لا شعرَ على رأسه من غاية سُمِّه. "له زبيبتان": هما النكتتان السوداوان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه، وقيل: هما الذبدتان يكونان في الشدقين. "يطوقه": على بناء المجهول؛ أي؛ يجعل ذلك الشجاع طوقاً في عنقه. "ثم يأخذ بلِهْزمتيه": بكسر اللام وسكون الهاء. "يعني: بشدقيه": والشدق: جانب الفم. "ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا هذه الآية: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 180]؛ أي: لا تظنن بخل الذين يبخلون {هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ} [آل عمران: 180]؛ أي: المال الذي منعوا زكاته بأن يجعل حية تطوق في عنق مانعها يوم القيامة، تنهشه من قرنه إلى قدمه.

1246 - وعن أَبي ذَرٍّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَا مِنْ رَجُلٍ يكونُ له إبلٌ أو بقرٌ أو غنمٌ لا يؤدي حقَّها إلا أُتِيَ بها يومَ القيامةِ أعظمَ ما يكونُ وأَسْمَنَهُ، تَطَؤُه بأخفافِها، وتنطَحُهُ بقرونها، كلَّما جازَتْ أُخراها رُدَّت عليه أُولاها حتى يُقضَى بينَ الناس". "وعن أبي ذر - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: ما من رجل يكون له إبلٌ أو بقر أو غنم لا يؤدي حقها إلا أُتي بها يوم القيامة أعظم ما يكون، وأسمنه تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، كما جازت عليه أُخراها، رُدَّت عليه أولاها حتى يُقضى بين الناس". 1247 - وعن جَريرٍ أنه قال: قال رسول الله - رضي الله عنه -: "إذا أَتاكُم المُصَدِّقُ فليَصدُرْ عنكم وهو عنكم راضٍ". "وعن جرير أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أتاكم المصَدِّق": بتخفيف الصاد وتشديد الدال: الذي يأخذ الصدقات، وهو العامل. "فليصدر"؛ أي: فليرجع. "عنكم، وهو عنكم راضٍ"؛ أي: حصلوا رضاءه. 1248 - وقال عبد الله بن أبي أَوْفَى: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وإذا أتَاه قومٌ بِصَدَقَتِهِم قال: "اللهم صَلِّ على آلِ فُلانٍ"، فأَتاهُ أَبي بصدقتِه فقال: "اللهم صلِّ على آلِ أبي أَوْفَى".

وفي رواية: إذا أتى الرجل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بصدقته فقال: "اللهم صَلِّ عليه". "وقال عبد الله بن أبي أوفى - رضي الله عنه -: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صلِّ على آل فلان، فأتاه أبي بصدقته فقال: اللهم صلِّ على آل أبي أوفى": الصلاة بمعنى: الدعاء والتبرك، قيل: تجوز على غير النبي - عليه الصلاة والسلام - كما قال الله تعالى في معطي الزكاة: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، فأما الصلاة التي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فإنها بمعنى: التعظيم والتكريم، وهي خاصة له. "وفي رواية: إذا أتى رجل النبي - عليه الصلاة والسلام - بصدقة قال: اللهم صلِّ عليه": وهذا يدل على أن المستحبَّ للساعي أن يدعوَ لمعطي الزكاة، فيقول: آجرك الله فيما أعطيت، وبارك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً. 1249 - عن أبي هريرة أنَّه قال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عُمرَ على الصَّدقةِ، فقيل: منعَ ابن جَميلٍ وخالدُ بن الوَليد والعبَّاسُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ينقِمُ ابن جَميل إلا أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسولُه؟، وأما خالدٌ فإنكم تَظلِمُونَ خالداً، قد احتبسَ أَدراعَهُ وأَعتُدَه في سبيلِ الله، وأما العبَّاسُ فهي عليَّ ومثلُها معها"، ثم قال: "يا عمرُ، أَمَا شَعرتَ أن عمَّ الرجلِ صِنْوُ أبيه". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عمر - رضي الله عنه - على الصدقة"؛ أي: بعثه لأخذ الزكاة من أرباب الأموال. "فقيل"؛ أي: فجاء أحدٌ إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقال: "منع ابن جميل وخالد بن الوليد والعباس": وهو عباس بن عبد المطلب عم رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ أي: منع هؤلاء الثلاثة الزكاة؛ أي: لم يؤدوها.

"فقال رسول الله صلى الله لعالرو عليه وسلم: ما ينقَم": بفتح القاف وكسرها؛ أي: ما يغضب. "ابن جميل": على طالب الصدقة. "إلا": كفران هذه النعمة، وهي "أنه كان فقيراً فأغناه الله ورسوله": أسند - صلى الله عليه وسلم - الإغناء إلى نفسه أيضاً؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان سبباً لدخوله في الإسلام ووجدان الغنيمة. وهذا مذمةٌ منه - عليه الصلاة والسلام - لابن جميل حيث قابل شكر نعمة الله عليه بالكفران. "وأما خالد؛ فإنكم تظلمون خالداً": بمطالبتكم إياه ما لا يلزمه، وحاله فإنه "قد احتبس أدراعه": جمع درع. "وأعتده": جمع عَتاد - بالفتح - وهو: ما يُعدُّ من الدواب وآلة الحرب؛ أي: جعلها وقفاً. "في سبيل الله": فلا يلزمه في ذلك زكاة، وهذا اعتذارٌ منه - عليه الصلاة والسلام - لخالد. وفيه دليل على جواز احتباس آلات الحرب حتى الخيل والإبل والثياب والبسط، وعلى جواز وقف المنقولات، كما قال به محمد، وعلى أنه يصح من غير إخراجه من يد الواقف. "وأما العباس؛ فهي عليَّ ومثلها معها": قيل: هذا إنشاء في التزام الزكاة عن العباس بأن يكون النبي - عليه الصلاة والسلام - أخَّر صدقة العام المتقدم عنه إلى وقت يساره؛ لحاجته إليه، والتزم - صلى الله عليه وسلم - إعطاءَ صدقة العام الذي طُولِب فيه والعام الذي قبله. "ثم قال عليه الصلاة والسلام: يا عمر! أما شعرت"؛ أي: أما علمت؟

الهمزة للاستفهام و (ما) للنفي. "أن عمَّ الرجل صنوُ أبيه"؛ أي: مثله، وهذا يؤيد معنى الإنشاء؛ لأنه وقع موقع التعليل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فهي علي". وقيل: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فهي علي" إخبار عما مضى، وهو أنه صلى الله تعالى عليه وسلم استسلف منه صدقة عامين؛ لما روي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "إنا تسلَّفنا من العباس صدقةَ عامين". وروي: "إنا تعجَّلنا"، ففيه دليل على جواز تعجيل الصدقة قبل محلِّها. 1250 - وعن أبي حمَيد السَّاعِدي قال: استعمل النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من الأَزْد يقال له: ابن اللُّتْبيَّةِ على الصدقةِ، فلمَّا قَدِمَ قال: هذا لكم وهذا أُهديَ لي، فخطبَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، فحمِدَ الله وأثنى عليه، ثم قال: "أمَّا بعدُ، فإنِّي أَستعملُ رجالاً منكم على أُمورٍ ممَّا ولاَّني الله، فيأتي أحدُهم فيقولُ: هذا لكم، وهذه هديةٌ أُهديتْ لي، فهلاَّ جلسَ في بيتِ أبيهِ أو بيتِ أمه فينظرَ أيُهدى له أم لا؟، والذي نفسي بيده لا يأخذُ أَحدٌ منه شيئاً إلا جاءَ به يومَ القيامةِ يحملُهُ على رقبَتِهِ، إنْ كان بَعيراً له رُغاءٌ، أو بقَرةً لها خُوارٌ، أو شاةً تَيْعَرُ"، ثم رفَعَ يديه حتى رأَينا عُفْرَةَ إبطَيهِ فقال: "اللهم هل بَلَّغتُ؟ "، ثلاثًا. "وعن أبي حُميد الساعدي - رضي الله عنه - أنه قال: استعمل النبي - عليه الصلاة والسلام - رجلاً من الأَزد": بفتح الهمزة: قبيلة من بطون قحطان. "يقال له: ابن اللُّتبية": اسمه عبد الله، ينسب إلى أمه ولم يُعرَف اسمها، و (اللُّتب) بالضم: بطن من العرب؛ أي: جعله عاملاً "على الصدقة، فلما قدم قال"؛ أي: الرجل لبعض ما معه من المال: "هذا لكم، وهذا أُهدي لي"؛ أي:

أعطانيه القوم هديةً. "فخطب النبي عليه الصلاة والسلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد: فإني أستعمل رجالاً منكم على أمور مما ولاني الله"؛ أي: جعلني فيه حاكماً. "فيأتي أحدهم فيقول: هذا لكم، وهذه هدية أُهديت لي، فهلا جلس"؛ أي: لِم لَم يجلس "في بيت أبيه أو بيت أمه فينظرَ": - بالنصب - جواباً لقوله: (فهلا جلس). "أيهدى له أم لا"؛ يعني: لا يجوز للعامل أن يقبل هدية؛ لأنه لا يعطيه أحد شيئا إلا لطمع أن يترك بعض زكاته، وهذا غير جائز. "والذي نفسي بيده! لا يأخذ أحدٌ منه"؛ أي: لا يسرق أحد من مال الزكاة "شيئاً، إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان"؛ أي: المأخوذ "بعيراً له رُغاء" بضم الراء: صوت البعير. "أو بقرة لها خُوار" بضم الخاء: صوت البقرة. "أو شاة تيعر"؛ أي: تصيح؛ ليعلم أهل العرصات؛ ليكون أشهر في فضيحته. "ثم رفع - صلى الله عليه وسلم - يديه حتى رأينا عُفرة إبطيه": بياض ليس بخالص أراد به: منبت الشعر من الإبطين؛ لمخالطة بياض الجلد سواد الشعر. "فقال: اللهم هل بلغت؟ "؛ أي: ما أمرتني بتبليغه أو حكم السرقة. "اللهم هل بلغت؟ ثلاثاً" كرر ذلك حجة عليهم، وتعظيماً لأمر السرقة، وحفظاً لهم في خواطرهم.

1251 - وقال: "مَن استعمَلْنَاهُ منكم على عمَلٍ، فَكَتَمَنا مَخِيطاً فما فوقَه؛ كانَ غُلُولاً يأتي به يومَ القيامةِ". "عن عدي بن عمير أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من استعملناه منكم"؛ أي: جعلناه عاملاً على عمل. "فكتمنا"؛ أي أخفى عنا. "مِخيطًا" بكسر الميم: الإبرة. "فما فوقه"؛ أي: شيئاً فوق الإبرة في الصغر. "كان" ذلك الكتمانُ "غُلولاً"؛ أي خيانة. "يأتي به"؛ أي: بما غلَّ. "يوم القيامة": تفضيحاً له، وتعذيباً عليه، قال تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]. وفي الحديث: تحريضٌ للعمال، على الأمانة وتحذير من الخيانة وإن كانت في شيء قليل. مِنَ الحِسَان: 1252 - عن ابن عباس أنه قال: لمَّا نزلتْ هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كَبُرَ ذلكَ على المسلمين فقالوا: يا نبيَّ الله، إنه كَبُرَ على أصحابكَ هذه الآية، فقال: "إنَّه ما فرضَ الزكاةَ إلا ليُطَيِّبَ ما بقيَ من أموالِكم"، فكبَّر عمرُ، ثم قال: "أنه أُخبرُكم بخيرِ ما يَكْنِزُ المرءُ؟ المرأةُ الصالحةُ، إذا نظرَ إليها تَسُرُّه، وإذا أمرَها أطاعَتْهُ، وإذا غَابَ عنها حَفِظَتْهُ".

"من الحسان": " عن ابن عباس أنه قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كبُر": بضم الباء؛ أي: شق وعظم. "ذلك على المسلمين"؛ لأنهم حسبوا أنها تمنع جمع المال وضبطه؛ قل أو كثر. "فقالوا: يا نبي الله! إنه كبر على أصحابك هذه الآية"، فأشار - عليه الصلاة والسلام - إلى أن المراد بالكنز: الامتناع عن أداء الواجب، لا الجمع والضبط مطلقاً. "فقال: إنه ما فرض الزكاة إلا ليطيب"؛ أي: ليطهرَ "ما بقي من أموالكم"؛ فإن من أدى ما وجب عليه من الزكاة فلا حرجَ في اقتناء ما بقي منها. "فَكَبَّر": بفتحات وتشديد الباء؛ أي: استبشر "عمر" برفع الإشكال وعدم الحرج المظنون في اقتناء الأموال إذا زكت؛ إذ الطباعُ رُكِز فيها حبُّ اقتنائها. وقال عمر: ما أُدِّي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما لم يؤدَّ زكاته فهو الذي ذكر الله وإن كان على وجه الأرض. "ثم قال"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام - لما رأى استبشارهم بذلك: "ألا أخبركم بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة" فإنها خير ما يدخره الرجل؛ لأن النفع فيها أكثر؛ لأنه "إذا نظر إليها سرته"؛ لحسنها وجمالها، ويحصل له منها تلذذ وكسر الشهوة ودفع الزنا، قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من تزوج فقد حصّن ثلثي دينه". "وإذا أمرها" بأمر "أطاعته"، وخدمته. "وإذا غاب عنها حفظته"؛ أي: حفظت حقَّ زوجها من بُضعها، وإنعامه عليها، وكذا بيت زوجها وماله وأولاده، فهذه منافع كثيره ديناً ودنيا لا تحصل

من كنز غيرها، ولكن مثل هذه قليلة في زماننا. 1253 - وقال: "سَيأتيكُم ركبٌ مُبَغَّضونَ، فإذا جاؤوكم فرحِّبوا بهم، فَخلُّوا بينَهم وبينَ ما يَبتغُون! فإنْ عَدَلُوا فلأِنفُسِهِم، وإنْ ظَلَمُوا فعليها، فأرضُوهم، فإنَّ تَمامَ زكاتِكم رِضاهُم، ولْيَدعوا لكُم". وفي روايةٍ: "أَرضُوا مُصَدِّقيكم"، قالوا: وإنْ ظلَمُونا يا رسولَ الله؟، قال: "أرضوا مصَدِّقيكم وإنْ ظُلِمتُم". "عن جابر بن عَتيكٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: سيأتيكم ركب": جمع راكب. "مُبغَّضون": بفتح الغين المثقلة، المراد بهم: عمَّال الزكاة وسعاتها، سماهم بذلك لما في النفس من حبِّ المال وكراهة مفارقته، فهم مبغضون طبعاً لا شرعاً إن عدلوا، وإلا فمبغضون طبعاً وشرعاً. والمراد به: أن بعض العمال قد يكونون سيئي الخلق متكبرين، فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - بالصبر على سوء خلقهم، وبالترحيب بهم (¬1) وتعظيمهم بقوله: "فإذا جاؤكم فرحبوا بهم"؛ أي: قولوا لهم: مرحباً وأهلاً. "وخلُّوا بينهم وبين ما يبتغون"؛ أي: يطلبون، يعني: لا تمنعوهم وإن ظلموكم؛ لأن مخالفتهم مخالفة السلطان. "فإن عدلوا": في أخذ الزكاة، "فلأنفسهم"؛ أي: فلهم الثواب. "وإن ظلموا": بأن أخذوا الزكاة أكثر مما وجب عَليكم، "فعليها"؛ أي: ¬

_ (¬1) في "ت" و"غ": " وبترحيبهم".

فعلى أنفسهم إثمُ ذلك الظلم، ولكم الثواب بتحمل ظلمهم. "فأرضوهم؛ فإنَّ تمامَ زكاتكم رضاهم، ولْيَدعُوا"؛ أي السعاة لكم بالخير عند إرضائكم بإيفاء الزكاة. "وفي رواية: أرضوا مصدقيكم، قالوا: يا رسول الله! وإن ظلمونا؟ قال: أرضوا مصدقيكم وإن ظُلِمتم". 1254 - وقال بشيرُ بن الخَصَاصِية: قُلنا: إنَّ أهلَ الصدقةِ يعتدونَ علينا، أفنَكْتُم مِن أموالِنا بقدرِ ما يعتَدون علينا؟، فقال: "لا". "وقال بشير بن الخَصَاصيّة": وهي أم بشير، منسوبة إلى خصاصة: حي من الأزد. "قلنا للنبي عليه الصلاة والسلام: إن أهل الصدقة يعتدون علينا"؛ أي: يجاوزون الحد؛ يعني: يأخذون أكثر مما يجب علينا. "أفنكتم من أموالنا بقدر ما يعتدون علينا، فقال: لا": وإنما لم يرخِّص لهم في ذلك؛ لأن كتمان بعض المال خيانة ومكر، ولأنه لو رخَّص لربما كتم بعضهم على عامل غير ظالم. 1255 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "العاملُ على الصدقةِ بالحقِّ، كالغازي في سبيلِ الله حتى يرجعَ إلى بيتِهِ". "عن رافع بن خَديج أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: العاملُ على الصدقة بالحق"؛ أي: العامل الذي لم يظلمُ أربابَ الأموال ولا يخون.

"كالغازي في سبيل الله": في الثواب، "حتى يرجعَ إلى بيته". 1256 - وقال: "لا جَلَبَ، ولا جَنَب، ولا تُؤخَذ صدقاتُهم إلا في دُورِهم". "وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا جَلَب": (الجَلَب): نزول العامل موضعاً بعيداً من أرباب الأموال، ويأمرهم أن يجمعوا مواشيهم عنده؛ ليأخذ زكاتهم، نُهي عن ذلك؛ لما فيه من المشقة عليه. "ولا جَنَب": (الجَنَب): التباعد، نُهي أرباب الأموال أن يبعدوا من مواضعهم المعهودة بحيث تكون مشقة على العامل في إتيانهم. "ولا تؤخذ صدقاتهم إلا في دورهم"؛ أي: في منازلهم. 1257 - وعن ابن عمر: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن استفادَ مالاً فلا زكاةَ فيهِ حتى يَحولَ عليهِ الحَولُ"، والوقْف على ابن عمرَ أَصحُّ. "وعن ابن عمر، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: من استفاد مالاً فلا زكاةَ فيه حتى يحول عليه الحول"؛ يعني: من وجد مالاً وعنده نصابٌ من ذلك الجنس، مثل أن يكون له ثمانون شاة، ومضى عليها ستة أشهر، ثم حصل له واحد وأربعون شاة بالشّراء أو بالإرث أو غير ذلك، لا تجب عليه للأحد والأربعين حتى يتمَّ حولها من وقت الشراء أو الإرث؛ لأن المستفادَ لا يكون تبعاً للمال الموجود في ملكه، وبه قال الشافعي وأحمد.

وعند أبي حنيفة ومالك: يكون المستفاد تبعاً له، فإذا لمَّ حول الثمانين، وجب الشاتان، كما أن النتاج تبعٌ للأمهات. "والوقف على ابن عمر أصح"؛ يعني: أن بعضهم يرويه عن ابن عمر، ولا يقول ابن عمر: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا أصح. 1258 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: سألَ العبَّاسُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في تعجيلِ صدَقتِه قبلَ أن تَحِلَّ، فرخَّصَ له في ذلك. "عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: سأل العباسُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم في تعجيل صدقته قبل أن تحل"؛ أي: يصير حالاً بمضي الحول. "فرخَّص له في ذلك": وهذا يدل على جواز تعجيل الصدقة بعد النصاب قبل تمام الحول. 1259 - عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ وَلِيَ يتيماً له مالٌ فَلْيتَّجر فيهِ، ولا يَتركْه حتى تأكلَه الصَّدَقَة"، ضعيف. "وعن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: من وَلِي" بفتح الواو وكسر اللام "يتيماً له مالٌ فليتَّجر فيه، ولا يتركه حتى تأكله الصدقةُ"؛ أي: يأخذ الزكاة منها، فينقص شيئاً فشيئاً، وهذا يدل عليه وجوب الزكاة في مال الصبي، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد، وعند أبي حنيفة: لا زكاة فيه. "ضعيف": قيل: ضعفه من جهة أنه يرويه ابن الصبَّاح، عن عمرو بن

2 - باب ما يجب فيه الزكاة

شُعيب، وابن الصباح ضعيف في هذا الباب. 2 - باب ما يجب فيه الزكاةُ (باب ما تجب فيه الزكاة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1260 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ فيما دونَ خمسةِ أوسُقٍ من التمرِ صدَقة، وليسَ فيما دونَ خمسِ أَوَاقٍ من الوَرِق صدَقة، وليسَ فيما دونَ خمسٍ ذَوْدٍ من الإبلِ صدقةٌ". "من الصحاح": " عن أبي سعيد الخُدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس فيما دون خمسة أَوْسُقٍ": جمع وسق، وهو: ستون صاعاً بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أربعة أمداد، كل مُا رطل وثُلُث بالبغدادي عند أبي يوسف والشافعي، والرطل مئة وثلاثون درهماً، وعند أبي حنيفة: كل مد رطلان. "من التمر صدقة": وفيه حجة لأبي يوسف ومحمد في عدم وجوب العشر حتى يبلغ خمسة أوسق، وأوَّله أبو حنيفة بأن المراد منه: زكاة التجارة؛ لأن الناس كانوا يتبايعون بالأوساق، وقيمة الوسق أربعون درهماً. "وليس فيما دون خمسة أواق": جمع أوقية، وهي في الشرع: أربعون درهما، وهي أوقية الحجاز وأهل مكة. "من الوَرِق" بكسر الراء: الفضة مضروبة كانت أو غيرها.

"صدقة، وليس فيما دون خمس ذَوْدٍ من الإبل صدقة": الذود من الإبل: ما بين الثنتين إلى التسع، وقيل: ما بين الثلاث إلى العشر؛ أي: ليس فيها صدقة حتى تبلغ خمسة رؤوس. 1261 - وقال: "ليسَ على المُسلِم صَدَقة في عبْدِه ولا فَرَسِه". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس على المسلم صدقة في عبده، ولا في فرسه": وهذا حجة لأبي يوسف ومحمد - رحمهم الله - في عدم وجوب الزكاة في الفرس وللشافعي في عدم وجوبها في العبد والخيل مطلقاً في قوله القديم. وذهب أبو حنيفة إلى وجوبها في الفرس، وفي العبد إذا لم يكن للخدمة، وحمل العبدَ في الحديث على العبد للخدمة، والفرس على فرس الغازي. 1262 - وقال: "ليسَ في العبدِ صدقةٌ إلا صدَقةٌ الفِطْرِ". "وعنه أيضاً: أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس في العبد صدقة إلا صدقة الفطر". * * * 1263 - عن أنس: أنَّ أبا بكرٍ - رضي الله عنه - كتبَ له هذا الكتابَ لَمَّا وجّهه إلى البَحْرينِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه فريضةُ الصَّدَقةِ التي فَرَضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المُسلمين، والتي أَمرَ الله بها رسولَه، فمَنْ سُئلَها من المُسلمين على وَجْهِها فليُعْطِها، ومَنْ سُئلَ فوقَها فلا يُعطِ: في أربع وعشرينَ من الإبلِ فما

دونَها من الغنم في كل خمسٍ شاة، فإذا بلغَتْ خمساً وعشرين إلى خمسٍ وثلاثينَ ففيها بنتُ مخَاضٍ أُنثى، فإذا بلغتْ سِتًّا وثلاثين إلى خمسٍ وأَربعين ففيها بنتُ لبونٍ أُنثى، فإذا بلغَت سِتاً وأَربعين إلى ستين ففيها حِقَّة طَرُوقةُ الجمَلِ، فإذا بلغتْ واحدة وستين إلى خمسٍ وسبعينَ ففيها جَذَعَة، فإذا بلغتْ ستاً وسبْعين إلى تِسْعين ففيها بنتا لبونٍ، فإذا بلغتْ إحدى وتسعين إلى عِشْرين ومائةٍ ففيها حِقَّتان طَرُوقتا الجمَلِ، فإذا زادتْ على عشرين ومائةٍ ففي كلِّ أربعين بنتُ لَبُونٍ، وفي كل خمسين حِقَّة، ومن لم يكن معه إلا أربعٌ مِنَ الإبلِ فليسَ فيها صدقة إلا أنْ يشاء ربِّها، فإذا بلغت خمساً ففيها شاةٌ، ومن بلغت عندَه من الإبل صدقةُ الجَذَعَةِ وليست عندَه جذَعَةٌ وعنده حِقَّة فإنها تُقبَلُ منه الحِقَّةُ، ويَجعلُ معها شاتين إنْ استَيْسَرَتَا، له أو عشرين درهماً، ومَن بلغتْ عندَه صدقةُ الحِقَّةِ ليست عندَه الحِقَّة، وعندَه الجَذَعَهُ، فإنها تُقبَل منه الجَذَعَةُ ويُعطيهِ المُصَدِّقُ عشرين دِرهماً أو شاتَيْنِ، ومَنْ بَلَغَتْ عِنْدِهُ صَدَقَةُ الحِقَّةِ وليستْ عندَه إلا بنت لَبُونٍ فإنها تُقبل منه بنتُ لبونٍ، ويُعطي معها شاتين أو عشرينَ درهماً، ومَن بلغت صدَقته بنتَ لَبُون وعِندَهُ حِقَّةً فإنَّها تقْبَلُ مِنهُ الحقَّة، ويُعْطيهِ المُصَدِّقُ عشرينَ درهما أو شاتَيْنِ، ومَنْ بَلَغَت صَدَقته بنتَ لَبُون وليستْ عندَه وعندَه بنتُ مَخَاضٍ فإنها تُقبلُ منه بنت مخاضٍ، ويُعطي معها شاتين أو عشرينَ درهماً، ومَنْ بلغت صدقته بنتَ مَخَاضٍ وليست عندَه، وعندَه بنتُ لَبُون فإنها تُقبلُ منه، ويعطيه المُصَدِّق عشرينَ درهماً أو شاتينِ، فإنْ لم يكنْ عنده بنتُ مَخَاضٍ على وجهِها، وعندَه ابن لبون فإنه يُقبلُ منه، وليسَ معَه شيء، وفي صدقةِ الغنَم في سائِمَتِها إذا كانت أربعينَ إلى ومائةٍ وعشرين شاةٌ، فإذا زادَت على عشرينَ ومائةٍ إلى مائتينِ ففيها شاتانِ، فإذا زادَت على مائتين إلى ثلاثمائةٍ ففيها ثلاثُ شياهٍ، فإذا زادَت على ثلاثمائة ففي كل مائةٍ شاةٌ، فإذا كانت سائمةُ الرجل ناقصةً من أربعينَ شاةً واحدةٌ فليسَ فيها صدقةٌ إلا أنْ يشاءَ

ربِّها، ولا تُخرَج في الصدقةِ هرِمَةٌ، ولا ذاتُ عَوَارٍ، ولا تَيْسٌ إلا ما شاءَ المُصَدِّق، ولا يُجْمَعُ بينَ مُتَفَرِّقٍ، ولا يُفَرَّقُ بين مُجتَمعٍ خشيةَ الصدقةِ، وما كانَ من خَليطينِ فإنهما يتراجَعَانِ بينَهما بالسَّوَّيةِ، وفي الرِّقَةِ ربعُ العُشرِ، فإنْ لم تكنْ إلا تسعينَ ومائة فليسَ فيها شيء إلا أنْ يشاءَ ربُّها. "عن أنس: أن أبا بكر - رضي الله عنه - كتب له"؛ أي: لأنس. "هذا الكتاب لما وجَّهه إلى البحرين: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: فرضها وأوجبها بأمر الله تعالى. "على المسلمين، والتي أمر الله بها"؛ أي: بالصدقة. "رسولَهُ، فمن سُئلها من المسلمين على وجهها"؛ أي: على حسب ما بيَّن - صلى الله عليه وسلم - من تعيين مقاديرها. "فليعطها، ومن سُئِل فوقها"؛ أي: فوق حقها. "فلا يعطِ"؛ أي: الزيادة، أو لا يعطِ شيئًا إلى الساعي، بل إلى الفقراء، لأنه بذلك يصير خائناً فتسقط طاعته. وهذا يدل على أن المصدق إذا أراد أن يظلم المزكي فله أن يأباه، ولا يتحرَّى رضاه. فإن قلت: هذا مخالف حديث جرير: "أرضوا مصدقيكم، وإن ظلمتم". قلت: أولئك المصدقين من الصحابة، وهم لم يكونوا ظالمين، وكأن نسبة الظلم إليهم على زعم المزكي، وهذا عام، فلا منافاةَ بينهما. "في أربع": خبر مبتدأ محذوف؛ أي: الواجب او المفروض أو المعطى في أربع "وعشرين من الإبل": تمييز لقوله: (أربع وعشرين).

"فما دونها من الغنم": بيان اللام في (الواجب)؛ لأنه بمعنى: الذي. "عن كل خمس شاة"؛ أي: الواجب من الغنم في أربع وعشرين إبلاً عن كل خمس إبل شاة. "فإذا بلغت خمساً وعشرين إلى خمس وثلاثين، ففيها بنت مخاض أنثى": وهي التي لها سنة واحدة، سميت بذلك؛ لأن أمها صارت مخاضاً بأخرى؛ أي: حاملاً، وإنما قيَّده بالأنثى؛ لأن (البنيت) في غير الآدمي قد يقال، ويراد به الجنس، لا الأنثى خاصة، فقيده به دفعاً لهذا التوهم. "فإذا بلغت ستًا وثلاثين إلى خمس وأربعين، ففيها بنت لبون أنثى": وهي التي لها سنتان سميت بذلك؛ لأن أمها لبون بولادة أخرى. "فإذا بلغت ستاً وأربعين إلى ستين، فنفيها حِقَّة": وهي التي لها ثلاث سنين، سميت بها؛ لأنها استحقت الركوب والتحميل عليها. "طَروقة الجمل": بفتح الطاء، فعولة بمعنى: مفعولة: وهي من الإبل أنثى بلغت أن يضربها الفحل. "فإذا بلغت واحدة وستين إلى خمس وسبعين؛ ففيها جذعة": وهي التي لها أربع سنين سميت بها؛ لأنها سقطت أسنانها، والجذع: السقوط. "فإذا بلغت ستاً وسبعين إلى تسعين، ففيها بنتا لبون، فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومئة، ففيها حقتان طروقتا الجمل، فإذا زادت على مئة وعشرين، ففي كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حِقة": والحديث يدل على أنه لا شيء في الأوقاص، وهي: ما بين الفريضتين، وعلى أن الإبل إذا زادت على مئة وعشرين ألا تستأنف الفريضة. "ومن لم يكن معه إلا أربع من الإبل، فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها"؛ أي: مالكها.

"فإذا بلغت خمساً ففيها شاة، ومن بلغت عنده من الإبل صدقة الجذعة، وليست عنده جذعة، وعنده حقة، فإنها تُقبَل منه الحِقَّة، ويجعل معها شاتين إن استيسرتا له، أو عشرين درهماً، ومن بلغت عنده صدقة الحقة ليست عنده حقة، وعنده الجذعة، فإنها تقبل منه الجذعة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت عنده صدقة الحقة، وليست عنده إلا بنت لبون، فإنها تقبل منه بنت لبون، ويعطي معها شاتين أو عشرين درهماً، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وليست عنده، وعنده حقة، فإنها تقبل منه حقة، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت لبون، وليست عنده، وعنده بنت مخاض، فإنها تقبل منه بنت مخاض، ويعطي معها عشرين درهماً أو شاتين، ومن بلغت صدقته بنت مخاض، وليست عنده، وعنده بنت لبون، فإنها تُقبل منه، ويعطيه المصدق عشرين درهماً أو شاتين"، وهذا يدل على جواز النزول والصعود من السن الواجب عند فقده إلى سنٍّ آخر يليه. "فإن لم يكن عنده بنت مخاض على وجهها": يحتمل معناه على ثلاثة أوجه: إما أن لا يكون عنده بنت مخاض أصلاً، أو لا تكون صحيحة بل مريضة فهي كالمعدومة، أو لا يكون عنده بنت مخاض على غاية الجودة. "وعنده ابن لبون، فإنه يُقبل منه" بدلاً من بنت مخاض. "وليس معه شيء"؛ أي: لا يلزم عليه مع ابن اللبون شيء آخر من الجبران، وهذا يدل على أن أفضلية الأنوثة تجبر بفضل السن. "وفي صدقة الغنم في سائمتها": بدل من قوله: (في صدقة الغنم) أو حال. "إذا كانت أربعين إلى عشرين ومئة شاة"، وهذا يدل على أن الوجوب في الغنم إنما يكون إذا كانت سائمة دون العلوفة.

"فإذا زادت على عشرين ومئة إلى مئتين، ففيها شاتان، فإذا زادت على مئتين إلى ثلاث مئة، ففيها ثلاث شياهٍ، فإذا زادت على ثلاث مئة، ففي كل مئة شاة": معناه: أن يزيد مئة أخرى، فيصير أربع مئة، فيجب أربع شياه، وعليه الأكثر، وقيل: إذا زادت على ثلاث مئة واحدة، ففيها أربع شياه. "فإذا كانت سائمة الرجل ناقصة من أربعين شاة واحدةً": بالنصب عطف بيان لـ (ناقصة)، أو مفعول (ناقصة)، كان رفعت فتقديره: وهو واحدة من أربعين شاةً. "فليس فيها صدقة إلا أن يشاء ربها"؛ أي: مالكها. "ولا تُخرَج في الصدقة هَرِمة": وهي التي صارت من الكبر ضعيفة كالمريضة. "ولا ذات عَوار": وهو بالفتح: العيب، وقد يضم، والفتح أفصح. قيل: هذا إذا كان كل ماله أو بعضه سليماً، فإن كان كله معيباً، فإنه يأخذ واحداً من أوسطه. "ولا تيس": وهو فحل المعز؛ أي: لا يأخذ منه فحلٌ إذا كان الكلُّ أو البعض إناثًا. "إلا ما شاء المصدِّق": بكسر الدال وتشديدها على رواية الجمهور، وهو العامل، يدل على أن الاجتهاد إليه؛ ليأخذ الأنفع للمساكين؛ "لأنه نائبٌ عنهم بدليل أن أجرة عمله من مالهم، ورواه أبو عُبيدة بفتح الدال المثقلة، وهو صاحب الماشية. "ولا يجمع بين متفرق": بأن يكون لكلِّ واحد من الرجلين أربعون شاة، ولم يخلطا حتى مضى عليها سنة، ثم خلطا في آخر السنة؛ لتكون زكاتهما شاة واحدةً، فهذا لا يجوز، بل على كل واحد منهما شاة.

"ولا يفرق بين مجتمع": بأن يكون لكل واحد منهما أربعون شاة وخلطا، ومضى عليها سنة، فجاء العاملُ، وأمرهما بالتفريق؛ لياخذ من كل واحد شاة، فهذا لا يجوز أيضاً، بل عليهما شاة واحدة. وقوله: "خشيةَ الصدقة": يتوجه إلى الجانبين؛ أما من جانب الساعي؛ فخشية القلة في الصدقة، وأما من جانب المالك فخشية الكثرة، فأمر - عليه الصلاة والسلام - كلَّ واحد منهما أن لا يحدث في المال شيئاً من الجمع والتفريق خشية الصدقة. "وما كان من الخليطين خليطين"؛ أي: الواجب الذي أخذه الساعي من الخليطين. "فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية": مثل إن كان بينهما خمس إبل، فأخذ الساعي وهي في يدٍ أحدهما شاةً، فإنه يرجع على شريكه بقيمة حصته على السوية. وفيه دلالة على أن الساعي إذا ظلم وأخذ منه زيادة على فرضه، فإنه لا يرجع على شريكه. "وفي الرِّقَةِ": بكسر الراء وتخفيف القاف؛ أي: الفضة، وأصلها الوَرِق، والتاء عوض عن الواو؛ أي: يجب فيما إذا بلغت مئتي درهم. "ربع العشر": وهو خمسة دراهم. "فإن لم تكن إلا تسعين ومئة، فليس فيها شيء"؛ يعني: لا زكاةَ فيما نقص عن كمال المئتين، "إلا أن يشاء ربها". 1264 - وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فيما سقَتْ

السَّماءُ والعُيونُ أو كان عَثَرِيًّا العشرُ، وما سُقِيَ بالنَّضْح نصف العُشر". "وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه قال: فيما سقت السماء"؛ أي: المطر. "والعيون، أو كان عَثَرِياً": وهو الذي يشرب بعروقه من ماء المطر يجتمع في حفيرة، من عئر على الشيء يعثر عثوراً وعثراً؛ أي طلع عليه؛ لأنه يهجم على الماء بلا عمل من صاحبه، كأنه ينسب إلى العثر. "العشرُ، وما سُقِي بالنضح"؛ أي: ما يسقى من بئر بالبعير، أو البقر، أو غير ذلك. "نصفُ العشر"؛ لما فيه من المؤنة. 1265 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "العَجْماءُ جُرْحُها جُبارٌ، والبئرُ جُبارٌ، والمَعدِنُ جُبارٌ، وفي الرِّكازِ الخمُسُ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: العجماء"؛ أي: البهيمة، سميت بها لأنها لا تتكلم، وكلُّ من لا يقدر على الكلام أصلاً، فهو أعجم ومستعجم، كذا في "الصحاح". "جرحُها جُبارٌ"؛ أي: هدر؛ يعني: إذا أتلفت الدابة شيئاً، ولم يكن معها صاحبها، وكان نهاراً، فلا ضمان؛ بخلاف ما إذا كان ليلاً؛ لتقصير المالك في ربطها؛ إذ العادةُ أن تربط الدابة ليلاً، وتسرح نهاراً. "والبئر جبار"؛ يعني: إذا حفر أحد بئراً في ملكه، أو في موات، ووقع فيه أحدٌ أو دابة لا ضمانَ على حافرها؛ لعدم العدوان فيه، أما إذا حفرها في الطريق، أو في ملك الغير بغير إذنه؛ فالضمانُ على عاقلة الحافر.

"والمعدن جُبارٌ" يعني: إذا حفر واحد موضعاً فيه ذهب أو فضة؛ ليخرجها منه، ووقع فيه أحد أو دابة لا ضمانَ عليه؛ لأنه غير معتد، وكذلك الفيروزج والطين وغير ذلك. "وفي الرِّكاز الخمسُ": وهو - بكسر الراء - عند أهل الحجاز: كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، وعند أهل العراق: المعادن، واللغة تحتملهما، لأن كلًّا منهما مركوز في الأرض؛ أي: ثابت، يقال: ركزه؛ أي: دفنه. قيل: والحديث على رأي الحجاز، وإنما كان فيه الخمس؛ لكثرة نفعه وسهولة أخذه، وفي رواية أبي هريرة: قيل: يا رسول الله! وما الركاز؟ قال: "الذهب والفضة التي خلق الله في الأرض يوم خلقها"، وهذا ينافى الأول. مِنَ الحِسَان: 1266 - عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد عَفَوتُ عن الخَيلِ والرَّقيقِ، فَهاتُوا صدَقةَ الرِّقَةِ مِنْ كلِّ أربعينَ درهماً درهم، وليسَ في تسعين ومائةٍ شيءٌ، فإذا بلغَتْ مائتينِ ففيها خمسة دراهم، فما زادَ فعلى حِسابِ ذلك، وفي الغنَم في أربعينَ شاةً شاةٌ إلى عشرين ومائة، فإذا زادت واحدةً فشاتانِ إلى مائتينِ، فإنْ زادتْ فثلاثُ شياهٍ إلى ثلاث مئة، فإذا زادت على ثلاث مئة؛ ففي كلِّ مائةٍ شاةٌ، فإنْ لم تكُنْ إلا تِسْعاً وثلاثينَ فليسَ عليكَ فيها شيء، وفي البقَرِ في كلِّ ثلاثين تَبيعْ، وفي الأَربعين مُسِنَّة، وليسَ على العَوامل شَيٌ". "من الحسان": " عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: قد عفوت عن الخيل والرقيق"؛ أي: تركت أخذ زكاتهما، وتجاوزت عنه.

"فهاتوا صدقة الرِّقَةِ من كلِّ أربعين درهماً درهم، وليس في تسعين ومئة شيء، فإذا بلغت مئتين، ففيها خمسة دراهم، فما زاد فعلى حساب ذلك": وهذا يدل على أنه تجب الزكاة في الزائد على النصاب بقدره؛ قل أو أكثر. وإليه ذهب أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: لا زكاة في الزائد عليه حتى يبلغ أربعين درهماً، وحمل الحديث على أن يكون الزائد على المئتين الأربعينات. "وفي الغنم في أربعين شاةً شاةٌ إلى عشرين ومئة، فإذا زادت واحدة فشاتان إلى مئتين، وإذا زادت فثلاث شياه إلى ثلاث مئة فإذا زادت على ثلاث مئة، ففي كل مئة شاة، فإن لم تكن إلا تسعاً وثلاثين، فليس عليك فيها شيء، وفي البقر في كل ثلاثين تَبيعٌ": وهو الذكر الذي له سنة واحدة، سمي به؛ لأنه يتبع أمه بعدَ تمام سنة، والأنثى تبيعة. "وفي الأربعين مسنة": وهي التي لها سنتان. "وليس على العوامل شيء": جمع عاملة، وهي: التي تعمل عملاً من البقر أو الجمل، كالحراثة وسقي الماء والحمل؛ يعني: لا زكاة فيها وإن كانت نصاباً، وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد، وعند مالك تجب. 1267 - على معاذ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا وجّهه إلى اليَمَنِ أمرَه أنْ يأخُذَ من البقَرِ من كل ثلاثينَ تَبيْعاً أو تَبيْعةً، ومِن كل أربعينَ، مُسِنَّةً. "عن معاذ - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لما وجَّهه إلى اليمن أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعاً أو تبيعة، ومن كل أربعين مسنةً".

1268 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المُعتَدي في الصَّدَقةِ كمانِعِها". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المعتدي في الصدقة"؛ أي: العامل الذي تعدى على المزكي في أخذ الزكاة عن القدر الواجب. "كمانعها": في الإثم؛ لأنه ربما يكون سبباً لمنع ربِّ المال من إخراج الزكاة في السنة القابلة، فكان ظلماً للفقراء فيه، فهما في الإثم سواء. وقيل: المعتدي الذي تجاوز الحد في الصدقة بحيث لا يُبقي لعياله شيئاً، وقيل: هو الذي يعطي ويمنُّ ويؤذي، فالإعطاء مع المن والأذى كالمنع عن أداء ما وجب عليه. 1269 - وعن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ في حَبٍّ ولا تمرٍ صدقةٌ حتى يبلُغَ خمسةَ أَوْسُقٍ". "عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ليس في حَبٍّ ولا تمرٍ صدقةٌ حتى يبلغ خمسة أوسق": تقدم البيان فيه في أول هذا الباب. 1270 - عن موسى بن طَلْحة قال: كانَ عندَنا كتابُ مُعاذِ بن جبَلٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، أنه إنَّما أَمرَه أنْ يأخُذَ الصدقةَ مِن الحِنْطةِ، والشَّعيرِ، والزَّبيبِ، والتَّمرِ، مُرسَل. "عن موسى بن طلحة أنه قال: كان عندنا كتاب معاذ بن جبل، عن النبي

عليه الصلاة والسلام: أنه إنما أمره أن يأخذ الصدقة من الحنطة والشعير والزبيب والتمر": ليس معناه: أنه لا تجب الزكاة إلا في هذه الأربعة فقط، بل تجب عند الشافعي فيما ينبته الآدميون إذا كان قوتاً، وعندنا فيما تنبت الأرض؛ قوتاً كان أو لا، وإنما أمره - عليه الصلاة والسلام - بالأخذ من هذه الأربعة؛ لأنه لم يكن ثمة غيرها. "مرسل". 1271 - عن عَتَّاب بن أَسِيد: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في زكاةِ الكُرومِ: "إنَّها تُخرَصُ كما تُخرَصُ النَّخلُ، ثم تُؤدَّى زكاته زَبيْباً كما تُؤدَّى زكاةُ النَّخلِ تَمراً". "عن ابن عتَّابِ ابن أسيد: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال في زكاة الكروم": جمع كرم، وهو: شجر العنب. "إنها تخرص"؛ أي: تحرز وتجمع. "كما تخرص النخل": ويقدر الخارص أن هذا العنب أو الرطب كم يكون إذا كان زبيباً أو تمراً. "ثم تُؤدَّى زكاتها زبيباً" إذا بلغ نصاباً، "كما تؤدى زكاة النخل تمراً". 1272 - عن سَهْل بن أبي حَثْمَة - رضي الله عنه - حدَّث أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "إذا خَرَصتُم فَدَعوا الثُّلُث، فإنْ لم تدَعوا الثُّلُث فدَعوا الرُّبُع". "عن سهل بن أبي حَثْمة - رضي الله عنه - أنه حدث: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول: إذا خرصتم فدعوا"؛ أي: اتركوا للمالك "الثلث" توسعةً

عليه، "وإن لم تدعوا الثلث، فدعوا الربع". حتى يتصدق على جيرانه ومن يمر عليه، ويطلب منه، وبه قال الشافعي في القديم. وعند أبي حنيفة والشافعي في الجديد ومالك: لا يترك شيئاً من الزكاة، وتأويلُ الحديث عندهم: أنه إنما يكون في حق يهود خيبر؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - ساقاهم على أن يكون لهم نصف التمر ولرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نصفها، فأمر الخارص أن يترك الثلث أو الربع مسلمًا لهم، ويقسم الباقي نصفين؛ نصفاً لهم ونصفاً له - صلى الله عليه وسلم -. 1273 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يَبعَثُ عبدَ الله بن رَواحةَ إلى يهودَ، فَيَخْرُص النَّخلَ حينَ يطيبُ قبلَ أن يُؤكلَ منه. "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يبعث"؛ أي: يرسل. "عبد الله بن رواحة إلى يهود خيبر، فيخرص النخل حين يطيب"؛ أي: حين يظهر في الثمار الحلاوة. "قبل أن يُؤكَل منه". 1274 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "في العَسلِ في كلِّ عشرةِ أَزقِّ زِقٌّ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: في العسل في كل عشرة أَزُقٍّ زِقٌّ" بفتح الهمزة: جمع زق؛ ظرف من جلد

يُجعَل فيه العسلُ والسمنُ وغير ذلك. وهذا يدل على أن في العسل العُشْر، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي في القديم وأحمد، وفي الجديد: لا عشرَ فيه، وعليه مالك. 1275 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا مَعشرَ النِّساء!، تصدَّقْنَ ولو من حُلِيكُن، فإنكنَّ أكثرُ أهلِ جهنَّمَ يومَ القيامةِ". "عن زينب - رضي الله عنها - امرأة عبد الله بن مسعود أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا معشر النساء! تصدقن"؛ أي: أخرجن زكاة أموالكن. "ولو من حُليِّكن": يدل على وجوب الزكاة في الحلي وإن كان مباحاً، وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي في أحد قوليه، وفي قوله الآخر ومالك وأحمد: لا زكاةَ في العلي المباح. "فإنكن أكثر أهل جهنم يوم القيامة". 1276 - عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ امرأَتينِ أتتا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وفي أَيديهما سِوارانِ من ذَهب، فقال لهما: "أتحِبَّانِ أنْ يُسَوِّركما الله تعالى بِسِوَارَينِ من نار؟ "، قالتا: لا، قال: "فأدِّيا زكاتَه"، ضعيف. "عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده: أن امرأتين أتتا رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم وفي أيديهما سواران من ذهب، فقال لهما: أتحبان أن يُسوّركما الله بسوارين من نار؟ قالتا: لا، قال: فأدّيا زكاته": الضمير فيه

بمعنى اسم الإشارة، يدل أيضاً على وجوب الزكاة في الحلي. "ضعيف". 1277 - عن أُمِّ سلَمة قالتْ: كنتُ أَلبَسُ أَوْضَاحاً من ذهبٍ، فقلتُ: يا رسولَ الله، أكَنزٌ هو؟، فقال: "ما بلَغَ أنْ تؤدَّى زكاتُه فزكِّيَ فليسَ بكَنْزٍ". "عن أم سلمة أنها قالت: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب": جمع (وَضَح) بفتحتين، وهي: نوع من العلي يعمل من الفضة، سميت بها لبياضها. "قلت: يا رسول الله! أكنز هو؟ "، يعني: استعمال العلي كنز من الكنوز الذي أنذر الله صاحبه بالنار في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] الآية، أم لا؟ "فقال: ما"، أي: الذي "بلغ أن تؤدَّى زكاته فزكي، فليس بكنز". 1278 - عن سَمُرَة بن جُندب: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يأمرُنا أنْ نُخرِجَ الصَّدَقةَ مِنَ الذي نُعِدُّ للبيعِ. "عن سمرة بن جندب: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يأمرنا أن نخرج الصدقة من الذي نُعِدُّ للبيع"؛ أي: من المال الذي نهيئه للتجارة. 1279 - وروى ربيعةُ عن غيرِ واحدٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَقْطَعَ لبلالِ بن الحارثِ المُزَني مَعادِنَ القَبَليةِ، وهي مِنْ ناحيةِ الفرعِ، فتلكَ المعادنُ لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليومِ.

3 - باب صدقة الفطر

"وروى ربيعةُ عن غير واحد"؛ أي: عن كثيرين: "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أقطع لبلال بن حارث المزني معادن القَبليَة": بفتح القاف والياء، منسوبة إلى قَبَل اسم موضع؛ يعني: أعطاه ليعمل فيها؛ ليخرج الذهب والفضة لنفسه. "وهي من ناحية الفزع (¬1) ": بضم الفاء وسكون الراء: هو أيضاً موضع بعينه، بينه وبين المدينة خمسة أيام، واسع، وفيه مساجد النبي عليه الصلاة والسلام، وبه قرى كثيرة، وهو بأعلى المدينة بين الحرمين. "فتلك المعادن لا يؤخذ منها إلا الزكاة إلى اليوم": المراد بالزكاة: ربع العشر، كزكاة الذهب والفضة الغير المعدنيين، وهذا يدل على جواز إقطاع المعادن، ولعلها كانت باطنة؛ فإن الظاهرة لا يجوز إقطاعها، وعلى وجوب الزكاة فيها، وهو مذهب مالك وأحمد وأحد أقوال الشافعي، والقول الآخر وأبو حنيفة يوجبان الخمس في المعدن، والقول الثالث له: إن وجد بتعب ومؤنة ففيه ربع العشر، وإلا ففيه الخمس. 3 - باب صدقة الفطر (باب صدقة الفطر) مِنَ الصِّحَاحِ: 1280 - عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: فرَضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطرِ صاعاً من ¬

_ (¬1) في "م": "الفرع".

تمرٍ، أو صاعاً من شَعيرٍ، على العَبْدِ والحُرِّ، والذَّكَر والأُنثى، والصَّغيرِ والكَبيرِ من المُسلِمين، وأَمرَ بها أن تُؤَدَّى قبلَ خُروجِ الناسِ إلى الصلاةِ. "من الصحاح": " عن ابن عمر أنه قال: فرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زكاةَ الفطر صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير": وهذا يدل على فرضية صدقة الفطر، وعليه الأكثر، وذهب بعضهم إلى وجوبها. "على العبد والحر، والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة": وهذا أمر استحباب؛ لجواز التأخير إلى آخر اليوم عند الجمهور. 1281 - وقال أبو سعيد الخُدريُّ: كنَّا نُخرِجُ زكاةَ الفِطْرِ صاعاً من طعامٍ، أوصاعاً من شَعيرٍ، أو صاعاً من تَمرٍ، أو صاعاً من أَقِطٍ، أو صاعاً من زَبيبٍ. "وقال أبو سعيد الخدري: كنا نخرج صدقة الفطر صاعاً من طعام"؛ أي: حنطة، وفي هذا حجة للشافعي في إيجابه صدقة الفطر من الحنطة صاعاً. "أو صاعاً من أَقِط": بالفتح ثم الكسر: هو الكشك إذا كان من اللبن. "أو صاعاً من شعير، أو صاعاً من تمر، أو صاعاً من زبيب": (أو) هذه للتنويع لا للتخيير، فإن القوت الغالب لا يعدل عنه إلى ما دونه في الشرف؛ يعني: كنا نخرج هذه الأنواع على حسب ما يقتضيه حالنا، وفي الأقط خلافٌ، ظاهر الحديث يدل على جوازه.

مِنَ الحِسَان: 1282 - عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال في آخِر رمَضان: أَخرِجُوا صدَقةَ صَومِكم، فَرَضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الصَّدَقةَ: صاعاً من تَمر أو شَعيرٍ، أو نِصْفَ صاع من قَمْح، على كل حرٌّ أو مَملوكٍ، ذكرٍ أو أنثى، صغيرٍ أو كَبيرٍ. "من الحسان": " عن ابن عباس قال في آخر رمضان: أخرِجوا صدقة صومكم، فرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذه الصدقة: صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، أو نصف صاع من قمح"؛ أي: حنطة، وبه قال أبو حنيفة. "على كل حر ومملوك، ذكر أو أنثى، صغير أو كبير". 1283 - وقال: فرضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زكاةَ الفطرِ طُهْرَةً للصائم من اللَّغوِ والرَّفَثِ وطُعمَة للمساكينِ. "وقال"؛ أي: ابن عباس - رضي الله عنه -: "فرض رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زكاة الفطر طُهرةً للصائم"؛ أي: تطهيراً لذنوبه. "من اللهو واللغو": وهو الكلام الباطل. "والرفث": وهو الكلام القبيح؛ لأن الحسنات يذهبن السيئات. تمسَّكَ به من لم يوجب الفطرة على الأطفال؛ لأنهم إذا لم يلزمهم الصيام، لم تلزمهم طهرته، والأكثرون على إيجابها عليهم، لعلهم نظروا إلى أن علة الإيجاب مركبة من الطهرة والطعمة، فغلبوا الطعمة رعايةَ لجانب المساكين. وذهب الشافعي بهذا أيضاً إلى أن شرط وجوبها أن يملك ما يفضل عن قوت يومه لنفسه وعياله؛ لاستواء الغني والفقير في كونه طهرةً.

4 - باب من لا يحل له الصدقة

"وطُعمة للمساكين"؛ أي: ليكون قوتهم يوم العيد مُهيئاً؛ تسوية بين الفقير والغني في وجدان القوت ذلك اليوم. 4 - باب من لا يحل له الصَّدَقة (باب من لا تحل له الصدقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1284 - قال أنس - رضي الله عنه -: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بتمرة في الطَّريقِ، فقال: "لولا أنِّي أخافُ أن تكونَ من الصَدَقةِ لأكَلْتُها". "من الصحاح": " قال أنس: مرَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - بتمرة في الطريق فقال: لولا أني أخاف أن تكونَ من الصدقة لأكلتها": الحديث يدل على حرمة الزكاة على النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى جواز أكل ما وجد في الطريق من الطعام القليل الذي لا يطلبه مالكه. 1285 - وقال أبو هُريرة - رضي الله عنه -: أخذَ الحسَنُ بن علي - رضي الله عنهما - تمرةً من تَمرِ الصدقةِ، فجعلَها في فيهِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كخْ كخْ"؛ لِيَطرَحَها، ثم قال: "أَما شَعَرتَ أنَّا لا نأْكلُ الصَّدَقَةَ؟ ". "وقال أبو هريرة: أخذ الحسن بن علي تمرة من تمر الصدقة"؛ أي: من تمر الصدقة.

"فجعلها في فيه، فقال عليه الصلاة والسلام: كَخ كخ": بفتح الكاف وكسرها زجر وردع للصبي عن تناول الشيء. "ليطرحها"؛ أي: التمرة من فيه. "ثم قال: أما شعرت"؛ أي: أما علمت. "أنا لا نأكل الصدقة؟ ": وهذا يدل على أنه يجب على الآباء نهيُ الأولاد عما لا يجوز في الشرع. 1286 - وقال: "إنَّ هذه الصَّدَقاتِ إنَّما هي أَوساخُ الناسِ، وإنَّها لا تَحِل لمحمدٍ ولا لآلِ محمدٍ". "وعن عبد المطلب بن ربيعة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحلُّ لمحمد، ولا لآل محمد": فإن الصدقة لا تحلُّ للنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ فرضاً كانت أو تطوعاً، وكذا المفروضة لآله عليه الصلاة والسلام؛ أي: أقربائه، وأما التطوع فمباح لهم. وعن أبي هريرة أنه قال: كان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - إذا أُتِيَ بطعام سأل عنه: "أهدية أم صدقة؟ " فإن قيل: هي صدقة، قال لأصحابه: "كلوا"، ولم يأكل، وإن قيل: هدية، ضرب بيده؛ أي: تناول بها، وكأنَّه من ضرب: إذا ذهب، فالباء للتعدية؛ أي: أذهب يده إلى ذلك الطعام، فأكل معهم، وذلك لأن الهدية إنما يراد بها ثوابُ الدنيا؛ لأنها تمليك الغير تقربًا إليه وإكراماً، والصدقة منحة لثواب الآخرة، ففيها نوع ترحم وإذلال للآخذ.

1288 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانتْ في بَريرةَ ثلاثُ سُنَنٍ: إحدى السُّننِ أنها عَتَقَت، فَخُيِّرَت في زوجِها، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الوَلاءُ لمن أَعتَقَ"، ودخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والبُرْمَةُ تَفُورُ بلَحمٍ، فقُرِّبَ إليه خبزٌ وأُدمٌ من أُدمِ البيتِ، فقال: "أَلم أرَ بُرمةً فيها لَحم؟ "، قالوا: بلى، ولكنْ ذلكَ لحمٌ تُصُدِّقَ به على بَريرةَ، وأنتَ لا جملُ الصدقةَ، قال: "هو علَيها صَدَقة، ولنا هديَّةٌ". "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان في بريرة": وهي اسم جارية اشترتها عائشة رضي الله عنها، فأعتقتها. "ثلاثُ سنن"؛ أي: حصل بسببها ثلاث مسائل شرعية. إحدى السنن: "أنها عتقت، فخُيِّرت في زوجها": بين فسخ نكاحه وإمضائه، فالمرأة إذا كانت أمة زوجها عبد، فعتقت، تكون مخيرة؛ إن شاءت فسخت النكاح، وإن شاءت لا. "وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الولاء لمن أعتق"؛ فإن من أعتق عبداً أو أمة كان ولاؤه له، هذه هي المسألة الثانية. "ودخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والبُرمةُ": وهي في الأصل: القدر المتخذ من الحجر المعروف بالحجاز واليمن وخراسان. "تفور بلحم، فقرب إليه خبز وأُدُم من أُدُمِ البيت": بضمتين: جمع إدام، وهو ما يطيب به أكل الخبز ويصلحه ويتلذذ الآكل بسببه، فلما لم يؤتَ إليه - صلى الله عليه وسلم - مما رأى في البرمة. "فقال: ألم أرَ برمةً فيها لحم؟ ": والاستفهام للتقرير. "قالوا: بلى، ولكن ذلك لم تُصُدِّق به على بريرة، وأنت لا تأكل

الصدقة، قال: هو عليها"؛ أي: اللحم على بريرة "صدقة، ولنا هدية": فيحمل التصدق به على من حرم عليه بطريق الهدية، وهذه المسألة الثالثة. 1289 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقبلُ الهديَّةَ، ويثيبُ علَيها. "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقبل الهديةَ، ويثيبُ عليها": من (أثاب): إذا أعطى الثواب؛ أي: يعطي عوضها. 1290 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَو دُعيتُ إِلى كُراعٍ لأَجَبْتُ، ولو أُهدِيَ إلي ذِراعٌ لَقَبلتُ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو دعيت إلى كُراعٍ": وهو مسترق الساق؛ يعني: لو دعاني أحد إلى ضيافة كراع غنم. "لأجبت"؛ أي: الداعي، وهذا حثٌّ على التواضع وإجابة الدعوة. قال القاضي: من حمله على (كراع الغنم)، وهو موضع بين مكة والمدينة، فقد غلط. "ولو أُهدِي إليَّ ذراع"؛ يعني: لو أرسل أحدٌ إلي ذراعاً على رسم الهدية، وهو ذراع الغنم، أو ذراع الكرباس.

"لقبلت": فيه ترغيبٌ على قبول الهدية. 1291 - وقال: "ليسَ المِسْكِيُن الذي يَطُوفُ على النَّاسِ تَرُدُّه اللُّقمةُ واللُّقْمتانِ، والتَّمرةُ والتَّمرتانِ، ولكن المِسْكينَ الذي لا يَجدُ غنًى يُغنيهِ، ولا يُفطَنُ به فيتصدَّقَ عليه، ولا يَقُوم فيَسأَلُ الناسَ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس المسكينُ الذي يطوفُ على الناس تردُّه اللقمةُ واللقمتان، والتمرةُ والتمرتان"؛ أي: ليس المسكين من يتردد على الأبواب، ويأخذ لقمة، فإن من فعل هذا ليس بمسكين؛ لأنه يقدر على تحصيل قوته، والمراد: ذم من هذا فعله إذا لم يكن مضطراً. "ولكن المسكين": الكامل في المسكنة. "الذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يفطن به"؛ أي: لا يُعلَم حالُهُ أنه محتاج. "فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس"، بل يخفي حال نفسه. رويَ عن ثوبان: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: "من يتكفل أن لا يسأل شيئًا أتكفل له الجنة"، قال ثوبان: أنا يا رسول الله؛ فكأن لا يسأل أحداً شيئاً. مِنَ الحِسَان: 1292 - عن أبي رافع: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَ رجلًا عَلى الصَّدقة، فقالَ لأبي رافع: اصحَبني كَيْما تُصيبَ منها، فانطلَقَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فسأله، فقال: "إنَّ الصدقةَ لا تَحِلُّ لنا، وإنَّ مَوالي القَومِ مِنْ أَنفُسِهم".

"من الحسان": " عن أبي رافع" مُعتَقُ النبي عليه الصلاة والسلام: "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعث رجلاً على الصدقة" أي: أرسله ليجمع الزكاة، فجمعها، فلما أتى رأى أبا رافع في طريقه. "فقال لأبي رافع: اصحبني"؛ أي: ائتِ معي النبيَّ عليه الصلاة والسلام. "كيما تصيب" نصب بـ (كي)، و (ما) زائدة؛ أي: لأقول له أن يعطيك شيئًا منها؛ أي: من الصدقة. "فانطلق إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فسأله فقال: إن الصدقة لا تحل لنا، وإن موالي القوم من أنفسهم": وهذا دليل لمن قال بحرمة الصدقة على موالي من يحرم الصدقة عليه، والمشهور أنها لا تحرم على موالي بني هاشم وبني المطلب، لانتفاء السبب، وجه الجمع بينهما أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا تنزيهاً وحثاً لهم على التشبه بساداتهم. 1293 - وقال: لا تَحِلُّ الصَّدَقةُ لغنيٍّ، ولا لذكره مِرَةٍ سَوِيّ". "وعن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تحل الصدقة لغني، ولا لذي مِرَّة" بالكسر؛ أي: قوة. "سَوِي"؛ أي: صحيح الأعضاء وتام الخِلْقةِ على طريق الاستقامة؛ يعني: لا تحل الزكاة لمن أعضاؤه صحيحة، وهو قوي يقدر على الاكتساب بقدر ما يكفيه وعياله. وبه قال الشافعي.

1294 - ويُروى: "لا حظَّ فيها لغَنيٍّ، ولا لقَويٍّ مُكتسِبٍ". "ويروى: لا حظَّ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب". 1295 - وقال: "لا تَحِلُّ الصدقةُ لغنيٍّ إلا لخمسةٍ: لغازٍ في سبيل الله، أو لعاملٍ عليها، أو لغَارِمٍ، أو لرجل اشتراها بمالِه، أو لرجلٍ له جارٌ مِسْكين، فتُصُدِّق على المِسْكين، فأَهدى المِسكِين للغنيِّ". ويُروى: "أو ابن السَّبيل". "وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لغاز في سبيل الله، أو لعامل عليها"؛ أي: على الصدقة. "أو لغارم": وهو الذي استدان؛ ليصلح بين طائفتين تسكيناً للفتنة، وإن كان غنياً. "أو لرجل اشتراهما"؛ أي: الصدقة من الفقير "بماله". "أو لرجل له جارٌ مسكين، فتصدق على المسكين، فأهدى المسكينُ الغنيَّ. ويروى: أو ابن سبيل". 1296 - عن زيَاد بن الحَارِث الصُّدَائيِّ قال: أَتيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فبَايعْتُه، فأَتاهُ رجلٌ فقالَ: أعطِني من الصَّدَقةِ، فقال: "إنَّ الله تعالى لم يَرضَ بحُكْم نبيٍّ ولا غيرِه في الصَّدَقاتِ حتى حَكَمَ فيها هو، فجَزَّأها ثمانيةَ أجزاءٍ، فإنْ كنتَ مِن تلكَ الأَجزاءَ أَعطيتُكَ حَقَّك".

5 - باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له

"عن زياد بن الحارث الصُّدائي أنه قال: أتيت النبي عليه الصلاة والسلام، فبايعته، فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقة فقال: إن الله لم يرضَ بحكم نبي ولا غيرِهِ في الصدقات حتى حكم فيها"؛ أي: في الصدقات. "هو"؛ أي: الله. "فجزَّأها"؛ أي: الله تعالى الصدقات. "ثمانية أجزاء"؛ أي: أصناف. "فإن كنتَ من تلك الأجزاء أعطيتُكَ حقَّك": وهذا يدل على أنه يفرق على السهام بحصصهم. 5 - باب مَنْ لا تَحِل له المَسْألة ومَنْ تَحِل له (باب من لا تحل له المسألة ومن تحل له) مِنَ الصِّحَاحِ: 1297 - عن قَبيصَةَ بن مُخارقٍ قال: "تَحمَّلْتُ حَمالَةً، فأتَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَسألُه فيها، فقال: "أَقم حتى تأتينَا الصَّدَقةُ، فنأمرَ لكَ بها، ثم قال: "يا قَبيصَةُ، إنَّ المسأَلةَ لا تحَلُّ إلا لأحدِ ثلاثَةٍ: رجل تحمَّلَ حمالَةً، فحلَّت له المَسألةُ حتى يُصيبَها ثم يُمسِكُ، ورجل أصابَته جائحة اجتاحَت مالَه، فحلَّت له المسألةُ حتى يُصيبَ قِوامًا من عَيْشٍ - أو قال سِداداً من عَيْشٍ - ورجل أصابَته فاقة حتى يقومَ ثلاثةٌ من ذوي الحِجَا من قومه: لقد أَصابَتْ فُلاناً فاقة، فحلَّت له المسأَلةُ حتى يصيبَ قِواماً من عَيْشٍ - أو قال سِداداً من عيْشٍ - فما سِواهنَّ من المَسألةِ - يا قَبيصةُ - سُحْتٌ يأكلُها صاحبُها سحتاً".

"من الصحاح": " عن قَبيصةَ بن مُخارق أنه قال: تحمَّلت حَمالة": وهي - بفتح الحاء وتخفيف الميم، ما يتحمَّله عن غيره من دِية أو غرامة؛ لدفع وقوع حرب بسفك الدماء بين فريقين. "فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسأله فيها"؛ بمعنى: لأجلها. "فقال: أقم"؛ أي: اثبت. "حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها، ثم قال: يا قبيصة! إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة: رجلٌ": بالرفع خبر مبتدأ محذوف، وبالجر بدل من (ثلاثة). "تحمَّل حمالة فحلَت له المسألة": بشرط أن يترك الإلحاح والتغليظ في الخطاب. "حتى يصيبها"؛ أي: يجد الحمالة. " [ثم] يمسك"؛ أي: عن المسألة؛ يعني: إذا أخذ من الصدقات ما يؤدي ذلك الدين لا يجوز أخذ شيء آخر منها. "ورجل أصابته جائحة": وهي الآفة المهلكة للثمار والأموال. "اجتاحت ماله"؛ أي: استأصلته وأهلكته. "فحلت له المسألة حتى يصيب قِواماً من العيش"، أي: بها يقوم به بعيشته من قُوب ولباس. "أو قال: سداداً من عيش": شك من الراوي. (السِّداد) بكسر السين: بها يُسَدُّ به الفقر؛ أي: يدفعه ويكفي الحاجة. "ورجل أصابته فاقة"؛ أي: فقر.

"حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحِجَى"؛ أي: العقل من قومه. "لقد أصابت فلان فاقة": وهذا على سبيل الاستحباب والاحتياط؛ ليكون أدلَّ على براءة السائل عن التهمة فيما يدعيه، وأدعى للناس إلى سد حاجته، وخص بكونهم من قومه؛ لأنهم هم العالمون بحاله. وهذا من باب التبيين والتعريف؛ إذ لا مدخلَ لعدد الثلاث من الرجال في شيء من الشهادات، وقيل: إن الإعسار لا يثبت عند البعض إلا بثلاثة؛ لأنها شهادة على النفي، فثلاث على خلف ما اعتيد في الإثبات للحاجة. "فحلت له المسألةُ حتى يصيب قواماً من عيش - أو قال: سداداً من عيش - فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتٌ": وهو الحرام الذي لا يحل كسبه؛ لأنه يُسحِتُ البركة؛ أي: يذهبها. "يأكلها صاحبها سحتاً": بدل من الضمير في (يأكلها)، أو تمييز، وتأنيث الضمير لمعنى الصدقة والمسألة. قالوا: هذا بحث سؤال الزكاة، وأما سؤال صدقة التطوع؛ فمن لا يقدر على كسب؛ لكونه زمنًا، أو ذا علة أخرى، جاز له السؤال بقدر قوت يومه، ولا يدَّخر، وإن كان قادراً عليه، فتركه لاشتغال العلم، جازت له الزكاة وصدقة التطوع، فإن تركه لاشتغال صلاة التطوع وصيامه، لا يجوز له الزكاة، وتكره له صدقة التطوع. فإن جلس واحد أو جماعة في بقعة واشتغلوا بالطاعة ورياضة الأنفس وتصفية القلوب، يستحبُّ لواحد منهم أن يسأل صدقة التطوع، وكسرات الخبز لهم، واللباس لأجلهم.

1298 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سأَلَ النَّاسَ أَموالَهم تَكَثُّراً؛ فإنَّما يَسألُ جَمراً، فليَستَقِلَّ أو ليَسْتكْثِر". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من سأل الناس": نصبه بنزع الخافض، أو على أنه مفعول به. "أموالهم": بدل اشتمال منه. "تكثُّراً": مفعول له؛ أي: ليكثر ماله، لا للاحتياج. "فإنما يسأل جمراً"؛ أي: نار جهنم؛ يعني: ما أخذه سبب للعقاب بالنار، إنما جعله جمراً للمبالغة، ويجوز أن يكون جمراً حقيقة يعذب به، كما ثبت في مانعي الزكاة. "فليستقلَّ، أو ليستكثر": وهذا توبيخٌ له. 1299 - وقال: "ما يَزالُ الرَّجلُ يَسْأَلُ الناسَ حتى يأتيَ يومَ القِيامةِ ليسَ في وجْههِ مُزْعَةُ لحمٍ". "عن عبد الله بن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما يزال الرجل يسأل الناس حتى يأتي يوم القيامة ليس في وجهه مُزْعَةُ لحم" بضم الميم: القطعة اليسيرة من اللحم، وذلك إما ليكون علامة له يعرفه الناس بتلك العلامة أنه كان يسأل الناس في الدنيا، أو إذلالاً له، كما أذل نفسه في الدنيا، وأراق ماء وجهه بالسؤال. 1300 - وقال: "لا تُلْحِفوا في المَسأَلةِ، فوالله لا يَسألُني أَحَدٌ منكُم

شيئًا فتُخرِجُ له مَسأَلتُه منِّي شيئاً وأَنا لهُ كارِهٌ، فيُبارَكَ لهُ فيما أَعطيتُهُ". "وعن معاوية أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُلحِفوا في المسألة": [من] الإلحاف، وهو: الإلحاح، والمسألة مصدر بمعنى: السؤال. "فوالله لا يسألني أحد منكم شيئاً، فتُخرِج له مسألتُهُ مني شيئاً وأنا له كارهٌ": الواو فيه للحال. "فيبارك": بالنصب جواباً للنفي؛ أي: فلا يبارك له. "فيما أعطيته": على تقدير الإلحاف في المسألة. 1301 - وقال: "لأَنْ يأخُذَ أحدكُم حَبْلَهُ فيأتيَ بحِزْمَةِ حطَبٍ على ظَهْرِه، فيبيعَها، فيَكُفَّ الله بها وجْههُ؛ خَيْرٌ له مِنْ أَنْ يَسأَلَ الناسَ أَعطَوهُ أو مَنَعوه". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، وزُبيرِ بن العوَّام: أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لأنْ يأخذَ أحدكم حبله، فيأتي بحزمة حطب على ظهره": الحزمة بضم الحاء: قدر ما يُحمَلُ بين العضدين والصدر، وتستعمل فيما يحمل على الظهر من الحطب. "فيبيعها": منصوب على تقدير (أن)؛ أي؛ فإن يبيع تلك الحزمة. "فيكفُّ الله بها وجهه"؛ أي: يمنع بسببها إراقة ماء وجهه بالسؤال. "خير له من أن يسأل الناس؛ أعطوه أو منعوه". 1302 - وقال حَكِيْمُ بن حِزَامٍ: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأَعطاني، ثم سألتُه فأعطاني، ثم قال لي: "يا حَكِيْمُ!، إن هذه المَال خَضرةٌ حُلْوٌ، فمن أخذَه

بِسَخَاوَةِ نفْسٍ بُورِكَ له فيه، ومَنْ أَخذَه بإشرافِ نفْسٍ لم يُبارَكْ له فيه، وكان كالذي يأكْلُ ولا يَشْبَعُ، واليدُ العُليا خيرٌ من اليَدِ السُّفْلى"، قالَ حكيم: فقلت: يا رسولَ الله!، والذي بعثَكَ بالحقِّ لا أَرْزَأُ أَحَداً بعدَك شيئاً حتى أُفارقَ الدُّنيا". "وقال حكيم بن حزام: سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأعطاني، ثم سألت فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم! إن هذا المال خَضرٌ" بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين: وهو الطري الناعم. "حُلو" بضم الحاء: هو ما يميل إليه الطبع السليم. وقيل: الخضر يكون في العين طيباً، والحلو يكون في الفم طيبًا، ولا، حملَّ العينُ من النظر إلى الخضر، ولا يملُّ الفم من أكل الحلو، فكذلك النفس حريصة بجمع المال لا تمل منه. "فمن أخذه بسخاوة نفس"؛ أي: نفس المعطي واختياره من غير حرص من السائل، بحيث لو لم يعطه لتركه، ولم يسأله، أو المراد: نفس السائل، بأن يكون ذلك كناية عن عدم الإلحاح، أو عن إنفاق الصدقة وعدم مسكها. "بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس"؛ أي: بطمع النفس والتطلع إليه. "لم يبارك له فيه، وكان"؛ أي: السائل الآخذ للصدقة في هذه الصورة. "كالذي يأكل، ولا يشبع": وهذا مرض عظيم ومصيبة جسيمة، وقيل: تشبيه بالبهيمة التي ترعى. "واليد العليا": وهي المعطية. "خيرٌ من السفلى": وهي الآخذ السائلة، وقيل: السفلى المانعة. "قال حكيم: فقلت: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق، لا أرْزَأُ أحداً"؛ أي: لا أنقص مال أحد بالسؤال والأخذ منه.

"بعدك"؛ أي: بعد سؤالك هذا شيئًا. "حتى أفارق الدنيا"؛ يعني: لا أسأل أحداً بعد هذه المرة إلى أن أموت. 1303 - وقال: "اليدُ العُليا خيرٌ من اليدِ السُّفلى". 1304 - "واليدُ العُليا هي المنفقةُ، والسُّفلى السَّائلة". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال وهو على المنبر، وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة قال: اليد العليا خير من اليد السفلى، والعليا هي المنفقة، والسفلى هي السائلة". 1305 - وقال أبو سعيد: إنَّ أُناساً من الأَنصارِ سأَلوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَعطاهُم، ثمَّ سألوه فأَعطاهم، حتَّى نَفِذَ ما عندَه، فقال: "ما يكونُ عِنْدي مِنْ خَيرٍ فلَنْ أَدَّخرَه عنكُم، ومَن يَستعِفَّ يُعِفُّه الله، ومن يَستَغْنِ يُغنِهِ الله، ومَن يَتَصبَّر يُصبره الله، وما أُعطيَ أحدٌ عطاءً خيراً وأَوسعَ مِن الصَّبر". "وقال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: إن أناساً من الأنصار سألوا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم حتى نفد ما عنده"؛ أي: فني. "فقال: ما يكون عندي من خير": (ما) خبرية؛ أي: كل شيء لي من المال أعطيكم. "فلن أدخره"؛ أي: لم أمنعه. "عنكم، ومن يستعف": وفي بعض النسخ: (ومن يستعفف)، كلاهما

بمعنى؛ أي: يطلب العفة، وهي الكف عن الحرام. "يعفه الله"؛ أي: يعطيه العفة؛ يعني: من قنع بأدنى قوت وترك السؤال، يُسهِّل عليه القناعة. "ومن يستغن"؛ أي: يظهر من نفسه الغناء، ويترك السؤال. "يغنه الله"؛ أي: يجعله غنياً. "ومن يتصبر"؛ أي: أمر نفسه بالصبر، وكلَّفها عليه. "يصبره الله"؛ أي: يسهِّل الصبر عليه. "وما أعطي أحد عطاءً خيراً وأوسعَ عليه من الصبر"؛ لأن نفعه عام موجود في كل ما يشقُّ على النفس من الفقر والطاعات وغيرهما. 1306 - قال عُمر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه -؛ كانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يُعطيني العَطاءَ، فَأقولُ: أَعطِهِ أفقرَ إليه منِّي، فقال: "خُذْهُ فتَمَوَّلْهُ، وتَصدَّقْ به، فما جاءَكَ مِنْ هذا المَالِ وأنتَ غَير مُشرِفٍ ولا سائِلٍ فَخُذْهُ، وما لا فلا تتبعه نفْسَكَ". "وقال عمر بن الخطاب: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يعطيني العطاء فأقول: أعطه أفقرَ"؛ أي: أحوج "مني إليه، فقال: خذه فتموَّله"؛ أي: أدخله في مالك. "وتصدق به، فما جاءك من هذا المال": إشارة إلى جنس المال، أو إلى الذي أعطاه - صلى الله عليه وسلم -. "وأنت غيرُ مُشرِف"؛ أي: غير طامعٍ، ولا ناظرٍ إليه. "ولا سائلٍ، فخذه"؛ أي: فاقبله، وتصدق به إن لم تكن محتاجاً. "وما لا"؛ أي: وما لا يأتيك بلا سؤال.

"فلا تتبعهُ نفسَك"؛ أي: فلا تجعل نفسك تابعة له، ولا توصل المشقة إليها في طلبه. مِنَ الحِسَان: 1307 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَسائلُ كُدُوحٌ يَكدَحُ بها الرجلُ وجههُ، إلا أنْ يَسأَلَ ذا سُلْطانٍ، أو في أَمرٍ لا يَجدُ منه بُدًّا". "من الحسان": " عن سمرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: المسائلُ": جمع مسألة بمعنى: السؤال. "كَدوحٌ": بفتح الكاف بناء مبالغة من (الكدح)، وهو: الجرح. وقيل: الكدح: كل أثر من خدش، أو عض، والجمع كُدوح بضم الكاف. "يكدح بها الرجل وجهه" يعني: يريق بالمسألة ماء وجهه، فكأنه جرحه. "إلا أن يسأل ذا سلطان"؛ أي: ذا حكم وملك بيده بيت المال، فيعطيه منه إن كان مستحقاً. "أو في أمر لا يجد منه بداً": كالمذكورين في حديث قَبيصة. 1308 - وقال: "مَن سألَ الناسَ ولهُ ما يُغنيهِ جاءَ يومَ القيامةِ ومَسْأَلتُه في وجْهِهِ خُمُوشٌ، أو خُدُوشٌ، أو كُدُوحٌ"، قيل: يا رسولَ الله!، وما يُغْنيهِ؟، قالَ: "خمسونَ دِرهماً، أو قِيْمتُها مِنَ الذَّهَبِ".

" عن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم: من سأل الناس وله ما يغنيه جاء يوم القيامة في وجهه خُموش": جمع خمش، "أو خُدوش": جمع خدش، "أو كدوح": جمع كدح؛ بمعنى واحد، وهو علامة مثل الجراحة. قيل: الخمش جراحة في اللحم، والخدش في الجلد، والكدح فوق الجلد. قيل: (أو) هذه للشك من الراوي، ويجوز أن يكون الكل من النبي - عليه الصلاة والسلام - على سبيل الترتيب بين منازلَ السائلين في الذل والهوان لمَّا كانوا متفاوتين في السؤال على ثلاثة مراتب؛ مستقل، ومتوسط، ومستكثر. "قيل: يا رسول الله! وما يغنيه؟ قال: خمسون درهمًا، أو قيمتها من الذهب": وهذا يدل على أن مَنْ ملك خمسين درهمًا، أو مثلها من جنس آخر، فهو غنيٌّ لا تحل له المسألة. * * * 1309 - وقال: "مَنْ سأَلَ وعنده ما يُغنيهِ فإنما يستكثر من النارِ"، قالوا: يا رسول الله، وما يُغنيهِ؟، قال: " قدرُ ما يُغديِّه، أو يُعشِّيه". وفي روايةٍ: "شِبَعُ ليلةٍ ويومٍ". وقال: "مَنْ سأَلَ منكم وله أُوقَّيةٌ أو عِدْلُها؛ فقد سأَلَ إلْحافًا". "وعن سهل بن الحنظلية أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم: من سأل الناس وعنده ما يغنيه فإنما يستكثر من النار"؛ يعني: من جمع أموال الناس بالسؤال من غير ضرورة، فكأنه يجمع لنفسه نار جهنم.

"قالوا: يا رسول الله! وما يُغنيه؟ قال: قدر ما يُغدِّيه"؛ أي: يطعمه طعام غدائه. "ويُعشِّيه"؛ أي: يطعمه طعام عشائه؛ يعني: من كان له قوت هذين الوقتين لا يجوز له أن يسأل في ذلك اليوم صدقة التطوع. "وفي رواية: شبْع يوم وليلة": بسكون الباء: ما يشبع، وبفتحها المصدر. "عن عطاء، عن رجل من بني أسد أنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: من سأل منكم وله أوقية"؛ أي: أربعون درهمًا "من الفضة، أو عدلها"؛ أي: مثلها من ذهب، أو مال آخر. "فقد سأل إلحافاً"؛ أي: إلحاحًا من غير اضطرار، وهذا في حقِّ من يكفيه أربعون درهمًا. * * * 1310 - وقال: "إنَّ المَسأَلةَ لا تَحِلُّ لغنيٍّ، ولا لذي مِرَّةٍ سَوِيٍّ إلا لذي فَقْرٍ مُدْقعٍ، أو لذي غُرْمٍ مُفْظِعٍ، ومَنْ سألَ الناسَ ليُثريَ بهِ مالَه كانَ خُموشًا في وجههِ يومِ القيامةِ، ورَضْفًا يأْكلُه مِن جهنمَ، فمن شاءَ فليُقِلَّ، ومن شاءَ فليُكثر". "عن حُبْشِي بن جنادة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن المسألة لا تحل لغنيٍّ، ولا لذي مرة سويٍّ": مرَّ معناهما. "إلا لذي فقر مُدقع": وهو الفقر الشديد المفضي بصاحبه إلى الدقعاء، وهي التراب؛ أي: الالتصاق به لشدته؛ يعني: لا يكون عنده ما يُستَرُ به. "أو لذي غرم مفظع": وهو الدين الشديد الشنيع المثقل. هذا لفظ الحديث، لكن الحكم جواز السؤال لأداء الدَّين، وإن كان

قليلًا، فتحل له الصدقة، فيعطى من سهم الغارمين. "ومن سأل الناس ليثريَ به"؛ أي: بالسؤال. "ماله": يقال: أثرى الرجل: إذا أكثر ماله. "كان خُموشًا في وجهه يوم القيامة، ورَضْفًا": وهو الحجر المحمي. "يأكله من جهنم": والمراد به التحريق. "فمن شاء فليُقلَّ، ومن شاء فليُكثر". * * * 1312 - ويُروى: "إنَّ المَسألةَ لا تَصلُحُ إلا لثَلاثةٍ: لذي فَقْرٍ مُدْقِع، أو لِذِيْ كُرْمٍ مُفْظِعٍ، أو لذي دَمٍ مُوجِعٍ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مُدقعٍ، أو لذي غرم مُفظِعٍ، أو لذي دم مُوجِعٍ": وهو المتحمل دية عمن ليس له ولا لأوليائه مالٌ، ولم تؤدَّ أيضًا من بيت المال، فيجوز لشخص السعي فيها والسؤال لها؛ ليؤديها إلى أولياء المقتول لتنقطع الخصومة، وإلا قتل المتحمل عنه، وهو أخوه، أو حميمه، فيوجعه قتله. * * * 1313 - وقال: "مَن أصابَتهُ فاقةٌ فأنزلَها بالنَّاسِ لَمْ تُسَدَّ فاقتُه، ومن أنزلَها بالله أَوْشَكَ الله له بالغِنى، إمَّا بموتٍ عاجِلٍ، أو غِنًى عاجِلٍ". "وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أصابته فاقة فأنزلها بالناس"؛ أي: عرضها لهم، وطلب منهم إزالة فقره.

6 - باب الإنفاق وكراهية الإمساك

"لم تسد فاقته"؛ أي: لم يزيلوا فقره، بل ليعرضِ العبد حالَهُ على الله تعالى، ويسأل منه قضاء حاجته. "ومن أنزلها بالله"؛ أي: عرضَها له. "أوشك الله"؛ أي: عجَّل له. "بالغَنَاء": بفتح الغين والمد؛ أي: بالكفاية. "إما بموت عاجل، أو غنى عاجل": بأن يعطيه مالًا يغنيه. * * * 6 - باب الإنفاق وكراهية الإمساك (باب الانفاق وكراهة الإمساك) مِنَ الصِّحَاحِ: 1314 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان في مثلُ أُحُدٍ ذَهَباً لَيَسُرُّني أنْ لا يمُرَّ عليَّ ثلاثُ ليالٍ وعندي منه شيءٌ، إلا شيءٌ أَرْصُدُه لِدَيْنٍ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة وأبي ذر - رضي الله عنه -: قالا: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو كان في مثل أحد ذهبًا، لسرَّني أن لا يمرَّ علي ثلاث ليال وعندي منه شيء": الواو فيه للحال، يعني: لسرني عدم مرور ثلاث ليال، والحال أن تكون فيها شيء من الذهب عندي، وفي الحقيقة النفي راجع إلى الحال. "إلا شيء أُرصده": بضم الهمزة؛ أي: أحفظه وأعده.

"لدين"؛ أي: لأداء دين كان علي؛ لأنَّ أداءَ الدين مقدَّمٌ على الصدقة. * * * 1315 - وقال: "ما مِن يومٍ يُصبحُ العِبادُ فيه إلا مَلَكانِ ينزِلانِ فيقول أحدُهما: اللهمَّ أَعْطِ منفِقًا خلَفًا، ويقولُ الآخرُ: اللهمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تلَفًا". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدهما" لمن أنفق ماله في الخيرات، ولم يمسكه: "اللهم أعط منفقًا خَلَفًا"؛ أي: عوضًا صالحًا. "ويقول الآخر" لمن لم ينفق فيها: "اللهم أعط ممسكاً تلفًا". * * * 1316 - وقال - صلى الله عليه وسلم - لأسماء: " أَنفِقِيْ، ولا تُحصِي، فيُحصِيَ الله عليكِ، ولا تُوعِيْ فيُوعِيَ الله عليكِ، ارْضَخِي ما استطعتِ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأسماء" بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -: "أنفقي، ولا تُحصي"؛ أي: ولا تبقي شيئًا للادخار، فإن من أبقى شيئًا يحصيه. وقيل: معناه: لا تعدي ما أنفقته، فتستكثريه، فيكون ذلك سببًا لانقطاع إنفاقك. "فيحصيَ الله عليك": بالنصب جوابًا للنفي؛ أي: فيقلل رزقك بقطع البركة عنه، أو يحاسبك عليه في الآخرة. "ولا توعي"؛ أي: لا تحفظي فضلَ مالك في الوعاء؛ أي: الظرف.

"فيوعي الله عليك"؛ أي: فيمنع الله عليك نعمته وفضله، ويسدُّ عليك باب المزيد. "ارضخي ما استطعت"؛ أي: أعطي شيئًا وإن كان يسيرًا، وإنما أمرها - عليه الصلاة والسلام - بالرضخ لما عرف من حالها أنها لا تقدر أن تتصرف في مال زوجها بغير إذنه إلا في شيء يسير الذي جرت العادة بالتسامح من قبل الزوج كالكِسْرة والتمرة، والطعام الذي يفصّل في البيت ولا يصلح للادخار؛ لتسارع الفساد. * * * 1317 - وقال: "قال الله تعالى: يا ابن آدمَ، أَنْفِقْ أُنفِقْ عليك". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: أنفق يا ابن آدم أُنفِقْ عليك"؛ أي: أعطي الناس ما رزقتك حتى أرزقك. * * * 1318 - وقال: "يا ابن آدمَ، إنك أنْ تَبْذُلَ الفَضْلَ خيرٌ لك، وأَنْ تُمسِكَهُ شَرٌّ لك، ولا تُلامُ على كَفَافٍ، وابدأ بمَنْ تَعُولُ ". "وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا ابن آدم! إنك أنْ تبذلَ الفضل": (أن) مصدرية مبتدأة خبره "خير لك"؛ أي: بذلك الفضل خير لك. "وأن تمسكه"؛ أي: ذلك الفضل "شرٌّ لك، ولا تلام على كفاف"؛ أي؛ لا لوم عليك على إمساك كفاف، وهو ما كف من الرزق عن مسألة الخلق، تكف به وجهك عن الناس، وإن حفظت أكثر من ذلك، ولم تتصدق بما فضل عنه، فأنت بخيل، والبخلُ مذموم.

"وابدأ بمن تعول"؛ أي: ابدأ في الإنفاق والإعطاء بمن تمون، وتلزمك نفقته من عيالك، فإن فضل شيء فأعطِ الأجانب. * * * 1319 - وقال: "مثَلُ البَخيلِ والمُتصَدِّقِ: كمثَلِ رجلَينِ عليهما جُنَّتانِ من حديدٍ، قد اضْطُرَّت أَيديهِما إلى ثُدِيِّهِمَا وتَراقِيْهما، فجَعَلَ المتصدِّقُ كلَّما تَصَدَّقَ بصدقةٍ انبسطَتْ عنه، وجَعَلَ البخيلُ كلَّما همَّ بصدقةٍ قَلَصَتْ وأخذتْ كلُّ حلْقةٍ بمَكانِها". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مثل البخيل والمتصدق كمثل رجلين عليهما جُنَّتان "؛ أي: وقايتان من السلاح ساتران. "من حديد": والمراد هنا: الدرع، كأنه أريد بهما صفتا البخل والتشدد، اللتان جُبلَ عليهما الإنسان. "قد اضْطُرَّت"؛ أي: ضمت وشدت وعصرت. "أيديهما إلى ثُديهما" بضم الثاء: جمع ثُدي، وهو جنبي الصدر. "وتَراقيهما" بفتح التاء: جمع ترقوة، وهو أسفل الكتف، وفوق الصدر. "فجعل"؛ بمعنى: طفق؛ أي: شرع، وأراد المتصدق "كلَّما تصدق بصدقة"، وانشرح صدره بخير صدر عنه، "انبسطت عنه"؛ أي: توسعت الجنتان عن المتصدق. "وجعل البخيل كما همَّ بصدقة"؛ أي: قصد إليها. "قلصت"؛ أي: انضمت الحلق بعضها ببعض واشتدت. "وأخذت كل حلقة بمكانها": تلخيص المعنى: أن السخي إذا قصد

الصدقة سهل عليه، والبخيل عكسه. * * * 1320 - وقال: " اتقوا الظُّلمَ، فإن الظُّلمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ، واتقوا الشُّحَّ، فإن الشُّحَّ أَهْلَكَ من كان قبلَكم، فحملَهم على أَن يسفِكُوا دماءَهم، واستَحَلُّوا محارِمَهم". "وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: اتقوا الظلمَ؛ فإن الظلمَ ظلماتٌ يوم القيامة": والمراد بالظلمات هنا: الشدائد، كما في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63]؛ أي: شدائدهما. "واتقوا الشح": قيل: الشح: بخل رجل من مال غيره، والبخل: هو المنع من مال نفسه، وقيل: البخل يكون في المال، والشح عام يكون في المال وفي غيره. "فإن الشحَّ أهلكَ من كان قبلكم ": هلاكهم كونهم معذبين به، وهو يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة. " حملهم على أن يسفكوا دمائهم ": إنما كان الشح سببًا لذلك؛ لأن في بذل الأموال ومواساة الإخوان التحابَّ والتواصلَ، وفي الإمساك والشح التهاجر والتقاطع، وذلك يؤدي إلى التحاجز والتغادر من سفك الدماء واستباحة المحارم. * * * 1321 - وقال: " تصدَّقوا، فإنه يأْتي عليكم زمانٌ يَمْشي الرجلُ بِصدقتِهِ، فلا يجدُ من يَقبلُها، يقولُ الرجلُ: لو جئْتَ بها بالأَمسِ لَقَبلْتُها، فأما اليومَ فلا حاجةَ لي بها".

"عن حارثة بن وهب أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تصدقوا فإنه يأتي عليكم زمان ": وهو زمان المهدي ونزول عيسى عليه السلام. "يمشي الرجل بصدقته، فلا يجد من يقبلها، يقول الرجل: لو جئتَ بها بالأمس لقبلتها، فأما اليوم؛ فلا حاجةَ لي بها"؛ يعني: يصير الناس كلهم في ذلك الزمان راغبين في الآخرة تاركين الدنيا يقنعون بقوت يوم، ولا يدخرون المال. * * * 1322 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رجلٌ: يا رسولَ الله!، أَيُّ الصدقةِ أَعظمُ أجرًا؟، قال: "أنْ تَصَدَّق وأنتَ صحيحٌ شَحيحٌ تخشَى الفقرَ وتأمُلُ الغنى، ولا تُمهِلْ حتى إذا بلغتْ الحلقومَ قلتَ: لفُلان كذا، ولفُلانٍ كذا، وقد كانَ لفُلانٍ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رجل: يا رسول الله! أيُّ الصدقة أعظم أجرًا؛ قال: أن تصدَّقَ": بحذف إحدى التاءين. "وأنت صحيح شحيح": تأكيد للصحيح، والواو للحال؛ أي: في صحتك؛ لأن الرجل في حال الصحة يكون شحيحًا. "تخشى الفقر"؛ أي: تقول في نفسك: لا تتلف مالك؛ لئلا تفسير فقيرًا، فتحتاج إلى الناس. "وتأمُل الغني" بضم الميم؛ بمعنى: تطمع؛ أي: تقول: اترك مالك في بيتك؛ لتكون غنيًا، وتكون لك عزةً عند الناس بسبب غناك، فإن الصدقة في هذه الحال أفضل مراغمةٌ للنفس. "ولا تُمهِلَ": بالنصب عطفًا على (أن تصدق)، وبالجزم على النهي؛

أي: ولا تؤخر الصدقة. "حتى إذا بلغت الحلقوم": والمراد به أن تقرب الروح بلوغ الحلقوم. "قلت" لو رثتك: "لفلان كذا، ولفلان كذا": كناية عن الموصى له. "وقد كان لفلان ": كناية عن الوارث؛ أي: والحال أن المال في تلك الحالة يكون متعلقا لورثتك، لا يجوز تصرفك فيما زاد على ثلث مالك. * * * 1323 - وعن أبي ذرٍّ قال: انتهيتُ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو جالسٌ في ظِلِّ الكعبةِ، فلمَّا رآني قال: "هُمُ الأَخسرونَ وربِّ الكَعْبةِ"، فقلتُ: فِداكَ أَبي وأُمي، مَن هم؟، قال: "هم الأكثرونَ أموالاً إلا مَنْ قال هكذا وهكذا وهكذا من بينِ يديهِ، ومِن خلفِه، وعن يمييه، وعن شِمالِه، وقليلٌ ما هم". "وعن أبي ذر أنه قال: انتهيت إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: هم الأخسرون ورب الكعبة": (هم) ضمير عن غير مذكور، لكن يأتي تفسيره، وهو قوله: هم الأكثرون. "فقلت: فداك أبي وأمي! من هم؟ قال: هم الأكثرون أموالاً"؛ يعني: من كان ماله أكثر، يكون إثمه وخسرانه أكثر. "إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا؛ من بين يديه، ومن خلفه، وعن يمينه، وعن شماله "؛ يعني: تصدق به في جوانبه الأربع من المحتاجين، والقول قد يُستعمَل في الفعل، فمن كان بهذه الصفة فليس من الخاسرين، بل هو من الفائزين. "وقليل ما هم": (ما) زائدة، و (هم) مبتدأ خبره (قليل)؛ أي: من

يفعل كذلك قليل. * * * مِنَ الحِسَان: 1324 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّخيُّ قريبٌ من الله قَريبٌ مِن الجنةِ قريبٌ من الناسِ بعيدٌ من النارِ، والبخيلُ بعيدٌ من الله بعيدٌ من الجنةِ بعيدٌ من الناسِ قريبٌ من النارِ، ولَجَاهِلٌ سَخيٌّ أحبُّ إلى الله من عابدٍ بخيلٍ". "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: السخيُّ قريبٌ من الله"؛ أي: من رحمته تعالى. "قريبٌ من الجنة، قريبٌ من الناس، بعيدٌ من النار"؛ يعني: السخاوة خصلة محمودة عند الله، وعند الناس فلا شك هو مستحق الرحمة والحب من الله ومن الناس. "والبخيل بعيد من الله، بعيد من الجنة، بعيد من الناس، قريب من النار، ولجاهل سخي": يريد بالجاهل هنا: ضد العابد؛ يعني: أن الرجل الذي يؤدي الفرائضَ دون النوافل، وهو سخي "أحبُّ إلى الله من عابد بخيل"؛ أي: من رجل يكثر النوافل وهو بخيل؛ لأن حبَّ الدنيا - أي: المال - رأس كل خطيئة. * * * 1325 - وقال: " لأَنْ يَتَصدَّقَ المرءُ في حياتِه بدِرْهمٍ؛ خيرٌ له مِن أنْ يتصدَّقَ بمائةٍ عندَ موتِه ". "وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: لأنْ

يتصدَّقَ المرء في حياته بدرهم خيرٌ له من أن يتصدق بمئة عند موته"؛ لأن الصدقة في الصحة أشد على النفس من حال المرض، فلا جرمَ ثوابه أكثر. * * * 1326 - وقال: "مثَلُ الذي يتصدَّقُ عندَ موته أو يُعتِقُ كالذي يُهدي إذا شَبعَ"، صحيح. "وعن أبي الدرداء أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: مثل الذي يتصدق عند موته أو يعتق، كالذي يهدي إذا شَبع"؛ أي: ليس له مزيدُ فضيلة؛ لأن الهدية حينئذ لا تكون شديدة على النفس، وإنما الفضيلة لمن يؤثر المحتاج على نفسه مع احتياجه، وقد أثنى الله تعالى على هؤلاء بقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. "صحيح ". * * * 1327 - وقال: "خَصْلَتانِ لا تَجتمعانِ في مُؤمنٍ: البُخلُ، وسُوءُ الخُلُقِ". "عن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - خصلتان لا تجتمعان في مؤمن"؛ أي: في مؤمن كامل، خبر موصوف، والمبتدأ "البخل، وسوء الخلق"؛ أي: لا ينبغي أن يجتمعا فيه، أو المراد بلوغ النهاية فيهما بحيث لا ينفك عنهما، ولا ينفكان عنه. * * * 1328 - وقال: "لا يَجتمعُ الشُّحُّ والإيمانُ في قلْبِ عبدٍ أبدًا".

"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: لا يجتمع الشحُّ والإيمانُ في قلب عبد أبدًا": هذا تهديد وزجر عن البخل، لا أنه ليس بمؤمن، أو المراد الإيمان الكامل. * * * 1329 - وقال: " لا يدخلُ الجنَّةَ خِبٌّ، ولا بَخيلٌ، ولا مَنَّان". "وعن أبي بكر الصديق أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وسلم: لا يدخل الجنة خِبٌّ": بالفتح، وقد يكسر؛ أي: رجل خدَّاع مكَّار مفسد بين الناس. "ولا بخيل، ولا منان": من المنة؛ لأنها تهدم الخير؛ أي: لا يدخل الجنة مع هذه الخصلة مع السابقين حتى يطهر منها؛ إما بالتوبة في الدنيا، أو بأن يعفو الله عنه، أو يمحص عنه آثار تلك الخصلة المذمومة بالعذاب. * * * 1330 - وقال: " شرُّ ما في الرجلِ شُحٌّ هالعٌ، وجبن خالعٌ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: شرُّ ما في الرجل شحٌّ هالعٌ": الهلع: أشد الجزع والضجر، وهو ضد الصبر؛ أي: بخل يجزع صاحبه عند إخراج الحق من ماله، وقيل: الهلع أشد الحرص. " أو جبن خالع "؛ أي: خوف شديد، كأنه يخلع قلبه من شدة خوفه من المحاربة مع الكفار، ويمنعه من الدخول في الخيرات، وإنما قال في الرجل؛ لأن الشحَّ والجبن في المرأة ليس بمذموم. * * *

7 - باب فضل الصدقة

7 - باب فضل الصدقة (باب فضل الصدقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1331 - قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: " مَن تَصَدَّقَ بعِدْلِ تَمْرةٍ من كَسْبٍ طَيِّبٍ - ولا يقبلُ الله إلا الطيِّبَ - فإنَّ الله يتقبَّلُها بيمينِهِ، ثم يُرَبيها لصاحِبها كما يُرَبي أحدكم فَلُوَّه حتى تكونَ مِثْل الجَبَلِ ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: من تصدَّق بعدل تمرة": عدل الشيء - فتحًا وكسرًا -: مثله، وقيل: بالفتح: ما يعادله من غير جنسه، وبالكسر: من جنسه، وقيل بالعكس؛ يعني: من تصدق بتمرة أو مثلها "من كسب طيب"؛ أي: حلال. "ولا يقبل الله إلا الطيب": جملة معترضة بين الشرط والجزاء، وفيه إشارة إلى أن غيرَ الحلال غيرُ مقبولة، وأن الحلالَ المكتسبَ يقع بمحلٍّ عظيم. "فإن الله تعالى يتقبلها بيمينه": كناية عن حسن قَبولها، والرضاء بها؛ لأن الشيء المرضي يُتلقَّى باليمين في العادة. "ثم يربيها لصاحبها": تربيها كناية عن زيادتها؛ أي: يزيدها، أو يعظم ذاتها حتى تثقل في الميزان. "كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ": بفتح الفاء وضم اللام وتشديد الواو: المهر الصغير، وهذا تمثيل لزيادة التفهيم، خصه به لأن زيادته بينة.

"حتى تكون مثل الجبل": ذكر التربية في الصدقة دون غيرها من العبادات إشارًة إلى أنها - فريضة كانت، أو نافلة - أحوجُ إلى تربية الله؛ لثبوت نقيصة فيها بسبب حب الطبع الأموال. * * * 1332 - وقال: "ما نقصَتْ صدَقةٌ مِنْ مالٍ، وما زادَ الله عبْدًا بعفْوٍ إلا عِزًا، وما تَواضَعَ أَحَدٌ للهِ إلا رَفَعهُ الله". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما نقصت صدقة من مال ": (ما) نافية، و (من) إما للتبعيض، أو للتبيين، أو زيادة؛ أي: ما نقصت صدقة بعض مال أو شيئًا من مال أو مالًا، بل تزيد أضعاف ما يعطي منه. "وما زاد الله عبدًا بعفو": الباء للسببية؛ أي: بسبب أن يعفو ذلك العبد عمن ظلم عليه مع قدرته على الانتقام منه. "إلا عزًا"؛ أي: زاد عزًا ورفعة. "وما تواضَع أحدٌ لله إلا رفعه الله ". * * * 1333 - وقال: "مَن أَنْفَقَ زَوجَينِ من شيءٍ من الأشياءِ في سبيلِ الله دُعِيَ من أَبوابِ الجنةِ، وللجنةِ ثمانية أبوابٍ، فمَن كانَ مِن أهلِ الصلاةِ، دُعيَ من بابِ الصلاةِ، ومَن كانَ مِن أَهلِ الجهادِ دُعيَ من بابِ الجهادِ، ومَن كان من أهلِ الصدقةِ دُعي من باب الصَّدَقةِ، ومَنْ كانَ مِن أهلِ الصِّيامِ دُعي من بابِ الرَّيانِ"، فقالَ أبو بَكْرٍ: ما على مَن دُعيَ من تلكَ الأبوابِ مِن ضرورةٍ، فهل

يُدعَى أحدٌ من تلك الأبواب كلِّها؟، قال: " نعم، وأَرجُو أنْ تكونَ مِنْهم". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: من أنفق زوجين من شيء من الأشياء": الزوج يطلق على الاثنين وعلى واحد منهما؛ لأنه زوجٌ مع آخر، وهو المراد هنا؛ لما جاء في بعض الروايات أنه قيل: يا رسول الله! وما الزوجان؟ قال: "فرسان، أو عبدان، أو بعيران من إبله". "في سبيل الله"؛ أي: في وجوه الخير. "دعي من أبواب الجنة، وللجنة ثمانيةُ أبواب، فمن كان من أهل الصلاة"؛ أي: من كان يكثر صلاة النافلة، "دُعِي من باب الصلاة"؛ أي: ينادى من بابها إلى دخول الجنة. "ومن كان من أهل الجهاد، دُعِي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة، دُعِي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام، دُعِي من باب الريان": وهو ضد العطشان، اسمٌ لباب من أبواب الجنة. والمعنى: أن أهل الصيام بتعطيشهم أنفسهم في الدنيا يدخلون من باب الريان، ويسقون من ذلك الباب شرابًا طهورًا قبل تمكنهم في الجنة؛ ليزولَ عطشهم. "فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: ما على من دُعِي من تلك الأبواب من ضرورة": (ما) نافية، و (من) في (من ضرورة) زائدة؛ أي: ليس على أحد يدعى من باب من تلك الأبواب ضرورة واحتياج إن لم يدع من سائرها؛ لحصول مراده، وهو دخول الجنة. "فهل يُدعى أحدٌ من تلك الأبواب كلها؟ قال: نعم": تكون جماعة كثيرة يدعون من جميع الأبواب؛ لكثرة صلاتهم وجهادهم وصيامهم وغير ذلك من أبواب الخير.

"وأرجو أن تكون" أنت يا أبا بكرًا "منهم": وفي قوله: (أرجو) إشارة إلى أن ثواب الأعمال ينبغي أن لا يجزم به، بل يُرجى أن يوصل إليه لخفاء مقبوليتها. * * * 1334 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: "من أَصْبَحَ منكُم اليومَ صائمًا؟ "، قال أبو بكر: أنا، قال: " فمَن تبعَ منكُم اليومَ جنازةً؟ "، قال أبو بكر: أنا، قال: " فمَن أَطعمَ منكُم اليومَ مِسْكينًا؟ "، قال أبو بكر: أنا، قال: "فمَن عادَ منكم اليومَ مَريضًا؟ "، قال أبو بكر: أنا، فقال رسولُ الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: "ما اجتَمَعْنَ في امرئٍ إلا دخَلَ الجنَّةَ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ ": (من) استفهامية، و (أصبح) بمعنى: صار، وخبره (صائمًا)، أو بمعنى: دخل في الصباح، فتكون تامة، و (صائمًا) حال عن ضميره. "قال أبو بكر: أنا، قال "؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام: "فمن تبعَ منكم اليوم جنازة؟ قال أبو بكر: أنا، قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؛ قال أبو بكر: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر: أنا، قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: ما اجتمعنَ"؛ أي: هذه الخصال المذكورة على الترتيب المذكور في يوم واحدًا "في امرئ إلا دخل الجنة": قيل: معناه بلا محاسبة، وإلا فمجرد الإيمان يكفي بمطلق الدخول. * * * 1335 - وقال: "اتَّقُوا النارَ ولو بِشِقِّ تَمْرةٍ، فإنْ لم تَجدْ فبكلِمةٍ طَيِّبةٍ".

"وعن عدي بن حاتم أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه - وسلم: اتقوا النار"؛ أي: ادفعوها عن أنفسكم بالخيرات، "ولو بشق تمرة"؛ أي: ولو كان الانتقاء بتصدُّقِ [بـ] بعض تمرة؛ يعني: لا تستقلُّوا شيئًا من الصدقة. "فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة"؛ أي: فليتقِ منها بقولِ حسن يُطيِّبُ به قلب المسلم. * * * 1336 - وقال: "يا نساءَ المُسلِماتِ، لا تحقِرَنَّ جارةٌ لِجَارتها ولو فِرْسِنَ شاةٍ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: يا نساء المسلمات": بنصب (نساء) وجر (المسلمات)؛ أي؛ يا نساء الطوائف المسلمات. "لا تحقِرَنَّ جارةٌ لجارتها": قيل: جارة المرأة امرأة زوجها. "ولو كان فرسِنَ شاة"؛ أي: ظلفها هدية؛ يعني: لا تمنع إحداكن من الهدية لجارتها احتقارًا للموجود عندها، ويجوز أن يكون الخطاب لمن أُهدِي إليهن، فالمعنى: لا تحقرن إحداكن هدية جارتها، بل تقبلها وإن كانت قليلةً. وفيه حثٌّ على الهدية واستجلاب القلوب. * * * 1337 - وقال: " كلُّ مَعْرُوفٍ صَدَقةٌ". "عن جابر وحذيفة أنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه - وسلم: كل معروف"؛ أي: ما عُرِفَ فيه رضاء الله من الأقوال والأفعال.

"صدقة"؛ أي: ثوابه كثواب الصدقة. * * * 1338 - وقال: "لا تحقِرَنَّ من المَعْروفِ شيئًا ولو أَنْ تَلقَى أخاكَ بوَجْهٍ طَلِيقٍ". "عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: لا تحقرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق": وهو الذي فيه البشاشة والسرور، فإنه يصل إلى قلبه سرور، ولا شكَّ أن إيصالَ السرور إلى قلوب المسلمين حسنة. * * * 1339 - وقال: "على كلِّ مُسلِمٍ صدَقةٌ"، قالوا: فإن لم يجدْ؟، قال: "فيعملُ بيدَيهِ، فينفعُ نفسَه، ويتصدَّقُ"، قالوا: فإنْ لم يستطِعْ أَوْ لم يفعلْ؟، قال: فلْيُعِنْ صاحِبَ الحاجةِ المَلْهُوف"، قالوا: فإنْ لم يفعلْ؟ قال: "فليَأمُرْ بالخَيرِ"، قالوا: فإن لم يفعل؟، قال: "فليُمْسِكْ عَن الشَّرِّ، فإنَّه له صدَقةٌ". "وعن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: على كلِّ مسلم صدقة": شكرًا لنعمة الله عليه. "قالوا: فإن لم يجد"؛ أي: ما يتصدق به. "قال: فليعمل بيديه"؛ أي: فليكتسبْ مالًا بعمل يديه. "فينفع نفسَه ويتصدَّق، قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف"؛ أي: المحزون المتحير في أمره. "قالوا: فإن لم يفعله؟ قال: فيأمر بالخير، قالوا: فإن لم يفعل؟ قال:

فليمسكْ عن الشر؛ فإنه"؛ أي: الإمساك عن الشر "له صدقة": يتصدق به على نفسه؛ لأنه إذا أمسك عنه لله تعالى، كان له أجرٌ على ذلك، كما أن للمتصدق بالمال أجرًا. * * * 1340 - وقال: "كلُّ سُلامَى من الناسِ عليهِ صدقةٌ، كلَّ يومٍ تطلُعُ فيه الشَّمسُ يعدِلُ بين الاثنينِ صدقةٌ، ويعينُ الرجلَ على دابَّتِهِ، فيَحمِلُ عليها أو يرفعُ عليها مَتاعَه صدَقةٌ، والكَلِمةُ الطَّيِّبةُ صدَقةٌ، وكلُّ خُطْوةٍ يَخطُوها إلى الصَّلاةِ صَدَقة، ويُميطُ الأذَى عن الطَّريقِ صدَقةٌ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كلُّ سُلامى من الناس عليه صدقة": أوجب الصدقة على السّلامى مجازًا، وفي الحقيقة واجبة على صاحبه؛ يعني: على كل واحد من الإنسان بعدد كل مفصلٍ في أعضائه. "صدقة"؛ شكرًا الله تعالى بأن جعل في عظامه مفاصل، يقدر على قبض أصابعه ويديه ورجليه وغير ذلك وبسطها، فإن هذه نعمة عظيمة. "كل يوم": نصب على الظرفية. "تطلع فيه الشمس، تعدل بين الاثنين"؛ أي: تصلح بين الخصمين، وتدفع ظلم ظالم عن مظلوم، وهو في تأويل المصدر مبتدأ، خبره (صدقة). "وتعين الرجل"؛ أي: إعانتك إياه "على دابته، فتحمل عليها، أو ترفع عليها متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة، وكلُّ خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، وتميط الأذى"؛ أي: إزالتك إياه "عن الطريق صدقة". * * *

1341 - وقال: "خُلِقَ كلُّ إنسانٍ من بني آدمَ على ستِّينَ وثلاثمائةِ مَفْصِلٍ، فمَنْ كبَّر الله، وحَمِدَ الله، وهَلَّلَ الله، وسبَّح الله، واستغفرَ الله، وعزَلَ حجَرًا عن طَريقِ النَّاسِ، أو شَوكةً، أو عَظْمًا، أو أَمرَ بمَعْروفٍ أو نهَى عن مُنْكَرٍ عَددَ تِلكَ الستينَ والثلاثمائةِ فإنَّه يَمْشِي يومَئذٍ وقد زَحْزَحَ نفسَهُ عن النَّارِ". "وعن عائشة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: خُلِقَ كلُّ إنسان من بني آدم على ستين وثلاث مئة مفصل": بالإضافة، وهو - بكسر الصاد وفتحها -: ملتقى العظمين في البدن. "فمن كبر الله، وحمد الله، وهلل الله"؛ أي: قال: لا إله إلا الله. "وسبح الله، واستغفر الله، وعزل"؛ أي: أبعد "حجرًا عن طريق الناس، أو شوكة، أو عظمًا، أو أمر بمعروف، أو نهى عن منكر عددَ": متعلق بالأذكار وما بعدها، نصبه بفعل مقدر؛ يعني: من فعل الخيرات المذكورة ونحوها عدد "تلك الستين والثلاث مئة، فإنه يمشي يومئذ، وقد زحزح نفسه"؛ أي: باعدها "عن النار". * * * 1342 - وقال: "إِنَّ بِكلِّ تَسْبيحةٍ صدقًة، وكلِّ تَكْبيرةٍ صدَقةٌ، وكلِّ تَحْميدةٍ صدقةٌ، وكل تَهْليلةٍ صدَقةٌ، وأَمرٍ بالمَعرُوفِ صدَقةٌ، ونهي عنْ مُنكرٍ صدَقة، وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ"، قالوا: يا رسولَ الله!، أيأتِي أَحدُنا شهوتهُ ويكونُ له فيها أجرٌ؟، قال: "أَرأَيتُم لَو وَضَعَها في حَرامٍ، أكانَ عليهِ فيهِ وِزْرٌ؟، فكذلكَ إذا وضَعَها في الحَلالِ كانَ له أجْرٌ". "وعن أبي ذر أنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: إن بكل تسبيحة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة،

وأمر بمعروف صدقة، ونهي عن منكر صدقة، وفي بُضْعِ أحدكم"؛ يعني: في جماعة. "صدقة": وإنما لم يقل: وببضع أحدكم، إشارة إلى أنه إنما يكون صدقة إذا نوى فيه عفاف نفسه، أو زوجته، أو حصول ولد صالح. "قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته، ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها"؛ أي: شهوة بضعه "في حرام أكان عليه وزر؟ ": الاستفهام فيه للتقرير، "فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". * * * 1343 - وقال: "نِعْمَ الصَّدَقةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، والشَّاةُ الصَّفيُّ مِنحة، تَغْدُو بإناءٍ، وتَرُوحُ بآخَرٍ ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: نعم الصدقة اللَّقْحَةُ": بالكسر أو الفتح ثم السكون: الناقة الحلوب. "الصَّفيُّ": الناقة الغزيرة اللبن، وكذا الشاة. "منحةً": نصب على التمييز، أو الحال، والمنحة عند العرب تُطَلق على العطية التي يملكها المعطَى له، وعلى العارية؛ لينتفع بلبنها ووبرها ثم يردها، وهو المعني بقوله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: "المنحة مردودة". قيل: أصلها أن تكون في العارية، ثم سمي به كل عطية فمدح - عليه الصلاة والسلام - هذا الفعل. "والشاة الصفي منحة، تغدو": صفة مادحة لمنحة، أو استئناف جواب عمن سأل عن سبب كونها ممدوحة. "بإناء"؛ أي: ملتبسة بملء إناء.

"وتروح بآخر"؛ أي: بإناء آخر. * * * 1344 - وقال: "ما مِن مُسلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا أو يَزْرعُ زَرْعًا، فيأْكْلُ منهُ إنسانٌ أو طَيْرٌ أو بَهيْمةٌ إلا كانتْ له صدَقةٌ". ويروى: "ما سُرِقَ منه لهُ صدَقةٌ". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: ما من مسلم يغرس غَرسًا": بفتح الغين المعجمة وكسرها. "أو يزرع زرعًا، فيأكل منه إنسان، أو طير، أو بهيمة، إلا كانت له صدقة": معناه بأي سبب يؤكلُ مالُ الرجل يحصلُ له الثوابُ. "ويروى: ما سرق منه فهو له صدقة"، أي: يحصل له مثل ثواب تصدق المسروق. * * * 1345 - وقال: "غُفِر لامرأةٍ مُومِسَةٍ مرَّتْ بكلْبٍ على رأْسِ رَكيٍّ يَلْهثُ، كَادَ يَقتلُه العَطَشُ، فنَزَعَتْ خُفَّها، فأَوْثَقَتْه بِخِمارِها، فَنَزَعَتْ لهُ من الماءِ، فغُفِرَ لها بذلك"، قيل: إنَّ لَنا في البَهائِم أَجْرًا"، قال: "في كلِّ ذاتِ كَبدٍ رَطْبةٍ أَجْرٌ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: غفر لامرأة مومسة"؛ أي: فاجرة زانية. "مرت بكلب على رأس رَكِّي": وهي: البئر. "يلهث"، أي: يخرج لسانه من شدة العطش والحر.

"كاد يقتله العطش، فنزعت خفَّها، فأوثقته"؛ أي: شدته "بخمارها، فنزعت له من الماء، فغفر لها بذلك، قيل: إن لنا في البهائم أجرًا؟ قال: في كل ذات كبد رطبة أجرٌ"؛ أي: لمن سقاها حتى تصير رطبة أجر، لكن بشرط أن لا يكون من المأمور بقتله، كالحية والعقرب وغير ذلك. وفي رواية: (في كل ذات كبد حَرَّى)؛ فُعْلى من (الحر)، تأنيث حران. وفي الحديث دليلٌ على غفران الكبيرة من غير توبة، وهو مذهب أهل السنة. * * * 1346 - وقال: "عُذِّبت امرأةٌ في هِرَّةٍ أَمْسَكَتْها حتى ماتَتْ مِنَ الجُوعِ، فلم تكنْ تُطْعِمُها، ولا تُرسلُها فتأكلَ من خَشاشِ الأَرضِ". "وعن ابن عمر، وأبي هريرة: أنهما قالا: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: عُذِّبت امرأة في هرة": (في) هنا للسببية؛ أي: بسبب هرة. "أمسكتها حتى ماتت من الجوع، فلم تكن تطعمها، ولا ترسلها فتأكلَ": بالنصب جوابًا للنفي. "من خَشاشِ الأرض": بفتح الخاء المعجمة على الأشهر: هوامها وحشراتها، قيل: هذه المعصية صغيرة، وإنما صارت كبيرة بإصرارها. * * * 1347 - وقال: "مرَّ رجلٌ بغُصْنِ شَجَرةٍ على ظَهْرِ طريقٍ، فقالَ: لأُنحِّينَّ هذا عن طريقِ المُسلمينَ لا يُؤْذيهم، فأُدخِلَ الجنَّةَ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: مرَّ رجل بغصن شجرة على ظهر طريق فقال: لأنحينَّ"؛ أي: لأبعدن.

"هذا عن" طريق "المسلمين؛ لا يؤذيهم"؛ أي: كيلا يؤذيهم. "فأدخل الجنة": يمكن أن يكون إدخاله الجنة بمجرد نيته الصالحة، وإن لم ينحِّه، وأن يكون قد نحِّاه. * * * 1348 - وقال: "لَقَدْ رأَيتُ رجُلاً يتقلَّبُ في الجَنَّةِ في شَجَرةٍ قطَعَها مِن ظَهْرِ الطَّريقِ، كانتْ تُؤذي النَّاسَ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: لقد رأيت رجلًا يتقلب في الجنة"؛ أي: يمشي ويتبختر. "في شجرة"؛ أي: بسبب شجرة. "قطعها عن ظهر الطريق، كانت تؤذي الناس". * * * 1349 - عن أَبي بَرْزة قال: قُلْتُ: يا نَبَيَّ الله، علِّمْني شَيئًا أنتَفِعُ به؟ قال: " اعزِلِ الأَذى عَنْ طَريقِ المُسلِمين". "وعن أبي بَرْزة الأسلمي أنه قال: قلت: يا نبي الله! علمني شيئًا أنتفع به"؛ أي: بعمله. "قال: اعزل الأذى عن طريق المسلمين". * * * مِنَ الحِسَان: 1350 - قال عبد الله بن سَلاَم - رضي الله عنه -: لَمَّا قَدِم النبيُّ - صلى الله تعالى عليه وسلم -. المَدينةَ جئْتُ، فلمَّا

تَبَيَّنتُ وجْهَهُ عرفْتُ أنَّ وجههُ ليسَ بوجهِ كذَّابٍ، فكانَ أَوَّلَ ما قالَ: "يا أيُّها الناسُ، أَفشُوا السَّلامَ، وأَطعِمُوا الطَّعامَ، وصِلُوا الأَرحامَ، وصَلّوا باللَّيلِ والنَّاسُ نِيَامٌ تَدخُلوا الجنَّةَ بسَلامٍ". "من الحسان": " قال عبد الله بن سلام: لما قدم النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - المدينه، جئت فلما تبينت"؛ أي: تأملت "وجهه": أبصرت وجهه ظاهرًا، "عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فكان أول ما قال: يا أيها الناس! أفشوا"؛ أي: أظهروا وأكثروا "السلام، وأطعموا الطعام، وصِلُوا الأرحام، وصَلُّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام ". * * * 1351 - عن عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " اعبُدوا الرحمنَ، وأَطعِمُوا الطَّعام وأَفْشُوا السَّلام، تَدخلُوا الجنَّةَ بسَلامٍ". "وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: اعبدوا الرحمن، وأطعموا الطعام، وأفشوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام". * * * 1352 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الصَّدَقةَ لَتُطفِئ غضَبَ الرَّبِّ، وتَدفَعُ مِيْتةَ السُّوءَ". "عن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إنَّ الصدقةَ لتطفئُ غضب الربِّ": يجوز أن يحمل إطفاء الغضب على المنع من إنزال

المكروه في الدنيا، كما ورد: "لا يرد القضاء إلا الصدقة". "وتدفع مِيتة السُّوء" بكسر الميم: الحالة التي عليها الموت، أصله موتة، قلبت الواو ياء؛ لسكونها وانكسار ما قبلها. والمراد بميتة السوء: ما لا يحمد عاقبته، كالفقر المدقع، والألم الموجع، ونسيان الذكر، وكفر أنَّ النعمة، والتردي، والغرق، والحرق، والهدم، والفجاءة. * * * 1353 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصَّدَقةُ تُطْفِئُ الخَطيئةَ كما يُطفئ الماءُ النَّارَ". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: الصدقةُ تطفئ الخطيئة"؛ أي: تزيل الذنوب، كما قال الله تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] "كما يطفئ الماءُ النارَ". * * * 1354 - وقال: "كلُّ مَعْروفٍ صَدَقةٌ، وإن مِنَ المَعْرُوفِ أنْ تَلْقَى أَخاكَ بوَجْهٍ طَلْقٍ، وأنْ تُفرِغَ من دلْوِكَ في إناءَ أَخيكَ ". "عن معاذ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلُّ معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقَى أخاك بوجه طلقٍ، وأن تفرغ "؛ أي: تصبَّ "من دلوك": عند استقائِكْ. "في إناء أخيك"؛ كي لا يحتاج إلى تعب الاستقاء. "غريب". * * *

1355 - وقال "تَبَسُّمُكَ في وَجْهِ أَخيكَ صَدقة، وأَمرُكَ بالمَعروفِ صدَقةٌ، ونهيُكَ عن المُنكَرِ صدَقةٌ، وإرشادُكَ الرَّجلَ في أَرضِ الضَّلالِ لكَ صدَقةٌ، ونَصْرُكَ الرَّجلَ الرَّديءَ البصَرِ لكَ صدَقةٌ، وإِماطتُكَ الحجَرَ والشَّوكَ والعَظْمَ عن الطَّريق لك صدَقةٌ، وإفْراغُكَ من دَلْوِكَ في دَلْوِ أَخيكَ لكَ صدقةٌ"، غريب. "عن أبي ذر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: تبسّمُك في وجه أخيك صدقة، وأمرك بالمعروف صدقة، ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادُك الرجلَ في أرض الضلال"؛ أي: في أرض لا علامة فيها للطريق، يضل فيها السائر. "لك صدقة، ونصرك الرجل الرديء البصر": وهو من لا يبصر أصلًا، أو يبصرُ قليلاً. "لك صدقة، وإماطتك الحجرَ والشوكَ والعظمَ عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة. غريب". * * * 1356 - عن سَعْد بن عُبَادة أنه قال: يا رسولَ الله!، إنَّ أُمَّ سَعْدٍ ماتتْ، فأيُّ الصَّدَقةِ أَفْضَل؟، قال: "الماءُ"، قال: فَحَفَرَ بِئْرًا، وقال: هذه لأِمِّ سَعْدٍ. "عن سعد بن عُبادةَ أنه قال: يا رسول الله! إن أمَّ سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: الماء. "قال"؛ أي: الراوي عن سعد: "فحفر بئرًا، وقال: هذه لأمِّ سعد". * * *

1357 - وقال: "أيُّمَا مُسلِمٍ كَسَا مُسلِمًا ثَوبًا على عُري؛ كسَاهُ الله مِن خُضْرِ الجنَّةِ، وأيُّما مُسلم أَطْعَمَ مُسلمًا على جُوعٍ أَطعَمَهُ الله مِنْ ثِمَارِ الجنَّة، وأَيُّما مُسلمٍ سَقَى مُسلِمًا على ظَمَإٍ سَقاهُ الله من الرَّحيقِ المَخْتُومِ ". "وعق أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: أيُّما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عُري، كساه الله من خُضْرِ الجنة"؛ أي: من ثيابها الخضر، أقام الصفة مقام الموصوف، وهو إشارة إلى قوله تعالى: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا} [الكهف: 31]. "وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع، أطعمه الله تعالى من ثمار الجنة، وأيما مسلم سقى مسلمًا على ظمإ"؛ أي: عطش، "سقاه الله من الرحيق": وهو اسم الخمر الخالصة التي لا كدرَ فيها، يريد: خمر الجنة. "المختوم": الذي يُختم؛ كيلا تصل إليه يدُ أحد، ولم يتبدل، وقيل: الذي يختم بالمسك مكان الطين ونحوه، وقيل: ما كان خاتمةَ رائحتِهِ المسكُ. * * * 1358 - وقال: "إنَّ في المَالِ لَحَقًّا سِوى الزَّكاةِ، ثم تلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الآيةَ". "عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إن في المال لحقًا سوى الزكاةِ": وهو أن لا يحرم سائله ومستقرضه منه، ولا يمنع مستعيره إن كان من أمتعة البيت، كالقدر والقصعة وغير ذلك، ولا يمنع الماء والملح والنار. "ثم تلا: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [البقرة: 177] الآية": والمراد: أنه ذكر إيتاء المال في وجوه البر، ثم قفَّاه - أي: عقَّبه - بإيتاء الزكاة، فدل ذلك

على أن في المال حقًا سوى الزكاة. 1359 - وسُئل رسولُ الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ما الشَّيءُ الذي لا يحلُّ منعُه؟، قال: "الماءُ"، قيل: ما الشيءُ الذي يحلُّ منعُه؟ قال: "المِلْحُ". "عن بهيسة، عن أبيها، وعن عائشة: أنهما قالا: سُئِل رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: ما الشيءُ الذي لا يحلُّ منعه؟ قال: الماءُ, قيل: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح، قيل: ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: النار". * * * 1360 - وقال: "مَنْ أَحيَا أَرضًا مَيْتةً فله أَجْرٌ، وما أكَلَتْ العافيَةُ منهُ فهوَ له صدَقةٌ". "عن جابر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: من أحيا أرضًا ميتةً فله فيها أجر، وما أكلت العافيةُ": وهو كل طالب رزق من إنسان، أو بهيمة، أو طائر. "منه"؛ أي: من المأكول، أو من النبات. " فهو له صدقة". * * * 1361 - وقال: " مَن مَنَحَ مِنْحَةَ وَرِقٍ، أو أَهدى زُقَاقًا، أو سَقَى لَبنًا؛ كان له كعِدْلِ رقَبةٍ أو نَسَمةٍ". وفي روايةٍ: " كانَ لهُ مِثْلُ عِتْق رقَبةٍ". "عن البراء - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: من

مَنَحَ مِنحةَ وَرقٍ": بفتح الواو مع كسر الراء وسكونها وكسرها مع سكونها: الدراهم؛ أي: من أعطى عطية من الدراهم، وقيل: منحة الورق: القرض؛ لأن المنحة مردودة. "أو أهدَى زُقاقاً": بتخفيف الدال، من هداية الطريق، و (الزُّقاق): السكة؛ أي: دل ضالًا إلى طريق سكته أو بيته. ويروى بالتشديد؛ إما مبالغة الهداية، أو من الهدية؛ أي: مَنْ أهدى وتصدَّق بزُقاقٍ من النخل - وهو: الصفُّ من أشجارها - أو جعلها وقفًا. "أو سقى لبنًا، كان له كعدل رقبة أو نسمة": شك من الراوي، والمراد بهما: العبد. "وفي رواية: كان له مثل عتق رقبة". * * * 1362 - عن أبي تَمِيْمَةَ الهُجَيْمي، عن أبي جُرَيٍّ جابرِ بن سُلَيم قال: رأيتُ رجلًا يصدرُ الناسُ عنْ رأْيهِ، قلتُ: مَن هذا؟، قالوا: رسولُ الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، قلتُ: عليكَ السَّلامُ، يا رسولَ الله مرَّتين، قال: "لا تقلْ: عليكَ السلامُ، عليكَ السلامُ تحيةُ الميَّتِ!، قلْ: السَّلامُ عليكَ"، قلت: السلامُ عليكَ، قلتُ: أنتَ رسولُ الله؟، قال: "أنا رسولُ الله الذي إذا أَصابَكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كشَفَ عنكَ، وإنْ أصابَكَ عامُ سَنةٍ فَدَعَوْتَهُ أَنْبَتَهَا لك، فإذا كنتَ بأرضٍ قَفْرٍ أو فَلاةٍ فَضَلَّتْ راحلَتُكَ فدعوتَه ردَّها عليكَ"، قلتُ: اعْهَدْ إلَيَّ، قال: "لا تَسُبن أحدًا"، فما سبَبْتُ بعدَه حُرًّا ولا عَبْدًا ولا بَعْيرًا ولا شاةً، قال: "ولا تحقِرَنَّ شيئًا من المَعْروف، وأن تُكلِّم أخاكَ وأنتَ مُنبسِطٌ إليه وجهُك، إِنَّ ذلكَ مِنَ المَعروف، وارفَعْ إزارَكَ إلى نِصْفِ السَّاقِ، فإن أَبَيْتَ فإلى الكَعْبَينِ، وإِيَّاكَ وإسبالَ الإزارِ، فإنَّها من المَخِيْلةِ، وإنَّ الله لا يحبُّ المَخِيْلةَ، وإنِ امرؤٌ شتمَكَ

وعيَّرَكَ بما يعلمُ منكَ فلا تُعَيِّرُهُ بما تعلَمُ منه، فإنَّما وبالُ ذلكَ عليهِ". وفي رواية: "فيكونُ لكَ أَجرُ ذاكَ، ووبالُهُ عَليهِا". "عن أبي تميمة الهُجَيمي - رضي الله عنه -، عن أبي جُرَي جابر بن سُليم أنه قال: رأيت رجلًا يصدر الناس عن رأيه"؛ أي: ينصرفون كما يراه، ويفعلون ما يأمرهم، ولا يخالفونه. "قلت: من هذا؟ قالوا: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه -. قلت: عليك السلام يا رسول الله! مرتين، قال: لا تقل: عليك السلام، عليك السلام تحيةُ الميتِ"؛ يعني: هذا اللفظ يقال في المقابر؛ لأنه لا يتوقع الجواب من الميت، وأما الحي يتوقع الجواب منه، "قل: السلام عليك"؛ ليقول هو لك: وعليك السلام؛ لأن فائدة التسليم حصول الأمن والسلامة للمسلَّم عليه من المسلِّم، وهو بتقديم لفظ السلام أليقُ؛ فإنه إذا افتتح بـ (عليك)، لم تحصل به السلامة، بل المخافة، بل قد يتوهم أنه يدعو عليه. "قلت: السلام عليك، قلت: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضُرٌّ فدعوته، كشف"؛ أي: أزال ذلك الضر "عنك، وإن أصابك عام سنة"؛ أي: قحط، لا تنبت الأرض شيئًا، "فدعوته، أنبتها"؛ أي: أنبت الأرض لك. "وإذا كنت بأرض قَفْرٍ"؛ أي: أرض خال من النبات والشجر، "أو فلاة": وهي المفازة البعيدة من العمران. " فضلت راحلتك، فدعوته، ردها عليك، قلت: اعهد إلي"؛ أي: أوصني. "قال: لا تسبن أحدًا"؛ أي: لا تشتمن أحدًا. "فما سببتُ بعده"؛ أي: ما شتمت بعد العهد "حرًا، ولا عبدًا،

ولا بعيرًا، ولا شهاةً": إنما عهد - صلى الله عليه وسلم -[إليه] بترك السب؛ لعلمه أنه كان الغالب على أحواله ذلك، فنهاه عنه. "قال: ولا تحقرنَّ شيئًا من المعروف، وأنْ تكلِّم أخاك": مبتدأ خبره (إن ذلك)، أو عطف على (شيئًا)، و (إن ذلك) استئناف علة له. "وأنت منبسط إليه وجهُكَ"؛ أي: ذو بشاشة، تتواضع إليه، وتُطيب كلامَكَ له حتى يفرحَ قلبه بحسن خلقك. "إن ذلك من المعروف، وارفْع إزارك"؛ أي: ليكن سراويلك وقميصك قصيرين. "إلى نصف الساق، فإن أبيت"؛ أي: لم ترضَهُ نفسُك. "فإلى الكعبين، وإياك وإسبال الإزار"؛ أي: احذر من إطالته. "فإنها"؛ أي: خصلة إسبال الإزار. "من المَخيلة": بفتح الميم؛ أي: من الكبر والعجب. "وإن الله تعالى لا يحب المخيلة، وإن امرؤٌ شتمك أو عيَّرك"؛ أي: عابك بما "يعلم منك"، "فلا تعيره بما تعلم منه، فإنما وبالُ ذلك": الشتم والتعيير. "عليه، وفي رواية: فيكون لك أجر ذلك، ووباله عليه". * * * 1363 - عن عائشة رضي الله عنها: أنهم ذَبَحوا شاةً، فقالَ النبيُّ - صلى الله تعالى عليه وسلم - "ما بقيَ منها؟ "، فقالت: ما بقِيَ إلا كَتِفُها، قال: "بقِيَ كلُّها غيرَ كتِفِها"، صحيح. "عن عائشة أنهم"؛ أي: أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - "ذبحوا شاةً، فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: ما بقي منها؟ ": (ما) استفهامية؛ أي: أيُّ شيء بقي منها؟

"فقالت: ما بقي إلا كتفها، قال - صلى الله عليه وسلم -: بقي كلُّها غيرَ كتفِها"؛ يعني: ما تصدَّقت فهو باقٍ، وما بقي عندك فهو غير باقٍ، كما قال الله تعالى: {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل: 96]. "صحيح". * * * 1364 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِن مُسلِمٍ كسَا مُسلِمًا ثَوبًا إلا كانَ في حِفْظٍ من الله ما دامَ منهُ عليهِ خِرْقةٌ". "عن ابن عباس أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول: ما من مسلم كسا مسلمًا ثوبًا، إلا كان في حفظٍ من الله ما دام منه عليه خِرْقة": وإنما لم يقل: في حفظ الله؛ ليدل التنكير على نوع تفخيم وشيوع، هذا في الدنيا، وأما في الآخرة؛ فلا حصرَ ولا عدَّ لثوابه. * * * 1365 - عن عبد الله بن مَسْعود - يرفعُه - قال: "ثلاثةٌ يُحبهم الله: رجلٌ قامَ من اللَّيل يتلُو كتابَ الله، ورجلٌ يتصدَّقُ بصدَقةٍ بيمينِهِ يُخفيها - أُراهُ قالَ مِن شِمَالِهِ، ورجلٌ كانَ في سَرِية، فانهزَمَ أَصحابُه، فاستْقَبلَ العَدوَّ"، غريب. "وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - يرفعه"؛ أي؛ الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. "قال: ثلاثة يحبهم الله: رجل قام عن الليل يتلو كتاب الله"؛ أي: يقرأ القرآن. "ورجل يتصدق بصدقة بيمينه يخفيها، أُراه ": من (الإراء)؛ أي: قال ابن مسعود: أظن النبي عليه الصلاة والسلام "قال: من شماله"؛ أي: يخفي الصدقة من شماله.

"ورجل كان في سرية"؛ وهي قطعة من الجيش، فانهزم أصحابه، "فاستقبل العدو. "غريب". * * * 1366 - عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة يُحِبُّهم الله، وثلاثة يُبغِضُهم الله، فأما الذين يُحِبُّهم الله: فرجلٌ أتى قَوماً، فسألهَم بالله ولم يسألْهم لقَرابةٍ بينَهُ وبينَهم فَمَنَعُوه، فَتَخَلَّفُ رجلٌ بأَعقابهم فأَعطاه سِرًّا، لا يعلمُ بعطيَّتِهِ إلا الله والذي أَعطاهُ، وقومٌ سَارُوا ليلَتَهم حتى إذا كانَ النَّومُ أحبَّ إليهم مما يُعدَلُ، به فَوَضَعُوا رؤُوسَهم، فقامَ سِرًّا، يَتَمَلَّقُني ويتلُو آياتي، ورجل كانَ في سَرِيةٍ، فلقوا العَدوَّ، فهزِمُوا، فأقبلَ بصَدْر حتى يُقتلَ أو يفتَحَ له، والثلاثة الذين يُبغِضهم الله: فالشيخُ الزَّاني، والفَقيرُ المُخْتَالُ، والغَنىُّ الظَّلومُ". "عن أبي ذر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ثلاثة يحبهم الله، وثلاثة يبغضهم الله: فأما الذين يحبهم الله؛ فرجل أتى قومًا، فسألهم بالله"؛ أي: قال: أعطوني بحق الله. "ولم يسألهم بقرابة"؛ أي: لحقِّ قرابة "بينه وبينهم، فمنعوه"؛ أي: لم يعطوا ذلك الرجل شيئًا. "فتخلف رجل بأعيانهم": الباء للتعدية؛ أي: بأشخاصهم وأنفسهم؛ أي: ترك القوم المسؤول منهم خلفه وتقدم، "فأعطاه سراً لا يعلم بعطيته إلا الله والذي أعطاه، وقوم ساروا ليلتهم حتى إذا كان النومُ أحبَّ إليهم مما يعدل به"؛ أي: من كل شيء يقابل النوم. "فوضعوا رؤوسهم، فقام سراً يتملَّقني"؛ أي: يتواضع إلي، ويتضرع ويبكي من خشيتي، "ويتلو آياتي، ورجل كان في سرية، فلقي العدو، فهزموا،

فأقبل بصدره حتى يقتل أو يفتح له. والثلاثة الذين يبغضهم الله؛ الشيخُ الزاني، والفقير المختال"؛ أي: المتكبر. "والغني الظلوم"؛ أي: كثير الظلم. إنما خص الشيخ وأخويه بالذكر؛ لأن هذه الخِصَال فيهم أشدُّ مَذَمَّة وأشنع نكرًا، أعاذنا الله بلطفه من ذلك. * * * 1367 - عن أَنس - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمَّا خلَقَ الله الأرضَ جَعلَتْ تَمِيدُ، فخلَقَ الجبَالَ فقال بها عليها، فاستقرَّتْ، فعجبَتِ المَلائكةُ من شِدَّةِ الجبالِ، فقالوا: يا ربِّ، هل مِنْ خلْقِكَ شيءٌ أشَدُّ من الجبالِ؟، قال: نَعَم، الحديد فقالوا: يا ربِّ، هَلْ من خلْقِكَ شيءٌ أَشدُّ من الحديدِ؟ قال: نَعَم، النارُ، فقالوا: ياربِّ، هل مِنْ خلْقِكَ شَيْءٌ أشدُّ مِنَ النارِ؟، قال: نعم، الماء، فقالوا: يا ربِّ، هل مِنْ خلقِكَ شيءٌ أشدُّ من الماءِ؟، قال: نعم، الريحُ، فقالوا: يا ربِّ، فهل مِنْ خلقِكَ شيءٌ أشدُّ مِنَ الريح؟، قال: نعم، ابن آدم تَصَدَّقَ صدقةً بيمينِهِ يُخفيها مِنْ شِمالِهِ"، غريب. "عن أنس، عن النبي - عليه الصلاة السلام - أنه قال: لما خلق الله الأرضَ، جعلت تَميدُ"؛ أي: طفقت تتحرك وتضطرب بشدة، ولا تستقر. "فخلق الجبال، فقال بها عليها"؛ أي: فضرب بالجبال على الأرض. "فاستقرت، فعجبت الملائكة من شدة الجبال، فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيءٌ أشدُّ من الجبال؟ قال: نعم، الحديد": كونه أشد من أجل أنه يكسر الحجر.

8 - باب أفضل الصدقة

"فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الحديد؟ قال: نعم، النار": كونها أشد من أجل أنها تذيب الحديد. "فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من النار؟ قال: نعم، الماء": كونه أشد من أجل أنه يطفئ النار. "فقالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشد من الماء؟ قال: نعم، الريح ": كونها أشد من أجل أنها تفرِّقُ الماءَ وتشقه. "قالوا: يا رب! هل من خلقك شيء أشدُّ من الريح؟ قال: نعم، ابن آدم؛ تصدق صدقة بيمينه يخفيها من شماله": إنما كانت الصدقةُ الموصوفة أشدَّ من الريح الأشد مما قبلها؛ لأن صدقة السر تطفئ غضب الرب الذي لا يقابله شيء في الصعوبة والشدة، فإذا عمل الإنسان عملًا يتوسل إلى إطفائه، كان أشدَّ وأقوى من هذه الأجرام. ولأن فيها مخالفة النفس وقهر الشيطان، فإن الإنسانَ مجبولٌ على الشح، وهذان الوصفان أعظم أيضًا من هذه الآشياء. "غريب". * * * 8 - باب أَفْضَل الصَّدَقة (باب أفضل الصدقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1368 - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ الصَّدقةِ ما كانَ عن ظَهْرِ غِنًى، وابدأْ بمَنْ تَعُولُ".

"من الصحاح": " عن أبي هريرة وحكيم بن حِزام: أنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: خيرُ الصدقة ما كان عن ظهر غنًى"؛ أي: ما كان مستندًا إلى ظهر قوي من المال، يستظهر به على النوائب التي تنوبه، أو هو كناية عن تمكن المتصدق من غنًى ما، كقولهم: هو على ظهر سير؛ أي: متمكن منه، أو لفظة (الظهر) زائدة؛ أي: عن غنًى، وتنكيره ليفيد أن لابد للمتصدق من غنًى ما؛ إما غنى النفس، وهو الاستغناء عما بذل بسخاوة النفس ثقة بالله، كما كان لأبي بكر - رضي الله عنه -، وإما غنى المال الحاصل في يده، والأول أفضل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس". "وابدأ بمن تعول"؛ أي: بمن يلزمك نفقتهم. * * * 1369 - وقال: "إذا أَنفقَ المُسلِمُ على أهلِهِ نفقةً وهو يَحتَسِبُها كانتْ له صدقةً". "عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إذا أنفق المسلم نفقةً على أهله وهو يحتسبها"؛ أي: يعتدُّها مما يُدَّخرُ عند الله، والاحتساب: طلب الثواب من الله تعالى. "كانت له صدقة". * * * 1370 - وقال: "دِينْارٌ أنفقتَهُ في سَبيلِ الله، ودِينارٌ أنفقتَهُ في رقبةٍ، ودِينْارٌ تصدَّقتَ يِه على مِسْكين، ودينارٌ أنفقتَهُ على أَهْلِكَ، أَعظَمُها أَجْرًا الذي أنفقتَهُ على أَهلِكَ".

"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: دينارٌ أنفقته في سبيل الله، ودينارٌ أنفقته في رقبة"؛ أي: في إعتاقها، "ودينارٌ تصدقت به على مسكين، ودينارٌ أنفقته على أهلك، أعظمها أجرًا الذي أنفقته على أهلك": إنما كان الإنفاق عليه أفضل؛ لأنه صدقة وصلة الرحم. * * * 1371 - وقال: "أَفْضَلُ دينارٍ ينفقُهُ الرجلُ: دينارٌ يُنفقُهُ على عيالِهِ، ودينارٌ يُنفِقُهُ على دابَّتِهِ في سبيلِ الله، ودينارٌ يُنفقُهُ على أصحابهِ في سبيلِ الله". "عن ثوبان بن بُجْدد مولى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفضلُ دينارٍ ينفقه الرجل دينارٌ ينفقه على عياله": أعم من أن تكون نفقتهم واجبة عليه، أو مستحبة، قدم ذلك لكونه أكثر ثوابًا. "ودينارٌ ينفقه على دابته في سبيل الله، ودينارٌ ينفقه على أصحابه في سبيل الله"؛ يعني: الإنفاقُ على هؤلاء الثلاثة على الترتيب أفضلُ من الإنفاق على غيرهم. * * * 1372 - وقالت أُمُّ سلَمة: يا رسولَ الله!، أَلِيَ أَجْرٌ أنْ أُنْفِقَ على بني أبي سَلَمَةَ؟، إنما هم بنيَّ، فقال: "أنفِقي عليهم، فلكِ أجرُ ما أَنفقْتِ عليهم". "وقالت أم سلمة: يا رسول الله! أبي أجر أن أنفق": بكسرة همزة (إن) وفتحها. "على بني أبي سلمة، إنما هم بني": بفتح الباء. "فقال: أنفقي عليهم، فلك أجر ما أنفقت عليهم ". * * *

1373 - وعن زينَبَ امرأةِ عبدِ الله بن مَسْعودٍ قالتْ: انطلقتُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فوجدتُ امرأةً من الأَنْصارِ على البابِ حاجتُها مثْلُ حاجتي، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أُلقِيَت علَيه المَهابةُ، قالت: فخرجَ علينا بلالٌ، فقلنَا له: ائتِ رسولَ الله، فأخبره أنَّ امرأَتينِ بالبابِ تسأَلانِكَ: أتجزِئُ الصَّدَقةُ عنهما على أَزواجِهما، وعلى أَيتامٍ في حُجورِهما، ولا تُخْبرْهُ مَن نحنُ، فدخلَ، فسألهُ، فقال: "مَن هما؟ "، قال: زينبُ، قال: قال: "أَيُّ الزَّيانِب؟ "، قال: امرأةُ عبدِ الله بن مَسْعود، قال: "نعَمْ، لَهُما أَجرانِ: أجرُ القَرابةِ، وأجرُ الصَّدَقةِ". "وعن زينب - رضي الله عنها - امرأة عبد الله بن مسعود قالت: انطلقت إلى النبي عليه الصلاة والسلام, فوجدت امرأة عن الأنصار على الباب حاجتها مثل حاجتي، وكان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قد ألقيت عليه المهابةُ": بفتح الميم، أي: العظمة والخوف والهيبة؛ يعني: أعطى الله تعالى رسوله مهابة يخاف الناس منه أن يُدخَل في داره. "فخرج علينا بلالٌ، فقلنا له: ائتِ رسولَ الله، فأخبره أن امرأتين بالباب تسألانك: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما، وعلى أيتام في حُجورهما؟ " بضم الحاء: جمع الحِجر، يقال: فلان في حِجرِ فلان؛ أي: في كنفه ومنعه. "ولا تخبره من نحن، فدخل": بلال، "فسأله فقال"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام -: "من هما؟ قال: زينب، قال: أي الزيانب": وإنما قال (أي) دون (أية)؛ لأنه يجوز التذكير في مثله والتأنيث، قال الله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان: 34]. "قال: امرأة عبد الله بن مسعود؟ قال: نعم لهما أجران؛ أجر القرابة، وأجر الصدقة": وإنما أخبر بلال عنهما مع أنهما نهتا عنه؛ لأنه كان واجبًا عليه عند استخبار النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأن إجابته فرض دون غيره. * * *

1374 - وقالت مَيْمونة بنت الحارِث: يا رسولَ الله!، إني أَعتقتُ وَلِيدَتِي، قال: " أَمَا إنَّك لو أَعطيتِها أَخْوَالَكِ كانَ أَعظمَ لأَجْرِك ". "وقالت ميمونة بنت الحارث: يا رسول الله! إني أعتقت وليدتي"؛ أي: جاريتي، الوليدة: ما ولدت في ملك إنسان مملوكة له. "فقال: أما إنك لو أعطيتها أخوالك، كان أعظم لأجرك": لأن أخوالها كانوا محتاجين إلى خادم، فيكون الإعطاء لهم صدقة وصلة، فلذا يكون الإعطاء لهم أعظم أجرًا؛ لأن الخيرين أفضلُ من واحد. * * * 1375 - وقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسولَ الله!، إنَّ لي جارينِ، فإلى أيَّهما أُهدي؟، فقال: " إلى أَقْربهما مِنْكِ بابًا". "وقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن لي جارين، فإلى أيهما أهدي؟ قال: أقربهما منك بابًا": فهذا يدل على أن الصدقة للجيران الأقربِ أولى من البعيد. * * * 1376 - وعن أبي ذَر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا طَبخْتَ مرَقةً فأكْثِرْ ماءَها، وتَعَاهدْ جيرانك". "وعن أبي ذر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إذا طبختَ مرقةً، فأكثر ماءها": إنما أمره بإكثار الماء في مرقة الطعام حرصًا على إيصال نصيب منه إلى الجار وإن لم يكن لذيذًا. "وتعاهد جيرانك": جمع الجار، التعهد: التحفظ بالشيء، وتجديد

العهد به"؛ التعاهدُ: ما كان بين اثنين من ذلك؛ أي: أنفق فضل طعامك على جيرانك، واحفظ به حقَّ الجوار. * * * مِنَ الحِسَان: 1377 - عن أبي هريرة أنه قال: يا رسولَ الله، أيُّ الصدقةُ أَفْضَلُ؟، قال: "جُهْدُ المُقِلِّ، وابدَأْ بمَنْ تَعولُ". "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: يا رسول الله! أيُّ الصدقة أفضل؟ قال: جُهْدُ المقل": الجهد بضم الجيم: الوُسْعُ والطاقة، المقل: الفقير؛ أي: أفضل الصدقة ما قدر عليه الفقيرُ الصابرُ على الجوع أن يعطيه. والمراد بالغنى في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصدقة ما كان عن ظهر غنى": من لا يصبر على الجوع والشدة؛ توفيقًا بينهما، فمن صبر فالإعطاءُ في حقه أفضل، ومن لا يصبر فالأفضلُ في حقه أن يمسك قوته، ثم يتصدق بما فضل. "وابدأ بمن تعول ". * * * 1378 - وقال: "الصَّدقةُ على المِسْكِين صدَقةٌ واحدةٌ، وهي علَى ذِي الرَّحِمِ ثنتانِ: صدَقة وصِلَةٌ". "عن سليمان بن عامر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: الصدقةُ على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحم ثنتان؛ صدقةٌ وصِلةٌ"؛ يعني: الصدقة على الأقارب أفضل؛ لأنها الخيران، ولا شك هما

أفضل من واحد. * * * 1379 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: عندي دينارٌ؟، قال: "أَنْفِقْهُ على نفْسِكَ "، قال: عندي آخَر؟ قال: "أَنْفقْهُ على ولَدِكَ "، قال: عندي آخر؟ قال: "أَنفْقه على أهلِكَ"، قال: عندي آخرُ؟ قال: "أَنفقْهُ على خَادمِكَ"، قال: عندي آخرُ؟، قال: "أنتَ أعلَمُ". "قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: جاء رجل إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - وقال: عندي دينار؛ قال: أنفقه على نفسك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على ولدك": وإنما قدَّم الولد على الزوجة، لشدة افتقاره إن النفقة بخلافها، فإنه لو طلقها، لأمكنها أن تتزوجَ بآخر. "قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على أهلك، قال: عندي آخر؟ قال: أنفقه على خادمك، قال: عندي آخر؟ قال: أنت أعلم به". * * * 1380 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَلاَ أُخبرُكم بخيرِ الناس؟، رجل مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فرَسِهِ في سبيلِ الله، ألا أَخبُركم بالذي يتلُوهُ؟ , رجلٌ معتزِلٌ في غُنَيْمَةٍ له يؤدِّي حقَّ الله - تعالى - فيها، ألا أُخبرُكم بِشرِّ الناسِ؟، رجل يُسألُ بالله، ولا يُعطي بِه ". "عن ابن عباس: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: ألا أخبركم بخير الناس؟ "؛ معناه: أنه من خير الناس، لا أنه أفضل سائر الناس. "رجل مُمسِكٌ بعِنانِ فرسه في سبيل الله، ألا أخبركم بالذي يتلوه؟ "؛

أي: بالشخص الذي يتبعه في الخيرية. "رجل معتزل"؛ أي: متباعد عن الناس، منفرد عنهم إلى موضع خال من البوادي والصحارى. "في غُنيمةٍ له" بضم الغين: تصغير غنم؛ أي: قطيع من الغنم يسير، أو البقر، أو غير ذلك من الدواب. "يؤدي حق الله فيها"؛ أي: يؤدي زكاتها، ويصلي الصلوات، ولا يصلُ منه إلى أحدٍ شرٌّ، فله درجة قريب من درجة الغازي. "ألا أخبركم بشرِّ الناس؟ رجلٌ يسأل بالله": بصيغة الفاعل. "ولا يُعطِي به": بصيغة المفعول (¬1)؛ أي: يسأل مالكم لنفسه، ولا يُعطِي بالله إذا سُئِل به. ويروى: (يُسأل) بصيغة المفعول أيضًا؛ أي: يقول الفقير لشخص: بالله أعطني، ولا يعطي الرجل المسؤول بالله. * * * 1381 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُدُّوا السائلَ ولو بِظِلْفٍ مُحْرَقٍ" "عن أم بُجيدٍ أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رُدّوا السائلَ ولو بظلف محرق": الظلاف - بكسر الظاء المعجمة - للبقر والغنم بمنزلة الحافر للفرس. أراد به - صلى الله عليه وسلم - المبالغة في ردِّ السائل بأدنى ما يتيسر، ولم يرد به صدورَ هذا الفعل من المسؤول منه؛ فإن الظلفَ المحرق غيرُ منتفع به. ¬

_ (¬1) بل هو بصيغة المبني للمعلوم، والله أعلم.

وفي بعض النسخ: (لا تردوا السائل)؛ أي: لا تجعلوه محرومًا، بل أعطوه شيئًا. * * * 1382 - وقال: "مَنِ استعاذَكم بِالله فَأعِيذُوه، ومَن سألَ بالله فأعطُوهُ، ومَنْ دَعَاكم فأجيبُوهُ، ومَن صنعَ إليكم مَعرُوفًا فكافِئُوه، فإنْ لم تَجدُوا ما تُكافِئُونهُ فادْعُوا له، حتى تَرَوْا أنْ قد كَافَأتُمُوه". "وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: من استعاذ بالله"؛ أي: من التجأ إليكم من شرِّ أحد، واستغاث لديكم بالله، مثل أن يقول: بالله ادفعوا عني شرَّ فلان وإيذاءَه. "فأعيذوه"؛ أي: أغيثوه وارحموه؛ تعظيمًا لاسم الله تعالى. "ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفًا"؛ أي: أحسن إليكم إحسانًا،"فكافئوه": من المكافأة؛ أي: أحسنوا إليه مثل ما أحسن إليكم. "فإن لم تجدوا ما تكافئونه ": من المال وغير ذلك. "فادعوا له"؛ أي: فكافئوه بالدعاء؛ يعني: كرروا الدعاءَ. "حتى تروا"؛ أي: تظنوا "أن قد كافأتموه"، وأديتم حقه. وقد جاء في حديث آخر: "من صُنِعَ إليه معروفٌ فقال: جزاك الله خيرًا، فقد أبلغ في الثناء"، فبدليل هذا الحديث من قال لأحد: جزاك خيرًا مرة، فقد أدَّى العوض، وإن كان حقه كثيرًا، وكانت عادة أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنه - إذا دعا لها السائل أن تجيبه بمثل ما يدعو السائل لها، ثم تعطيه من المال ما تعطيه، فقيل لها: تعطي السائل المال وتدعو له بمثل ما يدعو لك، فقالت: ولو لم أدعُ

9 - باب صدقة المرأة من مال زوجها

له. لكان حقه بالدعاء لي عليَّ أكثرَ من حقي عليه بالصدقة، فأدعو له بمثلِ ما يدعو لي حتى أكافئ دعاءه بدعائي؛ لتخلص لي صدقتي. * * * 1383 - وقال: "لا تَسْألوا بوجْهِ الله إلا الجنَّةَ". "عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يُسأَلُ بوجه الله إلا الجنة": يروى: (لا تسأل) ومفردًا مخاطبًا معلومًا، وغائبًا مجهولاً؛ نهيًا ونفيًا؛ أي: لا ينبغي أن يقال: يا فلان! أعطني شيئًا بوجه الله أو بالله؛ فإن اسمه أعظم أن يُسأل به متاع الدنيا، بل اسألوا به الجنة، مثل أن تقول: يا ربنا! نسألك الجنة بوجهك الكريم. * * * 9 - باب صدَقة المَرأَة من مال زَوجها (باب) قد اختلفت ترجمة هذا الباب؛ ففي بعض النسخ هكذا، وفي بعضها؛ (باب نفقة المرأة من مال زوجها). مِنَ الصِّحَاحِ: 1384 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أنفقَتِ المَرأةُ من طعامِ بيتِها غيرَ مُفسِدةٍ كانتْ لها أجرُها بما أَنفقَتْ، ولزوجِها أَجرُه بما كسَبَ، وللخَازِنِ مثْلُ ذلك، لا ينقُصُ بعضُهم أَجْرَ بعض شيئًا".

"من الصحاح": " عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إذا أنفقت المرأة من طعام بيتها غيرَ مفسدة": نصب على الحال؛ أي: غير مسرفة في الصدقة. "كان لها أجرها بما أنفقت": الباء فيه للسببية؛ أي: بسبب ما أنفقت. "ولزوجها أجره بما كسب؛ وللخازن مثلُ ذلك"؛ أي: للخازن الذي كانت النفقة يزيده مثل ذلك الأجر. "لا ينقص بعضهم أجرَ بعض شيئًا": قيل: هذا الحديث جارٍ على عادة أهل الحجاز؛ فإن عادتهم أن يأذنوا لزوجاتهم وخدمهم بأن يضيِّفوا الأضيافَ، ويطعموا السائلين؛ فحرَّض - عليه الصلاة والسلام - أمته على هذه العادة الحسنة، فيكون لكلِّ واحد من الزوج والزوجة والخازن نصيبٌ من الأجر. * * * 1385 - وقال: "إذا أَنفقتِ المَرأة من كسْبِ زَوجها من غيرِ أَمرِه فلها نِصْفُ أَجْرِه". " وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: إذا أنفقت المرأة من كسب زوجها من غير أمره ": قيل: هذا مفسر بما إذا أخذت من مال زوجها أكثر من نفقتها، وتصدقت به، فعليها غُرمُ ما أخذت أكثر منها، فإذا علم الزوج، ورضي بذلك، "فلها نصف أجره" بما تصدقت كان نفقتها، ونصف له بما تصدقت به أكثر من نفقتها؛ لأن الأكثر حق الزوج. * * *

1386 - وقال: " الخازِنُ المُسلِمُ الأَمينُ الذي يُعطِي ما أُمِرَ بِه كاملًا مُوَفَّرًا طَيبة بِه نفْسُهُ، فيدفعُهُ إلى الذي أُمِرَ له بِه أحدُ المُتَصَدِّقَيْنَ". "قال أبو موسى: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: الخازن المسلم الأمين الذي يعطي ما أُمِر به كاملًا مُوَفَّرًا"؛ أي: تامًا. "طيبةً به نفسه، فيدفعه إلى الذي أُمِر به أحدُ المتصدقين": خبر المبتدأ، وهو (الخازن)، وما بعده صفات له، وكون الخازن أحد المتصدقين مشروطٌ في الحديث بأربعة شروط: أحدها: الإذن؛ لقوله: (ما أمر به). والثاني: أن لا ينقص مما أُمر به؛ لقوله: (كاملًا موفورًا). والثالث: طيب قلبه بالتصدق؛ إذ بعض الخازنين والخدام قد لا يرضون بما أُمِرُوا به من التصدق. والرابع: أن يعطي الصدقة إلى المسكين الذي أمره صاحب المال بدفعه إليه، لا إلى مسكين آخر. * * * 1387 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رجُلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أُمي افْتُلِتَتْ نفَسُها، وأظنّهَا لو تكلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فهل لها أَجْرٌ إن تَصدَّقتُ عنها؟، قال: " نعَمْ " "وقالت عائشة رضي الله عنها: إن رجلًا": وهو سعد بن عُبادةُ. "قال للنبي عليه الصلاة والسلام: أمي افتُلِتَتْ نفسُها"؛ أي: أُخِذت فلتة؛ أي: بغتة؛ أي: ماتت فجأة، ولم تقدْر على الكلام والوصية بالتصدق. "وأظنها لو تكلمت تصدقت" من مالها بشيء.

"فهل لها من أجر إن تصدقت عنها؟ قال: نعم": فأجازه، فهذا صريحٌ في أن ثواب الصدقة عن الميت يصل إليه. * * * مِنَ الحِسَان: 1388 - عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في خُطبَتِهِ عامَ حجَّةِ الوداعِ: "لا تُنفِقُ امرأةٌ شيئًا من بيتِ زَوجِها إلا بإذنِ زَوْجِها"، قيل: يا رسولَ الله!، ولا الطعامُ؟، قال: "ذاكَ أفْضَلُ أَموالِنا". "من الحسان": " عن أبي أمامة أنه قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول في خطبته عام حجةِ الوَداع": بفتح الواو. "ألا": حرف تنبيه. "لا تنفق امرأة شيئًا من بيت زوجها إلا بإذن زوجها، قيل: يا رسول الله! ولا الطعام؟ قال: ذلك"؛ أي: الطعامُ "أفضلُ أموالنا": فإذا لم يجز التصدق بما هو أقل قدرًا من الطعام بغير إذن الزوج، فكيف يجوز بالطعام الذي هو أفضل؟! * * * 1389 - وعن سَعْد - رضي الله عنه - قال: لَمَّا بايعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النِّساءَ قالت امرأةٌ: إنَّا كَلٌّ على آبائِنا وأزواجِنا، فما يَحِلُّ لنا من أَموالِهم؟، قال: "الرَّطْبُ تَأكُلْنَهُ، وتُهْدِينَه". "وعن سعد أنه قال: لما بايعَ رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - النساءَ، قالت امرأة: إنا كَلٌّ ": بفتح الكاف وتشديد اللام؛ أي: ثِقَلٌ وعِيالٌ.

10 - باب من لا يعود في الصدقة

"على آبائنا وأبنائنا وأزواجنا، فما يحل لنا من أموالهم؟ قال: الرَّطْب " بفتح الراء وسكون الطاء: ما لا يُدَّخر ولا يبقى، كالفواكه والبقول والأطبخة واللبن، وما يسرع إليه الفساد. "تأكلنه"، أي: يحلُّ لكنَّ أن تأكلنه من أموالهم بقدر النفقة. "وتهدينه"؛ أي: ترسلنه هدية، قيل: الإهداء والتصدق لا يحل لهن إلا بإذن، والحديث مُفسَّر بما إذا أذنوا لهن بذلك. * * * 10 - باب مَنْ لا يَعْود في الصَّدقَة (باب من لا يعود في الصدقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1390 - قال عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: حَمَلْتُ على فرَسٍ في سبيلِ الله، فأضاعَه الذي كان عنْدَه، فأردتُ أَنْ أشتريَه، فسألْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "لا تَشْتَرِه وإنْ أعطاكَهُ بدِرْهم، فإنَّ العائدَ في صدقَتِهِ كالكلْبِ يَعُودُ في قَيْئه ". وفي روايةٍ: "لا تَعُدْ في صدقَتِكَ، فإنَّ العائدَ في صدقتهِ كالعائدِ في قَيْئه". "من الصحاح": " قال عمر بن الخطاب: حملت على فرس "؛ أي: أركبتُ عليه "رجلًا" من المجاهدين "في سبيل الله": ممن لم يكن لهم حمولة، وتصدقت بها عليه. "فأضاعه الذي كان عنده"، أي: جعله كالشيء الضائع الهالك؛ لتقصيره في رعاية علفه وسقيه.

"فأردت أن أشتريه، فسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: لا تشتره وإن أعطاكه بدرهم": الجار والمجرور متعلق بقوله: (لا تشتره)، أو بقوله: (أعطاكه). ذهب بعض العلماء إلى أن شراء المتصدق صدقته حرامٌ؛ لظاهر الحديث، والأكثرون على كراهته تنزيهاً؛ لكون القبح فيه لغيره، وهو أن المتصدق عليه ربما يتسامح المتصدق في الثمن بسبب تقدم إحسانه، فيكون كالعائد في صدقته في ذلك المقدار الذي سُومِح به. "فإن العائدَ في صدقته كالكلبِ يعود في قيئه، وفي رواية: لا تعد في صدقتك، فإن العائد في صدقته كالعائد في قيئه". * * * 1391 - عن بُرَيْدة أنه قال: كنتُ جالساً عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذ أَتَتْهُ امرأةٌ فقالت: يا رسولَ الله! إني تصدَّقتُ على أُمي بجاريةٍ وإنَّها ماتتْ، قال: "وجَبَ أجرُكِ، وردَّها علَيكِ المِيْراثُ"، قالت: يا رسولَ الله! إنه كانَ عليها صومُ شهرٍ، أفَأَصومُ عنها؟، قال: "صُومي عنها"، وقالت: إنَّها لم تَحُجَّ قَطُّ، أفأحجُ عنها؟، قال: "نعَمْ، حُجِّي عَنْها". "وعن بريدة أنه قال: كنت جالساً عند النبي - عليه الصلاة والسلام - إذ أتته امرأة فقالت: يا رسول الله! إني تصدقت على أمي بجارية، وإنها"؛ أي: أمي. "ماتت قال: وجبَ أجرُك، وردها"؛ أي: الجارية. "عليك الميراثُ"؛ أي: صارت الجارية ملكاً لك بالإرث. أكثر العلماء على أن الشخص إذا تصدق بصدقة على قريبه، ثم ورثها، حلَّت له.

وقيل: يجب صرفها إلى فقير؛ لأنها صارت لله، فلا تصير ملكاً له. "قالت: يا رسول الله! إنه"؛ أي: الشأن "كان عليها صوم شهر رمضان، فأصوم عنها؟ قال: صومي عنها": جَوَّز أحمد أن يصوم الولي عن الميت ما كان عليه من الصوم من قضاء، أو نذر، أو كفارة بهذا الحديث، ولم يجوِّز أبو حنيفة رحمه الله، بل يُطعِم عنه وليه عن كل يوم مدًّا من الطعام. "قالت: إنها لم تحجَّ قط، أفأحجُّ عنها؟ قال: نعم، حجي عنها": فيجوز أن يحج أحد عن الميت بالاتفاق. * * *

7 - كتاب الصوم

7 - كِتَابُ الصَّومِ

1 - باب

7 - كِتَابُ الصَّومِ (كتاب الصوم) 1 - باب مِنَ الصِّحَاحِ: 1391/ -م - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دَخَلَ رَمضانُ فُتِحَتْ أَبْوابُ السَّماءِ". وفي رواية: "فُتحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أَبْوابُ جَهَنَّمَ، وسُلْسِلَتْ الشَّياطينُ". وفي روايةٍ: "فُتِحتْ أَبْوابُ الرَّحْمَةِ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا دخل رمضان فُتِحت أبوابُ السماء": فتحُ أبوابها كنايةٌ عن تواتر نزول الرحمة والمغفرة وإزالة الغلق عن مصاعد أعمال العباد تارةً ببذل التوفيق، وتارةً بحسن القَبولِ عنهم. "وفي رواية: فتحت أبواب الجنة": فتح أبوابها كناية عن فعل ما يؤدي ويهيأ إلى دخولها.

"وغلقت أبواب جهنم": تغليق أبوابها كناية عن انتفاء ما يُدخِل إليها؛ إذ الصائمُ يتنزَّه عن كبائر الذنوب، ويُغفَرُ له ببركة الصيام صغائرها. "وسلسلت الشياطين": كناية عن امتناع تسويل النفوس، واستعصائها عن قَبولِ وساوسهم؛ إذ بالصوم تنكسر القوة الحيوانية التي هي مبدأ الشهوة والغضب الداعيين إلى أنواع المعاصي، وتنبعث القوة العقلية إلى الطاعات. "وفي رواية: فتحت أبواب الرحمة". * * * 1392 - وقال: "في الجَنَّةِ ثَمَانِيَةُ أَبْوابٍ، فيها بابٌ يُسَمَّى الرَّيَّان لا يَدْخُلُهُ إلَّا الصَّائِمُونَ". "وعن سهل بن سعد أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: للجنة ثمانيةُ أبواب، منها بابٌ يسمَّى الريان، لا يدخلُهُ إلا الصائمون". * * * 1393 - وقال: "مَنْ صَامَ رمضانَ إِيْماناً واحْتِسَاباً غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ، ومَنْ قامَ رَمَضَانَ إِيْماناً وَاحْتِساباً غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ، ومَنْ قامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيْماناً واحْتِسَاباً غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من صام رمضان إيماناً"؛ أي: تصديقاً لثوابه. "واحتساباً"؛ أي: إخلاصاً، نصبهما على الحال، أو على أنه مفعول له. "غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان"؛ أي: أحيا لياليه بالعبادة غير ليلة القدر تقديراً، أو معناه: أدَّى التراويح فيها "إيماناً واحتساباً، غفر له ما تقدم

من ذنبه، ومن قام ليلة القدر"؛ أي: أحياها مجردة عن قيام رمضان "إيماناً واحتساباً، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه". * * * 1394 - وقال: "كُلُّ عَمَلِ ابن آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِها إلى سَبْعِمائَةِ ضعْفٍ، قال الله تعالى: إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لي، وأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلي". وقال: "للصائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ، وفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقاءِ رَبهِ، ولَخُلوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله تعالى مِنْ رِيْحِ المِسْكِ، والصِّيامُ جُنَّةٌ، فَإِذا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أَحَدِكُمْ؛ فلا يَرْفُثْ، وَلاَ يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أَحَدٌ أَوْ قاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صائِمٌ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كلُّ عمل ابن آدم"؛ أي: كل عمل صالح لابن آدم. "يضاعف، الحسنةُ بعشر أمثالها"، وقد يُزاد "إلى سبعة مئة ضعف": والضعف المثل؛ لقوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261]. وسبب الزيادة إليها؛ إما لكمال إخلاص نية المتصدق، وإما لشدة استحقاق الفقير، وقد يزاد عن سبع مئة ضعف، كما قال الله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 261]. "قال الله تعالى: إلا الصومَ، فإنه لي"؛ أي: لم يشاركني فيه أحد، ولا عُبدَ به غيري، وهذا لأن جميع العبادات التي يَتقرَّب بها إلى الله تعالى قد عَبَدَ بها المشركون آلهتهم، ولم يُسمع أن طائفة منهم عبدت آلهتها بالصوم، ولا تقربت به

إليها في عصر من الأعصار، فلذا قال تعالى: الصوم لي. "وأنا أجزي به": وأتولى الجزاء عليه على قدر اختصاصه بي، فإن الصوم عمل خالص، قلَّما يطلع عليه غيرُ الله. "يدع شهوته"، أي: يترك ما اشتهته نفسه من اللذات. "وطعامه من أجلي، وقال: للصائم فرحتان": الفَرْحة: فَعْلة للمرة من الفرح. "فرحة عند فطره"، وذلك إما سروره بالأكل والشرب؛ فإن نفس الإنسان تفرح بهما بعد الجوع والعطش, وإما سروره بما وُفِّقَ له من إتمام الصوم الموعود عليه الثواب الجزيل. "وفرحة عند لقاء ربه" يوم القيامة، وإعطائه جزاءَ صومه، يفرح فرحاً لا يبلغ أحد كنهه. "ولخُلُوف فم الصائم" بضم الخاء المعجمة: ما تخلف بعد الطعام في الفم من رائحة كريهة؛ بخلاء المعدة، منه. "أطيب"، أي: أرضى وأحب "عند الله من ريح المسك" عندكم؛ لأن رائحه فم الصائم من أثر الصوم، وهو عبادة يجزي الله تعالى بنفسه صاحبها. "والصيام جنة"؛ أي: ترس يقي نفسه من المعاصي؛ لأنه يكسر الشهوة، فلا يوقع فيها، كما تقي الجنةُ السهمَ، أو هو جنة للصائم تقيه من النار. "وإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يرفثُ"؛ أي: لا يتكلم بكلام قبيح. "ولا يصخبْ": بالخاء المعجمة؛ أي: لا يرفع صوته بالهذيان، بل ليكن صائماً من جميع المناهي. "فإن سابَّه أحدٌ"؛ أي: شتمه، "أو قاتله، فليقل: إني امرؤ صائم"؛ أي:

يقول لصاحبه باللسان يرده به عن نفسه، أو يقول في نفسه؛ أي: ليتفكر في نفسه أنه صائم، فلا يخوض معه بمكافأته على شتمه؛ لئلا يُحبَط أجرُ تحمله، وثواب عمله. * * * مِنَ الحِسَان: 1395 - قال: "إذا كانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضانَ صُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الجنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوُابُ النَّارِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْها بابٌ، وفُتِّحَتْ أَبْوابُ الجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ منها بابٌ، ويُنادي مُنادٍ: يا باغِيَ الخَيْرِ أَقْبلْ، ويَا باغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، ولِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وذلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ"، غريب. "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان، صُفِّدت الشياطينُ ومردةُ الجن": جمع مارد، وهو الشرير؛ أي: شُدُّوا بالأغلال؛ كيلا يوسوسِ في الصائمين، ويحملوهم على المعاصي. "وغلقت أبواب النار، فلم يُفتَحْ منها باب، وفتحت أبواب الجنة، فلم يُغلْق منها باب، وينادي منادٍ: يا باغيَ الخير"؛ أي: يا طالبَ الثواب "أقبل"؛ أي: ارجع وتعال واطلب الثواب بالعبادة؛ فإنك تُعطى ثواباً كثيراً بعمل قليل، وذلك لشرف الوقت. "ويا باغيَ الشرِّ أقصرْ"؛ أي: يا من سعى بالمعاصي اتركها، وتبْ وارجعْ إلى الله تعالى. "ولله عتقاء من النار"؛ أي: يعتق الله عباداً كثيراً من النار بحرمة هذا الشهر.

2 - باب رؤية الهلال

"وذلك"؛ أي: هذا النداء "يكون كلَّ ليلة": من ليالي رمضان. "غريب". * * * 2 - باب رُؤية الهِلال (باب رؤية الهلال) مِنَ الصِّحَاحِ: 1396 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَصومُوا حتَّى تَرَوُا الهِلالَ، ولا تُفْطِرُوا حَتَّى تَرَوْهُ, فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَاقْدُروا لَهُ". وفي روايةٍ: "فإن غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا العِدَّةَ ثلاثينَ". "من الصحاح": " عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تصوموا حتى تروا الهلالَ": حتى تثبت عندكم رؤيته بشهادة عدلين، أو أكثر، وتثبت بعدل واحد عند أبي حنيفة إذا كان في السماء غيمٌ، وعند الشافعي أيضاً في أصح قوليه، وعند أحمد سواء كان في السماء غيم أو لا, وعند مالك لا تثبت أصلاً. "ولا تفطروا حتى تروه"؛ أي: تثبت رؤيته بشهادة عدلين، لا بأقل بالاتفاق. "فإن غُمَّ"؛ أي: خفي "عليكم" الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وغُطِّي بغيم، "فاقدروا له"؛ أي: قدَّروا عدد الشهر حتى تكملوه ثلاثين يوماً، ثم صوموا.

ذهب بعض إلى أن المراد به التقدير بحساب القمر في المنازل؛ أي: قدروا منازل القمر؛ فإنه يدلكم على أن الشهر تسعةٌ وعشرون أو ثلاثون. "وفي رواية: إن غُمَّ عليكم فأكملوا العدة ثلاثين". * * * 1397 - وقال: "صوموا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ، فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعبانَ ثلاثينَ". "وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صوموا لرؤيته": اللام للتوقيت، أو بمعنى: بعد؛ أي: صوموا لوقت رؤيته، أو بعد رؤيته. "وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عِدَّةَ شعبان ثلاثين": العدة هنا: العدد، و (ثلاثين) بدل منه بدلَ الكل. * * * 1398 - وقال: "إنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لا نَكْتُبُ، ولا نَحْسُبُ، الشَّهْرُ هكَذَا، وهكَذَا وهكَذَا، وعَقَدَ الإِبْهَامَ في الثَّالِثَةِ"، ثُمَّ قالَ: "الشَّهْرُ هكذَا وهكَذَا وهكَذَا" يَعْنِي: تمامَ ثلاثين، يعني: مرَّةً تسعٌ وعِشرونَ، ومَرَّةً ثلاثونَ. "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنا أمة"؛ أي: جماعة. "أميَّة": نُسِبَ الأميُّ إلى أمة العرب؛ لأنهم لا يعرفون الكتابة، ولا يقرؤون من الكتاب، فاستعير لكلِّ مَنْ لا يعرف الكتابة، ولا القراءة من كتاب. وقيل: نُسِب إلى الأمِّ على أنه باقٍ على الحال التي ولدته أمه.

وقيل: إلى أمِّ القرى وهي مكة؛ أي: أمة مكية؛ أي: نحن جماعة العرب "لا نكتب، ولا نحسب"؛ أي: لا نعرف الكتابة وحساب النجوم حتى نعتمد على علم النجوم وسير القمر، ونعرف الشهر بذلك. قال الخطابي: إنما صح إطلاق الأمي عليهم من قبل نبيِّهم، والقرن الذي بُعِث فيه، فصار الآخر تبعاً للأول في النسبة، وإن كانوا يكتبون ويحسبون. "الشهر هكذا": أشار به إلى أصابعه العشرة، "وهكذا، وهكذا، وعقد الإبهام في الثالثة، ثم قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا؛ يعني: تمام الثلاثين؛ يعني: مرة تسع وعشرون، ومرة ثلاثون": بحسب ما يُرى الهلالُ، لا على الترتيب والتعاقب في ذلك. * * * 1399 - وقال: "شَهْرَا عِيدٍ لا يَنْقُصانِ: رَمَضَانُ، وَذُو الحِجَّةِ". "وعن أبي بَكرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: شهرا عيدِ لا ينقصان"؛ أي: لا ينقصان معاً في سنة واحدة، بل إن نقصَ أحدُهما تمَّ الآخر، وقيل: لا ينقصان في ثواب من يعظِّمها ولو كان تسعاً وعشرين، وقيل: أراد تفضيل ثواب عشر ذي الحجة بأنه لا ينقصُ أجره عن رمضان، وقيل: أي: في الحكم، وإن نقصا في العدد. "رمضان وذو الحجة"، وإنما سمي رمضان شهر العيد بطريق المجاورة. * * * 1400 - وقال: "لا يَتَقَدَّمَنَّ أَحَدُكُمْ رَمضانَ بِصَوْمِ يَوْمٍ أو يَوْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلٌ كانَ يَصومُ صَوماً فَلْيَصُمْ ذلِكَ اليوْمِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:

لا يتقدمنَّ أحدُكم رمضانَ بصوم يوم أو يومين"، وإنما نهى عنه حذراً عن التشبه بأهل الكتاب، وقيل: ليشرع في صوم رمضان بنشاط، ولا يثقل عليه صومه، وقيل: لئلا يختلط صوم النفل بالفرض. "إلا أن يكون رجل كان يصوم صوماً، فليصمْ ذلك اليوم": الحديث يدل على صحة صوم يوم الشك إن وافق نذراً أو قضاءً أو ورداً؛ لأن فيه ضرورة؛ لأن القضاء والنذر فرضٌ، وتأخيرُهُ غيرُ مرضي، وأما الوِرْدُ فتركه أيضاً شديدٌ عند مَنْ ألِفَ به؛ لأن أفضل العبادة أدومُها. * * * مِنَ الحِسَان: 1401 - قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انْتَصَفَ شَعْبَانُ فلا تَصُومُوا". "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا انتصف شعبانُ"؛ أي: إذا مضى النصف الأول منه، "فلا تصوموا": وهذا ليستريحَ من الصوم، ويكون له نشاط لصوم رمضان. * * * 1402 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أَحْصُوا هِلالَ شَعْبَانَ لِرَمَضَانَ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أَحصُوا هلالَ شعبان لرمضان": بفتح الهمزة: أمرٌ من (الإحصاء) وهو: العد؛ أي: عدوا أيامه لتعلموا دخول رمضان. * * *

1403 - وقالتْ أُمُّ سلمَةَ: ما رَأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَصومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابعَيْنِ إلَّا شَعْبَانَ وَرَمَضَانَ. "وقالت أم سلمة: ما رأيت النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان". * * * 1404 - وقال عمَّار بن ياسِر - رضي الله عنه -: مَنْ صَامَ اليَوْمَ الذي يُشَكُّ فيهِ فَقَدْ عَصَى أبا القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -. "وقال عمَّار بن ياسر: من صام اليوم الذي يُشَكُّ فيه، فقد عصى أبا القاسم": محمولٌ على أن صامه ناوياً أنه من رمضان. * * * 1405 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: جَاءَ أَعْرَابيٌّ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي رَأَيْتُ الهِلالَ - يعني: رمضان -، قال: "أَتَشْهَدُ أَنْ لاَ إله إلَّا الله؟ "، قال: نَعَمْ، قال: "أَتَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله؟ "، قال: نَعَمْ، "قال: يا بِلالُ! أَذِّنْ في النَّاسِ فَلْيَصُومُوا غَداً". "عن ابن عباس أنه قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: إني رأيت الهلال؛ يعني: هلال رمضان، فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله؟ قال: نعم، قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم، قال: يا بلال! أذِّنْ في الناس فلْيصومُوا غداً": هذا يدل على أن الإسلام شرطٌ في الشهادة، وعلى أن الرجل إذا لم يعرف فِسْقُهُ تقبَلُ شهادته، وعلى أن شهادة الواحد مقبولة في هلال رمضان. * * *

فصل

1406 - عن ابن عُمر - رضي الله عنه - قال: تَرَاءَى النَّاسُ الهِلالَ، فَأَخْبَرْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنِّي رَأَيْتُهُ، فَصَامَ، وَأَمَرَ النَّاس بِصِيامِهِ. "وعن ابن عمر أنه قال: تراءى الناس الهلال": الترائي: أن يرى بعضُ القوم بعضاً، والمراد: اجتماعهم لطلب الهلال. "فأخبرت النبي عليه الصلاة والسلام: أني رأيته، فصام، وأمر الناس بصيامه". * * * فصل (فصل) مِنَ الصِّحَاحِ: 1407 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَسَحَّرُوا، فإنَّ في السُّحُورِ بَرَكةٌ". "من الصحاح": " عن أنس أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تسحَّروا"؛ أي: كلوا الطعام في السحر، وهو ما قَبْل الصبح. "فإن في السَّحور": وهو بفتح السين: ما يُتسحَّر به، وبضمها: المصدر والفعل نفسه. "بركة": وهي الزيادة في الخير، وهذه الزيادة تكون في قوة البدن على المعنى الأول، وفي الثواب على المعنى الثاني؛ لأن الأجر في الفعل بإتيان السنة، لا بنفس الطعام. * * *

1408 - وقال: "فَصْلُ ما بَيْنَ صِيامِنَا وصِيامِ أَهْلِ الكِتَابِ أَكْلَةُ السَّحَرِ"، رواه عَمْرو بن العاص. "عن عمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فَصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب": الفصل بالصاد المهملة: الفرق. "أكَلَةُ السَّحر" بضم الهمزة: اللقمة؛ يعني: كان الطعام والشراب والجماع حراماً على بني إسرائيل ليلة صيامهم بعد النوم، وكذا كان الحكم في بدء الإسلام، ثم أذن الله بهذه الأشياء ما لم يطلع الصبح. * * * 1409 - وقال: "لا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ ما عَجَّلُوا الفِطْرَ"، رواه سَهْل بن سَعْد. "عن سهل بن سعد أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يزال الناس بخيرٍ ما عجَّلوا الفطرَ": (ما) للدوام؛ أي: ما داموا يحفظون هذه السنة، وهذا لأن في تعجيل الفطر مخالفةَ أهل الكتاب؛ فإنهم يؤخِّرونه إلى اشتباك النجوم. * * * 1410 - وقال: "إذا أَقبلَ اللَّيْلُ مِنْ هَاهُنَا، وأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَاهُنَا، وغَرَبَتِ الشَّمْسُ؛ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ". "وعن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أقبل الليل من هاهنا": إشارة إلى المشرق؛ لأن الظلمة تظهر أولاً من ذلك

الجانب، "وأدبر النهار"؛ أي: ذهب ضوؤه "من هاهنا" إشارة إلى المغرب، "وغربت الشمس": هذا لبيان كمال الغروب؛ لئلا يُظَنَّ جوازُ الإفطار بغروب بعض الشمس. "فقد أفطر الصائم"؛ أي: صار مفطراً حُكماً، وإن لم يفطر حساً، بدليل أنه يحتاج إلى نية صوم الغد، وإن لم يأكل ولم يشرب شيئاً. * * * 1411 - وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الوِصَالِ في الصَّوْمِ، فقالَ لَهُ رَجُلٌ: إنَّكَ تُواصِلُ يا رسُولَ الله!، قال: "وَأَيُّكُمْ مِثلي؟، إنِّي أَبيتُ عِنْدَ رَبي يُطْعِمُني ويَسْقِينِي". "وقال أبو هريرة: نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن الوِصالِ في الصوم": وهو تتابع الصوم من غير إفطار بالليل، نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عنه؛ لإضعافه، وللعجز عن المواظبةِ على كثير من وظائف العبادات. "فقال له رجل: إنك تواصل يا رسول الله؟ قال: وأيكم مثلي؟ إني أبيتُ يطعمني ربي ويسقين"؛ أي: يعينني على الصوم، ويعطيني القوة على الوصال، فيكون ذلك لي بمنزلة الطعام والشراب لكم. أو المراد: يؤتى على الحقيقة بطعام وشراب يطعمهما؛ تكريماً وتشريفاً له. * * * مِنَ الحِسَان: 1412 - عن حَفْصَة رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لَمْ يُجْمِعِ الصِّيامَ مِنَ اللَّيْلِ قَبْلَ الفَجْرِ فَلاَ صِيَامَ لَهُ"، ويُروى موقوفاً على حَفْصَةَ.

"من الحسان": " عن حفصة، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: مَنْ لم يُجمِعِ الصيامَ"؛ أي: لم يعزمه؛ يعني: من لم ينوِ الصومَ. "قبل الفجر، فلا صيامَ له": اتفقوا على أن الصوم المفروض قضاءً وكفارةً ونذراً مطلقاً لا يصحُّ بدون النية قبل الفجر، وكذا صوم رمضان والنذر المعين عند الشافعي وأحمد، وعند أبي حنيفة يجوز نيته بعد الصبح وقبل الزوال. "ويروى موقوفاً على حفصة" رضي الله عنها. * * * 1413 - وقال: "إذا سَمِعَ النِّدَاءَ أَحَدُكُمْ والإناءُ في يَدِهِ؛ فلا يَضَعْهُ حَتَّى يَقْضيَ حاجَتَهُ مِنْهُ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا سمع النداء"؛ أي: أذان الصبح. "أحدكم والإناء في يده فلا يضعه"؛ أي: الإناء بسماع النداء "حتى يقضي حاجته منه" بالأكل والشرب، وهذا إذا لم يعلم طلوع الصبح، وأما إذا علم أنه قد طلع أو شك فلا. * * * 1414 - وقال: "قال الله تعالى: أَحَبُّ العِبادِ إليَّ أَعْجَلُهُمْ فِطْراً". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: أحبُّ عبادي إليَّ أعجلهم فطراً"؛ أي: أكثرهم تعجيلاً في الإفطار، ولعل سبب محبته تعالى إياه؛ لطاعته سنة رسول الله صلى الله تعالى

عليه وسلم؛ ولأنه إذا أفطر قبل الصلاة يؤدِّيها عن حضور قلب وطمأنينة نفس، ومن كان بهذه الصفة، فهو أحبُّ إلى الله تعالى ممن لم يكنْ كذلك. * * * 1415 - وقال: "إذا أَفْطَرَ أَحَدُكم فَلْيُفْطِرْ على تَمْرٍ، فَإِنَّهُ بَرَكةٌ، فإنْ لَمْ يَجِدْ فَلْيُفْطِرْ على ماءٍ، فإنَّهُ طَهُورٌ". "وعن سلمان بن عامر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أفطر أحدكم، فليفطرْ على تمر؛ فإنه بركة": فالأولى أن تحال علته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما ما يجري في الخاطر أن التمر حلو وقوت، والنفس قد تعبت بمرارة الجوع، فأمر الشارعُ إزالة هذا التعب بشيء هو قوت وحلو. "فإن لم يجد فليفطرْ على ماء؛ فإنه طهور" يزيل أيضاً تعب العطش عن النفس. * * * 1416 - وقال أَنسٌ: كانَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُفْطِرُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لم تَكُنْ فَتُمَيْرَاتٍ، فإنْ لَمْ تَكُنْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ ماءٍ"، غريب. "وقال أنس: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يفطرُ قبل أن يصليَ على رُطَبات، فإن لم تكن فتُمَيْرات، فإن لم تكن حَسَا حَسَواتٍ من ماء"؛ أي: يشرب شربات من ماء. "غريب". * * * 1417 - عن زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ فَطَّرَ صائِماً

أو جَهَّزَ غَازِياً فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِه"، صحيح. "وعن زيد بن خالد أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من فطَّر صائماً"؛ أي: جعله مفطراً؛ يعني: من أطعم صائماً. "أو جهَّز غازياً"؛ أي: هيَّأ أسبابه من السلاح والفرس والنفقة، "فله مثل أجره". "صحيح". * * * 1418 - عن ابن عمر قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أَفْطَرَ قال: "ذَهَبَ الظَّمَأُ، وابْتَلَّتِ العُرُوقُ، وثَبَتَ الأَجْرُ إنْ شَاءَ الله تعالى". "عن ابن عمر أنه قال: كان رسول الله - عليه الصلاة والسلام - إذا أفطر قال: ذهب الظمأ"؛ أي: زال العطش الذي كان بي. "وابتلت العروق": بزوال اليبوسة الحاصلة بالعطش؛ أي: زال التعب. "وثبت الأجر"؛ أي: حصل الثواب. "إن شاء الله تعالى": وهذا حثٌّ على العبادات؛ فإن التعبَ يسير؛ لذهابه وزواله، والأجرَ كثير؛ لبقائه وثباته. * * * 1419 - ورُوي: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذَا أَفْطَرَ قال: "اللهمَّ لكَ صُمْتُ، وعَلَى رِزْقِكَ أَفْطَرْتُ". "وعن ابن عباس أنه قال: إن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا أفطر قال: اللهم لك صمتُ"؛ يعني: لم يكن صومي رياء، بل كان خالصاً.

3 - باب تنزيه الصوم

"وعلى رزقك أفطرت"؛ لأنك الرزاق، يُقرَأ هذا الدعاءُ بعد الإفطار. * * * 3 - باب تَنْزيه الصَّوم (باب تنزيه الصوم)؛ أي: تبعيده وتخليصه من الفواحش. مِنَ الصِّحَاحِ: 1420 - قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ بهِ فَلْيْسَ للهِ حاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرابَهُ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ لم يدعْ"؛ أي: لم يترك. "قولَ الزور"؛ أي: الكذب. "والعملَ به"؛ أي: بالزور. والمراد: الفواحش؛ لأن في ارتكابها مخالفة لله تعالى، ومخالفته تعالى في حكم الكذب؛ لأن الغرضَ من الصوم كسرُ النفس بترك المناهي، فإذا لم يحصل شيء من ذلك إلا جوع وعطش، لم يُبالِ الله تعالى بصومه. "فليس لله تعالى حاجةٌ في أن يدعَ طعامه وشرابه": كناية عن عدم الالتفات إليه، ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظَّمَأ". * * *

1421 - وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَبلُ ويُبَاشِرُ وهو صائِمٌ، وكانَ أَمْلَكَكُمْ لإِربهِ. "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُقبل ويُباشِرُ"؛ أي: يلمس نساءه بيده. "وهو صائم"؛ أي: حال كونه صائماً. "وكان أملَكَكُمْ"؛ أي: أفعل التفضيل من (ملك ملكاً): إذا قدر على شيء، وصار حاكماً عليه. "لإربه": يرويه الأكثرون بفتحتين، وبعض: بكسر الهمزة وتسكين الراء؛ أي: لحاجته. وقيل: بتسكين الراء: العضو، وعنت به الذكرَ خاصة. وأرادت بملكه - صلى الله عليه وسلم - حاجته أو عضوه قمعه الشهوة، فلا يخاف الإنزال، بخلاف غيره، وعلى هذا فيكره لغيره - صلى الله عليه وسلم - القبلة والملامسة باليد. وقيل: المعنى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان قادراً على حفظ نفسه عنهما؛ لأنه غالبٌ على هواه، ومع ذلك كان يقبل ويباشر، وغيرُهُ قلما يصبر على تركهما؛ لأن غيره قلما يملك هواه، فعلى هذا لا يكونان مكروهين لغير الرسول أيضاً. * * * 1422 - وقالتْ: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُدْرِكُهُ الفَجْرُ في رَمَضَانَ وهو جُنُبٌ مِنْ غَيْرِ حُلُمٍ، فَيَغْتَسِلُ، ويَصُومُ". "وقالت عائشة: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يدركه الفجرُ وهو جنبٌ من غير حُلُمٍ"؛ أي: احتلام، بل بالوقوع.

"فيغتسل ويصوم": قال عامة العلماء: من أصبح جنباً، اغتسلَ وأتمَّ صومه، وقيل: يبطل، وقال إبراهيم النخعي: يبطل الفرض دون النفل. * * * 1423 - وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وهو مُحْرِمٌ، واحْتَجَمَ وهو صَائِمٌ. "وقال ابن عباس: إن النبي - عليه الصلاة والسلام - احتجمَ وهو محرم": قيل: تجوز الحجامة للمحرم بالحج والعمرة بشرط أن لا ينتفَ شعراً، فإن نتفَ، فعليه الفدية، كما يأتي في (كتاب الحج). "واحتجمَ وهو صائم": فتجوز الحجامةُ للصائم من غير كراهة عند أبي حنيفة ومالك والشافعي، وقال الأوزاعي: يكره له مخافة الضعف. * * * 1424 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ نَسِيَ وهو صائِمٌ فَأَكَلَ أو شَرِبَ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ الله وسَقَاهُ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ نسي وهو صائم، فأكل وشرب، فليتمَّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه": إطلاق الحديث يدلُّ على أنه لا يفطر وإن أكل كثيراً، وقال مالك: يبطل الصوم، وفي الكثير قولٌ للشافعي. * * * 1425 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: هَلَكَتُ، وأَهْلَكْتُ، فقال: "ما شَأْنُكَ؟ "، قال: وَقَعْت على امْرَأَتِي في نَهارِ

رَمضانَ، قال: "فأَعْتِقْ رَقَبَة"، قال: لَيْسَ عندي، قال: "فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابعَيْنِ"، قال: لاَ أستطيعُ، قال: "فَأَطْعِمَ سِتِّينَ مسكيناً"، قال: لا أَجِدُ، قال: اجْلِسْ، فَجَلَسَ، فأُتِىَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَرَقٍ فيه تَمْرٌ - والعَرَقُ: المِكْتَلُ الضَّخْمُ - قال: "خُذْ هذا فَتَصَدَّقْ بِه"، قال: على أَفْقَرَ مِنَّا؟، فَضَحِكَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، قال: "أَطْعِمْهُ عِيالَكَ". "وعن أبي هريرة أنه قال: جاء رجل إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - وقال: هلكتُ""؛ أي: بحصولِ الذنبِ لي. "وأهلكتُ"؛ أي: زوجتي بأن حملتها ذنباً. "قال"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام: "ما شأنك"؛ أي: أي شيء أمرك وحالك؟ "قال"؛ أي: الرجل: "وقعت على امرأتي"؛ أي: جامعتها. "في رمضان"؛ أي: في نهار رمضان. "قال عليه الصلاة والسلام: فأعتق رقبة"؛ أي: كفارة هذا الذنب أن يعتق عبداً أو أمةً. "قال: ليس عندي، قال - صلى الله عليه وسلم -: فصم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، قال: فأطعم ستين مسكيناً، قال: لا أجد، قال: اجلسْ، فجلس، فأُتِيَ النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - بعَرَقٍ فيه تمرٌ": و (العرق) بفتحتين: "المكتل الضخم": وهو زنبيل منسوجٌ من نسائج الخُوصِ يسع فيها خمسة عشر صاعاً. "قال: خُذْ هذا، فتصدَّق به، قال: على أفقرَ منا؟ "؛ أي: أتصدق بهذا على من هو أكثر حاجة منا؟ يعني: أنا وعيالي فقراء، ليس أحد أفقرَ منا.

"فضحك النبي - عليه الصلاة والسلام - حتى بدت"؛ أي: ظهرت "نواجذُهُ"؛ أي: أواخر أسنانه. "قال: أطعمه عيالك": قيل: هذا خاصٌّ بذلك الرجل، وقيل: منسوخ، وكلاهما قولٌ لا دليلَ عليه، والقول القديم أنه لما أخبر أن ليس ثمة أحوج منه، لم يرَ له - عليه الصلاة والسلام - أن يتصدَّقَ على غيره. * * * مِنَ الحِسَان: 1426 - عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُقَبلُها وهو صائِمٌ، ويَمُصُّ لسانَهَا. "من الحسان": " عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يقبلها وهو صائم، ويمصُّ لسانها". * * * 1427 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رجُلاً سأَلَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ المُبَاشَرَةِ للصَّائِمِ فَرَخَّصَ له، وأَتَاهُ آخَرُ فَنَهَاهُ، فإذا الذي رَخَّصَ له شَيْخٌ، والذي نَهَاهُ شابٌّ. "عن أبي هريرة: أن رجلاً سأل النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - عن المباشرة"؛ أي: عن القبلة واللمس باليد. "للصائمِ، فرخَّص له، وأتاه آخرُ، فنهاه، فإذا الذي رخَّصَ له شيخٌ، والذي نهاه شابٌّ"، وإنما رخَّص للشيخ؛ لأنه لا يكون له شهوة غالبة، فيُخاف

عليه إنزال المني، بخلاف الشاب. * * * 1428 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ذَرَعَهُ القَيْءُ وهو صائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْه قَضَاءٌ, وَمَنِ اسْتَقَاءَ عَمْداً فَلْيَقْضِ"، ضعيف. "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من ذَرَعَهُ القيءُ"؛ أي: سبقه وغلبه في الخروج. "وهو صائم، فليس عليه قضاءٌ"؛ لأنه لا تقصيرَ منه. "ومن استقاء عمداً"؛ أي: طلب القيء، وأخرجه باختياره. "فليقضِ": اختلفوا في وجوب الكفارة عليه، والأكثرون على أنه لا كفارةَ عليه. "ضعيف". * * * 1429 - عن مَعدانَ بن أبي طَلْحَةَ، أنَّ أبا الدَّرداءِ حَدَّثه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَاء فَأَفْطَرَ، قال ثَوْبَان: صَدَقَ، وأَنا صَبَبْتُ لَهُ وَضُوءَهُ. "وعن معدان بن أبي طلحة: أن أبا الدرداء حدثه"؛ أي: أخبره. "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قاء"؛ أي: قاء عمداً، "فأفطر"، وكان صومُهُ صومَ التطوع. "قال ثوبان: صدق، وأنا صببت له وَضوءه": بالفتح؛ أي: ماء وضوئه؛ أي: سكبت الماء على يده حتى غسل يديه وفمه.

هذا تأويلُ الشافعي لأنِ القيءُ لا يُبطِلُ الوضوءَ عنده، قيل: رواية أبي الدرداء حكاية حال النبي - عليه الصلاة والسلام - لا يعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لأيِّ علةٍ أفطر؛ للقيء أو لغيره، وقد عُلِمَ من قوله: "من ذرعه القيء" الحديث: أن القيء لا يكون سبباً للفطر، فظهر أن السببَ غيره، وهو عود ما قاء، أو وصول الماء إلى الجوف عند غسل الفم. وقول ثوبان: (صدق) تصديقُ القيء والإفطار، لا تصديقُ كون القيء إفطاراً. * * * 1430 - عن عامر بن رَبيعةَ قال: رأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ما لا أُحْصِي يَتَسَوَّكُ وهو صائِمٌ. "عن عامر بن ربيعة قال: رأيت النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - ما لا أُحْصِي": ما لا أقدر على عدِّه من الكثرة. "يتسوَّكُ وهو صائم": فلا يكره السواك للصائم في جميع النهار، بل هو سنة عند أكثر العلماء، وبه قال أبو حنيفة ومالك؛ لأنه تطهير. وقال ابن عمر: يكره بعد الزوال، وبه قال الشافعي وأحمد. * * * 1431 - وقال لَقِيْطُ بن صَبرةَ: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَالِغْ في الاسْتِنْشَاقِ إلَّا أَنْ تَكْونَ صَائِماً". "وقال لَقِيطُ بن صَبرةَ: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بالغْ

في الاستنشاق إلا أن تكون صائماً": تقدم بيانه في (باب سنن الوضوء) في (حسانه). * * * 1432 - ورُوي عن أنَس - رضي الله عنه - قال: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: اشْتَكَيْتُ عَيْنِي، أفَأَكْتَحِلُ وَأَنَا صَائِمٌ؟، قال: "نَعَمْ"، ضعيف. "وعن أنس قال: جاء رجلٌ إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: اشتكيت عيني"؛ أي: أشكو من وجع عيني. "أفأكتحلُ وأنا صائم؟ "؛ أي: حال كوني صائماً. "قال: نعم": قال أبو حنيفة ومالك والشافعي: الإكتحالُ للصائم غيرُ مكروه وإن ظهر طعمه في الحلق، وكرهه أحمد. "ضعيف". * * * 1433 - ورُوي عن بعضِ أَصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: لَقَدْ رَأَيْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بالعَرْجِ يَصُبُّ على رَأْسِهِ الماءَ وهو صَائِمٌ مِنَ العَطَشِ، أوْ مِنَ الحَرِّ. "وروي عن بعض أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: لقد رأيت النبي - عليه الصلاة السلام - بالعَرْج" بالفتح ثم السكون: موضع بين مكة والمدينة. "يصب على رأسه الماء وهو صائم؛ من العطش، أو من الحرِّ": وهذا يدل على أنه لا يُكرَهُ للصائم أن يصبَّ على رأسه الماء، وينغمسَ فيه، وإن ظهر برودته في باطنه. * * *

1434 - عن شَدَّاد بن أَوْسٍ قال: رَأَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رجُلاً يَحْتَجِمُ لِثَمَانِ عَشْرَةَ ليلةً خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، قال: "أَفْطَرَ الحَاجِمُ والمَحْجُومُ". قال المصنِّف رحمه الله: وتأَوَّلَه بعضُ مَنْ رخَّص في الحِجَامة، أي: تعرَّضَا للإفطار، المَحجُوم للضَّعْف، والحاجِمِ لأنَّه لا يأْمَن من أَنْ يَصِلَ شيءٌ إلى جَوْفِه بمصِّ المَلازِم. "وعن شدَّاد بن أوس أنه قال: رأى النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم رجلاً يحتجمُ لثمان عشرة ليلة خلت"؛ أي: مضت "من رمضان، قال: أفطرُ الحاجمُ والمحجومُ"؛ أي: صار ذا فطرٍ، استدل أحمد بهذا على أنه يبطل صومهما. "قال الشيخ الإمام محيي السنة: وتأوَّله"؛ أي: هذا الحديث. "بعض من رخَّص في الحجامة؛ أي تعرَّضا"؛ أي: الحاجم والمحجوم. "للإفطار": كما يقال: أهلك فلان نفسه إذا: كان يتعرض للمهالك. "المحجوم للضعف"؛ أي: لحصول الضعف فيه. "والحاجم؛ لأنه لا يأمن أن يصلَ شيء" من الدم "إلى جوفه بمص الملازم": جمع مِلزمة بكسر الميم، وهي: قارورة الحجَّام التي يجتمعُ فيها الدم. * * * 1435 - ورُوي عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أَفْطَرَ يوماً مِنْ رَمضانَ مِنْ غيرِ رُخْصَةٍ ولا مَرَضٍ لم يَقْضِ عَنْهُ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّه"، ضعيف. "ورُوي عن أبي هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام: من أفطر يوماً من رمضان من غيرِ رخصة، ولا مرض، لم يقضِ عنه صومُ الدهر كلِّه": هذا على

4 - باب صوم المسافر

طريق الإنذار والإعلام بما لحقه من الإثم، وفاته من الأجر، وإلا فالإجماعُ على أنه يقضي يوماً مكانه. "ضعيف". * * * 1436 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَمْ مِنْ صائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إلَّا الظَّمَأُ، وكَمْ مِنْ قائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيامِهِ إلَّا السَّهَرُ". "عن أبي هريرة، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: كم من صائم ليس له من صيامه إلا الظمأ"؛ يعني: كلُّ صوم لا يكون خالصاً لله لا يحصلُ له إلا الجوع والعطش بلا ثواب، وكذلك بفعل المناهي. "وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا السهر"؛ يعني: كل قائم بالليل إذا كان قيامه رياءً ليس له ثواب، وتحصل له مشقة السهر، وهو: ترك النوم، وكذلك جميع العبادات إذا لم تكن خالصةً لله. * * * 4 - باب صَوْم المُسافِر (باب صوم المسافر) مِنَ الصِّحَاحِ: 1437 - قالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ حَمْزَةَ بن عَمْروٍ الأَسْلَمِيَّ قالَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَصومُ في السَّفَرِ؟، وكانَ كَثيرَ الصِّيامِ، فقال: "إنْ شِئْتَ فَصُمْ، وإنْ شِئْتَ فَأَفْطِرْ".

"من الصحاح": " قالت عائشة رضي الله عنها: إن حمزة بن عمرٍو الأسلميَّ قال للنبي عليه الصلاة والسلام: أصومُ في السفر؟ وكان كثير الصيام، فقال: إن شئت فصُمْ، وإن شئت فأفطر": الصوم والإفطار كلاهما جائزان في السفر عند عامة العلماء، وقال ابن عباس وابن عمر: لا يجوز الصوم في السفر. واختُلِفَ في الأفضل، والأكثر على أن الصوم أفضل؛ لتبرئة الذمة، وبعضهم على أن أفضل الأمرين أيسرهما عليه؛ لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]. * * * 1438 - وقال أبو سَعيد الخُدْري - رضي الله عنه -: غَزَوْنَا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِسِتَّ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رمَضانَ، فَمِنَّا مَنْ صامَ، وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فلمْ يَعِبِ الصَّائمُ على المُفْطِرِ، وَلاَ المُفْطِرُ على الصَّائمِ. "وقال أبو سعيد الخدري: غزونا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لستَّ عشرةَ ليلة مضت من شهر رمضان، فمنا من صام، ومنا من أفطر، ولم يعب الصائمُ على المفطر، ولا المفطرُ على الصائم": وفي الحديث دلالةٌ على غلط من قال: إن أحداً إذا أنشأ السفرَ في أثناء رمضان، لم يجزْ له أن يفطر. * * * 1439 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سفَرٍ، فرأَى زِحَاماً ورُجلاً قد ظُلِّلَ عَلَيْهِ، فقال: "ما هذا؟ "، قالوا: صائِمٌ، قال: "ليسَ مِنَ البرِّ الصَّوْمُ في السَّفَرِ". "وقال جابر: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سفر، فرأى

زِحاماً ورجلاً قد ظُلِّلَ عليه"؛ أي: ضرب عليه مظلة؛ يعني: سقط من ضعف الصوم، أو أغمي عليه، وجُعِلَ على رأسه ظل. "فقال عليه الصلاة والسلام: ما هذا؟ قالوا: صائم. فقال: ليس من البر الصيام في السفر"، فلا يحسن الصوم فيمن يلحقه ضرر شديد بالصوم. * * * 1440 - وقال أنس: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ ومِنَّا المُفْطِرُ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً في يَوْمٍ حارٍّ، فسقطَ الصَوَّامُونَ، وقامَ المُفْطِرُونَ، فضَرَبُوا الأَبنيَةَ، وسَقَوْا الرِّكابَ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذَهَبَ المُفْطِرُونَ اليوْمَ بالأَجْرِ". "وقال أنس: كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في السفرِ"، فمنا الصائم، ومنا المفطر، ونزلنا منزلاً في يومٍ حارٍّ، فسقط الصوَّامون، وقام المفطرون، فضربوا الأبنية"؛ أي: الخيام. "وسَقَوا الرِّكابَ": وهي الإبل التي يُسارُ عليها. "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ذهب المفطرون اليومَ بالأجر". * * * 1441 - وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: خَرَجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ المَدِينَةِ إلى مَكَّةَ، فصامَ حتى بَلَغَ عُسْفانَ، ثُمَّ دَعا بماءٍ فَرَفَعَهُ إلى يَدِهِ لِيَرِاهُ النَّاسُ، فَأَفْطَرَ حتَّى قَدِمَ مَكَّةَ، وذلكَ في رمضانَ. "وقال ابن عباس: خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من المدينة إلى مكةَ، فصام حتى بلغ عُسْفان" بضم العين وسكون السين المهملتين: اسم موضع قريب من المدينة.

"ثم دعا بماء"؛ أي: طلبه. "فرفعه"؛ أي: الماء. "إلى يده؛ ليراه الناس، فأفطر حتى قدم مكة، وذلك في رمضان"، والحديث يدل على أن من أصبح صائماً في سفر رمضان، جاز له الفطر. * * * 1442 - ورُوي عن جابرٍ: أَنَّهُ شَرِبَ بعدَ العَصْرِ. "ورُوي عن جابر: أنه صلى الله تعالى عليه وسلم شرب بعد العصر"؛ ليعلمَ الناسُ أن الإفطار في السفر جائز. * * * مِنَ الحِسَان: 1443 - روي عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إنَّ الله وَضَعَ عَنْ المُسافِرِ شَطْرَ الصَّلاةِ، والصَّوْمَ عَنِ المُسافِرِ، وعَنِ المُرْضعِ، والحُبْلَى". "من الحسان": " عن أنس بن مالك الكعبي"؛ أي: الذي هو من بني عبد الله بن كعب. "أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى وضع عن المسافرِ شطرَ الصلاة"؛ أي: نصفها؛ يعني به: القصر. "والصومَ عن المسافر": ترخيصاً له، إلا أن الشطر الموضوع من الصلاة يسقط بلا قضاء، والصوم يسقط مع القضاء إذا أقام. "وعن المرضعِ والحُبلى"؛ أي: الحامل، فيجوز لهما الإفطارُ إبقاءً على الولد مع القضاء، واختلفوا في الفدية؛ قال أبو حنيفة: لا فديةَ عليهما، وقال

5 - باب القضاء

الشافعي وأحمد: يجب عليهما الفدية، وقال مالك: يجب على الحامل دون المرضع. * * * 1444 - وقال: "مَنْ كانَتْ لَهُ حَمُولَةَ تَأْوِي إلى شِبَعٍ، فَلْيَصُمْ رمضانَ حيثُ أَدْرَكَهُ". "وعن سلمة بن المُحبق": بضم الميم وفتح الحاء المهملة ثم الكسر. "أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من كانت له حَمولةٌ" بفتح الحاء: ما يُحمل عليه من الإبل وغيره، (يأوي): لازم ومتعد؛ أي: يأوي صاحبُها، وتُؤويه. "إلى" حال "شبع" ورفاهية، ولم يلحقه في سفره مشقة. "فليصم رمضان حيث أدركه"، والأمرُ هنا للحثِّ على الأولى؛ لدلالة النصوص على جواز الإفطار مطلقاً. * * * 5 - باب القَضَاء (باب القضاء) مِنَ الصِّحَاحِ: 1445 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: كانَ يَكُونُ عليَّ الصَّوْمُ مِنْ رمَضانَ، فَما أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضيَ إلَّا في شَعبانَ. تعني: الشُّغْلُ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.

"من الصحاح": " قالت عائشة رضي الله عنها: كان": اسمه ضمير الشأن. "يكون عليَّ الصومُ من رمضان فما أستطيع أن أقضيَ إلا في شعبان؛ تعني بهذا: الشغل بالنبي عليه الصلاة والسلام"؛ أي: لخدمته - صلى الله عليه وسلم -؛ كي لا يفوته - صلى الله عليه وسلم - الاستمتاعُ بها، فلذلك أخَّرت الصومَ إلى شعبان؛ إذ لا يجوز التأخير عنه. وعدمُ اشتغال كلٍّ منهما بالآخر في شعبان؛ لصومه - صلى الله عليه وسلم - شعبان، إلا قليلاً منه، فتتفرَّغ هي لقضاء ما عليها من رمضان. * * * 1446 - قال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ للمَرأَةِ أَنْ تَصُومَ وزَوْجُها شَاهِدٌ إلَّا بإذْنِهِ، ولا تَأْذَنَ في بَيْتِهِ إلَّا بإذْنِهِ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يحلُّ للمرأةِ أن تصومَ"؛ أي: صوم التطوع. "وزوجُها شاهدٌ"؛ أي: حاضر في البلد. "إلا بإذنه"؛ كيلا يفوت عن الزوج الاستمتاع. "ولا تأذن في بيته"؛ أي: لا تأذن المرأة أحداً من الأجانب أن يدخل بيت زوجها "إلا بإذنه". * * * 1447 - وقالت مُعَاذَةُ لعائشة رضي الله عنها: ما بالُ الحائِضِ تَقْضي الصَّوْمَ ولا تَقْضي الصَّلاةَ؟، قالت: كانَ يُصِيبنا ذلكَ، فنُؤْمَرُ بقَضاءِ الصَّوْمِ، ولا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلاةِ.

"وقالت مُعاذةُ لعائشة رضي الله عنها: ما بال الحائض تقضي الصوم، ولا تقضي الصلاة؟ قالت عائشة رضي الله عنها: كان يصيبنا ذلك": اسم (كان) ضمير الشأن، أو (ذلك) و (يصيبنا) خبر مقدم. "فنُؤمَرُ بقضاء الصومُ، ولا نُؤمرُ بقضاء الصلاة"، فهذا ليس جواباً لسؤال معاذة؛ لأنها سألت عن علته، فأجابت بحكم الشرع؛ إشارةً إلى وجوب قَبولِ أحكام الشرع سواء علم علتها، أو لم يعلم. وأما العلة؛ فهي الضررُ اللاحقُ بها في الصلاة؛ لأن بالحيض إذا امتدَّ إلى خمسة عشر مثلاً في كل شهر تتضرر في قضائها، بخلاف الصوم. * * * 1448 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ماتَ وعلَيْهِ صَوْمٌ صامَ عنهُ وَلِيُّهُ". "قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من مات وعليه صومٌ صامَ عنه وليُّهُ"، وإليه ذهب أحمد، وقد مرَّ بيانه، وأوَّلنا الصومَ عنه بالإطعام مجازاً؛ لأنه ينوب عنه، يؤيده حديثُ ابن عمر بعده. مِنَ الحِسَان: 1449 - رُوي عن ابن عُمر - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ ماتَ وعَلَيْهِ صِيامُ شَهْرِ رَمضانَ فلْيُطْعَمْ عنهُ مكانَ كُلِّ يومٍ مسْكِينٌ"، والصحيح أنَّه موقوفٌ على ابن عمر. "من الحسان": " رُوِي عن ابن عمر، عن النبي عليه الصلاة والسلام: من مات وعليه صيام شهر رمضان، فليُطعَمْ عنه مكانَ كلِّ يوم مسكينٌ".

6 - باب صيام التطوع

"والصحيح أنه موقوف على ابن عمر". * * * 6 - باب صِيَام التَّطوُّع (باب صيام التطوع) مِنَ الصِّحَاحِ: 1450 - قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُ حتَّى نقُولَ: لا يُفْطِرُ، ويُفْطِرُ حتى نَقُولَ: لا يَصُومُ، وما رَأَيْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - اسْتَكْمَلَ صِيامَ شَهْرٍ قَطُّ إلَّا رمَضانَ، وما رَأَيْتُهُ في شَهْرٍ أكْثَرَ مِنْهُ صِياماً في شَعبانَ، كانَ يصُومُ شَعبانَ إلَّا قَلِيلاً. وفي روايةٍ: بَلْ كانَ يصُومُ شَعبانَ كُلَّهُ. "من الصحاح": " قالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم حتى نقول": بنون المتكلم، وهو الروايةُ، وفي بعض النسخ بالتاء على الخطاب؛ أي: حتى تقول أنت أيها السامع: لو أبصرته، ويجوز بياء الغائب أيضاً؛ أي: يقول القائل: "لا يفطر، ويفطر حتى نقول: لا يصوم، وما رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استكمل صيامَ شهرٍ قط إلا رمضان، وما رأيته في شهر أكثر": ثاني مفعولي (رأيت)، والضمير في: "منه" راجع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. "صياماً في شعبان": متعلق بـ (صيام).

"كان يصوم شعبان إلا قليلاً"؛ يعني: كان - عليه الصلاة والسلام - يصوم في شعبان وفي غيره من الشهور سوى رمضان، وكان صيامُهُ في شعبان أكثر من صيامه فيما سواه. "وفي رواية: كان يصوم شعبان كله": قيل: كان يصومه في وقت، ويصوم بعضَهُ في سنة أخرى، وقيل: كان يصوم تارةً من أوله وتارة من آخره وتارة بينهما. ولفظ (كله) تأكيد؛ لإفادة الشمول ورفع التجويز من احتمال البعض. * * * 1451 - وقالتْ: ما عَلِمْتُهُ صامَ شَهْراً كُلَّهُ إلَّا رَمضانَ، ولا أَفْطَرَهُ كُلَّهُ حتَّى يصومَ منهُ، حتَّى مَضَى لِسَبيلِهِ. "وقالت: ما علمتُهُ صام شهراً كلَّه إلا رمضانَ، ولا أفطره"؛ أي: الشهر "كلَّه": تأكيد له. "حتى يصوم منه": و (من) هذه للتبعيض؛ أي: إنه - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم من كل شهر شيئاً "حتى مضى لسبيلِهِ"؛ يعني: حتى توفي. * * * 1452 - وقال عِمْرانَ بن حُصَين: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - له أَو لآخَر: "أَصُمْتَ مِنْ سَرَرِ شَعبانَ؟ "، قال: لا، "قال: "فإذا أَفْطَرْتَ فَصُمْ يَوْمَينِ". "وقال عِمرانُ بن حُصينٍ: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم له أو لآخر": شك من الراوي في أنه - عليه الصلاة والسلام - قال لعمران، أو لرجل آخر.

"أصمتَ من سَرَرِ شعبان": (السَّرر) والسِّرار - بالفتح والكسر -: الليلتان من آخر الشهر. "قال: لا، قال: فإذا أفطرتَ"؛ أي: اليومين الآخرين من شعبان، وقيل: أي: إذا فرغت من رمضان. "فصم يومين"؛ لقضائهما، وكأنَّ الراوي قد أوجب على نفسه صومه بنذر، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالوفاء به، أو كان ذلك عادة له، فلما فاته استحبَّ له النبي - عليه الصلاة والسلام - أن يقضيه. * * * 1453 - وقال: "أفْضَلُ الصِّيامِ بعدَ رَمضانَ شَهْرُ الله المُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلاةِ بعدَ الفَرِيضَةِ صَلاةُ اللَّيْلِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أفضلُ الصيام بعد رمضان شهرُ الله المحرم"؛ أي: عاشوراء، والإضافة لتعظيم هذا الشهر. "وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل". * * * 1454 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: ما رَأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتَحَرَّى صِيامَ يَوْمٍ فَضَّلَهُ على غيرِهِ؛ إلَّا هذا اليومَ يومَ عاشوراءَ، وهذا الشهرَ، يعني: شهرَ رمضانَ. "وقال ابن عباس: ما رأيت النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - يتحرَّى صيامَ يوم": التحري: طلبُ الصواب والمبالغةُ في طلب شيء. "فضله": بدل من (صيام)؛ يعني: ما رأيته يبالغ في تفضيل صوم يوم "على غيره إلا هذا اليوم"؛ يعني: عاشوراء.

"وهذا الشهر؛ يعني: شهرَ رمضان": فإنه - عليه الصلاة والسلام - فضَّل صومَ هذه الأيام على صوم غيرها، أما رمضان فلأنه ((مفروض))، وأما عاشوراء فلأنها كانت فريضة في أول الإسلام، ثم نُسِخت فريضتها بوجوب رمضان، ولا شك أن السُّنةَ التي كانت فريضةً أفضلُ من سنة لم تكنْ كذلك. * * * 1455 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: حِينَ صامَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ عاشوراءَ وأَمَرَ بصِيامِهِ قالوا: يا رسُولَ الله!، إنَّهُ يومٌ تُعَظِّمُهُ اليَهُودُ، فقال: "لَئِنْ بَقِيتُ إلى قَابلٍ لأَصُومَنَّ التَّاسِعَ". "وقال ابن عباس: حين صام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يومَ عاشوراء": رُوي أنه - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة مهاجراً من مكة، رأى اليهود يصومون اليومَ العاشر من المحرم، فسألهم عنه، فقالوا: هذا يوم نعظمه، أظفرَ الله فيه موسى - عليه الصلاة والسلام - وبني إسرائيل على فرعون، فقال عليه الصلاة والسلام: "نحن أولى بموسى"؛ أي: بموافقته، فصام صلى الله تعالى عليه وسلم ذلك اليوم. "وأمر": أصحابه "بصيامه"، فلما كانت السنة العاشرة من الهجرة، "قالوا: يا رسول الله! إنه يوم تعظمه اليهود": كارهين موافقتهم. "فقال عليه الصلاة والسلام: لئن بقيتُ إلى قابل"؛ أي: لئن عشتُ إلى المحرم القابل. "لأصومنَّ التاسع": عزمُهُ - صلى الله عليه وسلم - على صوم التاسع كراهةَ أن يصوم العاشر منفرداً، كما كره صوم يوم الجمعة بلا وصل بالخميس أو السَّبت - مخالفةٌ لأهل الكتاب، فلم يعشْ إلى السنة القابلة، بل توفي في الثاني عشر من الربيع الأول،

فصار صوم التاسع من المحرم سنةً؛ لعزمه - صلى الله عليه وسلم -، وإن لم يصمه. * * * 1456 - وقالتْ أُمُّ الفَضْل بنت الحارِث: إنَّ ناساً تَمارَوْا يومَ عَرَفَةَ في صِيامِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأَرْسَلْتُ إليهِ بِقَدَحِ لَبن وهو واقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ بعَرَفَةَ، فَشَرِبَهُ. "وقالت أمُّ الفضل بنت الحارث: إن ناساً تمارَوا"؛ أي: شكُّوا "يوم عرفة في صيام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم": هل هو صائم فيه، أو لا؟ "فأرسلت إليه بقدح لبن"؛ إزاحةً لمِرْيَةِ القوم. "وهو واقفٌ على بعيره بعرفة، فشربه"، فعلم الناسُ أنه - عليه الصلاة والسلام - ليس بصائم، استحبَّ الأكثرُ إفطارَ يوم عرفة بعرفة؛ ليتقوى على الدعاء. * * * 1457 - وقالت عائشةُ رضيَ الله عنها: ما رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صائِماً في العَشْرِ قَطُّ. "وقالت عائشة رضي الله عنها: ما رأيتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صائماً في العشر"؛ أي: من أول ذي الحجة. "قط": وهذا لا ينفي كونه سنة؛ لأنه جاز أنه - عليه الصلاة والسلام - صامها قبل تزوُّجِهِ بعائشة رضي الله عنها، أو لم يصمْ في نوبتها، فإذا تعارضَ النفيُ والإثباتُ، فالإثباتُ أولى. * * *

1458 - وعن أَبي قَتادة قال: قال عُمر: يا رسُولَ الله!، كيفَ مَنْ يصُومُ الدَّهْرَ كُلَّهُ؟، قال: "لا صامَ، ولا أفْطَرَ، ثَلاثٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، ورَمَضانُ إلى رَمَضانَ، فهذا صِيامُ الدَّهْرِ كُلِّهِ، صِيامُ يومِ عَرَفَةَ أَحْتَسِبُ على الله أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ التي بعدَهُ، وصِيامُ يومِ عاشُوراءَ أَحْتَسِبُ على الله أنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ التي قَبْلَها". "عن أبي قتادة أنه قال: قال عمر: يا رسول الله! كيف من يصوم الدهر كله؟ قال: لا صامَ، ولا أفطرَ": هذا دعاءٌ عليه، وزجرٌ له عن صنيعه، ويشبه أن الذي سُئِل عن حاله من صوم الدهر كان لا يفطر الأيامَ المنهيَّ عنها. أو إخبار؛ أي: لم يكابدْ سَورةَ الجوع وحرَّ الظمأ، لاعتياده الصيام حتى خفَّ عليه، فكأنه لم يصمْ حيث لم ينلْ ثوابَ الصائمين بكلفة الصبر على الجهد، ولا أفطر حيث لم ينلْ راحةَ المفطرين ولذتهم. "ثلاثٌ من كلِّ شهر": قيل: المراد أيام البيض، والصحيح: أن الرجلَ مخيَّرٌ فيها بحديث عائشةَ - رضي الله عنها - يأتي بعدها. "ورمضانُ إلى رمضان، فهذا صيامُ الدهر كله، وصيامُ يومِ عرفةَ أحتسبُ"؛ أي: أرجو "على الله أن يكفِّر"؛ أي: الله أو الصيامُ "السنةَ التي قبله، والسنة التي بعده": معناه: يحفظه الله تعالى من أن يذنب بعدُ إذا جاء تلك السنة، أو أنه يثيبه في السنة الحاضرة ثواباً يُكفِّر للسنة الماضية والآتية إن اتفقَ له فيها ذنوبٌ، ولعل المراد بهذه الذنوب: غيرُ الكبائر. "وصيام يوم عاشوراء أحتسب على الله أن يكفِّرَ السنةَ التي قبله". * * * 1459 - وسُئل عَنْ صَوْمِ يومِ الإثْنَينِ فقال: "فيهِ وُلِدتُ، وفيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ".

"عن أبي قتادة: أنه سُئِل رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن صوم يوم الإثنين فقال: فيه ولدتُ، وفيه أُنزِلَ عليَّ": أجاب - صلى الله عليه وسلم - بما يدلُّ على أن هذا اليوم مباركٌ، وصومه محبوب. * * * 1460 - وسُئِلت عائشةُ رضي الله عنها: أَكانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصُومُ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلاثةَ أَيَّامٍ؟، قالت: نعم، فقيل: مِنْ أَيِّ أيَّامِ الشَّهْرِ؟، قالت: لمْ يَكُنْ يُبَالِي مِنْ أَيِّ أيَّامِ الشَّهْرِ يصُومُ. "وسُئِلت عائشة رضي الله عنها: أكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم من كل شهر ثلاثة أيام؟ قالت: نعم، فقيل: من أيِّ أيام الشهر؟ قالت: لم يكنْ يُبالي من أيِّ أيام الشهر يصوم". * * * 1461 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ صامَ رَمضانَ، وأتْبَعَه سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ كانَ كصِيامِ الدَّهْر". "عن أبي أيوب أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من صام رمضان، وأتبعَهُ ستاً من شوال، كان كصيام الدهر كلِّه": لصيرورة كل يوم بعشرة أيام؛ لأن الحسنة بعشرة أمثالها؛ فعشرة أشهر لرمضان، وشهران لستة من شوال. * * * 1462 - وقال أبو سَعيد الخُدري - رضي الله عنه -: نَهَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صَوْمِ يومِ الفِطْرِ والنَّحْرِ.

"وقال أبو سعيد الخدري: نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن صوم يوم الفطر والنحر": اتفقوا على حرمة صوم يوم العيد، ولو نذره لا ينعقد عند الأكثر، وقال أصحاب الرأي: ينعقد، وعليه صوم يوم آخر. * * * 1463 - وقال: "لا صَوْمَ في يَوْمَيْنِ: الفِطْرِ، والأَضْحى". "وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا صومَ في يومين: الفطرِ والأضحىِ". * * * 1464 - وقال: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أيَّامُ أَكْلٍ، وشُرْبٍ، وذِكْرٍ لله". "عن نُبيشَةَ الهُذليِّ أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيام التشريق أيامُ أكل وشرب": اتفقوا على حرمة صومها، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر. والتشريق لغة: جعل اللحم قديداً، والفقراءُ يقدِّدون ما يُعطَون من لحوم الأضاحي في هذه الأيام، فسميت بها، وإنما حرم صوم يومي العيد وأيام التشريق؛ لأن الناس أضياف الله فيها. "وذكر الله"؛ أي: أيام ذكر الله، حتى لا ينسى العبدُ فيها حقَّ الله، ويستغرق في حظوظ نفسه، وهذا إشارة إلى قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203]. * * * 1465 - وقال: "لا يصُومُ أَحَدُكُمْ يومَ الجُمعةِ إلَّا أنْ يصُومَ قَبْلَهُ، أو يصُومَ بعدَهُ".

"عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يصوم أحدُكم يومَ الجمعةِ إلا أن يصومَ قبله أو بعده"؛ يعني: الخميس أو السبت. * * * 1466 - وقال "لا تَخْتَصُّوا ليلةَ الجُمعةِ بِقيامٍ مِنْ بينِ اللَّيالي، ولا تخْتَصُّوا يومَ الجُمعةِ بصيامٍ مِنْ بينِ الأَيَّامِ إلَّا أنْ يكُونَ في صَوْمٍ يَصُومُه أَحدُكم". "وعنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تختصُّوا ليلة الجمعة بقيام من بين الليالي، ولا تختصُّوا يوم الجمعة بصيام من بين الأيام": كراهية موافقة أهل الكتاب في تعظيم يوم واحد وليلة واحدة. "إلا أن يكون" يوم الجمعة واقعاً "في يومِ صومٍ يصومه أحدكم": من نذر أو ورد. * * * 1467 - وقال: "مَنْ صامَ يوماً في سَبيلِ الله بَعَّدِ الله وجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَريفاً". "وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من صام يوماً في سبيل الله"؛ أي: لله ولوجهه، أو في جهاد مع الكفار. "بعَّد الله وجهه من النار سبعين خريفاً"، أي: سنةً. * * * 1468 - وقال عبد الله بن عَمْرو بن العاص: قالَ لي رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:

"يا عَبْدَ الله!، أَلَمْ أُخْبَرْ أنَّكَ تصُومُ النَّهارَ، وتقُومُ اللَّيْلَ؟ "، فقلتُ: بلَى يا رسُولَ الله، قال: "فلا تَفْعَلْ، صُمْ وأفْطِر، وقُمْ ونَمْ، فإنَّ لِجَسَدِكَ علَيْكَ حقًّا، وإنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حقًّا، وإنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حقًّا، وإنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حقًّا، لا صامَ مَنْ صامَ الدَّهْرِ، صَوْمُ ثلاثةِ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ كُلِّه، صُمْ كُلَّ شَهْرٍ ثَلاثَةُ، واقْرأ القُرآنَ في كُلِّ شَهْر"، قلت: إنَّي أُطِيقُ أكْثَرَ مِنْ ذلك، قال: "صُمْ أفْضَلَ الصَّوْم صَوْمَ داوُدَ، صيامُ يومٍ وإفْطارُ يومٍ، واقْرَأْ في كُلِّ سَبْعٍ لَيالٍ مَرَّةً، ولا تَزِدْ على ذلكَ". "وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا عبد الله! ألم أُخبَرْ": على بناء المجهول. "أنك تصوم النهار": ولا تفطر. "وتقوم الليل"؛ أي: جميعه، ولا تنام. "قلت: بلى يا رسول الله، قال: فلا تفعل، صمْ وأفطر، وقمْ ونم؛ فإن لجسدك عليك حقاً"، فلا يجوز لك إضاعته وإضراره بحيث يعجز عن العبادات وقضاء الحقوق. "وإن لعينك عليك حقاً"؛ أي: من النوم، ويحتمل أن يراد به: الباصرة؛ أي: ينتقص نورها بالصوم. "وإن لزوجك عليك حقاً"؛ فتعجز بالصوم عن المضاجعة والمباشرة بها. "وإن لزَوْرِك عليك حقاً" بفتح الزاي ثم السكون: الزائر، مصدرٌ في الأصل وُضع موضعَ الاسم، كـ (صوم) و (نوم) بمعنى: صائم ونائم، وقد يكون جمعاً كـ (رَكْب). أي: تعجز به عن مجالسة الزوار - أي: الأضياف - والقيام بخدمتهم. "لا صامَ من صام الدهر"؛ لعدم لحوق المشقة باعتياده الصوم.

"صوم ثلاثة أيام من كل شهر صومُ الدهر كله"؛ لأن الواحد بعشرة. "صم كل شهر ثلاثة أيام، واقرأ القرآن في كل شهر"؛ يعني: اقرأ في كل يوم وليلة جزءاً من ثلاثين جزءاً حتى تختم كلَّ شهر ختمة واحدة. "قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: صم أفضل الصومِ صومَ داودَ": بيان لأفضل الصوم. "صيامَ يوم وإفطارَ يوم، واقرأْ في كلِّ سبع ليال مرةً، ولا تزدْ على ذلك". * * * مِنَ الحِسَان: 1469 - قالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصُومُ يومَ الإثْنَيْنِ، والخَمِيس. "من الحسان": " قالت عائشة: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم يومَ الإثنين والخميس". * * * 1470 - وقال أبو هُريرة - رضي الله عنه -: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُعْرَضُ الأَعمالُ يومَ الإثْنَيْنِ والخمِيسِ، فأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عَمَلي وأنا صائِمٌ". "وقال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تُعرَضُ الأعمالُ"؛ أي: على رب العالمين. "يوم الإثنين والخميس": وهذا لا ينافي قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يرفع عملُ الليل قبلَ

عمل النهار، وعملُ النهار قبلَ عمل الليل"؛ للفرق بين العرض والرفع؛ لأن الأعمال تُجمَع في الأسبوع، وتُعرَض في هذين اليومين. "فأحب أن يعرض عملي وأنا صائم". * * * 1471 - عن أبي ذَرٍّ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا ذَرٍّ! إذا صُمْتَ مِنَ الشَّهْرِ ثلاثَةَ أيَّامٍ فصُمْ ثَلاثَ عَشْرَةَ، وأرْبَعَ عَشْرَةَ، وخَمْسَ عَشْرَةَ". "وعن أبي ذر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم؛ يا أبا ذر! إذا صمت من الشهر ثلاثة أيامٍ، فصمْ ثلاث عشرةَ، وأربع عشرة، وخمس عشرة"؛ يعني: أيام البيض. * * * 1472 - عن عبد الله قال: كان رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصُومُ مِنْ غُرَّةِ كُلِّ شَهْرٍ ثلاثَةَ أيَّامٍ، وقَلَّماً كانَ يُفْطِرُ يومَ الجُمعةِ. "وعن عبد الله بن مسعود قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم من غُرَّةِ كلِّ شهر"؛ أي: من أوَّله. "ثلاثة أيام، وقلما كان يفطر يوم الجمعة": تأويله أنه يصومه منضماً إلى ما قبله، أو ما بعده حتى لا يكون مناقضاً؛ لنهيه عن صوم يوم الجمعة وحدها، أو هو مختصٌّ به - عليه الصلاة والسلام - بأن يصومه منفرداً، كما كان صوم الوصال مختصاً به، أو أراد بعدم الإفطار إمساكَ بعض النهار؛ لما كان ذلك عادتهم يوم الجمعة؛ فإنهم ما كانوا يفطرون فيه إلا بعد فرض الوقت. * * *

1473 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يصُومُ مِنْ الشَّهْرِ السَّبْتَ، والأَحَدَ، والإثْنَيْنَ، ومِنَ الشَّهْرِ الآخر الثَّلاثاءَ، والأَرْبعاءَ، والخَمِيسَ" "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصوم من الشهر السبتَ والأحدَ والإثنينَ، ومن الشهر الآخر الثلاثاءَ والأربعاءَ والخميسَ": أراد - عليه الصلاة والسلام - أن يبين سنةَ صومِ جميع الأسبوع، وإنما لم يصمْ جميع هذه السُّنةِ متوالية؛ كيلا يشقَّ على الأمة الاقتداءُ به. * * * 1474 - وعن أُمّ سَلَمة رضي الله عنها قالت: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأْمُرُني أنْ أصُومَ ثلاثةَ أيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، أوَّلُها الإثْنَيْنُ أو الخَمِيسُ. "وعن أم سَلَمة أنها قالت: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمُرُني أن أصومَ ثلاثةَ أيامٍ من كل شهر، أولها الإثنين"؛ أي: يجعل أولَ الأيامِ الثلاثةِ الإثنين. "والخميس"، فالواو بمعنى: أو، وذلك أن الشهر إن كان مفتتحه بما بعد الخميس افتَتحَ الصومَ بيوم الإثنين مع الثلاثاء والأربعاء، وإن وقعَ افتتاحُ الشهر بما بعد الإثنين افتَتحَ الصومَ بالخميس مع الجمعة والسبت. * * * 1475 - عن مُسلِمٍ القُرَشي قال: سُئِلَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ صِيامِ الدَّهْرِ، قال: "صُمْ رَمَضَانَ، والذي يَلِيهِ، وكُلَّ أرْبعاءَ، وخَمِيسٍ، فإذا أنْتَ قَدْ صُمْتَ الدَّهْرَ".

"عن مسلم القُرَشي أنَّه قال: سُئل النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - عن صيام الدهر، قال: صُمْ رمضانَ والذي يليه"؛ أي: يأتي بعده، أراد ستًا من شوال، وقيل: أراد به شعبان. "وكلَّ أربعاء وخميس، فإذًا أنت": جزاء شرط محذوف؛ أي: إنك إذا فعلتَ ما قلتُ لك فأنتَ "قد صمت الدهر". * * * 1476 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عَنْ صَوْمِ يومِ عَرَفَةَ بِعَرَفَةَ. "وعن أبي هريرة: أنَّ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم نَهَى عن صوم يوم عرفة بعرفة": وليس هذا نهيَ تحريمٍ. ورُوي عن عائشة رضي الله عنها: أنها كانت تصومُه، وعطاء قال: أصومُه في الشتاء ولا أصومُه في الصيف. * * * 1477 - عن عبد الله بن بُسْرٍ، عن أُخته: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَصُومُوا يومَ السَّبْتِ إلَّا فِيمَا افْتُرِضَ علَيْكُمْ، فإنْ لمْ يَجدْ أَحَدُكُمْ إلَّا لِحَاءَ عِنَبَةٍ، أَوْ عُودَ شَجَرَةٍ فَلْيَمْضَغْهُ". "عن عبد الله بن بُسْر، عن أخته الصمَّاء"، اسمها: بُهَيمة، وتُعرف بالصمَّاء. "أنَّ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا تصوموا يومَ السبت"؛ لأنه يُعظِّمه اليهود.

"إلا فيما افتُرض عليكم": يتناول المكتوبة المنذورة، وقضاء الفوائت الواجبة، وصوم الكفَّارة، وفي معناه ما وافَقَ وِرْدًا أو سُنَّةَ مؤكَّدةَ، كما لو كان السبتُ يومَ عرفة، أو تاسوعاء، أو عاشوراء، أو عشر ذي الحجة، أو في غير الصيامِ صيامِ داود؛ فإذًا المَنهيُّ شدةُ الاهتمام والعناية به، حتى كأنهم يَرَونه واجبًا كما يفعله اليهود. "فإن لم يجد أحدُكم إلا لِحَاءَ عِنَبة" بكسر اللام؛ أي: قشرَها، استعارة من: قشر العود، وأُريد بالعِنَبة هنا: الحبة، وهي غرس العِنَب. "أو عود شجرة": عطف على (لحاء). "فَلْيَمضَغْه". * * * 1478 - وقال: "ما مِنْ أَيَّامٍ أَحَبُّ إِلى الله أنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فيها مِنْ عَشْرِ ذي الحِجَّةِ، يُعدَلُ صِيامُ كُلِّ يَومٍ منها بصِيامِ سَنَةٍ، وقِيامُ كُلِّ لَيْلَةٍ منها بقِيامِ لَيْلَةِ القَدْرِ". "عن ابن عباس وأبي هريرة أنهما - رضي الله عنهم - قالا: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما مِن أيامٍ أحبُّ": صفة (أيام) بالرفع على المحل، وبالنصب على اللفظ. "إلى الله أنَّ يُتعبَّد": في محل الرفع فاعل لـ (أحب). "له فيها من عشر ذي الحجة، يُعدَل صيامُ كلِّ يوم منها بصيام سَنة، وقيامُ كل ليلة منها بقيام ليلة القَدْر". "غريب". * * *

1479 - وقال: "مَنْ صامَ يَوماً في سَبيلِ الله جعلَ الله بينَهُ وبَيْنَ النَّارِ خَنْدَقاً كما بَيْنَ السَّمَاء والأَرْضِ". "عن أبي أُمامة الباهلي أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن صامَ يوماً في سبيل الله جعلَ الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض"؛ أي: يصير صومُه خندقًا بينه وبين النار؛ فكما أنَّ الرجلَ إذا كان بينه وبين عدوِّه خَندقاً لا يَصِلُ إليه عدوُّه، فكذا الصائم لا تَصِلُ إليه النارُ. * * * 1480 - وقال: "الغَنِيمَةُ البارِدَةُ الصَّوْمُ في الشِّتاء"، مرسلْ. "عن عامر بن مسعود أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الغنيمةُ الباردةُ"؛ أي الغنيمةُ الحاصلةُ من غير كثيرِ تعبٍ ومشقةٍ. "الصومُ في الشتاء"؛ أي: يحصل به الثوابُ من غير أنَّ تصيبَه مشقةُ الجوع، أو يمسَّه حَرُّ العطش، ويستعمل البارد في الشيء ذي الراحة، إنما سُمِّيت بردًا؛ لأن الحرارةَ غالبةٌ في ديار العرب، وماؤهم حارٌّ فإذا أصابوا هواءً باردًا أو ماءً باردًا يقولون: راحة. "مُرسَل" أي: هذا الحديث مُرسَل؛ لأن راويه عامر بن مسعود القرشي، وهو لم يُدرِكِ النبيَّ عليه الصلاة والسلام. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: 1481 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: دَخَلَ عليَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يَوْمٍ، فقال: "هَلْ عِنْدَكُمْ شَيءٌ؟ "، فقلنا: لا، قال: "فإنِّي إذًا صائِمٌ"، ثُمَّ أَتانا يَوْمًا * * *

آخَرَ، فقُلْنا: يا رسُولَ الله!، أُهْدِيَ لنا حَيْسٌ، فقال: "أَرِينِيهِ، فَلَقَدْ أصْبَحْتُ صائِمًا"، فَأَكَلَ. (فصل) "من الصحاح": " عن عائشة أنها قالت: دخلَ عليَّ النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - ذاتَ يوم، فقال: هل عندكم شيءٌ؟ قلنا: لا، قال: فإني إذًا لَصائمٌ": يدل على صحة نية التطوُّع نهارًا. "ثم أتانا يومًا آخر، فقلنا يا رسولَ الله! أُهدِي لنا"؛ أي: أُرسِلَ إلينا. "حَيْس": بالفتح ثم السكون: طعام يُتخذ من تمرٍ وأَقِطٍ وسمنٍ أو زبد. "فقال: أَرِنِيه" من: الإدارة. "فلقد أصبحتُ صائمًا"؛ أي: كُنْتُ نَويتُ الصومَ في أول النهار. "فأكلَ": وهذا يدل على جواز الخروج من صوم النفل. * * * 1482 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: دَخَلَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على أُمِّ سُلَيْمٍ، فأَتتهُ بتَمْرٍ وسَمْنٍ، فقال: "أَعِيدُوا سَمْنَكُمْ في سِقائِهِ وتَمْرَكُمْ في وِعائِهِ فَإنِّي صَائِمٌ"، ثُمَّ قامَ إلي ناحَيَةٍ مِنَ البَيْتِ، فَصَلَّى غَيرَ المَكْتُوبَةِ، فَدَعا لِأمِّ سُلَيْمٍ وأَهْلِ بَيْتِها. "عن أنس أنَّه قال: دخل النبي - عليه الصلاة والسلام - على أم سُلَيم، فأتته بتمرٍ وسَمنٍ، فقال: أَعِيدُوا سَمنَكم في سِقَائه وتمرَكم في وِعَائه؛ فإني صائم": هذا يدل على أنَّ مَن صام تطوُّعًا يجوز أنَّ يصومَ ولا يلزمُه الإفطارُ إذا قُرِّبَ إليه طعامٌ وإن أفطرَ يجوز؛ للحديث المتقدم.

"ثم قام إلى ناحية من البيت فصلى غير المكتوبة، فدعا لأم سُلَيم وأهل بيتها"، فيه: دليل على أنَّ المُستحَبَّ للضيف الصائم أنَّ يدعوَ للمُضيف. * * * 1483 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلى طَعامٍ وهو صائِمٍ فَلْيَقُلْ: إنِّي صائِمٌ". "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا دُعِيَ أحدُكم إلى طعام وهو صائمٌ فَلْيقلْ: إني صائم"، إنما أَمرَ النَّببيُّ - عليه الصلاة والسلام - المَدعوَّ عينَ لا يجيب الداعيَ أن يعتذر عند بقوله: "إني صائم، وإن كان يُستحب إخفاء النوافل؛ لئلا، يؤدي ذلك إلى عداوة وبُغْضٍ في الدَّاعي. * * * 1484 - وقال: "إِذَا دُعِيَ أحَدُكُمْ فليُجبْ، فإنْ كانَ صائِمًا فَلْيُصَلِّ، وإنْ كانَ مُفْطِرًا فَلْيَطْعَمْ". "وعنه أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا دُعِيَ أحدُكم فَلْيُجبْ، فإن كان صائمًا فَلْيُصلِّ"؛ أي: فَلْيَدْع للداعي بالبركة، وقيل: أي: فَلْيُصلِّ ركعَتين، كما فعل النبي - عليه الصلاة والسلام - في بيت أم سُلَيم. "وإن كان مُفطِرًا فَلْيَطْعَمْ". * * * مِنَ الحِسَان: 1485 - عن أُمِّ هانئٍ رضي الله عنها قالت: لمَّا كانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ جاءَتْ

فاطِمَةُ، فَجَلَسَتْ عَنْ يَسارِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأُمُّ هانِئٍ عَنْ يَمِينِه، فَجاءتِ الوَبيدَةُ بإناءٍ فيه شرابٌ، فناوَلتْهُ، فشَرِبَ منهُ، ثُمَّ ناوَلَهُ أُمَّ هانِئٍ، فَشَرِبَتْ، فقالتْ: يا رسُولَ الله!، إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، فقالَ لها: "أَكُنْتِ تَقْضينَ شَيْئًا؟ "، قالت: لا، قال: "أَنَذْرٌ عليكِ؟ "، قالت: لا، قال: "فلا يَضُرُّكِ إنْ كانَ تَطَوُّعًا". وفي روايةٍ: "الصَّائَمُ المُتطوِّع أَمِيرُ نَفْسِه، إن شاءَ صامَ، وإنْ شاءَ أَفْطَرَ". "من الحسان": " عن أم هانئ أنها قالت: لمَّا كان يومُ فتحِ مكةَ جاءت فاطمة رضي الله عنها، فجلست عن يسار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، وأم هانئ عن يمينه، فجاءت الوليدة"، أي الأَمَة "بإناء فيه شراب، فناولتْه": الضمير المنصوب للرسول - صلى الله عليه وسلم -. "فشرب منه، ثم ناولَه"؛ أي: بقيةَ المشروب "أمَّ هانئ، فشربت، فقالت: يا رسولَ الله! إني كُنْتُ صائمةً، فقال لها: أكنتِ تَقْضينَ شيئًا؟ قالت: لا، قال: أنذزٌ عليك؟ قالت: لا، قال: فلا يضرُّك إن كان تطوُّعًا": يدل على أنَّه لا قضاءَ على المتطوِّع بصومٍ إذا أبطله، وبه قال الشافعي. وفي رواية: "الصائمُ المتطوِّعُ أميرُ نفسِه"؛ أي: حاكمٌ على نفسه. "إن شاء صَامَ، وإن شاءَ أفطرَ". * * * 1486 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كُنْتُ أنا وحَفْصَة صائِمَتَيْنِ، فعُرِضَ لنَا طَعامٌ اشْتَهَيْناهُ، فَأَكَلْنا مِنْهُ، فقالَتْ حَفْصَةُ: يا رسُولَ الله!، إنَّا كُنَّا

صائِمَتَيْنِ، فعُرِضَ لنا طَعامٌ اشْتَهَيْناهُ، فأَكَلْنا منهُ، قال: "اقْضيا يَوْمًا آخَرَ مَكَانَهُ"، وهذا يُروى فرسلًا على الأَصحَّ عن الزُّهريِّ عن عائشة رضي الله عنها. "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كنت أنا وحفصةُ صائمتَين، فَعرضَ لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه فقالت حفصة: يا رسولَ الله! إنَّا كنَّا صائمتَين، فَعرضَ لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا منه، قال: اقِضيَا يومًا آخرَ مكانَه": يدل على أنَّ مَن أفطرَ في التطوُّع يلزمُه القضاءُ مكانَه. قال الخطابي: هذا القضاء على سبيل التخيير والاستحباب؛ لأن قضاء شيءٍ يكون حكمُه حكمَ الأصل. "وهذا يروى مُرسَلًا على الأصح، عن الزُّهري، عن عائشة". * * * 1487 - عن أم عُمارَة بنت كَعْب: أنَّ النَّبيَّ قال: "إنَّ الصَّائِمَ إذا أُكِلَ عِنْدَهُ صَلَّتْ عَلَيْهِ المَلائِكَةُ حتَّى يَفْرُغُوا". "عن أم عُمَارة" بضم العين وتخفيف الميم. "بنت كعب: أنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام -" حين دخل عليها، فأتتْه بطعام، فدعاها لتأكلَ هي معه، فقالت: إني صائمةٌ، "قال - عليه الصلاة والسلام -: إن الصائمَ إذا أُكِلَ عندَه"، ومالتْ نفسُه إلى المأكول، فيشتدُّ صومه عليه. "صلَّت عليه الملائكةُ"؛ أي: يستغفرون له عِوَضًا عن مشقة الأكل. "حتى يَفْرَغوا"؛ أي: القومُ الآكِلون، قال - صلى الله عليه وسلم - لها ذلك؛ تفريحًا بإتمام صومها. * * *

7 - باب ليلة القدر

7 - باب لَيْلَةِ القَدْر (باب ليلة القدر) سُميت بها؛ لأن الله تعالى يُظهِر فيها مكنونَ القضاء والقَدَر على ملائكته، أو لأنه بيَّن فيها كميةَ الأشياء أو لخطرها وشرفِها على سائر الليالي. مِنَ الصِّحَاحِ: 1488 - قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في الوِتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَواخِرِ مِنْ رَمَضانَ". " مِنَ الصِّحاح": " قالت عائشة - رضي الله عنها -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحرَّوا ليلةَ القَدْر"؛ أي: اطلبوها. (في الوِتر)؛ أي: في ليالي الوِتر (من العَشر الأواخر من رمضان": مثل الحادي والعشرين، والثالث والعشرين. . . إلى آخرها. * * * 1489 - وقال ابن عمر: إنَّ رجالًا مِنْ أصْحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أُرُوا لَيْلَةَ القَدْرِ في المَنامِ في السَّبْع الأَواخِرِ، فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَرَى رُؤْياكُمْ قد تَواطَأَتْ في السَّبعِ الأَواخِرِ، فَمَنْ كلانَ مِنْكُمْ مُتَحَرِّيَها فلْيَتَحَرَّها في السَّبْعِ الأَواخِرِ". "وقال ابن عمر: إن رجالًا من أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - أُرُوا" علي بناء المفعول من: الإراءة. "ليلةَ القَدْر في المنام"؛ أي: خُيل لهم في المنام ذلك، بعضُهم رآها في ليلة الثالث والعشرين، وبعضُهم رآها في ليلة الخامس والعشرين، وكذلك رآها * * *

جميعهم في السَّبع الأواخر من رمضان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَرَى رُؤياكم قد تواطأت"؛ أي: تَوَافَقَتْ. "في السَّبع الأواخر، فمَن كان متحرِّيَها"؛ أي: طالبَها وقاصدَها "فَلْيَتحرَّها في السَّبع الأواخر"، والمراد بها: السبع التي تلي آخرَ الشهر، أو التي بعد العشرين. * * * 1490 - وعن ابن عبَّاسٍ أنَّ النَّبيَّ قال: "الْتمِسُوا في العَشْرِ الأواخِرِ في رمَضانَ لَيْلَةَ القَدْرِ في تاسِعةٍ تَبْقَى، في سابعةٍ تَبْقَى، في خامِسَةٍ تَبْقَى، في ثالِثَةٍ تَبْقى". "وعن ابن عباس: أنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: التَمِسُوا"؛ أي اطلبوا. "في العَشر الأواخر في رمضان ليلةَ القَدْر، في تاسعةٍ": بدل من قوله: (في العشر الأواخر)، "تبقى": صفة لما قبلها من العدد؛ أي: يُرجَى بقاؤها "في سابعة تبقى، في خامسة تبقى". * * * 1491 - عن أبي سعيد الخُدْري - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اعْتَكَفَ العَشرَ الأَوَّلَ مِنْ رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتكَفَ العَشْرَ الأَوْسَطَ في قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ، ثُمَّ أَطْلَعَ رَأْسَهُ فقال: إنِّي "اعْتكَفْتُ العَشْرَ الأَوَّلَ أَلْتَمِسُ هذهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ اعْتكَفْتُ العَشْرَ الأَوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فَقِيلَ لي: إنَّها في العَشْرِ الأَواخِرِ، فَمَنْ كانَ اعْتكَفَ مَعي فَلْيَعْتكِفِ العَشْرَ الأَواخِرَ، فقدْ أُريتُ هذِهِ اللَّيْلَةَ، ثُمَّ أُنسيتُها، وقدْ رَأَيْتُني أَسْجُدُ في ماءٍ وطِينٍ مِنْ صَبيحَتِها، فالْتِمِسُوها في العِشْرِ الأَوَاخِرِ، والْتَمِسُوها في كُلِّ وِتْرٍ"،

قال: فَمَطَرَتِ السَّماءُ تِلكَ اللَّيْلَة، وكانَ المسجدُ على عَرِيشٍ، فَوَكَفَ المسجدُ، فَبَصُرَتْ عَيْنايَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وعلى جَبْهَتِهِ أَثَرُ الماءَ والطِّينِ من صَبيحَةِ إحْدَى وعِشْرِين. "وعن أبي سعيد الخُدري: أنَّ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم اعتَكفَ العَشرَ الأولَ من رمضان، ثم اعتَكَف العَشرَ الأوسطَ في قُبَّة تُركيَّةٍ"؛ أي: في قبة مِن لِبْدٍ، ضُربت في المسجد، وتُسمى بالفارسي: خاركاه. "ثم أَطلَعَ رأسَه"؛ أي: أخرجَه من القبة. "فقال: إني اعتكفتُ العَشرَ الأولَ ألتمسُ"؛ أي: أطلبُ "هذه الليلةَ"؛ يعني: ليلةَ القَدْر. "ثم اعتكفتُ العَشرَ الأوسطَ، ثم أُتيت"؛ أي: أتاني آتٍ من الملائكة. "فقيل لي: إنها"؛ أي: ليلةَ القَدْر "في العَشر الأواخر"، لا في العَشر الأول ولا في الأوسط، فعزمت أنَّ أعتكفَ العَشرَ الآخرَ. "فمَن كان اعتكفَ معي"؛ أي: أرادَ موافقتي "فَلْيعتكِفِ العَشرَ الأواخرَ، فقد أُريتُ هذه الليلةَ، ثم أُنسيتُها": كلاهما بصيغة المجهول، ولعل الحكمة في نسيانها: هو ألا يشتغلَ الناسُ بتعظيمها، ويتركوا تعظيم باقي الليالي، فأخفاها الله تعالى ليزدادوا جدًّا واجتهادًا في طلبها. "فلقد رأيتُني"؛ أي: رأيتُ في المنام أيضًا "أني أسجدُ في ماءٍ وطينٍ من صبيحتها"؛ أي: في صبيحة ليلة القَدْر، فنُسيت أيةَ ليلةٍ كانت، فالتَمِسُوها في العشر الأواخر، "والتَمِسُوها في كل وتِر، قال"؛ أي: الراوي: "فمطرتِ السماءُ تلك الليلةَ، وكان المسجدُ على عَرِيشٍ"؛ أي: بني على صورة العَرِيش، والعَرِيش والعَرْش: ما يُستظل به من البناء بالخشب أو الثمار، أو بهما.

"فوَكَفَ المسجدُ"؛ أي: قَطَرَ سقفُه؛ لأنه كان من أغصان الشجر. "فبَصرَتْ عيناي"؛ أي: رَأَتَا "رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعلى جبهته أثرُ الماء والطين من صبيحة إحدى وعشرين". * * * 1492 - وعن عبد الله بن أُنَيْس قال: أَمَرَهُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يقُومَ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وعِشْرِينَ. "وعن عبد الله بن أُنيس قال: ليلة ثلاث وعشرين"؛ أي: ليلةُ القَدْر هي ليلةُ ثلاثٍ وعشرين؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أَمَره بقيام تلك الليلة. * * * 1493 - وعن أُبيِّ بن كَعْب: أنَّه حَلَفَ لا يَسْتَثْني أنَّها ليلَةُ سَبْعٍ وعِشْرِينَ، فقِيلَ لهُ: بأَيِّ شَيءٍ تقُولُ ذلك؟، قال: بالعلامَةِ التي أَخْبَرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ في صَبِيحَةِ يَوْمِها بَيْضاءَ لا شُعاعَ لها". "وعن أُبي بن كعب: أنَّه حَلَفَ لا يستثني" حال؛ أي: حَلَفَ حَلفًا جازمًا من غير أنَّ يقول عقيبه: إن شاء الله. "أنها": مفعول (حلف)؛ أي: حَلَفَ أنَّ ليلةَ القَدْرِ "ليلةُ سبعٍ وعشرين، فقيل له: بأيِّ شيءٍ تقول ذلك؟ قال: بالعلامة التي أخبَرَنا رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنْ تطلعَ الشمسُ في صبيحة يومِها بيضاءَ لا شُعاعَ لها"، قيل: إن الملائكةَ لكثرةِ اختلافِها في ليلتها ونزولِها إلى الأرض وصعودِها تَستُر بأجنحتها وأجسامها اللطيفة ضوءَ الشمس. * * *

1494 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَجْتَهِدُ في العَشْرِ الأَواخِرِ ما لا يَجْتَهِدُ في غَيْرِه. "وقالت عائشة: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يجتهد"، أي: يُبالى في طلب ليلة القَدْر "في العَشر الأواخر من رمضان ما لا يَجتهد في غيره". * * * 1495 - وقالت: كانَ النَّبيُّ إذا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مَئْزَرَهُ، وأَحْيا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أَهْلَهُ. "وقالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل العَشرُ شدَّ مِئزَرَه" بكسر الميم: الإزار، وشدُّه المِئزَر: كناية عن اجتنابِ النساءِ وتركِ غشيانهن، وعن الجدِّ والتشمير في العمل "وأحيا ليله وأيقظَ أهلَه" للعبادة وطلب ليلة القَدْر فيها. * * * مِنَ الحِسَان: 1499 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قُلتُ: يا رسُولَ الله!، أَرَأَيْتَ إنْ عَلِمْتُ أَيُّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ القَدْرِ، ما أقُولُ فيها؟، قال: "قُولي: اللهمَّ إنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي"، صحيح. "من الحسان": " عن عائشة قالت: قلتُ: يا رسولَ الله! أرأيتَ"؛ أي: أخبِرْني. "إنْ علمتُ": جوابه محذوف يدل عليه (أرأيتَ). "أيَّ ليلةٍ ليلةَ القَدْرِ ما أقول": متعلق بـ (أرأيت) معنًى. "فيها؟ "؛ أي: في تلك الليلة.

"قال: قولي: اللهم إنك عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عني". "صحيح". * * * 1496 - عن أبي بَكْرَة قال: سَمِعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الْتَمِسُوا - يَعْني: لَيْلَةَ القَدْرِ - فِي تِسْعٍ يَبْقَيْنَ، أو سَبْعٍ يَبْقَيْنَ، أو خَمْسٍ يَبْقَيْنَ، أو ثَلاثٍ يَبْقَيْنَ، أو آخِرِ لَيْلَةٍ". "عن أبي بَكرة أنَّه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: التَمِسُوها"؛ يعني: ليلةَ القَدْر. "في تسعٍ"؛ أي: تسعِ ليالٍ. "يَبقَينَ، أو سبعٍ يَبقَينَ، أو خمسٍ يبقين، أو ثلاثٍ، أو آخرِ ليلة". * * * 1497 - وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: سُئِلَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لَيْلَةِ القَدْرِ، فقال: "هيَ في كُلِّ رَمَضانَ"، ووقفَه بعضُهم على ابن عُمر. "وقال ابن عمر: سُئل رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ليلة القَدْر، فقال: هي في كل رمضان"؛ أي: ليست مختصة بالعشر الأواخر، بل كلُّ ليلةٍ من شهر رمضان يمكن أنَّ يكونَ ليلةَ القَدْر. ولهذا لو قال أحد لامرأته في نصف رمضان أو أقل: أنتِ طالقٌ في ليلة القَدْر لا تَطُلق حتى يأتي رمضانُ السنة القابلة، فتَطلُق في الليلة التي علَّق فيها الطلاق. "فوقفه"؛ أي: هذا الحديثَ "بعضُهم على ابن عمر". * * *

8 - باب الاعتكاف

1498 - عن عبد الله بن أُنَيْس - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسُولَ الله!، إنَّ لي بادِيَةً أكُونُ فيها، وأنا أُصلِّي فيها بِحَمْدِ الله، فمُرْني بلَيْلَةٍ مِنْ هذا الشَّهْرِ أنْزِلُها إلى هذا المسْجدِ، قال: "انْزِلْ لَيْلَةَ ثَلاثٍ وعِشْرِين"، قال: فكانَ إذا صَلَّى العَصْرَ دخلَ المسجدَ فلَمْ يَخْرُجْ إلَّا في حاجَةٍ حتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ. "عن عبد الله بن أُنيَس" - بالتصغير والتخفيف - "أنَّه قال: قلت: يا رسولَ الله! إن لي باديةً أكون فيها"؛ أي: أنا ساكن البادية. "وأنا أصلِّي فيها بحمد الله، ولكن أريد أنَّ أعتكفَ، فمُرْني بليلةٍ من هذا الشهر"؛ يعني: شهر رمضان. "أنزلها"؛ أي: أنزلُ فيها قاصدًا "إلى هذا المسجد"؛ أي: مسجده - عليه الصلاة والسلام -. "قال - صلى الله عليه وسلم -: انزلْ ليلةَ ثلاثٍ وعشرين، قال"؛ أي: الراوي: "فكان" عبد الله ابن أنيس "إذا صلَّى العصرَ دخل المسجدَ، فلم يخرج إلا في حاجة حتى يصلِّيَ الصبحَ": يشير إلى أنها ليلةُ القَدْر. * * * 8 - باب الاعتِكاف (باب الاعتكاف) وهو اللَّبث والإقامة في المسجد بنية الاعتكاف. مِنَ الصِّحَاحِ: 1500 - عن عائشة رصيَ الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَعْتكِفُ العَشْرَ

الأَواخِرَ مِنْ رَمَضانَ حتَّى تَوَفَّاهُ الله، ثُمَّ اعْتكَفَ أزْواجُهُ مِنْ بَعْدِهِ. "من الصحاح": " عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يعتكف العَشرَ الأواخرَ من رمضان حتى توفَّاه الله، ثم اعتكفَ أزواجُه من بعده". * * * 1501 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أجْوَدَ النَّاسِ بالخَيْرِ، وكانَ أَجْوَدُ ما يَكُونُ في رَمَضانَ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقاهُ كُلَّ لَيْلَةٍ في رَمَضانَ، يَعْرِضُ عَلَيْهِ النَّبيّ القُرْآنَ، فإذا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كانَ أَجْوَدَ بالخَيْرِ مَنَ الرِّيح المُرْسَلَة. "عن ابن عباس أنَّه قال: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أجودَ الناسِ"؛ أي: أكثرَهم جودًا وسَخَاوةَ. "بالخير": هو اسم جامع لكل ما يُنتفَع به. "فكان أجودُ ما يكون"، ما: مصدرية، والتقدير: كان أجودُ أوقاته وقتَ كونهإ في رمضان"؛ يعني: كان - صلى الله عليه وسلم - أكثَر جودًا منه في سائر الشهور؛ لأن الوقتَ إذا كان أشرفَ يكون الجودُ فيه أفضلَ. "كان جبرائيلُ يلقاه"؛ أي: ينزلُ عليه "كلَّ ليلةٍ في رمضان يَعرِض عليه القرْآنَ"؛ أي: يقرأ عليه، وهذا تشريف من لله الكريم إليه - صلى الله عليه وسلم -. "فإذا لقيَه جبرائيلُ كان أجودَ بالخير من الريح المرسلة"؛ أي: التي أرسلَها الله بالبشرى والرحمة في سرعة النفع والمبادرة إلى إيصال الخير.

1502 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كانَ يُعْرَضُ عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - القُرْآنُ كُلَّ عامٍ مَرَّةٍ، فَعُرِضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ في العامِ الَّذي قُبضَ فيهِ، وكانَ يَعْتكِفُ كُلَّ عامٍ عَشْرًا، فاعْتكَفَ عِشْرِينَ في العامِ الَّذي قُبضَ. "عن أبي هريرة أنَّه قال: كان يُعرَض": بصيغة المجهول. "على النبي - صلى الله عليه وسلم - القرآنُ"؛ أي: يَعرِضُه جبرائيلُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -. "كُلَّ عامٍ مرةٍ"، ليقرأَه النبي - صلى الله عليه وسلم - عليه بتجويد اللفظ وتصحيح المَخَارج، وليكونَ سُنَّةَ للتلامذة على الأساتذة في تجديدهم التجويد عليهم. "فعُرِضَ عليه مرتين في العام الَّذي قُبِضَ [فيه]، وكان يعتكفُ كلَّ عامٍ عشرًا، فاعتكف عشرين في العام الَّذي قُبض [فيه] ". * * * 1503 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعْتَكَفَ أَدْنىَ إليَّ رَأْسَهُ وهو في المسْجدِ فأُرَجِّلُهُ، وكانَ لا يَدْخلُ البَيْتَ إلَّا لِحاجَةِ الإنْسانِ. "وعن عائشة أنها قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعتكف أدنى إلي رأسَه وهو في المسجد"؛ أي: أَخرجَ رأسَه من المسجد إلى حجرتي. "فأُرجِّله"؛ أي: أُسرِّح شَعرَ رأسِه. وهذا دليل على أنَّ المُعتكِف لو أخرجَ بعضَ أعضائه من المسجد لا يَبطُل اعتكافُه، وعلى أنَّ الترجُّلَ مباحٌ للمُعتكِف. "وكان لا يدخل البيتَ إلا لحاجة الإنسان" من الأكل والشرب ودفع الأخبثين، وهذا يدل على أنَّ للمُعتكِف أن يخرجَ لِمَا لا بدَّ له منه. * * *

1504 - ورُوي عن عمر - رضي الله عنه -: أنَّه سَألَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كُنْتُ نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أنْ أعْتكِفَ لَيَلْةً في المسْجدِ الحَرامِ، قال: "فأوْفِ بنذْرِك". "ورُوي عن عمر: أنَّه سألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كُنْتُ نَذرتُ في الجاهليةِ أن أعتكفَ ليلة في المسجد الحرام، قال: فأوفِ بنذرِك": وهذا دليل أنَّ نذرَ الجاهلية إذا وافَقَ حكمَ الإسلام كان معمولًا به واجبًا وفاؤُه بعد الإسلام، وعليه الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يصح. * * * مِنَ الحِسَان: 1505 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَعْتكِفُ في العَشْرِ الأَواخِرِ مِنْ رَمَضانَ، فَلَمْ يَعْتَكِفْ عامًا، فَلَمَّا كانَ العامُ المُقْبلُ اعْتكَفَ عِشْرِينَ. "من الحسان": " عن أنس: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العَشر الأواخر من رمضان، فلم يَعتكفْ عامًا، فلما كان العائم المُقبِل اعتكفَ عشرين": وهذا يدل على استحباب قضاء ما فاته من السُّنَن المؤقتة. * * * 1507 - وعن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَرادَ أنْ يَعْتكِفَ صلَّى الفِجْرَ، ثُمَّ دَخَلَ في مُعْتكفِهِ. "وعن عائشة أنها قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أنَّ يعتكف صلَّى الفجر، ثم دخل في مُعْتَكَفِهِ": في موضع اعتكافه. فيه: بيان أن المُعتكِفَ يبدأ بالاعتكاف من أول النهار، وعليه أحمد.

وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك: قبل غروب الشمس من الليلة التي يريد أنَّ يعتكفَ في يومها. * * * 1506 - وعن عائشة رضي الله عنها قالتْ: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعُودُ المَرِيضَ وهو مُعْتَكِفٌ، فيَمُرُّ كما هُو ولا يُعَرِّجُ يَسْألُ عَنْهُ. "وعن عائشة أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعود المريضَ وهو مُعتكِف، فيمرُّ كما هو": الكاف صفة مصدر محذوف، و (ما): موصولة، ولفظ (هو): مبتدأ، والخبر محذوف، والجملة صلة؛ أي: فيمرُّ مرورًا مثلَ الهيئة التي هو عليها. "فلا يُعرِّج"؛ أي: فلا يميل عن الطريق إلى جانبٍ ولا يقف؛ يعني: كأنه إذا خرج لقضاء حاجته ورأى مريضًا في طريقه "يسأل عنه" ولا ينحرف عن الطريق إليه لعيادته. * * * 1508 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: السُّنَّةُ عَلَى المُعْتكِفِ أنْ لا يَعُودَ مَرِيضًا، ولا يَشْهَدَ جنازَةً، ولا يَمَسَّ المَرْأَةَ، ولا يُبَاشِرَها، ولا يَخْرُجَ لَحاجَةٍ إلَّا لِمَا لا بُدَّ منه، ولا اعْتِكافَ إلَّا بصَوْمٍ، ولا اعْتِكافَ إلَّا في مَسْجدٍ جامِعٍ. "وقالت عائشة: السُّنَّة على المُعتكِف أذ لا يعودَ مريضًا"؛ أي: لا يخرج من مُعتكَفِه قاصدًا عيادتَه. "ولا يَشهَدَ"؛ أي: لا يَحضُر. "جنازةً، ولا يمسَّ المرأةَ ولا يُباشِرَها"؛ أي: لا يُجامِعَها. "ولا يخرجَ لحاجةٍ إلا لِمَا لابدَّ منه"؛ يعني: الدِّينُ والشَّرعُ اجتنابُ

المُعتكِف هذه المذكوراتِ. "ولا اعتكافَ إلا بصوم"، وبه قال أبو حنيفة ومالك، وعند الشافعي: يصح بدون الصوم. "ولا اعتكافَ إلا في مسجد جامع"، معناه: نفي الفضيلة والكمال؛ لأن الأكثرَ على صحته في جميع المساجد، قال تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، ولم يفصِّل. قال مالك والشافعي: إذا كان اعتكافُه أكثرَ من ستة أيام فيجب أن يكون في المسجد الجامع؛ لئلا ينقطعَ اعتكافُه بالخروج إلى الجمعة، وإن كان أقلَّ، أو المُعتكِف ممن لا جمعةَ عليه، اعتكفَ في أيِّ مسجدٍ شاء. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ مَصَابِيحِ السُّنَّةِ لِلإمَامِ البَغَوِيِّ [3]

8 - كتاب فضائل القرآن

8 - كِتَابُ فَضَائِل القُرْآنِ

8 - كِتَابُ فَضَائِل القُرْآنِ (كتاب فضائل القرآن) جمع: فضيلة، وهي ما يفضَّل به الرجل على غيره، فبيَّن في هذا الباب فضلَ القرآن على سائر الكلام، وفضلَ تعليمه وتعلُّمه على تعليم وتعلُّم غيره من الكلام. مِنَ الصِّحَاحِ: 1509 - روى عُثمان: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وعَلَّمَه". "من الصحاح": " عن عثمان بن عفان أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خيرُكم مَن تعلَّم القرآنَ وعلَّمَه"؛ يعني: إذا كان خيرُ الكلامِ كلامَ الله فكذلك خيرُ الناسِ بعد النبيين مَن تعلَّم كلامَ الله وعلَّمَه. * * * 1510 - وقال: "أَيُّكُمْ يُحِبُّ أنْ يَغْدُوَ كُلَّ يومٍ إلى بُطْحانَ أَوْ العَقِيقِ، فَيَأتيَ بناقَتَيْنِ كَوْماوَيْنِ في غَيْرِ إثْمٍ ولا قَطْعِ رَحِمٍ؟ " قالوا: يا رسُولَ الله!،

كُلُّنا يُحِبُّ ذلك، قال: "فَلأَنْ يَغْدُوَ أَحَدُكُمْ إلى المَسْجدِ فَيَعْلَمَ أو يَقْرَأَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتابِ الله تعالى خَيْرٌ لهُ مِنْ ناقَتَيْنِ، وثَلاثٌ خَيْرٌ لهُ مِنْ ثَلاثٍ، وأَرْبَعٌ خَيْرٌ لهُ مِنْ أرْبَعٍ ومِنْ أَعْدادِهِنَّ مِنَ الإبلِ". "وعن عقبة بن عامر أنَّه قال: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: أَيُّكم يحبُّ أن يَغْدُوَ كلَّ يوم إلى بُطْحان" بضم الباء وسكون الطاء، وعليه الاكثر، وقيل: بفتح الباء وكسر الطاء. "أو العقيق": هما واديان من أودية المدينة على ثلاثة أميال منها، وقيل: ميلَين، وخصَّهما بالذِّكر؛ لأنهما أقربُ الأودية التي تُقام فيها أسواقُ الإبل إلى المدينة. "فيأتي بناقتين كَوْمَاوَين" تثنية: كَوماء، وهي الناقة العظيمة السَّنام، وهي مِن أَنْفَسِ المتاجر عندهم، وأصل الكَوم - بالفتح -: الارتفاع والعلو، قُلبت الهمزة في التثنية واوًا. "في غير إثمٍ"؛ أي: في غير ما يُوجِب إثمًا، كسرقةٍ أو غَصبٍ، يُسمى مُوجِب الإثم: إثمًا مجازًا. "ولا قطع رَحِم؟ " من خصومة وغيرها. "قالوا: يا رسولَ الله! كلُّنا نحبُّ ذلك، قال: فلأنْ يغدوَ أحدكم إلى المسجد، فيتعلَّم أو يقرأ" - شك من الراوي - "آيتين": تنازَعَ فيه العاملان على جهة المفعولية. "من كتاب الله خيرٌ له": خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هما خيرٌ له "من ناقتين"، قاله - عليه الصلاة والسلام - على وفق ما كان يَغتنِمُه المخاطَب ويبتغيه، وإلا فالآيةُ الواحدةُ خيرٌ من الدنيا وما فيها، أو كونها خيرًا منها لا ينافي خيريتها على ذلك؛ لأنه لم يَقصُر الخيريةَ فيها.

"وثلاث"؛ أي: ثلاثُ آيات "خير له من ثلاث" من الإبل. "وأربعٌ خير له من أربعٍ ومن أعدادهن" جمع: عَدَد. "من الإبل": بدل منها أو بيان لها؛ أي: وأكثرُ من أربعٍ خيرٌ من أعدادهن؛ فستُّ آيات خيرٌ من ستٍّ من الإبل، وَهَلُمَّ جَرًّا. أو المعنى: أنَّ الآيات تُفضَّل على مثل عددها من النُّوق، وعلى مثل أعدادها من الإبل؛ لأن قراءة القرآن تنفع الرجلَ في الدنيا والآخرة؛ بأن يُحفظ ببركته من البلايا في الدنيا ويُعطَى الجنةَ في الآخرة، وأما الإبلُ فمتعلقةٌ بتمتع الدنيا، {وَالْآخِرُة خَيْرٌ وَأَبْقَى}. * * * 1511 - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إذا رَجَعَ إلى أَهْلِهِ أنْ يَجدَ فبهِ ثلاثَ خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ؟ "، قلنا: نَعم، قال: "فَثَلاثُ آياتٍ يَقْرَأُ بِهِنَّ أَحَدُكُمْ في صَلاتِهِ خَيْرٌ لهُ مِنْ ثَلاثِ خَلِفَاتٍ عِظامٍ سِمَانٍ". "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيحبُّ أحدكم إذا رجعَ إلى أهله أن يجدَ فيه"؛ أي: في طريقه. "ثلاثَ خَلِفَاتٍ" جمع: خَلِفَة - بالفتح ثم الكسر -، وهي الحامل من النُّوق. "عِظَامٍ سمَانٍ؟ قلنا: نعم، قال: فثلاثُ آياتٍ يقرأ بهن أحدُكمَ في صلاته خيرٌ له من ثلاث خَلِفَاتٍ عِظَامٍ سِمَانٍ". * * *

1512 - وقال: "المَاهِرُ بالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، والذي يَقْرِأُ القُرْآنَ ويَتتَعْتَعُ فيهِ وهو عليهِ شاقٌّ لهُ أجْرانِ". "عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الماهرُ بالقرآن"؛ أي: الحاذِقُ الكاملُ في حفظِه، وجازَ أن يريد به جودةَ اللفظ وإخراجَ كلِّ حرفٍ من مَخْرَجه. "مع السَّفَرة" جمع: السافر، وهو الكاتب، أراد بهم: الملائكة الذين يكتبون أعمالَ العباد ويحفظونها لأجلهم، وقيل: هم حَمَلَة اللوح المحفوظ، كما قال الله تعالى: {بِأَيْدِى سَفَرَةٍ (15) كِرَام بَرَرَةٍ} [عبس: 15 - 16]. سُمُّوا بذلك؛ لنقلِهم الكتبَ الإلهيةَ المنزلةَ إلى الأنبياء، فكأنهم يستنسخونها، والمعنى الجامع بينهم: كونُهم من خَزَنَة الوحي وأُمناء الكتاب. قيل: معنى كونه معهم: أن يكونَ في منازلهم ورفيقًا لهم في الآخرة؛ لاتِّصافه بصفتهم من جهة أنَّه حاملُ الكتاب، أو من: السَّفْر، بمعنى: الإصلاح، فالمراد: الملائكة النازلون بأمر الله بما فيه مصلحة العباد، من حفظهم عن الآفات، ودفعهم عن المعاصي، وإلقاء الخير في قلوبهم. "الكرام" جمع: الكريم. "البَرَرَة" جمع: البارّ، بمعنى: المُحسِن. "والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه"، يقال: تَعْتَعَ لسانَه: إذا توقَّف في الكلمات وعَثَرَ؛ أي: لا يطيعه لسانُه في القراءة. "وهو عليه"؛ أي: القرآنُ على ذلك القارئ "شاقٌّ"؛ أي: شديدٌ، تصيبه مشقة في قراءته. "له أجران": أجر القراءة، وأجر تحمُّل المشقة.

وهذا تحريض على القراءة، وليس معناه: أن أجرَه أكثرُ من أجر الماهر، فكيف ذلك وهو مع السَّفَرة الكِرَام البَرَرَة؟ * * * 1513 - وقال: "لا حَسَدَ إلَّا في اثْنتَيْنِ: رَجُلٌ آتاهُ الله القُرْآنَ، فهو يَقُومُ بهِ آنَاءِ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ، ورَجُلٌ آتاهُ الله مالًا فهو يُنْفِقُ منهُ آناءَ اللَّيْلِ وآناءَ النَّهارِ". "وعن ابن عمر أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا حسدَ"؛ أي: لا غِبطَة. "إلا في اثنتين: رجل آتاه الله"؛ أي: أعطاه الله "القرآنَ، فهو يقوم به" والقيام به: وهو العمل به، أو تلاوته، أو كلاهما. "آناء الليل وآناء النهار"؛ أي: ساعاتِهما. "ورجل آتاه الله مالًا، فهو ينفق منه آناءَ الليل وآناءَ النهار". * * * 1514 - وقال: "مثَلُ المُؤْمِن الَّذي يَقْرَأُ القُرْآنَ مَثَلُ الأُترُجَّةِ ريحُها طَيبٌ وطَعْمُها طَيبٌ، ومَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذي لا يَقْرَأُ القُرآنَ مَثَلُ التَّمْرَةِ لا رِبحَ لها وطَعْمُها حُلْوٌ، ومَثَلُ المُنافِقِ الَّذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنَظَلَةِ لَيْسَ لَها ريحٌ وطَعْمُها مُرٌّ، وَمَثَلُ المُنافِقِ الَّذي يَقَرْأُ القُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحانَةِ ربحُها طَيَّبٌ وطَعْمُها مُرٌّ". وفي روايةٍ: "المُؤْمِنُ الَّذي يَقْرأُ القُرْآنَ ويَعْمَلُ بهِ كالأُتْرُجَّة، والمُؤْمِنُ الَّذي لا يَقْرَأُ القُرْآنَ ويَعْمَلُ بهِ كالتَّمْرَة".

"وعن أبي موسى الأشعري أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَثَلُ المؤمن الَّذي يقرأ القرآنَ مَثَلُ الأُتْرُجَّة" بضم الهمزة، ثم السكون وتشديد الجيم؛ أي: أحسنُ الثمار الشجرية وأَنْفَسُها عند العرب لحسن منظرها. "ريُحها طيب وطعمُها طيب": {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}، تفيد: طِيب النكهة، ودباغ المَعِدَة، وقوة الهضم، منافعها كثيرة مذكورة في كتب الطب، فكذلك المؤمن القارئ طيب الطعم؛ لثبوت الإيمان في قلبه، وطيب الريح؛ لأن الناسَ يستريحون بقراءته ويجدون الثوابَ بالاستماع إليه، ويتعلَّمون القرآنَ منه. "ومَثَلُ المؤمن الَّذي لا يقرأ القرآن مَثَلُ التمرة؛ لا ريحَ لها، وطعمُها حلو": فهو كذلك، طيَّبَ باطنَه وذاتَه بالإيمان، لكن لا يستريح الناسُ بقراءته القرآنَ. "ومَثَلُ المنافق الَّذي لا يقرأ القرآنَ كمَثَلِ الحَنظلة؛ ليس لها ريحٌ، وطعمُها مُرٌّ": فهو كذلك، باطنُه خبيثٌ بكتمانه الكفرَ، ولا يحصل من ظاهره خيرٌ لأحدٍ. "ومَثَلُ المنافق الَّذي يقرأ القرآنَ مَثَلُ الريحانة؛ ريحُها طيب، وطعمُها مُرٌّ"، فإنه يحصل منه راحةٌ إلى الناس باستماعهم القرآن منه، ولكن باطنَه خبيثٌ كطعم الريحانة. "وفي رواية: المؤمن الَّذي يقرأ القرآنَ ويعمل به كالأُتْرُجَّة، والمؤمن الَّذي لا يقرأ القرآن ويعمل به كالتمرة". * * * 1515 - وقال: "إنَّ الله تعالى يَرْفَعُ بهذا الكَتابِ أقوامًا ويَضَعُ بهِ آخَرِين".

"وعن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله يرفع بهذا الكتاب أقوامًا"؛ أي: بالقرآن درجةَ أقوامٍ، وهم مَن آمَنَ به وعملَ بمقتضاه. "ويضع به آخرين"، أي: يحطُّ بالقرآن أقوامًا آخرين، وهم مَن أَعرضَ عنه ولم يحفظْ وصاياه. * * * 1516 - وعن أبي سَعيد الخُدْري - رضي الله عنه -: أن أُسَيد بن حُضَيرٍ بَيْنَما هُوَ يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ وَفَرَسُهُ مربُوطٌ عِنْدَهُ إذْ جالَتْ الفَرَسُ، فسكَتَ فسَكَنَتْ، فقَرَأَ فجَالَتْ، فسَكَتَ فسَكَنَتْ، ثُمَّ قَرَأَ فجالَتْ، فلمَّا أصْبَحَ حَدَّثَ بهِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: فَرَفَعْتُ رأْسي إلى السَّماءِ، فإذا مِثْلُ الظُّلةِ فيها أَمْثالُ المَصَابيح عَرَجَتْ في الجَوِّ حتَّى لا أَراها، قال: "تلكَ المَلائِكةُ دَنَتْ لِصَوتِكَ، ولَوْ قَرَأْتَ لأَصْبَحَتْ يَنْظُرُ النَّاسُ إلَيْها لا تتَوارَى مِنْهُم". "وعن أبي سعيد الخُدري: أن أُسيد بن حُضير": بضم الحاء المهملة على صيغة تصغير. "بينما هو يقرأ من الليل سورةَ البقرة، وفَرَسُه مربوطةٌ عنده"، قيل: التأنيث في (مربوطة) على تأويل الدابة، وصوابه: أن الفَرَسَ يقع على الذكر والأنثى، كذا قاله الجوهري. "إذ جالَتِ الفَرَسُ"؛ أي: دارَ دورة لوجدانها ذوقًا وراحةً من سماع القرآن. "فسكتَ عن القراءة، فسَكَنَتْ"؛ لذهاب ذلك الذوق منها، ويحتمل أن يكون تحرُّكها عند القراءة لدنوِّ الملائكة وخوفها منهم، وسكونُها عند سكوت

القارئ لصعودِهم وبُعدِهم عنها. "فقرأ، فجالَتْ، فسكتَ، فسَكَنتْ، ثم قرأ، فجالت، فلما أصبح حدَّث النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - قال"؛ أي: أُسيد بن حُضير: "فرفعتُ رأسي إلى السماء فإذا مثلُ الظُّلَّة": وهي ما يقي الرجلَ من الشمس، كسحابٍ أو بيتٍ أو غيرها، يريد: مثلُ سحابةٍ. "فيها أمثال المصابيح عَرَجَتْ في الجَو"؛ أي: صعدتْ فيما بين السماء والأرض. "حتى لا أراها، قال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تلك الملائكةُ دَنَتْ لصوتك"، يظهر نورُهم للقارئ كالمصابيح. "ولو قرأتَ"؛ أي: لو لم تسكتْ عن القراءة "لأصبحت" تلك الملائكةُ "ينظر الناسُ إليها"؛ أي: إلى الظُّلَّة. "لا تتَوارَى منهم"؛ أي: لا تحتجب ولا تستر عن أبصار الناس. * * * 1517 - عن البَرَاء - رضي الله عنه - قال: كانَ رجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ وإلى جانِبهِ حِصانٌ مَرْبُوطٌ بشَطَنَيْنِ، فتَغَشَّتْه سَحابةٌ، فجَعَلَتْ تَدْنُو وتَدْنُو، وجَعَلَ فرَسُهُ تنفِر، فلمَّا أَصْبَحَ أتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فذَكَرَ ذلك لهُ فقال: "تِلكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بالقُرْآنِ". "وعن البراء أنَّه قال: كان رجلٌ يقرأ سورةَ الكهف، وإلى جانبه حِصانٌ" بالكسر: الفَرَس الفحل. "مربوطٌ بشَطَنَين": الشَّطَن - بفتحتين: الحبل الطويل الشديد الفتل، وفيه: إشعار بأن الحِصانَ كان جَمُوحًا مستصعبًا.

"فتغشَّتْه"؛ أي: سَتَرَتْه. "سحابة"؛ أي: وقفتْ فوقَ رأسه كقطعة سحاب. "فجعلتْ"؛ أي: فطفقتْ تلك السحابةُ "تدنو وتدنو"؛ أي: تَقرُب من العلو إلى السفل لسماع قراءة القرآن. "وجعل فَرَسُه"؛ أي: أراد "يَنْفِر" - بكسر الفاء - من: النفور؛ وهو أشبه، وفي "البخاري": (ينقز) بالقاف والزاي المعجمة؛ أي: يثب. "فلما أصبحَ أتى النبيَّ عليه الصلاة والسلام، فذكر ذلك له، فقال: تلك السَّكينة": وهي السكون والطمأنينة، و (تلك): إشارة إلى السحابة؛ أي: تلك الحالة التي يطمئنُّ ويَسكُن بها القلبُ عن الرعب والميل إلى الشهوات. وقيل: هي الرحمة، وقيل: مَلَك الرحمة، وقيل: الوقار. "تنزَّلت بالقرآن"؛ أي: بسببه ولأجله. * * * 1518 - عن أبي سَعيد بن المُعَلَّى - رضي الله عنه - قال: كُنْتُ أُصَلِّي، فدَعاني النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمْ أُجِبْه حتَّى صلَّيْتُ، ثمَّ أتَيْتُ، فقال: "ما مَنَعَكَ أَنْ تَأَتِيَني؟ "، فقلتُ: كُنْتُ أُصَلِّي، فقال: "أَلَمْ يَقُلِ الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} "، ثُمَّ قال: "أَلا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُورَةٍ في القُرْآنِ قَبْلَ أنْ أخْرُجَ مِنَ المسْجدِ؟ "، فَأخَذَ بِيَدي، فلمَّا أَرَدْنا أنْ نخرُجَ قُلْتُ: يا رسُولَ الله!، إنَّكَ قُلتَ: "أَلَا أُعَلِّمُكَ أعْظَمَ سُوَرةٍ في القُرْآنِ"، قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} هيَ السَّبْعُ المَثَاني، والقُرْآنُ العَظِيمُ الَّذي أُوتيتُهُ". "عن أبي سعيد بن المعلَّى، وهو أنصاري، قال: كنت أصلِّي"، وقصته أنَّه قال: مررتُ ذاتَ يوم على المسجد، ورسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم على المِنبر، فقلت: لقد حَدَثَ أمر، فجلست، فقرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {قَدْ نَرَى

تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ} الآية، فقلت لصاحبي: تعالَ حتى نركع ركعتين قبل أن ينزلَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فنكونَ أولَ مَن صلَّى، فكنت أصلِّي، "فدعاني النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم أُجِبْه حتى صلَّيتُ، ثم أتيت، فقال: ما منعَك أن تأتيَني؟ فقلت: كنت أصلِّي، فقال: ألم يقل الله: {اسْتَجِيبُوا لِلَهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} "، فيه: دليل على أن إجابةَ الرسولِ إذا دعا أحدًا في الصلاة لا تُبطل صلاتَه. "ثم قال: ألا أُعلِّمك أعظمَ سورةٍ في القرآن قبلَ أن أخرجَ من المسجد؟ فأخذ بيدي، فلما أرادنا أن نخرجَ قلت: يا رسولَ الله! إنك قلت: ألا أعلِّمك أعظمَ سورة في القرآن؛ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} "؛ أي: هي {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} سَمَّى الفاتحةَ (أعظم سورة)؛ لاشتمالها على المعاني التي في القرآن: من الثناء على الله بما هو أهله، والتعبّد بالأمر والنهي، ومن الوعد والوعيد؛ لأن فيه ذِكرَ رحمة الله على الوجه الأبلغ الأشمل، وذِكرَ تفرّده بالملك وعبادة عباده إياه، واستعانتهم إياه، وسؤلهم منه؛ ولا سورةَ بهذه المَثَابة. "هي السَّبع المَثَاني"، سُميت (السَّبْع)؛ لأنها سبعُ آيات، و (مثاني)؛ لأنها تُثنَّى في الصلاة؛ أي: تُكرَّر فيها في كل ركعة مرَة، وقيل: لأنها استَثنتْ لهذه الأمة؛ أي: استَخرجت [ما] لم ينزل على مَن قبلها مِن الثناء، أو لِمَا فيها من الثناء، (مَفَاعِل) منه. "والقرآن العظيم الَّذي أُوتيتُه"، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، وهي هنا: الفاتحة أيضًا. وفيه: دليل على جواز إطلاق القرآن على بعضه. * * * 1519 - وقال: "لا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ مَقَابرَ، إنَّ الشَّيْطانَ يَنْفِرُ مِنَ البَيْتِ

الَّذي يُقْرأُ فيهِ سُورَةُ البَقَرَةِ". "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تجعلوا بيوتَكم مقابِرَ"؛ أي: كالمقابر في خلوِّها عن الذِّكر والطاعة، بل اجعلوا لها من القرآن نصيبًا، أو معناه: لا تَدفنوا موتاكم فيها. "إن الشيطانَ يَنفرُ من البيت الَّذي يُقرأ فيه سورةُ البقرة"، خصَّ هذه السورةَ بفرار الشيطان؛ لطولها، وكثرةِ الأحكام الدينية، وكثرة الأسماء العِظَام التي لله فيها. وفي الحديث: دلالة على عدم كراهة أن يقال: سورة البقرة، وحجة على مَن كرهه وقال: ينبغي أن يقال السورة التي فيها البقرة. * * * 1520 - وقال: "اقْرَأُوا القُرْآنَ، فإنَّهُ يَأتِي يَوْمَ القِيامَةِ شَفِيعًا لِأصْحابهِ، اقْرأُوا الزَّهْراوَيْن: البَقَرَةَ وسُورَةَ آلِ عِمْرانَ، فإنَّهُمَا تَأْتِيانِ يَوْمَ القِيامَةِ كَأنَّهُما غَمامَتانِ أو غَيايَتانِ أو فِرْقانِ مِنْ طَيْرٍ صَوافَّ تُحاجَّانِ عَنْ أصْحابهِما، اقْرأُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فإن أخْذَهَا بَرَكَةٌ، وتَرْكَها حَسْرَةٌ، ولا يَسْتَطِيعُها البَطَلَةُ". "وعن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اقرؤوا القرآنَ؛ فإنه يأتي يومَ القيامة شفيعًا لأصحابه": يجوز أن تكون الشفاعةُ للملائكة الذين شهدوا تلاوتَه، أُسندت إلى القرآن مجازًا؛ لكونه سببًا لها، وأن تكونَ للقرآن بأن يجعلَه الله في صورة وأَنطقَه. "اقرؤوا الزَّهراوَين"؛ أي: المُنيرين، تثنية: الزهراء، تأنيث الأزهر، وهو الأبيض المُستنير. "البقرة وسورة آل عمران"، سُميتا بهما؛ لأنهما أكثرُ نورًا لكثرة الأحكام

الشرعية، وكثرة أسماء الله العِظَام فيهما، فكأنهما بالنسبة إلى ما عداهما عند الله مكانُ القَمَرَين من سائر الكواكب. "فإنهما يأتيان يومَ القيامة"، إتيانهما: كناية عن إتيان ثواب قراءتهما، بأن يُصوِّرَ الله تعالى صورتَين مناسبتَين لثوابهما، فيجيئان. "كأنهما غَمَامتانِ": وهي ما يغمُّ الضوءَ ويمحوه لشدة كثافته. "أو غَيَايتان": وهي ما يكون أدون منها فيحصل عنده الضوء والظِّل جميعًا. "أو فِرْقان" - بالكسر ثم السكون - تثنية: فِرْق، بمعنى: الطائفة. "من طَير" جمع: طائر. "صَوَافَّ" جمع: صافَّة؛ أي: باسطاتٍ أجنحتَها. "تُحاجَّان عن أصحابهما"؛ أي: تدفعانِ الجحيمَ والزبانيةَ والأعداءَ عن الذين قرؤوهما في الدنيا، ويتشفَّعانِ لهم عند الله. قيل: (أو) هنا للتقسيمِ تقسيمِ الظُّلَل على قَدْر الثواب؛ إن كان في الدرجة العليا بأن يكون قارئهما عالمًا معناهما ومعلِّمًا مَن يطلبهما من المستفيدين كانت كغمامة. وفي الدرجة الوسطى بألا يكون معلِّمًا كانت كغَيَاية. وفي الدرجة الأدنى بألا يكون عالِمًا ولا متعلِّما ولا معلِّمًا كانت كفِرقتَين من الطير صافَّتَين. "اقرؤوا سورةَ البقرة؛ فإن أخذَها بركةٌ وتركَها حسرةٌ"؛ أي: ندامةٌ. "ولا يستطيعها البَطَلَةُ": وهي السَّحَرة، جمع: باطل، ضد الحق؛ أي: أن أهلَ الباطل والسِّحر لا يجدون التوفيقَ لتعلُّمهما ودراية معانيهما.

ويحتمل أن يكون من: الباطل، بمعنى: الكَسلان؛ أي: لا يَقدِر أن يتعلَّمها لطولها. * * * 1521 - وقال: "يُؤْتى بالقُرْآنِ يومَ القِيامَةِ وأَهْلِهِ الذينَ كانُوا يَعْمَلُونَ بهِ تَقْدُمُهم سُورَةُ البَقَرَةِ وآلُ عِمْرانَ، كأنَّهما غَمامَتانِ أو ظُلَّتانِ سَوْداوانِ بَيْنَهُما شَرْقٌ، أو كأَنَّهُما فِرْقانِ مِنْ طَيْرٍ صَوافَّ تُحاجَّانِ عَنْ صاحِبهِما". "وعن نوَّاس بن سِمعان أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يُؤتَى بالقرآن يومَ القيامة وأهلِه الذين كانوا يعملون به تَقدُمُه": يُفهم منه أن مجردَ التلاوة لا يجعل الشخصَ من أهل القرآن ما لم يعمل به، الضمير راجع إلى (القرآن). "سورةُ البقرة وآلُ عمران، كأنهما غَمَامتانِ أو ظُلَّتانِ" بضم الظاء: ما يُظلِّلك، وقيل: هي أولُ سحابة تُظلُّك. "سوداوان"، وصفهما بالسواد لكثافتهما وارتكام البعض منهما على البعض، وذلك أبلغ في المقصود من الظلال، قيل: إنما جُعلتا كالظُّلتين لتكونا أخوفَ، وأشدَّ تعظيمًا في قلوب خُصَمائهما؛ لأن الخوفَ في الظُّلة أكثر. "بينهما شَرْق" بسكون الراء: الضوء والانفراج؛ أي: بينهما فاصلة من الضوء، قيل: يحتمل أن تكون هذه الفاصلة لتمييز إحدى السورتين عن الأخرى، كما فُصل بين السورتين في المصحف بالتسمية. "أو كأنهما فِرْقانِ من طيرٍ صوافَّ تُحاجَّان عن صاحباهما". * * * 1522 - وعن أُبيِّ بن كَعْبٍ - رضي الله عنه -؛ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أَبا

المُنْذِرِ!، أَتَدْرِي أيُّ آيَةٍ مِنْ كِتابِ الله مَعَكَ أعْظَمُ؟ "، قُلتُ: الله ورسُولُه أعلَمُ، قال: "يا أَبا المُنْذِرِ! أَتَدْرِي أَيُّ آيةٍ مِنْ كتابِ الله مَعَكَ أعْظَمُ؟ "، قُلتُ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}، قال: فَضَرَبَ بِيَدِهِ في صَدْرِي وقال: "لِيَهْنِكَ العِلْمُ يا أَبا المُنْذِرِ"، ثم قال: "والذي نفس محمد بيده، إنَّ لهذهِ الآيةِ لِسانًا وشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ ساقِ العَرْشِ". "وعن أُبي بن كعب أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أبا المنذر! ": كنية أُبي بن كعب. "أتدري أيُّ آية من كتاب الله تعالى معك أعظمُ؟ قلت: الله ورسوله أعلم": كان أُبي يَعلَم ذلك، ولكن لم يُجبْه تعظيمًا له، ورعايةً للأدب بين يديه - عليه الصلاة والسلام -. "قال: يا أبا المنذر! أتدري أيُّ آية من كتاب الله معك أعظمُ؟ قلت: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}: وإنما أجابه حين كرَّر - صلى الله عليه وسلم - السؤال؛ لعلمِه أنه - صلى الله عليه وسلم - يريد امتحانَه ودرايتَه بما سأله أولًا، وإنما كانت (آية الكرسي) أعظمَ؛ لأن ما اشتملت عليه من صفات الله وغيرها لا توجد مجموعةً في آيةٍ سوى هذه الآية. "قال: فضرب في صدري": وهذا تلطُّفٌ منه - صلى الله عليه وسلم -؛ ليتمكَّن العلمُ في صدره. "فقال: لِيَهْنَكَ العلمُ"؛ أي: لِيَكنِ العلمُ هنيئًا لك "يا أبا المنذر": هذا دعاء له بتيسير العلم له ورسوخه فيه. * * * 1523 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - أنّه قال: وَكَّلَني رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بحِفْظِ زَكَاةِ رمَضانَ، فَأَتاني آتٍ، فجَعَلَ يَحْثُو مَنَ الطَّعامِ، فأخَذْتُهُ فقلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إلى

رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دَعْني، إنِّي مُحْتاجٌ، وعَلَيَّ عِيالٌ، ولي حاجَةٌ شَدِيدَةٌ، قال: فَخَلَّيْتُ عنهُ، فأَصْبَحْتُ فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هُرَيْرَةَ! ما فعلَ أسِيُركَ البارِحَةَ؟ "، قلتُ: يا رسولَ الله! شكا حاجةً شَدِيدَةً وعِيالًا، فرَحِمْتُهُ، فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، قال: "أما إنَّهُ سَيَعُودُ"، فَرَصَدْتُهُ، فجاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ، فأَخَذْتُهُ، وقلت: لأَرْفَعنَّكَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دَعْني، فإنِّي مُحْتاجٌ، وعليَّ عَيالٌ، ولا أَعُودُ، فرَحِمْتُهُ فخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فأصْبَحْتُ، فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا هُرَيْرَةَ! ما فعلَ أَسِيرُكَ البارحةَ؟ "، قلتُ: يا رسُولَ الله! شَكا حاجَةً وعِيالًا، فرحِمتُهُ فَخَلَّيْتُ سَبيلَهُ، فقالَ: "أما إنَّهُ كَذَبَكَ، وسَيَعُودُ"، فرصَدْتُهُ، فجاءَ يَحْثُو مِنَ الطَّعامِ، فأَخَذْتُهُ فقلتُ: لأَرْفَعَنَّكَ إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا آخِرُ ثَلاثٍ مَرَّاتٍ، أنَّك تَزْعُمُ لا تعُودُ، ثُمَّ تَعُودُ، قال: دَعني أُعَلِّمُكَ كَلماتٍ يَنْفَعُكَ الله بها: إذا أَوَيْتَ إلى فِراشِكَ، فاقرَأْ آيةَ الكُرْسي: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتَّى تَخْتِمَ الآيةَ، فإنَّكَ لا يَزالُ عَلَيْكَ مِنَ الله حَافِظٌ، ولا يَقْرَبُكَ شَيْطانٌ حتَّى تُصْبحَ، فَخَلَّيْتَ سَبيلَهُ، فأصْبَحْتُ، فقال لي رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما فعلَ أسِيرُكَ؟ "، قلتُ: زَعَمَ أنَّهُ يُعَلِّمُني كَلِماتٍ يَنْفَعُني الله بها، قال: "أما إنَّهُ صَدَقَكَ وهو كذوبٌ، أتَعْلَمُ مَنْ تخاطِبُ منذُ ثلاثِ ليالٍ؟ "، قال: "ذاكَ شيطانٌ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: وكَّلَني رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان"؛ أي: بجميع زكاة الفطر ليفرِّقَها - عليه الصلاة والسلام - على الفقراء. "فأتاني آتٍ، فجعل يحثو من الطعام"؛ أي: طفقَ يأخذ هَيلًا بلا كَيلٍ ويجعله في ذيله أو وعائه، كحثي التراب، والمراد بالطعام: البُرُّ ونحوه مما يُزكَّى به في الفِطرة.

"فأخذتهُ وقلتُ: لأرفعنَّك"؛ أي: لأذهَبن بك "إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ليقطعَ يدك؛ فإنك سارقٌ. "قال: إني محتاجٌ وعليَّ عيالٌ ولي حاجة شديدة، قال" أبو هريرة: "فخلَّيت عنه"؛ أي: تركتُه. "فأصبحت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا هريرة! ما فعلَ أسيرُك البارحة؟ قلت: يا رسولَ الله! شكا حاجةً شديدةً وعيالًا، فرحمتُه، فخلَّيت سبيلَه، قال"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا" بالتخفيف: حرف تنبيه. "إنه" بكسر الهمزة، أي: أَعلَمُ أنَّه "سيعود، فرصدتُه"؛ أي: انتظرتُه. "فجاء يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: دَعْني؛ فإني محتاجٌ وعليَّ عيالٌ، لا أعود، فرحمتُه فخلَّيتُ سبيلَه، فأصبحت، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا هريرة! ما فعلَ أسيرُك؟ قلت: يا رسولَ الله! شكا حاجةً وعيالًا، فرحمتُه، فخلَّيت سبيلَه، فقال: أَمَا إنه كذبك وسيعود، فرصدتُه، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنَّك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذه آخرُ ثلاثِ مراتٍ، إنك تزعم لا تعود"، أي: تظنُّ أنك لا تعود. "ثم تعود، قال: دَعْني أعلِّمْك كلماتٍ ينفعك الله بها: إذا أَويتَ"؛ أي: إذا دخلتَ إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزالَ عليك من الله "حافظٌ، ولا يَقرَبُك شيطانٌ حتى تصبحَ، فخلَّيتُ سبيلَه، فأصبحت، فقال لي رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما فعلَ أسيرُك؟ قلت: زعم أنَّه يعلِّمني كلماتٍ ينفعني الله بها، قال - صلى الله عليه وسلم -: أَمَا إنه صَدَقَك"؛ أي: صَدَقَ فيما ذَكَر لك من خاصية آية الكرسي؛ فإنه مَن قرأها يصير محفوظًا من شرِّ الأشرار ببركتها.

"وهو كَذُوب" في سائر أقواله وأفعاله. "تَعْلَم"؛ أي: أتعلم "مَن تُخاطب منذ ثلاث ليال؟ فقلت: لا، قال: ذلك شيطان". والحديث يدل على أن تعلُّم العلم جائزٌ ممن لم يَعمَل بما يقول، بشرط أن يَعلَمَ المتعلِّم كونَ ما يتعلَّمه حسنًا، وأما إذا لم يَعلَم حُسنَه وقُبحَه لا يجوز أن يتعلَّم إلا ممن عَرفَ ديانتَه وصلاحَه. * * * 1524 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: بَيْنَما جِبْريل عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ سَمِعَ نقَيضًا مِنْ فَوْيهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فقال: "هذا بابٌ مِنَ السَّمَاءَ فُتحَ لَمْ يُفْتَحْ قَطُّ إلَّا اليَوْمَ، فَنَزَلَ مِنْهُ مَلَكٌ إلى الأرضِ لَمْ يَنْزِلْ قَطُّ إِلَّا اليْومَ، فَسَلَّمَ فقال: أَبْشِرْ بنورَيْنِ أُوتِيتَهُما لَمْ يَؤْتَهُما نبِيٌّ قَبْلَكَ: فاتحة الكِتابِ وخَواتِيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ، لَنْ تَقْرَأَ بِحَرْفٍ مِنْهُمَا إلَّا أُعْطِيتَهُ". "عن ابن عباس أنَّه قال: بينما جبرائيل عند النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: بينَ أوقاتٍ وحالاتٍ كان هو عنده - صلى الله عليه وسلم -. "سمعَ"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "نقيضًا"؛ أي: صوتًا شديدًا من فوقه؛ أي: مِن قِبَل السماء. "فرفع رأسَه، فقال: هذا بابٌ من السماء فُتح لم يُفتَح قطُّ إلا اليومَ" والضمائر في الأفعال الثلاثة راجعة إلى جبرائيل عليه السلام؛ لأنه أكثرُ اطلاعًا على أحوال السماء. "فنزل منه مَلَك إلى الأرض لم ينزل قطُّ إلا اليومَ": هذا من قول الراوي في حكاية الحال سمعه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أُبلِغَه منه.

"فسلَّم"؛ أي: المَلَكُ على النبي - عليه الصلاة والسلام -. "فقال: أَبشِرْ بنورَين أُوتيتَهما لم يُؤتَهما" - بصيغة المجهول - "نبيٌّ قبلَك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة"؛ يعني: {ءَامَنَ الْرَّسُولُ} إلى آخره، سَمَّاهما (نورَين)؛ لأن كلًّا منهما يكون لقارئه يومَ القيامة نورًا يَسعَى بين يدَيه، أو لأنه يُرشده ويَهديه بالتأمُّل فيه والتفكُّر في معانيه إلى الطريق القويم. "لن تقرأ بحرف منهما"؛ أي: بكلامٍ، والباء زائدة، وكنَّى بالحرف عن الجملة المستقلة بنفسها. "إلا أُعطيتَه"؛ أي: أُعطيتَ ما اشتملت عليه تلك الجملة من المسألة، كقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} و {غُفْرَانَكَ} و {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} في غير المسألة من حمدٍ وثناءٍ؛ يعني: ثوابه، أو المراد بالحرف: حرف التهجِّي، فمعناه: أُعطيتَ ثوابَه. * * * 1525 - عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: لمَّا أُسْرِيَ برسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - انتهِيَ بهِ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، فأُعْطِيَ ثَلاثًا: الصَّلَوَاتِ الخَمْسَ، وخَوَاتِيمَ سُورَةِ البَقَرَةِ، وغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بالله مِنْ أُمَّتِهِ شَيْئًا المُقْحِمَاتُ. "عن عبد الله أنَّه قال: لمَّا أُسري برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": مجهول (أَسْرَى يُسْرِي): إذا سارَ ليلةً، والمراد هنا: ليلة المعراج. "انتُهي به" - على صيغة المجهول - "إلى سِدْرَة المُنتهى": هي شجرة في أقصى الجنة ينتهي إليها عِلم الأولين والآخرين، ولا يتعداها، أو أعمال العباد، أو نفوس السائحين في الملإ الأعلى، فيجتمعون فيه اجتماعَ الناس في أبدانهم، ولا يطَّلع أحدٌ على ما وراءَها غير الله.

"فأُعطي ثلاثًا: أُعطي الصلوات الخَمس، وخواتيم سورة البقرة، وغُفر" - بصيغة المجهول - "لمن لا يشرك بالله شيئًا من أمته المُقحِماتُ": بضم الميم وبالحاء المهملة الخفيفة المكسورةُ، ومنهم مَن يشدِّدها، مرفوع بـ (غُفِرَ)، وهي الذنوب العِظَام التي تُقحِم أصحابَها - أي: تُلقيهم - في النار، من: قَحَمَ في الأمر قُحُومًا: إذا دخل فيه من غير رَوِيَّة؛ يعني: أُعطِيَ - عليه الصلاة والسلام - الشفاعةَ لأهل الكبائر من أمته. * * * 1526 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الآيتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ البقَرَةِ مَنْ قَرَأَ بِهِمَا في لَيْلَةٍ كفَتَاهُ". "عن أبي مسعود الأنصاري أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الآيتانِ من آخر سورة البقرة": أراد به: {ءَامَنَ الْرَّسُولُ. . . .} إلى آخرها. "مَن قرأ بهما في ليلةٍ كَفَتَاه"؛ أي: أغنتاه عن قيام الليل، أو أراد أنهما أقلُّ ما يُجزِئ من القراءة في قيام الليل، أو تَكفيانِ الشَّر وتَقيانِ المكروهَ. * * * 1527 - وقال: "مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آياتٍ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنَ الدَّجَّالِ". "وعن أبي الدرداء - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن حفظَ عشرَ آياتٍ في أول سورة الكهف عُصِمَ من الدجَّال"؛ أي: حُفِظَ مِن شرِّه. * * *

1528 - وقال: "أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ فِي لَيْلَةٍ ثُلُثَ القرآن؟ "، قالوا: وَكَيْفَ يَقْرَأُ ثُلُثَ القُرْآنِ؟، قال: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ". "عن ابن مسعود أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيَعجزُ أحدكم أن يقرأ في ليلةٍ ثلثَ القرآن؟ قالوا: فكيفَ يقرأ ثلثَ القرآن؟ قال: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} تَعدِل؛ أي: تساوي "ثلثَ القرآن"؛ أي: ثلثَ أصوله المهمَّة؛ وذلك لأن معاني القرآن المهمةَ ترجع إلى علوم ثلاثة: الأول: معرفة الله تعالى وتوحيده وتقديسه عن مُشارِكٍ في الجنس والنوع. والثاني: علم الشرائع من الأحكام. والثالث: علم تهذيب الأخلاق وتزكية النفوس. (وسورةُ الإخلاص) تشتمل على القسم الأول الأشرف، الَّذي هو كالأساس للآخرَين. * * * 1529 - وعن عائشة رضي الله عنها: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ رجُلًا على سَرِيَّةٍ وكان يَقْرَأُ لِأصْحَابهِ في صَلَاتِهِمْ، فيَخْتِمُ بـ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، فَلَمَّا رَجَعُوا ذَكَرُوا ذلكَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "سَلُوهُ، لِأيِّ شيءٍ يَصْنَعُ ذلك؟ "، فَسَأَلُوهُ فقالَ: لِأنَّها صِفَةُ الرَّحْمنِ، وأنَا أُحِبُّ أَنْ أَقْرَأَها، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَخْبرُوهُ أَنَّ الله يُحِبُّهُ". "وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - بعث رجلًا على سَرِيَّة"؛ أي: جعلَه أمير الجيش. "وكان يقرأ لأصحابه"؛ أي: الرجلُ يؤمُّهم "في صلاتهم، فيختم"؛ أي: الصلاةَ "بـ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} "؛ أي: يقرأ في الركعة الأخيرة بعد الفاتحة من

كل صلاة: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، ويختم بها. "فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي عليه الصلاة والسلام، فقال: سَلُوه لأيِّ شيءٍ يصنع ذلك؟ فسألوه، فقال: لأنها صفةُ الرحمن، وأنا أحبُّ أن أقرأَها"؛ وذلك لأن مَن أحبَّ شيئًا أكثرَ ذِكرَه. "فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أخبِرُوه أن الله تعالى يحبُّه". * * * 1530 - وقال أنس - رضي الله عنه -: إنَّ رجلًا قال: يا رسولَ الله!، إنِّي أُحِبُّ هذِهِ السُّورةَ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، قال: "إنَّ حُبَّكَ إيَّاهَا يُدْخِلُكَ الجَنَّةَ". "وقال أنس: إن رجلًا قال: يا رسولَ الله! إني أحبُّ هذه السورة {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، فقال: إنَّ حبَّك إياها يُدخلك الجنةَ". * * * 1531 - وعن عُقبة بن عامِر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلَمْ تَرَ آياتٍ أُنْزِلَتْ اللَّيْلَةَ لَمْ يُرَ مِثْلُهُنَّ قَطُّ؟ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ} ". "وعن عقبة بن عامر أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألم تُرَ": على بناء المجهول، من: الإراءة. "آيات أُنزلت": صفة (الآيات). "الليلةَ": نُصب على الظرفية. "لم يُر مثلهن قط"؛ أي: لم يُوجَد آياتٌ كلُّهن تعويذٌ للقارئ من شرِّ الأشرار غير هاتين السورتين.

" {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ} ": وهذا يدل على أن المُعوذتين من القرآن، خلافًا للبعض. * * * 1532 - وعن عائشة رضي الله عنها: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أَوَى إلى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَع كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فيهِمَا، فَقَرَأَ فيهِمَا: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ}، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا ما اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا على رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ وما أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثلاثَ مَرَاتٍ. "وعن عائشة: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا أَوَى"؛ أي: دخلَ "إلى فراشه كلَّ ليلةٍ جمعَ كفَّيه، ثم نَفَثَ فيهما": إخراجُ ريحٍ من الفم مع بُزاقٍ ما. "فقرأ فيهما: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُل أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ}: ظاهر الحديث يُومِئ إلى أن النفثَ مقدَّم على القراءة؛ لأن الفاءَ للتعقيب، ولعله وقع سهوًا من الناسخ من بعض الرواة، وفي "البخاري" بالواو، وكذا قاله بعض الشراح. أقول: تخطئة الرُّواة العُدُول بما عَرَضَ له من الرأي خطأ، وهلَّا قاسوا هذا الفاء على ما في قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}، وقوله: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوَا أَنْفُسَكُمْ} = على أن التوبة مؤخَّرة عن القتل؟؛ فالمعنى: جمعَ كفَّيه، ثم عزم على النفث فيهما، فقرأ فيهما. "ثم يَمسَح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبلَ من جسده، يفعل ذلك ثلاثَ مراتٍ". * * *

مِنَ الحِسَان: 1533 - عن عبد الرَّحَمن بن عَوفٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثَلاث تحْتَ العَرْشِ يَوْمَ القيامَةِ: القُرْآنُ يُحَاجُّ العِبَادَ لَهُ ظَهْرٌ وبَطْنٌ، والأَمَانَةُ، والرَّحِمُ تُنادِي: ألا مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ الله، وَمَنْ قَطَعَني قَطَعَهُ الله". "من الحسان": " عن عبد الرحمن بن عوف، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال: ثلاثةٌ تحتَ العَرش يومَ القيامة"، قيل: هذا كناية من اختصاصها بقُرْبٍ منه تعالى واعتبارٍ عنده، بحيث لا يُضيع أجهر مَن حافَظَ عليها، ولا يُهمِل مجازاةَ مَن ضيَّعها. "القرآن"؛ فإنه أجلُّها قَدْرًا، وأعظمُها حرمةً، ولهذا فصل بينه وبين المعطوف عليه بقوله: "يُحَاجُّ العبادَ"؛ أي: يُخاصمهم فيما ضيَّعوا من حدوده، ويطالبهم بما أهملوا من مواعظه وأمثاله. "له ظَهر وبَطن": جملة حالية من الضمير في (يحاج)، فمَن اتبع ظواهره وبواطنه فقد أدَّى حقوقَ الربوبية وظائفَ العبودية. وقيل: الظَّهر: التلاوة، والبطن: الفهم، وقيل: الظَّهر: ما ظهر بيانه، والبطن: ما احتاج إلى تفسير، وقيل: ظهره: ما استوى فيه المكلَّفون من الإيمان به والعمل بمقتضاه، وبطنه: ما وقع التفاوت في فهمه بين العباد على حسب مراتبهم في الأفهام. وفيه: تنبيه على أن كلًّا من العباد إنما يُطلَب منه بقَدْر ما انتهى إليه فهمُه مِن علمِ الكتابِ. "والأمانة": ما هو لازم الأداء من حقوق الله أو من حقوق العباد؛ فإن جميعَ حقوقهم أماناتٌ فيما بينهم، فمَن قامَ بحقِّها فقد أقامَ العدلَ وجانَبَ الظلمَ.

"والرَّحِم"؛ أي: القرابة. "تنادي": الضمير عائد إلى (الرحم)، أو إلى كل واحد من هذه الثلاثة. "ألا": حرف تنبيه. "مَن وَصلَني وصلَه الله"؛ أي: بالرحمة. "ومَن قطعَني قطعَه الله - عَزَّ وَجَلَّ -؛ أي: أَعرضَ عنه، وإنما أفرد الأخيرين بالذِّكر، وإن كانتا داخلتين تحت محافظة الكتاب؛ تأكيدًا لحرمتهما، ومبالغةً في الوصية بحفظهما، وأخرَّ (الرَّحِم)؛ لأنه أخصُّما. * * * 1534 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُقَالُ لِصاحِبِ القُرْآنِ: اقْرَأْ، وارْتَقِ، ورَتِّلُ كَما كُنْتَ تُرَتِّلُ في الدُّنيَا، فإنَّ مَنْزِلَكَ عِنْدَ آخِرِ آيةٍ تَقْرَؤُها". "وعن عبد الله بن عمر أنَّه قال: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: يقال لصاحب القرآن": وهو الحافظ والمُواظِب على قراءته، أو العالِم بمعانيه والمعتني بالتدبُّر فيه. "اقرأ وارتَقِ": أمر من (ارتقى): إذا صعد. "ورتِّلْ"؛ أي: رتِّل القرآنَ، بأن يقرأه مبينَه حرفًا حرفًا على التأنِّي والسكون. "كما كنتَ ترتل في الدنيا؛ فإن منزلَك عند آخر آية تقرؤها"، ذكر الخطابي أنَّه قد جاء في الأثر: أن عددَ آي القرآن عددُ دَرَجِ الجنة، فمَن استَوفَى قراءة جميع آياته استولَى على أقصى دَرَجِها، فيكون منتهى الثواب عند منتهى القراءة. * * *

1535 - وقال: "إنَّ الَّذي لَيسَ في جوفِهِ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنَ كالبَيتِ الخرِبِ"، صحيح. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الَّذي ليس في جوفِه شيءٌ من القرآن كالبيت الخَرِب"؛ لأن عمارةَ القلوب بالإيمان وقراءة القرآن، فمَن خلا قلبُه من هذه الأشياء فقلبُه خَرِبٌ لا خيرَ فيه، كما أن البيتَ الخَرِبَ لا خيرَ فيه. "صحيح". * * * 1536 - وقال: "يَقُولُ الرَّبُّ تعالَى: مَنْ شَغَلَهُ القُرْآنُ عَنْ ذِكْرِي وَمَسْأَلَتِي أَعْطَيْتُهُ أَفْضَلَ ما أُعْطِي السَّائِلِينَ، وفَضْلُ كَلَامِ الله تعالى على سائرِ الكَلامِ كَفَضْلِ الله على خَلْقِهِ"، غريب. "وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يقول الربُّ تبارك وتعالى: مَن شَغَلَه القرآنُ عن ذِكري ومسألتي"؛ أي: اشتغل بقراءته ولم يَفرَغ إلى ذِكري للدعاء والمسألة. "أَعطيتُه أفضلَ ما أُعطي السائلين"؛ أي: أعطاه الله تعالى معظم مطالبه ومقاصده أحسنَ وأكثرَ مما يعطي الذين يطلبون من الله حوائجَهم. "وفضلُ كلامِ الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه". "غريب". * * * 1537 - وقال: "مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كتَابِ الله فَلَهُ بهِ حَسَنةٌ، والحَسَنَةُ بِعَشرِ

أَمْثَالِها، لاَ أقولُ ألم حَرْفٌ، ألِفٌ حَرْفٌ، ولاَمٌ حَرْفٌ، ومِيمٌ حَرْفٌ"، غريب. "وعن أبي مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن قرأ حرفًا من كتاب الله"؛ أي: القرآن. "فله به حسنةٌ، والحسنةُ بعشر أمثالها، لا أقول: {الم} حرف؛ ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف"، فيحصل بكل منها عشرُ حسنات، وعلى هذا القياس من جميع القرآن. "غريب". * * * 1538 - عن الحارِث، عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَلا إنَّها سَتكُونُ فِتْنَةٌ"، فقلتُ: ما المَخْرَجُ مِنْهَا يا رسولَ الله؟، قال: "كِتابُ الله، فيهِ نَبَأُ ما قَبْلَكُمْ، وخَبَرُ ما بَعْدَكُمْ، وحُكْمُ ما بَيْنَكُمْ، هُوَ الفَصْلُ ليْسَ بالهَزْلِ، مَنْ تَرَكَهُ مِنْ جَبَّارٍ قَصَمَهُ الله، ومَنِ ابْتَغَى الهُدَى في غَيْرِهِ أَضَلَّهُ الله، وهُوَ حَبْلُ الله المَتِينُ، وهُوَ الذِّكْرُ الحَكِيمُ، وهُوَ الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ، هُوَ الذي لا تَزِيغُ بهِ الأهواءُ، ولا تَلْتَبسُ بهِ الأَلْسِنَةُ، ولا تَشْبَعُ مِنهُ العلماءُ، ولا يَخْلَقُ عَنْ كَثْرَة الرَّدِّ، ولا تَنْقَضي عَجَائبُهُ، هُوَ الذي لم تَنْتَهِ الجِنُّ إذْ سَمِعْتُهُ حَتَّى قالُوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ}، مَنْ قالَ بِهِ صَدَقَ، ومَنْ عَمِل بِهِ أُجِرَ، ومَنْ حَكَمَ بِهِ عَدَلَ، ومَنْ دَعَا إليْهِ هُدِيَ إلى صِراطٍ مستقيمٍ"، إسناده مجهولٌ. "عن الحارث، عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: ألا إنها": الضمير للقصة. "ستكون فتنة": بيان لها، يريد بالفتنة: ما وقع بين الصحابة، أو خروج

التتار، أو الدجال، أو دابة الأرض، والله أعلم. "فقلت: ما المَخْرَج منها يا رسول الله؟ "؛ أي: فما طريقُ الخروج والخلاص من تلك الفتنة؟ "قال: كتاب الله"؛ أي: هو التمسُّك بكتاب الله والعمل به. "فيه نَبَأ"؛ أي: خَبَرُ "ما قبلكم" من الأنبياء والأمم الماضية. "وخَبَرُ ما بعدَكم" من أحوال القبر والحشر والنشر والجنة والنار وغير ذلك. "وحُكمُ ما بينكم"؛ أي: ما بين حياتكم ومماتكم، من الحلال والحرام، والكفر والإيمان، والطاعة والعصيان، وغير ذلك. "هو الفَصْلُ"؛ أي: الفاصل بين الحق والباطل، وُصِفَ بالمصدر للتأكيد والمبالغة. "ليس بالهَزْل": هو ضد الجد، وهو الكلام الخالي عن الفائدة، واشتقاقه من: الهُزْل، ضد السِّمَن؛ أي: هو جدٌّ كلُّه ليس بالباطل، كما قال الله تعالى: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. "مَن تركَه"؛ أي: أَعرضَ عن القرآن. "مِن جبَّارٍ": بيان لـ (مَن)، و (الجبار) إذا أُطلق على الإنسان يُشعِر بالصفة المذمومة. نبَّه بذلك على أن تركَ القرآن والإعراضَ عنه وعن العمل به إنما هو التجبُّر والحماقة. "قَصَمَه الله"؛ أي: كسره وأهلكه، دعاء عليه أو خبر. "ومَن ابتغى الهدى في غيره"؛ أي: من طلبَ الصراطَ المستقيمَ في غير كلام الله وكلام رسول - صلى الله عليه وسلم -.

"أضلَّه الله": دعاء عليه أيضًا، أو إخبار؛ أي: ثبتت الضلالة له؛ فإنَّ طلبَ الشيءِ في غير محله ضلالٌ. "وهو"؛ أي: القرآنُ "حبلُ الله"؛ أي: عهدُه، ويُستعار للوصل؛ أي: هو الوصلة التي يُوثَق عليها، فيتمسَّك به مَن أراد التجافي عن دار الغرور إلى دار السرور، والعناية به كالحبل الذي يتوصل به المتمسك إلى غرضه. "المتين"؛ أي: القوي؛ يعني: هو السبب القوي المأمونُ الانقطاعِ، المؤدي إلى رحمة الربِّ. "وهو الذِّكر"؛ أي: القرآنُ ما يُتذكَّر به؛ أي: يُتَّعَظ. "الحكيم"؛ أي: المحُكَم آياتُه؛ أي: قوي ثابت لا يُنسَخ إلى يوم القيامة، ولا يَقدِر جميعُ الخلائق أن يأتوا بمثله؛ أي: ذو الحكمة في تأليفه. "وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تَزِيغ به الأهواء"، وزَاغَ عن الطريق يَزِيغ؛ أي: عَدَلَ عنه؛ أي: لا يميل بسببه أهلُ الأهواء؛ أي: البِدَع، لا يصير به مبتدعًا أو ضالاًّ، أو من: الإزاغة، بمعنى: الإمالة، والباء للتعدية؛ أي: لا تميله الأهواء المُضلَّة عن نهج الاستقامة إلى الاعوجاج، كفعل اليهود بالتوراة من تحريف الكلم عن مواضعه؛ لأنه تعالى تكفَّل بحفظه، قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. "ولا تلتبس الألسنة"؛ أي: لا يختلط به غيره، بحيث يشتبه كلامُ الربِّ تعالى بكلام غيره؛ لكونه كلامًا معصومًا، وقيل: إنه نزل بلسان عربي بين لا يلتبس بكلام عجمي، قال تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ}، فلا يُقرَأ بغيره من الألسنة المختلفة، وقيل: معناه: لا يتعسَّر على ألسنة المؤمنين تلاوته قال تعالى: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ}. "ولا يَشبَع منه العلماء"؛ أي: لا يحيط علمُهم بكُنهه، فكلما فكّروا تجَّلت لهم معانٍ جديدةٌ كانت في حُجُبٍ مَخفيةٍ.

"ولا يَخْلُق عن كثرة الرَّدِّ"، خَلُق الشيءُ يَخلُق - بالضم فيهما - خُلُوقةً: إذا بَلِيَ؛ أي: لا يزول رَونَقُه ولا تقلُّ طراوتُه ولذةُ قراءتِه واستماعِه بكثرة الرَّدِّ؛ أي: تكرُّر تلاوته على ألسنة التالين وآذان المستمعين مرةً بعد أخرى. "ولا تنقضي عجائبه"؛ أي: لا ينتهي أحد [إلى] كُنْهِ معانيه العجيبة وفوائده الغزيرة. "هو الذي لم تنتهِ الجُّن"؛ أي: لم تقفْ ولم تَلْبَثْ "إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} ": مصدرٌ وُصِفَ به للمبالغة؛ أي: عجبًا لحسن نظمه. {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ}؛ أي: يدلُّ إلى الإيمان والخير. " {فَآمَنَّا بِهِ} الآية، مَن قال به"؛ أي: بالقرآنِ "صَدَقَ، ومَن عملَ به أُجِرَ، ومَنِ حَكَمَ عَدَلَ، ومَن دَعَا إليه هُدِيَ"؛ أي: المَدعوُّ "إلى صراط مستقيم". "إسناده مجهول". * * * 1539 - وقال: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وعَمِلَ بما فيهِ أُلْبسَ والِداهُ تاجًا يومَ القيامَةِ ضَوْؤُهُ أَحْسَنُ مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ في بُيوتِ الدُّنْيَا لو كانَتْ فيكُمْ، فما ظَنُّكُمْ بالذي عَمِلَ بهذا؟! ". "عن أنس أنه قال: قال رسول الله قال الله تعالى عليه وسلم: مَن قرأَ القرآنَ وعملَ بما فيه أُلبِسَ والداه" ببركة القارئ "تاجًا يوم القيامة، ضَوؤه أحسنُ من ضَوءِ الشمسِ في بيوت الدنيا لو كانت فيكم"؛ أي: الشمسُ في بيوت أحدكم. "فما ظنُّكم بالذي عمل بهذا؟ "؛ يعني: إذا كان حالُ والدَي القارئ

كذلك، فكيف يكون عِظَمُ ثوابِ ذلك القارئ العامل به؟؛أي: يكون له عند الله منزلة رفيعة ومرتبة عالية، لا تخطر ببالِ أحدِكم. * * * 1540 - وقال: "لو كانَ القُرآنُ في إهَابٍ ما مَسَّتْهُ النَّار". "عن عقبة بن عامر أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو كان القرآنُ في إهابٍ"؛ أي: جِلْدٍ. "ما مسَّتْه النارُ"، قيل: كان ذلك معجزةً للقرآن، لا تحرقُه نارُ جهنم، وهكذا ذُكر عن أحمد بن حنبل. * * * 1541 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فاستَظْهَرَهُ فَأَحَلَّ حلالَهُ وحَرَّمَ حَرَامَهُ أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ، وشَفَّعَهُ في عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ كُلُّهُمْ قَدْ وَجَبَتْ لهُ النَّار"، غريب ضعيف. "عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: مَن قرأَ القرآنَ، فاستَظْهَرَه"؛ أي: حفظَه عن ظَهرِ القلب. "وأحلَّ حلالَه، وحرَّم حرامَه أدخلَه الله الجنةَ وشفَّعه" بالتشديد؛ أي: جعلَه شفيعًا. "في عشرة من أهل بيته، كلُّهم قد وجبتْ له النارُ": فيَسأل في التجاوز عن ذنوبهم وجرائمهم فتُقبَل شفاعتُه فيهم. "غريب ضعيف". * * *

1542 - وقال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيِّ بن كعبٍ - رضي الله عنه -: "كيْفَ تَقْرَأُ في الصَّلاةِ؟ "، فَقَرَأَ أُمَّ القُرْآنِ، فقال: "والذي نَفْسِي بِيَدِهِ، ما أُنْزِلَتْ في التَّوْرَاةِ ولا في الإِنْجِيلِ ولا في الزَّبُورِ ولا في القُرْآنِ مِثْلُها، وإنَّها السَّبْعُ المَثَانِي والقُرْآنُ العَظِيمُ الذي أُعْطِيتُ"، صحيحٌ. "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأبي ابن كعب: كيف تَقرَأ في الصلاة؟ فقرأ أمَّ القرآن"؛ يعني: الفاتحةَ. "فقال: والذي نفسي بيده! ما أُنزلت في التوراة، ولا في الإنجيل، ولا في الزَّبُور، ولا في القرآن مثلُها، وإنها السّبع المَثَاني والقرآن العظيم الذي أُعطيتُه. صحيح". * * * 1543 - وقال: "تَعَلَّمُوا القُرْآنَ واقْرَؤوهُ، فإنَّ مَثَلَ القُرْآنِ لِمَنْ تَعَلَّمَ فَقَرَأَ وقامَ بِهِ كمثَلِ جِرابٍ مَحْشُوٍّ مِسْكًا تَفُوحُ رِيحُهُ بكُلِّ مَكانٍ، ومثَلُ مَن تَعَلَّمَهُ فَرَقَدَ وهو في جَوْفِهِ كمَثَلِ جِرابٍ أُوكئَ على مِسْكٍ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تعلَّموا القرآنَ فاقرَؤُوه؛ فإن مَثَلَ القرآنِ لمن تعلَّم فقَرَأَ وقامَ به كمَثلِ جِرَاب" - بكسر الجيم، والعامة بفتحه - "مَحشوٍّ"؛ أي: مملوءٍ "مِسكًا تَفُوحُ"؛ أي: تظهرُ وتصلُ. "رِيحهُ كلَّ مكان"؛ يعني: صدرُ القارئ كجِرَابٍ، والقرآنُ فيه كالمِسك؛ فإنه إذا قرأَه وصلتْ بركتُه إلى بيته وسامعيه، والراحةُ والثوابُ إلى حيث وصلَ صوتُه. "ومَثَلُ مَن تعلَّمَه، فرَقَدَ"؛ أي: نامَ عن تلاوته والقيام به. "وهو في جوفه، كمَثَلِ جِرَابٍ أُوكِئ على مِسك"؛ أي: يُشدُّ عليه بالوِكَاء، فلا تفوح رِيحهُ؛ شبَّهه بذلك من حيث إنه ضيَّعه على نفسه، وأبطل

فائدته في حقِّه بترك قراءته وتدبُّر معانيه. * * * 1544 - وقال: "مَنْ قَرَأَ: {حم} المُؤْمِن إلى: {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ}، وآيَةَ الكُرْسِيِّ حينَ يُصْبحُ حُفِظَ بِهِمَا حتَّى يُمْسِيَ، ومَنْ قَرَأَ بهُما حِينَ يُمْسي حُفِظَ بِهِمَا حتَّى يُصْبح"، غريبٌ. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن قرأَ {حم} المؤمن إلى {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} وآيةَ الكرسي حين يُصبِحُ حُفِظَ بهما"؛ أي: ببركتهما من الآفات. "حتى يمسيَ، ومَن قرأَ بهما حين يمسي حُفِظَ بهما حتى يصبحَ. غريب". * * * 1545 - وقال: "إنَّ الله كَتَبَ كِتابًا قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ بِأَلْفَيْ عام، أَنْزَلَ فيهِ آيَتَيْنِ خَتَمَ بِهِمَا سُورَةَ البَقَرَةِ، ولا تُقْرَآنِ في دارٍ ثَلاثَ لَيالٍ فَيَقْرَبُها الشَّيْطانُ"، غريبٌ. "وعن النعمان بن بشير أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله كَتَبَ كتابًا"؛ أي: أَمر بكتابة القرآن في اللوح المحفوظ. "قبل أن يَخلُقَ السماواتِ والأرض بألفَي عام"، وقيل: أي أَثبتَ ذلك فيه، أو في غيره من مطالع العلوم الغيبية. "أَنزلَ منه"؛ أي: من ذلك الكتاب. "آيتين خَتَمَ بهما سورةَ البقرة": وهما: {آمَنَ الرَّسُولُ. . .} إلخ.

"ولا تُقْرَآنِ في دارٍ ثلاثَ ليالٍ، فَيقْرَبها الشيطان. غريب". * * * 1546 - وقال: "مَنْ قَرَأَ ثَلاَثَ آياتٍ مِنْ أَوَّلِ الكَهْفِ عُصِمَ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ"، صحيح. "عن أبي الدرداء أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن قرأَ ثلاثَ آياتٍ من أول الكهف عُصِمَ"؛ أي: حُفِظَ "من فتنة الدجَّال"، وجه تخصيص هذه السورة: أن أوائلَها مشتملةٌ على قصة أصحاب الكهف، وهم لمَّا التجؤوا إلى الله نَجَّاهم من شرِّ دقيانوس، والمَرجوُّ من الله الكريم أن يحفظَ قارئَها من الدَّجال ويثبته على الدين القويم. "صحيح". * * * 1547 - وقال: "إنَّ لِكُلِّ شيءٍ قَلْبًا، وقَلْبُ القُرْآنِ يس، ومَنْ قَرَأَ يَس كَتَبَ الله لَهُ بِقِرَاءَتِها قِراءَةَ القُرْآنِ عَشْرَ مَرَّاتٍ"، غريبٌ. "عن أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لكل شيءٍ قلبًا"، قلبُ الشيء: خالصُه. "وإن قلبَ القرآن يس"؛ أي: لو أمكن أن يكون له قلب لكان (يس) قلبه؛ لأن المقصودَ من الاعتقادات مُودَعٌ فيه، كذِكر أحوال القيامة من الحشر والنشر، والجنة والنار، فيه مستقصًى بحيث لم يكن في غيره كما هو فيه، وأحوال الأجرام العُلوية والمواعظ البليغة ونحوها. "ومَن قرأ يس كَتَبَ الله له بقراءتها قراءةَ القرآن عشرَ مراتٍ. غريب". * * *

1548 - وقال: "إنَّ الله تعالَى قَرَأَ طه ويس قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأَرْضَ بِأَلْفِ عامٍ، فلمَّا سَمِعَتِ المَلاَئِكَةُ القُرْآنَ قالت: طُوبى لأِمَّةٍ يَنْزِلُ هذا عَلَيْهَا، وطُوبَى لأجوافٍ تَحْمِلُ هذا، وطُوبَى لأِلْسِنَةٍ تَتَكَلَّمُ بهذا". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى قرأ طه ويس"؛ أي: أَفهمَهما ملائكتَه وأَلهمَهم معناهما "قبلَ أن يَخلُقَ السماواتِ والأرضَ بألف عام"، أو أَمرَ مَلَكًا بقراءتهما. "فلما سمعتِ الملائكةُ القرآن"؛ أي: (طه) و (يس)؛ إذ اللام للعهد. "قالت: طُوبى"؛ أي: الراحةُ والطِّيبُ حاصلٌ "لأُمةٍ ينزل هذا عليها"، والمراد بـ (طُوبى): شجرة في الجنة، في كل بيتٍ من بيوت الجنة منها غصنٌ. "وطُوبى لأجوافٍ تَحملُ هذا، وطُوبى لألسنةٍ تتكلم بهذا". * * * 1549 - وقال: "مَنْ قَرَأَ حم الدُّخانَ في لَيْلَةٍ أَصْبَحَ يَسْتَغْفِرُ لَهُ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ"، غريب. "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن قرأ {حم} الدخان في ليلة أصبحَ يستغفر"؛ أي: يطلبُ المغفرةَ "له سبعون ألف مَلَك" من حين قرأها إلى الصبح. "غريب". * * * 1550 - وقال: "من قَرأَ الدُّخَان في ليلةِ الجُمُعَةِ غُفِرَ له"، غريب. "عن أبي رافع أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ قرأ {حم} الدخان في

ليلة الجمعة غُفِرَ له". "غريب". * * * 1551 - وعن العِرْباضِ بن سَارِية: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَقْرَأُ المُسَبحَاتِ قَبْلَ أَنْ يَرْقُدَ، يقولُ: "إنَّ فِيهِنَّ آيةً خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ آيَةٍ"، غريب. "وعن العِرْباض بن سارية: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يقرأ المسبِّحات" بكسر الباء: السُّوَر التي في أوائلها: سبحان، أو سبَّحَ، أو يُسبِّح، وهي: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} والحديد، والحشر، والجمعة، والتغابن، والأعلى. "قبل أن يَرقُدَ"؛ أي: ينامَ. "يقول: إن فيهن آيةً خيرٌ"؛ أي: هي خيرٌ "من ألف آية. غريب". * * * 1552 - وقال: "إنَّ سُورَةً في القُرْآنِ ثَلاَثُونَ آيةً شَفَعَتْ لِرَجُلٍ حتَّى غُفِرَ لَهُ، وهيَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن سورةً في القرآن ثلاثون آيةً شَفَعَتْ لرجلٍ حتى غُفر له، وهي: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}: يحتمل أن يكون قد مضى في القبر؛ يعني: كان رجل يقرؤها ويعظِّم قَدْرَها، فلما مات شَفَعتْ له حتى دُفع عنه عذابُه، ويحتمل أن تكون بمعنى المستقبل؛ أي: تَشفَع لمَن يقرؤها يومَ القيامة. * * *

1553 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: ضَربَ بعضُ أصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خِبَاءَهُ على قَبْرٍ وهو لا يَحْسِبُ أَنَّهُ قَبْرٌ، فإذا فيهِ إنسانٌ يَقْرَأُ سُورَةَ {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} حتَى خَتَمَها، فَأَتى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخْبَرَهُ، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "هِيَ المانِعَةُ، هِيَ المُنْجِيَةُ، تُنْجيهِ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ"، غريب. "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ضَربَ بعضُ أصحاب النبي - عليه الصلاة والسلام - خِبَاءَه" بالكسر والمد؛ أي: خيمتَه. "على قبرٍ وهو لا يحسِب"؛ أي: لا يظنُّ "أنه قبر، فإذا فيه"، (إذا) للمفاجأة. "إنسانُ يقرأ فيه سورة {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} حتى ختَمها، فأتى"؛ أي: صاحبُ الخيمةِ "النبيَّ عليه الصلاة والسلام، فأخبره بما سمع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هي المانعة"؛ أي: هذه السورةُ تَمنعُ العذابَ عن قارئها. "هي المُنجِية تُنجِيه"؛ أي: تُخلِّص القارئَ "من عذاب القبر". "غريب". وفيه: بيان أن بعضَ الأمواتِ يَصدُر منهم ما يَصدُر من الأحياء. * * * 1554 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا ينامُ حتَّى يَقْرَأَ: {الم (1) تَنْزِيلُ}، و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}، غريب. "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان لا ينام حتى يقرأ: {الم (1) تَنْزِيلُ}، و {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} ". "غريب". * * *

1555 - عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: " {إِذَا زُلْزِلَتِ} تَعْدِلُ نِصْفَ القُرْآنِ، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ، و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تِعْدِلُ رُبْعَ القُرْآنِ". "وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {إِذَا زُلْزِلَتِ} تَعدِلُ نصفَ القرآن"؛ لأن أحكامَ القرآنِ مشتملةٌ على أمور الدنيا وأمور الآخرة، وهذه السورةُ أحوالُ الآخرةِ فحسبُ. "و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} تَعدِلُ ثُلثَ القرآن: تقدم بيانه. "و {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} تَعدِل رُبعَ القرآن"؛ وذلك لأن القرآنَ مشتملٌ على تقرير التوحيد، والنُّبُوَّات، وبيان أحكام المعاد، وأحوال المعاش، وهذه السورةُ مشتملةٌ على القسم الأول؛ لأن البراءةَ عن الشِّرك عينُ التوحيد. * * * 1556 - عن مَعْقِل بن يَسَار - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قالَ حِينَ يُصْبحُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بالله السَّمِيعِ العَلِيمِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيم، فَقَرَأَ ثَلاَثَ آياتٍ مِنْ آخِرِ سورَةِ الحَشْرِ وَكَّلَ الله بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عليهِ حتَّى يُمْسِيَ، وإنْ ماتَ في ذلكَ اليَوْمِ ماتَ شَهيدًا، ومَنْ قالَها حِينَ يُمْسِي كانَ بتلكَ المَنْزِلَة"، غريبٌ. "وعن مَعْقِل بن يسار - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: مَن قال حين يُصبح ثلاثَ مراتٍ: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، فقرأ ثلاثَ آياتٍ من آخر سورة الحشر وَكَّلَ الله به سبعين ألف مَلَك يُصلُّون عليه"؛ أي: يستغفرون له.

"حتى يمسيَ، وإنْ ماتَ في ذلك اليوم ماتَ شهيدًا، ومَن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة، غريب". * * * 1557 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَرَأ كُلَّ يَوْمٍ مائَتَيْ مَرَّةٍ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ مُحِيَ عَنْهُ ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً إلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ". "عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قَرَأ كُلَّ يومٍ مائَتَيْ مَرَّةٍ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ مُحِيَ عَنْهُ ذُنُوبُ خَمْسِين سَنَةً، إلاَّ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ "دَيْنٌ"، فإنه لا يُعفَى عن دَيِنه. * * * 1558 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أرادَ أنْ ينامَ على فِراشِهِ، فنَامَ عَلَى يمينِهِ، ثُمَّ قَرَأَ مائَةَ مَرَّةٍ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فإذا كانَ يَوْمُ القيامَةِ يَقُولُ لَهُ الرّبُّ: يا عَبْدِي!، ادْخُلْ، على يِمِينِكَ الجَنَّةُ"، غريبٌ. "وعنه، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: مَن أراد أن ينامَ على فراشه، فنام على يمينه، ثم قرأ مئةَ مرةٍ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، فإذا كان يومُ القيامة يقول له الربُّ: يا عبدي! ادخلْ، على يمينك الجنةُ"؛ مكافأةً لطاعته للرسول - صلى الله عليه وسلم - في الاضطجاع على اليمين وقراءة السورة التي فيها صفاتُه، فيُجعَل من أصحاب اليمين في دخول الجنة من الجانب اليمين. "غريب". * * * 1559 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ

أَحَدٌ}، فقالَ: "وَجَبَتْ"، فقلتُ: وما وَجَبَتْ؟، قال: "الجَنَّةُ". "عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقال: وَجبتْ، قلت: ما وَجبتْ؟ قال: الجنةُ". * * * 1560 - عن فَرْوَة بن نَوْفَلٍ، عن أبيه: أنَّهُ قالَ: يا رَسُولَ الله!، عَلِّمْني شَيْئًا أَقُولُهُ إذا أوَيْتُ إلى فِراشي، فقال: "اقْرَأْ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، فإنَّها بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ". "عن فَروة بن نَوفل، عن أبيه أنه قال: يا رسولَ الله! علِّمْني شيئًا أقوله إذا أَويتُ إلى فراشي، فقال: اقرأ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}؛ فإنها براءةٌ من الشِّرك"؛ وذلك لأن الله تعالى أمرَ رسولَه في هذه السورة أن يُجيبَ الكفارَ ب: {لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ}، فهذا براءةٌ من الشِّرك فهو عينُ التوحيد، فمَن قرأَها عن اعتقادٍ صحيحٍ فقد بَرِئَ من الشِّرك. * * * 1561 - وقال عُقْبة بن عامِرٍ - رضي الله عنه -: بَيْنَا أنا أَسِيْرُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ الجُحْفَة والأَبْوَاءِ إذْ غَشِيَتْنَا رِيحٌ وظُلْمَة شَدِيدَةٌ، فجعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ بـ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، ويقول: "يا عُقْبَةُ!، تَعَوَّذْ بهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بمثلِها". "وقال عقبة بن عامر: بينا أنا أسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الجحفة": وهي ميقات أهل الشام ومصر والمغرب في عقد الإحرام. "والأَبْوَاء" بفتح الهمزة وسكون الباء وبالمد جبل بين مكة والمدينة، سُمي

بذلك؛ لأن السيلَ يَبُوء إليه، وبه تُوفيت أم النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: هي قرية بينها وبين الجُحفة عشرون ميلًا. "إذ غشيتْنا"؛ أي: جاءتْنا "ريحٌ وظلمةٌ شديدةٌ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: طَفِقَ يتعوَّذ "بـ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ويقول: يا عقبةُ! تعوَّذْ بهما؛ فما تعوَّذ متعوِّذ بمثلهما"؛ أي: ليس تعويذ مثل هاتين السورتين، بل هما أفضل التعاويذ. * * * 1562 - عن عبد الله بن خُبَيْب قال: خَرَجْنَا في لَيْلَةِ مَطَرٍ وظُلْمةٍ شديدة نَطْلُبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقالَ: "قُلْ"، قُلْتُ: ما أَقُولُ؟، قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمُعَوِّذَتَيْنِ حِينَ تُصْبحُ وحَينَ تُمْسِي ثَلاَثَ مَرَّاتٍ تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ". "عن عبد الله بن خُبيب أنه قال: خرجْنا في ليلةِ مطرٍ وظلمةٍ شديدةٍ، نطَلبُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأدركناه، فقال: قُلْ، فقلت: ما أقول؟ قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} والمُعوذتين حين تُصبح وحين تُمسي ثلاثَ مراتٍ تكفيك من كل شيء"؛ أي: تدفع هذه السُّوَرُ عنك شرَّ كلِّ ذي شرٍّ. * * * 1563 - عن عُقْبة بن عامِرٍ قال: قُلْتُ: يا رسولُ الله!، أقرأُ سُورَةَ هُودٍ أو سورةَ يوسُف؟، قال: "لنْ تَقْرَأَ شَيْئًا أَبْلَغَ عِنْدَ الله مِنْ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}، و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} ". "عن عقبة بن عامر قال: قلت: يا رسولَ الله! أقرأ": بحذف الهمزة الاستفهامية؛ أي: أأقرأ "سورةَ هود، أو سورة يوسف؟ "

فصل

"قال: لن تقرأ شيئًا أبلغَ"؛ أي: أتمَّ في التعوُّذ "عند الله من {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، والمراد: التحريضُ على التعوُّذ بهاتَين السورتَين. * * * فصل (فصل) مِنَ الصِّحَاحِ: 1564 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَعَاهَدُوا القُرآنَ، فَوَالذي نفسي بيدِهِ لهَو أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنَ الإِبلِ في عُقُلِها". "من الصحاح": " عن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تعاهَدُوا القرآنَ"؛ أي: تحفَّظوا به وواظبوا على تلاوته. "فوالذي نفسي بيده! لَهو أشدُّ تَفَصِّيًا"؛ أي: ذهابًا وانفلاتًا "من الإبل في عُقُلِها" بضم العين والقاف: جمع عِقَال - بالكسر (¬1) -، وهو الحبل الذي يُشدُّ به ذراعُ البعير. * * * 1565 - وقال: "اسْتَذْكِرُوا القُرآنَ، فإنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجالِ مِنَ النَّعَم مِنْ عُقُلِها". ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "بالضم".

"وعن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: استَذْكِرُوا القرآنَ"؛ أي: اطلبوا من أنفسكم مذاكرتَه والمحافظةَ على قراءته. "فإنه أشدُّ تفصِّيًا من صدور الرجال": متعلقًا بـ (تفصيًا). "مِنَ النَّعَم" بفتح النون: واحد الأنعام، وهي المال الراعية، وأكثر استعماله في الإبل، وهو متعلق بـ (أشد)؛ أي: أشدُّ من تفصِّي النَّعَم المتعلقة، وتخصيص الرجال بالذِّكر؛ لأن حفظَ القرآن من شأنهم. * * * 1566 - وقال: "مَثَلُ صاحبِ القُرآنِ كمثَلِ صاحِبِ الإِبلِ المُعَقَّلَةِ، إنْ عاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَها، وإنْ أَطْلَقَها ذَهَبَتْ". "وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَثَلُ صاحبِ القرآن كمَثَلِ صاحب الإبل المعقلَّة"؛ أي: المشدودة بالعِقَال. "إن عاهَدَ عليها"؛ أي: داوَمَ على حفظ تلك الإبل. "أَمسكَها، وإن أَطلقَها"؛ أي: أَرسلَها وحلَّها "ذهبتْ"، فكذلك القرآن؛ إن لم يتعاهد عليه يفرُّ من صدره وينساه. * * * 1567 - وقال: "اقرَؤُوا القُرآنَ ما ائْتَلفتْ عليهِ قُلُوبُكُمْ، فإذا اخْتَلَفْتُمْ فقومُوا عنهُ". "وعن جُندب بن عبد الله أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرؤوا القرآنَ ما ائتلفتْ عليه قلوبُكم"؛ أي: ما دام لكم حضورٌ ونشاطٌ بقراءته، وخواطرُكم مجموعةٌ.

"فإذا اختلفتم"؛ أي: تفرَّقت قلوبُكم وسئُمتم من القرآن. "فقوموا عنه"؛ أي: اتركوا قراءتَه؛ فإنه أعظمُ من أن يقرأَه أحدٌ من غير حضور القلب، أو المراد: اقرؤوا ما دمتم متفقين على تصحيح قراءته وأسرار معانيه، فإذا اختلفتم في ذلك فاتركوه؛ لأن الاختلافَ يُفضي إلى الجدال، والجدال إلى الجُحود وتلبيس الحق بالباطل، أعاذنا الله من ذلك بفضله. * * * 1568 - وسُئلَ أنسٌ - رضي الله عنه -: كيفَ كانتْ قِراءَةُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟، فقال: كانَتْ مَدًّا، ثم قرأ: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، يمدُّ بـ {بِسْمِ اللَّهِ}، ويَمُدُّ بـ {الرَّحْمَنِ}، ويمُدُّ بـ {الرَّحِيمِ}. "وسئل أنس: كيف كانت قراءةُ النبي عليه الصلاة والسلام؟ فقال: كانت" قراءتُه "مَدًّا"؛ أي: ذاتَ مَدٍّ؛ أي: كان - صلى الله عليه وسلم - يمدُّ حرفَ المَدِّ واللِّين، وحروفُ المَدِّ ثلاثةٌ: الألف، والواو الساكنة التي قبلها ضمة، والياء الساكنة التي قبلها كسرة، فإذا كان في الكلام أحدُ هذه الحروف وبعدها همزةٌ كقوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا} [البقرة: 136]، أو حرفٌ مشدَّةٌ كقوله تعالى: {أَتُحَاجُّونِّي} [الأنعام: 80]، أو ساكنٌ كقوله - تعالى: {ص} [ص: 1]- يمدُّ ذلك الحرف. وفي قَدْره اختلاف؛ فبعضُهم يمدُّ بقَدْر الأَلِف، وبعضُهم بقَدْر الأَلِفَين، وبعضُهم بأربع، وبعضهم بخمس. "ثم قرأ"؛ أي: أنسٌ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، يمدُّ {بِسْمِ اللَّهِ}، ويمدُّ بـ {الرَّحْمَنِ}، ويمدُّ بـ {الرَّحِيمِ} "؛ ليَعلَمَ الحاضرون كيفيةَ قراءته - صلى الله عليه وسلم -، فمَدُّ البسملةِ لم يكن إلا بقَدْر خروج المَدِّ من الفم؛ لأنه ليس بعد الألف همزةٌ ولا تشديدٌ ولا ساكنٌ.

و {الرَّحِيمِ} يُمَدُّ عند الوقف بقَدْر أَلِفَين، وفي الوصل بقَدْر خروج الياء من الفم. * * * 1569 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَذِنَ الله لِشيءٍ ما أَذِنَ لنبيٍّ يتغنَّى بالقُرآنِ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أَذِنَ الله لشيءٍ"، (ما) هذه: نافية، "ما أَذِنَ لنبيٍّ": (ما) هذه: مصدرية؛ أي: ما استَمعَ إلى شيءٍ كاستماعه إلى صوت نبيٍّ، والمراد بهذا الاستماع: إجزال ثوابه والاعتداد به. "يتغنَّى بالقرآن": مصدر بمعنى القراءة، أو المقروء، والمراد به: الكتب المُنزلة، والمراد من تغنِّيه: الإفصاح بألفاظه، وقيل: إعلانه، وقيل: معنى تغنِّيه: قراءته على خشيةٍ من الله ورقةٍ من فؤاده. وقيل: كشفُ الغموم بِذكر كلام الربِّ، كما يتغنَّى المغموم بالشِّعر لطلب الفرجة. وقيل: معناه: التطرُّب بتحسين صوته؛ لأن الغناءَ من علامات الطَّرَب، أباحه أبو حنيفة وجماعةٌ من السَّلَف، وكرهَه مالك، والشافعي في قولٍ. * * * 1570 - وقال: "ما أَذِنَ الله لِشيءٍ ما أذِنَ لنبيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بالقُرآنِ يَجْهَرُ به". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أَذِنَ الله لشيءٍ ما أَذِنَ لنبيٍّ حسنِ الصوتِ بالقرآن يَجْهَرُ به". * * *

1571 - وقال: "ليسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يتغَنَّ بالقُرآن". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس مِنَّا"؛ أي: خُلقًا وسيرةَ "مَن لم يتغنَّ بالقرآن"؛ أي: مَن لم يستغنِ به عن غيره، وقيل: معناه: مَن لم ينفرج من غمومه بقراءة القرآن والتدبُّر فيه. * * * 1572 - وقال عبد الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -: قالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المِنْبَرِ: "اقْرَأْ عليَّ"، قلتُ: أَقْرَأُ عليكَ وعليكَ أنْزِلَ؟، قال: "إنِّي أُحِبُّ أنْ أسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي"، فقرأْتُ سورةَ النِّساءِ حتَّى أتيتُ إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: "حَسْبُكَ الآن"، فالتفتُّ إليه، فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِقانِ. "وقال عبد الله بن مسعود: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر: اقرأ عليَّ"؛ أي: اقرأ حتى أستمعَ إليك. "قلت: أَقرأُ عليك وعليك أُنزل؟ "؛ أي: القرآن. "قال: فإني أُحبُّ أن أَسمعَه من غيري": وهذا دليل على أن استماعَ القرآنِ سُنَّةٌ. "فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ} "؛ أي: كيف يصنع الكَفَرةُ من اليهود وغيرهم {إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ} يَشهَد عليهم بما فعلوا، وهو نبيُّهم. {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ} المكذِّبين {شَهِيدًا}، قال: حَسْبُك الآنَ"؛ أي: لا تَقرَأْ شيئًا آخر؛ فإني مشغولٌ بالتفكُّر في هذه الآية بالبكاء.

"فالتفتُّ إليه، فإذا عيناه تَذرِفان"؛ أي: تَدْمَعانِ. * * * 1573 - وعن أنَسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبَيِّ بن كَعْبٍ: "إنَّ الله أَمَرَنِي أَنْ أقرأَ عليكَ القُرآنَ"، قال: الله سَمَّاني لكَ؟!، قال: "نَعَمْ"، قال: وقَدْ ذُكِرْتُ عندَ ربِّ العالَمِينَ؟!، قال: "نَعَمْ"، فذرفَتْ عَيْنَاهُ. وفي روايةٍ: "أَمَرَنِي أنْ أقرأَ عليكَ: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}. "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأُبي بن كعب: إن الله أمرَني أن أقرأَ عليك القرآنَ"، والمراد من قراءته - صلى الله عليه وسلم - على أُبيٍّ: تعليم وإرشاد، وهو أول قُرَّاء الصحابة، وأشدُّهم استعدادًا لتلقُّف القرآن كتلقُّفه - صلى الله عليه وسلم - من أمين الوحي، فلذا خُصَّ بذلك، ومن هذا جَرَتِ السُّنَةُ بين القُرَّاء أن يَقرَأَ الأستاذُ لِيَسمعَ التلميذ، ثم يقرأَ التلميذ. "قال"؛ أي: أُبيٌّ: "الله": بهمزتين، الأولى للاستفهام، قُلبت الثانية ألفًا، فصار (الله) بالمد، ويجوز الحذف للعِلم بها. "سَمَّاني لك؟ قال: نعم، قال: وقد ذُكِرتُ عند ربِّ العالمين؟ قال: نعم، فذَرفتْ عيناه"؛ أي: سالَ منهما الدمعُ؛ ابتهاجًا وفرحًا من تسمية الله إياه بأمر القراءة، أو خوفًا من العجز عن شكر تلك النعمة. "وفي رواية: أمرني أن أقرأَ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} "، قيل: تخصيص هذه السورة بالقراءة من بين السُّوَر؛ لأنها وجيزةٌ جامعةٌ بقواعدَ كثيرةٍ من أصول الدِّين وفروعه، والإخلاص وتطهير القلب، وكان الوقت يقتضي الاختصار.

وقيل: لأن فيها قصةَ أهل الكتاب، وأُبي كان من أحبار اليهود، فأراد - صلى الله عليه وسلم - أن يُعلمَه حالهَم وخطابَ الله إياهم، فيتقرَّر إيمانُه بالله تعالى ونبوته - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ. * * * 1574 - وقال ابن عُمر - رضي الله عنهما -: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُسَافَرَ بالقُرآنِ إلى أرضِ العَدُوِّ. وفي روايةٍ: قالَ: "لا تُسافِرُوا بالقُرآنِ، فإنِّي لا آمَنُ أَنْ ينالَهُ العَدُوُّ". "وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُسافَرَ بالقرآن إلى أرض العدو"، قيل: نهيُه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك لأجل أن جميعَ القرآن كان محفوظًا عند جميع الصحابة، فلو ذهبَ بعضٌ ممن عنده شيءٌ منه وماتَ لضاعَ ذلك القَدْرُ. "وفي رواية: لا تُسافِرُوا بالقرآن"، والمراد به: المصحف. "فإني لا آمَنُ أن ينالَه العدوُّ"، فيحقِّروه، أو يحرقوه، أو يلقوه في مكانٍ نَجِسٍ. * * * مِنَ الحِسَان: 1575 - عن أبي سَعيد الخُدْريِّ - رضي الله عنه - قال: جلَستُ في عِصابةٍ من ضُعفاءِ المُهاجرينَ، وإنَّ بعضَهُمْ لَيَسْتَتِرُ ببعضٍ مِنَ العُرْيِ، وقارِيءٌ يَقْرأُ علينَا، إذْ جاءَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقامَ عَلَيْنَا، فلمَّا قامَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَكَتَ القارِئُ، فسلَّمَ، ثمَّ قال: "مَا كُنْتُم تَصْنَعُونَ؟ "، قُلنا: كُنَّا نستَمِعُ إلى كِتابِ الله، فقال: "الحمدُ لله الذي جعلَ مِنْ أُمَّتي مَنْ أُمِرْتُ أَنْ أَصْبرَ نفسِي مَعَهُمْ"، قال: فجلسَ وَسْطَنَا ليَعْدِلَ بنفسِهِ فينا، ثمَّ قال بيدِهِ هكذا، فتحلَّقُوا، وبرَزَتْ وُجُوهُهُمْ لهُ، فقال:

"أبْشِرُوا يا مَعْشَرَ صعَالِيكِ المُهاجِرينَ بالنُّورِ التَّامُ يومَ القِيامَةِ، تَدْخُلُونَ الجَنَّةَ قبلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بنصْفِ يومٍ، وذلكَ خمسُمائةِ سنَةٍ". "من الحسان": " عن أبي سعيد الخُدري أنه قال: جلست في عصابة"؛ أي: جماعة. "من ضعفاء المهاجرين، وإن بعضَهم لَيستتر ببعض مِنَ العُري": هؤلاء هم أصحاب الصُّفَّة، مَن كان منهم ثوبُه أقلَّ مِن ثوبِ صاحبه كان يجلس خلفَ صاحبه يَستترُ به. "وقارئٌ يقرأ علينا، إذ جاء رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقام علينا"؛ يعني: كنا غافلين عن مجيئه، فنظرنا فإذا هو قائمٌ فوقَ رؤوسنا. "فلما قام رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَكَتَ القارئ، فسلَّم"؛ أي: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علينا. "ثم قال: ما كنتُم تصنعون؟ قلنا: كنا نستمع إلى كتاب الله، فقال: الحمد لله الذي جَعَلَ مِن أمتي مَن أُمرت أن أَصبرَ نفسي معهم"؛ أي: جعلَ زمرةً فقراءَ مقرَّبين عند الله، بحيث أمرني الله تعالى بالصبر معهم بقوله: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} [الكهف: 28] الآية. "قال"؛ أي: الراوي: "فجلس"؛ أي: النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - "وسطَنا ليَعدِلَ بنفسه فينا"؛ أي: ليُسوِّيَ نفسَه، ويجعلَها عديلةً لنا في المجلس؛ تواضعًا منه - صلى الله عليه وسلم - لربِّه، ورغبة فيما نحن فيه. "ثم قال بيده هكذا"؛ أي: أشارَ بها: أن اجلسوا حِلَقًا. "فتحلَّقوا"؛ أي: جلسوا حوالَيه كالحلقة. "وبرزتْ"؛ أي: ظَهرتْ "وجوهُهم له" بحيث يرى - صلى الله عليه وسلم - وجهَ كلِّ واحد منهم.

"فقال: أبشِرُوا"؛ أي: افرحوا. "يا مَعشرَ صعاليك المهاجرين! " جمع: صُعلوك، وهو الفقير. "بالنور التام يومَ القيامة"؛ وذلك لأن حظَّ الفقراء في القيامة أكثرُ من حظ الأغنياء؛ لأنهم وجدوا لذةً وراحةً في الدنيا. "تدخلون الجنةَ قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك خمس مئة سنة"، وإنما دخلوا قبل الأغنياء؛ لأن الأغنياءَ وقفوا في العَرصات للحساب، ويُسألون عن جهة تحصيل الأموال وكيفية صرفها. والمراد بـ (الفقراء): الصابرون الصالحون، وبـ (الأغنياء): الأغنياء الشاكرون المؤدُّون حقوقَ أموالهم. * * * 1576 - وقال: "زَينُوا القُرآنَ بأَصْوَاتِكُمْ". "وعن البراء بن عازب أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: زَينوا القرآنَ بأصواتكم": حملَه كثير على القلب، فمعناه: زينوا أصواتَكم بالقرآن؛ فإن الأصواتَ وأصحابَ الأصوات يتزيَّنون بالقرآن. * * * 1577 - وقال: "مَا مِنْ امرِئٍ يقرأُ القُرْآنَ، ثُمَّ يَنْساهُ إلاَّ لقيَ الله يومَ القيامَةِ أَجْذَمَ". "وعن سعد بن عبادة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما مِن امرئ يقرأ القرآنَ، ثم ينساه إلا لقيَ الله يومَ القيامة أَجْذَمَ"؛ أي: ليس له يدٌ. وقيل: أي: مُبتلًى بالجُذام، وقيل: أي: مقطوع الحُجة لا حُجةَ له

ولا عذرَ في نسيان القرآن؛ أي: ينتكس رأسُه بين يدي الله تعالى حياءَ وخجالةٌ من نسيان كلامِه الكريم. وقيل: معناه: لقيَ الله ويدُه خاليةٌ عن الخير. * * * 1578 - عن عبد الله بن عَمْرٍو: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَمْ يَفْقَهْ مَنْ قَرَأَ القُرآنَ في أقلَّ مِنْ ثَلاثٍ"، صحيح. "عن عبد الله بن عمرو (¬1): أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: لم يَفْقَهْ"؛ أي: لم يَفهَم. "مَن قرأ القرآنَ"؛ أي: ختمَه. "في أقلَّ من ثلاثٍ"؛ أي: ثلاثِ ليالٍ؛ لأنه إذ ذاك لم يتمكن من التدبُّر له والتفكُّر فيه بسبب العَجَلة والمَلالة. * * * 1579 - وعن عُقْبة بن عامِرٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجاهِرُ بالقُرآنِ كالجاهرِ بالصَّدقةِ، والمُسِرُّ بالقُرآنِ كالمُسِرُّ بالصَّدقةِ"، غريب. "وعن عقبة بن عامر، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الجاهِرُ بالقرآن كالجاهِرِ بالصدقة، والمُسِرُّ بالقرآن كالمُسِرِّ بالصدقة. غريب"؛ يعني: كما أن الجهرَ والسرَّ بالصدقة جائزٌ، فكذا في قراءة القرآن؛ والسّرُّ أَولى. نعم، لو قرأَ جهرًا ليُستمَعَ إليه، ويُتعلَّمَ منه، أو لينالَ المستمعُ الثوابَ، أو للذوق، أو لإظهار شعارِ الدِّين كان الجهرُ أَولى، ولعل المراد بالإسرار به: ¬

_ (¬1) في جميع النسح: "عمر".

التفكُّر والتدبُّر فيه؛ لئلا ينافيَ تزيينَ القرآنِ بالصوتِ والإفصاحَ. "غريب". * * * 1580 - عن صُهَيْب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما آمَنَ بالقُرْآنِ مَنِ اسْتَحَلَ مَحارِمَهُ"، ضعيف. "عن صهيب أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما آمَنَ بالقرآن"؛ أي: لم يؤمنْ بحكمه. "مَن استحلَّ محارمَه" جمع: مَحْرَم، بمعنى: الحرام، والضمير للقرآن. "ضعيف". * * * 1581 - عن يَعْلى بن مَمْلَك: أنَّه سألَ أُمَّ سلَمةَ عنْ قِراءَةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هي تَنْعَتُ قِراءَةً مُفَسَّرةً حرفًا حرفًا. "عن يَعلَى بن مَمْلَك: أنه سأل أمَّ سلمةَ عن قراءة النبي - عليه الصلاة والسلام -، فإذا هي تَنْعَتُ"؛ أي: تَصِفُ. "قراءةً مُفسَّرةً"؛ أي: مبيَّنةً. "حرفًا حرفًا"؛ أي: كان يقرأ على التأنِّي، بحيث يمكن عدُّ حروفِ ما يقرأ. * * * 1582 - ورُوي أنّها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقطِّعُ قِراءَتَهُ يقولُ:

فصل

{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ثمَّ يَقِفُ، ثمَّ يقولُ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ثمَّ يقِفُ، والأوَّل أصحُّ. "ويروى أنها قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقطِّع قراءتَه"، من: التقطيع؛ أي: يقرأ بالوقف على رؤوس الآيات لتبيينها. "يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، ثم يقف، ثم يقول: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، ثم يقف. والأولُ أصحُّ"؛ أي: الرواية الأولى عن أم سلمة أصحُّ من الثانية؛ لأن الثانيةَ ليست بسديدةٍ سندًا، ولا مَرْضيةٍ لهجةً؛ لأن فيها فصلًا بين الصفة والموصوف. * * * فصل (فصل) مِنَ الصِّحَاحِ: 1583 - قال عُمر بن الخطَّاب: سَمِعْتُ هِشامَ بن حَكِيمِ بن حزام يقرأُ سورةَ الفُرقانِ على غيرِ ما أَقرَؤُهَا، وكان رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَقْرَأَنِيها، فجِئْتُ بِهِ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: إنِّي سمعتُ هذا يقرأُ سُورَةَ الفُرقانِ على غيرِ ما أقرأْتَنِيها، فقالَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "اقْرَأْ"، فقرأَ القِراءَةَ التي سَمِعْتُهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هكذا أُنْزِلَتْ"، ثمَّ قالَ لي: "اقْرَأْ"، فقَرَأتُ، فقال: "هكذا أُنْزِلَتْ"، إنَّ هذا القُرآنَ أُنْزِلَ على سَبْعَةِ أَحْرُفٍ، فاقْرَؤُوا ما تيسَّرَ منه". "من الصحاح": " قال عمر بن الخطاب: سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورةَ الفرقان على غير ما أقرؤُها، وكان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَقرَأَنِيها"، فقلت لهشام: تعالَ

معي حتى نسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أن قراءتي صحيحةٌ أم قراءتُك؟ "فجئت به رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إني سمعتُ هذا يقرأ سورةَ الفرقان على غير ما أَقرأتَنِيها، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: اقرأْ، فقرأَ القراءةَ التي سمعتُه"؛ أي: هشامًا يقرؤها. "فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: هكذا أُنزلت، ثم قال لي: اقرأْ، فقرأتُ، فقال: هكذا أُنزلت؛ إن هذا القرآنَ أُنزِل على سبعةِ أَحْرُفٍ"؛ أي: على سبعةِ قراءاتٍ. {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}. * * * 1584 - وقال ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -: "سمعتُ رجُلًا قرأَ آيةٍ، وسمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْرأُ خِلافَها، فجئْتُ بهِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَخْبَرْتُهُ، فعَرَفْتُ في وَجْهِهِ الكَراهِيَةَ، فقال: "كِلاكُما مُحْسِنٌ، فلا تَخْتَلِفُوا، فإنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فهَلَكُوا". "وقال ابن مسعود: سمعت رجلًا قرأ آيةً، وسمعتُ النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - يقرأ خلافَها، فجئتُ به النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرتُه، فعرفت في وجهه الكراهيَةَ"، إنما كره - صلى الله عليه وسلم - اختلافَ ابن مسعود مع ذلك الرجل في القرآن، لأن قراءَته على وجوهٍ مختلفةٍ جائزةٌ؛ فإنكارُ بعضِ تلك الوجوهِ إنكارٌ للقرآن، وهو غير جائز. "فقال: كلاكما مُحِسن، فلا تختلفوا؛ فإن مَن كان قبلكم اختلفوا، فهلكوا". * * * 1585 - وقال أُبيُّ بن كعب - رضي الله عنه -: كُنْتُ في المسجِدِ، فدخلَ رَجُلٌ يُصَلِّي، فقرأَ قِراءَةً أنكرتُها عليهِ، ثمَّ دَخَلَّ آخرُ فقرأَ قراءةً سِوَى قِراءةِ صاحِبهِ،

فلمَّا قَضَيْنَا الصَّلاةَ دَخَلْنَا جَميعًا على رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إنَّ هذا قرأَ قِراءةً أنكرتُها عليهِ، ودخلَ آخرُ فقرأَ سِوَى قِراءةِ صاحِبهِ، فأَمَرَهُمَا النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقرآ، فحسَّنَ شَأْنَهُمَا، فَسُقِطَ في نَفْسِي مِنَ التَّكْذِيبِ ولا إذْ كُنْتُ في الجَاهِلِيَّةِ، فلمَّا رأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ غَشِيَنِي ضَرَبَ في صَدْرِي، فَفِضْتُ عَرَقًا، وكأنِّي أنْظُرُ إلى الله تعالى فَرَقًا، فقال لي: "يا أُبَيُّ! أُرْسِلَ إليَّ: أَنِ اقْرَأ القُرآنَ على حَرْفٍ، فردَدتُ إلَيْهِ: أَنْ هَوِّنْ على أُمَّتِي، فردَّ إليَّ الثانيَةَ: اقْرَأْهُ على حَرْفَيْنِ، فَرَدَدْتُ إليهِ: أنْ هَوِّنْ على أُمَّتِي، فَرَدَّ إليَّ الثالثةَ: اقْرَأْهُ على سبعةِ أَحْرُفٍ، ولَكَ بِكُلِّ رَدَّةٍ رَدَدْتُكَهَا مسأَلَةٌ تَسْأَلُنِيها، فقلتُ: اللهمَّ اغْفِرْ لأُمَّتي، اللهمَّ اغْفِرْ لأُمَّتي، وأَخَّرْتُ الثالثةَ ليَوْمٍ يَرْغَبُ إليَّ الخَلْقُ كُلُّهُمْ حتَّى إبراهيمُ عليهِ السَّلامُ". "وقال أُبي بن كعب: كنتُ في المسجد، فدخل رجل يصلي، فقرأ قراءةً أنكرتُها عليه، ثم دخل آخر فقرأ قراءةً سوى قراءة صاحبه، فلما قضَيْنا الصلاةَ دخلْنا جميعًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: إن هذا قرأَ قراءةً أَنكرتُها عليه، ودخل آخرُ فقرأ سوى قراءة صاحبه، فأَمرَهما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقرآ، فحسَّن شأنَهما، فسُقِطَ" - على بناء المجهول - "في نفسي من التكذيب"، معناه: ندمتُ من تكذيبي وإنكاري قراءةَ ذلك الرجل ندامةً ما ندمتُ مِثلَها لا في الإسلام "ولا إذ كنتُ في الجاهلية"؛ لأن الشكَّ الذي دَاخَلَه في أمر الدِّين وردَ على مورد اليقين، وتَبِعَتُه بعدَ المعرفةِ أتمُّ وأهمُّ. "فلما رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - " بالمعجزة "ما قد غشيَني"؛ أي: الذي اعتراني ودخلَ في خاطري من التكذيب والشك. "ضرب في صدري بيده": يحتمل أن يكون هذا للتأديب وإخراج الوسوسة الشيطانية عن قلبه بيده المباركة، وأن يكون للتلطُّف. "ففِضْتُ عَرَقًا"؛ أي: جرى عَرَقي من الخوف والاستحياء من حضرة الرسالة؛ لمَّا عَرَف [ما] في خاطري.

"وكأني أنظر إلى الله فَرَقًا"؛ أي: خوفًا وفزعًا. "فقال لي: يا أُبيُّ أُرسِلَ إلي": على بناء المجهول؛ أي: أَرسلَ الله جبرائيلَ إليَّ فأَمرَني "أَنِ اقرأ": على صيغة الأمر، و (أن) هذه: مصدرية، أو مفسرة للأمر المقدَّر. "القرآنَ على حرف"؛ أي: على قراءة واحدة. "فرددتُ إليه"؛ أي: جبرائيلَ إلى الله وسألتُه "أنْ هوَّنْ"؛ أي: سَهِّل "على أمتي"، (أن): مصدرية، أو مفسرة لِمَا في رددتُ من معنى القول، يقال: رَدَّ إليه: إذا رَجعَ. "فردَّ إليَّ الثانيةَ"؛ أي: فردَّ الله إليَّ الإرسالَة الثانيةَ. "اقرأ على حرفَين"؛ أي: قراءتَين. "فرددتُ أَنْ هَوِّنْ على أمتي، فردَّ الثالثةَ"؛ أي: الإرسالةَ الثالثةَ. "اقرأ على سبعة أحرف، ولك بكل رَدَّةٍ"؛ أي: بمقابلةِ كلِّ دفعةٍ رجعتَ إليَّ و "رَدَّدْتُكَها" بتشديد الدال؛ يعني: أرجعتُك إليها بحيث ما هوَّنتُ ذلك على أمتك من أول الأمر "مسألةٌ تَسأَلينها": هذه الجملة صفة مؤكدة لـ (مسألة)؛ يعني: مستجابة قطعًا. "فقلت: اللهم اغفِرْ لأمتي، اللهم اغفِرْ لأمتي، وأخَّرتُ الثالثةَ"؛ أي: الرسالةَ الثالثةَ "ليومٍ يَرْغَبُ إليّ" - بتشديد الياء - "الخَلْقُ كلُّهم، حتى إبراهيمُ عليه السلام" بالرفع: عطف على (الخلقُ)، وهي الشفاعة في ذلك اليوم. * * * 1586 - وقال ابن عبَّاسٍ: إنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَقْرَأَني جِبْريلُ على حَرْفٍ، فراجَعْتُهُ، فلمْ أَزَلْ أستَزِيدُهُ فيَزِيدُني حتَّى انتهَى إلى سبعةِ أَحْرُفٍ".

"وقال ابن عباس: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أَقرَأَني جبرائيلُ على حرفٍ، فراجعتُه، فلم أَزَلْ أَستزيدُه"؛ أي: أطلبُ منه أن يطلبَ من الله الزيادةَ في الأحرف للتوسعة والتخفيف. "فيزيدني، حتى انتهى إلى سبعة أحرف"، والأصح: أن المرادَ من سبعة أحرف: اللغات، وهو أن يقرأ كلُّ قومٍ من العرب بلغتهم وما جرت به عادتُهم من الإدغام، والإظهار، والإمالة، والتفخيم، والإشمام، والرَّوم، والهمزة، والتليين إلى غير ذلك من وجوه اللغات في الكلمة الواحدة. * * * مِنَ الحِسَان: 1587 - عن أُبيِّ بن كَعْبٍ قال: لَقِيَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جِبريلَ فقال: "يا جِبْرِيلُ!، إنِّي بُعِثْتُ إلى أُمَّةٍ أُمِّيينَ، منهُمُ العَجُوزُ والشَّيْخُ الكَبيرُ والغُلامُ والجارِيَةُ والرَّجُلُ الذي لَمْ يقرَأْ كِتابًا قَطُّ"، قال: "يا مُحَمَّدُ! إنَّ القُرآنَ أُنْزِلَ على سبعةِ أَحْرِفٍ". وفي روايةٍ: ليسَ منها إلاَّ شافٍ كافٍ. وفي روايةٍ عن أُبَيٍّ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ جِبريلَ ومِيكائيلَ أتيانِي فقعدَ جِبريلُ عنْ يَمِينِي، وميكائيلُ عنْ يَسَارِي، فقالَ جِبريلُ: اقْرَأْ القُرْآنَ على حَرْفٍ، وقال مِيكائيلُ: اسْتَزِدْهُ، فاسْتَزَدْتُهُ حتَّى بلغَ سَبْعةَ أحْرُفٍ، وكُلُّ حرفٍ شافٍ كافٍ". "من الحسان": " عن أُبي بن كعب أنه قال: لقيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جبرائيلَ، فقال: يا جبرائيلُ! إني بُعثت إلى أمة أميين"؛ أي: لا تَقدِر أمتي أن تقرأَ على قراءة

واحدة؛ لأن منهم مَن جرى لسانُه على الإمالة ويتعسَّر عليه التفخيم، ومنهم مَن جرى على الإدغام، ومنهم مَن جرى لسانُه على الإظهار، إلى غير ذلك. "منهم: العجوز، والشيخ الكبير، والغلام، والجارية، والرجل الذي لم يقرأ كتابًا قطُّ، قال: يا محمدُ! إن القرآنَ أُنزِلَ على سبعة أحرف، وفي رواية: ليس منها"؛ أي: ليس حرفٌ من تلك الأحرف "إلا شافٍ" يشفي صدورَ القارئين، ويشفي من العِلَل والأمراض، لا يفارقها في المعنى وكونِها من عند الله، كما قال الله تعالى: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]. "كافٍ"؛ أي: في الحُجة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لإعجازِ نَظمِه، وعجزِ الخلقِ عن الإتيان بمثله. "وفي رواية عن أُبي: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن جبرائيلَ وميكائيلَ أتياني، فقعد جبرائيل عن يميني، وميكائيل عن يساري، فقال جبرائيل: اقرأ القرآنَ على حرف، قال ميكائيل: استَزدْه"؛ أي: اطلبِ الزيادةَ يا محمد. "حتى بلغَ سبعةَ أحرفٍ، وكلُّ حرفٍ شافٍ كافٍ". * * * 1588 - عن عِمْران بن حُصَيْن: أنَّه مَرَّ على قاصٍّ يقرَأُ ثم يَسأَلُ، فاسْترجَعَ، ثمَّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ فَلْيَسْأَلِ الله بهِ، فإنَّهُ سَيَجِيءُ أقوامٌ يقرَؤونَ القُرآنَ يسأَلُونَ بِهِ النَّاسَ". "عن عمران بن حصين: أنه مرَّ على قاصٍّ" بتشديد الصاد؛ أي: على رجلٍ يقول القصصَ. "يقرأ"؛ أي: القرآنَ. ثم يَسألُ"؛ أي: الناسَ شيئًا بالقرآن.

"فاستَرجَعَ" عِمرانُ؛ أي: قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، وهذا الكلام يقال عند نزول المصيبة، وهذه مصيبةٌ؛ لأنه من علامات القيامة، ولأنه بدعةٌ، وظهورُ البدعةِ مصيبةٌ. "ثم قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: مَن قرأَ القرآنَ فَلْيَسألِ الله به"؛ أي: فَلْيطُلبْ من الله بالقرآن ما شاء من أمور الدنيا والآخرة، لا من الناس. "فإنه سيجيء أقوامٌ يقرؤون القرآنَ يسألون به الناسَ". * * *

9 - كتاب الدعوات

9 - كِتابُ الدَّعَوَاتِ

9 - كِتابُ الدَّعَوَاتِ (كتاب الدعوات) مِنَ الصِّحَاحِ: 1589 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ نبَيٍّ دَعْوَةٌ مُسْتَجَابَةٌ، فتعجَّلَ كُلُّ نبَيٍّ دَعْوَتَهُ، وإنِّي اختَبَأْتُ دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأمَّتي يومَ القيامَةِ، فهيَ نائلةٌ - إنْ شاءَ الله - مَنْ ماتَ مِنْ أُمَّتي لا يُشْرِكُ بالله شيئًا". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لكل نبيٍّ دعوةٌ مستجابةٌ، فتعجَّل كلُّ نبيٍّ دعوتَه"، العَجَلة: ابتغاء الشيء قبل أوانه، والمراد به: أن كلَّ نبيٍّ دعا على أمته بالهلاك، كما أن نوحًا دعا على أمته حتى غرقوا بالطوفان، وصالحًا دعا على أمته حتى هلكوا بالصيحة، وكذلك شعيب وموسى وغيرهم. "وإني اختَبأتُ دعوتي"، الاختباء: الستر والإخفاء؛ يعني: اتخذتها خبيئة وادَّخرتها. "شفاعةً لأمتي"؛ أي: لأَنْ أَصرفَها لهم من جهة الشفاعة إلى يوم القيامة. "فهي"؛ أي: الشفاعةُ. "نائلةٌ"؛ أي: واصلةٌ ومُدرِكةٌ.

"إن شاء الله تعالى مَن ماتِ": في محل النصب على أنه مفعول به لـ (نائلة)؛ أي: نائلةٌ كلَّ مَن ماتَ. "مِن أمتي لا يُشرِك بالله شيئًا": الجملة حال من فاعل (مات)، وإنما ذكر (إن شاء الله تعالى) مع حصولها له لا محالة؛ أدبًا وامتثالًا بقوله سبحانه: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]. * * * 1590 - وقال: "اللهمَّ إنِّي أتَّخِذُ عِنْدَكَ عَهْدًا لنْ تُخْلِفَنيهِ، فإنَّما أنا بشرٌ، فأيُّ المُؤمِنينَ آذَيْتُهُ شَتَمْتُهُ لَعَنْتُهُ جَلَدْتُهُ فاجْعَلْهَا لهُ صلاةً، وزكاةً، وقُرْبةً تُقَرِّبُهُ بها إليكَ يومَ القيامَةِ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إني أتَّخذ"؛ أي: أَلتمسُ وأَسألُ. "عندك عهدًا"؛ أي: أمانًا "لن تُخْلِفَنِيه"؛ أي: أرجو ألا تردَّني به؛ فإن دعاءَ الأنبياء لا يُرَدُّ. "فإنما أنا بَشَرٌ": إشارة إلى ظلومية البشر وجهوليته، وتمهيد لعذره فيما يبدو منه - عليه الصلاة والسلام - من شتمٍ أو ضربٍ أو نحوهما؛ لأن المؤدِّي إليه الغضبُ، الذي هو من لوازم البَشَر. "فأيُّ المؤمنين آذيتُه": بيان وتفصيل لِمَا كان يلتمسه - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (أتخذ عندك عهدًا). "شَتمتُه، لعنتُه، جلدتُه"؛ أي: ضربتُه، بيان لقوله: (آذيته)، ولذا لم يدخل العاطف. "فاجعلْها له": تلك الأذيَة لمن آذيتُه "صلاةً"؛ أي: رحمةً.

"وزكاةً"؛ أي: طُهرةً من الذنوب والمصائب. "وقُربةً تقرِّبُه بها": صفة لكل واحد من (الصلاة) وأخوَيه؛ أي: تقرُّبه بتلك الأذيَّة. "إليك يومَ القيامة"، روي: أنه - عليه الصلاة والسلام - خرج يومًا من حُجرته إلى الصلاة، فتعلَّقت به عائشة - رضي الله عنها - والتمست منه شيئًا، وألحَّت عليه في ذلك، وتجذب ذيله، فقال لها: "قطعَ الله يدَك"، فتركتْه وجلستْ في حُجرتها مُغضبَةً ضيقةً الصدرِ، فلما رجع إليها ورآها كذلك قال: "اللهم إني أتخذ عندك عهدًا. . . " إلخ، تطييبًا لقلبها، فالسُّنةُ لمن دعا على أحدٍ أن يدعوَ له؛ جبرًا لفعله. * * * 1591 - وقال: "إذا دَعَا أحدُكُمْ فلا يَقُلْ: اللهمَّ اغْفِرْ لي إنْ شِئْتَ، ارْحَمْنِي إنْ شِئْتَ، ارْزُقْنِي إنْ شِئْتَ، ولْيَعْزِمْ مسأَلَتَهُ، إنَّهُ يفعلُ ما يشاءُ، لا مُكْرِهَ لَهُ". وفي روايةٍ: "ولكن لِيَعْزِمْ، ولْيُعَظِّمْ الرَّغْبَةَ، فإنَّ الله لا يَتَعاظمُهُ شيءٌ أَعْطاهُ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا أحدُكم فلا يقل: اللهم اغفِرْ لي إن شئتَ، ارحمْني إن شئتَ، ارزقْني إن شئتَ"؛ لأن هذا شكٌّ في قَبول الدعاء، وهذا لا يجوز في حق الله تعالى؛ لأنه كريمٌ وقديرٌ. "وَلْيَعزِمْ مسألتَه" أي: لِيَقطعْ وَلْيَجزِمْ فيها من غير شكٍّ وتردُّدٍ بالإجابة. "أنه": بفتح الهمزة في الرواية المعتبرة: مفعولًا له للعزم؛ أي: لأنه "يفعل ما يشاء"، أو مفعولًا به للمسألة؛ أي: ليعزم مسألتَهُ فعلَ ما يشاء.

"لا مُكْرِهَ له"؛ أي: لا يَقدِرُ أحدٌ أنْ يُكرِهه على فعلِ أمرٍ وتركِه، بل يَفعَل ما يشاء ويَحكُم ما يريد. "وفي رواية: ولكنْ لِيَعزِمْ وَلْيُعظم الرغبةَ؛ فإن الله تعالى لا يتعاظَمُه شيءٌ أعطاه"؛ أي: لا يَعظُمُ ولا يَكبُرُ عليه إعطاءُ شيءٍ، بل جميعُ الموجودات والمعدودات في أمره يسيرٌ. * * * 1592 - وقال: "يُسْتَجابُ للعبدِ ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ أو قَطِيعَةِ رَحِمٍ، ما لمْ يَسْتَعْجِلْ"، قيلَ: يا رسُولَ الله، ما الاسْتِعْجَالُ؟، قال: "يقولُ: قَدْ دَعَوْتُ، وقدْ دَعَوْتُ، فلمْ أَرَ يُسْتَجَابُ لي، فيَسْتَحْسِرُ عندَ ذَلِكَ، ويَدَعُ الدُّعَاءَ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُستجاب للعبدِ ما لم يَدْعُ بإثمٍ"، مثل أن يقول: اللهم انصرْني على قتل فلان، وهو مُسلِم، أو: اللهم ارزقْني الخمرَ، ونحو ذلك. "أو قطيعةَ رَحِم"، مثل أن يقول: اللهم باعِدْ بيني وبين أبي أو أمي أو أخي وغير ذلك؛ فإن مثلَ هذا الدعاء لا يُقبَل. "ما لم يَستعجِلْ"؛ أي: يُقبَل دعاؤه بشرط ألا يَستعجلَ. "قيل: يا رسولَ الله! ما الاستعجالُ؟ قال: يقول الداعي: قد دعوتُ، وقد دعوتُ"؛ أي: دعوتُ مرة ومرتين وأكثر. "فلم أَرَ يُستجاب لي"؛ أي: لم أَرَ قَبولَ دعائي. "فيَستَحْسِر"؛ أي: ينقطعُ ويَمَلُّ "عند ذلك" من الدعاء. "ويَدَعُ الدعاءَ"؛ أي: يتركُه، فلا ينبغي للمؤمنين أن يملَّ من الدعاء؛ لأنه عبادةٌ.

وتأخير الإجابة إما لأنه لم يأتِ وقتُه؛ لأن لكلَّ شيءٍ وقتًا مقدَّرًا في الأزل، أو لأنه لم يُقدَّر في الأزل قَبولُ دعائه، فيُعطَى في الآخرة من الثواب عوضَه، أو يؤخِّر دعاءَه ليلحَّ ولِيبالغَ في الدعاء؛ فإنَّ الله يحبُّ المُلِحِّين في الدعاء. * * * 1593 - وقال: "دَعوةُ المَرءِ المُسلمِ لأخِيهِ بظهْرِ الغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ، عندَ رَأْسِهِ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ، كُلَّمَا دَعَا لأخِيهِ بخَيْرٍ قالَ المَلَكُ المُوَكَّلُ بهَ: آمينَ، ولكَ بمِثْلهِ". "عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوةُ المرءِ المسلِمِ لأخيه بظَهر الغيب"، (الظَّهر) مقحم، والمراد بالغيب: غَيبة المَدعوِّ له. "مستجابةٌ"؛ لخُلوصِ دعائِه عن الرِّياء. "عند رأسه مَلَك موكَّل، كلما دعا لأخيه بخير قال المَلَك الموكَّل به: آمين، ولك بِمثْلٍ": بكسر الميم على الأشهر، وتنوينُه عوضٌ عن المضاف إليه؛ يعني: بِمثْلِ ما دعوتَه. وهذا في الحقيقة دعاءٌ مِن المَلَك بِمثْلِ ما دعاه لأخيه، قيل: كان السَّلَفُ إذا أراد أن يدعوَ لنفسه يدعو لأخيه المسلم بتلك الدعوة؛ ليدعوَ له المَلَكُ بِمثْلِها، فيكون أعونَ للاستجابة. * * * 1594 - وقال: "اتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُومِ، فَإِنَّه لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الله حِجابٌ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اتَّقِ"؛ أي: احذَرْ "دعوةَ المظلوم"؛ يعني: لا تظلمْ أحدًا حتى لا يدعوَ عليك.

"فإنه ليس بينها"؛ أي: بينَ دعوتِه "وبينَ الله حجابٌ" إذا دعا على ظالمه يَقبَل الله دعاءَه. * * * 1595 - وقال: "لا تَدْعُوا على أنفُسِكُمْ، ولا تَدعُوا على أولادِكُمْ، ولا تَدعُوا على أموالِكُمْ، لا تُوافِقُوا مِنَ الله ساعةً يُسألُ فيها عَطاءٌ فَيُسْتَجابُ لكُمْ". "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تدعوا على أنفسكم"؛ أي: دعاءَ سوءٍ. "ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا"؛ أي: كيلا توافقوا "من الله ساعةً يُسأل فيها عطاءً": الجملة صفة (ساعة)، و (العطاء): ما يُعطَى من خيرٍ أو شرٍّ، وأكثر استعماله في الخير؛ يعني: ساعةَ الإجابةِ. "فيستجيب (¬1) لكم"، فتندموا على ما دعوتُم، ولا ينفعكم حينئذٍ الندمُ. * * * مِنَ الحِسَان: 1596 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدُّعاء هو العِبادةُ"، ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}. ¬

_ (¬1) جاء على هامش "غ": "السُّنَّةُ أن يترصَّدَ لدعائه الأوقاتَ الشريفةَ، سَحَرًا: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}، يوم جمعة، يوم عرفة. إن يعقوب - عليه الصلاة السلام - لما قام وقتَ السَّحَر دعا وأولاده يؤمِّنون خلفَه، فأوحى الله إليه: إني قد غفرت لهم، وجعلتهم أنبياء. قال أبو هريرة، يرفعه: "إن أبواب السماء تُفتح عند زحف الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصلوات المكتوبة".

"من الحسان": " عن النعمان أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدعاءُ هو العبادةُ"؛ لأن المقصودَ الأعظمَ من العبادة: الإقبالُ عليه تعالى، والإعراضُ عما سواه، بحيث لا يُرجَى ولا يُخاف إلا إياه، والدعاءُ لا ينفك عن هذه المعاني، فجعلَه - عليه الصلاة والسلام - نفسَ العبادة. "ثم قرأ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ". * * * 1597 - ورُويَ: "الدُّعاءُ مُخَّ العِبادةِ". "ويروى: الدعاءُ مُخُّ العبادِة"، مُخُّ الشيءِ: خالصُه. * * * 1598 - وقال: "ليسَ شيءٌ أكرمَ على الله مِنَ الدُّعاءِ"، غريبٌ. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس شيءٌ أكرمَ على الله من الدعاء"؛ لأن فيه إظهارَ العجزِ، والاعترافَ بالفقرِ، والتذلُّلَ. "غريب". * * * 1601 - وقال: "ما مِنْ أحَدٍ يَدْعُو بِدُعاءٍ إلاَّ آتَاهُ الله ما سأَلَ، أوْ كَفَّ عنه مِنَ السُّوءِ مِثْلَهُ، ما لَمْ يَدْعُ بإثْمٍ، أوْ قَطِيعَةِ رَحِم". "وعن عبادة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما مِن أحدٍ يدعو بدعاء إلا آتاه الله تعالى ما سَألَ" إن جرى في الأزل تقديرُ إعطائِه ما سَألَ.

"أو كفَّ عنه من السوء مِثلَه"؛ أي: يدفعُ عنه البلاءَ عوضَ ما مُنِعَ مما سَأَل إن لم يجرِ التقديرُ. "ما لم يَدْعُ بإثمٍ أو قطيعةِ رَحِمٍ". * * * 1599 - وقال: "لا يَرُدُّ القَضاءَ إلاَّ الدُّعاءُ، ولا يزيدُ في العُمْرِ إلاَّ البرُّ". "وعن سلمان أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يَرُدُّ القضاءَ إلا الدعاءُ": قيل: المراد بـ (القضاء): ما يَخاف العبدُ من نزول ما يكرهه مجازًا، فإذا وُفِّقَ الدعاء رُفِعَ عنه ذلك. وقيل: المراد: هو القضاء المُعلَّق بالدعاء، وهذا الحديث كحديث الرخصة في التداوي، مع أنه لا ينفع دواءٌ داءً إلا ما قُدِّرَ أزلًا نفعُه فيه فكذلك كلُّ قضاءٍ قُدِّرَ دفعُه بالدعاء اندفعَ، وما لا فلا. "ولا يزيد في العمر إلا البِرُّ"، معناه: إذا برَّ لا يضيع عمره، فكأنه زاد، وقيل: يُزاد حقيقةً، قال تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11]، وقال تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]. * * * 1600 - وقال: "إنَّ الدُّعاءَ ينفعُ مما نزلَ، ومما لَمْ ينزِلْ، فعلَيْكُمْ - عِبادَ الله - بالدُّعاءِ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الدعاءَ ينفعُ مما نَزلَ، ومما لم ينزل"؛ أي: يسهِّل الله بسبب الدعاء تحمُّلَ ما نزل به من البلاء، فيصبِّره عليه، ويُرضيه به؛ حتى يصيرَ القضاءُ النازلُ به كأنْ لم ينزل؛ إما بالتخفيف، أو الصرف.

"فعليكم - عبادَ الله - بالدعاء"؛ أي: الزَمُوا الدعاءَ. "غريب". * * * 1602 - وقال: "سَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ، فإنَّ الله يُحِبُّ أنْ يُسأَلَ، وأفضلُ العِبادَةِ انتِظارُ الفَرَجِ"، غريب. "وعن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سَلُوا الله مِن فضلِه"؛ أي: اطلبُوا حوائجَكم من الله الكريم. "فإن الله يحبُّ أنْ يُسألَ"؛ أي: يُطلَب منه الحاجات. "وأفضلُ العبادةِ انتظارُ الفَرَج"، بترك الشِّكاية من البلاء النازل، والصبر عليه حتى يُفرَّجَ عنه؛ لأن الصبرَ في البلاء انقيادٌ لقضاء الله تعالى، وهو أفضلُ العبادة. "غريب". * * * 1603 - وقال: "مَنْ لَمْ يَسْأَلِ الله يَغْضَبْ عليهِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن لم يَسألِ الله يَغْضَبْ عليه"؛ لأن تركَ السؤالِ تكبُّرٌ واستغناءٌ، فهذا لا يجوز للعبد. والمراد بـ (غضب الله): إرادةُ إيصالِ العقوبةِ إلى مَن غَضبَ عليه. * * * 1604 - وقال: "مَنْ فُتِحَ لَهُ مِنْكُمْ بابُ الدُّعاءِ فُتِحَتْ له أبوابُ الرَّحمةِ، وما سُئِلَ الله شيئًا - يعني أَحَبَّ إليهِ - مِنْ أنْ يُسألَ العَافِيةَ".

"وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن فُتِحَ له منكم بابُ الدعاء فُتحتْ له أبوابُ الرحمة، وما سُئلَ الله شيئًا أحبَّ إليه مِن أنْ يُسألَ العافيةَ"، والمراد هنا: وجدانُ الشخصِ كفافًا مِن قُوتٍ ولباسٍ وصحةِ بدنٍ، واشتغالُه بأمر دِينه، وتركُه ما لا ضرورةَ ولا خيرَ له فيه. * * * 1605 - وقال: "مَنْ سَرَّهُ أن يَسْتَجِيبَ الله لهُ عِندَ الشَّدائِدِ فلْيُكْثِرِ الدُّعاءَ في الرَّخاءِ"، غريب. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: مَن سرَّه أن يَستجيبَ الله له"؛ أي: أراد أن يَقبَلَ الله دعاءَه. "عند الشدائد" جمع: شديدة، وهي الحادثة والمَشقَّة. "فَلْيُكثِرِ الدعاءَ في الرَّخاء" بفتح الراء: ضد الشِّدَّة. "غريب". * * * 1606 - وقال: "ادْعُوا الله وأنتُمْ مُوقِنُونَ بالإجَابَةِ، واعْلَمُوا أن الله لا يَسْتَجِيبُ دُعاءً مِنْ قَلْبٍ غافِلٍ لاهٍ"، غريب. "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ادعوا الله وأنتم مُوقِنون بالإجابة"؛ أي: كونوا أوانَ الدعاءِ على حالةٍ تستحقُّون معها الإجابةَ، وذلك بإتيان المعروف واجتناب المُنكَر، وغير ذلك من مراعاة أركان الدعاء، لتكونَ الإجابةُ أغلبَ على القلب من الردِّ، ويتأيَّد بقوله: "واعلموا أن الله لا يستجيبُ دعاءً مِن قلبٍ غافلٍ"؛ أي: مُعرِضٍ عن الله، أو عما يَسألُه.

"لاهٍ"، من: لَهِيَ - بالكسر - يَلْهَى لَهْيًا؛ أي: تاركٍ، أو من: اللهو، اللعب؛ أي: لاعبٍ عما سأله، وقيل: معنى قوله: (وأنتم موقنون بالإجابة): كونوا معتقدين بحصول الإجابة؛ لأن الداعيَ ما لم يكن رجاؤُه واثقًا لم يكن دعاؤُه صادقًا. "غريب". * * * 1607 - وقال: "إذا سأَلْتُمُ الله فاسْأَلُوهُ بِبُطونِ أَكُفِّكُمْ، ولا تسأَلُوهُ بظُهُورِها". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سألتُم الله فاسألوا ببطون أكفِّكم" جمع: الكَفِّ؛ لأن الداعيَ ببطنِ الكَفِّ منتظر لنزول الرحمة والإجابة، فَلْيَبسطْ كفَّيه متواضعًا متخشِّعًا، ويمدَّهما إليه مَدَّ المحتاج إلى المحتاج إليه. "ولا تسألوه بظهورها"؛ لأن ظَهَر الكَفِّ إشارةٌ إلى الدَّفع، لا إلى الطلب. * * * 1608 - ويُروى: "فإذا فَرَغْتُمْ فامْسَحُوا بها وجُوهَكُمْ". "ويروى: فإذا فرغتُم"؛ أي: من الدعاء. "فامسحوا بها"؛ أي: بكفِّكم "وجوهَكم"؛ فإنها تنزل عليها آثارُ الرحمة، فتصل بركتُها إلى الوجوه. * * *

1609 - وقال: "إنَّ ربَّكُمْ حَييٌّ كريمٌ، يَسْتحيي من عبْده إذا رفعَ يدَيهِ إليه أنْ يَرُدَّهُما صِفْرًا". "وعن سلمان أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن ربَّكم حَييٌّ": يُفسَّر في حق الله بما هو الغرض في النهاية، وغرضُ الحييِّ من الشيء: تركهُ والإباءُ عنه. "كريم، يستحيي من عبده إذا رفعَ يدَيه إليه أن يردَّهما صِفْرًا. أي: خاليًا" من الرحمة. * * * 1610 - عن عُمر - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفعَ يَدَيْهِ في الدُّعاءِ لَمْ يَحُطَّهُما حتَّى يمسحَ بهما وجْهَهُ. "وعن عمر (¬1) - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا رفعَ يديه في الدعاء لم يَحُطَّهما حتى يمسحَ بهما وجهَه"، وذلك على سبيل التفاؤل فكأن كفيه قد ملئتا من البركات السماوية والأنوار الإلهية. * * * 1611 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْتَحِبُّ الجَوامِعَ مِنَ الدُّعاءِ، ويَدَع ما سِوَى ذلك. "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَستحبُّ الجَوامعَ من الدعاء"، قيل: هي التي مَجْمَعُ الأغراض الصالحة والمقاصد الصحيحة، أو مَجْمَعُ الثناء عليه تعالى وآداب المسألة. وقيل: هي التي تشتمل جميعَ الخيرات، مثل قوله: اللهم آتِنا في الدنيا ¬

_ (¬1) في جميع النسخ: "عن ابن عمر".

حسنةً، وفي الآخر حسنةً. . . " إلى آخره. "ويَدَعُ"؛ أي: يَتركُ "ما سوى ذلك". * * * 1612 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أسْرَعَ الدُّعاءِ إجابةً دعوةُ غَائبٍ لغَائِبٍ". "وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أسرعَ الدعاءِ إجابةً دعوةُ غائبٍ لغائبٍ"؛ لخلوصِه لله، وصدقِ النيةِ فيه، وبُعدِه عن شائبة الرِّياء والمُداهَنَة. * * * 1613 - وقال عُمر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه -: اسْتَأْذَنْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في العُمْرَةِ، فأذِنَ لي وقال: "أشْرِكْنَا - يا أُخَيَّ - في دُعائِكَ، ولا تَنْسَنَا"، فقالَ كلمةً ما يَسُرُّني أن لي بها الدُّنيا. "وقال عمر بن الخطاب: استَأذنتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في العمرة، فأَذِنَ لي وقال: أَشرِكْنا يا أخي في دعائك"، ويروى: (أُخيَّ) بالتصغير؛ تلطُّفًا وتعطُّفًا. "ولا تَنْسَنا"، فيه: إظهارُ الخشوع والفاقة إلى الله في مقام العبودية بالتماس الدعاء ممن عُرف السبيلُ بهدايته. وفيه: حثٌّ الأُمة على الرغبة في دعاء الصالحين والتبرُّك بهم. وفيه: تعليمُهم بألا يخصُّوا أنفسَهم بالدعاء، وينسَوا إخوانَهم في مظانِّ الرجاء. "فقال"؛ أي: الرسولُ - عليه الصلاة والسلام - "كلمةً": وهي (أَشرِكْنا)،

أو (يا أخي)، أو (لا تنسنا)، ولم يصرِّح بها؛ توقيًا عن تفاخُرٍ ونحوه من آفات النفوس. "ما يسرُّني أن لي بها الدنيا"، (ما): للنفي، والباء في (بها): للمقابلة؛ أي: لو كانتِ الدنيا لي بدلَ تلك الكلمة لَمَا سرَّني؛ فإن تلك الكلمةَ خيرٌ من الدنيا وما فيها. * * * 1614 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة لا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الصَّائِمُ حينَ يُفْطِرُ، والإمامُ العادِلُ، ودعوةُ المَظْلومُ يَرفَعُهَا الله فوقَ الغَمامِ وَيُفْتَحُ لها أبوابُ السَّماءِ، ويقولُ الرَّبُّ: وعِزَّتي لأَنْصُرَنَّكَ ولو بعدَ حينٍ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتُهم"، سرعةُ قَبول الدعاء إنما يكون لصلاح الداعي، أو لتضرُّعه في الدعاء عنده تعالى. "الصائم حين يُفطِر"، إنما يُقبَل دعاؤُه؛ لأنه فَرَغَ من عبادةٍ محبوبةٍ إلى الله تعالى مَرْضيَّةٍ، كما قال - صلى الله عليه وسلم - حكايةً عن الله تعالى: "الصومُ لي". "والإمام العادل"؛ لأن عدَله أفضلُ العبادات، إذ عدلُ ساعةِ يَعدِلُ عبادةَ ستين سنةً. "ودعوة المظلوم"؛ لأنه لمَّا لحقَه نارُ الظلم واحترقتْ أحشاؤُه خرج منه الدعاءُ عن التضرُّع، وصار مضطرًا إلى قَبول الدعاء، فيُقبَل دعاؤُه كما قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل: 62]. "يرفعُها الله": حال من (دعوة المظلوم)؛ أي: يرفعُ الله دعوةَ المظلوم. "فوقَ الغَمَام": قيل: هو السَّحَاب الأبيض فوق السماء السابعة.

"وَيفتَحُ لها"؛ أي: لدعوته "أبوابَ السماء"، ورفعها وفتح أبواب السماء كنايتان عن سرعة قَبول دعوته. "ويقول الربُّ جلَّ ذِكُره: وعِزَّتي! لأنصُرَنَّكَ" أيُّها المظلومُ "ولو بعدَ حينٍ"، والحِين: يُستعمل لمطلقَ الوقت، ولستة أشهر، ولأربعين سنةً، والله أعلم بالمراد. يعني: لا أُضيع حقَّك ولا أردُّ دعاءَك ولو مضى زمانٌ طويلٌ؛ لأني حليمٌ لا أعجلُ عقوبةَ العباد، فلعلهم يرجعون عن الظلم والذنوب إلى التوبة وإرضاء الخصوم. * * * 1615 - وقال: "ثلاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَاباتٍ لا شَكَّ فيهنَّ: دعوةُ الوالِدِ، ودعوةُ المُسافِرِ، ودعوةُ المَظْلُومِ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثُ دعواتٍ مستجاباتٍ لا شكَّ فيهن"، إنما أكَّدها به لالتجاء هؤلاء الثلاثة إلى الله بصدق الطلب، ورقة القلب، وانكسار البال. "دعوة الوالد لولده"؛ لأنه لا يدعو له إلا على نعت الشفقة والرقة التامة، وكذا دعوته عليه؛ لأنه لا يدعو عليه إلا على نعت المبالغة من إساءته إليه، ويُقاس عليه دعوةُ الوالدة. "ودعوة المسافر": يحتمل أن تكون دعوتُه بالخير لمن أَحسنَ إليه، وبالشر لمن آذَاه وأساءَ إليه؛ لأن دعاءَه لا يخلو عن الرقة. "ودعوة المظلوم"؛ لأنه مضطرٌ لِمَا بيَّنَّا. * * *

2 - باب ذكر الله عز وجل والتقرب إليه

2 - باب ذِكْرِ الله عز وجل والتَّقرُبِ إليهِ (باب ذكر الله تعالى والتقرب إليه) مِنَ الصِّحَاحِ: 1616 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقعدُ قومٌ يَذْكُرونَ الله إلا حفَّتهم المَلائكةُ، وغَشِيَتهم الرَّحمَةُ، ونزلَتْ عليَهم السَّكينةُ، وذكرَهم الله فيمن عندَهِ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة وأبي سعيد أنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقعد قومٌ يذكرون الله إلا حفَّتْهم الملائكةُ"؛ أي: أحاطت بهم. "وغشيتْهم الرحمةُ، ونزلتْ عليهم السَّكينةُ، وذكرَهم الله فيمَن عنده": مرَّ شرحه في (كتاب العلم). 1617 - وقال: "سَبقَ المُفَرِّدونَ"، قالوا: وَمَا المُفَرِّدونَ يا رسولَ الله؟، قال: "الذَّاكِرُونَ الله كثيرًا والذَّاكِرَاتُ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سَبَقَ المُفرِّدون" بتشديد الراء وكسرها، من (فرَّد): إذا اعتَزلَ وتخلَّى للعبادة، أو بالفتح والتخفيف من: أَفرَدَ برأيه؛ أي: تفرَّد به؛ يعني: جعلَ نفسهَ فردًا ممتازًا بذِكر الله، أو جعلَ ربَّه فردًا بالذِّكر وتركَ ذِكرَ ما سواه. "قالوا: وما المُفرِّدون يا رسولَ الله؟ ": وإنما لم يقولوا: مَن هم؟

لقصدهم منه - عليه الصلاة والسلام - بيانَ المراد من الإفراد والتفريد، لا بيانَ مَن يقوم به الفعل، ولأنهم استخبروا عن معرفة هذا اللفظ عند الإطلاق، فكأنهم قالوا: وما صفةُ المفرِّدين؟ "قال: الداكرون الله كثيرًا والذاكراتُ"، والذِّكرُ الكثيرُ: هو ألا ينسى الربَّ تعالى على كل حالٍ، لا الذِّكرُ بكثرة اللغات. والمراد: المستخلصون لعبادة الله، المشتغلون بذِكرِه، المعتزلون عن الناس؛ فهَجَرُوا الخِلاَّنَ، وتركوا الأوطانَ والأسبابَ، ورفضوا الشهواتِ واللَّذاتِ؛ إذ لا يصحُّ للعبد مقامُ التفريد إِلا بهذه الأشياء والانقطاع إلى الله. 1618 - وقال: "مَثَلُ الذي يَذكُرُ رَبَّه والذي لا يذكرُ مثَلُ الحيِّ والميتِ". "وعن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَثَلُ الذي يَذكُرُ ربَّه والذي لا يَذكُرُ مَثَلُ الحيِّ والميتِ": شبَّه الذاكرَ بالحَيِّ الذي تزيَّنَ ظاهرُه بنور الحياة وبالتصرف فيما يريد، وباطنُه منوَّر بنور العلم والفهم، كذلك الذاكِرُ مزيَّنٌ ظاهُره بنور العلم والطاعة، وباطنُه بنور العلم والمعرفة، وغيرُ الذاكِرِ كالميت؛ لأنه عاطلٌ ظاهرُه، وباطلٌ باطنُه. 1619 - وقال: "يقولُ الله تعالى: أنا عندَ ظَنَّ عَبْدِي بي، وأنا معَه إذا ذَكَرَني، فإنْ ذَكَرَني في نْفسِهِ ذَكَرْتُهُ في نْفسِي، وإنْ ذَكَرَنِي في ملإٍ ذَكَرْتُهُ في ملإٍ خيرٍ منهم".

"وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله تعالى: أنا عند ظنِّ عبدي بي"، معناه: أُعامِلُ العبدَ على حسن ظنِّه بي، وأفعلُ به ما يتوقَّعه مني. والمراد: الحثُّ على حسن الظن بالله، وتغليب الرجاء على الخوف، والظنُّ هنا بمعنى: اليقين والاعتقاد، لا بمعنى: الشك. "وأنا معه"؛ أي: مع عبدي "إذا ذَكَرَني"، أراد به: المَعيَّة بالمعونة والرحمة والتوفيق، وقيل: بالعلم؛ أي: أنا عالِمٌ به، لا يَخْفَى عليَّ شيءٌ من قوله. "فإنْ ذَكَرَني في نفسه"؛ أي: سرًّا وخفيةً؛ إخلاصًا وتجنُّبًا عن الرِّياء "ذكرتُه في نفسي"؛ أي: أُسرُّ بثوابه، لا أَكِلُهُ إلى أحدٍ من خلقي، وذِكرُه تعالى العبد: هو حسنُ القَبول منه، والمجازاةُ له بالحُسنى. "منْ ذَكَرَني في ملأ"؛ أي: بين جماعةٍ من المؤمنين "ذكرتُه في ملأ خيرٍ منهم" يريد بهم: الملائكةَ المقرَّبين وأرواحَ المرسلين، واختُلف في خيرية الملائكة من البشر. والمختار: أن خواصَّ البشرِ كالأنبياء خيرٌ من خواصِّ الملائكة، وأما عوامُّ البَشَر فليسوا بخيرٍ من الملائكة أصلًا، لا من خواصِّهم ولا من عوامِّهم. فمعنى قوله: (في ملأ خير منهم)؛ أي: خيرٍ منهم حالًا؛ فإن حالَ الملائكة خيرٌ من حال الإنس في الجدِّ والطاعة، قال تعالى فيهم: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]، وأحوالُ المؤمنين مختلفةٌ بين طاعةٍ ومعصيةٍ، وجدٍّ وفتورٍ.

1620 - وقال: "مَنْ جاءَ بالحسَنةِ فلهُ عَشْرُ أمْثالِهَا وأَزِيدُ، ومَنْ جاءَ بالسَّيئةِ فجَزاءُ سيئةٍ مثلُها أو أَغفِرُ، ومَنْ تَقَرَّبَ شِبرًا منِّي تَقَرَّبْتُ منه ذِرَاعًا، ومَنْ تَقَرَّب منِّي ذِراعًا تقرَّبْتُ منهُ باعًا، ومَنْ أَتاني يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، ومَنْ لَقِيَني بقُرابِ الأَرضِ خَطيئةً لا يُشْرِكُ بي شيئًا لَقِيتُهُ بمِثلِها مغفرةً". "وعن أبي الدرداء أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها"؛ أي: عشرُ حسنات أمثالها، حُذف المميزُ الموصوفُ وأُقيمت الصفةُ مقامَه. "وأزيدُ"؛ أي: من عشر أمثالها إلى سبع مئة. "ومَن جاء بالسيئة فجزاءُ سيئةٍ مِثلُها أو أغفرُ"؛ أي: تلك السيئةَ؛ فإني غفورٌ رحيمٌ. "ومَن تقرَّب"؛ أي: طلبَ بالطاعةِ قُربةً "مني شبرًا"؛ أي: مقدارًا قليلاً "تقرَّبت منه ذراعًا"؛ أي: أوصلت رحمتي إليه مقدارًا أزيدَ منه. "ومَن تقرَّب مني ذراعًا تقرَّبت منه باعًا": وهو قَدْر مد اليدَين وما بينهما من البدن، وعلى هذا: كلَّما زادَ العبدُ قربةً زاد من الله تعالى رحمةً فذِكرُ الذراعِ والباعِ للتمثيل والتصوير لأفهامهم لمجازاة العبد فيما يتقرَّب به إلى ربِّه بمضاعفة لطفه وإحسانه. "ومَن أتاني يمشي أتيتُه هرولةً"؛ أي: بين المشي والعَدْوِ؛ يعني: مَن تقرب إليَّ بسهولةٍ وصل إليه رحمتي بسرعة. "ومَن لقيَني"؛ أي: جاءَني. "بقِرَابِ الأرض، بكسر القاف؛ أي: بما يقارب مِلأَها. "خطيئةً لا يُشرِك بي شيئًا": حال من فاعل (لقيني) العائد إلى (مَن). "لقيتُه بمثلها مغفرةً": هذا بيان لكثرة مغفرته؛ كيلا ييئس المذنبون عنها

لكثرة الخطيئة، ولا يجوز لأحدٍ أن يغترَّ بهذا ويُكثِرَ الخطيئةَ؛ فإنه يَغفِرُ لمن يشاء ويعذِّب مَن يشاء، فلا يعلم أنه مِن أيهم. 1621 - وقال: "إنَّ الله تعالى قال: مَنْ عَادَى لِيْ وَلِيًّا فقد آذَنتُهُ بالحَرْبِ، وما تَقَرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ ممَّا افتَرَضْتُ عليهِ، وما يَزالُ عبدي يتقرَّبُ إليَّ بالنَّوافِلِ حتى أُحِبَّهُ، فإذا أَحببْتُهُ، كنتُ سَمْعَهُ الذي يَسمعُ به، وبصَرَهُ الذي يُبصِرُ به، ويدَه التي يَبطِشُ بها، ورجلَه التي يمشي بها، وإنْ سألني لأعطِيَنَّهُ، ولئنْ استَعاذَ بي لأعيذَنَّهُ، وما تردَّدتُ في شيءٍ أنا فاعَلُهُ تَرَدَّدِي عن نفْسِ المُؤمنِ، يَكْرَهُ المَوتَ، وأنا أكْرَهُ مَسَاءَتَه، ولا بُدَّ له مِنه". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله تعالى قال: مَن عادَى"؛ أي: اَذَى. "لي وليًّا من أوليائي": فعيل بمعنى: مفعول، وهو مَن يتولَّى الله أمرَه ولا يَكِلُه إلى نفسه لحظةً، قال تعالى: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196]، أو لمبالغة فاعل، وهو المتولِّي عبادةَ الله وطاعتَه على التوالي بلا تخلُّلِ عصيانٍ. "فقد آذنتُه بالحرب": الضمير للوليِّ، وضمير الموصول محذوف؛ أي: أَعلمتُ الوليِّ بالمحاربة مع مَن عاداه، ويجوز أن يعودَ إلى الموصول، فمعناه: أعلمتُ مُعادِي الوليِّ بمحاربتي معه لأجل وليِّي. "وما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أحبَّ إليَّ مما"؛ أي: مِن أداء ما "افترضتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه"، فيه بيان: أن أحبَّ أنواعِ العباداتِ المتقرَّبِ بها إليه تعالى هو المفروضُ عليهم، وأن محبتَه تعالى العبدَ هو للتقرُّب بالنوافل الزائدة على الفرائض.

"فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يَسمعُ به، وبصرَه الذي يُبصر به، ويدَه الذي يَبطِشُ بها، ورِجلَه التي يمشي بها"، قيل: هذه أمثالٌ ضربَها، والمعنى: توفيقُه تعالى في أعماله التي يُباشرها بهذه الأعضاء؛ أي: يُيسِّر عليه فيها ما يحبُّه به، وَيعصمُه عن مواقعة ما يَكرهُه من إصغاءٍ إلى لهوٍ بسمعه، ونظرِ منهيٍّ ببصرِه، وبطشٍ لا يحلُّ بيدِه، وسعيٍ في باطلٍ برِجلِه. وقيل: معناه: سرعة إجابة الدعاء وإنجاح الطلبة؛ أي: كنتُ أسرعَ إلى قضاء حوائجه مِن سمعِه في الاستماع، ومِن بصرِه في النظر، ومِن يدِه في اللمس، ومِن رِجلِه في المشيء وذلك لأن مَسَاعي الإنسان إنما تكون بهذه الجوارح الأربعة. "وإنْ سألَني لأعطَينَّه، وإن استعاذَني لأعيذَنَّه، وما تردَّدت عن شيءٍ أنا فاعلُه تردُّدي عن نفس المؤمن"، المراد من إسناد التردُّد إلى الله تعالى: باعتبار غايته ومنتهاه، الذي هو التوفيق في الأمر، والتأنِّي وترك المُعاجَلَة؛ أي: ما توفَّقت توقُّفَ المتردِّد في أمر أنا فاعلُه إلا في قبضِ نفسِ المؤمن؛ فإني أتوقَّفُ فيه، وأَزيدُ ما أعددتُ له من النِّعَمِ والكرامات؛ حتى يميلَ قلبُه إلى الموت شوقًا إلى لقائي. "يكره الموتَ": استئناف عمَّن قال: ما سببُ تردُّدك؟ أراد به: شدة الموت، لأن الموت نفسَه يُوصِل المؤمنَ إلى لقاء الله، فكيف يكرهُه المؤمُن؟ "وأنا أكَرَهُ مَساءتَه"؛ أي: إيذاءَهُ بما يلحقه من صعوبة الموت وكُرَبِه. "ولابدَّ له"؛ أي: للعبد "منْه". 1622 - وقال: "إنَّ للهِ ملائكة يَطُوفونَ في الطُّرُقِ يلتمِسُونَ أهلَ الذِّكرِ، فإذا وَجَدُوا قَومًا يذكرونَ الله تَنَادَوا: هَلُمُّوا إلى حاجَتِكُمْ، قال: فَيَحُفُّونَهم

بأجنِحَتِهم إلى السَّماء الدُّنيا، فإذا تَفَرَّقُوا عَرجُوا إلى السَّماءِ، قال: فيَسْألُهم الله وهو أَعلَمُ بهم: مِنْ أينَ جئتُم؟، فيقولونَ: جِئْنَا مِنْ عِندِ عِبادِكَ في الأَرضِ، قال: فيسألُهم ربُّهم وهو أَعْلَمُ بهم: ما يقولُ عبادي؟، قالوا: يُسَبحونَكَ، ويُكَبرُونَكَ، ويَحمدُونَكَ، ويُهَلِّلُونَكَ، ويُمَجِّدُونَكَ، قال: فيقول: هل رَأَوْنِي؟ قال: فيقولونَ: لا والله ما رَأَوْك، قال: فيقولُ: كيفَ لو رَأَوْنِي؟، قال: يقولونَ: لو رَأَوْكَ كانوا أَشَدَّ لكَ عِبادةً، وأشدَّ لكَ تَمْجيدًا، وأكثرَ لكَ تَسْبيحًا، قال: فيقولُ: فما يسأَلوني، قالوا: يَسألونَك الجنَّةَ، قال: وهل رَأَوْهَا؟، قال: فيقولونَ: لا والله يا ربِّ ما رَأَوْها، قال: يقولُ: فكيفَ لو رَأَوْهَا؟ قال: يقولونَ: لو أنَّهم رَأَوْها كانوا أشدَّ عليها حِرْصًا، وأشدَّ لها طَلَبًا، وأعظمَ فيها رغبةً، قال: فيقولُ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذونَ؟، قال: يقولونَ: من النَّار، قال: فهل رَأَوْها؟ قال: يقولونَ: لا والله يا ربِّ ما رَأَوْها، قال: يقولُ: فكيفَ لو رَأَوْها؟، قال: يقولونَ: لو رَأَوْها كانوا أَشَدَّ منها فِرارًا وأشدَّ لها مخافةً، قالوا: ويَستغفِرُونَكَ، قال: فيقولُ: فأُشْهِدُكم أَنِّي قد غفَرتُ لهم، وأَعطيتُهم ما سَأَلوا، وأَجَرْتُهم مما استَجارُوا، قال: يقولُ مَلَكٌ مِنَ الملائكةِ: ربِّ فيهم فُلانٌ ليسَ مِنْهُم، إنَّما جاءَ لحَاجَةٍ". وفي روايةٍ: "يقولونَ: ربِّ فيهم عبدٌ خطَّاءٌ، إنَّما مَرَّ فجلَسَ معَهم، قال: فيقولُ: ولهُ غفَرتُ، هُم القَومُ لا يَشْقَى بهِمْ جَلِيسُهُم". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لله ملائكةً يطوفون في الطُّرُق يلتمسون"؛ أي: يطلبون. "أهلَ الذِّكر"؛ ليزورهم ويستمعوا ذِكرَهم. "فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تَنَادَوا"؛ أي: نادَى بعضُ الملائكة بعضًا: "هَلُمُّوا"؛ أي: تعالَوا "إلى حاجتكم" من الزيارة واستماع الذِّكر.

"قال"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فيحفُّونهم بأجنحتهم" الباء: للتعدية؛ أي: يدورون بأجنحتهم حولَ جماعة الذاكرين، بأن يقفَ بعضُهم فوقَ بعضِ "إلى السماء الدنيا، فإذا تفرَّقوا"؛ أي: الذاكرون "عَرَجُوا"؛ أي: الملائكةُ "إلى السماء. قال: فيسألهم الله تعالى، وهو أعلمُ بهم: مِن أين جئتُم؟ فيقولون: جئنا من عند عبادك في الأرض، قال: فيسألهم ربُّهم، وهو أعلم بهم: ما يقول عبادي؟ قالوا: يسبِّحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويهلِّلونك ويمجِّدونك"؛ أي: ينسبونك إلى المجد، وهو الكَرَم. وقيل: التمجيد: ذِكر: لا حول ولا قوة إلا بالله العليِّ العظيم، وقيل: أصله لغةً: ذِكرُ الله بالعَظَمَة. "قال: فيقول"؛ أي: الله تعالى: "هل رَأَوني؟ قال: فيقولون: لا، والله ما رَأَوك، فيقول: كيف لو رَأَوني؟؛ قال - صلى الله عليه وسلم -: يقولون: لو رَأَوك كانوا أشدَّ لك عبادةً وأشدَّ لك تمجيدًا وأكثرَ لك تسبيحًا، قال: فيقول فما يسألون؟ قالوا: يسألونك الجنةَ، قال: وهل رَأَوها؟ قال: فيقولون: لا، والله يا ربِّ ما رَأَوها، قال: يقول: فكيف لو رَأَوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رَأَوها كانوا أشدَّ عليها حرصًا وأشدَّ لها طلبًا وأعظمَ فيها رغبةً، قال: فممَّ يتعوَّذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: وهل رَأَوها؟ قال يقولون: لا، والله يا ربِّ ما رَأَوها، قال - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله: فكيف لو رَأَوها؟ قال: يقولون: لو رَأَوها كانوا أشدَّ منها فرارًا وأشدَّ لها مخافةً، قالوا: ويستغفرونك، قال: فيقول: فأُشهدكم أني قد غَفرتُ لهم، وأَعطيتُهم ما سألوا، وأَجَرْتُهم مما استجاروا"؛ أي: أمَّنتهم مما يخافون، والاستجارة: طلب الأمان. "قال: يقول مَلَكٌ من الملائكة: ربِّ"؛ أي: يا ربِّ! "فيهم فلانٌ ليس منهم"؛ أي: إنه ليس من الذاكرين.

"إنما جاء لحاجةٍ"، يريد الملك بهذا: أنه لا يستحقُّ المغفرةَ. "وفي رواية: يقولون: ربِّ! فيهم عبدٌ خطَّاءٌ"؛ أي: كثيرُ الخطأ، وقيل: ملازمٌ للخطايا. "إنما مَّر، فجلس معهم، قال: فيقول: وله غَفرت"؛ أي: غَفرتُ لهذا العبد أيضًا ببركة الذاكرين. "هُمُ القومُ لا يَشقَى بهم جليسُهم"؛ أي: لا يُحْرَمُ من الثواب، بل يجدُ من بركتِهم نصيبًا. وفي هذا ترغيبٌ للعباد في مجالسة الصُّلَحاء؛ لينالوا نصيبًا منهم. 1623 - عن حَنْظَلة الأُسَيديِّ: قال: انطلقتُ أنا وأبو بكْرٍ حتَّى دخلْنا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قلتُ: نافَقَ حَنْظَلةُ!، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا ذَاكَ؟ "، قلتُ: نكُونُ عندَكَ تُذَكِّرنا بالنارِ والجنةِ كأنَّا رَأْيَ عَيْنٍ، فإذا خرجْنا عافَسْنا الأزْوَاجَ والأولادَ والضَّيْعَاتِ نسِيْنا كثيرًا، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفْسي بِيدِهِ، لو تَدُومونَ على ما تَكُونُونَ عندي وفي الذِّكرِ؛ لَصَافَحَتْكُمْ الملائكةُ على فُرُشِكُم وفي طُرقِكُم، ولكن! يا حنظلةُ ساعةً وساعةً" ثلاثَ مرَّاتٍ. "عن حنظلة الأُسَيدي": وهذا حنظلة بن الرُّبَيع كاتبُ الرسول - عليه الصلاة والسلام -، لا حنظلةُ بن عامرٍ غسيلُ الملائكةِ. "أنه قال: انطلقتُ أنا وأبو بكر حتى دخلْنا على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقلت: نافَقَ حنظلةُ"؛ أي: صارَ منافقًا، وذلك أنه إذا كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - أَخلَصَ وزهدَ في الدنيا، وإذا خرجَ عنه تركَ ما كان عليه كفعل المنافقين.

"قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك؟ "؛ أي: لأيِّ شيءٍ تقول ذلك القولَ؟ "قلت: نكون عندك تُذكِّرنا بالنار والجنة كأنَّا رأيَ عينٍ": منصوب بإضمار (نرى)؛ أي: كأنَّا نراهما رأيَ عينٍ، وقيل: مصدرٌ أُقيم مقامَ اسم الفاعل؛ أي: كأنا رائينَ الجنةَ والنارَ بالعين. "فإذا خرجْنا عافَسْنَا"؛ أي: خالَطْنَا. "الأزواجَ والأولادَ"، والمراد: الاستمتاع بهم، والقيام بتدبيرهم. "والضَّيعات"؛ أي: الأراضي والبساتين. "فنسينا كثيرًا"؛ أي: نسيانًا كثيرًا، إلى هنا بيانٌ من حنظلةَ لِمَا يتوهَّمه من نفسه من النفاق. "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والذي نفسي بيده! لو تَدُومون على ما تكونون عندي وفي الذِّكر"، الواو بمعنى: أو، عطف على قوله: (ما تكونون)، أو على قوله: (عندي)؛ أي: لو تدومون في الذِّكر، أو على ما تكونون في الذِّكر. "لَصافحتْكم الملائكةُ"؛ أي: علانيةً. "على فُرُشِكم وفي طُرُقِكم"؛ أي: في حالَتي فراغِكم وشغلِكم. "ولكنْ يا حنظلةُ! ساعةً فساعةً"؛ أي: تكونون ساعةً في الحضور فتؤدُّون حقوقَ ربِّكم، وساعةً في الغَيبة والفتور فتؤدُّون حقوقَ أنفسكم، والفاء في الساعة الثانية لإيذانِ أن إحدى الساعتَين معقبةٌ بالأخرى، وفي بعض النسخ: بالواو. "ثلاث مرات": أعاد به ثلاثًا للتأكيد وإزالة عنه ما اتهمَ به نفسَه، وبيان أنهم لا يَقِدرون على دوام الحضور.

مِنَ الحِسَان: 1624 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ أُنبَئُكم بخيرِ أعمالِكم، وأَزْكَاها عندَ مَلِيكِكُم، وأَرْفَعِها في دَرجاتِكُم، وخيرٍ لَكُم مِن إنفاقِ الذَّهبِ والوَرِقِ، وخيرٍ لكم مِن أن تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فتَضْرِبُوا أعناقَهُم ويَضْرِبُوا أعناقَكُم؟ "، قالوا: بلى، قالَ: "ذِكْرُ الله". "من الحسان": " عن أبي الدرداء أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أُنبِّئكم"؛ أي: أخبِرُكم "بخير أعمالكم وأزكاها"؛ أي: أطهرِها وأتمِّها. "عندَ مليككم"، المراد: هو الله تعالى. "وأرفعها في درجاتكم، وخيرٍ لكم من إنفاق الذهب والوَرِق، وخيرٍ لكم مِن أن تَلْقَوا عدَّوكم، فتضربوا أعناقَهم ويضربوا أعناقَكم؟ " يريد: الجهاد مع الكفار؛ أي: بما هو خير لكم من بذل أموالكم ونفوسكم في سبيل الله تعالى. "قالوا: بلى، قال: ذِكرُ الله" المراد من هذا: هو الذِّكر القلبي؛ فإنه هو الذي له هذه المنزلة الزائدة على بذل الأموال والأَنْفُس؛ لأنه عملٌ نفسيٌ، وفعلٌ قلبيٌّ الذي هو أشقُّ من عمل الجوارح، بل هو الجهاد الأكبر، لا الذِّكر اللِّساني المشتمل على صياحٍ وانزجاعٍ، وشدةِ تحريكِ العنقِ واعوجاجٍ، كما يفعله بعض الناس زاعمين أن ذلك جالبٌ للحضور، وموجبٌ للسرور، حاشا لله، بل هو سبب للغَيبة والغرور. 1625 - وعن عبد الله بن بُسْرٍ قال: جاءَ أعرابيٌّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: أيُّ النَّاسِ خيرٌ؟، فقال: "طُوبَى لمَنْ طالَ عمرُه وحَسُنَ عَمَلُه"، قال: يا رسولَ

الله، أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟، قال: "أنْ تُفَارِقَ الدُّنيا ولِسانُكَ رطْبٌ مِن ذكرِ الله". "وعن عبد الله بن بُسر أنه قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال: أيُّ الناسِ خيرٌ؟ فقال: طُوبى لمن طالَ عمرُه وحَسُنَ عملُه"، إنما عَدَلَ في الجواب إلى أَمَاراتٍ تدلُّ على حال المسؤول عنه من سعادته في الدارَين إذا طالَ عمرُه وحَسُنَ عملُه؛ لأن العلمَ بالمسؤول عنه من الأمور الغَيبية التي استَأثَرَ الله تعالى بعلمها. "قال: يا رسولَ الله! أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: أن تفارقَ الدنيا ولسانُك رطبٌ من دِكر الله"؛ أي: متحركٌ بذِكرِه. 1626 - وقال: "إذا مَرَرْتُم برياضِ الجنَّةِ فارتَعُوا"، قالوا: وما رياضُ الجنةِ؟، قال: "حِلَقُ الذِّكرِ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا مررتُم برِياضِ الجنة فارتَعُوا، قالوا: وما رياضُ الجنة؟ قال: حِلَقُ الذِّكر" بكسر الحاء وفتح اللام: جمع حلقة، وهي جماعة من الناس يستديرون كحلقة الباب وغيره. وقال الجوهري: جمع الحَلقة: حَلَق - بفتح الحاء - على غير قياس. 1627 - وقال: "مَنِ اضطَجعَ مَضْجَعًا لم يَذْكُرِ الله فيه؛ كانَ عليهِ تِرَةً يومَ القيامَةِ، ومَنْ قَعَدَ مَقْعدًا لم يَذْكرِ الله فيه كانَ عليه تِرَةً يومَ القيامَةِ". "وعنه، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: مَن اضطجعَ مَضْجَعًا لم يَذكُرِ الله فيه كان"؛ أي: ذلك الاضطجاعُ، أو عدمُ ذِكرِ الله "عليه تِرَة" بكسر التاء؛ أي: حسرةً ونقصًا، من: وُتِرَ حقَّه؛ أي: نُقِصَه، وهو سببُ الحسرة.

"يومَ القيامة"، وقيل: أراد بالتِّرَة هنا: التبعة والمؤاخذة بجرمٍ. "ومَن قعدَ مَقْعَدًا"؛ أي: مَجلِسًا. "لم يَذكر الله فيه كان عليه تِرَةً يومَ القيامة"؛ وهذا لأن شكرَ الله على نِعَمِه واجبٌ، والمَضْجَع والمَجْلِس أيضًا من نِعَمِ الله تعالى، قال تبارك وتعالى على العباد منةً: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6]، وقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} [الملك: 15]؛ أي: لينةً بحيث يمكنُكم الاستقرارُ والترددُ عليها والزراعةُ فيها. 1628 - وقال: "ما مِن قَومٍ يَقُومُونَ مِن مَجْلِسٍ لا يَذْكُرونَ الله فيه إلاَّ قامُوا عن مِثْلِ جِيْفةِ حمارٍ وكان لهم حَسْرةً". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما مِن قومٍ يقومون من مجلسٍ لا يَذكُرون الله فيه إلا قاموا عن مِثْلِ جِيْفَةِ حمارٍ، وكان لهم حسرةً"، وتخصيص جِيفة الحمار بالذِّكر؛ لأنه أدونُ الجِيَفِ من بين الحيوانات التي تخالطنا. 1629 - وقال: "ما جلَسَ قَومٌ مَجْلِسًا لم يذكُروا الله فيهِ، ولم يُصَلُّوا فيه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إلاَّ كانَ عليهم تِرَةً يومَ القيامَةِ، إنْ شاءَ عَفَا عنهم وإنْ شاءَ أخذَهُم بها". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما جلسَ قومٌ مجلسًا لم يذكروا الله فيه ولم يُصلُّوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا كان عليهم تِرَةً يومَ القيامة؛ إن شاءَ عفا عنهم وإن شاءَ أخذَهم بها".

1630 - وقال: "كُلُّ كلامِ ابن آدمَ عليه لا لَهُ إلاَّ أَمْرًا بمعروفٍ، أو نهيًا عن مُنْكَرٍ، أو ذِكرًا للهِ"، غريب. "عن أم حبيبة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلُّ كلامِ ابن آدَم عليه"؛ أي: يكون وبالاً عليه، ويُؤخَذ به يومَ القيامة، قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18]. "لا له"؛ أي: ليس له نفعٌ. "إلا أمرًا بمعروف أو نهيًا عن مُنكَرٍ، أو ذكرًا لله تعالى"؛ المراد بـ (ذكر الله تعالى) هنا: ما فيه رضا الله من الكلام، كتلاوة القرآن والصلاة على النبي عليه الصلاة والسلام، والدعاء للمؤمنين، وما أشبه ذلك. "غريب". 1631 - وقال: "لا تُكْثِرُوا الكلامَ لغيرِ ذِكْرِ الله، فإنَّ كَثْرَةَ الكلامِ بغيرِ ذكرِ الله قَسْوةٌ للقَلْبِ، وإنَّ أَبْعَدَ الناسِ مِنَ الله القلْبُ القاسي". "عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تُكثروا الكلامَ بغير ذِكر الله؛ فإن كثرةَ الكلام بغير ذِكر الله قسوةٌ للقلب"؛ أي: سببٌ لقسوةِ القلبِ. "وإن أبعدَ الناسِ مِن الله القلبُ القاسي"؛ أي: ذو القلب القاسي، أو معناه: أبعدُ قلوب الناس من نظرِ الله القلبُ القاسي، وقسوةُ القلبِ: عبارةٌ عن عدم قَبول ذِكر الله تعالى، والخوف والرجاء وغير ذلك. 1632 - عن ثَوْبان قال: لما نزلتْ: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ

3 - باب أسماء الله تعالى

وَالْفِضَّةَ} كُنَّا مِعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ أَسْفارِهِ، فقالَ بعضُ أصحابهِ: لو علمنَا أيُّ المالِ خيرٌ فَنتَّخِذهُ؟، فقال: "أفْضَلُه لسانٌ ذَاكرٌ، وقلبٌ شاكِرٌ، وزوجةٌ مؤمِنَةٌ تُعِنيُهُ على إيمانِهِ". "وعن ثَوبان أنه قال: لمَّا نزَلت: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [التوبة: 34] كنا مع النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض أسفاره، فقال بعض أصحابه: لو عَلِمْنا أيُّ المالِ خيرٌ"، (لو) هذه: للتمني. "فنتخذَه": نُصب بـ (أن) مضمرة بعد الفاء جوابًا للتمني. "فقال: أفضلُه"؛ أي: أفضلُ المالِ، أو أفضلُ ما يتخذه الإنسانُ قنيةً لنفسه. "لسانٌ ذاكرٌ، وقلبٌ خاشعٌ، وزوجةٌ مؤمنةٌ تُعينه على إيمانه"؛ أي: على دِينه، بأن تذكِّرَه الصلاةَ والصومَ وغيرَهما من العبادات إذا نسيَ أو غفلَ، وتمنعَه من الزِّنا. وإنما أجاب - عليه الصلاة والسلام - بما ذَكَرَ؛ لأن المالَ ما ينتفع به مالكُه، ولا شيءَ أنفعُ للرجل مما ذَكَرَ. 3 - باب أَسْماءِ الله تعالى (باب أسماء الله تعالى) أسماء الله تعالى: ما يصحُّ أن يُطلَق عليه بالنظر إلى ذاته، أو باعتبارِ صفةٍ من صفاته السلبية كالقُدُّوس، أو الثبوتية كالعليم، أو باعتبارِ فعلِ من أفعاله كالخالق، ولكنها توقيفيةٌ عند البعض.

مِنَ الصِّحَاحِ: 1633 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ للهِ تسعةً وتسعينَ اسمًا مائةً إلاَّ واحِدًا، مَنْ أَحصاهَا دخلَ الجنَّة" وفي رواية: "وهو وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْرَ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مئةً إلاَّ واحدةً": بدل الكل من اسم (أن)، أو تأكيد، أو نصب بتقدير: أعني، وإنما أكَّد بذلك؛ لئلا يلتبسَ في الخط بتسعة وسبعين أو سبعة وتسعين، أو لاحتمال أن تكون الواو بمعنى: أو، نظيره قوله تعالى: {ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]. وتأنيث (واحدة) على تأويل الكلمة. "من أحصاها"؛ أي: حفظَها على قلبه، وقيل: عدَّها وقرأَها كلمةً كلمةً على طريق الترتيل تبرُّكاً وإخلاصًا. وقيل: معناه: من أطاقَ العملَ بمقتضاها؛ مثلَ أن يَعلَمَ أنه سميعٌ بصيرٌ، فيكفَّ لسانَه وسمعَه عما لا يجوز، وكذلك في باقي الأسماء. "دخلَ الجنةَ". "وفي روايةٍ: وهو"؛ أي: ذاته تعالى "وِتْرٌ"؛ أي: فردٌ لا شبيهَ له ولا نظيرَ. "يحبُّ الوِترَ" من الأعمال والأذكار؛ يعني: يحبُّ منها ما كان على صفة الإخلاص والتفرُّد له.

مِنَ الحِسَان: 1634 - قال: "إنَّ للهِ تِسْعَةً وتسعينَ اسمًا، مَنْ أَحصاها دخلَ الجنَّةَ: هوَ الله الذي لا إله إلاَّ هوَ، الرَّحمنُ، الرَّحيمُ، المَلِكُ، القُدُّوس، السَّلامُ، المؤمنُ، المهيمنُ، العزيزُ، الجبَّارُ، المتكبَّرُ، الخالِقُ، البارِئُ المصوِّرُ، الغفَّارُ، القهَّارُ، الوهَّابُ، الرَّزَّاقُ، الفتَّاحُ، العَلِيمُ، القابضُ، الباسَطُ، الخافِضُ، الرافَعُ، المُعِزُّ، المُذِلُّ، السَّميعُ، البصيرُ، الحكَمُ، العَدْلُ، اللَّطيفُ، الخَبيرُ، الحَليمُ، العَظيمُ، الغَفورُ، الشَّكورُ، العليُّ، الكبيرُ، الحَفيظُ، المُقيتُ، الحَسِيْبُ، الجَليلُ، الجَميْل، الكَريمُ، الرقيبُ، المُجيبُ، الواسِعُ، الحَكيمُ، الوَدودُ، المَجيدُ، الباعِثُ، الشَّهيدُ، الحَقُّ، الوكيلُ، القويُّ، المَتينُ، الوليُّ، الحَميدُ، المُحْصِي، المُبْدِئُ، المُعيدُ، المُحْي، المُميتُ، الحيُّ، القيومُ، الواجِدُ، الماجدُ، الواحِدُ، الأَحَدُ الصَّمدُ، القادِرُ، المُقْتَدِرُ، المُقَدّمُ، المؤخِّرُ، الأَوَّلُ، الآخِرُ، الظاهِرُ، الباطِنُ، الوَالي، المُتَعَالي، البَرُّ، التوَّابُ، المُنتقِمُ، العفُوُّ، الرؤوفُ، مالِكَ المُلكِ، ذو الجَلالِ والإكْرامِ، المُقْسِطُ، الجامعُ، الغنيُّ، المُغني، المانِعُ، الضَّارُّ، النافعُ، النُّورُ، الهادي، البَدِيعُ، الباقي، الوارِثُ، الرشَّيدُ، الصَّبورُ"، غريب،. "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لله تسعةً وتسعين اسمًا، مَن أحصاها دخلَ الجنةَ، هو الله"؛ قيل: هذا اسمٌ اختُصَّ به تعالى، موضوعٌ لذاته المخصوصة كالعَلَم له؛ لأنه يُوصَف ولا يُوصَف به. وقيل: أصله: لَاهَا بالسريانية، فعُرِّبَ، وقيل: مشتقٌّ من: أَلَهَ كـ (عَبَدَ) وزنًا ومعنًى وتصرُّفًا، فالإله بمعنى: المألوه. وقيل: من: لاهَ يَلِيه ليْهًا ولاهًا؛ أي: احتجب أو ارتفعَ؛ لأنه محجوبٌ

عن إدراك الأبصار مرتفعٌ عما لا يليق به. وقيل: من: أَلِه؛ أي: تحيَّر، ووَلِهَ وزنًا ومعنًى وتصرُّفًا؛ لتحيرُّ العقول في معرفة صفاته، فضلًا عن معرفة ذاته. وقيل: من: أَلِهَ؛ أي: فَزِعَ؛ إذ يفزعُ الناسُ منه وإليه، وقيل: من: أَلِهْتُ إلى كذا؛ أي: سَكنتُ إليه؛ لأن القلوبَ تطمئنُّ بذِكره، والأرواحَ تسكُن إلى معرفته، قال تعالى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28]. وهذا الاسمُ أعظمُ الأسماء التسعة والتسعين؛ لأنه دالٌّ على الذات الجامعة للصفات الإلهية كلَّها. "الذي لا إله إلا هو": حصر وقطع لتحقيق الإلهية، ونفي ما عداه عنها. "الرحمن الرحيم": هما اسمان بنيا للمبالغة من: رَحِمَ، والرحمة في اللغة: رقة القلب، وهي تقتضي التفضيلَ والإحسانَ على مَن رَقَّ له، فرحمة الله تعالى على العباد؛ إما إرادةُ الإنعامِ عليهم ومنعُ الضَّرَرِ عنهم، فيكون الاسمان من صفات الذات، أو نفسُ الإنعام والدفع، فيعودان إلى صفة الأفعال. والفرق: أن صفاتِ الذات عدمُها يوجب نقصًا، ولا كذلك صفات الأفعال، و (الرحمن) أبلغ من (الرحيم)؛ لزيادة بنائه، وذلك يُؤخَذ تارةً باعتبار الكمية؛ فيقال: يا رحمنَ الدنيا! يعمُّ المؤمنَ والكافرَ، ويا رحيمَ الآخرة! يختصُّ المؤمنَ، وأخرى باعتبار الكيفية؛ فيقال: يا رحمنَ الدنيا والآخرة! ويا رحيم الدنيا! "المَلِك"؛ أي: ذو المُلك، والمراد: القدرة على الإيجاد والاختراع، فيكون من أسماء الصفات، كالقادر. وقيل: التصرُّف في الأشياء بالخلق والإبداع، والإماتة والإحياء، فيكون من أسماء الأفعال، كالخلق.

"القُدُّوس": من أبنية المبالغة، وهو من أسماء التنزيه؛ أي: المنزَّه عن العيوب والنقائص، المبرَّأ عما يدركه حسنٌّ أو وهمٌ، أو يحيط به عقلٌ، المطهَّر عن الشِّبهِ والنِدِّ، والولدِ والضدِّ. "السلام": مصدرٌ نُعِتَ به، والمعنى: ذو السلامة من كل آفةٍ ونقيصةٍ؛ أي: هو الذي تَسلَم ذاتُه عن العيب والحدوث، وصفاتُه عن النقص، وأفعالُه عن الشرِّ المَحْضِ، فهو من أسماء التنزيه. وقيل: معناه: الملِكُ المسلِّمُ العبادَ من المَخَاوف والمَهَالك، فيرجع إلى القدرة، فهي من صفات الذات. وقيل: ذو السلام على المؤمنين في الجِنَان، كما قال تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58]، فيكون مرجعه إلى الكلام القديم. "المؤمن": هو الذي يَصدُق عبادَه يومَ القيامة وعدَه، فهو من الإيمان التصديق، فيرجع إلى الكلام القديم. وقيل: الذي يُؤمِّن أولياءَه يومَ العرض من الفزع الأكبر، أو الذي آمَنَ عبادَه من الظلم، بل ما يعمل بهم؛ إما فضلٌ وإما عدلٌ، فهو من الأمان، فمرجعه أسماء الأفعال. "المُهيمِن": الرقيب المُبالغ في المراقبة والحفظ، مِن قولهم: هَيْمَنَ الطيرُ: إذا نشَّرَ جناحه على فرخه صيانةً له فهو من أسماء الأفعال. وقيل: الشاهد؛ أي: العالم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرةٍ فيرجع إلى العلم. وقيل: الذي يشهد على كل نفسٍ بما كسبت، فيرجع إلى القول، وقيل: القائم بأمور الخلق من أعمالهم وأرزاقهم وآجالهم فيرجع إلى القدرة. وقيل: أصله: مؤيمن أبدلت الهاء من الهمزة، مفيعل من الأمانة، بمعنى

الأمين الصادق الوعد، فهو من الكلام، وقيل: هو من أسمائه تعالى في الكتب القديمة. "العزيز"؛ أي: الغالب، من قولهم: عَزَّ: إذا غلب، فمرجعه إلى القدرة، وقيل: هو الذي تتعذر الإحاطة بوصفه ويعسر الوصول إليه مع أن الحاجة تشتد إليه، فلا يطلق هذا اللفظ إلا على من اجتمع فيه هذه المعاني الثلاثة فيكون من أسماء التنزيه. "الجبار": من أبنية المبالغة، ومعناه: الذي يقهر العباد على ما أراد من أمرٍ ونهيٍ، وقيل: هو الذي حملهم على ما أراد صدوره منهم على سبيل الإجبار، فصاروا حيث أراد طوعًا أو كرهًا من الأخلاق والأعمال والأرزاق والآجال وغيرها، فهو من صفات الذات. وقيل: هو الذي يغني المرء من فقره، ويصلح عظمه من كسره، يقال: جَبَرْتُ العظم جبرًا، أو جَبَرَ هو بنفسه فانجبر، فهو من أسماء الأفعال. وقيل: هو المتعالي عن أن يناله قصد القاصدين، ويؤثر فيه كيد الكائدين، فمرجعه إلى التقديس والتنزيه. "المتكبر": المنفرد بالعظمة وذو الكبرياء، وهو عند العرب: الملك، أو هو: المتعالي عن صفات الخَلْق، وقيل: هو عبارةٌ عن كمال الذات وكمال الوجود، فلا يوصف بها غيره تعالى. وقيل: هو الذي يرى غيره حقيرًا بالإضافة إلى ذاته، فينظر إلى غيره نظر الملك إلى عبده، وهو عند الإطلاق لا يتصور إلا له تعالى. "الخالق": هو الذي أوجد الأشياء كلها بعد أن لم تكن موجودة، وأصل الخلق: التقدير المستقيم، ويستعمل بمعنى الإيجاد على وفق التقدير. "البارئ": هو الذي خلق الخلق على غير مثالٍ، اسم فاعلٍ من بَرَأَ: إذا

خلق، إلا أنَّ لهذه اللفظة من الاختصاص بالحيوان ما ليس لها بغيره من المخلوقات، وقلما تستعمل في غير الحيوان. "المصور": هو الذي صور جميع الموجودات ورتبها وأعطى كل موجود منها صورةً خاصةً وهيئةً تميز بها على اختلافها وكثرتها. "الغفار": هو الذي يغفر ذنوب عباده مرةً بعد مرة، وأصل الغَفْرِ: السَّتر والتَّغطية فهو من أسماء الأفعال. "القهار": هو الغالب الذي لا موجود إلا وهو مقهورٌ بقدرته، ومسخرٌ لقضائه، [و] عاجزٌ في قبضته، ومرجعه إلى القدرة. وقيل: هو الذي أذلَّ الجبابرة، وقصم ظهورهم بالإهلاك ونحوه، فهو من أسماء الأفعال. "الوهاب": هو الذي يكثر العطايا بلا عوض وغرض، وقيل: هو كثير النِّعم، دائم العطاء، وهو من أسماء الأفعال. "الرزاق": هو الذي خلق الأرزاق، وأعطاها الخلائق، وأوصلها إليهم، وهي نوعان: ظاهرةٌ للأبدان، كالأقوات والأمتعة، وباطنة للقلوب والنفوس، كالمعارف والعلوم والمكاشفات. "الفتَّاح": هو الذي يفتح أبواب الرزق والرحمة لعباده، أو الحاكم بينهم، من الفَتْح؛ بمعنى: الحكم، وقيل: معناه: مبدع الفتح والنصرة. "العليم": هو العالم البالغ في العلم، المحيط علمه السابق بجميع الأشياء، ظاهرها وباطنها، دقيقها وجليلها، وهو من صفات الذَّات. "القابض": هو الذي يمسك الرزق ويضيقه على من يشاء من عباده بلطفه وحكمته، ويقبض الأرواح عن الأشباح عند الممات.

"الباسط": هو الذي يبسط الرزق لعباده ويوسعه عليهم بجوده، ويبسط الأرواح وينشرها في الأجساد عند الحياة، وهما من صفات الأفعال. وقيل: هو الذي يقبض الصدقات عن الأغنياء، ويبسط الرزق على الضعفاء، بأن جعلهم مَصَبَّ الصدقات والزكوات. "الخافض": هو الذي يخفض الجبارين والفراعنة؛ أي: يضعهم ويهينهم، ويخفض الكفار بالخزي والصَّغَار، ويخفض كل شيءٍ يريد خفضه. "الرافع": هو الذي يرفع المؤمنين بالإسعاد ويقربهم من رحمته، وبرفع درجاتهم بالنصر والإعزاز. "المعز": يعز من يشاء، "المذل": يذل من يشاء. والإعزاز الحقيقي: تخليص المرء عن ذلِّ الحاجة واتباع الشهوات وجعله غالبًا على أمره قاهرًا لنفسه مالكًا لإربه، والإذلال الحقيقي مقابله. "السميع": هو الذي لا يعزُب عن إدراكه مسموعٌ وإن خفي، فهو يسمع بغير جارحة. "البصير": هو الذي يشاهد الأشياء كلها ظاهرها وخافيها بغير جارحةٍ، وهما من أوصاف الذَّات، وأبنية المبالغة. "الحَكَم": هو الحاكم الذي لا مردَّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه، ومرجعه إلى القول الفاصل بين الحق والباطل، والبَّر والفاجر، والمبين لكل نفسٍ جزاء ما عملت من خيرٍ وشرِ. "العدل": خلاف الجور، قيل: هو الذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، وهو في الأصل مصدرٌ أقيم مَقَام الصفة، وهو العادل، وهو أبلغ منه؛ لأنه جعل المسمى به نفسه عدلاً. "اللطيف": هو البرَّ بعباده، الذي يوصل إليهم ما ينتفعون به في الدارين،

ويهيئ لهم ما يسعون به إلى المصالح من حيث لا يعلمون ولا يحتسبون، فهو من أسماء الأفعال. وقيل: معناه: العليم بخفيات الأمور ودقائقها. "الخبير": هو العالم بما كان وبما يكون، وقيل: هو المتمكِّن من الإخبار عمَّا عمله. "الحليم": هو الذي لا يعجِّل عقوبة المذنبين، بل يؤخرهم لعلهم يتوبون إليه، وهو راجعٌ إلى التنزيه. "العظيم": هو الذي تجاوز قدره وجَلَّ عن تصور العقول، حتى لا يتصوره عقلٌ، ولا تحيط بكنهه بصيرةٌ، ومرجعه إلى التنزيه. "الغفور": بمعنى الغفار، ولعل الغفار أبلغ منه لزيادة بنائه، وقيل: الفرق بينهما أن المبالغة في الغفور باعتبار الكيفية، وفي الغفار باعتبار الكمية. "الشكور": هو الذي يعطي الثَّواب الجزيل على العمل القليل، فيرجع إلى الفعل، وقيل: هو المثني على العباد المطيعين، فيرجع إلى القول. "العَلِيّ": البالغ في العلو، وهو الذي ليس فوقه شيءٌ في المرتبة والحكم، فعيل بمعنى فاعل، مِنْ عَلا يَعْلُو. "الكبير": نقيض الصغير، وهما يستعملان في الأجسام باعتبار مقاديرها، ثم في العالي الرتبة، والله تعالى كبير بالمعنى الثاني إما باعتبار أنه أكمل الموجودات وأشرفها من حيث أنه واجب الوجود بالذات، أو باعتبار أنه أكبر عن مشاهدة الحواس وإدراك العقول، فهو من أسماء التنزيه. "الحفيظ": هو الحافظ جدًا يحفظ الموجودات من الزوال والاختلال ما يشاء، ويصون المتضادات المتعاديات بعضها عن بعض، فيحفظها في المركبات محميةٌ عن إفناء بعضها بعضًا، فلا يطفئ الماء النار ولا يخلل النار، الماء، أو

يحفظ على العباد أعمالهم، ويحصي عليهم أفعالهم وأقوالهم. "المقيت": هو خالق الأقوات البدنية والروحانية، وموصلها إلى الأشباح والأرواح، من أَقَاتَه يُقِيْتُهُ: إذا أعطاه قُوْتَه، فهو من صفات الأفعال. وقيل: هو المقتدر بلغة أهل قريش، وقيل: هو الشاهد المُطَّلِع على الشيء، مِنْ أَقَاتَ الشيءَ: إذا شهد عليه، فهو على الوجهين من صفات الذات. "الحسيب": هو الكافي من أَحْسَبني؛ أي: كفاني، فعيل بمعنى مُفْعِلٌ، كالأليم بمعنى المؤلم، والحسيب المطلق هو الله تعالى؛ إذ لا يمكن أن تحصل الكفاية في جميع ما يحتاج الشيء في وجوده وبقائه وكماله الجسماني والروحاني بأحد سواه، فمرجعه إلى الفعل. وقيل: هو المحاسب للخلائق يوم القيامة، فعيل بمعنى مفاعل، فمرجعه إلى الفعل أيضًا إن جعلت المحاسبة عبارة عن المكافآت، أو إلى القول إن أريد بها السؤال، والمعاتبة وتعداد ما عملوا من الحسنات والسيئات. وقيل: هو الشريف، والحَسَبُ: الشرف، وقيل: هو الذي يعدُّ أنفاس الخلائق. "الجليل": هو الموصوف بنعوت الجلال والحاوي لجميعها والله هو الجليل المطلق، وهو راجع إلى كمال الصفات التنزيهية كما أن (الكبير) راجعٌ إلى كمال الذات، و (العظيم) إليهما. "الكريم": هو الجواد المعطي الذي لا ينفذ عطاؤه، وهو الكريم المطلق. وقيل: هو المتفضل المعطي بلا مسألةٍ ولا وسيلةٍ. وقيل: المتجاوز الذي لا يستقصي في العقاب. وقيل: هو الذي إذا قدر عفا، وإذا وعد وفا، وإذا أعطى زاد على منتهى

الرجاء، ولا يبالي كم أعطى ولمن أعطى، وإذا رفعت الحاجة إلى غيره لا يرضى. وقيل: المقدس عن النقائص والعيوب من قولهم: كريم الأموال، لنفائسها. "الرقيب": هو الحفيظ الذي يراقب الأشياء ويلاحظها، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. وقيل: هو الذي يعلم أحوال العباد، ويحصي أعداد أنفاسهم. "المجيب": هو الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه. "الواسع": هو الذي وسع غناه كل فقير، ورحمته كل شيء، وقيل: هو العالم المحيط علمه بجميع المعلومات كُليها وجُزئيها موجودها ومعدومها، قال تعالى: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7]. "الحكيم": فَعيل بمعنى فاعل؛ أعني: مبالغة الحاكم، أو هو بمعنى: الذي يحكم الأشياء ويتقنها، فَعيل بمعنى مُفْعِل. وقيل: ذو الحكمة، وهي عبارةٌ عن معرفة الأشياء على ما هي عليها. "الودود": فَعُولٌ بمعنى مَفْعُول، من الوُدِّ: المحبة، فالله مودودٌ؛ أي: محبوبٌ في قلوب أوليائه، أو بمعنى فاعل؛ أي: المحبُّ لأوليائه. وقيل: هو الذي يحبُّ الخير لجميع الخلائق، ويحسن إليهم في الأقوال، وحاصله يرجع إلى إرادة مخصوصةٍ. "المجيد": مبالغة الماجد، من المجد، وهو سعة الكرم، وقيل: إذا قارن شرف الذات حسن الفعل يسمى مجيدًا. "الباعث": هو الذي يبعث الخلق؛ أي: يحييهم بعد الموت يوم القيامة، وقيل: هو الذي يبعث الرسل إلى الأمم.

"الشهيد": هو الذي لا يغيب عن علمه شيءٍ، فعيل من أبنية المبالغة في فاعل، من الشهود، وهو الحضور، وقيل: مبالغة الشاهد؛ أي: يشهد على الخلق يوم القيامة بما علم وشاهد منهم. "الحق": الذي تُحقق وتُيقِّن وجوده من غير شكٍّ، ضد الباطل الذي هو المعدوم، فهو من صفات الذات. وقيل: معناه المحق؛ أي: المظهر للحق، أو الموجد للشيء حسب ما تقتضيه الحكمة، فيكون من صفات الأفعال. "الوكيل": القائم بمصالح عباده الكافل بأرزاقهم. "القوي": الذي لا يستولي عليه العجز في حال من الأحوال. "المتين": من المتانة: الشِّدة والقوة، ومرجع هذين إلى الوصف بكمال القدرة وشدتها، فالله تعالى من حيث إنه بالغ القدرة تامها: قويٌ، ومن حيث إنه شديد القوة: متينٌ. "الولي" هو الناصر ينصر المؤمنين، وقيل: المتولي لأمور العالم والخلائق، وقيل: القائم بتدبير الممكنات، يقال: وَلِيَ يَلِيْ وِلايةً فهو وَليٌّ؛ أي: أمير. وقيل: هو المحبُّ، قال الله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 257]: أي: محبهم. "الحميد"؛ أي: المحمود على كل حالٍ، وقيل: في صفاته وأفعاله، فَعيلٌ بمعنى مَفْعُول، وهو المحمود المطلق، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44]؛ أي: بلسان الحال. وقيل: حمد الله نفسه بالثناء الذي يليق به أزلًا، ويحمده عباده أبدًا، فهو المستحق للحمد والثناء أزلًا وأبدًا.

"المحصي": العالم الذي أحصى كل شيءٍ بعلمه فلا يفوته دقيقٌ منها ولا جَليلٌ. "المبدئ": هو الذي أنشأ الأشياء واخترعها ابتداءً من غير سابق مثال. "المعيد": هو الذي يعيد الخلق بعد الحياة إلى الممات في الدنيا، وبعده إلى الحياة في الآخرة. "المحيى المميت": هما يرجعان إلى الإيجاد، لكن المُوجد إذا كان هو الحياة سُمِّي ذلك الفعل: إحياءً، وإذا كان هو الموت سُمِّي: إماتةً، ولا خالق للموت والحياة غير الله، قال تعالى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 2]. "الحيُّ"؛ أي: ذو الحياة وهو الفَعَّال الدَّرَّاك، وقيل: الباقي أزلًا وأبدًا. "القيوم": القائم بنفسه والمقيم لغيرِه وهو على الإطلاق، والعموم لا يصح إلا لله تعالى؛ لأن قوامه بذاته وقوام كل شيءٍ به. وقيل: هو القائم على كل شيءٍ الدائم، وقيل: القَيُّوم والقَيَّام والقَيم من أبنية المبالغة، ومعنى الكل واحد. "الواجد": هو الغني الذي لا يفتقر إلى شيءٍ، يقال: وَجَدَ يَجِدُ جِدَةً؛ أي: استغنى غنًا لا فقر بعده. "الماجد": بمعنى المجيد، إلا أنَّ في المجيد مبالغةً ليست في الماجد. "الواحد": هو المنفرد بالذات لا شريك له. "الأحد": هو المنفرد بالصفات وحده لا يشاركه في صفاته أحد، قيل: الأحد والواحد هو الفرد الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر. قيل: الفرق بينهما: أن (الأحد) بنيَ لنفي ما يُذْكَر معه من العَدَد، و (الواحد) بنيَ لمفتتح العدد.

"الصمد": هو السيد الذي انتهى إليه السؤدد، وقيل: الذي لا جوف له، وقيل: الذي يُصْمَدُ في الحوائج إليه أي: يُقْصَد. "القادر المقتدر": معناهما ذو القدرة، لكن المقتدر أكثر مبالغةً، والمراد من وصفه تعالى بهما: نفي العجز عنه فيما يشاء ويريد، ومحالٌ أن يُوْصَف بالقدرة المطلقة معنى غير الله تعالى، وإن أطلق عليه لفظًا. "المقدم المؤخر": معناهما هو الذي يقرِّب ويبعِّد، ومن قَرَّبه فقد قَدَّمه، ومن بعَّده فقد أخَّره، وقيل: هو الذي يقدِّم الأشياء بعضها على بعضٍ؛ إما بالوجود كتقديم الأسباب على مسبباتها، أو بالشرف والقربة كتقديم الأنبياء والصالحين من عباده على من عداهم، أو بالمكان كتقديم الأجسام العلوية على السفلية، أو بالزمان كتقديم الأطوار والقرون بعضها على بعض. "الأول": هو الذي لا شيء قبله ولا بعده. "الآخر": هو الباقي بعد فناء الخلق. "الظاهر"؛ أي: الذي ظهر شواهد وجوده بخلق السماوات والأرض وما بينهما، وقيل: هو الذي ظهر فوق كل شيء وعَلا عليه. وقيل: الظاهر هو الذي عُرف بطريق الاستدلال العقلي بما ظهر لهم من آثار أفعاله وأوصافه. "الباطن": المحتجب عن أبصار الخلق بحجب كبريائه، فلا يدركه بصرٌ، ولا يحيط به وهمٌ، وقيل: هو العالم بما بطن، يقال: بطنت الأمر: إذا عرفت باطنه. "الوالي": هو مالك الأشياء والمتولي بها. "المتعالي"؛ بمعنى: العَلِي، نوعٌ من المبالغة في العلاء المرتفع عن النقائص.

"البَّر": هو المحسن، والله تعالى هو البرُّ في الحقيقة، إذ ما من بِرٍّ وإحسان إلا وهو تعالى مُوليه، وقيل: هو العطوف على عباده ببرِّه ولطفه. "التواب": هو الذي يُيَسِّر أسباب التوبة لعباده ويوفقهم لها، وقيل: الذي يقبل توبة عباده مرةً بعد أخرى، وقيل: يرجع على كل مذنب بالإنعام عليه، من التَّوْب، وهو الرجوع. "المنتقم": هو البالغ في العقوبة لمن يشاء. "العَفُو": فعول من العفو، وهو التجاوز عن الذَّنب وترك العقاب عليه، وأصله: المحو والطَّمْس، وهو أبلغ من الغفور؛ لأن الغفران ينبئ عن الستر، والعفو عن المحو. "الرؤوف": ذو الرأفة؛ أي: كثير الرحمة والشفقة على عباده. "مالك الملك": وهو الذي يُنْفِذُ مشيئته في ملكه كيف يشاء إيجادًا وإعدامًا، وإبقاءً وإفناءً، لا مردَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه. "ذو الجلال والإكرام": هو الذي لا شرف ولا كمال إلا وهو له، ولا مكرمة إلا وهي صادرةٌ منه، فالجلال له في ذاته، والإكرام منه فائضٌ على خلقه. "المقسط": هو العادل الذي لا يجور، من أَقْسَط: إذا عدل. "الجامع": هو الذي يجمع الخلائق ليوم الحساب، وقيل: هو المؤلف بين المتمائلات والمتباينات والمتضادات في الوجود، وقيل: الجامع لأوصاف الحمد والثناء على الاستحقاق. "الغني": هو الذي لا يحتاج إلى أحدٍ في شيء، وكلُّ أحدٍ مُحتاج إليه، وهذا هو الغنى المطلق لا يشاركه تعالى فيه غيره. "المغني": هو الذي يغني من يشاء من عباده، وقيل: هو الذي يغني

خواصَّ عباده عمَّا سواه؛ بأن لم يُبْقِ لهم حاجةً إلا إليه. "المانع": هو الذي يمنع عن أهل طاعته ويحوطهم وينصرهم، وقيل: يمنع من يريد من خلقه ما يريد، ويعطيه ما يريد، وقيل: هو الذي يدفع أسباب الهلاك والنقصان في الأبدان والأديان. "الضَّار": هو الذي يضرُّ مَنْ يشاء من خلقه. "النَّافع": هو الذي يوصل النَّفع إلى مَنْ يشاء مِنْ خَلقه، حيث هو خالق النَفعُّ والضرُّ والخير والشَّر. "النُّور": هو الذي يبصر بنوره ذو العماية، ويرشد بهداه ذو الغواية، وقيل: هو الظاهر الذي به كل ظهورٍ، فالظاهر في نفسه المظهر لغيره يسمى نورًا. "الهادي": هو الذي بصَّر عباده وعرَّفهم طريق معرفته حتى أقرُّوا بربوبيته وهدى كل خلق إلى ما لابدَّ له منه في بقائه ودوام وجوده. وقيل: هو الذي هدى خواصَّ عباده إلى معرفته، فاطلعوا بها على معرفة مصنوعاته، فيكون أول معرفتهم بالله تعالى، ثم يعرفون غيره به، وهدى عامة خلقه - أي: مخلوقاته - حتى استشهدوا بها على معرفة ذاته وصفاته، فيكون أول معرفتهم بالأفعال، ثم يرتقون منها إلى الفاعل. وإلى المرتبة الأولى الإشارة بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] خطابًا منه تعالى للنبي - عليه الصلاة والسلام - وهو معرفة الأقوياء من خواصِّ عباده، وإليها الإشارة بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "عرفت ربي بربي، ولولا ربي ما عرفت ربي"، وبقوله - عليه الصلاة والسلام -: "لولا الله ما اهتدينا". وإلى الثانية الإشارة بقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي

أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53]، {أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف: 185]. "البديع": فعيل بمعنى مفعِل؛ أي: المبدع، وهو الذي أبدع الأشياء؛ أي: أوجدها من العدم، وقيل: هو الذي أتى بما لم يسبق إليه، وقيل: هو الذي لم يعهد مثله، فالله هو البديع مطلقًا؛ لأنه لا مثل له في ذاته ولا نظير له في صفاته وأفعاله. "الباقي": هو الذي لا ينتهي تقدير وجوده في الاستقبال إلى آخرٍ ينتهي إليه، وقيل: هو الدائم الوجود الذي لا يقبل الفناء. "الوارث": هو الذي يَرِثُ الخلائق ويبقى بعد فنائهم، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا} [مريم: 40]: أي: يموت أهلها ويبقى ملكه. "الرشيد": هو الذي أرشد الخلق إلى مصالحهم؛ أي: هداهم ودلَّهم عليها، فعيلٌ بمعنى مُفْعِل. وقيل: هو الذي تنساق تدبيراته إلى غاياتها على سَنَنِ السَّداد بلا إشارة مُشِيْرٍ، ولا تَسْديد مُسَدِّد. "الصبور": هو الذي لا يعاجل العصاة بالانتقام، وهذا قريبٌ من معنى الحليم، والفرق بينهما: أن المذنب لا يأمن العقوبة في صفة الصَّبور كما يأمنها في صفة الحليم. " [حديث] غريب". قيل: ما من اسمٍ من الأسماء التي في هذا الحديث إلا وقد ورد به الكتاب والسنة الصحيحة غير لفظ (الصبور) فإنه ما وجد إلا في هذا الحديث، وفي قوله - عليه الصلاة والسلام -: "ما أحد أصبر على أذًى يسمعه من الله تعالى".

1635 - عن بُرَيْدة: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سَمعَ رجلًا يقولُ: اللهمَّ إِنِّي أسألُكَ بأنَّكَ أنتَ الله لا إله إلاَّ أنتَ، الأَحَدُ الصَّمدُ الذي لم يَلِدْ ولم يُولَدْ، ولم يَكُنْ له كفُوًا أحدٌ، فقال: "دَعا الله باسْمِهِ الأَعظَمِ، الذي إذا سُئِلَ بهِ أَعْطَى، وإذا دُعِيَ به أَجابَ". "عن بُرَيدَة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يقول: اللهم إني أسألك بأنَّك أنت الله لا إله إلا أنت، الأحد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفُوًا أحد، فقال: دعا الله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب"؛ (الأعظم) هنا: بمعنى العظيم؛ لأن جميع أسماءه تعالى عظيمة. وقيل: كل اسمٍ هو أكثر تعظيمًا له تعالى، فهو أعظم مما هو أقل تعظيمًا، فالرحمن أعظم من الرحيم؛ لأنه أكثر مبالغةً، ولفظ (الله) أعظم من الرب؛ لأنه لا شريك له في التسمية به لا بالإضافة ولا بغيرها؛ بخلاف (الربِّ). والفرق بين قوله: (إذا سئل به أعطى) وبين قوله: (إذا دعي به أجاب): أن الثاني أبلغ، فإن إجابة الدعاء تدل على شرف الداعي عند المجيب، فيتضمن أيضًا قضاء حاجته؛ بخلاف السؤال فإنه قد يكون مذمومًا، ولذلك ذُمَّ السائل في كثيرٍ من الأحاديث، ومُدح التَّعفف عنه. 1636 - وعن أَنسٍ - رضي الله عنه - قال: كنتُ جالسًا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَسجدِ، ورجلٌ يُصلي، فقال: اللهمَّ إني أسألُكَ بأنَّ لكَ الحَمْد، لا إلهَ إلاَّ أنتَ الحنَّانُ المنَّانُ، بديعُ السَّماواتَ والأرضَ، يا ذا الجَلالِ والإِكرامِ! يا حيُّ يا قَيُّومُ! أسأَلُكَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "دَعَا الله باسمِهِ الأعظمِ الذي إذا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ، وإذا سُئِلَ به أَعطَى". "عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: كنت جالسًا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ورجلٌ

يصلي فقال: اللهم إني أسألُكَ بأنَّ لك الحمد، لا إله إلا أنت، الحنَّان المنَّان"؛ أي: الذي يكثر المَنَّ على عباده، وهو النِّعمة. "بديع السموات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قَيُّوم! أسألك. . . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دَعَا الله باسمه الأعظم، الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سئل به أعطى". 1637 - عن أَسْمَاءَ بنتِ يَزِيدَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسمُ الله الأعظمُ هاتينِ الآيَتَيْنِ: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، وفَاتِحَةِ آلِ عِمْرَانَ: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ". "عن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ}، وفاتحة آل عمران: {الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} " 1638 - قال: "دَعْوةُ ذي النُّونِ إذ دَعَا وهُوَ في بطْنِ الحُوتَ: لا إلهَ إلاَّ أنتَ سبحانَكَ إِنِّي كنتُ من الظَّالِمِينَ، لَمْ يَدْعُ بها رجلٌ مسلمٌ في شيءٍ إلاَّ استجابَ لهُ". "وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعوة ذي النون"؛ أراد به: يونس - عليه السلام -. "إذ دعا وهو في بطن الحوت": وذلك أن الله تعالى بَعَثَ يونس - عليه السلام - إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فدعاهم إلى الإيمان فلم يؤمنوا، فأوحى الله تعالى إليه أن أخبرهم: أنَّ العذاب يأتيهم بعد ثلاثة أيامٍ.

فخرج يونس - عليه السلام - من بينهم فظهر سحابٌ أسود ودَنَا حتى وقف فوق بلدهم فظهر منه دخانٌ، فلما أيقنوا أنه سينزل عليهم العذاب خرجوا مع أزواجهم وأولادهم ودوابهم إلى الصحراء، وفرقوا بين الأولاد والأمهات من الإنسان والدَّواب، ورفعوا أصواتهم بالتضرع والبكاء، وآمنوا وتابوا عن الكفر والعصيان، وقالوا: يا حيُّ حين لا حي، يا محيي الموتى، يا حيُّ لا إله إلا أنت، فأذهب الله عنهم العذاب. فدنا يونس - عليه السلام - يومًا من بلدهم بعد ثلاثة أيامٍ ليعلم كيف حالهم، فرأى من البعد أن البلد معمور كما كان، وأهله أحياءٌ، فاستحى وقال: قد كنت قلت لهم: إن العذاب ينزل عليكم بعد ثلاثة أيامٍ، ولم ينزل، فذهب ولم يعلم أنه قد نزل عليهم ودُفِع عنهم، فسار حتى أتى سفينةً وركبها، فلما ركبها وَقَفَتْ السفينة، فبالغوا في إجرائها فلم تجر. فقال الملاحون: هنا عبد آبقٌ فقرعوا بين أهل السفينة فخرجت القرعة على يونس، فقال: أنا العبد الآبق، فألقى نفسه في البحر، فالتقمه حوت بأمر الله، فأمر الله أن يحفظه، فلبث في بطنه أربعين يومًا، وسار به إلى النيل، ثم إلى بحر فارس، ثم إلى دجلة، فدعا يونس - عليه السلام - فقال: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}؛ أي: أنا من الظالمين؛ بخروجي من بين قومي قبل أن تأذن لي به، فاستجاب الله له، وأمر الحوت بإلقائه إلى أرض نصيبين؛ اسم بلدةِ من بلاد الشام. "لم يدع بها رجلٌ مسلمٌ في في شيءٍ إلا استجاب الله له".

4 - باب ثواب التسبيح والتحميد والتهليل

4 - باب ثَواب التَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل (باب ثواب التسبيح والتحميد والترتيل والتكبير) مِنَ الصِّحَاحِ: 1639 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفْضَلُ الكلامِ أربعٌ: سُبحانَ الله، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلا الله، والله أكبرُ". وفي روايةٍ: "أَحَبُّ الكلامِ إلى الله أربعٌ: سُبْحانَ الله، والحَمْدُ للهِ، ولا إلهَ إلا الله، والله أكبرُ، لا يَضُرُّكَ بأيهِنَّ بَدَأْتَ". "من الصحاح": " عن سَمُرَة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفضل الكلام أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"، الظاهر أن المراد من (الكلام): كلام البشر فإن الثلاث الأُوَل، وإن وُجدت في القرآن، لكن الرابعة لم تُوجد فيه، ولا يفضل ما ليس فيه على ما هو فيه، ولأنه روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفضل الذكر بعد كتاب الله سبحان الله. . . " الخ، والموجب لفضلها: اشتمالها على جملة أنواع الذكر من التنزيه والتحميد والتوحيد والتمجيد. "وفي روايةٍ: أحبُّ الكلام إلى الله تعالى أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضُّرك بأيهِن بَدَأْتَ"؛ يعني: إن بدأت بـ (سبحان الله) جاز، وإن بدأت بـ (الحمد لله) جاز، وكذلك بـ (لا إله إلا الله) أو بـ (الله أكبر). وهذا يدل على أن كل جملةٍ منها مستقلةٌ لا يجب ذكرها على نظمها المذكور، لكن مراعاته أولى؛ لأن المتدرج في المعارف يعرفه أولًا بنعوت جلاله؛

أعني: تنزيه ذاته عما يوجب حاجةً أو نقصًا، ثم بصفات كماله وهي صفاته الثبوتية التي بها يستحق الحمد، ثم يعلم أن من هذه صفته لا مماثل له، ولا يستحق الألوهية غيره، فينكشف له من ذلك أنه أكبر، إذ كل شيءٍ هلكٌ إلا وجهه. 1640 - وقال: "لأَنْ أقولَ: سُبحانَ الله، والحمدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ الله، والله أكبرُ أَحَبُّ إليَّ مما طَلَعَتْ عليهِ الشمسُ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأَنْ أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحبُّ إليَّ مما طلعَتْ عليه الشمس"؛ أي: من الدنيا وما فيها من متاعها. 1641 - وقال: "مَنْ قالَ: سُبحانَ الله وبحمدِهِ في يومٍ مائةَ مرةٍ حُطَّتْ خطاياهُ وإنْ كانتْ مثلَ زَبَدِ البحرِ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال: سبحان الله وبحمده": مصدر منصوب بفعل واجب إضماره؛ أي: أسبِّح سبحان الله. "وبحمده": الباء فيه للمقارنة، والواو زائدة؛ أي: أسبِّحه تسبيحًا مقترنًا بحمده، أو معناه: أبتدئ بحمده. "في كل يوم مئة مرة حُطَّتْ"؛ أي: أُسقِطَتْ وأُزيلَتْ عنه. "خطاياه وإن كانت مثل زَبَدِ البَحْرِ"، هذه وأمثالها كنايات عَبَّرَ بها عن الكثرة عرفًا.

1642 - وقال: "مَن قالَ حينَ يُصبحُ وحينَ يُمسي: سُبحانَ الله وبحمدِه مائةَ مرَّةٍ؛ لم يَأتِ أحدٌ يومَ القيامةِ بأَفْضَلَ ممَّا جاءَ به إلاَّ أحدٌ قالَ مثْلَ ما قالَ، أو زادَ عليهِ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده مئة مرة لم يأت أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به": تقديره: لم يأت أحد بمثل ما جاء به، أو بأفضل مما جاء به. "إلا أحدٌ قال مثلَ ما قال أو زادَ عليه"، فالاستثناء متصل. 1643 - وقال: "كَلِمتانِ خَفِيْفتانِ على اللِّسانِ، ثَقِيلتانِ في المِيزانِ، حَبيبَتانِ إلى الرَّحمنِ: سُبحانَ الله وبحمدِهِ سُبحانَ الله العظيم". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم": وإنما صارتا أحب؛ لأن فيهما المدح بالصفات السَّلبية التي يدل عليها التنزيه، وبالصفات الثبوتية التي تدل على الحمد. 1644 - وقال: "أيعْجِزُ أحدُكم أنْ يَكسِبَ كلَّ يومٍ ألفَ حسنةٍ؟ يُسَبحُ مائةَ تسبيحةٍ، فيُكتَبُ لهُ ألفُ حسَنةٍ، أو يُحَطُّ عنهُ ألفُ خَطيئةٍ". "عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيَعْجزُ أحدُكم أن يكسب كلَّ يوم ألفَ حسنة؟ يسبِّح مئة تسبيحة، فيُكْتَبُ له ألف حسنة"؛ لأن الحسنة الواحدة تضاعف بعشر أمثالها.

"أو يُحَطُّ عنه ألف خطيئة"، وذلك بمشيئة الله تعالى. 1645 - وسُئلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الكلامِ أفضلُ؟ قال: "ما اصطَفَى الله لملائكتِهِ؛ سبحانَ الله وبحمدِهِ". "وعن أبي ذر أنه سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الكلام أفضل؟ قال: ما اصطفى الله"؛ أي: الذي اختار من الذِّكْرِ. "لملائكته": أمرهم بالدوام عليه لغاية فضيلته: "سبحان الله وبحمده". 1646 - وعن جُوَيرية: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ مِن عندِها بُكْرةً حينَ صلَّى الصُّبحَ وهي في مَسجدِها، ثم رجعَ بعدَ أنْ أَضْحَى وهي جالسةٌ، فقال: "ما زلتِ على الحالِ التي فارقتُكِ عليها؟ "، قالت: نعَمْ، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لقَدْ قُلتُ بعدَكِ أربعُ كلماتٍ ثلاثَ مرَّاتٍ، لو وُزنَتْ بما قلتِ منذُ اليومِ لَوَزنَتْهُنَّ: سُبحانَ الله وبحمدِهِ عددَ خلقِهِ، ورِضَا نفْسِهِ، وَزِنَةَ عرشِهِ، ومِدَادَ كلماتِهِ". "وعن جُويرِيَة": كان اسمها بَرّة، غيَّره - عليه الصلاة والسلام - إلى جُوِيْرِيَة. "أن النبي - عليه الصلاة والسلام - خرج من عندها بُكْرَةً"؟ إلى المسجد "حين صلَّى الصبح"؛ أي: حين أراد أن يصلي الصبح. "وهي في مسجدها"؛ أي: في الموضع الذي هَيَّأَتْهُ للصلاة. "ثم رجع بعد أن أَضْحَى"؛ أي: دخل في وقت الضحى، وقيل: أي:

بعد أن صلَّى صلاة الضحى. "وهي جالسةٌ، فقال: ما زلْتِ على الحال التي فارقتُكِ عليها؟ قالت: نعم، قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: لقد قلْتُ بعدك"؛ أي: بعد أن خرجت من عندك. "أربعَ كلماتٍ، ثلاث مرَّات، لو وُزِنَتْ"؛ أي: قُوبِلَتْ. "بما قلْتِ"؛ أي: بجميع ما قُلْتِ من الذِّكْرِ. "منذُ اليوم لورنَتْهُنَّ"؛ أي: لسَاوَتْهُنَّ في الوزن، أو هو من باب المغالبة؛ أي: لغلبتهن بالوزن، والضمير عائدٌ إلى (ما) باعتبار معناها. "سبحان الله وبحمده عددَ خلقه": نصبٌ على المصدر؛ أي: أعدُّ تسبيحة وتحميدة عددَ خلقه؛ أي: بعدد كل واحد من مخلوقاته. "ورضا نفسه"؛ أي: بقدر ما يرضاه. "وزِنَة عرشه"؛ أي: بثقل عرشه. "ومِدَادَ كلماته"؛ (المداد): مصدر مثل المدد، وهو الزيادة والكثرة؛ أي: بمقدار ما يساويها في الكثرة بمعيارٍ، أو كيلٍ، أو وزنٍ، أو ما أشبهه من وجوه الحصر والتقدير. وهذا تمثيل يراد به التقريب؛ لأن الكلام لا يدخل في الكيل، وكلماته تعالى هو كلامه، وهو صفة، وصفاته لا تنحصر بالعدد، فالمراد إذًا المجاز مبالغةً في الكثرة. أو (كلماته): كتبه وصحفه المنزَّلة، و (كلماته) أيضًا تطلق على جميع أوامره، وعلى الموجودات.

1647 - وقال: "مَن قال: لا إلهَ إلاَّ الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلكُ، ولهُ الحَمْدُ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، في يومٍ مائةَ مَرَّةٍ؛ كانَتْ لهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقابٍ، وكُتِبَتْ لهُ مائةُ حَسَنةٍ، ومُحِيَتْ عنهُ مائةُ سَيِّئةٍ، وكانَ لهُ حِرزًا مِنَ الشيطانِ يومَهُ ذلكَ حتى يُمسيَ، ولَمْ يأْتِ أحدٌ بأفضلَ مما جاء به إلا رجلٌ عملَ أكثرَ منه". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قديرٌ، في يوم مئة مرة كانت له عِدل" بكسر العين وفتحها، بمعنى المِثْل. "عشر رقاب"؛ أي: ثواب عتق عشر رقاب، وهو جمع رقبة. "وكُتبت له مئة حسنة، ومُحيت"؛ أي: أُزيلَت. "عنه مئة سيئة، وكانت"؛ أي: هذه الكلمة، أو هذه التهليلة. "له حِرْزًا"؛ أي: حفظًا ومنعًا. "من الشيطان يومَه ذلك حتى يمسي"، قال النووي: هذا أجر المئة، ولو زاد عليها لزاد الثواب، وهذه المئة أعم من أن تكون متوالية أو متفرقة، ولكن الأفضل أن تكون متوالية وأن تكون في أول النهار؛ لتكون حِرْزًا في جميع نهاره. "ولم يأتِ أحدٌ بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل أكثر منه" بأي عملٍ كان من الحسنات. 1648 - وقال: "لا حول ولا قوةَ إلاَّ بالله العَليِّ العظيم كَنْزٌ من كُنوزِ الجنَّةِ".

"عن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حول ولا قوة إلا بالله"، قيل: معناه: لا حركة ولا قوَّة إلا بمشيئة الله تعالى، وقيل: (الحول): الحيلة، وهي ما يتوصل به إلى حالة ما في خفية؛ أي: لا تَوَصُّلَ إلى تدبير أمرٍ أو تغيير حالٍ إلا بمشيئة الله تعالى ومعونته. وقيل: معناه: لا تحول عن معصية الله إلا بعصمة الله، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيق الله تعالى وإقداره على ذلك. "كنزٌ من كنوز الجنة"، والمراد: أن هذا الذِّكْر يُدَّخر لقائله، ويعدُّ من الأجر والثواب ما يقع له في الجنة موقِعَ الكنز في الدنيا، ولا شكَّ أن الجنة وما يؤدِّي إليها خير الكنوز. مِنَ الحِسَان: 1649 - قال: "مَن قالَ: سُبحانَ الله العَظيم وبحمدِهِ؛ غُرِسَت لهُ نخلةٌ في الجنَّةِ". "من الحسان": " عن جابرٍ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قال: سبحان الله العظيم وبحمده غُرِسَتْ له نخلةٌ في الجنة" بكل مرةٍ قالها، وإنما خصَّ النَّخل؛ لأنها أنفع الأشجار وأطيبها ثمرًا. 1650 - وقال: "ما مِن صَباحٍ يُصْبحُ العِبادُ إلاَّ منادٍ يُنادي: سَبحُوا الملِكَ القُدُّوس". "وعن الزبير - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من صباحٍ يُصْبحُ العباد

إلا منادٍ يُنادي: سَبِّحوا الملك القُدُّوس"؛ أي: قولوا: سبحان الملك القدوس، أو قولوا: سبوح قدوسٌ ربُّ الملائكة والروح. 1651 - وقال: "أفضلُ الذِّكر: لا إلهَ إلاَّ الله، وأفْضَل الدُّعاءِ: الحَمْدُ للهِ". "وعن جابرٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفضل الذِّكر: لا إله إلا الله"؛ لأن في هذه الكلمة: توحيده تعالى، وإثبات الألوهية لله تعالى، ونفيها عما عداه، وبه صحَّة الإيمان، أو بما في معناه، وليس هذا فيما سواه من الأذكار. "وأفضل الدعاء: الحمد لله"؛ لأن الدُّعاء عبارة عن أن يَذْكُرَ ربَّه ويطلب منه شيئاً، وكلاهما موجود في (الحمد لله) فإن من قال: (الحمد لله) فقد دعا الله على وجه التَّعظيم، وطلب منه الزيادة لقوله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، ولذا جعل فاتحة الكتاب أم القرآن. 1652 - وقال: "الحَمْدُ للهِ رأْسُ الشُّكرِ، ما شَكَرَ الله عبدٌ لا يَحْمَدُهُ". "وعن عبد الله بن عمرو أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحمد رأس الشكر"؛ لأنه أدلُّ على مكان النعمة؛ لخفاء الاعتقاد، ولما في أعمال الجوارح من الاحتمال، فجعل الحمد باللسان رأس الشكر وأصله. "ما شَكَرَ الله عبدٌ لا يحمده" فيكون التَّارك للحمد كالمعرض عن الشكر رأسًا، فهو إحدى شعب الشكر، فالحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، والشكر هو مقابلة النعمة قولاً بذكرها والثناء الحسن عليها، وعملاً بالجوارح بمكافأتها حسب الطاقة، أو اعتقادًا بتصور نعمة المنعم.

1653 - وقال: "أوَّلُ مَن يُدعَى إلى الجنَّةِ يومَ القيامةِ: الذينَ يَحمَدُونَ الله في السَّرَّاءَ والضَّرَّاءَ". "وعن اين عباسٍ - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أول من يُدْعَى إلى الجنة يوم القيامة الذين يحمدون الله تعالى في السَّرَّاء"؛ أي: الرَّخَاء، "والضَّرَّاء"؛ أي: الشدة، وقيل: السَّرَّاء؛ أي: الغنى، والضَّرَّاء: الفقر؛ أي: الذين يرضون عن الله بما أجرى عليهم من الحكم غنًى كان أو فقرًا، شدةً كانت أو رخاءً، وهذا هو الكمال في العبودية. 1654 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وقال مُوسَى: يا ربِّ، علِّمني شيئًا أَذْكُرُكَ بهِ، قال قُل: لا إلهَ إلاَّ الله، لو أن السَّماواتِ السَّبع وعامِرَهُنَّ غيرِي، والأَرَضيْنَ السَّبعَ وُضعْنَ في كِفَّةٍ، ولا إلهَ إلاَّ الله في كفةٍ لَمَالَتْ بهنَّ لا إلهَ إلاَّ الله". "وعن أبي سعيدٍ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال موسى - صلى الله عليه وسلم -: يا ربِّ! علِّمني شيئًا أذكرك به؟ قال تعالى: قل: لا إله إلا الله، لو أن السَّموات السَّبع وعامِرَهُنَّ": عامر المكان من به عمارة ذلك المكان وصلاحه، والمراد هنا: جنس من يعمرها من المَلَك وغيره، والله تعالى عامرها خَلْقًا وحِفْظًا، وقد دخل فيه منْ حيث يتوقف عليه صلاحها توقفهن على الساكن فيهنَّ، ولذا استثنى وقال: "غيري"، أو يراد بالعامر: الحاضر والله تعالى حاضرٌ فيهنَّ علمًا واطلاعًا. "والأرضين السبع وضعن في كِفَّة" بكسر الكاف وتشديد الفاء، هو الميزان يطلق لكل مستدير.

"ولا إله إلا الله في كفةٍ لمالَتْ بهنَّ لا إله إلا الله"؛ والمراد: أن مفهوم هذه الكلمات لو وُزِنَتْ بالسماوات ويالملائكة الموكَّلين عليها ويالأرضين السبع لرجحت هذه الكلمات، كيف لا وجميع ما سوى الله بالنظر إلى وجوده تعالى كالمعدوم الفاني، إذ كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه، والمعدوم لا يوازن الله الثابت الموجود. 1655 - وعن أبي سَعيد الخُدْري، وأبي هُريرة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قَالَ: لا إلهَ إلاَّ الله والله أكبرُ؛ صَدَّقَهُ ربُّه، قالَ: لا إلهَ إلاَّ أنا، وأنا أكَبَرُ، وإذا قالَ: لا إلهَ إلاَّ الله وحدَهُ لا شريكَ له، يقولُ الله: لا إلهَ إلاَّ أَنا وحدِي لا شَريكَ لي، وإذا قالَ: لا إلهَ إلا الله لهُ الملكُ وله الحمدُ، قال: لا إلهَ إلاَّ أنا، ليَ الملكُ، وليَ الحمدُ، وإذا قالَ: لا إلهَ إلاَّ الله، لا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلاَّ بالله، قالَ: لا إلهَ إلا أنا، لا حَوْلَ ولا قوَّةَ إلاَّ بيَ"، وكانَ يقولُ: "مَن قالَها في مرَضهِ، ثم ماتَ لم تَطْعَمْهُ النارُ". "وعن أبي سعيدٍ الخدري وأبي هريرة عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: من قال: لا إله إلا الله والله أكبر صدَّقه ربه فقال: لا إله إلا أنا، وأنا أكبر، وإذا قال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الله: لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي، وإذا قال: لا إله إلا الله له الملك وله الحمد قال: لا إله إلا أنا لي الملك ولي الحمد، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله قال: لا إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي، وكان"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "يقول: من قالها"؛ أي: هذه الكلمات. "في مرضه ثم مات لم تطعمه النار"؛ أي: لم تأكله، استعار الطعمة للإحراق مبالغةً.

1656 - وعن سَعْد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه -: أنه دخلَ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - على امرأةٍ وبينَ يَدَيْهَا نَوًى، أو حَصًى تُسَبحُ به، فقالَ: "ألا أخبرُكِ بما هوَ أَيْسَرُ عليكِ مِن هذا وأفْضَل؟، سُبحانَ الله عدَدَ ما خلقَ في السَّماءِ، وسبحانَ الله عددَ ما خلقَ في الأَرضِ، وسبحانَ الله عددَ ما بينَ ذلكَ، وسبحانَ الله عددَ ما هوَ خالِقٌ، والله أكبُر مثْلَ ذلكَ، والحَمْدُ للهِ مثلَ ذلكَ، ولا إله إلاَّ الله مثلَ ذلكَ، ولا حولَ ولا قوَّةَ إلاَّ بالله مثلَ ذلكَ"، غريب. "وعن سعد بن أبي وقاص: أنه دخل مع النبي - عليه الصلاة والسلام - على امرأةٍ وبين يديها نَوَى": نواة التمر. "أو حصا"؛ جمع حصاة، (أو) هذه تردد من الراوي. "تسبِّح به فقال: ألا أخبرك بما هو أيسر عليك من هذا أو أفضل؟ " شكٌ من الراوي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: (أيسر عليك) أو قال: (أفضل)، وقيل: يمكن أن يكون (أو) بمعنى (بل). "سبحان الله عدد ما خلق في السماء، وسبحان الله عدد ما خلق في الأرض، وسبحان الله عدد ما بين ذلك، وسبحان الله عدد ما هو خالق"؛ أي: خالقه. "والله أكبر مثل ذلك، والحمد لله مثل ذلك"؛ أي: (اللُّه أكبر) عدد ما خلق في السماوات، والله أكبر عدد ما خلق في الأرض، و (الله أكبر) عدد ما هو خالقٌ، وكذا في أخواته. "ولا إله إلا الله مثل ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله مثل ذلك"، وإنما كان أفضل لأنه اعترافٌ بالقصور، وأنه لا يقدر أن يحصى ثناؤه، وفي العد بالنَّواة إقدام على أنه قادرٌ على الإحصاء. "غريب".

1657 - وقال: "مَن سَبَّحَ الله مائةً بالغَداةِ، ومائةً بالعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ حَجَّ مائةَ حَجَةٍ، ومَنْ حَمِدَ الله مائةً بالغَداةِ، ومائةً بالعَشِيِّ كَانَ كَمَنْ حمَلَ على مائةِ فرَسٍ في سَبيلِ الله، ومَنْ هَلَّلَ الله مائةً بالغَداةِ، ومائةً بالعَشِي كَانَ كَمَنْ أعتقَ مائةَ رقبةٍ مِن وَلَدِ إسْماعيلَ، ومَن كبَّرَ الله مائةً بالغَداةِ، ومائةً بالعَشِي لم يأتِ في ذلكَ اليومِ أحدٌ بأَكْثرَ ممَّا أتَى به إلاَّ مَن قالَ مثلَ ذلكَ، أو زادَ على ما قالَ"، غريب. "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سبَّح الله مئةً بالغداة ومئةً بالعشي كان كمن حج مئة حَجَّة، ومن حمد الله مئة بالغداة ومئةً بالعشي كان كمن حمل على مئة فرسٍ في سبيل الله، ومن هلل الله"؛ قال: لا إله إلا الله. "مئةً بالغداة ومئةً بالعشي كان كمن أعتق مئة رقبة من وُلْد إسماعيل" بالضم ثم السكون، هو الرواية، وهو كالوَلَد - بفتحتين - يقع على الواحد والاثنين والجمع، والمراد من (ولد إسماعيل): العرب؛ لأنهم أفضل أصناف الناس. "ومن كبَّر الله مئةً بالغداة ومئةً بالعشي لم يأت في ذلك اليوم أحدٌ بأكثر مما أتى به"؛ أي: لم يأتِ أحدٌ يوم القيامة بأفضل مما جاء به؛ أي: بمثله. "إلا من قال: مثل ذلك أو زاد على ما قال". "غريب". 1658 - وقال: "التَّسبيحُ نِصْفُ الميزانِ، والحَمْدُ للهِ يَمْلَؤُهُ، ولا إلهَ إلاَّ الله ليسَ لها حجابٌ دونَ الله حتَّى تَخْلُصَ إليهِ"، غريب.

"وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: التَّسبيح نصف الميزان، الحمد لله يملؤه"، المراد منه: إما بيان التَّسوية بينهما لِملء كلٍّ منهما نصفًا، فيملآن معًا الميزان، وذلك لأن الأذكار التي هي أم العبادات البدنية تنحصر في نوعين: أحدهما التَّنزيه، والآخر التَّحميد، والتَّسبيح يستوعب القسم الأول، والتَّحميد يتضمن القسم الثاني، فكان كلٌّ منهما نصف الميزان، وكلاهما يملآنه. وإليه أشار - عليه الصلاة والسلام - بقوله: "كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان". وأما بيان تفضيل الحمد على التسبيح، فإن ثوابه ضعف ثواب التسبيح؛ لأن التسبيح نصف الميزان والتحميد وحده يملؤه، وذلك لأن الحمد المطلق إنما يستحقه من كان مبرأً عن النقائض منعوتًا بنعوت الجلال وصفات الإكرام، فيكون الحمد شاملاً للأمرين، دالاً عليهما، وإليه أشار بقوله: "بيدي لواء الحمد يوم القيامة". "ولا إله إلا الله ليس لها حجابٌ دون الله"؛ أي: عند الله تعالى. "حتى يخلص"؛ أي: يصل "إليه": وينتهي إلى محل القَبول، والمراد بهذا وأمثاله: سرعة القبول، وكثرة الثواب. "غريب". 1659 - وقال: "ما قال عَبْدٌ: لا إلهَ إلاَّ الله مُخلِصًا قطُّ إلاَّ فُتِحَتْ له أبوابُ السَّماءِ حتَّى تُفضيَ إلى العَرشِ ما اجتَنَب الكَبائَرِ"، غريب. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصًا قط إلا فُتِحَتْ له أبواب السماء حتى يفضي"؛ أي: يصل "إلى العرش

ما اجتَنَبَ الكبائر"، أشار به إلى أن كمال السرعة والقبول مقيد باجتناب الكبائر، وإلا فمطلق الثواب يترتب عليه، لكن للمجتنب أتمُّ وأكمل. "غريب". 1660 - وقال: "لَقِيْتُ إبراهيمَ صلوات الله عليهما ليلةَ أُسريَ بي، فقال: يا محمدُ، أَقرِئْ أُمَّتَكَ مني السَّلامَ، وأَخبرْهم: أن الجنَّةَ طَيبةُ التُّربةِ، عَذْبةُ الماءِ وأنَّها قِيْعانٌ، وأنَّ غِراسَها: سُبحانَ الله، والحَمْدُ للهِ، ولا إلهَ إلاَّ الله، والله أكبرُ"، غريب. "وعن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقيْتُ إبراهيم ليلة أُسْرِيَ بي"؛ أي: ليلة المعراج. "فقال: يا محمد! أقرئ أُمَّتك"؛ أي: أوصلهم. "منِّي السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة": وهي التراب؛ أي: تراب الجنة طيب. "عذبة الماء"؛ أي: ماؤها حلوٌ طيب. "وأنها قِيعان" بكسر القاف: جمع قاع، وهو الأرض المستوية الخالية من الشجرة، والقيعة مثله. "وأن غِراسها" بكسر الغين المعجمة، جمع: غَرسٍ - بالفتح -، وهو ما يُغْرَس، والغِرَاس إنما يصلح في التربة الطيبة، وينمو بالماء العذب، وأحسن ما يتأتى في القيعان. "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر"؛ يعني: أن هذه

الكلمات تُورث قائلها النخلة فأطلق اسم السبب وإرادة المسبب. "غريب". 1661 - عن يُسَيْرةَ - كانت مِنَ المُهاجِرَاتِ - قالت: قالَ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكنَّ بالتسبيح، والتَّهليل، والتقديسِ، واعْقِدْنَ بالأَنامِلِ، فإنَّهُنَّ مَسْؤُولاتٍ مُستَنْطَقَاتٌ، ولا تَغْفُلْنَ، فتُنْسَينَ الرَّحمَة". "عن يسيرة بنت ياسر وكانت من المهاجرات قالت: قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عليكنَّ بالتَّسبيح"، هذا تحريض وإغراء؛ أي: الْزَمْنَ التَّسبيح؛ أي: قول: سبحان الله. "والتهليل"؛ أي: قول: لا إله إلا الله. "والتقديس"؛ أي: قول: سبوحٌ قدوس رب الملائكة والروح، والمراد: جنس الذِّكْرِ أيَّ لفظ كان. "واعقِدْنَ بالأنامل": عقد الشيء بالأنملة: عده؛ حرضهُنَّ - عليه الصلاة والسلام - على أن يحصِيْنَ تلك الكلمات بأناملهنَّ؛ ليحط بذلك من الذنوب يدل على أنهُنَّ كُنَّ يعرفْنَ عقد الحساب. "فإنهن"؛ أي: الأنامل. "مَسْؤولات"؛ أي: يُسْأَلْنَ يوم القيامة عما اكتسبن، بأي شيءٍ استُعملت. "مُسْتَنْطَقَات" بخلق النُّطق فيها، فيشهدْنَ لصاحبهنَّ أو عليه، وفيه حثٌّ على استعمال الأعضاء فيما يرضي الربَّ تعالى، وتعريض بالتحفظ عن الفواحش والآثام. "ولا تغفُلْنَ": عن الذِّكْرِ.

5 - باب الاستغفار والتوبة

"فتنَسَّيْنَ الرَّحمة" بصيغة المجهول: من الإنساء، والمراد بنسيان الرحمة: نسيان أسبابها، يعني: لا تتركْنَ الذكْرَ فإنكنَّ لو تركتنَّ الذِّكْرَ لحرمتُنَّ ثوابه، فإن الله تعالى قال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. 5 - باب الاستِغفار والتَّوبة (باب الاستغفار والتوبة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1662 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله إِنِّي لأَستغفِرُ الله وأتوبُ إليهِ في اليومِ أكثرَ من سَبْعينَ مرَّةً". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرةً"، توبته - عليه الصلاة والسلام - كل يوم سبعين مرةً واستغفاره ليس لذنبٍ صَدَرَ منه؛ لأنه معصومٌ، بل لاعتقاد قصوره في العبودية عما يليق بحضرة ذي الجلال والإكرام، وحثٌّ للأمة على التوبة والاستغفار. فإنه - عليه الصلاة والسلام - مع كونه معصومًا، وكونه خير المخلوقات يستغفر ويتوب إلى ربه في كل يومٍ أكثر من سبعين مرةً، فكيف بالمذنبين؟! والاستغفار: طلب المغفرة بالمقال والفِعَال جميعًا، والمغفرة من الله: أن يصون العبد من أن يمسَّه عذابٌ. قال علي - رضي الله عنه -: كان في الأرض أمانان من عذاب الله، فرفع أحدهما،

فدونكم الآخر فتمسكوا به، أما المرفوع فرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما الباقي منهما فالاستغفار، (1) قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] * * * 1663 - وقال "إنه لَيُغَانُ على قَلْبي، وإنِّي أَسْتَغْفِرُ الله في اليومِ مائةَ مرَّةٍ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنه"؛ أي: إنَّ الشأن. "لَيُغَان على قلبي"؛ أي: يُغَطَّى عليه، من الغَيْن وهو السَّتْر، وقوله: (على قلبي) في موضع الرفع لنيابته عن فاعل (يغان)، يعني: ليستر قلبي ويمنعه عن الحضور شيءٌ من السهو الذي لا يخلو منه البشر. قيل: لما كان - عليه الصلاة والسلام - أتم القلوب صفاءً وأكثرها ضياءً، وكان لم يكن له بدٌ من النزول إلى الرُّخص، والالتفات إلى حظوظ النفس من معاشرة الأزواج والأولاد والأكل والشرب والنوم، فكان إذا تعاطى شيئًا من ذلك أسرع كدورته إلى القلب لكمال رقَّته وفَرْطِ نورانيته، فكان إذا أحسَّ بشيء من ذلك يلوم نفسه بترك كمال الحضور، ويعده تقصيرًا ويستغفر منه، ولذا قال: "وإني لأستغفر الله في اليوم مئة مرة". * * * 1664 - وقال: "يا أيُّها الناسُ، توبُوا إلى الله، فإنِّي أَتوُبُ في اليومِ مائةَ مرَّةٍ". "وعن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أيها الناس! توبوا إلى الله فإني أتوب إليه في اليوم مئة مرة". * * *

1665 - وقالَ فيما يَروي عن الله تعالَى أنه قال: "يا عِبَادِي!، إنِّي حرَّمْتُ الظُّلمَ على نفْسي، وجعلْتُهُ بينَكم مُحرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادي!، كلُّكُمْ ضَالٌّ إلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُوني أَهْدِكُم، يا عِبادِي!، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إِلاَّ مَنْ أَطعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعمُوني أُطْعِمْكُمْ، يا عِبادي!، كلُّكم عارٍ إلاَّ مَن كَسَوْتُه، فاسْتَكْسُوني أكْسُكُم، يا عِبَادي!، إنَّكم تُخْطِئونَ باللَّيلِ والنَّهارِ، وأنا أغفرُ الذُّنوب جميعًا، فاستغفروني أَغْفِرْ لكم، يا عِبَادي!، إنكم لنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فتضُرُّوني، ولنْ تَبلُغوا نفْعي فَتَنْفَعُوني، يا عِبَادي!، لو أن أوَّلَكم وآخِرَكُمْ وإنْسَكُم وجِنَّكُم كانُوا على أَتْقَى قَلْبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زادَ ذلكَ في مُلْكي شيئًا، يا عِبَادي، لو أن أَوَّلَكم وآخِرَكُم وإنْسَكْم وجِنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما نقَصَ ذلكَ من ملكي شيئًا، يا عِبَادي!، لو أن أوَّلَكم وآخِرَكُم وإنسَكُم وجِنَّكم قامُوا في صَعيدٍ واحدٍ، فسأَلَوني، فأعطَيْتُ كلَّ إنْسانٍ مَسْأَلتَهُ، ما نقَصَ ذلكَ مما عِنْدي إلاَّ كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادي!، إنَّما هي أَعمالُكم أُحْصِيها علَيكُم، ثم أُوَفِّيكم إيَّاها، فمَن وجدَ خَيْراً فليَحْمَدِ الله، ومَن وجدَ غيرَ ذلك فلا يَلُومَنَّ إلاَّ نفسَه"، رواهُ أبو ذَرٍّ، وكان أبو إدريسَ الخَوْلانيُّ إذا حدَّث بهذا الحديثِ جَثَا على رُكبتيْهِ. "وعن أبي ذر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيما يروي عن الله تعالى أنه قال: يا عبادي! إني حرَّمْتُ الظُّلم على نفسي"؛ أي: تقدستُ وتعاليتُ عن الظلم، فهو في حقِّي كالشيء المحرَّم على الناس. "وجعلته بينكم محرماً"؛ أي: حَرَّمْتُ عليكم ومنعتكم منه شرعًا. "فلا تَظالموا" بفتح التاء، حذفت إحدى التاءين تخفيفًا. "ياعبادي! كلُّكم ضالٌ"، قيل المراد به: وصفهم بما كانوا عليه قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لا أنهم خلقوا على الضلالة، والأوجه أن يراد: أنهم لو تُرِكُوا بما

في طِباعهم من الشَّهوات وإهمال النظر لضلُّوا. "إلا من هديته، فاستهدوني أهدِكُم، يا عبادي! كلُّكم جائعٌ إلا من أطعمته، فاستطعموني أُطْعِمْكُمْ، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كَسَوْتُه فاستكْسُوني أكْسُكُمْ"؛ المراد بالإطعام والكسوة: بسطهما. "يا عبادي! إنكم تخطئون" بضم التاء، وروي بفتحها وفتح الطاء؛ أي: تذنبون. "بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضُرِّي فَتَضُرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني"؛ أي: لا قدرة لكم على إيصال ضُرٍّ أو نفعٍ إلي، فإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، وإن أسأتم فلها. "يا عبادي! لو أن أوَّلكم"؛ أي: من الأموات. "وآخركم"؛ أي: من الأحياء. "وإنسكم وجنكم": إنما خصَّهما لاختصاص التَّكليف بهما، وتعاقب الفجور والتقوى عليهما. "كانوا على أتقى قلب": وفيه حذف؛ أي: على تقوى أتقى قلبٍ، أو على أتقى أحوال قلب. "رجلٍ واحدٍ منكم"؛ أي: لو كنتم على غاية التقوى. "ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم"؛ أي: كانوا على غاية الفجور والكفر. "ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ"، والمراد به: مقامٌ واحدٌ لأن اجتماع

السؤال فيه وازدحام أرباب الحاجات مما يدهش المسؤول عنه يبهته ويعسر إنجاح مآربهم. "فسألوني، فأعطيت كل إنسانٍ مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيَط" بكسر الميم؛ أي: الإبرة. "إذا أُدْخِل البحر"؛ معناه: لا ينقص شيئًا، فضرب المثل بالمِخْيَط في البحر؛ لأنه غاية ما يُضْرَب به المثل في القِلَّة، والمقصود: التقريب إلى الأفهام بما شاهدوه؛ فإن البحر من أعظم المرئيات، والإبرة من أصغر الموجودات، مع أنها صقيلة لا يتعلق بها ماء، أو يقال: إنه من باب الفرض؛ يعني: لو فرض النقص في ملك الله تعالى لكان بهذا القدر. "يا عبادي! إنما هي"؛ أي: إنما الأمر والقصة. "أعمالكم"؛ أي: جزاء أعمالكم. "أحصيها"؛ أي: أحفظها. "عليكم"؛ أي: أحفظها عليكم وأكتبها؛ يعني: ما جزاء أعمالكم إلا محفوظ عندي لأجلكم. "ثم أوفيكم إياها"؛ أي: أعطيكم جزاء أعمالكم تامًا وافيًا، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر. "فمن وجد خيرًا فليحمد الله"؟؛ أي: فليعلم أنه من فضل الله؛ لأنه هو الذي وفَّقه على الطاعة والأعمال الصالحة. "ومن وجد غير ذلك"؛ أي: شرًا. "فلا يلومَنَّ إلا نفسَه"؛ لأنه صدر من نفسه، قيل: هذا صريحٌ في أن الخير من الله، والشر من النفس.

"وكان أبو إدريس الخولاني إذا حدَّث بهذا الحديث جثى على ركبتيه"؛ تعظيمًا له. * * * 1666 - وقال: "كانَ في بني إسْرائيلَ رجلٌ قَتَلَ تسْعةً وتسْعينَ إنساناً، ثم خَرَجَ يَسأَلُ، فأَتى راهِباً، فسأَلَهُ، فقالَ لَهُ: أَلي تَوبةٌ؟، قال: لا، فقتَلَهُ، وجعَل يَسأَلُ، فقالَ لَهُ رجلٌ: ائْتِ قَريةَ كذا وكذا فإنَّ فيها قوماً صالحين، فأَدْركَهُ المَوتُ في الطَّريقِ، فَنَأَى بَصَدْرِهِ نَحوَها، فاختصمَتْ فيهِ ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العَذابِ، فَأَوْحَى الله إلى هذه: أنْ تَقَرَّبي، وإلى هذه: أنْ تَبَاعِدي، وقال: قِيسُوا ما بينَهما، فَوُجِدَ إلى هذه أقربَ بشبرٍ، فَغُفِرَ لهُ". "عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كان في بني إسرائيل رجل قتل تسعة وتسعين إنساناً، ثم خرج": من بينهم يتردد و "يسأل" الناس قبول توبته بعد أن قتل تسعةً وتسعين إنسانًا. "فأتى راهبًا فسأله فقال: أله"؛ أي: ألهذا الفعل "توبة؟ "، ويروى: (هل لي توبة؟). "فقال"؛ أي: الراهب في جوابه: "لا"؛ أي: لا تقبل توبتك. "فقتله"؛ أي: الرجل ذلك الراهب. "وجعل يسأل فقال له رجلٌ: ائت قرية كذا وكذا"؛ أي: القرية الفلانية؛ فإنَّ فيها من يفتيك، فقصد تلك القرية. "فأدركه الموت" قبل أن يصلها. "فناى بصدره نحوها"؛ أي: نهض به عن القرية الأولى، وأقبل بوجهه إلى القرية التي قصدها للتوبة، (النوء): النهوض بكدِّ ومشقةٍ.

"فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب"؛ يعني: قالت ملائكة الرحمة: نحن نذهب به إلى الرحمة؛ لأنه تائبٌ لتوجهه إلى هذه القرية للتوبة، وقالت ملائكة العذاب: نحن نذهب به إلى العذاب؛ لأنه قتل مئة نفسٍ ولم يتب بعد. "فأوحى الله تعالى"؛ أي: أمر. "إلى هذه"؛ أي: إلى القرية التي قصدها للتوبة. "أن تقرَّبي": من هذا الميت؛ لتكون المسافة بينه وبينك أقل. "وإلى هذه"؛ أي: القرية التي قتل فيها الراهب. "أن تباعدي"؛ لتكون المسافة بينه وبينك أبعد. "وقال"؛ أي: الله تعالى: (قيسوا ما بينهما)؛ أي: قدِّروا وانظروا إلى أيتهما أقرب. "فَوُجِد إلى هذه"؛ أي: إلى القرية التي قصدها للتوبة. "أقرب بشبرٍ، فغفر له"، وهذا يدل على غاية سعة رحمة الله لطالب التوبة من الذنب، ونهاية عنايته به، رزقنا الله ذلك بلطفه. * * * 1667 - وقال: "والذي نفْسي بيدِهِ لِو لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ الله بكم، ولَجَاءَ بقَومٍ يُذْنِبُونَ، فيستغفِرُونَ الله، فيغفِرُ لهم". "عن أبي هريرة وأبي أيوب - رضي الله عنهما - أنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده! لو لم تُذْنِبوا لَذَهَبَ الله بكم": الباء للتعدية. "ولجاء بقومٍ يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم"، فيه تحريضٌ على استيلاء الرجاء على الخوف. * * *

1668 - وقال: "إنَّ الله يَبْسُطُ يَدَهُ باللَّيلِ لِيتوبَ مُسِيءُ النهارِ، ويَبْسُطُ يَدَهُ بالنَّهارِ لِيتَوبَ مُسيءُ اللَّيلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمسُ مِن مَغْرِبها". "عن أبي موسى أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى يَبْسُطُ يده بالليل ليتوب مُسِيءُ النهار، ويبسُطُ يده بالنهار ليتوب مُسِيءُ الليل حتى تَطْلُعَ الشَّمس من مغربها"، (يبسط يده) تعالى: كنايةٌ عن التوسع في الجود، والاغتناء بتوبة العباد، وكثرة تجاوزه عن الذنوب؛ أي: لا يعاجلهم بالعقوبة بل يمهلهم ليتوبوا، أو عن طلب التوبة لجريان العادة عند طلب أحدٍ من أحدٍ شيئًا أن يبسط يده إليه؛ أي: يدعو المذنبين إلى التوبة. * * * 1669 - وقال: "مَن تابَ قبلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمسُ مِنْ مَغرِبها تابَ الله عليهِ". "عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ العبدَ إذا اعترَفَ"؛ أي: أقرَّ بكونه مُذنبًا وعَرَفَ ذَنْبَه. "ثم تاب"؛ أي: ندم على ما فعل من الذنوب الماضية، وعزم فيما بعد ذلك أن لا يعود إلى الإذناب. "تاب الله عليه"؛ أي: قَبِلَ توبته، وتجاوز عن سيئاته. * * * 1670 - وقال: "إنَّ العَبْدَ إذا اعتَرفَ، ثمَّ تابَ؛ تابَ الله عليهِ". "عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه"، مفهوم هذا الحديث وأشباهه: يدل على أن

التوبة لا تقبل بعد طلوع الشمس من المغرب إلى يوم القيامة. وقيل: هذا مخصوصٌ لمن شاهد طلوعها، فمن وُلِدَ بعد ذلك أو بَلَغَ وكان كافراً فآمن، أو مذنبًا فتاب يُقْبَل إيمانه وتوبته لعدم المشاهدة. * * * 1671 - وقال: "لَلَّهُ أَشدُّ فَرَحًا بتوبةِ عبْدِهِ حينَ يَتُوبُ إليه مِن أَحدِكم كانَ مَعَهُ راحلَتُهُ بأَرضٍ فَلاَةٍ، فانفلَتَتْ منهُ، وعليها طَعامُهُ وشرابُهُ، فأَيسَ منها، فأَتَى شجرةً، فاضطَجَعَ في ظِلِّها قد أَيسَ مِنْ راحِلَتِهِ، فبَينَما هوَ كذلك إذ هُوَ بها قائمةً عندَهُ، فأَخَذَ بخِطَامِها، ثم قالَ مِن شدَّة الفَرَحِ: اللهمَّ أنتَ عَبْدي، وأنا ربُّكَ، فأَخْطَأَ مِن شِدَّةِ الفرَحِ". "وعن أنس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لَلَّه" بفتح اللام، للابتداء أو القسم. "أشدُّ فرحًا بتوبة عبده حين يتوب إليه"، (الفرح): كنايةٌ عن الرضاء وسرعة القبول؛ أي: أرضى وأقبل لها. "من أحدكم"؛ أي: من فرح أحدكم. "كان [على] راحلته بأرضٍ فلاة"؛ أي: مفازة بعيدة من الأُنْسِ والعَمَارة. "فانفلتت"؛ أي: نَفَرَتْ. "عنه وعليها طعامه وشرابه"؛ يعني: زاده وماؤه على ظهرها. "فَأَيسَ منها"؛ يعني: كان حزنه على غاية الشِّدة بذهاب الرَّاحلة وخوف نفسه من عدم الزاد والماء. "فأتى شجرةً فاضطجع في ظلها، قد أَيسَ من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها"؛ أي: الرجل حاضر بتلك الرَّاحلة حال كونها "قائمة عنده"، من غير

طَلَبٍ ولا تَعَبٍ. "فأخذَ بِخِطامِها"؛ أي: بِزِمَامِها. "ثم قال من شِدَّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شِدَّة الفرح"؛ يعني: أراد أن يحمد الله بما أنعم عليه من ردِّ راحلته فسَبَقَ لسانه. * * * 1672 - وقال: "إنَّ عَبْداً أَذْنَبَ ذَنْباً، فقالَ: ربِّ! أذَنبْتُ ذنْبًا، فاغفِرْهُ، فقالَ ربُّه: أَعَلِمَ عَبْدي أن لهُ ربًّا يغْفِرُ الذَّنبَ ويأخذُ بِهِ؟، غفرتُ لعَبْدي، ثم مكَثَ ما شاءَ الله، ثم أَذْنَبَ ذَنْبًا، فقال: ربِّ! أذنبتُ ذَنْبًا آخر، فاغفِرْهُ لي، فقالَ: أَعَلِمَ عَبْدي أن لهُ ربًّا يغفِرُ الذَّنبَ، ويأْخذُ بِهِ؟، قد غَفَرتُ لعَبْدي، ثمَّ مكَثَ ما شاءَ الله، ثم أَذنَبَ ذَنْبًا، فقال: ربِّ! أذنَبْتُ ذنبًا آخرَ، فاغفرْهُ لي، فقالَ: أَعَلِمَ عبدي أن لَهُ ربًّا يغفرُ الذَّنْبَ ويأخذُ به؟، غفرتُ لعبدي، فليَعْمَلْ ما شاء". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عبدًا أذنب ذنبًا فقال: ربِّ! أذنبْتُ ذنبًا فاغفره لي، فقال ربه: أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنوب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا، فقال: ربِّ! أذنبت ذنباً آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنوب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي، ثم مكث ما شاء الله، ثم أذنب ذنبًا فقال: ربِّ! أذنبت ذنبًا آخر فاغفره لي، فقال: أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي فليعمل ما شاء"؛ أي: من الذنوب التي بينه وبيني مما لا يتعلق بحقوق العباد، ثم لِيَتُبْ، وهذه الصيغة للتَّلطف وإظهار العناية والشفقة؛ أي: إن فَعَلْتَ أضعافَ ما كنْتَ تفعل واستغفرْتَ منه، غفرْتُ لك، فإني أغفرُ الذُّنوب جميعًا، ما دمْتَ

تتوب عنها وتستغفر، ولكن ذلك مشروطٌ بأن تكون نيته أن لا يعود إلى الذَّنب. * * * 1673 - عن جُنْدُبٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثَ: "إنَّ رجُلًا قال: والله لا يغفرُ الله لفُلانٍ، وإنَّ الله قالَ: مَنْ ذَا الذي يتَأَلَّى عليَّ أَنِّي لا أَغفِرُ لفُلانٍ؟! فإنِّي قد غفَرتُ لفلانٍ، وأحبَطْتُ عَمَلَكَ"، أو كما قال. "عن جندب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّث: أن رجلًا قال: والله لا يغفر الله لفلان، وإن الله قال: مَنْ ذَا الذي يَتَأَلَّى عليَّ"؛ أي: يحلف باسمي. "أني لا أغفر لفلانٍ؟ فإني قد غفرْتُ لفلانٍ وأحبطْتُ عملَك"؛ أي: أبطلت قَسَمَك وجعلته كذبًا أيها الحالف، أني لا أغفر لعبدي فلان، قد غفرت له على خلاف زعمك وأدخلته الجنة على رغمك. "أو كما قال"؛ أي: الرسول - عليه الصلاة والسلام - من هذه الألفاظ، أو شيءٍ معناه هذا. * * * 1674 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سيدُ الاستِغفارِ أنْ تقولَ: اللهمَّ أنتَ ربي، لا إلهَ إلاَّ أنت، خَلَقْتَني، وأنا عبدُك، وأنا على عَهْدِكَ ووَعْدِكَ ما استَطَعْتُ، أَعُوذُ بكَ مِن شَرِّ ما صَنَعتُ، أَبُوءُ لكَ بنعْمتِكَ عليَّ، وأَبُوءُ بذَنْبي، فاغفِرْ لي، فإنَّه لا يغفرُ الذُّنوبَ إلاَّ أنتَ، قالَ: ومَن قالَها مِن النَّهارِ مُوْقِنًا بها، فماتَ مِن يَومِه قبلَ أنْ يُمسيَ فهوَ مِن أهلِ الجنَّةِ، ومَن قالَها مِن اللَّيلِ وهو مُوقنٌ بها، فماتَ قبلَ أنْ يُصْبحَ فهو مِن أهلِ الجنَّة". "عن شدَّاد بن أَوْسٍ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيد الاستغفار أن تقول: اللهمَّ! أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك

ووعدك"؛ أي: أنا مُقِيْمٌ على الوفاء بما عاهدتني في الأزل من الإقرار بربوبيتك، ومُوْقنٌ بما وعدتني من البعث والنَّشْر وأحوال القيامة، والثواب والعقاب. "ما استطعت": إشارة إلى الاعتراف بالعجز والقصور عن كُنْهِ الواجب من حقِّ طاعته؛ أي: لا أقدر أن أعبدك كما تحب وترضى، ولكن أجتهد بقدر طاقتي. "أعوذ بك من شرِّ ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليَّ، وأبوء بذنبي"، أصل (البَوْء): اللزوم؛ أي: أقرُّ لك بما أنعمت عليَّ، وأعترف بما اجترحْتُ من الذنوب. "فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، ومن قالها من النهار موقنًا [بها] ": نصبٌ على الحال؛ أي: اعتقادًا بها. "فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من أهل الجنة"؛ يعني: يموت مؤمنًا يدخل الجنة لا محالة. * * * مِنَ الحِسَان: 1675 - قال: "قالَ الله تعالى: يا ابن آدمَ! إنَّكَ ما دَعَوْتَني ورَجَوْتَني غَفَرتُ لكَ على ما كانَ فيكَ، ولا أُبالي، يا ابن آدمَ! لو بلغَتْ ذُنوبُك عَنانَ السَّماءِ لم استغفرتَني غفَرتُ لكَ، ولا أُبالي، يا ابن آدمَ! إنَّك لو أَتيتَني بقُرابِ الأَرضِ خَطايا، ثم لَقِيْتَني لا تُشرِكُ بي شيئًا لأَتيتُكَ بقُرابها مغفرةً"، غريب. "من الحسان": " عن أبي ذرٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: يا ابن آدم!

إنَّك ما دعوتَني ورجوتَني"؛ أي: ما دمت تَدْعوني وترجو مَغفِرَتي ولا تقنُطُ من رحمتي. "غفرتُ لك على ما كان فيك" من الذنوب. "ولا أبالي"؛ أي: لا يعظمُ علي مغفرتُك، وإن كانت ذنوبك كثيرةً. "يا ابن آدم! لو بلغتْ ذنوبك عَنان السماء" بفتح العين: وهو ما ظهر لك منها إذا رفعتَ رأسك إلى السماء، ويروى: (أعنانَ السماء)، أي: نواحيها، يعني: لو كانت ذنوبك بحيث تملأ ما بين الأرض والسماء. "ثم استغفرتني": وتبتَ إليَّ منها. "غفرتُ لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو لقيتَني بقُراب الأرض" بضم القاف وكسرها والضم أشهر؛ أي: بملئها "خطايا"، في تقدير النصب على التمييز مِن قراب الأرض. "ثم لقيتَني لا تشركُ بي شيئًا لأتيتُك بِقرَابها مغفرةً"، تمييز أيضًا. "غريب". * * * 1676 - وقال: "مَن عَلِمَ أَنِّي ذُو قُدرةٍ على مَغفرةِ الذُّنوبِ غَفَرتُ لهُ، ولا أُبالي، ما لم يُشركْ بي شَيئًا". "عن ابن عباسٍ أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: مَن علمَ أني ذو قدرةٍ على مغفرةِ الذنوب غفرتُ له ولا أبالي ما لم يشركْ بي شيئًا"، وهذا يشير إلى أن اعتراف العبدِ يكون سببًا لغفران الذنوب. * * *

1677 - وقال: "مَن لَزِمَ الاستِغفارَ جعَلَ الله لهُ من كلِّ ضيْقٍ مَخْرَجًا، ومِن كلِّ همٍّ فَرَجًا، ورَزَقَه مِن حيثُ لا يحتَسِبُ". "وعن عبد الله بن عباسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ لَزِمَ الاستغفارَ"؛ أي: داوَمَ عليه. "جعلَ الله له مِن كلِّ ضيقٍ مَخرجًا"؛ أي: طريقًا يُخرجه من كلِّ أمرِ عسير. "ومِن كل هَمٍّ فرَجًا"؛ أي: خلاصًا. "ورزَقَه مِن حيثُ لا يحتسب"؛ أي: من حيث لا يرجو ولا يخطر بباله. * * * 1678 - وقال: "ما أَصَرَّ مَن استَغفرَ وإنْ عادَ في اليومِ سَبْعينَ مرَّةً". "وعن أبي بكرٍ الصديق - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أَصَرَّ مَن استغفر"، الإصرار: الثبات والدوام على المعصية، يعني: من عملَ معصيةً ثم استغفر فندم على ذلك خرجَ عن كونه مُصِراً. "وإن عاد" إلى الذنب "في اليوم سبعين مرةً"؛ لأن المُصِرَّ هو الذي لم يستغفر ولم يندَم على الذنب. * * * 1679 - وقال: "كلُّ بنيْ آدمَ خَطَّاءٌ، وخَيْرُ الخَطَّائينَ التوَّابُونَ". "وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلُّ بني آدم خَطَّاءٌ"؛ أي: كثير الخطأ. "وخير الخَطَّائين التَّوَّابون"، قيل: هذا يعمُّ جميعَ بني آدم حتى الأنبياء،

لكنهم خارجون من هذا الحديث؛ لكونهم معصومين، وأمَّا الزَّلات المنقولةُ عن بعضهم فتُحْمَل على الخطأ والنسيان من غير أن يكونَ لهم قصدُ إلى الزلة. * * * 1680 - وقال: "إنَّ المُؤمنَ إذا أذنَبَ كانتْ نُكتةٌ سَوداءُ في قَلْبهِ، فإنْ تابَ، واستَغْفرَ صُقِلَ قلْبُه، وإنْ زادَ زادَتْ حتى تَعْلُوَ قلْبَه، فذلِكُم الرَّانُ الذي ذكرَ الله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)}، صحيح. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المؤمنَ إذا أذنبَ كانتْ، (كان) تامةٌ هنا بمعنى حدَثَ، أنَّثها لتأنيث ما دل عليه (أذنب)، على تأويل السيئة، يعني: أنه إذا أتى بالذنب حَدَثتْ "منه نكتةٌ"؛ أي: أثرٌ. "سوداءُ في قلبه": كقطرةِ مدادٍ تقطُرُ في القرطاس. "فإن تاب واستغفر صُقِلَ قلبُه"؛ أي: أُزيلت تلك النكتة عن قلبه. "وإن": لم يتُبْ، بل "زادَ" الذنبَ "زادت" النكتة، ويظهر لكل ذنب نكتةٌ. "حتى تعلوَ قلبَه"؛ أي: تغطِّي تلك النكت نورَ القلب فيَعمى، ولا يبصر شيئًا من العلوم والحِكَم، ولا يَفْهم خيرًا، ويزول عنه الشفقة والرحمة، ويثبت في قلبه الظلمُ والفِتَن، وإيذاء الناس، والجُرْأة على المعاصي. "فذلكم الرَّان"، الخطاب للصحابة، يعني: أخاطِبُكم وأُخْبِركم بأن سَتْرَ تلك النكتِ نورَ القلب هو الرَّان. "الذي ذكرَ الله تعالى في قوله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14)} [المطففين: 14] ". هذه الآية مذكورةٌ في حقِّ الكفار، ولكن ذكرها - صلى الله عليه وسلم - تخويفًا للمؤمنين لكي

يحتَرِزُوا عن كثرة الذنوب؛ كيلا تَسْوَدَّ قلوبُهم كما اسودَّت قلوبُ الكفار. "صحيح". * * * 1681 - وقال: "إنَّ الله يَقْبَلُ توبةَ العَبْدِ ما لم يُغَرْغِرْ". "عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الله يقبلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِر"؛ أي: ما لم تبلغ روحه حلقومَه، جُعل ابتداءُ قَبْضِ الروحِ من الرِّجل؛ ليبقى القلب واللسان ذاكرًا، وليتوب إلى الله مَتابًا، ويستحلَّ من الناس عن المظالم والغِيبة، وليوصيَ بالخير آخرَ عَهْده. * * * 1682 - وقال: "إنَّ الشَّيطانَ قال: وَعِزَّتِكَ يا ربِّ، لا أَبْرحُ أُغْوي عبادَكَ ما دامَتْ أرواحُهم في أَجْسادِهم، فقالَ الربُّ عز وجل: وعِزَّتي وجَلالي، وارتفاعِ مكاني، لا أَزالُ أَغفِرُ لهم ما استَغْفرُوني". "عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الشيطانَ قال: وعِزَّتِك يا ربِّ لا أَبْرحُ"؛ أي: لا أزال أبدًا "أُغْوِي عبادَك"؛ أي: أُضلُّهم وآمرهم بالكفر والعصيان. "ما دامت أرواحهم في أجسادهم، فقال الربُّ عز وجل: وعِزَّتي وجلالي وارتفاعِ مكاني"، المراد به ارتفاعُ المكانة والمرتبةَ. "لا أزال أغفِر لهم ما استغفروني". * * *

1683 - وقال: "إنَّ الله تعالى جعَلَ بالمَغربِ بابًا عَرْضُه مَسِيْرةُ سَبْعينَ عامًا للتَّوبةِ، لا يُغْلَقُ ما لم تَطْلُعِ الشَّمسُ مِن قِبَلِهِ، وذلكَ قولُه تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} ". "عن صفوانَ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى جعلَ بالمغرب بابًا عرضُه مسيرةُ سبعين عامًا"، مبالغةً في التوسعة. "للتوبة"؛ يعني: يدخلُ توبة التائبين في ذلك الباب، فمن مات قبل غلقه قُبلت توبتُه. "لا يغلق" ذلك الباب "ما لم تطلع الشمس مِن قِبَلهِ"؛ أي: من جانب الباب. "وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} "؛ أي: بعض العلامات التي يظهرها ربك إذا قَرُبَت القيامة. {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158]. * * * 1684 - وقال: "لا تَنْقطِعُ الهِجْرةُ حتى تَنقطِعَ التَّويةُ، ولا تَنْقَطِعُ التَّويةُ حتى تطلعَ الشمسُ مِن مغربها". "وعن معاويةَ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تنقطعُ الهجرةُ حتى تنقطعَ التوبةُ"؛ أراد بالهجرة هنا: الانتقال من الكفر إلى الإيمان، ومن دار الشرك إلى دار الإسلام، ومن المعصية إلى التوبة. "ولا تنقطعُ التوبةُ حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها". * * *

1685 - وقال: "إنَّ رجلَينِ كانا في بنيْ إسرائيلَ مُتحابَّيْنِ، أحدُهما مُجتهِدٌ في العِبادَةِ والآخرُ مُذْنِبٌ، فجعَلَ المُجتهِدُ يقولُ: أَقْصِرْ عمَّا أنتَ فيهِ، فيقولُ: خَلِّني وَرَبي، حتى وجَدَهُ يومًا على ذنْبٍ استعظمَهُ، فقال: أَقْصِرْ، فقالَ: خَلِّني وَرَبي، أَبُعِثتَ عليَّ رَقِيبًا؟ فقال: والله لا يغْفِرُ الله لكَ أبدًا، ولا يُدْخِلُكَ الجنَّةَ، فبعثَ الله إليهما مَلَكًا، فقبَضَ أَرواحَهما، فاجتمعا عنْدَه، فقالَ للمُذنِبِ: اُدخُلْ الجنَّةَ برحمتي، وقالَ للآخرِ: أتَستطِيعُ أنْ تَحْظُرَ على عَبْدي رحمتي؟ فقالَ: لا يا ربِّ، قال: اذهبُوا بهِ إلى النارِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن رجلين كانا في بني إسرائيل متحابَّين"؛ أي: تجري بينهما المودة والمحبة. "أحدُهما مجتهدٌ بالعبادة"؛ أي: مبالغٌ فيها، "والآخر يقول: مذنب"؛ أي: أنا مذنبٌ. "فجعل"؛ أي: طَفِقَ "المجتهدُ يقول" للمذنب: "أقصر"؛ أي: امتنع "عما أنت فيه" من الذنب. "فيقول"؛ أي: المذنب: "خَلِّني وربِّي"؛ أي: اتركني معه فإنه غفور رحيم. "حتى وجده يومًا"؛ أي: المجتهدُ المذنبَ "على ذنبٍ استعظَمه" المجتهدُ. "فقال: أقصِرْ، قال: خَلِّني وربي، أَبُعِثْتَ، استفهام بمعنى الإنكار؛ أي: أُرْسِلْتَ "عليَّ رقيبًا؟ "؛ أي: حافظًا، يعني: ما أمرك الله أن تحفظَني. "فقال:"؛ أي: العابدُ للمذنب. "والله لا يغفرُ الله لكَ أبدًا"؛ لأنك مذنِبٌ. "ولا يُدْخِلُكَ الجَنَّة، فبعث الله تعالى إليهما مَلَكًا فقبض أرواحَهما

فاجتمعَا عنده"؛ أي: أُحيَيا بعد الموت كما يُحْيىَ سائرُ الأموات في القبور لجواب المنكر والنكير. "فقال للمذنب: ادخل الجَنَّة برحمتي"، أنا عند ظن عبدي بي، فإذا ظننتَني غفورًا رحيمًا فقد غفرت لك ورحمتك. "وقال للآخر: أتستطيع أن تحظُرَ"؛ أي: تمنعَ وتُحرِّم "على عبدي رحمتي، فقال: لا يا رب! فقال: اذهبوا به إلى النار"، إدخاله النار كان مجازاةً له على قَسَمِه بأن الله لا يغفر للمذنب ذنبَه؛ لأنه جعل الناسَ آيسين من رحمة الله، وحَكَمَ بأن الله غير غفور. * * * 1686 - عن أَسْماءَ بنتِ يَزيْدَ قالَتْ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: {قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، وَلا يُبالي"، غريب. "وعن أسماءَ بنت يزيدَ - رضي الله عنها - أنها قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يقول الله تعالى: {يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا} "؛ أي: لا تقولوا: نحن منقطعون محرومون {مِنْ رَحْمَةِ اللَّه}؛ بكثرة ذنوبنا، بل ينبغي أن تكونوا في الرجاء. " {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، ولا يبالي" بغفرانها جميعًا؛ لأنه غفورٌ رحيم. "غريب". * * *

1687 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - في قوله: {إِلَّا اللَّمَمَ}: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ تَغْفِرِ اللهمَّ تَغفِرْ جَمًّا. . . وأَيُّ عَبْدٍ لكَ لا أَلَمَّا"، غريب "وعن ابن عباس - رضي الله عنه -: في قوله تعالى: {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ} [النجم: 31 - 32] ": كبائر الإثم: كل ذنبٍ فيه حَدٌّ، والفواحش: الزنا خاصةً. {إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32]، بفتح اللام؛ أي: الصغائر، يعني: ويجزي المحسِنين المجتنِبين كبائرَ الإثم والفواحش إلا اللَّمَمَ، فإنهم لا يقدِرون أن يجتنبوها؛ لأن الأمم غير معصومين عنها، فإنها تُغفَرُ لهم بالتوبة والطاعة. "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن تَغْفِرِ اللهم تغفِرْ جَمًّا"؛ أي: كثيرًا، يعني: إن تغفر ذنوبَ عبادِك فقد غفرتَ ذنوبًا كثيرةً، فإنَّ جميعَ عبادِك كلهم خطَّاؤون. "وأي عبدٍ لكَ لا ألمَّا": يقال: ألمَّ إذا فعل اللَّمَم، وهذا البيتُ من أشعار أمية بن الصَّلْت قرأه رسول الله - عليه الصلاة والسلام - استشهادًا بأن المؤمن لا يخلو من اللَّمَم. "غريب". * * * 1688 - عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يقولُ الله تعالى: يا عبادِي!، كلُّكم ضالٌّ إلاَّ مَنْ هَدَيْتُهُ، فَسَلوني الهُدَى أَهْدِكم، وكلُّكم فُقراءُ إلاَّ مَن أَغْنَيتُ، فَسَلُوني الرِّزْقَ أَرزُقْكم، وكلكُّم مُذنِبٌ إلا مَنْ عافَيْتُ، فمَن عَلِمَ منكم أني ذُو قُدرةٍ على المغفرةِ فاستغفرَني غَفَرتُ لهُ، ولا أبالي، ولو أن أَوَّلَكم وآخِرَكم، وحَيَّكم وميتكم، ورَطْبَكم ويابسَكم، اجتمعُوا على أتْقَى قلْبِ عبدٍ مِن عِبَادي ما زادَ ذلكَ في مُلْكي جَناحَ بعَوضَةٍ، ولو أن أوَّلَكم

وآخِرَكم، وحَيَّكم ومَيتَكم، ورَطْبَكم ويابسَكم اجتمعُوا على أشقَى قلْبِ عبْدٍ مِن عبادي ما نقصَ ذلكَ من مُلْكي جَناحَ بَعُوضَةٍ، ولو أن أوَّلَكم وآخِرَكم، وجِنَّكُم وإنْسَكم، ورَطْبَكم ويابسَكم اجتمعُوا في صَعيدٍ واحدٍ، فسأَلَ كلُّ سائلٍ مِنكم ما بلغَتْ أُمنيَّتهُ، فأَعطيتُ كلَّ سائلٍ منكم مَسْأَلتَهُ ما نقَصَ ذلكَ مِن مُلْكي إلاَّ كما لو أن أحدَكم مَرَّ بالبَحْرِ، فغَمَسَ فيه إبرْةً، فَرفَعَها، ذلكَ بأَنِّي جَوادٌ ماجدٌ، أَفْعلُ ما أُريدُ، عطائي كلامٌ، وعَذابي كلامٌ، إنَّما أمري لشيءٍ إذا أردْتُ أنْ أقولَ لهُ: كُنْ، فيكونُ". "وعن أبي ذرٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله تعالى: يا عبادي! كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه، فاسألوني الهدى أَهْدِكم، وكلُّكم فقراءُ إلا من أغنيت فاسالوني الرِّزْق أَرْزُقْكم، وكلكم مذنبٌ إلا مَن عافيتُ"؛ أي: إلا مَن أعْصِمُه من الأنبياء والصِّدِّيقين، فوضَع (عافيتُ) موضعَ (عَصَمْتُ)؛ ليشعر بأن الذنب مرضٌ ذاتيٌّ، وصِحَّتُه عصمةُ الله تعالى منه. "فمن عَلِمَ منكم أني ذو قدرةٍ على المغفرةِ فاستغفرَني غفرتُ له ولا أُبالي، ولو أن أَوَّلَكم وآخرَكم وحيَّكم وميتَكم ورَطْبَكم ويابسَكم"؛ أراد بالرَّطْب: الصغائر، وباليابس: الكبائر، أو بالرَّطْب: الشجر، وباليابس: المَدَرَ والحَجَر، أو البحر والبر؛ أي: أهلَهما؛ أي: لو صار كل ما في البحر والبر من الشجر والحجَر والمَدَر والحيتان آدميًا. "اجتمعُوا على أتقى قلبِ عبدٍ من عبادي ما زادَ ذلك في مُلكي جناحَ بعوضةٍ"، وقيل: جاز أن يرادَ برطْبكم ويابسكم: عالِمُكُم وجاهِلُكم، أو شابُّكم وشيخكم، أو مطيعُكم وعاصيكم. "ولو أن أولَكم وآخرَكم وحيَّكم وميتكم ورطْبَكم ويابسَكم اجتمعوا على أشقى قلب عبدٍ من عبادي ما نقصَ ذلك من ملكي جناحَ بعوضةٍ، ولو أن

أولَكم وآخرَكم وحيَّكم وميتكم ورطْبَكم ويابسَكم اجتمعوا في صعيدٍ واحدٍ"؛ أي: في أرضٍ. "فسألَ كلُّ إنسانٍ منكم ما بلغتْ أُمنيته"، بضم الهمزة: هو اشتهاء النفس وإرادتها، يعني: كل حاجةٍ تَجري في خاطره. "فأعطيتُ كل سائلٍ منكم مسألته ما نقصَ ذلك من ملكي إلا كما لو أن أحدكم مر بالبحر فغمَس"، بفتح الميم؛ أي: أدخلَ"فيه إبرةً ثم رفعَها، ذلك": إشارة إلى قضاء الحوائج. "بأني جوادٌ"؛ أي: بسبب أني كثيرُ الجُود والكَرَم. "ماجدٌ"؛ أي: كريمٌ واسعُ العطاء. "أفعلُ ما أريدُ، عطائي كلامٌ، وعذابي كلامٌ"؛ يعني: لا أتعب بثوابِ المطيع، ولا بعقاب العاصي، ولا بالجود والعطاء، بل يَكفي في حصوله ووصوله تعلُّق إرادتي به، فإني إذا أردتُ إيجاد شيءٍ لم يتأخَّرْ كونه عن تكلمي وأمري بقولي له: كنْ. "إنما أمري لشيءٍ إذا أردت أن أقول له: كن فيكون"، هذا تفسيرٌ لقوله: (عطائي كلام وعذابي كلام). * * * 1689 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنه قَرَأَ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ}، قال: "قالَ ربُّكم: أنا أَهْلٌ أنْ أُتَّقَى، فمَن اتَّقاني فأَنا أهلٌ أَنْ أَغفِر لهُ". "عن أنس - رضي الله عنه -: عن النبي - عليه الصلاة والسلام -: أنَّه قرأ: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى} "؛ أي: حقيقٌ بأن يُتَّقَى منه.

وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [المدثر: 56]؛ أي: حقيقٌ بأن يَغفِرَ لمن اتقاه. "قال - عليه الصلاة والسلام - قال ربكم: أنا أهلٌ أن أتقَى، فمن اتقاني فأنا أهلٌ أن أَغْفِرَ له". * * * 1690 - عن ابن عُمر - رضي الله عنه - قال: إنْ كُنَّا لَنَعُدُّ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في المَجْلِسِ يقولُ: "ربِّ اغفِرْ لي، وَتُبْ عليَّ، إنَّكَ أنتَ التَّوَّابُ الغَفورُ" = مائةَ مرةٍ. "عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: إنْ كنَّا"، (إنْ) هذه مخففة من المثقلة. "لنَعُدُّ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في المجلس"؛ أي: في المَجْلِس الواحد. "يقول: ربِّ! اغفرْ لي وتُبْ عليَّ، إنك أنت التواب الرحيم، مئةَ مرة"، نصبٌ على المصدر. * * * 1691 - ورُوي عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قالَ: أَستغفِرُ الله الذي لا إلهَ إلاَّ هُوَ الحَيَّ القَيُّومَ، وأتوبُ إليهِ؟ غُفِرَ لهُ وإنْ كانَ فَرَّ مِن الزحْفِ"، غريب. "عن زيدٍ بن يَسَار مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن قال: أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحي القَيُّوم": روي منصوبًا صفة لله، ومرفوعًا بدلًا، أو بيانًا لقوله: هو. "وأتوبُ إليه، غُفِرَ له وان كان فَرَّ من الزَّحْف"؛ أي: من الحرب مع الكفار، قيل: هذا يدلُّ على أن الكبائر تُغْفَرُ بالتوبة والاستغفار. * * *

فصل

فصل (فصل) مِنَ الصِّحَاحِ: 1692 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَمَّا قَضَى الله الخَلْقَ؛ كتبَ كِتابًا فهوَ عندَهُ فَوْقَ عَرْشِه: إنَّ رَحْمتِي سَبَقَتْ غَضَبي". وفي روايةٍ: "غَلَبَتْ غَضَبي". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لمَّا قضى الله الخَلْقَ"، المراد هنا الخلق؛ أي: لمَّا خلَقَهم. "كتبَ كتابًا"، قيل: المراد بالكتاب إما القضاء الذي قضاه وأوجبه، فعلى هذا يكون معنى قوله: "فهو عنده فوقَ عرشه"؛ أي: فعِلْمُه عنده تعالى فوق العرش لا ينساه ولا ينسخه ولا يبدله، وأما اللوح المحفوظ المذكور فيه الخلق وبيان أحوالِهِم وأرزاقهِم، والأقضية النافذة فيهم، وأحوال عواقب أمورهم، فحينئذٍ يكون معناه: فذكره عنده. "إن رحمتي سبقتْ غضبي، وفي روايةٍ: غلبتْ غَضَبي" ليس المراد من السبق هنا هو السبق الزماني؛ لأن غضبه ورحمته صفتان راجعتان إلى ثوابه وعقابه، وصفاتهُ لا توصَف بالسبق والغَلَبة لإحداهما على الأخرى، بل المراد منه: بيان سعة الرحمة وشمولِها على الخلق حتى كأنها السابق والغالب، وإن أريد بالرحمة والغضب آثارُهما يَتحقَّق فيهما السبق والغلبة. * * * 1693 - وقال: "إنَّ للهِ مائْةَ رَحْمةٍ، أَنْزَلَ مِنها رحمةً واحدةً بينَ الجنِّ

والإنْسِ والبَهائِم والهَوامِّ، فَبها يتعَاطَفُونَ، وبها يَتَراحمُونَ، وبها تَعطِفُ الوَحْشُ على وَلَدِها، وأخَّر تِسْعًا وتسعينَ رحمة يَرحَمُ بها عِبادَهُ يومَ القِيامةِ". وفي روايةٍ: "فإذا كانَ يومُ القِيامةِ أكمَلَها بهذهِ الرَّحمةِ". "وعنه عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: إن لله تعالى مئة رحمةٍ، أنزل منها رحمة واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهَوَامِّ"، رحمة الله غير متناهية فلا يُحيطُها التقسيم، وإنما أراد - صلى الله عليه وسلم - أن يضرِبَ لأمته مثلًا فيعرفوا به التفاوت الذي بين قِسْط أهل الإيمان من الرحمة في الآخرة وبين قِسْط كافة المرحومين في الدنيا. "فبها"؛ أي: بتلك الرحمة الواحدة. "يتعاطَفون"؛ أي: يوصلُ الرأفة والشفقةَ بعضُهم إلى بعض. "وبها يتراحمون، وبها تعطِفُ الوحشُ على وَلدِها"؛ يعني: كلُّ شفقةٍ ورحمةٍ تصِلُ من بني آدم إلى آدمى، وكذا من جنٍّ إلى جنيٍ، ومن الحيوان إلى آخر من جنسه، أو من غير جنسه كلُّ ذلك نتيجةُ تلك الرحمةِ الواحدة التي أنزلها بين خلقه. "وأخَّر تسعًا وتسعين رحمةً يرحم بها عباده يوم القيامة". "وفي رواية" سلمان: "إذا كان يومُ القيامة أكملَها"؛ أي: الرحمة الواحدة التي أنزلَها في الدنيا. "بهذه الرحمة"، التي أخَّرها حتى يصيرَ المجموع مئة رحمة، فيرحم بها عباده من الأنبياء والمؤمنين، وفيه دليل على الإطماع في رحمته تعالى وعلى كثرتها. * * *

1694 - وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو يَعلَمُ المؤمنُ ما عندَ الله من العُقوبَةِ ما طَمعَ بجنَّتهِ أَحَدٌ، ولَو يَعلمُ الكافِرُ ما عندَ الله مِن الرحمةِ ما قَنِطَ مِن جَنَّتهِ أحدٌ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو يعلمُ المؤمنُ ما عندَ الله من العقوبةِ ما طَمِعَ بجنَّتِهِ أحدٌ"، فيه بيانُ كثرةِ عقوبتِه كي لا يغترَّ مؤمنٌ برحمته فيأمنَ من عذابه. "ولو يعلمُ الكافر ما عند الله من الرحمة" إذا دخلَ في الإسلام. "ما قنطَ من جنته أحد"، فيه بيانُ كثرةِ الرحمة كي لا يخافَ كافرٌ من الإيمان بعد سنينَ كثيرة كان في الكفر. * * * 1695 - وقال: "الجنةُ أَقْربُ إلى أحدِكُم من شِرَاكِ نَعْلِه، والنَّارُ مثْلُ ذلكَ". "وعن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجنةُ أقربُ إلى أحدكُم من شراكِ نعلِه، والنارُ مثل ذلك"، إشارة إلى المذكور؛ أي: النار مثلُ الجنة في كونها أقربَ من شِرَاك النعل، وإنما كانت الجنةُ والنارُ كذلك؛ لأن سبب دخولهما مع الشخص وهو العمل الصالح والسيئ = هو أقربُ إليه من شِراك نعله. * * * 1696 - وقال: "قالَ رجلٌ لَمْ يَعملْ خَيْرًا قطُّ لأهلهِ، وفي رواية: أَسَرفَ رجلٌ على نْفسِه، فلمَّا حضَرَهُ المَوتُ أَوصَى بنيهِ: إذا ماتَ؟ فحَرَّقوهُ، ثم اذْرُوا نصْفَه في البرِّ، ونصفَهُ في البَحرِ، فَوَالله لئِنْ قَدَرَ الله عليهِ ليُعذِّبنهُ عَذابًا لا يُعذبُه أَحَدًا مِن العالَمينَ، فلمَّا ماتَ فعَلُوا ما أَمَرَهم، فأَمرَ الله البَحْرَ، فجمعَ ما فيهِ،

وأَمرَ البرَّ، فجمَعِ ما فيهِ، ثم قالَ لهُ: لِمَ فعلتَ هذا؟ قال: مِن خَشْيَتِكَ يا ربِّ، وأنتَ أعلمُ! فغَفرَ لهُ". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: قال رجلٌ لم يعمل خيرًا قطُّ لأهله"، يُعلمَ منه: أن عمل الخير يتعدَّى منه إلى أهله وذوي قرابته، وأنه لم يعمل خيرًا لنفسه أيضًا؛ لأنه لو عمل لنفسه يتعدى منه إليهم. "وفي روايةٍ: أسرفَ رجلٌ على نفسه"؛ أي: أكثرَ من الذنوب. "فلمَّا حضره الموتُ أوصَى بنيه إذا ماتَ فحرقُوه، ثم اذرُوا نصفهَ"؛ أي: فَرِّقوا نصفَ رماده "في البر، ونصفَه في البحر، فوالله لئن قدرَ الله عليه"؛ يعني: لئن ضيَّق الله عليه الأمرَ بالمؤاخذة والمعاتبة. "ليعذبنه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين، فلَّما مات فعلوا ما أمرهم فأمر الله البحرَ فجمع ما فيه، وأمر البرَ فجمع ما فيه، ثم قال له: لم فعلتَ هذا؟ قال: مِن خشيتك يا ربِّ، وأنت أعلمُ، فغفرَ له"، وإنما غفرَ الله له؛ لأنه ليس منكِرًا للبعث، بل من خشية البعث؛ جهلًا وظنا أنه إذا فعل ذلك تُرِك فلم ينشَر ولم يعذَّب. * * * 1697 - وقال عُمر بن الخَطَّاب - رضي الله عنه -: قَدِمَ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سَبْىٌ، فإذا امرأةٌ مِنَ السَّبْي قد تَحَلَّبَ ثَدْيُها تَسعَى، إذا وَجَدَتْ صبيًا في السَّبْي أخذَتْهُ، فأَلصَقَتْهُ ببَطْنِها، وأرضعَتْهُ، فقالَ لنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَتُرَوْنَ هذهِ طارِحَةً ولدَها في النارِ؟ "، قلنا: لا وهي تقدرُ على أنْ لا تَطْرَحَهُ، قال: "للهُ أرحمُ بعبادِهِ من هذه بولدِها". "وعن عمر بن الخطاب: قدِمَ على النبي - عليه الصلاة والسلام - سبىٌ،

فإذا امرأةٌ من السَّبْي قد تحلَّبَ ثديُها"؛ أي: سال لبن ثديها؛ لكثرته بعدم ولدِها معها. "تَسْعَى"؛ أي: فيما تكلَّف من العمل، أو في طلب ولدِها فتجيء وتذ هَب. "إذا وجدت صبيًا من صبيان السبي أخذتْه، فألصقتْه ببطنِها وأرضعته" من غاية شفقتها على ولدها؛ لأنها إذا حنَّتْ على ولد غيرها كانت على ولدِها أحنَّ. "فقال النبي - عليه الصلاة والسلام -: أَتُرَوْنَ هذه طارحةً"؛ أي: تظنُّون أنها تطرَحُ "ولدها في النار"، مع شدة شفقتها عليه. "قلنا: لا"؛ أي: لا تكون طارحةً فيها. "وهي تقدِر"، الواو للحال؛ أي: حالَ قدرتها. "على أن لا تطرحَه، قال: الله أرحمُ بعباده من هذه بولدها"، وفائدة هذه الحال أنها إن اضطرت يمكن طرحُها، والله تعالى منَزَّهٌ عن الاضطرار، فلا يَطرَحُ عبدَه في النار البتةَ. * * * 1698 - وقال: "لن يُنجيَ أَحَدًا منكم عملُه! "، قالوا: ولا أنتَ يا رسولَ الله؟ قال: "ولا أنا، إلاَّ أنْ يتغمَّدَنيَ الله منهُ بِرَحْمتِهِ، فسدِّدوا، وقارِبُوا، واكْدُوا ورُوحُوا، وشيئًا مِن الدُّلْجةِ، والقَصْدَ القَصْدَ تَبْلُغُوا". "وعن أبي هريرةَ أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لن يُنجيَ أحدأ منكم عملُه"؛ يعني: لن يتخلَّصَ أحد منكم "من النار بعمله، ولن يدخلَ الجنة بعمله إلا بفضلِ الله ورحمته" يريد - صلى الله عليه وسلم - أن ينبِّه أمتَه على ألاْ يتَّكِلوا على أعمالهم اغترارًا بها، ويبين أن النجاة والفوزَ برحمته وفضله والعمل غير مؤثِّر فيهما إيجابًا.

"قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا، إلا أن يتغمَّدني الله برحمته"؛ أي: يستُرَني بها ويحفظَني كما يُحفَظ السيفُ بالغمد. "فسدِّدوا"؛ أي: بالِغُوا في السَّدَاد؛ يعني: اجعَلوا أعمالَكم مستقيمة على الحق. "وقارِبُوا"؛ أي: اطلبُوا قُربةَ الله بقدْر ما تُطِيقُون بلا إفراطٍ وتَفْرِيط. "واغدُوا"؛ أي: امشُوا في طاعة الله في أولِ النهار. "ورُوْحُوا"؛ أي: امشُوا في آخر النهار في طاعة الله. "وشيءٌ من الدُّلجة"، وهي - بضم الدال -: آخرُ الليل؛ أي: ليكن في مشيكم شيءٌ منها، فيقع بعض طاعتكم في الليل، أو (شيء): مبتدأ محذوفُ الخبر؛ أي: وشيءٌ منها مطلوبٌ فيه عملُكم. "والقصدَ القصدَ"، نصب بمقدَّر؛ أي: الزموا الطريقَ المستقيمَ الوسطَ في العمل، أو خذُوا الأمورَ بلا غلوٍّ ولا تقصير. "تبلُغوا"، جزم بجواب الأَمر؛ أي: تبلغوا المَقْصد. * * * 1699 - وقال: "لا يُدْخِلُ أَحدًا منكم عملُهُ الجنَّةَ، ولا يُجيرُه مِن النَّارِ، ولا أنا، إلا برحمةِ الله تعالى". "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يُدْخِلُ أحدًا منكم عملُه الجنةَ ولا يجبره"؛ أي: لا يخلِّصه ولا ينجيه "من النار، ولا أنا، إلا برحمة الله". * * *

1700 - وقال: "إذا أَسلَمَ العبْدُ فحَسُنَ إسلامُهُ يُكفِّرُ الله عنهُ كلَّ سيئةٍ كانَ زلَفَها، وكانَ بَعْدُ القِصاصُ: الحسَنةُ بعَشْرِ أَمثالِها إلى سبعمائةِ ضعْفٍ، والسَّيئةُ بمِثْلِها إلا أنْ يَتَجاوَزَ الله عنها". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أسلمَ العبدُ فحَسُنَ إسلامُه" بكونه عن إخلاص. "يكفرُ الله"؛ أي: يستُر "عنه" ويعفو "كلَّ سيئةٍ كان زفَّها"؛ أي: قدَّمَها وأسلفها قبل الإسلام. "وكان بعدُ" بالضم؛ أي: بعد التفكّر بالإسلام، أو بعد الإسلام. "القصاصُ"، بالرفع؛ أي: المجازاةُ واتِّباع كلِّ عمل بمثله، وفي بعض النسخ بالإضافة. "والحسنة"، بواو العطف في بعض النسخ؛ يعني: كانت الحسنة بعد الإسلام "بعشرِ أمثالها إلى سبع مئة ضعفٍ"، بخلاف قبل الإسلام، فإنه إذا عمل حسنة في الكفر ثم أسلمَ يُعطَى لكلِّ حسنةٍ ثوابُ حسنة واحدة. "والسيئةُ بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنها"، وبدون العطف في بعض النسخ، فيكون بيانا للقصاص إلى المجازاة، والتَّبع الذي يفعل معه في حسناته وسيئاته يكون كذلك. * * * 1701 - وقال: "إنَّ الله كتبَ الحسَناتِ والسِّيئاتِ، فمَنْ هَمَّ بحسنةٍ فلمْ يَعْملْها كتَبها الله لهُ عندَه حسَنةً كاملةً، فإنْ همَّ بها فعمِلَها كتبَها الله لهُ عندَهُ عشرَ حسَناتٍ إلى سَبْعمائةِ ضعْفٍ إلى أَضعافٍ كثيرةٍ، ومَنْ همَّ بسِّيئةٍ فلمْ يعمَلْها كتبَها الله لهُ عندَه حسَنةً كاملةً، فإنْ هوَ همَّ بها فَعَمِلَهَا كتَبها الله له سيئةً واحدةً".

"وعن ابن عباسٍ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى كتبَ الحسناتِ والسيئاتِ" في اللوح المحفوظ. "فمن همَّ بحسنةٍ"؛ أي: قصدَ بها. "فلم يعملْها"؛ أي: لم يتيسَّر له عملُها لعذرٍ. "كتبَها الله له عنده حسنه كاملة"، وإنما قال: عنده؛ لعدم اطِّلاَع الملائكةِ الكَتَبة على ما في النيَّات والسَّرَائر. "وإنْ همَّ بها فعَمِلَها كتبَها الله له عندَه عشرَ حسناتٍ إلى سبع مئة ضعفٍ"؛ أي: مثل. "إلى أضعافٍ كثيرةٍ، ومَن همَّ بسيئةٍ فلم يعملْها" خوفًا من الله. "كتبَها الله له عنده حسنةً كاملةً"؛ لأن تَرْكَ السيئةِ حسنةٌ. "فإن هو همَّ بها فعَمِلَها كتبَها الله له سيئةً واحدةً"، وإنما كان كذلك؛ لأن رحمتَه أكثرُ مِن غضبه. * * * مِنَ الحِسَان: 1702 - وقال: "إنَّ مثَلَ الذي يعمَلُ السيئاتِ، ثمَّ يعمَلُ الحسَناتِ كلمثَلِ رجُلٍ كانتْ عليهِ دِرْعٌ ضَيقةٌ قد خنقَتْهُ، ثم عمِلَ حسَنةً فانفكَّتْ حَلْقَةٌ، ثم عمِلَ أخرَى فانفكَّت حَلْقَةٌ أُخْرَى حتى تَخْرُجَ إلى الأَرضِ". "من الحسان": " عن عقبة بن عامر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ مَثَلَ الذي يعملُ السيئات"، بضيق صدرِه ورزقه، وتحيُّره في أمره، "ثم يعملُ الحسناتِ كمَثَل رجلٍ كانت عليهِ دِرْعٌ ضَيقةٌ قد خَنَقَتْه"؛ أي: عصرَتْ حَلْقَه وترقُوتَه مِن ضيقها.

"ثم عمل حسنةً فانفكَّت حَلْقَةٌ"؛ أي: انحلَّتْ وتوسَّعَتْ. "ثم عملَ حسنةً أخرى فانفكَّت حلقة أخرى حتى تخرجَ"؛ أي: تسقطَ تلك الدِّرعْ. "إلى الأرض"، ويخرج ذلك الرجل من ضيق تلك الدرع. * * * 1703 - عن أبي الدَّرداءَ - رضي الله عنه -: أنه سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُصُّ على المِنْبَرِ وهو يقولُ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، فقلتُ: وإنْ زَنىَ وإنْ سرَقَ يا رسولَ الله؟، فقالَ الثانيةَ: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، فقلتُ الثانيةَ: وإنْ زَنىَ وإنْ سرَقَ؟ فقالَ الثالثةَ: " {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "، فقلتُ الثالثةَ: وإنْ زَنىَ وإنْ سرَقَ يا رسولَ الله؟ قال: "وإنْ رَغِمَ أَنْفُ أبي الدَّرداء". "عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنه سمع رسولَ الله يقصُّ"؛ أي: يَعِظُ الناس "على المنبر وهو يقول: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} "؛ أي: لمن خاف من القيام بحضرةِ ربِّه يومَ القيامة. " {جَنَّتَانِ}، قلت: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! فقال الثانية: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، فقلت الثانية: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! فقال الثالثة: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، فقلت الثالثة: وإن زنى وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن رَغِمَ أنف أبي الدرداء"؛ يعني: مَن خاف الله في معصيةٍ فتركَها يعطيه الله بستانيَن في الجنة، وإن زنى وإن سرقَ في وقتِ وترك لم يُبْطِل زناؤه وسرقته ثوابَ خوفهِ من الله في معصيةِ أخرى غيرِ تلك الزَّنْية والسَّرِقة. * * *

1704 - عن عامرٍ الرَّامِ أنه قال: بينا نحنُ عندَه - يَعني: عندَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم) - إذ أَقْبَلَ رجلٌ عليهِ كساءٌ وفي يدِهِ شيءٌ قد التَفَّ عليهِ، فقال: يا رسولَ الله!، مَرَرْتُ بغَيْضَةِ شجَرٍ، فسمعتُ فيها أصواتَ فِراخِ طائرٍ، فأَخذتُهنَّ، فوَضعتُهنَّ في كِسَائي، فجاءَتْ أُمُّهنَّ، فاستدارَتْ على رأْسِي، فكشَفتُ لها عنهنَّ، فوَقَعَت عليهنَّ، فلفَفْتُهنَّ بكِسائي، فهُنَّ أُولاءِ معي، فقال: "ضَعْهنَّ"، فوضعتُهنَّ، وأَبَتْ أُمُّهنَّ إلاَّ لُزومَهنَّ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتَعجَبُونَ لِرُحْمِ أُمِّ الأَفراخ فِراخَها؟ فَوَالذي بعثَني بالحقِّ لَلَّهُ أرحمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أُمَّ الأَفْراخِ بفِراخِها، اِرْجِعْ بهِنَّ حتَّى تضَعَهنَّ مِن حَيْثُ أَخَذْتَهنَّ، وأُمّهنَّ معهنَّ"، فرَجَعَ بهنَّ. "عن عامر الرَّامِ قال: بينا نحن عنده - يعني: عند النبي عليه الصلاة والسلام - إذْ أقبل رجلٌ"؛ أي: رجع وتوجَّه. "عليه كِساءٌ" بكسر الكاف؛ أي: خرقةٌ. "وفي يده شيء قد التفَّ"؛ أي: تلفَّفَ. "عليه بثوبه، فقال: يا رسولَ الله! مررتُ بغيضةِ شجرٍ"؛ الغَيْضَة: الغابُة، وهي مجتمَعُ الأشجار، أضافَها إلى الشجر إمَّا لمزيد البيان، أو يراد بالشجر المرعى. "فسمعتُ فيها أصواتَ فراخ طائرٍ": جمع فَرْخٍ: ولدُ الطير. "فأخذْتُهنَّ فوضَعْتُهنَّ في كسائي، فجاءت أمُّهنَّ فاستدارت"؛ بمعنى: دارت. "على رأسي فكشفتُ لها عنهنَّ"؛ أي: فرفعتُ الكِساءَ عن وجه الفِرَاخ لأجل أمّهنَّ حتى رَأتهنَّ. "فوقعتْ عليهنَّ فلفَفْتُهنَّ بكِسَائي، فهنَّ أولاء معي، فقال: ضَعْهنَّ، فوضعتُهنَّ": بين يدَيِ النبي - عليه الصلاة والسلام -، فكشفَ - صلى الله عليه وسلم - عنهنَّ وعن أمهنَّ.

6 - باب ما يقول عند المصباح والمساء والمنام

"وأبتْ أمّهنَّ" عن مفارقة فِراخها "إلا لزومَهنَّ": استثناءٌ مفزَغٌ لما في (أبت) مِن معنى النفي؛ يعني: ما ذهبتْ عنهنَّ، بل ثبتَتْ معهنَّ من غاية رُحْمِها بهن. "فقال رسول الله: أتَعْجَبُون لرُحْم أمِّ الأفراخ فراخَها؟ ": الرُّحْمُ - بضم الراء وسكون الحاء وضمها أيضًا: مصدرٌ بمعنى: الرحمة. "فوالذي بعثَني بالحق، للهُ أرحَمُ بعباده من أمِّ الأفراخ": جمع قلةٍ. "بفراخها": جمع كثرةٍ. "ارجعْ بهن حتى تضعَهن من حيث أخذْتَهُنَّ، وأُمّهنَّ معهنَّ": الواو للحال. "فرجعَ بهن". * * * 6 - باب ما يقُول عند المصَّباح والمَسَاء والمَنام (باب ما يقول عند الصباح والمساء والمنام) مِنَ الصِّحَاحِ: 1705 - عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمسَى قال: "أَمسَيْنا، وأَمسَى المُلكُ للهِ، والحمدُ للهِ، ولا إله إلاَّ الله وحدَه لا شَريكَ لهُ، لهُ المُلكُ، ولهُ الحَمْدُ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، اللهمَّ إنِّي أسألُكَ مِن خَيْرِ هذهِ الليلةِ وخَيْرِ ما فيها، وأَعُوذُ بكَ مِن شَرِّها وشَرِّ ما فيها، اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ مِن الكَسَلِ، والهَرَمِ، وسُوءِ الكِبْرِ، وفِتنْةِ الدُّنيا، وعَذابِ القَبْرِ"، وإذا أَصبَحَ قالَ ذلكَ أيضًا: "أصبَحْنا، وأصبَحَ الملكُ للهِ".

وفي رواية: "ربِّ أعوذُ بكَ مِن عَذابٍ في النَّارِ، وعَذاب في القَبْرِ". "من الصحاح": " عن عبد الله أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمسَى"؛ أي: دخلَ في المساء، وهو أولُ الليل. "قال: أَمْسَينا"؛ أي: دخلْنا في المساء. "وأمسى الملكُ لله"؛ أي: صارَ له. "والحمدُ لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، اللهم! إني أسألُكَ من خير هذه الليلةِ وخيرِ ما فيها"؛ أي: خيرِ ما سكَنَ فيها، ومسألتُه - عليه الصلاة والسلام - خيرَ هذه الأزمنةِ مَجازٌ عن قَبول الطاعات التي قدَّمها فيها. "وأعوذ بك من شرِّها وشرِّ ما فيها": استعاذتُه - عليه الصلاة والسلام - من شرِّها مجازَّ عن طلب العفو عن ذنبٍ قارفَه فيها. "اللهم! إني أعوذ بك من الكَسَل"؛ أي: من أن أتثاقل في الطاعة مع استطاعتي. "والهرم": وهو كِبَرُ السّن الذي يؤدِّي إلى تساقُطِ القوى. "وسوء الكِبَر": بفتح الباء في الرواية الصحيحة. قال الخطابي: أراد به: ما يورِثُه كِبَرُ السِّنِّ من ذهاب العقل والتحفُّظِ وتخبُّطِ الرأي والعَجْزِ عن الحركة، وغيرِ ذلك مما يسوءُ به الحال. "وفتنةِ الدنيا وعذابِ القبر، وإذا أصبح"؛ أي: دخلَ في الصباح. "قال ذلك"؛ أي: ما يقول في المساء.

"أيضًا"؛ يعني: قال: "أصبَحْنا وأصبحَ المُلْكُ لله. . . " إلى آخره، إلا أنه يبدِّل الليل باليوم، وقال: (اللهم إني أسألُكَ من خير هذا اليوم إلى آخره). "وفي روايةٍ: يقول: ربِّ! أعوذ بك من عذابٍ في النار وعذابٍ في القبر"؛ يعني: يقرؤُها بعد قوله: (من الهَرَم وسوء الكِبَر). * * * 1706 - عن حُذيفةَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَخَذَ مَضْجَعَهُ مِن اللَّيلِ وضَعَ يدَه تحتَ خدِّه، ثم يقول: "اللهمَّ باسمِكَ أَموتُ وأَحيا"، فإذا استَيْقَظَ قالَ: "الحمدُ للهِ الذي أَحيانا بعدَ ما أَماتَنا، وإليهِ النُّشورُ". "وعن حُذيفة أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذَ مَضْجَعه من الليل وضعَ يدَه تحت خدِّه ثم يقول: اللهم! باسمك أموتُ وأحيا"، سمى - صلى الله عليه وسلم - النومَ موتًا لزوالِ العَقْل والحركةِ معه تمثيلًا وتشبيهًا لا تحقيقًا. "وإذا استيقظ قال: الحمد لله الذي أَحْيانا بعدما أَمَاتنا"؛ أي: ردَّ علينا القوةَ والحركةَ بعدما أزالهما بالنوم. "وإليه النُّشُور"؛ أي: الرجوعُ بعد الموت للحِساب والجَزاء يوم القيامة. * * * 1707 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَوَى أحدُكم إلى فِراشِهِ، فليَنْفُضْ فِراشَه بداخِلةِ إِزارِه، فإنَّه لا يَدري ما خلَفَهُ عليهِ، ثم يقول: بِاسْمِكَ ربي وضَعْتُ جَنْبي، وبكَ أرفعُهُ، إنْ أَمسكتَ نفْسي فارحَمْها، وإنْ أَرسلْتَها فَاحْفَظْها بما تَحفَظُ بهِ عِبَادَك الصَّالحين". وفي رواية: "ثم لْيَضْطَجعْ على شِقِّهِ الأَيمَنِ، ثم ليقل: باسمِكَ".

وفي روايةٍ: "فلينَفُضْهُ بصَنِفَةِ ثَوبه ثلاثَ مرَّاتٍ، وليَقُلْ: إنْ أَمسكْتَ نفْسي فاغْفِرْ لَها". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أوى، بالمد والقصر؛ أي: دخلَ. "أحدكم إلى فراشِه فلينفُض فِراشَه"؛ أي: فليحرِّكْه. "بداخِلَةِ إزارِه"؛ أي: بالجانب الذي يَلي الجسَد؛ ليسقُطَ ما فيه من ترابٍ وغيره، قيَّدَ النفضَ بإزاره؛ لأن الغالبَ في العرب لم يكن له إزارٌ أو ثوبٌ غير ما عليهم، وقيَّده بداخلة الإزار؛ ليبقي الخارجَة نظيفةً، أو لأن هذا أيسرُ، ولكشف العورة أقلُّ، وإنما قال هذا؛ لأن رسمَ العرب تركُ الفراش في موضعه ليلًا ونهارًا. "فإنه لا يَدْري ما خَلَفَه": - بالفتحات والتخفيف؛ أي: أقام مُقامه بعدَه. "عليه"؛ أي: على الفراش، يعني: لا يدري أيَّ شيءٍ دخلَ في فراشه بعد مفارقتهِ إياه من ترابٍ أو قَذَاةٍ أو شيءٍ من الهوامِّ المؤذية. "ثم يقول: باسمك ربِّي وضعتُ جَنبي وبك أرفعُه، فإنْ أمسكتَ نفسي"؛ أي: قبضتَ رُوحي في النوم. "فارحَمْها، وإنْ أرسلْتَها"؛ أي: رددتَها إلى الحياة وأيقظْتَها من النوم. "فاحفظْها بما تحفظُ به عبادَك الصَّالحين" من الطاعة. "وفي رواية: ثم ليضطجعْ على شِقِّه الأيمن"، قيل: أنفعُ هيئات النومِ الابتداءُ باليمين، ثم الانقلابُ إلى اليسار، ثم إلى اليمين. "ثم ليقلْ: باسمك"؛ يعني: (باسمك ربي وضعت جنبي. . .) الخ. "وفي رواية: فلينفُضْه بصَنِفة ثوبه" بفتح الصاد وكسر النون؛ أي: بطرَفِ ثوبِه.

"ثلاثَ مرات، ثم ليقُلْ: إن أمسكتَ نَفْسي فاغفر لها" بدل قوله: "فارحمها". * * * 1708 - عن البَرَاء بن عازِبٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَوَى إلى فِراشِه نامَ على شقِّه الأَيمنِ، ثم قال: "اللهم أَسلَمْتُ نفْسي إليكَ، ووَجَّهتُ وَجْهي إليكَ، وفَوَّضْتُ أَمْرِي إليكَ، وألجأْتُ ظَهْري إليكَ، رَغْبةً ورَهْبةً إلَيكَ، لا مَلْجَأَ، ولا مَنْجَا منكَ إلاَّ إليكَ، آمنْتُ بكِتابكَ الذي أَنْزَلْتَ، وبنبيكَ الذي أَرسلتَ"، وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قالَهنَّ، ثم ماتَ تحتَ ليلَتِهِ ماتَ على الفِطْرةِ". وفي روايةٍ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لرجُلٍ: "إذا أويتَ إلى فِرَاشِكَ فَتوَضَّأَ وُضُوءَك للصَّلاةِ، ثم اضْطَجعْ على شقِّكَ الأَيمَنِ، ثم قلْ: اللهمَّ أسلَمْتُ نفْسيِ إليكَ - بهذا - وقال: "فإنْ مِتَّ مِنْ لَيلتِكَ مِتَّ على الفِطْرةِ، وإنْ أَصبْحَتَ أَصبْتَ خيرًا". "وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَوى إلى فراشِه نامَ على شقِّه الأيمن، ثمَّ قال: اللهمَّ! إني أسلَمْتُ نفسي إليك، ووجَّهْتُ وجهي إليك"، النْفسُ والوجْهُ هنا بمعنى الذات، يعني: جعلتُ ذاتي طائعةً لحكمك ومنقادةً لك. "وفوضْتُ أمري إليك"؛ أي: توكَّلْتُ عليك في أمري كلِّه. "وألْجَأْتُ"؛ أي: أسنَدْتُ. "ظهري إليك"؛ أي: إلى حِفْظِك. "رغبةً ورهبةً"؛ الرَّغْبة: هي السعة في الإرادة، والرَّهْبة: هي المخافةُ مع

الفرار، وهما منصوبان على المفعول له على طريقة اللفَّ والنَّشْر، يعني: فوضعتُ أموري طَمَعًا في ثوابك وألجاْتُ ظَهري من المكاره إليك مخافةً من عذابك. "إليك": متعلِّق بقوله: (رغبة) وحدَها. "لا ملجأَ ولا مَنْجَى منك إلا إليك، آمنتُ بكتابِكَ الذي أنزلتَ، ونبيك الذي أرسلتَ"، وإنما آمنَ بنفسه؛ لأنه كان رسولًا حقًا، فكان يجب أن يصدِّقَ الله في ذلك، أو هو تعليم لأمته. "وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن قالهَنَّ"؛ أي: الكلمات المذكورة. "ثم ماتَ عن ليلته ماتَ على الفِطرة"؛ أي: على الإسلام. "وفي رواية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل: إذا أَوَيْتَ"؛ أي: أردتَ أن تأْوِيَ. "إلى فراشك فتوضَّأْ وضوءَك للصلاة، ثم اضطجعْ على شِقِّكَ الأيمنِ، ثم قل: اللهم! إني أسلمتُ نفَسي إليك، بهذا"؛ أي: أدعُ بهذا الدعاء إلى خاتمته. "وقال: فإن متَّ من ليلتك متَّ على الفِطرة، وإنْ أصبحتَ أصبتَ خيرًا". * * * 1709 - عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أَوَى إلى فِراشِه قالَ: "الحَمْدُ للهِ أَطْعَمنا، وسَقانا، وكَفانا، وآوَانا، فكَمْ مِمَّن لا كافِيَ لهُ، ولا مُؤوِيَ له". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أوى إلى فراشِه قال: الحمدُ لله

الذي أطعَمَنا وسقَانا وكفَانا"؛ أي: دفعَ عنا شرَّ المؤذِيات، وحَفِظَنَا وهيَّأ أسبابنا. "وآوانا" بمد الهمزة؟ أي: رزقَنا مساكن. والفاء في "فكم ممن لا كافيَ له": لتعليل الحمد؛ أي: كم مِن خلقِ الله لا يَكفيهم الله شرَّ الأشرار، بل تركُهم حتى غلبَ عليهم أعداؤُهم. "ولا مُؤْوِيَ له"؛ أي: كم منهم لم يجعل لهم مَسْكَنًا، بل تركَهم يتأذون في الصحراء بالبَرْد والحَر. * * * 1710 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -: أن فاطِمَةَ أتَتِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَشْكُو إليهِ ما تَلْقَى في يَدِها مِن الرَّحا، وبَلَغها أنه جاءَهُ رَقيقٌ، فلَمْ تُصادِفْه، فذكرَتْ ذلكَ لعائشةَ رضي الله عنها، فلمَّا جاءَ أخبرَتْه عائشةُ، قال: فجاءَنا وقد أَخَذْنا مَضاجِعَنا، فذهَبنا نقُومُ، فقالَ: "على مَكانِكُما"، فجاءَ فقَعدَ بَيْني وبينَها، حتَّى وَجَدْتُ بَرْدَ قَدَمِه على بَطْني، فقال: "ألا أدُلُّكُما على خَيرٍ مما سأَلتُما؟ إذا أخذْتُما مَضْجَعَكُما فسَبحا ثلاثًا وثلاثينَ، واحمَدا ثلاثًا وثلاثينَ، وكبرا أربعًا وثلاثينَ، فهو خيرٌ لكُما مِن خادِمٍ". "وعن عليٍّ - رضي الله عنه - أن فاطمةَ أتتِ النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - تشكو إليه ما تَلْقَى في يدها، من المشقة. "من" إدارةِ "الرَّحى" بيدها. "وبلَغها"؛ أي: فاطمة، "أنه جاءه رقيقٌ": من السبي فأتته لتسألَه رقيقًا ليعينَها بالخدمة. "فلم تصادِفْه"؛ أي: فلم تجد فاطمةُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام.

"فذكرتْ ذلك لعائشةَ رضي الله عنها"؛ يعني قالت لها: أخبري رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أني جئتُ لأسألَ رقيقًا. "فلمَّا جاءَ أخبرتْه عائشةُ، قال"؛ أي: عَلِي: "فجاءَنا"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "وقد أخذْنا مضاجِعَنا"؛ أي: جاء حال كوننا راقدين. "فذهبنا نقومُ"؛ أي: أردْنا لنقومَ من مضاجعنا إلى خدمته - صلى الله عليه وسلم -. "فقال: على مكانِكما"؛ أي: اثبتَا على مكانِكما؟ أي: على ما أنتما عليه من الاضطجاع. "فجاء فقعَد بيني وبينها حتى وجدتُ بردَ قدميه على بطني"، هذا يدل على أن فاطمة وعليًّا كانا تحت لحافٍ واحد، وعلى أن عليًا كان عُرْيانًا. "فقال: ألا أدلُّكما على خير مما سألْتُما"؛ أي: طلبتُما من الرقيق. "إذا أخذتُما مضجَعكما فسبِّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، وكبِّرا أربعاَّ وَثلاثين فهو خيرٌ لكما من خادم"، وهذا تحريضٌ على الصبر على مشقة الدنيا ومكارهِها من الفَقْر والمرض وغير ذلك. * * * 1711 - عن أبي هُريرَة - صلى الله عليه وسلم - قال: جاءَتْ فاطِمَةُ رضي الله عنها إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تسأله خادِمًا فقال: "ألا أَدُلُّكِ على ما هو خيرٌ مِن خَادِمٍ؟ تُسبحينَ الله ثلاثًا وثلاثينَ، وتَحمَدينَ الله ثلاثًا وثلاثينَ، وتُكبرينَ الله أَربعًا وَثلاثينَ، عندَ كلِّ صلاةٍ، وعندَ منامِكِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: جاءتْ فاطمةُ رضي الله عنها إلى النبيِّ عليه الصلاة والسلام تسألُه خادمًا"، واحدُ الخَدَم، يقع على الذكر والأنثى. "فقال: ألا أدلُّكِ على ما هو خيرٌ من خادمٍ؛ تسبِّحين الله ثلاثًا وثلاثين،

وتحَمدِين الله ثلاثًا وثلاثين، وتُكَبِّرين الله أربعًا وثلاثين عند كلِّ صلاة وعند منامك". * * * مِنَ الحِسَان: 1712 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أَصبَحَ قال: "اللهمَّ بكَ أَصْبَحْنا، وبكَ أَمسَيْنا، وبكَ نَحْيَا، وبكَ نَمُوتُ، وإليكَ المَصِيرُ"، وإذا أَمسَى قالَ: "اللهمَّ بكَ أَمْسَيْنا، وبكَ أَصبَحْنا، وبكَ نَحْيا، وبكَ نَمُوتُ، وإليكَ النُّشُورُ". "من الحسان": " عن أبي هريرة أنه قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصبحَ قال: اللهمَّ! بك أصبَحْنَا"، الباء متعلِّق بمحذوف؛ أي: أصبحنا ملتبِسين بنعمتك أو بذِكْرك واسمك. "وبك أمْسَينا، وبك نحيا، وبك نموت، وإليك المصير، وإذا أمسى قال: اللهمَّ! بك أمسَيْنا، وبك أَصْبَحْنا، وبك نحيا، وبك نموتُ، وإليك النُّشور". * * * 1713 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ أبو بكرٍ: يا رسولَ الله!، مُرْني بشيءٍ أَقولُه إذا أصبحتُ وإذا أَمْسيتُ، قالَ: "قلْ: اللهمَّ عالِمَ الغَيبِ والشَّهادةِ، فاطِرَ السَّماواتِ والأَرضِ، رَبَّ كلِّ شيءٍ ومَلِيكَه، أَشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أَنْتَ، أَعُوذُ بكَ مِن شرِّ نفسِي، ومِن شَرِّ الشَّيطانِ وشركه، قُلْهُ إذا أصبحْتَ، وإذا أمسَيْتَ، وإذا أَخَذْتَ مَضْجَعَك".

"وعن أبي هريرةَ أنه قال: قال أبو بكر: يا رسول الله! مُرْني بشيء أقولُه إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ؟ قال: قل: اللهمَّ! عالمَ الغيبِ والشهادةِ، فاطرَ السماواتِ والأرضِ"؛ أي: مخترعَهما. "ربَّ كلِّ شيء ومليكَه": فعيل بمعنى فاعل. "أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شرِّ نفسي، ومن شرَّ الشيطانِ وشركه"، بالكسر ثم السكون؟ أي: ما يدعو إليه من الإشراك بالله، ويُروى بفتحتين؟ أي: ما يُفتَنُ به الناس من حبائله، والشَّرَك حِبالةُ الصائد. "قُلْه إذا أصبحتَ، وإذا أمسيتَ، وإذا أخذتَ مضجعَك". * * * 1714 - وقال: "ما مِن عَبْدٍ يقولُ في صباحِ كلِّ يومٍ ومساءِ كلِّ ليلةٍ: باسم الله الذي لا يَضُرُّ مع اسمِهِ شيءٌ في الأرضِ، ولا في السَّماءِ وهو السميعُ العَليمُ، ثلاثَ مرات، فيضرَّهُ شيءٌ". وفي روايةٍ: "لم تُصِبْه فَجْأَةُ بلاءٍ حتى يُصْبحَ، ومَن قالَها حينَ يُصْبحُ لم تُصِبْه فَجأةُ بلاءٍ حتى يُمسِيَ". "عن عثمانَ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ما مِن عبدٍ يقول في صباح كلِّ يومٍ ومساءِ كلِّ ليلة: بسم الله الذي لا يضرُّ مع اسمه"؛ أي: مع ذِكْرِ اسمهِ عن اعتقادٍ حَسَنٍ ونيةٍ خالصة. "شيءٌ في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، ثلاث مرات، فيضرُّه شيءٌ" جواب: (ما من عبدٍ). "وفي رواية: لم تُصِبْه فُجاءةُ بلاءٍ حتى يُصْبح"، يقال: فَجَأهُ الأمرُ: إذا جاء بغتةً من غير تقدُّمِ سبب.

"ومَن قالها حين يُصبح لم تُصِبْه فُجَاءةُ بلاءٍ حتى يُمسي". * * * 1716 - عن عبد الله: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ إذا أَمسَى: "أَمْسيْنا، وأمسَى المُلكُ للهِ، والحَمْدُ للهِ، ولا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ لهُ، لهُ المُلكُ، ولهُ الحمدُ، وهو على كلِّ شَيءٍ قَديرٌ، رَبِّ أَسألُكَ خيرَ ما في هذهِ اللَّيلةِ وخيرَ ما بعدَها، وأَعوذُ بكَ مِنْ شَرِّ ما في هذه اللَّيلةِ وشرِّ ما بعدَها، ربِّ أَعُوذُ بكَ مِن الكَسَلِ، ومِن سُوءِ الكُفْرِ". وفي روايةٍ: "مِن سُوءِ الكِبَرِ، رَبِّ أعوذُ بكَ مِن عَذابٍ في النارِ، وعذابٍ في القَبْرِ"، وإذا أصبحَ قال ذلك: "أصبحْنا وأصبحَ المُلكُ للهِ". "عن عبدِ الله بن عمرَ: أن النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - كان يقولُ إذا أمسى: أمسَيْنا وأمسى المُلْكُ لله، والحمد لله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، ربِّ أسألك خيرَ ما في هذه الليلة وخيرَ ما بعدها، وأعوذ بك من شر ما في هذه الليلة وشر ما بعدها، ربِّ أعوذُ بك من الكَسَل ومن سوء الكُفْر"؛ أي: ومن شر الكفر وإثمِه وشُؤْمِه. "وفي رواية: مِن سوء الكِبَر، ربِّ أعوذُ بك مِن عذابٍ في القبر، وعذابٍ في النار، وعذاب في القبر، وإذا أصبح قال: أصبَحْنَا وأصبحَ المُلْكُ لله". * * * 1717 - وعن بعضِ بناتِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُعَلَّمُها فيقولُ: "قُولي حينَ تُصبحينَ: سبُحانَ الله وبحمدِه، لا قوةَ إلا بالله، ما شاءَ الله كانَ، وما لَمْ يَشَأْ لم يَكُنْ، أَعَلَمُ أن الله على كلِّ شيء قديرٌ، وأنَّ الله قد أَحاطَ بكلِّ شيء عِلْمًا، فإنَّه مَن قالَها حينَ يُصبحُ حُفِظَ حتى يُمْسِيَ، ومَن قالَها حينَ يُمسِي

حُفِظَ حتى يُصبحَ". "وعن بعض بناتِ النبي - عليه الصلاة والسلام - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلِّمُها فيقولُ: قولي حين تُصْبحِين: سبحانَ الله وبحمده، لا قوة إلا بالله، ما شاء الله كان، وما لم يَشَأْ لم يكنْ، اعلم أن الله على كلِّ شيء قدير، وأنَّ الله قد أحاطَ بكل شيء علمًا"، فائدة تخصيصِ ذِكْرِه في هذا المقام: للإيذان بأنَّ هذين الوصفين - أعني: القدرةَ الكاملةَ والعِلْمَ الشاملَ - هما أساس أصول الدين. "فإنه مَن قالَها حين يصبح حفظَ حتى يُمسِيَ، ومَن قالها حين يُمسِيَ حفظَ حتى يُصبحَ". * * * 1718 - عن ابن عباس، عن رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مَن قالَ حينَ يُصبحُ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} إلى قوله: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أَدرَكَ ما فاتَهُ في يَومِه ذلكَ، ومَن قالَهُنَّ حينَ يُمْسي أَدركَ ما فاتَه مِنْ ليلتِهِ". "وعن ابن عباسٍ، عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: مَن قال حين يصبحَ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ} أي: نزِّهوه عما لا يليق بعظمتهِ وكبريائه. {حِينَ تُمْسُونَ}؛ أي: حين صلاة المغرب والعشاء. {وَحِينَ تُصْبِحُونَ}؛ أي: حين صلاة الصبح. {تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}؛ أي: هو محمودٌ عند أهل السماوات والأرض، وقيل: أي: يحمده أهلهما. {وَعَشِيًّا}؛ أي: صلاة العصر. {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18]؛ أي: حين تَدْخلُون في وقت الظهر؛

يعني: صلاة الظهر. "إلى قوله: {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] أدرك ما فاته"؛ أي: يحصل له ثوابُ ما فاته منه. "مِن يومه ذلك": من وِرْدٍ وخير. "ومَن قالهنَّ حينَ يمسي أدركَ ما فاته في ليلته". * * * 1719 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قالَ إذا أَصبحَ: لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ لهُ، لهُ المُلْكُ، ولهُ الحمدُ، وهوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ؟ كانَ لهُ عِدْلُ رقَبةٍ مِن ولدِ إسْماعيلَ، وكُتِبَ لهُ عَشْرُ حسَناتٍ، وحُطَّ عنه عشرُ سَيئاتٍ، ورُى له عَشْرُ درَجاتٍ، وكانَ في حِرْزٍ مِن الشَّيطانِ حتى يُمسِيَ، وإنْ قالَها إذا أَمسَى كانَ لهُ مِثْلُ ذلك حتى يُصْبحَ". "وعن أبي عَيَّاش"، ذُكِر في "سنن أبي داود"، و"ابن ماجه"، و"جامع الأصول": بالعين المهملة والياء تحته نقطتان والشين المعجمة، ووقع في نسخ "المصابيح": ابن عباس، وهو سهوٌ من الكاتب. "أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: مَن قال إذا أصبحَ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملكُ، وله الحمدُ، وهو على كلِّ شيء قدير= كان له عدْل" بفتح العين وكسرها؛ أي: مِثْل. "رقَبةٍ من ولدِ إسماعيلَ، وكُتب له عشر حسنات، وحطَّ عنه عشر سيئات، ورفع له عشرُ درجات، وكان في حِرْزٍ من الشيطان حتى يمسي، وإن قالها إذا أمسى كان له مثلُ ذلك حتى يُصبحَ". * * *

1720 - عن الحَارِث بن مُسلِم بن الحَارِث التَّميميِّ، عن أَبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه أَسَرَّ إليهِ فقالَ: "إذا انصَرفْتَ مِن صلاةِ المَغربِ فقُلْ قبلَ أنْ تُكَلِّمَ أَحَدًا: اللهمَّ أَجِرْني من النارِ سَبع مرَّاتٍ، فإنَّكَ إذا قُلْتَ ذلكَ ثُم مِتَّ في ليلِتِكَ كُتِبَ لكَ جِوَارٌ منها، وإذا صلَّيْتَ الصُّبحَ فَقُلْ كذلكَ، فإنك إذا مِتَّ في يَومِكَ كُتِبَ لكَ جِوَارٌ منها". "عن الحارثِ بن مسلم بن الحارثِ التَّميمي، عن أبيه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه أسرَّ إليه"؛ أي: تكلَّم معه كلاما خفْيةً. "فقال: إذا انصرفتَ"؛ أي: إذا رجعتَ. "من صلاةِ المغربِ فقل قبلَ أن تكلِّم أحدًا: اللهم أَجِرْني"؛ أي: خَلِّصْني. "من النار، سبعَ مرَّات، فإنك إذا قلتَ ذلك ثم متَّ في ليلتك كُتبَ لك جوارٌ منها،؟ أي: خلاص من النار. "وإذا صلَّيتَ الصبحَ فقل كذلك، فإنك إذا متَّ في يومك كُتبَ لك جوازٌ منها". * * * 1715 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنه - قال: لم يكُنْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدَع هؤلاء الكلِمات حين يُمسي وحين يُصبحُ: "اللهمَّ إنِّي أسألك العافيةَ في الدُّنيا والآخرة، اللهمَّ إنِّي أسألك العَفْوَ والعافيةَ في ديني ودُنيايَ وأهلي ومالي، اللهمَّ احفظْني من بين يديَّ ومِنْ خَلْفي، وعن يميني وعن شِمالي، ومنْ فوقي، اللهمَّ استُرْ عوراتي، وآمِنْ رَوعاتي، اللهم احفظْني مِن بين يديَّ ومِنْ خلْفي، وعن يميني وعن شمالي، ومِن فَوْقي، وأعوذُ بعظمتِكَ أنْ أُغتالَ مِنْ تحتي"؛ يعني: الخَسْفَ.

"وعن ابن عمرَ - رضي الله عنه - أنه قال: لم يكن رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يدعٌ"؛ أي: يتركُ "هؤلاء الكلماتِ حين يُمسي وحين يُصبح: اللهم إني أسألُكَ العافيةَ"، وهي دفاع الله عن العبد الأسقامَ والبلايا. "في الدنيا والآخرة، اللهمَّ إني أسأَلُكَ العفوَ"؛ أي: التجاوزَ عن الذنوب. "والعافيةَ في دِيني ودنياي وأهلِي ومالي، اللهم استرْ عَوراتي": جمع عَوْرة؛ أي: ما فيَّ من العيوب والخَلَل والتقصير. "وآمِن رَوْعاتي": جمع الرَّوْعة، وهي الفَزَع والخوف. "اللهم احفظْني"؛ أي: ادفع عني المؤذِيات والبلاء. "من بين يديَّ ومِن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي": سأل - عليه الصلاة والسلام - حفظه من البليَّات من جميع الجهات؛ لأن البلايا والآفات إنما تلحق الإنسان، وتُقبِلُ إليه من إحدى هذه الجهات. "وأعوذُ بعظمتك أن أُغْتَال"؛ أي: أَهْلِك "من تحتي"؛ هو باقي الجهات الست. "يعني: الخسف". * * * 1721 - وقال: "مَنْ قالَ حينَ يُصبحُ: اللهمَّ أَصبَحْنا نشُهِدُكَ ونشُهِدُ حَمَلَةَ عَرْشِكَ وملائكَتَكَ وجَميعَ خَلْقِكَ: أنَّكَ أنتَ الله، لا إلهَ إلا أنتَ، وَحْدَكَ لا شَريكَ لكَ، وأنَّ مُحمَّدًا عبدُكَ ورسولُك، إلا غَفَرَ الله لهُ ما أصابَهُ في يومِه ذلكَ مِن ذَنْبٍ، وإنْ قالَها حينَ يُمسي كفَرَ الله لهُ ما أَصَابَ في تلكَ اللَّيلةِ مِن ذَنْبٍ"، غريب.

"وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن قال حين يُصبح: اللهمَّ أصبحْنا نشهِدُك"؛ أي: نجعلُك شاهدًا على إقرارنا بوحدانيتك في الألوهية والربوبية. "ونشهدُ حملةَ عرشِك وملائكتَك وجميعَ خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك، وأن محمدًا عبدُك ورسولُك إلا غفرَ الله له"؟ أي: لم يقلْ ذلك إلا غفر الله له. "ما أصابه مِن يومه ذلك مِن ذنبٍ، وإنْ قالها حين يُمسي غفرَ الله له ما أصابهَ في تلك الليلة من ذنب". "غريب". * * * 1722 - وقال: "ما مِن عَبْدٍ مُسلم يقولُ إذا أَمسَى وإذا أَصبَحَ ثلاثًا: رَضيْتُ بالله ربًّا، وبالإِسلامِ دِينًا، وبمُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - نبَيًّا إلا كانَ حقًا على الله أنْ يُرضيَهُ يومَ القيامةِ". "وعن ثَوْبانَ أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من عبدٍ مسلم": - التنوين فيه للتعظيم -؛ أي: كامل في إسلامه. "يقول إذا أمسى وإذا أصبحَ ثلاثًا: رضَيَتُ بالله ربًا، وبالإسلامِ دينًا، وبمحمد نبيًا إلا كان حقًا"؛ أي: حقيَّةُ التفضل والتكرم. "على الله أن يُرْضيَه يومَ القيامة". * * * 1723 - وعن حُذَيفة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ إِذا أرادَ أنْ يَنامَ وَضَعَ يدَهُ تحتَ

رأْسِهِ، ثم يقولُ: "اللهمَّ قِنِي عَذابَكَ يومَ تَجْمَعُ عِبَادَكَ - أو: تَبعَثُ عِبَادك - ". "عن حُذيفة: أن النبي - عليه الصلاة السلام - كان إذا أرادَ أن ينامَ وضعَ يده تحتَ رأسه ثم قال: اللهم قِني عذابَك يومَ تجمعُ عبادك - أو: تبعث عبادك -، ثلاث مرات". * * * 1725 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ عِنْدَ مَضْجَعِه: "اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ بوَجْهِكَ الكَريم، وكَلماتِكَ التامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما أنْتَ آخِذٌ بناصِيتهِ، اللهمَّ أنتَ تكشِفُ المَغْرَمَ والمَأْثَم، اللهمَّ أنتَ الذي لا يُهْزَمُ جُندُكَ، ولا يُخْلَفُ وَعْدُكَ، ولا يَنْفَعُ ذا الجَدِّ منكَ الجَدُّ، سُبحانَكَ وبحَمْدِكَ". "وعن عليٍّ - كرم الله وجهه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند مَضْجَعِه: اللهم إني أعوذُ بك بوجهك"؛ أي: بذاتك. "الكريم": يطلَق هو عند العرب على الشيء الذي يدومُ نفعُه. "وكلماتِك التاماتِ"؛ أي: في إفادة ما يَنبغي، وهي أسماؤه العظمى. "مِن شرَّ ما أنت آخذٌ بناصيته": والأخذُ بالناصية كنايةٌ عن الاستيلاء والتمكن من التصرَّف في الشيء؛ أي: ما هو في مُكْنتَك وتحت سُلْطانك، فكأنه استعاذَ به من جميعِ الأشياء؛ لأن كلَّها مقهورةٌ تحت قدرته وسَلْطنته. "اللهم أنت تكشف المَغْرَم": مصدر وضُع موضعَ الاسمِ؛ ويريد به مَغْرَمَ الذنوب والمعاصي. "والمأْثَم": الأمر الذي يأْثَمُ به الإنسان، أو هو الإثم نفسه. "اللهم لا يُهزَمُ جندُك، ولا يُخِلَفُ وعدُك، ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَّدُ"؛ أي: لا ينفع ذا الغنى غناؤُه بدلك؛ أي: بدل طاعتك، وإنما

ينفعُه العملُ الصالح. قال الجوهري: (منك): معناه: عندك. * * * 1726 - وقال: "مَن قالَ حينَ يَأْوي إلى فِرَاشِه: أَستغفِرُ الله الذي لا إله إلا هوَ الحيَّ القَيُّومَ، وأتوبُ إليه، ثلاثَ مرَّاتٍ؛ غَفَرَ الله له ذنُويَه، وإنْ كانَتْ مِثْل زَبَدِ البحرِ، أو عَددَ رَمْلِ عالِجٍ، أو عددَ ورَقِ الشَّجَرِ، أو عددَ أيامِ الدّنيا"، غريب. "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن قال حين يَأْوِي إلى فراشه: أستغفرُ الله الذي لا إله إلا هو الحيُّ القيومُ وأتوب إليه، ثلاث مرات، غفرَ الله له ذنوبَه، وإن كانت مثلَ زبَدِ البحر أو عددَ رَمْل عالِج"، صفةً وموصوفًا، هو ما تراكَم من الرمل ودخل بعضُه في بعض. وقيل: عالج: اسم وادٍ بعيد الطُّول والعَرْض، كثير الرمل بأرض العرب، فعلى هذا يضاف. "أو عدد ورقِ الشجر أو عدد أيام الدنيا". "غريب". * * * 1727 - وقال: "ما مِن مُسلِم يأْخذُ مَضْجَعَهُ بقِراءةِ سُورةٍ مِن كتابِ الله إلا وكَّلَ الله به مَلَكًا، فلا يَقْرَبُهُ شَيءٌ يُؤْذيهِ، حتى يَهُبَّ متى هَبَّ". "وعن شدَّاد بن أوس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مسلم يأخذ مَضْجَعه بقراءة سورةٍ من كتاب الله إلا وكَّلَ الله به مَلكًا فلا يقربُه شيءٌ يؤذيه

حتى يَهُبَّ"؛ أي: يستيقظ من النوم "متى هبَّ". * * * 1728 - عن عبد الله بن عَمرٍو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَلَّتانِ لا يُحصِيهما - وفي روايةٍ: لا يُحافِظُ عليهما - رجُل مُسلِمٌ إلا دَخَلَ الجنَّةَ، أَلاَ وَهُمَا يَسيرٌ، ومَنْ يَعملُ بهما قليلٌ: يُسَبحُ الله في دُبُرِ كلِّ صلاةٍ عَشراً، ويحمدُه عَشراً، ويُكبرُه عَشراً"، قال: فأَنا رأَيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَعقِدُها بيدِهِ، قال: "فتلكَ خَمْسونَ ومائة باللِّسانِ، وألفٌ وخَمسمائةٍ في المِيْزانِ، وإذا أَخَذ مَضْجَعَهُ يُسَبحُه ويحمدُه ويُكَبرُه مائةً". وفي روايةٍ: "يكبرُ أَربعاً وثلاثينَ، ويحمدُه ثلاثاً وثلاثينَ، ويسبحُ ثلاثاً وثلاثينَ، فتلكَ مائةٌ باللِّسانِ، وألفٌ في المِيْزانِ، فأيُّكم يَعمَلُ في اليومِ واللَّيلةِ ألفَينِ وخمسمائةِ سَيئةٍ؟ " قالوا: فكيفَ لا نُحصِيْها؟ قال: "يأتي الشَّيطانُ أَحَدكم وهو في صلاتِهِ فيقولُ: اذكُرْ كذا، اذْكُرْ كذا، حتى يَنفَتِلَ، فلَعَلَهُ أنْ لاَ يفعَلَ، ويأتيهِ في مضجَعِهِ فلا يَزالُ ينَوِّمُهُ حتى ينامَ". "عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خَلَّتان"؛ أي: خَصْلتان. "لا يُحصيهما"؛ أي: لا يأتي بهما ولا يحافظُ عليهما. "وفي رواية: لا يحافظُ عليهما رجلٌ مسلمٌ إلا دخلَ الجنة، ألا دخل الجنة، ألا" - حرف تنبيه - "وهما يسيرٌ"؛ أي: خفيف. "ومن يعمل بهما قليلٌ"، وقوله: "يسبَّح الله في دُبرُ كلِّ صلاةٍ عشراً، ويحمده عشراً، ويكبره عشراً"، بيان إحدى الخَلَّتين. "قال"؛ أي: الراوي: "فأنا رأيتُ رسولَ الله يعقِدُها بيده قال: فتلك

خمسون ومئة باللسان"؛ أي: في يومٍ وليلةٍ حاصلة من ضربِ ثلاثين في خمسة. "وألف وخمس مئة في الميزان"، لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. وقوله: "وإذا أخذَ مَضْجَعه يسبِّحه ويكبِّره ويحمَده مئة": بيان الخَلَّة الثانية. "وفي رواية: يكبِّر أربعًا وثلاثين، ويحمَدُ ثلاثًا وثلاثين، ويسبِّح ثلاثًا وثلاثين، فتلك مئة باللسان وألفٌ في الميزان" فأيكم"، - الفاء جواب شرط محذوف - وفي الاستفهام نوعُ إنكار، يعني: إذا تقرَّر ما ذكرتُ فأيّكم "يعملُ في اليوم والليلة ألفين وخمس مئة سيئة"؛ يعني: إذا أتى بهؤلاء الكلمات خلف الصلاةِ وعند الاضطجاع يحصُلُ له ألفا حسنةٍ وخمس مئة حسنة، فيُعفَى عنه بعدد كل حسنة سيئةٌ، فأيكم يكون ذنبهُ في كل يوم وليلة ألفين وخمس مئة، يعني: يصير مغفوراً. "قالوا: فكيف لا نحصيها؟ "؛ أي: التسبيح والتحميد والتكبير. "قال: يأتي الشيطانُ أحدكم وهو في صلاته فيقول: اذكر كذا اذكر كذا"؛ يعني: يوقعُ في قلبه الوسواسَ والاشتغال بالدنيا. "حتى يَنْفَتِلَ"؛ أي: ينصرِفَ من صَلاته وينسى هذا الذِّكْر فلا يأتي به. والفاء في: "فلعله": جزاء شرط محذوف؛ أي: إذا كان الشيطان يفعلُ كذا فعسى الرجل. "أن لا يفعلَ": إدخال أنْ في خبره دليلٌ أن (لعل) بمعنى: (عسى). "ويأتيه في مضجَعه، فلا يزالُ ينوِّمُه"؛ أي: يُلْقِي عليه النومَ.

"حتى ينامَ"، وهذا الكلام ردّ لإنكارهم المستفاد من الاستفهام، وجزمهم على وجود الإحصاء. * * * 1729 - عن عبد الله بن غَنَّام: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قَالَ حينَ يُصبحُ: اللهمَّ ما أصبَحَ بِي مِنْ نِعْمَةٍ أَو بأحَدٍ مِنْ خَلْقِكَ فَمِنْكَ وَحدَكَ لا شَريكَ لك، فَلَكَ الحَمْدُ، وَلَكَ الشُّكرُ، فقد أَدَّى شُكْرَ يَومِهِ، ومَن قَالَ مثلَ ذلكَ حينَ يُمسي فقد أدَّى شُكْرَ لَيلَتِهِ". "عن عبد الله بن غَنَّام - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن قال حين يُصبح: اللهم ما أصبحَ بي"؛ أي: ما حصلَ لي. "من نِعمةٍ أو بأحدٍ"؛ أي: حصلَ لأحد. "مِن خَلْقِك فمنك"؛ أي: حاصلٌ منك. "وحدَك لا شريكَ لك، ذلك الحمدُ ولك الشكرُ، فقد أّدَّى شكرَ يومه، ومَن قال مثلَ ذلك حين يُمسي فقد أدَّى شُكرَ ليلتِه". * * * 1730 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه كانَ يقولُ إذا أَوَى إلى فِراشهِ: "اللهمَّ ربَّ السَّماواتِ، وربَّ الأرضِ، وربَّ كلِّ شيءٍ، فالِقَ الحَبَّ والنَّوَى، مُنْزِلَ التَّوراةِ والإِنْجيلِ والقُرآن، أَعُوذُ بكَ مِنْ شَرِّ كلِّ ذي شرّ أنتَ آخِذٌ بناصيتها، أنتَ الأَوَّلُ فليسَ قَبْلَكَ شيءٌ، وأنتَ الآخِرُ فليسَ بعدَك شيءٌ، وأنت الظَّاهِرُ فليسَ فوقَكَ شيءٌ، وأنتَ الباطِنُ فليسَ دُونَكَ شيءٌ، اقْضِ عني الدِّيْنَ، وأَعِذْنِي مِنَ الفَقْرِ".

"عن أبي هريرة، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه كان يقولُ إذا أَوى إلى فراشه: اللهمَّ ربَّ السماواتِ وربَّ الأرض، وربِّ كلِّ شيءٍ، فالقَ الحَبِّ" من الفَلْق، وهو الشَّقُّ. "والنَّوى": جمع نواة؛ أو هي: عَظْمُ النخل، يعني: يا مَن شَقَّهما فأخرجَ منهما الزرعَ والنخيل. "مُنزِلَ التوراةِ والإنجيلِ والقرآنِ، أعوذُ بك من شَرِّ كل ذي شَرّ أنتَ آخذٌ بناصيتهِ أنت الأولُ فليس قبلَك شيءٌ، وأنت الآخرُ فليس بعدَك شيء"؛ يعني: أنت الباقي بعد فَناءِ الخَلْق. "وأنت الظَّاهرُ فليس فوقك" في الظهور "شيءٌ"؛ أي: ليس شيءٌ أَظهرَ منك لدلالة الآيات الباهرة عليك، أو أنت الغالبُ فليس فوقَك غالبٌ. "وأنتَ الباطنُ فليس دونَك"؛ أي: غيرك في البُطون. "شيءٌ" أبطنُ منك، ويجيء (دونَ) بمعنى قريب، فمعناه: ليس شيءٌ في البطون قريبًا منك، وقيل: معنى الظهور والبطون احتجابُه عن أبصار الناظرين، وتجلِّيه لبصائر المتفكّرين. "اقضِ عني الدَّين": يجوز أن يرادَ به حقوقُ الله وحقوق العبادِ جميعًا. "وأعذْني من الفَقْر". * * * 1731 - عن أبي الأَزْهَرِ الأَنْمارِيِّ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أخذَ مَضْجَعَهُ من اللَّيلِ قال: "بسم الله وضعتُ جَنْبي، اللهمَّ اغفر لي ذَنْبي، وأخْسِئ شَيْطاني، وفُكَّ رِهاني، وثَقِّلْ مِيْزاني، واجعَلْني في النَّدِيَّ الأَعلَى". "عن أبي الأزهرِ الأَنماري: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذَ مَضْجَعه من

الليل قال: بسم الله وضعتُ جنبي، اللهم اغفر لي ذنبي وأخْسِئ شيطاني"؛ أي: اجعلُه مطرودًا عني وممنوعاً عن تسويلي. "وفُكَّ رِهاني"؛ أي: رَهْني، وفَكُّ الرهن تخليصُه عن يد المرتهِن، وأراد هنا نفسَ الإنسان لأنها مرهونة بأعمالِها، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38]. يعني: خلِّص نفسي عن حقوق الخَلْق، وعن عقاب ما اقترفتُ من الأعمالِ التي لا تَرضاها بالعفو عنها؛ أو: خَلِّضها من التكاليف بالتوفيق للإتيان بها. "وَثقِّل ميزاني واجعلْني في النَّدِيِّ" بالفتح ثمَّ الكسر ثمَّ بالتشديد: النادي؛ وهو المجلس المجتمع من الملائكة، وفي رواية: (في النداء الأعلى)؛ أي: اجعلني في الملأ "الأعلى"؛ أراد نداءَ أهلِ الجنة أهلَ النار: {أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا} [الأعراف: 44]، والنداء الأسفل هو نداء أهل النار: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [الأعراف: 50]، والمعنى: اجعلْني من أهل الجنة. * * * 1732 - عن ابن عُمر - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذَ مَضْجَعَهُ قال: "الحمدُ لله الذي كَفاني، وآواني، وأَطعمَني، وسَقاني، والذي مَنَّ عليَّ فأَفْضَلَ، والذي أعطاني فأَجْزَلَ، الحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ، اللهمَّ ربَّ كلِّ شيءٍ ومَلِيْكَهُ، وإلَهَ كلِّ شيءٍ، وأَعوذُ بكَ مِنَ النّارِ". "وعن ابن عمرَ - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أخذَ مَضْجَعه قال: الحمدُ لله الذي كفاني وآواني وأَطْعَمني وسَقاني، والذي مَنَّ"؛ أي: أنعم "عليَّ فأفضلَ"؛ أي: أَحسنَ.

"والذي أعطاني فأَجْزلَ"؛ أي: أكثرَ من النعمة. "الحمدُ لله على كل حال، اللهم ربَّ كل شيء ومليكَه وإلهَ كل شيء، أعوذ بك من النار". * * * 1733 - عن بُرَيْدَة - رضي الله عنه - قال: شَكا خالدُ بن الوليدِ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله!، ما أَنامُ اللَّيلَ مِن الأَرَقِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إذا أَوَيتَ إلى فِراشِكَ فقلْ: اللهمَّ ربَّ السَّماواتِ السَّبعْ وما أَظَلَّتْ، وربَّ الأرضَيْنَ وما أقلَّتْ، وربَّ الشَّياطينِ وما أَضَلَّتْ، كُنْ لي جارًا مِنْ شرِّ خَلْقِكَ كُلِّهم جميعًا، أنْ يَفْرُطَ عليَّ أحدٌ منهم، أو أنْ يَبغِيَ، عزَّ جارُك، وجلَّ ثَناؤُكَ، ولا إلَهَ غَيْرُكَ، لا إله إلَّا أنتَ"، ضعيف. "وعن بُرَيدة - رضي الله عنه - أنَّه قال: شكا خالدُ بن الوليد إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! ما أنامُ الليل من الأَرَق"، بفتح الهمزة والراء: السهر، وهو مفارَقة الرجلِ النومَ من وسواس أو حزن أو غيرِ ذلك. "فقال النبيُّ - عليه الصلاة والسلام -: إذا أويتَ إلى فراشِك فقل: اللهم ربَّ السماواتِ السبعِ وما أظلَّت"؛ أي: وما أوقعت السماوات ظلهنّ عليه. "ورب الأَرَضينَ وما أقلَّت"؛ أي: وما رفعته الأَرَضُون. "وربَّ الشياطينِ وما أضلَّت" من الإنس والجن، ومن وَسْوَسَتْه في صدورهم. "كنْ لي جارًا"؛ أي: حافظًا "مِن شرِّ خلقك كلِّهم جميعًا أن يفرُطِ"؛ أي: من أن يفرُطَ؛ أي: يُسْرِعَ بالشر "عليَّ أحدٌ منهم، أو أن يبغيَ"؛ أي: يظلم عليَّ أحدٌ.

7 - باب الدعوات في الأوقات

"عزَّ جارُك"؛ أي: من التجأ إليك صارَ عزيزاً محفوظاً عن شر الأشرار، الجارُ: المستجير. "وجلَّ ثناؤُك ولا إله غيرُك، لا إله إلا أنت". "ضعيف". * * * 7 - باب الدَّعَواتِ في الأَوْقاتِ (باب الدَّعَوات في الأوقات) مِنَ الصِّحَاحِ: 1734 - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ أَحَدَهُم إذا أرادَ أنْ يأتيَ أهلَه قال: بسم الله، اللهمَّ جَنِّبنا الشيطانَ، وجنِّبِ الشيطانَ ما رزقتَنا، فإنَّه إنْ يُقَدَّر بينَهما ولدٌ في ذلك لم يَضُرَّهُ شيطانٌ أبدًا". "من الصحاح": " عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - أنَّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أن أحدكم"، (لو) هذه يجوز أن تكون شرطية وجوابُها محذوف، وأن تكون للتمنِّي. "إذا أراد أن يأتيَ أهلَه"؛ أي: يطأ زوجته. "قال: بسم الله، اللهمَّ جَنِّبنا"؛ أي: بَعّدنا "الشيطانَ، وجَنِّب الشيطانَ"؛ أي: بعِّدْه ونحِّه. "ما رَزَقْتَنا"؛ أي: من الأولاد، مفعول ثانٍ لجنب.

"فإنَّه إنْ يقدَّرْ بينهما ولدٌ في ذلك" الوقت "لم يضرَّه شيطان أبدًا". * * * 1735 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ عندَ الكَربِ: "لا إله إلا الله العَظيمُ الحَليمُ، لا إلهَ إلا الله ربُّ العَرشِ العَظيمُ، لا إلهَ إلا الله ربُّ السَّماواتِ وربُّ الأرضِ وربُّ العرشِ الكريمُ". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند الكَرب"؛ أي: عند الغَمِّ: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله ربُّ العرشِ العظيم، لا إله إلا الله ربُّ السموات وربُّ الأَرض وربُّ العرشِ الكريم"، وهذا الذِّكْر منه - عليه الصلاة والسلام - إعلامٌ بأنّه لا يقدِر أحدٌ على إزالة الغَمِّ إلا الله بذكر أسمائه الحسنى، وصفاتِه العُظْمى. * * * 1736 - عن سُليمان بن صُرَد أنَّه قال: استَبَّ رجُلانِ وأَحدُهما يسُبُّ صاحبَه مُغْضَباً قد احمَرَّ وَجْهُه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعلَمُ كلمةً لو قالَها لَذَهَبَ عنهُ ما يَجدُ: أَعوذُ بالله مِن الشيطانِ الرجيم". "وعن سليمانَ بن صُرَد أنَّه قال: استَبَّ رجلان"؛ أي: تشاتما. "فأحدهما يسبُّ صاحبَه مُغْضَبًا" بفتح الضاد: حال من فاعل (يسبُّ). "قد احمرَّ وجهُه، فقال النبيُّ - عليه الصلاة والسلام -: إني لأعلمُ كلمةً لو قالها لذهبَ"؛ أي: لزالَ "عنه ما يجدُ" من الغضب: "أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم".

1737 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا سمِعْتُم صياحَ الدِّيَكةِ فسَلُوا الله مِنْ فَضْلِهِ، فإنَّها رأَتْ مَلَكًا، وإذا سَمِعتُم نهَيقَ الحِمارِ فتعوَّذوا بالله مِن الشَّيطانِ الرَّجيم، فإنَّها رأَتْ شيطانًا". "وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا سمعتم صياحَ الدِّيَكة" بكسر الدال وفتح الياء: جمع الديك. "فاسْألوا الله من فضله، فإنها": ضمير التأنيث على تأويل الدابة. "رأتْ مَلَكًا، وإذا سمعتُم نهيقَ الحِمار فتعوَّذوا بالله من الشيطان الرجيم، فإنَّه رأى شيطانًا"، وهذا يدلُّ على نزولِ الرحمة والبركَة عند حضور أهل الصلاح، فيستَحبُّ عند ذلك طلبُ الرحمة والبركة من الله الكريم، ونزول الغضب والعذاب على أهل الكفر، فيستحبُّ الاستعاذةُ عند مرورهم خوفاً أن يصيبَهم شرورُهم. * * * 1738 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا استَوَى على بَعيرهِ خارِجًا إلى السَّفَرِ كبَّرَ ثلاثًا، ثمَّ قال: " {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}، اللهمَّ إنّا نسألكَ في سَفَرِنا هذا البرَّ والتَّقَوْى، ومِنَ العمَلِ ما تَرضَى، اللهمَّ هَوِّنْ علَينا سفَرَنا هذا، واطْوِ لَنا بُعْدَه، اللهمَّ أنتَ الصَّاحِبُ في السَّفَرِ، والخَليفَةُ في الأهلِ، اللهمَّ إني أَعُوذُ بكَ مِن وَعْثاءَ السَّفَرِ، وكآَبَةِ المَنْظَرِ، وسُوءِ المُنْقَلَبِ في المالِ والأهلِ"، وإذا رجَعَ قالَهُنَّ، وَزادَ فيهنَّ: "آيبونَ تائبُونَ عابدُونَ لربنا حامِدُونَ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا اسْتَوى على بعيره"؛ أي: استقر على ظهره "خارجًا إلى السَّفَر كبَّرَ ثلاثًا، ثمَّ قال: سبحانَ الذي سخَّر لنا هذا وما كنا له مُقْرِنين"؛ أي: مُطِيقين، يعني: لا طاقةَ لنا ولا قوةَ بنا بركوب

الدوابِّ وتسخيرها لولا تسخيرُ الله إياها لنا، فنسبِّحه ونحمَدُه على هذه النعمة. "وإنا إلى ربنا لمنقلِبون"؛ أي: راجعون إليه، الانقلاب: الانصراف. وفيه إشارة: إلى أن استيلاءه على مركب الحياة كمن هو على ظَهْر الدابة لا بدَّ من زوالها. "اللهمَّ إنا نسألُك في سفرنا هذا البِرَّ والتَّقْوى، ومن العمل ما تَرضَى، اللهم هَوِّنْ علينا سفرَنا هذا واطوِ لنا بُعدَه"، من الطَّيِّ؛ أي: قَرّب لنا بُعْدَ هذا السَّفَر. "اللهم أنت الصاحبُ"؛ أي: الملازِمُ "في السفر"؛ أراد مصاحبته تعالى إياه بالعناية والعِلْم والحِفْظ، فنبَّه - عليه الصلاة والسلام - بهذا القولِ على الاعتماد عليه تعالى والاكتفاءِ به عن كلِّ صاحب سواه. "والخليفةُ في الأهل"؛ يعني: أنت الذي تُصلِحُ أمورَنا في أوطاننا، وتحفَظُ أهلَ بيوتنا في غيبتنا. "اللهم إني أعوذُ بك من وَعْثاء السَّفَر"؛ أي: شدَّته ومشقَّته. "وكآبة المَنْظَر"، الكآبةُ: تغييرُ النفس بالانكسار من شدَّة الهم والحزن. "وسوء المُنقَلَب": - بفتح اللام مصدر ميمي -؛ أي: من سوءِ الرجوعِ بأن يصيبنا خسرانٌ أو مرضٌ. "في المال والأهل، وإذا رجعَ"؛ أي: النبيُّ عليه الصلاة والسلام عن السَّفَر. "قالَهنَّ"؛ أي: هذه الكلمات عندَ رجوعه. "وزاد فيهن: آيبون"؛ أي: نحن آيبُون؛ أي: راجِعُون من السفر بالسلامة إلى أوطاننا.

"تائبون"؛ أي: إلى الله من المعاصي. "عابدون"؛ أي: مُخلِصون العبادةَ لله. "حامدون" على هذه النعم. * * * 1739 - عن عبد الله بن سَرجِس - رضي الله عنه - أنَّه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافرَ يتَعَوَّذُ مِن وَعْثاءِ السَّفَر، وكآبةِ المُنْقَلَبِ، والحَوْرِ بعدَ الكَوْرِ، ودَعوةِ المَظلومِ، وسُوءِ المَنْظرِ في الأَهل والمالِ. "وعن عبدِ الله بن سَرجِس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافرَ يتعوَّذ من وَعْثاء السفر، وكآبةِ المُنْقَلَب، والحَوْر بعد الكَوْر"؛ أي: ومن النقصان بعد الزيادة، والتفرُّق بعد الاجتماع. "ودعوةِ المظلومِ، وسُوءِ المَنْظَر في الأهل والمال". * * * 1740 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن نزلَ مَنزلًا، ثمَّ قال: أعوذُ بكَلِماتِ الله التامَّاتِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ، لم يَضُرَّه شَيءٌ حتَّى يرتَحِلَ من مَنْزلهِ ذلك". "وعن خولةَ بنت حَكِيم أنها قالت: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ نزلَ مَنْزِلًا ثمَّ قال: أعوذُ بكلماتِ الله التَّامَّاتِ"، أرادَ بها أسماءَ الله وصفاتِه. "مِن شَرِّ ما خلقَ لم يَضُرَّه شيءٌ حتى يرتحلَ من منزلِه ذلك".

1741 - وقال أَبو هُريرةَ - رضي الله عنه -: جاء رجلٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله!، ما لَقِيْتُ من عَقْربٍ لَدَغَتْنِي البارحةَ!، قال: "أما لو قلتَ حينَ أَمسَيْتَ: أَعُوذُ بكَلِماتِ الله التّامّاتِ مِنْ شَرِّ ما خلَقَ؛ لم تَضُرَّك". "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: جاءَ رجلٌ إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال: يا رسولَ الله! ما لقيتُ"، (ما): للاستنهام بمعنى التعظيم؛ أي: لقيتَ شدَّةَ عظيمةَ "من عقربٍ لدغتْني البارحة؟ قال: أَما لو قلتَ حين أمسيتَ: أعوذُ بكلماتِ الله التّامات كلّها من شر ما خلق لم تَضُرَّك"، فاعله ضمير عائد إلى العقرب. * * * 1742 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا كانَ في سَفَرٍ وأَسحَرَ يقولُ: "سَمعَ سامعٌ بحمدَ الله وحُسْنِ بَلائِه علَينا، رَبنا صاحِبنا، وأَفْضلْ عَلَينا، عائذًا بالله من النَّارِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا كان في سَفَر وأَسْحَرَ"؛ أي: دخلَ في وقت السَّحَرِ. "يقولُ: سمعَ سامعٌ"، لفظُه خبرٌ ومعناه أَمْر؛ أي: ليسمع السامع، أو مَن له سَمْعٌ، وليشهدِ الشّاهد. "بحمدِ الله وحُسْنِ بلائه"، البلاء ها هنا: النعمة؛ أي: وباعترافنا على حسن نعمه. "علينا ربنا": منادى. "صاحِبنا"، بصيغة الأمر؛ أي: أعِنَّا وحافِظْنا. "وأفضلْ"؛ أي: تفضَّلْ "علينا" وأحسن إلينا بإدامة النعمة ومزيدِها

والتوفيقِ للقيامِ بحقوقها. "عائذًا"، نصب على المصدر؛ أي: أعوذ عياذًا "بالله من النار"، أقيم اسمُ الفاعل مُقامَ المصدر، أو على الحال من فاعل (يقول)، فيكون من كلام الراوي، أو مِن: فاعل (أسحرَ) فيكون مِن كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. * * * 1743 - وقال ابن عمر: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قفَلَ من غَزْوٍ أو حَجٍ أو عُمْرة يُكَبرُ على كلِّ شَرَفٍ من الأَرضِ ثلاثَ تكبيراتٍ، ثمَّ يقول: "لا إلهَ إلا الله وحدَة لا شريكَ له، له الملك، ولهُ الحمد، وهوَ على كل شيءٍ قديرٌ، آيبُونَ تائبُونَ عابدُونَ ساجِدُونَ، لِرَبنا حامِدُونَ، صدَقَ الله وَعْدَهُ، ونصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَم الأَحزابَ وَحْدَه". "وقال ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قَفَلَ"؛ أي: رجع "من غزوٍ أو حَجّ أو عُمْرةٍ يكبّرُ على كلّ شَرَفٍ"؛ أي: مكان عالٍ. "من الأرض ثلاث تكبيرات ثمَّ يقول: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمدُ وهو على كلّ شيء قديرٌ، آيبون، تائبون، عابدون، ساجدون، لربنا حامدون، صدق الله وَعْدَه"؛ أي: في وعده بإظهار الدين. "ونصرَ عَبْدَه"، أراد - عليه الصلاة والسلام - نفسَه. "وهزمَ الأحزابَ وحدَه"، جمع حزب؛ أي: الطوائفَ من القبائل المجتمِعة لمحاربة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومحاصَرِة المدينة، وكانوا اثني عشر ألفاً سوى من انضمَّ إليهم من اليهود، ومضى عليهم قريبٌ من شهر لم يقعْ بينهم حربٌ إلا الترامي بالنَّبْل والحجارة، فأرسل الله عليهم ريحاً ليلةً سفَّتِ الترابَ على وجوههم، وأطفأتْ نيرانَهم، وقلعت الأوتادَ، وبعثَ ألفاً من الملائكة فكبَّرت في عسكرهم، فماجَت الخيلُ، وقذفَ في قلوبهم الرعبَ فانهزمُوا.

وفيه نزلَ قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [الأحزاب: 9]. * * * 1744 - وقال عبد الله بن أَبي أَوْفَى - رضي الله عنه -: دَعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الأحزابِ على المُشركينَ فقال: "اللهمَّ مُنْزِلَ الكِتابِ، سَريعَ الحِسابِ، اللهمَّ اهْزِمِ الأحزاب، اللهمَّ اهزِمْهم، وزَلْزِلْهُم". "وقال عبدُ الله بن أبي أَوْفَى - رضي الله عنه -: دعا رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يومَ الأحزابٍ على المُشْركين فقال: اللهمَّ مُنزِلَ الكتاب، سريعَ الحساب، اللهم اهزِم الأحزابَ، اللهم اهزمهم وزَلْزِلْهم"؛ أي: اجعلْ أمرَهم مضطرِبًا متقلْقِلاً غيرَ ثابت. * * * 1745 - قال عبد الله بن بُسر: نزَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أَبي، فَقَرَّبنا إليهِ طَعاماً ووَطْيةً، فأكلَ منها، ثمَّ أُتِيَ بتَمْرٍ، فكانَ يأكُلُه، ويُلْقِي النَّوَى بينَ أُصبَعَيْهِ ويجمعُ السَّبابَةَ والوُسْطَى، وفي روايةٍ: فجَعَل يُلْقي النَّوَى على ظَهْرِ أُصبعَيْهِ السَّبابة والوُسْطَى، ثمَّ أُتِيَ بشَرابٍ، فَشَرِبَهُ، فقال أَبي - وأخَذَ بِلِجامِ دابتِهِ -: ادعُ الله لنا، فقال: "اللهمَّ بارِكْ لهم فيما رزقْتَهم، واغفر لهم، وارحمْهم". "قال عبد الله بن بُسْر - رضي الله عنه -: نزل رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أَبي، فقَرَّبنا إليه طعاماً ووَطْبةً فأكل منها"، بالباء الموحدة: سقاء اللبن خاصة، ويكون من الجِلْد. ذكر المحقِّقون من الحُفَّاظ أنه تصحيف والصوابُ: وَطِيئة على وزن وَثيقَة، وهي طعامٌ يُتَّخَذُ من التمر كالحَيْس، سُمّيَ بذلك؛ لأنه يوطأ باليد؛ أي:

يُضرَب ويُدلَك ليختلط، ويدل على صحته قول الراوي: (فأكل (منها)، والوطيئة لا تؤكَل بل يُشرَب منها. "ثمَّ أُتي بتمرٍ فكان يأكلُه ويُلقي النوى بين أُصبعيه، ويجمَع السَّبَّابة والوسطى، وفي رواية: فجعلَ يُلْقي"؛ أي: فطفِقَ يَرمِي "النوى على ظَهر إصبعيه السبابةِ والوُسْطى، ثمَّ أُتِيَ بشرابٍ فشربَه، فقال أبي وأخذ بلجامِ دابَّته: ادع الله لنا، فقال: اللهم بارك لهم فيما رزقتَهم واغفر لهم وارحَمْهم". * * * مِنَ الحِسَان: 1746 - عن طَلْحة بن عُبيد الله - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا رأَى الهلالَ قال: "اللهمَّ أَهِلَّهُ علينا بالأمنِ والإيمانِ، والسَّلامةِ والإِسلامِ، ربي وربُّكَ الله"، غريب. "من الحسان": " عن طلحةَ بن عُبيد الله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رأى الهلالَ قال: اللهم أَهِلَّه"؛ أي: أطلِعْه وأخرجْه من مَطْلَعه "علينا بالأَمْن"، الباء للسببية؛ أي: اجعلْه سببَ أمنٍ لنا، أو للمصاحبة؛ أي: اجعلْه مصاحِباً للأمن. "والإيمان": أراد به ثباته. "والسلامةِ والإِسلام، ربي وربُّك الله"، خطابٌ للهلال، وتنزيةٌ للخالق عن مُشاركٍ في تدبير خَلْقِه، وتنبيهٌ على أن الدعاء مستَحبٌّ عند ظهور الآيات وتقلُّبِ الأحوال. "غريب".

1747 - عن عبد الله بن عُمر، عن أَبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن رجُلٍ رَأَى مُبْتَلًى فقال: الحمدُ للهِ الذي عافاني ممَّا ابتلاكَ بهِ، وفضَّلنِي على كثيرٍ ممن خَلَقَ تَفْضيلًا إلَّا لم يُصِبْهُ ذلكَ البلاءُ كائنًا ما كان"، غريب. "وعن عبد الله بن عمرَ - رضي الله تعالى عنهما - عن أبيه أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما مِن رجلٍ رأى مبتلًى فقال: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكَ به وفضَّلَني على كثيرٍ ممن خَلقَ تفضيلاً إلا لم يُصِبْه ذلك البلاءُ كائنًا ما كان"؛ أي: حالَ كونِ ذلك البلاء أيَّ شيءٍ كان. "غريب". * * * 1748 - وعن ابن عُمر، عن أبيه عُمر - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قَالَ في سوقٍ جامعٍ يُباعُ فيه: لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، لهُ الملكُ، وله الحَمْدُ، يُحيي، ويُميتُ، وهوَ حي لا يَمُوتُ، بيد الخيرُ، وهُوَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ؛ كتبَ الله لهُ ألفَ ألفِ حسنةٍ، ومَحا عنه ألفَ ألفِ سَيئةٍ، ورفَعَ له ألفَ ألفِ درَجةٍ، وبنى له بَيْتاً في الجَنَّةِ"، غريب. "عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -، عن أبيه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن قال في سوقٍ جامعٍ يُباعُ فيه: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، كتبَ الله له ألفَ ألفِ حسنةٍ، ومحا عنه ألفَ ألفِ سيئةٍ، ورفعَ له ألفَ ألفِ درجة، وبنى له بيتاً في الجنة"؛ وذلك لأنَّ السوقَ مكانُ الاشتغال عن الله وعن ذِكْرِه بالتجارة والبيع والشراء، فمَن ذكر الله فيه كانَ أجرُه عظيماً. "غريب".

1749 - عن أبي هُريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن جلَسَ مَجلِسًا فكثُرَ فيهِ لَغَطُهُ، فقالَ قبلَ أنْ يقُومَ: سُبحانَكَ اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أنْ لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفِرُكَ، وأتوبُ إليك إلَّا غُفِرَ لهُ ما كانَ في مَجْلسِهِ ذلك". "وعن أبي هريرَة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن جلسَ مجلِسًا فكثُرَ فيه لَغَطُه"، بفتحتين؛ أي: صوتُه عند ظهورِ الآياتِ، لا يُفهِم معناه، وقيل: كلُّ كلام لا فائدةَ فيه أو فيه إثمٌ فهو لَغَطٌ. "فقال قبلَ أن يقومَ: سبحانَك اللهمَّ وبحمدكَ، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوبُ إليك، إلا غفرَ له ما كان في مجلسِه ذلك". * * * 1750 - عن علي - رضي الله عنه -: أنَّه أُتيَ بدابَّةٍ ليَركَبَها، فلمَّا وَضَعَ رِجْلَهُ في الرِّكابِ قال: بسم الله، فلما استَوَى على ظَهْرِها قال: الحَمْدُ للهِ، ثمَّ قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}، ثم قال: الحمدُ لله ثلاثاً، والله أكبرُ ثلاثًا، سُبحانَكَ إنِّي ظلَمْتُ نفَسِي، فأعفر لي ذُنوبي، فانَّه لا يغفِرُ الذنوبَ إلا أنت، ثمَّ ضَحِكَ، فقيلَ: مِنْ أيِّ شيءٍ، ضحِكْتَ؟ قال: رأيتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع كما صنَعتُ ثمَّ ضحِكَ، فقلتُ: مِنْ أَيّ شيءٍ ضَحِكتَ يا رسولَ الله؟ قال: "إنَّ رَبكَ لَيَعجَبُ مِن عَبْدهِ إذا قَالَ: رَبِّ اغْفِر لي ذُنوبي، فيقولُ الله: عَبْدي يَعْلَمُ أن الذُّنوبَ لا يغفِرُها أَحَدٌ غَيْري". "وعن علي بن ربيعةَ الأَسَدي: أن عليًا أُتِيَ بدابَّةٍ لِيركبَها، فلمَّا وضع رجلَه في الركاب قال: بسم الله، فلما استوى على ظهرها قال: الحمد لله، ثمَّ قال: {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 13 - 14]، ثمَّ قال: الحمدُ لله، ثلاثاً، والله أكبرُ، ثلاثاً، سبحانَك إني ظلمتُ نفسي فاغفر لي ذنوبي فإنَّه لا يغفرُ الذنوب إلا أنت، ثمَّ ضَحِكَ،

فقيل له: من أيِّ شيء ضحكتَ يا أميرَ المؤمنين؟ قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صنعَ كما صنعتُ ثمَّ ضحكَ، فقلتُ: من أيِّ شيءٍ ضحكتَ يا رسولَ الله؟ قال: إن ربك ليَعْجَبُ"؛ أي: يرضى "من عبده إذا قال: ربِّ اغفر لي ذنوبي، يقول"؛ أي: الله: "يعلَمُ عبدي أنَّه لا يغفرُ الذنوب غيري". * * * 1751 - وعن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إذا ودَّعَ رجلًا أَخَذَ بيدِهِ، فلا يَدَعها حتى يكونَ الرَّجلُ هُوَ يدعُ يدَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، وَيَقُولُ: "أَستَودِع الله دِينَكَ، وَأَمانتَكَ، وآخِرَ عَمَلِك"، وفي روايةٍ: "وخَواتِيمَ عَمَلِكَ". "وعن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - إذا ودَّعَ رجلًا أخذ بيده فلا يَدَعُها"؛ أي: فلا يتركُ يد ذلك الرجل من غاية التواضُع. "حتى يكونَ الرجل هو الذي يدَعُ يدَ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقول: أستودعُ الله"؛ أي: أسألُ الله أن يحفظَ "دينَك وأمانتَك"، جعلَ الدِّينَ والأمانَة من الودائع؛ لأنَّ السفرَ يصيب الإنسانَ فيه المشقةُ والخوفُ، فيكون سبباً لإهمال بعضِ أمورِ الدين، فدعا له بالمعونةِ فيه والتوفيقِ، وأرادَ بالأمانة هنا: أهلَ الرَجُل ومالَه. "وآخرَ عَمَلِك"؛ أي: خاتمتَه حتى يختِمَ بخير. "وفي رواية: وخواتيمَ عملِك". * * * 1752 - ورُوي: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ أنْ يَستَودع الجَيْشَ قال: "أَسْتَوْدعُ الله دِينَكم، وأَمانتكُم، وخَواتيمَ أعمالِكم". "وروي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ أن يستودعَ الجيشَ قال: أستودعُ الله

دينَكم وأماناتكم وخواتيمَ أعمالِكم". * * * 1753 - وعن أنَسٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجل إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله!، إني أُريدُ سَفَرًا، فَزَوِّدنِي، فقال: "زَوَّدَكَ الله التَّقوى"، قال: زِدْني، قال: "وغفرَ ذنبَكَ"، قال: زِدنِي بأَبي أنتَ وَأُمِّي، قال: "وَيسَّرَ لك الخَيْرَ حيثُما كُنْتَ"، غريب. "عن أنسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: جاءَ رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني أريد سفَرًا فزودني"، من التزويد، وهو إعطاءُ الزاد، يعني به: ادعُ لي، ودعاؤُك خيرُ الزاد. "فقال: زَوَّدَك الله التَّقْوى، قال: زدْني، قال: وغفرَ ذنبَك، قال: زدْني بأبي أنت وأمي، قال: ويسَّرَ لك الله الخيرَ حيثما كنتَ". "غريب". * * * 1754 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أن رجُلًا قال: يا رسولَ الله، إنِّي أريدُ أَنْ أُسافِرَ، فأَوْصِنِي، قال: "عليكَ بتقوَى الله، والتكبيرِ على كل شَرَفٍ"، فلما وَلَّى الرجلُ قال: "اللهمَّ اطْوِ لَهُ البُعدَ، وهَوِّن عليهِ السَّفَرَ". "وعن أبي هريرةَ: أن رجلًا قال: يا رسولَ الله! إني أريدُ أن أسافرَ فأوصِني، قال: عليك بتقوى الله والتكبيرِ على كل شَرَفٍ"؛ أي: مكانٍ عالٍ. "فلما وَلَّى الرجلُ قال: اللهمَّ اطوِ له البُعْدَ، وهَوِّنْ عليه السَّفَر".

1755 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله إذا سافَرَ، فأقبلَ الليلُ؛ قال: "يا أَرضُ! ربي وربُّكِ الله، أَعوذُ بالله مِن شَرِّكِ، وشرِّ ما فيكِ، وشَرِّ ما خُلِقَ فيكِ، وشرِّ ما يَدِبُّ علَيكِ، وأَعوذُ بالله مِن أسدٍ وأَسْوَدَ، ومِن الحيَّةِ والعَقْربِ، ومِن ساكنِ البلَدِ، ومِن والدٍ وما ولَدَ". "وعن ابن عمرَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: كان رسولُ الله إذا سافرَ فأقبلَ الليلُ قال: يا أرضُ! ربِّي وربُّكِ الله"؛ يعني: إذا كان خالقِي وخالقك هو الله فهو المستحِق أن يُلْتَجَأ إليه. "أعوذُ بالله مِن شِرِّكِ" أراد منه الخسف والزلزلة والسقوط عن موضع مرتفع وغير ذلك، "وشرِّ ما فيكِ" من المياه، فيُهْلِكَ أحدًا، أو يخرج نباتٌ، فيصيب أحدًا ضَرَرٌ من أَكْلِه. "وشرِّ ما خُلِقَ فيك" من الحيوان المؤذِية في بطنك. "وشرّ ما يدبُّ عليكِ"؛ أي: يَمشي على ظهرِك من الحيوانات. "وأعوذُ بالله من أَسدٍ وأَسْوَد"؛ بفتح الهمزة: الحيةُ العظيمةُ التي فيها سوادٌ، وهي أخبَثُ الحيّات، وقيل: أرادَ بالأَسْوَد اللصَّ لملابسة الليل. "ومن الحَيَّة"، أراد به كل حيَّةِ غير الأسود. "والعقربِ، ومن شَرِّ ساكنِ البَلَد"، قيل: هم الإنس؛ لأنهم يسكنون البلدان غالباً، أو لأنهم بنوها واستوطَنُوها، وقيل: هم الجِنُّ والشياطين، وأراد بالبلد الأرض. "ومِن والدٍ وما وَلدَ"؛ يريد إبليسَ وذُريتَه، ويجوز أن يراد به جميع ما يوجد بالتوالد.

1756 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غَزا قال: "اللهمَّ أنتَ عَضُدِي ونَصِيْري، بكَ أَحُولُ، وبك أَصُولُ، وبك أُقاتِلُ". "وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا غزا قال: اللهم أنت عَضُدي"؛ أي: قُوَّتي وعَوْني. "ونصيري، وبك أَحُوْلُ"، مِن حالَ يَحِيلُ حِيلةَ، بمعنى: احتالَ، والمرادُ كيدُ العدوِّ؛ أي: بكَ أكِيدُ العدوَّ، وقيل: مِن حالَ بمعنى: تحرَّكَ؛ أي: بك وأَنْهَضُ. وقيل: مِن حالَ بَيْنَ الشيئين إذا منعَ أحدَهما عن الآخر؛ أي: بكَ أُفرِّق بين الحقِّ والباطل. "وبك أَصُولُ"، الصَّوْلَة: الحَمْلَة على العدوِّ. "وبكَ أُقاتِل". * * * 1757 - وعن أَبي مُوسَى - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا خافَ قومًا قال: "اللهمَّ إنّا نجعلُكَ في نُحورِهم، ونَعوذُ بِك من شرورِهم". "وعن أبي موسى: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا خافَ قومًا قال: اللهم إنا نجعلُك في نُحورِهم": جمع نَحْر، وهو الصَّدر؛ أي: نجعلُكَ حِذاء أعدائِنا حتى تدفعَهم عنّا، وخصَّ النَّحر؛ لأنَّ العدوَّ يستقبِلُ بنحره عند القتال. "ونعوذُ بك من شرورهم".

1758 - عن أُم سلمة رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا خرجَ من بيتِهِ قال: "بسم الله، توكلْتُ على الله، اللهمَّ إنّا نعوذُ بِكَ مِنْ أنْ نَزِلَّ أو نضَلَّ، أو نظْلِمَ، أو نُظْلَمَ، أو نَجْهلَ أو يُجْهَلَ علينا"، صحيح. وفي رواية: قالتْ أُم سلَمة رضي الله عنها: ما خرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن بيتي قَطُّ إلَّا رَفَعَ طَرفَهُ إلى السَّماء فقال: "اللهمَّ إلى أَعوذُ بكَ مِنْ أنْ أَضلَّ أو أُضَلُّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَمَ، أو أَجْهَلَ أو يُجْهَلَ عَلَيَّ". "عن أمِّ سلمةَ أن النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - كان إذا خرجَ من بيته قال: بسم الله، توكَّلْتُ على الله، اللهم إنا نعوذُ بك من أن نَزِلَّ"، من الزَّلَّة؛ أي: عن الحق. "أو نضَلَّ"؛ أي: من الضلالة؛ أي: عن الحق. "أو نُضَلَّ" علي بناء المجهول أي: أضلني أحدٌ. "أو نَظْلِم"؛ أي: أحدًا. "أو نُظْلَم"، علي بناء المجهول؛ أي: من أحد. "أو نجهَل"؛ أي: الحقَّ. "أو يُجْهَلَ علينا"؛ أي: يفعلَ الناسُ بنا فِعلَ الجُهّال من إيصال الضرر إلينا. "صحيح. وفي رواية: قالت أم سَلَمة: ما خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من بيتي قطُّ إلا رفعَ طَرفَه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك من أن أَضلَّ أو أُضَلَّ، أو أَظْلِمَ أو أُظْلَم، أو أَجْهَل أو يُجْهَلَ عليَّ". * * * 1759 - عن أنَسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قال إذا خرَجَ من

بيتِهِ: بسمِ الله توكَّلتُ على الله، ولا حَوْلَ ولا قوةَ إلا بالله العَليِّ العظيم؛ يُقالُ له: هُدِيتَ، ووُقيتَ، وكُفِيتَ، فَيتنحَّى عنه الشَّيطان، ويقولُ شيطانٌ آخَرُ: كيفَ لكَ برجُلٍ هُدِيَ، وكُفِيَ، ووُقِيَ". "وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَن قال إذا خرج من بيته: بسم الله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له"؛ أي: ينادي ملكٌ: يا عبدَ الله! "هُدِيتَ"؛ أي: رُزِقْتَ إصابةَ الحقِّ ووجدانَ الطريقِ المستقيم. "وكُفِيتَ"؛ أي: رُفعَ عنك هَمُّك. "ووُقِيتَ"؛ أي: حُفِظْتَ من شَرّ أعدائِك. "فَيتنحَّى"؛ أي: يتبعَّد "عنه الشيطانُ"، وهذا إما إبليسُ، أو شيطانُه الموكَّل به. "ويقولُ شيطانٌ آخر" للشيطان الموكل: "كيف لك برجلٍ"؛ أي: بإضلال رجل. "هُدِيَ وكُفِيَ ووُقِيَ" من الشياطين أجمعين ببركة هذه الكلماتِ، فإنك لا تقدِرُ عليه. * * * 1760 - عن أبي مالكٍ الأَشْعَري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وَلَجَ الرَّجُلُ بيتَهُ فليقلْ: اللهمَّ إنِّي أسألُكَ خيرَ المولج وخَيْرَ المَخْرَجِ، بسم الله وَلَجْنا، وبسم الله خرجْنا، على الله ربنا توكَّلْنا، ثمَّ لْيُسَلَّمْ على أَهلِهِ". "وعن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ولجَ الرجلُ"؛ أي: دخلَ "بيتَه فليقلْ: اللهم إني أسألُكَ خير المَولِج"، بفتح الميم

وكسر اللام؛ أي: خيرَ الموضع الذي يَلِجُ فيه. "وخيرَ المَخْرَج"؛ أي: موضعَ الخروج. "بسم الله وَلَجْنا"؛ أي: دخَلْنا. "وبسم الله خَرَجْنا، وعلى الله ربنا توكَّلْنا، ثمَّ ليسلّم على أهله". * * * 1761 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا رَفَّأ الإنسانَ إذا تزوَّجَ قال: "باركَ الله لك، وباركَ عَليكَ، وجمَعَ بينَكما في خَيْرٍ". "وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا رَفَّأ الإنسانَ"، من الترفئة - مهموز اللام -: التهنئة. "إذا تزوَّجَ قال: باركَ الله لك، وباركَ عليكَ، وجمعَ بينَكُما في خير"، وكانوا في الجاهلية يقولون: بالرِّفاء والبنينَ، فنهى - صلى الله عليه وسلم - عن عادتِهم وبدَّلَه بهذه السنة الإِسلامية. * * * 1762 - عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جَدِّه - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تَزَوَّجَ أحدكم امرأةً أو اشتَرى خادِمًا فليقلْ: اللهمَّ إنِّي أسألُكَ خيرَها وخَيْرَ ما جَبَلْتَها عليه، وأعوذُ بكَ مِنْ شرِّها، ومِنْ شر ما جَبَلْتَها عليهِ، وإذا اشترى بَعيرًا فلْيَأخذْ بِذِروةِ سَنامِهِ وليقل مثلَ ذلك". ويُروى في المَرأةِ والخادمِ: "ثمَّ لْيَأْخُذْ بناصيَتِها، وليدْع بالبَرَكَةِ". "عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا تزوَّجَ أحدُكم امرأةً أو اشترى خادمًا فليقُل: اللهم إني أسألُك خيرَها وخيرَ

ما جَبَلْتَها"؛ أي: خَلَقْتها "عليه، وأعوذُ بك من شَرِّها وشرِّ ما جَبَلْتَها عليه، وإذا اشترى بعيرًا فليأخُذْ بذِروة سَنامه"؛ أي: أعلاه. "وليقُل مثلَ ذلك، ويُروَى في المرأة والخادم: ثمَّ ليأخذ بناصِيتِها، وليَدع بالبركة". * * * 1763 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سَمِعتُم نبُاحَ الكِلابِ ونهَيْقَ الحَمِيْرِ بالليلِ فتعَوَّذُوا بالله من الشيطانِ، فإنَّهنَّ يَرَيْنَ ما لا تَرَوْنَ"، صحيح. "وعن جابرٍ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا سمعتُم نباحَ الكلاب ونهيقَ الحُمُر باللَّيل فتعوَّذُوا بالله من الشيطان، فإنهن"؛ أي: الكلاب والحمير "يَرَون ما لا تَرَوْن"؛ أي: من الأبالسة والجِنّ والشياطين، فتعوَّذوا بالله عند ذلك لتُحفَظُوا من شرورها. "صحيح". * * * 1764 - عن أبي بَكْرَة، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "دَعَواتُ المَكْروبِ: اللهمَّ رحمتَكَ أَرجُو، فلا تَكِلْنِي إلى نفْسي طَرفَةَ عَيْنٍ، وأَصلِحْ لي شَأني كلَّهُ، لا إلهَ إلا أنتَ". "عن أبي بَكْرَة - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: دَعَوات المكروب"؛ أي: المحزون: "اللهمَّ رَحمتَك أَرجُو فلا تَكِلْني"؛ أي: لا تترُكْني. "إلى نَفْسِي طَرفَةَ عَينٍ"؛ أي: لحظةً، فإنها أَعْدَى لي من جميع الأعداء،

وإنها عاجزةٌ لا تقدِرُ على قضاء حوائجي. "وأصلِح لي شأني كلَّه، لا إله إلا أنت". * * * 1765 - عن أبي سَعيد الخُدْري - رضي الله عنه - قال: قَالَ رجلٌ: همومٌ لَزِمَتنيِ وديونٌ يا رسولَ الله؟ قال: "أفلا أُعَلِّمُكَ كلامًا إذا قُلْتَه أَذْهَبَ الله هَمَّكَ، وقَضَى عَنْكَ دينَكَ؟ قال: قلتُ: بلىَ، قال: "قل إذا أَصبَحتَ وإذا أَمسَيْتَ: اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ من الهَمِّ والحَزَنِ، وأعوذُ بكَ مِنَ العَجْزِ والكَسَلِ، وأَعوذُ بك من الجُبن والبُخْلِ، وأَعوذُ بكَ مِنْ غَلَبةِ الدّيْنِ وقَهْرِ الرِّجالِ"، قال: ففعلْتُ ذلك، فأذهَبَ الله هَمِّي، وقَضَى عني دينِي. "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: قال رجلٌ: هموم لزمَتْنِي"؛ أي: عَليَّ همومٌ، جمع الهَمِّ، وهو الحُزْنُ، حُذِفَ الخبرُ لدلالة (لزمتني) عليه. "ديونٌ يا رسول الله! قال: أفلا أعلِّمُكَ" الفاء عطف على محذوف؛ أي: ألا أُرشِدُك فأعلِّمُك "كلامًا إذا قلته أذهبَ الله همَّكَ وقضَى عنك دينَك؟ قال: قلت: بلى، قال: قل إذا أصبحتَ وإذا أمسيتَ: اللهم إني أعوذُ بك من الهَمِّ والحَزَن"، قيل: هما واحد، وإنما عطفَ أحدَهما على الآخر لاختلاف اللَّفْظَين، وقيل: الحَزَنُ يكون على ما مضى، والهمُّ على ما يستقبل. "وأعوذُ بك من العَجْز والكَسَل"؛ أي: التثاقُل عن الشيء المحمودِ مع القدرة عليه. "وأعوذُ بك من البُخْل"، وهو تَركُ أداءِ الزكاة والكَفَّارات، وردُّ السائل، وترك الأضياف، ومنعُ العِلم لمحتاج إليه. "والجُبن" بضم الجيم: الخوف عند القتال مع الكفار.

"وأعوذ بك من غلبة الدين" وإنما استعاذ من الدَّين؛ لأنَّ نفس الإنسان معلقة به، فكان مَظِنةَ الاستعاذة. "وقهر الرجال" أراد بالقهر هنا: الغلبة، وإضافة القهر إليها من باب إضافة المصدر إلى المفعول؛ أي: من غلبة النفس عليهم، ويمكن أن يحمل على إضافته إلى الفاعل. "قال: ففعلت ذلك فأذهب الله همي وقضى عني ديني". * * * 1766 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -: جاءَهُ مكاتَبٌ فقال: إنِّي قد عَجزْتُ عن كتابتي، فأَعِنِّي، قال: ألا أُعَلَّمُكَ كَلِمات عَلَّمَنِيهِن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لو كانَ عليكَ مثْلُ جبَلٍ كبيرٍ دَينًا أدَّاه الله عنكَ؟ قل: "اللهمَّ اكفِني بحَلالِكَ عن حَرامِك، وأغنِنِي بفَضْلِكَ عمن سِواكَ". "وعن علي - رضي الله عنه - أنه جاءه مكاتب فقال: إني عجزت عن كتابتي"؛ أي: عن بدل مال الكتابة، وهو المال الذي كاتَبَ به السيدُ عبدَه، العجز أصله التأخُّر عن الشيء والقصور عن الإتيان به، وهو ضدُّ القدرة عرفاً. "فأعنِّي، قال: ألا أعلِّمك كلمات علَّمنيهِنَّ رسول الله لو كان عليك مثلُ جبلٍ كبير دينًا" يجوز أن يكون تمييزًا عن اسم (كان) لما فيه من الإبهام وقوله: (عليك) خبراً مقدماً عليه، وأن يكون خبرَ (كان) و (عليك) حالًا من المستتر في الخبر، والعامل هو معنى الفعل المقدَّر في الخبر. "أداه الله عنك، قل: اللهم اكْفِني بحلالك عن حرامك وأغنني بفضلك عمن سواك".

8 - باب الاستعاذة

8 - باب الاستِعاذَة (باب الاستعاذة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1767 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَعَوَّذوا بالله مِن جَهْدِ البَلاء ودَرَكِ الشَّقاء، وسوء القَضاء، وشَماتَةِ الأَعداء". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَعوذوا بالله من جَهد البلاء" بفتح الجيم: هي الحالة التي يُمتحن بها الإنسان، وتَشُقُّ عليه حتى يختار عليه الموت ويتمناه. "ودرك الشَّقاء" بفتح الشين، بمعنى الشقاوة، والدَّرك: اللحوق والوصول، وهو مصدر مضاف إلى الفاعل؛ أي: نعوذ بك من أن يلحقنا شقاوة، أو إلى المفعول والفاعلُ محذوف؛ أي: من دركنا الشقاوةَ، أو: الدرك واحد دركات جهنم؛ أي: نعوذ بك من موضع أهل الشقاوة وهو جهنم. "وسوء القضاء" في الدِّين والدنيا والبدن والمال والخاتمة. "وشماتة الأعداء" وهي فرح العدو ببليةٍ تنزل بمن يعاديه؛ أي: نعوذ بك من أن تصيبنا مصيبةٌ في ديننا أو دنيانا بحيث يفرح أعداؤنا. * * * 1768 - وقال أنَسٌ - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ مِن الهَمِّ والحَزَنِ، والعَجْزِ والكسلِ، والجُبن والبخلِ، وضَلَعِ الدِّيْنِ، وَغَلَبةِ الرِّجالِ".

"وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلَع الدين" بفتحتين؛ أي: ثقله بحيث يميل صاحبه إلى الاعوجاج. "وغلبة الرجال"؛ أي: قهرهم عليه. * * * 1769 - وعن عائشة - رضي الله عنها -: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إنِّي أَعُوذُ بك مِن الكَسَلِ والهَرَمِ، والمَغْرَمِ والمَأثَم، اللهمَّ إنِّي أَعُوذُ بكَ مِن عَذابِ النارِ، وفتنةِ النارِ، وفِتْنةِ القَبْرِ، وعذابِ القَبْرِ، وشرِّ فِتْنةِ الغِنَى، وشرِّ فِتنةِ الفَقْرِ، ومن شرِّ فِتْنةِ المَسِيْح الدَّجّالِ، اللهمَّ اغسلْ خَطايايَ بِماءِ الثَّلْج والبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبي كما يُنَقَّى الثَّوبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنسَ، وَباعِدْ بَيْني وبَيْنَ خَطايايَ كما باعدْتَ بينَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ". "وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمغرم"؛ أي: الغرامة "والمأثم"؛ أي: الإثم. "اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار"؛ أي: من أن أكون من أهل النار وهم الكفار، فإنهم هم المعذَّبون، وأما الموحّدون فهم مؤدَّبون بالنار لا معذَّبون بها. "وفتنة النار"؛ أي: من تصفيتي من خطاياي بالنار، والفتنة تجيء بمعنى التصفية، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34]؛ أي: صفَّيناه من الأوصاف الذميمة. "وفتنة القبر" وهي التحيُّر في جواب منكر ونكير.

"وعذاب القبر" وهو ضربُ مَن لم يوفق للجواب بمقامعَ من حديد. "وشر فتنة الغنى" وهو البطر والطغيان بالمال، والتفاخُر به، وصرفُه في المعاصي، وأخذُه من الحرام، ونحو ذلك. "وشر فتنة الفقر" وهي عدم الرضاء بما قسم الله له، والطمعُ في أموال الأغنياء، والحسدُ والتذلل لهم، ونحوه. "ومن فتنة المسيح الدجال، اللهم اغسل خطاياي بماء الثلج والبرد"؛ يعني: طهرني من الذنوب بأنواع المغفرة الشبيهة بهذه الأشياء المطهِّرة من الدنس. "ونقِّ قلبي كما ينقَّ الثوبُ الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب". * * * 1770 - وعن زيد بن أَرقَم - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من العَجْزِ والكَسَلِ، والجُبن والبُخلِ والهَرَمِ، وعذابِ القبرِ، اللهمَّ آتِ نَفْسِي تَقْواها، وزكها أنتَ خيرُ مَنْ زكَّاها، أنت وَلِيُّها ومَوْلاَها، اللهمَّ إني أَعوذُ بِكَ من عِلْمٍ لا ينفَعُ، ومِن قلْب لا يَخْشَعُ، ومِن نفسٍ لا تَشْبَعُ، ومِن دَعْوة لا يُسْتجاب لها". "وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - أنَّه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والجبن والبخل، والهرم، وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها"؛ أي: أعطها صيانتها عن المحظورات. "وزكِّها"؛ أي: طهرها. "أنت خير مَن زكّاها، وأنت وليّها"؛ أي: ناصرها، هذا راجعٌ إلى قوله:

(آت نفسي)، كأنه يقول: انصرها على فِعْلِ ما يكون سبباً لرضاك عنها لأنك ناصرُها. "ومولاها" هذا راجع إلى قوله: (زكها)؛ يعني: طهِّرها بتأديبك إياها كما يؤدب المولى عبده. "اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع"؛ أي: علم لا أعمل به ولا أعلَّمه الناسَ، وما لا يُحتاج إليه في الدين، ولا في تعلمه إذن من الشرع، ولا تصل بركته إلى قلبي، ولا يبدل أفعالي، وأقوالي وأخلاقي الذميمة إلى المرضيّة. "ومن قلب لا يخشع"؛ أي: لا يخاف الله. "ومن نفس لا تشبع"؛ أي: حريصة على جمع المال والمنصب. وقيل: هو على حقيقته إما لشدة حرصه على الدنيا لا يقدر أن يأكل قدْرَ ما يُشبع جوعته بخلاً على نفسه، وإما لاستيلاء الجوع البقري عليه المسمى: بوليمرس، وهو جوع الأعضاء مع شبع المعدة عكس الشهوة الكلبية. "ومن دعوة لا تسمع"؛ أي: لا يستجاب لها. * * * 1771 - وقال عبد الله بن عُمر - رضي الله عنه -: كانَ مِنْ دُعاءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ من زَوالِ نِعمتِكَ، وتَحَوّلِ عافيتِكَ، وفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وجميعِ سَخَطِكَ". "وقال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: كان من دعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحوُّل عافيتك"؛ أي: من تبدل ما رزقتني من العافية إلى البلاء. "وفجاءة نِقمتك" بكسر النون: الغضب والعذاب.

"وجميع سخطك". * * * 1772 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ مِن شرِّ ما عَمِلتُ، ومِن شرِّ ما لم أَعَمَلْ". "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم إني أعوذ بك من شر ما عملت" تعوُّذُه عليه الصلاة والسلام من ذلك كأنه لما لا يأمنه - صلى الله عليه وسلم - عمل وقع فيه تقصير يحتاج إلى عفو وغفران. "ومن شر ما لم أعمل" استعاذ من أن يعمل في مستقبل الزمان ما لا يرضاه تعالى، فإنه لا مأمن لأحد مِن مكره تعالى، قال تعالى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99]. * * * 1773 - وعن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ لكَ أسْلَمْتُ، وبكَ آمنتُ، وعليكَ تَوَكَّلْتُ، وإليكَ أنبتُ، وبكَ خاصمْتُ، اللهمَّ إنِّي أعوذُ بعِزتِكَ لا إلهَ إلا أنتَ أنْ تُضلَّني، أنتَ الحيُّ الذي لا يموتُ، والجنُّ والإنسُ يَموتونَ". "وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت"؛ أي: رجعت. "وبك خاصمت"؛ أي: وبإعانتك إياي أخاصم أعداءك وأحاربهم. "اللهم إني أعوذ بعزتك"؛ أي: بغلبتك. "لا إله إلا أنت أن تضلني"؛ أي: من أن تضلني، متعلق بـ (أعوذ)،

وكلمة التوحيد معترضةٌ لتأكيد العزة. "أنت الحي الذي لا يموت والجن والإنس يموتون" وإنما خصهما بالذكر؛ لأنهما المكلَّفان المقصودان بالتبليغ فكأنهما الأصل. * * * مِنَ الحِسَان: 1774 - قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إنّي أعوذُ بِكَ من الأَربَعِ: من عِلْم لا ينفعُ، ومِن قَلْبٍ لا يَخشعُ، ومِن نفْس لا تَشبعُ، ومِن دُعاءٍ لا يُسْمَعُ". "من الحسان": " قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كان - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم إني أعوذ بك من الأربع: من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعاء لا يسمع (¬1) ". * * * 1775 - وعن عُمر - رضي الله عنه - قال: كانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذُ مِن خمسٍ: "مِن الجُبن، والبُخْلِ، وسُوءَ العُمُرِ، وفِتْنَةِ الصَّدرِ، وعذابِ القَبْرِ". "وعن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قال: كان - صلى الله عليه وسلم - يتعوذ من خمس: من الجبن، والبخل، وسوء العمر"؛ يعني: سوء الكبر. "وفتنة الصدر" أراد ما ينطوي عليه الصدر من غلٍّ، أو خيانة، أو غش، أو وسواس، أو خلق سيئ وعقيدة غير مرضية. ¬

_ (¬1) في "م" زيادة:، وفي رواية: عين لا تدمع".

"وعذاب القبر". * * * 1776 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من الفَقْرِ، والقِلَّةِ، والذلَّةِ، وأَعوذُ بِكَ من أنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ". "وعن أبي هريرة: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الفقر"؛ المراد به: فقر القلب، وكلُّ قلب يحرص على شيء فهو فقير. "والقلة" أراد بها قلة الصبر، أو القلةَ في أبواب الخير والبر، أو القلة التي هي قريبة من الفقر المدقع. "والذلة"؛ أي: أن يكون ذليلًا بحيث يستخفُّه الناس، ويحقرون شأنه. "وأعوذ بك من أن أظلم أو أظلم"؛ أراد بهذه الأدعية تعليم الأمة. * * * 1777 - وعنه: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "اللهمَّ إني أعوذُ بِكَ من الشِّقاقِ، والنِّفاقِ، وسُوءِ الأَخْلاقِ". "وعنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الشقاق"؛ أي: الخلاف في الحق. "والنفاق" وهو أن يُظهر لصاحبه خلافَ ما أَضْمره. "وسوء الأخلاق" وهو إيذاء أهل الحق، وإيذاء الأهل والأرقاب، وتغليظ الكلام عليهم بالباطل، وعدم تحمُّلهم، وعدم العفو عنهم إذا صدرت خطيئة منهم.

1778 - وعنه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من الجُوعِ، فإنَّه بِئْسَ الضَّجيجُ، وأعوذُ بكَ من الخِيانَةِ، فإنها بِئستِ البطانةُ". "وعنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من الجوع" وهو الألم الذي ينال الإنسانَ من خلوّ المعدة عن الغذاء، استعاذ عليه الصلاة والسلام من الجوع لإضعافه البدنَ عن القيام بوظائف العبادات، وتخلية المواد المحمودة بلا بدل، وتشويشه الدماغ، وإثارته الأفكار الفاسدة. "فإنَّه بئس الضجيع"؛ أي: المُضاجع، وهو يشير إلى الجوع المانع عن الهجوع، ويلازم في المضجع. "وأعوذ بك من الخيانة": وهي مخالفة الحق بنقض العهد في السر، وهي نقيض الأمانة. "فإنها بئست البطانة" بطانة الثوب خلاف ظهارته، ثمَّ استُعير فيما يُستبطن من أمره وحاله؛ أي: الخصلة الباطنة، جَعَل الجوع ضجيعاً والخيانةَ بطانة لملابسة بينهما بالإنسان ملابسة ضجيعه وبطانته، وقيل: البطانة هنا الصديق الخالص. وقيل: بطانة الرجل: أهله وخاصته. * * * 1779 - وعن أَنسٍ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقولُ: "اللهمَّ إنِّي أَعوذُ بكَ من البَرَصِ، والجُذامِ، والجُنونِ، ومِنْ سَيئِ الأَسْقامِ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يقول: اللهم إني أعوذ بك من البَرَص" بفتح الباء والراء: بياضٌ يَحدُث في الأعضاء على وجه العلة. "والجذام" بضم الجيم: علة يذهب معها شعور الأعضاء، ويتفتت اللحم.

"والجنون، ومن سيئ الأسقام" أراد به الأمراضَ الفاسدة مثل الاستسقاء والسل والمرض الطويل. والحاصل: أن كل مرض يحترز الناس من صاحب ذلك المرض، ولا ينتفعون منه ولا ينتفع منهم، ويعجز بسبب ذلك المرض عن حقوق الله وحقوق المسلمين، يُستحب الاستعاذة من ذلك. * * * 1780 - وعن قُطْبة بن مالكٍ قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ إنِّي أعوذُ بكَ من مُنْكَراتِ الأَخلاقِ، والأعمالِ، والأهواءِ". "وعن قطبة بن مالك أنَّه قال: كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول: اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأعمال والأخلاق": جمع منكر، وهو ما لا يعرف حسنه من جهة الشرع، أو ما عُرف قبحه من جهته. "والأَهواءِ" - بفتح الهمزة: المحبة والاشتهاء. * * * 1781 - عن شُتَيرِ بن شَكَلِ بن حُمَيدٍ، عن أبيه قال: قلتُ: يا نبيَّ الله!، علِّمني تَعْويذًا أتعوَّذُ به، قال: "قل: اللهم إنِّي أعوذُ بِكَ من شَرِّ سَمْعي، وشرِّ بَصرَي، وشرِّ لِساني، وشَرِّ قَلْبي، وشرِّ مَنِيي". "وعن شُتير بن شكل بن حميد عن أبيه أنَّه قال: قلت: يا نبي الله! علمني تعويذًا أتعوذ به، قال: قل: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي" حتى لا أسمع به ما تكرهه. "وشر بصري" حتى لا أبصر شيئًا تكرهه.

"وشر لساني" حتى لا أتكلم بما تكرهه. "وشر قلبي" حتى لا أعتقد شيئاً تكرهه. "وشر منيي": حتى لا أقع في الزنا. وإنما أمر النبي عليه الصلاة والسلام استعاذته من هذه الأشياء لأنَّ اجتراح الآثام إنما يكون من قِبَلها. * * * 1782 - وعن أَبي اليَسَر: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يدعو: "اللهمَّ إنِّي أعوذُ بِكَ من الهَدْمِ، وأَعوذُ بِكَ مِنَ التَّرَدَّي، ومن الغَرَقِ، والحَرَقِ والهَرَمِ، وأعوذُ بِكَ مِنْ أَنْ تتَخَبَّطني الشَّيْطانُ عِنْدَ المَوْتِ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَمُوتَ في سَبيلِكَ مُدبراً، وأعوذُ بِكَ أَنْ أَموتَ لَدِيغًا"، وزيدَ في بعض الرِّوايات: "والغَمَّ". "وعن أبي اليَسَر - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو: اللهم إني أعوذ بك من الهدم" يروى بالسكون مصدرًا وبالفتح أيضًا: ما يُهدم؛ أي: من أن يقع عليَّ جدار أو سقف أو غير ذلك. "وأعوذ بك من التردي" وهو السقوط في نحو بئر، والتهور من نحو جبل، التهور: الوقوع في شيء بقلة مبالاة. "ومن الغَرَق" بفتحتين: مصدر غرق في الماء. "والحرق" بالتحريك: النار. "والهرم" إنما استعاذ عليه الصلاة والسلام من هذه الأشياء مع وعد الشهادة عليها؛ لأنها عن لا يكاد أحد أن يصبر عليها، أو يَذكر عند حلولها شيئًا مما يجب عليه في وقته. "وأعوذ بك من أن يتخبطني الشيطان"؛ أي: أن يفسد علي ديني "عند

الموت"، (التخبط): إفساد العقل والدين، وإنما تعوَّذ من هذا مع أن شيطانه أسلم؛ تعليماً لأمته. "وأعوذ بك من أن أموت في سبيلك مدبرًا"؛ أي: عن الحق، أو من حرب الكفار. "وأعوذ بك أن أموت لديغًا" فعيل بمعنى مفعول من اللدغ، وهو لسع الحية. "وزيد في بعض الروايات: والغم"؛ أي: كلمة والغم. * * * 1783 - عن مُعاذٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "استعيذُوا بالله من طَمَعٍ يَهْدي إلى طَبَعٍ". "وعن معاذ - رضي الله عنه - عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنَّه قال: استعيذوا بالله من طمع يهدي إلى طَبع" بالفتح: العيب والدنس، وكلُّ شين في دين ودنيا فهو طبع؛ يعني: من الحرص الذي يجرُّ إلى صاحبه الذلَّ والعيب. * * * 1784 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أخذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيَدي، فنظرَ إلى القمَرِ، فقال: "يا عائشةُ، استعِيْذي بالله {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} وهذا غاسِقٌ إذا وَقَبَ". "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بيدي فنظر إلى القمر فقال: يا عائشة! استعيذي بالله {وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ} " من غَسَقَ: إذا أظلم؛ أي: من شر الليل {إِذَا وَقَبَ}؛ أي: دخل لما في ظلمة الليل من الآفات

وانبثاث الشرور. "هذا غاسق" إشارة إلى القمر. "إذا وقب"؛ أي: دخل في خسوفه، أو في مغيبه، سمي القمر غاسقاً لأنه إذا خسف أو أخذ في المغيب أظلم. * * * 1785 - وقال عِمْران بن حُصَيْن: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأبي: "يا حُصَيْنُ، لو أَسلمتَ علَّمتُكَ كلمتينِ تنفعانِكَ"، فلمّا أسلمَ قال: قُلْ: "اللهمَّ أَلهِمْنِي رُشْدي، وَأَعِذْنِي من شرِّ نفْسي". "وقال عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال النبي عليه الصلاة والسلام لأبي: يا حصين! لو أسلمتَ علَّمتُكَ كلمتين تنفعانِكَ، فلما أسلم قال: قل: اللهم ألهمني رشدي"؛ أي: وفِّقني إلى الرشد. "وأعذني من شر نفسي". * * * 1786 - عن عَمْرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جَدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُعلَّمُهم مِن الفَزَعِ: "أعوذُ بكَلِماتِ الله التامةِ من غضَبهِ وعقابهِ، وشَرِّ عِبادِهِ، ومِن هَمَزاتِ الشَّياطينِ، وأنْ يَحضُرونِ". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يعلَّمهم من الفزع: أعوذ بكلمات الله التامات"؛ أي: القرآن. "من غضبه وعقابه وشر عباده، ومن همزات الشياطين"؛ أي: ومن وساوسهم وإلقائهم الفتنة والاعتقاداتِ الفاسدةَ في قلبي.

9 - باب جامع الدعاء

"وأن يحضرون" بحذف الياء وإبقاء الكسرة دليلًا عليها؛ أي: يحضروني في صلاتي وقراءتي القرآن ونحو ذلك، وقيل: عند الموت. * * * 1787 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سأَلَ الله الجنَّةَ ثلاثَ مرّاتٍ؛ قالتِ الجنَّةُ: اللهمَّ أَدخِلْهُ الجنَّةَ، ومَنِ استجارَ مِنَ النارِ ثلاثَ مراتٍ؛ قالتِ النارُ: اللهمَّ أَجِرهُ من النّارِ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سأل الله - عز وجل - الجنة ثلاث مرات قالت الجنة"؛ أي: بلسان الحال، أو محمولٌ على الحقيقة لقدرته تعالى على إنطاق الجمادات، أو المراد أهل الجنة من الحور وغيرها. "اللهم أدخله الجنة، ومن استجار من النار ثلاث مرات قالت النار: اللهم أجره من النار". * * * 9 - باب جامع الدعاء (باب جامع الدعاء) إضافة الجامع إلى الدعاء إضافة الصفة إلى الموصوف؛ أي: الدعاء الجامع لمعانٍ كثيرة في ألفاظ يسيرة. مِنَ الصِّحَاحِ: 1788 - عن أبي مُوسَى الأَشْعَري - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَه كان يَدعُو: "اللهمَّ اغْفِرْ لي خطيئَتي، وجَهْلِي، وإسْرافي في أَمْري، وما أنتَ أعلَمُ بهِ مني،

اللهمَّ اغْفِر لي جِدِّي وهَزْلي، وعَمْدِي، وكلُّ ذلك عِندي، اللهمَّ اغفر لي ما قدَّمتُ وما أَخرْتُ، وما أَسْرَرْتُ، وما أَعْلَنْتُ، وما أنتَ أَعلمُ بهِ مِنِّي، أنتَ المُقدِّمُ، وأنتَ المُؤخِّرُ، وأنتَ على كلِّ شيءٍ قدير". "من الصحاح". " عن أبي موسى الأشعري عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه كان يدعو: اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي" وهو نقيض الهزل. "وهزلي" وهو المزاح والتكلُّم بالباطل. "وخطئي وعمدي، وكل ذلك عندي"؛ يعني: أنا معترفٌ بصدور ما ذكر من الذنوب عني، وإنما قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كونه معصوماً من المعاصي؛ تعليماً لأمته وتواضعاً، حيث عدَّ فَوْتَ الأفضل عنه ذنباً. "اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، وأنت على كل شيء قدير". * * * 1789 - وعن أبي هريرة قال - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "اللهمَّ أَصلِحُ لي دِيْني الذي هو عِصمَةُ أَمْري، وأَصلِحْ لي دُنْيايَ التي فيها مَعاشِي، وأصلِحْ لي آخرتي التي فيها مَعادِي، واجعلْ الحَياةَ زيادةً لي في كلِّ خيرٍ، واجعلْ الموتَ راحةً لي من كلِّ شَرٍّ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم أصلح لي ديني"؛ أي: احفظه عن الخطأ. "الذي هو عصمة أمري"؛ يعني: ديني هو المعتمد عليه في شأني، ولا

شك أنَّه كذلك؛ لأنه إذا فسد لم يبق لصاحبه صلاحٌ لا في الدنيا ولا في الآخرة. "وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي"؛ أي: احفظ من الفساد ما أحتاج إليه في الدنيا من إثبات زرعٍ، وإثمارِ شجرٍ، وإنماءِ مواشِ، وإنباع مياهٍ، وإنزال مطرٍ. "وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي" مصدر ميميٌّ من عاد: إذا رجع؟، يعني: ارزقني عملًا يقرِّبني في الآخرة إليك. "واجعل الحياة زيادة"؛ أي: سبب زيادة. "لي في كل خير"؛ يعني: اجعل عمري مصروفاً فيما تحب، وجنّبني عما تكره. "واجعل الموت راحة لي من كل شر" بأن يكون على شهادة واعتقادٍ حسنٍ وتوبةٍ، حتى يكون موتي سببَ خلاصي عن مشقة الدنيا، وحصولِ راحتي في الآخرة. * * * 1790 - وعن عبد الله بن مَسْعُود - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه كانَ يقولُ: "اللهمَّ إني أسألُكَ الهُدَى، والتُّقَى، والعَفافَ، والغِنَى". "وعن عبد الله بن مسعود عن النبي عليه الصلاة والسلام أنَّه كان يقول: اللهم إني أسألك الهدى"؛ أي: الرشاد. "والتقى"؛ أي: الخوف من الله، والحذر عن مخالفته. "والعفاف" وهو التنزُّه عما لا يباح. "والغنى"؛ أي: الاستغناء عما في أيدي الناس.

1791 - وعن علي - رضي الله عنه - قال: قَالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قلْ: اللهمَّ اهدِني وسدِّدني، واذْكُر بالهُدَى: هدايَتَكَ الطَّريقَ، وَبالسَّدادِ: سَدادَ السَّهْم". "وعن علي - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قل: اللهم اهدني وسددني" (السداد): إصابة القصد في الأمر والعدل فيه. "واذكر بالهدى"؛ يعني: إذا سألت الهدى فأَخْطِرْ بقلبك "هدايتك الطريق"؛ أي: طريق الدين، وسل الاستقامة فيه كما تتحرى ذلك في سلوك الطريق خوفاً من الضلال. "وبالسداد"؛ أي: فأخطر بقلبك سؤال السداد في القول والفعل. "سداد السهم"؛ أي: فكما أن السهم يقصد الهدف مستقيماً لا يعدل يمينًا ولا يسارًا، فكذلك اسأل سدادًا لا تعدل معه عن الحق إلى الباطل البتة. * * * 1792 - عن أبي مالك الأَشْجَعِيِّ، عن أبيه قال: كانَ الرجلُ إذا أسلم علَّمهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاةَ، ثمَّ أَمَرَهُ أنْ يَدعُوَ بهؤلاءَ الكلماتِ: "اللهمَّ اغْفِر لي، وارحَمْني، واهدني، وعافِني، وارزُقْني". "وعن أبي مالك الأشجعي - رضي الله عنه - عن أبيه أنَّه قال: كان الرجل إذا أسلم علمه النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - الصلاةَ، ثمَّ أمره أن يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني". * * * 1793 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ أكثُر دعاء النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ".

"وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّه قال: كان أكثر دعاء النبي عليه الصلاة والسلام: اللهم {رَبَّنَا آتِنَا} "؛ أي: أعطنا. {فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} المراد بالحسنة: النعمة، وقيل: أي: حظوظاً حسنةً. {وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201]؛ أي: احفظنا منه. * * * مِنَ الحِسَان: 1794 - عن ابن عبّاس - رضي الله عنهما - قال: كانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يَدعُو يقولُ: "ربِّ أعِنِّي، ولا تُعِنْ عليَّ، وانصُرنِي، ولا تَنْصُر عليَّ، وامكُرْ لي، ولا تَمْكُرْ عليَّ، وَاهدِنِي، وَيسّر الهُدَى لي، واَنْصُرني على مَنْ بَغَى عليَّ، ربِّ اجعَلني لكَ شاكرًا، لك ذاكِرًا، لك راهِباً، لك مِطْواعاً، لك مُخْبتًا، إليك أوّاهًا مُنِيبًا، ربِّ تقبَّلْ توبَتي، وَاغسل حَوْبتِي، وأَجِبْ دعوَتي، وثَبتْ حُجّتي، وسَدِّد لِساني، وَاهدِ قَلْبي، وَاسلُلْ سَخِيمَةَ صَدري". "من الحسان": " عن ابن عباس أنَّه قال: كان النبي عليه الصلاة والسلام يدعو يقول: رب أعني"؛ أي: على ذكرك. "ولا تعن علي" من يمنعني عنه. "وانصرني"؛ أي: على أعدائي. "ولا تنصر علي، وامكر لي، ولا تمكر علي"، (المكر): الحيلة والفكر في دفع عدو بحيث لا يشعر به العدو؛ يعني: اللهم اهدني إلى طريق دفع أعدائي عني، ولا تهد عدوي إلى طريق دفعه إياي عن نفسه. "واهدني ويسر الهدى لي، وانصرني على من بغى"؛ أي؛ ظلم "علي".

"رب اجعلني لك شاكراً" قدم الصلة فيه وفي أخواته على متعلقاته للاختصاص والاهتمام. "لك ذاكراً، لك راهبًا"؛ أي: خائفاً. "لك مطواعاً"؛ أي: كثير الطوع، وهو الطاعة. "لك مخبتاً": من الإخبات وهو الخشوع والتواضع. "إليك أواهًا" هو الذي يكثر من قول: آه، يقوله النادم من ذنب، والمقصر في طاعة. "منيباً"؛ أي: راجعًا إلى الله ملتجئاً إليه. "ربِّ تقبل توبتي، واغسل حوبتي، ضماً وفتحاً؛ أي: إثمي، كناية عن إزالة الذنوب. "وأجب دعوتي وثبت حجتي"؛ أي: قولي وإيماني في الدنيا، وعند جواب الملكين في القبر. "وسدد"؛ أي: صوِّب وقوِّم "لساني" على التكلُّم بالصواب. "واهد قلبي"؛ أي: إلى طاعة الله. "واسلل"؛ أي: انزع وأخرج "سخيمة صدري" من السخمة السوداء؛ يعني: ما ينشأ من صدري ويسكن فيه من مساوئ الأخلاق. * * * 1795 - عن أبي بكر - رضي الله عنه - قال: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على المِنْبر، ثمَّ بَكَى فقال: "سَلُوا الله العفوَ والعافيةَ، فإنَّ أحدًا لم يُعْطَ بعدَ اليقين خيرًا مِنَ العافية"، غريب.

"عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنَّه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر ثمَّ بكى" لعلمه بالوحي وقوعَ الأمة في الفتن، وغلبة الشهوات عليهم، والحرص على الجاه وعلى جمع الأموال. "فقال: سلوا الله العفو" وهو أن يعافيك الله من الأسقام والبلايا ومحو الذنوب. "والعافية" وهي أن يعافيك من الناس ويعافيهم منك. "فإن أحدًا لم يعط بعد اليقين"؛ أي: بعد الإيمان "خيرًا من العافية. غريب". * * * 1796 - وعن أنَسٍ - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال: يا رسولَ الله، أيُّ الدُّعاءِ أفضلُ؟ قال: "سَلْ ربَّكَ العافيةَ والمُعافاةَ في الدُّنيا والآخرةِ، فإذا أُعطِيْتَ العافيةَ في الدُّنيا والآخرةِ فقدْ أفلَحتَ"، غريب. "وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال: يا رسول الله! أيُّ الدعاء أفضل؟ قال: سل ربك العافية والمعافاة في الدنيا والآخرة، فإذا أُعطيت العافية في الدنيا والآخرة فقد أفلحت"؛ أي: خلصت من خوفك. "غريب". * * * 1798 - عن عبد الله بن يَزِيدٍ الخَطْميِّ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه كانَ يقولُ في دعائه: "اللهمَّ ارزقني حُبَّكَ، وحُبَّ مَن ينفعُني حُبَّهُ عندَكَ، اللهمَّ ما رزقتَني ممَّا أُحِبُّ فاجْعَلْهُ قوةً لي فيما تُحِبُّ، اللهم ما زَويتَ عنِّي مما أُحِبُّ فاجْعَلْهُ فَراغاً لي فيما تُحِبُّ".

"عن عبد الله بن يزيد الخطمي - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه كان يقول في دعائه: اللهم ارزقني حبك وحب من ينفعني حبه عندك، اللهم ما رزقتني مما أحبُّ فاجعله قوةً لي فيما تحب، اللهم ما زويت"؛ أي: صرفت ومنعت "عني مما أحب" من المال والجاه والأولاد. "فاجعله فراغًا لي"؛ أي: سبب فراغي "فيما تحب" من العبادة، وعوناً لي بطاعتك، وذلك لأنَّ الفراغ خلاف الشغل، فإذا زُويت عنه الدنيا ليتفرغ لمحابِّ ربِّه كان الفراغ عوناً له على الاشتغال بطاعة الله تعالى. * * * 1799 - عن ابن عُمر - رضي الله عنه - قال: قَلَّما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقومُ مِنْ مَجْلِسٍ حتَّى يَدعُوَ بهؤلاءِ الدَّعَواتِ لأصحابهِ: "اللهمَّ اقْسِمْ لنا مِنْ خَشْيتَكَ ما تَحُولُ بِهِ بَيْنَنا وبيْنَ مَعاصِيْكَ، ومِنْ طاعَتِكَ ما تُبَلِّغُنا بِهِ جَنَتكَ، ومِنْ اليقينِ ما تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنا مُصِيبات الدُّنْيا، وَمَتِّعْنا بأَسْماعِنا وأبصارِنا وقُوَّتِنا ما أَحيَيْتَنا، واجْعَلْهُ الوارِثَ مِنّا، واجْعَلْ ثأرَنا عَلَى مَنْ ظَلَمَنا، وانْصُرنا على مَنْ عادانَا، ولا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنا في ديننا، ولا تَجْعَلِ الدُّنْيا أكْبَرَ هَمِّنا، ولا مَبْلَغَ عِلْمِنا، ولا تُسَلِّط علينا مَنْ لا يَرحَمُنا"، غريب. "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنَّه قال: قلَّما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم من مجلس حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: اللهم اقسم لنا"؛ أي: اجعل لنا قَسْماً ونصيباً. "من خشيتك ما تحول" من حالَ حيلولة؛ أي: ما تمنع "به بيننا وبين معاصيك" حتى لا نجترئ على معصيتك. "ومن طاعتك ما تبلغنا"؛ أي: تُوْصِلُنا "به جنتك، ومن اليقين ما تهوِّن به"؛ أي: تسهِّل بذلك اليقين "علينا مصيبات الدنيا"؛ أي: ما يصيبنا من الغم

والمرض والجراحة، وتلف المال والأولاد. "ومتعنا"؛ أي: اجعلنا منتفعين "بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا"؛ أي: مدةَ حياتنا، التمتيع بالسمع والبصر: إبقاؤهما صحيحين إلى الموت. وقيل: أراد بالسمع وَعْيَ ما يسمع والعملَ به، وبالبصر الاعتبارَ بما يرى، وهكذا في سائر القوى. "واجعله"؛ أي: ذلك التمتيع "الوارث منا" أراد به هنا السمع والبصر، وبالميت فتور الأيدي والأرجل وسائر القوى؛ يعني: أبق علينا قوة أسماعنا وأبصارنا بعد ضعف أعضائنا الأخرى إلى وقت الموت، حتى لا نحرم من سماع كلامك والمواعظ، ولا من إبصار ما لنا فيه خير واعتبار، وهذان العضوان أنفع الأعضاء الظاهرة. "واجعل ثأرنا"؛ أي: حقدنا وعداوتنا. "على من ظلمنا، من المسلمين حتى نستوفي حقوقنا منه، لا على مَن لا حقَّ لنا عنده، حتى لا نؤذي أحداً بالباطل. "وانصرنا على من عادانا" حتى ندرك منه بنصرك العزيز، أو معناه: لا تجعلنا ممن يتعدى في طلب ثأره فنأخذ به غير الجاني، كما كان كذلك يفعل في الجاهلية. "ولا تجعل مصيبتنا في ديننا" باعتقاد سوءٍ وأكلِ حرام، ونقصٍ في العبادة. "ولا تجعل الدنيا أكبر همنا"؛ يعني: لا تجعل أكبر قصدنا وحزننا لأجل الدنيا، بل اجعله مصروفاً في عمل الآخرة. "ولا مبلغ علمنا"، (المبلغ): الغاية التي يبلغها القاصد فيقف عندها؛ أي: لا تجعلها غاية علمنا بحيث لا نعلم ولا نتفكر إلا في أحوال الدنيا، بل

اجعلنا متفكِّرين في أحوال الآخرة، ومُعْرِضين عن الدنيا راغبين في الآخرة. "ولا تسلط علينا من لا يرحمنا"؛ أي: لا تجعل الكفار علينا غالبين، ولا تجعل الظالمين حاكمين علينا، فإن الظالم لا يرحم الرعية. "غريب". * * * 1800 - عن أبي هُريرةَ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اللهمَّ انْفَعْنِي بما عَلَّمْتَنِي، وعَلّمْني ما يَنْفَعُني، وزِدنِي عِلْمًا، الحَمْدُ للهِ على كُلِّ حالٍ، وأَعُوذُ بالله مِنْ حالِ أهْلِ النّارِ"، غريب. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني، وزدني علمًا، الحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار"؛ أي: من شدة النار وغلبتها. "غريب". * * * 1797 - عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - أنَّه قال: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أُنْزِلَ عَلَيْهِ الوَحيُ سُمِعَ عِنْدَ وَجْهِهِ دَوِيٌ كَدَوِيِّ النَّخلِ، فأَنْزَلَ الله يومًا، فَمَكَثْنا ساعة، فَسُرِّيَ عَنْهُ، فاَسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ وَرَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ: "اللهمَّ زِدنا ولا تنقُصنا، وأكرِمْنا ولا تُهِنّا، وأعْطِنا ولا تَحرِمْنا، وآثِرنا ولا تُؤثر عَلَيْنا، وأَرضنا وارضَ عَنّا"، ثُمَّ قال: "أُنْزِلَ عَلَيَّ عَشْرُ آياتٍ، مَنْ أقامَهُنَّ دَخَلَ الجَنَّةَ"، ثُمَ قرأَ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} حَتَّى خَتَمَ عَشَرَ آياتٍ. "وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنَّه قال: كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا

أنزل عليه الوحي سُمع" - بصيغة المجهول - "عند وجهه"؛ أي: من جانب وجهه وجهته. "دوي"؛ أي: صوتٌ خفيٌّ لا يُفهم منه شيء. "كدوي النحل" وذلك الصوت كان صوتَ جبرائيل، كان الوحي يؤثِّر فيهم ويكشف لهم انكشافاً غير تام، وصاروا كمن سمع دويَّ صوت لا يُفهم. "فأنزل الله إليه يومًا فمكثنا ساعة فسرِّي عنه"؛ أي: كُشف عنه وزال ما اعتراه من برحاء الوحي؛ أي: من شدة الوحي. "فاستقبل القبلة ورفع يديه وقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تُهنّا"؛ أي: لا تُذِلَّنا. "وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا"؛ أي: اخترنا بعنايتك وإكرامك. "ولا تؤثر"؛ أي: لا تختر "علينا" غيرنا بغضبك وسخطك. "وأرضنا" بما قضيت علينا، بإعطاء الصبر والاحتمال. "وارض عنا" بما نقيم من الطاعة اليسيرة التي في جهدنا. "ثمَّ قال: أنزل علي عشر آياث من أقامهن"؛ أي: عمل بهن "دخل الجنة، ثم قرأ: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنين: 1] حتى ختم عشر آيات".

10 - كتاب الحج

10 - كِتَابُ الحَجِّ

1 - باب المناسك

10 - كِتَابُ الحَجِّ (كتاب الحج) هو لغة: القصد، وشرعاً: قصد الكعبة بأفعالٍ مخصوصة، في زمان مخصوص، وأماكن مخصوصة؛ للتقرُّب إلى الله تعالى. 1 - باب المَناسِك (باب المناسك) هي جمع منسك، بفتح السِّين وكسرها: مصدر ميمي أو مكاني، من نسك ينسك: إذا تعبَّد، ثم سُميت أفعالُ الحج كلُّها مناسك. مِنَ الصِّحَاحِ: 1801 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّها النَّاسُ: قَدْ فَرَضَ الله عليكُمْ الحجَّ فَحُجُّوا"، فقالَ رَجل: أكلَّ عامٍ يا رسولَ الله؟ فسكَتَ حتَّى قالَها ثلاثاً، فقال: "لو قلتُ: نعمْ لَوَجَبَتْ، ولَمَا اسْتَطَعْتُمْ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: أيها النَّاس! قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" دليل آخر بعد الكتاب والإجماع على وجوبه.

"فقال رجل" هو أقرع بن حابس: أكلَّ عام" نصب بمقدَّر؛ أي: أتأمرنا أن نحجَّ كلَّ عام "يا رسول الله؟ " قيل: إنَّما صدر هذا السؤال منه؛ لأنَّ الحج في تعارفهم: القصد بعد القصد، فكانت الصيغة مُوهمةً للتكرار. "فسكت حتَّى قالها"؛ أي: الأقرعُ الكلمةَ التي تكلَّمها "ثلاثاً" إنَّما سكت - صلى الله عليه وسلم - زجراً له عن السؤال الذي كان السكوت عنه أولى، ثم لمَّا رأى عليه الصَّلاة والسلام السائل لا ينزجر ولا يَقْنعُ إلَّا بالجواب الصريح صرَّح به. "فقال: لو قلت: نعم، لوجبت"؛ أي: فريضةُ الحج المدلولُ عليها بقوله: فرض أو حجة في كل عام. "ولما استطعتم". * * * 1802 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: أيُّ العَمَلِ أفضلُ؟ قال: "إيمان بالله ورسولهِ"، قيلَ: ثُمَّ ماذا؟ قال: "الجهادُ في سبيلِ الله"، قيلَ ثُمَّ ماذا؟ قال: "حَجٌّ مَبْرُورٌ". "وعن أبي هريرة أنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور"، وهو الذي لا يخالطه شيء من المآثم، وقيل: هو المقبول المقابَل بالبِرِّ وهو الثواب. * * * 1803 - وقال: "مَنْ حَجَّ لله فَلَمْ يَرْفُثْ ولم يَفْسُقَ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدْتْهُ أُمُّهُ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: من حج لله فلم يرفث"؛ أي: لم يفحش من القول، ولم يتكلَّم كلامَ الجماع عند النساء. "ولم يفسق"؛ أي: لم يخرج عن حد الاستقامة.

"رجع كيوم ولدته أمه"، (يوم) مبني على الفتح مضافٌ إلى الجملة التي بعده. قيل: (رجع) هنا بمعنى صار وخبره (كيوم)، ويجوز أن يكون على معناه الموضوع له، فيكون (كيوم) حالًا؛ أي: رجع إلى وطنه مشابهاً يومه بيوم ولادته في خلوِّه من الذنوب، لكن على هذا يخرج المكيِّ عما ذكر في الحديث، ويجوز أن يكون بمعنى: فرغ عن أفعال الحج، وإنَّما لم يذكر الجدال في الحديث اعتماداً على الآية. * * * 1804 - وقال: "العُمْرَةُ إلى العُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُما، والحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الجَنَّةَ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما"؛ أي: من الصغائر. "والحج المبرور ليس له جزاء إلَّا الجنَّة". * * * 1805 - وقال: "إنَّ عُمْرَةً في رَمَضَانَ تَعْدِلُ حَجَّةً". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن عمرة في رمضان تعدل"؛ أي: تقابل وتماثل في الثواب. "حجة"؛ أي: في غيره، يدل على أن فضل الثواب بفضيلة الوقت. * * * 1806 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: إنَّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - لَقِيَ ركباً بِالرَّوْحَاءَ، فَرَفَعَتْ

إليه امرأةٌ صَبيًّا، فقالَتْ: ألِهَذا حَجٌّ؟ قال: "نعم، ولكِ أَجْرٌ". "وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام لقي ركباً" جمع راكب، كصحب وصاحب، وهم العشرة فما فوقها من أصحاب الإبل في السفر. "بالرَّوحاء" بفتح الراء والمد: اسم موضع على نحوٍ من أربعين ميلاً من المدينة، وقيل: ستة وثلاثين ميلاً. "فرفعت إليه امرأة صبيًا"؛ أي: أخرجته من الهودج رافعة له على يديها. "فقالت: ألهذا حج؟ "؛ أي: أينفع الحج لهذا؟ "قال: نعم"؛ لأنَّ له حج النفل. "ولك أجر"؛ لأنك سببه. * * * 1807 - عن ابن عبَّاس: أنَّ امْرَأَةً مِنْ خَثْعَمَ قالَتْ: يا رسولَ الله! إن فَريضةَ الله على عبادِهِ في الحَجِّ أَدْركتْ أبي شَيْخاً كبيرًا لا يُثْبُتُ على الرَّاحِلَةِ، أفأَحُجُّ عنه؟ قال: "نعم"، وذلكَ في حَجَّةِ الوداع. "وعن ابن عباس: أن امرأة من خَثعم" بفتح الخاء: اسم قبيلة. "قالت: يا رسول الله! إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت"؛ أي: فريضة الله. "أبي" مفعول (أدركت). "شيخاً" منصوب على أنه حال من (أبي)؛ أي: حالَ كونه شيخاً "كبيراً لا يثبت على الراحلة"؛ أي: لا يقدر على ركوب الدابة لضعفه. "أفأحج عنه؟ قال: نعم، وذلك"؛ أي: المذكور جرى "في حجة الوداع"

وفيه دليل على وجوب الحج على الزَّمِن والشيخ العاجز عن الحج بنفسه، وهو قول الشَّافعي، وعلي جواز الاستنابة في الحج، وعلي جواز حج المرأة عن الرجل خلافًا للبعض. * * * 1808 - قال: وقال رجلٌ: إنَّ أُختي نَذَرَتْ أنْ تَحُجَّ وإنَّها ماتَتْ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ كانَ عليها دينٌ، كُنْتَ قاضيَهُ؟ "، قال: نعم، قال: "فاقضِ دينَ الله، فهو أَحَقُّ بالقَضاءِ". "وقال"؛ أي: ابن عباس: "قال رجل: إن أختي نذرت أن تحج، وإنها ماتت، فقال النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام: لو كان عليها دين أكنت قاضيه؟، قال: نعم، قال: فاقض دين الله فهو أحق بالقضاء" وفيه دليل على جواز حج الرجل عن المرأة، وعلي أنَّ مَن مات وفي ذمته حق الله من حجٍّ، أو كفارةٍ، أو نذرِ صدقة، أو زكاة، يجب قضاؤها مقدَّماً على الوصايا والميراث، أوصى به أو لا، كقضاء ديون العباد عنه. * * * 1809 - وقال: "لا يَخْلُوَنَّ رجُلٌ بامرأَة، ولا تُسَافِرَنَّ امرأةٌ إلَّا ومعها مَحْرَمٌ" فقالَ رجل: يا رسولَ الله! اكتُتِبْتُ في غَزْوَة كَذَا وكذا، وخَرَجَتْ امْرَأَتي حاجَّة، قال: "اذهَبْ فَاحْجُجْ مع امرأَتِكَ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: لا يخلونَّ رجل بامرأة، ولا تسافرنَّ امرأة إلَّا ومعها محرم، فقال رجل: يا رسول الله! اكتتبت في غزوة كذا وكذا"؛ أي: كُتب اسمي في جملة الغزاة. "وخرجت أمرأتي حاجَّةً" وليس معها أحد من المحارم.

"قال: اذهب فاحجج مع امرأتك"، ولا تخرج للغزو. * * * 1810 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: اسْتَأْذَنْتُ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في الجهَادِ، فقال: "جِهادكُنَّ الحَجُّ". "وقالت عائشة رضي الله عنها: استأذنت النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام في الجهاد، فقال: جهادكن الحج"؛ يعني: لا جهاد عليكن، وعليكنَّ الحج إذا وجدتَّن الاستطاعة. * * * 1811 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا تُسافرُ امرأةٌ مَسِيْرةَ يومٍ وليلةٍ إلَّا ومعها ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: لا تسافر امرأة مسيرة يوم وليلة إلَّا ومعها ذو رَحِمٍ مَحْرَمٍ" وهو كلُّ مَن يَحْرُمُ نكاحُها على التأبيد، فيه دليل على عدم لزوم الحج عليها إذا لم يكن معها ذو رحم محرم، وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله. وقال مالك رحمه الله: يلزمها إذا كان معها جماعة من النساء. وقال الشَّافعي: يلزمها إذا كانت معها امرأة ثقة. * * * 1812 - وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: وَقَّتَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - لأهلِ المدينةِ ذا الحُلَيْفَةِ، ولأهلِ الشَّامِ الجُحْفَةَ، ولأِهْلِ نجدٍ قَرْنَ المَنازِلِ، ولأِهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ، فَهُنَّ لَهُنَّ ولمَنْ أتى عَلَيْهِنَّ مِنْ غيرِ أَهْلِهِنَّ لمَنْ كَانَ يُريدُ الْحَجَّ والعُمْرَةَ، فَمَنْ كانَ دُونهن فَمُهَلُّهُ مِنْ أهْلِهِ، وكذاكَ حتَّى أهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْها.

"وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: وقَّت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: بيَّن حدَّ الإحرام ومواضعَه الأهل المدينة ذا الحليفة" وهي على فرسخين من المدينة، وعشرِ مراحلَ من مكَّة، تصغير حلفة مثل قصبة: ماءٌ من مياهٍ بني خثعم أو جشم. "ولأهل الشّام الجحفة"، وهي بين مكّة والمدينة من الجانب الشَّاميُّ يحاذي ذا الحليفة، على خمسين فرسخاً من مكّة، سميت بها لإجحاف السيل بأهلها؛ أي: إذهابه بهم، وكان اسمها المهيعة قبلَ أنْ أَجْحَفَ السيلُ بأهلها. "ولأهل نجد قرن المنازل" بسكون الراء وفتحها، وقيل: تحريكها خطأ، جبل أملس مدوَّر كأنه بيضةٌ، مشرفٌ على عرفات، ويقال له: (قرن) بحذف المضاف إليه، و (قرن المنازل) أيضًا بالإضافة. "ولأهل اليمن يلملم": جبل من جبال تهامة على ميلين من مكّة. "فهن لهن"؛ أي: فهذه المواقيت لهذه المواقيت؛ أي: لأهلها على حذف المضاف، دل عليه قوله: "ولمن أتى عليهن من غير أهلهنا"؛ أي: هذه المواقيت لأهلهن المار بن بهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن "لمن كان يريد الحج والعمرة" دون مَن لم يُرِدْ شيئًا منهما. "فمن كان دونهن"؛ أي: من كان بيته أقرب إلى مكّة من هذه المواقيت. "فمهلُّه"؛ أي: موضع إهلاله؛ أي: إحرامه. "من أهله"؛ أي: من بيته، ولا يلزمه الذهاب إلى الميقات. "وكذاك وكذاك"؛ أي: وكذلك الأَدْوَنُ فالأدون، والأَدْخَلُ فالأدخل في المواقيت. "حتَّى أهل مكّة يهلون منها"؛ أي: يُحْرِمون من بطن مكّة، وهذا مخصوصٌ بالحج؛ لأنَّه عليه الصَّلاة والسلام أمر عائشة رضي الله عنها حين أرادت أن تعتمر بعد التحليل من الحج أن تخرج إلى الحلِّ فتُحْرِمَ منه. * * *

1813 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مُهَلُّ أهْلِ المدينةِ مِنْ ذِيِ الحُلَيْفَةِ، والطَّريقُ الآخَر الجُحْفَةَ، ومُهَلُّ أهلِ العراقِ مِنْ ذاتِ عِرْقٍ، ومُهَلُّ أَهْلِ نَجْدٍ قَرْن، ومُهَل أهْلِ اليَمَنِ من يَلَمْلَم". "وعن جابر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مُهَلُّ أهل المدينة من ذي الحليفة، والطريق الأخرى فيه حذفُ مضاف؛ أي: مُهَلُّ الطريق الآخر "الجحفة"؛ أي: إذا جاؤوا من طريق الجحفة فهي مهلُّهم. "ومهل أهل العراق من ذات عرق": وهي على مرحلتين من مكّة، سميت بها لأن هناك عرقاً وهو الجبل الصغير. "ومهل أهل نجد قرن، ومهل أهل اليمن يلملم". * * * 1814 - وقال أنس: اعْتَمَرَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أربعَ عُمَرَ، كُلَّهُنَّ في ذي القَعْدَةِ إلَّا التي كانَتْ مع حجَّته: عُمرةً من الحُدَيْبيَّة في ذي القَعْدَة، وعُمْرةً من العامِ المُقبل في ذي القَعْدَةِ، وعمرةً مِنْ الجعْرانَةِ حيثُ قَسمَ غَنائِمَ حُنَيْنٍ في ذي القَعْدَةِ وقبْلَ أنْ يحُجَّ، وعُمْرَةً مع حَجَّتِهِ". "وقال أنس - رضي الله عنه -: اعتمر رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أربع عمر": جمع عمرة. "كلهن في ذي القعدة إلَّا التي كانت مع حجته: عمرة من الحديبية" بتخفيف الياء وتشديدها: أحد حدود الحرم، تسعة أميال من مكّة. "في ذي القعدة، وعمرة من العام المقبل في ذي القعدة، وعمرة من الجعرانة" بكسر الجيم وسكون العين، ومن الرواة من يكسر العين ويشدد الراء، والأكثرون على أنه خطأ، وهي على ستة فراسخ من مكّة، وقيل: على تسعة أميال منها. "حيث قسم غنائم حنين في ذي القعدة، وعمرة مع حجته". * * *

1815 - وقال البَراءُ بن عازِب: اعْتَمَرَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في ذي القَعْدَةِ قبلَ أنْ يَحُجَّ مَرَّتَيْنِ. "وقال البراء بن عازب: اعتمر رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في ذي القعدة قبل أن يحج مرتين". * * * مِنَ الحِسَان: 1816 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أيُّها النَّاسُ! إنَّ الله كتبَ عليكُمُ الحَجَّ" فقامَ الأقْرَعُ بن حابس فقال: أفي كُلِّ عامٍ يا رسولَ الله؟ قال: "لو قلتُها لَوَجَبَتْ، ولَوْ وَجَبَتْ لمْ تَعمَلُوا بها، ولم تَسْتَطِيعُوا، الحَجُّ مَرَّةٌ، فَمَنْ زادَ فتطَوَّعٌ". "من الحسان": " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: يا أيها النَّاس! إن الله كتب عليكم الحج: فقام الأقرع بن حابس فقال: أفي كل عام يا رسول الله؟ قال: لو قلتُها لوجبت"؛ أي: الحجة. "ولو وجبت لم تعملوا بها ولم تستطيعوا، الحج مرَّة"؛ أي: وجوبُه مرةً واحدة "فمن زاد فتطوَّعٌ". * * * 1817 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "مَنْ مَلَكَ زَاداً وراحِلَةً تُبلِّغُهُ إلى بَيْتِ الله ولم يَحُجَّ فلا عليهِ أنْ يموتَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا، وذلكَ أن الله تباركَ وتعالَى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} ".

"وعن عليّ كرم الله وجهه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مَن ملَكَ زاداً وراحلة تُبلغه" بضم التاء وفتح الباء، وإنما أفرد الضمير فيه والمرجوع إليه شيئان للذهاب إلى جانب المعنى، وهو الاستطاعة. "إلى بيت الله ولم يحج، فلا عليه"؛ أي: فلا تفاوُتَ عليه "أن يموت يهودياً أو نصرانياً" وهذا من باب المبالغة في التهديد والوعيد تعظيماً لأمر الحج وتغليظاً على تاركيه، ويجوز أن يكون المراد به مَن لم يحج جاحدًا لوجوبه، وإنَّما خص الطائفتين بالذكر؛ لقلة مبالاتهما بالحج من حيث إنه لم يكن مفروضاً عليهم؛ لأنَّه من شعار هذه الملة خاصة. "وذلك أن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}. * * * 1818 - وقال: "لا صَرُورَةَ في الإسلامِ". "وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: لا صَرورة في الإسلام" قيل: (الصَّرورة) - بالصَّاد المهملة المفتوحة: الذي لم يحج، وأصله من الصر: الحبس والمنع؛ أي: لا يجوز ترك الحج مع الاستطاعة. وقيل: هو التبتُّل، وهو ترك النكاح؛ أي: ليس ينبغي أن يقول: لا أتزوج؛ لأنَّه فعلُ الرهبان لا من أخلاق المؤمنين. * * * 1819 - وقال: "مَنْ أَرَادَ الحَجَّ فَلْيُعَجِّلْ". "وعنه عن النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسلام أنه قال: من أراد الحج فليعجل"؛ أي: من وجب الحج عليه واستطاع فليعجل إتيانه، والأمر للاستحباب؛ لأنَّ

تأخيره جائز بعد وجوبه إلى آخر عمره. * * * 1820 - وقال: "تابعُوا بَيْنَ الحَجِّ والعُمْرَةِ، فإِنَّهمَا يَنْفِيانِ الفَقْرَ والذُّنُوبَ كما يَنْفي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ والذَّهَبِ والفِضَّةِ، وليسَ للحَجَّةِ المبرُورَةِ ثَوَابٌ إلَّا الجَنَّةُ". "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - تابعوا بين الحج والعمرة"؛ يعني: إذا حججتم فاعتمروا، وإذا اعتمرتم فحجوا. "فإنهما ينفيان"؛ أي: يزيلان "الفقر والذنوب كما ينفي الكير": وهو ما يَنفخ فيه الحداد لاشتعال النَّار؛ لتصفية الحديد من الخبث. "خبثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثوابٌ إلَّا الجنة". * * * 1821 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ما يُوجِبُ الحَجَّ؟ قال: "الزَّادُ والرَّاحِلَة". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: جاء رجل إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! ما يوجب الحج؟ قال: الزَّاد والراحلة"؛ يعني: الحج واجب على مَن وجدهما. * * * 1822 - وعنه قال: سألَ رَجُلٌ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الحَاجُّ؟ قال: "الشَّعِثُ التَّفِلُ"، وقال آخَر: أيُّ الحَجِّ أفْضَلُ؟ قال: "العَجُّ والثَّجُّ"، فقال آخَر:

ما السَّبيلُ؟ قال: "زادٌ وراحِلَةٌ". "وعنه أنه قال: سأل رجل رسول الله: ما الحاجُّ؟ "؛ أي: ما صفةُ الحاجِّ الذي يحج؟. "فقال: الشعث"؛ أي: هو المتفرِّقُ شعرُ رأسه من عدم غسله، وقيل: المغبر الرأس. "التَّفِل" بفتح التاء وكسر الفاء: تارك الطِّيب. "فقال آخر: أي الحج أفضل؟ "؛ أي: أيُّ أفعال الحج أفضل؟. "قال العَجَّ" بفتح العين وتشديد الجيم: رفع الصوت بالتلبية. "والثَّج، بفتح الثاء وتشديد الجيم: إراقة الدّم؛ أي: دم الهدي. وقيل: دماء الأضاحي. ويحتمل أن يراد بهما الاستيعاب، فبدأ بالإحرام الذي هو الإهلال، وانتهى بالتحليل الذي هو إهراق دم الهدي؛ اقتصاراً بالمبدأ والمنتهى عن سائر الأعمال؛ أي: أفضل الحج ما استوعب جميع أعماله من الأركان والمندوبات وغيرهما. "فقال آخر: ما السبيل؟ "؛ أي: ما استطاعة السبيل المذكور في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران: 97]. "قال: الزاد والراحلة". * * * 1823 - عن أبي رَزِين العُقَيْلي: أنَّهُ أَتَى النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله!، إنَّ أبي شَيْخٌ كَبيرٌ لا يستطِيعُ الحَجَّ والعُمْرَةَ ولا الظَّعْنَ، قال: "حُجَّ عَنْ أَبيكَ، وَاعْتَمِرْ" صحيح.

"وعن أبي رزين العقيلي: أنه أتى النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة"؛ أي: لا يستطيع أفعالهما. "ولا الظعن"؛ أي: الذهابَ أو ركوب الدابة. "قال: حج عن أبيك واعتمر. صحيح" يدل على جواز النيابة. * * * 1824 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمعَ رَجُلاً يقولُ: لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَة، قال: "مَنْ شُبْرُمَة؟ "، قال: أخٌ لي، أو قريبٌ لي، قال: "أَحَجَجْتَ عَنْ نفسِكَ؟ "، قال: لا، قال: "حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ، ثُمَّ حُجَّ عن شُبْرُمَة". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام سمع رجلًا يقول: لبيك عن شُبْرُمة" بضم الشين وسكون الباء وضم الراء. "قال: مَن شبرمة؟ قال: أخٌ لي - أو: قريب لي -، قال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة"، يدل على جواز النيابة أيضاً. * * * 1825 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأهلِ المَشْرِقَ العَقِيقَ. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام وقت لأهل المشرق"؛ والمراد به: مَن منزله خارج الحرم من شرقي مكّة إلى أقصى بلاد الشرق، وهم العراقيون. "العقيق": وهو موضع بحذاء ذات عرق، وأصله: كل مسيل شقَّه السيل

فوسَّعه، من العَقِّ: وهو الشق والقطع، كأنه عليه الصَّلاة والسلام عيَّن لأهل المشرق ميقاتين: العقيق وذاتُ عِرْقٍ، فمَن أحرم من العقيق قبل أن يصل إلى ذات عرق فهو أفضل، ومَن جاوزه فأحرم من ذاتِ عِرْقٍ جاز ولا شيء عليه. * * * 1826 - وعن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وَقَّتَ لأهْلِ العِراقِ ذاتَ عِرْقٍ. "وعن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وقَّت لأهل العراق ذاتَ عِرْقٍ". * * * 1827 - عن أُمِّ سلَمَةَ: أَنَّها سَمِعَتْ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ أَهَلَّ بحَجَّةِ أو عُمْرَةٍ مِنَ المَسْجدِ الأَقْصَى إلى المَسجدِ الحرامِ غُفِرَ له ما تقدَّمَ مِنْ ذَنْبهِ وما تأَخَّرَ - أو: وجَبَتْ له الجَنَّةُ - ". "وعن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول: مَن أهلَّ بحجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر" إنَّما خصَّ المسجد الأقصى لفضله، وليرغم الملة التي محجُّها بيتُ المقدس. "أو: وجبت له الجنة" شك من الراوي. * * *

2 - باب الإحرام والتلبية

2 - باب الإِحْرام والتَّلْبية (باب الإحرام والتلبية) مِنَ الصِّحَاحِ: 1828 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: كنتُ أُطَيبُ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - لإِحْرامِهِ قَبْل أنْ يُحْرِمَ، ولِحِلِّهِ قَبْلَ أنْ يَطُوفَ بالبَيْتِ بطيبٍ فيه مِسْكٌ، كأنِّي أَنظُرُ إلى وَبيْصِ الطِّيبِ في مَفْرِقِ رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِمٌ. "من الصحاح": " قالت عائشة رضي الله عنها: كنت أطيب رسول الله عليه الصَّلاة والسلام لأحرامه قبل أن يحرم" يدل على أنه يجوز أن يطيب الرجلُ نفسَه قبل أن يُحْرِمَ، وبعده لا. "ولحلّه" يقال: حَلَّ المُحْرِمُ يَحِلُّ حلالًا: إذا حلَّ له ما حرم عليه من محظورات الحج، يعني: أطيبه عليه الصَّلاة والسلام لحله يوم العيد بعد رمي جمرة العقبة. "قبل أن يطوف بالبيت بطيبٍ فيه مسكٌ، كأني انظر إلى وبيص الطيب"؛ أي لَمعانه "في مَفارق رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - " بفتح الميم: جمع مفرق - بكسر الراء وفتحها - وهو وسط الرأس الذي يفرق فيه شعر الرأس جهة، وإنَّما ذُكر على لفظ الجمع تعميماً سائر جوانب الرأس التي يُفرق فيها، كأنهم سمَّوا كلَّ موضع منه مفرقاً. "وهو محرم" وفي بعض طرق مسلم: (مفرق) على لفظ الواحد. * * *

1829 - وقال ابن عمر: سَمِعْتُ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يُهِلُّ مُلَبداً يقولُ: "لَبَّيْكَ اللَّهمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إنَّ الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لكَ والمُلْكَ، لا شَرِيكَ لكَ" لا يَزِيدُ على هؤلاءَ الكلِماتِ. "وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: سمعت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يُهِلُّ"؛ أي: يرفع صوته بالتلبية "ملبداً"، (التلبيد): إلصاق شعور الرأس بالصمغ أو الخطمي أو غير ذلك؛ كيلا يتخلَّله الغبار، ولا يصيبه شيء من الهوام، ويقيها من حر الشّمس، وهذا جائز عند الشَّافعي، وعندنا لزمه دم إن لبَّد بما ليس فيه طيب؛ لأنَّه كتغطية الرأس، ودمان إن كان فيه طيب. "يقول: لبيك، معناه: ألبَبْتُ يا رب بخدمتك إلباباً بعد إلبابٍ، من ألبَّ بالمكان: إذا أقام؛ أي: أقمت على طاعتك قياماً بعد قيام. "اللَّهم لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد، بكسر الهمزة بجَعْله كلاماً مستأنفاً، وبفتحها بتعليق (الحمد) بالتلبية، تقديره: لبيك بأنَّ الحمد. "والنعمة لك والملك" بالنصب عطف على الحمد. "لا شريك لك، لا يزيد على هؤلاء الكلمات". * * * 1830 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - كانَ إذا أدخَلَ رِجْلَهُ في الغَرْزِ وَاسْتَوَتْ به ناقتُهُ قائمةً أهلَّ منْ عِنْدِ مَسْجدِ ذِي الحُلَيْفَةِ. "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - كان إذا أدخل رجله في الغرز"؛ أي: الركاب "واستوت به ناقته قائمةً"؛ أي: رفعته مستوياً على ظهرها، فالباء للتعدية، وقيل: (به) حال، وكذا (قائمة). "أهلَّ"؛ أي: رفع صوته بالتلبية ونوى الإحرام "من عند مسجد ذي

الحليفة" يريد بدأ لإهلالٍ منه. * * * 1831 - وقال أبو سَعيد - رضي الله عنه -: خَرَجْنَا مع رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - نَصْرُخُ بالحَجِّ صُراخاً. "وقال أبو سعيد - رضي الله عنه -: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نصرخ بالحج صراخاً"؛ أي: نرفع أصواتنا بالتلبية. * * * 1832 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: كنتُ رَديفَ أبي طَلْحَةَ - رضي الله عنه -، وإنهمْ لَيَصْرُخُونَ بِهِما جميعًا: الحَجِّ وَالعُمْرَةِ. "وقال أنس - رضي الله عنه -: كنت رديف أبي طلحة - رضي الله عنه -؛ أي: ركبت خلفه. "وإنهم"؛ أي: الصَّحابة - رضي الله عنهم - "ليصرخون بهما جميعًا: الحج والعمرة" بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هما، والنصبِ بتقدير: أعني، والجرِّ على أنه بدلٌ من الضمير في (بهما)، وهذا يدل على أن القِران أفضل، وبه قلنا. * * * 1833 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عامَ حَجَّةِ الوَداعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَة، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بحَجَّةٍ وعُمْرَة، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بالحجِّ، وأَهَلَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالحجِّ، فأمَّا مَنْ أَهَلَّ بالعُمْرَةِ فَحَلَّ، وأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بالحجِّ أو جَمَعَ الحَجَّ والعُمْرَةَ فلَمْ يَحِلُّوا حتَّى كانَ يَوْمُ النَّحْرِ. "وقالت عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عام حجة

الوداع، فمنا من أهل بعمرة، ومنا من أهل بحجة وعمرة، ومنا من أهل بالحج": يدل على جواز الإفراد والتمتُّع والقِران. "وأهل رسول الله بالحج" يدل على أن الإفراد بالحج أفضل، وبه قال الشَّافعي ومالك. "فأمَّا من أهل بعمرة"؛ يعني: أهلَّ بها قبل الحج. "فحل"؛ أي: خرج من العمرة بعد أن طاف وسعى وحلق، فحلَّ له جميع المحظورات في الإحرام، ثم إذا كان يوم عرفة أحرم بالحج. "وأمَّا من أهل بالحج أو جمع الحج والعمرة فلم يحلوا حتَّى كان يوم النحر" ففي يوم النحر برميهم جمرة العقبة والحلقِ يحلُّ لهم كلُّ المحظورات إلَّا مباشرة النساء، فيَحِل لهم ذلك بطواف الركن. * * * 1834 - وقال ابن عُمر - رضي الله عنهما -: تَمَتَّعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، بدأَ فَأَهَلَّ بالعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بالحَجِّ. "وقال ابن عمر: تمتع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج" حال من (العمرة)؛ أي: استمتع بها منضمَّةَ إلى الحج. "بدأ فأهل بالعمرة" من الميقات فأتى بأفعالها. "ثم أهل بالحج" من مكّة. فإنَّ قيل: روي أنه عليه الصَّلاة والسلام أفرد الحج، وروي أنه تمتَّعَ، وروي أنه قَرَنَ. قلنا في التوفيق: إنه عليه الصَّلاة والسلام أحرم بعمرة في بدء أمره فمضى فيها متمتِّعاً، ثم أحرم بحجة قبل طوافه وأفردها بالإحرام فصار بها قارناً، كذا

روي عن الطحاوي. * * * مِنَ الحِسَان: 1835 - عن زيَد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنَّهُ رَأَى النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - تَجَرَّدَ لإحرامِهِ واغتَسَل. "من الحسان": " عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه -: أنه رأى النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام تجَّرد"؛ أي: عن ثيابه المَخيطة، ولبس إزاراً ورداءً. "لإحرامه واغتسل" يدل على أن الغُسل للإحرام سنَّة. * * * 1836 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَبَّدَ رَأْسَهُ بالغِسْل. "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام لبَّد رأسه بالغِسل": بكسر الغين المعجمة وهو ما يُغسل به الرأس من الخطمي وغيره. * * * 1837 - عن خَلاَّد بن السَّائبِ، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتاني جِبْرِيلُ فَأمَرني أن آمُرَ أَصْحَابي أَنْ يَرْفَعُوا أصوَاتَهُمْ بالإحرام والتَّلْبيَةِ". "عن خلاد بن السَّائب عن أبيه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإحرام والتلبية، هذا سهو من النساخين، ولفظ الحديث في "معالم السنن": (بالإهلال، أو قال: بالتلبية) شك من الراوي. * * *

1838 - عن سَهْل بن سَعْدٍ قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ مُسْلِمٍ يُلَبي إلَّا لَبَّى ما عَنْ يمينه وشِمالِهِ مِنْ حَجَرٍ أو شَجَرٍ أو مَدَرٍ حتَّى تَنْقَطِعَ الأَرْضُ مِنْ ها هُنا وها هُنا". "عن سهل بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من مسلم يلبِّي إلَّا لبَّى مَن عن يمينه وشماله مِن حجرٍ أو شجرٍ أو مدرٍ" ويروى: (ما عن يمينه) فلا إشكال، ورواية (مَن) تكون على الذهاب بها من حيز الجمادات إلى جملة ذوي العقول؛ ليكون أدلَّ على المعنى المراد؛ أي: يوافق في التلبية كلَّ رطبٍ ويابس على وجه الأرض. "حتَّى تنقطع الأرض من ها هنا" إشارة إلى حيث تنتهي الأرض شرقاً وغرباً. * * * 1839 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: كانَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يَرْكَعُ بِذِي الحُلَيْفَةِ ركعَتَيْنِ، ثُمَّ إذا اسْتَوَتْ بِهِ النَّاقَةُ قائِمَةً عِنْدَ مَسْجدِ ذِي الحُلَيْفَةِ أَهَلَّ بهؤُلاءَ الكَلِمَاتِ، يَعْنِي: التَّلبيَةَ. "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: كان رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: يركع بذي الحليفة"؛ أي: صلَّى فيها "ركعتين، ثم إذا استوت به الناقة قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهلَّ بهؤلاء الكلمات؛ يعني التلبية". * * * 1840 - عن عُمارة بن خُزَيْمَة بن ثابتٍ، عن أَبيه، عن النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: أنَّهُ كانَ إذا فرَغَ من تَلْبيتةِ سَألَ الله رضوانه والجَنَّةَ، وَاستَعْفَاهُ برحمتِهِ مِنَ النَّارِ. "عن عمارة بن خزيمة بن ثابت، عن أبيه، عن النَّبيِّ عليه الصَّلاة والسلام: أنه كان إذا فرغ من التلبية سأل الله رضوانه والجنة، واستعفاه"؛ أي:

3 - قصة حجة الوداع

طلب العفو والإجارة "برحمته من النَّار" وروي: (واستعاذه). * * * 3 - قِصَّةُ حجة الوداع (قصة حجة الوداع) بفتح الواو. مِنَ الصِّحَاحِ: 1841 - قال جابرُ بن عبد الله - رضي الله عنه -: إنَّ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مَكَثَ بالمدينةِ تِسْعَ سِنين لم يَحُجَّ، ثُمَّ أَذِّنَ في النَّاسِ بالحَجِّ في العَاشِرَةِ، فَقَدِمَ المدينةَ بَشَرٌ كَثيرٌ، فَخَرْجَنا مَعَهُ حَتَّى إذا أتيْنَا ذَا الحُلَيْفَةِ وَلَدَتْ أسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ مُحَمَّدَ بن أبي بَكْرٍ، فَأَرْسَلَتْ إلى رسُولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: كَيفَ أَصْنَعُ؟ قال: "اغتَسِلِي، واسْتَثْفِرِي، بِثَوبٍ وَأَحْرِمِي"، فَصَلَّى - يعني رسُولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ركعَتَيْنِ في المسجدِ، ثمَّ ركبَ القَصْوَاءَ حتَّى إذا اسْتَوَتْ بِهِ ناقتهُ على البَيْدَاءِ، أَهَلَّ بالتَّوْحِيدِ: "لَبَّيْكَ اللَّهمَّ لَبَّيْكَ، لا شَرِيكَ لكَ، إن الحَمْدَ والنِّعْمَةَ لكَ والمُلْكَ، لا شَرِيكَ لكَ"، وقال جابر: لَسْنَا ننوِي إلَّا الحَجَّ، لَسْنا نَعْرِفُ العُمْرَةَ، حتَّى إذا أتيْنَا البَيْتَ مَعَهُ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ وطَافَ سَبْعاً: رَمَلَ ثلاثاً، ومشى أرْبَعاً، ثُمَّ تَقَدَّمَ إلى مَقَامِ إبراهيمَ فَقَرَأَ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فَصَلَّى ركعَتَيْنِ جَعَلَ المَقَامَ بينَهُ وبَيْنَ البَيْتِ. ويُروى: أنَّه قَرَأَ في الرَّكعَتَيْنِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. ثُمَّ رَجَعَ إلى الرُّكْنِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنَ الباب إلى الصَّفَا، فَلَمَّا دَنَا مِنَ الصَّفَا قرَأَ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}، أَبْدَأُ بما بَدَأَ الله به"، فَبَدَأَ بالصَّفَا، فَرَقِيَ عَلَيْهِ حتَّى رأَى البَيْتَ، فَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَوَحَّدَ الله وكَبَّرَهُ، وقال: "لا إله إلَّا الله وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، ولَهُ الحَمْدُ، وهُوَ عَلَى كُلِّ شيء قَدِيرٌ، لا إله إلَّا الله وَحْدَهُ، أَنْجَزَ وَعْدَهُ، ونصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ"، ثُمَّ دَعَا

بينَ ذلك، قالَ مِثْلَ هذا ثلاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ تزَلَ فمشَى إلى المَرْوَةِ، ففعل على المروة كما فعل على الصفا حتَّى اَنْصَبَّتْ قدماهُ في بَطْنِ الوادي سَعَى، حتَّى إذا أصْعَدتْ قدمَاهُ مَشَى، حتَّى أتَى المَرْوَةَ، فَفَعَلَ عَلَى المَرْوَةِ والنَّاسُ تَحتَهُ فقال: "لَوْ أنِّي اَسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمري ما اَسْتَدْبَرْتُ لَمْ أَسُقِ الهَدْيَ، وجَعَلْتُها عُمْرَةً، فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ ليَسَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيَحِلَّ وَلْيَجْعَلْهَا عُمْرَةً"، فقامَ سُراقَةُ بن جُعْشُم فقال: يا رسولَ الله!، أَلِعَامِنا هذا أمْ للأبدِ؟ فَشَبَّكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَصابعَهُ وقال: "دَخَلَتِ العُمْرَةُ في الحَجِّ"، مَرَّتَيْنِ، "لا بلْ لأَبَدِ الأَبَدِ"، وقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ بِبُدْنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "ماذا قُلْتَ حينَ فَرَضْتَ الحَجَّ؟ "، قالَ: قُلْتُ: اللَّهمَّ إنِّي أُهِلُّ بما أَهَلَّ بِهِ رَسُولُكَ - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فإنَّ مَعِيَ الهَدْيَ"، قال: "فأهْدِ، وامكُثْ حرامًا، فلا تَحِلُّ"، قال: فكانَ جماعَةُ الهَدْيِ الذي قَدِمَ بِهِ عَليٌّ مِنَ اليَمَنِ والذي أتَى بِهِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مائَةً، قال: فَحَلَّ النَّاسُ كُلّهُمْ وقَصَّرُوا، إلَّا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ومَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ، فلمَّا كانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ تَوَجَّهُوا إلى مِنًى، فَأَهَلُّوا بالحَجِّ، ورَكبَ النَّبيّ، فَصَلَّى بها الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشَاءَ والفَجْرَ، ثُمَّ مَكَثَ قليلاً حَتَّى طَلَعَتِ الشَّمْسُ، وأَمَرَ بِقُبَّةٍ مِنْ شَعَرٍ فَضُرِبَتْ لَهُ بنمِرَةَ، فَسَارَ، فَنَزَلَ بها، حتَّى إذا زَاغَتِ الشَّمْسُ أَمَرَ بالقَصْوَاءَ فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الوادي، فخَطَبَ النَّاسَ، وقال: "إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كحُرْمَةِ يَوْمِكُم هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، أَلاَ كلُّ شَيءٍ مِنْ أَمْرِ الجاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، ودِمَاءُ الجاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ اَبن رَبيعَةَ ابن الحارِث - كانَ مُسْتَرْضعاً في بني سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ - ورِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعة، وأَوَّلُ ربا أَضَعُ مِنْ رِبَانا رِبَا عَبَّاسِ بن عَبْدِ المُطَّلِبِ، فإنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاَتَّقُوا الله في النِّسَاءَ، فإنَّكمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِ الله، واَسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله، ولَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لاَ يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَداً تَكْرَهُونه، فإنَّ فَعَلْنَ ذلكَ فاضْرِبُوهُنَّ ضَرْباً غيرَ مُبَرِّحٍ، ولَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بالمَعْرُوفِ، وقَدْ

تَرَكْتُ فيكُمْ مَا لنْ تَضلُّوا بَعْدَهُ إِن اَعْتَصَمْتُمْ بِهِ: كِتَابَ الله، وأَنتمْ تُسْألونَ عَنِّي، فَمَا أَنتمْ قَائِلُونَ؟ "، قالوا: نشهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وأَدَّيْتَ ونَصَحْتَ، فقال بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُها إلى السَّماءَ، ويَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ: "اللَّهمَّ اَشْهَدْ، اللَّهمَّ اَشْهَدْ، اللَّهمَّ اَشْهَدْ" ثَلاَثَ مرَّات، ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ، ثُمَّ أقَامَ فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أقامَ فَصَلَّى العَصْرَ، ولَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا شيئاً، ثُمَّ رَكِبَ حتَّى أتى المَوْقفَ، فَجَعَلَ بَطْنَ ناقَتِهِ القَصْوَاءَ إلى الصَّخَرَاتِ، وجَعَلَ حَبْلَ المُشاةِ بَيْنَ يَدَيْهِ، واَستقْبَلَ القِبْلَةَ، فَلَمْ يَزَلْ واقفاً حتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وأَرْدَفَ أُسامَةَ خَلْفَهُ، ودَفَعَ حَتَّى أتى المُزْدلفَةَ، فَصَلَّى بها المَغْرِبَ والعِشاءَ بأَذَانٍ واحِدٍ وإقامَتَيْنِ، ولم يُسَبحْ بَيْنَهُمَا شيْئاً، ثُمَّ اَضْطَجَعَ حتَّى طَلَعَ الفَجْرُ، فَصَلَّى الفَجْرَ حينَ تَمينَ لَهُ الصُّبْحُ بأَذَانٍ وإقامَةٍ، ثمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ حَتَّى أتى المَشْعَرَ الحَرامَ، فاَسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، فَحَمِدَ الله وكَبَّرَهُ وهَلَّلَهُ ووَحَّدَهُ، فَلَمْ يَزَلْ واقِفاً حَتَّى أسْفَرَ جِدًّا، فَدَفَع قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وأَرْدَفَ الفَضْلَ بن عَبَّاسٍ حتَّى أتى بَطْنَ مُحَسِّرٍ، فَحَرَّكَ قليلاً، ثُمَّ سَلَكَ الطَّريقَ الوُسْطَى التي تَخْرُجُ على الجَمْرَةِ الكُبْرَى، حَتَّى أتى الجَمْرَةَ التي عِنْدَ الشَّجَرَةِ، فرماهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبرُ مَعَ كُلِّ حصَاةٍ منها مِثْلَ حَصَى الخَذْفِ، فَرَمَى مِنْ بَطْنِ الوادِي، ثُمَّ اَنْصَرَفَ إلى المَنْحَرِ، فَنَحَرَ ثلاثًا وسِتِّينَ إبلاً بيَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى عَلِيًّا فَنَحَر ما غَبَرَ، وأَشْرَكَهُ في هَدْيهِ، ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ، فَجُعِلَتْ في قِدْرٍ فَطُبخَتْ، فَأَكَلا مِنْ لَحْمِهَا، وشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا، ثُمَّ رَكِبَ رَسُولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، فَأفاضَ إلى البَيْتِ، فَصَلَّى بمَكَّةَ الظُّهْرَ، فَأَتَى بني عَبْدِ المُطَّلِبِ يَسْقُونَ على زَمْزَمَ، فقالَ: "انْزَعوا بني عَبْدِ المُطَّلِبِ، فَلَوْلاَ أَنْ يَغْلِبَكُمُ النَّاسُ على سِقَايتِكُمْ لَنَزَعْتُ مَعَكُمْ"، فَنَاوَلُوهُ دلواً، فَشَرِبَ منهُ. "من الصحاح": " قال جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: إن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مكث بالمدينة تسع سنين لم

يحج، ثم أذَّن في النَّاس بالحج"؛ أي: نادى بينهم بأني أريد الحج "في العاشرة"؛ أي: في السنة العاشرة من الهجرة. "فقدم المدينة بشر كثير، فخرجنا معه، حتَّى إذا أتينا ذا الحليفة فولدت أسماء بنت عميس" زوجة أبي بكر - رضي الله عنه - "محمد بن أبي بكر، فأرسلت إلى رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: كيف أصنع؟ قال: اغتسلي واستثفري بثوب"، وقد مر بيان الاستثفار في (باب الاستحاضة). "وأحرمي، فصلَّى - يعني: رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - ركعتين في المسجد، ثم ركب القصواء": اسم ناقته - صلى الله عليه وسلم -، وكل ما قُطع أذنه فهو جَدْعٌ، فإذا بلغ القطعُ الربعَ فهو قَصْو، فإن جاوزه فهو عَضْبٌ، فإن استؤصلت فهو صَلْم. "حتَّى إذا استوت به ناقته على البيداء" وهي المفازة التي لا شيء بها، وهو هنا اسم موضع مخصوص بين مكّة والمدينة. "أهلَّ بالتوحيد: لبيك اللَّهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، قال جابر: لسنا ننوي إلَّا الحج"؛ أي: لسنا ننوي شيئاً من النيات إلَّا نية الحج. "ولسنا نعرف العمرة"؛ أي: ما قصدناها ولا ذكرناها في الحج، وكان أهلُ الجاهلية يرون العمرة في أشهر الحج من أفجر الفجور، وإنَّما كانوا يعتمرون بها بعد مضيها. "حتَّى إذا أتينا البيت معه استلم الركن"؛ أي: الحجر الأسود إما بالقُبلة أو باليد. "فطاف سبعاً: رمل ثلاثاً"؛ أي: أسرع في المشي في ثلاث مرات من الطواف. "ومشى" على الهينة والسكون "أربعاً"؛ أي: في الأربعة الباقية.

"ثم تقدم إلى مقام إبراهيم فقرأ: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، فصلَّى ركعتين، جعل المقام بينه وبين البيت، ويروى أنه قرأ في الركعتين: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ثم رجع إلى الركن فاستلمه، ثم خرج من الباب"؛ أي: باب الصفا. "إلى الصفا، فلما دنا"؛ أي: قَرُب "من الصفا قرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ": جمع شَعيرة، وهي العلامة التي جعلت للطاعات المأمورة في الحج كالوقوف والرمي والطواف والسعي. "أبدأ بما بدأ الله به"؛ يعني: أبدًا بالصفا؛ لأنَّه تعالى بدأ بذكره في الآية. "فبدأ بالصفا فرَقيَ"؛ أي: صعد "عليه حتَّى رأى البيت، فاستقبل القبلة، فوحد الله تعالى"؛ أي: قال: لا إله إلَّا الله. "وكبره وقال: لا إله إلَّا الله وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلَّا الله وحده، أنجز وعده"؛ أي: وفى بما وعد محمداً من الفتح. "ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ثم دعا بين ذلك" إشارة إلى قوله: (لا إله إلَّا الله)، أو بما شاء. "قال مثل هذا ثلاث مرات، ثم نزل فمشى إلى المروة حتَّى انصبَّتْ"؛ أي: بلغت "قدماه" على وجه السرعة إلى أرض منخفض. "في بطن الوادي، سعى" سعياً شديدًا. "حتَّى إذا صعدت"؛ أي: ارتفعت "قدماه" من الوادي. "مشى" على السكون. "حتَّى أتى المروة ففعل" على المروة "كما فعل على الصفا"؛ يعني: رقي على المروة وقرأ من الذكر والدعاء كماه في الصفا.

"حتَّى إذا كان آخر طوافه"؛ أي: آخر سعيه، يعني: آخر السعي السبعة. "على المروة نادى وهو على المروة والنَّاس تحته فقال: لو أني استقبلت"؛ يعني: لو علمت في الاستقبال "من أمري ما استدبرت"؛ أي: ما علمت في دبرٍ منه، يعني: لو عنَّ لي هذا الرأي الذي رأيته الآن عند خروجي من المدينة "لم أسُق الهديَ" حتَّى لا يلزمني إتمام الحج، والصبر على الإحرام إلى الذبح، فإنَّ بسوقه لا يحلَّ حتَّى ينحر يوم النحر، ولو لم يكن معه هدي لا يلزم هذا، ويجوز له فسخ الحج بعمرة، أراد بهذا القول تطييبَ قلوب أصحابه؛ لأنَّه كان يشقُّ عليهم أن يحفُوا وهو مُحِرمٌ. "وجعلتها"؛ أي: الحجة أو النسيكة. "عمرة"؛ أي: جعلت إحرامي بالحج مصروفاً إلى العمرة كما أمرتكم به موافقةً لكم. "فمن كان" الفاء فيه جواب شرط محذوف، يعني: إذا تقرَّر ما ذكرتُ فمَن كان "ليس معه هدي فليَحْلِلْ"؛ أي: فليخرج من إحرامه بعد فراغه من أفعال العمرة. "وليجعلها"؛ أي: الحجة. "عمرة" وقد أبيح له ما حرم عليه بسبب الإحرام حتَّى يستأنف الإحرام للحج. "فقام سراقة بن مالك بن جعشم فقال: يا رسول الله! ألعامنا هذا"؛ يعني: الإتيان بالعمرة في أشهر الحج مختصٌّ بهذه السنة "أم للأبد؟ فشبَّك رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - أصابعه وقال: دخلتِ العمرةُ في الحج، مرتين"؛ أي: قالها مرتين. "لا، بل لأبد أبدٍ"؛ يعني: ليس هذا مختصاً بهذه السنة، بل يجوز في جميع السنة.

"وقدم عليّ من اليمن ببُدْنِ النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام": جمع بَدَنةِ، وهي ما يتقرَّب بذبحه من الإبل. "فقال"؛ أي: النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام لعلي - رضي الله عنه -: "ماذا قلتَ حين فرضْتَ الحجَّ؟ "؛ أي: ألزمْتَه على نفسك بالتلبية. "قال"؛ أي: عليّ - رضي الله عنه -: "قلت: اللَّهم إنِّي أُهِلُّ بما أَهَلَّ به رسولك" يدل على جواز تعليق إحرام الرجل على إحرام غيره. "قال"؛ أي: النبيُّ عليه الصَّلاة والسلام: "فإنَّ معي الهدي"؛ أي: إنِّي أحرمت بالعمرة ومعي الهدي، ولا أقدر أن أخرج من العمرة، بل قد أدخلت الحج فيها، "فلا تحل، بالخروج من الإحرام كما لا أحل حتَّى تفرغ من العمرة والحج. "قال"؛ أي: الراوي: "فكان جماعة الهدي" من الإبل "الذي قدم به"؛ أي: بذلك الهدي "عليّ - رضي الله عنه - من اليمن، والذي أتى به النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مئة" من الهدي. "قال"؛ أي: الراوي: "فحل النَّاس كلهم"؛ أي: خرج من الإحرام مَن أحرم بالعمرة ولم يكن معه هديٌ بعد الفراغ منها "وقصروا إلَّا النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام ومن كان معه هدي، فلما كان يوم التروية" وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، سمي به لأنَّ الحجاج يرتوون فيه من الماء لما بعده، وقيل: لأنَّ خليل الله عليه السلام تروَّى؛ أي: تفكَّر فيه في ذبح إسماعيل عليه السلام، وأنه كيف يصنع، حتَّى جزم عزمه في اليوم العاشر بذبحه. "توجهوا"؛ أي: خرجوا من مكّة "إلى منى فأهلوا بالحج"؛ أي: أحرم به مَن كان خرج عن إحرامه بعد الفراغ من العمرة.

"وركب النَّبيّ" عليه الصَّلاة والسلام وسار من مكّة إلى منى يوم التروية. "فصلَّى بها"؛ أي: بمنى في هذا اليوم. "الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ثم مكث"؛ أي: وقف "قليلاً حتَّى طلعت الشّمس، وأمر بقبة"؟ أي: بضرب قبة "من شعر تضرب له" بصيغة المجهول. "بنمِرة" بفتح النون وكسر الميم: موضع قريب من عرفة. "فسار فنزل بها حتَّى إذا زاغت الشّمس"؛ أي: سألت فدخلت وقت الظهر. "أمر بالقصواء"؛ أي: بإحضارها. "فرُحِلَتْ له"؛ أي: شُدَّ عليها الرَّحْلُ للنبي - صلى الله عليه وسلم -. "فأتى بطن الوادي" موضعٌ بعرفة. "فخطب النَّاس فقال: إن دمائكم وأموالكم"؛ أي: تعرُّض بعضكم دماءَ بعض وأمواله في غير هذه الأيام "حرام عليكم كحرمة يومكم هذا"؛ أي: كحرمة التعرُّض لهما في يوم عرفة. "في شهركم هذا" وهو ذو الحجة. "في بلدكم هذا" وهو مكّة، وإنَّما أكد التحريم بهذا التشبيه لمَّا تقرَّر عندهم أنها من أشد المحرمات. "ألا كل شيء من أمر الجاهلية"؛ أي: كلُّ شيء فعله أحدكم قبل الإسلام. "تحت قدمي موضوع"؛ أي: كالشيء الموضوع تحت القدم، مجازٌ عن إبطاله وإهداره، يعني: لا مؤاخذة عليه بعد الإسلام بما فعله في الجاهلية.

"ودماء الجاهلية موضوعة"؛ أي: متروكة؛ يعني: لا قصاص، ولا دية، ولا كفارة، على قاتلٍ بعد الإسلام بما صدر عنه من القتل في جاهليته. "وإن أول دم أخرجه من دمائنا"؛ أي: من الدماء المستحقة لنا. "دم ابن ربيعة بن الحارث" ابن عبد المطّلب. "وكان مسترضعاً"؛ يعني: كان لابن ربيعة ظئر ترضعه "في بني سعد" وكان طفلاً صغيراً يحبو بين البيوت، فأصابه حجر في حرب بني سعد مع قبيلة هذيل، "فقتلته هذيل". "وربا الجاهلية موضوع، وأولُ رباً أخرجه من ربانا ربا العباس" بدل من (ربانا) "بن عبد المطّلب، فإنَّه موضوع كله" المراد به ما هو زائد على رأس المال؛ لأنَّ رأس ماله غير متروك؛ لقوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279]، وإنَّما وضع عليه الصَّلاة والسلام أولاً من الدماء دم ابن ربيعة ومن الأربية ربا عمه العباس بن عبد المطّلب؛ ليكون أمكنَ في القلوب وأدعى إلى القبول. "فاتقوا الله في النساء"؛ أي: في أمرهن فلا تؤذوهن بالباطل. "فإنكم أخذتموهن بأمان الله"؛ أي: بعهده، وهو ما عُهد إليهم من الرفق بهنَّ والشفقة عليهن ومعاشرتهن بالمعروف. "واستحللتم فروجهن بكلمة الله"؛ أي: بأمره وحُكمه، وهو قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]. "ولكم"؛ أي: من حقوقكم. "عليهن أن لا يوطئن" بهمزة من باب الإفعال. "فُرُشَكم أحدًا تكرهونه"؛ أي: أن لا يأذنَّ لأحد من الرجال الأجانب أن يدخلوا عليهن فيتحدثَ إليهن، وكان ذلك من عادة العرب لا يرون به بأساً، فلما

نزل آية الحجاب انتهوا عنه، وليس هذا كنايةً عن الزنا، وإلا كان عقوبتهن الرجم دون الضرب. "فإن فعلن ذلك"؛ أي: الإيطاء المذكور. "فاضربوهن ضرباً غير مبرح"؛ أي: غير جارح. "ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف"؛ أي: باعتبار حالكم غنًى وفقراً. "وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده"؛ أي: بعد تركي إياه فيكم "إن اعتصمتم"؛ أي: إذا عملتم "به: كتاب الله" - بالنصب - بدل أو بيان لـ (ما): في التفسير بعد الإبهام تفخيمٌ لشأن القرآن، ويجوز بالرفع بأنه خبر مبتدأ محذوف. "وأنتم تُسألون عني" - بصيغة المجهول - عطفٌ على مقدَّر وهو: قد بلغت ما أُرسلت به إليكم، يعني: سألكم ربكم يوم القيامة أن محمدًا - عليه الصَّلاة والسلام - هل بلغكم ما أرسلتُ به؟. "فما أنتم قائلون" في ذلك اليوم؟. "قالوا: نشهد أنك قد بلغت، الرسالة، "وأديت" الأمانة، "ونصحت" أمتك. "فقال بإصبعه السبابة"؛ أي: أشار بها "يرفعها" حال من فاعل (قال)؛ أي: رافعاً إياها، أو من (السبابة)؛ أي: مرفوعة. "إلى السماء وبنكِّبُها" بالباء الموحدة بعد الكاف، من (النَّكَب) بالتحريك: الميل؛ أي: يُميلها "إلى النَّاس: اللَّهم اشهد"؛ أي: على عبادك فإنهم قد أقرُّوا بأنِّي قد بلَّغتُ إليهم رسالتك، "اللَّهم اشهد، اللَّهم اشهد، ثلاث مرات". "ثم أذَّن بلال، ثم أقام فصلَّى الظهر، ثم أقام فصلَّى العصر"؛ أي: جمع

بينهما "ولم يصل بينهما شيئًا، من السنن والنوافل كيلا يَبْطُلَ الجمع؛ لأنَّ الموالاة بين الصلاتين واجبة. "ثم ركب حتَّى أتى الموقف فجعل بطن ناقته القصواء إلى الصخرات" يريد بها اللاصقة بصفح الجبل، وهو موقف الإمام، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتحرى الوقوف به. "وجعل جبل المشاة": أسم موضع من الرمل مرتفعة كالكثبان، وقيل: الجبل: الرمل المستطيل، وإنما أضافها إلى المشاة لأنَّه لا يقدر أن يصعد إليها إلَّا الماشي. "بين يديه، واستقبل القبلة فلم يزل واقفاً حتَّى غربت الشّمس وأردف أسامة"؛ أي أركبه "خلفه ودفع"؛ أي: ذهب "حتَّى أتى المزدلفة" وهي منزلةٌ بين منى وعرفة، سميت بها لمجيء النَّاس إليها في زلف من الليل. "فصلَّى بها المغرب والعشاء بآذان وإقامتين ولم يسبح بينهما"؛ أي: لم يصلِّ بين المغرب والعشاء "شيئاً": من السنن والنوافل. "ثم اضطجع حتَّى طلع الفجر فصلَّى الفجر حين تبيّن له الصبح بأذان وإقامة، ثم ركب القصواء حتَّى أتى المشعر الحرام" سمي به لأنَّه مَعْلَمٌ للعباد، والمشاعر: المعالم التي ندب الله تعالى إليها وأمر بالقيام عليها. "فاستقبل القبلة فحمد الله وكبره وهلَّله ووحَّده، فلم يزل واقفاً حتَّى أسفر جداً"؛ أي: أضاء الفجر إضاءة تامة. "فدفع قبل أن نطَّلع الشّمس وأردف الفضل بن عباس - رضي الله عنه - "؛ أي: أركبه خلفه "حتَّى أتى بطن محسِّر" بكسر السِّين المشددة: وادٍ معترضٌ للطريق يقطعها عرضًا، التحسُّر: الإعياء، سمي هذا الموضع به لإسراع الركاب والمشاة فيه. "فحرك"؛ أي: طرد ناقته.

"قليلاً"؛ أي: تحريكاً قليلاً، وأسرع إلى منى لأداء العبادات المأمورة بها فيها. "ثم سلك"؛ أي: مشى. "الطريق الوسطى" هو غير الطريق الذي ذهب فيه إلى عرفات. "التي تخرج على الجمرة الكبرى، ثم أتى الجمرة التي عند الشجرة فرماها بسبع حصيات يكبِّر مع كل حصاة منها مثل حصى الخذف" بالخاء والذال المعجمتين: الرمي برؤوس الأصابع. "فرمى من بطن الوادي ثم انصرف"؛ أي: رجع من جمرة العقبة "إلى المنحر، فنحر ثلاثًا وستين" بدنة "بيده" كأنه قصد به أن ينحر عن كل سنة من سني عمره بيده بدنة. "ثم أعطى علياً فنحر ما غبر"؛ أي: ما بقي، والباقي كان سبعةً وثلاثين تمام المئة. "وأشركه"؛ أي: النبيُّ - عليه الصَّلاة والسلام - علياً "في هديه"؛ أي: أعطاه بعض الهدايا لينحره عن نفسه؛ لأنَّه لم يكن له هديٌ في تلك الحجة. "ثم أمر من كل بدنة ببَضعة" بفتح الباء الثَّانية؛ أي: بقطعة من اللحم. "فجعلت في قِدْرٍ فطُبخت، فأكلا من لحمها" الضمير يعود إلى القِدْرِ، ويحتمل أن يعود إلى الهدايا. "وشربا من مرقها" يدل على جواز الأكل من هدي التطوع. "ثم ركب رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فأفاض إلى البيت"؛ أي: مشى إلى الكعبة لطواف الفرض. "فصلَّى بمكة الظهر فأتى عليّ بني عبد المطّلب"؛ يعني: عباس بن

عبد المطّلب ومتعلَّقيه. "وهم يسقون على زمزم"؛ أي: ينزعون الماء من بئر زمزم ويسقون النَّاس. "فقال: انزعوا بني عبد المطّلب، بحذف النداء، دعاء لهم بالقوة على النزع والاستقاء، يريد أن هذا العمل - أي: النزع - عمل صالح مرغوب فيه لكثرة ثوابه. "فلولا أن يغلبكم النَّاس على سقايتكم"؛ يعني: لولا مخافةُ كثرة الازدحام عليكم بحيث يؤدي إلى إخراجكم عنه رغبة في النزع "لنزعت معكم، فناولوه"؛ أي: أعطوه "دلواً فشرب منه" فصار الشرب منه سنةً. * * * 1842 - وقالت عائشة رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، ومِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ، فلمَّا قَدِمْنا مَكَّةَ فقالَ رسُولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ ولَمْ يُهْدِ فَلْيَحْلِلْ، ومَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وأَهْدَى فَلْيُهِلَّ بالحَجِّ مَعَ العُمْرَةِ، ثُمَّ لا يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُما". وفي روايةٍ: "فلا يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ بنحْرِ هَدْيهِ، ومَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ فَلْيُتمَّ حَجَّهُ". وقالَتْ: فَحِضْتُ، ولَمْ أَطُفْ بالبَيْتِ، ولا بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فَلَمْ أَزَلْ حائِضاً حتَّى كانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، ولَمْ أُهِلَّ إلَّا بِعُمْرَةٍ، فَأمَرَني النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ أنْقُضَ رَأْسي وأَمْتَشِطَ، وأُهِلَّ بالحَجِّ، وأترُكَ العُمْرَةَ، فَفَعَلْتُ حتَّى قَضَيْتُ حَجَّتي، بَعَثَ مَعِي عَبْدَ الرَّحمن بن أَبي بَكْر، وأَمَرَني أَنْ أَعْتَمِرَ مَكانَ عُمْرَتي مِنَ التَّنْعِيم، قالت: فَطَافَ الذينَ كانُوا أَهَلوا بالعُمْرَةِ بالبيتِ وبَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ،

ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافاً بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وأَمَّا الذينَ جَمَعُوا الحَجَّ والعُمْرَةَ فإِنَّما طافوا طَوَافاً واحِداً. "وقالت عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام في حجة الوداع، فمنا من أهلَّ بعمرة، ومنا من أهل بحجة، فلما قدمنا مكّة قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: من أهل بعمرة ولم يُهْدِ"؛ أي: لم يكن معه هديٌ "فليَحْلِلَ، ومن أحرم بعمرةٍ وأهدى"؛ أي: كان معه هدي "فليُهِلَّ بالحج مع العمرة"؛ أي: فليُدْخِل الحجَّ في العمرة ليكون قارناً. "ثم لا يَحِلَّ حتَّى يَحِلَّ منهما"؛ يعني: لا يَخْرُج من الإحرام ولا يَحِلُّ له شيء من المحظورات حتَّى يُتم أفعال الحج والعمرة جميعًا. "وفي رواية: فلا يحلَّ حتَّى يحلَّ بنحر هديه"؛ أي: حتَّى يأتي يوم العيد، فإنَّه لا يجوز نحر الهدي قبله، "ومن أهل بحج فليتم حجه". "قالت: فحضتُ ولم أَطُفْ بالبيت ولا بين الصفا والمروة، فلم أزل حائضاً حتَّى كان يوم عرفة ولم أُهلَّ إلَّا بعمرة، فأمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أنقض رأسي وأمتشط"؛ أي: أمرني أن أخرج من إحرام العمرة، وأتركها باستباحة المحظورات من التمشُّط وغيره؛ لعدم القدرة على الإتيان بأفعالها بسبب الحيض". "وأهلَّ بالحج"؛ أي: أمرني أن أُحرم بالحج "وأترك العمرة، ففعلت حتَّى قضيت حجي فبعث معي عبد الرحمن بن أبي بكر وأمرني أن أعتمر مكان عمرتي"؛ أي: بدلها، نصبٌ على المصدر. "من التنعيم": موضع قريبٌ من مكَّة بينها وبينه فرسخ، وبهذا تمسُّك أبو حنيفة رحمه الله. وقال الشَّافعي: ليس معناه أنه عليه الصَّلاة والسلام أمرها بترك العمرة

رأساً، بل أمرها بترك أفعال العمرة من الطواف والسعي وإدخال الحج في العمرة لتكون قارنة، وأمَّا عمرتُها بعد الفراغ من الحج فكانت تطوُّعاً لتطييب نفسها؛ لئلا تظن لحوق نقصانٍ بترك أعمال عمرتها. "قالت: فطاف الذين كانوا أهلوا بالعمرة"؛ أي: الذين أفردوا العمرة عن الحج. "بالبيت وبين الصفا والمروة"؛ يعني: طافوا طوافاً للعمرة. "ثم حلُّوا، ثم طافوا طوافاً، للحج في يوم النحر. "بعد أن رجعوا من منى" إلى مكّة. "وأمَّا الذين جمعوا الحج والعمرة فإنَّما طافوا طوافاً واحدًا" يوم النحر لهما جميعاً، وعليه الشَّافعي، وعندنا: يلزم القارنَ طوافان: طوافٌ قبل الوقوف بعرفة للعمرة، وطوافٌ بعده للحج. * * * 1843 - وقال عبد الله بن عُمر: تَمَتَّعَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ بالعُمْرَةِ إلى الحَجَّ، فساقَ مَعَهُ الهَدْيَ مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ، وبدأَ فَأَهَلَّ بالعُمْرَة، ثُمَّ أَهَلَّ بالحَجِّ فتمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالعُمْرَةِ إلى الحَجِّ، فكانَ مِنْ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى، ومِنْهُم مَنْ لَمْ يُهْدِ، فَلَمَّا قَدِمَ النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - مَكَّةَ قال للنَّاسِ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فإنَّهُ لاَ يَحِلُّ من شيءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضيَ حَجَّهُ، ومَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بالبَيْتِ وبالصَّفَا والمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ ولْيَحْلِلْ، ثُمَّ لْيُهِلَّ بالحَجِّ، ولْيُهْدِ، فَمَنْ لَمْ يَجدْ هَدْياً فَلْيَصُمْ ثلاثةَ أيَّامٍ في الحَجِّ وسَبْعَةً إذا رَجَعَ إلى أهْلِهِ" فَطَافَ حينَ قَدِمَ مَكَّةَ، واَسْتَلَمَ الرُّكْنَ أوَّلَ شيء، ثُمَّ خَبَّ ثلاثةَ أطْوافٍ،

ومشَى أرْبعاً، فَرَكَعَ حينَ قَضَى طَوافُهُ بالبَيْتِ عِنْدَ المَقَامِ ركعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فاَنْصَرَفَ، فَأتى الصَّفَا، فطافَ بالصَّفَا والمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ، ثُمَّ لَمْ يَحِلَّ مِنْ شيءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ، وأَفاضَ فطافَ بالبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شيء حَرُمَ مِنْهُ، وفعَلَ مِثْلَ ما فعلَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مَنْ ساقَ الهَديَ مِنَ النَّاسِ. "وقال عبد الله بن عمر: تمتع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج، فساق معه الهديَ من ذي الحليفة وبدأ فأهلَّ بالعمرة، ثم أهلَّ بالحج، فتمتَّع النَّاس مع النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام بالعمرة إلى الحج، فكان من النَّاس من أهدى، ومنهم من لم يهدِ، فلما قدم النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام مكّة قال للناس: من كان منكم أهدى فإنَّه لا يَحِلُّ من شيء حرمَ منه حتَّى يقضي حجه، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة، وليقصِّرْ ولْيَحلِلْ، ثم ليُهِلَّ بالحج ولْيُهْدِ"؛ أي: يلزمه هديُ التمتُّع لتقديمه العمرة على الحج في أشهره. "فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيَّام في الحج" قبل يوم النحر "وسبعة إذا رجع إلى أهله". "فطاف"؛ أي: النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - للقدوم "حين قدم مكّة، واستلم الركن"؛ أي: مسح الحجر الأسود بيده. "ثم خب ثلاثة أطواف"؛ أي: أسرع في المشي في ثلاث مرات إظهاراً للجلادة والرجولية من نفسه ومِمَّن معه من الصّحابة؛ كيلا يظنَّ الكفار أنهم عاجزون ضعفاء. "ومشى أربعاً"؛ أي: مشى على السكون في أربع مرات. "فركع"؛ أي: فصلَّى "حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين، ثم

سلم فانصرف، فأتى الصفا، فطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف (¬1)، ثم لم يحل من شيء حرم منه حتَّى قضى حجه ونحر هديه يوم النحر، وأفاض فطاف بالبيت، ثم حل من كل شيء حرم منه، وفعل مثل ما فعل رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مَن ساق الهدي من النَّاس". * * * 1844 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "هذِهِ عُمْرَةٌ اسْتَمْتَعْنَا بِها، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الهَدْيُ فَلْيَحِلَّ الحِلَّ كُلَّهُ، فإنَّ العُمْرَةَ قَدْ دَخَلَتْ في الحَجَّ إلى يَوْمِ القيامَةِ". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: هذه عمرة استمتعنا بها" استَدَلَّ به مَن قال: إنه عليه الصَّلاة والسلام كان متمتعاً، فمعناه: أنه استمتع بأنَّ قدَّم العمرةَ على الحج، واستباح محظورات الإحرام بعد الفراغ من العمرة حتَّى يحرم بعد ذلك بالحج، ومن قال: إنه كان قارناً، أوَّلَ قولَه: (استمتعنا) بأنَّ: استَمْتَعَ من أمرتُه من أصحابي بتقديم العمرة على الحج، فأضاف فعلهم إلى نفسه لأنَّه هو الآمر. "فمن لم يكن عنده الهدي فليَحِلَّ الحلَّ كلَّه" تأكيد له؛ أي: فليَجْعَلَ حلالاً على نفسه جميعَ ما حلَّ له قبل الإحرام بالعمرة بعد الفراغ من أفعالها. "فإنَّ العمرة قد دخلت في الحج إلى يوم القيامة"؛ يعني: إن دخولها فيه في أشهُره لا يختص بهذه السنة، بل يجوز في جميع السنين. * * * ¬

_ (¬1) في "ت" و "غ": "أشواط".

4 - باب دخول مكة والطواف

4 - باب دُخُول مَكَّةَ والطواف (باب دخول مكّة والطواف) مِنَ الصِّحَاحِ: 1845 - قال نافِع: إنَّ ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - كانَ لا يَقْدَمُ مَكَّةَ إلَّا باتَ بذِي طُوَى حتَّى يُصْبحَ، ويَغْتَسِلُ، ويَدْخُلُ مَكَّةَ نهارًا، وإذا نفَرَ مَرَّ بذِي طُوًى، وباتَ بها حتَّى يُصْبحَ، ويَذْكُرُ أن النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - كانَ يفعلُ ذلك. "من الصحاح": " قال نافعٌ: كان ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يَقْدَمُ مكّة إلَّا بات بذي طُوى" بضم الطاء وفتحها: اسم موضع بمكة داخل الحرم، وقيل: اسم بئر عند مكّة في طريق أهل المدينة، يعني: أنه كان إذا وصل إلى ذلك الموضع ليلاً لم يدخل مكّة، بل بات فيه. "حتَّى يصبح ويغتسل فيه فيدخل مكّة نهارًاً" فالأفضل أن يدخلها نهارًا؛ ليرى البيت من البعيد ويدعو. "وإذا نفر منها"؛ أي: رجع من مكّة "مر بذي طُوى وبات بها حتَّى يصبح، ويذكر" عطف على خبر (كان)؛ أي: كان ابن عمر يجمع هذه الأفعال ويذكر "أن نبي الله - صَلَّى الله عليه وسلم - كان يفعل ذلك". * * * 1846 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - لمَّا جَاءَ إلى مَكَّةَ دَخَلَها مِنْ أَعْلاَها وخَرَجَ مِنْ أَسفَلِهَا.

"وقالت عائشة رضي الله عنها: إن النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام لمَّا جاء إلى مكّة دخلها من أعلاها وخرج من أسفلها"، فيكون ذلك سنَّة. * * * 1847 - عن عُرْوَةُ بن الزُّبَيْر: قَدْ حجَّ النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فَأَخْبَرتنِي عائشةُ رضي الله عنها أن أَوَّلَ شيءٍ بدأَ بِهِ حينَ قَدِمَ أَنَّهُ توضَّأَ، ثُمَّ طافَ بالبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ حَجَّ أبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - فكانَ أَوَّلَ شيءٍ بدأَ بِهِ الطَّوافُ بالبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ مِثْلَ ذلك. "وقال عروة بن الزُّبير: قد حج النَّبيّ - عليه الصَّلاة والسلام - فأخبرتني عائشة رضي الله عنها: أنه" الضمير للشأن "أولُ شيء بدأ به حين قدم"؛ أي: قدم مكَّة "أنه توضأ" فالجملةُ المنعقدةُ من المبتدأ والخبر مفسِّرةٌ لضمير الشأن، أو عائدٌ إلى النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام، فالجملة خبر (أَنَّ)، ويجوز أن ينصب (أول) على الظرفية بعاملٍ مضمر، فتكون (أن) الثَّانية بدلًا من الأولى، وفي بعض النسخ: (أَنَّ أول شيء). "ثم طاف بالبيت" يدل على استحباب طواف القدوم كتحية المسجد. "ثم لم تكن عمرةٌ، كذا رواه البُخاريّ، (كان) تامة؛ أي: ثم لم يوجد بعد الطواف عمرةٌ، فيكون من كلام عروة. "ثم حج أبو بكر - رضي الله عنه -، فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرةٌ، ثم عمر، ثم عثمان - رضي الله عنهما -، مثل ذلك"، وفي رواية مسلم -: (ثم لم يكن غيَّره) بالغين المعجمة والياء المشددة؛ أي: (ثم لم يكن) بعد الطواف (غيَّره)؛ أي: لم يغير الحجَّ، ولم ينقله، ولم يفسخه إلى غيره، لا عمرة ولا قران. * * *

1848 - وقال ابن عمر: كانَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طَافَ في الحَجِّ أو العُمْرَةِ أَوَّلَ ما يَقْدَمُ سَعَى ثلاثةَ أَطْوافٍ، ومشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بينَ الصَّفَا والمَرْوَةِ. "وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم" بنصب (أول) على الظرفية؛ أي: في أول قدومه. "سعى ثلاثة أطواف"؛ أي: أسرع بالمشي فيها. "ومشى" على السكون. "أربعة، ثم سجد سجدتين"؛ أي: صَلَّى ركعتين، "ثم يطوف بين الصفا والمروة". * * * 1849 - وقال: رَمَلَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الحَجَرِ إلى الحَجَرِ ثلاثًا، ومَشى أَرْبَعاً، وكانَ يَسْعَى بين المِيْلَينِ بَطْنَ المَسِيلِ إذا طَافَ بيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ. "وقال"؛ أي: الراوي: "رمل رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - من الحجر إلى الحجر"؛ أي: ابتدأ من الحجر الأسود وأسرع في مشيه حتَّى وصل إليه، فعل ذلك "ثلاثًا، ومشى أربعاً، يدل على استحباب الرَّمَل في الثلاثة الأُول والهِينة في الأربعة الأخيرة. "وكان يسعى ببطن المسيل": اسم موضع بين الصفا والمروة. "إذا طاف بين الصفا والمروة"؛ يعني: إذا نزل من الصفا يمشي على السكون حتَّى وصل أول بطن المسيل، ثم سعى سعياً شديداً حتَّى وصل إلى آخره. * * *

1850 - وقال جَابرِ - رضي الله عنه -: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قَدِمَ مَكَّةَ أتى الحَجَرَ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ مَشَى على يمينهِ، فرَمَلَ ثَلاثاً، ومشَى أَرْبَعاً. "وقال جابر - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - لما قدم مكّة أتى الحجر فاستلمه ثم مشى على يمينه"؛ أي: يمين الحجر الأسود، يعني: دار حول الكعبة بحيث جعل الكعبة على يساره، "فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً". * * * 1851 - وسُئِلَ ابن عُمر عَنْ اسْتِلاَمِ الحَجَر؛ قال: رأَيْتُ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُهُ ويُقَبلُهُ. "وسئل ابن عمر عن استلام الحجر فاستلمه وقال: رأيت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يستلمه ويقبله" والاستلام: أن يتناوله بلمس أو تقبيل أو إدراكِ بعضٍ، والحجر للبيت بمثابة اليد اليمنى يَسُوغُ تقبيله للوافدين إليه تعظيماً له. * * * 1852 - وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: لَمْ أَرَ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - يَسْتَلِمُ مِنَ البَيْتِ إلَّا الرّكنَيْنِ اليَمَانِيَيْنِ. "وقال ابن عمر - رضي الله عنه - لم أر النبيَّ عليه الصَّلاة والسلام يستلم من البيت إلَّا الركنين اليمانيين": هما الركن الأسود والركن اليماني، وإنَّما قيل: اليمانيان؛ للتغليب، خصَّهما بالاستلام لبقائهما على بناء إبراهيم، دون الركنين الآخرين يقال لهما: الشاميان. * * * 1853 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: طافَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ على بَعِيرٍ

يَسْتَلِمُ الرُّكنَ بِمِحْجَنٍ. "وقال ابن عباس - رضي الله عنهما - طافَ النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في حجة الوداع على بعير يستلم الركن"؛ أي: الحجر الأسود. "بمحجن"؛ أي: بعصاً معوجِّ الرأس مثل الصولجان. * * * 1854 - وعنه: أن رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - طَافَ بالبَيْتِ على بَعِيرٍ كلَّمَا أَتَي على الرُّكنِ أَشَارَ بشيءٍ في يَدِهِ، وكبَّرَ. "وعنه: أن النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام طاف بالبيت على بعير، كلما أتى على الركن أشار بشيء في يده وكبَّر" الحديث يدل على جواز الطواف راكبًا، ولكن المشي أفضل. * * * 1855 - وعن أبي الطُّفَيْل - رضي الله عنه - قال: رَأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَطُوفُ بالبَيتِ، ويَسْتَلِمُ الرُّكنَ بِمِحْجَنٍ مَعَهُ، ويُقَبلُ المِحْجَنَ. "وعن أبي الطفيل أنه قال: رأيت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يطوف بالبيت ويستلم الركن بمحجن معه ويقبل المحجن" وفيه من التعظيم ما ليس في تقبيل اليد؛ لأنَّه أقرب إلى التواضع، وأبعدُ من تهمة الترفُع، وفيه دليل على أن العاجز عن الاستلام بيده له ذلك بعصاً وسوطٍ ونحوِهما، وله تقبيل ذلك الشيء. * * * 1856 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: خَرَجْنَا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا نَذْكُرُ إلَّا

الحَجَّ، فلمَّا كُنّا بِسَرِفَ طَمِثْتُ، فَدَخَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وأَنا أَبْكِي، فقالَ: "لَعَلَّكِ نَفِسْتِ؟ "، قلتُ: نعم، قال: "فإنَّ ذلكَ شيءٌ كتبَهُ الله على بناتِ آدَمَ، فاَفْعَلِي ما يَفْعَلُ الحَاجُّ غيْرَ أن لا تَطُوفي بالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي". "وقالت عائشة رضي الله عنها: خرجنا مع النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام لا نذكر إلَّا الحج"؛ أي: لا ننوي ولا نُحرِمُ إلَّا بالحج. "فلما كُنَّا بسَرِف" بفتح السِّين وكسر الراء المهملتين: اسم موضع بمكة على ستة أميال، وقيل: سبعة، وقيل: عشرة، وهو منصرِفٌ على تأويل المكان، وغيرُ منصرفٍ على تأويل البقعة. "طَمِثْتُ" بفتح الطاء وكسر الميم؛ أي: حِضْتُ. "فدخل النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام وأنا أبكي، قال: لعلك نَفِسْتِ؟ " بفتح النون وكسر الفاء؛ بمعنى: حضت. "قلت: نعم، قال: فإنَّ ذلك شيء كتبه الله تعالى عليّ بنات آدم، فافعلي ما يفعل الحاجُّ غَيرَ أن لا تطوفِي بالبيت حتَّى تطهري" يدل على أن للحائض أن تأتي بمناسك الحج إلَّا الطواف، فإنَّه لا يجوز بدون الطهارة. * * * 1857 - وقال أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: بَعَثَنِي أبو بَكْرٍ - رضي الله عنه - في الحَجَّةِ التي أَمَّرَهُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عَلَيْهَا قبْلَ حَجَةِ الوَداعِ يَوْمَ النَّحْرِ في رَهْطٍ يُؤَذِّن في النَّاسِ: أَلا لا يَحُجُّ بَعْدَ العَامِ مُشْرِكٌ، ولا يَطُوفُ بالبَيْتِ عُرْيانٌ. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: بعثني أبو بكر - رضي الله عنه - في الحجة التي أمَّره النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام عليها، بتشديد الميم؛ أي: جعله أميرًا على القافلة في السنة التاسعة "قبل حَجة الوداع" بفتح الحاء وكسرها.

"يوم النحر" منصوب على الظرفية لـ (بعثني)، "في رهط" متعلِّقٌ به. "يؤذِّن" بصيغة الغائب، والضمير راجع إلى الرهط باعتبار اللفظ، ويجوز أن يكون لأبي هريرة على الالتفات؛ أي: يُعْلِم "في النَّاس" ويروى على صيغة المتكلم. "ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفنَّ بالبيت عريان": وكانوا في الجاهلية يطوفون عراة، ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا فيها. * * * مِنَ الحِسَان: 1858 - سُئِلَ جابر - رضي الله عنه - عَنِ الرَّجُلِ يَرى البَيْتَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ؟، قال: قد حَجَجْنَا معَ رَسُولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فَلَمْ نكُنْ نفعَلُهُ. "من الحسان": " سئل جابر - رضي الله عنه - عن الرجل يرى البيتَ" حال من الرجل، وكذا "يرفع يديه" قال: قد حججنا مع رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فلم يكن يفعله"؛ أي: لم يكن النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يرفع يديه عند رؤية الكعبة، وبهذا قال أبو حنيفة والشّافعيّ ومالك رحمهم الله تعالى. * * * 1859 - عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - قال: أَقْبَلَ رَسُولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فدخلَ مَكَّةَ، فأَقْبَلَ إلى الحَجَرِ فَاسْتَلَمَهُ، ثُمَّ طافَ بالبَيْتِ، ثُمَّ أتى الصَّفَا، فَعَلاهُ حتَّى ينْظُرَ إلى البَيْتِ، فرفعَ يَدَيْهِ، فجعَلَ يذكُرُ الله ما شاءَ ويدعُو. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: أقبل رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فدخل مكّة، فأقبل إلى

الحجر فاستلمه، ثم طاف بالبيت، ثم أتى الصفا فعَلاَه حتَّى ينظر إلى البيت، فرفع يديه فجعل يذكر الله ما شاء ويدعو": وبهذا قال أحمد وسفيان الثوري. * * * 1860 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "الطَّوَافُ حَولَ البَيْتِ مِثْلُ الصَّلاةِ إلَّا أَنكمْ تتكَلَّمُونَ فيهِ، فَمَنْ تَكَلَّمَ فيهِ فلا يَتكَلَّمَنَّ إلَّا بِخَيْرٍ"، ووقفَه الأكثَرون على ابن عباس. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النَّبيّ عليه الصَّلاة والسلام قال: الطواف حول البيت مثل الصَّلاة"؛ أي: في وجوب الطهارة عن الحدث والخبب وستر العورة. "إلَّا أنكم تتكلمون فيه" يجوز أن يكون الاستثناء متصلاً؛ أي: إلَّا في التكلم، وأن يكون منقطعاً؛ أي: لكن رخِّص لكم التكلُّم فيه. "فمن تكلم فيه فلا يتكلمن إلا بخير" "وقفه الأكثرون على ابن عباس". * * * 1861 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "نزَلَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ مِنَ الجَنَّةِ وَهُوَ أَشَدُّ بَياضاً مِنَ اللَّبن، فَسَوَّدَتْهُ خَطَايَا بني آدَمَ" صحيح. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: نزل الحجر الأسود من الجنة، وفي بعض النسخ: (حجر الأسود) بالإضافة، فيكون من باب إضافة الصفة إلى الموصوف، وهذا يجوز حمله على ظاهره، ويجوز التأويل بأنه أراد به مشاركتَه لجواهر الجنة في الكرامة كأنه نزل منها.

"وهو أشد بياضاً من اللبن"؛ يعني: أنه كان من الصفاء والنورانية على هذا النعت. "فسوَّدته خطايا بني آدم" معناه: ذنوب الزائرين بيت الله انتقلت منهم إلى الحجر فصار أسود، كما جاء في الحديث: "إن مسح الحجر الأسود ينفي الذنوب" وهذا شيء يقبله المؤمن بالإيمان تصديقاً لقوله عليه الصَّلاة والسلام، وفيه تنبيهٌ على أن الخطايا تؤثر في الجماد فتجعلُ المبيضَّ منه مسوداً، فكيف بقلوبكم؟!. "صحيح". * * * 1862 - وعنه قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في الحَجَرِ: "والله لَيَبْعَثنَّهُ الله يَوْمَ القِيامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يبْصِرُ بِهِمَا، ولسانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ على مَنِ اسْتَلَمَهُ بِحَقٍّ، وعلى مَنِ استلَمَهُ بغير حقٍّ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - في الحجر: والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما، ولسانٌ ينطق به يشهد على مَن استلمه" (على) هاهنا بمعنى اللام. "بحق"؛ أي: بتعظيم وإحترام. "وعلى من استلمه بغير حق"؛ أي: باستهزاء واستخفاف، والنطقُ - بعد أن كان جماداً لا حياة فيه - ليميز بين المشهود له وعليه من زوَّاره، ولا امتناع فيه لأنَّه تعالى قادر على جميع الممكنات. * * *

1863 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الرُّكْنَ والمَقَامَ ياقُوتتَانِ مِنْ ياقُوتِ الجَنَّةِ طَمَسَ الله نُورَهُمَا، ولَوْ لَمْ يَطْمِسْ نُورَهما لأَضَاءَا مَا بين المَشْرِقِ والمَغْرِبِ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: سمعت رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الرُّكنَ والمقام ياقوتتان من ياقوت الجنة" والتأويل: أن فضلهما على سائر الأحجار كفضل ياقوت الجنة الباقية على ياقوت هذه الدُّنيا الفانية، وهذا لامتناع تبدُّل ما احتوت عليه الجنة وزوالِه. "طمس الله"؛ أي: أذهب. "نورهما" ليكون الإيمان بهما بالغيب، لأنَّه لو لم يطمس نورهما لكان الإيمان بهما إيماناً بالشهادة، والموجِبُ للثواب هو الإيمان بالغيب. "ولو لم يطمس نورهما لأضاءا ما بين المشرق والمغرب". * * * 1864 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما -: أنَّهُ كانَ يُزَاحِمُ على الرُّكْنَيْنِ، وقال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ مَسْحَهُمَا كَفارَةٌ لِلخَطايَا" وسَمِعَتْهُ يقولُ: "مَنْ طافَ بهذا البيتِ أُسْبوعاً يُحْصِيهِ، فيُصَلِّي ركعَتَيْنِ كَانَ كَعِتْقِ رَقَبَةٍ، وما وَضَعَ رَجُلٌ قَدَماً ولا رَفَعَهَا إلَّا كتَبَ الله لَهُ بها حَسَنَةً، ومَحَا عَنْهُ بِهَا سَيئَةً ورَفَع لَهُ بها دَرَجَةً". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يزاحم" على بناء الفاعل. "على الركنين"؛ أي: اليمانيين، يعني: يُوْقع نفسه بين الخلق المجتمعِ عند الحجر الأسود والركن اليماني حتَّى يتمسَّح بهما. "وقال: سمعت رسول الله يقول؟ إن مسحهما كفارةٌ للخطايا، وسمعته

يقول: من طاف بهذا البيت أسبوعاً"؛ أي: سبعة أيام متوالية بحيث "يحصيه"؛ أي: يعدُّه ولا يترك بين الأيام السبعة يوماً. "وصلَّى" إثر طوافِ كلّ يوم "ركعتين، كان كعتق رقبة" وقيل: أسبوعًا؛ أي: سبعاً. "وما وضع رجلٌ قدماً ولا رفعها إلا كتب الله له بها حسنة، ومحا عنه بها سيئة، ورفع له بها درجة". * * * 1865 - عن عبد الله بن السَّائب - رضي الله عنه -: أنَّهُ سَمعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ فيما بينَ رُكْنِ بني جُمَع والرُّكْنِ الأَسْوَد: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} ". "عن عبد الله بن السائب أنه سمع النبي - عليه الصلاة والسلام - يقول: فيما بين ركن بني جُمَح" بضم الجيم وفتح الميم: بطنٌ من قريش، أراد به الركن اليماني، وإضافته إليهم لأن مساكنهم كانت من ذلك الشق. "والركن الأسود" هو الحجر الأسود. {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}. * * * 1866 - عن صَفِيةَ بنت شَيْبَة قالتْ: أخْبَرتْنِي بنتُ أَبي تُجْراةَ قالتْ: دَخَلْتُ مع نِسْوَة مِنْ قُرَيْشٍ دارَ آلِ أبي حُسِيْنٍ ننظُرُ إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فَرَأَيْتُهُ يَسْعَى وإنَّ مِئْزَرَهُ لَيَدُورُ مِنْ شدَّةِ السَّعِي، وسَمِعْتُهُ يقولُ: "اسْعُوْا، فإنَّ الله كَتَبَ عَلَيْكُمُ السَّعْيَ".

"عن صفية بنت شيبة قالت: أخبرتني بنت أبي تُجْراة" بضم التاء وسكون الجيم. "قالت: دخلتُ مع نسوة من قريش دار آل أبي حسين ننظر" بصيغة المتكلم. "إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأينه يسعى وإن مئزره ليدور" حول رجليه ويلتف بهما "من شدة السعي، وسمعته يقول: اسعوا فإن الله كتب"؛ أي: فرض "عليكم السعي" بين الصفا والمروة، ومَن لم يَسْعَ لم يصحَّ حجّه عند الشافعي ومالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: هو تطوُّعٌ، وعنه أنه واجب. * * * 1867 - عن قُدَامَةَ بن عبد الله بن عَمَّارٍ قال: رَأَيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ على بَعِيرٍ، لا ضَرْبَ ولا طَرْدَ، ولا إلَيْكَ إلَيْكَ. "عن قدامة بن عبد الله بن عمار - رضي الله عنه - أنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى بين الصفا والمروة على بعير لا ضرب" هناك "ولا طرد"؛ أي: لم يكونوا يضربون الناس ولا يطردونهم. "ولا" قول: "إليك إليك" اسم فعل؛ أي: ابعد عني، كما هو عادة الملوك والجبابرة، بل يمشي عنده مَن شاء من الفقير والغني. * * * 1868 - عن ابن يَعْلَى، عن أبيه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَافَ بالبَيْتِ مُضْطَبعاً ببُرْدٍ أَخْضَرَ. "وعن يعلى بن أمية: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - طاف بالبيت

5 - باب الوقوف بعرفة

مضطبعًا ببرد أخضر"، (الاضطباع): هو أن يجعل وسط ردائه في الإبط اليمنى، وجمع طرفيه على العاتق الأيسر، وهذا لإظهار الجلادة والرجولية، وهو يدل على استحبابه في طوافٍ فيه رَمَلٌ. * * * 1869 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الجعْرانة، فَرَمَلُوا بالبَيْتِ ثلاثاً، وجَعَلُوا أَرْدِيتَهُمْ تحتَ آباطِهِمْ، ثُمَّ قَذَفُوهَا على عَواتِقِهِم اليُسْرَى. "عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه اعتمروا من الجعْرانة، فرملوا بالبيت ثلاثاً وجعلوا أرديتهم تحت آباطهم ثم قذفوها"؛ أي: رموها "على عواتقهم اليسرى". * * * 5 - باب الوُقوف بِعَرَفة (باب الوقوف بعرفة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1870 - عن محمد بن أبي بَكْر الثَّقَفِي: أنَّهُ سأل أَنسَ بن مالكٍ - رضي الله عنه - وهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إلى عَرَفَةَ: كَيْفَ كنتمْ تَصْنَعُونَ في هذا اليَوْمِ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟، فقال: كانَ يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ، فلا يُنْكَرُ عليهِ، ويُكَبرُ المُكَبَّرُ مِنَّا، فلا يُنْكَرُ علَيْهِ". "من الصحاح": " عن محمد بن أبي بكر الثقفي: أنه سأل أنس بن مالك - رضي الله عنه - وهما

غاديان" بالغين المعجمة: اسم فاعل من الغدو. "من منى إلى عرفة" للوقوف. "كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم"؛ أي: في يوم عرفة "مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كان يُهِلُّ"؛ أي يلبِّي "منا المهلُّ فلا ينكَر عليه"؛ أي: فلا يعيبه أحد. "ويكبر المكبر منا فلا ينكر عليه" وهذا رخصة؛ يعني: لا حرج في التكبير، بل يجوز كسائر الأذكار، ولكن ليس التكبير في يوم عرفة سنةً للحاج، بل السنةُ لهم التلبية إلى رمي جمرة العقبة يوم النحر. * * * 1871 - عن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نَحَرتُ هاهنا، ومِنًى كلَّها مَنْحَرٌ، فاَنْحَرُوا في رِحَالِكُمْ، ووَقَفْتُ هَاهُنَا، وعَرَفَةُ كلُّها مَوْقفٌ، وَوَقَفْتُ هَاهُنَا، وجَمْعٌ كلُّها مَوْقفٌ". "وعن جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نحرْتُ هاهنا" إشارة إلى منى. "ومنًى" مبتدأ. "كلُّها" تأكيد. "منحر" خبره، والجملة حال؛ أي: لا يختص النحر بالمكان الذي نحرتُ فيه من منى "فانحروا في رحالكم" "ووقفت هاهنا" إشارة إلى عرفة "وعرفةُ كلها موقفٌ، ووقفت هاهنا وجَمْعٌ" بفتح الجيم وسكون الميم: المزدلفة، وهي المشعر الحرام، سميت به لاجتماع الناس بها، وقيل: لاجتماع آدم وحواء فيها. "كلها موقف".

1872 - وقالت عائشة رضي الله عنها: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَا مِنْ يَوْم أكثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ الله فيه عَبْدًا مِنْ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَة، وإنَّهُ لَيَدْنُو، ثُمَّ يُباهِي بِهِمُ الملائِكَةَ، فيقولُ: ما أَرادَ هَؤُلاَء؟ ". "وقالت عائشة رضي الله عنها: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما من يوم"، (ما) بمعنى ليس، اسمه (يوم)، و (من) زائدة، وكذا (من) الثانية، وخبره: "أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة) متعلق بـ (أكثر)؛ أي: ليس يوم أكثر إعتاقًا فيه من يوم عرفة. "وإنه ليدنو"؛ أي: إن الله تعالى ليقربُ من العباد بفضله ورحمته. "ثم يباهي بهم الملائكة"؛ أي: يفتخر (¬1) بالحجاج على الملائكة، يعني: يُظهر فضلهم وشرفَهم بين الملائكة. "فيقول: ما أراد"؛ أي: أيَّ شيء يريد "هؤلاء" الحجاج؟ فإن أرادوا مغفرتي ورحمتي فقد غفرت لهم ورحمتهم. * * * 1873 - عن عَمْرو بن عبد الله بن صَفْوان، عن خالٍ له يُقال له: يَزِيْد بن شَيْبَان أنَّه قال: كُنَّا في مَوْقفٍ لنا بعَرَفَةَ يُباعِدُهُ عَمْرٌو مِنْ مَوْقفٍ الإمامِ جِدًا، فأَتَانَا ابن مِربَع الأنصَارِيُّ، فقال: إنِّي رسُولُ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلَيْكُم، يقولُ لَكُمْ: "قفوا على مَشاعِرِكُمْ، فإنَّكُمْ على إِرْثٍ مِنْ إرْثِ أَبيكُمْ إبراهيمَ عليه السلام". "من الحسان": " عن عمرو بن عبد الله بن صفوان، عن خالٍ له: يقال له يزيد بن شيبان ¬

_ (¬1) في "غ": "يفخر".

أنه قال: كنا في موقف لنا"؛ أي: لأسلافنا "بعرفة" كانوا يقفون فيه قبل الإسلام. "يباعده عمرو"؛ أي: يجعل ذلك الموقف بعيدًا "من موقف الإمام"؛ أي: إمام الحاج، والجملة صفة (موقف). (جدًا) نصب على المصدر؛ أي: يجدُّ في التبعيد جدًا، والتباعُدُ يجيء في كلامهم بمعنى التبعيد. "فأتانا ابن مِرْبَع الأنصاريُّ فقال: إني رسولُ الله"؛ أي: أرسلني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إليكم يقول لكم: قفوا على مشاعركم"؛ أي: مناسككم، جمع مشعر، وهو موضع النسك، وكل موضع من مواضع النسك يقال له: مشعر، سمي به؛ لأنه مَعْلَم للعبادة (¬1). "فإنكم على إرث من إرث أبيكم إبراهيم عليه السلام"، (من) للبيان؛ أي: على بقيةٍ من شرائع إبراهيم، وهذا إعلامٌ منه - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لم يخطئوا سنَّة الخليل، وبأن أيَّ جزء وقفوا فيه من أجزاء عرفة فهو كافٍ، إذ عرفةُ وحدودها مما بناه إبراهيم عليه السلام للحجاج. * * * 1874 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُّ عَرَفَةَ مَوْقفٌ، وكُلُّ مِنى مَنْحَرٌ، وكُلُّ المُزْدلفَة مَوْقفٌ، وكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ طَرِيق وَمَنْحَرٌ". "عن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كلُّ عرفةَ موقفٌ، وكلُّ منى منحرٌ، وكل المزدلفة موقفٌ، وكل فِجاج مكة" بكسر الفاء: جمع فج، وهو الطريق الواسع. ¬

_ (¬1) في "غ": "للعباد".

"طريقٌ" لدخول الحاج "ومَنْحَرٌ" للهدي؛ لأنها من أرض الحرم. * * * 1875 - عن خالد بن هَوْذَة قال: رَأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ يومَ عَرفَةَ على بَعِيرٍ قائمًا في الرِّكابَيْنِ. "عن خالد بن هوذة أنه قال: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يخطب الناس يوم عرفة على بعير قائمًا في الركابين"؛ أي: واقفًا عليهما ليراه الناس من بعيد، ويستمعوا كلامه. * * * 1876 - عن عَمْرو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وخَيْرُ ما قُلْتُ أَنَا والنَّبيُّونَ من قَبْلِي: لا إلهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وهُوَ على كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ". "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: خير الدعاء دعاء يوم عرفه، لأنه أعجلُ إجابة وأجزلُ أجرًا. "وخير ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" سمي التهليل والتحميد والتمجيد دعاء؛ لأنه بمنزلته في استجلاب الثواب؛ لأن مَن ذكر فقد دعا وطلب، قال - عليه الصلاة والسلام - حكاية عن الله تعالى: "مَن شغله ذِكْري عن مسألتي أعطيتُه أفضلَ ما أُعطي السائلين" فقد أقام الذكر مقام الدعاء. * * * 1877 - عن طَلْحَةَ بن عُبَيْد الله بن كَرِيْز - صلى الله عليه وسلم - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما رُؤِيَ

الشَّيْطانُ يَوْمًا هو فيهِ أَصغَرَ، ولا أَدْحَرَ ولا أَحْقَرَ ولا أَغْيَظَ منهُ يومَ عَرَفَةَ، وما ذاكَ إلاَّ لِمَا يَرَى مِنْ تَنَزُّلِ الرَّحْمَةِ , وتَجَاوُزِ الله تعالَى عنِ الذُّنُوبِ العِظامِ , إلاَّ ما كانَ مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ" , فقيلَ: وما رَأَى مِنْ يَوْمِ بَدْرٍ؟، فقال: "إنَّهُ قَدْ رَأَى جِبْرِيلَ وهو يَزَعُ الملائِكَةَ"، مُرسَلٌ. "عن طلحة بن عبيد الله بن كريز - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ما رؤي الشيطان يومًا هو فيه أصغر"؛ أي: أذلُّ. "ولا أدحر" بالحاء المهملة؛ أي: أبعد من رحمة الله، من الدحور، وهو الدفع بعنف على سبيل الإهانة والإذلال. "ولا أحقر ولا أغيظ"؛ أي: أشد غيظًا. "منه"؛ أي: من الشيطان. "يوم عرفة"؛ أي: في يوم عرفة أبعد من مراده من نفسه في سائر الأيام. "وما ذاك إلا لمَا يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام، إلا ما كان من يوم بدر" استثناء من معنى الدحور، كأنه قال: إلا الدحور الذي أصيب به يومئذ، فإنه كان فيه أحقر منه في يوم عرفة لمَّا رأى نزول الملائكة لمدد المسلمين وهزم الكفار. "فقيل: وما رأى من يوم بدر" قال: إنه قد رأى"؛ أي: الشيطانُ. "جبرائيلَ وهو يزع الملائكة"؛ أي: يتقدَّمهم ويرتبهم صفًا للحرب، مِن وَزَعَ يَزَغُ وَزْعًا؛ أي: منع وكفَّ، كأنه يكفُّهم عن الانتشار. "مرسل"؛ أي: هذا الحديث مرسل؛ لأن راويه تابعي من الشام. * * * 1878 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ يومُ عَرَفَةَ إنّ

الله يَنْزِلُ إلى السَّماء الدُّنْيَا، فَيُبَاهِي بِهِمُ الملائِكَةَ، فيقول: اَنْظُرُوا إلى عِبَادِي، أَتَوْني شُعْثًا غبْرًا ضَاجِّينَ مِنْ كَلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، أُشْهِدكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ، فتقُولُ الملائِكَةُ: ياربِّ! فُلانٌ كانَ يُرهِّقُ، وفُلان وفُلانةٌ، قال: يقولُ الله عز وجل: قَدْ غَفَرْتُ لهُمْ"، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَمَا مِنْ يَوْمٍ أكثرَ عَتِيقًا مِنَ النَّارِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ". "عن جابر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان يوم عرفة فإن الله ينزل إلى السماء الدنيا" قيل: معناه: يُنزل رحمتَه ويقرِّب فضلَه وغفرانه إلى الحجاج. "فيباهي بهم الملائكة فيقول: انظروا إلى عبادي أتوني شُعثًا" بضم الشين: جمع أشعث، وهو متفرق شعر الرأس من عدم غَسْله كما هو عادة المُحْرِمين. "غُبرًا" بضم الغين: جمع أغبر، وهو مَن الْتَصَقَ الغبارُ بأعضائه كما هو دأبُ المسافرين. "ضاجِّين": جمع ضاجٍّ؛ أي: رافعين أصواتهم بالتلبية. "من كل فج عميق"؛ أي: من كل طريق بعيد. "أُشهدكم أني قد غفرت لهم، فتقول الملائكة: يارب فلان كان يرهِّق" بتشديد الهاء على صيغة المجهول من الترهيق، وهو النسبة إلى الرَّهَق، وهو غشيانُ المحارم، وقيل: أي: يُتَّهم بسوء، وقيل: بفتح الياء وسكون الراء وفتح الهاء؛ أي: يفعل المعاصي. "وفلانٌ وفلانةُ"؛ يعني: كذلك يفعلون المعاصي، وليس بأهل أن تغفر لهما. "قال: يقول الله عز وجل: قد غفرت لهم، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فما من يوم

6 - باب الدفع من عرفة والمزدلفة

أكثر عتيقًا من النار من يوم عرفة". * * * 6 - باب الدفْع من عَرَفَةَ والمُزْدَلِفَة (باب الدفع من عرفة والمزدلفة) مِنَ الصِّحَاحِ: 1879 - عن هِشَام بن عُرْوةَ، عن أَبيه أنه قال: سُئِلَ أُسامةُ: كيفَ كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسِيْرُ في حَجَّةِ الوَداعِ حينَ دَفَعَ؟، قال: كانَ يَسيرُ العَنَقَ، فإذا وجَدَ فَجْوَة نَصَّ. (الدفع): الذهاب مع كثرةٍ من عرفة إلى المزدلفة. "من الصحاح": " عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال: سئل أسامة: كيف كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في حجة الوداع؟ "؛ أي: يسير على سرعة، أو على سكون. "حين دفع"، أي: حين رجع من عرفات عند ابتداء السير. "قال: كان يسير العَنَق" بفتحتين: السير المتوسط؛ لئلا يصدم الناسُ بدابته. "فإذا وجد فجوة"؛ أي: موضعًا متسعًا خاليًا عن المار وزحمة الناس. "نصَّ"؛ أي: أسرع جدًا، ويسوق دابته شديدًا.

1880 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّه دَفَع مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ عرَفَةَ، فَسَمعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وراءَهُ زَجْرًا شَديدًا، وضَرْبًا للإبلِ، فأشَارَ بسَوْطِهِ إلَيْهِمْ، وقال: "يا أيهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بالسَّكِينَةِ، فإنَّ البرَّ لَيْسَ بِالإيْضَاعِ". "وعن ابن عباس: أنه دفع" أي: رجع "مع النبي عليه الصلاة والسلام يوم عرفة، فسمع النبيُّ عليه الصلاة والسلام وراءه"؛ أي: خلفه "زجرًا"؛ أي: سيرًا "شديدًا وضربًا للإبل، فاشار بسوطه إليهم فقال: يا أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر"؛ أي: الخير والرفق "ليس بالإيضاع" وهو حمل الدابة على السير السريع، يعني: الإسراع ليس من البر إذا أكثر الناس، فإنه يؤذي الناس بصدمه الدواب والرحال. * * * 1881 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أَنَّ أُسَامَةَ بن زيدٍ كَانَ رِدْفَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ عَرَفَة إلى المُزْدلمفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الفَضْلَ مِنَ المُزْدلمِفَة إلى مِنًى، فكِلاهُما قال: لَمْ يَزَلِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُلَبي حتَّى رمى جَمْرَةَ العَقَبةَ". "وعن ابن عباس: أن أسامة بن زيد كان ردف النبي عليه الصلاة والسلام"؛ أي: ركب خلفه - صلى الله عليه وسلم - على ناقته "من عرفه إلى مزدلفة، ثم أردف الفضل من المزدلفة إلى منى، فكلاهما"؛ أي: أسامة والفضل "قالا": في بعض النسخ: (قال) اعتبارًا على لفظ (كلاهما). "لم يزل النبي - عليه الصلاة والسلام - يلبي حتى رمى جمرة العقبة" هذا يدل على أن التلبية من وقت الإحرام إلى رمي جمرة العقبة كلها، ثم يقطع يوم العيد، وبه قال أحمد.

1882 - عن ابن عُمر - رضي الله عنه - قال: "جَمَعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المَغرِبَ والعِشاءَ بجَمْعٍ، كُلُّ واحدةٍ مِنهُمَا بإقامةٍ، ولَمْ يسبحْ بينَهُمَا، ولا على إثْرِ كُلِّ واحدةٍ مِنْهُمَا. "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: جمع النبي عليه الصلاة والسلام المغرب والعشاء بجمع"؛ أي: بمزدلفة. "كل واحد منهما بإقامة، ولم يسبح بينهما"؛ أي: لم يصلِّ بين المغرب والعشاء شيئًا من السنن والنوافل. "ولا على إثر"؛ أي: عقيب "كل واحدة منهما". * * * 1883 - وقال عبد الله بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: ما رَأَيْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلَّى صَلاةً إلاَّ لِمِيْقاتِهَا إلاَّ صلاتَيْنِ: صلاةَ المغرب والعِشاء بِجَمْعٍ، وصَلَّى الفَجْرَ يومئذٍ قَبْلَ مِيقاتِهَا. "قال عبد الله بن مسعود: ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاةً إلا لميقاتها"؛ أي: لوقتها. "إلا صلاتين: صلاة المغرب والعشاء بجمع"؛ أي: بمزدلفة. "وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها"؛ أي: قبل وقتها المعهود وهو الإسفار؛ ليسير إلى المشعر الحرام ويقف فيه ويدعو ويفرغ قبل طلوع الشمس ليعجل السير إلى منى، ويشتغل بالرمي والنحر والحلق.

1884 - وقال ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: أَنا مِمنْ قَدَّمَهُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ المُزْدلفَةِ في ضَعَفَةِ أهلِهِ. "وقال ابن عباس: أنا ممن قدَّم النبي - عليه الصلاة والسلام - ليلة المزدلفة في ضَعَفَة أهله": جمع ضعيف؛ يعني: بعثني رسول الله - عليه الصلاة والسلام - مع ضعفاء أهله من النساء والصبيان - قيل: صبح ليلة العيد -؛ لئلا يزدحمنا الناس في السير. * * * 1885 - وعن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما، عن الفَضْلِ بن عبَّاس، وكانَ رَديفَ النبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، أَنه قال في عَشِيَّةِ عَرَفَةَ وغداةِ جَمْعٍ للنَّاسِ حينَ دَفَعُوا: "عَلَيْكُمْ بالسَّكِينَةِ"، وهو كَافٌ نَاقتَهُ حَتَّى دَخَلَ مُحَسِّرًا، وهو مِنْ مِنًى، قال: "عَلَيْكُمْ بحَصَى الخَذْفِ الذي يُرْمَى بِهِ الجَمْرَةُ"، وقال: لَمْ يَزَلْ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُلَبي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبة. "عن ابن عباس، عن الفضل بن عباس - رضي الله عنهما - وكان"؛ أي: الفضل بن عباس "رديف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "قال في عشية عرفة وغداة جمع للناس حين دَفَعوا"؛ أي: رجعوا من عرفة إلى المزدلفة ليلة العيد وحين ذهبوا من المزدلفة غداة يوم النحر إلى منى: "عليكم بالسكينة". "وهو"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "كافٌ" بالتشديد، أي: مانع "ناقته": عن السرعة. "حتى دخل محسِّرًا، وهو من منى قال: عليكم بحصى الخذف": جمع حصاة، وهي الحجر الصغير، و (الخذف) بفتح الخاء وسكون الذال المعجمتين: الرمي برؤوس الأصابع، أي: ارموا.

"الذي يُرمى به جمرة العقبة": ولا ترموا الكبار كيلا يتأذى الناس. "وقال: لم يزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي حتى رمى الجمرة". * * * 1886 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: أفاضَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ جَمْعٍ وعلَيْهِ السَّكينةُ، وأَمَرَهُمْ بالسَّكِينَةِ، وأَوْضَعَ في وادي مُحَسِّر، وأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُوا بمثلِ حَصَى الخَذْفِ، وقال: "لَعَلِّي لا أَرَاكُمْ بَعْدَ عَامِي هَذا". "عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: أفاض النبي - عليه الصلاة والسلام - من جمع" يقال: أفاض من المكان: إذا انصرف وأسرع منه إلى مكان آخر. "وعليه السَّكينة والوقار، وأمرهم بالسكينة، وأوضع"؛ أي: أسرع "في وادي محسِّر، وأمرهم أن يرموا بمثل حصى الخذف، وقال: لعلِّي لا أراكم بعد عامي هذا" وهذا وداع منه - عليه الصلاة والسلام - للأمة، و (لعلّ) هنا للظن؛ أي: تعلَّموا مني أحكام الدين، فإني أظن أنْ لا أراكم في العام القابل، وكان الأمر كما ظن عليه الصلاة والسلام، فإنه فارق الدنيا في الثاني عشر من ربيع الأول في السنة العاشرة من الهجرة. * * * مِنَ الحِسَان: 1887 - عن محمد بن قَيْس بن مَخْرَمَة قال: خَطَبَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "إنَّ أَهلَ الجاهِليَّةِ كانوُا يَدْفَعُونَ مِنْ عَرفةَ حينَ تكون الشَّمسُ كأنَّها عَمائِمُ الرِّجالِ في وجُوهِهِمْ قبلَ أنْ تغرُبَ، ومِنَ المُزْدلفَةِ بعدَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ حينَ تكون كأنَّها عَمائِمُ الرِّجالِ في وجُوهِهِمْ، وإنَّا لا نَدْفَعُ مِنْ عَرَفَةَ حتَّى تَغْرُبَ

الشَّمْسُ، ونَدْفَعُ مِنَ المُزْدلفَةِ قبلَ أنْ تَطلُعَ الشَّمسُ، هَدْيُنا مُخالِفٌ لِهَدْي أَهْلِ الأَوْثانِ والشِّرْكِ". "من الحسان": " عن محمد بن قيس بن مخرمة - رضي الله عنه - أنه قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن أهل الجاهلية كانوا يدفعون من عرفة حين تكون الشمس كأنها عمائم الرجال في وجوههم قبل أن تغرب، ومن المزدلفة بعد أن تطلع الشمس حين تكون كأنها عمائم الرجال في وجوههم" إنما شبَّه - صلى الله عليه وسلم - ما يقع من الضوء على الوجه في طرفي النهار حين دنوِّ الشمس من الأفق غروبًا وطلوعًا بالعمامة؛ لأن الناظر إذا نظر إليها في أحد هذين الوقتين وهو في الأودية يجد الضوء في وجهه ككورِ العمامة فوق الجبين؛ لأنه حينئذ لم يصبه من الشمس إلا شيء قليل يلمع لمعان بياض العمامة فوقه. "وإنا لا ندفع من عرفة حتى تغرب الشمس، وندفعُ من المزدلفة قبل أن تطلع الشمس، هَدْيُنا"؛ أي: ديننا وسيرتنا "مخالف لهدي أهل الأوثان والشرك"؛ أي: لهدي عبدة الأوثان وأهل الشرك. * * * 1888 - قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قَدَّمَنا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيْلَةَ المُزدلفَةِ أُغيْلِمَةَ بني عَبْدِ المُطَّلِبِ على حُمُراتٍ، فجعلَ يَلْطَحُ أَفخاذَنا، ويقول: "أَبنيَّ! لا تَرْمُوا الجَمْرَةَ حتَّى تَطلُعَ الشمسُ". "وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: قدَّمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: بعثنا "ليلة المزدلفة" إلى المزدلفة قبل سائر الناس. "أغيلمةَ بني عبد المطلب" تصغير أَغْلِمة: جمع غلام، يريد بها الصبيان،

نصبٌ على التفسير لضمير (قدمنا)، أو على الاختصاص. "على حُمرات"؛ أي: راكبين على حُمرات - بضم الحاء والميم - جمع حُمُر، وهي جمع حمار، وهذا يدل على استحباب تقديم الضعفة، حتى لا يتخلفوا ولا يتأذَّوا بالاستعجال والازدحام. "فجعل"؛ أي: طفق. "بلطخ أفخاذنا"؛ أي: يَضْرِبها ببطن كفه ضربًا خفيفًا للتلطُّف. "ويقول: أُبَيْنيَّ" بضم الهمزة: تصغير أَبنى كأعمى وأُعيمى، وهو اسمُ جمع للابن، كذا ذكره سيبويه، ثم صغِّر وجُمع جمعَ السلامة، ثم أضيف إلى الياء. "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" يدل على أن الرمي قبل طلوع الشمس بعد نصف الليل لا يجوز، وبه قلنا ومالك وأحمد. * * * 1889 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالتْ: أرسَلَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بأُمِّ سَلَمَةَ ليلةَ النَّحْرِ، فَرَمَتْ الجَمْرَةَ قَبْلَ الفَجْرِ، ثمَّ مَضَتْ فأفاضَتْ، كانَ ذلكَ اليومُ اليومَ الذي يكونُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَها. "عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أرسل النبي - عليه الصلاة والسلام - بأم سلمة" الباء زائدة؛ أي: أرسلها - صلى الله عليه وسلم - "ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر" يدل على جواز الرمي قبله، وبه قال الشافعي، وقلنا: هذا رخصة خاصة لها. "ثم مضت"؛ أي: ذهبت من منى. "فأفاضتا"؛ أي: فانصرفت وطافت بالبيت.

7 - باب رمي الجمار

"وكان ذلك اليومُ اليومَ الذي يكون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عندها"؛ أي: عند أم سلمة. * * * 1890 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: يُلَبي المُعْتَمِرُ حتَّى يَفْتِتحَ الطَّوافَ، ويُروى: حتَّى يَسْتَلِمَ الحَجَرَ. ورفعه بعضهم. "وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: يلبي المعتمر"؛ أي: المحرم بالعمرة من وقت إحرامه "حتى يفتتح الطواف"؛ أي: يبدأ به، ثم يترك التلبية. ويروى: "حتى يستلم الحجر". أكثر العلماء على أن هذا الحديث عبارةُ ابن عباس، "ورفعه بعضهم"؛ أي: قالوا: إنه مرفوع؛ أي: منقول عن النبي عليه الصلاة والسلام. * * * 7 - باب رَمْيِ الجِمَار " باب رمي الجمار": جمع جمرة، وهي الحصاة. مِنَ الصِّحَاحِ: 1891 - قال جابر - رضي الله عنه -: رأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْمي على راحلَتِهِ يَوْمَ النَّحْرِ، ويقولُ: "لِتَأخُذُوا عنِّي مناسِكَكُمْ، فإنِّي لا أدْرِي لَعَلِّي لا أحُجُّ بعدَ حَجي هذا". "من الصحاح": " قال جابر - رضي الله عنه -: رأيت النبي عليه الصلاة والسلام يرمي على راحلته يوم

النحر"؛ أي: يرمي وهو راكب على ناقته، يدل على أن رمي الجمار يجوز راكبًا. "ويقول: لتأخذوا" هذه اللام هي لام الأمر، معناه: خذوا "عني مناسككم"؛ أي: تعلموا مني أحكام الحج. "فإني لا أدري" قيل: مفعوله محذوف؛ أي: لا أدري ما يُفعل بي. "لعلي"؛ أي: أظن أني "لا أحج بعد حجتي هذه". * * * 1892 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: رَأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَرمِي الجَمْرَةَ بِمِثْلِ حَصَى الخَذْفِ". "وقال جابر - رضي الله عنه -: رأيت النبي - عليه الصلاة والسلام - يرمي الجمرة بمثل حصى الخذف". * * * 1893 - وقال: رمَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الجَمْرَةَ يومَ النَّحْرِ ضُحًى، وأما بعدَ ذلك فإذا زالتِ الشَّمْسُ. "وقال: رمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجمرة"؛ أي: جمرة العقبة. "يوم النحر ضحًى، وأما بعد ذلك"؛ أي: بعد أيام التشريق. "فإذا زالت الشمس"؛ أي: الرمي فيها بعد الزوال. * * * 1894 - عن عبد الله بن مَسْعُود: أنَّهُ انتهَى إلى الجَمْرَةِ الكُبْرى، فجعَلَ البَيْتَ عَنْ يسارِه ومِنى عَنْ يمينِهِ، ورمَى بِسَبْعِ حَصَياتٍ يُكَبرُ مَعَ كُلِّ حَصاةٍ، ثمَّ قال: هكذا رمَى الذي أُنْزِلَتْ عليهِ سُورةُ البقَرَةِ.

"عن عبد الله بن مسعود: أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى"؛ يعني: جمرة العقبة؛ لأنها جعلت وحدها نسكًا في اليوم الأول بخلاف الثاني والثالث. "فجعل البيت عن يساره، ومنى عن يمينه، ورمى بسبع حصيات يكبِّر مع كلِّ حصاة، ثم قال"؛ أي: ابن مسعود: "هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة"؛ يعني به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما خص (سورة البقرة)؛ لأن معظم المناسك مذكور فيها. * * * 1895 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الاستِجْمارِ تَوٌّ، ورَمْىُ الجمارِ تَوٌّ، والسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ تَوٌّ"، وإذا اسْتَجْمَرَ أَحَدُكُمْ فَلْيَسْتَجْمِرْ بِتَوٍّ". أي: وِتْرٍ. "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الاستجمار تَوٌّ" بفتح التاء وضم الواو المشددة: الوتر؛ أي: الاستنجاء وتر. "ورمي الجمار تَوٌّ"؛ أي: الرمي في كل موضع من الجمرات وتر، وهو أن يرمي في كل موضع بسبع حصيات. "والسعي بين الصفا والمروة تو" وهو أن يطوف سبعًا. "وإذا استجمر أحدكم فليستجمر بتو" قيل: المراد بالاستجمار المذكور في أول الحديث الفعل، وبالمذكور في آخره عدد الأحجار وهو الثلاث. * * * مِنَ الحِسَان: 1896 - عن قُدَامَة بن عبد الله بن عاِمرٍ قال: رأيتُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَرمي الجَمْرَةَ

يومَ النَّحْرِ عَلَى ناقَةٍ له صَهْباءَ، ليسَ ضَرْبٌ، ولا طَرْدٌ، وليسَ قِيلُ: إِلَيْكَ إِلَيْكَ. "من الحسان": " عن قدامة بن عبد الله بن عمار أنه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يرمي الجمرة يوم النحر على ناقة صهباء"؛ أي: حمراء. "ليس ضربٌ، ولا طردٌ، وليس قيلُ: إليك إليك" تقدَّم بيانه. * * * 1897 - وعن عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما جُعِلَ رَمْيُ الجمارِ، والسعْيُ بينَ الصَّفا والمَرْوَةِ لإقامَةِ ذِكْرِ الله"، صحيح. "وعن عائشة عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إنما جعل"؛ أي: شُرع "رمي الجمار والسعي بين الصفا والمروة لإقامة ذكر الله" وذلك بالتكبير مع رمي كل جمرة، والدعوات المأثورة في السعي بين الصفا والمروة. "صحيح". * * * 1898 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلنا: يا رسُولَ الله، أَلا نبَني لكَ بناءً يُظِلّكَ بِمنًى؟، قال: "لا، مِنى مُناخُ مَنْ سَبَقَ". "عن عائشة أنها قالت: قلنا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ألا نبني": الهمزة للاستفهام، و (لا) للنفي. "لك بناءً": أعم من أن يكون من لبن أو قصب أو خيمة. "يظلك"؛ أي: يوقع ظله عليك. "بمنى"، ويقيك من حرِّ الشمس.

8 - باب الهدي

"قال - صلى الله عليه وسلم -: لا؛ مِنى مناخُ مَنْ سبق"؛ أي: ليس هذا موضع إناخة الإبل لأحد؛ أي: إبراكها، وإنما هو موضع العبادة من الرمي وذبح الهدي والحلق وغيرها من العبادات، فلو أجاز البناء، لكثرت الأبنية، ويضيق المكان. * * * 8 - باب الهَدْي " باب الهدي" هو: ما يهدى إلى الحرم من بعير أو بقرة أو شاة. مِنَ الصِّحَاحِ: 1899 - عن ابن عبَّاسٍ قال: صلَّى بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الظُّهْرَ بذِي الحُلَيْفَةِ، ثُمَّ دَعا بناقَتِهِ، فَأشْعَرَها في صفْحَةِ سَنامِها الأَيْمَن، وَسَلَتَ الدَّمَ، وقَلَّدَها نَعْلَيْنِ، ثُمَّ ركِبَ راحِلَتَهُ، فلمَّا اسْتَوَتْ بِهِ على البَيْداءِ أَهَلَّ بالحَجِّ. "من الصحاح": " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": بعد خروجه من المدينة للحج. "الظهرَ بذي الحُليفةِ": ميقات أهل المدينة. "ثم دعا بناقته"؛ أي: دعا أن يؤتى بناقته التي أراد أن يجعلها هديًا. "فأشعرها"؛ أي: طعنها. "في صفحة سنامها الأيمن" حتى يسيل منه دم؛ ليعلم أنه هدي، وصفحة كل شيء: جانبه، "وسلت الدم عنه"؛ أي: بسطه على سنامها ليظهر أثر الإشعار أكثر.

"وقلدها"؛ أي: علَّق في عنقها. "نعلين": ليشعر بأنها هدي خارجٌ عن ملك المهدي، فلا يتعرض له السراقُ وأصحابُ الغارات، وفي هذا دلالة على أن إشعار الهدي وتقليده سنة. "ثم ركب راحلتهُ، فلما استوت به على البيداء، أهلَّ بالحج"؛ أي: أحرم به. * * * 1900 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: أَهْدَى النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّةً إلى البَيْتِ غنمًا فَقَلَّدَها. "عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أهدى النبي - عليه الصلاة والسلام - مرة إلى البيت غنمًا، فقلَّدها": يدل على جواز الهدي من الغنم. * * * 1901 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: ذَبَحَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عائشةَ رضي الله عنها بَقَرَةً يومَ النَّحْرِ. "عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: ذبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن عائشة"؛ أي: لأجلهما. "بقرة يوم النحر": وفرَّق لحمها على الفقراء، وهذا دليل على جواز الذبح عن الغير. * * * 1902 - وعنه قال: نَحَرَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ نِسائِهِ بقَرَةً في حَجَّتِهِ. "وعنه أنه قال: نحر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نسائه"؛ أي: من أجلهن.

"بقرة في حجته": وهذا محمول على أنه - عليه الصلاة والسلام - استأذن لهن في ذلك، فإن تضحية الإنسان عن غيره لا تجوز إلا بإذنه. * * * 1903 - وقالت عائشة رضي الله عنها: فتلْتُ قَلائِدَ بُدْنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِيَدَيَّ، ثُمَّ قَلَّدَها وأَشْعَرَها وأَهْداها، فما حَرُمَ عليه شيء كانَ أُحِلَّ له. "وفقالت عائشة رضي الله عنها: فتلت قلائدَ بُدنِ النبي - عليه الصلاة والسلام - بيدي": من فتل الحبلين إذا ضمَّ بعضه إلى بعض وأبرم، والقلائد: جمع قلادة، وهو ما يُعلَّق بالعنق، يريد بالبدن: البدن التي أهداها عليه الصلاة والسلام، وبعثها مع أبي بكر - رضي الله عنه - في العام السابق على حجته عليه الصلاة والسلام. "ثم قلدها"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام - تلك البدن. "وأشعرها، وأهداها"؛ أي: بعثها إلى مكة هدية. "فما حرم عليه شيء كان أُحِلَّ له": إنما قالت ذلك لما بلغها من فُتيا ابن عباس فيمن بعث هدايا إلى مكة: أنه يحرم عليه ما يحرم على المحرم حتى يبلغ الهدي محله، ويُنحَر. * * * 1904 - وقالت: فَتَلْتُ قَلائِدَها مِن عِهْنٍ كانَ عِنْدي، ثُمَّ بعثَ بها مَعَ أبي. "وقالت: فتلت قلائدها"؛ أي: قلائد البدن. "من عِهْنٍ"؛ أي: من صوف مصبوغ.

"كان عندي"؛ أي: في بيتي. "ثم بعثَ بها مع أبي". * * * 1905 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رأَى رجلًا يَسُوقُ بَدَنةً، فقال: "ارْكبْها"، فقال: إنَّها بَدَنَة، قال: "ارْكَبْها"، فقال: إنَّها بَدَنَة، قال: "ارْكَبْها، ويلَكَ"، في الثانية أو الثالثة. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يسوق بدنة فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، فقال: اركبها، فقال: إنها بدنة، قال: اركبها ويلك": نصب على المصدر، وهو دعاء بالسوء والهلاك، وإنما دعا - صلى الله عليه وسلم - معليه حيث لم يُجِبْ إلى ما دعاه إليه. "في الثانية أو الثالثة": هذا يدل على أن السائق بدنة هديًا له ركوبها غير مضرٍّ بها سواء اضطر إلى ذلك أو لا، وبه قال الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله. * * * 1906 - وسُئِلَ جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - عَنْ رُكُوبِ الهَدْي؟، فقال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ارْكَبها بالمعرُوف إذا أُلجئْتَ إليها، حتَّى تَجدَ ظَهْرًا". "وسئل جابر بن عبد الله عن ركوب الهدي؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اركبها بالمعروف"؛ أي: بوجهٍ لا يلحقه ضرر. "إذا ألجئت إليها"؛ أي: إذا اضطررت، واحتجت إلى ركوبها. "حتى تجد ظهرًا"؛ أي: مركوبًا، سمي به؛ لأنه يركب ظهرها، وهذا

يدل على أن جواز ركوب الهدي إذا كان مضطرًا إلى ذلك بأن لم يجدْ مركوبًا غيرها، وبه قال أبو حنيفة. * * * 1907 - وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: بَعَثَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسِتَّ عَشَرَةَ بَدَنَةً مَعْ رَجُل وأمَّرَهُ فيها، فقال: يا رسُولَ الله، كيفَ أصنعُ بما أُبْدع عَلَيَّ منها؟، قال: "انْحَرْها، ثُمَّ اصْبُغ نَعْلَيْها في دَمِها، ثمَّ اجْعَلْها عَلَى صفْحَتِها، ولا تأكلْ منها أنتَ ولا أحدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ". "وقال ابن عباس: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ستَّ عشرةَ بدنة مع رجل": هو ناجيةُ بن جندب الأسلمي صاحبُ بدن النبي عليه الصلاة والسلام. "وأَمَّره فيها": بفتح الهمزة وتشديد الميم؛ أي: جعله - عليه الصلاة والسلام - أميرًا حاكمًا في نحر تلك البدن بمكة، وتفريق لحمها على الفقراء من الحرم وغيره. "فقال: يا رسول الله! كيف أصنعُ بما أُبدع عليَّ منها؟ ": على بناء المجهول؛ أي: انقطعت عن السير لكلال، وإنما لم يقل: بي؛ لأنه لم يكن راكبها، وأراد: بما حُبِس على من الكلال. "قال: انحرها، ثم اصبغْ نعليها": المقلَّد بهما "في دمها، ثم اجعلها على صفحتها"؛ أي: اضرب نعليها على جانب اليمنى من سنامها؛ ليعلم المار به أنه هدي، فمن كان محتاجًا يأكل منه. "ولا تأكل منها أنت، ولا أحدٌ من أهل رفقتك": إنما نهاهم عن أكلها؛ كيلا يتوهم أحدٌ أنهم نحروها لأنفسهم، ولم يكن قد أُبدِع في الطريق.

1908 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: نَحَرْنا مَعَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ الحُدَيْبيةِ البَدَنة عَنْ سَبْعَةٍ، والبقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. "وقال جابر - رضي الله عنه -: نحرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية": وهي السنة السادسة من الهجرة التي جاء النبي عليه الصلاة والسلام من المدينة إلى مكة للعمرة، فأحصره المشركون بالحديبية، وهو موضعٌ في أطراف الحل. "البدنة عن سبعة"؛ أي: عن سبعة أشخاص. "والبقرة عن سبعة": وفي "الصحاح": البدنة: ناقة أو بقرة تُنحَرُ بمكة، سميت بذلك؛ لأنهم كانوا يُسمِّنونها. * * * 1909 - وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنهّ أتَى على رجُلٍ قد أناخَ بَدَنتَهُ يَنْحَرُها، فقال: ابْعَثْهَا قِيامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةُ محمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -. "وعن ابن عمر: أنه أتى على رجل قد أناخ بدنته": الجملة صفة (رجل). "ينحرها": حال من (بدنة)، والعامل (أناخ). "فقال: ابعثها قيامًا": مصدر بمعنى اسم الفاعل، وانتصابه على الحال، والعامل فعلٌ محذوف دلَّ عليه قرينة الحال؛ أي: انحرها قائمة. "مقيدة سنةً محمد - صلى الله عليه وسلم -": نصبًا بعامل مضمر على أنه مفعول به؛ أي: مقتفيًا في نحرها سنةَ محمد عليه الصلاة والسلام، أو على الاختصاص؛ أي: الزم سنة محمد - صلى الله عليه وسلم - واحفظها، وفي بعض النسخ بالرفع؛ أي: ذلك سنة.

1910 - وقال عليّ - رضي الله عنه -: أَمَرَني رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أقُومَ على بُدْنِهِ، وأنْ أتصَدَّقَ بِلَحْمِها وجُلُودِها وأَجِلَّتِها، وأنْ لا أُعْطِىَ الجَزَّارَ مِنها، قال: "نَحْنُ نُعْطِيهِ مِنْ عِنْدِنا". "وقال علي - رضي الله عنه -: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بُدنه": بضم الباء؛ أي: على نحر هديه عليه الصلاة والسلام. "وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلَّتها": جمع جِلال، وهو جمع الجل للفرس. "وأن لا أعطي الجَزَّار منها" بفتح الجيم والزاي المشددة: هو الذي يذبح الجمل. "قال: نحن نعطيه من عندنا". * * * 1911 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: كنَّا لا نأكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنا فَوْقَ ثَلاثٍ، فَرَخَّصَ لنا رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كُلُوا وتَزَوَّدُوا"، فأكَلْنَا وتَزَوَّدْنا. "وقال جابر: كنا لا نأكل من لحوم بُدْننا فوق ثلاث": نهانا - عليه الصلاة والسلام - عن ذلك. "فرخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كلوا وتزودوا، فأكلنا وتزودنا": فيه دليل على أنه يجوز للمهدي أن يأكل من هدي التطوع متى شاء، وأما الواجب بالشرع من الهدي كدم التمتع والقران، والواجب بإفساد الحج وفواته وجزاء الصيد، فلا يأكل المهدي منه، بل عليه التصدق عند بعضهم، وبه قال الشافعي.

مِنَ الحِسَان: 1912 - عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَهْدَى عامَ الحُدَيْبيَةِ في هدايا رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جَملًا كانَ لأبي جَهْلٍ، في رأْسِهِ بُرَةٌ مِنْ فِضَّةٍ يَغيظُ بِذلِكَ المُشْرِكينَ. ويروى: بُرَةٌ من ذَهَبٍ. "من الحسان": " عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدى"؛ أي: أرسل إلى مكة. "عام الحديبية في هدايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": من باب إقامة الظاهر مقام المضمر؛ أي: في هداياه. "جملًا": نصب بـ (أهدى). "كان لأبي جهل": أخذه النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - في غزوة بدر غنيمةً. "في أنفه بُرَة": بضم الباء وتخفيف الراء؛ أي: حلقة "من فضة، يغيظ بذلك المشركين"؛ أي: يوصل الغيظ والأذى إلى قلوب المشركين في نحره - عليه الصلاة والسلام - ذلك الجمل، ليعلموا أن ما هو أعزُّ لديهم من المال، فهو حقير عند المؤمنين. "ويروى: بُرةً من ذهب". * * * 1913 - عن جابر - رضي الله عنه - أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البقَرَةُ عَنْ سَبْعَةٍ، والجَزُورُ عنْ سَبْعَةٍ".

"وعن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: البدنة عن سبعة، والجزور": وهي من الإبل: ما يُذبَح للحم، يقع على الذكر والأنثى. "عن سبعة". * * * 1914 - وعن ابن عباس قال: كُنَّا مع النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ فحَضَرَ الأَضْحَى، فاشْتَرَكنا في البقَرَةِ سَبْعَة، وفي الجَزُورِ عَشَرة"، غريب. "وعن ابن عباس أنه قال: كنا مع النبي - عليه الصلاة والسلام - في السفر، فحضر الأضحى"؛ أي: يوم العيد. "فاشتركنا في البقرة سبعةً"؛ أي: حال كوننا سبعة أنفس. "وفي الجزورِ عشرةً"، "غريب". * * * 1915 - عن ناجِيَة الخُزَاعيِّ أنَّه قال: قُلتُ: يا رسول الله! كيفَ أصْنعُ بما عَطِبَ مِنَ البُدْنِ؟، قال: "انْحَرْها، ثُمَّ اغْمِسْ نَعْلَها في دَمِها، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَ النَّاسِ وبينها فَيَأكلُونها". "عن ناجية الخزاعي أنه قال: قلت: يا رسول الله! كيف أصنع بما عطب"؛ أي: وقف وعجز عن السير. "من البدن؟ قال: انحرها، ثم اغمسْ نعلها في دمها، ثم خلِّ بين الناس وبينها": التعريف فيه للعهد، والمراد بهم: الذين يتبعون القافلة ويلتمسون الساقطة، أو جماعة غيرهم من قافلة أخرى، "فيأكلونها".

1916 - عن عبد الله بن قُرْطٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أفْضَلَ الأيّامِ عِنْدَ الله يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ القَرِّ". وقال: أُتِيَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببَدَناتٍ خَمْسٍ أو سِتٍّ، فَطَفِقْنَ يَزْدلفْنَ إليه بِأيّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فلمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُها، قال: فتكَلَّمَ بكَلِمةٍ خَفِيّهٍ لَمْ أَفْهَمْها، فسألتُ الذي يَليهِ فقال: قال: "مَنْ شاءَ فَلْيقْتَطِعْ". "عن عبد الله بن قُرطٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إن أفضل الأيام"؛ أي: من أفضلها. "عند الله يوم النحر"؛ أي: يوم عيد الأضحى. "ثم يوم القُرِّ": وهو اليوم الذي بعده، سمي به؛ لأنهم يقرون؛ أي: يسكنون فيه بمنى ويقيمون، أو لحصول القرار لهم في ذلك اليوم من تعبِ أفعال الحج. "وأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببدنات خمس أو ست، فطفقْنَ يزدلفْنَ إليه"؛ أي: يقربن منه. "بأيتهن يبدأ": الجار والمجرور يتعلق بـ (يبدأ)؛ أي: تسعى كل واحدة من تلك البدن إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لينحرها - عليه الصلاة والسلام - أولًا. "فلما وجبت جنوبها"؛ أي: سقطت على الأرض، مجازٌ عن موتها وزهوق روحها، وفيه إشارة إلى استحباب نحرها قائمة؛ فإن السقوطَ إنما يتصوَّر بعد القيام. "قال"؛ أي: الراوي. "فتكلم"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام - حين نحر الإبل. "بكلمة خفية لم أفهمها"؛ لبعد مكاني عن مكانه - صلى الله عليه وسلم -.

9 - باب الخلق

"فسألت الذي يليه": - صلى الله عليه وسلم - تلك الكلمة. "فقال" ذلك الرجل: "قال": - صلى الله عليه وسلم - حين نحرها: "من شاء فليقطعْ"؛ أي: فليأخذ منها قطعة، كأنه يشير إلى قوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36]، قيل: فيه دليل على جواز هبة المشاع. * * * 9 - باب الخلق (باب الحلق) مِنَ الصِّحَاحِ: 1917 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أَنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَلَقَ رَأْسَهُ في حَجَّةِ الوَداعِ وأُناسٌ مِنْ أصْحابهِ، وقَصَّرَ بعضُهُمْ. "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حلق رأسه في حجة الوداع، وأناسٌ من أصحابه، وقصَّر بعضهم": هذا يدل على جواز الحلق والتقصير، وهو أخذ أطراف الشعر. * * * 1918 - وقال ابن عبَّاسٍ: قال لي مُعاوبة: إنِّي قَصَّرْتُ مِنْ رأْسِ النبي - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَ المَرْوَةِ بمِشْقَصٍ. "وقال ابن عباس: قال لي معاوية" ابن أبي سفيان: "إني قصَّرت من رأس النبي عليه الصلاة والسلام"؛ أي: من شعر رأسه.

"عند المروة بمِشْقَص" بكسر الميم ثم السكون ثم الفتح: ما طال وعرض من النصال، وهذا لا يعارض رواية الحلق؛ لأن التقصير كان في عمرة الجعرانة التي اعتمرها - عليه الصلاة والسلام - عام فتح مكة، وإنما قيَّده بالمروة؛ لأنه محل تحلل العمرة، والحلق كان في العاشرة في حجة الوداع، ولذا قيده بها ابن عمر. * * * 1919 - عن ابن عمر: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ ارْحَمْ المُحَلِّقينَ"، قالوا: والمُقَصِّرينَ يا رسولَ الله؟، قال: "اللهمَّ ارْحَمْ المُحَلِّقينَ"، قالوا: والمُقَصِّرين يا رَسُولَ الله؟، قالَ "وَالمُقَصِّرِينَ". "عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في حجة الوداع: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: والمقصرين". * * * 1920 - ويُروى: أنّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوَداعِ دَعا للمُحَلِّقينَ ثلاثًا، وللمُقَصِّرِينَ مَرَّةً. "ويروى: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرة": وإنما خصَّ المحلقين بمزيد الدعاء، وقدَّمهم على المقصرين؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان قد ساق هديه، ومن كان معه هديٌ لا يحلق حتى ينحر، فلما أمرُ مَنْ لا هديَ معه، وهم أكثرهم بالحلق والحل، وجدوا في أنفسهم شيئًا؛ لأنهم أرادوا أن يفعلوا كفعله حتى يكملوا الحج، وكان التقصير في نفوسهم أخفَّ من الحلق، مال أكثرهم إليه،

فقدَّمهم، وأخَّر المقصرين، ولبيان ما بين النسكين من الفضل. * * * 1921 - وعن أنس - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أتَى مِنًى، فأتَى الجَمْرَةَ فَرمَى بها، ثُمَّ أتَى مَنْزِلَهُ بِمنًى، ونَحَرَ نُسُكَهُ، ثُمَّ دَعا بالحَلاَّقِ، وناوَلَ الحالِقَ شِقَّهُ الأَيمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ دَعا أبا طَلْحَةَ الأَنْصارِيَّ فأعْطاهُ إيَّاهُ، ثُمَّ ناوَلَهُ الشِّقَّ الأَيْسَرَ، فقال: "احلِقْ" فَحَلَقَهُ، فأعْطاهُ أبا طَلْحَةَ الأَنْصارِيَّ فقال: "اقْسِمْهُ بَيْنَ النَّاسِ". "وعن أنس أن النبي - عليه الصلاة والسلام - أتى منى، فأتى الجمرة"؛ يعني: جمرة العقبة. "فرماها": في يوم النحر. "ثم أتى منزله بمنى، ونحر نسكه"؛ أي: ذبح. "ثم دعا بالحلاق": وهو معمر بن عبد الله بن نافع بن فضلة القرشي العدوي. "وناول الحالق"؛ أي: أعطاه. "شقة الأيمن"؛ أي: الجانب الأيمن من شعر رأسه. "فحلقه": يدل على أن البداية في الحلق باليمين مسنون، واستدل الشافعي بهذا أن الحلق في الحج عبادة، وركن من أركانه، وعندنا ليس بركن، ولكنه يجب الدم بتركه. "ثم دعا"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام. "أبا طلحة الأنصاري": وهو حافر قبر النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فأعطاه إياه"؛ أي: أعطاه ما حلق من الشعر.

"ثم ناوله"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - الحلاقَ "الشقَّ الأيسر، فقال: احلق، فحلقه، فأعطاه أبا طلحة، فقال عليه الصلاة والسلام: اقسمه بين الناس"؛ أي: الشعر المحلوق بين الأصحاب، فقصد أن يكون تذكرة وبركة باقية بين أظهرهم؛ لعلمه باقتراب أجله. * * * 1922 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنْتُ أُطَيبُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ، ويَوْمَ النَّحْرِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بالبَيْتِ بطِيب فيه مِسْكٌ. "عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أطيب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل أن يحرم ويوم النحر"؛ يعني: كنتُ أطيبه يوم النحر بعد رمي الجمرة العقبة. "قبل أن يطوف بالبيت"؛ أي: طواف الزيارة. "بطيب فيه مسك". * * * 1923 - وعن ابن عمر رضي عنهما: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أفاضَ يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ رَجَعَ، فَصَلَّى الظّهْرَ بمِنًى. "وعن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاض"؛ أي: انصرف. "يوم النحر": من منى إلى مكة، فطاف طواف الفرض، "ثم رجع في ذلك اليوم، فصلى الظهر بمنى". * * * مِنَ الحِسَان: 1924 - عن عائشةَ رضي الله عنها أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى أنْ تَحْلِقَ المرْأة رَأْسَها.

فصل

"من الحسان": " عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهى أن تحلِقَ المرأةُ رأسها": إنما نهاهن عن الحلق؛ لأن شعورهن زينة لهن، فتركها ربما يبغضهنَّ إلى أزواجهن. * * * 1925 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال، قال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس عَلَى النِّساءَ الحَلْقُ، إنَّما عَلَى النِّساءِ التَقْصيرُ". "وعن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس على النساء الحلقُ، إنما على النساء التقصيرُ"؛ فالسنة للمرأة أن تقصَّ من شعرها. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: 1926 - عن عبد الله بن عَمْرو بن العاصِ - رضي الله عنهما -: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ حَجةِ الوَداعِ بِمِنًى للنَّاسِ يسألونه، فجاءَ رجل فقال: لم أَشْعُرْ، فَحَلَقْتُ قَبْلَ أذْبَحَ، فقال: "اذْبَحْ ولا حَرَجَ"، فجاءَهُ آخَرُ وقال: لم أَشعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَرْمِيَ، فقال: "ارمِ ولا حَرَجَ"، فَما سُئِلَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ شَيءٍ قُدِّمَ أو أُخِّرَ قال: "افْعَلْ ولا حَرَج". وفي روايةٍ: "أتاهُ رجلٌ فقال: حَلَقْتُ قَبلَ أنْ أرْميَ، قال: "ارْمِ ولا حَرَجَ"، وأتاهُ آخَرُ فقال: أفَضْتُ إلى البَيْتِ قَبْلَ أنْ أرْميِ، فقال: "ارْمِ ولا حَرَج".

(فصل) "من الصحاح": " عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسولَ الله وقف في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه": حال من فاعل (وقف)؛ أي: وقف - عليه الصلاة والسلام - مسؤولًا، أو من الناس؛ أي: وقف لهم سائلين عنه، ويجوز أن يكون استئنافًا بيانًا لعلة الوقوف. "فجاء رجل فقال: لم أشعر"؛ أي: لم أعلم ترتيب أفعال الحج، وهو الرمي والذبح والحلق والطواف. "فحلقت قبل أن أذبح، فقال: اذبحْ ولا حرجَ"؛ أي: لا إثم. "فجاءه آخر، فقال: لم أشعر"؛ أي: الترتيب المذكور. "فنحرت قبل أن أرمي، فقال: ارمِ ولا حرج، فما سُئِل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: افعل ولا حرج": يدل على أن الترتيب مندوب لا شيء في تركه، وعليه أكثر علماء الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله. وقال أبو حنيفة ومالك رحمهم الله: واجب حتى يتعلق الدم بتركه، وإليه مال ابن جبير، وأوَّلوا قوله: "ولا حرج" على دفع الإثم بجهله دون الفدية. "وفي رواية: أتاه رجل فقال: حلقت قبل أن أرمي، قال: ارْمِ ولا حرج، وأتاه آخر فقال: أفضت إلى البيت"؛ يعني: طفت طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة. "قبل أن أرمي قال: ارْمِ ولا حرج".

1927 - عن ابن عباس أنَّه قال: كانَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يُسْألُ يومَ النَّحْرِ بمِنًى، فيقول: "لا حَرَجَ"، فسَألهُ رجُل فقال: رَمَيْتُ بعدَما أَمْسَيْتُ، فقال: "لا حَرَجَ". "وعن ابن عباس أنه قال: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - يسأل يوم النحر بمنى فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: رميت بعد ما أمسيت": أراد به: بعد العصر. "فقال: لا حرج": اعلم أن آخر وقت الرمي يوم النحر غروب الشمس من يومه، وأوله بعد طلوع الفجر عندنا، وبعد انتصاف ليلة النحر عند الشافعي. * * * مِنَ الحِسَان: 1928 - عن علي - رضي الله عنه - قال: أتاهُ رجُل فقال: يا رسُولَ الله! إنِّي أفضْتُ قَبْلَ أنْ أحْلِقَ، قال: "احْلِقْ - أو: قَصِّر - ولا حَرَجَ"، وجاءَهُ آخَرُ فقال: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أرْميَ، فقال: "ارْمِ ولا حَرَجَ". "من الحسان": " عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: أتاه رجل فقال: يا رسول الله! إني أفضت قبل أن أحلق، قال: احلق - أو: قصِّر - ولا حرج، وجاء آخر فقال: ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارْمِ ولا حرج".

10 - باب الخطبة يوم النحر ورمي أيام التشريق والتوديع

10 - باب الخُطْبة يومَ النحر ورَمْي أيام التشريق والتوديع (باب خطبة يوم النحر ورمي أيام التشريق والتوديع) سميت هذه الأيام أيام التشريق؛ لأنهم كانوا يُشرِّقون؛ أي: يُقدِّدون فيها لحوم الأضاحي. مِنَ الصِّحَاحِ: 1929 - عن أبي بَكْرة - رضي الله عنه - عنه قال: خَطَبنا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَومَ النَّحْرِ، قال: "إنَّ الزَّمانَ قَد اسْتَدارَ كهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ الله السَّماواتِ والأَرْضَ، السَّنةُ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْها أرْبَعَة حُرُم، ثَلاثة مُتَوالِيات: ذُو القَعْدَةِ وذُو الحِجَّةِ والمُحَرَّمُ، ورَجَبُ مُضَرَ الذي بَيْنَ جُمَادَى وشَعْبانَ"، ثُمَّ قال: "أيُّ شَهْرٍ هذا؟ فقُلْنا: الله ورسُولُهُ أعْلَمُ، قال: "أليْسَ ذا الحِجَّةِ؟ " قلنا: بَلَى، قال: "فأيُّ بَلَدٍ هذا؟ "، قُلْنا: الله ورسُولُهُ أعلم، قال: "أليْسَ البَلْدَةَ؟ " قُلْنا: بَلَى، قال: "فأيُّ يَوْم هذا؟ "، قُلْنا: الله ورسُولُهُ أعلم، قال: "أليْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ "، قُلْنا: بَلَى، قال: "فإنَّ دِماءكمْ وَأَمْوالَكُمْ وأعْراضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرام، كحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، وسَتَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، فَيَسْألكُمْ عَنْ أعْمالِكُمْ، أَلا فلا تَرْجِعُوا بَعْدِي ضُلاَّلًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقابَ بَعْضٍ، ألا هَلْ بَلَّغْتُ؟ قالوا: نعَمْ، قال: "اللهمَ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سامع". "من الصحاح": " عن أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه قال: خطبنا النبي عليه الصلاة والسلام"؛ أي: وعظنا.

"يوم النحر قال: إن الزمان": أراد به السنة. "قد استدار كهيئته": صفة مصدر محذوف؛ أي: استدار استدارة مثل حالته. "يوم خلق الله السماوات والأرض": أراد به: دوره بالشهور الهلالية التي يدور عليها حساب السنة العربية، وبطلان ما أبدعه الجاهلية من النسيء المذكور في القرآن: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]، وهو تأخيرهم تحريم رجب إلى شعبان، والمحرم إلى صفر، وذلك لأنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام وهم يحاربون، شقَّ عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرًا آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرام، وربَّما زادوا عدد الشهور، فجعلوه ثلاثة عشر أو أربعة عشر؛ ليتسع بهم الوقت، وكانوا إذا أخَّروا ذا الحجة إلى المحرم أو صفر أو غيرهما، أخَّروا الحج أيضًا إليه، حتى بلغ دور تأخير ذي الحجة على حسابهم إلى ذي الحجة، ووافق ذلك السنة التي حجَّ فيها الرسول - عليه الصلاة والسلام - حجة الوداع، فأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمان، وعاد الأمر إلى ما وضع الله عليه حساب الأشهر يوم خلق السموات والأرض. "السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم؛ ثلاث متواليات: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر": عطف على قوله: ثلاث، وإنما أضافه - صلى الله عليه وسلم - إلى مضر، وهو القبيلة؛ لشدة محافظتهم على تحريمه. "الذي بين جمادى وشعبان"، وإنما وصف رجب بقوله: (الذي) للتأكيد، أو لبيان أن رجب الحرام هو الذي بينهما، لا ما كانوا يسمونه رجب على حساب النسيء. "ثم قال: أي شهر هذا؟ ": سألهم ليذكرهم حرمة الشهور ويقررها في نفوسهم؛ ليبني عليه ما أراد تقريره.

"قلنا: الله ورسوله أعلم": وهذا مراعاة للأدب والاحتراز عن التقدم بين يدي الله ورسوله، والتوقف فيما لا يعلم الغرض من السؤال. "قال: أليس ذا الحجة؟ ": خبر (ليس) محذوف؛ أي: ما نحن فيه. "قلنا: بلى" يا رسول الله! "قال: أي بلد هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس البلدة؟ "؛ أي: البلدة المحرمة، وهي اسم خاص لمكة. "قلنا: بلى" يا رسول الله! "قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: أليس يوم النحر؟ قلنا: بلى، قال: فإن دمائكم وأموالكم وأعراضكم": جمع عِرْض، وهو الأوصاف التي يُمدح ويُذم الرجل بها. "عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، وستلقون ربكم"؛ أي: ستبعثون وتحضرون يوم القيامة. "فيسألكم عن أعمالكم، ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالًا"؛ يعني: إذا فارقتُ الدنيا، فاثبتوا بعدي على ما أنتم عليه من الإيمان والتقوى، ولا تظلموا أحدًا، ولا تأخذوا أموالهم بالباطل. "لا يضرب بعضهم رقابَ بعض"؛ فإن هذه الأفعال من الضلالة. "ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهدُ الغائبَ"؛ أي: فليبلغ من سمع كلامي وحضرني ما سمع مني إلى الغائبين. "فرب مبلَّغ": بفتح اللام. "أوعى من سامع"؛ أي: فرب غائب إذا بلغه كلامي، كان أشدَّ حفظًا وأدومَ قراءة ومراعاةً ممن سمع مني، وهذا تحريضٌ على تعليم الناس أحاديثه - عليه الصلاة والسلام - وغيره من العلوم الشرعية، فإنه لولا التعليم والتعلم،

لانقطع العلم بين الناس. * * * 1930 - عن وَبَرَةَ قال: سَألْتُ ابن عُمَرَ: مَتَى أَرْمي الجمارَ؟، قال: إذا رمَى إمامُكَ فارْمِهْ، فأعَدْتُ عَلَيْهِ المسألَةَ، فقال: كُنَّا نتَحَيَّنُ، فإذا زالَت الشَّمْسُ رَمَيْنا. "عن وَبَرة": - بفتحتين -: "أنه قال: سألت ابن عمر: متى أرمي الجمار؟ قال: إذا رمى إمامك فارمه"؛ يعني: اقتد في الرمي بمن هو أعلم منك بوقته. "فأعدتُ عليه المسألة فقال: كنا نتحيَّن"؛ أي: نطلب الحين، وهو الوقت؛ أي: ننتظر دخول وقت الرمي، وقيل: أي نحفظ الوقت ونراقبه. "فإذا زالت الشمس رمينا"؛ أي: جمار أيام التشريق. * * * 1931 - وعن سَالِم، عن ابن عُمر - رضي الله عنه -: "أنَّهُ كانَ يَرْمي جَمْرَةَ الدُّنْيا بِسَبع حَصَيات يُكَبرُ على إثْرِ كُلّ حَصاةٍ، ثُمَّ يتقَدَّمُ حتَّى يُسْهِلَ، فيقُومُ مُسْتَقْبلَ القِبْلَةِ طَويلًا، ثم يَدْعُو وَيرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمي الوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَياتٍ يُكَبرُ كُلَّما رَمَى بحَصاةٍ، ثُمَّ يَأخُذُ بِذاتَ الشمالِ، فيُسْهِلُ، ويقُومُ مُسْتَقبلَ القِبْلة، ثُمَّ يَدْعُو، وَيرْفَعُ يَدَيْهِ، ويَقُومُ طَويلًا، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذاتِ العَقَبةِ مِنْ بَطْنِ الوادِي بِسَبع حَصَيات، يُكَبرُ عِنْدَ كُلِّ حَصاةٍ، ولا يَقِفُ عِنْدَها، ثُمَّ يَنْصَرفُ، فيقول: هكذا رَأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَفْعَل. "وعن سالم، عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه كان يرمي جمرة الدُّنيا": تأنيث الأدنى؛ أي: الأقرب، وهي التي يُبدأ بها في الرمي، وصفها بالدنيا؛ لدنوها من

منازل النازلين عند مسجد الخيف، وهناك كان مناخه عليه الصلاة والسلام، وإضافتها كإضافة المسجد الجامع، أو فيه حذف؛ أي: جمرة العقبة الدنيا؛ يعني: يرمي في الموضع الأول من المواضع الثلاثة. "بسبع حصيات، يكبر على إثر كل حصاة"؛ أي: عقيبه. "ثم يتقدم"؛ أي: يذهب قليلًا من ذلك الموضع. "حتى يُسهِلَ"؛ أي: يبلغ إلى موضع سهل لين، وهو الموضع الذي رمى فيه. "فيقوم مستقبل القبلة طويلًا"؛ أي: قيامًا طويلًا. "ويدعو، ويرفع يديه، ثم يرمي الوسطى"؛ أي: الجمرة الوسطى. "بسبع حصيات، يكبر كلما رمى بحصاة، ثم يأخذ بذات الشمال"؛ أي: يذهب على شمال الجمرة الوسطى. "فيسهل": يقال: أسهل: إذا صار إليه. "وبقوم مستقبل القبلة، ثم يدعو، ويرفع يديه، ويقوم طويلًا، ثم يرمي جمرة ذات العقبة": وهي الجمرة التي تلي مكة. "من بطن الوادي بسبع حصيات، يكبر عند كل حصاة، ولا يقفُ عندها، ثم ينصرف فيقول: هكذا رأيت النبي - عليه الصلاة والسلام - يفعله". * * * 1932 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: اسْتَأذَنَ العَبَّاسُ بن عَبْدِ المُطَّلِبِ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبيتَ بِمكَّةَ لَياليَ مِنًى مِنْ أجْلِ سِقايتهِ، فأذِنَ لَهُ. "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: استأذن العباسُ بن عبد المطلب رسول الله

أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته": وهي في الأصل مصدر، أطلق هنا على المحل، أو المراد: أهل السقاية. "فأذن له": إذنه - عليه الصلاة والسلام - للعباس بذلك يدلُّ على جواز ترك المبيت بمنى لمن هو مشغول بإسقاء الماء لأجل الناس، وكذا لمن له ضرورة وعذر، فإن ترك المبيت بغير عذر أثم عندنا ولا شيء عليه، وعند الشافعي لزمه في ليلة درهم، وفي ليلتين درهمان، وفي ثلاث ليال دم. وقال مالك: يلزمه بكل ليلة دم. * * * 1933 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جاءَ إلى السِّقايَة، فاسْتَسْقَى، فقال العبَّاسُ: يا فَضْلُ! اذْهَبْ إلى أُمِّكَ، فائْتِ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بِشَرابٍ مَنْ عِنْدِها، فقال: "اسْقِني"، فقال: يا رسُولَ الله! إنهمْ يَجْعَلُونَ أيْدِيَهُمْ فِيهِ، فقال: "اسْقِني"، فَشَرِبَ مِنْهُ، ثُمَّ أتَى زَمْزَمَ وهُمْ يَسْقُونَ ويَعْمَلُونَ فيها، فقال: "اعْمَلُوا، فإنَّكمْ عَلَى عَمَلٍ صالِحٍ"، ثُمَّ قال: "لولا أنْ تُغْلَبُوا لنَزَلْتُ حتَّى أَضَعَ الحَبْلَ على هذه"، وأشَارَ إلى عاتِقِهِ. "وعن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاء إلى السقاية، فاستسقى، فقال العباس: يا فضل! ": هو فضل بن عباس. "اذهب إلى أمك، فأتِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بشراب من عندها، فقال"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام: "اسقني": من هذه السقاية. "فقال"؛ أي: العباس. "يا رسول الله! إنهم يجعلون أيديهم فيه، فقال: اسقني، فشرب منه": شربه - عليه الصلاة والسلام - لدفع وسوستهم من جعل أيديهم فيه، وفيه دليل

على أن الماء الطاهر لا يصير نجسًا بجعل الناس أيديهم فيه ما لم تتيقَّنْ نجاسة أيديهم. "ثم أتى زمزم وهم يسقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنكم على عمل صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا"؛ أي: لولا مخافة غلبة الناس عليكم في الاستقاء اقتداءً بفعلي. "لنزلت": من دابتي. "حتى أضع الحبل على هذه، وأشار إلى عاتقه": وشاركتكم في الاستقاء، وفيه حثٌّ على العمل في البر. * * * 1934 - وقال أَنسَ - رضي الله عنه -: إن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظُّهْرَ والعَصْرَ والمَغْرِبَ والعِشاء, ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بالمُحَصَّبِ، ثُئمَ كبَ إلى البَيْتِ، فطاف به. "وقال أنس - رضي الله عنه -: إن النبي - عليه الصلاة والسلام - صلَّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء": في اليوم الآخر من أيام التشريق. "ثم رقد رقدة"؛ أي: نام نومةً من الليلة التي بعد أيام التشريق. "بالمحصَّب" بفتح الصاد: موضع قريب إلى الأبطح من مكة. "ثم ركب، وسار إلى البيت، فطاف به": طواف الوداع، فنزولُ المحصَّب في هذه الليلة سنَّة عند ابن عمر. * * * 1935 - وسُئِلَ أنسٌ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَيْنَ صلى الظُّهْرَ والعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟، قال: بمِنًى، قيل: فأيْنَ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النفْرِ؟، قال: بِالأَبْطَح، ثُمَّ

قال: افْعَلْ كما يَفْعَلُ أُمَراؤُك. "وسئل أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أين صلَّى الظُّهر والعصر يوم التروية؟ ": وهو اليوم الثامن من ذي الحجة. "قال: بمنى، قيل: فأين صلى العصر يوم النَّفَر؟ ": بفتحتين؛ أي: يوم الرجوع، وهو اليوم الثالث من أيام التشريق، ويسمى النفر الثاني؛ لأن من لم ينفر في اليوم الثاني من منى، نفر في اليوم الثالث منه. "قال: بالأَبطح" بفتح الهمزة: وهو مسيل واسع فيه رقاقُ الحصى، أراد به: المحصب، عبَّر عن موضع واحد تارة بالأبطح وأخرى بالمحصب، أوَّلُهُ عند منقطع وادي منى، وآخره متصل بالمقبرة التي يسميه أهل مكة بالمعلَّى. "ثم قال: افعل كما يفعل أمراؤك": أراد به: من يقتدي به الناس. * * * 1936 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: نُزولُ الأَبطَح لَيْسَ بِسُنَّةٍ، إنَّما نزَلَهُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأنَّهُ كانَ أسْمَحَ لِخُروجِهِ إذا خَرَجَ. "قالت عائشة: نزول الأبطح ليس بسنة"؛ أي: ليس بنسكٍ من مناسك الحج. "إنما نزله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان أسمح"؛ أي: أسهل. "لخروجه إذا خرج": من منى إلى مكة لطواف الوداع. * * * 1937 - وقالت: أحْرَمْتُ مِنْ التَّنْعِيم بعُمْرَةٍ، فدَخَلْتُ، فَقَضَيْتُ عُمْرَتي، وانتُظَرني رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بِالأَبطَح حتَّى فَرَغْتُ، فَأمَرَ النَّاسَ بالرَّحِيلِ، فَخَرَجَ،

فَمَرَّ بالبَيْتِ، فطافَ بهِ قَبْلَ صَلاةِ الصُّبْح، ثُمَّ خَرَجَ إلى المَدِينَةِ. "وقالت"؛ أي: عائشة. "أحرمتُ من التنعيم بعمرة، فدخلت": مكة. "فقضيت عمرتي"؛ أي: أتممتها، وهذه العمرة هي التي خرجت منها بسبب حيضها. "وانتظرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأبطح حتى فرغت، فأمر الناس بالرحيل، فخرج، فمر بالبيت فطاف به"؛ أي: بالبيت طواف الوداع. "قبل صلاة الصبح، ثم خرج إلى المدينة". * * * 1938 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: كانَ النَّاسُ يَنْصَرِفُونَ في كُلِّ وَجْهٍ، فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْفِرَنَّ أَحَدٌ حتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْده بالبَيْتِ"، إلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الحائِضِ. "وعن ابن عباس أنه قال: كان الناس": إذا فرغوا من أفعال الحج. "ينصرفون في كل وجه"؛ أي: يذهبون في كل جانب إلى أوطانهم بلا طواف الوداع. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نهيًا عن ذلك: "لا ينفرن"؛ أي: لا يذهبن. "أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت"؛ أي: يطوف بالبيت طواف الوداع أي: حتى يطوف طواف الوداع، وهذا يدل على وجوب طواف الوداع. "إلا أنه خفف عن الحائض"؛ يعني: جوَّز لها ترك طواف الوداع، وكذا عن النفساء، ولا دم عليها، وعليه الأكثر، وبه قال الشافعي.

1939 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: حاضَتْ صَفِيّهُ لَيْلَةَ النَّفرِ، فقالتْ: ما أُراني إلاَّ حابستكُمْ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَقْرَى، حَلْقَى، أطافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ "، قيل: نعمْ، قال: "فانْفِري". "وقالت عائشة رضي الله عنها: حاضت صفية ليلة النفر"؛ أي: ليلة يوم النفر؛ لأنه لم يشرع في تلك الليلة، بل في يومها. "فقالت: ما أراني"؛ أي: ما أظنني. "إلا حابستكم"؛ أي: مانعتكم عن الرحلة إلى المدينة، بأن تنتظروا تطهري، فأطوف طواف الوداع، كان ظنًا منها أن الحج كما يتوقف انعقاده على طواف الزيارة، يتوقف على طواف الوداع. "قال النبي عليه الصلاة والسلام: عَقرَى حَلْقى" بغير تنوين: صفتان للمرأة، دعاء بصيرورتها عاقرًا، وإصابة داءٍ في حلقها. وقيل: بالمصيبة، من (العقر) بمعنى: الخمش وحلق الرأس؛ لأن العرب كانوا يفعلون ذلك عند شدة المصيبة. ومحلهما رفع؛ أي: هي عقرى حلقى، أو مصدران على فَعْلَى بمعنى: العقر والحلق؛ أي: أصابها الله بعقر في جسدها وبوجع في حلقها، وكيف كان، فهو دعاءٌ لا يراد به وقوعه، إنما هو عادة بينهم في التلطف. "أطافت يوم النح"؛ أي: طواف الفرض. "قيل: نعم، قال: فانفري": أجاز - عليه الصلاة والسلام - لها أن تنفر إذا حاضت من غير طواف الوداع. * * * مِنَ الحِسَان: 1940 - عن عَمرو بن الأَحْوَص قال: سَمِعْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في

حَجَّةِ الوَداعِ: "أيُّ يَوْمٍ هذا؟ "، قَالُوا: يَوْمُ الحَجِّ الأكبَرِ، قال: "فَإنَّ دِمَاءكمْ، وَأَمْوَالَكُمْ، وَأَعْرَاضَكُمْ بَيْنَكُم حَرَام كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هذا في بَلَدِكمْ هذا، أَلا لا يَجْني جانٍ إلاَّ عَلَى نَفْسِهِ، أَلا لا يَجْني جانٍ عَلَى وَلَده، ولا مَوْلُودٌ عَلَى والِده، ألا وإنَّ الشَّيْطانَ قَدْ أَيسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هذا أبَدًا، ولَكِنْ سَتكُونُ لهُ طاعَة فِيما تَحْتَقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَسَيَرضَى بهِ"، صحيح. "من الحسان": " عن عمرو بن الأحوص أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في حجة الوداع: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم الحج الأكبر": قال ابن عباس: هو يوم عرفة؛ لأنه من أدرك عرفة، فقد أدرك معظم الحج، سمي بالحج الأكبر؛ لأنه أكبر من يوم الجمعة، وهو حج المساكين. وقيل: هو الذي حجَّ فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه اجتمع فيه حج المسلمين وعيد اليهود والنصارى، ولم يجتمعْ قبله ولا بعده. "قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، ألا لا يجني جانٍ إلا على نفسه، ألا لا يجني جانٍ على ولده، ولا مولود على والده": تقدم بحثه. "ألا وإن الشيطان قد أيسَ أن يُعبَد في بلدكم هذا"؛ يعني: أنتم أبناء العرب لن تعبدوا الطاغوت وغير الله من الأصنام بعد هذا. "أبدًا": بمعنى: خالدًا، فيكون ظرفًا لـ (أيس)، أو بمعنى: قط، فيكون راجعًا إلى النفي؛ أي: لا يعبد قط. "ولكن ستكون له طاعةٌ فبما تحقِرون من أعمالكم، فسيرضى به".

1941 - عن رافع بن عَمْرو المُزَني قال: رأيتُ رسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ النَّاسَ بمِنًى حِينَ ارْتَفَعَ الضُّحَى على بَغْلَةٍ شَهباءَ، وعليٌّ يُعَبرُ عنهُ، والنَّاسُ بينَ قائِم وقاعِدٍ. "عن رافع بن عمرو المزني - رضي الله عنه - أنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب الناس بمنى حين ارتفع الضحى على بغلة شهباء"؛ أي: بيضاء لا يخالط لونها سواد؛ أي: راكب عليها. "وعلي يعبر"؛ أي: يبلِّغ "عنه"، والتعبير في الأصل: إنهاء المعنى بتوسط العبارة في نفسك. "والناس بين قائم وقاعد"؛ أي: بعضهم قيام، وبعضهم قعود، نصبُهُ - عليه الصلاة والسلام - عليًا لإسماع موعظته من لم يسمع؛ لكثرة الازدحام في ذلك الموضع؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في ذلك الموسم بين أمة لا يُحصى عديدهم، وكان صوته - صلى الله عليه وسلم - لا يبلغ أُخريات القوم. * * * 1942 - عن أَبي الزُّبَيْر، عن عائشة، وابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهم -: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَخَّرَ طَوافَ الزِّيارَة يَوْمَ النَّحْرِ إلى اللَّيْلِ. "عن أبي الزَبير": اسمه محمد بن مسلم المكي التابعي. "عن عائشة وابن عباس: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - أخَّر طواف الزيارة": وهو طواف الإفاضة. "يوم النحر إلى الليل"، وأول وقته عند الشافعي بعد نصف ليلة العيد. وعند أبي حنيفة وأحمد ومالك: بعد طلوع فجر يوم النحر، وأما آخره فأي وقت طاف جاز سواء يوم النحر وأيام التشريق وبعدها، ولكن ينبغي أن لا يخرج

من مكة حتى يطوف. * * * 1943 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَرْمُلْ في السَّبْعِ الذي أَفاضَ فيهِ. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - لم يرمُلْ في السبع الذي أفاض فيه"؛ أي: من عرفة. * * * 1944 - وعن عائشةَ رضيَ الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رَمَى أحدكم جَمْرَةَ العَقَبةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلاَّ النِّسَاءَ"، ضعيف منقطع. "عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إذا رمى أحدكم جمرة العقبة، فقد حلَّ له كل شيء إلا النساء"، (ضعيف منقطع). * * * 1945 - عن القاسم، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أفاضَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ آخِرِ يَوْمِهِ حِينَ صلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ رَجَعَ إلى مِنًى، فَمَكَثَ بها لَياليَ أيَّامِ التَّشْرِيقِ، يَرْمي الجَمْرَةَ إذا زالَتِ الشمسُ، كُلُّ جَمْرَةٍ بسبع حَصَياتٍ، يُكَبرُ مَعَ كُلِّ حَصاةٍ، ويقِفُ عندَ الأولَى والثانيةِ، فيطيلُ القِيامَ، ويتضَرعُ، وَيرمِي الثالِثة، فلا يقِفُ عِنْدَها. "عن القاسم، عن عائشة: أنها قالت: أفاض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أي: طاف طواف الفرض.

"من آخر يومه"؛ أي: في آخر يوم النحر. "حين صلى الظهر": وفي الكلام تقدير، فالمعنى: صلى الظهر والعصر معًا في يوم عرفة، ووقف، ثم أفاض من آخر يومه، يدل عليه حديث حجة الوداع. "ثم رجع إلى منى، فمكث بها ليالي أيام التشريق، يرمي الجمرة إذا زالت الشمس": بيان لوقت الرمي في أيام التشريق. "كل جمرة بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، ويقف عند الأولى والثانية فيطيل القيام ويتضرع، ويرمي الثالثة فلا يقفُ عندها". * * * 1946 - عن أَبي البَدَّاح بن عاصِم بن عَدِيٍّ عن أبيه قال: رَخَّص رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِرِعاءِ الإبلِ في البَيْتُوتَةِ أنْ يَرْمُوا يَوْمَ النَّحْرِ، ثُمَّ يَجْمَعُوا رمْيَ يَوْمَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَرْمُوهُ في أَحَدِهِما. "عن أبِي البَدَّاح بن عاصم بن عدي، عن أبيه: أنه قال: رخَّص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرعاء الإبل في البيتوتة"؛ أي: في ترك المبيت بمنى في ليالي أيام التشريق؛ لاشتغالهم برعي الإبل وحفظها. "أن يرمُوا"؛ أي: رخَّص لهم أن يرموا. "يوم النحر جمرة العقبة، ثم يجمعوا رميَ يومين بعد يوم النحر، فيرموه في أحدهما"؛ أي: فيرموا رمي يومين في أحد اليومين من أيام التشريق، فإن رموا ذلك في اليوم الثاني منها، كان الرمي عن اليوم الأول فيه قضاء، والرمي عن اليوم الثاني أداء، وإن رموا في اليوم الأول منها، كان رمي اليوم الأول أداء، ورمي اليوم الثاني تعجيلًا، وهذا لا يجوز عند الشافعي ومالك؛ لأن ما لم يجب

11 - باب ما يجتنبه المحرم

لم يجز تقديمه، وأجازه بعضهم. * * * 11 - باب ما يجتنبه المحرم (باب ما يجتنبه المحرم) مِنَ الصِّحَاحِ: 1947 - عن عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما -: أن رجُلًا سَألَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يَلْبَسُ المُحْرِمُ مِنَ الثِّيابِ؟، فقال: "لا يَلْبَسُوا القُمُصَ، ولا العَمائِمَ، ولا السَّراوِيلات، ولا البَرانِسَ، ولا الخِفَافَ، إلاَّ أَحَدٌ لا يَجدُ نَعْلَيْنِ، فَلْيَلْبَسَ الخُفَّيْنِ، ولْيقْطَعْهُما أسْفَلَ مِنَ الكَعْبينِ، ولا تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرانٌ ولا وَرْسٌ". وفي روايةٍ: "ولا تنتقِبِ المرْأة المُحْرِمَةُ، ولا تَلبَسُ القُفَّازَيْن". "من الصحاح": " عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يلبس المحرمُ؟ "؛ أي: سأل عن الشيء الذي يلبسه المحرم. "من الثياب": ويجوز أن تكون (ما) استفهامية. "فقال: لا تلبسوا القمص": جمع قميص، وهو الثوب المخيط. "ولا العمائم": جمع عمامة. "ولا السراويلات": وبهذا قال مالك وأبو حنيفة؛ ليس له لبس السراويل مطلقًا مع وجود الإزار وفقده. "وفي رواية: ولا البرانس": جمع برنس، وهو قلنسوة طويلة، وكان

الحجاج يلبسونها في صدر الإسلام، وهي من لبد، يقال بالفارسي: برطولة وبلغاري، ذكر البرانس بعد ذكر العمائم يدل على أنه لا يجوز تغطية الرأس لا بنادر ولا بمعتاد اللباس، فإن غطى منه شيئًا فعليه الفدية. "ولا الخفاف": جمع خف. "إلا أحدٌ لا يجد نعلين، فيلبس الخفين، ويقطعْهما أسفلَ من الكعبين": فيصير كالمكعب، فإن لبس قبل القطع فعليه فدية، أو بعده مع وجود الثعلين، وجبت الفدية عند بعض؛ لأنه لم يُؤذَن فيه إلا عند عدمهما. "ولا تلبسوا من الثياب شيئًا مسَّه زعفران، ولا ورس": هو نبت أصفر يشبه الزعفران يكون باليمن يصبغ به، وهذا يدل على منع المحرم عن الطيب في بدنه وثيابه. "وفي رواية: ولا تنتقب المرأة المحرمة"؛ أي: لا تستر وجهها بالنقاب. "ولا تلبس القُفَّازين" بالضم والتشديد: شيء يتخذه الصائد في يده من جلد أو لبد. وقيل: هو شيء تلبسه نساء العرب في أيديهن؛ لتغطية الأصابع والكف؛ توقيًا من البرد ونحوه، وقد يكون طويلًا إلى المرفق والساعد، وقد يكون قصيرًا. * * * 1948 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: سَمِعْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبُ وهو يَقُولُ: "إذا لَمْ يَجدِ المُحْرِمُ نَعْلَيْنِ لَبسَ خُفَّيْنِ، وإذا لَمْ يَجدْ إزارًا لَبسَ سَراوِيلَ". "وعن ابن عباس أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب وهو يقول: إذا لم يجد المحرم نعلين لبس خُفَّين": وبهذا تمسك عطاء وأحمد وقالا: يجوز

لبسهما بلا قطع؛ لأنه فساد. قلنا: حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - صحيح، وفيه أمر بقطعهما، ولا فسادَ فيما أمر به الشرع وأذن فيه، بل الفساد فيما نهى عنه - صلى الله عليه وسلم -. "وإذا لم يجد إزارًا لبس سراويل": وبهذا قال الشافعي، لو لبسه مع فقد الازار لا فدية عليه، وعليه الأكثر. * * * 1949 - عن يَعْلَى عن بن أُمَيَّة قال: كُنَّا عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالجعْرانَةِ إذْ جاءَهُ رجُلٌ أعْرابيٌّ عَلَيْهِ جُبةً وهو مُتَضَمِّخ بِالخَلُوقِ، فقال: يا رسُولَ الله، إنّي أَحْرَمْتُ بالعمرةِ وهذه عليَّ، فقال: "أمَّا الطيبُ الذي بِكَ فاغْسِلْهُ ثَلاثَ مَراتٍ، وأمَّا الجُبَّةُ فانْزِعْها، ثمَّ اصْنَعْ في عُمْرتكَ كما تَصْنَعُ في حَجِّتِكَ". "وعن يعلى بن أمية أنه قال: كنا عند النبي - عليه الصلاة والسلام - بالجعْرانة": بكسر الجيم وسكون العين والتخفيف وقد يكسر العين ويشدد الراء، وهي من أطراف الحلِّ، وميقاتٌ لإحرام العمرة، بينها وبين مكة تسعة أميال. "إذ جاءه أعرابي عليه جُبة وهو متضمِّخ"؛ أي: متطيب متلطخ. "بالخَلوق": وهو - بفتح الخاء - نوع من الطيب يتخذ من زعفران وغيره. "فقال: يا رسول الله! إني أحرمت بالعمرة، وهذه عليَّ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أما الطيب الذي بك فاغسله ثلاث مرات، وأما الجبة فانزعها": أمر - عليه الصلاة والسلام - بغسله ونزع الجبة، ولم يأمر بالفدية، ففيه دليل على أنه لو تطيب أو لبس جاهلًا لا فديةَ عليه، وبه قال الشافعي، وعندنا يلزمه دم. "ثم اصنع في عمرتك، كما تصنعُ في حجتك": من اجتناب النساء

والطيب واللباس وغيرها من المنهيات، لا أعمال النسك؛ إذ لا وقوفَ بعرفة مع توابعه في العمرة. * * * 1950 - عن عثمان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَنْكَحُ المُحْرِمُ، ولا يُنْكَحُ، ولا يَخْطُبُ". "عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينكِح المحرم، ولا يُنكَح": ويروى بصيغة الخبر، و (لا) للنفي، وبصيغة النهي، و (لا) هي الجازمة، ذكر الخطابي أنهما على صيغة النهي أصح، والأول منهما من النكاح، والثاني من الإنكاح. قال الأكثرون - منهم الشافعي ومالك - بفساد النكاح زوجًا كان المحرم، أو امرأة، أو وليًا. "ولا يخطب": هو من الخِطبة - بالكسر -: طلب المرأة للنكاح، وهو نهي تنزيه بخلاف الأولين. * * * 1951 - ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَ مَيْمُونة وهو مُحْرِمٌ. "وروي عن ابن عباس: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - تزوج ميمونة وهو محرم"، واحتج بهذا أبو حنيفة وسفيان الثوري على صحة نكاح المحرم. * * * 1952 - وعن يَزِيْد بن الأَصَمِّ ابن أخت مَيْمُونة، عن مَيْمُونة: أنَّ

رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تَزَوَّجَهَا وهو حَلالٌ. قال الإمام رحمه الله: والأكثرون على أنَّه تزوَّجها حَلالًا. "وعن يزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تزوجها وهو حلال، قال المصنف: والأكثرون من أصحاب الحديث على أنه تزوجها حلالًا": نصب على الحال؛ أي: في كونه حلالًا؛ لرواية ابن أخت ميمونة وغيره. قلنا: يحتمل أنه عبر بالتزويج عن الدخول بها توفيقًا بين الروايتين؛ لما روي: أنه - عليه الصلاة والسلام - تزوجها وهو محرم، وبنى بها -؛ أي: دخل - وهو حلال. * * * 1953 - عن أبي أيُّوب - رضي الله عنه - أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وهو مُحْرِمٌ. "عن أبي أيوب: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يغسل رأسه وهو محرم": اتفق العلماء على جواز غسل المحرم رأسه وإمرار اليد على شعره بحيث لا ينتفُ شعرًا. * * * 1954 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - قال: احْتَجَمَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْرِم. "عن ابن عباس أنه قال: احتجم النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو محرم": يدل على جواز الحجامة للمحرم بلا قطع شعر، فإن قطع فدى.

1955 - وعن عُثْمان - رضي الله عنه - حدَّث عن رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: في الرجُلِ إذا اشْتكَى عَيْنَيْهِ وهو مُحْرِمٌ ضَمَّدَهُما بالصَّبرِ. "وعن عثمان حدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الرجل إذا اشتكى عينيه"؛ أي: حصل له بهما ألم وأنين من الوجع. "وهو محرم ضمَّدهما": وأصل الضمد: الشد، يقال: ضمد رأسه وجرحه: إذا شده بالضماد، وهو: خرقة يُشَدُّ بها العضو المؤوف. "بالصبِر" بكسر الباء: الدواء المر الذي يتداوى به، والمراد منه: الاكتحال. * * * 1956 - وقالت أُمُّ الحُصَيْن: رَأَيْتُ أُسامَةَ وبلالًا، وأَحَدُهُما آخِذٌ بخِطامِ ناقَةِ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، والآخَرُ رافعٌ ثَوْبَهُ يَسْتُرُهُ مِنَ الحَرِّ، حتى رَمَى جَمْرَةَ العَقَبةِ. "وقالت أم الحصين: رأيت أسامة وبلالًا، وأحدهما آخذٌ بِخطام ناقة رسول الله"؛ أي: بزمام ناقته. "والآخرُ رافعٌ ثوبه"؛ أي: جاعل ثوبه على رأسه - عليه الصلاة والسلام - مثل ظل بحيث لم يصلِ الثوبُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "يستره من الحر"؛ أي: حر الشمس. "حتى رمى جمرة العقبة": وهذا يدل على جواز الاستظلال، وكرهه أحمد ومالك. * * * 1957 - عن كعْب بن عُجْرَة "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بِهِ وهو بالحُدَيبيَّةِ قَبْلَ أَنْ

يَدْخُلَ مَكَّةَ وهو مُحْرِمٌ، وهو يُوقدُ تَحْتَ القِدْرِ وَالقَمْلُ يتَهافَتُ على وَجْهِهِ، فقال: "أتؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ "، قال: نعَمْ، قال: "فاحْلِقْ رَأْسَكَ، وأَطْعِمْ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةَ مَسَاكينَ - والفَرْقُ ثَلاثَةُ أَصْوُع - اْو صُمْ ثَلاثَةَ أيامٍ، أو انْسُكْ نَسِيكَةً". "عن كعب بن عجرة: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - مرَّ به وهو بالحديبية" بتخفيف الياء: قرية قريبة من مكة، وكثيرٌ من المحدثين يشددونها. "قبل أن يدخل مكة وهو محرم، وهو يوقدُ"؛ أي: يشعل النار. "تحت قدر"؛ ليطبخ طعامًا. "والقمل يتهافت"؛ أي: تتساقط من رأسه على وجهه. "فقال" له: "أيؤذيك هوامُّك": جمع هامة، وهي: الدابة التي تدب؛ أي: تسير على السكون مثل القمل وغيره، والمراد هنا: القمل. "قال: نعم، قال: فاحلق رأسك، وأطعم فَرَقًا بين ستة مساكين": كل مسكين نصف صاع؛ حنطة أو شعيرًا أو زبيبًا أو تمرًا، وقيل: من التمر والزبيب صاعًا، والأول أصح. "والفَرَق" - بالتحريك - "ثلاثة أَصوُع، أو صُمْ ثلاثة أيام، أو انسُكْ نسَيكة"؛ أي: اذبح ذبيحة، وفرِّقْ لحمها بين مساكين الحرم، والحديث يدل على تخيير فدية الأذى بين الهدي والإطعام والصيام على ما نطق به القرآن، ولا فرقَ بين الحلق بعذر وغيره عند أكثرهم، وقيل: إن حلق بغير عذر تعيَّنَ الدم إن قدر عليه. * * * مِنَ الحِسَان: 1958 - عن ابن عُمر - رضي الله عنهما -: أنه سَمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى النِّساءَ في إحْرَامِهِنَّ

عَنِ القُفَّازينِ، والنِّقَابِ، وما مَسَّ الوَرْسُ، والزَّعْفَرَانُ مِنَ الثيابِ، ولْتَلْبَسْ بَعْدَ ذلكَ ما أَحَبَّتْ مِنْ ألوَانِ الثيابِ مُعَصْفَرٍ، أو خَزٍّ، أو حُلَلٍ، أو سَرَاوِيلَ، أو قَمِيصٍ، أو خُفٍّ". من الحسان: " عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى النساء في إحرامهن عن القُفَّازين والنقاب وما مسَّه الورس والزعفران من الثياب، ولتلبسْ": عطف على قوله: (نهى) من حيث المعنى، كأنه قيل: لا تلبس المرأة القفازين "ولتلبس بعد ذلك ما أحبت من ألوان الثياب"؛ أي: أصنافها. "معصفر": بيان للألوان؛ أي: مصبوغ بالعصفر، وجاز هذا؛ لأنه ليس بطيب بخلاف الزعفران. "أو خَزٍّ": قيل: هو ثوب من إبرسيم وصوف، وفي "المغرب": الخز اسم دابة، ثم سمي المتخذ من وبرها خزًا. "أو حُلْي": جعل الحلي من جنس الثياب تغليبًا، وفسَّره المظهر: بالحلل وقال: هي جمع، وهي رداء وإزار من قطن. "أو سراويل أو قميص أو خف". * * * 1959 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: كانَ الرُّكْبَانُ يَمُرُّونَ بنا ونحنُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُحْرِمَاتٌ، فإذا حاذَوْنَا سَدَلَتْ إحْدَانَا جِلْبَابَها مِنْ رَأْسِها عَلى وَجْهِهَا، فإذا جاوَزُونَا كَشَفْنَاهُ. "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان الرُّكبان": جمع راكب. "يمرون بنا ونحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - محرمات، فإذا حاذونا"؛ أي: وصلوا حذاءنا ومقابلتنا.

12 - باب المحرم يجتنب الصيد

"سدلت"؛ أي: أرسلت "إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها": بحيث لا يمس الجلباب بشرة الوجه؛ كيلا يرانا الركبان الأجنبيون. "فإذا جاوزنا كشفناه". * * * 1960 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَدهِنُ بالزَّيْتِ وهُوَ مُحْرِمٌ غَيْرَ المُقَتَّتِ؛ يعني: غير المُطيَّب. "عن ابن عمر: أن النبي - عليه الصلاة السلام - كان يدهن بالزيت وهو محرم غير المقتَّتِ": بالنصب حال من (الزيت)، وبالجر صفة له؛ يعني: غير المطيب، وهو ما يطبخ فيه الرياحين حتى يطيبَ ريحه. * * * 12 - باب المحرِم يَجتنِب الصيد (باب المحرم يجتنب الصيد) مِنَ الصِّحَاحِ: 1961 - عن الصَّعْب بن جَثَّامة: أنَّهُ أَهْدَى لرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حِمَارًا وحْشِيًّا وهو بالأَبْوَاء - أو بَوَدَّانَ - فَرَدَّ عليهِ، فلمَّا رأَى ما في وَجْهِهِ قال: "إنا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إلَّا أنا حُرُم". "من الصحاح": " عن الصعب بن جَثَّامة: أنه أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: أرسل إليه.

"حمارًا وحشيًا وهو" - صلى الله عليه وسلم -. "بالأبواء" بفتح الهمزة: اسم موضع، وهو مدفن أمِّ النبي عليه الصلاة والسلام، على عشرة فراسخ من المدينة. "أو بوَدَّان" بفتح الواو وتشديد الدال: قرية بينها وبين الأبواء ثمانية أميال، وقيل: هي قرية جامعة قريبة الجحفة، شك من الراوي. "فرد عليه"؛ أي: لم يقبل النبي - عليه الصلاة والسلام - ذلك الحمار منه. "فلما رأى ما في وجهه"؛ أي: وجه صاحب الحمار من أثر التأذي بردِّ هديته. "قال" اعتذارًا إليه وتطييبًا لقلبه: "إنا لم نرده عليك إلا أنَّا": بفتح الهمزة وحذف لام التعليل، والمستثنى منه مقدر؛ أي: لا نرده لعلة من العلل إلا لأنا. "حُرُم" بضم الحاء والراء: جمع حرام بمعنى: محرم، وهذا يدل على أن المحرم لا يقبل الصيد حيًّا، وإن كان له قَبولُ لحمه، ولا شراءه عند الأكثر. * * * 1962 - عن أَبي قتادَةَ: أنَّهُ خَرَجَ معَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فتخَلَّفَ مَعَ بعضِ أَصْحَابهِ وهم مُحْرِمُونَ، وهو غيرُ مُحْرِمٍ، فرَأَوْا حِمارًا وَحْشيًا قَبْلَ أَنْ يراهُ، فلمَّا رأَوهُ تَرَكُوهُ حَتَّى رآهُ أبو قَتادَةَ، فرَكِبَ فَرَسًا له، فسألهُمْ أنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطَهُ، فَأَبَوْا، فتنَاوَلَهُ، فحَمَلَ عليهِ فَعَقَرَهُ، ثُمَّ أَكَلَ، فأكلُوا، فَنَدِمُوا، فلمَّا أَدْركوا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، سألوه قال: "هَلْ مَعَكُم مِنْهُ شيء؟ "، قالوا: مَعَنا رِجْلُهُ، فَأَخَذَهَا النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فَأَكَلَها. وفي روايةٍ: فلمَّا أتوْا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا، أَوْ أَشَارَ إلَيْهَا؟ "، قالوا: لا، قال: "فكُلُوا ما بقِيَ مِنْ لَحْمِها".

"وعن أبي قتادة: أنه: خرج مع النبي عليه الصلاة والسلام، فتخلَّف"؛ أي: تأخر أبو قتادة. "مع بعض أصحابه": عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قليلًا في الطريق. "وهم محرمون وهو غير محرم، فرأوا حمارًا وحشيًا قبل أن يراه، فلما رأوه"؛ أي: أبا قتادة. "تركوه"؛ أي: لم يقولوا: هذا حمار، بل سكتوا. "حتى رآه أبو قتادة"؛ لأنه لا يجوز للمحرم الدلالة على الصيد. "فركب فرسًا له، فسألهم"؛ أي: طلب منهم. "أبو قتادة أن يناولوه"؛ أي: يعطوه. "سوطه، فأبوا"؛ أي: امتنعوا عن إعطاء سوطه؛ لامتناع إعانة المحرم غيره في قتل الصيد. "فتناوله"؛ أي: أخذ أبو قتادة سوطه. "فحمل عليه"؛ أي: ركض فرسه نحو الحمار الوحشي. "فعقره"؛ أي: قتله. "ثم أكل، فأكلوا، فندموا"؛ أي: المحرمون عن أكلهم من ذلك اللحم. "فلما أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألوه قال: هل معكم منه شيء؟ قالوا: معنا رِجْله، فأخذها النبيُّ عليه الصلاة والسلام، فأكلها": الضمير عائد إلى الرَّجل. "وفي رواية: فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها"؛ أي: يصول على الحمار الوحشي، "أو أشار إليها؟ قالوا: لا، قال: فكلوا ما بقي من لحمها": يدل على جواز أكل المحرم من لحم صيد صاده حلال إذا لم يدلَّ عليه، أو لم يُشِرْ إليه.

1963 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَمسٌ لا جُنَاحَ على مَنْ قتلَهُنَّ في الحَرَمِ والإحْرامِ: الفَأْرَةُ، والغُرابُ، والحِدَأة، والعَقْرَبُ، والكَلْبُ العَقُورُ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام: خمس"؛ أي: خمس دواب، مبتدأ خبره "لا جناحَ"؛ أي: لا إثمَ "على من قتلهن في الحرم والإحرام"؛ أي: سواء كان ذلك القاتل في حرم مكة أو المدينة، أو في حالة الإحرام. "الفأرة والغراب والحِدَأةُ والعقرب والكلب العقور"؛ أي: الذي يعضُّ الناس ويجرحهم. * * * 1964 - وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خَمْسٌ فَوَاسقُ يُقْتَلْنَ في الحِلِّ والحَرَمِ: الحَيَّةُ، والغُرابُ الأَبْقَعُ، والفَأرَةُ، والكَلْبُ العَقُورُ، والحُدَيَّا". "وعن عائشة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: خمس فواسق": يروى برفعهما، وبالإضافة أيضًا، والأول أصح، جمع فاسقة، وهي: المضرة من الدواب والطيور، وسميت هذه الحيوانات فواسق؛ لخبثهن وكثرة الضرر فيهن، أو لخروجهن من الحرمة في الحل والحرم؛ أي: لا حرمةَ لهن بحال. "يقتلن في الحل والحرم: الحية والغراب الأبقع" بفتح الهمزة: الذي لونه أسود وأبيض. "والفأرة، والكلب العقور، والحُدَيا": تصغير حِدَأة، فلما صغرت صارت حديئة قلبت الهمزة ياءً، ثم أدغمت ثم حذفت، وأقيمت الألف في

مكانها؛ لأنها تدل على التأنيث مثل: حُبلى. وإنما خص هذه الخمس؛ لأنها أقرب ضررًا من الإنسان بالنسبة إلى غيرها. وعلى هذا قال الشافعي: كل سبع ضار أو عاب وكل حيوان لا يؤكل فقال: لا فدية على قاتلها في الحل والحرم. وقال مالك: كل ما يضر الناس من الدواب مثل الأسد والفهد والنمر والذئب فهو كالكلب العقور، وأما ما لا يضر كالهرة البرية وكالنسر من الطيور وما أشبه ذلك، فلو قتله لزمه الجزاء، وأجاز أبو حنيفة سوى ما جاء في الحديث قتل الذئب، وأوجب الكفارة فيما عداه كالفهد والنمر والخنزير وجميع ما لا يؤكل لحمه. * * * مِنَ الحِسَان: 1965 - عن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَحْمُ الصَّيْدِ لَكُمْ في الإحْرَامِ حَلالٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ، أوْ يُصادَ لَكُمْ". "من الحسان": " عن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لحم الصيد لكم في الإحرام حلالٌ ما لم تصيدوه، أو يصادَ لكم": - بالنصب - (أو) بمعنى: (إلا أن)؛ لأن معنى (ما لم تصيدوه) في معنى الاستثناء، يعني: أن لا تصيدوه وإلا أن يصاد لكم، فإنه لا يحل لكم في هاتين الحالتين.

1966 - عن أَبي هُريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجَرَادُ مِنْ صَيْدِ البَحْرِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام: الجرادُ من صيد البحر"؛ يعني: كما يجوز للمحرم قتل صيد البحر، يجوز له قتل الجراد، ولا ضمانَ عليه. قيل: إن الجراد يتولد من الحيتان. ولهذا الحديث جوَّز بعض العلماء أن يصيده المحرم، وأما من لم يجوز فيقول: إنه من صيد البر؛ لاستقراره فيه. ويحتمل الحديث معنى آخر، وهو أن يقول: أراد أنه من صيد البحر؛ لمشاركته صيد البحر في حكم الأكل منه من غير تزكية على ما ورد به الحديث: "أحلت لنا ميتتان". * * * 1967 - عن أَبي سَعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "يَقْتُلُ المُحْرِمُ السَّبُعَ العَادِي". "عن أبي سعيد الخدري، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: يقتل المحرم السبع العادي"؛ أي: الذي يقصد الإنسان أو المواشي بالقتل، والجراحة، كالأسد والذئب والنمر وغيرها. * * * 1968 - عن عبد الرَّحمن بن أبي عَمَّار قال: سألتُ جابر بن عبدِ الله - رضي الله عنه - عَنِ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هِيَ؟، قال: نعمْ، فقلتُ: أتؤْكَلُ؟، قال: نعمْ، فقلتُ:

سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم، صحيح. "وعن عبد الرحمن بن أبي عمار: أنه قال سألت جابرَ بن عبد الله عن الضبع: أصيد هي؟ قال: نعم، فقلت: أتؤكل؟ قال: نعم، فقلت: سمعتَه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم"، وبهذا أجاز الشافعي وأحمد أكلَ لحمها، وأوجبا الكفارة على المحرم بقتلها. * * * 1969 - وعن جَابرِ - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الضَّبُعِ، فقال: "هو صَيْدٌ، ويَجْعَلُ فيهِ كَبْشًا إذا أَصَابَهُ المُحْرِمُ". "وعن جابر أنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضبع؟ فقال: هو صيد، ويجعل فيه كبشًا إذا أصابه المحرم"؛ أي: يجب في إتلاف المحرم إياه كبشٌ، يدل على وجوب الكفارة بقتله، كما قالا. * * * 1970 - ورُوي عن خُزَيْمَة بن جَزِيٍّ قال: سَألتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أكْلِ الضَّبُعِ، فقال: "أَو يَأْكُلُ الضَّبُعَ أَحَدٌ؟ "، وسَألْتُهُ عَنْ أكلِ الذِّئْبِ، قال: "أوَ يَأكلُ الذِّئْبَ أَحَدٌ فيهِ خَيْرٌ؟ "، ليس إسناده بالقوي. "روي عن خزيمة بن جَزِي": بفتح الجيم وكسر الزاي، وقال الدارقطني: جُزَي بصيغة التصغير. "أنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الضبع قال: أو يأكُلُ الضبعَ": بهمزة الاستفهام على سبيل الإنكار، يعني: لا يأكل الضبع "أحدٌ؟ "، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز أكلها.

13 - باب الإحصار وفوت الحج

"وسألته عن أكل الذئب قال: أو يأكُلُ الذئبَ أحد": بهمزة الاستفهام أيضًا "فيه خير؟ ": صفة لـ (أحد). "إسناده ليس بقوي". * * * 13 - باب الإِحْصَار وفَوْت الحَجّ (باب الإِحْصَار وفوات الحج) الإحصار: المنع والحبس عن الوجه الذي يقصد. مِنَ الصِّحَاحِ: 1971 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قَدْ أُحْصِرَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَحَلَقَ وجامَعَ نِسَاءَهُ، ونَحَرَ هَدْيَهُ حتَّى اعْتَمَرَ عامًا قابِلًا. "من الصحاح": " عن ابن عباس أنه قال: قد أُحصِرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: عن العمرة، أحصره كفار مكة عام الحديبية في السادسة من الهجرة من دخولها. "فحلق": رأسه للتحلل. "وجامع نساءه، ونحر هدية"، ورجع إلى المدينة. "حتى اعتمر عامًا قابلًا": وهذا يدل على أن إحرامه كان بعمرة، وعلى جواز التحلل بالإحصار، وعلى أن هدي الإحصار يذبح حيث أُحصِرَ بخلاف سائر الهدايا.

1972 - وقال عبد الله بن عُمَر: خَرَجْنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيشٍ دُونَ البَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - هَدَاياهُ وحَلَقَ، وقَصَّرَ أَصحَابُهُ. "وقال عبد الله بن عمر: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحال"؛ أي: منع. "كفار قريش دون البيت"؛ أي: عند البيت. "فنحر النبي - عليه الصلاة والسلام - هداياه، وحَلَق": بتخفيف اللام. "وقصَّر" - بتشديد الصاد - "أصحابه". * * * 1973 - وقال مِسْوَر بن مَخْرَمَة: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَحَرَ قَبْلَ أنْ يحْلِقَ، وأمرَ أصحَابَهُ بذلك. "وقال المِسْوَر" بكسر الميم مع السكون: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر قبل أن يحلق، وأمر أصحابَهُ بذلك": استدل الشافعي بهذا على جواز تقديم أداء الكفارة على الحلق ولبس المخيط وغيرها من محرمات الإحرام. * * * 1974 - وقال ابن عُمر - رضي الله عنهما -: ألَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إنْ حُبسَ أحدكم عَنِ الحَجِّ طافَ بالبَيْتِ وبالصَّفَا والمَرْوَةِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شيءٍ حَتَّى يَحُجَّ عامًا قابلًا، فيُهْدِي، أَوْ يَصُومَ إنْ لم يَجدْ هَدْيًا. "وقال ابن عمر: أليس حسبكم"؛ أي: ألم يكفيكم. "سنةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟! "؛ أي: قوله وطريقته. "إن حُبِس"؛ أي: منع. "أحدكم عن الحج"؛ أي: عن الوقوف بعرفة بسبب العدو، ولم يمنع

عن الطواف والسعي. "طاف بالبيت": بعد وصوله إلى مكة. "وبالصفا والمروة، ثم حلَّ من كل شيء"؛ أي: بأفعال العمرة. "حتى يحج عامًا قابلًا، فيهدي" شاة، "أو يصوم": عشرة أيام، "إن لم يجد هديًا"، وهذا يدل على جواز التحلل للمحصر عن الحج بعمل العمرة. * * * 1975 - وقالتْ عائشةُ رضي الله عنها: دَخَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلى ضُبَاعَةَ بنتِ الزُّبَيرِ، فقال لها: "لعلكِ أَرَدْتِ الحَجَّ؟ "، قالت: والله ما أَجدُني إلاَّ وَجِعَةً، فقال لها: "حُجِّي، وَاشْتَرِطي، وقُولي: اللهمَّ مَحِلِّي حَيْثُ حَبَسْتَنِي". "وقالت عائشة: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ضُباعةَ" بضم الضاد. "بنت الزبير": بن عبد المطلب بن هاشم، جد النبي عليه الصلاة والسلام، وكانت تحت المقداد بن الأسود. "فقال لها: لعلك أردت الحج؟ "؛ أي: أتريدين أن تحجي؟ "قالت: والله ما أجدني إلا وجعة"؛ أي: ضعيفة من المرض، وأخاف أن لا أقدر على إتمام الحج. "فقال لها: حجي"؛ أي: أحرمي بالحج. "واشترطي"؛ أي: واعدي يومًا، يُنحَرُ عنك في ذلك اليوم، فتتحللين. "وقولي: اللهم مَحَلي" بفتحتين: مصدر ميمي، وبالفتح ثم الكسر: اسم زمان أو مكان؛ أي: خروجي من الإحرام. "حيث حبستني"؛ أي: منعتني فيه من الحج بالمرض، استدل بهذا مَنْ لم

يرَ الإحصار بالمرض بدون الاشتراط، وإليه ذهب الشافعي. * * * مِنَ الحِسَان: 1976 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يُبَدِلُوا الهَدْيَ الذي نَحَرُوا عامَ الحُدَيْبيةِ في عُمْرَة القَضَاء. "من الحسان": " عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باب أمر أصحابه أن يُبدِلوا الهديَ الذي نحروا عام الحديبية": للإحصار؛ أي: أمرهم أن ينحروا بالحرم بدل ما نحروا في ذلك العام. "في عمرة القضاء": متعلق بالإبدال، وذلك لأن نحرهم فيه كان خارج الحرم، والنحرُ خارج الحرم غيرُ جائز عند الشافعي استدلالًا بهذا. * * * 1977 - عن الحَجَّاجِ بن عَمْرو الأَنْصاري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كُسِرَ أو عَرِجَ أو مَرِضَ فقدْ حَلَّ، وعليهِ الحَجُّ مِنْ قَابلٍ"، ضعيف. "عن الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كُسِر": رجلاه. "أو عرج، أو مرض"؛ يعني: من حدث له بعد الإحرام مانعٌ غير إحصار العدو، وعجز عن إتمام الحج. "فقد حلَّ، وعليه الحجُّ من قابل"؛ أي: يقضيه في السنة القابلة كالمحصر، ويهذا قال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز أن يخرج عن الإحرام بعذر غير الإحصار.

وتأوَّله بعضهم على أنه يحلُّ بالكسر والعرج إذا شرط ذلك قبل الإحرام. "ضعيف"؛ لما ثبت عن ابن عباس أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو. وبه تمسك الشافعي ومالك وأحمد. قلنا: المراد: أن الحصر بالعدو من أعظم أسبابِ الحصرِ. * * * 1978 - عن عبد الرحمن بن يَعْمَرَ الدِّيلي قال: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الحَجُّ عَرَفَة، مَنْ أدركَ عَرَفَة ليْلَةَ جَمْعٍ قَبْلَ طُلوعِ الفَجْرِ فقدْ أَدْرَكَ الحجَّ؛ أيامُ مِنًى ثلاثةٌ، {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] ". "عن عبد الرحمن بن يَعمَر": بفتح الياء والميم. "الدُّئَلي": بضم الدال المهملة وفتح الهمزة. "أنه قال: سمعت النبي - عليه الصلاة والسلام - يقول: الحجُّ عرفةُ": بحذف المضاف؛ أي: معظم أركان الحج وقوف عرفة؛ لأن الحج يفوت بفواته. "من أدرك عرفة"؛ أي: الوقوف. "بها ليلة جمع"؛ أي: ليلة النحر، سميت ليلة جمع؛ لأنه يجمع فيها صلاتاها، وهي ليلة المزدلفة. "قبل طلوع الفجر، فقد أدرك الحج، أيامُ مِنى"؛ أي: أيام التشريق. "ثلاثة، {فَمَنْ تَعَجَّلَ} ": وهو يجيء لازمًا ومتعديًا، فإن عدَّيته فالتقدير: فمن تعجَّل النفرَ.

14 - باب حرم مكة حرسها الله

{فِي يَوْمَيْنِ}؛ أي: في آخر اليومين الأولين من أيام التشريق. {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}، ويسقط عنه مبيت الليلة الثالثة، ورمي اليوم الثالث، ولا دمَ عليه. وإن قُدِّر لازمًا فمعناه: فمن تعجَّل في النفر وهذا أقرب. {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}؛ أي: ليس في التعجيل ترك واجب، ولا في التأخير إلى اليوم الثالث ارتكابُ بدعة، بل هما سواء في الجزاء مع أن التأخير أفضل. * * * 14 - باب حرَم مكةَ حرَسَها الله (باب حرم مكة حرسها الله) مِنَ الصِّحَاحِ: 1979 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ: "لا هِجْرَةَ، ولكِنْ جِهادٌ وَنيَّةٌ، فإذا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا"، وقالَ يَوْمَ فَتْح مَكَّةَ: "إنَّ هذا البَلَدَ حَرَّمَهُ الله يَوْمَ خَلَقَ السَّماوَاتِ والأرضَ، فهو حَرَامٌ بِحُرْمَةِ الله إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وإنَّه لَمْ يَحِلَّ القِتَالُ فيهِ لأحَدٍ قَبْلِي، ولَمْ يَحِل لِيْ إلا ساعةً مِنْ نهَارٍ، فهو حَرَام بحُرْمَةِ الله إلى يَوْمِ القيامَةِ، لا يُعْضَدُ شَوْكُهُ، ولا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، ولا يَلتَقِطُ لُقَطَتَهُ إلَّا مَنْ عَرَّفَهَا، ولا يُخْتَلَى خَلاه"، فقال العباسُ: يا رسولَ الله! إلاَّ الإذْخِرَ، فإنه لقَيْنهِمْ ولِبُيوتِهِمْ، قال: "إلاَّ الإِذْخِر". "من الصحاح": " عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: لا هجرةَ بعد

الفتح": يريد بها: الهجرة من مكة إلى المدينة، وكانت تلك فرضًا على كل مسلم مستطيع قبل فتح مكة؛ ليكونَ في سعة من العبادة متمكنًا من الطاعة بلا صارفٍ، ولينصرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في إعلاء كلمته وإظهار دينه، فلما فُتِحت رُفِعت الهجرة؛ لزوال الموجب. "ولكن": بقي "جهادٌ"؛ أي: محاربة الكفار. "ونيةٌ"؛ أي: قصد وعزم على إعلاء الدين وإظهاره، ينالون بهما ثوابًا ورتبة تقرب من رتبة المهاجرين. وقيل: المعنى: ولكن جهاد في سبيل الله، ونية يفارق بها الرجل أهل الفسق، إذا لم يقدر على تغيير. وقيل: المراد النية الخالصة في محبة الله ومحبة رسوله. "وإذا استنفرتم"؛ أي: إذا طلبَ أمراؤكم النفر؛ أي: الخروج للجهاد. "فانفروا"؛ أي: فاخرجوا حيث ما كنتم، وهذا حثٌّ على الجهاد، وأمرٌ بإجابة الداعي إليه، إنما قاله تحقيقًا لوجوبه؛ لئلا يختلجَ في صدورهم قياس الجهاد على الهجرة في السقوط. * * * "وعنه: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم فتح مكة: إن هذا البلد حرَّمه الله"؛ يعني: كتب في اللوح المحفوظ. "يوم خلق السماوات والأرض": إن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله. والفاء في "فهو" جزاء شرط محذوف؛ أي: إذا كان الأمر كذلك فهو "حرام بحرمة الله": بتحريمه أظهره على لسان إبراهيم، لا بتحريم من الناس باجتهاد شرعي.

وقيل: الحرمة: الحق؛ أي: بالحق المانع من تحليله. "إلى يوم القيامة، وإنه لن يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي": عطف على (لن يحل)؛ أي: لم يحل لي القتال فيه. "إلا ساعة من نهار": أراد بها ساعة الفتح قيل: أبيحت له فيها إراقة الدماء فقط؛ لأنها هي المحتاجة إليها للفتح، وهذا يدل على أن مكة فُتِحت عنوةً لا صلحًا، وبه قلنا، ومن قال: فتحت صلحًا، تأوله على إباحة دخوله - عليه الصلاة والسلام - مكة من غير إحرام، وعلى هذا الشافعي ومالك وأحمد، فعلى ما قلنا لا يجوز بيع دور مكة ولا إجارتها؛ لأنه - عليه الصلاة والسلام - أوقفها بعد الفتح، وعلى ما قالوا يجوز؛ لأنها مملوكة لأصحابها. "فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه"؛ أي: لا يقطع شجره، وذكرُ الشوك دالٌّ على منع قطع سائر الأشجار بالطريق الأولى، وأراد به: ما لا يؤذي منه، فأما الشوكة المؤذي كالعوسج لا بأس بقطعه، كالحيوان المؤذي لا بأس بقتله، وهذا النفي بمعنى النهي. "ولا ينفر صيده"؛ أي لا يتعرض له بالاصطياد. "ولا يلتقط لقطته إلا مَنْ عرفها": معنى التعريف: التشهير وطلب صاحبها، فإنه يجوز له الأخذ للحفظ والتعريف حولًا كاملًا، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد، وإنما أورده هاهنا مع أن الحكم في لقطة الحل كذلك؛ لدفع وهم من يتوهم أن لقطة الحرم لا يملك أصلًا، كما هو أظهر قولي الشافعي. "ولا يُختلَى خلاه": بالقصر؛ أي: لا يقطع حشيشه الرطب، وهذا يدل على جواز قطع اليابس من النبات للدواب، وهو أظهر الوجهي أصحابنا. "فقال العباس: يا رسول الله! إلا الإذخرَ": وهو حشيشة طيبة الرائحة.

"فإنه لقينهم": واحد القيون، وهو: الحداد؛ أي: يحرقه الحدادون بدل الحطب والفحم. "ولبيوتهم"؛ أي: يسقف بها البيوت بمنزلة القصب. "فقال": له النبي عليه الصلاة والسلام: "إلا الأذخر": استثناه - عليه الصلاة والسلام - عن التحريم لحاجتهم. * * * 1980 - وفي روايةٍ: "لا تُعْضَدُ شَجَرتُها، ولا يَلْتَقِطُ سَاقِطَتَها إلاَّ مُنْشِد". "وفي رواية: لا يعضد شجرتها، ولا يَلتقِطُ ساقِطها"؛ أي لقطتها. "إلا مُنشِد"؛ أي: مُعرف، يقال: نشدت الضالة: إذا طلبتها مع رفع الصوت. * * * 1981 - وعن جَابرٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَحِلُّ لأحَدِكُمْ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ". "عن جابر أنه قال: سمعت النبي - عليه الصلاة والسلام - يقول: لا يحل لأحدكم أن يحمل بمكة السلاح": أراد به: ما حمل لأجل المحاربة مع المسلمين، أما حمله للبيع والشراء والمحاربة مع الكفار، فيجوز. * * * 1982 - عن أنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْح وعلى رَأْسِهِ المِغْفَرُ، فلمَّا نزَعَهُ جَاءَ رَجُلٌ فقال: إنَّ ابن خَطَلٍ مُتَعَلِّق بأسْتَارِ الكَعْبةِ، فقال: "اقْتُلْهُ".

"عن أنس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر": وهو البيضة توضع على الرأس في الحرب، وهذا يدل على أنه - عليه الصلاة والسلام - كان قد دخل مكة عند فتحها غير محرم، وإلا لكان رأسه مكشوفًا، وأما بعد ذلك، فلا يجوز له عند أبي حنيفة، وأحد قولي الشافعي، ويجوز عند مالك، وفي القول الثاني للشافعي. "فلما نزعه"؛ أي: رفع المغفر عن رأسه، وجلس، "جاء رجل": هو نَضْلةُ بن عُبيد الأسلمي. "فقال: إن ابن خَطَل" بفتحتين: اسمه عبد العزيز. "متعلق بأستار الكعبة"؛ أي: بلباسها؛ كيلا يقتله أحد. "فقال"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام: "اقتله"، وإنما لم يقبل أمانه؛ لأنه كان مسلمًا بعثه في أمر مع رجل من الأنصار، فقتله في الطريق، وأخذ ما معه، وهرب من المدينة إلى مكة، فلما فتحت مكة أمر بقتله قصاصًا، وهذا يدل على أن من عليه القصاص إذا التجأ بالحرم يقتص فيه، وبه أخذ الشافعي، وعندنا يُحْبَسُ عنه القوتُ حتى يضطر ويخرج منه، فيتقص خارج الحرم. * * * 1983 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ يومَ فَتْح مَكَّةَ وَعَلَيْهِ عِمَامَةُ سَوْداءُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ. "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل يوم فتح مكة وعليه عمامةٌ سوداءُ بغير إحرامٍ": يدل أيضًا على أنه - صلى الله عليه وسلم - دخلها غير محرم. * * * 1984 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَغْزُو

جَيْش الكَعْبةَ، فإذا كانُوا ببَيْدَاءَ مِنَ الأَرْضِ يُخْسَفُ بأوَّلهِمْ وآخِرِهِمْ"، قالتْ: يا رسُولَ الله!، كيْفَ يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ وفيهِمْ أَسْوَاقُهُمْ وَمَنْ لَيْسَ مِنْهَمْ؟، قال: "يُخْسَفُ بأوَّلِهِمْ وآخِرِهِمْ، ثُمَّ يُبْعَثُونَ على نِيَّاتِهِم". "عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يغزوا جيش الكعبة"؛ أي: يقصد الكعبة جيش في آخر الزمان؛ ليخربها، عبَّر بالغزو إشارة إلى شدة اهتمامهم بالأضرار، كما تُغرَم ديار الكفار. "فإذا كانوا ببيداء من الأرض"؛ يعني: فلما بلغوا في طريقهم بأرض بيداء، وهي برية بعيدة. "يخسف بأولهم وآخرهم"، أي: دخلوا قعر الأرض كلهم جميعًا. "قلت: يا رسول الله! كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم": جمع السوق، والمراد: أهل أسواقهم. "ومن ليس منهم؟ ": في الكفر والقصد بخراب الكعبة، كالضعفاء والإسراء. "قال: يخسف بأولهم وآخرهم، ثم يبعثون على نياتهم"؛ أي: فيما يخفون في قلوبهم من الصلاح والفساد، وفيه إخبار بهلاك الأخيار بشؤم الأشرار. * * * 1985 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُخَرِّبُ الكَعْبةَ ذُو السُّويقَتَيْنِ مِنَ الحَبَشَةِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يخربُ الكعبةَ ذو السُّويقتين": تثنية سويقة، وهي تصغير الساق، وهو مؤنث سماعي، وإنما

صغَّرها؛ لأن الغالب على سوق الحبشة الدّقة، يعني: يخربها في آخر الزمان ملك كافر "من الحبشة". * * * 1986 - وقال ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "كأنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَّ، يَقْلَعُها حَجَرًا حَجَرًا". "وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كأني به": يتعلق بمحذوف؛ أي: كأني أبصر به وأنظر إليه من غاية علمي به وبصورته، الضمير عائد إلى (ذو السويقتين). "أسودَ أفْحَجَ": حالان من الضمير في (به)، أو بدلان منه، غير منصرفين. (الفَحَج) بتقديم الحاء المهملة على الجيم: تباعد ما بين الفخدين، وهو من نعوت الحبشان. "يقلعها"؛ أي: الكعبة، "حجرًا حجرًا": حال. * * * مِنَ الحِسَان: 1987 - عن يَعلَى بن أُميَّة - رضي الله عنه - قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "احْتِكَارُ الطَّعامِ في الحَرَمِ إلحَادٌ فيهِ". "من الحسان": " عن يَعلى بن أُمية أنه قال: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: احتكارُ الطعام": وهو حبسه إلى وقت الغلاء؛ لبيعِهِ بثمن أرفعَ مما اشتراه به. "في الحرم إلحادٌ فيه"؛ أي: ميل عن الحق إلى الباطل في الحرم، قال الله

تعالى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]، والاحتكارُ منهي في كل البلاد حرام، وفي مكة أشد تحريمًا. * * * 1988 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَكَّةَ: "ما أطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحَبَّكِ إليَّ، ولولا أن قَوْمِي أَخْرَجُوني مِنْكِ ما سَكَنْتُ غيْرَكِ"، صحيح. "عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمكة: ما أطيبَكِ من بلد": (ما) للتعجب مبتدأ، و (أطيب) فعل ماض فاعله مضمر فيه، والجملة خبره. "وأحبك إلي! ": عطف عليه، خاطب - عليه الصلاة والسلام - مكة عام الفتح لغاية حب الكعبة، وحرم الله تعالى، ومسكن آبائه. "ولولا أن قومي": أراد: كفار قريش. "أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك"؛ أي: ما ينبغي لي أن أسكن بلدًا غيرك، والبلد إذا كان أشرفَ يكون توطُّنُهُ أفضل، وترك الأفضل بالاختيار غير مرضي. "صحيح". * * * 1989 - عن عبد الله بن عَدِيِّ بن الحَمْراء قال: رَأَيْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - واقِفًا على الحَزْوَرَةِ، فقال: "والله إنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ الله، وأَحَبُّ أرْضِ الله إلى الله، ولَوْلَا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ ما خَرَجْتُ". "عن عبد الله بن عَدي بن حمراءَ أنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واقفًا على الحَزْوَرَةِ": بوزن (القَسْوَرَة): اسم سوق بمكة، سميت بذلك، لأن فيه تلًا

15 - باب حرم المدينة على ساكنها الصلاة والسلام

صغيرًا؛ إذ الحزورة: التلُّ الصغير. "فقال: والله إنك لخيرُ أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أني أُخرِجت منك ما خرجْتُ". * * * 15 - باب حرَم المَدينة على ساكنها الصلاةُ والسلام (باب حرم المدينة حرسها الله تعالى) مِنَ الصِّحَاحِ: 1990 - عن علي - رضي الله عنه - قال: قال النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "المَدِينَةُ حَرام ما بَيْنَ عَيْرٍ إلى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فيها حَدَثًا أو آوى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلَائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْف ولا عَدْلٌ، ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ واحِدَةٌ، يَسْعَى بها أدْناهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فعلَيْهِ لعْنَةُ الله والمَلَائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلَ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ، ومَنْ والَى قَوْمًا بغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنة الله والمَلَائِكَةِ والنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ". وفي روايةٍ: "وَمَنْ ادَّعَى إلى غَيْرَ أبيهِ، أوْ تَوَلَّى غَيْرَ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ الله والمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ ولا عَدْلٌ". "من الصحاح": " عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: المدينة حرامٌ ما بين عَيْرٍ" بفتح العين المهملة وسكون الياء: جبل بالمدينة. "إلى ثَوْرٍ": وهو جبل بقرب مكة، وفيه الغار الذي توارى فيه النبيُّ - عليه

الصلاة والسلام - من الكفار مع أبي بكر - رضي الله عنه - حين هاجر؛ يعني: حرمت ما بينهما، وهذا التحريم يوجب الإثم لمن قتل صيدًا أو قطع شجرًا، ولكن لا جزاءَ عليه عند مالك، والشافعي في قوله (الجديد). وفي القديم: تُسلَبُ ثياب القاتل أو القاطع، ثم السَّلَبُ لمن سلبه، وقيل: لبيت المال، وقيل: يفرق على مساكين المدينة. وعند أبي حنيفة: لا يحرم حرم [الـ]ــــمدينة، بل هو كسائر الأراضي. "فمن أحدث فيها حدثًا"؛ أي: أباع في المدينة أمرًا غير معروف في السّنة. "أو آوى محدثًا": بكسر الدال؛ أي: نصر فيها مبتدعًا، وروي بفتح الدال؛ أي: أمرًا مبتدعًا، فمعنى إيوائه: الرضاء به، وفيه تنبيه على أن ترويج البدعة والرضاء بها كإبداعها. "فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين"؛ يعني: يكون مطرودًا عند الله عن إعطاء مرتبة الفائزين بلا عذاب، وعند الملائكة والناس عن دعائهم له، وهذه الجملة يحتمل أن تكون إخبارًا، أو دعاءَ عليه. "لا يقبل منه صرف"؛ أي: توبة أو نافلة، والمراد: نفي كمال القبول. "ولا عدل"؛ أي: فريضة أو فدية، يريد بالفداء: جزاء الصيد والشجر إن جنى في الحرم، ويكون محمولًا على التغليظ. "ذمة المسلمين واحدة": وهي العهد والأمان، يعني: أمان واحد منهم لبعض أهل الحرب كأمان كلهم. "يسعى بها"؛ أي: يتولاها. "أدناهم"؛ أي: أقلهم منزلة، وهو العبد، وليس لغيره نقضه، سواء كان مأذونًا في الجهاد أو لا، وبه قال الشافعي ومالك، وعندنا لا يجوز أمانه إذا لم

يكن مأذونًا فيه. "فمن أخفر مسلمًا"؛ أي: نقض عهده وأمانه. "فعليه لعنةُ الله والملائكة والناس أجمعين"؛ لأن إبطالَ أمان المسلم إبطالُ حكم الله ورسوله، فإذًا يوجب اللعنة. "لا يقبل منه صرف ولا عدل، ومن والى قومًا": أراد به: ولاء الموالاة. "بغير إذن مواليه"؛ يعني: من عقد الموالاة وعقل عنه الأعلى، ليس للأسفل أن ينتقل عنه إلى غيره إلا بإذنه؛ لما فيه من تضييع حقه. "فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل": وقيل: المراد ولاء العتاقة، كقول العتيق لغير معتقه: أنت مولاي، ولك ولائي، لكن على هذا لا يبقى لقوله: (بغير إذن مواليه) فائدة؛ لأن ولاء العتاقة لا ينتقل بإذن مولاه، إلا إن يُحمَل هذا القيدُ على الغالب؛ لأن المعتق لا يأذن له في ذلك عادة. "وفي رواية: ومن ادعى"؛ أي: انتسب "إلى غير أبيه، أو تولى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يُقبَل منه صرف ولا عدل"؛ لأن في ذلك قطع الرحم، وهتك الحق، وإبطال حق مواليه. * * * 1991 - عن سَعْدٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي أُحَرِّمُ ما بَيْنَ لابَتَيِ المَدِينَةِ أنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أو يُقْتَلُ صَيْدُها"، وقال: "لا يَدَعُها أَحَدٌ رَغبةً عَنْها إلاَّ أَبْدَلَ الله فيها مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، ولا يثبُتُ أَحَدٌ على لأْوَائِها وَجَهْدِهَا إلاَّ كُنْتُ لهُ شفيعًا أو شَهيدًا يومَ القِيامَةِ". "عن سعد - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أحرم ما بين لابتي

المدينة": تثنية لابة، وهي الأرض ذات الحجارة السود. "أن يقطع": بدل اشتمال من مفعول (أحرم). "عِضَاهُها": جمع عضة بفتح العين وكسرها: كل شجر له شوك. "أو يُقتَل صيدُها"، وإنما نهى عن ذلك؛ لئلا يتوحش فيها، وليبقى شجرها، فيأنس بذلك من هاجر إليها، فيستظل بظلالها، وكان يرى سعد وزيد ابن ثابت الجزاء في ذلك. * * * "وقال: لا يدعها"؛ أي: لا يترك المدينة. "أحدٌ رغبةً عنها"؛ أي: إعراضًا عنها، نصب على التمييز، أو على أنه مفعول له. "إلا أبدل الله فيها مَنْ هو خيرٌ منه": قيل: هذا كان في حياته - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: عام، وفيه بيان فضل المدينة وفضل ساكنيها. "ولا يثبت أحد على لأوائِهَا"؛ أي: شدتها من جهة ضيق المعيشة فيها. "وجَهْدِها": بفتح الجيم؛ أي: مشقتها من جهة وَخَامةِ هوائها. "إلا كنتُ له شفيعًا يوم القيامة أو شهيدًا": قيل: (أو) للشك، والأظهر أنها للتقسيم، ومعناه: كنت شهيدًا للمطيعين منهم وشفيعًا للعاصين، أو شهيدًا لمن مات بها في زماني شفيعًا لمن مات بعدي. * * * 1992 - وعن أبي هُريرة - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَصْبرُ على لأوَاءَ المَدِينَةِ وشِدَّتِهَا أَحَدٌ مِنْ أُمَّتِي إلاَّ كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا يومَ القِيامَة".

"عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يصبرُ على لأْوَاءَ المدينة وشدتها أحدٌ من أمَّتي إلا كنت له شفيعًا يَوم القيامة". * * * 1993 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كانَ النَّاسُ إذا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرَةِ جَاؤُوا بهِ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فإذا أَخَذَهُ قال: "اللهمَّ بارِكْ لنا في ثَمَرِنًا، وبارِكْ لنا في مَدِينَتِنَا، وبارِكْ لَنَا في صاعِنَا، وبارِكْ لَنَا في مُدِّنا، اللهمَّ إنَّ إبراهيمَ صلوات الله عليه عَبْدُكَ وخَلِيلُكَ ونبَيُّكَ، وإنِّي عَبْدُكَ ونبَيُّكَ، وإنه دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وإنِّي أَدْعُوكَ للمَدِينَةِ بِمِثْلِ ما دعاكَ لِمَكَّةَ، ومِثْلِهِ مَعَهُا، قال: ثُمَّ يَدْعُو أَصغَرَ وَلِيدٍ لهُ، فَيُعْطِيهِ ذلكَ الثَّمَرَ. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: كان الناس إذا رأوا أول الثمرة جاءوا به إلى النبي عليه الصلاة والسلام"؛ لأنهم يختارونـ[ــــه] بذلك على أنفسهم؛ حبًا له - صلى الله عليه وسلم -، وطلبًا للبركة فيما جدَّد الله عليهم من نعمة. "فإذا أخذه قال: اللهم باركْ لنا في ثمارنا، وباركْ لنا في مدينتنا": أراد بالدعاء لأهلها؛ لأنهم المقتاتون للثمار. "وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا": أراد به الدعاء بالبركة على الأقوات، وإنما خص الصاع والمد؛ لأن أكثر أقواتهم التمر، وهو مكيل. "اللهم إن إبراهيمَ عبدُك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك": ولم يذكر الخلة لنفسه مع أنه أيضًا خليله تعالى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "واتخذ الله صاحبكم خليلًا"؛ رعاية للأدب في ترك المساواة بين نفسه وبين آبائه وأجداده الكرام، صلوات الله عليه وعليهم أجمعين. "وإنه دعاك لمكة": كما قال الله تعالى حكايةً عن إبراهيم: {فَاجْعَلْ

أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [إبراهيم: 37] الآية. "وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه"؛ أي: أدعوك للمدينة ضعف ما دعاك إبراهيم عليه السلام. "قال"؛ أي: الراوي: "ثم يدعو"؛ أي: بعد فراغه من الدعاء يدعو - صلى الله عليه وسلم - "أصغرَ وليدٍ له"؛ أي: صبي من أهل بيته. "فيعطيه ذلك الثمر"؛ ليفرح به، فإن فرحه بالثمر الجديد أشدُّ من فرح الكبار. * * * 1994 - وعن أبي سَعيدٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ إبراهيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَجَعَلَهَا حَرامًا، وإِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينَةَ حَرامًا ما بَيْنَ مَأزِمَيْهَا أنْ لا يُهَرَاقَ فيها دَمٌ، ولا يُحْمَلَ فِيها سِلاحٌ لِقِتالٍ، ولا تُخْبَطَ فيها شَجَرَة إلاَّ لِعَلْفٍ". "وعن أبي سعيد، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إن إبراهيم حرم مكة، فجعلها حرامًا، وإني حرَّمت المدينة حرامًا": نصب على المصدر. "ما بين مَأزِميها" بدل اشتمال من المدينة، تثنية (مَأزِم) بفتح الميم وسكون الهمزة وكسر الزاي: كل طريق ضيق بين جبلين، وأراد به: جانبي المدينة. "أن لا يهراق فيها دم": تفسير للمحرم، والمراد: النهي عن القتال فيها. "ولا يحمل فيها سلاحٌ" لقتال. "ولا تخبط"؛ أي: لا يضرب. "فيها شجرة": لتساقط الأوراق.

"إلا لعَلْفٍ": بسكون اللام مصدر: علف علفًا، وبالفتح: اسم للحشيش والتبن والشعير ونحوها، وفي جواز خبطها للعلف دليلٌ على أنه ليس حرمتها كحرمة مكة؛ إذ لا يجوز خبطها بحال. * * * 1995 - ورُوي أن سعدًا وَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أو يَخْبطُهُ، فَسَلَبَهُ، فَجَاءَهُ أَهْلُ العَبدِ، فَكَلَّمُوهُ أنْ يَرُدَّ ما أَخَذَ مِنْ غُلامِهِم، فقال: مَعَاذَ الله أنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. "ورُويَ: أن سعدًا وجد عبدًا يقطع شجرًا، أو يخبطه، فسلبه"؛ أي: نزع ثيابه. "فجاءه أهل العبد، فكلموه أن يردَّ"؛ أي: في أن يرد، أو بأن يرد "ما أخذ من غلامهم، فقال: معاذ الله أن أرد شيئًا نفَّلنيه رسولُ الله"؛ أي: أعطانيه نَفَلًا بفتح الفاء؛ أي: غنيمة؛ لأمره - عليه الصلاة والسلام - بسلب ثياب من قطع شجرًا أو قتل صيدًا في حرم المدينة، وقد نُسِخَ هذا. * * * 1996 - وقالت عائشة رضي الله عنها: لَمَّا قَدِمَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَدِينَةَ وُعِكَ أبو بَكْرٍ وبلالٌ، فجِئْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأخْبَرْتُهُ، فقال: "اللهمَّ حَببْ إِلَيْنَا المَدينَةَ كَحُبنَا مَكَّةَ أوْ أَشَدَّ، وَصحِّحْها لَنَا، وبارِكْ لنا في صاعِها ومُدِّها، وانْقُلْ حُمَّاهَا، فاجْعَلْها بالجُحْفَةِ". "وقالت عائشة: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وُعِكَ أبو بكر - رضي الله عنه - وبلال"؛ أي: أخذتهما الحمى.

"فجئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرته، فقال: اللهم حبِّبْ إلينا المدينة كحبنا مكة، أو أشد، وصحّحها"؛ أي: صحح هواء المدينة "لنا"، واجعل نزولنا فيها سببًا للصحة والعافية. "وبارك لنا في صاعها ومدها، وانقلْ حمُاها فاجعلها بالجحفة"، وإنما دعا بنقلها إلى الجحفة؛ لأنها كانت دار اليهود في ذلك الوقت. * * * 1997 - وعن عبد الله بن عُمر - رضي الله عنهما - في رُؤْيا النبى - صلى الله عليه وسلم - في المَدِينَةِ: "رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْداءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ خَرَجَتْ مِنَ المَدِينَةِ حَتَّى نزَلَتْ مَهْيَعَةً، فَتَأوَّلْتُها أَنَّ وباءَ المَدِينَةِ نُقِلَ إلى مَهْيَعَةَ، وهي الجُحفَة". "وعن عبد الله بن عمر في رُؤيا النبي عليه الصلاة والسلام"؛ أي: في حديث رؤياه. "في المدينة"؛ أي: في شأنها حكايةً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت امرأة سوداءَ ثائرةَ الرأس"؛ أي: منتشرة شعر الرأس. "خرجت من المدينة حتى نزلت مَهْيَعَةً": يقال: أرض مهيعة؛ أي: مبسوطة. "فتأوَّلتها": التأول والتأويل: أن يفسر الشيء بما يؤول إليه. "أن وباء المدينة": بالمد والقصر؛ أي: طاعونها. "نُقِل إلى مهيعة، وهي الجحفة": وكانت الجحفة بعد رؤيا [هـ] هذه أكثر أرض الله وباء.

1998 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُفْتَحُ اليَمَنُ، فَيَأْتِي قَوْمٌ يَبُسُّونَ، فَيتحَمَّلُونَ بِأهْلِيهِمْ وَمَنْ أطاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لو كانُوا يَعْلَمُونَ، ويُفْتَحُ الشَّامُ، فَيَأتِي قَوْم يَبُسُّونَ، فَيتحَمَّلُونَ بِأَهْلِيهِمْ وَمَنْ أطَاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لو كانُوا يَعْلَمُونَ، ويُفْتَحُ العِراقُ، فَيَأْتِي قَوْم يَبُسونَ فَيتحَمَّلُونَ بأَهْلِيهِمْ وَمنْ أطاعَهُمْ، والمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لو كانُوا يَعْلَمُونَ". "عن سفيان بن أبي زُهير أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُفتَحُ اليمن"؛ أي: بلادها. "فيأتي قوم"؛ أي: من المدينة إليها. "يَبُسون"؛ أي: يسوقون إبلهم. "فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم"؛ يعني: يرتحلون من المدينة مسرعين إلى الأمصار المفتوحة؛ لما رأوا في هذه البلاد من الإرفاق، وما يدرُّ عليهم من الأرزاق. "والمدينة"؛ أي: والحال أن المدينة "خيرٌ لهم": من البلاد التي ينتقلون إليها؛ لأنها حرم الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومحل الوحي، ومنزل البركات. "لو كانوا يعلمون": ما في الإقامة في المدينة من الفوائد الدينية، جوابه محذوف، وهو: لما ارتحلوا منها. "ويفتح الشام، فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، (ويفتح العراق): أراد به الكوفة إلى أول أرض خراسان. "فيأتي قوم يبسون، فيتحملون بأهليهم ومن أطاعهم، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون": وفيه بيان فضل المدينة والصبر على شدتها.

1999 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أُمِرْتُ بِقَرْيَةٍ تأكلُ القُرَى، يَقُولُونَ: يثرِبَ، وهيَ المَدِينَةُ، تَنْفِي الناس كما يَنْفِي الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيد". "وعن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أُمرت بقريةِ"؛ أي: بنزول قرية والسكنى بها. "تأكلُ القُرَى"؛ أي: يغلب أهلها - وهم الأنصار - بالمحاربة والإسلام على غيرها من القرى؛ أي: على جميع البلاد، ويظهرهم الله عليها بالفتح، فإن الغالب المستولي على الشيء كالمفني له إفناءَ الآكل له، أو يأكلون غنائمها، جعل ذلك أكلًا للقُرَى على سبيل التمثيل. "يقولون: يثرب": هو اسم أرض المدينة، وإنما فسَّر بقوله: "وهي المدينة": وإنما قال ذلك تنبيهًا على أن الاسم القديم متروكٌ أو قاله على وجه التفخيم والتعظيم. "تنفي الناس": بالفاء من (النفي) الإبعاد على الرواية المشهورة؛ أي: تخرج شرار الناس عنها وتطردهم، وهم الذين لا يليقون بها، فتنفيهم بالحمى والجوع، "كما ينفي الكير خبثَ الحديد". * * * 2000 - وقال: "إنَّ الله تَعَالَى سَمى المَدِينَةَ طَابَةَ". "عن جابر بن سمرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله سمَّى المدينةَ طابةَ"؛ لطيبها بحضور النبي - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه والتابعين وتطهيرهم إياها عن خبث الكفار، وتطهيرها من الطاعون، والدجَّال، وغير ذلك من الفتن.

2001 - وقال: "إنَّمَا المَدِينَةُ كالكِيرِ تَنْفِي خَبَثَها، وتَنْصَعُ طَيبُهَا". "وقال: إنما المدينةُ كالكير تنفي خبثها، وتنصعُ": بالنون والصاد المشددة والعين المهملة أشهر رواية؛ أي: تخلص المدينة. "طيبها": بتشديد الياء؛ أي: صلحاءها من الذنوب والأخلاق المذمومة؛ يعني: صلحاؤها يكونون على غاية من الصَّلاح. * * * 2002 - وقال: "لا تقومُ السَّاعَةُ حَتَّى تنفِى المَدِينَةُ شِرَارَها كما يَنْفِى الكِيرُ خَبَثَ الحَدِيدِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعةُ حتى تنفي المدينة شِرارها، كما ينفي الكيرُ خبثَ الحديد"؛ يعني: يأتي زمان قبل القيامة يكون أهل المدينة كلهم مسلمون صلحاء، وقد وقع هذا في زمن عمر - رضي الله عنه -، فإنه أخرج منها أهل الكتاب، وأظهر فيها العدل والاحتساب. * * * 2003 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "على أنْقَابِ المَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ، لا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ، ولا الدَّجَالُ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على أنقاب المدينة": جمع نقب بسكون القاف، وهو: الطريق بين الجبلين. "ملائكةٌ لا يدخلها الطاعون"؛ يعني: لا يكون فيها الطاعون مثل الذي في غيرها، وما هذا إلا ببركة دعاء النبي عليه الصلاة والسلام. "ولا الدجَّال".

2004 - وقال: "ليسَ مِنْ بَلَدٍ إلاَّ سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إلاَّ مَكَّةَ والمَدِينَةَ، لَيْسَ نقبٌ مِنْ أَنْقَابها إلاَّ عَلَيْهِ المَلائِكَةُ صافِّينَ يَحْرُسُونهَا، فَينرلُ السَّبْخَةَ، فترْجُفُ المَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فَيَخْرُجُ إلَيْهِ كلُّ كافِرٍ ومُنافِقٍ". "عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس من بلد إلا سيطؤُهُ الدجَّال"؛ أي: سيدخله. "إلا مكة والمدينة، ليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين": حال من (الملائكة). "يحرسونها"؛ أي: يحفظون المدينة. "فينزل السَّبِخة" بكسر الباء: اسم موضع قريب من المدينة. "فترجف المدينة"؛ أي: تزلزل وتضطرب أرضها. "بأهلها": الباء للتعدية. "ثلاث رجفات، فيخرج إليه"؛ أي: إلى الدجَّال. "كل كافر ومنافق"؛ أي: من قلبه شرك ونفاق، فيلحقه. * * * 2005 - وقال: "لا يَكِيدُ أهْلَ المَدِينَةِ أَحَدٌ إلاَّ انْمَاعَ كَما يَنْمَاعُ المِلْحُ في المَاءِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يكيدُ أهلَ المدينة"؛ أي لا يمكر بهم، ولا يقصد [هم] بالأذى. "أحد إلا انماعَ"؛ أي: ذابَ "كما ينماعُ"؛ أي: يذوبُ "المِلْح في الماء"، شبَّه أهلَ المدينة مع وفور علمِهم وصفاء قريحتهم [بالماء]، وشبه مَن يريد

الكيد بهم بالملح. * * * 2006 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا قَدِمَ مِنْ سَفَر فَنَظَرَ إلى جُدُرَاتِ المَدِينَةِ أَوْضَعَ راحِلَتَهُ، وإنْ كانَ على دابةٍ حَرَّكها، مِنْ حُبها. "وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - كان إذا قَدِمَ من سفرٍ فنظرَ إلى جدران المدينة"؛ جمع جُدُر بضم الجيم والدال، وهو جمع جدار. "أوضع راحلَته"؛ أي: أَسْرَعَها. "وإنْ كان على دابة حَرَّكَها"؛ ليكون وصولُه إليها قريبًا. "مِن حُبها"؛ أي: مِن حُبِّ المدينة. * * * 2007 - وقال أنس - رضي الله عنه -: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَلَعَ لهُ أُحُدٌ، فقال: "هذا جَبَلٌ يُحِبُّنا وَنُحِبُّهُ!، اللهمَّ إنَّ إبراهيمَ عليهِ السَّلامَ حرَّمَ مَكَّةَ، وإنِّي حَرمْتُ المَدِينَةَ ما بَيْنَ لَابَتَيْهَا". "وقال أنس: إنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - طَلَع"؛ أي: ظهرَ له. "أُحُدٌ"؛ يعني: قَدِمَ من سفر فرأى أُحُدًا. "فقال: هذا جبلٌ يُحبنا ونُحِبُّه"، محمولٌ على المجاز؛ أي: إنه جبلٌ يحبنا أهلُه ونحبُّهم وهم الأنصار، أو على الحقيقة، ولا يُنكَر وصفُ الجمادات بحبِّ الأنبياء والأولياءِ كما حنَّت الأسطوانة على مفارقتِه - عليه الصلاة والسلام - حتى سمع القومُ حنينَها إلى أنْ سَكَّنَها - عليه الصلاة والسلام -، وأخبرَ - عليه الصلاة والسلام - أنه سلَّم عليه حجرٌ قبلَ الوَحْي.

"اللهم إنَّ إبراهيمَ - عليه السلام - حَرَّمَ مكَّة وإني حرَّمْتُ ما بينَ لابَتَيْها". * * * 2008 - ويُروى أنَّه قال: "أُحُدٌ جَبَل يُحِبنا، ونُحِبُّهِ". "ويروَى أنه قال: أُحُدٌ جبل يحبنا ونُحِبُّه". مِنَ الحِسَان: 2009 - رُوي: أن سعدَ بن أبي وَقَّاصٍ أَخَذَ رَجُلًا يَصِيدُ في حَرَمِ المَدِينَةِ، فَسَلَبَهُ ثِيَابَهُ، فَجَاءَ مَواليهِ، فَكَلَّمُوهُ فيهِ، فقال: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَرَّمَ هذا الحَرَمَ، وقال: "مَنْ أَخَذَ أَحَدًا يَصِيدُ فيهِ فَلْيَسْلُبهُ"، فلا أَرُدُّ عَلَيكُم طُعْمَةً أَطْعَمَنيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكِن إنْ شِئتم دَفَعتُ إلَيكُم ثَمَنَهُ" وَيُروى: "مَنْ قَطَعَ مِنْهُ شَيْئًا فَلِمَنْ أَخَذَهُ سَلَبَهُ". "من الحسان": " رُويَ: أن سعدَ بن أبي وقَّاصٍ أخذَ رجلًا يصيدُ في حَرَمِ المدينة، فسلَبه ثيابَه"، بدل اشتمال عن الضمير المنصوب في (فسلبه). "فجاءَه موالِيه فكلَّمُوه فيه"؛ أي: في رَدِّ ثيابِه، أو في ذلك السَّلَب. "فقال: إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرَّمَ هذا الحَرَم وقال: منَ أخذ أَحدًا يَصيدُ فيه فلْيَسْلُبْه، فلا أردُّ عليكم طُعمةً": - بالضم -؛ أي: رِزْقًا. "أَطْعَمَنِيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إن شئتم دفعتُ إليكم ثَمنَه"، قيل: دَفْعُ الثمنِ إليهم تبرعٌ منه عليهم. "ويروى: مَن قطعَ منها"؛ أي: من المدينة. "شيئًا فلِمَنْ أخذَه سَلَبُه"؛ أي: السَّلَب لمن أخذَ مِن الذي قطعَ شيئًا.

2010 - وروى الزُّبَير، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أن صَيْدَ وَجٍّ وعِضاهَهُ حِرْمٌ مُحَرَّمٌ لِلَّه. ووجٌّ ذكروا أنَّها من ناحية الطَّائف. "وروى الزبيرُ عنه - عليه الصلاة والسلام -: إنَّ صَيْدَ وَجٍّ": وهو اسم بلد. "وعِضَاهَه":، مرَّ معناه. "حِرْمٌ"؛ بمعنى: حرامٌ، كحِلٍّ وحَلَال. "محرَّم": ذُكِرَ على وجه التأكيد لقوله: حِرْم. "لله": متعلِّق بالتحريم؛ أي: حَرَّمَ ذلك الله على سبيل الحُرْمة، والتعظيمُ له ليصير حِمًى للمسلمين؛ أي: مراعيَ لأفراسِ الغزاة لا يرعاها غيرُهم يحتمل أن يكون ذلك التحريم في وقت معلوم، وفي مُدَّة محصورة، ثم نُسِخَ فعاد الأمر إلى الإباحة كسائر البلاد. "ووجٌّ ذكرُوا أنها من ناحية الطائف"، والتأنيثُ في أنها بحسب البقعة، والتذكير بحسب البلد. * * * 2011 - وعن ابن عُمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اسْتَطَاعَ أنْ يَمُوتَ بالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِها، فإنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا"، صح. "وعن ابن عمرَ أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: من استطاعَ أن يموتَ بالمدينة"؛ أي: أن يقيم بالمدينة حتى إذا جاءه الموت أدركَه بها. "فليمُتْ بها"؛ أي: فليُقِمْ بها حتى يموتَ. "فإني أشفَعُ لمن يموتُ بها"، عبَّرَ عن الإقامة بما يَؤُولُ إليه.

"صحيح". * * * 2012 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "آخِرُ قَرْيَةٍ مِنْ قُرَى الإسْلَامِ خَرابًا المَدِينَةُ"، غريب. "عن أبي هريرةَ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:آخرُ قرية من قرى الإسلام خرابًا المدينة"، هذا يدلُّ على شَرَفِ المدينة وفَضْلِها. "غريب". * * * 2013 - وعن جَرِير بن عبد الله - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله تعالَى أَوْحَى إليَّ: أَيَّ هؤُلاءَ الثَّلاثَةِ نزَلتَ فَهيَ دارُ هِجْرتكَ: المَدِينَة، أو البَحرَين، أو قِنَّسْرِين". "عن جرير بن عبد الله عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إن الله أوحى إليَّ: أيَّ هؤلاءَ الثلاثةِ نزلتَ": (أيَّ) ظرف لـ (نزلت)، قُدِّم للاستفهام. "فهي دارُ هِجْرتك"؛ يعني: أنه تعالى خيَّرَه بين هذه المواضع الثلاثة. "المدينة أو البحرين"، بلد باليمن، وقيل: موضع بين البصرة وعمان، كذا في "الُمْغرِب". "أو قِنَّسْرين"، بكسر القاف وفتح النون المشددة وسكون السين المهملة: بلد بالشام.

11 - كتاب البيوع

11 - كِتَابُ البُيُوعِ

1 - باب الكسب وطلب الحلال

11 - كِتَابُ البُيُوعِ (كتاب البيوع) 1 - باب الكَسْب وطلَب الحلال (باب الكسب وطلب الحلال) مِنَ الصِّحَاحِ: 2014 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أكَلَ أحدٌ طَعامًا قطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِيْهِ، وإنَّ نبَيَّ الله داودَ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَأكْلُ مِنْ عَمَلِ يَدِيْهِ". "من الصحاح": " عن المِقْدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - أنه قال: قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أكلَ أحدٌ طعامًا قطُّ خيرًا من أن يأكلَ مِن عمل يديه": فيه تحريضٌ على طلب كَسْبِ الحلال. "وإن نبيَّ الله داودَ - عليه السلام - كان يأكلُ مِن عملِ يديه"، روي: أن داود - عليه السلام - في خلافته كان يتحسس الناسَ في أمره، وسأل مَن لا يعرف: كيف سِيرةُ داود - عليه السلام - فيكم؟ فبعثَ الله مَلَكًا في صورة آدمَ فتقدَّم إليه داود - عليه السلام - فسأله فقال: نِعْمَ الرجلُ داودُ - عليه السلام -، إلا

أنه يأكلُ من بيت المال، فسأل داود ربَّه أن يُغْنِيَه من بيت المال، فعلَّمه الله تعالى صَنعةَ الدُّرُوع، وكان يعملُ الدروع ويبيعُها، كلُّ دِرْعٍ بأربعة آلاف. وقيل: كان يعملُ كلَّ يوم دِرعًا يبيعه بستة آلاف درهم، فينفق ألفين على نفسه وعياله، ويتصَّدق بأربعة آلاف على فقراءِ بني إسرائيل. * * * 2015 - وقال: "إنَّ الله طَيبٌ لا يقبلُ إلا طَيبًا، وإنَّ الله أَمَرَ المُؤمنينَ بما أَمَرَ به المُرْسَلينَ، فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ}، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} "، ثُمَّ ذَكَرَ "الرجُل يُطيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماء: يا رَبِّ، يا ربِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وغُذِيَ بالحَرَامِ، فَأَنَّى يُسْتَجابُ لذلِكَ؟ ". "عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الله طَيب"؛ أي: طاهرٌ منزه عن النقائص والعيوب. "لا يقبَلُ إلا طَيبًا"؛ أي: لا يقبَلُ من الصدقات إلا ما يكون حلالًا. "وإنَّ الله أمرَ المؤمنين بما أمرَ به المرسَلِين"، وهو طلبُ الحلال واجتنابُ الحرام. "فقال: {يَاأَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}، وقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}، ثم ذكرَ"؛ أي: النبيُّ - عليه الصلاة والسلام -. "الرجُل": - بالرفع - مبتدأ مذكور على وجْهِ الحكاية مِن لفظِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قيل: المراد بـ (الرجل) الحاجٌ. "يطيلُ السفرَ"؛ أي: يأتي من مكانٍ بعيدٍ لزيارة بيت الله.

"أشعثَ أغبرَ"؛ أي: حالَ كونهِ ذا وسَخٍ وغبار. "يمدُّ يديه"؛ أي: يرفَعُهما "إلى السماء" سائلًا حوائجَه وقائلًا: "يا ربِّ، يا ربِّ"، ظانًّا أن هذه الحالات من إطالة السفر وإصابة الشَّعَث وعلاء الغبرة من مَظَانِّ إجابة الدعوات. "ومطعمُه"؛ أي: والحالُ أن مطعمَه "حرامٌ، ومَشْرَبهُ حرامٌ، ومَلْبَسُه حرامٌ" في حال كِبْره. "وغُذِيَ بالحرام" في حال صِغَرِه. "فأنَّى يُستجابُ"، هذا استبعادٌ لاستجابة الدعاء لا بيانٌ لاستحالتها. "لذلك؟ "؛ أي: لذلك الرجلِ، واللام للتعليل؛ أي: لا يستجابُ لكون مطعَمِه وأخواتِه حَرَامًا، وهذا يدلُّ على أن حِلَّ المَطْعَم وأخواتِه مما يتوقَّفُ عليه إجابةُ الدعاء، ولذا قيل: إن للدعاء جَناحَين: أكلَ الحلال وصِدْقَ المقال. * * * 2016 - وقال: "يَأتِي على النَّاسِ زمان لا يُبالي المَرءُ ما أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الحلالِ أَمْ مِنَ الحَرامِ". "وعنه أنه قال: قالَ عليه الصلاة والسلام: يأتي على الناس زمانٌ لا يبالي المرءُ ما أُخِذَ منه"، والمراد به المال، يعني: لا يبالي بما أُخِذَ من المال، "أمِنَ الحلال أم مِن الحرام" (¬1). ¬

_ (¬1) جاء بعده في جميع النسخ: "قال عمر رضي الله عنه: لا يبيع في سوقنا إلا من تفقه"، ولا يوجد عليه شرح. ولم نقف عليه في نسخ "مصابيح السنة" المعتمدة لدينا والله أعلم.

2017 - وقال "الحَلَالُ بَينٌ، والحَرَامُ بَين، وَبَيْنَهُمَا أُمورٌ مُشتَبهَات لا يَعْلَمُهُنَّ كثيرٌ مِنَ الناسِ، فَمَنْ اتَّقى الشُّبُهاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وعِرْضهِ، ومَنْ وَقَعَ في الشُّبُهَاتِ وقَعَ في الحَرامِ، كالرَّاعي يَرْعَى حَوْلَ الحِمَى، يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فيهِ، أَلَا وإنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا وإنَّ حِمَى الله مَحَارِمُهُ، أَلَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً إذا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كلّهُ، وإذا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كلُّهُ، أَلَا وَهِيَ القَلْبُ". "وعن النعمان بن بَشِير أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحلال بَين"؛ أي: بعضُ الأشياء واضحٌ حِلُّه. "والحرامَ بين"؛ أي: بعضُها واضحٌ حرمتُه بالدلائل الظاهرة. "وبينهما أمور مشتبِهات"؛ يعني: بعض الأشياء مشتبِهة لوقوعه بينَ دليلِهما. "لا يَعْلَمُهنَّ كثيرٌ من الناس"؛ يعني: لا يَمِيْزُ بينهما إلا العلماءُ المجتهِدُون. "فمن اتَّقى الشُّبُهات"؛ أي: اجتنبَ عن الأمور المُشْبِهة قبلَ ظهورِ حُكمْ الشَّرْع فيها بأحدِ الأدلَّةِ التي هي: النصّ والقياسُ والإجماعُ والاجتهاد. "استبرأَ لدينه"؛ أي: بالغَ في براءة دينه وصيانته من أن يَخْتِلَ بالمحارم. "وعِرْضه" من أن يُتَّهم بترك الوَرعَ. "ومَن وقع في الشُّبُهات"؛ أي: أتى بها وتعوَّد ذلك. "وقعَ في الحرام"؛ أي: يوشِكُ أن يقعَ في الحرام؛ لأنه حام حَوْلَ حريمه، وإنما قال: (وقعَ) دون (يوشك أن يقع) تحقيقًا لمداناة الوقوع، كما يقال: (من اتبع هواه فقد هلك)، ولمَّا كانت حِمَى الملوك محسوسةً يُحْتَرِزُ عنها كلُّ ذي بَصَر، وحِمَى الله معقولة لا يدرِكُه إلا ذو البصائر ضربَ المَثَلَ بالمحسوس بقوله:

"كالراعي يَرْعَى حول الحِمَى يوشِكُ أن يَرْتَعَ فيه"، شَبَّه آخذ الشُبُهات بالراعي، وفيه تشبيهُ المحارم بالحِمَى، والشُّبُهات بما حولَه، ثم أكَّد التحذيرَ من حيث المعنى بقوله: "ألا وإن لكل ملك حمًى، ألا وإن حمى الله تعالى محارمُه"، وفيه إشارةٌ إلى أن الاحتراز عن مقارَبة محارمِ الله أحقُّ من مجانبة حِمَى كلِّ مَلِك؛ لأن عقابَه أشدُّ، ولمَّا كان التورُّع بميل القَلْبِ إلى الصلاح وعدمِه بميله إلى الفجور نبَّهَ - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "ألا وإنَّ في الجسد مُضغةً إذا صلَحتْ"، بفتح اللام؛ أي: انشرحَتْ بالهداية. "صلَحَ الجسدُ كلُّه"؛ أي: استُعْمِلت الجوارح في الخيرات؛ لأنها متبوعةٌ للجسد. "ورادًا فَسَدَت"؛ أي: انشرحَتْ بالضلالة. "فسدَ الجَسَدُ كلُّه" باستعمال الآلة في المنكرات. "ألا وهي القَلْبُ"، سُميت بالقلب؛ لأنها محلُّ الخواطر المختلِفَة الحاملةِ على الانقلاب. * * * 2018 - وقال: "ثَمَنُ الكلبِ خَبيث، ومَهْرُ البَغِيِّ خَبيثٌ، وكسْبُ الحَجامِ خَبيثٌ". "عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: - ثمنُ الكلب خبيثٌ"، استدلَّ به الشافعي على أن بيع الكلب مطَلقًا غيرُ جائز. وجَوزه أبو حنيفة، وأجاب عن الحديث: بأن لفظ الخَبيث لا يدلُّ على

الحرمة بدليل أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: "وكسب الحَجَّام خَبيث"، مع أنه ليس بحرامٍ اتفاقًا، وقد ثبتَ أنه - عليه الصلاة والسلام - احتجَم وأعطى أُجْرَة الحَجام. "ومَهْر البغي"؛ أي: الزانية "خبيث": أراد به الحرام؛ لأن ما تأخذُه عوضًا عن الزنا المحرَّم ذريعةٌ إلى الحرام، ووسيلةُ الحرام حرام، وسمَّاه مَهْرًا مجازًا؛ لأنه في مقابلة البُضْع أيضًا. "وكَسْبُ الحَجَّام خَبِيثٌ"، إطلاقُ الخَبِيث عليه باعتبار حصولهِ من أَدْنى المكاسب. * * * 2019 - وعن أبي مَسْعُود الأَنْصاري - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّ رسُولَ الكَلْبِ، وَمَهْرِ البَغِيِّ، وحُلْوَانِ الكَاهِنِ. "عن أبي مسعود الأنصاري أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى ثمن الكلب", وهذا محمولٌ على أنه كان في زمن النبي - عليه الصلاة والسلام - حتى أمر بقتلِها، وكان الانتفاعُ بها يومئذ محرَّمًا ثم رخَّصَ في الانتفاع روي: (أنه قضى في كلبِ صيدٍ قتلَه رجلٌ بأربعين درهمًا، وقضى في كلبِ ماشية بكبشٍ). "ومَهْرِ البَغِيِّ، وحُلْوانِ الكاهن"؛ أي: ما يُعطَاه من الأجر والرِّشْوَة على كهانته، والكاهِنُ هو المخبِرُ عن الكوائن المستقَبلِيَّة أو عمَّا مضى، أو عن نحسِ طالعٍ وسعدِه، ونحو ذلك؛ لأن فِعْل الكِهَانة باطلٌ، فلا يجوزُ أَخْذُ الأجرة عليه.

2020 - وعن أبي جُحَيْفَةَ: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى عَنْ ثَمَنِ الدَّمِ، وثَمَنِ الكَلْبِ، وكَسْبِ البَغِيِّ، ولَعَنَ آكلَ الرِّبا، ومُوكِلَه، والواشِمةَ، والمُسْتَوْشِمةَ، والمُصَوِّرَ. "وعن أبي جُحَيْفة أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن ثَمَن الدم"؛ لأنه نَجِسٌ لا يجوز بيعُه بالإجماع. "وثمنِ الكلب، وكَسْبِ البَغِيِّ، ولَعَنَ آكل الرِّبَا"، وهو أخذُ الزيادة على ما أَعطى. "وموكِلَه"؛ أي: معطيَه، وهو المديون الذي يُعطي الزيادة، وإنما لُعِنَا لاشتراكهما في الفعل. "والواشمة": وهي المرأة التي تَشِم؛ أي: تغرِزُ بإبرة على يدها أو يد غيرها، ثم تُحَشِّي بالكحل. "والمستوشمة": وهي التي تطلب أن يُجعلَ على يدها وَشْمٌ، وهذا الفعل حرام؛ لأنه تغييرُ خلق الله تعالى؛ ولأن هذا من فِعل الفُسَّاق والجُهَّال. "والمُصَوِّر" الذي يصور صُورَ الحيوانات دون صُوَرِ الأشجار والثمار ونحو ذلك؛ لأن الأصنام التي عُبِدَت كانت على صور الحيوانات. * * * 2021 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ سَمعَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ عامَ الفَتْح وهو بمَكَّةَ: "إنَّ الله ورسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ والمَيْتَةِ والخِنْزِيرِ والأصنامِ"، فقيل: يا رَسُولَ الله!، أَرَأَيْتَ شُحُومَ المَيْتَةِ، فإنَّهُ يُطْلَى بها السُّفُنُ ويُدْهَنُ بها الجُلُودُ ويَسْتَصْبحُ بها النَّاسُ؟، فقال: "لا، هو حَرامٌ"، ثُمَّ قالَ عِنْدَ ذلِكَ: "قاتلَ الله اليَهُودَ، أن الله لمَّا حَرَّمَ شُحُومَها جَمَلوها ثُمَّ باعوها فَأكَلُوا ثَمنَها".

"وعن جابر - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ عام الفتح وهو بمكة: إن الله ورسولَه حَرَّمَ بيع الخَمْرِ، والميتة، والخنزير، والأصنام": جمع صنم، وهو ما يعبدُه الكفار من حجر وغيره، ذكره الرسولُ لأن حرمة بعض المذكورات مستفادةٌ من سنته، أو للدلالة على أن ما حَرَّمه كان حرامًا بتحريمه تعالى، إذ لا ينطِق عن الهوى، وتحريمُ بيع المذكورات يدلُّ على أن مَن أراق خمرَ النصرانيِّ، أو قتلَ خِنزيرًا له لا غرامةَ عليه، وعلى تحريم بيعِ جِلْد الميتة قبل الدباغ لنجاسةِ عَيْنهِ، وعلى تحريم بيعِ الأعيان النَّجِسة وإن انتُفِعَ بها حالةَ الضرورة كالسرقين ونحوه، وعلى تحريم بيعِ ما يُنتفع به من الحيوانات قياسًا على الخنزير كالأسد والفهد والدبّ والقرد ونحوها من حشرات الأرض، وعلى تحريم بيع شعر الخنزير، وعلى تحريم بَيعْ الصُّوَر المتخذَةِ من الخشب والحديد والفضة والذهب. "فقيل: يا رسولَ الله! أرأيتَ شحومَ الميتة"؛ أي: أخبِرْني عن شحومها. "فإنه": الضمير للشأن. "يُطْلَى بها السُّفُنُ، ويُدْهَن بها الجلودُ، ويَسْتَصْبحُ بها الناس": هل يجوز ذلك أم لا؟. "فقال: لا"؛ أي: لا يجوز ذلك. "هو"؛ أي: ذلك الفعلُ حرامٌ. "ثم قال عند ذلك: قاتلَ الله اليهودَ"؛ أي: أهلكَهم ولعنَهم أو عاداهم. "إنَّ الله لمَّا حَرَّمَ شحومَها": الضمير يرجِعُ إلى غير المذكور، والمرادُ منه البقرُ والغنمُ كقوله تعالى: {الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146]، والمحرَّمُ عليهم هو شحْمُ الكلى والكَرِش والأمعاء دون شَحْم الظُّهُور والإِلْية؛ لقوله تعالى: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146].

"أجْمَلُوه"؛ أي: أذابوه ليزولَ اسمُ الشَّحْم ويصير وَدكًا هنا. "ثم باعوه"، الضمير فيهما ضميرُ الشحم لا الشحوم. "فأكلُوا ثمنه"، وفيه دليلٌ على بطلان كلِّ حيلة يُتوصَّلُ بها إلى مُحَرَّم، فإنه: لا يتغيَّرُ حكمه بتغير هيئته وتبديلِ اسمه. * * * 2022 - عن عمرَ - رضي الله عنه -: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قاتَلَ الله اليَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحومُ فَجَمَلُوهَا فَبَاعُوهَا". "وعن عمرَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قاتلَ الله اليهودَ، حُرِّمتْ عليهم الشحومُ فجَمَلُوها فباعوها"، يقال: جَمَلَه يَجْمُلُه جَملًا، وأَجْملَه: إذا أذابه واستخرج دُهْنَه. * * * 2023 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ والسِّنَّوْرِ. "عن جابرٍ أن رسولَ الله - عليه الصلاة والسلام - نهى عن ثمنِ الكَلْبِ والسِّنَّور"، كرهَ بعضُهم بيعَ السِّنَّور بظاهر الحديث، وجَوَّزَ الأكثرون بَيعَها، وتأولوا الحديثَ على الوَحْشِيِّ منها للعَجْز عن تسليمِه، فإنه لو رُبِطَ لم ينتفِعْ به؛ لأن نفعَه صيدُ الفأرة، ولو لم يُربَطْ لربَّما ينفُر، ويضيع المالُ المصروف في ثمنه. 2024 - عن أنسٍ - صلى الله عليه وسلم - قال: حَجَمَ أَبو طَيْبةَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَأمَرَ له بصاعٍ من تَمرٍ، وأَمَرَ أهلَهُ أَنْ يُخَفِّفُوا عنهُ مِنْ خَرَاجِهِ. "عن أنس أنه قال: حَجَمَ أبو طَيْبةَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - "، قيل: كان أبو طَيْبة

عبدًا لبني بَيَاضَةَ، وقد وضعُوا عليه خَرَاجًا بأن قالوا له: أعطِنا كلَّ شهر كذا، والباقي مِن كَسْبكَ لك. "فأمرَ له"؛ أي: الرسولُ لأبي طَيْبَة. "بصاعٍ من تمر، وأمرَ أهلَه": يعني به: ساداته. "أن يخفِّفوا عنه من خَرَاجه"؛ أي: يُنْقِصُوا من ذلك الخراج شيئًا. * * * مِنَ الحِسَانِ: 2025 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَطْيَبَ ما أكَلْتُمْ مِنْ كَسْبكُمْ، وإنَّ أَوْلَادكمْ مِنْ كَسْبكُمْ". وفي رواية: "إنَّ أَطْيَبَ ما أكلَ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبهِ، وإنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبهِ". "من الحسان": " عن عائشةَ أنها قالت: قال النبيُّ - عليه الصلاة والسلام -: إن أَطْيَبَ"، أفعل التفضيل مِن الطَّيب وهو الحلال؛ أي: أحل. "ما أكلْتُم مِن كَسْبِكم"؛ (يعني أحسن الحلالات ما تكسبون بأيديكم. "وإن أولاكم مِن كَسْبِكم"؛ لأنهم حَصَلُوا بواسطة تزوُّجِكم وسَعْيكم، فيجوزُ لكم أن تأكلُوا إذا كنتم محتاجين مِن كَسْبِ أولادِكم، وإلا فلا، إلا أن تَطيبَ أنفسُهم به. "وفي رواية" هاهنا: "إن أطيَب ما أكَلَ الرجلُ من كسْبهِ، وإنَّ ولدَه مِن كَسْبهِ".

2026 - وعن عبدِ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "لا يَكْسِبُ عَبْد مالًا حَرَامًا، فَيتصَدَّقَ مِنْهُ فيُقْبَلَ مِنْهُ ولا يُنْفِقُ مِنْهُ فَيُبَارَكَ له فيهِ، ولا يتركُهُ خَلْفَ ظَهْرِهِ إلاَّ كانَ زادَهُ إلى النَّارِ، إنَّ الله لا يَمْحُو السَّيئَ بالسَّيئِ، ولكن يَمْحُو السَّيئَ بِالحَسَنِ، إنَّ الخَبيثَ لا يمحوُ الخَبيثَ". "عن عبد الله بن مسعودٍ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا يَكْسِبُ عبدٌ مالًا حرامًا فيتصدقُ" - بالرفع - "منه فيقبَلُ منه، ولا يُنْفِقُ منه، فيبارَكُ له" بالرفع أيضًا، له. "فيه ولا يَتْركُه خلفَ ظهرِه إلا كان" ذلك الترك أو متروكه "زادَه" بالزاي المعجمة؛ أي: زوَّادته منتهية "إلى النار"، وفي بعض النسخ: بالراء المهملة، من الردِّ: المنعُ؛ أي: مانعة عن غير النار ويضطرُّه ويُلْجِئُه إلى النار. "إن الله لا يمحو السيئَ بالسيئ"؛ يعني: التصدقُ بالمال الحرام سيئة؛ أي: خَصْلَة سيئة، فلا يمحو الله أعمالَ السيئات بهذه السيئة. "ولكن يمحو السيئَ بالحَسَن، إنَّ الخبيثَ لا يمحو الخبيثَ". * * * 2027 - وقال: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ لحمٌ نَبَتَ مِنَ السُّحْتِ، وكُلُّ لَحْمٍ نبَتَ مِنَ السُّحْتِ كانَتِ النَّارُ أَوْلَى بِهِ". "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخلُ الجنةَ لحم نبتَ من السُّحْت" حتى يُحرَقَ بالنار، ويَطهُرَ بها من الحرام. "وكلُّ لحمٍ نبتَ من السُّحْتِ كانت النار أَولى به"، لتطهِّرَه عن ذلك بإحراقها إياه، هذا على ظاهر الاستحقاق، أما إذا تاب الله عليه أو غفرَ له من غير

توبة، وأَرْضَى خَصْمَه أو نالته شفاعةُ شفيعٍ فهو خارجٌ عن هذا الوعيد، فالحديثُ للزَّجْر والتَّهْديد. * * * 2028 - عن الحسنِ بن عليٍّ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: حَفِظْتُ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "دع مَا يَرِيبُكَ إلى ما لا يَرِيبُكَ، فإنَّ الصِّدْقَ طُمَأْنِينةٌ، وإنَّ الكَذِبَ رِيبةٌ". "عن الحسنِ بن عليٍّ - رضي الله عنهما - أنه قال: حفظتُ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: دعْ ما يَرِيبُك إلى ما لا يَرِيبُك"؛ أي: اترك ما اعترضَ لك فيه الشك، واذهب إلى ما لا شك فيه، يعني: خذْ ما أيقنتَه حَسَنًا وحلالًا، واتركْ ما شكَكْتَ في كونه حسنًا. "فإن الصِّدْقَ طمأنينةٌ"؛ أي: مما يَطْمَئِنُّ له القَلْبُ ويسكن إليه. "وإن الكَذِبَ ريبةٌ"؛ أي: مما يَقْلَقَ له ويضطرب منه، يعني: إذا وجدتَ نَفْسَك ترتابُ في شيءٍ فاترُكْه، فإن نفسَ المؤمن تطمئنُّ للصدق وترتاب للكذب، فارتيابُكَ فيه أَمَارةُ بطلانه، وطُمَأْنِينتُك فيه علامة حَقِّيته. * * * 2029 - عن وَابصَةَ بن مَعبدٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا وَابصَةُ! جِئْتَ تَسْأَلُ عَنِ البرِّ والإثْم"؟، قلتُ: نعمْ، قال: فَجَمَعَ أَصابعَهُ فَضَرَبَ بها صدْرَهُ وقال: "اِسْتَفْتِ نَفْسَكَ وَاسْتَفتِ قَلْبَكَ، ثلاثًا، البرُّ ما اطْمَأَنَّتْ إلَيْهِ نفسُك واطْمَأنَّ إلَيْهِ قلبُك، والإثْمُ ما حاكَ في النَّفْسِ وتَرَدَّدَ في الصَّدْرِ وإنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ". "عن وابصَة بن معبَد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: يا وابصةُ جئتَ تسأل عن البِرِّ"،

بالكسر: الإحسانُ، وهو في حق الوالدين والأقْرَبين ضدُّ العقوق، وهو الإساءة إليهم وتضييعُ حقوقهم، وقيل: البِرُّ اسم جامعٌ للخير كلِّه. "والأثم": وهو الذنب. "قلت: نعم"، وقولُه - صلى الله عليه وسلم - لواصبةَ وقد أَضْمَرَ في نفسِه أن يسألَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك من أعلام النبوة. "قال"؛ أي: الراوي. "فجمعَ أصابِعَه فضربَ بها صدْرَه"، الضمير للنبي - عليه الصلاة والسلام - يعني: أشارَ إلى صَدْرِه. "وقال": يا وابصةُ. "استفتِ نفسَك"؛ أي: اطلب الفَتْوى من نفسك. "استفتِ قلبَك ثلاثًا"، فما سكنَ قلبُك على أنه حَقٌّ فخُذْه، وإلا فلا. أراد أن يسألَه عما أَشْكَلَ عليه منهما، فأمره - صلى الله عليه وسلم - بالأخذ بما هو بمَعْزِلٍ عن الاشتباه. "البِرُّ ما اطمأنَّتْ إليه النَّفْسُ"؛ أي: في كونه حَسَنًا مرضيًّا. "واطمأنَّ إليه القَلْبُ": عطفٌ على اطمئنان النفس، للتقرير والتأكيد. ذهبَ الأكثرون إلى أن الأَمَارة التي أشارَ إليها النبي - عليه الصلاة والسلام - للتمييز بين الأمرين إنما هو في عموم المؤمنين، وليست مختصَّةً ببعضهم دونَ البعض، ومنهم مَنْ ذهب إلى أنها تختصُّ بأهل النظر وأصحاب الفِرَاسات من ذوي القلوب السليمة والنفوسِ المرتاضة، فإن قلوبَهم تصْبُو بالطبع إلى الخير وتنبو عن الشر، وتُلْهَم الصواب غالبًا. "والإثمُ ما حاك"؛ أي: تَردَّد وأثرَ "في النفس"؛ أي: القلبُ بالتَّخَالج.

"وتردَّدَ في الصدر"، من حاك يَحيك: إذا تردَّد في القلب، ولم يستقرَّ القلبُ عليه. "وإن أفتاك الناسُ"؛ أي: وإن جعلُوا لك فيه رُخْصة، مثلًا: رجلٌ له مال حلالٌ وحرامٌ إنْ أتاك بشيءٍ من مالِه، والمفتي يقول لك: كُلُّ ما لم تتيقَّن كونه حرامًا جازَ لك أَكْلُه، فلا ينبغي لك أن تأكلَه خوفًا أن تأكلَ الحرام، فإن الفَتْوى غيرُ التَّقْوى. * * * 2030 - عن عَطِية السَّعْدِيِّ - رضي الله عنه - أنَّه قال، قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبْلُغُ العَبْدُ أَنْ يَكُونَ مِنَ المُتَّقِينَ حتَّى يَدع ما لا بَأْسَ بِهِ حَذَرًا لِمَا بِهِ بَأْسٌ". "عن عطيةَ السَّعْدِيِّ - رضي الله عنه - أنه قال: عليه الصلاة والسلام: لا يبلُغُ العبدُ أن يكونَ مِن المتقين حتى يَدعَ"؛ أي: يترُكَ "ما لا بأس به حَذَرًا لما به بأسٌ"؛ أي: خوفًا من أن يقعَ فيما به بأسٌ. * * * 2031 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لَعَنَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الخَمْرِ عَشْرةً: عَاصِرَهَا، ومُعْتَصِرَهَا، وشَارِبَها، وحَامِلَهَا، والمَحْمُولَة إِلَيْهِ، وسَاقِيَهَا، وبَائِعَهَا، وآكِلَ ثَمَنِهَا، والمُشْتَرِيَ لها، والمُشْتَرَاةَ لَهُ. "عن أنسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: لعنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الخَمْرِ"؛ أي: في شأنها. "عشرةً: عاصرَها": وهو الذي يعصِرُ لغيره. "ومُعْتَصِرَها": وهو من يعصِرُ لنفسه أو: من يطلُبُ عَصْرَها. "وشاربَها، أو حامِلَها، والمحمولةَ إليه"؛ أي: الذي يطلُبُ أن يَحْمِلَها أحدٌ لأجله.

"وساقِيَها، وبائعها، وأكلَ ثمنِها، والمشتريَ لها"؛ أي: الذي اشتراها. "والمشترى له"؛ أي: الذي تُشْتَرى له بالوكالة. * * * 2032 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَعَنَ الله الخَمْرَ، وشَارِبَهَا، وسَاقِيَهَا، وبَائِعَهَا، ومُبْتَاعَهَا، وعَاصِرَهَا، ومُعْتَصِرَها، وحَامِلَهَا، والمَحمُولَة إلَيهِ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لعنَ الله الخمرَ، وشاربَها، وساقيَها، وبائعَها، ومبتاعَها"؛ أي: مشتريَها. "وعاصرَها، ومعتصرَها، وحاملَها، والمحمولَةَ إليه". * * * 2033 - وعن مُحَيصَةَ - رضي الله عنه -: أنَّه اِسْتَأْذَنَ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في إِجَارَةِ الحَجَّامِ فَنَهَاهُ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْتَأذنه حَتَّى قال: "اِعْلِفْهُ ناضحَكَ وأَطْعِمْهُ رَقِيقَكَ". "عن مُحَيصَةَ: أنه استأذنَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في إجَارَةِ الحَجَّام"؛ أي: في أُجْرَته، والإِجَارَة: اسم للأُجْرة. "فنهاه - عليه الصلاة والسلام -، عن أَكْلِها. "فلم يزلْ يستأذِنُه حتى قال: اعلِفْه ناضحَك"؛ أي: اصرفْ ما تكتسب بالحِجَامة في عَلَفِ ناضحِك، وهو البعيرُ الذي يُسْتقَى به الماء. "وأطعِمْه رَقيقَك"، والأكثَرُون على أنه نهيُ تنزيهٍ عن الكَسْب الدَّنيء. * * * 2034 - وعن أبي هريرةَ - صلى الله عليه وسلم - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ ثَمَنِ الكَلْبِ، وكَسْبِ الزَّمَّارَةِ.

"عن أبي هريرةَ: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ثمنِ الكَلْبِ وكَسْبِ الزَّمَّارة"، بفتح الزاي المعجمة وتشديد الميم، قيل: هي الزانية، وقيل: المغنية، من زَمَر: إذا غَنَّى، ويقال للقَصَبة التي تزمر بها: زَمَّارَة. وذهب بعضٌ إلى تقديم الراء على الزاي، وهي التي تومِئُ بعينها وشَفَتِها؛ أي: يفعل الزواني. * * * 2035 - وعن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبيعُوا القَيْنَاتِ ولا تَشْتَرُوهُنَّ ولا تُعَلِّمُوهُنَّ، وثَمَنُهُنَّ حرامٌ، وفي مِثلِ هذا أُنْزِلَتْ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} ""، (ضعيف). "وعن أبي أمامةَ أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تَبِيعوا القَيْنَات": جمع قَيْنَة، وهي الأَمَة غَنَّتْ أو لا، لكن المراد هنا المغنِّية. "ولا تشتروهنَّ"، النهيُ مقصورٌ على البيعِ والشراءِ لأجل التَّغَنِّي. "ولا تعلِّموهنَّ"؛ أي: الغِناءَ. "وثمنُهنَّ حرامٌ"، وهذا دليلٌ على فساد بيعِها، والجمهورُ صحَّحُوا بيعَها لمَا في هذا الحديث مِن الطَّعْن في رواته، وبتقدير صِحَّتِه أُوِّل بأن هنا مضافًا محذوفًا؛ أي: أخذُ ثمنِهنَّ حرامٌ كأخذِ ثمن العِنَبِ ممن يتَّخِذُه خمرًا؛ لا أنَّ البيعَ غيرُ صحيح. "وفي مثل هذا نزلت: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} "؛ أي: يشترِي الغِناءَ والأصواتَ المحرَّمةَ التي تُلْهِي عن ذِكْر الله. "غريب".

2 - باب المساهلة في المعاملة

2036 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أَكلِ الهِر وثَمَنِهِ، غريب. "وعن جابرٍ - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكلِ الهِرِّ وثمنِه، ضعيف". * * * 2 - باب المُساهلةِ في المُعاملة (باب المساهلة في المعاملة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2037 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ الله رَجُلًا سَمْحًا إذا باعَ، وإذا اشْتَرَى، وإذا اقْتَضَى". "من الصحاح": " عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: رَحِمَ الله رَجَلًا سَمْحًا"، - بفتح السين؛ أي: سَهْلَ البيعِ والشِّرَاء. "إذا باعَ، وإذا اشترى، وإذا اقتضى"؛ أي: إذا طلبَ دينًا له على غريمٍ يطلبُ بالرِّفْق لا بالعُنْف. * * * 2038 - وقال: "إنَّ رَجُلًا كانَ فيمَنْ قبلَكُمْ أتاهُ المَلَكُ ليقْبضَ رُوحَهُ، فقِيلَ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ مِنْ خَيْرٍ؟، قال: ما أعلَم شيئًا، قيلَ لهُ: انْظُرْ، قال: ما أَعْلَمُ شَيْئًا غير أَنِّي كنْتُ أُبايعُ النَّاسَ في الدّنْيَا وأُجازِيهِم، فأُنْظِرُ المُوسِرَ

وأتجاوَزُ عن المُعْسِرِ، فأدخَلَهُ الله الجنَّة. وفي روايةٍ: "قالَ الله: أنا أحَقُّ بِذا مِنْكَ، تَجاوَزُوا عَنْ عَبْدِي". "عن أبي مسعودٍ الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ رجلًا كان فيمن قبلَكم أتاه الملَك ليقبِضَ رُوحَه، فقيل له: هل عملتَ مِن خيرٍ؟ قال: ما أعلَمُ شيئًا؟، قيل: هذا السؤالُ منه كان في القبر. "قيل له: انظُرْ"؛ أي: تفَكَّرْ. "قال: ما أعلَمُ شيئًا غير أني كنتُ أبايعُ الناسَ في الدنيا وأجازِيهم"؛ أي: أُحْسِنُ إليهم. "فأُنْظِرُ الموسِرَ"؛ أي: أُمْهِلُ الغنيَّ. "وأتجاوزُ عن المُعْسِر"؛ أي: أَعْفُو عن الفقير وأُبْرِئُ ذِمَّتَه عن دَيني. "فأدخلَه الله الجَنَّة". "وفي رواية: قال الله تعالى: أنا أحقُّ بذا"، أي: أنا أَوْلَى بهذا الكَرَمِ والتَّجَاوُز "منك، تجاوَزُوا عن عبدي". * * * 2039 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إيَّاكم وَكَثْرَةَ الحَلِفِ في البَيع؛ فإنَّهُ يُنَفِّقُ ويَمْحَقُ". "وعن أبي قَتادة أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إياكم وكثرةَ الحَلِف"؛ أي: احذَرُوا من كثرةِ الحَلِف "في البيع، فإنه يُنَفِّقُ"؛ أي: يُروِّجُ المتاعَ، ويُكْثِرُ الرَّغبَات فيه. "ويُمْحِق"؛ أي: يُفْنِي البركةَ من ثمنه.

2040 - وفي روايةٍ: "الحَلفُ مَنْفَقَة للسلْعَةِ ومَمْحَقَةٌ للبَرَكةِ". "وفي رواية" أبي هريرة - رضي الله عنه -: "الحَلِفُ مَنْفَقَة للسلْعَة": - بفتح الميم -؛ أي: مَظِنّة وسبب لنَفَاقِها وموضع له. "مَمْحَقَة للبَرَكَة"؛ أي: مَظِنة لَمَحْقِ البَرَكة وذهابِها وموضع له. * * * 2041 - وعن أبي - رضي الله عنه - عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "ثلاثة لا يُكَلِّمُهُمُ الله يومَ القِيامَةِ ولا يَنْظُرُ إليْهِمْ ولا يُزكيهِمْ ولهُمْ عَذاب ألِيم". قالَ أبو ذَرٍّ: خابُوا وَخَسِرُوا، مَنْ هُمْ يا رَسُولَ الله؟، قال: "المُسْبلُ إزارَهُ، والمنَّانُ، والمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بالحَلفِ الكاذبِ". "عن أبي ذَرٍّ، عن النبي عليه الصلاة والسلام - أنه قال: ثلاثة لا يكلِّمُهم الله"؛ أي: بكلام الرضاء. "يومَ القيامة"؛ أي: لا يُسْمِعُهم ما يَسُرُّهم مِن الكلام. "ولا ينظرُ إليهم"؛ أي: بنظر الرَّحْمة. "ولا يزكِّيهم"؛ أي: لا يُطَهِّرهم من الذنوب. "ولهم عذابٌ أليم، قال أبو ذر: خابُوا وخَسِرُوا، مَن هم يا رسول الله؟ قال: المُسبِل"، بضم الميم؛ أي: الذي يُرْخِي "إزارَه" ويُرْسله إلى الأرض؛ أي: يطوِّلُه وَيمْشِي تكبرًا واختيالًا. "والمَنَّان": إما مِن المِنَّة؛ أي: الذي يُعطِي الناسَ شيئًا ويمنُّ عليهم لاعتبارِ صَنيعه، مثل قوله: أعطيتُ فلانًا كذا ليُظْهِرَ سخاءَ نَفْسِه، وإما مِن المَنِّ: النقص مِن الحقِّ والخيانة.

"والمنفِقُ سِلْعَتَه"؛ أي: الذي يروِّجُ مَتَاعَه. "بالحَلِف الكاذب"، مثل أن يقول للمشتري: اشتريتُ هذا بمئة دينارٍ، والله ليظُنُّ المشتري أن ذلك المتاعَ يساوِي مئة دينار أو أكثر، فيرغب في شرائه. * * * مِنَ الحِسَان: 2042 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأمِينُ معَ النَّبيينَ والصِّدّيقِينَ والشُّهَدَاء"، غريب. "من الحسان": " عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - أنه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: التاجرُ الصَّدُوق الأمينُ مع النبيين والصدِّيقين والشهداء"، "غريب". * * * 2043 - عن قيسِ بن أبي غرَزةَ - رضي الله عنه - قال: مَرَّ بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ! إنَّ البَيع يَحْضُرُهُ اللغوُ والحَلِفُ فشُوبوهُ بالصَّدَقَةِ". "عن قيسِ بن أبي غرَزَة أنه قال: مرَّ بنا النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - فقال: يا معشرَ التجار! إنَّ البيعَ يحضرُه اللَّغْوُ والحَلِفُ"؛ يعني: البائع قد تكلَّم بكذبٍ، وقد يحلِفُ على ذلك. "فشُوبُوه"؛ أي: اخلِطُوا ذلك اللغو والحلِفَ "بالصدقة"، فإنها تطفئ غضبَ الربِّ، وإن الحسنات يُذهِبن السيئات.

3 - باب الخيار

2044 - عن عُبَيْد بن رِفاعَةَ، عن أبيه - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "التُّجَّارُ يُحْشَرُونَ يومَ القِيامَةِ فُجَّارًا إلا مَنِ اتَّقَى وبَرَّ وصَدَقَ". "عن عُبَيد بن رِفاعة، عن أبيه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: التجار يُحشَرُون يومَ القيامة فُجَّارًا"، من الفجور: الميلُ عن القصد، والكاذب فاجرٌ لميله، سمَّاهم فجارًا؛ لتدليسهم في المعاملات، وتلبيسهم فيها بالكذب. "إلا مَن اتقى"؛ أي: اجتنبَ المحارمَ أو الكذب. "وَبرَّ": في يمينه، "وصدق" في قوله، أراد بالبر الإحسانَ. * * * 3 - باب الخِيَارِ (باب الخيار) مِنَ الصِّحَاحِ: 2045 - عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المُتَبَايعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما بالخِيَارِ على صاحِبهِ ما لمْ يتفرَّقَا إلاَّ بَيع الخِيارِ". وفي روايةٍ: "إذا تَبَايَعَ المُتَبَايعَانِ فَكُلُّ واحِد مِنْهُمَا بالخِيارِ مِنْ بَيْعِهِ ما لم يتفَرَّقَا، أوْ يَكُونُ بَيْعُهُما عن خِيار، فإذا كَانَ بيعُهُما عن خِيارٍ فقدْ وَجَبَ". وفي روايةٍ: "البَيعانِ بالخِيارِ ما لمْ يتفَرَّقا أو يَخْتَارَا". "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: - صلى الله عليه وسلم -: المتبايعان": أراد بهما البائع والمشتري. "كلُّ واحد منهما بالخِيَار على صاحبه ما لم يتفرَّقا"، ذهب الشافعي بهذا

على ثبوت خيار المجلِس للمتبايعَيْنِ من فَسْخِ البيع وإمضائه وحملِ التفرُّق على التفرق بالأبدان. "إلا بيعَ الخِيَار"؛ أي: إلا المتبايعَين بيعَ الخِيَار، أو إلا إذا تبايعا بيعَ الخِيَار بأن يقول أحدُهما لصاحبه: اختَرْ، فيقول: اخترتُ، فيكون هذا إلزامًا للبيع منهما، وإن كان المجلس قائمًا ويسقط خيارهما، وأئمتنا ألزَمُوا البيعَ بنفس التواجر، وحملُوا الخِيَار على خِيَار القَبول، والتفرُّق على التفرُّق بالأقوال يدلُّ عليه ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: (المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا عن بيعهما). قيل: الاستثناء في قوله: إلا بيعَ الخِيَار يرجعُ إلى مفهوم مدَّةِ الخِيَار، تقديرُه: كلٌّ منها بالخِيَار ما لم يتفرَّقا، فإن تفرَّقَا لزمَ البيعُ إلا أن يتبايعا بشرط خِيَارِ ثلاثة أيام فما دونها، فيبقى خيار الشرط بعد التفرُّق. "وفي رواية" ابن عمر. "إذا تبايع المتبايعان فكلُّ واحدٍ منهما بالخِيَار من بيعه ما لم يتفرَّقَا، أو يكون بيعُهما عن خِيَار، فإذا كان بيعُهما عن خِيَار فقد وجب"؛ أي: ثبتَ الخِيَار لمن شرطَ له. "وفي رواية: البَيعان": بكسر الياء وتشديدها؛ أي: البائع والمشتري. "بالخِيَار لم يتفرَّقا أو يختارا" لزومَ البيع وإسقاطَ خِيَارِهما، يعني: لهما الخيارُ ما لم يتفرَّقا من المجلس وما لم يُسْقِطا خِيَارَهما. * * * 2046 - وعن حكيمِ بن حزامٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البَيعانِ بالخِيارِ ما لمْ يتفَرَّقا، فإنْ صَدَقَا وبيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا في بَيْعِهِمَا، وإنْ كتَمَا وَكَذَبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيعِهِما".

"وعن حَكِيم بن حِزَام أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: الَبيعان بالخِيَار ما لم يتفرَّقا" من المسجد، وما لم يسقط خيارهما. "فإن صدَقا"؛ أي: البائعُ والمشتري في صفة المبيع والثمن. "وبيَّنا"؛ أي: ما كان فيهما من عيب ونقص. "بُورِك لهما"؛ أي: أكثر بركةُ ما يأخذُ كل منهما. "في بيعهما، وإن كتَما"؛ يعني: عيبَ المبيع والثمن. "وكذَبا" في صفاتهما. "مُحِقَتْ"؛ أي: ذهبت "بركةُ بيعِهما"، وهذا يدل على أن كلاًّ منهما إذا عَلِمَ عيبًا بما في يده فعليه أن يبينه للآخر ولا يكتُمَه. * * * 2047 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قالَ رجُل: يا رسولَ الله، إنِّي أُخْدع في البُيوعِ، فقال: "إذا بايَعْتَ فَقُلْ لا خِلَابةَ" فكانَ الرجُلُ يقولُهُ. "عن ابن عمر أنه قال: قال: رجل"، اسمه حَبَّان بن منقذ. "للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم: إني أُخدع في البيوع"، وذلك لقلة خبرته بالمعاملات من كبر سنه. وقيل: كان متغيرَ العقلِ لشَجِّ رأسه في الغزاة، وقد جاء أهلُه إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فشكاه لخوف الغبن في البيع، وطلبُوا الحَجْرَ عليه، فحَجَرَ عليه، فشكا عدمَ صبره عن البيع فرُفع عنه الحجر. "فقال: إذا بايعتَ فقل: لا خِلَابة" بكسر الخاء المعجمة؛ أي: لا خديعةَ لي في هذا البيع.

"فكان الرجل يقولُه"، قال أحمدُ: مَن قال ذلك في بيعه كان له الردُّ إذا غُبن كحَبَّان، والجمهور على أنه لا ردَّ له، فيؤوَّل الحديث على أنه - عليه الصلاة والسلام - قال له ذلك ليطَّلِعَ صاحبُه عليه فيعلم أنه لا بصيرة له في البيع فينزجِرَ عن غبنه، وَيرى له كما يرى لنفسه. * * * مِنَ الحِسَان: 2048 - عن عمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "البَيعانِ بالخِيارِ ما لمْ يتَفَرَّقا إلاَّ أنْ يكونَ صَفْقَةَ خِيارٍ، ولا يَحِلُّ لهُ أَنْ يُفارِقَ صاحِبَهُ خَشْيةَ أَنْ يَسْتَقِيلَهُ". "من الحسان": " عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جَدِّه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: البَيعان بالخِيَار ما لم يتفرَّقَا، إلا أن يكونَ صفقةَ خِيَار"؛ أي: صفقةً شَرَطَ فيها خيَار، وهو مثل قوله: إلا بيعَ الخِيَار، والمراد من الصفقة هنا العقدُ المشتمِلُ على البيعِ والشِّراء. "ولا يحِلُّ له أن يفارِقَ صاحبَه خشيةَ أن يستقيلَه"، الاستقالةُ طلبُ الإِقالة، وهو إبطالُ البيع؛ أي: لا ينبغي له أن يقومَ من مجلِس العَقْدِ خوفًا من أن يَفْسَخَ صاحبه بخيارِ المجلس؛ لأنه يشبِهُ خديعةَ، وفيه دليلٌ لمن قال بثبوت خِيار المجلس. * * * 2049 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُتفَرَّقُ عَنْ بَيع إلاَّ عَنْ تَراضٍ".

4 - باب الربا

"عن أبي هريرة، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: لا يتفرَّقُ عن بَيْعٍ إلا عن تراض"، صفة مصدر محذوف؛ أي: تفرّقًا صادرًا عن تراض. * * * 4 - باب الرِّبا (باب الربا) وهو في اللغة: الزيادة، وفي الشَّريعة: زيادةٌ على صفةٍ مخصوصة. مِنَ الصِّحَاحِ: 2050 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: لَعَنَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آكلَ الرِّبا ومُوكِلَهُ وكاتِبَهُ وشاهِدَيْهِ. "من الصحاح": " عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنه قال: لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - آكلَ الرِّبا"؛ أي: آخذَه. "وموْكِلَه"؛ أي: مُعْطِيه. "وكاتِبَه وشاهِدَيْه". * * * 2051 - عن عُبادةَ بن الصامِت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرِّ بالبُرِّ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ، والتَّمْرُ بالتَّمْرِ، والمِلْحُ بالمِلْح، مِثْلًا بمِثْلٍ، سَواءً بسَواءً، يَدًا بِيَدٍ، فإذا اخْتَلَفَتْ هذِهِ الأصنافُ - وفي روايةٍ: إذا اختلف النوعان - فَبيعُوا كيفَ شئتم إذا كَان يَدًا بِيَدٍ".

"عن عُبَادة بن الصَّامِت أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذَّهبُ بالذَّهب"؛ أي: يُباعُ به. "والفِضَّة بالفضة، والبُرُّ بالبُرِّ، والشَّعيرُ بالشعير، والتَّمرُ بالتمر، والمِلحُ بالملح مِثْلًا بمِثْل"؛ أي: حال كونهما متساويين في القَدْر. "سواءٌ بسواءٍ"، تأكيد لقوله: (مثلًا بمثل)، وكذا: "يدًا بيد"، ويحتمل أن يريد بقوله: (مثلًا بمثل) المماثلةَ الكَيْل والوزن، وبقوله: سواء بسواء اتحادَ مجلِسِ تقابُل العِوَضَيْن، وبقوله: (يدًا بيد) الحلول. ذكر - عليه الصلاة والسلام - النقدين والمطعومات الأربع إيذانًا بأن عِلَّة الربا النقدية أو المطعم، وذكر من المطعومات الحبوبَ وهو البُرّ والشعير والثِّمار، وهو التَّمْر وما يقصَدُ بالطَّعْم لذاته كهذه الثلاثة، أو لغيره كالمِلْح إيذانًا بأن الكلَّ سواء في الحُكْم "فإذا اختلفت هذه الأجناسُ فبِيعُوا كيف شئتم إذا كان"؛ أي: البيعُ "يدًا بيد"، جوَّزَ عليه الصلاة والسلام التفاضُلَ عند اختلافِ الجنس مع إيجابِ التقابُض. * * * 2052 - وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذَّهَبُ بالذَّهَبِ، والفِضَّةُ بالفِضَّةِ، والبُرّ بالبُرِّ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ، والتَّمْرُ بالتَّمْرِ، والمِلْحُ بالمِلْح مِثْلًا بمِثْل، سواءً بسواءٍ يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زادَ أو اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى، الآخِذُ والمُعْطِي فيهِ سَواءٌ". "وعن أبي سعيد الخُدْري - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذهبُ بالذهب، والفِضَّة بالفضة، والبُرُّ بالبرِّ، والشعيرُ بالشعير، والتَّمْر بالتمر، والمِلْح بالمِلْح مِثْلًا بمِثل، يدًا بيد فمن زاد"؛ أي: أعطى الزيادة.

"أو استزاد"؛ أي: أخذَ الزيادة. "فقد أَرْبى"؛ أي: أتى بالرّبا أو تعاطاه. "الآخِذُ والمعطي فيه"؛ أي: في الربا. "سواءٌ"؛ أي: في الإثم واللَّعْن، قيل: كان بيعُ الربا في ابتداء الإسلام جائزًا، ثم نسُخَ بإيجاب المماثلة. * * * 2053 - وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ إلاَّ مِثْلًا بمِثْلِ، ولا تُشِفُّوا بعضَها على بعضٍ، ولا تَبيعُوا الوَرِقَ بالوَرِقِ إلاَّ مِثْلًا بمِثْلٍ، ولا تُشِفُّوا بعضَها على بعضٍ، ولا تَبيعُوا منها غائِبا بناجِزٍ". وفي رواية: "لا تَبيعُوا الذَّهبَ بالذَّهَبِ ولا الوَرِقَ بالوَرِقِ إلاَّ وَزنًا بِوَزنٍ". "وعنه أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبيعُوا الذهب بالذهب إلا مِثْلًا بمِثْل، ولا تُشْفُوا"، من باب الإفعال، الشَّفّ من الأضداد يُستعمل في النقصان والزيادة، وهنا بمعنى الزيادة بقرينة (على)؛ أي: لا تزيدوا في البيع. "بعضَها على بعض، ولا تبيعُوا الوَرِقَ بالوَرِق إلا مِثْلًا بمِثْل، ولا تُشْفُوا بعضَها على بعض، ولا تَبِيعوا منها"؛ أي: من الأشياء المذكورة. "غائبًا بناجِز"؛ يعني: نسيئةً بنقْد، والناجِزُ: هو الحاضر، وهذا يدلّ على تحريم النَّساء في الصَّرْف. "وفي رواية: لا تَبِيعوا الذهبَ بالذهب والوَرِقَ بالوَرِق إلا وزنًا بوزن"، اعتبار المماثلة بالوزن في الموزون.

2054 - وعن معْمَرِ بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنت أسمعُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الطَّعَامُ بالطَّعامِ مِثْلًا بمِثْلٍ". "وعن مَعْمَر بن عبد الله أنه قال: كنتُ أسمعُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: الطعامُ بالطعام"، وهو اسمٌ لمَا يُؤكَل، وقد يُطلَق على البُرِّ، فإن أريد به البُرُّ قيسَ غيرُه عليه عند اتفاق الجنس، وإنْ أُريدَ به ما يُطْعَم بحيث يَعُمُّ المشروبَ أيضًا حُمِلَ على إرادة اتفاق الجنس لقوله: "مِثْلًا بمِثْل". * * * 2055 - وعن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الذَّهَبُ بالذَّهَبِ رِبا إلاَّ هاءَ وهاءَ، والوَرِقُ بالوَرِقِ رِبًا إلاَّ هاءَ وهاءَ، والبُرُّ بالبُرِّ رِبًا إلاَّ هاءَ وهاءَ، والشَّعِيرُ بالشَّعِيرِ رِبًا إلاَّ هاءَ وهاء , والتَّمْرُ بالتَّمْرِ رِبًا إلاَّ هاءَ وهاءَ". "وعن عمرَ - رضي الله عنه - أنه قالَ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهبُ بالذَّهبِ رِبًا"، نصب تمييزًا أو حالًا. "إلا هاءَ وهاءَ": قيل: بالمد وفتح الهمزة، وهو الصواب، أصلُها هاكَ بمعنى خُذْ، فحُذِفت الكافُ وعُوِّضَ عنها المد والهمزة، يعني: لا يجوزُ بيعُ مالِ الربا إلا مقابضة بأن يقول البائع للمشتري: خُذ المبيع، ويقول المشتري للبائع: خذْ عِوَضَ المَبيعِ في الحال. "والوَرِق بالوَرِق رِبًا إلا هاءَ وهاء, والبُرُّ بالبُرِّ ربا إلاَّ هاء وهاء، والشعير بالشعير ربًا إلاَّ هاءَ وهاء, والتمر بالتمر ربًا إلا هاءَ وهاء".

2056 - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ وأبي هريرةَ - رضي الله عنهما - أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استعمَلَ رَجُلًا عَلَى أهلِ خَيْبَرَ، فجاءَهُ بتَمْرٍ جَنِيبٍ، فقال: "أكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكذا؟ " قال: لا والله يا رسُولَ الله، إنَّا لَناْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هذا بالصَّاعَيْنِ، والصَّاعَيْنِ بالثَّلاثَةِ، فقال: "لا تَفْعَلْ، بعْ الجَمْعَ بالدَّراهِم، ثُمَّ ابْتَعْ بالدَّراهِم جَنِيبًا". "عن أبي هريرة أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استعملَ رجلًا"؛ أي: جعلَه عاملًا وحاكمًا. "على خَيبر"؛ أي: على أهلِه. "فجاءه بتمرٍ جَنِيب"، نوع من أجود التمور بالحجاز. "فقال: أكلُّ تمرِ خيبر هكذا؟ قال: لا والله يا رسول الله! إنا لنأخُذُ الصَّاعَ مِن هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة فقال: لا تَفْعلْ"؛ أي: لا تشتر الجَنِيبَ بتمر آخرَ إلا مِثْلًا بمِثْل، وإن كان أحدُهما أجودَ من الآخر، بل إذا أردتَ أن تبيعَ أحدَهما بآخر متفاضلًا. "بع الجَمْعَ"؛ نوع من التمر الرديء. "بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جَنِيبًا". * * * 2057 - وعن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَ بِلالٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بتَمْرٍ بَرْنِيٍّ، فقالَ لَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: مِنْ أينَ هذا؟، قال: كانَ عِنْدَنًا تَمْر ردِيء فَبعْتُ مِنْهُ صاعَيْنِ بصاع، فقال: "أوَّهْ عَيْنُ الرِّبا، عَيْنُ الرِّبا، لا تَفْعَلْ، ولكنْ إذا أردْتَ أنْ تَشْتَرِي فَبعِ التَّمْرَ ببَيْعٍ آخَرَ ثُمَّ اشْتَرِ بِهِ". "وعن أبي سعيد أنه قال: جاء بلال إلى النبي - عليه الصلاة والسلام -

بتمر بُرْني"، نوع من التمر. "فقال له النبيُّ - عليه الصلاة والسلام -: مِن أين هذا؟ قال: كان عندنا تمر رديء، فبِعْتُ منه صاعين بصاعٍ، فقال: أوَّه"، بتشديد الواو وسكون الهاء، كلمة تحسُّرٍ وندامة على لحُوُقِ ضَرَرٍ بأحد. "عين الربا"؛ أي: هذا الفعل مَحْضُ الرِّبَا. "لا تفعلْ، ولكن إذا أردتَ أن تشتريَ فبع التمرَ ببيعٍ آخر، ثم اشترِ به"، وهذا يدلُّ أنَّ على مَن أراد أنْ يبدِّلَ شيئًا من مال الربا بجنسه متفاضلًا فلا يجوزُ حتى يبيعَه بغير جِنسه، ويقبضَ ما اشتراه ثم يبيعَه بأكثرَ مما دُفع إليه. * * * 2058 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَ عبدٌ فبايَعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - علَى الهِجْرَةِ فلم يَشْعُرْ أَنَّهُ عبدٌ فجاءَ سَيدُهُ يُريدُهُ، فَاشْتَرَاهُ بِعَبْدَيْنِ أَسْوَدينِ، ولمْ يُبايعْ أَحَدًا بعدَهُ حتَّى يسأَلهُ أَعَبْدٌ هُوَ أَمْ حُرٌّ. "عن جابر أنه قال: جاء عبدٌ فبايعَ النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - على الهِجرة"، ضمَّن بايعَ معنى عاهَد، وعدَّاه بـ (على). "ولم يَشْعُرْ أنه عبدٌ، فجاءَ سيدُه يريدُه، فاشتراه بعبدين أسودين"؛ يعني: دفع - عليه الصلاة والسلام - عبدين أسودين بدل ذلك العبدِ إلى سَيده، وهذا يدلُّ على أن بيعَ غيرِ مال الرِّبا يجوزُ متفاضلًا. "ولم يبايعْ"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام. "أحدًا بعدَه حتى يسألَه: أعبدٌ هو أم حر؟ ".

2059 - قال جابرٌ - رضي الله عنه -: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بَيع الصُّبْرَةِ مِنَ التَّمْرِ لا يُعْلَمُ مكِيلتها بالكَيْلِ المُسمَّى مِنَ التَّمْرِ. "وقال جابرٌ: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الصُّبْرة من التمر لا يُعلَم مكِيلتها"؛ أي: مقدارها. "بالكَيْل المسمَّى"؛ أي: المعلوم صفة الكيل. "من التَّمْر": حال منه، يعني: نهى عن بيع الصُّبْرة المجهولةِ مَكِيلَتُها بالصَّبْرة المعلومة مَكِيلَتُها من جنس واحد. * * * 2060 - عن فَضَالَةَ بن عُبَيْد - رضي الله عنه - قال: اشْتَرَيْتُ يومَ خَيْبَرَ قِلادَةً باثْنَيْ عَشَرَ دِينارًا، فيها ذَهَب وخَرَزٌ، ففصلْتُها، فوجدت فيها أكثرَ من اثْنَيْ عَشَرَ دِينارًا، فذكرتُ ذلك للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تُباعُ حَتَّى تُفصَلَ". "عن فَضَالةَ بن عُبيد أنه قال: اشتريتُ يومَ خيبرَ قلادةً باثني عَشَرَ دينارًا فيها ذهب وخَرَز، ففَصَلْتُها"؛ أي: مَيَّزْتُ الذهبَ من الخَرَز. "ووجدتُها أكثَر من اثني عشر دينارًا، فذكرتُ للنبي - عليه الصلاة والسلام - فقال: لا تُباع"؛ أي: القلادة. "حتى تُفصَل"؛ أي: تُميَّز ما فيها من الخَرَز، فإذا مُيزَ ذهبُها يباعُ بالذهب متماثلًا. * * * مِنَ الحِسَان: 2061 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليَأْتِيَنَّ علَى النَّاسِ

زَمانٌ لا يَبْقَى أَحَدٌ إلاَّ أكَلَ الرِّبا، فإنْ لم يَأكلْهُ أصابَهُ مِنْ بُخَارِه"، ويُروى: "مِنْ غُبَارِهِ". من الحسان: " عن أبي هريرة، عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ليأتينَّ على الناس زمانٌ لا يبقَى أحدٌ إلا أكل الرِّبا، فإنْ لم يأكله أصابَه مِن بُخَارِه، ويروى: من غُبَارِه"؛ يعني: يصِلُ إليه من إثمه بأن يكون شاهدًا في عَقْد الربا أو كاتبًا لقبالته، أو يأكل من ضيافةِ آكلي الربا أو مِن هَدِيَّتهِم مع علمه بأنه مالُ الربا. * * * 2062 - وعن عُبادةَ بن الصَّامِتِ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَبيعُوا الذَّهَبَ بالذَّهَبِ، ولا الوَرِقَ بالوَرِقِ، ولا البُرَّ بالبُرِّ، ولا الشَّعِيرَ بالشَّعِيرِ، ولا التَّمْرَ بالتَّمْرِ، ولا المِلْحَ بالمِلْح إلاَّ سَواءً بسَواءٍ, عَيْنًا بعَيْنٍ، يدًا بيدٍ، ولكِنْ بيعُوا الذَّهَبَ بالوَرِقِ، والوَرقَ بالذَّهَبِ، والبُرَّ بالشَّعِيرِ، والشَّعِيرِ بِالبُرِّ، والتَّمْرَ بالمِلْح، والمِلْحَ بالتَّمْرِ، يدًا بيَدٍ كيفَ شِئتمْ". "وعن عُبادةَ بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تَبِيعوا الذهبَ بالذهب، ولا الوَرِقَ بالوَرِق، ولا البُرَّ بالبُرِّ، ولا الشَّعِير بالشعير، ولا التَّمْرَ بالتمر، ولا المِلْح بالملح، إلا سواءً بسواء"؛ أي: مِثْلًا بمِثْل. "عينًا بعين"؛ أي: حاضرًا بحاضر. "يدًا بيد"، تأكيد لقوله: (عينًا بعين) من حيثُ المعنى؛ أي: ليكن قَبْضُ العِوَضَين في المجلس. "ولكن بِيعوا الذهبَ بالوَرِق، والوَرِقَ بالذَّهب، والبُرَّ بالشعير، والشَّعيرَ بالبُرِّ، والتمر بالمِلْح، والمِلْح بالتمر يدًا بيد كيف شئتم"؛ أي: يجوز التفاضُلُ

بين العِوَضَين إذا اختلفَ جِنْساهما مع التقابُض في المجلس. * * * 2063 - عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عنْ شِرَاءِ التمْرِ بالرُّطَبِ، فقال: "أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إذا جَفَّ؟ "، فقال: نعم، فنهاهُ عنْ ذلكَ. "عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عن شراء التَّمْر بالرُّطَب؟ فقال" - صلى الله عليه وسلم -: "أينقصُ الرُّطَبُ إذا يَبِس؟ ": استفهام على سبيل التقرير. "فقال: نعمَ، فنهاه عن ذلك": لأنهما ليسا متماثِلَين. * * * 2064 - وروى سعيدُ بن المُسَيب مُرْسلًا: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عنْ بَيع اللحم بالحَيَوانِ. قال سعيدٌ: كانَ مِنْ مَيْسِرِ أهْلِ الجَاهِليَّةِ. "وروى سعيدُ بن المُسَيَّب مرسَلًا أن النبيَّ - عليه الصلاة والسلام -: نهى عن بيع اللَّحْم بالحيوان، قال سعيد: كان مِن مَيْسرِ أهلِ الجاهلية"؛ أي: مِن فِعْلِهم، كانوا يُعطُون قطعةَ لحم بحيوان، والمَيْسِر في الأصل: القِمَار. وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد: لا يجوزُ بيع اللحمِ بالحيوان سواءٌ كان ذلك الحيوان مأكولًا أو لا، أو من جنس ذلك اللحم أو لا، وعندنا يجوزُ مطلَقًا. * * * 2065 - عن الحسنِ عن سَمُرَة - رضي الله عنهما - أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بَيعِ

الحَيَوانِ بالحَيَوانِ نسَيئَةً". "عن الحسن، عن سَمُرَة: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - نهى عن بَيعِ الحيوان بالحيوان نسَيئةً". قال الخَطَّابي: تأويلُه أن يكون كلٌّ من الحيوانيَنِ نسِيئةَ كقوله: بِعتُ منك فرسًا صفتُه كذا بفرسٍ أو جملٍ صفتُه كذا، فلا يجوزُ هذا البيعُ؛ لأنه بيعُ الدَّيْن بالدَّيْنِ، ويعني به ما يكون في الذِّمَّة، أما لو كان أحدهما حاضرًا والآخر في الذمة فيجوز عند الشافعي سواءٌ كانا من جنس واحد أو لا. وعند مالك: إن اختلفَ جنساهما جازَ، وإن اتفقَ لم يَجُزْ مطلَقًا، وعندنا لا يجوزُ مُطْلَقًا. * * * 2066 - وعن عبدِ الله بن عمرِو بن العاص - رضي الله عنهما -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَهُ أنْ يُجَهِّزَ جَيْشًا فَنَفَدَتِ الإبلُ، فأمَرَهُ أنْ ياْخُذَ على قَلائِصِ الصَّدَقَةِ، فكانَ يأْخُذَ البعيرَ بالبعيرَيْنِ إلى إبلِ الصَّدَقَةِ. "وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - أَمرَه أن يجهِّزَ جيشًا"؛ أي: يهيئ أسبابَهم من المراكب والسلاح. "فنَفَدَتِ الإبلُ"؛ أي: فنيتْ ولم يبقَ لبعضهم مركوبٌ. "فأمرَه"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام - عبدَ الله بن عمرو. "أن يأخذَ على قلائصِ الصدقة"، جمع قَلُوص وهي الفتيُّ من الإبل؛ أي: يستقرِض عددًا من الإبل حتى يتمَّ جَهَازُ ذلك الجيش ليردَّ بدلَها من إبل الزكاة. "وكان"، أي: عبد الله بن عمرو.

5 - باب المنهي عنها من البيوع

"يأخذُ البعيرَ بالبعيرين"، مؤجَّلًا "إلى" أوانِ أَخْذِ "إبلِ الصَّدَقة"، وكان ذلك معلومًا عندهم، وهذا يدلُّ على جواز سَلَم الحيوان به، ولو من جنسه متفاضلًا، وبه قال الشافعيُّ وأحمد. * * * 5 - باب المنهي عنها من البيوع (باب المنهيِّ عنها من البيوع) جمع على إرادة الأنواع، وهي على قسمين: أحدهما: ما يدلُّ على فساد العَقْد، وهو كل ما نهي عنه لخللٍ في نفس العَقْد. والثاني: ما نهي عنه لمجاورةِ ضرر إياه دون خَلَلٍ فيه. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 2067 - عن ابن عُمَرَ قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المُزَابنةِ: أَنْ يَبيعَ ثَمَرَ حَائِطِهِ إن كان نَخْلًا بِتَمْرٍ كَيلًا، وَإِنْ كان كَرْمًا أَنْ يَبيعَهُ بِزَبيبٍ كَيْلًا، وإنْ كان زَرْعًا أَنْ يَبيعَهُ بِكَيْلِ طَعَام، نهى عن ذلك كلِّهِ. ويُروى: المُزَابنةُ أَنْ يُبَاعَ ما في رؤوسِ النَّخْلِ بِتَمْرٍ بِكَيْلٍ مُسَمَّى إن زَادَ فَلِي وإنْ نَقَصَ فَعَلَيَّ.

"من الصحاح": " عن ابن عمرَ أنه قال: نهى رسولُ الله عن المزابنة"؛ وهو: "أن يبيعَ تمرَ حائِطه"؛ أي: بستانه "إنْ كانَ نخلًا بتمرٍ كَيْلًا، وإن كانَ كَرْمًا أن يبيعَه بزبيبٍ كيلًا، وإنْ كانَ زَرعًا أن يبيعَه بكيلِ طعامٍ"؛ أي: من الحنطة. وأصلُها من الزَّبن وهو الدَّفْع؛ لأن أحدَ المتبايعَين إذا غُبن أراد فسخَ العقد، والآخرُ إمضاءَه، فتزابنا؛ أي: تدافعَا فكأنَّ كلًا منهما يدفعُ صاحبَه عن حقِّه بالزيادة. "نهى عن ذلك كله"؛ لأن ما عليه يقدِرُ خرصًا وهو حَدْس وظنٌّ لا يؤمَنُ فيه مِن التفاوت. "ويروى: المزابنة: أن يباعَ ما في رؤوس النخلِ بتمرٍ بكيلٍ مسمَّى، إنْ زاد فلي، وإنْ نقصَ فعلَيَّ". * * * 2068 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ المُخابَرةِ والمُحاقَلَةِ والمُزابنةِ، فالمُحاقَلةُ: أَنْ يَبيعَ الرَّجُلُ الزَّرْعَ بمائَةِ فَرْقٍ حِنْطَةٍ، والمُزَابنةُ: أَنْ يَبيعَ التَّمرَ في رؤُوسِ النَّخْلِ بمائَةِ فَرَقٍ، والمُخابَرَةُ: كِراءُ الأرضِ بالثّلُثِ والرُّبعِ. "عن جابر أنه قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المخابرة والمحاقَلَة والمزابنة، فالمحاقَلَة أن يبيعَ الرجلُ الزرعَ" بعد اشتداد الحَبَّ. "بمئة فَرْقُ حِنْطَة": والفَرْق - بسكون الراء وفتحها -: مكيالٌ بالمدينة يسع ستةَ عشرَ رَطْلًا، والتقييد بالمئة للتَّمثيل وإنما نهى لأن الحنطةَ اليابسةَ بالحنطةِ

القائمةِ على الزرعِ لا يُعرَفُ يقينا أنهما متماثِلان. "والمزابنةُ أن يبيعَ التمرَ في رؤوس النخلِ بمئة فَرْق" تمرًا، وهذا لأنَّه بعد جفاف الرُّطَب لا يعرَف التماثُل أيضًا. "والمخابرةُ كِراءُ الأرضِ بالثلثِ أو الربع"؛ يعني: هو أن يعطيَ الرجلُ أرضَه إلى غيرِه ليزرعَها، والبذْر من الزَّارع ليأخذَ صاحبُ الأرضِ بكِرى أرضه ربعَ الغَلَّة أو ثلثها، وما أشبَه ذلك، مشقة من الجُزْء من الخُبرة - بالضم - وهي النصيب، وإنما فسدَ لجهالةِ الأجرة، أو لكونها معدومةً. * * * 2069 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن المحاقلةِ والمُزابنةِ والمُخابَرَةِ والمُعاوَمَةِ وعَنِ الثُّنْيَا، ورخَّصَ في العَرَايا. "عن جابِرِ أنه قال: نهى رسولُ الله عن المحاقَلَة والمزابنة والمخابرة والمعاوَمة"، مفاعلة من العام، وهو أن يبيعَ ثمرةَ بستانِه سنةً قبل أن تظهرَ ثمارُه، وقيل: أن يَبيعه بالسنتين أو ثلاثًا فصاعدًا، وهذا فاسد لأنه بيعُ ما لم يُخلَق. "وعن الثُّنْيا" - بضم الثاء وسكون النون -: اسمٌ من الاستثناء، وهو أن يَبيعَ ثمرةَ حائطه ويستثنيَ منه جزءًا غيرَ معلومِ القدرِ، فيفسدُ لجهالةِ المَبيع باستثناء غيرِ المعلوم منه. "ورخصَ في العَرَايا": جمع عَرِيَّة، فسَّرها الأكثرون ببيع الرّطَب والعنبِ على الشجر بالتمر والزبيبِ على وجه الأرض خَرْصًا بتقدير الجفاف بقدْرٍ معلومٍ، فهذا جائز، وبه قال الشافعي. وذلك لِمَا روي: أن فقراءَ المدينةِ جاؤوا إلى رسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم وقالوا: يا رسولَ الله قد نهيتَ عن بيعِ الرطَب بالتمر، وليس عندنا

الذهبُ والفِضَّة فنشتري به الرطبَ، ونشتهيه، فرخَّصَ لهم في ذلك. * * * 2070 - وعن سهلِ بن أبي حَثْمَةَ - رضي الله عنه - قال: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيع التَّمرِ بالتَّمْرِ، إلاَّ أنَّهُ رَخَّصَ في العَرِيَّةِ أَنْ تُباعَ بِخَرْصها تَمْرًا يأكُلُها أهلُها رُطَبًا. "وعن سهلِ بن أبي حَثْمَة أنه قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيع التمرِ بالتمر إلا أنه رَخَّص في العَرِيَّة أن تُباع بخَرْصِها"؛ أي: بقدْرها. "تمرًا يأكلُها أهلُها"؛ أي: أهل العَرِيَّة وهم مُلاَّكها القديمة. "رُطَبًا"، سُمِّيت عَرِيَّةً؛ لأنها عَرِيَتْ عن جملةِ التحريم؛ أي: خرجَتْ عنه، فعيلة بمعنى فاعلة. * * * 2071 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - "أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْخَصَ في بيعِ العَرايا بخَرْصِها من التَّمْرِ فيما دُونَ خَمْسَةِ أوسقٍ، أوْ في خَمْسةِ أوسقٍ، شكَّ داوُدُ". "وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أنه صلى الله تعالى عليه وسلم رخَّصَ في بيعِ العَرايا بخَرْصها من التمر فيما دون خمسة أَوْسُق"، الوَسْق: ستون صاعًا كلُّ صاعٍ أربعةُ أمداد، يحتملُ أن تكون هذه لقومِ بلغَ مقدارُ خَرْصِهم في العَرِيَّة هذا المقدار. "أو في خمسة أَوْسُق، شكَّ داود" في أنه سمعَ خمسةَ أوسُق، أو دون خَمسةِ أَوْسُق، قيل: هو داود بن قيس، وقيل: داود بن أبي هند، وقيل: داود بن الحصين، وهو يَروي عن أبي سفيان مولى ابن أحمدَ عن أبي هريرة.

2072 - عن عبدِ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما -: "نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيع الثِّمارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُها، نهى البائِعَ والمُشْتَرِي" ويروى: "نهى عَنْ بَيع النَّخْلِ حتَّى تَزْهُوَ، وعَنِ السُّنْبُلِ حتَّى يَبْيَضَّ ويأمَنَ العاهَةَ". "وعن عبدِ الله بن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيعِ الثمارِ حتى يبدوَ صلاحُها"، وبهذا منعَ الشافعيُّ بيعَ الثمارِ قبلَ ظهور الصلاحِ؛ أي: قبلَ الانتفاعِ بها؛ لأنها لا يؤمَن هلاكُها بورود آفة عليها لصغرِها وضعفِها، وإذا تلفت لم يبقَ للمشتري في مقابلة الثمنِ شيءٌ. "نهى البائعَ" عن هذا البيع كي لا يكونَ أخذ مال المشتري لا بمقابلةِ شيءٍ مُسَلَّم. "والمشتريَ" عن هذا الشّرَى كي لا يتلفَ ثمنه بتقدير تلفِ الثمار. "ويروى: نهى عن بيع النخل حتى تزهوَ"؛ أي: تحمَرَّ، وذلك أمارة الصلاح فيها، ودليلُ خلاصها. "وعن السنبل حتى يبيضَّ"؛ أي: اشتدَّ حبُّه. "ويأمن العاهةَ"؛ أي: الآفةَ، وهذا يدلُّ على جوازِ بيعِ الحبِّ في سنبلهِ إذا اشتدَّ، وبه قلنا، ومالك بن أنس تشبيهًا بالجَوز واللَّوز: يباعان في قشريهما. وقال الشافعي: لا يجوزُ؛ للنهيِ عن الغرر. * * * 2073 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَيع الثِّمارِ حتَّى تُزْهِيَ. قيل: وما تُزْهِي؟ قال: حتَّى تحمَرَّ. قال: أَرَأَيْتَ إذا منعَ الله الثَّمَرَةَ بِمَ يَأْخُذُ أحدكم مالَ أَخِيهِ؟ ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن

بيع الثمارِ حتى تُزْهيَ قيل: وما تُزْهِي؛"، يجوز أن يكونَ حكايةَ قولِ الرسول - عليه الصلاة والسلام -؛ أي: ما معنى قولك حتى تُزْهي. "قال: حتى يحمرَّ، قال"؛ أي: النبيُّ - عليه الصلاة والسلام -: "أرأيتَ"؛ أي: أخبرني: "إذا منعَ الله الثمرةَ": بإرسال الآفةِ، وتَلَفِتْ. "بم يأخذ أحدكم مال أخيه؛": استفهام للإنكار؛ أي: كيف يجوز له ذلك ولم يحصل للمشتري بمقابلة الثمن نفعٌ؟ * * * 2074 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: "نَهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيع السِّنِينَ، وأمَرَ بوَضْعِ الجَوَائِحِ". "عن جابر - رضي الله عنه -: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيعِ السِّنين"؛ أي: عن بيع ثمار السنين وهي المُعَاوَمة. "وأمر بوضع الجوائح" جمع جائحة وهي الآفة المستأصلة تُصيب الثمار ونحوها فتهلكها؛ أي: أمرَ بأن يترك البائع ثمنَ ما تلف، وهذا أمرُ ندبٍ عند الأكثر؛ لأن ما أصاب المبيعَ بعد القبض فهو من ضمان المشتري. وعن مالك: إن كانت الجائحةُ دونَ الثلثِ فهو من مال المشتري، وإلا فَمِنْ مال البائع، وعنه أيضًا: تركُ ثلُثِ الثمن. قال الطحاوي: هذا في الأراضي الخَرَاجية، وحكمُها إلى الإمام بوضع الجوائح عنهم لِمَا فيه من مصالح المسلمين ببقاء العمارة.

2075 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَوْ بعْتَ مِنْ أَخِيكَ ثَمرًا فأصابَتْهُ جائِحَة فلا يَحِلُّ لكَ أَنْ تأخُذَ مِنْهُ شَيئًا، بمَ تأخُذُ مالَ أَخِيكَ بغَيرِ حَقّ؟ ". "وعنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو بعتَ من أخيكَ ثَمَرًا فأصابته جائحة فلا يَحِلُّ لك أنْ تأخذَ منه شيئًا" يُحمل على ما إذا لم يَقْبضِ المُشتري الثِّمار، وعلى تقدير قبضه: يؤوَّل على التهديد، أو معناه: لا يحِلُّ في الورع والتقوى. "بم تأخذ مال أخيك بغير حق". * * * 2076 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: "كانُوا يَبْتَاعُونَ الطَّعامَ في أعلَى السُّوقِ فَيَبيعُونه في مكانِهِ، فَنهاهُمْ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَبيعُوهُ في مكانِهِ حتَّى يَنْقُلُوه". "عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كانوا يبتاعون (¬1) "؛ أي: يشترون الطعام "في أعلى السوق"؛ أي: في الناحية العليا منها، "فيبيعونه"؛ أي: ذلك الطعام، الفاء للتعقيب (¬2)، "في مكانه، فنهاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يبيعوه"؛ أي: عن أن يبيعوا ذلك الطعام "في مكانه حتى ينقلوه" يدلُّ على أن قبض المنقول بالنقل والتحويل من موضع إلى موضعٍ آخر. * * * 2077 - وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "مَنِ ابتَاعَ طَعامًا فلا يَبعْهُ حَتَّى ¬

_ (¬1) في "غ": "يتبايعون". (¬2) "الفاء للتعقيب" ليست في "غ".

يَسْتَوْفيه" ويُروى: "حَتَّى يَكْتَالَه". "وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: منِ ابتاعَ طعامًا"؛ أي: اشتراه "فلا يبعه حتى يستوفيه"؛ أي: يقبضه، "ويروى: حتى يكتالَه"؛ أي: يأخذه بالكَيل. * * * 2078 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: "أمَّا الذِي نهَى عَنْهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فهو الطَّعامُ أنْ يُباعَ حتَّى يُقْبَضَ. ولا أَحْسِبُ كُلَّ شَيءٍ إلاَّ مِثلَهُ". "وقال ابن عباس: أمَّا الذي نهى عنه النبئ عليه الصلاة والسلام فهو الطعام أن يُباع"؛ أي: عن أن يباع، "حتى يُقبض، ولا أحسب"؛ أي: لا أظن "كل شيء إلا مثله"؛ أي: مثل الطعام في أنَّه لا يجوزُ للمشتري أن يبيعَه حتى يَقْبضَه، والأظهر أنه من قول ابن عباس. * * * 2079 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تلَقَّوْا الرُّكبانَ لِبَيعٍ، ولا يَبعْ بعضُكُمْ على بَيْعِ بعضٍ، ولا تناجَشُوا ولا يَبعْ حاضر لبادٍ، ولا تُصَرُّوا الإبلَ والغَنَمَ، فَمَنِ ابْتَاعَهَا بعدَ ذلكَ فهوَ بخَيْرِ النَّظَرَيْن بعدَ أَنْ يَحْلُبَها، إنْ رَضيَهَا أَمْسَكَها، وإنْ سَخِطَهَا رَدَّها وصاعًا مِنْ التَّمرِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: إن رسولَ الله عليه الصلاة والسلام قال: لا تَلقَّوا الرُّكبان لبيع"؛ يعني: إذا وقع الخبرُ بقدوم عَيرٍ بمتاع فلا تستقبلوهم لتشتروا من مَتاعهم بأرخصَ قبلَ أن يقدُموا السُّوقَ ويعرفوا سعرَ البلد، نهى عنه للخَديعة والضَّرر. "ولا يبيع بعضُكم على بيع بعض" وهو أن يقول لمن اشترى شيئًا بالخيار:

افسخْ هذا البيعَ وأنا أبيعُك مثلَه بأرخصَ مِنْ ثمنِه، أو أجودَ منه بثمنه. قيل: النهيُ مخصوصٌ بما إذا لم يكن فيه غُبن، فإذا كان فله أن يدعوه إلى الفَسخ ليبيعَ منه بأرخصَ دفعًا للضَّرر عنه. "ولا تناجشوا" بحذف أحد التاءين، من النَّجْش وهو رفع قيمةِ السِّلعة من غير رغبة فيها لخدع المشتري، وترغيبه، ونفعِ صاحبها. "ولا يبعْ حاضرٌ" أراد به مَنْ كان [من] أهل البلد "لباد" أراد به مَنْ كان من أهل البادية، كما إذا جاء البدويُّ بالطعام إلى البلد ليبيعَه بسعرِ يومِه ويرجع فيتوكَّل البلديُّ عنه ليبيعه بالسعر الغالي على التدريج، وهي حرامٌ عند الشافعيِّ، ومكروه عند أبي حنيفة، وإنما نهى عنه لأنَّ فيه سدَّ أبوابِ المرافق على ذوي البَياعات. "ولا تُصرُّوا الإبل والغنم" من التَّصْرية وهو أن يَشُدَّ الضَّرع قبل البيع أيامًا ليظنَّ المشتري أنه لَبون فيزيد في الثمن، ومعنى النهي الخِداع. "فمن ابتاعها"؛ أي: اشتراها "بعد ذلك" التصرية "فهو بخير النَّظَرين"؛ أي (¬1): من الإمساك والرَّد "بعد أن يَحْلِبها إنْ رَضيَها أمسكَها وإنْ سَخِطَها"؛ أي: لم يرضَ بها "ردَّها وصاعًا مِنْ تمر" عوضًا من اللَّبن، وبه قال الشافعيُّ وأحمد. * * * 2080 - ورُوِيَ: "مَنِ اشْتَرى شاةً مُصَرَّاةً فهوَ بالخِيارِ ثلاثةَ إيامٍ، فإِنْ رَدَّهَا ردَّ مَعَها صاعًا مِنْ طَعامٍ لا سَمْرَاءَ". ¬

_ (¬1) "أي" ليست في "غ".

"ويروى: مَنِ اشْترى شاةً مُصَرَّاةً فهو بالخيار ثلاثةَ أيام" وبهذا قيل: خيار التَّصْرية يتقدَّر بالثلاثة حتى لو عَلِمَ قبل مُضي الثلاثة فله الخيار إلى تَمامها؛ لأنَّ الوقوفَ عليها قلَّما يكون في أقلَّ منها، إذِ النقصانُ في مُدَّتها قد يكون من اختلاف اليد وتبدُّل المكان. وقيل: لا تأخيرَ له بعد العلم بالتصرية، فإن أخر يسقطُ الرَّد وهو القياس؛ لأنه خيارُ العيبِ، والتقديرُ بالثلاثة على الغالب. "فإنْ ردَّها ردَّ معها صاعًا من طعام"؛ أي من تمر "لا سمراء" وهي الحِنطة، فيه دليلٌ على أنه لا يجوزُ غير التمر وإنْ رضي به البائعُ، وإنما تعيَّن لأنَّ طعامهم كان هو التمر واللبن غالبًا، فأقام التَّمر مقامَ اللبن لذلك، وقيل: يجوزُ غيرُه برضا البائعِ، فكأنه استبدل عن حقّه. * * * 2081 - وقال: "لا تَلَقَّوُا الجَلَبَ، فَمَنْ تلقَّاهُ فَاشْتَرَى مِنْهُ، فإذا أتى سيدُهُ السُّوقَ فهوَ بالخِيَارِ". "وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تلقَّوا الجَلَب" بفتحتين بمعنى المَجْلوب من الإبل والبقر والغنم والعبيد، يُجْلَب من بلد إلى بلد للتجارة. "فمن تلقَّاه فاشترى منه، فإذا أتى سيدَه"؛ أي: صاحب الجَلَب "السوق"، واطلع على السعر "فهو بالخيار" في الاسترداد. وفيه دليلٌ على صحة البيع، إذ الفاسدُ لا خيارَ فيه، أمَّا إذا كان سعرُه أعلى، أو كسعرِ البلد؛ ففيه وجهان: في وجهٍ يثبُتُ له الخيار لإطلاق الحديث، والأصحُّ أنه لا خيارَ له لعدم الغُبن.

2082 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تلَقَّوْا السِّلَعَ حَتَّى يُهبَطَ بها إلى السُّوقِ". "وعن ابن عمرَ - رضي الله عنه -: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تلقَّوا السِّلَع" جمع سِلعة وهي المَتَاع. "حتى يُهْبَط" على صيغة المجهول؛ أي: يُنْزَل بها "إلى السوق" والباء للتعدية؛ أي: حتى يُسْقِطها عن ظهر الدوابِّ في السوق. * * * 2083 - وقال "لا يَبعْ أحدُكُم على بَيع أخِيهِ، ولا يَخْطُبِ الرَّجُلُ على خِطْبةِ أخِيهِ حتَّى يترُكَ الخاطِبُ قبلَهُ أو ياْذَنَ لهُ الخاطِبُ". "وعن ابن عمرَ - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبيعُ أحدكم على بيع أخيه، ولا يخطِب الرجلُ على خِطْبة أخيه" وهي أن يَخْطِب الرجلُ امرأة وأجابت هي أو وليُّها= ليس لغيره أنْ يَخْطِبها. "حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له لهُ الخاطِبُ" قيل: فيه دليلٌ على جواز الخطبة على خطبة الكافر؛ لقطعه - تعالى - الأخوةَ بين المسلم والكافر، وذهب الجمهور إلى منعه؛ حملًا للأخوة على الأعم وهو الأخوةُ من جهة كونهم من بني آدم. * * * 2084 - وقال: "لا يَسُمِ الرَّجُلُ على سَوْمِ أخِيهِ المُسلم". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يَسُمِ الرجلُ على سَوم أخيه المسلم" وهو أن يزيد في الثمن بعد تقرير البيع لإرادة الشراء، فهذا مكروهٌ

ولكنَّ البيعَ صحيح. * * * 2085 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَبيعُ حاضرٌ لبادٍ، دَعُوا النَّاسَ يَرْزُقُ الله بعضَهُم منْ بعضٍ". "وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبيعُ حاضرٌ لبادٍ، دعُوا النَّاس"، أي: اتركوهم ليبيعوا متاعَهم رخيصًا "يرزق الله بعضهم من بعض". * * * 2086 - وعن أبي سعيدٍ الخدريِّ - رضي الله عنه - قال: نهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ لِبْسَتَيْنِ وعنْ بَيْعَتَيْن، نهَى عَنِ المُلامَسَةِ والمُنابَذَةِ في البَيعِ، والمُلامَسَةُ لَمْسُ الرَّجُلِ ثَوْبَ الآخَرِ بيَدِه باللَّيل أو بالنهارِ ولا يُقَلِّبُهُ إلاَّ بذلِكَ، والمُنابَذَةُ أنْ يَنْبذَ الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ بثَوْبهِ وينبذَ الآخر ثَوْبَهُ، ويكُونَ ذلكَ بَيْعَهُما عنْ غير نَظَرٍ ولا تَراضٍ، واللِّبْسَتَيْنِ: اشْتِمالُ الصَّمَّاءِ، والصَّمَّاءُ أنْ يجعلَ ثوْبَهُ على أحَدِ عاتِقَيْهِ فيَبْدُوَ أحَدُ شِقَّيْهِ ليسَ عليهِ ثوبٌ، واللِّبْسَةُ الأُخرَى احتِباؤُهُ بثَوْبهِ وهو جالِس ليسَ على فرجِهِ منهُ شَيءٌ. "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن لِبستين" أراد بهما لِبسةَ الصَّمَّاء ولِبسة الاحتِباء "وعن بيعتين" أراد بهما بيعَ الملامسةِ وبيعَ المنابذة. "نهى عن الملامسة والمنابذة في البيع، والملامسةُ: لمسُ الرجلِ ثوبَ الآخر بيده بالليل أو بالنهار ولا يقلبه إلا بذلك" اللمسِ من غير أن يجريَ بينهما إيجابٌ وقَبول في اللفظ.

"والمنابذة: أن ينبذَ الرجلُ إلى الرجل بثوبه" الباء زائدة؛ أي: يلقيه إليه "وينبذ الآخر بثوبه ويكون ذلك"؛ أي: تنبيذُ كلٍّ منهما ثوبَه إلى الآخر. "بيعهما من غير نظر" بالبصر كل واحد ثوب الآخر، وقيل: بلا تأمّل، "ولا تراض" بالإيجاب والقَبول، وكان هذان من بُيوع الجاهلية، فنهى عليه الصلاة والسلام عنهما لِمَا فيهما من الغرَّر وهو ما خَفِيَ عليك علمُه. "واللِّبستين: اشتمال الصَّمَّاء، والصَّماء: أن يجعلَ ثوبَه على أحد عاتقيه فيبدو أحدُ شِقَّيه ليس عليه ثوبٌ، واللِّبسة الأخرى: اختباؤه بثوبه وهو جالس"، يقال: احتبى الرجل: إذا جمع ظهره وساقيه جالسًا على مَقْعده "ليس على فرجه منه شيء"، إنما نهى عنهما لكراهة التكشف وإبداء العَورة، وهذان من لبس أهل الجاهلية. * * * 2087 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: نهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيع الحَصاةِ وعَنْ بَيع الغَرَرِ. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيع الحَصَاة" وهو أن يقول المشتري للبائع: إذا نبَذْتُ إليك الحَصَاةَ فقد وجبَ البيعُ، أو يقولُ البائعُ: بعتُكَ من السِّلَع ما تقعُ عليه حَصَاتُكَ إذا رَمَيتَ بها، أو مِنَ الأرض إلى حيثُ تنتهي حصاتُكَ، وهذا أيضًا من بُيوع الجاهلية. "وعن بيع الغرر" وهو الخطرُ الذي لا يدري أيكون أم لا؛ كبيع الطَّير في الهواء، والسَّمك في الماء، والعبد الآبق، والغائب، والمجهول من الغِرة - بالكسر -: الغفلة، وقيل: من الغرور، فهذا كله فاسد للجهل بالمبيع والعجز عن تسليمه.

2088 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: "نهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ حَبَلِ الحَبَلةِ، وكانَ بَيْعًا يتَبايَعُهُ أهلُ الجاهِليَّةِ، كانَ الرجُلُ يَبْتاعُ الجَزُورَ إلى أنْ تُنْتَجَ الناقةُ، ثمَّ تُنْتَجُ التي في بَطنِها". "عن ابن عمر قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع حَبَلِ الحَبَلة" بالتحريك فيهما، مصدرٌ سُمِّي به المجهول كما سمِّي بالحَمْل، والتاء للمبالغة وللإشعار بالأنوثة؛ لأن معناه: أن يبيع ما سوف يحمله الجنين الذي في بطن الناقة على تقدير أن يكون أنثى، ونهى عنه لأنه غرر، وبيع شيء لم يُخْلَق بعدُ، وهو نِتاج النِّتاج، أو أنْ يبيعَ إلى أجل يَنتُج فيه الحملُ الذي في بطن الناقة. "وكان بيعًا يتبايعه أهلُ الجاهلية؛ كان الرجلُ يَبتاع"؛ أي: يشتري "الجَزور" من الإبل، وهو يقعُ على الذَّكر والأنثى. "إلى أن تنتج الناقة ثم تنتج التي في بطنها"؛ أي: ولد ولدِها، وهذا باطل لأنه مؤجَّل بمجهول. * * * 2089 - وقال: نهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن عَسْبِ الفَحْلِ. "وعن ابن عمر: أنه قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن عَسْب الفحل" وهو ضرَابُه، والمراد هنا: الكِراء المأخوذ على ضرابه على حذف المضاف؛ أي: عن كِراء عَسْب الفَحْل، نهى عنه للغَرر؛ لأنَّ الفحل قد يَضْرِب وقد لا يَضْرِب، وقد لا يلقّح الأنثى، وبهذا ذهبَ الأكثرُ إلى تحريمه. * * * 2090 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: نهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَيْعِ ضرابِ الجَمَلِ،

وعَنْ بَيْعِ الماءَ والأرضِ لِتُحْرَثَ. "وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن بيع ضراب الجَمل" بكسر الضاد: نزوان الفحل على الأنثى. "وعن بيع الماء والأرض لتُحرث" وهو أنْ يُعطي الرجلُ أرضَه والماء التي لتلك الأرضِ أحدًا ليكونَ منه الأرضُ والماء ومن الآخر البَذْر والحِراثة؛ ليأخذَ صاحبُ الأرضِ بعد الحاصل من الحُبوب وهو المُخَابرة. * * * 2091 - وقال: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيع فَضْلِ الماء. "وعنه: أنه قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فَضْلِ الماء"، والمراد بيعُه ممن أرادَ أن يَشْربَ أو يسقي دابَته، فأمَّا مَنْ أرادَ أن يَسْقِيَ زَرعًا فله البيعُ منه. * * * 2092 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُباعُ فَضْلُ الماءَ ليُباعَ بهِ الكَلأ". "وعن أبي هريرة: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يُباع فَضْلُ الماءَ ليُباع به الكَلأ" بالقصر والهمزة. قال الخطابي: تأويله: أن رجلًا إذا حفر بئرًا في مَوات فيملكها بالإحياء فإذا جاء قوم لينزلوا في ذلك الموات ويرعوا نباتَها وليس هناك ماء إلا تلك البئر، فلا يجوز له أن يمنع أولئك القوم من شرب ذلك الماء؛ لأنه لو منعهم منه لا يُمكنهم رعيُ ذلك المَوات، فكأنَّه منعهم عنه، وذا لا يجوز، ولا يجوز له أخذُ الثمن من ذلك الماء؛ أي: لا يباع فضلُه ليصيرَ به كالبائع للكَلأ؛ لأن الواردَ

حولَ ماءِ أحدٍ للرَّعي إذا منعه عن الورود إلا بعِوَضٍ اضطرَّ إلى شرائه، فيصيرُ كَمَن اشترى الكَلأ لأجل الماء. وقيل: معناه: لا يُباع فضلُ الماء فيكون القصدُ في بيعه وعدم بذله مجانًا بيع الكَلأ الحاصل به، قيل: هذا النهي للتحريم، وقيل: حَمْلُه على الكراهية أولى. * * * 2093 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ عَلَى صبْرَةِ طَعامٍ فأدْخَلَ يَدَهُ فيها، فنالَتْ أصابعُهُ بلَلًا، فقالَ: "ما هذا يا صاحِبَ الطَّعامِ؟ "، قال: أصابَتْهُ السَّماءُ يا رسُولَ الله، قال: "أفلا جعَلْتَهُ فوقَ الطَّعامِ حتَّى يراهُ النَّاسُ، مَنْ غشَّ فليسَ مِنِّي". "وعنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مَرَّ على صبْرة طعامٍ فأدخلَ يدَه فيها، فنالت أصابعُه بَلَلًا فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء"؛ أي: المطر "يا رسول الله، قال: أفلا جعلتَه فوقَ الطعام حتى يراه الناسُ، مَنْ غش (¬1) "، الغِشُّ: سَترُ حالٍ على أحد كفعل هذا الرجل. "فليس مني (¬2) "؛ أي: ليس هذا من أخلاقنا وأفعالنا، أو: ليس هو على سنَّتنا وطريقتنا في مُناصحة الإخوان. * * * مِنَ الحِسَان: 2094 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عَنِ الثُّنْيا إلاَّ أنْ يُعلَمَ. ¬

_ (¬1) في "غ": "غشنا". (¬2) في "غ": "منا".

"من الحسان": " عن جابر - رضي الله عنه -: أنه قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الثُّنيا"، تقدم بيانه، "إلا أن يعلم"؛ أي: يكون المستثنى معلومًا كالثُّلث أو الربع، فيجوز البيعُ في هذا. * * * 2095 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: "نهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَيع التَّمرِ حتَّى تَزْهُوَ، وعنْ بَيع العِنَبِ حتى يَسْوَدَّ، وعنْ بَيع الحَبِّ حتَّى يَشْتَدَّ". (غريب). "عن أنس - رضي الله عنه - قال: نهى النبيُّ عليه الصلاة والسلام عن بيع الثَّمر حتى يَزْهو، وعن بيع العنب حتى يَسْود، وعن بيع الحَبِّ حتى يَشْتَد" "غريب". * * * 2096 - وعن ابن عمرَ: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى عَنْ بَيع الكالئِ بالكالئِ. "عن ابن عمر: أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الكالئ بالكالى"، يقال: كلأ الدَّين كلؤ: إذا تأخَّر، فهو كالئ، معناه: بيع النسيئة بالنسيئة؛ مثل أن يشتريَ شيئًا إلى أجل فإذا حَلَّ ولم يجد ما يقضي به قال: بعْنيه إلى أجلِ آخر بزيادة شيء، فيبيعه منه من غير أن يجريَ بينهما تقايض. * * * 2097 - عن عَمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه - رضي الله عنه - قال: نهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعِ العُربانِ. "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن

بيع العُرْبان" وهو أن يشتري السّلعة ويدفع إلى صاحبها شيئًا، على أنه إِنْ مضى البيعُ حُسِبَ من الثمن، وإلا كان لصاحب السلعة والعُربان اسم لذلك الشيء المدفوع إليه، وكان ذلك بيع العرب، وهو باطلٌ لِمَا فيه من الشَّرط والغَرر. * * * 2098 - وعن عليٍّ قال: نهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَيع المُضْطَرِّينَ وعنْ بَيع الغَرَرِ. "وعن عليٍّ - رضي الله عنه - أنه قال: نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - عن بيع المُضْطرين" وهو أن يضطر إلى العقد إكراهًا عليه وهذا فاسد، أو يضطر لدين رَكِبَه أو مُؤنة تُرْهِقه فيعلمُ به المشتري، فلا يزال يتراغب عنه حتى يبيعَ ما في يده بالوَكْس والنَّجش للضرورة، وهذا جائز لكنه مكروه، والمروءة أن لا يبع عليه، بل يعاون بالإقراض والإمهال إلى الميسُرة، أو يشتري بالقيمة، "وبيع الغرر": مر معناه (¬1). * * * 2099 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - أن رجلًا سأل النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ عَسْبِ الفَحْلِ، فنهاهُ، فقال: إنَّا نطرِقُ الفَحْلَ فنكْرَمُ، فرَخَّصَ لَهُ في الكَرامَةِ. "عن أنس: أن رجلًا سأل النبي عليه الصلاة والسلام عن عَسْب الفحل، فنهاه، فقال"؛ أي: الرجل: "إنا نَطْرُق الفحل"؛ أي: نُعيره للضرَاب "فنكْرم" على صيغة المجهول؛ أي: يعطينا صاحبُ الأنثى شيئًا من المال من غير أن يَشْتَرِطَ أخذَ مال. ¬

_ (¬1) في "غ": "تقدم بيانه".

"فرخَّص له عليه الصلاة والسلام في الكرامة". * * * 2100 - وعن حَكيم بن حِزامٍ قال: نهاني رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَيْعِ ما ليسَ عِندِي. 2101 - وقال حَكيم: يا رسُولَ الله، يأتيني الرجُلُ فيُريدُ مني البَيْع ليسَ عِندي، فابتاعُ لهُ مِنَ السُّوقِ؟، قال: "لا تَبعْ ما ليسَ عِندَكَ". "وعن حكيم بن حِزام أنه قال: نهاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع ما ليس عندي، فقال حكيم: يا رسول الله! يأتيني الرجلُ فيريدُ مني البيعَ وليس عندي، فأبتاعُ له من السُّوق" يحتمل أمرين: أحدهما: أن يشتري له من أحد مَتاعًا فيكون دَلالًا، وهذا يَصِحُّ. والثاني: أن يبيعَ منه متاعًا لا يملِكه ثم يشتريه من مالكه ويدفعه إليه. "قال عليه الصلاة والسلام: لا تَبعْ ما ليس عندك" فهذا باطل؛ لأنه باعَ ما ليس في ملكه وقتَ البيع. * * * 2102 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعتين في بَيعة" معناه أن يقول: بعْتُ هذا منك بعشرة نقدًا، أو بعشرين نَسيئة إلى شهر، فالبيع باطل؛ لأن الثمنَ مجهولٌ، وأن يقول: بعتُ منك هذا العبدَ بعشرة على أن تبيعني جاريتَك بكذا، فهذا باطلٌ؛ لأنه بيع وشَرْطٌ.

2103 - وعن عمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه - رضي الله عنه - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيْعَتَيْنِ في بَيْعَةٍ صَفْقَةً واحِدةً. "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أنه قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بَيعتين في بيعة صَفقةً واحدةٍ" نُصب على المصدر، والصفقة: البيع، سُمّي العقدُ بيعاً وصفقة لأن عادة العرب عند البيع ضربُ كل واحد من المتعاقدَين يدَه على صاحبه. * * * 2104 - وقال: "لا يَحِلُّ سَلَفٌ وبَيعٌ، ولا شَرْطانِ في بَيع، ولا رِبحُ ما لمْ يُضْمَنْ، ولا بَيع ما ليسَ عِندَكَ". (صحيح). "وعن عَمرو بن العاص أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يَحِلُّ سَلَفٌ وبيع" والمراد بالسَّلَف القرض؛ مثل أن يقول: بعتُك هذا الثوب بعشرة دراهم على أن تُقْرِضَني مائةَ درهم، فالبيعُ فاسد. وقيل: هو أن يُقْرِضَ قرضاً ويبيعَ منه شيئاً بأكثرَ من قيمته فإنه حرامٌ، لأنَّ قرضه رَوَّجَ متاعَه بهذا الثمن. "ولا شرطان في بيع" معناه أن يقول: بعتُكَ ثوبي هذا بكذا وعليَّ قَصَارتُه وخِياطَتُه، فهذا فاسدٌ، لا فرقَ بين شرطين أو شرط في الجهالة بالثمن عند سُقوط الشرط، وجوَّز أحمدُ الشرطَ الواحدَ بناءً على مفهومه. "ولا رِبْح ما لم يُضْمن" وهو أن يبيع ما اشتراه قبلَ القبض، فإنه لا يَصِحُّ لأنه لم يدخل في ضمانه بالقبض. "ولا تَبعْ ما ليس عندك" مر معناه، "صحيح". * * *

2105 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: كنتُ أَبيعُ الإبلَ بالبقِيعِ بالدَّنانيرِ، فآخذُ مكانهَا الدَّراهِمَ، وأَبيعُ بالدَّراهِم وآخُذُ مكانهَا الدنانيرَ، فأتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ ذلكَ لهُ، فقال: "لا بأسَ بأنْ تأخُذَها بسِعْرِ يومِها ما لَمْ تتَفَرقَا وبينَكُما شيء". "وعن ابن عمر أنه قال: كنتُ أبيع الإبل بالنَّقِيع" بالنون والقاف، موضع قريب من المدينة، كان يستنقع فيه الماء؛ أي: يجتمع وينبُت العشب عند نُضُوبه. "بالدنانير فآخذُ مكانهَا"؛ أي: مكانَ الدنانير "الدراهم، وأبيعُ بالدراهم فآخذ مكانها الدنانير، فأتيتُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام فذكرتُ ذلك له فقال: لا بأسَ أنْ تأخذَها" يدل على جواز استبدال النقد عن النقد وإن كان ثمناً "بسعر يومها"؟ أي: بلا ربح "ما لم تفترقا وبينكما شيء"؛ أي: يشترط قبض العِوضين في المجلس. * * * 2106 - عن العَدَّاءَ بن خالدِ بن هَوْذَةَ، أخرجَ كِتاباً: هذا ما اشترَى العَدَّاءُ بن خالدِ بن هَوْذَةَ منْ محمَّدٍ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، اشترَى منهُ عبداً أوْ أمَةً، لا داءَ ولا غائِلةَ ولا خِبْثةَ، بَيع المُسْلِم المُسْلِمَ. (غريب). "عن العَدَّاء بن خالد بن هَوذة: أخرج كتاباً"؛ أي: صَكاً كان مكتوباً فيه "هذا ما اشترى العَدَّاء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله؛ اشترى منه عبداً أو أمة" شكٌّ من الراوي "لا داء"؛ أي: يشترط أن لا يكون فيه داء، أرادَ به الجنون والجُذَام والبَرَصَ ونحوها مما يرد، وقيل: أراد به العيب الباطن. "ولا غائلة" فسرها بعضٌ بالمسروق، وبعضٌ بالزنا، وقيل: معناها: لا حيلة عليك في هذا البيع.

"ولا خِبثة" - بكسر الخاء -: نوع من الخَبيث الحرام؛ يعني: لا يكون من قوم لا يَحِلُّ سبيُهم لعهد وأمان أو حرية أصل. وقيل: الخبثة: ما يكون خبيثَ الأصل؛ بأن يكون ولدَ الزنا. "بيع" نصبٌ على المصدر وهو مضاف إلى الفاعل؛ أي: باعه بيع "المسلم المسلم"؛ أي: كما يجري بين المسلمين، أو رفع فعلى أنه خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: هذا بيع المسلم المسلم، أو بيع المسلم المسلم يكون هكذا، وليس في ذلك ما يدل على أن المسلم إذا باع عبدَ المسلم جاز له أن يعامِلَه بما يتضمن غُبناً أو خيانة، وإنما قال ذلك على سبيل المبالغة، فإن المسلم إذا بايع المسلم يرى له من النُّصح أكثرَ مما يرى لغيره، والحديث يدلُّ على جواز كتابة الصُّكوك. "غريب". * * * 2107 - عن أنس - صلى الله عليه وسلم - أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - باعَ حِلْساً وقَدَحاً، فقال: مَنْ يشتري هذا الحِلْسَ والقَدَح؟، فقال رجل: آخُذُهُما بدِرْهَم، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَزِيدُ على دِرْهَم؟ "، فأَعطاهُ رجل دِرْهَمَيْنِ فباعَهُما منهُ. "عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع حِلْساً" وهو الكِساء الرقيق الذي على ظهر البعير تحت القَتَب لا يفارقه. "وقدحاً"؛ أي: أراد بيعهما "فقال: مَنْ يشتري هذا الحِلْس والقَدَح؟ فقال رجل: أنا آخذهما بدِرهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: مَنْ يزيد على درهم فأعطاه رجل درهمين فباعهما منه" هذا يدل (¬1) على جواز الزيادة على ¬

_ (¬1) في "غ": "دليل".

فصل

الثمن إذا لم يرضَ البائعُ بما عيَّنه الطالبُ، وقصة هذا: أن رجلاً سأل النبيَّ عليه الصلاة والسلام صدقةً فقال له: "هل لكل شيء" فقال: ليس لي إلا حِلْس وقَدَح، فقال عليه الصلاة والسلام: "بعْهما وكُل ثمنَهما إذا لم يكن لك شيء فاسألِ الصَّدقة"، فباعهما عليه الصلاةُ والسلام. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: 2108 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنها - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ ابْتاعَ نَخْلاً بعدَ أن تُؤبَّرَ فثمَرتها للبائِعِ إلاَّ أنْ يشتَرِطَ المُبْتاعُ، ومَنِ ابْتاعَ عَبداً ولهُ مالٌ؛ فمالُهُ للبائِعِ إلاَّ أنْ يشتَرِطَ المُبْتاعُ". (فصل) "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنها -: أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنِ ابتاعَ نَخْلاً بعدَ أنْ تؤبَّر"، التأبير: أن يَشُقَّ طَلْع النَّخل ويُوضع فيه شيء مِنْ طَلْع فِحَال النخل، فيكون ذلك لقاحاً وصلاحاً للثمرة بإذن الله تعالى. "فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المُبتاع "؛ أي: المشتري بأن يقول: اشتريت النخلةَ بثمرتها هذه، وكذلك في غير المؤبَّرة عندنا. وقال الشافعي ومالك في غير المؤبَّرة: تكون الثمرةُ للمشتري إلا أنْ يشترطَها البائعُ لنفسه بمفهوم المخالفة من الحديث. "ومَنِ ابتاعَ عبداً وله مال فماله للبائع" إضافةُ المالِ إلى العبد للملابسة بينهما؛ لكونه في يده لا للملك، يدل عليه إضافة المال إليهما لأنه يمتنع أنْ

يكونَ شيء واحد في حالة واحدة مِلْكَ اثنين، "إلا أن يشترط المبتاع" بأن يقول: اشتريت العبد مع ماله، وكذلك الحكمُ في الجارية. * * * 2109 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّه كانَ يَسيرُ على جَمَلٍ لهُ قَدْ أعْيا، فمرَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فضَرَبَهُ، فسارَ سَيْراً ليسَ يَسِيرُ مثلَهُ، ثُمَّ قال: "بعْنِيهِ بوُقيَّةٍ". قال: فبعْتُهُ فاسْتَثْنَيْتُ حُمْلانه إلى أهْلي، فلمَّا قَدِمْتُ المدِينةَ أتيتُهُ بالجمَلِ ونقَدَني ثمنَهُ. ويُروى: فأعطاني ثمنَهُ وردَّهُ عليَّ. ورُوي: أنَّهُ قالَ لِبلالٍ: "اقْضهِ وزِدْه"، فأعْطاهُ وزادَهُ قِيرَاطاً. "وعن جابر - رضي الله عنه -: أنه كان يسير على جمل له قد أعيا" يجيء لازماً ومتعدياً؛ أي: صار ذا عَي عن السَّير، أو أصابه العَيُّ وهو العَجْز. "فمر النبيُّ عليه الصلاة والسلام به فضربه فسار" ببركة يدِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام "سيراً ليس يسير مثله، ثم قال: بعْنيه بوقيَّة" وهو اسم لأربعين درهماً. "قال فبعته فاستثنيت حُمْلانه" مصدر حَمَله يَحْمِلُه حُملاناً؛ أي: شرطت أن أحمله رحلي ومتاعي "إلى أهلي" بالمدينة، فَرَضيَ عليه الصلاة والسلام بهذا الشرط. احتج أحمد بهذا على جواز بيع دابة واستثناء ظهرِها لنفسه مدةً مع لزومها لشرط عندنا، والشافعي: أنه خاص لجابر ولا يجوز لغيره، أو أنه كان الاستثناءُ بعد وجوب البيع، فأعاره النبيُّ عليه الصلاة والسلام، أو أنه لم يَجْرِ بينهما حقيقة بيع، إذ لا قبض ولا تسليم، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام أن ينفعَه بشيء فاتخذ بيعَ الجمل ذريعةً إلى ذلك؛ بدليل قوله عليه الصلاة والسلام عند إعطاء

الوقيَّة: "ما كنت لآخذ جَمَلَك، فخُذْ جملك فهو مالك". "فلما قدمت المدينة أتيته بالجمل ونَقَدني ثمنه. ويروى: فأعطاني ثمنَه وردَّه عليَّ. وروي أنه قال لبلال: اقْضه وزِدْه، فأعطاه وزاده قيراطاً" وهو نصف دانق، والدَّانق سدس درهم. * * * 2110 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: جاءتْ بَريرَةُ فقالتْ: إنِّي كاتَبْتُ على تِسْعِ أَواقٍ في كُلِّ عامٍ وُقِيَّة فأعِينيني، فقالت عائشةُ: إنْ أحبَّ أهلُكِ أنْ أعُدَّها لهم عَدَّةً واحِدةً وأعْتِقَكِ فَعلتُ ويكونُ وَلاؤُكِ لي. فذهبَتْ إلى أهلِها، فأبَوْا إلاَّ أَنْ يكونَ الوَلاءُ لهُمْ. فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُذيها وأَعْتِقيها". ثُمَّ قامَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّاسِ فحمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثُمَّ قال: "أمَّا بعدُ، فما بالُ رجالٍ يَشْتَرِطُونَ شُروطاً ليسَتْ في كتابِ الله، ما كانَ مِنْ شَرْطٍ ليسَ في كتابِ الله فهوَ باطل وإنْ كانَ مائةَ شَرْط، فقضاءُ الله أَحَقُّ، وشَرْطُ الله أَوْثَقُ، وإنَّما الوَلاءُ لمنْ أَعْتَقَق". "وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: جاءت بَريرة فقالت: إنِّي كاتبت "؛ أي: قَبلْتُ الكتابةَ واشتريتُ نفسي. "على تسع أواق" جمع أوقية؛ "في كل عامٍ وقية فأعينيني" أمر مخاطبة من الإعانة؛ بمعنى النصرة، متصل به ضمير المفعول. "فقالت عائشة: إنْ أحبَّ أهلُك أن أعدَّها لهم"؛ أي: تسع أواق لأهلك "عدة واحدة" وإنما قالت: (أعدها)؛ لأن تعامل أهلِ المدينة قبلَ مَقْدَمِه - عليه الصلاة والسلام - بالدراهم كان كذلك إلى أنْ أرشدهم إلى الوزن.

"وأعتقك فعلت، ويكون ولاؤك لي، فذهبت إلى أهلها فأبَوْا إلا أن يكون الولاء لهم، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: خُذيها"؛ أي: اشتريها "وأعتقيها"، وفي رواية: "خذيها واشترطي لأهلها الولاء، فإنَّما الولاءُ لمن أعتق"، فظاهر الحديث يدل على جواز بيع رقبة المكاتَب، وبه قال مالك وأحمد، ومنعه الشافعيَّ وأوَّل الحديثَ بأنَ بريرة بيعت برضاها، وذلك فسخٌ للكتابة. "ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فَحَمِدَ الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فما بالُ رجالٍ يشترطون شروطاً ليست"؛ أي: تلك الشروط "في كتاب الله"؛ أي: على حكم كتابه ومُوجب قضائه. "ما كان مِنْ شَرط ليس في كتاب الله فهو باطلٌ وإن كان مائةَ شرط، فقضاءُ الله"؛ أي: حكمه "أحق" بالاتباع، "وشرطُ الله أوثقُ"؛ أي: بالعمل به؛ يريد به عليه الصلاة والسلام: ما أظهره وبيَّنه من قوله: "وإنما الولاء لمن أعتق". * * * 2111 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنها - قال: نهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ بَيع الوَلاءِ وعنْ هِبتِهَ. "وعن ابن عمر - رضي الله عنها - أنه قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بَيع الولاء وعَنْ هِبته "؛ لأنه كالنسب، فكما لا ينتقل النسبُ إلى غيره، كذلك الولاء لا ينتقل إلى غير المعتِق لأنه من حقوق العتق. * * * 2112 - عن مَخْلَدِ بن خُفافٍ قال: ابْتَعْتُ غُلاماً فاسْتَغْلَلْتُهُ، ثُمَّ ظَهَرتُ منهُ على عَيْبٍ، فقَضَى عليَّ عُمرُ بن عبدِ العزيزِ بردِّ غَلَّتِهِ، فراحَ إليهِ عُرْوَةُ

فأخبَرَهُ أن عائِشةَ رضي الله عنها أخْبَرتني: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قضَى في مِثْلِ هذا أن الخَراجَ بالضَّمانِ، فقَضَى لي أنْ آخُذَ الخَراجَ. "من الحسان": " عن مخلد" بفتح الميم واللام "ابن خُفاف" بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء "أنه قال: ابتعت غلاماً"؛ أي: اشتريتُه "فاستغللته"؛ أي: أخذتُ غَلَّته، أي: أُجْرته وكِرَاه. "ثم ظهرت منه على عيب"؛ أي: اطَّلعت على عيبه فردَدتُه بعيبه، "فقضى"؛ أي: حَكَم "على عمر بن عبد العزيز بردِّ غَلَّته، فراحَ"، أي: راح "إليه عروة، فأخبره أن عائشة رضي الله عنها أخبرتني: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في مثل هذا: أن الخَراج"؛ أي: الغلة، أراد به ما حَصَل للمشتري من نفع المبيع أرضاً كان أو عبداً. "بالضمان"، أي: مستحق بسببه، إذ منافع المبيع بعد قبضه تبقى للمشتري في مقابلة الضمان اللازم عليه بتلفه ونفقته ومُؤنته. "فقضى لي أن آخذ الخراج" وهذا يدل على أن القاضي إذا أخطأ في حكم ثم تبيَّن له الخطأ يقيناً أو ظناً لَزِمه النقضُ، كما فعل عمرُ بن عبد العزيز بحديث عروة. * * * 2113 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخَراجُ بالضَّمانِ". "وقالت عائشة رضي الله عنها: إنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الخراج بالضمان". * * *

2114 - عن عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اخْتلَفَ البَيعانِ فالقَوْلُ قَوْلُ البائِعِ، والمُبْتاعُ بالخِيارِ". وفي روايةٍ: "البيعانِ إذا اخْتَلفا والمبيعُ قائِمٌ وليسَ بينَهُما بَينه، فالقَوْلُ ما قالَ البائعُ، أو يتَرادَّانِ البَيع". "وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اختلف البيعان"؛ أي: البائع والمشتري في قَدْر الثمن، أو في شرط الخيار، أو الأجل ونحوها من صفات العقد. "فالقول قول البائع" مع يمينه، فيحلِفُ بحسَبِ ما ادَّعاه، "والمبتاع"؛ أي: المشتري "بالخيار" إن شاء رَضيَ بما حَلَف عليه البائع، وإنْ شاء حلف هو أيضاً بأنه ما اشتراه بكذا بل بكذا، وبه قال الشافعي، ثم إذا تحالفا فإنْ رَضيَ أحدُهما بقول الآخر فذاك، وإلا فُسِخَ العقد باقياً كان المبيعُ أو لا. "وفي رواية: البيعان إذا اختلفا والمبيع قائم" عند النزاع "ليس بينهما بينة، فالقول ما قال البائع" فإذا حلف تخيَّرَ المشتري بين أن يرضى بما حلف عليه البائع، وبين أن يحلف على ما يقول، فإذا حَلَف فسخ العقد ورد المبيع، وهو معنى قوله: "أو يترادان البيع"، فإن تَلِفَ المبيعُ فالقول للمشتري، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله. * * * 2115 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أقالَ أخاهُ المسلِمَ صَفْقَةً كَرِهَها، أقالَهُ الله عَثْرتهُ يومَ القِيامَةِ". "وعن شريح الشامي: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أقال أخاه المسلم" من الإقالة وهي الفسخ بعد لزوم العقد "صفقةً كَرِهها"؟ أي: عقداً ندم فيها، "أقال

6 - باب السلم والرهن

الله عثرتَه"؛ أي: غَفَر خطيئتَه "يوم القيامة"، وهو إشارة إلى ندبية الإقالة إن رَضيَ البائع. * * * 6 - باب السَّلَمِ والرَّهنِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2116 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وهُمْ يُسْلِفونَ في الثِّمارِ السَّنةَ والسنتَيْنِ والثلاثَ، فقالَ: "مَنْ أسْلَفَ في شيءٍ فليُسْلِفْ في كَيْلٍ معلُومٍ ووَزْنٍ معلُومٍ إلى أَجَلٍ معلُومٍ". (باب السلم والرهن) "من الصحاح": " عن ابن عباس أنه قال: قدم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم المدينة وهم يُسْلِفون في الثمار" والإسلاف: إعطاء الثمن في مَبيع إلى مدة؛ يعني: يعطون الثمن في الحال ويشترون الثّمار. "السَّنة": منصوب بنزع الخافض؛ أي: إلى السنة، أو على المصدر؛ أي: إسلاف السنة. "والسنتين والثلاث، فقال: مَنْ أسلف في شيء فليُسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم": الحديث يدلُّ على وجوب الكيل والوزن، وتعيين الأجل في المكيل والموزون، وأنَّ جهالةَ أحدِها مُفْسِد للبيع. * * *

2117 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - اشترى طَعَاماً مِنْ يَهوديٍّ إلى أَجَل ورَهَنَهُ دِرْعاً مِنْ حَديدٍ. "قالت عائشة رضي الله عنها: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشترى طعامًا من يهودي إلى أجلٍ ورَهَنه دِرْعاً من حديد" وهذا يدلُّ على جواز الشراء بالنسيئة، وعلى جواز الرَّهن بالديوان، وعلى جواز المعاملة مع أهل الذّمة وإنْ لم تَخْلُ أموالُهم عن الربا وثمن الخمر. وعلى أنَّ غلبةَ ظنِّ الشيء ليس كنفسه، فإنَّ الغالبَ على أموالهم الحرمة، ومع هذا فقد عامَلَه عليه الصلاة والسلام، وعلى جواز رهنِ المَنْقُول. * * * 2118 - وقالت: تُوفِّي رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ودِرعُهُ مَرهونة عِنْدَ يهودي بثلاثينَ صاعاً من شعيرٍ". "وقالت: توفِّي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ودِرْعه مرهونةٌ عند يهودفي بثلاثينَ صاعاً من شعير". * * * 2119 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الظَّهْرُ يُركَبُ بنفَقتِهِ إذا كانَ مَرْهُوناً، ولبن الدَّرِّ يُشْرَبُ بنفَقتِهِ إذا كانَ مَرْهُوناً، وعَلَى الذي يَرْكَبُ وَيشربُ النفقَةُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال - صلى الله عليه وسلم -: "الظَّهْرُ"؛ أي: ظَهر الدابةِ "يُركب بنفقته إذا كان مرهوناً"؛ يعني: جاز للراهن أنْ يركبها ويحمل عليها حمله بسبب أن علفها عليه، وعليه الأكثر وبه قال أبو حنيفة والشافعي؛ لأنَّ الأصل مِلْكُه بدليل أنَّه لو مات العبدُ المرهون كفَّنه المالكُ، فكذا في فروعه.

"ولبن الدَّر"؛ أي: ذات الدَّر؛ أي: اللبن، فله دَرُّه؛ أي: عمله "يشرب بنفقته"؛ أي: يشرب لبن ذات الدر مَنْ يُنفق عليها؛ أي: يعلفها. "إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يَركب ويشرب النفقة"، وهذا يدلُّ على أن دوام قبض المرهون ليس بشرط في الرهن؛ لأنه لا يركبها المالك إلا وهي خارجة عن قبض المرتهن. * * * مِنَ الحِسَان: 2120 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَغْلَقُ الرَّهْنُ مِنْ صاحبهِ الذي رهنَهُ، لهُ غنْمُهُ، وعليهِ كُرْمُه". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يَغْلَقُ الرهن الرهن" يقال: غَلِقَ الرهن - بالكسر - غَلْقاً: إذا بقي في يد المرتهن لا يقدر على تخليصه، والرهن الأول المصدر، والرهن الثاني بمعنى المرهون؛ يعني: لا يمنع الرهن المرهون. "من صاحبه الذي رهنه" بحيث تزول عنه منفعتُه وتسقط عنه نفقتُه، بل يكون المرهون كالباقي في ملك الراهن. "له غنمه"؛ أي: منفعته وفوائده، "وعليه عزمه"؛ أي: نفقته وضمانه، حتى لو تَلِفَ في يد المرتهن كان من ضمان الراهن، ويرجع ربُّ المال بحقه عليه، وبه قال الشافعي. * * * 2121 - وعن ابن عمرَ أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المِكْيالُ مكْيالُ أهلِ

7 - باب الاحتكار

المدينَةِ، والميزانُ ميزانُ أهلِ مَكَّةَ". "عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال: المكيال"؛ أي: المكيال المعتبر "مكيال أهل المدينة"؛ لأنهم أصحاب ذِراعات ونخيل، فهم أعلم بحال المكاكيل "والميزان"؛ أي: الميزان المعتبر "ميزان أهل مكة"؛ لأنهم أصحاب تجارات فهم أعلم بالموازين. والحديث فيما يتعلق بالوزن والكيل من حقوق الله كالزكاة والكفارة ونحوها حتى لا يجب في الدراهم حتى يبلغ مئتين بوزن مكة، والصاع في صدقة الفطر والزكاة صاع أهل المدينة، كلّ صاع خمسة أرطال وثلثُ رطلٍ. * * * 2122 - عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأَصحابِ الكيلِ والميزانِ: "إنكم قد وُلِّيتم أمرَين هَلَكَ فيهما الأممُ السَّالِفةُ قبلَكمْ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأصحاب الكَيل والميزان: إنكم قد وَلِّيتم أمرين"؛ أي: جعلتم حكامًا في أمرين هما الكيل والميزان، فاعدِلوا فيهما، فلكم الأجرُ، وإلا فالهلاك. "هلك فيهما الأمم السَّالفة قبلَكم" كقوم شعيب كانوا يأخذون مالَهم على الناس تامًا، وإذا أعطوا ما عليهم أعطَوه ناقصاً. * * * 7 - باب الاحتِكارِ " باب الاحتكار" وهو جمع الطعام وحبسه ليبيعه عند الغلاء.

مِنَ الصِّحَاحِ: 2123 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ احتكَرَ فهوَ خاطِئٌ". "من الصحاح": " عن معمر" بفتح الميمين: "أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من احتكر فهو خاطئ"؛ أي: آثم، وبهذا قال مالك: يحرم الاحتكار في المطعوم وغيره، وعندنا والشافعي: يحرم في الأقوات خاصة؛ لما روي أن الراوي كان يحتكر الزيت، وَيحْمِلُ الحديثَ على احتكار القوت، والصحابيُّ أعرفُ بمراد النبيِّ عليه الصلاة والسلام. * * * 2124 - وقال عمرُ - رضي الله عنه -: كانتْ أموالُ بني النَّضيرِ ممَّا أفاءَ الله عَلَى رسُولهِ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً، يُنفِقُ عَلَى أهلِهِ منها نفَقةَ سنةٍ، ثُمَّ يَجْعَلُ ما بقيَ في السِّلاحِ والكُراعِ عُدَّةً في سَبيلِ الله. "وقال عمر - رضي الله عنه -: كانت أموال بني النضير" هم قوم من يهود المدينة صالَحُوا رسولَ الله بعد قدومه على المدينة أن لا يكونوا له ولا عليه، فلما وقعت وقعةُ أُحدٍ نكثُوا العهدَ، وسار زعيمُهم الخبيثُ كعبُ بن الأشرفِ في جَمْعٍ منهم إلى مكة فحالفوهم على النبي عليه الصلاة والسلام، فبعث النبيُّ عليه الصلاة والسلام محمدَ بن سلمةَ الأنصاريَّ في نفر من الأنصار إليه ليقتلَه، فقتله ليلاً وصَبَّحهم بالكتائب، وحاصروهم حتى قذف الله الرعبَ في قلوبهم، فطلبوا الصلحَ، فأبى عليه الصلاة والسلام إلا الجلاءَ وأُجْلُوا - أي: ارتحلوا - إلى أَرِيحا وأَذْرِعَات من الشام، وإلى خَيبر، فكانت أموالهم "مما أفاء الله"؛ أي: أعطى "على رسوله لرسوله عليه الصلاة والسلام خاصةً ينفق على أهله منها نفقةَ سنةٍ،

ثم جعل ما بقي"؛ أي: فَضَل عن نفقة عياله "في السلاح والكراع" وهو اسم لجمع الخيل "عُدَّة في سبيل الله"، والعدَّة: ما يُهيَّأ من السلاح وغيره للغزو والسفر. وتعلُّقُ هذا الحديث بالباب من حيث إن فيه بيان أنَّ حبس الطعام لنفقة العيال ليس باحتكارٍ؛ لفعله عليه الصلاة والسلام. * * * مِنَ الحِسَان: 2125 - عن عمرَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجالِبُ مَرْزُوقٌ، والمُحْتكِرُ مَلْعُون". "من الحسان": " عن عمر - رضي الله عنه -: أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال: الجالب"؛ يعني: التاجر الذي يبيع ويشتري "مرزوق"؛ أي: يحصل له الربحُ من غير إثم. "والمحتكر ملعون"؛ أي: آثم بعيد عن الخير ما دام في ذلك الفعل، ولا يحصل له البركة. * * * 2126 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: غَلا السِّعْرُ على عَهْدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالُوا: يا رسُولَ الله! سَعِّرْ لنا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله هُوَ المُسعِّرُ القابضُ الباسِطُ الرَّازِقُ، وإنِّي لأرجُو أنْ ألقَى ربي وليسَ أحدٌ مِنْكُمْ يطلُبني بمَظْلَمَةٍ بدَمٍ ولا مالٍ". "عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: غلا السعر"؛ أي: ارتفع، والسعر: القيمة "على

8 - باب الإفلاس والإنظار

عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! سَعِّر لنا" أمرٌ من التسعير، وهو وضع السعر على المَتاع. "فقال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: إنَّ الله هو المُسَعِّر"؛ أي: المُوسع للرزق "القابض"؛ أي: هو الذي يقبض الرزق بأن يقلِّله "الباسط الرازق"؛ أي: الذي يبسط الرزق، بأنْ يوسعه على مَنْ يشاء. "وإني لأرجو أنْ ألقى ربي وليس أحدٌ منكم يطلبني بمَظْلِمة" - بكسر اللام - هو اسم ما أخذ منك ظلماً "بدم ولا مال" بدل عن مظلمة، وفيه إرشادٌ إلى أن المانع له من التسعير مخافةُ أنْ يَظْلِمَ في أموالهم، فإنَّ التسعير تصرُّف فيها بغير إذن أهلها، فيكون ظلماً. * * * 8 - باب الإفلاسِ والإنظارِ " باب الإفلاس"، يقال: أفلس الرجلُ: إذا لم يبقَ له مالٌ، معناه: صارت دراهمهم فلوساً، وقيل: صار إلى حالٍ يقال ليس معه فليس. "والإنظار"؛ أي: الإمهال. مِنَ الصِّحَاحِ: 2127 - عن أبي هريرةَ: - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجُلٍ ماتَ أو أفْلَسَ، فأدْرَكَ رجُلٌ مالَهُ بعَيْنهِ فهوَ أَحَقّ بهِ مِنْ غَيْرِهِ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما رجلٍ أفلسَ"؛ أي: صار ذا فلوسٍ بعد أنْ كان ذا دراهم، "فأدرك رجل مالَه بعينه"؛ أي: بذاته بأن

يكون غيرَ هالكٍ حساً أو معنى بالتصرفات الشرعية مثل الهِبَة والوَقْف وغيرهما. "فهو أحق به"؛ أي: بماله "من غيره" وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد: البائع إذا وجد ماله عند المشتري المفلسِ فله أنْ يَفْسَخَ العقدَ ويأخذ المبيع، وعندنا ليس له الفسخُ والأخذ، بل هو كسائر الغُرماء، فحمَلْنا الحديثَ على العقد بالخيار، يعني: إذا كان الخيار للبائع وظهر له في مدَّته أن المشتري مفلسٌ فالأنسب له أن يختارَ الفسْخَ. * * * 2128 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: أُصِيبَ رجُلٌ في عَهْدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في ثِمارٍ ابْتاعَها، فكثُرَ دينُهُ. فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَصَدَّقُوا عليهِ". فتصدَّقَ النَّاس عليهَ فلمْ يبلُغْ ذلكَ وفاءَ دَيْنِهِ، فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لغُرمائِهِ: "خُذُوا ما وَجَدْتُمْ وليسَ لكُمْ إلاَّ ذلكَ". "وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - أنه قال: أُصيب رجل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام"؛ أي: لَحِقَه خسرانٌ بسبب إصابة جائحة "في أثمارٍ ابتاعها"؛ أي: اشتراها ولم ينقُد ثمنها. "فكثر دينه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تصدَّقوا عليه، فتصدَّق الناسُ عليه، فلم يبلغ ذلك وفاءَ دينِه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لغُرمائه: خُذوا ما وجدتم، وليس لكم إلا ذلك"؛ أي: أخذ ما وجدتم، والإمهال بمطالبة الباقي إلى الميسُرة، قال الله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]، لا زجره وحبسه؛ لأنه ظهر إفلاسُه وليس معناه أن يبطل لكم ما بقيَ مِنْ ديونكم. * * * 2129 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانَ رجلٌ يُداينُ النَّاسَ،

فكانَ يقولُ لفتاهُ: إذا أتَيتَ مُعْسِراً تجاوزْ عنهُ لعلَّ الله أنْ يتجاوَزَ عنَّا، قال: فلَقِيَ الله فتجاوَزَ عنهُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان رجل يُداينُ الناسَ"؛ أي: يعاملهم ويعطيهم ديناراً، "فكان يقول لفتاه"؛ أي: لخادمه: "إذا أتيت مُعْسِراً تجاوزْ عنه" بصيغة الأمر؛ أي: تَسَامَحْ في الاقتضاء. "لعل الله" بمعنى عسى؛ أي: عسى الله "أن يتجاوز عنَّا، قال"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام: "فلقيَ"؛ أي: الرجل "الله فتجاوزَ عنه"؛ أي: عَفَى عن ذنبه. * * * 2130 - وقال: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يُنْجِيَهُ الله تعالى مِنْ كُرَبِ يومِ القيامَةِ فَلينفِّسْ عنْ مُعْسِرٍ أو يضَعْ عنهُ". "وعن أبي قتادة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ سَرَّه"؛ أي: أَفْرحه "أنْ يُنجيه الله" الجملة فاعل (سرَّه) "مِنْ كُرب يومِ القيامة فلينفّس عن مُعْسِر"؛ أي: ليؤخّر مطالبتَه إلى مدة يَجِدُ مالاً، "أو يضعُ عنه" بعضَ الدَّين. * * * 2131 - وقال: "مَنْ أنْظَرَ مُعْسِر" أو وَضَعَ عنهُ أنجاهُ الله مِنْ كُرَبِ يومِ القِيامَةِ". "وعنه أنه: قال عليه الصلاة والسلام: مَنْ أنظر مُعسراً"؛ أي: أَمْهل مديونا فقيراً، "أو وضع عنه أنجاه الله من كُرب يوم القيامة"؛ أي: شدته. * * *

2132 - وقال: "مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أو وضعَ عنهُ أظلَّهُ الله في ظِلِّه". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال النبي عليه الصلاة والسلام: من أنظر معسراً، أو وضع عنه، أظلَّه الله في ظله"، والمراد به الكرامة والحماية من مكاره المَوقِف، كما يقال: فلان في ظلِّ فلان؛ أي: في كَنفَه وحمايته؛ أي: نظر الله إليه يوم القيامة بنظر الرحمة ووَقَاه من حَرِّ يوم القيامة بأنْ وَقَفَه في ظلِّ العرش. * * * 2133 - عن أبي رافع - رضي الله عنه - قال: اسْتَسْلَفَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بَكْراً، فجاءَتْهُ إبل مِنَ الصَّدَقَةِ. قال أبو رافِع: فأمَرني أنْ أقضيَ الرجُلَ بَكْرَهُ، فقلتُ: لا أَجِدُ إلا جَمَلاً خِياراً رَبَاعيًّا، قال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعْطِهِ إيَّاهُ، فإنَّ خيرَ النَّاسِ أحسَنُهُمْ قضاءً". "عن أبي رافع قال: استسلف"؛ أي: استقرض "رسولُ الله بَكراً" بالفتح ثم السكون الفتى من الإبل "فجاءته إبل من الصدقة، قال أبو رافع: فأمرني أنْ أقضيَ الرجلَ بكرة فقلت: لا أجدُ إلا جَمَلاً خياراً"؛ أي: مختارًا "رَباعياً" - بفتح الراء - هو من الإبل ما أتى عليه ست سنين ودخل في السابعة. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطِه إيَّاه، فإنَّ خيرَ الناسِ أحسنُهم قضاء". وفي الحديث دليل على جواز استسلاف الإمام للفقراء إذا رأى بهم حاجة ثم يؤدِّيه من مال الصدقة، وعلى جواز استقراض الحيوان، وبه قال الشافعيُّ، وعلى أن ردَّ الأحسن أو الأكثر من غير شرطٍ إحسانٌ. * * * 2134 - ورُوي: أن رجُلاً تقاضَى علَى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأغْلظَ لهُ، فهَمَّ بهِ أصحابُهُ، فقال: "دعُوهُ فإنَّ لصاحبِ الحقِّ مقالاً".

"وروي: أن رجلاً تَقَاضَى على النبيِّ عليه الصلاة والسلام"؛ أي: طلب منه قضاءَ الذين، "فأغلظ له" في القول، "فهمَّ [به] أصحابُه"؛ أي: قصدَ أصحابُ النبي عليه الصلاة والسلام بضربه وإيذائه. "فقال دعوه"؛ أي: اتركوه، "فإنَّ لصاحب الحق مقالاً" يدلّ على جواز تشديد صاحب الحق على المديون المليء بالقول. * * * 2135 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَطْلُ الغَنيِّ ظُلْم، فإذا أتبعَ أحَدكمْ عَلَى مَلِيءٍ فلْيتبَعْ". "وعن أبي هريرة: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مَطْلُ الغني"، أي: تأخير أدائه الدَّينَ من وقتٍ إلى وقت "ظلمٌ، فإذا أُتبع" بضم الهمزة وكسر الباء؛ أي: أُحيل "أحدُكُم على غني فليتبع"؛ أي: فليقبل الحوالةَ، ليس الأمرُ هنا للوجوب بل للرِّفق والإباحة، وفيه دليل على صحة الحوالة. * * * 2136 - عن كَعْبِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -: "أنَّهُ تقاضَى ابن أبي حَدْرَد ديناً لهُ عليهِ، فارتفعَتْ أصواتُهُما، فخرجَ إلَيْهِما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ونادَى كَعْبَ بن مالك - رضي الله عنه -، فأشارَ بيَدهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دينِكَ، قال: قدْ فعلتُ. فقال: "قُمْ فاقْضهِ". "عن كعب بن مالك: أنه تقاضى ابن أبي حَدْرد ديناً له عليه"؛ أي: طلبَ كعبٌ قضاءَ الدَّينِ الذي كان له على أبي حَدْرد، "فارتفعت أصواتُهما، فخرج إليهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنادى كعبَ بن مالك، وأشار بيده أنْ ضَعِ الشطر"؛ أي: أبرئه عن النصف؛ فإنه معسر، واطلبِ النصفَ الباقي بلا مُهْلة، أمره عليه الصلاة والسلام بذلك على سبيل البرِّ والمُسَاهلة، "قال قد فعلت

فقال"؛ أي: النبيُّ عليه الصلاة والسلام لابن أبي حَدْرد: "قُمْ فاقْضه"؛ أي: الشطرَ الباقي. * * * 2137 - عن سَلَمةَ بن الأكْوَعِ: أنَّه قال: كُنَّا عِندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ أُتيَ بجَنازةٍ فقالُوا: صَلِّ عليها، فقال: "هلْ عليهِ دين؟ "، قالوا: لا. فصلَّى عليها. ثُمَّ أُتيَ بجَنازة أُخرَى، فقال: "هلْ عليه دين؟ "، قِيل: نعمْ. قال: "فهلْ تركَ شيئاً"، قالوا: ثلاثةَ دنانيرَ. فصلَّى عليها. ثُمَّ أُتيَ بالثالثة، فقالَ: "هلْ عليهِ دين؟ "، قالوا: ثلاثةُ دنانيرَ. قال: "هلْ تركَ شيئاً؟ "، قالوا: لا، قال: "صلُّوا على صاحِبكُمْ". قال أبو قَتادة: صلِّ عليهِ يا رسول الله وعلي دَينُهُ، فصلَّى عليهِ. "وعن سلمة بن الأكوع: أنه قال: كنا عند النبي عليه الصلاة والسلام إذ أُتي بجنازة، فقالوا: صلِّ عليها، فقال: هل عليه دينٌ؟ قالوا: لا"؛ أي لا دينَ عليه، "فصلَّى عليها، ثم أُتي بجنازة أخرى، فقال: هل عليه دينٌ؟ قالوا: نعم، قال: فهلْ تركَ شيئاً؟ قالوا: ثلاثة دنانير، فصلى عليها"، وفيه إيذان بأنَّ الله تعالى ألهمه بأنَ ما تركه ذلك الميت يَفِي بدينه، أو يزيدُ عليه. "ثم أتي بالثالثة فقال: هل عليه دين؟ قالوا: ثلاثة دنانير، قال: هل تركَ شيئاً؟ قالوا: لا، قال: صَلُّوا على صاحبكم". وإنما امتنع عليه الصلاة والسلام عن الصلاة على المَدْيون الذي لم يترك وفاءً؛ تحذيرًا عن الدَّين، واستعظاماً له، أو لكراهة أن لا يُتلقَّى دعاؤه بالإجابة، فيوقَف لِمَا عليه من حقوق الناس. "قال أبو قتادة: صلِّ عليه يا رسول الله وعليَّ دينُه، فصلى عليه" فيه دليل على جواز الضمان عن الميت المُفْلِس، وبه قال الشافعي. * * *

2138 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أَخَذَ أموالَ النَّاسِ يُريدُ أداءَها أدَّى الله عنه، ومَنْ أخذَها يُريدُ إتْلافَها أتْلَفَهُ الله عز وجل". "وعن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أخذ أموال الناس" أعم من أن يكون أخذَهُ بحق أو غيره، "يريد أداءَها، أدَّى الله عنه"؛ أي: يسَّر الله أداءه بإعانته، ويوسِّع رزقه، فإن لم يتيسَّر له الأداء حتى مات رُجِيَ منه تعالى أنْ يُرْضيَ خصمَه بكرمه، وفضله، وهذا جملة خبرية لفظاً ومعنى، ويجوز أن يكون إنشاء معنى بأن يخرج مَخْرجَ الدعاء له. "ومَنْ أخذها يريد إتلافها أتلفه الله تعالى"؛ أي: لم يُعِنْه في أدائه. * * * 2139 - عن أبي قتادةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رجل: يا رسُولَ الله "أَرَأَيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ الله صابراً مُحْتَسِباً مُقْبلاً غيرَ مُدْبرٍ يُكفرُ الله عني خَطايايَ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعمْ، فلمَّا أدْبَرَ ناداهُ، فقال: "نعمْ إلاَّ الدَّيْنَ، كذلكَ قال جِبريلُ". "عن أبي قتادة قال: قال رجل: يا رسول الله "أرأيت"؛ أي: أخبرني "إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً"؛ أي: طامعًا في سبيل الله لا للرِّياء، "مقبلاً غيرَ مدبرٍ، يُكَفِّر الله" بحذف حرف الاستفهام داعن خطاياي؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: نعم"؛ يعني يكفِّر الله عنك خطاياك، "فلما أدبر ناداه"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام ذلك الرجل. "فقال: نعم إلا الدين" استثناء منقطع؛ أي: لكن الدين لا يكفِّر، والمراد به: حقوق الآدميين في دمائهم وأموالهم وأعراضهم، ويجوز أن يكون متصلاً على حذف المضاف؛ أي: خطيئة الدَّين.

"كذلك قال جبرئيل عليه السلام" وهذا يدلُّ على أنه يلقِّن إياه - عليه الصلاة والسلام - أشياء غيرَ القرآن. * * * 2140 - وقال: "يُغْفَرُ للشَّهيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلاَّ الدَّيْنَ". "وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُغْفر للشهيد كل ذنب" صغائر كانت أو كبائر "إلا الدين" يدل على أن حقوقه تعالى مبنية على المساهلة، وحقوق العباد على المضايقة. * * * 2141 - وقال أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُؤْتَي بالرَّجُلِ المُتَوفَّى عليهِ الدَّيْنُ، فيَسألُ: "هلْ تركَ لدَينِهِ قَضاءً؟ " فإنْ حُدِّثَ أنَّهُ تركَ وفاءً صلَّى عليهِ، وإلاَّ قال للمُسِلمينَ: "صلُّوا على صاحبكُمْ" فلمَّا فتحَ الله عليه الفُتوحَ قامَ فقال: "أنا أوْلَى بالمُؤمِنينَ مِنْ أنفُسِهِمْ، فمنْ تُوفِّيَ مِنَ المُؤمِنينَ فتركَ ديناً فعليَّ قضاُؤهُ، ومَنْ تركَ مالاً فهوَ لِوَرثتهِ". "وقال أبو هريرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يؤتى بالرَّجل المتوفَّى عليه الدين، فيسأل: هل ترك لدينه قضاء؟ فإن حُدِّث"؛ أي: أُخبر "أنه ترك وفاء صلَّى، وإلا"؛ أي: إن لم يترك وفاء "قال للمسلمين: صلُّوا على صاحبكم، فلمَّا فتحَ الله عليه الفتوح قام فقال أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم"؛ أي: في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وشفقتي عليهم أكثرُ من شفقتهم على أنفسهم، فأكون أولى بقضاء دَينهم لهم. "فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً" ليس له مال، "فعليَّ قضاؤه، ومَنْ

ترك مالاً فلورثته" بعد قضاء دينه. * * * مِنَ الحِسَان: 2142 - عن أبي خَلْدَةَ الزُّرَقي قال: جِئْنا أبا هُرَيْرةَ في صاحِبٍ لنا قدْ أفْلسَ، فقال: هذا الذي قضَى فيهِ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما رجُلٍ ماتَ أو أَفْلَسَ فصاحِبُ المتاعِ أَحَقُ بمتاعِهِ إذا وَجَدَهُ بعَينهِ". "من الحسان": " عن أبي خَلْدة الزُّرقي: أنه قال: جئنا أبا هريرة - رضي الله عنه - في صاحب"؛ أي: شأن صاحب "لنا قد أفلس، فقال: هذا الذي"؛ أي: هذا مثل الرجل الذي "قضى فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيما رجل مات أو أفلسَ فصاحبُ المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه" مر بيانه. * * * 2143 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نفسُ المُؤْمِنِ مُعَلَّقة بدَينهِ حتَّى يُقْضَى عنه". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نفسُ المؤمن معلَّقة بدَينه"؛ أي: لا يدخل الجنة، أو لا تدخل روحُه بين أرواح الصالحين، أو لا تجد روحه اللذة ما دام عليه دين "حتى يُقضى عنه"، أو يرضى غريمُه. * * * 2144 - وقال: "صاحِبُ الدَّيْنِ مأسُور بدَيْنِهِ يَشْكُو إلى ربهِ الوَحْدَةَ يومَ القِيامَةِ".

"وعن البراء بن عازب: أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: صاحبُ الدَّينِ مأسورٌ بدَينه"؛ أي: محبوسٌ بسببه فريداً لا يؤذن له في دخول الجنة، ولا في مصاحبة الصالحين. "يشكو إلى ربه الوحدة يوم القيامة"؛ يعني: يكون تعبُه وعذابُه من الوحدة لا يرى أحداً يقضي عنه ويخلصه من قضاء الدين، فإنه يعذب بها حتى يخرج من عهدة الدين بأن يدفع من حسناته بقدر الدين إلى مستحِقِّه، أو يوضع من ذنوب مستحقِّه عليه بقدَرِه، أو يرضي الله خصمَه من فضله. * * * 2145 - ورُوي أن مُعاذاً كانَ يدَّانُ، فأتَى غُرَماؤُه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فباعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مالَهُ كُلَّهُ في دينهِ حَّتى قامَ مُعاذ - رضي الله عنه - بغيرِ شيءٍ، مرسل. "وروي أن معاذاً كان يَدَّان" بتشديد الدال؛ أي: يأخذ الدين، "فأتى غرماؤه إلى النبي عليه الصلاة والسلام وطلبوا" من معاذ قضاءَ ديونهم، "فباع النبيُّ عليه الصلاة والسلام مالَه"؛ أي: مالَ معاذِ "كلَّه في دينه"، فقضى منه ديونهَم، "حتى قام معاذ بغير شيء"، وهذا يدلُّ على أن الغرماء إذا طلبوا من القاضي الحجرَ على المُفْلِس يَحْجُر، ويبيع مالَه، ويقسِم بينهم على قدر ديونهم. "مرسل". * * * 2146 - عن عمرِو بن الشَّريدِ - رضي الله عنه -، عن أبيه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليُّ الواجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبته". "عن عمرو بن الشَّريد، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليُّ الواجد"؛ أي: مطل الغني القادر على قضاء دينه "يُحِلُّ عِرْضَه"؛ أي: يجوز لصاحب الحق

أن يُغْلِظ القول، ويُطيل لسانَه عليه، وينسِبه إلى سوء القضاء، "وعقوبته" بالحبس أو الضرب حتى يؤدِّي الحق. * * * 2147 - وعن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: أُتيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بجَنازةٍ ليُصلِّيَ علَيْها، فقال: "هَلْ عَلَى صاحِبكُمْ مِنْ دينُ؟ " قالوا: نعم، قال: "هَلْ تركَ وفاءً؟ " قالوا: لا، قال: "صلُّوا على صاحِبكُمْ، قالَ عليّ بن أبي طالِبٍ - رضي الله عنه -: عَلَيَّ دينُهُ. فتقدَّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فصلَّى عليهِ. وقال: "فكَّ الله رِهانَكَ مِنَ النَّارِ كما فكَكْتَ رِهانَ أخيكَ المُسلم، ليسَ مِنْ عَبدٍ مُسلمٍ يَقضي عنْ أخيهِ دينَهُ إلاَّ فكَّ الله رِهانَهُ يومَ القِيامَةِ". "وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: أتي النبيُّ عليه الصلاة والسلام بجنازة ليصلي عليها، فقال: هل على صاحبكم دينٌ، قالوا: نعم، قال: هل ترك وفاء؟ قالوا: لا، قال: صلوا على صاحبكم، قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: عليَّ دينه"؛ أي: قضاء دينه "فتقدم"؛ أي: النبيُّ عليه الصلاة والسلام "فصلى عليه وقال" لعلي: "فَكَّ الله رِهانَك" جَمْعُ رَهن، وفَكُّه: تخليصه؛ إذ كلُّ نفس مرهونة بعملها، كما قال الله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} والمراد عتق رقبته "من النار"؛ يعني: أبرأ الله تعالى ذمَّتَك عن حقوق الآدميين وعن الآثام والأوزار، وأعتق رقبتَك من النار بالعفو عنها، والتجاوز عن سيئاتها التي يُحبس ويعذَّب بها يومَ القيامة. "كما فَكَكْتَ رِهانَ أخيك المسلم"؛ أي: خَلَّصْتَه عن تعلُّق الدين به، فإن نفس المؤمن مرهونة بدينه بعد الموت، "ليس من عبد مسلم يقضي عن أخيه دينَه إلا فكَّ الله رِهانَه يومَ القيامة"، ذكر الرهان بلفظ الجمع تنبيها على أن الرهن

يتعدد بتعدُّد الآثام والأوزار. * * * 2148 - عن ثوبانَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ ماتَ وهو بريء مِنَ الكِبْرِ والغُلولِ والدَّيْنِ دخلَ الجَنَّةَ". "عن ثوبان أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ مات وهو بريء من الكِبر" قيل: هو إبطالُ الحق بأن لا يقبلَه ويحتقر الناس فلا يراهم شيئاً، "والغلول" وهي الخيانة، "والدَّين دَخَلَ الجنة". * * * 2149 - عن أبي موسى - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أعظمَ الدُّنوبِ عندَ الله أنْ يلقاهُ بها عبدٌ بعدَ الكبائِرِ التي نهَى الله عنها أنْ يَمُوتَ رَجُل وعليهِ دين لا يدَعُ له قضاءً". "عن أبي موسى، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: إن أعظم الذنوب عند الله أن يلقاه" حال، أو تمييز، أو بدل من الذنوب وهو الصواب، والضمير البارز يرجع إلى الله، "بها"؛ أي: بالذنوب "عبد" فاعل (يلقاه). "بعد الكبائر التي نهى الله عنها أنْ يموت" خبر (أن)، أو بدل من (أن يلقاه) لأن لقاء العبد ربَّه إنما هو بعد الموت "رجل، مظهر أقيم مقام ضمير العبد، وفائدة ذكر العبد لاستبعاد ملاقاةِ ربه بهذا الشَّين، ثم إعادته بلفظ (رجل) وتنكيره تحقيراً لشأنه، وتوهيناً لأمره. "وعليه دين لا يدع له قضاء"؛ أي: لا يترك لذلك الدين مالاً يقضي به، وهذا على سبيل المبالغة والتحذير عن كثرة التداين. * * *

9 - باب الشركة والوكالة

2150 - عن عمرِو بن عَوْفٍ المُزَنيِّ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصُّلْحُ جائِز بينَ المُسلمينَ إلاّ صُلْحاً حرَّمَ حلالاً أَوْ أحلَّ حراماً، والمُسلِمونَ على شُروطِهِمْ إلاَّ شَرْطاً حَرَّمَ حلالاً أو أحلَّ حراماً". "وعن عمرو بن عوف المزني، عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام قال: الصُّلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرَّم حلالاً" كالصلح أن لا يطأ الضَّرَّة، أو على شرب الخمر ونحوهما، "أو أحلَّ حراماً" وهو أن يكون الشيء حرامًا عليه وهو يريد أن يُحِلَّه بالصُّلح. "والمسلمون على شروطهم"؛ أي: ثابتون على ما اشترطوا "إلا شرطًا حرم حلالاً" كأنْ يشترطَ مع امرأته أن لا يطأ جاريته، "أو أحل حرامًا" كما في الصُّلح. * * * 9 - باب الشَّركة والوَكالةَ مِنَ الصِّحَاحِ: 2151 - عن زُهرةَ بن مَعبدٍ: أنَّهُ كانَ يخرُجُ بهِ جَدُّهُ عبدُ الله بن هشام إلى السُّوقِ فيشتري الطعامَ، فيلقاهُ ابن عُمَرَ وابن الزُّبَيْرِ فيقولان له: أَشْرِكنا، فإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قد دَعا لكَ بالبرَكَةِ، فيشركهما، فربَّما أصابَ الراحلةَ كلما هيَ فيَبعَثُ بها إلى المنزِلِ. وكَانَ عبدُ الله بن هشامٍ - رضي الله عنه - ذهبتْ بهِ أمُّهُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فمسحَ رأسَهُ ودَعا لهُ بالبركةِ. (باب الشركة والوكالة) "من الصحاح": " عن زهرة بن معبد: أنه كان يخرج به" الباء للتعدية، أو بمعنى مع "جده

عبد الله بن هشام إلى السوق فيشتري"، أي: عبد الله بن هشام "الطعام، فيلقاه ابن عمر وابن الزبير، فيقولان له "؛ أي: لعبد الله بن هشام: "أشركنا"؛ أي: اجعلنا شريكاً فيما اشتريت، "فإن النبيَّ عليه السلام قد دعا لك بالبركة، فيشركهما"، وهذا يدل على جواز الاشتراك في العقود "فربما أصاب الراحلة كما هي"؛ أي: ربما ربح من الطعام حِمْل بعير، "فيبعث بها إلى المنزل" فحصلَتِ الراحلةُ له بلا شيء ببركة دعاءِ النبيِّ. "وكان عبد الله بن هشام ذهبت به أمُّه إلى النبيِّ عليه الصلاة والسلام، فمسح رأسَه، ودعا له بالبركة". * * * 2152 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالتِ الأنصارُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اقسِمْ بَيننا وبينَ إِخْواننا النَّخيلَ، قال: "لا، تَكفوننَا المَؤونةَ ونشرَككُمْ في الثَّمَرَةِ"، قالوا: سَمِعنا وأطَعْنا "عن أبي هريرة قال" لما هاجر المهاجرون من مكة إلى المدينة وتركوا أموالهم وأوطانهم بمكة: "قالت الأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقسم بيننا وبين إخواننا" المهاجرين "النخيل"؛ يعني: ليجعل نخيلنا بيننا وبينهم. "قال عليه السلام: لا"؛ أي: لا نقسم النخيل بينكم، وإنَّما أبى النبيُّ عليه الصلاة والسلام استبقاءً لنخيلهم عليهم؛ لأن بها قَوام أمورهم، "ولكن تكفوننا المؤنة" خبر معناه الأمر؛ أي: ادفعوا عن المهاجرين مُؤنة العمارة؛ لأنهم لا يعلمون عمارة النخيل بالتأبير والسقي وما يتوقف عليه الصلاح، واحفظوا نخيلَكم وأصلحوها. "ونشرككم في الثمرة، قالوا: سمعنا وأطعنا"، وفي الحديث بيانُ استحباب

معاونة الإخوان، ودفع المشقة عنهم، وبيان صحة الشركة. * * * 2153 - عن عُروةَ بن أبي الجَعْد: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاهُ دِيناراً ليَشتريَ لهُ شاةً، فاشترَى له شاتَيْنِ، فباعَ إحداهُما بدينارٍ وأتاهُ بشاة ودينارٍ، فدَعا لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَيْعِهِ بالبَركَةِ، فكانَ لو اشترَى تُراباً لرَبحَ فيهِ. "عن عروة بن أبي الجعد" - بفتح الجيم وسكون المعجمة - "البارقي" والبارق: جبل نزله بعضُ الأَزْد؛ أي: قبيلة: "أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاه ديناراً ليشتري له شاةً، فاشترى له شاتين" تساوي كل واحدة ديناراً. "فباع إحداهما بدينار، وأتاه بشاة ودينار، فدعا له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بيعه بالبركة، فكان لو اشترى تراباً لرَبحَ فيه" وفيه دليل على جواز التوكيل في المعاملات، وفي كل ما تجري فيه النيابة، وعلى أن مَنْ باع مال غيره بلا إذنه انعقد البيعُ موقوفُ الصحة على إذن المالك، وبه قلنا، وقال الشافعيُّ في قولٍ: لا يجوز ذلك وإن رضي مالكه بعد ذلك، وتأوَّل الحديثَ بأن وكالته كانت مُطْلَقة. * * * مِنَ الحِسَان: 2154 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - رفَعَه قال: "إنّ الله عز وجل يقولُ: أنا ثالثُ الشَّريكَيْنِ ما لمْ يَخُنْ أحدُهما صاحبَه، فإذا خانَهُ خرجْتُ منْ بينِهِما". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - رفعه، إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام "قال: إنَّ الله عز وجل

يقول: أنا ثالثُ الشَّريكين"؛ أي: معهم بالحفظ والبركة؛ أحفظ أموالهما، وأعطيهما الربح. "ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خانه خرجت من بينهما"؛ أي: خرجَ حفظي وبركتي مِنْ بينهم. * * * 2155 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أدِّ الأَمانةَ إلى مَنِ ائْتَمَنَكَ، ولا تَخُنْ مَنْ خانَكَ". "وعنه، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك"؛ أي: جعلك أميناً وحافظاً على ماله وغيره، "ولا تَخُن مَنْ خانك"؛ أي: لا تقابله بمثل خيانته، بل أَحْسِنْ إلى مَنْ أساء إليك. * * * 2156 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: أردتُ الخُروجَ إلى خَيْبَرَ فأتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فسلَّمتُ عليهِ فقال: "إذا أتيتَ وكِيلي فخُذْ منهُ خمسةَ عشرَ وَسْقاً، فإن ابتغَى منكَ آيةً فضَعْ يدكَ على تَرْقُوتهِ". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: أردتُ الخروج إلى خيبر، فأتيتُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام فسلَّمتُ عليه، فقال: إذا أتيتَ وكيلي"؛ أي: إذا وصلتَ إلى عاملي في خيبر. "فخذ منه خمسة عشر وسقاً" من التمر، "فإن ابتغى"؛ أي: طلب "منك آية"؛ أي: علامة على أنِّي أَمَرْتُك بهذا. "فضع يدك على ترقوته"؛ لأني قلتُ له: إذا جاء أحدٌ ويطلب شيئاً عن

10 - باب الغصب والعارية

لساني، فالآيةُ أن يضعَ يده على تَرْقُوتك. وإنما خَصَّ العلامة بوضع اليد على التَّرقوة (¬1)؛ لأن الأمانة مُطَوَّقة في الرقبة، وهذا يدل على أن للسادة علامة مع المماليك. * * * 10 - باب الغَصْبِ والعاريَةِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2157 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أخذَ شِبراً مِنَ الأرضِ ظُلماً فإنَّهُ يُطَوَّقُهُ يومَ القِيامَةِ مِنْ سَبْعِ أرَضين". (باب الغصب والعارية) "من الصحاح": " عن سعد بن زيد بن عمرو بن نُفيل قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ أخذ شِبْراً من الأرض ظُلماً" نصبه على أنه مفعول له، أو حال، أو تمييز. "فإنه يطوقه"؛ أي: يجعل ذلك طوقاً في عنقه "يوم القيامة من سبع أرضين" ليعذَّب بثِقَلها، وقيل: معناه: يَخْسِفُ الله به الأرض، يؤيده قولُه عليه الصلاة والسلام: "من أخذ من الأرض شبراً بغير حقه خسف به يوم القيامة من سطح الأرض إلى سبع أرضين"، وقيل: يطوَّق إثمُ ذلك ويَلْزُمه كلزوم الطَّوق. * * * ¬

_ (¬1) في "غ": "خص العلامة بذلك".

2158 - وقال: "لا يَحلُبن أحدٌ ماشيةَ امرئٍ بغير إذنِهِ، أيُحبُّ أحدُكُمْ أنْ تُؤْتَى مَشْربتُهُ فتُكْسَرَ خِزانتُهُ، فينتَقَلَ طعامُهُ؛ فإنما تَخزُنُ لهم ضُروعُ مَواشِيهمْ أطعِماتِهِم". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يَحْلِبن أحد ماشية امرئ بغير إذنه، أيحبُّ أحدكم" الاستفهام بمعنى الإنكار "أن يؤتى مشربته" بفتح الميم وضم الراء وفتحها: الغُرفة، وهي بيت فَوْقاني يُوضع فيها الطعام وغيره. "فتكسر خزانته فينتقل"، وفي بعض النسخ (فينتثل) على صيغة المجهول؛ أي: يستخرج "طعامه" ويؤخذ، "فإنما يخزن"؛ أي: يحفظ "لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم" مفعول (يخزن)؛ يعني: ضُروع مواشيهم في حفظ اللبن بمنزلة خزانتكم التي تَحفَظ طعامَكم، فمن حَلَب مواشيهم فكانه كَسَر خزانتهم، ودَرَق منها شيئاً. * * * 2159 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كَانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عندَ بعضِ نسائهِ، فأرسلَتْ إحدَى أمَّهاتِ المُؤمنينَ بصَحْفَةٍ فيها طعامٌ، فضرَبتِ التي النبي - صلى الله عليه وسلم - في بيتِها يدَ الخادِمِ فسَقَطَتِ الصَّحْفَةُ فانفلَقَتْ، فجمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فِلَقَ الصَّحْفَةِ ثُمَّ جَعَلَ يجمَعُ فيها الطعامَ ويقول: "غارَتْ أمُّكُمْ"، ثُمَّ حبسَ الخادِمَ حتَّى أُتي بصَحْفةٍ مِنْ عِند التي هو في بيتها، فدفعَ إلى التي كسِرَتْ صحْفتها وأمسكَ المكسُورة في بيت التي كسرتها. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام عند بعض نسائه" يقال: هي عائشة، "فأرسلت إحدى أمهات المؤمنين"؛ أي: إحدى زوجاتِ النبي عليه الصلاة والسلام، قيل: هي صَفية.

"بصحفة" وهي قَصْعة كبيرة "فيها، طعام فضربت التي كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام في بيتها يدَ الخادم، فسقطت الصحفة، فانفلقت"؛ أي: انشقت وانكسرت، "فجمع النبي عليه الصلاة والسلام فِلق الصحفة" بكسر الفاء وفتح اللام، جمع فلقة: وهي القطعة، "ثم جعل يجمع فيها الطعام ويقول: غارت أمُّكم"؛ يعني: فعلت ذلك من غَيرتها واستنكافها قَبولَ هدية الضَّرَّة، "ثم حبس الخادم"؛ أي: منعه مِنْ أن يرجع "حتى أتى بصحفة من عند التي هو في بيتها" بدل الصَّحفةِ المكسورة، "فدفع إلى التي كسرت صحفتها وأَمْسَكَ المكسورة"، وفي هذا بيان لُزومِ الضَّمان على مَنْ أتلف مالَ غيرِه، وبيان لزوم الغَيرة نفسَ الإنسان، فلا يُعاب أحدٌ على الغَيرة، فإنَّها مركَّبة في نفس البشر. وجهُ إيرادِ الحديث في هذا الباب: أن من أنواع الغضب السبب إلى إتلاف مال الغير عدوانًا. * * * 2160 - عن عبد الله بن يزيدَ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه نهَى عن النُّهبةِ والمُثْلةِ. "عن عبد الله بن زيد، عن النبيِّ عليه الصلاة والسلام: أنه نهى عن النهبة"، والمراد به هنا: انتهاب الغنيمة، وعدمُ إدخالها في القِسْمة. "والمُثْلة"، وهي قطع أعضاء المقتول، يعُمُّ المقتولَ قصاصًا، أو كفرًا، أو حَدًّا، وهذا لأن الغرض إزالة الحياة وقد حصلت، فلا فائدة في قطعها بعدَها. * * * 2161 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ في عهدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ ماتَ إبراهيمُ ابن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلَّى بالنَّاسِ سِت ركعات بأربعِ سجَداتٍ، فانصرفَ وقد آضَتِ الشمسُ، وقال: "ما مِنْ شيءٍ تُوعَدُونه إلاَّ وقدْ

رأيتُهُ في صلاتي هذه، لقدْ جِيءَ بالنَّارِ وذلكَ حينَ رأَيْتُمُوني تأخرْتُ مخافةَ أنْ يُصِيبني مِنْ لَفْحِها، وحتَّى رأيتُ فيها صاحِبَ المِحْجَنِ يجُرُّ قُصْبَهُ في النَّارِ، وكان يَسرِقُ الحاجَّ بمِحْجَنِهِ، فإنْ فُطِنَ لهُ قال: إنَّما تَعَلَّقَ بمِحْجَني، وإنْ كُفِلَ عنهُ ذهبَ بهِ، وحتَّى رأيتُ فيها صاحِبَةَ الهِرَّةِ التي ربطَتْها فلمْ تُطْعِمْها ولم تَدَعْها تأْكلُ من خَشاشِ الأرضِ حتَّى ماتَتْ جُوعاً، ثمَّ جِيءَ بالجنَّةِ وذلكَ حينَ رأَيْتُمُوني تقدَّمْتُ حتَّى قُمْتُ في مَقامي، ولقدْ مدَدْتُ يَدِي وأنا أُرِيدُ أنْ أتَناوَلَ منْ ثَمَرِها لتنظُرُوا إلَيْهِ ثمَّ بدا لي أنْ لا أفعلَ". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: انكسفت الشمسُ في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ مات إبراهيمُ بن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فصلى بالناس سِتَّ ركَعات"؛ أي: ركوعات، "بأربع سَجَدات"؛ يعني: صلى ركعتين، في كلِّ ركعةِ ثلاثُ ركوعات وسجدتين، "فانصرف"؛ أي: رجع بعد فراغه من الصلاة، "وقد أضاءت الشمس"؛ أي: عادت إلى حالها الأولى بعد ذهاب كُسوفها، "وقال: ما من شيء تُوعَدُونه"؛ أي: ليس شيء وُعِدتم بمجيئه من الجنة والنار وغيرها من أحوال القيامة، "إلا وقد رأيته في صلاتي هذه، لقد جيء بالنار وذلك حين رأيتموني تأخَّرت مخافةَ أن يصيبني من لَفَحها"؛ أي: حرها ووهَجها "حتى رأيت فيها"؛ أي: في النار "صاحب المحجن" بكسر الميم: عصا في رأسها حديدة فيها اعوجاج كالصَّولجان، "يجر قُصبه"؛ أي: أمعاءَه "في النار"، قيل: القصب اسم للأمعاء كلها، وقيل: أمعاءُ أسفلِ البطن، وصاحب المِحْجن هو عَمرو بن لحي أبو خزاعة، رُوي أنه أول مَنْ بَدَّل دينَ إسماعيل عليه الصلاة والسلام، وسَيَّبَ السَّائبة. "وكان يسرق الحاج"؛ أي: متاعَهم بمِحجن، "فإن فطن له"؛ أي: فإن علم لما سرق كان عذره أنه "قال: إنما تعلَّق بمِحجني، وإنْ غَفَل عنه ذهب".

"وحتى رأيت فيها صاحبة الهرة الثي ربَطَتْها فلم تُطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض" بفتح الخاء المعجمة وكسرها وضمها: الهَوَامُّ والحشرات، وبالحاء المهملة: يابس النبات. "حتى ماتت جوعاً، ثم جيء بالجنة وذلك حين رأيتموني تقدَّمت حتى قمت في مقامي، ولقد مددت يدي وأنا أريدُ أن أتناول من ثمرها لتنظروا إليها، ثمَّ بدا لي أن لا أفعل"، والحديث يدلُّ على وجود الجنة والنار وفواكهها في زمانه عليه الصلاة والسلام. * * * 2162 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: كانَ فَزَع بالمدينةِ فاستعارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَرَساً منْ أبي طَلْحَةَ، فرَكِبَ، فلما رجعَ قال: "ما رأَيْنا مِنْ شَيءٍ وإنْ وجدناهُ لَبَحْراً". "وقال أنس - رضي الله عنه -: كان فَزَعٌ بالمدينة"؛ أي: وقع خوف وصياح بأنَّ جيش الكفار قد وَصَلَ إلى قرب المدينة، "فاستعار النبيُّ عليه الصلاة والسلام فرساً من أبي طلحة فَرَكِب"، فخرج ليكشف سببه، "فلمَّا رجع" وسألوه عمَّا رآه مِنْ سيره "قال: ما رأينا من شيء"؛ أي: من البطء الذي يقال في حق ذلك الفرس، "وإنْ وجدناه"؛ أي: هذا الفرس، "إنْ" مخففة من المثقَّلة، اسمها محذوف وهو ضمير الشأن، واللام في "لبحراً" فارقةٌ بينها وبين النافية، والبحر: الفرس السريع الجَرْي، سمي به لِسَعته، أو أن جَريه كجري ماء البحر، وهذا يدل على جواز استعارة الحيوان، وعلى إباحة التوسُّع في الكلام، وتشبيه الشيء بالشيء الذي له تعلّق ببعض معانيه (¬1). * * * ¬

_ (¬1) في هامش م: "وإن لم يستوف جميع أوصافه". طيبي.

مِنَ الحِسَان: 2163 - عن سعيدِ بن زيدٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "مَنْ أحْيا أَرْضاً مَيتةً فهي لهُ، وليسَ لعِرْقٍ ظالم حَقٌّ"، مرسل. "من الحسان": " عن سعيد بن زيد، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: مَنْ أحيا أرضاً ميتة"؛ أي: أَعْمر أرضاً غيرَ مملوكةِ لمسلم، ولم يجر عليها عمارة أحد، ولم تتعلق لمصلحة بلد أو قرية بأن يكون مركض دوابهم "فهي له"؛ أي: صارت تلك الأرض مملوكة له، سواء كان بإذن السلطان أو لا عند الشافعي، وقال أبو حنيفة: لابدَّ منه. "وليس لعرقٍ ظالم" قيل: معناه: من غرس أرضًا أحياها غيره، أو زرعها، لم يستحق به الأرض و (عرق ظالم) روي بالتنوين صفة وموصوفاً، فالمراد به المغروس؛ سمّي به لأنه لظالم، أو لأن الظلم حصل به على الإسناد المجازي، ويروى بالإضافة، فالمراد به الغارس، سماه ظالمًا لأنه في ملك الغير بغير إذنه، وهذا المعنى أوفق للحكمِ السابق، وقيل معناه: من غرس أو زرع أرض غيره بلا إذنه فليس لزرعه وغرسه "حق"؛ بمعنى: أنه يجوز للمالك قلعُهما. كذا قال الخطابي. وهذا يدل على جواز قَلْع المالك أشجار الغاصب وزرعه بلا ضمان. "مرسل": هذا الحديث مرسل على ما رُوي عن عروة، وقد ذكر الترمذي أيضًا إرسالَه، لكنه هنا مُسند إلى أَحَدِ العشرة المبشرة، فإسناده مِنْ راوٍ وإرساله مِنْ آخر، فلا منافاة، لكن قول المؤلف: (مرسل) بعد ذكره إسناده= لا يخلو عن تساهل. * * *

2164 - وقال: "ألا لا تظلِمُوا، ألا لا يحِلُّ مالُ امرئٍ إلا بطيبِ نفسٍ منه". "وعن أبي حَرَّة الرقاشي قال: قال عليه الصلاة والسلام: ألا لا تظلموا"؛ أي: بعضكم على بعض، الظلم: وضع شيء في غير موضعه، "ألا لا يحل مال امرئ مسلم الا بطِيبِ نفس منه" * * * 2165 - وعن عِمرانَ بن حُصَيْنٍ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا شِغارَ في الإسلامِ، ومَنِ انتَهَبَ نُهْبةً فليسَ مِنَّا". "عن عمران بن الحصين، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا جَلَب ولا جَنَب" تقدم معناهما في الزكاة، وقد يستعملان في المسابقة، فمعنى الجَلَب فيها: أن يصوِّت جماعة ليركض فرسُ صاحبهم من أصواتهم، وهو منهي لأنه مَكْر وحيلة، ومعنى الجنب فيها: أن يستصحب أحدُ المتسابقين فرسًا ليركبه إذا تَعِبَ مركوبه الأول، فإنه غير جائز أيضًا. "ولا شِغَار في الإسلام" وهو بكسر الشين والغين المعجمتين، أن يقول لغيره: زوِّجني بنتك أو أختك على أنْ أزوجك بنتي أو أختي، على أنْ يضعَ كل واحد منهما صَدَاق الأخرى، وكانوا يفعلونه في الجاهلية، فنهى النبي عليه الصلاة والسلام عن ذلك. ثمَّ إن وقع هذا العقدُ بين المسلمين اختلف فيه: ذهب الشافعي إلى بطلانه لظاهر الحديث، وقال أبو حنيفة: العقد صحيح والواجب فيه مَهْرُ المِثل؛ لأن المنع إنما ورد عليه من حيث إنه ذكر فيه ما لا يصلح مهراً، فيجوز العقدُ ويجب مهرُ المثل فيه، كما إذا سَمَّى خمراً، "ومن انتهب نهبة فليس منا" مرَّ معنى النهبة.

2166 - وعن السَّائِب بن يَزيدَ، عن أبيه، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يأخُذْ أحَدكمْ عصا أخيهِ لاعِباً جادًّا، فمنْ أخَذَ عصا أخيهِ فليرُدَّها إليهِ". "وعن السائب بن يزيد، عن أبيه، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا يأخذ أحدُكم عصا أخيه لاعباً جاداً، منصوبان على الحال، قيل معناه: لاعبًا ظاهرًا جاداً باعتبار الباطن؛ أي: يأخذه على سبيل الملاعبة وقصدُه في ذلك إمساكه لنفسه لئلا يلزم اللعب والجد في زمان واحد، "فمن أخذ عصا أخيه فليردها إليه"، وهذا ليس تخصيصاً بالعصا بل هكذا كل شيء. * * * 2167 - وعن الحَسَنِ عن سَمُرةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ وجدَ عَيْنَ مالِه عندَ رجُلٍ فهوَ أحقُّ بهِ ويتَّبعُ البيعُ من باعَهُ". "وعن الحسن، عن سَمُرة، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: مَنْ وجد عين ماله عند رجل فهو أحقُّ به"، المراد: ما غَصَب أو سرق منه، "ويتبع البيع" بتشديد الياء؛ أي: المشتري "من باعه"؛ يعني: يتبع البائع ويأخذ منه الثمن؛ لأنه غاصب أو سارق. * * * 2168 - وقال: "على اليدِ ما أخَذَتْ حتَّى تُؤَدِّيَ". "وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: على اليد"؛ أي: يجب عليها ردُّ "ما أخذت" بغصب أو عارية أو وديعة، فيجب في الغصب وإن لم يطلبه، وفي العارية إنْ عَيَّنَ مدة لزمه ردَّه إذا انتقضت ولو طلب مالكها قبلها، وفي الوديعة لا يلزمه الرد إلا إذا طلب المالك "حتى تؤدي" إلى مالكه. * * *

2169 - عن حَرامِ بن سعدِ بن مُحَيصةَ: أنَّ ناقَةً للبراءِ بن عازبٍ دَخَلَتْ حائِطاً فأفسَدَتْ، فقضَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن على أَهْلِ الحوائِطِ حِفْظَها بالنَّهارِ، وأنَّ ما أفسَدَتِ المَواشي باللَّيْلِ ضامِن على أَهلِها. "عن حرام بن سعد بن محيصة: أن ناقة للبراء بن عازب دخلت حائطاً"؛ أي: بستاناً لغيره، "فأفسدت فقضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن على أهل الحوائط حِفْظَها بالنهار، وأنَّ ما أفسدت المواشي بالليل ضامن على أهلها"؛ أي مضمون عليهم، قال الشافعي ومالك: إذا لم يكن مالكُها معها يلزم ضمان ما أتلف بالليل فقط؛ لأن العادة حفظُ المواشي بالليل وإرسالُها بالنهار. * * * 2170 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرِّجْلُ جُبَارٌ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال: الرِّجل جبار"؛ أي: ما أتلفت الدابةُ برجلها هَدر غير مضمون. * * * 2171 - وقال: "النَّارُ جُبَارٌ". "وقال: النار جبار"؛ أي: ما أحرقته شِرارُ نار أوقدت لحاجة من غير تعدِّ هَدرٌ. * * * 2172 - عن الحسنِ عن سَمُرةَ - رضي الله عنهما -: أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتَى أحدكم على ماشيةٍ فإنْ كانَ فيها صاحبُها فلْيَستأْذِنْهُ، وإنْ لمْ يكُنْ فيها فَلْيُصِّوتْ ثلاثاً، فإنْ أجابَهْ أَحَدٌ فلْيَستأْذِنْهُ، فإنْ لمْ يُجبْهُ أحدٌ فليَحتلِبْ ولْيَشْرَبْ ولا يَحْمِل"، غريب.

"عن الحسن، عن سمرة: أن النبيَّ عليه الصلاة والسلام قال: إذا أتى أحدكم على ماشية، فإنْ كان فيها صاحبُها فليستأذنه، فإن لم يكن فيها فليصوت"؛ أي: فليناد وليقلْ: يا صاحب المواشي! "ثلاثاً، فإن أجابه أحد فليستأذنه، وإن لم يجبه أحدٌ فليحلب وليشرب"؛ أي: جاز له أن يحلب من اللبن بقدْرِ حاجته ويشرب، "ولا يحمل"؛ أي: شيئًا من اللبن، ويرد قيمته إلى مالكه عند القدرة، وقيل: لا يلزمه ردُّ قيمته، وهذا إذا كان مضطراً يخاف الموت من الجوع أو يخاف انقطاعه عن السبيل، وقال أحمد: يجوز له أن يشرب وإن لم يكن مضطراً. * * * 2173 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ دخلَ حائِطاً فلْيَأكلْ ولا يتَّخِذْ خُبنةً"، غريب. "عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: من دخل حائطاً"؛ أي: بستاناً لغيره "فليأكل"؛ أي: جاز له أن يأكل من ثماره بغير إذنه، "ولا يتخذ خبنة" بضم الخاء المعجمة وسكون الباء الموحدة؛ أي: لا يأخذ منه، وهذه الرخصة لابن السبيل المضطر أيضاً، وإلا فلا تُقاوِمُ هذه الأحاديثُ نصوصًا وردت في تحريم أموال المسلمين. "غريب ". * * * 2174 - وعن عمرِو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جدِّه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ عَنِ الثَّمَرِ المُعَلَّقِ، فقال: "مَنْ أصابَ بفيهِ مِنْ ذي حاجَةٍ غيرَ متَّخذٍ خُبنةً فلا شيءَ عليهِ".

"وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي عليه الصلاة والسلام سئل عن الثمر المعلق"؛ أي: المُدلَّى من الشجر، "فقال: من أصاب بفيه"؛ أي: أكل من الشَّجر بفمه، ذكر الفم ليعلم أنه لا يجوز الحمل "من ذي الحاجة" بيان (من أصاب)؛ أي: أصاب للحاجة والضرورة الداعية إليه، "غير متخذ خبنة فلا شيء عليه"؛ أي: فلا إثم عليه في التناول لكن عليه ضمانه، وكان ذلك في الأول الإسلام ثم نُسخ، وأجاز أحمد ذلك من غير ضرورة. * * * 2176 - عن أُميَّةَ بن صَفْوانَ عن أبيه: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - استَعارَ منه أدْراعَهُ يومَ حُنَيْن فقال: أَغصْباً يا محمَّدُ؟ قال: "لا، بَلْ عاريَة مضمُونة". "وعن أمية بن صفوان، عن أبيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام استعار منه أدراعه يوم حنين" وكان صاحبُ الأدراع كافراً أُدخل المدينة بإذنه عليه الصلاة والسلام ليسمع القرآن والحديث ويتعلم أحكام الدين بشرط أنه إن اختار دين الإسلام أسلم، وإلا رجع إلى وطنه بلا لُحوق أذية له من المسلمين، فظن أنه يأخذها ولا يردها عليه، "فقال: أغصباً"؛ أي: أتأخذ غصباً "يا محمد، قال: لا بل عارية" بتشديد الياء؛ أي: آخذها عارية "مضمونة" قال الشافعي وأحمد: إذا تلفت العاريةُ يجب على المستعير ضمانُ قيمتها، وعندنا: لا، فتأويل قوله: (مضمونة)؛ أي: بضمان الرد؛ يعني: يجب على المستعير مؤنةُ ردِّها إلى مالكها. * * * 2177 - عن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "العارِيَةُ مُؤدَّاةٌ، والمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ، والدَّيْنُ مَقْضيٌّ، والزَّعِيمُ غارِمٌ".

11 - باب الشفعة

"وعن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العارية مؤدَّاة"؛ أي: يجب ردُّها إذا طلبها مالكُها، فيه دليل على وجوب أداء عينها عند قيامها، "والمنحة مردودة" وهي بكسر الميم وسكون النون: ما يمنح الرجل؛ أي: يعطي صاحبه من أرض يزرعها مدة، أو شاة يشرب دَرَّها، أو شجرة يأكل ثمرها ثم يردها، "والدين مقضي"؛ أي: يجب قضاؤه شرعاً، "والزعيم غارم"؛ أي: الكفيل ضامن؛ يعني: مَنْ ضَمِنَ ديناً لزمه أداؤه. * * * 2175 - وعن رافعِ بن عمرٍو الغِفاريِّ قال: كنتُ غُلاماً أرمي نخلَ الأنصارِ، فأُتيَ بيَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا غُلامُ لِمَ تَرمي النَّخْلَ"؛ قلت: أكلُ، قال: "فلا تَرْمِ وكُلْ ممَّا سقطَ في أسفَلِها". ثمَّ مسحَ رأسَهُ وقال: "اللهمَّ أشْبعْ بَطْنَهُ". "عن رافع بن عمرو الغفاري قال: كنت غلاماً"؛ أي: صبيًا "أرمي نخل الأنصار" بالأحجار ليسقط من ثمرها، "فأتي بي النبيُّ عليه الصلاة والسلام فقال: يا غلام! لِمَ ترمي النخل؟ قلت: آكل، قال: فلا ترم، وكل مما يسقط في أسفلها"، إنما أجاز له عليه الصلاة والسلام أن يأكل مما سقط من التمر؛ لأنه كان جائعاً مضطراً، وإلا فلا يجوز له ذلك، "ثم مسح رأسه فقال: اللهم أشبع بطنه". * * * 11 - باب الشُّفْعَةِ " باب الشفعة": وهي الزيادة بضم المأخوذ إلى ما عنده فيشفعه؛ أي يزيده، والأَولى أنْ يقال: هي اسم للملك المشفوع، كالأكُلة للمأكول. * * *

مِنَ الصِّحَاحِ: 2178 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشُّفْعَةُ فيما لمْ يُقْسَم، فإذا وقعَتِ الحُدُودُ وصُرِفَتَ الطرُقُ فلا شُفعة". "من الصحاح": " عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الشفعة فيما لم يقسم"، وفيه بيان ثبوت الشفعة للشريك فيما لم يقسم، أعمّ مِنْ أن يحتمل القسمة أولًا، وعند الشافعي: لا شفعة فيما لم يحتمل القسمة، وهذا بعمومه حجة عليه، "فإذا وقعت الحدود"؛ أي: عُينت وظَهر حَدّ كل واحد منهما بالقسمة والإفراز، "وصُرِفت الطرق" على بناء المجهول؛ أي: بُينت، "فلا شفعة" وبهذا قال الشافعي ومالك وأحمد: لا شفعة للجار. * * * 2179 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالشُّفْعَةِ في كلِّ شِركةٍ لمْ تُقْسَمْ رَبْعَةٍ أو حائِطٍ، لا يَحِلّ له أنْ يبيعَ حتَّى يُؤذِنَ شَريكَهُ، فإنْ شاءَ أخذَ وإنْ شاءَ تركَ، فإذا باعَ ولمْ يُؤْذِنْهُ فهوَ أحقُّ بهِ. "وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل شركة"؛ أي: مشتركة "لم تقسم" صفة لـ ("شركة)، "ربعة" بدل عنها، أو خبر مبتدأ محذوف، والربع والربعة: المنزل الذي يربع فيه الإنسان ويتوطَّنه، "أو حائط" وهو البستان، "لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن"؛ أي: يعلم "شريكه، فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به"، والحديث يدلُّ على: أنها لا تثبت إلا فيما لا يمكن نقلُه؛ كالأراضي والدُّور والبساتين، دون ما يمكن؛ كالأمتعة والدواب، وهو قولُ العامة، وعلى: وجوب العرض على الشريك إذا أراد البيع. * * *

2180 - وقال: "الجارُ أحقُّ بسَقَبهِ". "وعن أبي رافع قال: قال عليه الصلاة والسلام: الجارُ أحقَّ"؛ أي: أحق وأولى من غيره في أخذ الشفعة "بسَقبه"؛ أي: بسبب قربه؛ أي: قرب داره جاراً، وبهذا قال أبو حنيفة تثبت الشفعة للجار. * * * 2181 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَمنعْ جار جارَهُ أنْ يغرِزَ خشَبةً في جِدارِه". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يمنع جار جاره أن يغرِز خشبة في جداره"؛ يعني: إذا بنى رجل بناء فاحتاج فيه أن يضع رأسَ خشبةٍ على جدار الجار، فليس له منعُه، فإن منعه يُجْبرُه القاضي، وبه قال الشافعي في القديم، والأكثر: أنه لا يجبر عليه، فالخبرُ محمولٌ على الندب وحُسن الجوار؛ أي: لا ينبغي له منعُه من حيث المروءة، وأما من حيث الشرع فله ذلك. * * * 2182 - وقال: "إذا اخْتَلَفْتُمْ في الطَّريقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سبعةَ أذْرُعٍ". "وعنه: أنه قال: قال عليه الصلاة والسلام: إذا اختلفتم في الطريق جعل عرضه سبعة أذرع"؛ يعني: إذا كان طريق بمرة كل أحد، وأراد أن يقعد في طرف ذلك الطريق لبيع، أو يبني عليه بناء، أو يغرس فيه شجراً، ومنعه جماعة = جعل عرضه سبعة أذرع؛ لأن هذا القدر مما يحتاج إليه المار، وفيما عدا هذا القدر جاز لكل أحد أن يتصرف فيه، وكذا إذا كان الطريق في مَوَات وأراد أحدٌ أن يحييَ جانبي تلك الطريق، وأما الطريق في السِّكة الغير النافذة فهو يتعلق باختيار أهل السِّكة، يُجْعل عَرضه بقدرِ ما لا يتضرر به أهلُها في مرورهم، وقيل

أيضًا: يجعل عرضه سبعة أذرع، وأما الطريق التي قسمت في دار يكون منها مدخلهم، تقدر بمقدارٍ لا يضيق عن مآربهم التي لا بدَّ لهم منها كممرِّ السقاء والجمال والجنازة ونحوها. * * * مِنَ الحِسَان: 2183 - قالَ - صلى الله عليه وسلم - "مَنْ باعَ مِنْكُمْ داراً أو عَقَاراً قَمِنٌ أنْ لا يُبارَكَ لهُ إلاَّ أنْ يَجعلَهُ في مِثْلِهِ". "من الحسان": " عن سعيد بن حريث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من باع منكم داراً أو عقاراً العقار - بالفتح -: الأرض والضياع، "فقمن"؛ أي: حقيق وجدير "أن لا يبارك له إلا أن يجعله في مثله"؛ أي: إلا أن يشتري بثمنه مثله من الدار والأرض، لا ما يخالف ذلك من المنقولات؛ لأن الدار والأرض كثيرة المنافع، مديدة الثبات، قليلة الآفات، لا يسرقها سارق، ولا يلحقها غارة، بخلاف المنقولات، وهذا يدل على أن صرف ثمنها إلى المنقولات غير مُستحبٍّ. * * * 2184 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الجارُ أحقُّ بشُفْعَتِهِ يُنْتَظَرُ بها إنْ كانَ غائباً إذا كانَ طريقُهُما واحِداً". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الجار أحق بشفعته ينتظر بها"؛ أي: بالشفعة "إن كان غائباً إذا كان طريقهما واحداً"؛ يعني: الجار أحق بها إذا كان كذلك. * * *

2185 - عن ابن عبَّاسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشَّريكُ شَفْيعٌ، والشُّفْعَةُ في كلِّ شيءٍ"، ويُروَى عن ابن أبي مُلَيكةَ مُرسلاً. "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الشريك شفيع، والشفعة في كل شيء"؛ أي: ثابتة في جميع الأحوال المشتركة من الحيوان والعُروض وغيرهما، كذا قيل، لكن لم يذهب إليه أحدٌ من الأئمة الأربعة. "ويروى" هذا الحديث "عن ابن أبي مليكة مرسلاً"، قيل: تقديره: في كل شيء يحتمل الشفعة، أو كل عَقار مشترك. * * * 2186 - عن عبدِ الله بن حُبَيْشٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ قطعَ سِدْرَةً صَوَّبَ الله رأْسَهُ في النَّارِ". وقال أبو داودَ: هذا الحديثُ مُختصرٌ، يعني: "منْ قطعَ سِدرةً في فَلاةٍ يَسْتَظِلُّ بها ابن السبيلِ والبهائُم غَشْماً وظُلماً بغيرِ حق يكونُ لهُ فيها، صَوَّبَ الله رأسَهُ في النَّار". "عن عبد الله بن حُبيش قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قطع سِدرة" وهي شجرة النَّبق "صوَّب الله"؛ أي: ألقى "رأسه في النار"، التصويب ضد الصعود، قيل: المراد هنا سدرة مكة؛ لأنه حَرَم، وقيل: سدرة المدينة، نهى عن قطعه لئلا توحش وليبقى شجرها، فيستأنس بذلك مَنْ هاجر إليها، ويستظل بها، وهذا غير مختص بالسِّدر، بل عامٌّ في شجر يستظل الناس والبهائم بالجلوس تحته. "قال أبو داود: هذا الحديث مختصر؛ يعني: من قطع سدرة في فلاة - أي: بادية - يستظل بها ابن السبيل والبهائم غَشماً" وهو بفتح الغين وسكون

12 - باب المساقاة والمزارعة

الشين المعجمة: الظلم، "وظلماً" تفسير له، "بغير حق يكون له فيها"، قيل: المراد بالحق: النفع، وربما يظلم أحد ظلماً ويكون له نفعاً، وهذا بخلافه كما قال الله تعالى: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33]. "صوب الله رأسه في النار" قيل: إيراد هذا الحديث في (باب الشفعة) غيرُ مناسب، وإنما المناسب في "باب الغَصْب". * * * 12 - باب المُساقاةِ والمُزارعةِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2187 - عن عبدِ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما -: أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دفَع إلى يهودِ خَيْبَرَ نخلَ خَيْبَرَ وأرضَها على أنْ يعتَمِلُوها مِنْ أموالِهِمْ ولرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شَطْرُ ثَمَرِها. ويُروى: عَلَى أنْ يعمَلُوها وَيزْرعُوها ولهمْ شَطْرُ ما يخرُجُ منها. (باب المساقاة والمزارعة) "من الصحاح": " عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر وأرضها" حين فتحَها عليه الصلاة والسلام عَنْوة وأراد إخراج أهلها اليهود منها، والتمسوا منه عليه الصلاة والسلام أن يُقِرَّهم "على أن يعتملوها"؛ أي: يسعَوا فيها بما فيه عمارة أرضها وإصلاحها "من أموالهم" بأن تكون آلات العمل كلِّها كالفأس والمِنْجل وغير ذلك عليهم، "ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - شطر ثمرها"، فقال عليه الصلاة والسلام: "نُقرُّكم بها على ذلك ما شئنا"، فكانوا على ذلك زمنَ النبيِّ عليه الصلاة والسلام وخلافة أبي بكر وصَدرْاً من خلافة عمر - رضي الله عنهما - إلى أن أجلاهم

عمر، أي: ارتحلهم إلى أريحا وأَذْرعات الشام. "ويروى: على أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها" وهذا يدل على أنه لو بَيَّنَ حِصَّة العامل وسكت عن حصة نفسه جاز، ولو عكس قيل: يجوز قياساً على العكس. * * * 2188 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: كُنَّا نُخابرُ ولا نَرَى بذلكَ بأْساً حتَّى زعمَ رافِعُ بن خَدِيج أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى عَنْها فتَركْناها مِنْ أجْلِ ذلكَ. "عن ابن عمر قال: كنا نخابر" مرَّ معنى المخابرة: اكتراءُ العاملِ الأرضَ ببعض ما يخرج من النصف أو الثلث، والخبرة: النصيب، "ولا نرى بذلك بأساً حتى زعم"؛ أي: قال "رافع بن خديج: أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عنها، فتركناها من أجل ذلك". * * * 2189 - عن حَنظلةَ بن قَيْسٍ عن رافعِ بن خَدِيجٍ - رضي الله عنهما - قال: أخبرني عمَّايَ أنَّهمْ كانوا يُكرونَ الأرضَ على عهدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بما يَنْبُتُ على الأربعاءَ، أو شيءٍ يَستثنيهِ صاحبُ الأرضِ، فنهانا النبي - صلى الله عليه وسلم - عنْ ذلكَ، فقلتُ لِرَافعٍ: فكيفَ هيَ بالدَّراهِم والدَّنانيرِ؛ فقال: ليسَ بها بأسٌ. فكانَ الذي نَهىَ منْ ذلكَ ما لو نظرَ فيهِ ذو الفَهم بالحَلالِ والحَرامِ لمْ يُجيزوهُ لما فيهِ مِنَ المُخاطَرَةِ. "عن حنظلة بن قيس، عن رافع بن خديج قال: أخبرني عَمَّايَ" تثنية عم: "أنهم كانوا"؛ أي: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - "يُكْرون الأرض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ليزرعها العامل ببَذره "بما ينبت على الأربعاء" - بكسر الباء - جمع الربيع، وهو النهر الصغير على طرف المزارع؛ يعني: يكون ما ينبت على

أطراف الجداول والسَّواقي، للمُكْري أجرة لأرضه، وما عدا ذلك للمكري في مقابلة بذره وعمله، "أو شيء يستثنيه صاحب الأرض" بأن يقول: ما ينبت في هذه القطعة بعينها يكون له أجرة لأرضه، "فنهانا النبيُّ عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فقلت لرافع: فكيف هي بالدراهم أو الدنانير، فقال: ليس بها بأس"؛ لأنه لا خطر فيه، "وكان الذي نهى عن ذلك ما لو نظر فيه ذوو الفهم" بواوين، أريد به الجمع "بالحلال والحرام لم يجيزوه لِمَا فيه من المخاطرة"؛ أي: من التورُّط فيما لا يحل لكون حصة كل واحد مجهولة، وربما لا يخرج فلا يكون لصاحب الأرض شيء، فيكون عليه ضرر بتعطيل أرضه مدة من غير عوض، فهذا هو المخاطرة من الخطر الذي هو الإشراف على الهلاك. * * * 2190 - وعن رافِعٍ قال: كانَ أحدُنا يُكري أرضَهْ فيقول: هذهِ القِطعةُ لي وهذهِ لك، فرُبَّما أخرَجَتْ ذِه ولمْ تُخْرِجْ ذِه، فنهاهُمُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. "وعن رافع قال: كان أحدُنا يُكْري أرضه"؛ أي: يدفعها إلى آخر ليزرعه من بذر نفسه "فيقول" صاحب الأرض: "هذه القطعة"؛ أي: ما يخرج "لي" منها بكراء أرضي، "وهذه"؛ أي: هذه القطعة؛ يعني: ما يخرج منها "لك" بعملك، "فربما أخرجت ذه" إشارة إلى القطعة من الأرض، وهي من الأسماء التي يُشار بها إلى المؤنث المفردة، يقال: ذو ذه، والهاء ساكنة؛ لأنها للوقف وهي فاعل (أخرجت)؛ أي: ربما أخرجت قطعة منها زرعاً ولم تخرجه قطعة أخرى منها، "ولم تخرج ذه" فيلحق الضرر، "فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام" عن هذه المعاملة. * * *

2191 - وعن طاوُس - رضي الله عنه - قال: إنَّ أعلَمَهُمْ أخبرَني - يعني: ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لمْ ينهَ عنهُ، ولكنْ قالَ: "أنْ يمنحَ أحدُكُم أخاهُ خيرٌ لهُ منْ أنْ يأخُذَ عليهِ خَرْجاً معلوماً". "وعن طاوس أنه قال: إن أعلمهم"؛ أي: أَعْلم أهلِ المدينة والصحابة "أخبرني؛ يعني: ابن عباس"؛ لعل طاوس قال هذا القول في وقت لم يبقَ من الصحابة مَن هو مثل ابن عباس علماً، "أن النبي عليه الصلاة والسلام لم ينه عنه"؛ أي: عن كراء الأرض على الوجه الشرعي، "ولكن قال: لأن يمنح أحدكم"؛ أي: يعطي "أخاه" أرضه إعارة ليزرعها "خير له من أن يأخذ عليه خرجاً"؛ أي: أجراً "معلوماً" لاحتمال أن يمسك السماء مطرها والأرض رَيعها فيذهب مالُه بغير شيء. * * * 2192 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانتْ لهُ أرضٌ فلْيَزْرَعْها أو لِيَمْنَحْها أخاهُ، فإنْ أَبَى فلْيُمْسِكْ أرضَهُ". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: مَنْ كانت له أرض فليزرعها" أمرُ إباحة؛ يعني: ينبغي له أن ينتفع بها بأن يزرعها، "أو ليمنحها أخاه" بطريق المروءة والمواساة، "فإن أبى"؛ أي: عن المنح، وقيل: أي عن أحد الأمرين، "فليمسك أرضه"، وهذا توبيخ لمن له مال ولم يحصل له نفع دنيوي ولا أخروي. * * * 2193 - عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه - ورأَى سِكَّةً وشيئاً مِنْ آلةِ الحَرْث، فقال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا يَدخُلُ هذا بيتَ قومٍ إلاَّ أدخلَه الله الذُّلَّ".

"عن أبي أمامة ورأى" الواو للحال؛ أي: قال هذا الكلام حين رأى "سكة" وهي بكسر السين وتشديد الكاف: الحديدة التي يحرث بها الأرض "وشيئاً من آلة الحرث فقال: سمعت النبيَّ عليه الصلاة والسلام يقول: لا يدخل هذا بيت قوم إلا أدخله الذل" ظاهر الحديث يدل على أن الحراثة والزراعة تُورث المَذلَّة، وليس كذلك، بل المراد: أنهم إذا أقبلوا على الدَّهْقنة والزراعة اشتغلوا عن الغزو، وأدى ذلك إلى غلبة الكفار، وأيُّ ذل أشدُّ من غلبتهم على المسلمين، ويقرب من هذا قوله: "العزُّ في نواصي الخيل، والذلُّ في أذناب البقر". * * * مِنَ الحِسَان: 2194 - عن رافِعِ بن خَدِيجٍ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ زرعَ في أرضِ قومٍ بغيرِ إذنِهِمْ فليسَ لهُ مِنَ الزَّرْعِ شيءٌ ولهُ نَفَقَتُهُ"، غريب. "من الحسان": " عن رافع بن خديج، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شيء"؛ يعني: ما حصل من الزرع يكون لصاحب الأرض، وليس لصاحب البذر إلا بذره، "وله نفقته"؛ أي: لصاحب الأرض مؤنته، وبهذا قال أحمد، وأما غيره قالوا: ما حصل منه فهو للزارع، وعليه أجرة الأرض من يوم غصبها إلى يوم تفريقها. وهذا حديث "غريب" ضعفه بعضُ أهل الحديث.

13 - باب الإجارة

13 - باب الإجارةِ " باب الإجارة": وهي تمليك المنفعة بعِوض إلى مدة معينة. مِنَ الصِّحَاحِ: 2195 - عن عبد الله بن مُغَفَّل - رضي الله عنه - قال: زَعَمَ ثابتٌ أن رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهَى عَنِ المُزارَعَةِ وأمرَ بالمُؤاجَرَةِ وقال: "لا بأْسَ بها". "من الصحاح": " عن عبد الله بن مغفل" بضم الميم وفتح الغين المعجمة والفاء المشددة "قال: زعم ثابت: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المزارعة"؛ أي: عن المخابرة، "وأمر بالمؤاجرة وقال: لا بأس بها". * * * 2196 - عن ابن عبَّاسٍ: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احْتَجَمَ وأعطَى الحَجَّامَ أجْرَهُ، واسْتَعَطَ. "عن ابن عباس: أن النبي عليه الصلاة والسلام احتجم وأعطى الحجَّام أجره واسْتعط"؛ أي: أدخل الدواء في أنفه، وهذا يدل على صحة الاستئجار، وجواز المداواة. * * * 2197 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بعثَ الله نبيًّا إلاَّ رَعى الغَنمَ"، فقال أصحابُهُ: وأنتَ؟ فقال: "نعم، كنتُ أرْعَى على قَراريطَ لأِهلِ مكَّةَ".

"عن أبي هريرة، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: ما بعث الله نبياً إلا رعى الغنم" وفائدة رعيهم الغنم: زيادة شفعتهم وحملهم؛ لأنهم إذا صبروا على مشقة رعيها ومقاساة جمعها مع تفرقها في المَرعى والمَشْرب، وعلموا شدة ضعفها، واحتياجها إلى النقل من مكان إلى مكان، صبروا على مخالطة عوامِّ الناس مع اختلاف أمزجتهم، وقلة عقول بعضهم، ولم يَمَلُّوا من دعوتهم إلى الدين لاعتيادهم على تحمُّل المشقة، "فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: نعم، كنت أرعى على قراريط" جمع قيراط "لأهل مكة"؛ أي: استأجرني أهلُ مكة على رعي الغنم كلَّ يوم بقيراط، وهو نصف دانق وهو سدس [درهم]، وذِكْرُه بلفظ الجمع يُشعر بأنه أراد قسط كل شهر، ولم يذكر كميتها لنسيانها، أو استهانة بها، قال عليه الصلاة والسلام تواضعاً لله، وتصريحاً بمنته عليه الصلاة والسلام، ومَنْ قال: القراريطُ اسمُ موضعٍ بمكة، فقد تكلَّف، كأنه استعظم أن يرعى عليه بالأجرة، ولم يعلم أن الأنبياء إنما يتنزَّهون عنها فيما يعملونه لله تعالى. * * * 2198 - وقال: "قال الله تعالى: ثلاثةٌ أنا خَصْمُهُمْ يومَ القِيامَةِ: رجلٌ أعطَى بي ثمَّ غَدَرَ، ورجلٌ باعَ حُرًّا فأكلَ ثَمنَهُ، ورجلٌ استأجَرَ أجِيراً فاسْتوفَى منهُ ولم يُعطهِ أجرَهُ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: ثلاثة أنا خصمُهم" مصدر خصمته أخصمه، ثم وُصف به للمبالغة كالعَدْل، "يوم القيامة رجل أعطى بي"؛ أي: أعطى الأمان وحلف باسمي، أو بذِكْري، أو بما شَرَعته من ديني بأن يقول للمستأجر: لك ذمة الله ولك عهده، "ثم غدر" ونقض عهده بلا جُرم من جانبه، "ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه" عملَه المستأجَر منه "ولم يعطه أجره".

2199 - وعن ابن عبَّاسٍ أن نفراً مِنْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مرُّوا بماءٍ فيهمْ لَديغٌ، فعَرَضَ لهمْ رجلٌ مِنْ أهلِ الماءِ فقال: هلْ فيكُمْ مِنْ راقٍ؟ إنَّ في الماءِ رجُلاً لدِيغاً. فانطلقَ رجلٌ منهمْ فقرأَ بفاتِحَةِ الكتابِ على شاءٍ فبرأَ، فجاءَ بالشاءِ إلى أصحابهِ فكرِهُوا ذلكَ وقالوا: أخذتَ على كتابِ الله أجْراً، حتى قَدِمُوا المدينةَ فقالوا: يا رسولَ الله! أخذَ على كتابِ الله أجراً، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أحقَّ ما أخذْتُمْ عليهِ أجْراً كتابُ الله". وفي روايةٍ: "أصبتُمْ، اقْسِمُوا واضْرِبُوا لي معكُمْ سَهْماً". "عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن نفراً من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام مرُّوا بماء"؛ أي: بأهل ماء، والمراد به: الحي النازلون عليه، ولذا جمع الضمير في قوله "فيهم لديغ"؛ أي: ملدوغ، "فعرض لهم"؛ أي: استقبلهم "رجل من أهل الماء فقال: هل فيكم من راق"؛ أي: قارئ رقية، "إن في الماء رجلاً لديغاً، فانطلق"؛ أي: ذهب "رجل منهم فقرأ بفاتحة الكتاب على شاءٍ" جمع شاة وهي الغنم؛ يعني: قال ذلك الرجل لهم أرقي هذا اللديغ بشرط أنْ تُعطوني كذا رأساً من الغنم، فرَضُوا، فقرأ عليه فاتحة الكتاب، "فبرأ" ببركة كلام الله، "فجاء بالشاة إلى أصحابه فكرهوا ذلك وقالوا: أخذت على كتاب الله أجراً حتى قدموا المدينة فقالوا: يا رسول الله! أخذ على كتاب الله أجراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله"، وبهذا قال الشافعي ومالك: يجوز أخذُ الأجرة على تعليم القرآن، والرقية بكلام الله، وباسمه تعالى، والدعوات؛ لأن القرآن والنَّفث من الأفعال المباحة، ومنع ذلك أبو حنيفة وأحمد. "وفي رواية: أصبتم"؛ أي: فعلتم صواباً وحقاً، "اقسموا واضربوا لي معكم سهماً"؛ أي: اقسموا وبيِّنوا لي نصيباً من هذه الشاة، وإنما قال هذا ليطمْئِنَ قلوبَهم باستحلال أخذ الأجرة على الرقية؛ لأنه لو لم يكن حلالاً وموافقاً

للتقوى لم يَقُلْ ذلك. * * * مِنَ الحِسَان: 2200 - عن خارجةَ بن الصَّلْتِ عن عمِّه أنَّه مرَّ بقومٍ فقالوا: إنَّكَ جِئْتَ مِنْ عندِ هذا الرَّجلِ بخَيرٍ، فارْقِ لنا هذا الرجُلَ، وأتوه برجلٍ مَجنونٍ في القُيودِ، فرقاهُ بأمّ القُرآنِ ثلاثةَ أيَّامٍ غُدْوَةً وعَشِيَّةً، كلَّما خَتَمها جمعَ بُزاقَهُ ثمَّ تَفَلَ، فكأنَّما أُنْشِطَ مِنْ عِقالٍ، فأعطوهُ مئةَ شاةٍ فأتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: فذكرَ لهُ فقال: "كُلْ فَلَعَمْري لَمَنْ أكلَ برُقْيَةِ باطلٍ لقدْ أكلْتَ برُقيةِ حقٍّ". "من الحسان": " عن خارجة بن الصلت، عن عمه: أنه مرَّ بقوم فقالوا: إنك جئت من عند هذا الرجل"؛ يعني: النبي عليه الصلاة والسلام "بخير"؛ أي: بالقرآن وذكر الله، "فارْقِ لنا هذا الرجل، وأتَوْه برجل مجنون في القيود، فَرَقَاه بأم القرآن"؛ يعني: الفاتحة "ثلاثة أيام غَدوة وعَشِية كلما ختمها جمع بُزاقه ثم تفل"؛ أي: نفخ بزاقه عليه، "فكأنما أنشط"؛ أي: حَلَّ وأطلق "من عقال"؛ أي: من حَبْلٍ مشدود به؛ يعني: زال عنه ذلك الجنون، "فأعطوه مائة شاة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له فقال: كل، فلعمري"؛ أي: بحياتي، اللام فيه لام الابتداء، وفي "لمن" جواب القسم "أكل برقية باطل"؛ يعني: من الناس مَنْ يأكل برقية باطل، كذكر الكواكب والاستعانة بها وبالجن، "لقد أكلت برقية حق" وهي كلام الله. * * * 2201 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعْطُوا الأجيرَ أجْرَهُ قبلَ أنْ يَجفَّ عَرَقُهُ". "وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعطوا الأجير أجره قبل أن

14 - باب إحياء الموات والشرب

يجفَّ عرقُه"، وإنما ذكر ذلك بصيغة الأمر ليعلم أن ذلك من المهام، لا أنه واجب في ساعته. * * * 2202 - و"وأعْطُوا السَّائِلَ وإنْ جاءَ على فَرَسٍ"، مرسل. "وأعطوا السائل وإن جاء على فرس"؛ أي: لا ترد السائل وإن جاء على حالة مظِنة الغنى، فابذُلوا له مروءتكم كما بذل لكم وجهه، ولأن الفارس ربما انقطع زادُه واحتاج إلى القُوت ولم يكن له طريق إلا السؤال. في بعض النسخ وقع في آخر هذا الحديث "مرسل" وهو سهو؛ لأنه وجد مسنداً إلى ابن عمر، وقيل: أوله مسند إلى ابن عمر، وأورد البقية أبو داود في كتابه بإسناده إلى الحسين بن علي - رضي الله عنهما -. * * * 14 - باب إحياء المَوَاتِ والشِّرْبِ " باب إحياء الموات والشرب" بكسر الشين: اسم للنصيب من الماء. مِنَ الصِّحَاحِ: 2203 - عن عائشةَ رضي الله عنها عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أعْمَرَ أرضاً ليستْ لأحَدٍ فهوَ أحقُّ بها". "من الصحاح": " عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: مَنْ أعمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها"، والحديث بمنطوقه يدلُّ على أن العمارة

كافية في التملك بلا إذن السلطان، وبمفهومه على أن غيرها من التحجير والإعلام لا يكفي. * * * 2204 - وقال: "لا حِمَى إلاَّ لله ورسُولِهِ". "وعن صعب بن جَثَّامة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حمى" بكسر الحاء؛ بمعنى المحمي، وهو موضع الكَلاء يُحمى من الناس والماشية ليكثر كَلاؤه، "إلا لله ورسوله"، وهذا يؤول على إبطال فعل الجاهلية، كان الشريف فيها إذا نزل أرضاً في قبيلة استعْوى كلباً فحمى مدى عوائه من المكان الخصيب لخيله وماشيته، ولا يشركه فيه غيرُه، وهو يشارك القوم فيما يرعون، فنهى عليه الصلاة والسلام عن ذلك، فمعناه: لا حمى لأحد على الوجه الخاص، بل على الوجه الذي حَمَاه عليه الصلاة والسلام لمصالح المسلمين نحو حماية النَّقيع لمصالحهم للخيل المُعَدَّة لسبيل الله، ولرعي إبل الزكاة والجزية، مع أن الحمى كان جائزاً له لخاص نفسه، لكنه لم يفعل، ولا يجوز لأحد من الأئمة بعدَه - عليه الصلاة والسلام - أن يحمي لخاص نفسه، قيل: ولا للمصالح أيضاً؛ لهذا الحديث، والأكثر على جوازه للمصالح على نحوِ حِمَاه عليه الصلاة والسلام، وقد حمى عمر - رضي الله عنه - السرف والربذة. * * * 2205 - وعن عُرْوَةَ قال: خاصم الزُّبيرُ رجُلاً مِنَ الأنصارِ في شَريجٍ مِنَ الحَرَّةِ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اِسْقِ يا زُبيرُ ثمَّ أَرسِلِ الماءَ إلى جارِكَ". فقال الأنصاريُّ: أنْ كانَ ابن عمَّتِكَ؟ فتلوَّنَ وَجْهُهُ ثمَّ قال: "اِسْقِ يا زُبيرُ ثمَّ احْبسْ الماءَ حتَّى يَرجِعَ إلى الجَدْرِ، ثمَّ أرسِلْ الماءَ إلى جارِكَ". فاسْتَوْعَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -

للزُّبير حقَّهُ في صَريح الحُكْمِ حينَ أحفَظَهُ الأنصاريُّ، وكانَ أشارَ عليهِما بأمرٍ لهُما فيهِ سَعَة. "عن عروة قال: خاصم الزبير رجلاً من الأنصار في شريج" - بكسر الشين المعجمة وفتحها - جمع شرج، وهو مَسيل الماء، وفي أكثر النسخ: (الشراج)، "من الحرة"؛ أي: من بين الحجارة إلى موضع السهل وكانت أرض الزبير أعلى من أرض الأنصاري، وكانا يسقيان من ماء واحد جارٍ في دار، فتنازعا في تقديم السَّقي، فترافعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، "فقال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك" يدل على أن مَنْ كانت أرضه أعلى فهو أحقُّ بالسقي أولاً، "فقال الأنصاري: إن كان"؛ أي: لأن كان، بحذف حرف الجر، ومتعلقه؛ يعني: حكمت لأجل أن كان "ابن عمتك"، وكان الزبير ابن عاتكة بنت عبد المطلب، وهي عمةُ النبيَّ عليه الصلاة والسلام، "فتلوَّن"؛ أي: تغير "وجهه" عليه الصلاة والسلام من الغضب واحمرَّ، "ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر" - بفتح الجيم وكسرها وسكون الدال المهملة وفتحها - هو الجدار الحائل بين المشارب، "ثم أرسل الماء إلى جارك، فاستوعى النبي عليه السلام"؛ أي: استوفى "الزبير حقه"؛ أي: أعطى الزبير حقه تاماً "في صريح الحكم" حيث قال عليه الصلاة والسلام: (حتى يرجع إلى الجدر) مأخوذ من الوعاء الذي يجمع فيه الأشياء كأنه جمعه في وعائه "حين أَخفظه"؛ أي: أغضبه "الأنصاريُّ، وكان عليه الصلاة والسلام أشار عليهما" أولاً "بأمرٍ" وهو قوله: "اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك" "لهما فيه سَعة"؛ لأنه كان أمراً للزبير بالمعروف، وأخذاً بالمسامحة وحسن الجوار بترك بعض حقه دون أن يكون حكماً عليه منه، فلما رأى الأنصاري يجهل موضعَ حقِّه أَمَرَ الزبير باستيفاء تَمام حقه، وهذا يدل على جواز العفو عن التعزير لسوء أدبه، وإنما حكم عليه الصلاة والسلام على

الأنصاري في حال غضبه مع نهيه الحاكم أن يحكم وهو غضبان: لأنه كان معصوماً مِنْ أن يقول في السُّخط والرضا إلا حقاً. * * * 2206 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَمنعُوا فَضْلَ الماءِ لتَمنعُوا فَضْلَ الكَلإِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: لا تمنعوا فضل الماء لتمنعوا فضل الكلإ" مرَّ تأويلُه في حديث: "لا يباع فضل الماء ليباع به الكَلاء". * * * 2207 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بيعِ فضْلِ الماءِ. "وعن جابر - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع فضل الماء" مرَّ بيانُه. * * * 2207/ -م - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثةٌ لا يُكَلِّمُهُمْ الله يومَ القيامةِ ولا ينظرُ إليهم: رجلٌ حَلفَ على سِلْعةٍ، لقد أَعْطَى بها أكثرَ مما أَعْطَى وهو كاذبٌ، ورجلٌ حلفَ على يمينٍ كاذبةٍ بعدَ العصرِ لِتقْتَطِعَ بها مالَ رجلٍ مُسلمٍ، ورجلٌ مَنَعَ فضلَ ماءٍ, فيقولُ الله تعالى: اليومَ أمنعُكَ فضلي كما مَنَعْتَ فضلَ ماءٍ لم تعملْ يداك". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام: ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة"؛ أي: كلام الرضا، "ولا ينظر إليهم"؛ أي: لا يلطف بهم: "رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها"؛ أي: بالسلعة "أكثر مما أعطي"، كلا

الفعلين على بناء المفعول؛ يعني: رجل يشتري متاعه بمائة فحلف أنَّ رجلاً أعطاني قبلَ هذا بهذا المتاع مائة وعشرين "وهو كاذب" في هذا الكلام، وفي بعض النسخ: كلاهما على بناء الفاعل؛ أي: أعطى هو بها أكثر مما أعطى هو بها، ويجوز أن يكون الأول على بناء الفاعل، والثاني على بناء المفعول؛ أي: أعطى في ثمنها أكثر مما يعطيه المشتري سَوماً، "ورجل حلف على يمين كاذبة"؛ أي: بيمين كاذبة على محلوف عليه غير واقع وهو عالم به "بعد العصر" قيَّد به لأنَّ بعده هو وقت الرجوع إلى أهله بغير ربح، فحلف كاذباً ليربح، أو ذكره لشرف ذلك الوقت، فيكون اليمين الكاذبة في تلك الساعة أغلظ وأشد، أو لأنه عليه الصلاة والسلام كان يعقد للحكومة بعد العصر، "ليقتطع بها مال رجل مسلم"؛ أي: ليأخذه لنفسه متملكاً، "ورجل منع فضل ماء فيقول الله - عزَّ وجلَّ -: اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمل يداك"؛ أي: لم يحصل بسعيك، فإني لو لم أخرجه لم يخرج بسعيك، ولو بالغت في الحفر كلَّ المبالغة. * * * مِنَ الحِسَان: 2208 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أحيا أرضاً مَيتَةً فهي له". "من الحسان": " عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: من أحيا أرضاً ميتة فهي له" مرَّ معناه (¬1). ¬

_ (¬1) في "غ": "تقدم بيانه".

2209 - وعن الحسنِ، عن سَمُرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَحاطَ حائِطاً على الأرضِ فهو له". "وعن الحسن، عن سمرة، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: من أحاط حائطاً على أرض فهي له"؛ أي: مَنْ أحاط جداراً حول أرض موات لحظيرة غنم أو غيره صار ذلك المَحُوط ملكاً له، وقد يستدِلُّ به مَنْ يرى الملك بالتحجير، ولا حجةَ فيه؛ لأن التملك بالإحياء والعمارة. * * * 2210 - عن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أقطعَ للزُّبيرِ نخيلاً. "عن أسماء بنت أبي بكر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع للزبير نخيلاً"؛ أي: أعطاه عليه الصلاة والسلام ذلك من الخُمس الذي هو سهمه، أو من نخيل الكفار، أو من نخيل مسلم مات ولم يخلِّف وارثاً فوقع في بيت المال لكونه مقاتلاً في سبيل الله، أو هو من النخيل التي آثر بها الأنصارُ المهاجرين، أو أقطعه مواتاً ليغرس فيه نخيلاً، والإقطاع: تعيين قطعة من الأرض. * * * 2211 - وعن ابن عمرَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقطعَ للزُّبيرِ حُضْرَ فرسِه، فأَجْرى فرسَه حتى قامَ، ثم رَمَى بسَوْطِه فقال: "أَعطُوه مِن حيثُ بلغَ السَّوْطُ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي عليه الصلاة والسلام أقطع للزبير حضر فرسه" بضم الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة؛ أي: مقدار عَدْو فرسه، "فأجرى فرسه حتى قام"؛ أي: وقف ولم يقدر أن يمشي، "ثم رمى"؛ أي: الزبير "بسَوطه" في موضع وقال: أعطني يا رسول الله إلى حيث وَقَع فيه سوطي،

"فقال عليه الصلاة والسلام: أعطوه من حيث بلغ السوط" (من) فيه زائدة، وهذا يدل على جواز إقطاع الإمام من بلاد العَنْوة ما لم يَجْرِ عليه ملكُ مسلم. * * * 2212 - وعن عَلْقَمةَ بن وائلٍ، عن أبيه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَقطعَهُ أَرضاً بحضرَمَوْتَ. "وعن علقمة بن وائل، عن أبيه: أن النبي عليه الصلاة والسلام أقطعه أرضاً بحضرموت" اسم بلد، وهما اسمان جُعلا واحداً. * * * 2213 - وعن أبيضَ بن حَمَّالٍ المَأرِبيِّ: أنَّه وفدَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاستَقطَعَه المِلحَ الذي بمأرِبَ فأَقطعَه إيَّاهُ، فلمَّا ولَّى قال رَجُلٌ: يا رسولَ الله! إنما أَقطعْتَ له الماءَ العِدَّ، قال: "فرجَعَه منه"، قال: وسأله ماذا يُحمى من الأراكِ؟ قال: "ما لم تَنَلْه أخفافُ الإبلِ". "وعن أبيض بن حَمَّال" بفتح الحاء المهملة والميم المشددة "المأربي"؛ أي: منسوب إلى مأرب وهو بفتح الميم وسكون الهمزة وفتح الراء وكسرها: موضع باليمن مملحة، قيل: أبيض أزدي، وإنما نسب إلى مأرب لنزوله به، وكان اسمه أسود فسماه عليه الصلاة والسلام أبيض، وقيل: مأرب من بلاد الأزد. "أنه وفد"؛ أي: أتى "إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستقطعه الملح"؛ أي: طلب منه إقطاع مَعْدنِ الملح "الذي بمأرب، فأقطعه إياه" لظنه أنه يستخرج منه الملح بالكَدِّ "فلما ولى"؛ أي: رجع "قال رجل" وهو أقرع بن حابس: "يا رسول الله! إنما أقطعت له الماء العد" بكسر العين وتشديد الدال المهملتين؛ أي: الدائم

الذي لا ينقطع مادته، قال: قيل: القائل هو الرجل، والظاهر أنه أبيضُ الراوي، "فرجعه منه"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام من الإقطاع "قال: وسأله"؛ أي: الرجل النبيَّ عليه الصلاة والسلام، وفيه بيان أن المعدن الظاهر لا يجوز إقطاعه وهو الذي يحصل المقصود منه بلا كَدٍّ ومؤنة؛ كالملح والنفط والكبريت ونحوها، وبيان أن الحاكم إذا حكم بشيء ثم تبيَّن له أن الحق في غيره فعليه أن يرجع عن ذلك الحكم ويحكم ثانياً. "ماذا يحيى" على بناء المفعول "من الأراك" أراد بالحمى هاهنا: الإحياء "قال عليه الصلاة والسلام: ما لم تنله أخفاف الإبل"؛ أي: ليكن الإحياء في موضع بعيد لا تَصِلُ إليه الإبل السَّارحة، فإنها ترعى إلى غايةِ ما تصل إليه بمشيها على أخفافها، وفيه دليل على أن الإحياء لا يجوز بقرب العمارة، وبما يحتاج إليه أهل البلد من مَرْعى مواشيهم. * * * 2214 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمونَ شركاءُ في ثلاثٍ: في الماءِ، والكَلإِ، والنَّارِ". "وعن أبي خداش، عن رجل، عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه قال: المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء"، والمراد منه: المياه المباحة لكل واحد دون المُحْرز في الظُّروف والمستنبط بالسعي، "والكلاء" والمراد: هو الذي نبت في موات، "والنار" قيل المراد منها: الحجارة التي تُوري النار لا يمنع أحد أن يأخذ حجراً منها إذا كان في الموات، وأما التي أوقدها الرجلُ في منزله فله منعُ الغير منها، ولكن لا يمنع مَنْ يستصبح منها مصباحاً لأنه لا ينقص من عينها شيء.

2215 - وعن أسمرَ بن مُضَرِّسٍ أنه قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فبايعتُه فقال: "مَن سَبقَ إلى ماءٍ لم يسبقْهُ إليه مُسلمٌ فهوَ لهُ". "عن أسمر بن مضرس قال: أتيت النبي عليه الصلاة والسلام فبايعته، فقال: من سبق إلى ماء لم يسبقه إليه مسلم"؛ أي: إلى ماء مباح وكذا غيره من المباحات؛ كالكَلاء والحطب ونحوهما "فهو له"، أي: ما أخذه صار ملكاً له دون ما بقي في ذلك الموضع، فإنه لا يملكه. * * * 2216 - ورُوِيَ عن طاوسٍ مُرسَلاً أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَن أَحيا مَواتاً مِنَ الأرضِ فهو له، وعادِيُّ الأرضِ للهِ ولرسولهِ، ثم هي لكم مِنِّي". "وروي عن طاوس مرسلاً: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أحيا مواتاً من الأرض فهو له، وعادي الأرض"؛ أي: قديمها، كأنه منسوب إلى عاد قوم هود؛ لتقادم زمانهم، والمراد بها الخراب الذي لا يعرف له مالك من المسلمين، "لله ولرسوله"؛ أي: هي فيء يتصرف فيها الرسول عليه الصلاة والسلام ما يستصْوِبه، "ثم هي لكم مني"؛ أي: إعطائي إياها لكم بأن أَذنتُ وجوَّزتُ لكم أنْ تُحيوها وتَعْمُروها. * * * 2217 - ورُوِيَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أقطعَ لعبد الله بن مسعودٍ الدُّورَ، وهي بينَ ظَهْرانيِ عِمارةِ الأنصارِ مِن المنازلِ والنخلِ، فقالَ بنو عبدِ بن زُهرَة: نَكِّبْ عنَّا ابن أُمِّ عبدٍ، فقالَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فَلِمَ ابتَعَثَني الله إذاً؟ إنَّ الله لا يُقَدِّسُ أُمَّةً لا يُؤْخَذُ للضَّعيفِ فيهم حَقُّهُ". "وروي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقطع لعبد الله بن مسعود الدور" وتأويل هذا

الإقطاع على وجهين؛ أحدهما: أنه أقطعه العَرْصة ليبني فيها، والعربُ تسمي المنزل قبل البناء داراً، فعلى هذا صارت ملكاً له بالبناء، والثاني: أن إقطاع المهاجرين كان على سبيل العارية، وإليه ذهب أبو إسحاق المروزي، فعلى هذا: لا يجري فيها الإرث، وتركت في أيدي أزواجهم بعدهم على سبيل الإرفاق بالسُّكنى. "وهي بين ظهراني عمارة الأنصار"، يقال أقام بين ظهرانيهم؛ أي: بينهم على سبيل الاستظهار بهم والاستناد إليهم، زيدت الألف، والنون مفتوحة للتأكيد، "من المنازل والنخل" بيان لعمارة الأنصار، "فقال بنو عبد بن زهرة" هم حي من قريش أخوال النبي عليه الصلاة والسلام كانوا من المهاجرين، وكانت أمه - عليه الصلاة والسلام - منهم، "نكِّب"؛ أي: اصْرِف "عنا ابن أم عبد"، يعنون به عبد الله بن مسعود، وإنما قالوا ذلك استهانة بقربه، وسآمة عن مجاورته، وسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسترد منه ما أقطعه، "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلم ابتعثني الله إذاً"؛ أي: فما الفائدة في ابتعاثي إلى الخلق بالرسالة إذا لم أُسوِّ بين الضعيف والقوي في أخذ الحق من صاحبه له، وإن ابن مسعود ضعيف فقير وأنتم أقوياء أغنياء، فلا أترك معاونته ولا أسترد ما أعطيته لأجل رضاكم، "إنَّ الله لا يقدِّس أمة"؛ أي: لا يطهرهم من الذنوب والآفات، "لا يؤخذ للضعيف" الجملة صفة (أمة)، "فيهم حقه" لا يؤخذ حق الضعيف الذي فيهم. * * * 2218 - عن أبي صِرْمَةَ - رضي الله عنه - صاحبِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ضارَّ أَضَرَّ الله بهِ، ومَن شاقَّ شَقَّ الله عليه". "عن أبي صرمة" بكسر الصاد "صاحب النبي عليه الصلاة والسلام، عن

النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: من ضار"؛ أي: أوصل ضرراً إلى أحد "أضرَّ الله به"؛ أي: أوصل إليه ضرراً، "ومن شاق"؛ أي: أوصل مشقة إلى المسلمين وفرَّق جماعتهم، "شق الله عليه"؛ أي: أوصل إليه مشقة وفرَّق أمره. * * * 2219 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَضَى في سيلِ المهْزُور، أن يُمسَكَ حتى يبلغَ الكعبينِ، ثم يُرسلَ الأعلى على الأسفلِ. "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى في سيل مهزور" بالإضافة وتقديم الزاي المعجمة على الراء المهملة، وادٍ لبني قريظة بالحجاز كان يجري فيه الماء ويسقي منه جماعةٌ مزارعَهم، فأمر عليه الصلاة والسلام "أن يمسك حتى يبلغ"؛ أي: الماء في أرضه إلى "الكعبين، ثم يرسل الأعلى إلى الأسفل"؛ أي: إلى مَنْ هو أسفل منه، فعلى هذا الترتيب. * * * 2220 - عن سَمُرةَ بن جُندُبٍ - رضي الله عنه -: أنه كانت لهُ عَضَدٌ مِن نخلٍ في حائطِ رَجُلٍ من الأنصارِ، ومعَ الرَّجلِ أهلُه، وكان سَمُرَةُ - رضي الله عنه - يدخلُ عليه فيَتأذَى به، فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ ذلك لهُ، فطلبَ إليهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِيَبيعَهُ فأَبى، فطلبَ أنْ يُناقلَه فأَبى، قال: "فهَبْهُ لهُ ولك كذا"، أمراً قَدْ رَغَّبهُ فيهِ فأَبى، فقال: أنتَ مُضارٌّ، فقالَ للأنصاري: "اِذهبْ فاقطَعْ نخلَهُ". "عن سمرة بن جندب: أنه كان له عضد"؛ أي: صف "من نخل في حائط رجل من الأنصار، ومع الرجل أهله، فكان سمرة يدخل عليه" لإصلاح النخيل، أو لقطف الثمار، "فيتأذى به"؛ أي؛ الرجل بدخول سمرة، "فأتى النبي

15 - باب العطايا

عليه الصلاة والسلام، فذكر ذلك له، فطلب إليه النبي عليه الصلاة والسلام ليبيعه فأبى" سمرة، "فطلب أن يناقله"؛ أي: يبادله؛ يعني: أن يترك نخيله في هذا البستان ويأخذ نخيلاً مثله في موضع آخر، "فأبى، قال عليه الصلاة والسلام: فهبه له ولك كذا وكذا أمراً"؛ أي: من الثواب والقُصُور والبساتين في الجنة، "رغَّبه فيه"؛ أي: حرَّضه في ذلك الأمر، "فأبى، فقال: أنت مضار"؛ أي: تريد إضرار الناس حيث لم تقبل هذه الأشياء، "فقال للأنصاري: اذهب فاقطع نخلة" ليندفع ضررُه. * * * 15 - باب العطايا " باب العطايا": جمع عطية، وهي ما يُعطى. مِنَ الصِّحَاحِ: 2221 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنه -: أن عمرَ - رضي الله عنه - أصابَ أرضاً بخيبرَ، فأَتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! إني أصبتُ أرضاً بخيبرَ، لم أُصِبْ مالاً قطُّ أَنْفَسَ عندي منه، فما تَأَمُرُ به؟ قال: "إن شئتَ حَبَّسْتَ أصلَها وتصدَّقتَ بها"، فتصدَّقَ بها عمرُ: أنَّه لا يُباعُ أصلُها ولا يوهَبُ ولا يورَثُ، وتصدَّقَ بها في الفقراءِ, وفي القُربى، وفي الرِّقابِ، وفي سبيل الله، وابن السَّبيلِ، والضَّيْفِ، لا جُناحَ على مَنْ وَليَها أنْ يأكلَ منها بالمعروفِ، ويُطعِمَ غيرَ مُتمَوِّلٍ. وقال ابن سيرينَ: غيرَ مُتأثِّلٍ مالاً. "من الصحاح": " عن ابن عمر: أن عمر أصاب أرضاً بخيبر"؛ أي: حصل له ذلك عند فتحها وقِسْمتِها - عليه الصلاة والسلام - بين الغانمين، "فأتى النبي عليه

الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر لم أصب مالاً قط أنفس"؛ أي: أعزُّ وأفضل "عندي منه، فما تأمرني به"؛ يعني: أريد أن أجعله لله، فبأي طريق أجعله لله؟ "قال عليه الصلاة والسلام: إن شئت حَبَّست"؛ أي: وقفت؛ أي: إن شئت جعلتها وقفاً لا يُباع أصلُها. "وتصدقت بها"؛ أي: بالثمار والحبوب، "فتصدق بها عمر: أنه لا يباع أصلها، ولا يوهب، ولا يورث، وتصدق بها في الفقراء وفي القربى" تأنيث الأقرب يريد به: أقرباء الرسول عليه الصلاة والسلام، أو أقرباء نفسه، "وفي الرقاب" جمع رقبة وهم المكاتَبون؛ أي: في أداء ديونهم، ويحتمل أن يريد بقوله: (وفي الرقاب): أن يشتري منه الأرقاء، ويعتقوا، "وفي سبيل الله" أراد به: الغزاة بأن يشتري لهم منه السلاح والفرس، ويعطوا النفقة، "وابن السبيل" أراد به: المسافرين، "والضعيف لا جناح"؛ أي: لا إثم "على من وليها"؛ أي: أقام بحفظها وإصلاحها "أن يأكل منها بالمعروف"؛ أي: أن يأخذ منها قَدْرَ ما يحتاج إليه قوتاً وكسوة، "ويطعم"؛ أي: يصرف إلى الموقوف عليه، "غير متمول، قال ابن سيرين: غير متأثل مالاً"؛ أي: غير جامع لنفسه منه رأس مال. * * * 2222 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ العُمْرَى جائزةٌ". "عن أبي هريرة، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: العمرى جائزة" وهي اسم مِنْ أعمرتك الشيء؛ أي: جعلته لك عمري؛ أي: مدةَ عُمرِك، أو مدة عمري. * * * 2223 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "العُمْرَى ميراثٌ لأهلِها".

"وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إن العمرى ميراث لأهلها" يدل على أن العمرى تمليك الرقبة والمنفعة جميعاً. * * * 2224 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما رَجُلٍ أَعْمَرَ عُمْرَى له ولعَقِبهِ، فإنها للذي أُعطِيَها، لا ترجعُ إلى الذي أَعطاها، لأنه أَعطَى عطاءً وقعَتْ فيهِ المواريثُ". "وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أيما رجل أعمر عمرى له ولعقبه، فإنها للذي أعطيها، لا ترجع إلى الذي أعطاها؛ لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث"؛ أي: صارت ملكاً للمدفوع إليه فيكون بعد موته لورثته كسائر أملاكه، ولا يرجع إلى الدافع، كما لا يجوز الرجوع في الموهوب، وإليه ذهب الأكثرون سواء ذكر العقب أو لم يذكر. * * * 2225 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: "إنَّما العُمرَى التي أجازَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يقولَ: هي لك ولعَقبكَ، فأمَّا إذا قال: هي لكَ ما عِشْتَ؛ فإنَّها ترجِعُ إلى صاحبها". "وعن جابر قال: إنما العمرى التي أجاز رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقول: هي لك ولعقبك، فأما إذا قال هي لك ما عشت (¬1)، فإنها ترجع إلى صاحبها" بعد وفاة المعمر له، ولا يورث منه، فيكون تمليكاً للمنفعة مدةَ عمره دون الرقبة، وإليه ذهب مالك. ¬

_ (¬1) في "غ" زيادة: "أي مدة حياتك ولم يقل ولعقبك".

فصل

مِنَ الحِسَان: 2226 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُعْمِرُوا ولا تُرقِبوا، فمن أعْمرَ شيئاً أو أَرقَبَهُ فهو سبيلُ الميراثِ". "من الحسان": " عن جابر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا تعمروا ولا ترقبوا" الرُّقبى اسم على فُعلى من المَرقبة وهي أن يقول الرجل لصاحبه: وهبت منك كذا، فإن مُتَّ قبلي عاد إلي، وإن مُتُّ قبلك استقر لك، فكل واحد منهما يرقُب موتَ صاحبه، وهذا نهيُ إرشادٍ؛ أي: لا تهبوا أموالكم مدةً ثم تأخذونها كعادة الجاهلية، بل إذا وهبتم شيئاً زال عنه ملككُم. "فمن اعتمر شيئاً، أو أرقبه فهو سبيل الميراث" وقد تعارضت الروايات فمنهم من يعمل بظاهر الحديث ويجعلونها تمليكاً، ومنهم مَنْ قال إنها ليست تمليكاً؛ لأن التمليكات لا تعلق بالحَظْر، ومنهم من قال بجوازها لما روي. * * * 2227 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "العُمْرى جائزةٌ لأهلِها، والرُّقبى جائزةٌ لأهلِها". "عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: العمرى جائزة لأهلها"؛ أي: صحيحة نافذة لمن جعلت العمرى له، "والرقبى جائزة لأهلها". * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: 2228 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ عُرِضَ

عليهِ ريحانٌ فلا يردَّه، فإنه خفيفُ المَحْمَلِ طيَّبُ الرِّيح". (فصل) "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من عرض عليه ريحان فلا يرده" كيلا يتأذى المعطي برده، "فإنه خفيف المحمل"؛ أي: قليل المنَّة "طيب الريح" فيه إشارة إلى حفظ قلوب الناس بقَبول هداياهم، وأيضاً إشارة إلى استحباب استعمال الطيب. * * * 2229 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يَرُدُّ الطِّيْبَ". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يرد الطيب" فيه إشارة إلى استحباب استعمال الطيب. * * * 2230 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "العائدُ في هِبَتِه كالكلبِ يعودُ في قَيْئهِ، ليسَ لنا مَثَلُ السَّوْءِ". "وعن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العائد في هبته كالكلب يعود في قيئه" شَبَّه عليه الصلاة والسلام القبيحَ شرعاً بالقبيح حِسًّا، واستدل به على عدم جواز الرجوع عن الموهوب بعد القبض بقوله: "ليس لنا مثل السوء"؛ أي: لا ينبغي لأهل ملتنا المُكَرَّمين بالإيمان أن يوصفوا بما يسوؤهم في العاقبة، وتنحط به منزلتهم، فإن الله تعالى لم يرضَ لهم ذلك، وإنما جعله للمشركين، قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} [النحل:60]؛ أي: الصفة

الذميمة، وأيُّ وصفٍ أخسُّ من وصف يشاركه فيه الكلب، ويَحمل هذا القول مَنْ يرى الرجوع في الهبة عن الأجنبي على التنزيه وكراهة الرجوع. * * * 2231 - عن النُّعمانِ بن بشيرٍ: أن أباهُ أتَى بهِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني نَحَلْتُ ابني هذا غُلاماً، فقال: "أَكُلَّ وَلَدِك نحلْتَ مثلَه؟ " قال: لا، قال: "فارجِعْه". ورُوِيَ أنَّه قال: "أَيَسُرُّكَ أنْ يكونوا إليك في البرِّ سواءً؟ " قال: بلى، قال: "فلا إذاً". ويُروى أنه قال: "فاتَّقوا الله واعدِلُوا بينَ أولادِكم". ويُروى أنه قال: "لا أَشهدُ على جَوْرٍ". "عن النعمان بن بشير: أن أباه أتى به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: إني نحلت"؛ أي: أعطيت "ابني هذا غلاماً، فقال: أكل ولدك نحلت مثله؟ قال: لا، قال: فارجعه"؛ أي: استرد ذلك الغلام، وهذا على سبيل الإرشاد والتنبيه على ما هو الأولى والأقرب للتقوى، وفيه دلالة البر. "ويروى أنه قال: أيسرك أن يكونوا في البر سواء"؛ أي: يكونوا بارِّين محسنين إليك لا عاقين، "قال: بلى، قال: فلا إذاً"؛ أي: إذا كان كذلك فلا تفعل إذًا، كَرِهَ قومٌ تفضيل بعض الأولاد على بعض مع نفوذه، وبه قال الشافعي ومالك. "ويروى: أنه قال: فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم" يدل على استحباب التسوية بينهم في العطية وغيرها من أنواع البر، وبه قال إبراهيم. "ويروى أنه قال: لا أشهد على جور"؛ أي: على ظلم، وبهذا أوجب بعضُهم التسوية بينهم، ذهب طاوس وداود إلى أن التسوية بين الذكور والإناث، وقال أحمد وإسحاق: التسوية بينهم أن يعطى الذكر مثل حظ الأنثيين.

مِنَ الحِسَان: 2232 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لواهبٍ أنْ يرجعَ فيما وَهَبَ إلا الوالدَ مِن ولدِهِ". "من الحسان": " عن عبد الله بن عمرو قال: قال النبيُّ عليه الصلاة والسلام: لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب، إلا الوالد من ولده" فإنه يجوز له أن يأخذ ما وهب لولده ويصرفه في نفقته وسائر ما يجب له عليه وقتَ حاجته كسائر أمواله استيفاءً لحقه من ماله، لا استرجاعاً لِمَا وهب ونقضاً للهبة، وفي معنى الوالد جميع الأصول كالأم والأجداد والجدَّات، وهذا عند الشافعي ومالك. * * * 2233 - عن ابن عمرَ، وابن عبَّاسٍ يَرفعانِ الحديثَ قال: "لا يَحِلُّ للرَّجلِ أنْ يُعطيَ عطِيَّةً ثم يرجعَ فيها، إلا الوالدَ فيما يُعطي ولدَه، ومَثَلُ الذي يُعطي العَطِيّةَ ثم يرجعُ فيها: كمثلِ الكلبِ أكلَ حتى إذا شبعَ قاءَ, ثم عادَ في قَيْئِهِ"، صحيح. "عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - يرفعان الحديث قال: لا يحل لرجل أن يعطي العطية ثم يرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ثم يرجع فيها كمثل الكلب أكل حتى إذا شَبعَ قاء ثم عاد في قيئه" صحيح. * * * 2234 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن أعرابياً أهدَى لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَكْرَةً، فعَوَّضهُ منها ستَّ بَكْراتٍ فتسَخَّطَ، فبلغَ ذلكَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فحمِدَ الله وأَثنَى عليه ثمَّ

قال: "إن فلاناً أَهْدى إليَّ ناقةً، فعوَّضْتُه منها ستَّ بَكْراتٍ فظَلَّ ساخِطاً! لقد هَمَمْتُ أنْ لا أَقبلَ هديةً إلا مِن قُرَشيٍّ، أو أنصاريٍّ، أو ثَقَفيٍّ، أو دَوْسيٍّ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن أعرابياً أهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بَكْرة" وهي الفَتِيَّة من الإبل، "فعوضه منها ست بَكرات" جمع بكرة، "فتسخط"؛ أي: استقل الأعرابي عطاءَه؛ لأن طمعه في الجزاء كان أكثر لِمَا سَمعَ من جوده عليه الصلاة والسلام، "فبلغ ذلك النبي عليه الصلاة والسلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن فلاناً أهدى إلي ناقة (¬1)، فعوضته منها ست بكرات، فظل ساخطاً، لقد هممت"؛ أي: قصدت "أن لا أقبل هدية إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقفي أو دَوسي"، وإنما خص المذكورين بقبول هداياهم لعلمه بسخاوة أنفسهم وعلو هممهم، وصدق نياتهم، وقطع نظرهم من الأعراض الدنياوية، فكره عليه الصلاة والسلام قَبولَ الهدية ممن لا باعث له عليها إلا الطمع. * * * 2235 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أُعطيَ عطاءً فوَجَدَ فليَجْزِ بهِ، ومَنْ لم يَجدْ فليُثْنِ، فإنَّ مَنْ أَثنَى فقد شكرَ، ومَن كتَمَ فقد كَفَرَ، ومَن تَحَلَّى بما لم يُعْطَ كَانَ كَلابسِ ثَوْبَيْ زُورٍ". "عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ أعطى عطاء فوجد"؛ أي: غنى وقَدر على المكافأة، "فليجز به"؛ أي: فليعطه عطاء مكافأة لفعله، "ومن لم يجد فليثن" عليه بخير، وليشكره ولا يكتُم نعمته عليه، "فإن مَنْ أثنى فقد شكر، ومن كتم فقد كفر" من الكفران، لا من الكفر؛ أي: ترك أداء حقه، "ومن تحلى"؛ أي: تزين "بما لم يُعط" على بناء المجهول؛ أي: بما لم يعطاه "كان ¬

_ (¬1) في "غ": "بكرة".

كلابس ثوبي زور"، وقصة هذا: ما روي أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لي ضرة فهل عليَّ جناحٌ أن أتشبع بما لم يعطِني زوجي، فأجابها عليه الصلاة والسلام بهذا القول؛ أي: مَنْ فعل ذلك فقد كذب كذبتين، إذ أظهر شيئين كاذبين أحدهما قولها: أعطاني زوجي، والآخر إظهارها محبته إياها أكثر من محبته ضَرَّتها. قال الخطابي: كان في العرب رجلٌ يشهد بالزور مُبْطِناً كذبه بلبسه ثوبين كثياب المعاريف مُوهماً أنه معروف محترم لتقبل شهادته، فكان ثوباه سببَ زوره، فسميا ثوبي زور، فشبه عليه الصلاة والسلام هذه المرأة بذلك الرجل. * * * 2236 - وقال: "مَنْ صُنِعَ إليه مَعْروفٌ فقال لفاعِلِه: جزاكَ الله خيراً، فقد أبلغَ في الثناءِ". "وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من صنع إليه معروف فقال لفاعله: جزاك الله خيراً، فقد أبلغ في الثناء"؛ أي: بالغ في أداء شكره. * * * 2237 - وقال: "مَنْ لم يَشْكرِ النَّاسَ لم يشكرِ الله". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لم يشكر الناس لم يشكر الله"، وذلك إما لأن مما أمر الله به شكر الناس، فمن لم يطاوعه فيه لم يكن ممتثلاً جميعَ أوامره، فلا يتمُّ شكره له لأنه إنما يتم بامتثال جميع أوامره، أو تنبيهاً على أن مِنْ شُكْر النعمة شُكْرَ الوسائط، فمن لم يفعل جديرٌ بأن لا يشكر

المُنْعِم والنعمة. * * * 2238 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لمَّا قدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ أتاهُ المهاجرونَ فقالواْ يا رسولَ الله! ما رأيْنا قوماً أبذَلَ مِن كثيرٍ، ولا أحسنَ مواساةً مِن قليلٍ، مِن قومٍ نزلْنا بينَ أَظْهُرِهم، لقد كَفَوْنا المؤنةَ وأشْرَكُونا في المَهْنَإ، حتى لقدْ خِفْنا أنْ يَذْهَبُوا بالأجرِ كلِّه، فقال: "لا، ما دَعَوْتُم الله لهم، وأَثنَيتُم عليهم"، صحيح. "وعن أنس أنه قال: لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أتاه المهاجرون فقالوا: يا رسول الله! ما رأينا قوماً أبذل من كثير"؛ أي: من مال كثير، "ولا أحسن مواساة"؛ أي: عطية "من قليل"؛ أي: من مال قليل، قيل: (من) فيهما يتعلق بالبذل والمواساة، "من قوم" المراد به الأنصار، "نزلنا بين أظهرهم، لقد كفونا" من الكفاية "المؤنة، وأشركونا في المَهْنأ" - بفتح الميم -: ما يقوم بالكفاية وإصلاح المعيشة، وقيل: ما يأتيك بلا تعب؛ يعني: شَرَكُونا في ثمار نخيلهم، وكَفونا مؤنة سقيها وإصلاحها، وأعطونا نصف ثمرهم. "حتى لقد خفنا أن يذهبوا بالأجر كله"؛ أي: يعطيهم الله أجر هجرتنا من مكة إلى المدينة، وأجر عبادتنا كلها من كثرة إحسانهم إلينا، "فقال عليه الصلاة والسلام: لا"؛ أي: لا يذهبون بكل الأجر "ما دعوتم الله"؛ أي: ما دمتم تدعون "لهم" بالخير، "وأثنيتم عليهم"، فإن دعاءكم يقوم مقامَ إحسانهم إليكم. "صحيح". * * * 2239 - وعن عائشةَ رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَهادَوْا فإنَّ

الهدِيَّةَ تَذهبُ بالضَّغائنِ". "عن عائشة رضي الله عنها، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: تهادوا"؛ أي: ليعط بعضكم بعضاً الهدية، "فإن الهدية تذهب بالضغائن" جمع الضغينة، وهي الحقد؛ يعني: يزيل الحقدَ والحسد والبغض والعداوة، ويحصل في المدفوع محبة الدافع. * * * 2240 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَهادَوا فإنَّ الهديةَ تُذهِبُ وَحَرَ الصَّدرِ، ولا تحقِرَنَّ جارةٌ لجارتها ولو بشقِّ فِرْسَنِ شاةٍ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: تهادوا، فإن الهدية تذهب وَحَرَ الصَّدر" بفتح الواو والحاء؛ أي: غشه ووساوسه، وقيل: هو الحقد والغضب، وقيل: أشد الغضب، وقيل: العداوة، "ولا تحقرن جارة لجارتها ولو بشق فرسن شاة" بكسر الفاء، هو للشاة والبعير بمنزلة الحافر للدابة؛ يعني: لتبعث كلُّ جارة إلى جارتها مما عندها من الطعام وإن كان شيئاً قليلاً. * * * 2241 - عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث لا تُردُّ: الوَسائدُ، والدُّهنُ، واللَّبن"، غريب. قيل: أرادَ بالدُّهنِ: الطِّيبَ. "وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث"؛ أي: ثلاث هدايا "لا ترد: الوسائد" جمع الوسادة، والمراد بها التي حَشْوها من الليف أو الصوف؛ لأن وسائدهم كانت يكون منها غالباً، "والدُّهن واللبن"، وإنما لا ترد هذه لقلة مِنَّتها، وتأذِّي المُهدي إياها بردها، وكان عليه الصلاة والسلام يقبل

16 - باب اللقطة

الهدية ليطيب قلوبهم، ويعطي عوضاً لئلا يكون لأحد عليه مِنة. "غريب. قيل: أراد بالدهن: الطِّيب". * * * 2242 - عن أبي عثمانَ النَّهديِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أُعطِيَ أحدُكم الرَّيْحانَ فلا يرُدَّه، فإنه خرجَ مِن الجنةِ"، مرسَلٌ. "وعن أبي عثمان النهدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أعطي أحدكم الريحان" وهو كل نبَت له رائحة طيبة، "فلا يرده، فإنه خرج من الجنة" لا يَرِدُ أن ريحان الدنيا خرج من الجنة، بل إن أصل الطيب في الجنة، وخَلَقه الله في الدنيا ليتذكروا به طيب الجنة ويرغبوا فيها ويزيدوا في الأعمال الصالحة. "مرسل". * * * 16 - باب اللُّقَطَة " باب اللقطة": الالتقاط: وجود الشيء على غير طلبٍ، قال الله تعالى: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ} [يوسف: 10]، واللقطة - بضم اللام وفتح القاف -: الشيء المأخوذ ضائعاً. مِنَ الصِّحَاحِ: 2243 - عن زيدِ بن خالدٍ - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فسألهُ عن اللُّقَطَةِ؟ فقال: "اِعْرِفْ عِفاصَها ووِكاءَها ثم عَرِّفْها سَنَةً، فإنْ جاءَ صاحبُها وإلا فَشَأنَك بها"، قال: فَضالَّةُ الغَنَم؟ قال: "هي لكَ أَوْ لأخيكَ أو للذئبِ"،

قال: فَضالَّةُ الإبلِ؟ "قال: مالَكَ ولها؟ معَها سِقاؤُها وحِذاؤُها، تَرِدُ الماءَ وتأكلُ الشجرَ حتى يَلقاها ربُّها". وفي رِوايةٍ: "ثم استَنْفِقْ، فإنْ جاءَ ربُّها فأدِّها إليه". "من الصحاح": " عن زيد بن خالد - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن اللقطة، فقال: اعرف عِفاصها" بكسر العين: الوعاء الذي فيه النفقة من جلد أو خرقة أو غير ذلك، "ووكائها" بكسر الواو: الخيط المشدود به العفاص، وإنما أمره عليه الصلاة والسلام بتعرُّفها ليعلم صدق وكذب مَنْ يدعيها، "ثم عرفها"؛ أي: نادِ عليها في الأسواق ومجامع الناس "سَنَة"، واذكر جِنسها في التعريف دون جميع صفاتها كيلا يدَّعيها كلُّ أحد، ففي الأسبوع الأول عرفها في كل يوم مرتين مرة في أول النهار ومرة في آخره، وفي الأسبوع الثاني في كل يوم مرة، ثم في كل أسبوع مرة، قال بعضٌ: يجب الدفع لمن ادَّعاها وعَرَف عفاصها ووكاءَها من غير بينته؛ لأنه المقصود من معرفتها، وهو قول أحمد والشافعي وعندنا (¬1): إذا عرفهما والعدد والوزن ووقع في نفسه أنه صادق فله أن يعطيه ولا يجب عليه إلا ببينة، فتأويل معرفة العفاص والوكاء لئلا يختلط بماله اختلاطاً لا يمكنه التمييزُ إذا جاء صاحبها. "فإن جاء صاحبها"؛ أي: فردها عليه، أو فبها ونعمت، "وإلا"؛ أي: إن لم يجئ "فشأنك" نصب على المصدر؛ أي: اعمل "بها" ما تُحسنه، أو على الإغراء؛ أي: الزم شأنك؛ أي: افعل بها ما شئت من التملُّك والحفظ بعد السنة، وقيل: اعمل بها ما شئت من صدقة أو بيع أو أكل. ¬

_ (¬1) في "غ": "وعندنا والشافعي".

"قال"؛ أي: الرجل: "فضالة الغنم" بتشديد اللام مبتدأ خبره محذوف؛ أي: ما حكمها؟ "قال عليه الصلاة والسلام: هي لك" إن أخذتَها، "أو لأخيك" إن لم تأخذها أنتَ، "أو للذئب"، أي: إن تركتم أخذها يأخذها الذئب، وفيه تحريض على التقاطها. "قال: فضالة الإبل؟ قال: مالك ولها"؛ أي: ما شأنك معها؛ أي: لا تأخذها، "معها سقاؤها"، أراد به معدتها، فيقع موقع السقاء في الري, لأنها إذا وردت الماء شربت ما يكون فيه رِيُّها لظمَئها أياماً. "وحذاؤها"، أي: أخفافُها تقوى بها على السير الدائم، "تَرِدُ الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها، وفي رواية: ثم استنفق"؛ أي: بعدما عرفتها سنة جاز لك أن تصرفها إلى نفسك بالملكية، "فإن جاء ربها" بعد ذلك "فأدِّها إليه" إن بقيتْ عينُها فعينُها وإلا فثمنُها. * * * 2244 - وقال: "مَن آوَى ضالَّةً فهو ضالٌ، ما لم يُعَرِّفْها". "وعن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من آوى"؛ أي: ضم إليه "ضالة" وهي ما ضَلَّ من البهيمة، "فهو ضال"؛ أي: مائل عن الحق إلى الباطل، هذا بيان لحكم الآخرة، وقيل: أي ضامن إن هلكت، عبر عنه بلفظ الضال للمشاكلة، فيكون بيان لحكم الدنيا، "ما لم يعرفها" مر بيان التعريف. قال شمس الأئمة الحلواني: أدنى التعريف أن يشهد عند الأخذ ويقول آخذها: لأردها، فإن فعل ذلك ولم يعرفها بعدُ كفى.

2245 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن عثمانَ التَّيمِيِّ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهَى عن لُقَطَةِ الحاجِّ. "عن عبد الرحمن بن عثمان التيمي: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لقطة الحاج"، أراد به لقطة حرم مكة؛ أي: لا يحل لأحد تملكها بعد التعريف، بل يجب على الملتقط أن يحفظها أبداً لمالكها عند الشافعي، وعندنا: لا فرق بين لقطة الحرم وغيرها. * * * مِنَ الحِسَان: 2246 - عن عمرِو بن شعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه سُئلَ عن الثمَرِ المُعلَّقِ، فقال: "مَنْ أصابَ بفيهِ مِن ذي حاجةٍ غيرَ متَّخِذٍ خُبنةً فلا شيءَ عليهِ، ومَنْ خرجَ بشيءٍ منهُ فعليهِ غرامةُ مِثْلَيهِ والعقوبةُ، ومَنْ سرقَ منه شيئاً بعدَ أن يُؤْوِيَه الجَرِينُ، فبلغَ ثمنَ المِجَنِّ فعليهِ القطعُ" - وذكرَ في ضالَّةِ الإبلِ والغنم كما ذكرَ غيرُهُ - قال: وسُئِلَ عن اللُّقَطَةِ فقال: "ما كانَ منها في الطريقِ المِيتاءِ والقريةِ الجامعةِ فعرِّفْها سنةً، فإنْ جاءَ صاحبُها فادفَعْها إليه، وإنْ لم يأتِ فهوَ لكَ، وما كانَ في الخَرابِ العاديِّ ففيهِ وفي الرِّكازِ الخُمُسُ". "من الحسان": " عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه سئل عن الثمر المعلق قال: من أصاب بفيه من ذي حاجة غير متخذ خبنة"؛ أي: ذخيرة "فلا شيء عليه" مر بيانُه في (باب الغصب)، "ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثليه"؛ أي: غرامة قيمة مثليه، وهذا على سبيل الزجر والوعيد، وإلا فالمتلف لا يضمن بأكثر من قيمة مثله، وكان عمر - رضي الله عنه -

يحكم به عملاً بظاهر الحديث، وبه قال أحمد، وقيل: كان ذلك في صدر الإسلام ثم نسُخ. "والعقوبة" والمراد بها: التعزير فيما يخرجه من البستان، فإن الملاك لا يتسامحون به، بخلاف القدر اليسير الذي يؤكل فيها، وبخلاف الضرورة المرخِّصة للأكل، "ومن سرق منه شيئاً بعد أن يؤويه الجرين"؛ أي: يضمه إليه ويجمعه، وهو حِرز للثمار عادة، "فبلغ" ذلك "ثمن المجن" الترس، والمراد به نصاب السرقة؛ لأنه كان يساوي في ذلك الزمان ربع دينار، وقيل: عشرة دراهم، "فعليه القطع"، وأما سقوط القطع في الثمر المعلَّق لأن بساتين المدينة ليس لها حيطان فلا تكون مُحْرزة، وأما البساتين التي لها حائط أو حافظ فحِرْزٌ يجب القطع إذا كان المسروق نصاب السرقة. "وذكر"؛ أي: الراوي "في ضالة الإبل والغنم، كما ذكره غيره" هو زيد ابن خالد المار آنفاً، "وقال"؛ أي: الراوي: "سئل عن اللقطة فقال: ما كان منها في طريق الميتاء"؛ أي: في الطريق العامر الذي يأتيه الناس كثيراً ويسلكونه، "والقرية الجامعة فعرفها سنة، فإن جاء صاحبها فادفعها إليه، وإن لم يأت فهو لك" جعل ما يوجد في العمران وفي ما يمرُّ عليه الناس من المسالك لقطةً يجب تعريفها، إذ الغالب أنه ملك مسلم أو ذمي، "وما كان في الخراب العادي" التي لم يجر عليها عمارة إسلامية ولم يدخل في ملك مسلم سواء كان الموجود فيه ذهباً أو فضة أو غيرها من الأواني والأقمشة، "ففيه وفي الركاز" أراد به الذهب والفضة خاصة "الخمس"، والباقي للواجد، وهذا تتمة الحديث الأول. * * * 2247 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -: أن عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - وجدَ ديناراً فأَتَى بهِ فاطمةَ فسألَتْ عنهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا رزقُ

الله" فأكلَ منهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكلَ عليٌّ وفاطمةُ - رضي الله عنهما -، فلمَّا كانَ بعدَ ذلكَ أتتْ امرأةٌ تَنْشُدُ الدِّينار، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عليُّ! أَدِّ الدينارَ". "عن أبي سعيد الخدري: أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وجد ديناراً، فأتى به فاطمة رضي الله عنها فسألت عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا رزقُ الله، فأكل منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأكل علي - رضي الله عنه - وفاطمة رضي الله عنها" ولم يأمره بإمساكه وتعريفه، فيه دليل على أن اللقطة إذا كان شيئا قليلاً لا يجب تعريفُه، وعلى أن الغني يتملك كالفقير، وأن اللقطة تَحِلُّ لمن لا تحل له الصدقة، فإنه عليه الصلاة والسلام كان غنياً بما أفاء الله عليه، وكان هو وعليٌّ وفاطمة ممن لا تحل عليهم الصدقة، وقد أكلوا منها. "فلما كان بعد ذلك أتت امرأة تنشُد الدينار، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا علي! أدِّ الدينار" يدل على أنه يجب ردُّ بدلِه إلى المالك. * * * 2248 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ضالَّةُ المُسلم حَرقُ النَّارِ". "عن الجارود بن المعلى العبد" وهو القبيلة، "قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ضالة المسلم حرق النار" بفتحتين: لهبها، وقد تسكن؛ يعني: ضالة المسلم إذا أخذت للتملك ولم تعرف سنة أدت إلى النار، وبهذا منع بعضٌ عن أخذ الضالة، وقيل: هو للوعيد. * * * 2249 - وعن عِياضِ بن حِمارٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن وَجَدَ اللُّقَطَة فليُشْهِدْ ذا عدلٍ، أو ذَوي عدلٍ، ولا يَكتُمْ ولا يُغَيبْ، فإنْ وَجَدَ صاحبَها فليَرُدَّها عليه، وإلا فهو مالُ الله يوْتيه مَنْ يشاءُ".

"عن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من وجد اللقطة فليشهد ذا عدل أو ذوي عدل" هذا أمرُ تأديبٍ وإرشاد ليأمن مِنْ أن يحمله الشيطان على ترك أداء الأمانة فيها وتخليص (¬1) عن طمع النفس فيها، وقيل: الإشهاد واجب لظاهر الحديث. "ولا يكتم ولا يغيب، فإن وجد صاحبها فليردها عليه، وإلا فهو مال الله يؤتيه من يشاء" * * * 2250 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: رخَّصَ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في العَصا والسَّوطِ والحَبلِ وأَشباهِهِ، يلتقِطُه الرَّجلُ ينتفعُ بهِ. "عن جابر - رضي الله عنه - قال: - رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في العصا والسوط والحبل وأشباهه، يلتقطه الرجل ينتفع به" من غير تعريف؛ لأن هذه الأشياء وأمثالها مما كان حقيراً، ويعلم أن صاحبها لا يطلبها زماناً كثيراً، وهذا يدل على أن القليل لا يُعرَّف. * * * 2251 - عن المِقْدامِ بن مَعْدِ يْكَرِبَ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا لا يحِلُّ ذو نابٍ من السِّباعِ، ولا الحمارُ الأهليُّ، ولا اللُّقطةُ مِن مالِ مُعاهدٍ إلا أَنْ يستغنيَ عنها صاحبُها". "عن المقدام بن معدي كرب، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ألا لا يحل ذو ناب من السباع، ولا الحمار الأهلي، ولا اللقطة من مال معاهد"، وقيل: هو ¬

_ (¬1) في "غ": "وتحامياً".

17 - باب الفرائض

الذمي "إلا أن يستغني عنها صاحبُها، بأن كان شيئاً حقيراً. * * * 17 - باب الفرائضِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2252 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا أَوْلى بالمؤمنينَ مِنْ أنفسِهم، فمَن ماتَ وعليه دَيْنٌ ولم يتركْ وفاءً فعليْنا قضاؤُه، ومَنْ تركَ مالاً فلِوَرَثتِهِ". وفي روايةٍ: "مَنْ تركَ دَيْناً أو ضَياعاً فليَأتِني فأنا مَوْلاهُ". وفي روايةٍ: "مَن تركَ مالاً فلِوَرَثَتِهِ، ومَن تَرَكَ كَلاًّ فإلينا". (باب الفرائض) "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن مات وعليه دين ولم يترك وفاء فعليَّ قضاؤه، ومن ترك مالاً فلورثته"، مرَّ البيانُ فيه في (باب الإفلاس). "وفي رواية: مَنْ ترك ديناً أو ضياعاً" بفتح الضاد وهو أكثر رواية؛ أي: عيالاً وبالكسر، جمع ضائع؛ كالذرية الصِّغار والزَّمْنى. "فليأتني فأنا مولاه"؛ أي؛ وليه، إذ يجب نفقته وكسوته في بيت المال. "وفي رواية: مَنْ ترك مالاً فلورثته، ومَنْ ترك كلاً" بفتح الكاف؛ أي: ديناً ثقيلاً وعيالاً "فإلينا"؛ أي: فعلينا ما كان عليه في حياته نفقة وكسوة وديناً،

وقيل: أي: فليأت إلينا، أو: فإلينا مرجعه. * * * 2253 - وقال: "أَلحِقُوا الفرائضَ بأهلِها، فما بقيَ فهوَ لأوْلى رجلٍ ذَكَر". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: ألحقوا الفرائض بأهلها"؛ أي: أعطوا ذوي السهام سهامَهم؛ يعني: يقدم صاحب الفرض على العصبة في التوريث. "فما بقي" من سهام أصحاب الفروض "فهو لأولى رجل ذكر"؛ أي: لأقرب رجل من عصبات الميت، والمراد به: قرب النسب، قيل: ذِكْرُ الذكر للتأكيد، وقيل: للاحتراز عن الخنثى المُشْكل، فإنه لا يجعل عصبة ولا صاحب فرض جزماً، بل يعطي القدر المتيقن وهو الأقل على تقديري الذكورة والأنوثة، وقيل: لبيان أن العصبة ترث صغيراً كان أو كبيراً إذا كان ذكراً، بخلاف عادة الجاهلية. * * * 2254 - وقال: "لا يَرِثُ المُسلِمُ الكافرَ، ولا الكافِرُ المُسلِمَ". "وعن أسامة قال: قال عليه الصلاة والسلام: لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم"، وبه أخذ عامة العلماء، وإنما لم يرث كل منهما من الآخر لانقطاع الولاية بينهما، وهذا حجة ونص على مَنْ قال: المسلم يرث الكافر كنكاحه الكتابية. * * * 2255 - وقال: "مَوْلى القومِ مِن أنفسِهم".

"وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مولى القوم من أنفسهم"، وفيه دليل لمن حرَّم الصدقة على موالي بني هاشم وعبد المطلب، ولمن قال: الوصية لبني فلان يدخل فيهم مواليهم. * * * 2256 - وقال: "إنَّما الوَلاءُ لِمَنْ أَعتقَ". "وعن ابن عمر، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إنما الولاء لمن أعتق"، وفي هذا وحديث أنس قيل: دليل على ثبوت الإرث بالولاء للمعتق، لكن إذا لم يكن للعتيق أحد من عصابة النسبية. * * * 2257 - وقال: "ابن أختِ القومِ منهم". "وعن أبي موسى - رضي الله عنه -، عنه عليه الصلاة والسلام قال: ابن أخت القوم منهم" (من) هذه اتصالية؛ أي: ابن الأخت متصل بأقربائه في جميع ما يجب أن يتصل به من التولِّي والنُّصرة والتوريث وما أشبه ذلك، وهذا يدل على توريث ذي الرحم المدلى به. * * * 2258 - وقال: "الخالةُ بمنزِلَةِ الأُمِّ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الخالة بمنزلة الأم"؛ يعني تُنزَّل منزلتها في الميراث، فلو اجتمعت مع العمة: فالثلثان للعمة والثلث، للخالة.

مِنَ الحِسَان: 2259 - قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتوارثُ أهلُ مِلَّتينِ شَتَّى". "من الحسان": " عن جابر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يتوارث أهل ملتين شتى" جمع شتيت صفة (أهل)؛ أي: متفرقين، والحديث يدل بظاهره على أن اختلاف الملل في الكفر يمنع التوارث كاليهود والنصارى والمجوس وعَبَدة الأوثان، وإليه ذهب الشافعي، قلنا: المراد منه ملة الإسلام والكفر، فإن الكفر كله ملة واحدة عند مقابلتهم بالمسلمين وإن كانوا أهل ملل فيما يعتقدون. * * * 2260 - وقال: "القاتِلُ لا يرثُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: القاتل لا يرث"؛ أي: من المقتول، وهذا في القتل الذي يجب به القصاص أو الكفارة؛ لأن القتل بالسبب لا يتعلق به حرمان الإرث عندنا. * * * 2261 - عن بُرَيدةَ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَعلَ للجَدَّةِ السُّدسَ إذا لم تَكُنْ دونَها أمُّ. "عن بريدة: أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل للجدة السدس إذا لم تكن دونها أم"؛ أي: هناك أم الميت، فإن كان هناك الأم لا ترث الجدة شيئاً، لا أم الأم ولا أم الأب.

2262 - وقال: "إذا استهلَّ الصبيُّ صُلِّيَ عليهِ وَوُرِّثَ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا استهل الصبي" ومعنى الاستهلال هنا: وجود أمارة الحياة؛ كعُطاس أو تنفس أو حركة تدل على حياته، "صلى عليه وورث". * * * 2263 - وقال: "مولى القومِ منهم، وحليفُ القومِ منهم، وابن أختِ القومِ منهم". "وقال أنس: قال عليه الصلاة والسلام: مولى القوم منهم" أراد به المعتق، "وحليف القوم منهم" وهو ذو عهدهم، أراد به: مولى الموالاة، فإنه يرث عندنا إذا لم يكن وارث سواه. "وابن أخت القوم منهم" تقدم بيانُه. * * * 2264 - وقال: "أنا مَولى مَن لا مَولى لهُ، أَرِثُ مالَه وأَعْقِلُ له وأَفُكُّ عانَهُ، والخالُ وارِثُ مَن لا وارِثَ له، يرثُ مالَه ويعقِلُ عنه ويفكُّ عانَهُ". "وعن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه -: أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا مولى من لا مولى له"؛ أي: وارث من لا وارث له. "أرث ماله"؛ أي: يصرف ماله إلى بيت المال فإنه لله ولرسوله. "وأعقل له"؛ أي: وأعطي له وأقضي عنه ما يلزم بالجناية الخطأ التي تحملها عاقلتها إذا لم يكن للجاني عاقلة، وفي بعض النسخ: (أعقل عنه) وهو اللائق هنا، يقال: عقلت له دم فلان: إذا تركت القَوَد للدية، وعقلت عن فلان:

إذا عزمت جنايته؛ أي: التزمتها فأديتها عنه. "وأفك عانيه"، يقال فككت الشيء؛ أي: خلصته، والعاني: الأسير؛ يعني: أخلص أسيره بالفداء عنه، ويروى: (عانه) بحذف الياء تخفيفاً. "والخال وارث من لا وارث له" وفيه دليل لمن قال بتوريث ذوي الأرحام عند فقد الورثة بأن مات ابن أخته ولم يخلف عصبة "يرث" الخال منه "ماله ويعقل عنه"؛ يعني: إذا جنى ابن أخته ولم يكن له عصبة يؤدي الخالُ عنه الديةَ كالعصبة. "ويفك عانيه" أي: يخلصه بأداء الدية عنه. * * * 2265 - وقال: "تَحوزُ المرأةُ ثلاثَةَ مواريثَ: عَتيقَها، ولَقيطَها، وولدَها الذي لاعنت عنه". "وعن واثلة بن الأسقع: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تحوز المرأة"؛ أي: تجمع "ثلاث مواريث" جمع ميراث؛ "عتيقها"؛ أي: ميراث عتيقها؛ يعني: إذا أعتقت عبداً فمات ولم يكن له وارث ترث ماله بالولاء. "ولقيطها" إرث الملتقط من اللقيط على مذهب إسحاق بن راهويه، وعامةُ العلماء على أنه لا ولاء للملتقط على اللقيط لأنه عليه الصلاة والسلام خصَّه بالمعتق، فلعل هذا الحديث عُرِفَ نسخُه عندهم. "وولدها الذي لاعنت عنه" بنفي الرجل فترث أمه لأن النسب ثابتة من جهة الأم. قيل: هذا الحديث غير ثابت، أو إن ثبت فمنسوخ.

2266 - عن عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما رجلٍ عاهَرَ بحُرَّةٍ أو أَمَةٍ، فالولدُ ولدُ زِنا لا يَرِثُ ولا يُورَثُ". "وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أيما رجل عاهر"؛ أي: زنى "بحرة أو أمة، فالولد ولد الزنا، لا يرث"؛ أي: ذلك الولد من الواطئ ولا من أقاربه؛ لأن التوريث بينهما فرعُ النَّسَب، ولا نسب بينه وبين الزاني. "ولا يورث"؛ أي: لا يرث الواطئ ولا أقاربه من ذلك الولد. * * * 2267 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن مَولى للنبيِّ في ماتَ ولم يَدَعْ ولداً ولا حَميماً، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَعطُوا ميراثَه رجلاً مِن أهلِ قريتِهِ". "عن عائشة رضي الله عنها: أن مولى النبي عليه السلام"؛ أي: عتيقه "مات ولم يدع"؛ أي: لم يترك "ولداً ولا حميماً" حميم الرجل: قرابتُه. "فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أعطوا ميراثه رجلاً من أهل قريته" وإنما أمر عليه السلام بذلك تفضُّلاً وتبرعاً منه على أهل قرية عتيقه؛ لأن الأنبياء لا يرثون ولا يورثون. * * * 2268 - وعن بُرَيدَةَ قال: ماتَ رجلٌ مِن خُزاعَةَ فأُتيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بميراثِهِ فقال: "اِلتمسُوا لهُ وارثاً، أو ذا رَحِمٍ"، فَلَمْ يَجدُوا فقال: "أعطُوه الكُبْرَ مِنْ خُزاعةَ"، ويُروَى: "انظُروا أكبرَ رجلٍ مِن خُزاعة". "وعن بريدة: أنه قال: مات رجل من خزاعة" - بضم الخاء وفتح الزاي

المعجمتين - قبيلة من الأزد، "فأتي النبي عليه الصلاة والسلام" على بناء المجهول "بميراثه، فقال: التمسوا"؛ أي: اطلبوا "له وارثاً، أو ذا رحم"؛ يعني: قريباً ليس من أصحاب الفروض والتعصيب، "فلم يجدوا، فقال: أعطوه الكُبر" - بضم الكاف وسكون الباء - بمعنى: أكبر، ومعناه هنا: سيد القوم ورأسُهم. "من خزاعة، ويروى أنه قال: انظروا أكبر رجل من خزاعة" قيل: المراد كبيرهم وهو أقربهم إلى الجد الأعلى، وهذا أيضاً بفضلٍ منه عليه السلام لا على سبيل التوريث. * * * 2269 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أعيانَ بني الأُمِّ يتوارثونَ دونَ بني العَلاَّتِ، الرجلُ يرثُ أخاهُ لأَبيهِ وأمِّهِ، دونَ أخيهِ لأبيهِ. "عن علي - رضي الله عنه - قال: قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أعيان بني الأم" وهم الإخوة والأخوات لأب واحد وأم واحدة "يتوارثون دون بني العلات" وهم الإخوة والأخوات لأب واحد وأمهات شتى إذا اجتمعوا معهم. وقوله: "الرجل يرث أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه" كالبيان والتفسير لما قبله. * * * 2270 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَتِ امرأةُ سعدِ بن الرَّبيعِ بابنتَيْها مِنْ سعدٍ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ الله! هاتانِ ابنتا سعدٍ، قُتِلَ أبوهما معكَ يومَ أُحُدٍ، وإنَّ عَمَّهُما أخذَ مالَهُما، فنزلَتْ آيةُ الميراثِ، فبعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمِّهما فقالَ: "أعْطِ ابنتَيْ سعدٍ الثُّلُثَيين، وأَعْطِ أمَّهما الثُّمُنَ، وما بقي فهو

لك"، غريب. "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: جاءت امرأة سعد بن الربيع بابنتيها من سعد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله! هاتان ابنتا سعد قُتل أبوهما معك"؛ أي: مصاحباً لك "يوم أحد، وإن عمَّهما أخذ مالهما، فنزلت آية الميراث، فبعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى عمهما فقال: أعطِ ابنتي سعدٍ الثلثين" وذلك قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] وكلمة (فوق) صلة، كما في قوله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ} فمعناه: فإن كن اثنتين فما فوقهما. "وأعط أمهما الثمن" وذلك قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ}. "وما بقي فهو لك"؛ أي: بالعصوبة، وهذا أول ميراث قُسم في الإسلام. "غريب". * * * 2271 - وقال عبد الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - في بنتٍ، وبنتِ ابن، وأُختٍ لأبٍ وأمٍّ: أقضي فيهنَّ بما قَضَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: للبنتِ النِّصفُ، ولابنةِ الابن السُّدُسُ تَكمِلةَ الثُّلُثَين، وما بقي فَلِلأُخْتِ. "وقال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - في بنت وبنت ابن وأخت لأب وأم: أقضي فيها بما قضى رسولُ الله: للابنة النصف، ولابنة الابن السدس تكملة الثلثين" نصب على أنه مفعول له؛ أي: لتكميل الثلثين، "وما بقي فللأخت" لكونها عصبة مع البنات.

2272 - وعن عِمْرانَ بن حُصَينٍ قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ ابن ابني ماتَ فما ليَ مِنْ ميراثِه؟ قال: "لكَ السُّدُسُ"، فلمَّا ولَّى دعاهُ قال: "لك سُدُسٌ آخرُ"، فلمَّا ولَّى دعاهُ قال: "إنَّ السُّدُسَ الآخرَ طُعْمَةٌ لك"، صحيح. "وعن عمران بن حصين قال: جاء رجلٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن ابن ابني مات فما لي من ميراثه" (ما) هذه استفهامية، "قال: لك السدس" وذلك بأن مات وترك بنتين وهذا السائل، فلهما الثلثان فبقي ثلث فدفع عليه الصلاة والسلام إليه سدساً بالفرض ولم يدفع إليه السدس الآخر كيلا يظن أن فرضه الثلث وتركه "فلما ولى"؛ أي: ذهب، "دعاه قال: لك سدس آخر، فلما ولى دعاه قال: إن السدس الآخِر" بكسر الخاء "طعمة"؛ أي: رزق "لك" بسبب عدم صاحب فرض آخر لا أنه من فرضك وإنما قال للسدس الآخر طعمة دون الأول لأنه فرض، والفرض لا يتغير بخلاف التعصيب، فلما لم يكن التعصيب شيئاً مستقراً سماه طعمة. "صحيح". * * * 2273 - عن قَبيْصَةَ بن ذُؤيبٍ أنه قال: جاءَتْ الجدَّةُ إلى أبي بكرٍ - صلى الله عليه وسلم - تسألُه ميراثَها، فقال لها: ما لَكِ في كتابِ الله شيءٌ، وما لَكِ في سنَّةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شيءٌ، فارجِعي حتى أسألَ الناسَ، فسألَ، فقالَ المغيرةُ بن شُعبةَ - رضي الله عنه -: حَضَرتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاها السُّدُسَ، فقال أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: هلْ معكَ غيرُكَ؟ فقال محمدُ ابن مَسْلَمةَ مثلَ ما قالَ المغيرةُ، فأَنفَذَهُ لها أبو بكرٍ - رضي الله عنه -، ثم جاءَتْ الجَدَّةُ الأُخرى إلى عمرَ - رضي الله عنه - تسألهُ ميراثَها، فقال: هو ذلكَ السُّدُسُ، فإنْ اجتمعْتُما فهو بينَكُما،

وأَيَّتُكما خَلَتْ بهِ فهوَ لها. "وعن قبيصة بن ذؤيب أنه قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر تسأله ميراثها فقال لها: ما لك في كتاب الله شيء، وما لك في سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء، فارجعي حتى أسألَ الناسَ، فسألَ، فقال المغيرةُ بن شعبةَ: حضرتُ رسولَ الله أعطاها السدسَ، فقال أبو بكر: هل معك غيرُك؟ فقال محمدُ بن مَسْلمة مثلَ ما قالَ المغيرةُ، فأنفذه لها أبو بكر"؛ أي: حكم بالسدس للجدة. "ثم جاءت الجدة الأخرى" لهذا الميت من جهة الأب، وكانت الجدة الأولى من جهة الأم "إلى عمر تسألُه ميراثَها فقال: هو ذلك"؛ أي: ميراثك ذلك "السدس" صفة (ذلك)، أو عطف بيان له، "فإن اجتمعتما" خطاب لهاتين الجدتين، "فهو بينكما، وأيتكما خلت به"؛ أي: تفردت بالسدس، "فهو لها"، وكان ذلك بمحضر من الصحابة ولم يُنْكَر عليه فكان إجماعاً. * * * 2274 - وعن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قال في الجَدَّةِ معَ ابنها: أَطعَمَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سُدُساً معَ ابنها. ضعيف. "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال في الجدة مع ابنها: أطعمها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: أعطاها "سدساً مع ابنها"؛ أي: مع وجود ابنها، قال ابن مسعود: إنما أعطاها تبرعاً وتفضلاً عليها لا بطريق الميراث، ومذهبه عدم توريث الجدة للأب ولا للأم كان معها مَنْ هو أقرب إلى الميت أو لم يكن، قيل: إن الجدة أم حسكة، وكان ابنها عم الميت دون أبيه. "ضعيف".

2275 - عن الضَّحَّاكِ بن سُفيانَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إليه: "أنْ وَرِّثْ امرأةَ أَشْيَمَ الضبابي مِن دِيَةِ زوجِها"، صحيح. "عن الضحاك بن سفيان: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتب إليه أن ورث امرأة أَشْيم الضبابي من دية زوجها" فيه دليل على أن الدية تجب للمقتول أولاً ثم تنتقل منه إلى ورثته كسائر أمواله، وهذا قول الأكثر، وروي عن علي - رضي الله عنه -: أنه كان لا يورث المرأة من الدية شيئاً "صحيح". * * * 2276 - وعن تميم الدَّارِيِّ قال: سَأَلتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: ما السُّنةُ في الرجلِ من أهلِ الشركِ يُسْلِمُ على يدَيْ رجلٍ مِن المسلمينَ؟ فقال: "هو أَوْلَى الناسِ بمَحياهُ ومَماتِهِ"، ليس بُمتَّصلٍ. "عن تميم الداري - رضي الله عنه - قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما السنة في الرجل"؛ أي: ما حكم الشرع في شأن الرجل "من أهل الشرك يسلم على يدي رجل من المسلمين، فقال عليه الصلاة والسلام: هو أولى الناس بمحياه ومماته" احتج بهذا مَنْ جعل ميراث مَنْ أسلم للذي أسلم على يده بالولاء، وهو رأي عمرَ بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب والليث بن سعد، قلنا: لا ذكر للميراث فيه لجواز أن يكون معناه: أولى الناس بنصرته حالَ حياتِه وبالصلاة عليه في حال مماته، فلا يكون حجة، ويحتمل أنه كان في بَدْء الإسلام كانوا يتوارثون بالإسلام والنصرة، ثم نُسخ ذلك. "ليس بمتصل" ضعَّفه أحمد مِنْ قِبَل إسناده. * * * 2278 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن رَجُلاً ماتَ ولم يَدَع وارثاً إلا غلاماً كانَ

18 - باب الوصايا

أَعتقَهُ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هل لهُ أحدٌ؟ " فقالوا: لا، إلا غلامٌ لهُ كانَ أَعتقَهُ، فجعلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ميراثَه لهُ. "عن ابن عباس - رضي الله عنه -: أن رجلاً مات ولم يَدَع وارثاً إلا غلاماً كان أعتقه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هل له أحد؟ قالوا: لا إلا غلام له كان أعتقه، فجعل النبيُّ عليه الصلاة والسلام ميراثه له"؛ أي: للغلام. اعلم أن العتيق لا يرِث من المعتِق إلا عند طاوس، وإنما دفع عليه الصلاة والسلام إلى عتيقه بطريق التبرُّع لأنه صار ماله لبيت المال. * * * 2277 - عن عَمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يرثُ الولاءَ مَنْ يرثُ المالَ". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: يرث الولاء من يرث المال" معناه: كل عصبة ترث مال الميت، فإن كان ذلك الميت قد أَعتق عتيقاً انتقل الولاء إلى عصبة معتِقه بنفسه دون بنته وأخته. "ضعيف". * * * 18 - باب الوصايا مِنَ الصِّحَاحِ: 2279 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما حقُّ امرِئٍ مُسلمٍ لهُ شيءٌ يُوصي فيه،

يبيتُ ليلتينِ إلا ووَصيَّتُه مكتوبةٌ عندَه". (باب الوصايا) "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما حق امرئ" (ما) بمعنى ليس، "مسلم له شيء يوصي فيه" صفة (شيء)، "يبيت ليلتين" صفة ثالثة لـ (امرئ) قيد الليلتين غير مقصود، بل يريد به: لا ينبغي أن يمضي عليه زمان وإن كان قليلاً. "إلا ووصيته مكتوبة عنده"؛ لأنه لا يدري متى يدركه الموت، وهذا تأكيد في استحباب كَتْبِ الوصية، فيكتب كتاباً يذكر فيه الديون والأمانات، ويبين قَدْرَها وجنسها وصفتها، سواء كان ذلك لغير عليه أو له على غيره، ويبين أسماء المديونين أو الدائنين وأسماء ذوي الأمانات. * * * 2280 - عن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: مرضتُ عامَ الفتحِ مَرَضاً أَشفيْتُ على الموتِ، فأتاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يعودُني فقلتُ: يا رسولَ الله! إنَّ لي مالاً كثيراً، وليسَ يرثُني إلا ابنتِي، أَفَأُوصي بمالي كلِّه؟ قال: "لا"، قلتُ: فثُلُثَي مالي؟ قال: "لا"، قلت: فالشَّطرُ؟ قال: "لا"، قلت: فالثُّلثُ؟ قال: "الثُّلثُ، والثلثُ كثيرٌ، إنَّكَ أنْ تذرَ ورثتَكَ أغنياءَ خيرٌ مِن أنْ تذرَهم عالةً يتكفَّفُونَ الناسَ، وإنك لن تُنفِقَ نفقةً تبتَغي بها وجهَ الله إلا أُجِرْتَ بها، حتى اللُّقمةَ ترفعُها إلى في امرأتِكَ". "عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: مرضت عام الفثح مرضاً أشفيت على الموت"؛ أي: أشرفت عليه، يقال: أشفى على الهلاك: إذا أشرف عليه؛ أي:

أشرفت على الموت وقَرُبت منه، "فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني، فقلت: يا رسول الله! إنَّ لي مالا كثيراً وليس يرثني إلا ابنتي"، معناه: ليس لي وارث من أصحاب الفروض إلا ابنتان، لا أنه لا وارث له غير ابنتيه، بل كان له عصبة كثيرة. "أفأوصي بمالي كله"؛ يعني: أيجوز لي أن آمر بالتصدق بجميع مالي على الفقراء؟ "قال: لا، قلت: فبثلثي مالي"؛ أي: أفأوصي بثلثي مالي؟ "قال: لا، قلت: فالشطر"، يجوز نصبُه عطفاً على محل الجار والمجرور، ويجوز رفعه؛ أي: الشطر كافٍ، وجره عطفاً على مجرور الباء، والشطر هو النصف. "قال: لا، قلت: فالثلث" يجوز فيه الحركات الثلاث أيضاً على الوجوه المذكورة. "قال: الثلث" يجوز نصبه بمقدر؛ أي: أعطِ، ورفعه على أنه فاعل؛ أي: يكفيك الثلث، فيه بيان الإيصاء بالثلث جائز له. "والثلث كثير"، وفيه إشارة إلى أن التنقيص عن الثلث أولى. "إنك إن تذر"؛ أي: تترك "ورثتك أغنياء، خير مِنْ أن تذرهم عالة" جمع عائل وهو الفقير، "يتكففون الناس"؛ أي: يسألون الناس بمَدِّ أكفهم إليهم. "وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله"؛ أي: تطلب رضاء ذاته، الجملة صفة (نفقة)، "إلا أُجرت بها"؛ أي: صِرْت مأجوراً بسبب تلك النفقة. "حتى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك"؛ أي: إلى فمها، فإن لك في ذلك أجراً، يريد: أن المنفق لابتغاء رضاه تعالى يُؤجر وإن كان محلُّ الإنفاق محلَّ شهوة وحظ نفس؛ لأن الأعمال بالنيات.

مِنَ الحِسَان: 2281 - رُوِيَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لسَعدٍ: "أَوْصِ بالعُشْرِ"، قال: فما زلتُ أُناقِصُهُ حتى قال: "أوْصِ بالثُّلثِ، والثُّلثُ كثيرٌ". "من الحسان": " روي: أن النبي عليه السلام قال لسعد: أوص بالعشر قال"؛ أي: سعد "فما زلت أناقضه"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام؛ من المناقضة؛ يعني: ينقُض عليه الصلاة والسلام قولي وأنقض قولَه، أراد به المراجعة حِرْصًا على الزيادة، ويروى بالصاد المهملة من النقصان، "حتى قال: أوص بالثلث والثلث كثير". * * * 2282 - عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في خطبتِهِ عامَ حَجَّةِ الوداعِ: "إنَّ الله قد أَعطَى كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، فلا وَصيَّةَ لوارثٍ، الولدُ للفِراشِ، وللعاهِرِ الحَجَرُ، وحسابُهم على الله". "عن أبي أمامة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في خطبته عامَ حجة الوداع: إن الله قد أعطى كلَّ ذي حق حقه"؛ أي: بين له حطه ونصيبه الذي فرض له، "فلا وصية لوارث" وهذا إشارة إلى أن الوصية كانت للأقارب فرضًا قبل نزول آية الميراث؛ "الولد للفراش"؛ أي: لصاحب الفراش زوجًا كان أو سيدًا؛ وتسمى المرأة فراشًا لأن الرجل يفترشها، "وللعاهر الحجر" قيل: معناه: وللزاني الخيبة دون نسب الولد، يقال: لفلان حجر أو تراب: إذا خاب، وقيل معناه: للزاني الرجم، وهذا إنما يستقيم إذا كان محصَنًا. "وحسابهم على الله"؛ أي: نحن ننسب الولد للفراش ونقيم الحدَّ على

الزاني، وحساب ذلك على الله لا يعلم حقيقة ذلك إلا هو، أو حسابهم على الله في الآخرة إن شاء عفا عنهم وإن شاء عاقبهم، فإنه تعالى أكرم من أن يُثنِّي العقوبة. * * * 2283 - ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا وصيةَ لوارثٍ إلا أنْ يشاءَ الورثَةُ"، منقطعٌ. "ويروى عن ابن عباس، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا وصية لوارث إلا أن يشاء الورثة"؛ أي: إجازتها، فإنهم إذا شاؤوا إجازتهم صحت، وهذا يدل على أن الوصية له لا يلزم بنفس الوصية بل بالإجازة. "منقطع". * * * 2284 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إن الرَّجُلَ ليعملُ، والمرأةَ، بطاعةِ الله ستينَ سنة، ثم يحضرُهما الموتُ فيُضارَّانِ في الوصيَّةِ فتجبُ لهما النارُ"، ثم قرأ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ}. "وعن أبي هريرة، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الرجل ليعمل والمرأة" بالنصب عطف على اسم (إن) وهو (الرجل)، وخبر المعطوف محذوف لدلالة خبر المعطوف عليه. "بطاعة الله" يجوز أن يكون قد تنازعه المحذوف والمذكور؛ يعني: ربما يعمل الرجل والمرأة بالأعمال الصالحة، "ستين سنة" أو أكثر، "ثم يحضرهما الموتُ فيضاران في الوصية"؛ أي: يوصلان الضرر إلى الوارث بسبب الوصية

للأجنبي بأكثر من الثلث، أو بأن يَهَبَ جميعَ ماله لواحد من الورثة كيلا يرث وارث آخر من ماله شيئًا، ولا يرث بيت المال، فهذا مكروه وفرار من حكم الله. "فتجب لهما النار، ثم قرأ أبو هريرة - رضي الله عنه -: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ} " متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث؛ أي: قسمتها عليهم هو من بعد وصية " {يُوصَى بِهَا} " بصيغة المعلوم " {أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ} "؛ أي: غير موصل مضرة إلى ورثته بسبب الوصية، فـ (غير) نصب على الحال عن فاعل (يوصي) وقرئ {يُوصَى} مجهولًا؛ فـ (غير) حال عن (يوصى) مقدرًا؛ لأنه لما قيل (يوصى) علم أن ثمة موصيًا، و (أو) في قوله {أَوْ دَيْنٍ} للإباحة لا للترتيب؛ إذ الدَّين مقدَّم على الوصية والميراث بالإجماع، وإنما قدمت على الدَّين لفظًا تنبيهًا على وجوبها ووجوب المسارعة إلى إخراجها؛ لأنها أخذٌ بغير عوض فأشبهت الميراث، فيثقُل على الورثة إخراجُها، بخلاف الدَّين فإنه أخذٌ بعِوض فكان إخراجُه أسهلَ. * * *

12 - كتاب النكاح

12 - كِتَابُ النِّكَاحِ

12 - كِتَابُ النِّكَاحِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2285 - عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشرَ الشَّباب! مَن استطاعَ منكُم الباءَةَ فليتزوَّجْ، فإنه أَغَضُّ للبَصَرِ وأَحْصَنُ للفرج، ومَنْ لم يستطعْ فعليهِ بالصَّومِ فإنه لهُ وِجاءٌ". (كتاب النكاح) "من الصحاح": " عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا معشر الشباب! " جمع شاب، وهو عند أصحابنا: مَنْ بلغ ولم يجاوز ثلاثين. "من استطاع منكم الباءة" بالمد والهاء وهو اللغة الفصيحة، معناه: الجماع، لكن لا بد من تقدير المضاف؛ أي: مؤنة الباءة من المهر والنفقة. "فليتزوج" قيل الأمر فيه للوجوب لأنه محمول على حالة التوقان بإشارة قوله: (يا معشر الشباب) فإنهم ذوو التوقان على الجِبلَّة السليمة. "فإنه أغضُّ للبصر" أفعل تفضيل مِنْ غضَّ طرفه: إذا خفضه وكفَّه؛ يعني: أن التزوج أحفظ عين المتزوج عن أجنبية، "وأحصن للفرج، ومن لم يستطع"؛ أي: مؤنة الباءة من المهر وغيره، "فعليه بالصوم فإنه له"؛ أي: فإنَّ الصوم لمن قدر على الجماع ولم يقدر على التزوج لفقره "وجاء" بالكسر والمد: دقُّ

الخصيتين لتضعيف الفحولة؛ يعني: أنه يقطع الشهوة ويدفع شر المني كالوجاء. * * * 2286 - وقالَ سعدُ بن أبي وقاصٍ - رضي الله عنه -: رَدَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمانَ بن مظعونٍ التَّبَتُّلَ، ولو أَذِنَ له لاختصَيْنا. "وقال سعد بن أبي وقاص: رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على عثمان بن مظعون التبتل"؛ أي: الانقطاع من النساء؛ يعني: منعه عليه الصلاة والسلام عن ذلك حين استأذنه عليه الصلاة والسلام في ترك التزوج والاعتزال عنهن. قال الراوي: "ولو أذن له" في ذلك "لاختصينا" أي: يجعل كلّ منا نفسه خَصِيًّا كيلا يحتاج إلى النساء. * * * 2287 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُنْكَحُ المرأةُ لأربعٍ: لمالِها، ولحَسَبها وجَمالِها، ولدينها، فاظفرْ بذاتِ الدِّينِ ترِبَتْ يداك". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تنكح المرأة لأربع"؛ أي: لخصالها الأربع في العادة؛ "لمالها ولحسبها" بفتح السين هو الفعال الحسنة لها ولآبائها، "ولجمالها ولدينها، فاظفر" أنت أيها المؤمن في ذلك "بذات الدين"؛ أي: فُزْ بنكاحها واخترها على سائر الخصال، فإن انضم إلى الدين الخصال الباقية أو بعضها فتلك نعمة على نعمة. "تربت يداك" قيل: معناه: صرت محرومًا من الخيرات لم تفعل ما أمرتك به وتعدَّيت ذاتَ الدين إلى ذات الجمال، ويراد بالدِّين الإسلام والعدالة، وهذا يدل على مراعاة الكفاءة، وأن الدّين أولى ما اعتُبر فيها. * * *

2288 - وقال: "الدُّنيا مَتاعٌ، وخيرُ متاعِ الدُّنيا المرأةُ الصَّالحةُ". "وعنه أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدنيا متاع"؛ يعني: ما في الدنيا خلق لأَنْ يستمتِع به بنو آدم، "وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة" فإنها تكون له سكنًا وأنيسًا وحافظة زوجها من الحرام ومُعينة على دينه وغير ذلك. * * * 2289 - وقال: "خيرُ نساءٍ رَكِبن الإبلَ صالحُ نساء قريشٍ، أَحْناهُ على وَلدٍ في صغَرِه وأَرْعاهُ على زوجٍ في ذاتِ يده". "وعنه - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير نساء ركبن الإبل" يريد به نساء العرب "صالح نساء قريش، أحناه"؛ أي: أعطف جنس النساء وأشفقه، أفعل التفضيل مِنْ حنا عليه، وهذا استئناف جواب عما يقال: ما سبب كونهن خيرًا، ووحَّد الضمير ذهابًا إلى المعنى؛ أي: أحنا مَنْ وُجِدَ وخُلق. "على ولد في صغره" تنكير الولد يفيد أنها تحنو على أي ولد كان، وإن كان الولد ولد زوجها من غيرها، قال الهروي: الحانية: مَنْ تقوم على ولدها بعد كونه يتيمًا فلا تتزوج، وإن تزوجت فليست بحانية. "وأرعاه" من الرعاية: الحفظ "على زوج في ذات يده"؛ أي: في ماله المضاف إليه؛ يعني: أنهن أحفظ النساء لأموال أزواجهن وأكثرهن اعتناء بتخفيف الكُلَف عنهم، وقيل: هو كناية عن البُضْع الذي هو ملكه؛ يعني: هي أشد حفظًا فرجها لزوجها. * * * 2290 - وقال: "ما تركتُ بعدِي فتنةً أَضَرَّ على الرِّجالِ مِن النِّساءِ".

"وعن أسامة أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء" لأن الطباع تميل إليهن كثيرًا، فيقع في الحرام والقتال والعداوة بسببهن، وإنما قال: (بعدي)؛ لأن كونهن فتنة صار أظهر بعده وأضر. * * * 2291 - وقال: "إنَّ الدُّنيا حُلْوةٌ خَضرةٌ، وإن الله مُستَخلِفُكم فيها فينظرُ كيفَ تعملونَ، فاتَّقوا الدُّنيا، واتَّقوا النساءَ، فإنَّ أولَ فِتْنِة بني إسرائيلَ كانتْ في النساءِ". "وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الدنيا حلوة خضرة"؛ أي: طيبة زينة في قلوبكم وعيونكم، "وإن الله مستخلفكم فيها"؛ أي: جاعلكم خلفاء في الدنيا؛ يعني: أنتم بمنزلة الوكلاء في التصرف فيها، وإنما هي في الحقيقة لله تعالى. "فينظر كيف تعملون"؛ أي: تتصرفون، أو معناه: جاعلكم خلفاء مَنْ كان قبلكم وأعطى ما في أيديهم إياكم، فينظر هل (¬1) تعتبرون بحالهم وتدبرون في مالهم. "فاتقوا الدنيا"؛ أي: فاحذروا من الاغترار بما فيها من الدولة والمال، واقنعوا منها بما يسد حالكم فإنكم ستحاسبون يوم القيامة. "واتقوا النساء"؛ أي: احذروهن بأن تميلوا إلى المنهيات بسببهن، ولا تقبلوا لهن قولًا غير مرضي شرعًا. "فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء" قصة هذا يروى: أن رجلًا من بني إسرائيل اسمه عاميل طلب منه ابن أخيه أو ابن عمه أن يزوجه ابنته، فأبى، ¬

_ (¬1) في "غ": "كيف".

فقتله لينكحها، وقيل: لينكح زوجته، وقيل: هو الذي نزلت فيه قصة ذبح البقرة. * * * 2292 - وقال: "الشُّؤمُ في المرأةِ، والدَّارِ، والفرسِ". وفي روايةٍ: "الشُّؤمُ في ثلاثٍ: في المرأةِ، والمَسْكَنِ، والدابةِ". "عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الشؤم" وهو ضد اليُمْن "في المرأة"، شؤمها: أن لا تلد، وقيل: غلاء مهرها وسوء خُلقها. "والفرس" شؤمها أن لا يُغْزى عليها، وقيل: صعوبتها وسوء خلقها، "والدار" شؤمها ضيقُها، وسوء جوارها، وهذا إرشاد منه عليه الصلاة والسلام لمن كانت له دار يكره سكناها، أو امرأة يكره صحبتها، أو فرس لا يعجبه؛ بأن يفارق بالانتقال عن الدار وتطليق المرأة وبيع الفرس. "وفي رواية الشؤم: في الثلاث في المرأة والمسكن والدابة". * * * 2293 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: كنَّا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ, فلما قفلنا كنَّا قريبًا مِن المدينةِ، قلتُ: يا رسولَ الله! إني حديثُ عهدٍ بعرسٍ، قال: "تزوَّجتَ؟ " قلتُ: نعم، قال: "أبكْرٌ أَمْ ثَيبٌ؟ "، قلتُ: بل ثيبٌ، قال: "فهلا بكرًا تلاعبُها وتلاعبُك؟ " فلمَّا قدِمنا ذهبنا لندخلَ فقال: "أَمهِلوا حتى ندخلَ ليلًا - أي: عِشاءً - لكي تمتشِطَ الشَّعِثة، وتَستَحِدَّ المُغِيبةُ". "وقال جابر: كنا مع النبي عليه الصلاة والسلام في غزوة، فلما قفلنا"؟ أي: رجعنا، "كنا قريبًا من المدينة، قلت: يا رسول الله! إني حديث عهد بعرس"؛ أي:

تزوُّجي جديد، "قال: تزوجت؟ قلت: نعم، قال: أبكر"؛ أي: أهي بكر أم ثيب؟ "قلت: بل ثيب، قال: فهلا بكرًا"؛ أي: فهلا تزوجت بكرًا "تلاعبها وتلاعبك"، وهذا يدل على أن تزويج البكر أولى، وأن الملاعبة مع الزوجة مندوب إليها. "فلما قدمنا"؛ أي: المدينة "ذهبنا لندخل، فقال: امهلوا" من الإمهال: الإنظار وعدم التعجيل "حتى ندخل ليلًا؛ أي: عشاء، لكي تمتشط الشعثة" وهي التي انتشر شعر رأسها؛ يعني: لتصلح شعرها بالمشط. "وتستحد المغيبة" وهي التي غاب عنها زوجُها؛ يعني: تستعمل الحديد - أي: المُوسى - بحلق العانة، كَنَّى به عن معالجتهن بالنتف واستعمال النورة؛ لأنهن لا تستعملن الحديد؛ يعني: تتزين لزوجها وتتهيأ لاستمتاع الزوج بها، فالسنة أن لا يدخل المسافر بيته حتى يبلغ خبر قدومه، وأما ما روي: أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يَطْرُقَ الرجل أهله؛ فمحمول على أنه من غير إعلام. * * * مِنَ الحِسَان: 2294 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة حقٌّ على الله عَونُهم: المُكاتَبُ الذي يريدُ الأداءَ، والناكحُ الذي يُريدُ العَفافَ، والمُجاهِدُ في سبيلِ الله". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاثة حق على الله عونهم: المكاتب الذي يريد الأداء"؛ أي: أداء بدل الكتابة، "والناكح الذي يريد العفاف" بفتح العين؛ أي: الستر، "والمجاهد في سبيل الله". * * *

2295 - وقال: "إذا خطبَ إليكم مَنْ تَرْضَونَ دينَهُ وخلُقَهُ فزوِّجُوه، إنْ لا تفعلُوهُ تَكُنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٌ عريضٌ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا خطب إليكم مَنْ ترضون دينه وخلقه فزوجوه"؛ أي: إذا طلب أحدٌ منكم أن تزوجوه امرأة مِنْ أولادكم أو أقاربكم مَنْ ترضون دينه وخلقه فزوجوه. "إن لا تفعلوه"؛ أي: إن لم تزوجوه "تكن فتنة في الأرض وفساد عريض"؛ أي: كبير؛ يعني كثير لأنكم إن لم تزوجوا إلا مِنْ ذي مال أو جاه أو نحو ذلك ربما يبقى أكثرُ نسائكم بلا زوج وأكثر رجالكم بلا نساء، فيكثُر الزنا، وربما بلحق للأولياء عارٌ بذلك فيهيج؛ أي: يحرك الفتن والفساد. * * * 2296 - وقال: "تزوَّجُوا الوَدُودَ الوَلُودَ، فإني مُكاثِرٌ بكم الأمَمَ". "وعن معقل بن يسار أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تزوجوا الودود"؛ أي: التي تشتد محبتُها لزوجها، "الولود"؛ أي: التي يكثر ولادتها، وإنما قيد بهذين؛ لأن الولود إذا لم تكن ودودًا لم يرغب الزوج فيها، والودود إذا لم تكن ولودًا لم يحصل المطلوب، وهو تكثير الأمة بكثرة التوالد، "فإني مكاثر بكم"؛ أي: مفاخر بسببكم "الأمم" بكثرة الأتباع والأهل. * * * 2297 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن عُويمٍ: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالأبكارِ، فإنَّهن أعذَبُ أَفواهًا، وأَنتقُ أَرحامًا، وأَرضَى باليسيرِ"، مرسلٌ. "وعن عبد الرحمن بن عويم" قد يُصحَّف بعويمر "أنه قال: قال

2 - باب النظر إلى المخطوبة وبيان العورات

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عليكم بالأبكار" وفيه حث على تزويج الأبكار "فإنهن أعذب"؛ أي: أطيب. "أفواهًا" جمع فوه وهو الفم، وإضافة العذوبة إلى الأفواه لاحتوائها على الريق، أو هو كناية عن طيب قُبلتهن لأنها أكثر شبابًا ومَلاحة من الشِّيب، أو مجاز عن كونها أحلى كلامًا وألذ منطقًا لعدم سلاطتها مع زوجها لبقاء حيائها. "وأنتق أرحامًا"؛ أي: أكثر أولادًا، أفعل التفضيل مِنْ نتقت المرأة: إذا كثر أولادها، وإطلاق الأرحام على الأولاد لملابسته بينهما؛ يعني: أرحامهن أكثر قبولًا للنطفة والحمل لقوة حرارة أرحامهن، أو لشدة شهوتهن، ولكن الأسباب ليست مؤثِّرة إلا بأمر الله تعالى. "وأرضى باليسير"؛ أي: من الطعام والكسوة لاستحيائها من زوجها، وقيل: أي: من الجماع. "مرسل"؛ لأن عبد الرحمن ولد في زمان النبي عليه الصلاة والسلام لكنه لم يَرَه. * * * 2 - باب النَّظَرِ إلى المَخطوبة وبيانِ العَورات " باب النظر إلى المخطوبة" وهي المرأة التي يطلب تزوجها، "وبيان العورات" بسكون الواو جمع عورة، وهي سَوءة الإنسان. مِنَ الصِّحَاحِ: 2298 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني تزوَّجتُ امرأةً من الأنصارِ، قال: "فانظرْ إليها، فإنَّ في أَعْيُنِ الأنصارِ شيئًا".

"من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إني تزوجت امرأة من الأنصار" المرأد من التزوج الخِطبة؛ لأن النظر بعد النكاح لا يفيد نفعًا لعدم جواز الفسخ. "قال: فانظر إليها" وهذا رخصة في جواز النظر إلى المخطوبة، وينظر وجهها وكفيها ظاهَرهما وباطنَها، "فإن في أعين الأنصار شيئًا"؛ أي: من العيب الذي ينفِّر الطبعَ عنه، قيل: هو صفرة العين، وقيل: هو ضيقُها، وقيل: صغرُها، وقيل: عَمَشُها، وقيل: أراد بذلك الحَوَل، ومعرفته عليه الصلاة والسلام بذلك لأنه رآه في الرجال فقاس الغائبَ عليهم؛ لأنهن شقائقهم، وإما لتحدث الناس به، أو بالوحي. * * * 2299 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تباشرِ المرأةُ المرأةَ فتنْعَتَها لزَوجِها كأنه ينظرُ إليها". "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تباشر المرأة المرأة" هذا خبر بمعنى النهي؛ أي: لا تمس بشرة امرأة ببشرة امرأة أخرى. "فتنعتها" بالنصب؛ أي: تصفها بما رأت من حُسنها وحُسن بشرتها "لزوجها كأنه ينظر إليها" فيتعلق قلبُه بها ويقع بذلك فتنة، والمنهي في الحقيقة هو التوصيف المذكور. * * * 2300 - وقال: "لا ينظرِ الرَّجلُ إلى عورةِ الرَّجلِ، ولا المَرأةُ إلى عورةِ المَرأةِ، ولا يُفضي الرَّجلُ إلى الرَّجلِ في ثوبٍ واحدٍ، ولا تُفضي المرأةُ إلى

المرأةِ في الثوبِ الواحدِ". "وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل، ولا المرأة إلى عورة المرأة، ولا يفضي الرجل إلى الرجل"؛ أي: لا تصل بشرة أحدهما إلى بشرة الآخر "في ثوب واحد"؛ أي: في المَضْجِع، فإنه إذ ذاك لا يؤمن هَيجان شهوتهما، فيخاف من ظهور فاحشة بينهما. "ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد" خوفًا من الفتنة بمسح فرج أحدهما إلى الأخرى. * * * 2301 - وقال: "ألا لا يَبيتَن رجلٌ عندَ امرأةٍ ثَيبٍ إلا أن يكونَ ناكِحًا أو ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ". "وعن جابر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا لا يبيتن رجل"؛ أي: في بيت واحد "عند امرأة ثيب" المراد من البيتوتة: الاختلاء بها ليلًا كان أو نهارًا، "إلا أن يكون ناكحًا أو ذا رحم محرم" خَصَّ الثيب لأن البكر مَصُونة في العادة. * * * 2302 - وقال: "إيَّاكم والدُّخولَ على النساء"، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! أرأيتَ الحَمْوَ؟ قال: "الحَموُ الموتُ". "وعن عقبة بن عامر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إياكم والدخول على النساء، فقال رجل، من الأنصار "يا رسول الله! أرأيت الحمو؟ "؛ أي: أخبرني عن دخول الحمو عليهن، بفتح الحاء وكسرها وسكون الميم وبالهمزة واحد

الأحماء، وهم أقارب الزوج، قيل المراد به: غير أب الزوج وابنه؛ لأنهما من المحارم. "فقال: الحمو الموت"؛ يعني: مثل الموت فليُحْذر عنه كما يحذر عن الموت، أو معناه: خلوة المرأة مع الحمو قد يؤدي إلى زناها على وجه الإحصان، فيؤدي إلى الموت بالرجم. * * * 2303 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن أمَّ سلمةَ رضي الله عنها استأذَنَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في الحِجامَةِ، فأمرَ أبا طَيبةَ أن يَحْجمها، قال: حسِبتُ أنه كان أخاها من الرَّضاعةِ، أو غلامًا لم يحتلم. "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن أم سلمة استأذنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحجامة، فأمر أبا طيبة أن يحجمها، قال"؛ أي: جابر: "حسبت أنه"؛ أي: أبا طيبة "كان أخاها"؛ أي: أخا أم سلمة من الرضاعة، "أو غلامًا لم يحتلم" وإلا لم يجوز عليه الصلاة والسلام النظر منه إليها، وهذا يدل على أن الحاجة إلى الحجامة لم تكن ضرورية، وإلا يجوز للأجنبي أن يحجمها وينظر إلى جميع بدنها للعلاج. * * * 2304 - عن جريرِ بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفُجْأَةِ، فأمرني أن أصرِفَ بصَري. "عن جابر بن عبد الله قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نظر الفجاءة"؛ أي: البغتة "فأمرني أن أصرف بصري"؛ أي: لا أنظر مرة ثانية؛ لأن الأولى إذا لم تكن باختياره معفوًا عنها. * * *

2305 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المرأةَ تُقبلُ في صورةِ شيطانٍ، وتُدْبرُ في صورةِ شيطانٍ، إذا أحدُكم أعجبَتْهُ المرأةُ فوقعَتْ في قلبهِ، فلْيَعمِدْ إلى امرأتِهِ فلْيُواقِعْها، فإن ذلك يردُّ ما في نفسِه". "عن جابر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المرأة تقبل في صورة شيطان"؛ أي: في صفته، "وتدبر في صورة شيطان" شَبَّهها بالشيطان في صفة الوسوسة والإضلال، فإن رؤيتها من جميع الجهات داعية للفساد. "إذا أحدكم أعجبته المرأة فوقعت في قلبه، فليعمد" بكسر الميم؛ أي: فليقصد "إلى امرأته فليواقعها"؛ أي: فليجامعها دفعًا لشهوته وجمعًا لقلبه، "فإن ذلك يرد ما في نفسه"، وهذا إرشاد لهم. * * * مِنَ الحِسَان: 2306 - عن - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا خطبَ أحدكم المرأةَ فإن استطاعَ أن ينظرَ إلى ما يدعُوهُ إلى نِكاحِها فليفعَلْ". "من الحسان": " عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها"؛ أي: إلى ما يكون داعيًا ومحرضًا له على نكاحها كالنظر إلى وجهها وكفيها، "فليفعل" فإن هذا مستحب؛ لأنه سبب تحصيل النكاح وهو سنة مؤكدة. * * * 2307 - عن المغيرةِ بن شُعبةَ - رضي الله عنه - قال: خطبتُ امرأةً فقالَ لي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:

"هلْ نظرتَ إليها؟ " فقلتُ: لا، قال: "فانظرْ إليها، فإنه أَحْرَى أن يُؤدَمَ بينَكُما". "عن المغيرة بن شعبة أنه قال: خطبت امرأة، فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: هل نظرت إليها، قلت: لا، قال: فانظر إليها فإنه" الضمير للشأن، أو لمصدر (نظرت) "أحرى"؛ أي: أجدر وأليق "أن يؤدم بينكما" من الأُدْم وهو الألفة والاتفاق، يقال: أدم الله بينهما؛ بمعنى: أصلح وألفَّ، والجملة في موضع الخبر، والمعنى: فإن النظر إليها أولى بالإصلاح وإيقاع الألفة والوفاق بينهما، فيكون تزوجها عن معرفة، فلا يكون بعده ندامة غالبًا. * * * 2308 - عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما رجلٍ رأى امرأةً تُعجبُهُ فليقُمْ إلى أهِلِه، فإنَّ معَها مثلَ الذي معَها". "عن ابن مسعود، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أيما رجل رأى امرأة تعجبه فليقم إلى أهله"؛ أي: فليجامع امرأته لتنكسر شهوته وتذهب وسوسته، "فإن معها مثل الذي معها"؛ أي: فإن مع امرأته فرجًا مثل فرج تلك المرأة. * * * 2309 - عن عبد الله - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "المرأةُ عورةٌ فإذا خرجَتْ استشرفَها الشَّيطانُ". "عن عبد الله، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: المرأة عورة" وهي السَّوءة وكل ما يُستحى منه إذا ظهر جعلت المرأة نفسها عورة؛ لأنها إذا ظهرت يستحيا منها، وأصلها من العار وهو المَذَمَّة، والمعنى: أن المرأة عورة يستقبح تبرزُها وظهورها.

"فإذا خرجت" من حِرزها "استشرفها الشيطان"؛ أي: أمعن النظر إليها ليغويها بغيرها ويغوي غيرها بها فيوقعهما أو أحدهما في الفتنة، أو يريد بالشيطان: شيطان الإنس من أهل الفسوق؛ أي: إذا رأوها بارزة واستشرفوها طَمَحوا بأبصارهم نحوها. * * * 1210 - وعن برَيْدةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: "يا عليُّ! لا تتبعِ النَّظرةَ النظرةَ، فإنَّ لكَ الأولى وليسَتْ لكَ الآخِرةُ". "وعن بريدة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: يا علي! لا تتبع النظرة النظرة"؛ أي: لا تتبع النظرة الأولى نظرةً أخرى، "فإن لك الأولى"؛ يعني: لا إثم عليك في النظرة الأولى إذا كانت فجأة من غير قصد، "وليست لك الآخرة"؛ أي: النظرة الآخرة يكون عليك بها إثم لأنها باختيارك. * * * 2311 - عن عَمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "إذا زَوَّجَ أحدكم عبدَه أَمَتَهُ فلا ينظرْ إلى عَورتها". وفي روايةٍ: "فلا ينظرْ إلى ما دونَ السُرَّةِ وفوقَ الرُّكبةِ". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إذا زوج أحدكم عبده أمته فلا ينظر إلى عورتها"؛ لأنها حرمت عليه، "وفي رواية: فلا ينظر ما دون السرة وفوق الركبة"، وهذا بيان لما يراد من قوله، فلا ينظر إلى عورتها لأن عورة الأَمَة ما بين السرة والركبة. * * *

2312 - وعن جَرْهَدٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَمَا علِمتَ أن الفَخِذَ عَورةٌ؟ ". "وعن جَرْهَد: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أما علمت أن الفخذ عورة". * * * 2313 - وقال لعليٍّ: "لا تُبْرِزْ فَخِذَكَ، ولا تنظرْ إلى فَخِذِ حيٍّ ولا ميتٍ". "وقال لعلي: لا تبرز"؛ أي: لا تظهر "فخذك، ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت". * * * 2314 - وقال لمَعْمَرٍ: "يا مَعْمَرُ! غَطِّ فَخِذَيك فإنَّ الفَخِذَينِ عَورةٌ". "وعن محمد بن جحش قال: قال عليه الصلاة والسلام لمعمر: يا معمر! غَطِّ"؛ أي: استر "فخذيك، فإن الفخذين عورة". والأحاديث الثلاثة تدل على أن الفخذين عورة، وأنها من الميت كهي من الحي. * * * 2315 - وقال: "إيَّاكم والتعرِّيَ، فإنَّ معَكم مَن لا يفارقُكم إلا عندَ الغائِطِ، وحينَ يُفضي الرَّجلُ إلى أهلِهِ، فاستحْيُوهم وأكرِمُوهم". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إياكم والتعري"؛ أي: احذروا من كشف العورة، "فإن معكم من لا يفارقكم إلا عند الغائط، وحين

يفضي الرجل إلى أهله"؛ أي: يجامعها، أراد به الملائكة الكرام الكاتبين. "فاستحيوهم وأكرموهم"، وهذا يدل على أنه لا يجوز كشف العورة إلا عند الضرورة كقضاء الحاجة والمجامعة وغير ذلك. * * * 2316 - وعن أمِّ سلَمَةَ رضي الله عنها: أنها كانت عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونةَ، إذ أقبَلَ ابن أُمِّ مكتومٍ فدخلَ عليهِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "احتجبا منه"، فقلتُ: يا رسولَ الله! أليسَ هو أَعمى لا يُبصِرُنا؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفعَمْياوانِ أنتما؟ أَلستُما تُبصِرانِه؟ ". "وعن أم سلمة: أنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وميمونةُ" بالرفع عطفًا على الضمير في (كانت)، وبالجر عطفًا على (رسول الله عليه الصلاة والسلام). "إذ أقبل ابن أم مكتوم، فدخل عليه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احتجبا منه"؛ أي: استترا بالحجاب من ابن [أم] مكتوم، "فقلت: يا رسول الله! أليس هو أعمى لا يبصرنا؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أفعمياوان أنتما! " تثنية عمياء، وهي تأنيث أعمى، "ألستما نبصرانه؟! " وهذا يدل على تحريم نظر المرأة إلى الأجنبي مطلقًا، وبعضر خَصَّه بحال خوف الفتنة عليها جمعًا بينه وبين قول عائشة: (كنت أنظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم)، ومن أطلق التحريم قال: كان قولها ذلك قبل آية الحجاب، والأصح: أنه يجوز نظر المرأة إلى الرجل، والحديث محمول على الورع والتقوى. * * * 2317 - عن بَهْزِ بن حَكيمٍ، عن أبيه، عن جدِّه - رضي الله عنه -: أنه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اِحفَظْ عَوْرتَكَ إلا مِن زَوجِكَ، أو ما مَلَكتْ يمينُكَ"، قلتُ:

أفرأيتَ إذا كانَ الرَّجلُ خاليًا؟ قال: "فالله أَحَقُ أن يُستَحيى منه". "عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: احفظ عورتك إلا من زوجتك، أو ما ملكت يمينك" وهذا يدل على أن النكاح والمِلْك يُبيحان النظر إلى السوءتين من الجانبين. "قلت: أفرأيت"؛ أي: أخبرني "إذا كان الرجل خاليًا"؛ أي: هل يجوز النظر إلى عورته؛ "قال: فالله أحق أن يستحيى منه" يدل على وجوب الستر في الخلوة. * * * 2318 - وعن عمرَ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَخلُونَّ رجلٌ بامرأةٍ، فإن الشَّيطانَ ثالثُهما". "عن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا يخلون رجل بامرأة"؛ أي: بامرأة أجنبية، "فإن الشيطان ثالثهما"؛ أي: يكون معهما يهيج شهوة كل واحد منهما حتى يلقيهَما في الزنا. * * * 2319 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَلِجُوا على المُغِيباتِ، فإن الشَّيطانَ يجري من أحدِكم مَجْرى الدَّمِ". "وعن جابر: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا تَلِجُوا على المغيبات"؛ أي: لا تدخلوا على النساء الأجنبيات اللاتي غاب عنهن زوجُهن، "فإن الشيطان يجري من أحدكم مجرى الدم". * * *

3 - باب الولي في النكاح واستئذان المرأة

2320 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَتى فاطِمةَ بعبدٍ قد وَهَبَهُ لها، وعلى فاطمةَ ثوبٌ إذا قنَّعَتْ به رأسَها لم يبلُغْ رِجلَيْها، وإذا غَطَّت به رِجلَيْها لم يبلُغْ رأسَها، فلمَّا رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما تَلْقَى قال: "إنه ليسَ عليكِ بأسٌ، إنما هو أبوكِ وغلامُكِ". "وعن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي عليه الصلاة والسلام أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت"؛ أي: سترت "به رأسها لم يبلغ رجلهيا، وإذا غطت به رجليها لم يبلغ رأسها، فلما رأى رسول الله ما تلقى"؛ أي: ما تلقاه فاطمة من التحيُّر والخجل والمشقة في جر الثوب من رجلها إلى رأسها ومن رأسها إلى رجلها "قال: إنه" أي: إن الشأن "ليس عليك بأس"؟ أي: لا بأس عليك إن لم تستري وجهك ورجليك، "إنما هو أبوك وغلامك"؛ أي: الآتي أحدُهما أبوك والآخر غلامك ومملوكك، وهذا صريح بجواز نظر الرجل إلى ما فوق السرة وتحت الركبة من نساء محارمه وبأن عبدَ المرأةِ مَحْرمُها. * * * 3 - باب الوليِّ في النِّكاح واستِئذانِ المَرأةِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2321 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تنكَحُ الثَّيبُ حتى تُستَأمرَ، ولا تُنْكَحُ البكرُ حتى تُستَأذنَ، وإذنُها الصُّموتُ". (باب الولي في النكاح واستئذان المرأة) "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تنكح الثيب حتى

تستأمر"، الاستئمار: المشاورة، ولا يصح هنا؛ لأن الاستئذان أبلغ منها، فيحمل على طلب الأمر منها بالنكاح، والأمر بالشيء لا يكون إلا بالنطق، وهذا باطلاقه حجة للشافعي في عدم تجويزه إجبار الوليِّ الثيبَ الصغيرةَ على النكاح، وحجة على أبي حنيفة في تجويزه ذلك. "ولا تنكح البكر حتى تستأذن"؛ أي: يطلب منها الإذن فيه، والإذن في الشيء الإعلام بإجازته والرخصة فيه، "وإذنها الصموت"، فإن السكوت يقوم مقام القول في نكاح الأبكار؛ لأنهنَّ أكثر حياء، وهذا بإطلاقه حجة لأبي حنيفة في عدم تجويزه إجبار البكر البالغة، وحجة على الشافعي في تجويزه ذلك، وحجة عليهما في تجويزهما إجبار البكر الصغيرة. * * * 2322 - وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأيمُ أَحَقُّ بنفسِها من وَليها، والبكرُ تُستَأذَنُ في نفسِها، وإذنُها صمَاتها". ويروى: "الثَّيبُ أحقُّ بنفسِها من وَليها، والبكرُ تستأمرُ". ويروى: "البكرُ يستأذنُها أبوها، وإذنُها صُمَاتُها". "عن ابن عباس: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: الأيم" بتشديد الياء المكسورة: امرأة لا زوج لها صغيرة كانت أو كبيرة، بكرًا كانت أو ثيبًا، لكن المراد منها هنا الثيب لوقوعه في مقابلة البكر. "أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها. ويروى: الثيب أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأمر. ويروى: البكر يستأذنها أبوها وإذنها صماتها". * * *

2323 - عن خَنْساءَ بنتِ خِذامٍ: أنَّ أباها زوَّجَها وهي ثَيبٌ، فكرِهَتْ، فأتَتْ رسولَ الله فردَّ نكاحَها. "عن خنساء بنت خذام: أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت، فأتت النبي عليه الصلاة والسلام فردَّ نكاحها"، وهذا يدل على أن تزويج الثيب لا يجوز بغير إذنها. * * * 2324 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تزوَّجَها وهي بنتُ سبعِ سنينَ، وزُفَّتْ إليه وهي بنتُ تسعِ سنينَ، ولُعَبُها معَها، وماتَ عنها وهي بنتُ ثمانٍ عَشْرةَ سنةً. "عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام تزوجها وهي بنت سبع سنين وزفَّت إليه"؛ أي: أرسلت إلى بيت رسول الله "وهي بنت تسع سنين، ولعبها معها" جمع لُعبة بضم اللام وفتح العين، وهي ما كانت تلعب به، وكل ملعوب به فهو لعبة، "ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة". * * * مِنَ الحِسَان: 2325 - عن أبي موسى - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نكاحَ إلا بوليٍّ". "من الحسان": " عن أبي موسى - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: لا نكاح إلى بولي" وبه عمل الشافعي وأحمد، قلنا: المراد منه: النكاح الذي لا يصح إلا بعقد وليٍّ بالإجماع كعقد نكاح الصغيرة والمجنونة. * * *

2326 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أيُّما امرأةٍ نكَحَتْ بغيرِ إذنِ وليها فنِكاحُها باطلٌ، فنِكاحُها باطلٌ، فنِكاحُها باطلٌ، فإن دخلَ بها فلها المهرُ بما استحلَّ من فَرجِها، فإن اشتَجَروا فالسُّلطانُ وليُّ مَن لا وليَّ له". "وعن عائشة: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أيما امرأة نكحت"، (أيما) من ألفاظ العموم في سلب الولاية عنهنَّ من غير تخصيص ببعض دون بعض؛ يعني: أيما امرأة زوجت نفسها "بغير وليها فنكاحها باطل"، ولهذا قال أبو ثور: إن زوجت نفسها بإذن وليها جاز نكاحُها، وإلا فلا، وعندنا: يجوز مطلقًا، وعند الشافعي وأحمد بطل مطلقًا. "فنكاحها باطل، فنكاحها باطل" تكرير لفظ البطلان ثلاثًا يدل على بطلان العقد لا على توقُّفِه على الإجازة، وتأولناه بأنه على صدد البطلان، ومصيره إليه إن اعترض الولي عليها إن زوَّجت نفسَها من غير كفؤ مردود. "فإن دخل بها فلها المهر بما استحل"؛ أي: بما استمتع "من فرجها"؛ أي: فلها المهر بإزاء دخوله بها، وهذا يدل على أن المهر يجب بوطئ الشبهة؛ لأن هنا شبهة لاختلاف العلماء في صحة هذا النكاح. "فإن اشتجروا"؛ أي: اختلفوا وتنازعوا، والمراد به: منع الولي المرأة عن التزويج، "فالسلطان ولي من لا ولي لها"؛ لأن الولي إذا امتنع من التزويج فكأنه لا ولي لها، فيكون السلطان وليها، وإلا فلا ولاية للسلطان مع وجود الولي. * * * 2327 - وعن ابن عبَّاسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البغايا اللاتي يُنْكِحْنَ

أنفسَهُنَّ بغيرِ بَينَةٍ"، والأصحُّ أنه موقوفٌ على ابن عباسٍ - رضي الله عنه -. "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: البغايا" جمع بغي وهي الزانية، مبتدأ خبره "اللاتي تنكحن أنفسهن بغير بينة"، والمراد بالبينة هنا: الشهود عند قوم، فمعناه: النساء اللاتي يزوجن أنفسهن بغير شهود فهنَّ زانيات، وبه قال أبو حنيفة، والولي عند آخرين، وبه قال الشافعي. "والأصح أنه موقوف على ابن عباس". * * * 2328 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اليتيمةُ تُستَأمرُ في نفسِها، فإن صمتَتْ فهو إذنُها، وإن أَبَتْ فلا جوازَ عليها". "عن أبي هريرة أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اليتيمة" وهي اسم للصغيرة التي لا أب لها ولا جد، والمراد هنا البالغة، سماها يتيمة باسم ما كانت قبل البلوغ. "تستأمر في نفسها، فإن صمتت فهو إذنها، وان أبت فلا جواز عليها"؛ أي: فلا إجبار، والأكثر على أن الوصي لا ولاية له على بنات الموصي، وإن فوض ذلك إليه، وأجازه مالك إن فوضه الأب إليه. * * * 2329 - وعن جابر - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: أيُّما عبدٍ تزوَّجَ بغيرِ إِذنِ سيدِهِ فهو عاهرٌ". "عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام: أيما عبد تزوج بغير إذن سيده فهو عاهر"؛ أي: زان؛ يعني: لا يجوز نكاح العبد بغير إذن السيد، وبه قال الشافعي وأحمد، ولا يصير العقد صحيحًا عندهما بالإجازة بعده، وقال

4 - باب إعلان النكاح والخطبة والشرط

أبو حنيفة ومالك: إن أجاز بعد العقد صحَّ. * * * 4 - باب إعلانِ النكاحِ والخِطبةِ والشَّرطِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2330 - عن الرُّبيعِ بنتِ مُعَوِّذِ بن عفراءَ رضي الله عنها: أنها قالت: جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخلَ حينَ بني عليَّ، فجلسَ على فراشي، فجعلَتْ جُوَيرياتٌ لنا يَضرِبن الدُّفَّ ويندُبن مَن قُتِلَ من آبائي يومَ بدرٍ، إذ قالت إحداهُنَّ: وفينا نبيٌّ يعلمُ ما في غدٍ فقال: "دَعي هذه، وقُولي ما كنتِ تقولينَ". (باب إعلان النكاح والخطبة والشرط) "من الصحاح": " عن الربيع بنت معوذ بن عفراء: أنها قالت: جاء النبي عليه الصلاة والسلام فدخل حين بني عليَّ" على بناء المجهول؛ أي: سُلِّمت وزففت إلى زوجي، "فجلس على فراشي، فجعلَتْ"؛ أي: طفِقت "جويريات لنا" تصغير جواري، والمراد هنا: بنات الأنصار لا المملوكات "يضربن الدف"، فيه دليل على جواز ضرب الدف عند النكاح والزفاف للإعلان. "ويندبن من قتل من آبائهن يوم بدر" النَّدْب: تعديد محاسن الميت؛ يعني: يَصِفْنَ شجاعتهم ويقُلْن مَرْثِيَتَهم، وفيه دليل جواز الندب على الموتى، وجواز استماعها ما لم يشتمل على عصيان وحرام، وجواز استماع أصوات

اللاتي لم يبلغن محلَّ الشهوة. "إذ قالت إحداهن: وفينا نبي يعلم ما في غد"؛ يعني: يخبر عن المستقبل ويقع على وفقه، "فقال" عليه الصلاة والسلام منعًا إياها عن ذلك: "دعي هذه"؛ أي: اتركي هذه الحكاية أو القصة، "وقولي ما كنت تقولين" من ذكر المقتولين، وهذا لكراهته عليه الصلاة والسلام نسبة علم الغيب إليه مطلقًا؛ لأنه لا يعلمه كذلك إلا الله، وإنما يعلم الرسول من الغيب ما أخبره الله به، أو لكراهته أن يذكر في أثناء ضرب الدف وأثناء مرْثيَة القتلى لعلوِّ منصبه عن ذلك. * * * 2331 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: زُفَّتْ امرأةٌ إلى رجلٍ من الأنصارِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما كانَ معَكم لهوٌ؟ فإنَّ الأنصارَ يُعجبُهم اللهوُ". "وقالت عائشة: زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -: ما كان" (ما) للنفي وهمزة الاستفهام مقدَّرة؛ أي: أما كان، "معكم لهو" يريد به ضرب الدف وقراءة شعر لا إثم فيه، "فإن الأنصار يعجبهم اللهو"، وهذا رخصة في اللهو عند العريس. * * * 2332 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: تَزوَّجَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في شوَّالٍ، وبنى بي في شوَّالٍ، فأيُّ نساءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ أَحْظَى عندَه مني؟. "وقالت عائشة: تزوجني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: نكحني "في شوال، وبنى بي"؛ أي: أدخلني بيته وضَمَّني إليه "في شوال، فأيُّ نساء رسول الله كان

أحظى"؛ أي: أقرب منزلة "عنده مني" قيل: إنما قالت هذا ردًا على أهل الجاهلية؛ فإنهم كانوا لا يرون تيمنًا في التزوج والعرس في أشهر الحج، وقيل: لأنها سمعت بعض الناس يتطيَّرون ببناء الرجل على أهله في شوال فحَكَت ما حكت إنكارًا لذلك وإزاحة للوهم. * * * 2333 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أحقُّ الشروطِ أن تُوفُوا به ما استحلَلْتُم به الفُرُوجَ". "وعن عقبة بن عامر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج" وهذا عند الأكثر خاص في شرط المسمى في الذمة مالًا أو عينًا لأنه الشرط الذي تستحل به الفروج، وقيل: هو عام في الحقوق التي يقتضيها العقد من المهر والنفقة والكسوة وحُسن العشرة. * * * 2334 - وقال: "لا يخطُبْ الرَّجلُ على خِطْبةِ أخيهِ حتى ينكِحَ أو يترُكَ". "عن ابن عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يخطب الرجل على خطبة أخيه" وهي بكسر الخاء: طلب المرأة للتزوج "حتى ينكح"؛ أي: الخاطب الأول تلك المخطوبة، "أو يترك" فيخطبها، قيل: هذا إذا تراضيا على صَداق معلوم ولم يبق إلا العقد، وأما إذا لم يكن كذلك فيجوز خطبتها، ثم لو خطب على خطبة أخيه يكون عاصيًا ويصح نكاحه ولا يفسخ، وقال بعض المالكية: يفسخ. * * * 2335 - وقال: "لا تَسألِ المرأةُ طلاقَ أختِها لتَستفرغَ صَحفتَها ولتَنكِحَ،

فإنَّ لها ما قُدِّرَ لها". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسأل المرأة طلاق أختها" أراد في كونها من بنات آدم، المراد ضرتها. "لتستفرغ صحفتها"؛ أي: قصعتها؛ يعني: لتجعل تلك المرأةُ قصعةَ أختِها خاليةً عما فيها، وهذا كناية عن أن يصير لها ما كان يحصل لضرتها من النفقة وغيرها. "ولتنكح" بالنصب عطف على قوله: (لتستفرغ)؛ أي: لتنكح زوجها منفردة به عن أختها؛ أي: ضرتها، "فإن لها ما قدر لها" من النفقة وغيرها سواء كانت منفردة أو مع أخرى، ويجوز أن يكون النهي في غير صورة الضرة، فالمعنى: لا تسأل غير المنكوحة طلاق أختها من زوجها لينكحها وتستبدَّ هي بما كانت تحظى به أختُها من زوجها. * * * 2336 - عن ابن عمرَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشِّغارِ. والشِّغارُ: أن يُزَوِّجَ الرَّجُلُ ابنتَه على أن يزوِّجَه الآخرُ ابنتَه، وليسَ بينَهما صَداقٌ. "عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الشغار" قال المصنف: "والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته وليس بينهما صداق". * * * 2337 - وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا شِغارَ في الإسلامِ".

"وعنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا شغار في الإسلام" تقدم البيان فيه في حِسَان (باب الغصب). * * * 2338 - وعن عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن مُتْعَةِ النِّساء يومَ خيبرَ، وعن أكلِ لُحومِ الحُمُرِ الإنسيَّةِ. "عن علي بن أبي طالب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن متعة النساء يوم خيبر" وصورة ذلك: أن ينكح الرجل امرأة إلى مُدَّة معينة فإذا انقضت بانت منه، وكان ذلك مباحًا في أول الإسلام فيكون منسوخًا. "وعن كل لحوم الحمر الإنسية" فإنه كان حلالًا فحرِّم بهذا. * * * 2339 - وعن سلَمَةَ بن الأكَوعِ قال: رَخَّصَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ أوطاسٍ في المُتعَةِ ثلاثًا، ثم نَهى عنها. "وعن سلمة [بن] الأكوع قال: رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أوطاس" وهو عام حنين، وأوطاس وادٍ من ديار هوازن قَسَم بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غنائمَهم، وذلك بعد عام الفتح. "في المتعة ثلاثًا"؛ يعني: مدة الرخصة في ذلك الغزو ثلاثة أيام، "ثم نهى عنها"، لا أن جميع مدة الرخصة كان ذلك؛ لأن الخطابي قال: رَخَّص عليه الصلاة والسلام في نكاح المتعة في بُدُوِّ الإسلام ونسخها في حجة الوداع. * * *

مِنَ الحِسَان: 2340 - عن أبي الأحَوصِ عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: علَّمنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - التشهُّدَ في الصَّلاةِ، والتشهُّدَ في الحاجةِ، فذكرَ التشهُّدَ في الصَّلاةِ كما ذكرَ غيرَه، والتشهَّدُ في الحاجةِ: "إنَّ الحمدَ للَّهِ نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسِنا ومن سيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يهدهِ الله فلا مُضلَّ له، ومَنْ يُضلِل فلا هاديَ له، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وأشهدُ أن مُحمَّدًا عبدُه ورسولُه"، ويقرأُ ثلاثَ آياتٍ قصيرة - ففسَّرَه سفيانُ الثوريُّ: " {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} , {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} ," ويُروى عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - في خُطبةِ الحاجةِ من النكاحِ وغيره. "من الحسان": " عن أبي الأحوص، عن عبد الله أنه قال: علمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد في الصلاة" أراد بالتشهد: كلَّ كلام فيه الثناء على الله تعالى وكَلِمتا الشهادةِ. "والتشهد في الحاجة، فذكر"؛ أي: الراوي "التشهد في الصلاة كما ذكره غيره" وهو: التحيات. . . إلى آخره، "والتشهد في الحاجة: إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلله فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ويقرأ"؛ أي: النبيُّ عليه الصلاة والسلام "ثلاث آيات، ففسرها"؛ أي: بينها "سفيان الثوري: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} بأن يطاع فلا يعصى، وقال مجاهد: أن تجاهدوا في سبيل الله حقَّ جهاده، ولا تأخذكم في الله لومةَ لائم، وتقوموا لله ولو على أنفسكم وآباءكم وأبناءكم. " {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} "؛ أي: مؤمنون، وقيل: مخلصون مفوِّضون

أمورَكم إلى الله، والنهي في ظاهر الكلام وقع على الموت، وإنما هو في الحقيقة على ترك الإسلام، ومعناه: داوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا وأنتم مسلمون. " {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ} " أصله: (تتساءلون) أدغمت التاء في السين بعد إبدالها سينًا لقرب التاء من السين، " {وَالْأَرْحَامَ} " قرئ بالنصب مفعولًا؛ أي: اتقوا الأرحام أن تقطعوها، {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} "؛ أي: حافظًا. " {اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} "؛ أي: مستقيمًا، "ويروي"؛ أي: هذا التحميد والتشهد المذكور "عن ابن مسعود - رضي الله عنه - في خطبة الحاجة من النكاح وغيره". * * * 2341 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ خُطبةٍ ليسَ فيها تَشَهُّدٌ فهي كَاليَدِ الجَذْماء"، غريب. وفي رِوايةٍ: "كلُّ كلامٍ لا يُبدأُ فيه بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فهو أَجْذَمُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل خطبة" هي بكسر الخاء: طلب التزوج "ليس فيها تشهد"؛ أي: ليس فيها حمدُ الله وثناؤه "فهي كاليد الجَذْماء"؛ أي: المقطوعة التي لا فائدة فيها لصاحبها. "غريب. وفي رواية: كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم"؛ أي: مقطوع اليد؟ يعني: كل أمر لم يبدأ فيه بالحمد لله لا ثَباتَ له ولا منفعةَ فيه، وكان كالمنقطع الأثر الذي لا نظام له. * * *

2342 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعلِنُوا هذا النِّكاحَ، واجعَلُوه في المساجدِ، واضرِبُوا عليه بالدُّفوفِ"، غريب. "عن عائشة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعلنوا هذا النكاح" إشارة به إلى نكاح المسلمين، "واجعلوه في المساجد"؛ أي: اجعلوا عقد النكاح فيها؛ لأنه إذا أسر به فربما نسب إلى الزنا ووقعوا في التهمة والغيبة، "واضربوا عليه بالدف"، يدل على جواز ضرب الدف في المسجد للنكاح. "غريب". * * * 2343 - وعن محمَّدِ بن حاطبٍ الجُمَحِيِّ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَصْلُ ما بينَ الحلالِ والحرامِ: الصوتُ والدُّفُّ في النكاح". "وعن محمد بن حاطب الجمحي، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: فصل ما بين الحلال والحرام الصوت والدف في النكاح" ليس المراد منه: أنه لا فرق بينهما في النكاح سوى هذا الأمر، فإن الفرق يحصل بحضور الشهود عند عقد النكاح، بل المراد: الترغيب إلى إعلان أمر النكاح بحيث لا يخفى على الأباعد، فالسنة إعلان النكاح بضرب الدف وأصوات الحاضرين بالتهنئة أو نغمة في إنشاد الشعر المباح، وهذا يدل على جواز رفع الأصوات وإنشاد الشعر في المساجد للنكاح. * * * 2345 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كانَتْ عندي جاريةٌ من الأنصارِ زَوَّجتُها، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشةُ! ألا تُغَنِّينَ؟ فإنَّ هذا الحيَّ من الأنصارِ يُحِبُّونَ الغناءَ".

"عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كانت عندي جارية من الأنصار زوجتها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عائشة! ألا تغنين"؛ أي: ألا تأمرين بالغناء، "فإن هذا الحي من الأنصار يحبون الغناء". * * * 2346 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن جاريةً من الأنصارِ زُوِّجَتْ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أرسَلْتُم معهم مَن يقولُ: أَتيناكُم أَتيناكُم. . . فَحَيَّانا وحيَّاكم" "وعنها: أن جارية من الأنصار زوجت، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ألا أرسلتم" بحرف التحضيض؛ أي: لم لا أرسلتم "معهم من يقول: أتيناكم أتيناكم" بقصر الهمزة فيهما "فحيانا وحياكم"؛ أي: سلام علينا وعليكم. * * * 2344 - عن الحَسَنِ، عن سَمُرَة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيما امرأةٍ زَوَّجها وليَّانِ فهي للأوَّلِ منهما، ومَن باعَ بيعًا من رجلينِ فهو للأوَّل منهما (¬1) ". "عن الحسن عن سمرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أيما امرأة زوجها وليان" وأحدهما سابق "فهي للأول منهما" وبطل الثاني؛ دخل الثاني بها أو لا، وبه قال عامة العلماء، وقال عطاء ومالك: إن دخل بها الثاني فهي له، وعند الشافعي في قول: لا يصح النكاح أصلًا، "ومن باع بيعًا من رجلين فهو للأول منهما". * * * ¬

_ (¬1) ورد هذا الحديث في النسختين قبل باب المحرمات بعد الحديث رقم (2346).

5 - باب المحرمات

5 - باب المُحرَّماتِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2347 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُجمَعُ بينَ المرأةِ وعمَّتِها، ولا بينَ المرأةِ وخالتِها". (باب المحرمات) "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها"؛ يعني: يحرم الجمع بينهما سواء كانت عمة وخالة حقيقة أو مجازية، وهي أخت أب الأب وأب الجد وإن علا، وأخت أم الأم وأم الجد من جهتي الأم والأب وإن علت، فكلهن حرام بإجماع العلماء. 2348 - وقال: "يَحْرُمُ من الرَّضاعةِ ما يَحرُمُ من الوِلادةِ". "وعن عائشة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يحرم من الرضاع ما يحرم من الولادة"، وفيه دليل على أن حرمة الرضاع كحرمة النسب بين الرضيع وفروعه فقط دون سائر أقاربه وبين المرضعة وسائر أقاربها في المناكح حتى يحرم على رضيع المرأة أولاده دون سائر أقاربه الأُخر، ويدل أيضًا على أن الزانية إذا أرضعت بلبن الزنا رضيعًا لا تثبت الحرمة بين الرضيع وبين الزاني وأهل نسبة كما لا يثبت به النسب. * * * 2349 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: جاء عمِّي من الرَّضاعةِ فاستأذنَ

عليَّ، فأَبَيْتُ أنْ آذنَ لهُ حتى أسألَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاءَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فسألتُه فقال: "إنه عمُّكِ، فائذَني له". "وقالت عائشة: جاء عمي من الرضاعة فاستأذن عليَّ فأبيت أن آذن له حتى أسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء رسول الله فسألته، فقال: إنه عمك فأذني له" وهذا يدل على أن لبن الفحل يحرم حتى تثبت الحرمة من جهة صاحب اللبن، كما تثبت من جانب المرضعة، فإنه عليه السلام أَثبتَ عمومةَ الرضاع وألحقها بالنسب، وعليه الأكثر. * * * 2350 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: يا رسولَ الله! هل لكَ في بنتِ عمَّكَ حَمزةَ؟ فإنها أجملُ فتاةٍ في قريشٍ، فقالَ له: "أَما علمْتَ أن حمزةَ أخي من الرَّضاعةِ، وأنَّ الله حرَّمَ من الرَّضاعةِ ما حرَّمَ من النَّسبِ؟ ". "وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله! هل لك" خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هل لك رغبة "في بنت عمك حمزة، فإنها أجمل فتاة في قريش، فقال له: أما علمت أن حمزة أخي من الرضاعة، وأن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب". * * * 2351 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُحرِّمُ الرضْعةُ والرَّضعتانِ". "عن أم الفضل أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحرم الرضعة والرضعتان" بفتح الراء وسكون الضاد فيهما. * * *

2352 - وقال: "لا تُحرِّمُ المَصَّةُ والمصَّتانِ". 2353 - و: "لا تُحرِّمُ الإمْلاجَةُ والإمْلاجَتانِ". "وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تحرم المصة والمصتان، ولا تحرم الإملاجة ولا الاملاجتان" المصة: فعل الرضيع، والإملاجة: فعل المُرضعة، قال داود: لا يثبت الرضاع بأقل من ثلاث رَضَعات أخذًا بظاهر الحديث، والأكثرون على أن قليل الرضاع وكثيرَه محرِّم، وإليه ذهب أبو حنيفة لقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ}، وهو بإطلاقه يتناول القليل والكثير، وخبر الواحد لا يصلح أن يقيد إطلاق الكتاب. * * * 2354 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: كانَ فيما أُنزِلَ من القرآن: (عَشْرُ رَضَعاتٍ معلوماتٍ يُحَرِّمْنَ)، ثم نُسِخنَ بـ (خمسٍ معلوماتٍ)، فتُوفيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فيما يُقرأُ من القرآنِ. "وقالت عائشة رضي الله عنها: كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن"؛ يعني: كانت في القرآن آية فيها: أن المحرم عشر رضعات، "ثم نسحن بخمس معلومات، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي فيما يقرأ من القرآن" ذهب الشافعي بهذا إلى أن التحريم لا يثبت بأقل من خمس رضعات متفرقات. أجيب: بأن هذا لفظ منسوخ، والظاهر أنه إذا نسخ اللفظ نسخ الحكم، وقولها: (فتوفي عليه الصلاة والسلام وهي فيما يقرأ من القرآن) مجاز عن قرب عهد النسخ من وفاته، وإلى هذا ذهب مالك بن أنس والثوري والأوزاعي وعبد الله بن المبارك. * * *

2355 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخلَ عليها وعندَها رجلٌ فكأنه كرِهَ ذلك فقالَتْ: إنه أخي، فقال: "انظُرْنَ ما إخْوانُكُنَّ، فإنَّما الرَّضاعةُ من المَجاعَةِ". "وعن عائشة رضي الله عنها: أن النبي عليه الصلاة والسلام دخل عليها وعندها رجلٌ فكأنه كره ذلك، فقالت: إنه أخي، فقال: انظرن ما إخوانكن"، (ما) هنا بمعنى (من)؛ يعني: ليس كل من ارتضع لبن أمهاتكن يصير أخًا لكن. "فإنما الرضاعة من المجاعة"؛ أي: الرضاعة المحرمة حين يكون الرضيع طفلًا يسُدُّ اللبن جُوعته، ولا يحتاج إلى طعام آخر، فكيف عرفت أن رضاع هذا الرجل على الصفة المذكورة. * * * 2355/ -م - وعن عُقبةَ بن الحارث: أنه تزوَّجَ ابنةً لأبي إهابِ بن عَزيزٍ، فأتَت امرأةٌ فقالت: قد أرضعتُ عُقبةَ والتي تَزَوَّجَ بها، فقالَ لها عقبةُ: ما أعلمُ أنكِ أرضعْتِني ولا أخبرتني! فأرسلَ إلى آلِ أبي إهابٍ فسألهم، فقالوا: ما علمْنا أرضعَتْ صاحبتَنا! فركبَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بالمدينةِ فسألَهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ وقد قيلَ؟ " ففارقَها ونكحَتْ زَوجًا غيره. "عن عقبة بن الحارث: أنه تزوج ابنة لأبي إهاب بن عزيز، فأتت امرأة فقالت: قد أرضعت عقبة والتي تزوجها، فقال لها عقبة: ما أعلم أنك أرضعتني ولا أخبرتني، فأرسل إلى أبي إهاب فسألهم فقالوا: ما علمنا أرضعت صاحبتنا، فركب"؛ أي: عقبة "إلى النبي عليه الصلاة والسلام بالمدينة فسأله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كيف"؛ أي: كيف يجوز لك إمساكُها "وقد قيل" إنها أختك من الرضاع؛ يعني: فارِقْها، "ففارقها"؛ أي: عقبة "ونكحت زوجًا غيره" ذهب

بعض إلى الاكتفاء في إثبات الرضاع بشهادة المرضعة عملًا بهذا الحديث، وأكثر العلماء على خلافه، وحملوا قولَه عليه الصلاة والسلام: "كيف وقد قيل" على التورع والتقوى، إذ ليس هنا إلا إخبار امرأة عن فعلها في غير مجلس الحكم والزوج مكذِّب لها، فلا يقبل؛ لأن شهادة الإنسان على فعل نفسه غيرُ مقبولة شرعًا. * * * 2356 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حنينٍ بعثَ جيشًا إلى أوْطاسٍ فأَصابُوا سَبايا، فكأنَّ ناسًا من أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تحرَّجُوا من غِشيانِهِن مِن أجلِ أزواجِهِنَّ من المشركينَ، فأَنزلَ الله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: فَهُنَّ حلالٌ لكم إذا انقضَتْ عِدَّتُهنَّ. "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين بعث جيشًا إلى أوطاس" موضع عند الطائف "فأصابوا سبايا" جمع سبية فعيلة بمعنى مفعولة. "فكأن ناسًا من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام تحرَّجوا"؛ أي تحرَّزوا من الإثم "من غشيانهن"؛ أي: من مجامعتهن "من أجل أزواجهن"؛ أي: من أجل أن لهن أزواجًا "من المشركين" زاعمين أن وطأهن غيرُ جائز ولم يعلموا انقطاع نكاحهن عن أزواجهن. "فأنزل الله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} "؛ أي: اللاتي لهن أزواج، عطف على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}؛ يعني: هؤلاء المذكورات محرمات " {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} "؛ يعني: والمحصنات من النساء اللاتي لهن أزواج محرمات لأنهن أحصنَّ فروجَهن بالتزوج وما ملكت أيمانهن؛ أي: من اللاتي سُبين ولهن أزواج في دار الكفر فهن حلال لغزاة

المسلمين وإن كن محصنات، "أي: فهن حلال لكم إذا انقضت عدتهن". * * * مِنَ الحِسَان: 2357 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهَى أنْ تُنكَحَ المرأةُ على عَمَّتِها، أو العَمَّةُ على بنتِ أخيها، والمرأةُ على خالتِها، والخالةُ على بنتِ أُختِها، "لا تُنْكَحُ الصُّغرَى على الكُبرَى، ولا الكُبرى على الصغرَى". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تنكح المرأة على عمتها، أو العمة على بنت أخيها، والمرأة على خالتها، والخالة على بنت أختها، ولا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى" المراد من الصغرى والكبرى هما في المرتبة؛ فالعمة والخالة كبريان وبنت الأخ وبنت الأخت صغريان فيها؛ لأنهما أعلى مرتبة منهما وأكبر سنًا غالبًا، وهذا كالبيان والتأكيد لما قبلَهما؛ يعني: لا يجوز الجمع بينهما. * * * 2358 - وعن البَراء بن عازبٍ قال: مَرَّ بي خالي ومعَهُ لواءٌ فقلتُ: أينَ تذهبُ؟ قال: بعثني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى رجلى تَزَوَّجَ امرأةَ أبيهِ آتيهِ برأسِه. وفي روايةٍ: فأَمرني أنْ أضرِبَ عُنُقَهُ وآخُذَ مالَه. "عن البراء بن عازب قال: مر بي خالي" أبو برزة "ومعه لواء" وكان ذلك اللواء علامة كونه مبعوثًا من جهة النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك الأمر، "فقلت له: أين تذهب؟ قال: بعثني النبي عليه الصلاة والسلام إلى رجل تزوج امرأة أبيه آتيه برأسه، وفي رواية: فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله"، وإنما

أمره عليه الصلاة والسلام بقتل ذلك الرجل وأخذ ماله لعِلْمه عليه الصلاة والسلام باباحته نكاحها، فصار بذلك مرتدًا، والمرتد يُقتل ويكون ماله فيئًا. * * * 2359 - وعن أمِّ سلَمَةَ قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُحَرِّمُ من الرَّضاعِ إلا ما فتقَ الأمعاءَ في الثَّدي، وكانَ قبلَ الفِطامِ". "عن أم سلمة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق"؛ أي: شق "الأمعاء"، ووقع موقع الغذاء، شق الطعام إياها: إذا نزل إليها، وهذا احتراز عن أن يتقيأ الولد اللبن قبل الوصول إلى الجوف فإنه لا يحصل به التحريم. وفي بعض النسخ بزيادة: "في الثدي" وهو حال عن ضمير (فتق)؛ أي: حال كونه ممتلئًا في الثدي، فأيضًا منها ليس المراد منه اشتراط أن يكون من الثدي، فإن الإيجار باللبن يقوم مقام الارتضاع من الثدي في حق التحريم، بل خرج مخرج العادة لأن ما يفتق أمعاء الصبي من اللبن يكون في الثدي غالبًا. "وكان" ذلك "قبل الفطام"، لدقة أمعاء الصبي حينئذ، وهذا يدل على عدم تأثير الرضاع في الكبر ومدة الفطام حولين أو حولين ونصف الحول، أو ثلاث سنين على اختلاف الأقوال. * * * 2360 - وعن حَجَّاجِ بن حَجَّاجِ الأسلميِّ، عن أبيه: أنه قال: يا رسولَ الله! ما يُذهِبُ عني مَذَمَّةَ الرَّضاعِ؟ فقال: "غُرَّةٌ، عبدٌ أو أَمَةٌ". "عن حجاج بن حجاج الأسلمي، عن أبيه أنه قال: يا رسول الله! ما يذهب عني مذمة الرضاع" وهي بكسر الذال وفتحها: الذمام وهو الحرمة

والحق؛ يعني: أي شيء يسقط عن الحق اللازم بسبب الرضاع، أو حق ذات الرضاع حتى أكون قد أدَّيته كاملًا. "فقال غرة" بضم الغين وبالتنوين "عبد أو أمة" تفسير للغرة، أمر بالغرة لكي يخدُم المرضعة جبرًا لما فعلته من الرضاع والتربية. * * * 2361 - عن أبي الطُّفَيل قال: كنتُ جالسًا معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذ أَقبلَت امرأةٌ، فبسطَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رِداءَهُ حتى قعدَتْ عليهِ، فلمَّا ذهبَتْ قيلَ: هذه أرضَعَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. "عن أبي الطفيل قال: كنت جالسًا مع النبي إذ أقبلت"؛ أي: جاءت "امرأة، فبسط النبي عليه الصلاة والسلام"؛ أي: أفرش لها "رداءه حتى قعدت عليه، فلما ذهبت قيل: هذه أرضعت النبي عليه الصلاة والسلام"، وهذا يدل على تعظيم أمِّ الرضاع. * * * 2362 - عن ابن عمرَ: أن غيلانَ بن سلَمَة الثَّقَفيَّ أسلمَ، وله عشرُ نسوةٍ في الجاهليَّةِ فأَسْلَمْنَ معَهُ، فقال له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَمسِكْ أربعًا، وفارِق سائرَهُن". "عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة في الجاهلية، فأسلمن معه، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: أمسك أربعًا وفارق سائرهن"؛ أي: اترك باقيهن. وفيه دليل على أن أنكحة الكفار صحيحة حتى إذا أسلموا لا يؤمرون بتجديد النكاح، وعلى أنه لا يجوز أكثر من أربع نسوة، وعلى أنه إذا قال:

اخترت فلانة وفلانة، ثبت نكاحُهن وحصلت الفرقة بينه وبين ما عداهن من غير أن يطلِّقهن. * * * 2363 - وعن نوفلِ بن مُعاويةَ - رضي الله عنه - قال: أَسلمتُ وتحتي خمسُ نِسوةٍ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "فارِقْ واحدةً وأمسِكْ أربعًا"، فعَمَدت إلى أقدمِهن صُحبةً عندي، عاقرٌ منذُ ستينَ سنةً ففارقتُها. "وعن نوفل بن معاوية قال: أسلمت وتحتي خمس نسوة، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فارق واحدة وأمسك أربعًا، فعمدت إلى أقدمهن صحبة عندي عاقر" بالجر صفة (أقدمهن) "منذ ستين سنة ففارقتها". * * * 2364 - وعن الضَّحَّاك بن فيروزَ الدَّيلميِّ، عن أبيهِ قال: قلتُ: يا رسولَ الله! إني أسلمتُ وتحتي أختانِ؟ قال: "اختَرْ أيتهما شئتَ". "عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه أنه قال: قلت: يا رسول الله! إني أسلمت وتحتي أختان، قال: اختر أيتهما شئت" ذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى أنه لو أسلم رجل وتحته أختان وأسلمتا معه كان له أن يختار إحداهما سواء كانت المختار تزوجها أولًا أو آخرًا، وقال أبو حنيفة: إن تزوجهما معًا لا يجوز له أن يختار واحدة منهما، وإن تزوجهما متعاقبتين له أن يختار الأولى منهما دون الأخيرة. * * * 2365 - عن ابن عبَّاسٍ قال: أسلَمَت امرأةٌ فتزوَّجَتْ، فجاءَ زوجُها

إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله! إنِّي قد أسلمتُ وعَلِمَتْ بإسلامي، فانتزَعَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من زوجِها الآخِرِ، ورَدَّها إلى زوجِها الأولِ. ورُوِيَ أنه قال: إنَّها أسلَمَت معي، فرَدَّها عليهِ. "عن ابن عباس قال: أسلمت امرأة فتزوجت، فجاء زوجها"؛ أي: زوجها الأول "إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! إني قد أسلمت"؛ أي: معها أو قبل انقضاء عدتها، "وعلمت بإسلامي، فانتزعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زوجها الآخر، وردَّها إلى زوجها الأول" بلا تجديد نكاح، بل حَكَم ببقاء النكاح الأول وبطلان الثاني. "وروي أنه قال: إنها أسلمت معي، فردَّها عليه". * * * 2366 - وروي أنَّ جماعةً من النِّساءَ رَدَّهُنَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بالنِّكاحِ الأوَّلِ على أزواجِهِن، عندَ اجتماعِ الإسلامينِ في العدة بعدَ اختلافِ الدِّينِ والدَّارِ، منهُن: بنتُ الوليدِ بن المغيرةِ، كانَتْ تحتَ صفوانَ بن أميةَ فأَسلَمَتْ يومَ الفتح، فهرَبَ زوجُها من الإسلام، فبَعَثَ إليه ابن عمِّه وهبُ بن عُميرٍ برداء رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أمانًا لصفوانَ، فلمَّا قَدِمَ جعلَ له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تَسْييَر أربعةِ أشهرٍ حتى أَسلمَ، فاستقرَّتْ عندَه، وأسلَمَتْ أمُّ حكيمٍ بنتُ الحارثِ بن هشامٍ، امرأةُ عِكرمَةَ بن أبي جهل يومَ الفتح بمكةَ، وهربَ زوجُها من الإسلام حتى قَدِمَ اليمنَ، فارتحلَتْ أمُّ حكيمٍ حتى قَدِمَتْ عليهِ اليمنَ، فدعَتْهُ إلى الإسلامِ فأسلَمَ، فثبَتا على نكاحِهما. "وروي: أن جماعة من النساء ردهن النبيُّ عليه الصلاة والسلام بالنكاح الأول على أزواجهن عند اجتماع الإسلامين" في العدة بأن أسلم الزوجان معًا،

6 - باب المباشرة

أو يكون أسلم المتأخر قبل انقضاء العدة. "بعد اختلاف الدين والدار" فالمعتبر هو اجتماع إسلامهن في العدة سواء كانا على دين واحد أو لا، وسواء كانا في دار الإسلام أو في دار الحرب أحدهما في هذا والآخر في ذلك، وإليه ذهب الشافعي وأحمد. "منهن بنت الوليد بن المغيرة كانت تحت صفوان بن أمية فأسلمت يوم الفتح وهرب زوجها من الإسلام، فبعث إليه ابن عمه" فاعل بعث "وهب بن عمير" عطف بيان، "برداء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمانًا لصفوان" حتى لا يتعرضوه بالقتل، "فلما قدم جعل له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تسيير أربعة أشهر" بإضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع تفعيل من السير الإخراج من بلد إلى أخرى، والمراد هنا: تمكينه من السير في الأرض أمنًا أربعة أشهر بين المسلمين لينظروا في سيرة المسلمين، فلبث بينهم زمانًا، فرزقه الله الإسلام قبل أن تنقضي عدةُ زوجته. "حتى أسلم فاستقرت عنده" على نكاحها، "وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام امرأة عكرمة بن أبي جهل يومَ الفتح بمكة، وهرب زوجها من الإسلام حتى قدم اليمن فارتحلت أمُّ حكيم حتى قدمت عليه اليمن فدعته إلى الإسلام فأسلم فثبتا على نكاحهما". * * * 6 - باب المُباشَرةِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2367 - عن جابرٍ - صلى الله عليه وسلم - قال: كانت اليهودُ تقولُ: إذا أتى الرجلُ امرأتَه من دُبرِها في قُبُلِها كانَ الولدُ أَحْوَلَ، فنزلَتْ: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}.

(باب المباشرة) "من الصحاح": " عن جابر قال: كانت اليهود تقول: إذا أتى الرجل امرأته من دبرها في قبلها"؛ يعني: يقف خلفَها ويُولج في فرجها لا في دبرها، فإنَّ الوطء في الدبر محرَّم في جميع الأديان، "كان الولد أحول، فنزلت: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} "؛ أي: هن لكم بمنزلة الأرض تزرع ومحلُّه القبل، " {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} "؛ أي: كيف شئتم قائمًا أو قاعدًا أو مضطجعًا، أو من الدبر في فرجها، أو من القبل في فرجها، وعلى أي هيئة كانت. * * * 2368 - قال جابرٌ - رضي الله عنه -: كنا نعزِلُ والقرآنُ يَنْزِلُ، فبلغَ ذلكَ النَّبيَّ فلمْ يَنْهَنا. "قال جابر: كنا نعزل" العزل: إخراج الرجل ذكرَه من الفرج وقتَ الإنزال، "والقرآن ينزل، فبلغ ذلك"؛ أي: فِعْلنا هذا "النبيَّ عليه الصلاة والسلام، فلم ينهنا"، ولو لم يكن ذلك جائزًا لنهانا. * * * 2369 - عن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: إنَّ لي جاريةً هي خادمتُنا وأنا أَطوفُ عليها وأكرَهُ أن تحمِلَ؟ فقال: "اعزِلْ عنها إن شئتَ، فإنه سَيأتِيها ما قُدِّرَ لها"، فَلِبَث الرجلُ ثم أتاهُ فقال: إنَّ الجاريةَ قد حَبلَتْ، فقال: "قد أخبرتُكَ أنه سيأتِيها ما قُدِّرَ لها". "وعنه: أن رجلًا أتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي جارية هي خادمتنا وأنا

أطوف عليها"؛ أي: أجامعها "وأكره أن تحمل، فقال: أعزل عنها" بفتح الهمزة (¬1) "إن شئت"، وهذا يدل على جواز العزل، وعلى أن العزل في الأمة بمشيئة الواطئ. "فإنه" الضمير للشأن "سيأتيها ما قدر لها"؛ يعني: إن قدر الله تعالى حملًا ستحمل، سواء عزلت عنها أو لم تعزل، فإن العزل لا يمنع تقدير الله. "فلبث الرجل، ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال: أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها" وفيه دلالة على إلحاق النسب مع العزل. * * * 2370 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: خرجْنا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةِ بني المُصْطَلِقِ فأصبنا سبيًا فاشتَهَيْنا النِّساءَ وأحببنا العزلَ، فكنَّا نعزِلُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ أَظهُرِنا قبلَ أن نسألهُ، فسأَلْناهُ عن ذلكَ؟ فقال: "ما عليكم أن لا تَفْعَلُوا، ما مِن نسَمَةٍ كائنةٍ إلى يومِ القيامةِ إلا وهي كائنةٌ". "عن أبي سعيد الخدري أنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة نبي المصطلق، فأصبنا سبيًا فاشتهينا النساء وأحببنا العزل، قلنا: نعزل ورسول الله بين أظهرنا"؛ أي: بيننا "قبل أن نسأله، فسألناه عن ذلك، فقال: ما عليكم أن لا تفعلوا"، روي بكسر الهمزة، و (لا) زائدة، و (أن) شرطية؛ أي: ما عليكم جناح أن تفعلوا، وروي بفتحها؛ فعلى هذا: (لا) غير زائدة، فيكون (عليكم أن لا تفعلوا) كلامًا مستأنفًا مؤكِّدًا لما قبله من الحكم المنفي؛ يعني: ما يصح العزل وتركُه واجب عليكم، ويروى: (لا عليكم أن لا تفعلوا). "ما من نسمة"؛ أي: نفس إنسانية "كائنة"؛ أي: بالقوة "إلى يوم القيامة ¬

_ (¬1) كذا في جميع النسخ، والمشهور في الرواية: (اعزل) بالكسر.

إلا وهي كائنة"؛ أي: بالفعل لا يمنعه العزل. * * * 2371 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن العَزْلِ، فقال: "ما مِن كلِّ الماء يكونُ الولدُ، وإذا أرادَ الله خلقَ شيءٍ لم يمنَعْه شيءٌ". "وعن أبي سعيد أنه قال: سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن العزل"؛ يعني: استأذنوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في العزل مخافةَ الولد زعمًا بأنه لا يحصل الولد بالعزل (¬1). "فقال"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام: "ما مِنْ كُلِّ الماء يكون الولد"؛ أي: لا يكون الولد من كل الماء، فكم مِنْ صَبٍّ لا يحدث منه، وكم من عزل يحدث له، قدَّم خبر (كان) ليدل على الاختصاص، وأن يكون الولد بمشيئة الله تعالى لا بالماء، وهذا يشير إلى جواز العزل. "وإذا أراد الله خلق شيء"؛ أي: من الولد "لم يمنعه شيء"؛ أي: من العزل وغيره، بل يخلقه معه. * * * 2372 - وعن سعدِ بن أبي وقَّاصٍ: أن رجلًا جاءَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أَعزِلُ عن امرأتي، فقال: "لِمَ تفعلُ ذلك؟ " قال: أُشفِقُ على ولدِها، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كان ذلكَ ضارًا ضَرَّ فارسَ والرومَ". "وعن سعد بن أبي وقاص: أن رجلًا جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني أعزل عن امرأتي، فقال: لم تفعل ذلك؟ قال: أشفق" من الإشفاق: الخوف؛ ¬

_ (¬1) في "غ": "مخافة الولد زعما بأن صب الماء سبب للولد والعزل لعدمه".

أي: أخاف "على ولدها"؛ أي: الرضيع، وذلك لأنه لو وَطِئها ولم يعزل عنها فربما حملت فيضر ولدها الرضيع لأن الجماع يُفْسِد اللبن، إذ الطبيعة تشتغل عن إنضاج اللبن فيبقى نيًا رقيقًا بلا قوة. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كان ذلك ضارًا لضر فارس والروم"؛ لأن نساءهما تُرْضع أولادَهن في حال الحمل مع أنَّه لا يضرهم ذلك. * * * 2373 - وعن جُدامةَ بنتِ وَهْبٍ رضي الله عنها قالت: حَضَرتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أناسٍ وهو يقولُ: "لقدْ هَمَمتُ أنْ أَنهَى عن الغِيلةِ، فنظرتُ في الرومِ وفارسَ فإذا هم يُغِيلُونَ أولادَهم، فلا يَضُرُّ أولادَهم"، ثم سألُوه عن العزلِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذلكَ الوَأْدُ الخَفيُّ". "عن جذامة بنت وهب قالت: حضرت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في أناس وهو يقول: لقد هممت"؛ أي: عزمت وقصدت "أن أنهى عن الغيلة" بكسر الغين المعجمة، اسم من الغَيلة بالفتح، وهو مجامعة المرأة وحملها مرضعة. "فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذلك الوأد الخفي"، الوأد: دفن الحي في القبر؛ شَبَّه عليه الصلاة والسلام إضاعةَ النطفة التي أعدها الله تعالى ليكون الولد منها بالوأد، ولأنه يسعى في إبطال ذلك الاستعداد بعزل الماء عن محله، وهذا دليل لمن لم يُجوِّز العزل، ومَنْ جوَّزه يقول هذا منسوخ، أو تهديد، أو لبيان الأولى. * * * 2374 - عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ

أعظمَ الأمانةِ عندَ الله يومَ القيامةِ: الرَّجلُ يُفضي إلى امرأتِهِ وتُفضي إليه ثم يَنشُرُ سِرَّها". وفي روايةٍ: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ الناسِ عندَ الله منزِلةً يومَ القيامةِ". "وعن أبي سعيد أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أعظم الأمانة"؛ أي أعظم خيانة الأمانة "عند الله يوم القيامة الرجل" خبر (إن)، "يفضي إلى امرأته"؛ أي: يباشرها، "وتفضي إليه ثم ينشر سرها" وتنشر سرَّه؛ يعني: أن أفعال كلٍّ من الزوجين وأقوالَهما أمانة مودعة عند الآخر، فمن أفشى منهما ما كرهه الآخرُ وأشاعه فقد خانه. "وفي رواية: إن من أشر الناس منزلة عند الله يوم القيامة". * * * مِنَ الحِسَان: 2375 - عن ابن عبَّاسٍ قال: أُوحيَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ ...} [البقرة: 223] الآية، "أَقْبلْ وأَدبر، واتَّقِ الدُّبرَ والحَيْضَةَ". " مِنَ الحِسَان": " عن ابن عباس أنَّه قال: أوحي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ. . .} الآية فأقبل"؛ أي: أولج في القُبل، "وأدبر"؛ أي أولج في القُبل من الدبر، خطاب عام تفسير لقوله: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} "واتق الدبر"؛ أي: إيلاجه "والحيضة" بكسر الحاء: اسم من الحيض؛ أي: الإيلاج في زمانها. * * *

2376 - عن خُزَيمةَ بن ثابتٍ - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله لا يَسْتَحْيي من الحقِّ، لا تأتوا النساءَ في أدبارِهِنَّ". "عن خزيمة بن ثابت: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: إن الله لا يستحيي من الحق"، واستحياؤه تعالى مجاز عن الترك الَّذي هو غاية الحياء؛ أي: إن الله تعالى لا يترك من قول الحق أو إظهاره، وفي جعل هذا الكلام مقدمة وتمهيدًا للنهي الوارد بعده إشعار لشناعة هذا الفعل واستهجانه؛ أي: قبحه "لا تأتوا النساء في أدبارهن". * * * 2377 - وعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلْعونٌ مَنْ أتى امرأةً في دُبُرِها". 2378 - وقال: "إنَّ الَّذي يأتي امرأةً في دُبُرِها لا ينظرُ الله تعالى إليه". 2379 - ويُروى: "لا ينظرُ الله إلى رجلٍ أَتَى رَجُلًا أو امرأةً في الدُّبرِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ملعون من أتى امرأته في دبرها" * * * "وعنه قال: إن الَّذي يأتي امرأته في دبرها لا ينظر الله إليه"؛ أي: بنظر الرحمة حتى يتوب. "وفي رواية ابن عباس - رضي الله عنهما -: لا ينظر الله إلى رجل أتى رجلا أو امرأة في الدبر".

فصل

2380 - عن أسماءَ بنتِ يزيد قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تَقتُلوأ أولادَكُم سِرًا، فإنَّ الغَيْلَ يُدرِكُ الفارسَ فيُدَعْثِرُهُ". "عن أسماء بنت يزيد أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تقتلوا أولادكم سرًا"؛ أي: إغالة، "فإن الغيل" وهو اللبن الَّذي يحصل عند الإغالة "يدرك الفارس" الراكب الفرس "فيدعثره" يصرعه ويُهلكه؛ يعني: أن المرأة إذا جُومعت وحَملَت فسدَ لبنها، فإذا اغتذى به الطفل بقي سوءُ أثره في بدنه وأفسد مزاجه، فإذا صار رجلًا وركب الفرس فركضها ربما أدركه ضعفُ الغيل فسقط عن متن فرسه، وكان ذلك كالقتل، غير أنَّه سِرٌّ لا يُرى، وخفيٌّ لا يُعرف، فلهذا قال (سرًا)، وهذا النهي نهي تنزيه لا تحريم. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: 2381 - عن عروةَ، عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها في بَريرةَ: "خُذِيها فأَعتِقِيها"، وكان زَوْجُها عبدًا، فخيَّرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاختارَتْ نفسَها، ولو كان حرًّا لم يُخيرها. (فصل) "من الصحاح": " عن عروة، عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها في بريرة: خذيها فأعتقيها، وكان زوجها عبدًا، فخيَّرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ فسخِ النكاح وإمضائه، "فاختارت نفسَها"، اتفقوا على ثبوت الخيار إذا كانت تحت عبد. "ولو كان حرًا"؛ أي: زوجها حرًا "لم يخيرها" يدل على أن لا خيار لها

لو كانت تحت حر، وبه قال الشافعي ومالك رحمهما الله، وعندنا: لها الخيار. * * * 2382 - وقال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: كانَ زوجُ بَريرةَ عبدًا أسودَ يقالُ له: مُغِيث، كأنِّي أنظرُ إليهِ يطوفُ خَلْفَها في سِكَكِ المدينةِ يبكي، ودُموعُهُ تسيلُ على لِحْيَتِهِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للعبَّاسِ: "يا عبَّاسُ! ألا تَعْجَبُ من حُبِّ مُغيثٍ بريرَةَ ومن بُغضِ بريرةَ مُغيثًا؟ " فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو راجعتيه"، فقالت: يا رسولَ الله! تَأْمُرُني؟ قال: "إنَّما أنا أشفعُ"، قالت: لا حاجةَ لي فيه. "وقال ابن عباس: كان زوج بريرة عبدًا أسودًا يقال له مغيث، كأني أنظر إليه يطوف"؛ أي: يدور ويمشي "خلفها في سكك المدينة" جمع السكة، "يبكي" من حبها، "ودموعه تسيل على لحيته"، ويتضرع لترجع إلى نكاحه، "فقال النبيُّ للعباس: يا عباس! ألا تعجب من حُبِّ مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لو راجعتيه" جواب (لو) محذوف؛ أي: لكان أولى وأحسن. "فقالت: يا رسول الله! تأمرني؟ قال: إنما أشفع، قالت: لا حاجة لي فيه"، وفيه دلالة على فقه بريرة حيث فرقَّت بين أمر النبيِّ عليه الصلاة والسلام وشفاعته، وعلمت أنَّه للوجوب دونَها. * * * مِنَ الحِسَان: 2383 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها أرادَتْ أن تُعتِقَ مَمْلوكَينَ لها زوجينِ، فسألَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَمرَها أن تَبدأَ بالرَّجلِ قبلَ المرأةِ.

7 - باب الصداق

"من الحسان": " عن عائشة رضي الله عنها: أنها أرادت أن تعتق مملوكين لها زوجين" صفة لـ (مملوكين) ": "فسألت النبيَّ عليه الصلاة والسلام فأمرها أن تبدأ بالرجل قبل المرأة"؛ أي: بإعتاق الرجل قبل إعتاق المرأة، وإنما أمر عليه الصلاة والسلام بذلك لأن الإعتاق على وجهٍ يبقي النكاح أولى من الإعتاق على وجهٍ يفسخ النكاح. * * * 2384 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن بريرةَ عُتِقتْ وهي عندَ مُغيثٍ، فخيَّرها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لها: "إن قَرِبَكِ فلا خيارَ لك". "وعن عائشة: أن بريرة عتقت وهي عند مغيث، فخيَّرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال لها: إن قربك"؛ أي: جامعك زوجُك "فلا خيار لك"؛ وهذا حجة للشافعي رحمه الله في أن لها الخيار ما لم يُصِبْها بعد عتقها، فالخيار في قول منه: إلى ثلاثة أيام، وفي قول: على الفور، فلو أخرت الفسخ بغير عذر بعد أن علمت بعتقها: بَطَل خَيارُها. * * * 7 - باب الصَّداق " باب الصداق": صداق المرأة: مهرها، والكسر أفصح. * * *

مِنَ الصِّحَاحِ: 2385 - عن سَهْلِ بن سَعْدٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جاءَتْهُ امرأةٌ فقالَتْ: يا رسولَ الله! إنِّى وهبتُ نفسي لكَ، فقامَتْ طويلًا، فقامَ رجلٌ فقالَ: يا رسولَ الله! زَوِّجنِيها إن لم تكنْ لكَ بها حاجةٌ، فقال: "هل عندَكَ من شيءٍ تُصْدِقُها؟ "، قال: ما عندي إلا إزاري هذا، قال: "فالتَمِسْ ولو خاتَمًا من حديدٍ"، فالتَمَسَ فلم يَجدْ شيئًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هلْ معكَ من القرآنِ شيءٌ؟ "، قال: نعم، سورةُ كذا، وسورةُ كذا، فقال: "قد زَوَّجتُكَها بما مَعَكَ من القرآنِ". ويُروى: "قد زَوَّجتُكَها، فعَلِّمْها". "من الصحاح": " عن سهل بن سعد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءته امرأة، فقالت: يا رسول الله! إني وهبت نفسي لك، فقامت طويلًا"؛ أي: وقفت ساعة طويلة، "فقام رجل فقال: يا رسول الله! زوجنيها إن لم يكن لك فيها حاجة، فقال: هل عندك من شيء تصدقها! من الإصداق، يقال أصدقت المرأة: إذا سمَّيت لها صداقًا. "قال: ما عندي"؛ أي: ليس لي شيء "إلا إزاري هذا، قال: فالتمس"؛ أي: فاطلب شيئًا آخر تجعله صداقًا "ولو خاتمًا من حديد"؛ أي: ولو كان ما تلتمس خاتمًا من حديد، وهذا يدل على أن الصداق لا تقدير له، بل أي شيء كان من المال وإن قلَّ، إذ قيمة خاتم حديد قليل، وبه قال الشافعي وأحمد، وعندنا: يتقدر بنصاب السرقة، ويدل أيضًا على جواز لبس خاتم الحديد وكرهه بعضٌ. "فالتمس، فلم يجد شيئًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم، سورة كذا وسورة كذا، فقال: قد زوجتكها بما معك من القرآن"،

قالت الشافعية: الباء فيه للمقابلة كهي في بعت ثوبي بكذا، وإلا لم يكن لسؤاله إياه بقوله: (هل معك من القرآن شيء)؛ لأن التزويج ممن لم يُحسن القرآن جائزٌ، جوازُه ممن يحسنه تعليم القرآن، وهذا يدل على جواز جعله صداقًا. "ويروى: قد زوجتكها، فعلمها" وقالت الحنفية: الباء فيه للسببية، معناه: زوجتكها بسبب ما معك من القرآن صار سبب الاجتماع بينكما، ولولاه لَمَا زوجتكها لكونك معدَمًا عن الغنى الظاهر والغنى الباطن، كما في تزوج أبي طلحة أمَّ سليم على إسلامه، فإن الإسلام صار سببًا لاتصاله بها. * * * 2386 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها وسُئلَت عن صَداقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: قالت: كانَ صَداقُه لأزواجِه ثنتَيْ عشرةَ أُوقِيَّةً ونشًّا، قالت: أَتدرونَ ما النَّش؟ نصفُ أُوقيَّة، فتِلكَ خَمْسُ مِئَةِ درهم". "وقالت عائشة وسئلت عن صداق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: كان صداقه لأزواجه ثنتي عشرة أوقية" وهي بضم الهمزة: أربعون درهمًا "ونشًّا، قالت: أتدرون ما النش؟ نصف أوقية" وهو عشرون درهم، قال ابن الأعرابي: النش: النصف من كل شيء، ونش الرغيف: نصف. "فتلك خمس مئة درهم" فإن قيل: صداق أم حبيبة بنت أبي سفيان زوج النبي عليه الصلاة والسلام كان أربعة آلاف درهم، وقيل أربع مئة دينار، قلنا: إن هذا القدر تبرع به النجاشي من ماله إكرامًا للنبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * مِنَ الحِسَان: 2387 - قال عمرُ بن الخطَّابِ - رضي الله عنه -: ألا لا تُغالوا صَدُقَةَ النِّساءَ، فإنها لو

كانت مَكْرُمَةً في الدُّنيا وتَقوى عندَ الله، لكانَ أَوْلاكُم بها نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، ما علمتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نكحَ شيئًا من نسائِهِ ولا أَنْكَحَ شيئًا من بناتِه على أكثرَ من اثنتي عَشْرَةَ أُوقِيَّةً. "من الحسان": " عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ألا لا تغالوا في صدقة النساء"؛ أي: لا تكثروا مهرهن، "فإنها"؛ أي: المغالاة المدلول عليها بـ (لا تغالوا) "لو كانت مكرمة"؛ أي: شرفًا ومروة وكرمًا "في الدنيا وتقوى عند الله لكان أولاكم بها"؛ أي: المغالاة "نبي الله، ما علمت رسول الله نكح شيئًا من نسائه، ولا أنكح شيئًا من بناته على أكثر من اثنتي عشرة أوقية" لعله أراد عدد الأوقية، ولم يلتفت إلى الكسور، وأما صداق أم حبيبة فلم يكن بمشاورته ولا باختيار منه. فإن قلت: نهيه عن المغالاة مخالف لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا}. قلت: النص يدل على الجواز لا على الأفضلية، والكلام فيها لا فيه. فإن قيل: المهر عوض عن الاستمتاع، فَلِمَ سماه نِحْلة في قوله تعالى: {وَءَاتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً}، وهي العطية بلا عوض؟ قلنا: أراد به تدينًا وفرضًا في الدين، كما يقال: فلان انتحل مذهب كذا؛ أي: تدين به، وقيل: سماه بها لأنه بمنزلة شيء يحصل لها بلا عوض لاشتراكهما في الاستمتاع واللذة، بل وقد تكون شهوتها أغلبَ، وقيل: كان المهر قبل شرعنا للأولياء دون النساء كما اشترط شعيب المهرَ لنفسه دون ابنته في قوله تعالى: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، فلما جعل المهر في شرعنا لهنَّ كان نحلة منه عليه الصلاة والسلام لهنَّ. * * *

2388 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أعطى في صَداقِ امرأتِه مِلءَ كفيهِ سَوِيقًا أو تمرًا فقد استحَلَّ". "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعطى في صداق امرأته ملء كفيه سويقًا أو تمرًا فقد استحل"؛ أي: بضعها، وهذا قد جرى على الغالب، فإنهم يتزوجون على الصداق، لا أن معناه: لو لم يذكر الصداق لم تحل المرأة، بل لو أذنت المرأة البالغة العاقلة بأن يزوجها وليها بلا مهر صح النكاح. * * * 2389 - وعن عامرِ بن رَبيعةَ - رضي الله عنه - قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَجُلٌ من بني فَزَارَةَ ومعَهُ امرأةٌ لهُ فقالَ: إنِّي تزوَّجتُها بنعلَينِ، فقال لها: "أَرَضيتِ؟ "، قالت: نعم، ولولم يُعطِني لَرَضيْتُ، قال: "شأنُكَ وشأنُها". "وعن عامر بن ربيعة - رضي الله عنه -: قال: أتى النبيَّ عليه الصلاة والسلام رجل من بني فزارة ومعه امرأة له فقال: إني قد تزوجتها بنعلين، فقال لها: رضيت، فقالت: نعم، ولو لم يعطني لرضيت، قال: شأنك" نصب بـ (الزم) مقدَّرًا؛ أي: الزم شأنك "وشأنها"؛ يعني: اشتغل بالأفعال التي تكون بين الزوجين، وهذا يدل ظاهرًا على صحة النكاح الخالي عن ذكر الصداق. * * * 2390 - عن عَلْقَمَةَ، عن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - أنَّه سُئلَ عن رجلٍ تزوَّجَ امرأةً ولم يَفرِضْ لها شيئًا ولم يَدخل بها حتى ماتَ؟ فقال ابن مسعودٍ: لها مِثلُ صَداقِ نسائِها، وعليها العِدَّةُ، ولها الميراثُ، فقامَ مَعْقِلُ بن سِنانٍ الأشْجَعِيُّ فقال: قضى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في برْوَعَ بنتِ واشِقٍ الأشجَعيَّةِ امرأةٍ منا بمثلِ ما قَضَيْتَ، ففرِحَ بها ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -.

8 - باب الوليمة

"وعن علقمة، عن ابن مسعود: أنَّه سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض"؛ أي: لم يقدر "لها شيئًا ولم يدخل بها حتى مات، فقال ابن مسعود" بعد اجتهاده في هذه المسألة شهرًا: "لها مثل صداق نسائها، لا وكس" بفتح الواو وسكون الكاف؛ أي: لا نقصان، "ولا شطط"؛ أي: لا زيادة، "وعليها العدة ولها الميراث"، فلما قضى قال: فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسولُه منه بريئان. "فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله في" تزويج "بروع بنت واشق امرأة منا"؛ أي: من قومنا "بمثل ما قضيت، ففرح بها"؛ أي: بالقضية أو الفُتيا "ابن مسعود" لكون اجتهاده موافقا لحكم النبي عليه الصلاة والسلام. والحديث يدل على تقدير المهر بالموت وإن لم يفرض المهر، وعلى ثبوت التوريث بين الزوجين ولو قبل الدخول، وعلى وجوب العدة بالموت على الزوج ولو قبله. * * * 8 - باب الوَليمةِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2391 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأى على عبدِ الرحمنِ بن عوفٍ أثرَ صُفْرةٍ فقال: "ما هذا؟ "، قال: إني تزوَّجتُ امرأةً على وزنِ نَواةٍ من ذهبٍ، قال: "باركَ الله لكَ، أَوْلِمْ ولو بشاةٍ".

(باب الوليمة) "من الصحاح": " عن أنس: أن النبي عليه الصلاة والسلام رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر صفرة"؛ أي: صفرة الزعفران "فقال: ما هذا" سؤال عن أثر الطيب عليه، أو أراد به الإنكار عليه لنهيه عليه الصلاة والسلام عن التزعفر، وعن التلطخ بالخلوق وماله لون لأنه منهي عنه للرجال للتشبه بالنساء. "قال: تزوجت امرأة على وزن نواة" وهي اسم لخمسة دراهم، كذا روي عن العرب وهو قول مجاهد واختيار أبي عبيد والمبرِّد؛ أي: على وزن خمسة دراهم "من ذهب" وأصحاب الحديث يقولون: على نواة من ذهب قيمتها خمسة دراهم، قيل: قول المحدثين لا يوافق لفظ الحديث؛ إذ مقتضى ظاهرِه أنَّه تزوجها على تبرة لم يعرف وزنها فقدرها بوزن نواة، أو وجدها موازنة لنواة من نوى التمر. "قال: بارك الله لك" هذا يدل على أن الدعاء للمتزوج سُنَّة، "أولم" أمر من الوليمة، وهي ضيافة تتخذ للعرس "ولو بشاة" ذهب بعض إلى وجوب الوليمة لظاهر الأمر والأكثرون على أنها مستحبة، قيل: إنها تكون بعد الدخول، وقيل: عند العقد، وقيل: عندهما، استحب أصحاب مالك أن تكون سبعة أيام، والمختار أنها تكون على قدر حال الزوج. * * * 2392 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: ما أَوْلَمَ النبيُّ على أحدٍ من نسائِه ما أَوْلَمَ على زينبَ، أَوْلَمَ بشاةٍ. "وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّه قال: ما أولم النبي عليه الصلاة والسلام" (ما) هذه

نافية "على أحد من نسائه ما أول " (ما) هذه بمعنى الَّذي "على زينب"؛ يعني: أولم على زينب أكثر مما أولم على سائر نسائه، فإنه "أولم بشاة". * * * 2393 - وقالَ: أَوْلَمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ بنى بزينبَ بنتِ جحشٍ فأَشبعَ الناسَ خُبْزًا ولَحْمًا. "وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّه قال: أولم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين بنى بزينب بنت جحش"؛ أي: حين اجتمع بها أول مرة، "فأشبع الناس خبزًا ولحمًا". * * * 2394 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعتقَ صفيَّةَ وتزوَّجَها، وجعلَ عِتْقَها صَداقَها، وأَوْلمَ عليها بحَيْسٍ. "وعن أنس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعتق صفية وتزوجها وجعل عتقها صداقها" جوَّزَ أحمدُ جعل عتق الأمة صداقها لظاهر الحديث، ومنعه الشافعيُّ، وتاوله بأنه كان من خواصه عليه الصلاة والسلام. "وأولم عليها الحيس" بفتح الحاء المهملة وسكون الياء المثناة من تحت، قيل: إنه التمر المخلوط بالزبد. * * * 395 - وقال: أقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَ خيبرَ والمدينةِ ثلاثَ ليالٍ، يُبنى عليهِ بصَفيَّةَ، فدعوتُ المسلمينَ إلى وليمتِهِ وما كانَ فيها من خبزٍ ولا لَحْمٍ، وما كانَ فيها إلا أن أَمرَ بالأنطاعِ فبُسِطَتْ فأُلقيَ عليها التمرُ والأقِطُ والسَّمْنُ.

"وعنه أنَّه قال: أقام النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بين خيبر والمدينة ثلاثة ليال يبنى عليه بصفية" كان من الظاهر أن يقال: بنى على صفية، أو بنى بصفية، لعل المعنى: يبنى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خباء جديدًا إلى قبة من الصوف مع صفية، أو بسببها. "فدعوت المسلمين إلى وليمته، وما كان فيها من خبز ولا لحم وما كان فيها"؛ يعني: ليس فيها من طعام أهل التنعم والسرف بل من طعام أهل التقشف من التمر والأقط والسمن، ويجوز أن يراد بالمجموع الحيس. "إلا أن أمر بالأنطاع" جمع نطع - بكسر النون وسكون الطاء -، أراد بها السفرة، "فبسطت فالقي عليها التمر والأقط والسمن"، وفي ذكر بسط الأنطاع دلالة على كثرة هذا الجنس من الطعام. * * * 2396 - وعن صفيةَ بنتِ شَيْبَةَ رضي الله عنها قالت: أَوْلَمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على بعضِ نسائهِ بمُدَّين من شعيرٍ. "وعن صفية بنت شيبة أنها قالت: أولم النبي عليه الصلاة والسلام على بعض نسائه بمدين من شعير". * * * 2397 - عن عبد الله بن عُمرَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دُعيَ أحدكم إلى الوَليمةِ فليأتِها". وفي روايةٍ: "فليُجبْ، عُرْسًا كانَ أو نحوَه". "وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دعي أحدكم إلى الوليمة فليأتها"، قيل: الأمر فيه للوجوب، قال بعضهم: هذا فيمن ليس له عذر، وأما مَنْ كان معذورًا أو كان الطريق بعيدًا تلحقه المشقة فلا بأس بالتخلف

عن الإجابة، وقيل: للاستحباب، وعليه الجمهور. "وفي رواية فليجب عرسًا كان"؛ أي: المدعو إليه "أو نحوه" بأن يكون عقيقة. * * * 2398 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دُعيَ أحدكم إلى طعامٍ فليُجبْ، فإنْ شاءَ طَعِمَ وإنْ شاءَ تركَ". "وعن جابر أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب، فإن شاء طعم، وإن شاء ترك" وهذا ترديد لحاله بعد الإجابة. * * * 2399 - وقال: "شرُّ الطَّعامِ طَعامُ الوَليمةِ، يُدعَى لها الأغنياءُ ويُتْرَكُ الفقراءُ، ومَنْ تركَ الدَّعوةَ فقد عصَى الله ورسولَه". "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شر الطعام طعام الوليمة يدعى لها الأغنياء"، قيل: الجملة وقعت حالًا من الوليمة، والأولى أن تجعل صفة لها؛ لأن اللام فيها للجنس، فيجوز أن يعامل المعرف معاملة المنكر. "ويترك الفقراء، ومن ترك الدعوة"؛ أي: إجابتها "فقد عصى الله ورسوله"؛ لأنه خالف أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومَنْ خالف أمره عليه الصلاة والسلام فقد خالف أمر الله تعالى، تمسَّكَ بهذا مَنْ قال بوجوب الإجابة، والجمهورُ حملوه على تأكيد الاستحباب. * * *

2400 - عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: كانَ رجلٌ من الأنصارِ يُكْنَى: أبا شُعيبٍ، كانَ له غلامٌ لحَّامٌ فقال: اصنَعْ لي طعامًا يكفي خمسةً، لَعَلِّي أَدعو النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خامسَ خمسةٍ، فصنعَ له طُعَيمًا ثم أتاهُ فدعاهُ، فتبعَهم رجلٌ فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا شُعَيبٍ! إنَّ رَجُلًا تبعَنا، فإنْ شئتَ أذِنْتَ له وإنْ شئت تركتَه"، قال: لا بل أذنتُ له. "وعن أبي مسعود الأنصاري قال: كان رجل من الأنصار يكنى أبا شعيب كان له كلام لحام"؛ أي: بائع اللحم "فقال: اصنع لي طعامًا يكفي خمسة لعلي أدعو النبي عليه الصلاة والسلام خامس خمسة" حال عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمراد واحد من خمسة. "فصنع له طعيمًا" بصيغة التصغير، "ثم أتاه"؛ أي: الرجل النبيَّ عليه الصلاة والسلام "فدعاه، فتبعهم رجلٌ، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: يا أبا شعيب! إن رجلًا تبعنا، فإن شئت أذنت له"؛ أي: لهذا الرجل، "وإن شئت تركته، قال: لا بل أذنت له"، وهذا يدل على عدم مشيئة الضيف في استتباع أحد، بل المشيئة إلى مالك الطعام. * * * مِنَ الحِسَان: 2401 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَولمَ على صفيةَ بسَوِيقٍ وتمرٍ. "من الحسان": " عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أولم على صفية بسويق وتمر" السويق هو الدقيق المقلي مختلطًا بشيء حامضًا كان أو حلوًا. * * *

2402 - وعن سَفِينَة: أن رَجُلًا ضافَ عليَّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - فصنَعَ له طعامًا، فقالَتْ فاطمةُ رضي الله عنها: لو دَعَوْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلَ مَعَنا، فدَعَوْهُ، فجاءَ فوَضَعَ يَدَيْه على عِضادَتَيْ الباب، فرأى القِرامَ قد ضُرِبَ في ناحيةِ البيتِ فرجعَ، قالت فاطمةُ رضي الله عنها: فتَبعتُه، فقلتُ: يا رسولَ الله! ما رَدَّكَ؟ قال: "إنَّه ليس لي أو لنبيٍّ أنْ يدخلَ بيتًا مُزَوَّقًا". "وعن سفينة مولى النبي عليه الصلاة والسلام: أن رجلًا أضاف عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فصنع له طعامًا"؛ يعني: أهدى طعامًا لعلي بن أبي طالب وأرسل إلى بيته، "فقالت فاطمة: لو دعَونا رسول الله فأكل معنا"، جواب (لو) محذوف؛ أي: لكان حسنًا، "فدعوه، فجاء فوضع يديه على عضادتي الباب" وهي الخشبتان من جانبي الباب، تثنية عِضادة بكسر العين. "فرأى القرام" بكسر القاف: هو الستر الرقيق وراء الستر الغليظ "قد ضرب في ناحية البيت، فرجع عليه الصلاة والسلام، قالت فاطمة: فتبعته فقلت: يا رسول الله! ما ردك؟ قال: إنه ليس لي أو لنبي" من الأنبياء "أن يدخل بيتًا مزوقًا"؛ أي: مزينًا، قيل: لم يكن هذا الستر منقشًا، ولكن ضرب مثال حجلة العروس ستر به الجدار وهو رعونة يشبه أفعال الجبابرة. * * * 2403 - عن عبد الله بن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دُعي إلى وليمةٍ فلم يُجبْ فقد عَصَى الله ورسولَه، ومن دخلَ على غيرِ دعوةٍ دخلَ سارقًا، وخرجَ مُغِيرًا". "عن عبد الله بن عمر أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من دُعي إلى وليمة "فلم يجب فقد عصى الله ورسوله، ومن دخل على غير دعوة"؛ أي: من غير أن يدعوه المضيف: "دخل سارقًا" لأنه دخل بغير إذنه فيأثم كما يأثم السارق في

دخول بيت غيره، "وخرج مغيرًا"؛ يعني: إنْ أكل من تلك الضيافة شيئًا أو حمل منها فهو كالذي يغير؛ أي: يأخذ مال أحد غصبًا. * * * 2404 - ورُوِيَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا اجتمعَ الدَّاعيانِ فأَجِبْ أقربَهما بابًا، وإنْ سبقَ أحدُهما فأجبْ الَّذي سبقَ". "وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: إذا اجتمع الداعيان"؛ أي: إذا دعاك اثنان معًا ضيافة ولم يتقدم أحدُهما على الآخر "فأجب أقربهما بابًا، وإن سبق أحدهما" في الدعوة "فأجب الَّذي سبق"، وإن كان داره أبعد منك. * * * 2405 - وعن ابن مسعودٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "طعامُ أولِ يومٍ حقٌّ، وطعامُ اليومِ الثاني سُنةٌ، وطعامُ اليومِ الثالثِ سُمعةٌ، ومن سَمَّعَ سَمَّعَ الله به". "عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طعام أول يوم حق"؛ أي: واجب لأنه إظهار نعمة الله عليه وشكر للمنعم، وهذا عند مَنْ ذهب إلى أن الوليمة واجبة، أو سنة مؤكدة. "وطعام اليوم الثاني سنة" لأنه فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأنبياء من قبله وتبرَّعوا بالضيافة. "وطعام اليوم الثالث سمعة"؛ أي: شهرة وهي مكروهة لأنها رياء، "ومَنْ سَمَّع سَمَّع الله به"؛ يعني: مَنْ شَهَّر نفسه بكرم أو غيره فخرًا ورياء شَهَّر الله يوم القيامة بين أهل العَرَصَات بأنه مراءٍ كذاب، وقَرَّع الله به أسماع خلقه، فيتعارف

9 - باب القسم

الناس ويستهزأ بذلك فيفضح بينهم. * * * 2406 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن طعامِ المُتُبارِييْنِ أنْ يُؤكلَ. "عن ابن عباس: أن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل" بدل عن (طعام) قال الخطابي: المتباريان المتعارضان بفعليهما ليرى أيهما يغلب صاحبه، وإنما نهى عليه الصلاة والسلام عن أكل طعام هذين الرجلين لِمَا فيه من المباهاة والرياء، قيل: وقد دعي بعض العلماء فلم يجب، فقيل: إن السلف كانوا يدعون فيجيبون، قال: كان ذلك منهم للمؤاخاة والمواساة، وهذا منكم للمكافأة والمباهاة. * * * 9 - باب القَسْمِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2407 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قُبضَ عن تسعِ نِسوَةٍ، فكان يقسِمُ مِنهنَّ لثمانٍ. (باب القس) "من الصحاح": " عن ابن عباس: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قُبض عن تسع نسوة"؛ أي: توفي وفي نكاحه تسع نسوة، "كان يقسم منهن لثمان"؛ أي: يبيت عند ثمان منهن على

التناوب؛ لأن سودة وهبت نَوبتَها من عائشة. * * * 2408 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن سَوْدَةَ لما كَبرَتْ قالتْ: يا رسولَ الله! قد جَعَلتُ يومي منكَ لعائشةَ، فكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقسِمُ لعائشةَ يومينَ، يومَها ويومَ سَودَةَ. "وعن عائشة: أن سودة بنت زمعة لما كبرت قالت: يا رسول الله قد جعلت يومي منك لعائشة، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومين يومها ويوم سودة" ظاهر الحديث يدل على جواز هبة بعضهن نوبتها من ضرتها. * * * 2409 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يسألُ في مرضهِ الَّذي ماتَ فيهِ: "أينَ أنا غدًا؟ أينَ أنا غدًا؟ " يريدُ يومَ عائشةَ، فأَذِنَ له أزواجُه أنْ يكونَ حيثُ يشاءُ فكانَ في بيتِ عائشةَ رضي الله عنها حتى ماتَ عندَها. "وعن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل في مرضه الَّذي مات فيه: أين أنا"؛ أي: أين أكون أنا "غدًا، أين أنا غدًا؛ يريد يوم عائشة" تفسير لقوله: (أين أنا غدًا)، فكان الاستفهام استئذانًا منهن لأنْ يأذنَّ له أن يكون عند عائشة. "فأذن له أزواجه أن يكون حيث يشاء، وكان في بيت عائشة حتى مات عندها" يدل على وجوب القسم على المريض وإن لم يباشر؛ إذ المقصود المعاشرة والأُلفة والمساكنة ونحوها، فالأصح عند المؤلف: أن القسم كان واجبًا على النبي عليه الصلاة والسلام وإلا لم يحتج إلى إذنهن.

واختار الغزالي عدم وجوبه عليه - عليه السلام - لقوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ}، وأما تسويته عليه الصلاة والسلام بينهن فكان تفضُّلًا منه. * * * 2410 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بينَ نسائهِ فَأَيَّتُهُنَّ خرجَ سهمُها خرجَ بها معَه. "وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه، فأيتهن خرج سهمُها خرج بها معه"، ولا قضاء عليه للباقيات عند الأكثر وإن طالت مدةُ السفر إلا إذا مَكَث في بلد فوق مدة المسافرة، وقيل: يقضي لهن مدة الغيبة مطلقًا، والأول أصح. * * * 2411 - عن أبي قِلابةَ، عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: من السُّنَّةِ إذا تزوَّجَ البكْرَ على امرأتِهِ أقامَ عندَها سبعًا ثم قَسَمَ، وإذا تزوَّجَ الثَّيبَ أقامَ عندَها ثلاثًا ثم قَسَمَ. قال أبو قِلابةَ: ولو شئتُ لقلتُ: إنَّ أنسًا رفعَهُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. عن أبي قلابة" بكسر القاف "عن أنس قال: من السنة إذا تزوج البكر على امرأته أقام عندها سبعًا"؛ أي: سبع ليال "وقسم"؛ أي: يسوي بعد ذلك بين القديمة والجديدة. "وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثًا، ثم قسم" وبه قال الشافعي ومالك، وذلك لتستأنس بالزوج، وليحصل بينهما انبساط، وإنما فضلت البكر على الثيب لأن استحياء البكر أكثر فيحتاج في ارتفاع استحيائها زمان أكثر من زمان الثيب.

"قال أبو قلابة: لو شئت لقلت إن أنسًا رفعه"؛ أي: رفع هذا الحديث "إلى النبي عليه الصلاة والسلام" ولم يقل من اجتهاده، ولو قلت ذلك لكنت صادقًا لأني أعتقد أنَّه لا يحدث شيء إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنما قال هناك كذلك تنبيهًا على أن الصحابي إذا قال: من السنة، فإنما يريد أنَّه من الشرع، أو حديثه عليه الصلاة والسلام، أو روايته عنه. * * * 2412 - عن أبي بكرِ بن عبدِ الرَّحمنِ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ تزوجَ أمَّ سلمةَ وأصبَحَتْ عندَه قالَ لها: "ليسَ بكِ على أهلِكِ هَوانٌ، إنْ شئتِ سبَّعْتُ عندَكِ وسبَّعْتُ عندَهنَّ، وإنْ شئتِ ثلَّثْتُ عندَكِ ودُرْتُ"، قالت: ثَلِّث. ويُروَى أنَّه قال لها: "للبكْرِ سَبعٌ وللثَّيبِ ثلاثٌ". "عن أبي بكر بن عبد الرحمن - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين تزوج أم سلمة وأصبحت عنده قال لها: ليس بك"؛ أي: بسببك "على أهلك هوان"؛ أي: مذلة لأجل اقتصاري على الثلاثة، فإن ذلك ليس لعدم الرغبة في مصاحبتك، بل لأن حكم الشرع كذلك. "إن شئت سبعت"؛ أي: أقمت سبع ليال "عندك، وسبعت عندهن"؛ أي: أقمت سبعًا، "وإن شئت ثلثت عندك"؛ أي: أقمت ثلاثًا، "ودرت"؛ أي: ثم أسوي بينك وبينهن في النوبة ولا أقضي الثلاث، "قالت: ثلث، ويروى أنَّه قال لها: للبكر سبع وللثيب ثلاث". * * * مِنَ الحِسَان: 2413 - رُوِي: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يقسِمُ بينَ نسائِه فيَعدِلُ ويقول: "اللهمَّ

هذا قَسْمي فيما أَمْلِكُ، فلا تَلُمْني فيما تَملِكُ ولا أَمْلِكُ". "من الحسان": " عن عائشة أنها قالت: كان النبي عليه الصلاة والسلام يقسم بين نسائه فيعدل ويقول: اللهم هذا قسمي" بفتح القاف وسكون السين "فيما أملك"؛ يعني: أسوي بين نسائي في القسم ولا أقدر أن أسوي بينهن في المحبة لأنها في القلب، وهو ليس مقدوري وملكي بل هو في ملكك. "فلا تلمني فيما تملك ولا أملك"؛ أي: لا تؤاخذني في التفاوت بينهن في حبي. * * * 2414 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إذا كان عندَ الرَّجلِ امرأتانِ فلم يَعدِلْ بينَهما، جاءَ يومَ القيامةِ وشِقُّه ساقِطٌ". "عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: إذا كانت عند الرجل امرأتان فلم يعدل بينهما جاء يوم القيامة وشقه" بالكسر؛ أي: نصفه "ساقط" بحيث يراه أهلُ العَرَصَات ليكون هذا زيادة له في التعذيب، وهذا الحكم غير مقصور على امرأتين، فإنه لو كانت له ثلاث أو أربع كان السقوط ثابتًا أيضًا، فإن عدل بين اثنتين دون الثالثة احتمل أن يكون ثلثه ساقطًا واحتمل أن يكون نصفه أيضًا لكونه عادلًا وجائرًا، وإن كانت أربع وعدل بين ثلاث دون الرابعة احتمل أن يكون ربعه ساقطًا واحتمل أن يكون نصفه ساقطًا، وإن لزم الواحدة وترك الثلاث كان ثلاثة أرباعه ساقطًا، وعلى هذا فاعتبرْ. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ مَصَابِيحِ السُّنَّةِ لِلإمَامِ البَغَوِيِّ [4]

10 - باب عشرة النساء وما لكل واحدة من الحقوق

تَابِع (12) كِتَابُ النِّكَاحِ 10 - باب عشرةِ النِّساءِ وما لكلِّ واحدةِ من الحقوقِ " باب عشرة النساء" اسم من المعاشرة وهي المخالطة، "وما لكل واحدة من الحقوق". مِنَ الصِّحَاحِ: 2415 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استَوصُوا بالنساءِ خيرًا، فإنهنَّ خُلِقْنَ من ضلَعٍ، وإنَّ أَعْوَجَ شيءٍ في الضلَعِ أعلاهُ، فإنْ ذهبتَ تُقيمُهُ كَسَرتَهُ، وإنْ تركتَهُ لم يزلْ أعوَجَ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: استوصوا بالنساء خيرًا" الاستيصاء: قبول الوصية؛ يعني: أوصيكم بهن خيرَّا فَاقبلوا وصيتي. قال الإمام الطِّيبي: الأظهر أن السين للطلب مبالغة؛ أي: اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن بخير فنقل الباء في بخير إلى النساء فصار معناه: أريدوا الخير بالنساء، ولا تغضبوا عليهن إذا فعلن فعلًا غير مرضي. "فإنهن خلقن من ضلع" بكسر الضاد وفتح اللام واحد الأضلاع والضلوع وهو عظم مِعْوَج، "وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه"، يريد: أنهن خلقن من

أصل معوج لا يتهيأ الانتفاع بهن إلا بمداراتهن والصبر على اعوجاجهن، وذلك أن أول النساء وهي حواء خلقت من أعوج ضلع من أضلاع آدم وهو الضلع الأعلى كما قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فلا يستطيع أحد أن يغيرهن عما جبلت عليه أمُّهن. "فإن ذهبت تقيمه"؛ أي: إن شرعت أن تجعل الضلع المعوج مستقيمًا "كسرته، وإن تركته لم يزل أعوج" فكذلك المرأة إن أردت أن تجعلها مستقيمة في أفعالها وأقوالها أدى ذلك إلى كسرها؛ أي: طلاقها، فلا يمكن الانتفاع بها إلا بالترك على اعوجاجها ما لم يكن في ذلك إثم ومعصية. * * * 2416 - وقال: "إنَّ المرأةَ خُلِقَت مِن ضلَعٍ، لن تستقيمَ لكَ على طريقةٍ، فإنْ استمتعتَ بها، اسْتَمْتَعْتَ بها وبها عِوَجٌ، وإنْ ذهبتَ تُقيمُها كَسَرْتَها، وكَسْرُها طلاقُها". "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المرأة خلقت من ضلع لن تستقيم لك على طريقة"؛ أي: لا توافقك على ما تريد، بل إن وافقتْكَ مرة خالفتك أخرى، "فإن استمتعت بها استمتعت وبها عوج، وإن ذهبت تقيمها كسرتها، وكسرها طلاقها". * * * 2417 - وقال: "لا يَفْرَكْ مُؤْمنٌ مُؤْمِنةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رضي منها آخرَ". "وعنه أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يفرك مؤمن مؤمنة" من الفرك بالكسر ثم السكون: بغض أحد الزوجين الآخر، وهذا حث على حسن العشرة والصحبة والصبر على سوء خلقهن، فإنه "إن كره منها خلقًا رضي منها آخر"؛ يعني: لا يكون جميع أخلاقها سيئة بل يكون فيها خلق حسن في مقابلة الخلق السيء. * * *

2418 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لولا بنو إسرائيلَ لم يَخْنَزِ اللَّحمُ، ولولا حوَّاءُ لم تَخُنْ أُنثى زَوجَها الدَّهرَ". "وعنه أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم"؛ أي: لم يتغير ولم يَنْتَنْ؛ يريد: أنَّه تعالى كان قد نهاهم في التِّيه وقد أنزل عليهم المَنَّ والسلوى أن يأخذوا فوق كفايتهم، فخالفوا حرصًا منها، فتغيرت رائحة اللحم بسببه، فإنهم ادخروا السلوى حتى أنتن لحمه فخنز اللحم شيء عوقبت به بنو إسرائيل لسوء صنيعهم فيه وهو الادخار الناشئ من عدم الثقة بالله، واستمر النتن في ذلك الوقت، لأن البادي للشيء كالحامل للغير على الإتيان به. "ولولا حواء"؛ أي خيانة حواء "لم تخن أنثى زوجها الدهر"، قيل: خيانتها أنها ذاقت الشجرة قبل آدم وكان نهاها عن أكلها فغوته حتى أكل منها، وقيل: خيانتها أنها أرسلها آدم لقطع الشجرة فقطعت سنبلتين وأرته سنبلة وأخفت أخرى، وقع كل ذلك من جهة العوج في أصل خلقتها. * * * 2419 - وقال: "لا يَجْلِدْ أحدكم امرأتَه جَلْدَ العبدِ ثم يجامعُها في آخرِ اليومِ". وفي روايةٍ: "يَعمِدُ أحدكم فيجلدُ امرأتَه جَلْدَ العبدِ، فلعلَّه يضاجعُها في آخر يومِهِ"، ثم وَعَظَهم في ضَحِكِهِم للضَّرطَةِ فقال: "لِمَ يضحَكُ أحدكم مما يفعلُ؟ ". "عن عبد الله بن زمعة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يجلد أحدكم امرأته جلد العبد"؛ أي: لا يضربها مثل ضرب العبد "ثم يجامعها في آخر اليوم، وفي رواية: لا يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد، فلعله يضاجعها"؛ أي: يرجع

على قضاء شهوته منها "في آخر يومه"؛ أي: يوم جلده ولا تطاوعه، والنهي عن ضربهن كان قبل أمره به كما يأتي، وهذا يدل على جواز ضرب العبد والأمة للتأديب إذا لم يتأدبوا بالكلام الغليظ ولكن العفو أولى. "ثم وعظهم"، (ثم) للتراخي في الزمان؛ يعني: بعدما تكلم بالكلام السابق بزمان رآهم يضحكون من الضرطة فوعظهم "في ضحكهم من الضرطة"؛ أي: الريح من الدبر. "فقال: لم يضحك أحدكم مما يفعل"؛ أي: يفعل مثله، فإن الإنسان لا يخلو من الريح، وفيه استحباب التغافل عن ضرطة الغير كيلا يتأذى فاعلُها. * * * 2420 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: كُنْتُ أَلْعَبُ بالبناتِ عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ لي صَواحِبُ يَلعبن معي، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخلَ يَنْقَمِعْنَ منه فَيُسرِّبُهُنَّ إليَّ فيَلْعَبن معي. "وقالت عائشة رضي الله - رضي الله عنه -: كنت ألعب بالبنات" وهي اللُّعب جمع لُعبة - بضم اللام -، والمراد هنا: ما يلعب به الصبيان، فالباء للتعدية، أو الجواري فالباء بمعنى مع. "عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان لي صواحب يلعبن معي، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل ينقمعن"؛ أي: يستترن "منه، فيسربهن"؛ أي: يبعثهن معي ويرسلهن "إلي فيلعبن معي"، والمراد إظهار حسن أخلاق النبي وعشرته مع نسوته. * * * 2421 - وقالت: والله لقد رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقومُ على باب حُجْرَتي، والحَبَشَةُ يلعبونَ بالحِرابِ في المسجدِ، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَستُرني بردائِهِ لِأنْظُرَ

إلى لَعِبهم بين أذُنِهِ وعاتقِهِ، ثم يقومُ من أجلي حتى كونَ أنا التي أَنصرِفُ، فاقدِرُوا قَدْرَ الجاربةِ الحديثةِ السِّنِّ، الحريصةِ على اللهوِ. "وقالت: والله لقد رأيت النبي يقوم على باب حجرتي والحبشة" وهي جماعة معروفة من الناس "يلعبون بالحراب" جمع حربة وهي رُمح قصير "في المسجد ورسول الله يسترني بردائه لأنظر إلى لعبهم بين أذنه وعاتقه" متعلق بقوله: (لأنظر)، ولعبهم في المسجد ونظرها إليه يحتمل أنهم كانوا في رَحْبة المسجد؛ أي في التوسط، وكانت تنظر إليهم من باب الحجرة وذلك من داخل المسجد، فقالت في المسجد لاتصال الرحبة به، أو دخلوا المسجد لتضايق الموضع بهم، وإنما سومحوا به لأن لعبهم ذلك لم يكن من اللعب المكروه بل كان مما يُعد من عُدَّة الحرب فصار عبادة بالقصد كالرمي بالنَّبل ونحوه. "ثم يقوم"؛ أي: بعد فراغهم من لعبهم كان عليه الصلاة والسلام يقوم "من أجلي" ويقف كالساتر لي "حتى كون أنا التي أنصرف" أولًا مستترة بظهره عن الناس. "فاقدروا"؛ أي: قدروا وقيسوا من الزمان "قدر الجارية"؛ أي: قدر وقفة الجارية "الحديثة السن الحريصة على اللهو" كم يكون قدر مُكْثها في النظر إلى اللعب، فإني مكثت ذلك القدر؛ تريد طول لبثها ناظرة، وتَحمُّل النبيِّ عليه الصلاة والسلام منها ذلك، ومصابرته - صلى الله عليه وسلم -، وقد علم منه كثرة تلطفه عليه الصلاة والسلام بنسائه وحسن معاشرته لهن. * * * 2422 - وقالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني لأَعلمُ إذا كنتِ عني راضيةً وإذا كنتِ عليَّ غَضْبَى! فقلتُ: مِن أينَ تعرفُ ذلكَ؟ فقالَ: إذا كنتِ عنِّي راضيةً فإنك تقولينَ: لا وربِّ مُحمَّدٍ، وإذا كُنْتِ غَضْبَى قلتِ: لا وربِّ إبراهيمَ"،

قالت، قُلتُ: أَجَلْ، والله يا رسولَ الله، ما أهجرُ إلا اسمَكَ. "وقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعلم إذا كنت عني راضية وإذا كنت علي غضبى" تأنيث غضبان "قلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد، وإذا كنت علي غضبى قلت: لا ورب إبراهيم" جواز الاستدلال بالأفعال على ما في البال. "قالت: قلت أجل" وهو حرف تصديق؛ أي: نعم "والله يا رسول الله، ما أهجر"؛ أي: ما أترك "إلا اسمك"؛ يعني: هجراني مقصور على اسمك لا يتعدى منه إليك، والمراد بالاسم هنا التسمية؛ يعني: لا أترك إلا ذكر اسمك ولكن محبتك في قلبي ثابتة. * * * 2423 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعا الرَّجلُ امرأتَه إلى فراشِه فأَبَتْ فباتَ غضبانَ لَعَنتها الملائكةُ حتى تُصْبحَ". وفي روايةٍ: "إلا كانَ الَّذي في السَّماءِ ساخِطًا عليها حتى يَرْضَى عنها". "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح" لأنها كانت مأمورة بطاعة زوجها في غير معصية، قيل: الحيض ليس بعذر في الامتناع؛ لأن له حقًّا في الاستمتاع فوق الإزار، وإنما عين اللعنة بالإصباح؛ لأن الزوج يستغني عنها عنده لحدوث المانع عن الاستمتاع فيه غالبًا. "وفي رواية: إلا كان" مستثنى في قوله: (إذا دعا. . .) إلى آخره؛ لأنه في معنى النفي "الَّذي في السماء"؛ أي الَّذي قدرتُه وعَظمتُه في السماء "ساخطًا عليها حتى يرضى عنها"، وفيه دليل على أن سخط الزوج يوجب سخط الرب،

ورضاه يوجب رضاه، هذا في قضاء الشهوة، فكيف إذا كان في أمر الدين. * * * 2424 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في خُطبةِ حَجَّةِ الوَداعِ: "اتَّقُوا الله في النِّساءِ فَإنَّكم أخذتُمُوهُنَّ بأمانِ الله، واستَحْلَلتم فروجَهُنَّ بكلمةِ الله، ولكم عليهِنَّ أنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تَكْرَهُونَهُ، فإنْ فَعَلْنَ فاضرِبُوهنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ، ولَهنَّ عليكم رِزقُهنَّ وكِسْوَتُهنَّ بالمعروفِ". "وعن جابر - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خطبة حجة الوداع: اتقوا الله في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمان الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن أحدًا فرشكم تكرهونه، فإن فعلن فاضربوهنَّ ضربًا غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" تقدم بيان معنى الحديث في قصة حجة الوداع، والحديث يدل على جواز ضربهن على ما أتين به من الفواحش، أو تركن من الفرائض، أو خرجن بغير إذنه، أو دخل بيته غير محرم، أو خانته خيانة ظاهرة، فله تأديبها لأنه قيم عليها ومسؤول عنها. * * * 2425 - وعن أسماءَ: أن امرأة قالت: يا رسولَ الله! إنَّ لي ضَرَّةً، فهل عليَّ جناحٌ إنْ تَشَبَّعتُ من زوجي غيرَ الَّذي يُعطيني؟ فقال: "المُتَشَبعُ بما لم يُعْطَ كلابسِ ثَوْبَيْ زورٍ". "عن أسماء: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لي ضرة" ضرة المرأة: امرأة زوجها، "فهل علي جناح"؛ أي: إثم "إن تشبعت من زوجي غير الَّذي يعطيني"؛ أي: أظهرت لضرتي أنَّه يعطيني أكثر مما هو يعطيني إدخالًا للغيظ عليها، فنهى عليه الصلاة السلام عنه، "فقال: المتشبع بما لم يعط"؛ أي: الَّذي

يري أنَّه شبعان وليس به "كلابس ثوبي زور"، وهو الَّذي تزوَّر على الناس بأن تزيَّا بزي أهل الزهد ويلبس لباس ذوي التقشف رياء، وأضاف الثوبين إلى الزور لأنهما كانا ملبوسين لأجله. * * * 2426 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: آلَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن نسائِهِ شهرًا، وكانَتْ انفكَّت رِجْلُه فأقامَ في مَشْرُبةٍ تسعًا وعشرينَ ليلةً ثم نزلَ، فقالوا: يا رسولَ الله! آلَيْتَ شهرًا فقال: "إنَّ الشَّهرَ يكونُ تسعًا وعشرينَ". "وقال أنس: آلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نسائه"؛ أي: حلف أن لا يدخل عليهن "شهرًا"، وإنما عدَّاه بـ (من) لتضمينه إياه معنى الامتناع من الدخول، روي: أن أمهات المؤمنين حين تغايرن وطلبن زيادة النفقة ولم يرضَين بفقره هجرهُنَّ شهرًا، فنزلت الآية. "وكانت انفكت رجله"؛ أي: تألمت مفصلُ قدمه عليه الصلاة والسلام، يقال: سقط فلان فانفكت قدمه: إذا انفرجت وزالت، قيل: إن قدمه كأنها انفرجت من طول القيام، وقيل: قد كان عليه الصلاة والسلام سقط من فرسه فخرج عظم رجله من موضعه. "فأقام في مشربة" بضم الراء؛ أي: غرفة "تسعًا وعشرين ليلة"، ولم يخرج إلى أصحابه "ثم نزل فقالوا: يا رسول الله! آليت شهرًا، فقال: إن الشهر يكون تسعًا وعشرين"؛ يعني: في بعض الأوقات وإن كان في العرف ثلثين، وعن هذا قيل: مَنْ نذر صوم شهر بعينه فكان تسعًا وعشرين لم يلزم أكثر من ذلك، ومَنْ نذر شهرًا من غير تعيين فعليه إكمال ثلاثين. * * *

2427 - وقال جابرٌ: عَزَلهن شهرًا، أو تِسْعًا وعشرينَ، ثم نزلَتْ هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ} - إلى قوله - {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} فبدأَ بعائشةَ رضي الله عنها فقال: "يا عائشةُ! إني أريدُ أنْ أعرِضَ عليكِ أمرًا، أُحِبُّ أنْ لا تَعْجَلي فيهِ حتى تَستشيري أَبَويكِ! " قالت: وما هو يا رسولَ الله؛ فتلا عليها هذه الآيةَ، فقالت: أَفيكَ يا رسولَ الله أَستشيرُ أَبَوَيَّ؟ بل أختارُ الله ورسولَه والدارَ الآخرةَ، وأسالُكَ أنْ لا تُخبرَ امرأة مِن نسائكَ بالذي قلتُ، قال: "لا تسألُني امرأةٌ منهنَّ إلا أَخبرتُها، إنَّ الله لم يَبعَثْني مُعَنِّتًا ولا مُتَعَنِّتًا، ولكن بعثَني مُعلِّمًا مُيسِّرًا". "قال جابر - رضي الله عنه -: عزلهن شهرًا أو تسعًا وعشرين، ثم نزلت هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ} - إلى قوله - {لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} " {فَتَعَالَيْنَ} أي: جئن إلى ما أعرِض عليكن {أُمَتِّعْكُنَّ} أي: بشيء من الدنيا، {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} أي: أطلقكن بإحسان من غير سوء بكنَّ؛ يعني: لا أراجعكن حتى تبين بالعدة، {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}؛ أي: رضاهما {وَالدَّارَ الآخِرَةَ}؛ أي: الجنة {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ}؛ أي: للمطيعات أمرهما {مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا}؛ أي: ثوابًا جزيلًا في الجنة. "فبدأ"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام "بعائشة فقال: يا عائشة! إني أريد أن أعرض عليك أمرًا أحب أن لا تعجلي فيه"؛ أي: في جوابه من تلقاء نفسك، "حتى تستشيري أبويك"، إنما قاله عليه الصلاة والسلام لعلمه أن أبويها لا يأمرانها باختيار نفسها وافتراقها، "قالت: وما هو يا رسول الله! فتلا عليها هذه الآية، فقالت: أفيك"؛ أي: في فراقك "يا رسول الله أستشير أبوي، بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة، وأسألك"؛ أي: أطلب منك "أن لا تخبر امرأة من نسائك بالذي قلته" من الاختيار، ومرادها من هذه الكلام أن نساءه لو

علمن أن عائشة رضيت بنكاحه لوافقتها في الرضا به. "قال: لا تسألني امرأة منهن إلا أخبرتها، إن الله لم يبعثني معنتًا"؛ أي مؤذيًا وموقعًا أحدًا في العَنَت وهي المشقة والشدة، "ولا متعنتًا"؛ أي: ولا طالبًا زَلَّة أحد وخطئه، "ولكن بعثني معلمُا ميسرًا"، فأخبرهن فاخترن كلُّهن اختيارَ عائشة. * * * 2428 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: كُنْتُ أغارُ على اللائي وَهَبن أنفسَهن لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: أتهَبُ المرأةُ نفسَها؟ فلمَّا أنزلَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ}، قلتُ: ما أَرَى ربَّكَ إلا يُسارعُ في هَواكَ. "وقالت عائشة: كنت أغار" نفس متكلم، من الغيرة؛ أي: أعيب "على اللائي وهبن أنفسهن لرسول الله" لئلا تهبن أنفسهن فلا تكثر النساء ويقصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما تحته "فقلت: أتهب المرأة نفسها" استفهام على سبيل الإنكار. "فلما أنزل الله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} "؛ أي: تؤخر وتترك مضاجعة من تشاء منهن بطلاقٍ وغيره " {وَتُؤْوِي إِلَيْكَ} "؛ أي: تضم وتضاجع " {مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ} "؛ أي: التي طلبتها " {مِمَّنْ عَزَلْتَ} "؛ أي: تركتها " {فَلَا جُنَاحَ} "؛ أي: لا إثم " {عَلَيْكَ} " في فعلك بنسائك، نزل حين أراد أن يفارق نساءه لطلبهن زيادة في النفقة والقسم بينهن، فأباح الله لرسوله أن يكون الاختيار في يده فيفعل بهنَّ ما يشاء من الطلاق وترك القسم وغيرهما. "قلت: ما أرى" ما أظن "ربك إلا يسارع في هواك"، روي أنَّه عليه الصلاة والسلام أرجأ منهن سودة وجويرية وصفية وميمونة وأم حبيبة، فكان

يقسم لهن ما شاء كما شاء، وآوى إليه عائشة وحفصة وأم سليم وزينب. وروي: أنَّه كان يسوي مع ما أطلق له وخير فيه إلا سودة، فإنها وهبت نوبتها لعائشة، وقالت له عليه الصلاة والسلام: لا تطلقني حتى أحشر في زموة نسائك. * * * مِنَ الحِسَان: " مِنَ الحِسَان": 2429 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها كانت معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، قالت: فسَابقتُه فسَبقتُه على رِجْلَيَّ، فلمَّا حَمَلتُ اللحمَ سابقتُه فسبَقَني، قال: "هذه بتلكَ السَّبْقَةِ". "من الحسان": " عن عائشة: أنها كانت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، قالت: فسابقته"؛ أي: عدوت ماشية معه عليه الصلاة والسلام لننظر أينا أسرع عَدْوًا، "فسبقته"؛ أي: غلبت عليه في العدو، "على رجليَّ، فلما حملت اللحم"؛ أي: سمنت "سابقته فسبقني، قال: هذه بتلك السبقة"؛ يعني: تقدمي عليك في هذه النوبة في مقابلة تقدمك عليَّ في النوبة الأولى، والمراد منه بيان حسن أخلاقه وتلطفه بنسائه. * * * 2430 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُكم خيرُكم لأهلِهِ، وأنا خيرُكم لأهلي، وإذا ماتَ صاحِبُكم فدَعُوه".

"عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خيركم خيركم لأهله"؛ يعني: خيركم مَنْ هو أحسن أخلاقًا على أهله، "وأنا خيركم لأهلي"، وفيه إشارة إلى صلة الرحم والحث عليها. "فإذا مات صاحبكم فدعوه"؛ أي: اتركوه ولا تتعرضوا بذكر معايبه، والمراد النهي عن غِيبة الموتى، قيل: أراد بالصاحب نفسَه، وقيل: معناه اتركوا التلهف والتحسر عليه، فإنَّ في الله خَلَفًا عن كل فائت. * * * 2431 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المرأةُ إذا صَلَّتْ خمسَها، وصامَتْ شهرَها، وأحصَنَتْ فرجَها، وأطاعَتْ بعلَها، فَلْتدخُلْ مِن أيِّ أبوابِ الجنَّةِ شاءَتْ". "عن أنس - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المرأة إذا صلت خمسها"؛ أي: خمس صلوات، "وصامت شهرها"؛ أي: شهر رمضان، "وأحصنت فرجها" إن عفت ومنعت نفسها عن الفواحش، "وأطاعت بعلها"؛ أي: زوجها "فلتدخل" الجنة من أي أبواب الجنة شاءت". * * * 2432 - وقال: "لو كُنْتُ آمِرًا أحدًا أنْ يَسجُدَ لأَحدٍ، لأمرتُ المرأةَ أنْ تسجُدَ لزَوجِها". "وعن قيس بن سعد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لأحد"؛ يعني: لو جاز السجود لغير الله "لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"، وفيه بيان تأكيد حق الزوج على الزوجة. * * *

2433 - وقال: "أيُّما امرأةٍ ماتَتْ وزوجُها عنها راضٍ، دخلَت الجنةَ". "وعن أم سلمة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة"، وفيه بيان ثواب طاعة الزوجة زوجها. * * * 2434 - وعن طَلْقِ بن عليٍّ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دعا الرَّجُلُ زوجتَه لحاجتِه فلْتَأتِهِ، وإنْ كانَتْ على التنُّورِ". "عن طلق بن علي أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا دعا الرجل زوجته لحاجته "؛ أي: للغشيان "فلتأته وإن كانت على التنور"؛ أي: لتجب دعوته وإن كانت تخبز على التنور، وهذا بشرط أن يكون الخبز للزوج لأنه إذا دعاها في هذه الحالة فقد رضي لإتلاف مال نفسه، وتلفُ المال أسهل من وقوع الزوج في الزنا. * * * 2435 - عن معاذٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُؤذي امرأةٌ زوجَها في الدُّنيا إلا قالَتْ زوجتُه من الحورِ العِينِ: لا تؤذِيهِ، قاتَلكِ الله، فإنما هوَ عندَكِ دخيلٌ، يُوشِكُ أنْ يُفارِقَكِ إلينا"، غريب. "عن معاذ - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا تؤذي امرأة زوجها في الدنيا إلا قالت زوجته من الحور العين" وذلك بأن رفع الله تعالى الحجاب من الحور العين بين أزواجهن في الدنيا حتى يعلمن ما يجري بينهم وبين زوجاتهم، "لا تؤذيه، قاتلك الله" خطاب للمرأة المُؤذية زوجها، "فإنما هو عندك دخيل"؛ أي: ضعيف غريب ليس له عندك بقاء، "يوشك"؛ أي: يقرب "أن يفارقك إلينا" ويتركك في النار ولا تلحقين يه، وهذا على تقدير كون المرأة

كتابية لا إشكال فيه لأنها مخلَّدة في النار، وإن كانت مسلمة فتوجيهه: أن إيذاءك زوجك سببُ دخولك النار، وهو يفارقك ويصل إلينا مدةَ بقائك في النار إلى أن تدخلي الجنة. "غريب". * * * 2436 - عن حكيم بن مُعاويةَ القُشَيريِّ، عن أبيه قال: قلتُ: يا رسولَ الله! ما حقُّ زوجةِ أحدِنا عليهِ؟ قال: "أنْ تُطعِمَها إذا طَعِمْتَ، وتَكْسُوَها إذا اكتسَيْتَ، ولا تَضْرِب الوجْهَ، ولا تُقَبحْ، ولا تَهجُرْ إلا في البيتِ". "عن حكيم بن معاوية القشيري، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت" بالخطاب فيهما، ليس معناه: إذا طعمت فأطعمها وإذا لم تطعم فلا تطعمها، وكذا في الكسوة، بل يجب عليه إطعام الزوجة وكسوتها سواء طعم أو لا، وإنما قاله عليه الصلاة والسلام لأن من عادة بعض العرب أنهم يأكلون ويشربون ويلبسون ويتركون أهاليهم جائعين عارين، فنهاهم النبي عليه الصلاة والسلام عن تلك العادة. "ولا تضرب الوجه" هذا يدل على جواز ضرب غير الوجه إذا ظهر منها فاحشة أو تركت من فرائض الله تعالى، "ولا تقبح" بتشديد الباء المكسورة؛ أي: لا تقول لها قولًا قبيحًا ولا تشتمها بأن تقول: قَبَّح الله وجهك ونحوه. "ولا تهجر إلا في البيت"؛ أي: في المضجع؛ يعني: إذا غضبت عليها فلا تتحول عنها إلى دار أخرى وتتركها في بيت خال. * * * 2437 - وعن لَقيطِ بن صَبرة قال: قلتُ يا رسولَ الله! إنَّ لي امرأةً في

لسانِها شيءٌ - يعني البَذَاء - قال: "طلِّقْها"، قلتُ: إنَّ لي منها وَلَدًا ولها صُحبةٌ، قال: "فَمُرْها - يقولُ عِظْها - فإنْ يَكُ فيها خيرٌ فستَقْبَلُ، ولا تضرِبن ظَعِينتَكَ ضَرْبَكَ أُمَيَّتَكَ". "عن لقيط بن صبرة قال: قلت يا رسول الله! إن لي امرأة في لسانها شيء؛ يعني: البذاء" بفتح الباء والذال المعجمة والمد: هو الفحش في القول؛ يعني: تؤذيني بلسانها. "قال"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام: "طلقها، قلت: إن لي منها ولدًا ولها صحبة، قال: فمرها، يقول" من قول الراوي بمعنى: يريد؛ أي: يريد عليه الصلاة والسلام بقوله: مرها: عظها إذا لم تطلقها، والأمر هنا الوعظ والنصيحة. "فإن يك فيها خير فستقبل "وعظك، "ولا تضربن ظعينتك" وهي المرأة التي في الهودج، والمراد بها هنا الزوجة، والحق أنهم يَكْنون بها عن المرأة الكريمة على أهلها؛ لأن الهودج لا يضم إلا مَنْ كُنَّ كرائم عندهم؛ يعني: لا تضرب الحرة الكريمة من النساء التي هي منك بأعز مكان "ضربك"؛ أي: مثل ضربك "أميتك" تصغير أَمَة، وإنما صَغَّر للمبالغة في حقارتها، وأصلها أموة حذفت الواو ثم ردت في التصغير وقلبت ياء لياء التصغير وأدغمت. * * * 2438 - وعن إياسِ بن عبد الله: أنَّه قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تضرِبُوا إماءَ الله"، فأتاهُ عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: يا رسولَ الله! ذَئِرَ النِّساءُ على أزواجِهنَّ، فأذِنَ في ضَربهِنَّ، فأَطافَ بآلِ محمدٍ نساءٌ كثيرٌ كلُّهنَّ يَشتكينَ أزواجَهنَّ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لقد أطافَ بآلِ مُحمَّدٍ سبعونَ امرأةً كلُّهنَّ يشتكينَ أزواجَهنَّ، ولا تِجدُونَ أولئكَ خيارَكم".

"وعن إياس بن عبد الله أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تضربوا إماء الله" يريد بها الزوجات، "فأتاه عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله! ذئر النساء"؛ أي: نشزت واجترأت "على أزواجهن، فأذن"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام "في ضربهن"، وهذا يدل على جواز ضرب النساء في منع حقوق النكاح ضربًا غيرَ مبرح، "فأطاف بآل محمد نساء كثيرة"؛ أي: ترددْنَ إلى باب محمد، والمراد بالآل: أهل بيته عليه السلام من أزواجه. "يشتكين أزواجهن"؛ أي: على كثرة ضرب أزواجهن، "فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لقد أطاف بآل محمد سبعون امرأة كلهن تشتكين أزواجهن ولا تجدون"، أنتم أيها الرجال والسامعون "أولئك" الرجال الذين يضربون نساءهم، "خياركم" مفعول ثان لـ (لا تجدون)، فإن الصبر معهن والعفو عن سوء أدبهن خيرٌ من ضربهن. * * * 2439 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس مِنَّا مَن خَبَّبَ امرأةً على زَوْجِها، أو عبدًا على سيدِه"؛ أي: أفسدَ. "عن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس منا من خبب امرأة"؛ أي: خدع وأفسد، والمراد: أن يوقع أحد عداوة بين زوج وزوجة. "على زواجها" بأن يذكر مساوئ الزوج عند امرأته، "أو عبدًا على سيده"، بأن يذكر مساوئ السيد عند عبده بحيث يقع بينهما خصومة، أو طلاق، أو تقصير في خدمته، أو فرار، وغير ذلك. * * * 2440 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِن أَكْملِ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا،

وأَلْطَفُهم بأهلِهِ". "وعن عائشة أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا وألطفهم بأهله"، قيل: فيه دليل لمن قال يزيد الإيمان بالطاعة وينقص بالمعصية، وعليه الشافعي ومالك. * * * 2441 - وقال: "أَكْمَلُ المؤمنينَ إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا، وخِيارُكم خيارُكُم لنِسائهم"، صحيح. "وعن أبي هريرة أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وخياركم خياركم لنسائهم". * * * 2442 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قَدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن غزوةِ تبوكَ، أو حُنَينٍ؛ وفي سَهْوتها ستْرٌ فَهَبَّت ريحٌ فكشفَتْ ناحيةَ السَّترِ عن بناتٍ لعائشةَ - لُعَبٍ - فقال: "ما هذا يا عائشةُ؟ " قالت: بناتي، ورَأَى بَينهنَّ فَرَسًا له جناحانِ من رِقاعٍ، فقال "ما هذا الَّذي أَرَى وَسْطَهنَّ؟ " قالت: فرسٌ، قال: "وما هذا الَّذي عليه؟ " قالت: جناحانِ، قال: "فرسٌ لهُ جناحانِ! " قالتُ: أَما سمعتَ أن لسليمانَ خيلًا لها أجنحةٌ؟ قالت: فضَحِكَ حتى رأيتُ نَواجِذَهُ. "عن عائشة أنها قالت: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غزوة تبوك أو حنين أو خيبر وفي سهوتها"؛ أي: في صفة بيتنا "ستر فهبت ريح فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة لعب، فقال: ما هذا يا عائشة؟ "قالت: بناتي، ورأى بينهن فرسًا له جناحان من رقاع"؛ أي: من قرطاس، "فقال: ما هذا الَّذي أرى وسطهن؟ قالت: فرس، قال: وما هذا الَّذي عليه؟ قالت: جناحان، قال:

11 - باب الخلع والطلاق

فرس لى جناحان؟! قلت: أما سمعت أن لسليمان خيلًا لها أجنحة، قالت: فضحك "؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "حتى رأيت نواجذه". قيل: عدم إنكاره عليه الصلاة والسلام على لعبها بالصورة وإبقائها ذلك في بيته دال على أن ذلك كان قبل التحريم إياها، أو يقال: لعب الصغار مظنة الاستخفاف. * * * 11 - باب الخُلعِ والطلاقِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2443 - عن ابن عبَّاسٍ: أن امرأةَ ثابتِ بن قيسٍ أتت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ الله! ثابتُ بن قيسٍ ما أَعتِبُ عليهِ في خُلُقٍ ولا دينٍ، ولكنْ أَكْرَهُ الكفرَ في الإسلامِ، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتَرُدِّينَ عليهِ حديقَتَهُ؟ " قالت: نعم، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اِقْبَلِ الحديقةَ، وطلِّقْها تطليقة". (باب الخلع والطلاق) "من الصحاح": " عن ابن عباس: أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس" قيل: هي جميلة بنت أبي بن سلول، وقيل: حبيبة بنت سهل الأنصاري، كرهته لدمامة خَلْقه. "أتت النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله! إن ثابت بن قيس ما أعتب" بكسر التاء؛ أي: ما أغضب "عليه في خلق ولا دين"؛ أي: لسوء خلقه ولا لنقصان في دينه، "ولكن كره الكفر"؛ أي: كفران النعمة "في الإسلام" سمت ما ينافي الإسلام من النشوز وكفران النعمة كفرًا مجازًا؛ لأن

كفران العشيرة شعبة منه، "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتردِّين عليه حديقته"؛ يعني: أتعطين الحديقة التي أعطاكها بالمهر حتى يطلقك؟ "قالت: نعم، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقبل الحديقة وطلقها تطليقة"، وهذا أمر إرشاد إلى الأصوب. وقوله: (تطليقة) يدل على أن الأَولى للمطلق الاقتصار على طلقة واحدة ليعود إليها إن شاء. * * * 2444 - عن عبد الله بن عُمرَ: "أَنَّه طلَّق امرأةً له وهي حائضٌ، فذكرَ عمرُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فتغَيَّظَ فيهِ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: "لِيُراجِعْها، ثم ليُمْسِكْها حتى تَطْهُرَ، ثم تحيضَ فتَطهُرَ، فإِنْ بَدا لهُ أن يُطلِّقَها فليُطلِّقْها طاهرًا قبلَ أنْ يَمَسَّها، فتِلكَ العِدَّةُ التي أمرَ الله أن تُطَلَّقَ لها النساءُ". وفي روايةٍ: "مُرْهُ فليُراجِعْها، ثم ليُطلِّقْها طاهِرًا أو حامِلًا". "عن عبد الله بن عمر: أنَّه طلق امرأة له وهي حائض، فذكر عمر لرسول الله فتغيظ"؛ أي: غضب "فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فيه دليل على حرمة الطلاق في الحيض لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتغيظ لغير حرام. "ثم قال: ليراجعها"؛ أي: ليقل راجعتها إلى نكاحي ليزول عنه إثم ذلك، فيه دليل على وقوع الطلاق مع كونه بدعيًا، وإلا لم يأمره عليه الصلاة والسلام بالمراجعة، وعلى استحباب مراجعة المطلقة المدخول بها إن طلقها في حيض، وأوجب مالك هذه عملًا بظاهر الأمر. "ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض فتطهر" إنما أمره عليه الصلاة والسلام بإمساكها حتى يمضي عليها بعد الرجعة طُهْران؛ لأنه لو طلقها في الطهر الَّذي يأتي بعد الرجعة تكون رجعتها لأجل الطلاق، ولو لم يطلقها بعد الرجعة

حتى مضى عليها طهران لم تكن الرجعة لأجل الطلاق، وإلا لطلقها في الطهر الأول بعد الرجعة. "فإن بدا له أن يطلقها"؛ أي: ظهر له إرادة التطليق "فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها"؛ أي: قبل أن يجامعها في الطهر الَّذي يطلقها فيه، وهذا لأن الطلاق في طهر جامعها فيه بدعة؛ لأنه ربما يظهر الحمل فيندم، "فتلك" إشارة إلى الحالة المذكورة وهي حالة الطهر، "العدة التي أمر الله أن تطلق لها"؛ أي: فيها "النساء" بقوله: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]؛ أي: للوقت الَّذي يشرعن في العدة، وذلك إنما يكون في الطهر. "وفي رواية: مره فليراجعها ثم ليطلقها طاهرًا أو حاملًا" يدل على أن لا بدعة في طلاق الحامل. * * * 2445 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: خَيَّرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاختَرْنا الله ورسولَه، فلم يُعَدَّ ذلكَ علينا شيئًا. "وقالت عائشة: خيرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاخترنا الله ورسوله فلم يعد ذلك علينا شيئًا" من الطلاق لا ثلاثًا ولا واحدة ولا بائنة ولا رجعية بسبب تكلم عائشة بهذا الكلام. روي: أن عليًا - رضي الله عنه - كان يرى أن المرأة إذا خيرت فاختارت زوجها يقع طلقة رجعية، وبه قال زيد بن ثابت ومالك، فأنكرت عائشة ذلك بأن لو كان ذلك موجبًا لوقوع الطلاق لعدَّ النبيُّ عليه الصلاة والسلام علينا طلاقًا عند تخيره إيانا، وبه قال جماعة من الصحابة والشافعي وأبو حنيفة. * * *

2446 - وقال ابن عبَّاسٍ في الحرامِ: يُكَفَّرُ، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ". "وقال ابن عباس في الحرام"؛ أي: في مخاطبته لزوجته بلفظ الحرام بأن قال: أنت علي حرام أو حَرَّمتُك "يكفر" كفارة اليمين، فإن نوى به الطلاق أو الظهار وقع ما نوى منهما. " {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} " الأسوة - بضم الهمزة وكسرها -: المتابعة؛ يعني: قال ابن عباس: تلفظ رسول الله بلفظ الحرام فأوجب الله عليه الكفارة وعليكم متابعته، قيل: سبب تلفظه بالحرام: أنَّه وطئ جاريته مارية القبطية في بيت حفصة، فاطلعت حفصة وغضبت، فقال لها عليه السلام: إني حرمتها علي فلا تغضبي، واسكتي، فنزل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] الآية. * * * 2447 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَمْكُثُ عندَ زينبَ بنْتِ جَحْشٍ، وشربَ عندَها عَسَلًا، فتَواصَيْتُ أنا وحَفْصَةُ: أن أَيَّتَنا دخلَ عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَلْتَقُلْ: إني أَجِدُ منكَ ريحَ مَغافيرَ، أَكَلْتَ مَغافيرَ؟ فدخلَ على إحداهُما فقالَتْ لهُ ذلكَ، فقالَ: "لا بأسَ، شربتُ عسلًا عندَ زينبَ بنتِ جحشٍ، فلَنْ أعودَ له، وقد حَلَفْتُ، لا تُخْبري بذلكَ أحدًا" يبتغي مرضاةَ أزواجِهِ، فنزلت: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} "عن عائشة: أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يمكث عند زينب بنت جحش وشرب عندها عسلًا، فتواصيت أنا وحفصة"؛ أي: اشترطنا وقررنا "أن

أيتنا دخل عليها النبي عليه الصلاة والسلام فلتقل: إني أجد منك ربح مغافير" بفتح الميم والغين المعجمة جمع مغفور بضم الميم: وهو صمغ حلو يكون على شجرة له رائحة كريهة. "أكلت مغافير" وكان عليه الصلاة والسلام يكره تغير الرائحة لأجل المَلَك، فقالت ذلك لئلا يدخل بيت زينب. "فدخل على أحدهما، فقالت له ذلك" القول "فقال: لا بأس شربت عسلًا عند زينب بنت جحش فلن أعود له"، أي: لشرب العسل، "وقد حلفت" حال من ضمير (لن أعود) والجملة جواب قسم محذوف، والحال دال عليه. "لا تخبري بذلك أحدًا" قال عليه الصلاة والسلام: لئلا تعرف زوجاته أنَّه أكل شيئًا له رائحة كريهة "يبتغي"؛ أي: قال الراوي: يبتغي النبي عليه الصلاة والسلام بذلك "مرضاة أزواجه"، وكان التحريم زلة منه "فنزلت" عتابًا له عليه الصلاة والسلام: " {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ} "؛ أي: من شرب العسل " {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ} حال في ضمير (لك)؛ أي: تطلب رضاهن بتحريم المحلل. * * * مِنَ الحِسَان: " مِنَ الحِسَان": 2448 - عن ثوبانَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما امرأةٍ سألَتْ زوجَها طلاقًا في غيرِ ما بأسٍ فحرامٌ عليها رائحةُ الجنَّةِ". "من الحسان": " عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيما امرأة سألت زوجها طلاقًا في

غير ما بأس"، (ما) زائدة، والبأس: الشدة؛ أي: في غير حال شدة أو حاجة تلجأ إليها المفارقة. "فحرام عليها"؛ أي: ممنوع عنها "رائحة الجنة" وذلك على نهج الوعيد والمبالغة في التهديد؛ يعني: لا تجد رائحة الجنة حين وجدها المحسنون، لا أنَّه لا تجدها أبدًا. * * * 2449 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَبْغضُ الحلالِ إلى الله الطَّلاقُ". "عن ابن عمر، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: أبغض الحلال إلى الله الطلاق". * * * 2450 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "لا طلاقَ قبلَ نكاحٍ، ولا عَتاقَ إلَّا بعدَ مِلْكٍ، ولا وِصالَ في صيام، ولا ويُتْمَ بعدَ احتلامٍ، ولا رَضاعَ بعدَ فِطامٍ، ولا صَمْتَ يومٍ إلى الليلِ". "عن عليٍّ - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام قال: لا طلاق قبل نكاح"؛ يعني: لو قال رجل لامرأة قبل أن ينكحها: طلقتك، أو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، لم يقع الطلاق. "ولا عتاق إلا بعد ملك" فلو قال لعبد غيره: أنت حر، لم يعتق، أما إذا علق الطلاق والعتاق بالملك فصحيح عندنا، خلافًا للشافعي وأحمد. "ولا وصال"؛ أي: لا يجوز الوصال "في صيام، ولا يتم"؛ أي:

ولا يستحق اليتم "بعد احتلام"؛ أي: بعد بلوغ؛ يعني: إذا بلغ يتيم وله سهم من الخمس لا يستحقه بعد البلوغ لزوال حكم اليتم عنه حتى لا يتصرف الولي في ماله. "ولا رضاع بعد فطام"؛ أي: لا أثر له ولا حكم بعد أوان الفطام؛ يعني: أن الرضاع بعد الحولين لا يوجب الحرمة. "ولا صمت يوم إلى الليل"؛ يعني: لا يجوز أن يسكت الرجل من أول اليوم إلى الليل لأن السكوت عن كلام لا إثم فيه ليس بقربة، وكان ذلك الصمت من نُسُك الجاهلية حين اعتكافهم، فردَّ عليه الصلاة والسلام عليهم ذلك. * * * 2451 - عن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نذرَ لابن آدمَ فيما لا يَملكُ، ولا عِتقَ فيما لا يملكُ، ولا طلاقَ فيما لا يملكُ، ولا بيعَ فيما لا يملكُ". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك"؛ يعني: لو قال: لله علي أن أعتق هذا العبد ولم يكن في ملكه وقت النذر: لم يصح نذره حتى لو ملكه بعد ذلك لم يعتق عليه. "ولا عتق فيما لا يملك، ولا طلاق فيما لا يملك، ولا بيع فيما لا يملك". * * * 2452 - عن رُكانَةَ بن عبدِ يزيدَ: أنه طَلَّقَ امرأتَه سُهَيْمَةَ البَتَّةَ، ثم أَتَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي طلقتُ امرأتي البتَّةَ، ووالله ما أردتُ إلا واحدةً، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله ما أَردتَ إلا واحدةً؟ " فقال رُكانةُ: والله ما أردتُ إلا واحدةً، فردَّها إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فطلَّقَها الثانيةَ في زمانِ عمرَ، والثالثةَ في

زمانِ عثمانَ. "عن ركانة" بضم الراء "بن عبد يزيد: أنه طلق امرأته سهيمة" بضم السين المهملة وفتح الياء "البتة" البت: القطع، والمراد بها الطلقة المنجزة، "ثم أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني طلقت امرأتي البتة، والله ما أردت إلا واحدة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله ما أردت إلا واحدة" وهذا تحليف من النبي عليه الصلاة والسلام لركانة. "فقال" ركانة: "والله ما أردت إلا واحدة"؛ أي: لم يكن في نيتي إلا طلقة واحدة، وفيه دليل للشافعي على جواز الجمع بين الطلقات الثلاث، ولا يكون بدعة؛ لأنه عليه السلام لم ينهه عن أن يريد أكثر من واحدة. "فردهما إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: أمره بالرجعة بأن يقول: راجعتها إلى نكاحي، "فطلقها الثانية في زمان عمر، والثالثة في زمان عثمان". والحديث يدل على تصديق الزوج باليمين في دعواه ما لم يكذِّبْه ظاهر اللفظ، وعلى تأثير النية لتحليفه عليه الصلاة والسلام أنه لم يرد إلا واحدة، وعلى أن لا اعتبار بحلف مَنْ توجهت عليه اليمين قبل عرض الحاكم، وعلى أنْ طلاق البتة واحدة إذا لم يرد أكثر منها وأنها رجعية، وبه قال الشافعي. وقال أبو حنيفة: إن نوى الثلاث فثلاث، وإن نوى اثنتين أو واحدة أو لم ينو شيئًا وقع واحدة بائنة. * * * 2453 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثٌ جِدُّهن جِدٌّ، وهَزْلُهن جِدٌّ: الطَّلاقُ، والنِّكاحُ، والرَّجعةُ"، غريب. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث جدهن جد وهزلهن

جد: الطلاق والنكاح والرجعة" حتى لو طلق أو نكح أو راجع وقال: كنتُ فيه لاغيًا أو هازلًا لا ينفعه، وكذلك البيع والهبة وجميع التصرفات، وإنما خَصَّ هذه الثلاثة لأنها أعظم أمرًا وآكد، وخالف الشافعي في نكاح الهازل ولم يحكم بانعقاده. "غريب". * * * 2454 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنها قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا طلاقَ ولا عَتاقَ في إغلاقٍ"، قيل: معنى الإغلاق: الإكراه. "عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا طلاق ولا عتاق في إغلاق، قيل: معنى الإغلاق الإكراه" وهذا من حيث إن المكره مغلق عليه في أمره ومضيَّق عليه في تصرفه، كإغلاق الباب عليه، وكأنه يغلق عليه الباب وحبس حتى يطلق ويعتق، وفيه دليل لمن لم يوقع الطلاق والعتاق من المكره. * * * 2455 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ طلاقٍ جائزٌ إلا طلاقَ المعتوهِ والمغلوبِ على عقلِه"، غريب. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه" وهو ناقص العقل، "والمغلوب على عقله" وهذا يعم السكران والمجنون والنائم والمريض الزائل عقله بالمرض، والمغمى عليه، فإن هؤلاء لا يقع طلاقهم. "غريب". * * *

12 - باب المطلقة ثلاثا

2456 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رُفِعَ القلمُ عن ثَلاَثَةٍ: عن النَّائمِ حتى يستيقظَ، وعن الصَّبيِّ حتى يَبْلُغَ، وعن المَعْتوهِ حتى يَعْقِلَ". "عن علي - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ، وعن المعتوه حتى يعقل". * * * 2457 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "طلاقُ الأَمَةِ تطليقتانِ، وعِدَّتُها حيضتانِ". "عن عائشة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان" احتج أبو حنيفة بهذا الحديث على أن تعلُّق الطلاق بالمرأة، وأن طلاق الأمة ثنتان حرًا كان زوجها أو عبدًا، وللحرة ثلاث كيف كان زوجها، وذهب مالك والشافعي وأحمد إلى أن الاعتبار بحرية الزوج ورقيته. * * * 12 - باب المُطلَّقَةِ ثلاثًا مِنَ الصِّحَاحِ: 2458 - عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: جاءتْ امرأةُ رِفاعةَ القُرَظيِّ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنِّي كنتُ عندَ رِفاعةَ فطلَّقَني فَبَتَّ طلاقي، فتزوجتُ بعدَهُ عبدَ الرحمنِ بن الزبيرِ، وما مَعه إلا مثلُ هُدْبَةِ الثَّوبِ، فقال: "أَتُريدينَ أنْ ترجِعي إلى رِفاعةَ؟ لا، حتى تَذُوقي عُسَيْلَتَهُ ويذوقَ عُسَيلتَكِ".

(باب المطلقة ثلاثًا) "من الصحاح": " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: جاءت امرأة رفاعة القرظي" وهي تميمة بنت وهب، وقيل: بنت أبي عبيد، وقيل: أبو عبيد هو وهب "إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فبت طلاقي"، أي: إلى قطعه فلم يُبْقِ من الثلث شيئًا، "فتزوجت بعده بعبد الرحمن بن الزَّبير" بفتح الزاي المعجمة وكسر الباء، وبه قال أكثر أهل النقل، وقيل: بالضم وفتح الباء، رواه أبو بكر النيسابوري. "وما معه إلا مثل هدبة الثوب" بضم الهاء وسكون الدال المهملة: وهو طرف الثوب، وهذا كناية عن عُنَّته وضعف هَنَته؛ أي: الجماع. "فقال: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ قالت: نعم، قال: لا"؛ أي: ليس لك أن ترجعي إلى رفاعة "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" تصغير العسل، شبه عليه الصلاة والسلام لذة الجماع بتغييب الحشفة بذوق العسل، فاستعار لها ذوقًا، وظهرت في تصغيره التاء التأنيثية، أو أراد قطعة منه، أو معنى النطفة أو اللذة، وفي التصغير إشارة إلى القدر القليل الذي يحصل به الحل وهو تغييب الحشفة، ولا يشترط الإنزال، قيل: هذا يدل على أن الثاني إن واقعها نائمة أو مغمى عليها لا تحس باللذة لا يحل للأول؛ لأن الذوق هو أن تحس باللذة، والعامة على الحِل، وسعيد بن المسيب يشرط العقد دون الوطء، وقوله غيرُ معتبر لكونه مخالفًا للكتاب والسنة والإجماع، حتى لو قضى به القاضي لا ينفذ. * * *

مِنَ الحِسَان: 2459 - عن عبد الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قال: لَعَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المُحلِّلَ والمُحَلَّلَ له. "من الحسان": " عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المحلل" بكسر اللام الأولى: المتزوج مطلقة غير ثلاثًا أو ثنتين إن كانت أمة على نية تطليقها بعد الوطء، كأنه يحلِّلها بالنكاح والوطء على الأول، "والمحلل له" بالفتح: هو الزوج الأول، ولعن اللوطء لغرض الغير وقلة الحمية، ويحتمل أن اللعن إنما يتوجه إلى مَنْ شرط على الثاني تحليلها للأول حالةَ العقد لبطلان النكاح حينئذ اتفاقًا. * * * 2460 - قال سليمانُ بن يسارٍ: أدركتُ بضعَةَ عَشَرَ من أصحابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم كلُّهم يقولُ: يوقَفُ المُولي. "قال سليمان بن يسار: أدركت بضعة عشر"؛ أي: رجلًا "من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام كلهم يقولون: يوقف المؤلي"؛ أي: يحبس حتى يطلق أو يطأ، والمؤلي: هو الذي حلف أن لا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، فإنْ وطأ قبل مضي المدة فعليه كفارة اليمين، وإن لم يطأ حتى يمضي أربعة أشهر يوقف ويطالب بالوطء أو بالطلاق، هذا على مذهب الشافعي ومالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: إذا مضت أربعة أشهر ولم يطأها وقعت عليها طلقة بائنة من غير أن يطلق الزوج، ومن غير أن يطالب بالوطء، وأما إذا كان في مدة الحلف أربعة أشهر فما دونها فهو ليس بمؤل، بل حكمه حكم اليمين إن وطء

قبله كفَّر كفارته، وإلا فلا شيء عليه. * * * 2461 - وعن أبي سَلَمَة: أن سلمانَ بن صَخْرٍ - ويقالُ له: سلمةُ بن صَخْرٍ - البياضيَّ جعلَ امرأتَه عليهِ كظَهْرِ أُمِّه حتى يمضيَ رمضانُ، فلمَّا مَضَى نصفٌ من رمضانَ وقعَ عليها ليلًا، فأتَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكرَ ذلك لهُ، فقالَ لهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أعْتِقْ رقبةً"، فقال: لا أجِدُها، قال: فَصُمْ شهرينِ متتابعَيْنِ، قال: لا أستطيعُ، قال: "أَطعِمْ ستينَ مسكينًا" قال: لا أَجِدُ، فقالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعروةَ بن عمروٍ: "أَعطِهِ ذلكَ العَرَقَ - وهو مِكْتَلٌ يأخذُ خَمسةَ عشرَ صاعًا، أو ستةَ عشرَ - ليُطعِمَ ستينَ مِسكينًا". ويُروَى: "فأطعِمْ وَسْقًا من تمرٍ بينَ ستينَ مسكينًا". "عن أبي سلمة: أن سليمان بن صخر، ويقال له سلمة بن صخر البياضي جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان" هذا هو الظهار المؤقت، "فلما مضى نصف من رمضان وقع عليها"؛ أي: جامعها "ليلًا، فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكر ذلك، فقال له: أعتق رقبة" حَكَم عليه الصلاة والسلام بالإعتاق للكفارة بالوطء قبل مضي المدة. "قال: لا أجدها، قال: فصم شهرين متتابعين، قال: لا أستطيع، قال: أطعم ستين مسكينًا، قال: لا أجد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لفروة بن عمرو: أعطه ذلك العرق" بفتح العين المهملة والراء: وهو مكتل يأخذ خمسة عشر صاعًا أو ستة عشر صاعًا ليطعم ستين مسكينًا، ويروى: "فأطعم وسقًا" وهو ستون صاعًا "من تمر بين ستين مسكينًا". * * *

فصل

2462 - وعن سُليمانَ بن يَسارٍ، عن سلمَةَ بن صَخرٍ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: في المُظاهِرِ يواقِعُ قبلَ أنْ يُكَفِّرَ؟ قال: "كفَّارةٌ واحدةٌ". "وعن سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر، عن النبي عليه الصلاة والسلام في المظاهر"؛ أي: في الرجل المظاهر الذي "يواقع" امرأته "قبل أن يكفر، قال: كفارة واحدة"؛ أي: يجزئه كفارة واحدة. * * * فصل مِنَ الصِّحَاحِ: 2463 - عن معاويةَ بن الحَكَمِ - رضي الله عنه - قال: قلتُ يا رسولَ الله! إنَّ جاريةً لي كانتْ تَرعى غنمًا لي، ففَقَدْتُ شاةً مِنَ الغنمِ فسألتُها، فقالت: أكلَها الذئبُ، فأَسِفتُ عليها، وكنتُ مِن بني آدمَ فلطمتُ وجهَها، وعليَّ رَقَبةٌ، أَفَأُعتِقُها؟ فقالَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أينَ الله؟ "، فقالت: في السَّماءِ، قال: "مَنْ أنا؟ "، قالت: أنتَ رسولُ الله، قال: "أَعتِقْها فإنَّها مؤمنةٌ". (فصل) "من الصحاح": " عن معاوية بن الحكم قال: قلت: يا رسول الله إن جارية لي كانت ترعى غنمًا لي، ففقدت شاة من الغنم فسألتها فقالت: أكلها الذئب فأسِفت"؛ أي: غضبت "عليها، وكنت من بني آدم" الواو للحال، وهو تمهيد عذر الغضب.

13 - باب اللعان

"فلطمت"؛ أي: ضربت بباطن الراحة "وجهها وعلي رقبة"؛ أي: إعتاق رقبة عن كفارة "أفأعتقها"؛ أي: هل يجوز لي أن أعتقها عن تلك الكفارة؟ "فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أين الله؟ قالت: في السماء" مراده عليه السلام من سؤاله إياها: ليعلم أنها موحِّدة أم متخذة الأصنام آلهة، فلما أشارت إلى السماء عَلِمَ أنها موحِّدة، فقَنِع منها بأن علمت أن لها ربًا يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، وليس المراد إثبات السماء مكانًا له تعالى عنه علوًا كبيرًا، بل معناه أن أمره ونهيه ووحيه ورحمته وكُتبه جاءت من قبل السماء، أو هو كقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ} [تبارك: 16]، والمراد: نفسه تعالى بالمعنى المذكور. "قال" عليه الصلاة والسلام: "من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، قال: أعتقها فإنها مؤمنة". * * * 13 - باب اللِّعَانِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2464 - عن سهلِ بن سَعْدٍ السَّاعديِّ قال: إنَّ عُوَيْمرًا العَجْلانيَّ قال: يا رسولَ الله! أرأيتَ رجلًا وَجَدَ معَ امرأتِه رجلًا أَيقتُلُه فتقتلُونَه، أَمْ كيفَ يفعلُ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أُنزِلَ فيكَ وفي صاحبتِكَ فاذَهبْ فأتِ بها"، قال سهلٌ: فَتلاعَنَا في المسجدِ وأنا مَعَ الناسِ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما فَرَغا قال عُوَيمرٌ: كذبتُ عليها يا رسولَ الله إنْ أَمسكتُها، فطلَّقَها ثلاثًا، ثم قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "انظُرُوا! فإنْ جاءَتْ بهِ أَسْحَمَ أَدْعَجَ العَيْنينِ، عظيمَ الأَليتينِ، خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فلا أحسِبُ عُوَيمِرًا إلا قد صَدَقَ عليها، وإنْ جاءَتْ بهِ أُحَيمِرَ كأنه وَحَرَةٌ، فلا أَحسِب عُوَيمرًا إلا قد كذبَ عليها"، فجاءَت بهِ على النَّعتِ الذي نعتَ

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن تصديقِ عُوَيمرٍ، فكانَ بعدُ يُنسَبُ إلى أمِّه. (باب اللعان) "من الصحاح": " عن سهل بن سعد الساعدي أنه قال: أن عويمر العجلاني" بنو عجلان بفتح العين وسكون الجيم: بطن من العرب "قال: يا رسول الله! أرأيت رجلًا"، أي أخبرني عن رجل "وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقتلونه؟! "؛ أي: أولياء المقتول ذلك الرجل القاتل. "أم كيف يفعل؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أنزل فيك"؛ أي: قد أنزل الله فيك "وفي صاحبتك": {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ} [النور: 6] الآية. "فاذهب فأت بها، قال سهل: فتلاعنا في المسجد وأنا مع الناس عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وهذا يدل على جواز اللعان في المسجد، بل هو مستحب تغليظًا مكانيًا، وعلى أنه ينبغي أن يكون بمحضر جماعة من المؤمنين كإقامة الحدود بمحضرهم ليكون أبلغ زجرًا، وصفةُ اللعان معروفة. والحديث يدل على أن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني، وأنه أول لعان كان في الإسلام، قال بعض العلماء: إنها نزلت بسبب هلال بن أمية، وكان أول رجل لاعن في الإسلام، فقالوا: معنى قوله عليه الصلاة والسلام لعويمر: (نزلت فيك)؛ أي: في شأنك؛ لأن في ذلك حكم شامل لجميع الناس، وقيل: يحتمل أنها نزلت فيهما جميعًا، فلعلهما سألا في وقتين متقاربين فنزلت فيهما، وسبق هلال باللعان. "فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها"؛ يعني: إن أمسكتها في نكاحي ولم أطلقها فقد كذبت فيما قلت في قذفها، "فطلَّقَها ثلاثًا".

وهذا يدل على أن الفرقة لا تقع بمجرد اللعان ما لم يفرِّقِ الحاكمُ، وبه قال أبو حنيفة، حتى لو طلقها قبل قضاء القاضي وقع، وعند الشافعي: يقع بمجرد اللعان. والفرقة في الحكم: التطليقة الثانية عند أبي حنيفة لا يتأبد حكمها، فإذا أكذب الرجلُ نفسَه بعد ذلك فحُدَّ جاز أن يتزوجها، وعند الشافعي: فرقة بغير طلاق يتأبد حكمها ليس لهما أن يجتمعا بعد ذلك بوجه. "ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: انظروا، فإن جاءت به"؛ أي: بما حملت "أسحم" وهو شديد السواد "أدعج"؛ أي: أسود "العينين" مع سعتهما، وقيل: هو شديد سواد العين في بياضها، "عظيم الأَلْيتين خدلج" بتشديد اللام؛ أي: عظيم "الساقين"، وكان الرجل الذي نُسب إليه الزنا بهذه الصفة؛ يعني: لو كان الولد بهذه الصفات "فلا أحسب"؛ أي: فلا أظن "عويمرًا إلا قد صدق عليها"، وهذا يدل على جواز الاستدلال بالشبه. "وإن جاءت به أحيمر" تصغير أحمر نصب حالًا "كأنه وحرة" بفتح الواو والحاء المهملة: دويبة حمراء تلتزق بالأرض، وقيل: شبه الوزغة، وكان عويمر أحمر، فلو كان الولد بهذه الصفة "فلا أحسب عويمرًا إلا قد كذب عليها، فجاءت به على النعت الذي نعت رسول الله من تصديق عويمر، فكان بعد ينسب إلى أمه"، وإنما كشف عليه الصلاة والسلام بذلك مع أن الستر أفضل لفائدة إعلام النبوة، وللتنبيه على أن لا تأثير لوضوح الأمر بعد وقوع الفرقة بين المتلاعنين. * * * 2465 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لاعَنَ بينَ رَجُلٍ وامرأتِهِ، فانتفَى من ولدِها، ففرَّقَ بينَهما، وأَلحَقَ الولدَ بالمرأةِ، وفي حديثِه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -

وَعَظَهُ، وذكَّرَهُ، وأَخبرَهُ أن عذابَ الدُّنيا أَهوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ، ثم دَعاها فوَعَظَها، وذكَّرَها، وأخبرَها أن عذابَ الدنيا أَهْوَنُ مِن عذابِ الآخرةِ. "وعن ابن عمر: أن النبي عليه الصلاة والسلام لاعن بين رجل وامرأته فانتفى من ولدها ففرق بينهما وألحق الولد بأمه، وفي حديثه: أن رسول الله قال الله عيه وسلم وعظه وذكره وأخبره أن عذاب الدنيا أهون"؛ أي: أسهل "من عذاب الآخرة" لأن عذاب الدنيا فانية وعذاب الآخرة باقية. "ثم دعاها فوعظها، وذكرها وأخبرها أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة"، والحديث يدل على أن للإمام أن يذكِّر المتلاعنين ويُعظم الأمر عليهما، ويقول لهما: عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. * * * 2466 - وعن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للمُتلاعِنَيْنِ: "حِسابُكما على الله، أحدُكما كاذِبٌ لا سبيلَ لكَ عليها"، قال: يا رسولَ الله! مالي؟ قال: "لا مالَ لَكَ، إنْ كنتَ صدَقتَ عليها فهو لها بما استحْلَلتَ مِن فرجِها، وإنْ كنتَ كذبتَ عليها فذاكَ أبعدُ وأبعدُ لكَ منها". "وعن ابن عمر: أن النبي عيه الصلاة والسلام قال للمتلاعنين: حسابكما على الله، أحدكما كاذب، لا سبيل لك عليها"؛ يعني: لا يجوز لك أن تكون معها، بل حَرُمت عليك أبدًا، يدل على وقوع الفرقة باللعان كما قال الشافعي. "قال"؛ أي: الرجل بعد الفرقة: "يا رسول الله! مالي"؛ أي: أين يذهب مالي الذي أعطيتها من المهر؟ "قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها، فهو بما استحللت من فرجها"؛ أي: فمالك يكون في مقابلة وطئك إياها، وهذا يدل

على أن الملاعن لا يرجع بالمهر عليها إذا دخل بها، وعليه اتفاق العلماء، وأما إذا لم يدخل بها: قال أبو حنيفة ومالك والشافعي: لها نصف المهر، وقال بعض: لها الصداق كاملًا، وقال الزهري: لا صداق لها. "وإن كنت كذبت عليها" في أنها زنت، "فذاك أبعد"؛ أي: عود المهر إليك أبعد؛ لأنه إذا لم يعد إليك حالةَ الصدق فلأَنْ لا يعود إليك حالة الكذب أولى "وأبعد لك منها". * * * 2467 - وعن ابن عبَّاسٍ: أن هِلالَ بن أُميَّةَ قذفَ امرأتَه عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بشَريكِ بن سَحْماءَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "البَينَةُ أو حدٍّ في ظهرِكَ"، فقال هلالٌ: والذي بعثَكَ بالحقِّ إني لَصادِقٌ، فليُنزِلَنَّ الله ما يُبرِّئ ظهري من الحدِّ، فنزلَ جبريلُ عليه السلام، وأنزلَ عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} - فقرأ حتى بلغَ: - {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ}، فجاءَ هلالٌ فشَهِدَ، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ الله يعلمُ أن أحدَكما كاذبٌ، فهل منكما تائبٌ؟ " ثم قامَتْ فشهِدَتْ، فلما كانَت عندَ الخامسةِ وَقَفوها وقالوا: إنَّها مُوجِبة! قال ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: فَتَلَكَّأَت ونكصَتْ حتى ظَنَنَّا أنها تَرجِعُ، ثم قالت: لا أَفْضَحُ قَومي سائرَ اليومِ، فمَضَتْ، وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْصِرُوها! فإنْ جاءَت به أَكحَلَ العينينِ، سابغَ الأَليتينِ، خَدَلَّجَ السَّاقينِ فهو لشريكِ بن سَحْماءَ"، فجاءَت به كذلكَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لولا ما مَضَى مِن كتابِ الله لكانَ لي ولها شأنٌ". "وعن ابن عباس: أن هلال بن أمية قذف امرأته" اسمها خولة "عند النبي عليه الصلاة والسلام بشريك بن سحماء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: البينة"؛ أي: أقم البينة بأربعة شهود أنها زنت "أو حدًا" نصب على المصدر؛

أي: تحد حدًا "في ظهرك"، وهذا يدل على وجوب الحد بقذف الزوجة، "فقال هلال: والذي بعثك بالحق، إني لصادق، فلينزلن الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبرائيل فأنزل عليه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ}؛ أي: يقذفون {أَزْوَاجَهُمْ} فقرأ - حتى بلغ - {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ}، فجاء هلال فشهد"؛ أي: فلاعن. "والنبي يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب"، والأظهر: أنه عليه السلام قال بعد فراغهما من اللعان، والمراد: أنه يلزم الكاذب التوبة، وقيل: قاله قبل اللعان تحذيرًا لهما منه. "ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة"؛ أي: الشهادة الخامسة "وقفوها"؛ أي: حبسوها ومنعوها عن المضي في الشهادة الخامسة، وقيل: أقاموها في الخامسة بعد كونها قاعدة، وهذا يدل على أن حكم لعان الزوج مقدم على لعانها لأنه مثبت. "وقالوا إنها"؛ أي: الشهادة الخامسة "موجبة" للتفريق بينكما. "قال ابن عباس: فتلكأت"؛ أي: تبطأت له وتوقفت أن تقولها "ونكصت"؛ أي: انقلبت ورجعت على عقبيها "حتى ظننا أنها ترجع" عن ذلك، وتندم على اللعان، "ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم"؛ أي: في جميعه، واللام للجنس؛ أي: سائر الأيام، والمعنى: لا أفضح قومي في جميع الدهر بأن أرجع عن اللعان وأثبت على نفسي الزنا. "فمضت"؛ أي: أتمت اللعان في الخامسة، "وقال النبي عليه الصلاة والسلام: أبصروها" بفتح الهمزة، "فإن جاءت به أكحل العينين" الكحل: سواد العينين من أصل الخلقة، "سابغ الأليتين"؛ أي: عظيم الأليتين "خدلج الساقين، فهو لشريك بن سحماء، فجاءت به كذلك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: لولا ما مضى من كتاب الله"؛ أي: لولا أن القرآن حكم بعدم الحد

على المتلاعنين وعدم التعزير "لكان لي ولها شأن"؛ أي: لفعلت بها ما يكون عبرة للناظرين وتذكرة للسامعين لهتكها الحرمة بينها وبين ربها تارة بالزنا، وأخرى بالأيمان الكاذبة، وفي تنكير لفظ الشأن تهويل لِمَا كان يريد أن يفعل بها، وفيه دليل على أن القاضي يجب عليه أن يحكم بالظاهر، وإن كان ثمة ما يدل على خلافه من الشبه، ولا منافاة بين حديث الملاعنة وبين قوله عليه الصلاة والسلام: "الولد للفراش وللعاهر الحجر"؛ لأن حديث اللعان فيمن ينفي الولد مع وجود الفراش، والحديث الآخر فيمن يدَّعي الولد من غير فراش. * * * 2468 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال سعدُ بن عُبادةَ: لو وَجدتُ معَ أهلي رَجُلًا لَمْ أَمَسَّهُ حتى آتيَ بأربعةِ شهداءَ!؟ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، قال: كلا والذي بعثَكَ بالحقِّ، وإنْ كنتُ لأُعاجِلُه بالسَّيفِ قبلَ ذلكَ، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسمَعُوا إلى ما يقولُ سَيدُكم، إنه لَغَيُورٌ وأنا أَغْيَرُ مِنه، والله أَغْيَرُ منِّي". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال سعد بن عبادة: لو وجدت مع أهلي رجلًا لم أمسه"؛ أي: لم أضربه ولم أقتله حرف الاستفهام مقدرة هنا؛ أي: لم أتعرض له بالأذى والقتل؟ "حتى آتي" بالمد "بأربعة شهداء؟ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، قال"؛ أي: سعد بن عبادة: "كلا والذي بعثك بالحق إن كنت لأعاجله بالسيف قبل ذلك"، (إن) هذه مخففة من المثقلة، واسمها مضمر، واللام في (لأعاجله) فارقة بينها وبين الشرطية والنافية، قيل: مراجعة سعد للنبي عليه السلام طمعًا في الرخصة لا ردًا لقوله، ولم يرد بقوله: (كلا) إنكار حُكْمه عليه الصلاة والسلام؛ لأنه كفرٌ، وإنما بدت هذه الكلمة منه من فَرط الغيرة. "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اسمعوا إلى ما يقول سيدكم، إنه لغيور" فعول من

الغيرة وهي الحميَّة والغضب على مَنْ فعل بأهله فاحشة. "وأنا أغير منه، والله أغير مني" أفعل تفضيل من الغيرة، وهي من الله الزجر عن المعاصي، والحديث يدل على أن مَنْ قتل رجلًا ثم ادعى أنه وجده على امرأته لا يسقط عنه القصاص به حتى يقيم البينة على زناه. * * * 2469 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أحدَ أَغْيَرُ مِن الله، فلذلكَ حرَّمَ الفواحشَ ما ظهرَ منها وما بَطَنَ، ولا أحدَ أحبُّ إليه المِدْحَةُ مِن الله، فلذلكَ مَدَحَ نفسَه". وفي روايةٍ: "ولا أحدَ أحبُّ إليهِ المِدْحَةُ مِن الله عز وجل، ومِن أجلِ ذلكَ وعدَ الله الجَنَّةَ، ولا أحدَ أحبُّ إليه العُذرُ مِن الله تعالى، من أجلِ ذلكَ بعثَ المُنذِرينَ والمُبَشِّرين". "وعن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: لا أحد أغير من الله"؛ أي: أزجر من المعاصي منه، "فلذلك حرم الفواحش" جمع فاحشة وهي: ما تجاوز عن حد الشرع. "ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدحة" بكسر الميم بمعنى المدح من الله، "فلذلك مدح نفسه، وفي رواية: ولا أحد أحب إليه المدحة من الله ومن أجل ذلك وعد الله الجنة" لمن مدحه وأطاعه. "ولا أحد أحب إليه العذر من الله، ومن أجل ذلك بعث المنذرين والمبشرين"؛ يعني: النبيين ليخوفوا العاصين ليعتذروا ويتوبوا عن معاصيهم ليقبل عذرهم وتوبتهم وبشروا المطيعين. * * *

2470 - وقال: "إنَّ الله تعالى يَغارُ، وإنَّ المُؤمِنَ يَغارُ، وغَيْرَةُ الله: أنْ يأتيَ المؤمنُ ما حرَّمَ الله". "وعن المغيرة بن شعبة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يغار"؛ أي: يغضب على مَنْ فعل فاحشة، "وإن المؤمن يغار، وغيرة الله أن لا يأتي المؤمن ما حرم الله". * * * 2471 - وقال: "يا أُمَّةَ مُحمَّدٍ! والله ما مِن أَحدٍ أَغْيَرُ مِن الله أنْ يزنيَ عبدُه أو تزنيَ أَمَتُه". "وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أمة محمد! والله ما من أحد أغير من الله أن يزني"؛ أي: على أن يزني "عبده أو تزني أمته". * * * 2472 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن أعرابيًّا أَتَى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ امرأَتي ولدَتْ غلامًا أسودَ، وإني أَنكَرْتُه؟ فقال له رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل لكَ مِن إبلٍ؟ " قال: نعم، قال: "فما أَلوانهُا؟ " قال: حُمْرٌ، قال: "هل فيها مِن أَوْرَقَ؟ " قال: إنَّ فيها لَوُرْقًا، قال: "فأَنَّى تَرَى ذلكَ جاءَها؟ " قال: عِرْقٌ نزعَها، قال: "ولعلَّ هذا عِرْقٌ نَزَعَه"، ولم يُرَخِّصْ له في الانتفاءِ منه". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن أعرابيًا أتى رسول الله فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود وإني أنكرته، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: فما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ "؟ أي: أسمر، والورقة: السُّمرة، وفي "صحاح الجوهري": الأورق من الإبل: الذي

في لونها بياض إلى سواد، وهو أطيب الإبل لحمًا، وليس بمحمود عندهم في سيره وعمله. "قال: إن فيها لورقًا" بضم الواو، جمع الأورق، "قال: فأنى ترى"؛ أي كيف ترى أنت "ذلك" الورق "جاءها"؛ يعني: من أين حصل لها وأبوها ليس كذلك؟! "قال"؛ أي: الأعرابي: "عرق"؛ أي: هو عرق "نزعها"؛ أي: أخرجها وقطعها من ألوان فحلها ولقاحها وجدتها إلى الورقة، وفي المثل: العِرْق نزَّاع. "قال"؛ أي: النبي عليه السلام: "فلعل هذا"؛ أي: المولود "عرق نزعه ولم يرخص له في الانتفاء منه"، وهذا يدل على إثبات قياس اختلاف لون الوالد والمولود لنزع عرق على اختلاف الإبل مع اتحاد الفحل واللقاح. * * * 2473 - وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: كانَ عُتبةُ بن أبي وَقَّاصٍ عَهِدَ إلى أخيهِ سعدِ بن أبي وَقَّاصٍ: أن ابن وَلِيدةِ زَمْعةَ مِنِّي فاقبضْهُ إليكَ، فلمَّا كانَ عامُ الفتحِ أَخَذَه سعدٌ فقال: إنه ابن أخي، وقالَ عبدُ بن زَمْعَةَ: أخي، فتساوَقا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال سعدٌ: يا رسولَ الله! إنَّ أخي كانَ عَهِدَ إليَّ فيه، وقال عبدُ بن زَمْعَةَ: أخي، وابن وَلِيدةِ أبي، وُلِدَ على فراشِهِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هُوَ لكَ يا عبدَ بن زَمْعَةَ، الولدُ للفِراشِ وللعاهِرِ الحَجَرُ"، ثم قالَ لِسَودةَ بنتِ زَمْعة: احتجِبي منه، لِما رَأَى مِن شَبَهِهِ بعُتبةَ، فما رآها حتى لَقيَ الله. ويُرَوى: "هو أخوكَ يا عبدُ". "عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان عتبة بن أبي وقاص" وهو الذي كسر رباعية النبي عليه الصلاة والسلام يومَ أحد فمات كافرًا "عهد إلى أخيه

سعد بن أبي وقاص: أن ابن وليدة زمعة مني فاقبضه إليك" أراد بالوليدة الأمة، وزمعة هذا أبو سودة زوجة النبي عليه الصلاة والسلام، وكان عادة أهل الجاهلية أن أحدهم إذا وطئ أمة غيره وحبلت بعده زعم أن الحمل منه، فإذا وضعته ادعاه فألحق به، وكان عتبة قد فعل هذا الفعل وأوصى أخاه سعد بن أبي وقاص حين مات بمكة أن يضم إليه ابن وليدة زمعة على أنه ابنه. "فلما كان عام الفتح"؛ أي: فتح مكة "أخذه سعد فقال: إنه ابن أخي، وقال عبد بن زمعة: إنه أخي" كان أبي يطؤها بملك اليمين، وقد ولدت على فراشه، "فتساوقا"؛ أي: ذهبا "إلى رسول الله كأن كلًا منهما يسوق صاحبه إليه عليه الصلاة والسلام، فقال سعد: يا رسول الله! إن أخي كان عهد إلي فيه، وقال عبد بن زمعة: أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه، فقال رسول الله عليه السلام: هو لك يا عبد بن زمعة" حكم عليه الصلاة والسلام بالولد لزمعة لإقراره بوطئها وتصييرها فراشًا له به، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية من الانتساب إلى الزاني بقوله: "الولد للفراش"؛ أي: لصاحب الفراش، "وللعاهر الحجر"، قيل: معناه: وللزاني الرجم، لكن هذا إنما يستقيم إذا كان محصَنًا، ويجوز أن يكون معناه: وللزاني الخيبة فيما ادعاه من النسب، يقال: لفلان حجر أو تراب: إذا خاب. "ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لسودة بنت زمعة: احتجبي منه" أمرها بالاحتجاب من ذلك الابن بطريق الورع والاحتياط "لما رأى من شبهه بعتبة، فما رآها"؛ أي: ذلك الابن سودة "حتى لقي الله"؛ أي: مات، "وروي: هو أخوك يا عبد". * * * 2474 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: دخلَ عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ وهو مسرورٌ فقالَ: "أَيْ عائشةُ! ألم تَرَيْ أن مُجزِّرًا المُدْلِجيَّ دخلَ، فرأى أسامةَ

وزيدًا وعليهما قَطيفةٌ، قد غَطَّيا رُؤوسَهما وبدَتْ أقدامُهما، فقال: إنِّ هذه الأقدامَ بعضُها مِن بعضٍ؟ ". "وقالت عائشة: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم"؛ أي: يومًا "وهو مسرور"؛ أي: فرح، "فقال: أي عائشة! ألم تري أن مجززًا المدلجي" بضم الميم وكسر اللام المخففة "دخل"؛ أي: في المسجد "فرأى أسامة وزيدًا"؛ يعني: أسامة وأبيه زيدًا "وعليهما قطيفة" كساء غليظ "قد غطَّيا رؤوسهما وبدت أقدامهما فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" وكان زيد أبيض وأسامة أسود لأن أمه بركة كانت جارية حبشية الأصل ورِثها النبيُّ عليه الصلاة والسلام من أبيه عبد الله فأعتقها وزوَّجها زيدَ بن حارثة، فكان المنافقون يتكلمون فيهما بما يسوء النبي عليه الصلاة والسلام سماعه بسبب سواده، فلما سمع قول المدلجي وهو كان قائفًا من بني مدلج؛ أي: عالمًا نسب غيره، سُرِّي عنه؛ لما فيه من إشارة الحق وغيظ أهل النفاق، وفيه دليل على ثبوت أمر القافة، وصحة الحكم بقولهم في إلحاق الولد؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لا يُظْهِر السرور إلا بما هو حق عنده، وهو قول الشافعي وأحمد ومالك، وعندنا: لا يجوز الحكم بقول القافة. * * * 2475 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من ادَّعى إلى غيرِ أبيهِ وهو يعلمُ فالجنةُ عليهِ حرامٌ". "وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ادعى إلى غير أبيه" عدَّى الادعاء بـ (إلى) لتضمنه معنى الانتساب "وهو يعلم" أنه غير أبيه، الواو فيه للحال، وقد كانوا يفعلونه في الجاهلية "فالجنة عليه حرام". قيل: هذا محمول على المستحِل، وقيل: معناه: لا يكون من الفائزين

الداخلين أولًا، عبر عنه بهذه العبارة تشديدًا في الزجر عنه لأنه مؤدٍ إلى الفساد الكثير. * * * 2476 - وقال: "لا تَرْغبُوا عن آبائِكم فمن رَغِبَ عن أبيهِ فقد كفَرَ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ترغبوا"؛ أي: لا تعرضوا "عن آبائكم" بالانتساب إلى غير آبائكم، "فمن رغب"؛ أي: أعرض "عن أبيه" وهو عالم أنه أبوه، "فقد كفر" إن اعتقد إباحته لمخالفته الإجماع، وإن لم يعتقد يكون معناه: فقد كفر حقَّ نعمته. * * * مِنَ الحِسَان: 2477 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ لما نزلَت آيةُ المُلاعَنَةِ: "أيُّما امرأةٍ أَدخَلَتْ على قومٍ مَن ليسَ منهم فليسَتْ مِن الله في شيءٍ، ولن يُدخِلَها الله جنَّتَهُ، وأيُّما رَجُلٍ جَحَدَ ولدَهُ وهو ينظرُ إليه احتجبَ الله منه وفضحَه على رؤوسِ الخلائقِ في الأوَّلينَ والآخِرينَ". ويُروى "وفَضَحَهُ على رؤوسِ الأَشهادِ". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول لما نزلت آية الملاعنة: أيما امرأة أدخلَتْ على قوم من ليس منهم" بانتساب ولدها المولود من الزنا إلى زوجها "فليست من الله في شيء"؛ أي: في رحمته وغفرانه؛ يعني: لا تجد العفو، "ولن يدخلها الله جنته"؛ أي: مع المحسنين، بل يؤخرها

ويعذبها ما شاء إلا أن تكون كافرة فتخلد في النار. "وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه"؛ أي: يعلم أنه ولده وينكر مع العلم، ذِكْر النظر تخفيف لسوء صنيعه وعظم جنايته، "احتجب الله منه"؛ يعني: يحتجب الله منه كما احتجب هو منه في الدنيا، "وفضحه على رؤوس الخلائق في الأولين والآخرين"؛ أي: يكشف سوءه قدامهم وعند مشاهدتهم. "ويروى: وفضحه على رؤوس الأشهاد" جمع شاهد، وهو الحاضر، والمراد: أهل القيامة. * * * 2478 - ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - أنه قال: جاءَ رجلٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ لي امرأةً لا تَردُّ يَدَ لامِسٍ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "طلِّقْها"، فقال: إني أُحِبُّها، قال: "فأمْسِكْها إذًا". "وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنه قال: جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: إن لي امرأة لا ترد يد لامس"؛ أي لا تمنع نفسها من يقصدها بفاحشة، "فقال النبي عليه الصلاة والسلام: طلقها، قال: إني أحبها، قال: فأمسكها إذًا"؛ أي: احفظها ولازمها كيلا تفعل فاحشة، وهذا يدل على أن تطليق مثل هذه المرأة أولى لأنه قدم الطلاق على الإمساك، وقيل: معناه: لا تحفظ ما في البيت ولا ترد يدَ مَنْ أراد أن يأخذ منه شيئًا، فمعنى قوله: "فأمسكها"؛ أي: احفظها عما ذكرت من التبذير. * * * 2479 - عن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى: "أن كلَّ مستَلْحَقٍ استُلحِقَ بعدَ أبيهِ الذي يُدْعَى له ادَّعاهُ ورثَتُه"، فقَضَى:

"أنَّ مَن كانَ مِن أَمَةٍ يملِكُها يومَ أصابَها فقد لحِقَ بمن استلحَقَهُ، وليسَ له مما قُسِمَ قبلَه مِن الميراثِ شيءٌ، وما أدركَ من ميراثٍ لم يُقْسَمْ فلهُ نصيبُه، ولا يُلحَقُ إذا كانَ أبوهُ الذي يُدعى لهُ أنكرَهُ، فإن كانَ مِن أَمَةٍ لم يملِكْها، أو مِن حُرَّةٍ عاهَرَ بها فإنه لا يَلحقُ ولا يرثُ، وإن كانَ الذي يُدعى له هو ادَّعاهُ فهو ولدُ زَنْيَةٍ، مِن حُرَّةٍ كانَ أو أَمَةٍ". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى أن كل مستلحق" بفتح الحاء: الولد الذي طلب الورثة أن يلحقوا بهم "استلحق بعد أبيه"؛ أي: بعد موت أبيه "الذي يدعى له"؛ أي: ينسبه إليه الناس بعد موت سيد تلك الأمة، ولم ينكر أبوه حتى يموت. "ادعاه ورثته" صفة لـ (مستلحق) أيضًا، "فقضى" تفسير للقضاء الأول: "أن من كان من أمة يملكها يوم أصابها"؛ يعني: جامعها "فقد لحق"؛ أي: الولد "بمن استلحقه، وليس له مما قسم قبله"؛ أي: قبل الاستلحاق "من الميراث شيء، وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه" على حسب ذكورته وأنوثته، "ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره"؛ لأن الولد انتفى عنه بإنكاره، وهذا إنما يكون إذا ادعى الاستبراء بأن يقول: مضى عليها حيض بعدما وطئها وما وطئتها بعد مضي الحيض حتى ولدت وحلف على الاستبراء، فحينئذ ينفى عنه الولد. "فإن كان من أمة لم يملكها، أو من حرة عاهر بها"؛ أي: زنى بها، "فإنه لا يلحق ولا يرث"؛ لأن الزنا لا يثبت النسب، "وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه" هذا تأكيد لقوله: فإنه لا يلحق ولا يرث، "فهو ولد زنية من حرة كان أو أمة". * * *

2480 - عن جابرِ بن عَتيكٍ - رضي الله عنه -: أن النّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِن الغَيْرَةِ ما يُحِبُّ الله، ومنها ما يُبغِضُ الله، فأمَّا التي يُحبُّها الله: فالغَيْرةُ في الرِّيبةِ، وأمَّا التي يُبغِضُها الله: فالغَيْرةُ في غيرِ رِيبةٍ، وإنَّ مِن الخُيَلاءِ ما يُبغِضُ الله، ومنها ما يحبُّ الله، فأَمَّا الخُيَلاءُ التي يحبُّ الله: فاختيالُ الرجلِ عندَ القِتالِ واختيالُه عندَ الصَّدقةِ، وأمَّا التي يُبغِضُ الله تعالى: فاختيالُهُ في الفخرِ". ويُروى: "في البَغْيِ". "عن جابر بن عتيك: أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة": وهي التهمة والشك، وهنا الاختلاط مع الأجانب؛ يعني: إذا علم أن بين زوجته أو أمته وبين الأجنبي ملاقاة وانبساطًا ومراحًا ينبغي للرجال أن لا ترضى بهذا. "وأما التي يبغضها الله: فالغيرة في غير الريبة"؛ بأن يقع في خاطره ظن سوء من غير أمارة. "وإن من الخيلاء"؛ أي: الكبر "ما يبغض الله، ومنها ما يحب الله، فأما الخيلاء التي يحب الله: فاختيال الرجل عند القتال"، وهو التبختر عند المعركة والاستهانة بالعدو، وإظهار الشجاعة حتى يتمكن الروع واسعة في قلبه. "واختياله عند الصدقة" وهو بأن تهزه الأريحية للسخاء، فيعطيها طيبة بها نفسه فلا يستكثر الكثير، بل لا يعطي منها إلا وهو يعده قليلًا. "وأما الذي يبغض الله: فاختياله في الفخر" بأن يقول: أنا أشرف نسبًا وكرمًا من فلان، "ويروى: في البغي" وهو الظلم. * * *

14 - باب العدة

14 - باب العِدَّة مِنَ الصِّحَاحِ: 2481 - عن أبي سلمةَ، عن فاطمةَ بنتِ قيسٍ: أن أبا عمروِ بن حفصٍ طلَّقَها البتَّةَ وهو غائبٌ، فأَرسلَ إليها وكيلَه بشعيرٍ، فتَسَخَّطَتْهُ، فقال: والله ما لكِ علينا مِن شيءٍ، فجاءَتْ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرَتْ ذلكَ له، فقال: "ليسَ لكِ نفقةٌ"، فأَمَرَها أنْ تعتدَّ في بيتِ أُمِّ شَريكٍ، ثم قال: "تلكَ امرأةٌ يغشاها أصحابي، اعتدِّي عندَ ابن أُمِّ مكتومٍ فإنه رجلٌ أعمى، تَضعِينَ ثيابَكِ، فإذا حَلَلْتِ فآذِنيني"، قالت: فلمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لهُ أن مُعاوِيَةَ بن أبي سفيانَ، وأبا جَهْمٍ خَطَباني؟ فقال: "أمَّا أبو جَهْمٍ: فلا يَضَعُ عَصاهُ عن عاتِقِهِ، وأمَّا مُعاوِيةُ: فصُعْلوكٌ لا مالَ لهُ، انكِحي أُسامةَ بن زيدٍ"، فَكَرِهْتُهُ ثم قال: "انكِحي أُسامةَ ابن زيدٍ"، فَنَكَحتُه فجعلَ الله فيهِ خيرًا واغتبَطْتُ". وفي روايةٍ: "فأمَّا أبو جَهْمٍ فرجلٌ ضَرَّابٌ للنِّساءِ". ورُوي: أن زوجَها طلَّقَها ثلاثًا، فأتَتْ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا نفقةَ لكِ إلا أنْ تكوني حامِلًا". (باب العدة) "من الصحاح": " عن أبي سلمة، عن فاطمة بنت قيس: أن أبا عمرو بن حفص طلقها البتة" المراد بها هنا: الطلقات الثلاث "وهو غائب، فأرسل إليها وكيله"؛ أي: إلى فاطمة وكيل أبي عمرو "الشعير للنفقة فسخطته"؛ أي: استقلته وعدَّته قليلًا ولم ترض به.

"فقال"؛ أي: الوكيل: "والله ما لك علينا من شيء"؛ لأنك مطلقة بائنة، "فجاءت" فاطمة "رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال رسول الله: ليس لك نفقة" قال الشافعي ومالك: لا نفقة للمطلقة البائنة إلا أن تكون حاملًا لكن لها السُّكنى، وعندنا: تجب لها النفقة والسكنى في العدة كالمطلقة الرجعية. معنى قوله: (ليس لك نفقة)؛ أي: النفقة التي تريدينها لأنها لم ترض بالشعير وأرادت أجود منه. "فأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: تلك"؛ يعني: أم شريك "امرأة يغشاها أصحابي"؛ أي: يدخلون إليها فلا يصلُح بيتها للمعتدة، "اعتدي عند ابن أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك" خبر في معنى الطلب بملازمة المسكن، والنهي عن الخروج، ووضع ثياب الزينة إلى انقضاء العدة؛ أي: لا تلبسي ثياب الزينة في حال العدة. "فإذا حللت"؛ أي: من العدة بانقضائها "فآذنيني"؛ أي: فأعلميني، "قالت: فلما حللت ذكرت له أن معاوية بن أبي سفيان وأبا جهم خطباني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه"، هذا كناية أنه كثير الضرب والتأديب للنساء فلا تطيق ضربه. "وأما معاوية فصعلوك"؛ أي: فقير "لا مال له" فلا تستريحين منه، وفيه دليل على أن المستشار إذا ذكر الخاطب عند المخطوبة ببعض ما فيه من العيوب على وجه النصيحة والإرشاد إلى ما فيه لم يكن غيبة موجبة للإثم، وأن المال معتبر في الكفاءة. "انكحي أسامة بن زيد، فكرهته، ثم قال: انكحي أسامة بن زيد، فنكحته، فجعل الله فيه خيرًا كثيرًا، واغتبطت"؛ أي: صرت بحيث تغبطني النساء بحظ كان لي منه بحيث يتمنى النساء مثل أحوالي.

"وفي رواية: فأما أبو جهم فرجل ضراب للنساء، وروي: أن زوجها طلقها ثلاثًا فأتت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: لا نفقة لك إلا أن تكوني حاملًا". * * * 2482 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: إنَّ فاطمةَ كانتْ في مكان وَحْشٍ فخيفَ على ناحيَتِها، فلذلكَ رَخَّصَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، تَعني في النُّقْلَة. "وقالت عائشة: إن فاطمة" بنت قيس "كانت في مكان وحش"؛ أي: خال لا ساكن به، "فخيف على ناحيتها"؛ أي: جانبها؛ يعني: نفسها، "فلذلك رخص لها النبيُّ عليه الصلاة والسلام؛ تعني" الضمير لعائشة "في النقلة" بضم النون؛ أي: في الانتقال من موضعها إلى بيت ابن أم مكتوم؛ لأنه لا سكنى لها على الزوج. * * * 2483 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: ما لِفاطمةَ أنْ لا تَتَّقي الله - يعني في قولها: لا سُكنَى ولا نفقةَ. "وقالت عائشة ما لفاطمة"، (ما) استفهامية بمعنى الإنكار "ألا تتقي الله"؛ أي: أما تخشي الله في نسبة هذا القول إلى النبي عليه الصلاة والسلام. "يعني في قولها: لا سكنى ولا نفقة"، وما قال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا، بل تجب للمطلقة النفقة والسكنى، وإنما أمرها بالخروج من منزلها لكون مكانها وحشًا. روى الجعفي: أن عمر - رضي الله عنه - رفع إليه حديث فاطمة، فقال: لسنا نترك

كتاب ربنا وسنة نبينا بقول امرأة، وذلك بمحضر من الصحابة. * * * 2484 - وقال سعيدُ بن المُسيبِ: إنما نُقِلَتْ فاطمةُ لطولِ لسانِها على أحمائها. "قال سعيد بن المسيب: إنما نقلت فاطمة لطول لسانها على أحمائها": جمع حمو: قريب الزوج؛ يعني: كانت سليطة تؤذي أقارب زوجها. * * * 2485 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: طُلِّقَتْ خالتي ثلاثًا، فَأرادَتْ أنْ تَجُدَّ نخلَها فزجرَها رجُل أنْ تَخْرُجَ، فأتَت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "بلى فَجُدِّي نخلَكِ، فإنه عَسَى أنْ تَصَدَّقي أو تَفْعلي معروفًا". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: طلقت خالتي ثلاثًا فأرادت أن تجد نخلها"؛ أي: تقطع ثمرة نخلها، "فزجرها رجل"؛ أي: منعها "أن تخرج، فأتت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: بلى، فجدي نخلك"؛ أي: اقطعي ثمرة نخلك، وهذا يدل على أن للمعتدة الخروج نهارًا للعذر، فلعل خالة جابر لم تكن لها من يصلح نخلها، فرخص عليه الصلاة والسلام في الخروج. "فإنه عسى أن تصدقي" أصله: أن تتصدقي؛ أي: تؤدي زكاة ثمرتك إن بلغت نصابًا، "أو تفعلي معروفًا" بأن تصدقي صدقة التطوع إن لم يبلغ نصابًا. * * * 2486 - وعن المِسْوَر بن مَخْرَمَة: أن سُبَيْعةَ الأَسلَمِيَّةَ نُفِسَتْ بعدَ وفاةِ زوجها بليالٍ - ويُروَى: وضعَتْ بأربعينَ ليلةً - فجاءَتْ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنَتْه أنْ

تَنكِحَ فأذِنَ لها فَنَكَحَتْ. "عن المسور بن مخرمة: أن سبيعة" بضم السين المهملة وفتح الباء "الأسلمية نفست" بضم النون؛ أي: ولدت بعد وفاة زوجها "بليال، ويروى: وضعت بأربعين ليلة، فجاءت النبي عليه الصلاة والسلام فاستأذنته أن تنكح، فأذن لها فنكحت" يدل على عدة الحامل بوضع الحمل. * * * 2487 - عن أمِّ سلمةَ رضي الله عنها قالت: جاءَتْ امرأةٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسولَ الله! إِنَّ ابنتي تُوفِّيَ عنها زَوجُها، وقد اشتكَتْ عينَها أَفَنَكْحُلُها؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا"، مرتينِ أو ثلاثًا، كلُّ ذلكَ يقولُ: "لا"، ثم قال: "إنما هي أربعةُ أَشْهُرٍ وعَشْرٌ، وقد كانَتْ إحداكُنَّ في الجاهليةِ تَرْمي بالبَعرةِ على رأسِ الحولِ". "وعن أم سلمة قالت: جاءت امرأة إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله! إن ابنتي توفي عنها زوجها"؟ أي: مات "وقد اشتكت عينها"؛ أي: وجعت "أفنكحلها؟ فقال رسول الله عليه السلام: لا، مرتين أو ثلاثًا" شك من الراوي، "كل ذلك يقول: لا" وفيه حجة لأحمد على أنه لا يجوز الاكتحال بالإثمد للمتوفى عنها زوجها لا في رَمَد ولا في غيره، وعندنا ومالك: يجوز الاكتحال به في الرمد. وقال الشافعي: تكتحل للرمد ليلًا وتمسحه نهارًا. "ثم قال: إنما هي أربعة أشهر وعشرًا، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول"؛ يعني: كانت عدة المتوفى عنها زوجها في الجاهلية حولًا كاملًا، فنسخ بأربعة أشهر وعشر، وذلك أن المرأة إذا توفي عنها

زوجها دخلت بيتًا ضيقًا ولبست شرَّ ثيابها ولا تمس شيئًا فيه زينة من طيب وغيره حتى تمضي عليها سنة، ثم يؤتى بدابة من حمار أو شاة أو طير فتكسر بها عدتها، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها، تريد انقضاء العدة بهذا الفعل المحسوس. * * * 2488 - عن أمِّ حبيبةَ، وزينبَ بنتِ جَحْشٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَحِلُّ لامرأةٍ تؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ أنْ تُحِدَّ على ميتٍ فوقَ ثلاثِ ليالٍ إلا على زوجٍ: أربعةَ أشهرٍ وعشرًا". "عن أم حبيبة وزينب بنت جحش، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت" بترك الزينة والطيب والكحل والدهن "فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" وفيه دليل على وجوب الحداد على معتدة الوفاة. * * * 2489 - وعن أمِّ عطيَّةَ رضي الله عنها، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُحِدُّ امرأةٌ على ميتٍ فوقَ ثلاثٍ إلا على زوجٍ أربعةَ أشهرٍ وعَشْرًا، ولا تَلْبَسُ ثوبًا مصبوغًا إلا ثوبَ عَصْبٍ، ولا تكتحلُ، ولا تَمَسُّ طِيْبًا إلا إذا طَهُرت نبُذةً مِن قُسْطٍ، أو أَظفارٍ"، ويروى: "ولا تَختضبْ". "وعن أم عطية: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تحد امرأة على ميت فوق الثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا، ولا تلبس ثوبًا مصبوغًا إلا ثوب عصب" بفتح العين وسكون الصاد المهملتين، نوع من البرود اليمنية يعصب غزلها؛ أي: يجمع ويشد ثم يصبغ وينسج، فلا بأس بلبسه.

"ولا تكتحل، ولا تمس طيبًا إلا إذا طهرت نبذة"؛ أي: قطعة يسيرة "من قسط" بضم القاف عود يحمل من الهند يجعل في الأدوية، وقيل: هو عقاقير البحر طيب الريح تتبخر به النفساء. "أو أظفار" بفتح الهمزة جنس من الطيب أسود يجعل في الدخنة لا واحد له من لفظه، والتقدير: ولا تمس طيبًا إلا نبذة منهما إذا طهرت بعد الحيض الذي يعتبر بها في العدة، فإنه يباح لها ذلك، ويروى: (ولا تختضب). * * * مِنَ الحِسَان: 2490 - عن زينبَ بنتِ كعبٍ: أن الفُرَيعةَ بنتَ مالكِ بن سِنانٍ، وهي أختُ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رضي الله عنها، أخبرَتْها أنها جاءَتْ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تسألُه أنْ تَرجِعَ إلى أهلِها في بني خُدْرةَ، فإنَّ زوجَها خرجَ في طلبِ أَعْبُدٍ له أَبَقُوا فقتلُوه، قالت: فسألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أَرجِعَ إلى أهلي، فإنَّ زوجي لم يترُكْني في منزلٍ يملِكُهُ ولا نفقةٍ، فقالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم"، فانصرَفْتُ حتى إذا كنتُ في الحُجْرةِ أو في المسجدِ دَعاني، فقال: "اُمْكُثي في بيتِكِ حتى يبلغَ الكتابُ أجلَهُ"، قالت: فاعتدَدْتُ فيه أربعةَ أشهرٍ وعَشْرًا. "من الحسان": " عن زينب بنت كعب: أن الفريعة" بضم الفاء وفتح الراء المهملة "بنت مالك بن سنان، وهي أخت أبي سعيد الخدري أخبرتها: أنها جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة" بضم الخاء المعجمة حي من الأنصار، "فإن زوجها خرج في طلب أعبد له" جمع عبد "أبقوا"؛ أي: هربوا "فقتلوه، قالت: فسألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أرجع إلى أهلي، فإن زوجي لم يتركني في منزل يملكه ولا نفقة"؛ أي: ولا في نفقة، "فقالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

نعم، فانصرفت"؛ أي: فرجعت من عنده عليه الصلاة والسلام، "حتى إذا كنت في الحجرة أو في المسجد دعاني فقال: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله"؛ أي: حتى تنقضي العدة، سميت العدة كتابًا؛ لأنها فريضة من الله تعالى كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أي: فرض. "قالت: فاعتددت"؛ أي: قضيت عدتي "فيه أربعة أشهر وعشرًا" وهذا يدل على أن المعتدة تعتد في المنزل الذي وجبت فيه العدة إلا أن تنتقل منه بعذر. * * * 2491 - عن أمِّ سَلَمةَ قالت: "دخلَ عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ توفي أبو سلَمةَ وقد جعلتُ على عَينيَّ صَبرًا فقال: "ما هذا يا أُمَّ سلمةَ؟ "، فقلتُ: إنما هو صَبرٌ ليسَ فيه طِيبٌ، فقال: "إنه يَشُبُّ الوجهَ فلا تجعَليهِ إلا بالليلِ وَتَنْزَعِيهِ بالنَّهارِ، ولا تَمْتَشِطي بالطِّيبِ، ولا بالحِنَّاء فإنه خِضابٌ"، قلتُ: بأيِّ شيءٍ أَمْتَشِطُ يا رسولَ الله؟ قال: "بالسِّدر تُغَلِّفينَ به رأسَكِ". "عن أم سلمة قالت: دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبو سلمة وقد جعلت على عيني صبرًا" بفتح الصاد وكسر الباء: الدواء المر، "فقال: ما هذا يا أم سلمة؟ فقلت: إنما هو صبر ليس فيه طيب، فقال: إنه يشب الوجه"؛ أي: يوقده ويلونه ويلينه ويحسنه، "فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب": الباء فيه للحال؛ أي: حال كون المشط مطيبًا "ولا بالحناء فإنه خضاب قلت: بأي شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: بالسدر تغلفين" بفتح التاء، أصله؛ تتغلفين "به رأسك": من قولهم تغلف؛ إذا تلطخ بها؛ يعني: لا تكثرين منه على شعرك حتى يصير غلافًا له، فتغطيه كتغطية الغلاف المغلوف، وروي بضم التاء فمعناه: لا تمكني أن يفعل بك ذلك. * * *

15 - باب الاستبراء

2492 - عن أمِّ سلمةَ رضي الله عنها: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المُتَوفَّى عنها زوجُها لا تلبَسُ المُعَصفَرَ من الثِّيابِ، ولا المُمَشَّقةَ، ولا الحُليَّ، ولا تختَضبُ، ولا تكتَحِلُ". "عن أم سلمة، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر" بضم الميم وفتح العين؛ أي: الذي يصبغ بالعصفر "من الثياب، ولا الممشقة" بضم الميم الأولى وفتح الشين المعجمة المشددة: هي المصبوغة بالمشق - بالكسر ثم السكون - وهو المغرة وهو طين أحمر، "ولا الحلي، ولا تختضب، ولا تكتحل". * * * 15 - باب الاستبراء " باب الاستبراء": وهو طلب براءة الرحم من النطفة. مِنَ الصِّحَاحِ: 2493 - عن أبي الدرداءِ - رضي الله عنه - أنَّه قال: مرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بامرأةٍ مُجِحٍّ فسألَ عنها؟ فقالوا: أَمَةٌ لفلانٍ، قال: "أَيُلِمُّ بها؟ " قالوا: نعم، قال: "لقد همَمْتُ أنْ أَلعنَهُ لعنًا يدخلُ معَهُ في قبرِهِ، كيفَ يستخدِمُه وهوَ لا يحِلُّ لهُ؟ أَمْ كيفَ يوَرِّثُه وهو لا يحِلُّ له". "من الصحاح": " عن أبي الدرداء قال: مر النبي عليه الصلاة والسلام بامرأة مجح": بضم الميم وكسر الجيم وتشديد الحاء: هي الحامل التي قربت ولادتها، "فسأل عنها"؛ أي: عن كيفيتها، "فقالوا: إنها أمة لفلان، فقال: أيلم بها" الإلمام

بالمرأة كناية عن وطئها، "قالوا: نعم، فقال: لقد هممت"؛ أي: قصدت "أن ألعنه لعنًا يدخل معه في قبره، كيف يستخدمه"؛ أي: كيف يستعبد الولد "وهو"؛ أي: الاستخدام "لا يحل له" إذ يمكن أن يكون الولد منه، "أم كيف يورثه" إذ يمكن أن يكون من غيره، "وهو"؛ أي: التوريث "لا يحل له"، (كيف) استفهام فيه معنى الإنكار، يتضمن الذم، والمراد به: النهي عن وطء الحامل المَسبية قبل الاستبراء. * * * مِنَ الحِسَان: 2494 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -، رفَعَه إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: قال في سبايا أوْطاسٍ: "لا تُوطَأُ حاملٌ حتى تَضَعَ، ولا غيرُ ذاتِ حَملٍ حتى تَحيضَ حَيْضةً". "من الحسان": " عن أبي سعيد الخدري رفعه إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال في سبايا أوطاس" جمع سبية بمعنى مسبية، وأوطاس موضع وقع بها حرب حنين: "لا توطأ حامل" خبر بمعنى النهي؛ يعني: لا تجامعوا مسبية حاملًا "حتى تضع" حملها، "ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة" فيه دليل على أنه إذا اشتراها وهي حائض فإنه لا يعتدُّ بتلك الحيضة حتى تستبرأ بحيضة مستأنفة، وإن كانت ممن لا تحيض فاستبراؤها بمضي شهر. * * * 2495 - وعن رُوَيْفِعِ بن ثابتٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حُنينٍ: "لا يَحِلُّ لامرئٍ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ أنْ يَسقي ماؤُه زَرْعَ غيرِه - يعني إتيانَ الحَبالَى -، ولا يَحِلُّ لامرئٍ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ أنْ يقعَ على امرأةٍ من

16 - باب النفقات وحق المملوك

السَّبْيِ حتى يستبرِئَها، ولا يَحِلُّ لامرئٍ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ أنْ يَبيعَ مَغْنمًا حتى يُقْسَمَ". "وعن رويفع بن ثابت الأنصاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين: لا يحل لامرئ يؤمن بالله" صفة لـ (امرئ)، "واليوم الآخر أن يسقي ماءه زرع غيره؛ يعني: إتيان الحبالى" شبه - عليه السلام - الولد إذا علق بالرحم بالزرع إذا نبت ورسَخ في الأرض. "ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يقع على امرأة من السبي"؛ أي: يجامعها "حتى يستبرأها، ولا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيع مغنمًا"؟ أي: شيئًا من الغنيمة "حتى يقسم". * * * 16 - باب النَّفقاتِ وحَقّ المَملوكِ مِنَ الصِّحَاحِ: 2496 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أن هِندًا بنتَ عتبةَ قالت: يا رسولَ الله! إنَّ أَبا سُفيانَ رجلٌ شَحِيحٌ، وليسَ يُعطيني ما يَكفيني وولدي إلا ما أَخذتُ منه وهوَ لا يَعلم، فقال: "خُذي ما يَكفيكِ وولدَكِ بالمعروفِ". (باب النفقات وحق المملوك) "من الصحاح": " عن عائشة: أن هندًا بنت عتبة قالت: يا رسول الله - عليه السلام - إن أبا سفيان رجل شحيح" من الشح وهو البخل مع حرص "وليس يعطيني ما

يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم" فيه دليل على جواز ذكر المرء ببعض ما فيه من العيوب للحاجة، "فقال: خذي ما يكفيك وولدك"؛ أي: قدر نفقتك ونفقة ولدك "بالمعروف" وهو ما يعرفه الشرع ويأمر به، فيه دليل على أن النفقة بقدر الكفاية. * * * 2497 - وقال: "إذا أَعْطَى الله أحدكم خيرًا فليَبدَأْ بنفسِه وأهلِ بيتِهِ". "عن جابر بن سمرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أعطى الله أحدكم خيرًا"؛ أي: مالًا "فليبدأ بنفسه" بالإنفاق، فلينفق عليها من ذلك الخير "وأهل بيته" من زوجته وأولاده. * * * 2498 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "للمَمْلوكِ طَعامُه وكِسوتُه، ولا يُكلَّفُ مِن العملِ إلا ما يُطيقُ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: للمملوك طعامه"؛ أي: يجب على السيد نفقة رقيقه قدر ما يكفيه "وكسوته" بقدر حاجته، "ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق"؛ أي: لا يأمره بالأعمال الشاقة إلا ما يطيق الدوام عليه لا ما يطيق يومين أو ثلاثة ثم يعجز. * * * 2499 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إخوانُكم خَوَلُكُم، جَعلَهم الله تحتَ أيديكُم، فمن جَعلَ الله أخاهُ تحتَ يديهِ فليُطعِمْهُ مما يأكلُ، وليُلبسْهُ مما يلبَسُ، ولا يُكلِّفُهُ من العملِ ما يَغلِبُه، فإنْ كلَّفَه ما يَغلِبُه فلْيُعِنْهُ عليهِ".

"عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إخوانكم"؛ أي: مماليككم إخوانكم "جعلهم الله تحت أيديكم"؛ أي: محكومين لكم، "فمن جعل الله أخاه تحت يديه فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس"، وهذا خطاب مع العرب الذين لبوس عامتهم وأطعمتهم متقاربة يأكلون الخشن ويلبسون الخشن، فأما من خالف معاشه معاشهم ومعاش السلف بأن أكل رقيق الطعام ولبس جيد الثياب، فلو أسني رقيقه كان أحسن، وإلا فليس عليه إلا ما هو المعروف من نفقة أرقاء بلده وكسوتهم، "ولا يكلفه من العمل ما يغلبه، فإن كلفه ما يغلبه فليعنه عليه". * * * 2500 - وعن عبد الله بن عَمرٍو - رضي الله عنهما -: جاءه قَهْرَمانٌ له، فقالَ: أَعطيتَ الرَّقيقَ قوتَهم؟ قال: لا، قال: فانطلِقْ فأَعطِهم فإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كَفَى بالمرءِ إثمًا أنْ يَحبسَ عَمَّن يملكُ قُوْتَه". وفي روايةٍ: "كفى بالمرءِ إثمًا أنْ يُضَيعَ مَن يَقُوتُ". "عن عبد الله بن عمرو: جاءه قهرمان له" وهو فارسي معرب معناه: القائم بأمور الرجل كوكيله وخازنه وحافظ تحت يده "فقال له: أعطيت الرقيق قوتهم قال: لا، قال فانطلق فأعطهم فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كفى بالمرء إثمًا أن يضيع من يقوته"؛ أي: يعطي قوته، والمراد: من يلزمه نفقته، وهذا يدل على أنه لا يتصدق بما لا يفضل عن قوت الأهل يلتمس به الثواب لأنه ينقلب إثمًا، ويحتمل أن يراد به: أن يضيع أمر من يقوته وهو الباري تعالى الذي يقوت الخلائق. "وفي رواية: كفى بالمرء إثمًا أن يحبس عمن يملك قوته" نصب بـ (يحبس)، والضمير فيه لـ (من)، معناه: لو لم يكن له إثم إلا إثم منع القوت

عن المماليك والعيال أو تأخير قوتهم عن وقت حاجتهم = لكفاه ذلك الإثم. * * * 2501 - وقال: "إذا صنعَ لأحدِكم خادِمُهُ طعامَه ثم جاءَه بهِ، وقد وَليَ حَرَّهُ ودُخانَه فليُقعِدْه معَه فليأكلْ، فإنْ كانَ الطَّعامُ مَشفُوهًا قليلًا، فليَضَعْ في يدِه منهُ أُكْلةً أو أُكُلَتَيْنِ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا صنع"؛ أي: فعل "لأحدكم خادمه طعامًا ثم جاءه به"؛ أي: بذلك الطعام "وقد ولي" أي: قرب، أو بمعنى تولى "حره ودخانه" في طبخ ذلك الطعام، "فليقعده معه فيأكل، فإن كان الطعام مشفوهًا" وهو الطعام الذي كثرت عليه الأيدي "قليلًا" بيان لقلة الطعام "فليضع في يده منه أكلة" بضم الهمزة؛ أي: لقمة، "أو أكلتين"؛ أي: لقمتين. * * * 2502 - وقال: "إنَّ العبدَ إذا نَصَحَ لسيدِه وأحسنَ عبادَةَ الله فلهُ أجرُهُ مَرَّتينِ" "وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن العبد إذا نصح لسيده"؛ أي: أراد له خيرًا، "وأحسن عبادة الله فله أجره مرتين" مرة لطاعة ربه ومرة لطاعة سيده. * * * 2503 - وقال: "نِعِمَّا للمَمْلوكِ أنْ يَتَوفَّاهُ الله يُحْسِنُ عبادَةَ ربه وطاعةَ سيدهِ نِعِمَّا لهُ".

"وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعما" أصله: نعم ما فأدغم وكسر العين للساكنين، وفاعل (نعم) مستتر فيه، و (ما) بمعنى: شيئًا مسفر للفاعل نصب على التمييز؛ أي: نعم الشيء شيئًا "للمملوك" والمخصوص بالمدح التوفي في قوله: "أن يتوفاه الله" يقال: توفاه؛ أي: قبض روحه "يحسن عبادة ربه " جملة حالية عن الضمير المنصوب في (يتوفاه)؛ يعني: موته في حال حسن عبادة ربه، "وطاعة سيده نعما له" كرر للمبالغة. * * * 2504 - وقال: "أيُّما عبدٍ أَبَقَ فقد بَرِئَتْ منهُ الذِّمَّةُ". "وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أبق العبد" من مولاه "لم تقبل له صلاة"؛ يعني: كمال صلاته. * * * 2505 - وقال: "أيُّما عبدٍ أَبَقَ من مواليهِ فقدْ كَفَرَ حتى يرجعَ إليهم". "وعن جرير بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيما عبد أبق": (أيما) للشرط مبتدأ و (ما) زائدة للتأكيد و (أبق) خبره، وجواب الشرط قوله: "ففد برئت منه الذمة"؛ أي: ذمة الإيمان وعهده، فيحمل الحديث على كونه مستحلًا للإباق، ويجوز أن يراد بها الحرمة؛ يعني: يخرج العبد الآبق عن احترام المسلمين فلا يجعل أحد بينه وبين سيده في عقوبته الجائزة على إباقه. * * * 2506 - وقال: "إذا أَبَقَ العبدُ لم تُقبَلْ له صلاةٌ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر" أي:

كفران نعمة المولى "حتى يرجع إليهم". * * * 2507 - وقال: "مَن قَذَفَ مَملوكَهُ وهو بريءٌ مما قالَ، جُلِدَ يومَ القيامَةِ، إلا أنْ يكونْ كما قال". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من قذف مملوكه"؛ أي: رماه بالزنا "وهو" الواو فيه للحال؛ أي: المملوك "بريء مما قال" ضمير الفاعل راجع إلى من "جلد يوم القيامة"؛ أي: ضرب حده في الآخرة. "إلا أن يكون"؛ أي: المملوك "كما قال" فلا يجلد في الآخرة، قال الطِّيبي: هذا الاستثناء مشكل لأن قوله: (وهو بريء) يأباه، اللهم إلا أن يؤول ويقال: وهو بريء؛ أي: في اعتقاده. * * * 2508 - وقال: "مَن ضَرَبَ غلامًا له حدًّا لم يَأْتِهِ، أو لَطَمَه، فإنَّ كفَّارتَه أنْ يُعتِقَهُ". "وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ضرب غلامًا له حدًا" مفعول له "لم يأته"؛ أي: لم يأت موجب ذلك الحد، "أو لطمه"؛ أي: ضرب وجهه بباطن الكف، "فإن كفارته أن يعتقه"؛ يعني: إثم ذلك الضرب يمحو بإعتاقه. * * * 2509 - عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قال: كنتُ أَضرِبُ غلامًا لي فسمعتُ مِن خلفي صَوْتًا: "اعلمْ أَبا مسعودٍ! لَلَّهُ أَقْدَرُ عليكَ منكَ عليهِ"،

فالتَفَتُّ، فإذا هوَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: يا رسولَ الله! هوَ حُرٌّ لوجهِ الله، فقالَ: "أَما لَو لَمْ تفعلْ للفَحَتْكَ النارُ، أَوْ لَمَسَّتْكَ النارُ". "عن أبي مسعود الأنصاري أنه قال: كنت أضرب غلامًا لي، فسمعت من خلفي صوتًا: اعلم أبا مسعود"؛ أي: يا أبا مسعود "لله" مبتدأ للام الابتداء وخبره "أقدر عليك منك عليه"؛ يعني: قدرة الله عليك أتم وأبلغ وأشد من قدرتك على عبدك. "فالتفت فإذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله تعالى، فقال: أما" حرف تنبيه "لو لم تفعل" ذلك التحرير كفارة لضربك "للفحتك النار"؛ أي: أحرقتك، "أو لمستك النار" شك من الراوي. * * * مِنَ الحِسَان: 2510 - عن عمروِ بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جاءه رجلٌ فقال: إنَّ لي مالًا وإنَّ والِدي يحتاجُ إلى مالي، فقال: "أنتَ ومالُكَ لوالِدِكَ، إنَّ أَولادكم مِن أطيبِ كَسبكم، كُلوا مِن كسبِ أولادِكم". "من الحسان": " عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إن لي مالًا، وإن والدي يحتاج إلى مالي، فقال: أنت ومالك لوالدك"، وفي بعض: "لأبيك" لأنه أصل وجودك، وأنت خلقت من مائه، فحينئذ يجب عليك نفقته. "إن أولادكم من أطيب"؛ أي: أحلى "كسبكم" من الطيب وهو الحلال، "كلوا من كسب أولادكم"، وهذا يدل على أنه إذا لم يكن للولد مال وله كسب:

يلزمه الكسب للإنفاق على والده، وقيل: يده مبسوطة في مال ولده يأخذ منه ما شاء، والعامة على أنه لا يأخذ إلا لحاجة. * * * 2511 - وعن عمروِ بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن رَجُلًا أتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إني فقيرٌ وليسَ لي شيءٌ، وَلي يتيمٌ، فقال: "كُلْ مِن مالِ يتيمِكَ غيرَ مُسرِفٍ، وَلا مُبادِرٍ، ولا مُتَأثِّلٍ". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رجلًا أتى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: إني فقير ليس لي شيء ولي يتيم"؛ أي: عندي، أو أضافه إلى نفسه لأنه كان قيمه، "فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف"؛ أي: غير مفرط في الإنفاق على نفسك، "ولا مبادر"؛ أي: غير مسرع في أكل ماله مخافة أن يبلغ فيلزمه تسليمه، قال الله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]، "ولا متأثل"؛ أي: جامع مالًا من مال اليتيم فيتخذه أصل ماله، وأثلة الشيء: أصله. * * * 2512 - عن أمِّ سلمَةَ: عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه كَانَ يقولُ في مرضه: "الصَّلاةَ وما مَلَكَت أَيْمانُكم". "عن أم سلمة، عن النبي عليه الصلاة والسلام: أنه كان يقول في مرضه: الصلاة" نصب بمقدر؛ أي: احفظوا الصلاة بالمواظبة عليها، "وما ملكت أيمانكم" عطف عليها؛ أي: احفظوا المماليك بحسن المملكة والقيام بما يحتاجون به من الطعام والكسوة، أو التقدير: احذروا الصلاة وما ملكت أيمانكم أن تضيعوها، وفي حذف الفعل تعظيم لشأن هذا الأمر وتفخيم له، قَرَنَ

أمر المماليك بأمر الصلاة إشارة إلى أن حقوق المماليك واجبة على السادات وجوبَ الصلاة. * * * 2513 - وقال: "لا يدخلُ الجنَّةَ سَيئُ المَلَكَةِ". "وعن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -: أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل الجنة سيئ الملكة"؛ أي: الذي يسيء صحبة المماليك، وهذا تهديد ووعيد في ترك حقوقهم. * * * 2514 - عن رافِع بن مَكِيثٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "حُسْنُ المَلَكَةِ يُمْنٌ، وسوءُ الخُلُقِ شُؤْمٌ، والصَّدقةُ تمنعُ مِيتةَ السوءِ والبرُّ زيادةٌ للعُمُرِ". "عن رافع بن مكيث: أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: حسن الملكة"؛ أي: الذي يحسن الصنيع بمماليكه "يمن"؛ أي: بركة وزيادة، فإن من أحسن إليهم يبارك له فيما ملك لإحسانه. "وسوء الخلق شؤم" وهذا ضد الحسن، "والصدقة تمنع ميتة السوء" بكسر الميم بناء: نوع من الموت؛ يعني: الصدقة تدفع موت الفجاءة، فإنه موت يسيء لإتيانه بغتة لا يقدر المرء معه على التوبة. "والبر"؛ أي: الإحسان "زيادة في العمر"؛ أي: بركة فيه، فإن الذي بورك في عمره يتدارك في يوم أو في ساعة بتوفيق الله من الطاعة ما لا يتدارك غيره في سنة، أو المراد يجعل الله ذلك سببًا لزيادة العمر، كما جعل التداوي سببًا للصحة والطاعة سببًا لنيل الدرجات. * * *

2515 - وقال: "إذا ضربَ أحدكم خادِمَه فذَكَرَ الله فليُمْسِك". "عن أبي سعيد الخدري: أنه قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا ضرب أحدكم خادمه فذكره"؛ أي: الخادم "الله" بأن يقول عند وقوع الضرب عليه: لله لله، "فليمسك"؛ أي: فليترك ضربه تعظيمًا لاسم الله تعالى. * * * 2516 - وقال: "مَن فَرَّقَ بينَ والدةٍ وولدِها، فرَّقَ الله بينَهُ وبينَ أَحِبَتِهِ يومَ القيامَةِ". "وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من فرق بين والدة وولدها"؛ يعني: من فرق بين الجارية وولدها ببيع أو هبة أو نحوهما وذلك في الصغر وهو دون سبع سنين، "فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة"، وهذا يدل على حرمة التفريق بينهما، وكذا حكم الجدة والأب والجد. * * * 2517 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: وهبَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - غُلامَينِ أَخَوينِ فبعْتُ أحدَهُما، فقال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما فعلَ غُلامُك؟ " فأَخبرتُه فقال: "رُدَّهُ، رُدَّهُ". "وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: وهب لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غلامين أخوين فبعت أحدهما، فقال لي رسول الله: ما فعل غلامك، فأخبرته، فقال: رده رده"؛ أي: البيع، مَنَعَ بعضٌ بهذا تفرقة الأخوين، وحمله الأكثر على الاستحباب. * * *

2518 - ورُوِيَ عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنه فرَّقَ بينَ جاريةٍ وولدِها، فنهاهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلكَ، فَرَدَّ البيعَ. منقطع. "عن علي - رضي الله عنه -: أنه فرق بين جارية وولدها، فنهاه النبي عليه الصلاة السلام عن ذلك فرد البيع" "منقطع". * * * 2519 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث مَن كُنَّ فيه يَسَّرَ الله حَتْفَهُ وأدخَلَهُ جَنَّتَهُ: رِفْقٌ بالضَّعيفِ، وشَفَقَةٌ على الوالدينِ، والإحسانُ إلى المَمْلوكِ"، غريب. "عن جابر - رضي الله عنه -، عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: ثلاث من كن فيه يسر الله عليه حتفه"؛ أي: هون الله موته وأزال عنه سكراته، قيل: مات بغير آفة حلت به؛ كقتل ونحوه، "وأدخله جنته رفق"؛ أي: مداراة "بالضعيف، وشفقة على الوالدين، والإحسان إلى المملوك". "غريب". * * * 2520 - عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وَهَبَ لعليٍّ غُلامًا فقال: "لا تضربْه، فإني نُهيتُ عن ضَرْبِ أهلِ الصَّلاةِ، وقد رأيتُه يُصلي". "عن أبي أمامة: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهب لعلي غلامًا فقال: لا تضربه فإني نهيت عن ضرب أهل الصلاة وقد رأيته يصلي"، وذلك لأن المصلي غالبًا لا يأتي بما يستحق الضرب لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء. * * *

2521 - عن عبد الله بن عُمرَ - رضي الله عنهما - قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله! كَمْ نعفو عن الخادِمِ؟ فَسَكَت، ثم أعادَ عليهِ الكلامَ، فصمتَ، فلمَّا كانت الثالثةُ قال: "اُعفُوا عنه كلَّ يومٍ سبعينَ مرةً". "عن عبد الله بن عمر قال: جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله! كم نعفو عن الخادم"؛ أي: كم مرة نعفو عن المماليك، "فسكت"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام، "ثم أعاد عليه"؛ أي: الرجل على النبي عليه الصلاة والسلام "الكلام، فصمت، فلما كانت الثالثة قال: اعفو عنه كل يوم سبعين مرة". * * * 2522 - عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لاءَمَكم مِن مَملُوكِيكُم فأَطعِمُوه ممَّا تأكلونَ، واكسُوهُ مما تكْتَسون، ومَن لم يُلائِمْكُم مِنهم فبيعوهُ، ولا تُعذِّبوا خَلْقَ الله". "وعن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من لاءمكم"؛ أي: وافقكم وصلح لكم "من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون، واكسوه مما تكسون، ومن لا يلائمكم منهم"؛ أي: لا يوافقكم لإساءته أو تقصير في الخدمة "فبيعوه، ولا تعذبوا خلق الله". * * * 2523 - عن سهلِ بن الحَنْظَليَّة قال: مرَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببعيرٍ قد لَحِقَ ظَهْرُهُ ببطنهِ فقال: "اتقوا الله في هذهِ البهائمِ المُعجَمةِ، فاركَبُوها صالحةً، وكُلُوها صالحةً".

17 - باب بلوغ الصغير وحضانته في الصغر

"عن سهل بن الحنظلية قال: مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببعير قد لحق ظهره ببطنه" من شدة الجوع والعطش "فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة"، وهي التي لا تقدر على النطق فيتفصح عن حالها، وهذا يدل على وجوب علف الدابة. "فاركبوها صالحة"؛ أي: قوية، وذلك بأن تتعهدوها بالعلف لتقوى على المشي وتصلح للركوب، "واتركوها صالحة"؛ أي: اتركوها عن الركوب قبل الإعياء، وفي رواية: "كلوها صالحة". * * * 17 - باب بلوغِ الصَّغيرِ وحضانتهِ في الصِّغَرِ " باب بلوغ الصغير وحضانته في الصغر" الحضانة: عبارة عن القيام بتربية طفل لا يستقل بنفسه ولا يهتدي لمصالحه. مِنَ الصِّحَاحِ: 2524 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: عُرِضْتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ أُحُدٍ وأنا ابن أَرْبَعَ عشرةَ سنةً فردَّني، ثم عُرِضْتُ عليهِ عامَ الخندق وأنا ابن خمسَ عشرةَ سنةً فأَجازني. وقال عمرُ بن عبدِ العزيز: هذا فرْقُ ما بينَ المُقاتِلَةِ والذُّريةِ. "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال: عرضت"؛ أي: للذهاب إلى الغزو "على رسول الله عام أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة، فردني، ثم عرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني"؛ أي: كتب لي الجائزة؛ يعني: أثبت اسمي في ديوان الغزاة المقاتلة وكتب رزقي فيه.

"وقال عمر بن عبد العزيز: هذا فرق بين المقاتلة والذرية"؛ أي: الصغر؛ يعني: في وجوب القتال وفي استحقاق السهم أو الرمح. * * * 2525 - عن البراءِ بن عازبٍ - رضي الله عنه - قال: صالَحَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ الحُديبيةِ على ثلاثةِ أشياءَ، على أن مَن أتاهُ مِن المشركينَ ردَّه إليهم، ومَن أَتاهم مِن المسلمينَ لم يَرُدُّوه، وعلى أنْ يَدخُلَها مِن قابلٍ ويُقيمَ بها ثلاثةَ أيَّامٍ، فلمَّا دَخَلَها ومَضَى الأجلُ خرجَ فتَبعَتْهُ ابنةُ حمزةَ تنادي: يا عمِّ! يا عمِّ! فَتَناولها عليٌّ فأَخَذَ بيَدِها، فاختصمَ فيها عليٌّ، وزيدٌ، وجعفرٌ، فقال عليٌّ: أَنا أخذتُها وهي بنتُ عمِّي، وقال جعفرٌ: ابنةُ عمِّي وخالتُها تحتي، وقال زيدٌ: ابنةُ أَخي، فقضى بها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لخالتِها وقال: "الخالةُ بمنزِلَةِ الأُمِّ"، وقال لعليٍّ: "أنتَ مِنِّي وأنا منكَ"، وقال لجعفرٍ: "أَشبَهتَ خَلْقي وخُلُقي"، وقال لزيدٍ: "أنتَ أَخونا ومولانا". "عن البراء بن عازب أنه قال: صالح النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحديبية على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين رده إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها"؛ أي: مكة "من قابل"؛ أي: سنة آتية، "ويقيم بها ثلاثة أيام، فلما دخلها ومضى الأجل خرج فتبعته ابنة حمزة تنادي: يا عم! يا عم! ": أصله: عمي، فحذفت الياء اكتفاء بكسرة الميم، وإنما قالت بهذا؛ لأنه عليه الصلاة والسلام وحمزة وزيدًا رضعوا معًا، فهو عمها رضاعًا. "فتناولها علي، فأخذ بيدها، فاختصم فيها علي وزيد" وهو زيد بن حارثة، "وجعفر" وهو جعفر بن أبي طالب، يكنى أبا عبد الله، وكان أكبر من علي بعشر سنين.

"قال علي: أنا أخذتها وهي بنت عمي، وقال جعفر: ابنة عمي وخالتها تحتي"؛ أي: زوجتي، "وقال زيد: ابنة أخي"؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام كان قد آخى بينه وبين حمزة، وقيل: هو أخوه من الرضاعة. "فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخالتها، وقال: الخالة بمنزلة الأم، وقال لعلي: أنت مني وأنا منك، وقال لجعفر: أشبهت خلقي وخلقي، وقال لزيد: أنت أخونا"؛ أي: في الإسلام "ومولانا"؛ أي: عتيقنا؛ لأن زيدًا ملكته خديجة الكبرى فاستوهبه عليه السلام منها، فوهبته له، فأعتقه عليه الصلاة والسلام، وإنما قال لهم ذلك استطابة لقلوبهم بكلماته اللطيفة في تقديم الخالة عليهم. * * * مِنَ الحِسَان: 2526 - عن عمروِ بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه عبدِ الله بن عمروٍ: أن امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إنَّ ابني هذا كانَ بَطني لهُ وعاءً وثَدْي له سِقاءً، وحِجْري له حِواءً وإنَّ أباهُ طلَّقني وأَرادَ أنْ ينزِعَه مني؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتِ أَحَقُّ بهِ ما لم تَنْكِحي". "من الحسان": " عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثدي له سقاء، وحجري" بفتح الحاء وكسرها؛ أي: ذيلي "له حواء" بكسر الحاء المهملة: اسم المكان الذي يحوي الشيء؛ أي: يضمه ويجمعه. "وإن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنت أحق به

ما لم تنكحي"؛ أي: زوجًا آخر، وهذا يدل على بطلان حق الحضانة بالنكاح. * * * 2527 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَيَّرَ غلامًا بينَ أبيهِ وأُمِّهِ. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خير غلامًا بين أبيه وأمه"، ولعل هذا الغلام بلغ سنَّ التمييز توفيقًا بين هذا وبين الحديث السابق. * * * 2528 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: جاءَت امرأةٌ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إنَّ زوجي يريدُ أنْ يذهبَ بابني وقد سَقاني ونَفَعَني، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أبوكَ وهذهِ أُمُكَ، فخُذْ بيَدِ أَيهما شِئتَ، فأَخَذَ بيدِ أُمَّه فانطلقَتْ بهِ". "وعن أبي هريرة أنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بابني وقد سقاني"؛ أي: ابني "ونفعني"، تريد: أن ابنها بلغ حدًا ينتفع بخدمته، "فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هذا أبوك وهذه أمك، فخذ بيد أيهما شئت، فأخذ بيد أمه، فانطلقت به". * * *

13 - كتاب العتق

13 - كِتابُ العِتِقْ

1 - باب

13 - كِتابُ العِتِقْ (كتاب العتق) 1 - باب مِنَ الصِّحَاحِ: 2529 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتقَ رقبةً مُسلمةً أعتَقَ الله بكلِّ عُضوٍ منها عُضْواً منه من النارِ، حتى فَرْجَهُ بفَرجِهِ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن أَعتقَ رقبةً مسلمةً"، (الرقبة) في الأصل: العُنق، فجُعلت كنايةً عن جميع ذات الإنسان، تسميةً بالبعض. "أَعتقَ الله"؛ أي: أَنْجَي الله؛ إنما ذَكرَه بلفظ الإعتاق للمُشاكَلَة. "بكل عضوٍ منه عضواً من النار، حتى فَرْجَه بفَرْجه"، (حتى) هذه: عاطفة، خَصَّ الفَرْجَ بالذِّكر؛ لأنه محلُّ أكبرِ الكبائر - وهو الزِّنا - بعد الشِّرك. وقيل: ذَكرَ (حتى) للتحقير؛ لأنه عضوٌ حقيرٌ بالنسبة إلى باقي الأعضاء. وفي الحديث: استحباب إعتاق كامل الأعضاء إتماماً للمقابلة، وتقييدُ الرقبة بالمسلمة يدلُّ على أن إعتاقَ الكافر ليس بهذه المرتبة، وإن كان

فيه فضلٌ بلا خلافٍ. * * * 2530 - وعن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: سألتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أيُّ العملِ أَفضلُ؟ قال: "إيمانٌ بالله وجِهادٌ في سبيلِهِ"، قالَ: قلتُ: فأيُّ الرِّقابِ أَفضلُ؟ قال: "أَغلاها ثَمَنًا وأنفَسُها عندَ أهلِها"، قلتُ: فإنْ لم أَفعَلْ؟ قال: "تُعِينُ صانِعاً، أو تَصنعُ لأخْرَقَ"، قلتُ: فإنْ لم أَفعَلْ؟ قال: "تَدَع الناسَ مِن الشرِّ، فإنها صدقةٌ تَصَّدَّقُ بها على نفسِك". "عن أبي ذَرٍّ أنه قال: سألتُ النبيَّ - عليه الصلاة والسلام -: أيُّ العملِ أفضلُ؟ قال: إيمانٌ بالله، وجهادٌ في سبيله، قال: قلت: فأيُّ الرِّقابِ أفضلُ؟ قال: أغلاها ثمناً وأَنْفَسُها عند أهلها"؛ أي: إعتاقُ أحبِّ المماليكِ إلى أهلها وأرفعِها قيمةً عندهم. "قلت: فإنْ لم أفعل؟ قال: تُعين صانعاً" من: الصَّنعة، وهي ما به مَعَاشُ الرجلِ، ويدخل فيه الحِرفة والتجارة؛ أي: صانعًا لم يُتمَّ كسبَه لعياله. وفي بعض النسخ: "ضائعًا"، من: الضَّيَاع؛ أي: إعانةُ مَن لم يكن له متعهِّد يتعهَّده. "أو تصنع لأخرقَ"، يقال: خَرِقَ يَخْرَقُ خَرَقًا - بالتحريك - من باب: شَرِبَ؛ أي: جَهِلَ، فهو أخرق؛ يعني: الجاهل لِمَا يجب أن يعملَه، وليس في يده صنعة يكتسب بها. "قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تَدَعُ الناسَ"؛ أي: تتركُهم "من الشرِّ؛ فإنها صدقةٌ": أنَّثَ الضمير لتأنيث الخبر، أو باعتبار الفعلة والخصلة. "تصدَّقُ"، أصله: تتصدَّق.

"بها على نفسك"، وإنما جعل - عليه الصلاة والسلام - عدَم إيصال الشرِّ إلى الناس صدقًة على نفسه؛ لأن فيه حفظَها عما يؤذيها ويعود وبالُه عليها. * * * مِنَ الحِسَان: 2531 - عن البَراءِ بن عازِبٍ - رضي الله عنه - قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: علِّمني عَمَلاً يدخِلُني الجنةَ، قال: "لئنْ كنتَ أَقْصَرْتَ الخُطبةَ لقد أَعْرَضْتَ في المسألةَ، اِعتِقْ النَّسمةَ، وفُكَّ الرَّقَبَةَ"، قال: أَوَلَيْسا واحدًا؟ قال: "لا، عِتْقُ النَّسمةِ أنْ تَفرَّدَ بعِتْقِها، وفَكُّ الرقبةِ أنْ تُعينَ في ثمنِها، والمنحةَ الوَكُوفَ، والفيءَ على ذي الرَّحم الظَّالمِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلكَ فأَطعِمَ الجائعَ، واسقِ الظَّمآنَ، وَأْمُرْ بالمعروفِ، وَانْهَ عن المنكرِ، فإنْ لم تُطِقْ ذلكَ فَكُفَّ لسانَكَ إلا مِن خير". "من الحسان": " عن البراء بن عازب أنه قال: جاء أعرابي إلى النبي - عليه الصلاة والسلام -، فقال: علِّمْني عملاً يُدخلني الجنةَ، قال: لَئن كنتَ": اللام فيه توطئة للقَسَم المقدَّر. "أقصرتَ الخُطبةَ"؛ أي: جئتَ بالخُطبة؛ أي: بالعبارة قصيرةً، قيل: الخُطبة عند العرب: كلُّ كلامٍ لم يكن منظومًا. "لقد أَعرضتَ المسألةَ"؛ أي: جئتَ بها عريضةً واسعةً؛ يعني: سألتَ بلفظٍ قصيرٍ عن أمرٍ ذي طولٍ؛ أي: عن معنًى كثيرٍ. "أعتِقِ النسمةَ": وهي الرُّوح والنَّفْس؛ أي: أعتقْ ذا نسمةٍ. "وفكَّ الرقبةَ، قال"؛ أي: الأعرابيُّ:

"أَوَليسا واحداً؟ "؛ أي: إعتاقُ النسمة وفكُّ الرقبة شيئاً واحداً؟ "قال: لا": وفرَّق بينهما بقوله: "عتقُ النسمةِ أن تفرَّدَ": أصله: تتفرَّد. "بعتقها"؛ وهذا لأن العتقَ إزالةُ ملكٍ عن إنسانٍ، وذلك إنما يكون عن مالكٍ. "وفكُّ الرقبةِ أن تُعينَ في ثمنها"؛ لأن الفكَّ هو السعيُ في التخليص، فيكون من غيره بأداءِ النجم عن المكاتِب، أو إعانةٍ فيه. "والمِنْحَةُ"، بالرفع على الابتداء؛ أي: ومما يُدخلُ الجنةَ المِنحةُ، وهي العطيَّةُ في الأصل، وغَلَبَ في لبن ناقةٍ أو شاةٍ يعطيها صاحبُها لواحدٍ لينتفعَ بلَبنها وَوبَرِها زمانًا، ثم يردُّها. "الوَكُوف" بفتح الواو: الغزيرة اللَّبن، وقيل: التي لا ينقطع لَبنها جميعَ سَنَتِها. "والفَيء" بالرفع؛ أي: العطف والإحسان والشفقة. "على ذي الرَّحِم الظالم"؛ أي: الذي يظلم عليكم، والرواية المشهورة في (المِنحة) و (الفيء) بالنصب، على تقدير: وامنَحِ المِنحةَ وآثِرِ الفيءَ؛ ليتطابقَ العطفُ على الجملة السابقة. "فإن لم تُطِقْ ذلك فأَطعِمِ الجائعَ واسْقِ الظمآنَ"؛ أي: العطشانَ. "وأمرْ بالمعروف وانْهَ عن المُنكَر، فإن لم تُطِقْ ذلك فكُفَّ لسانَك"؛ أي: أَمسِكْه "إلا من خير". * * * 2532 - عن عمرِو بن عَبَسةَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن بنى مسجدًا ليُذكرَ الله

2 - باب إعتاق العبد المشترك وشراء القريب والعتق في المرض

فيهِ بنيَ له بيتٌ في الجنَّةِ، ومَن أَعْتَقَ نفساً مُسلِمةً كانتْ فِدْيَتَهُ مِن جهنمَ، ومَن شابَ شيبةً في سبيلِ الله كانتْ له نُوراً يومَ القيامةِ". "عن عمرو بن عَبَسَة: أن النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - قال: مَن بنى مسجداً ليُذكَرَ الله فيه بنيَ له بيتٌ في الجنة، ومَن أَعتقَ نفساً مسلمةً كانتْ فِديتَه من جهنم، ومَن شَابَ شيبةً في سبيل الله كانت له نوراً يومَ القيامة". * * * 2 - باب إعتاقِ العَبْدِ المُشتَرَك وشراءِ القريبِ والعتقِ في المَرَضِ (باب إعتاق العبد المشرك وشِرَاء القريب والعتق في المرض) مِنَ الصِّحَاحِ: 2533 - عن ابن عُمرَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَعتَقَ شِرْكًا لهُ في عَبْدٍ وكانَ لهُ مالٌ يبلغُ ثمنَ العبدِ، قُوِّمَ العبدُ عليهِ قيمةَ عدلٍ، فأَعْطى شُرَكاءَهُ حِصَصَهم وعَتَقَ عليه العَبْدُ، وإلا فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ". "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - عليه الصلاة والسلام - قال: مَن أَعتقَ شِركًا"؛ أي: حِصَّةً ونصيبًا "له في عبد"، نصفًا كان أو غيره. "وكان له"؛ أي: للمُعتِق. "مالٌ يَبلُغ ثمنَ العبد"؛ أي: ثمنَ باقيه. "قُوِّمَ العبدُ عليه قيمةَ عَدْلٍ"؛ أي: لا يُنقص من قيمة الوسط ولا يُزاد عليها.

"فأُعطِيَ شركاؤُه حِصَصَهم" جمع: حِصَّة، وهو النصيب أيضًا. "وعَتَقَ عليه العبدُ"، والولاءُ له. "وإلا"؛ أي: إنْ لم يكن له مالٌ يَبلُغ ذلك الثمنَ سوى حوائجِه الأصليةِ "فقد عَتَقَ منه ما عَتَقَ"؛ يعني: عتقَ نصيبُه فقط، ولا يُستسعَى العبدُ في فكِّه، وعليه الشافعي. * * * 2534 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَعْتَقَ شقْصاً من عبدٍ عَتَقَ كلُّه إنْ كانَ له مالٌ، فإن لم يكنْ لهُ مالٌ استُسعيَ العبدُ غيرَ مَشقوقٍ عليهِ". "وعن أبي هريرة: أن النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - قال: مَن أَعتَقَ شِقْصاً"؛ أي: نصيبًا. "في عبدٍ أُعتقَ" عليه. "كلُّه إن كان له مالٌ"، ويَضمَن قيمةَ نصيب شريكه. "وإن لم يكن له مالٌ استُسعِي العبدُ" على بناء المجهول؛ أي: طُولِبَ سعايةَ قيمةِ نصيب الآخر. "غيرَ مشقوقٍ عليه"؛ أي: حالَ كونِ العبد لا يُشَقُّ عليه بالزيادة مما قوَّمه عَدْلٌ. وقيل: معنى قوله: (استُسعي العبد)؛ أي: يُستخدم لسيده الذي لم يُعتق نصيبَه منه بقَدْر ما فيه الرِّقُّ، وقوله: (غير مشقوق عليه)؛ أي: غيرَ محمولٍ عليه بالخدمة فوقَ طاقته. * * *

2535 - عن عِمرانَ بن حُصَينٍ - رضي الله عنه -: أن رجلاً أعتقَ ستةَ مَمْلوكينَ لهُ عندَ مَوْتِهِ، لم يكنْ لهُ مالٌ غيرُهم، فدَعا بهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَزَّأَهم أَثلاثاً ثم أَقرَعَ بينَهم، فأَعْتَقَ اثنينِ، وأَرَقَّ أربعةً، وقالَ لهُ قولاً شديداً. "عن عمران بن حصين: أن رجلاً أَعتقَ ستةَ مملوكين" جمع: مملوك. "له عند موته، لم يكن له مالٌ غيرهم، فدعا بهم رسولُ الله - عليه الصلاة والسلام -، فجزَّأهم أثلاثًا"، تجزئة الشيء: قسمته؛ يعني: جعلَهم ثلاثةَ أجزاء؛ أي: باعتبار القيمة، وقيل: أي: جعلَهم اثنين اثنين اثنين. "ثم أَقرَعَ بينهم"، وكيفية القُرعة: أن يأخذ رِقَاعًا متساويةً ويكتبَ في إحداها: عِتقٌ، وفي اثنين: رقٌّ، وتُدرَج في شيء، ثم يُخرِج رقعةً منها باسم اثنين، فإن خرج العتق عَتَقَا، ورَقَّ الأربعةُ، وإنْ خرجَ الرقُّ رُقَّا، ثم يخرج رقعةً أخرى باسم اثنين منهم، فإنْ خرجَ العتقُ عَتَقَا وإلاَّ رقَّا وعتقَ الاثنان الأخيران، وعلى هذا: "فأَعتقَ اثنين وأرقَّ أربعةً، وقال له قولاً شديداً"؛ أي: تقريعًا على فعلِه. * * * 2536 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَجْزِي وَلَدٌ والِدَهُ إلا أنْ يَجِدَهُ مَملوكاً فيشتَرِيَهُ فيُعتِقَهُ". "وعن أبي هريرة: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: لا يَجْزِي ولدٌ والدَه"؛ أي: لا يقوم بجزاء حقِّه. "إلا أن يجدَه مملوكاً، فيَشتريَه، فيُعتقَه"؛ أي: يخلِّصَه بالشراء عن الرِّقِّ، والجمهور على عتقه بمجرد المُلك، من غير إنشاء عتق، والفاء للسببية. وقال بعض الظاهرية: لا يَعتِقُ بمجرد تملُّكه؛ لترتيب العتق على الشِّراء

بالفاء وهو للتعقيب، فيحتاج بعد الشراء إلى إنشائه، هذا في الأصول والفروع، وقد عمَّم الحُكمَ بعضُهم في كل ذي رَحِمٍ مَحْرَمٍ. * * * 2537 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن رجلاً من الأنصارِ دَبَّرَ مملوكاً ولم يَكُنْ لهُ مالٌ غيرُه، فبلغَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: مَن يَشتريهِ مِنِّي؟ فاشتراهُ نُعيمُ بن النَّحَّامِ العدويٌ بثمانمائةِ درهمٍ. وفي روايةٍ: فاشتراهُ نُعيمُ بن عبدِ الله العدويُّ بثمان مئةِ درهمٍ، فجاءَ بها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فدَفَعَها إليهِ، ثم قال: "ابدَأ بنفسِكَ فتَصَدَّق عليها، فإنْ فَضَلَ شيءٌ فلأِهلِكَ، فإنْ فَضَلَ عن أهلِكَ شيءٌ فَلِذي قرابَتِكَ، فإنْ فَضَلَ عن ذي قرابَتِكَ شيءٌ فهكذا وهكذا، يقولُ: فبَيْنَ يَدَيْكَ وعن يمينِكَ وعن شِمالك". "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن رجلاً من الأنصار دبَّر مملوكاً ولم يكن له مالٌ غيرُه، فبلغَ النبيَّ - عليه الصلاة والسلام -، فقال: مَن يشتريه مني؟ فاشتراه نُعَيم" - بضم النون وفتح العين على صيغة التصغير - "بن النَّحَّام بثمان مئةِ درهمٍ"، فيه: دليل على جواز بيع المدبر، وهو قول الشافعي وأحمد. "وفي رواية: فاشتراه نُعيم بن عبد الله العَدَوي بثمان مئة درهمٍ، فجاء بها"؛ أي: نُعيمٌ بثمان مئة درهم "رسولَ الله - عليه الصلاة والسلام -، فدفعَها إليه"؛ أي: إلى الرجل الأنصاري. "ثم قال: ابدأ بنفسك فتصدَّقْ عليها، فإنْ فضلَ شيءٌ فلأهلِك، فإنْ فضلَ عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإنْ فضلَ عن قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول: فبينَ يديك"؛ أي: تصدَّقْ بين يديك "وعن يمينك وعن شمالك". * * *

مِنَ الحِسَان: 2538 - عن الحسنِ، عن سَمُرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "من مَلَكَ ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ فهو حُرٌّ". "من الحسان": " عن سَمُرة، عن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: مَن مَلَكَ ذا رَحِمٍ مَحْرمٍ فهو حُرٌّ"، قلنا: هذا الحكم يعمُّ الولادَ وغيرَه، مثل الأخ والأخت، والعم والعمَّة، والخال والخالة، وخصَّه الشافعي بالوِلادِ، وافقنا مالك في الأخوة والأخوات. * * * 2539 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وَلَدت أَمَةُ الرَّجلِ منهُ فهي مُعتَقةٌ عن دُبُرٍ منهُ، أو بعدَه". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: إذا وَلَدَتْ أَمَةُ الرجلِ منه"؛ أي: من الرجل. "فهي مُعتَقةٌ عن دُبُرٍ منه"، دُبُر كل شيء: آخره، وهذا يدل على عتق أم الولد بموت سيدها. "أو بعده": شك من الراوي. * * * 2540 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: بِعْنا أُمَّهاتِ الأولادِ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكرٍ، فلمَّا كانَ عمرُ نهانا عنه فانتَهَيْنا. "عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: بِعْنَا أمهاتِ الأولادِ على عهد رسول الله - عليه

الصلاة والسلام - وأبي بكر"، العهد: الزمان. "فلما كان عمرُ نهانا عنه، فانتهينا": يُحمل هذا على الإباحة في الابتداء، ثم نُسخت بحديث ابن عباس ونحوه، ولم يَظهرِ النسخُ لجابرٍ ولا لبائعهن، ولم يعلم أبو بكر ببيعِ مَن باعَ في زمانه؛ لقصورِ مدةِ خلافته، واشتغاله بأمورِ الدِّينِ. ومحاربةِ المرتدِّين، ثم ظهر في عهد عمر - رضي الله عنه -، فنَهَى عنه. * * * 2541 - عن ابن عمَر - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أعتَقَ عبداً ولهُ مالٌ فمالُ العبدِ له إلا أنْ يشترِطَ السيدُ". "وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: مَن أَعتَقَ عبداً وله"؛ أي: للعبد "مالٌ"، واللام للاختصاص، والمراد به: ما في يدِه وحَصَلَ بكسبه. "فمالُ العبدِ له"؛ أي: لمَن أَعتقَه. "إلا أن يَشترطَ السيدُ" المُعتِق أنه للعبد، فيكون منحةً وتصدُّقاً منه عليه. * * * 2542 - وعن أبي المَلِيحِ، عن أبيه: أن رَجُلاً أعتقَ شِقْصاً مِن غلامٍ فذُكِرَ ذلكَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ليسَ للهِ شَريكٌ". "عن أبي المَلِيح، عن أبيه: أن رجلاً أَعتقَ شِقْصاً من غلامٍ، فذُكر ذلك للنبي - عليه الصلاة والسلام -، فقال: ليس لله شريك"؛ يعني: ينبغي أن يُعتقَ كلَّه، ولا يجعلَ نفسَه شريكًا له تعالى. * * *

2543 - عن سَفينَةَ قال: كنتُ مَملوكاً لأمِّ سَلَمَةَ فقالتْ: أُعتِقُكَ وأَشتَرِطُ عليكَ أنْ تخدُمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما عِشْتَ؟ فقلتُ لها: إنْ لَمْ تَشْتَرِطي عليَّ ما فارقتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما عِشتُ، فأعتقَتْني واشترطَتْ عليَّ. "عن سَفِينةَ أنه قال: كنتُ مملوكًا لأم سَلَمة، فقالت: أُعتقُك وأَشترطُ عليك أن تَخدُمَ رسولَ الله - عليه الصلاة والسلام - ما عشتَ"، (ما) هذه: للدوام. "فقلت: إن لم تشترطي عليَّ ما فارقتُ رسولَ الله - عليه الصلاة والسلام - ما عشتُ، فأَعتقتْني واشترطَتْ عليَّ": وهذا وعدٌ عُبرَ عنه بالشرط، ولا يلزم الوفاءُ به. * * * 2544 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُكاتَبُ عبدٌ ما بقي عليهِ مِن مُكاتَبَتِهِ درهمٌ". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال - عليه الصلاة والسلام -: المُكاتَب عبدٌ ما بقيَ عليه من كتابته"؛ أي: من بدل كتابته "درهم": أَطلقَ اسمَ العقد على البدل لملابسةٍ بينهما. * * * 2545 - عن أمِّ سَلَمَةَ قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ عندَ مُكاتَبِ إحداكُنَّ وَفاءٌ فلتَحْتَجبْ منه". "عن أم سَلَمةَ قالت: قال رسولُ الله - عليه الصلاة والسلام -: إذا كان عند مُكاتَبِ إحداكن وفاءٌ"، قيل: الخطاب لجماعة نسوة، والمراد بـ (الوفاء):

القدرة على أداء نجوم الكتابة. "فَلْتَحتجِبْ منه": وهذا محمول عند عامتهم على الورع والاحتياط؛ لأنه بصدد أن يعتقَ ساعةً فساعةً، بأن يؤدِّيَ نجومَ الكتابة. قيل: لعله - عليه الصلاة والسلام - قصد به منعَ المُكاتَبِ عن تأخير الأداء بعد التمكُّن، ليستديمَ جوازَ النظر إلى سيدته، فسدَّ - عليه الصلاة والسلام - عليه هذا البابَ. * * * 2546 - وعن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن كاتَبَ عبدَه على مائةِ أوقيةٍ فأدَّاها إلا عَشْرَ أواقٍ - أو قال: عَشْرةَ دنانيرَ، ثم عَجَزَ فَهُوَ رَقيقٌ". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: مَن كاتَبَ عبدَه على مئة أوقيةٍ، فأدَّاها إلا عشرةَ أواقٍ، أو قال: عشرةَ دنانيرَ، ثم عجزَ فهو رقيقٌ": وهذا يدل على أن عجزَ المُكاتَبِ عن أداء البعض كعجزهِ عن الكل، فللسيدِ فسخُ كتابته، فيكون رقيقًا كما كان، ويدل مفهوم قوله: (فهو رقيق) على أن ما أدَّاه يصير لسيده. * * * 2547 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أصابَ المُكاتبُ حدًّا أو ميراثاً وَرِثَ بحسابِ ما عَتَقَ منه". وقال: "يُؤدِّي المكاتَبُ بحصَّةِ ما أدَّى ديةَ حُرٍّ، وما بقي ديةَ عبدٍ"، ضعيف.

3 - باب الأيمان والنذور

"عن ابن عباس، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: إذا أصابَ المُكاتَبُ حدًّا"؛ أي: أمرًا موجبًا للحدِّ. "أو ميراثاً وُرِّثَ" - بصيغة المجهول وتشديد الراء - "بحساب ما عَتَقَ منه"، كما لو أدى نصفَ الكتابة، ثم مات أبوه وهو حرٌّ، ولم يخلِّف سواه، فإنه يَرِثُ منه نصفَ ميراثه. "وعنه قال: قال - عليه الصلاة السلام -: يُودِي المُكاتَبُ": بتخفيف الدال وصيغة المجهول، من: وَدَى يَدِي دِيَةً. "بحصَّةِ ما أدَّى دِيَةَ حرٍّ": نُصب على المفعول به لـ (يودي)، والأَولى جعلُه مفعولاً مطلقًا، ومفعول (أدى) عائد محذوف. "وما بقي دِيَةَ عبدٍ": عطف على معمولَي عاملين مختلفين؛ وهو الفعل المجهول وحرف الجر، والمعنى: أن المُكاتَبَ إذا جُني عليه وقد أدَّى بعضَ كتابته يدفع الجاني إلى وَرَثتِه بقَدْر ما أدَّاه من كتابته ديةَ حرٍّ، وإلى مولاه بقَدْر ما بقيَ منها ديةَ عبدٍ. "ضعيف": هذان الحديثان ليسا بمعمولٍ [بهما] عند الأئمة، إلا عند النَّخَعي وحدَه. * * * 3 - باب الأيمانِ والنذورِ (باب الأيمان والنذور) مِنَ الصِّحَاحِ: 2548 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنه قال: كان أكثرُ ما كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَحلِفُ:

"لا، ومُقَلِّبِ القلوبِ". "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: أكثرُ ما كانَ النبي - عليه الصلاة والسلام - يَحلِف: لا ومُقلِّبِ القلوبِ" أراد به اليمينَ، أو غيرَه مما يجري على الألسنة غالبًا، فإن أُريد به اليمينُ فهو يمينٌ في النفي، وإنما حَلَفَ بهذا؛ ليكونَ دليلاً على جواز الحَلِفِ بصفاته الأفعالية، كما يجوز بصفاته الذاتية. * * * 2549 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إن الله تعالى ينهاكمُ أن تحلِفُوا بآبائِكم، مَنْ كانَ حالِفاً فليحلِفْ بالله أو ليَصمُتْ". "عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - عليه الصلاة والسلام - قال: ألا": حرف تنبيه. "إن الله تعالى ينهاكم أن تَحلِفوا بآبائكم"؛ فإنهم كانوا يحلفون بآبائهم، ولا يَرَون به بأسًا، فنُهُوا عنه. "مَن كان حالفًا فَلْيَحلِفْ بالله أو لِيَصْمُتْ": وهذا لأنَّ الحلفَ يقتضي غايةَ تعظيمِ المحلوفِ به، والعظمةُ مختصةٌ بالله تعالى حقيقةً، فلا يُضاهَى به غيرُه، فيكون الحلفُ بغير الله مَنهيًّا، وأمَّا قَسَمُ الله ببعض مخلوقاته كالفجر ونحوه فعلى الإضمار؛ أي: وربِّ الفجر، أو لأنه يجوز للخالق القَسَمُ بمخلوقاته. * * * 2550 - وقال: "لا تَحلِفُوا بالطَّواغي ولا بآبائِكم". "وعن عبد الرحمن بن سَمُرة قال: قال - عليه الصلاة والسلام -:

لا تَحْلِفُوا بالطَّوَاغي" جمع: طاغية، وهي ما يعبدونه من الصنم وغيره؛ لأنها يُطغَى بها، ويروى: "بالطواغيت" جمع: طاغوت، وهو الشيطان، أو تزيينُه عبادةَ الصنم. "ولا بآبائكم". * * * 2551 - وقال: "من حلفَ وقال في حَلفِهِ: بِاللاّتِ والعُزَّى، فليقل: لا إله إلا الله، ومَن قال لصاحِبه: تعالَ أُقامِرْكَ، فلْيَتَصدَّقْ". "وعن أبي هريرة قال: قال - عليه الصلاة والسلام -: مَن حَلَفَ وقالَ في حلفه: باللاَّت": اسم صنم لثَقِيف. "والعُزَّى": اسم صنم لسُلَيم وغَطَفَان. "فَلْيقلْ: لا إله إلا الله": الأمر فيه للوجوب إن كان حلفُه بهما لكونهما معبودتَين؛ لأنه صار كافراً، وللندب إن كان حلفَ لغير ذلك، واحلِفُ بالأصنام لا ينعقد يمينًا اتفاقًا، لكن عند أبي حنيفة: عليه كفَّارةٌ كما في الظِّهار؛ لكونه مُنكَراً من القول وزُوراً. وقال الشافعي ومالك: لا كفارةَ فيه؛ لعدم ذكرها في الحديث. "ومَن قال لصاحبه: تَعَالَ أُقَامِرْك" بالجزم: جوابًا لقوله: (تعالَ)؛ لأن فيه معنى الشرط، تقديره: إن تأتِني أُقامِرْك. "فَلْيتصدَّقْ"؛ أي: بالمال الذي يريد أن يُقامِرَ به، وقيل: أي: تصدَّقُة من ماله كفارةٌ لِمَا جرى على لسانه وانبعثَ إليه قلبُه. * * *

2552 - وقال: "من حلَفَ على مِلَّةٍ غيرِ الإسلامِ كاذِباً فهوَ كما قالَ، وليسَ على ابن آدمَ نذرٌ فيما لا يملِكُ، ومَن قتلَ نفسَه بشيءٍ في الدُّنيا عُذِّبَ بهِ يومَ القيامةِ، ومَن لعنَ مُؤْمِناً فهو كقتلِهِ، ومَن قَذَفَ مؤمناً بكفرٍ فهوَ كقتلِهِ، ومَن ادَّعى دَعْوَى كاذِبةً ليَتَكَثَّر بها، لم يَزِدْهُ الله إلا قِلَّةً". "عن ثابت بن ضحاك قال: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: مَن حَلَفَ على مِلَّةٍ غيرِ مِلَّةِ الإسلامِ كاذباً": حال عن ضمير (حلف)، بأن يقول: إن أفعلْ كذا فأنا يهوديٌّ أو نصرانيٌّ. "فهو كما قال"، عملَ الشافعيُّ بظاهر الحديث وقال: يَكفُر إن فعلَ ذلك. وقال الحنفيُّون: لا يَكفُر، فحملوا الحديثَ على التهديد، وإن علَّقَه بالماضي اختلف الحنفية فيه؛ قال بعض: لا يَكفُر اعتبارًا بالمستقبل، وقيل: يَكفُر. والصحيح: أنه لا يَكفُر إن كان يَعلَم أنه يمينٌ، وإن كان عندَه أنه يَكفُر بالحلف يَكفُر؛ لأنه رضيَ بالكفر. "وليس على ابن آدم نذرٌ فيما لا يَملِك"، مثل أن يقول: لو شَفَى الله مرضي فسالمٌ حرٌّ، وهو ليس في ملكه. "ومَن قَتلَ نفسَه بشيءٍ في الدنيا عُذِّب به"؛ أي: بذلك الشيء "يومَ القيامة، ومَن لَعَنَ مؤمناً فهو"؛ أى: لعنُه إياه "كقتلِه" في التحريم أو العقاب، وإنما شبَّه اللعنَ بالقتل؛ لأنه إذا قْتلَه أَذهبَ عيشَه الدنيويَّ بإزهاقِ روحِه، وإذا لعنَه أَذهبَ عِرضَه بلعنِه؛ فإذهابُ عِرضه كإذهابِ نفسِه، وكلاهما يُوجِب الإثمَ. "ومَن قذفَ مؤمناً بكفرٍ فهو"؛ أى: قذفَه إياه بذلك "كقتلِه"؛ لأن الكفرَ من أسباب القتل، فكان الرمىُ به كالقتل.

"مَن ادَّعى دعوى كاذبةً ليتكثَّر بها"؛ أي: ليحصلَ له بدعواه الكاذبةِ مالٌ كثيرٌ. "لم يَزدْه الله إلا قلةً"؛ أي: لم يحصل له إلا قليلٌ من المال، وكذا مَن ادَّعى عِلماً ليس عنده، أو زهداً ونحوه. * * * 2553 - وقال: "إني والله، إنْ شاءَ الله، لا أَحلِفُ على يمينٍ فأَرى غيرَها خيراً منها إلاَّ كَفَّرْتُ عن يميني وأَتيتُ الذي هو خيرٌ". "وقال أبو موسى: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: إني والله إن شاء الله": هذا يمينٌ وشرطٌ على قوله: "لا أحلفُ على يمينٍ، فأرى غيرَها خيراً منها، إلا كفَّرت عن يميني، وأتيتُ الذي هو خير": وهذا يدل على أن المندوبَ الحِنْثُ والتكفيرُ فيما هو خير، وإلا فحِفظُ اليمينِ أَولى؛ لقوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89]؛ أي: عن الحِنْثِ. * * * 2554 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن سَمُرةَ - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبدَ الرحمنِ بن سَمُرةَ: لا تسألِ الإمارةَ، فإنَّك إنْ أُوتيتَها عن مسألةٍ وُكلْتَ إليها، وإنْ أُوتيتَها عن غيرِ مسألةٍ، أُعِنتَ عليها، وإذا حلفتَ على يمينٍ فرأيتَ غيرَها خيراً منها، فكفِّرْ عن يمينِكَ وَائْتِ الذي هو خيرٌ". وفي روايةٍ: "فائتِ الذي هوَ خيرٌ وكفِّرْ عن يمينِكَ". "عن عبد الرحمن بن سَمُرة قال: قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: يا عبدَ الرحمن بن سَمُرة! لا تَسألِ الإمارةَ"؛ أي: لا تَطلبِ الحكمَ والولايةَ. "فإنك إنْ أُوتيتَها"؛ أي: أُعطيتَ الإمارَة.

"عن مسألةٍ"؛ أي: عن سؤالٍ. "وُكِلْتَ إليها" على بناء المجهول وتخفيف الكاف؛ أي: خُلِّيتَ والإمارةَ، ولم تُعَنْ على حكمك. "وإن أُوتيتَها عن غير مسألةٍ أُعِنْتَ عليها" على بناء المجهول؛ أي: أعانك الله على تلك الإمارةِ، وحفظَك عن الإثمِ فيها. "وإذا حلفتَ على يمينٍ، فرأيتَ غيرَها خيراً منها": كما إذا حلفَ ألا يُكلِّمَ والدَه. "فكفِّرْ عن يمينك وائتِ الذي هو خير": وهذا يدل على جواز تقديم الكفارة على الحِنْثِ، وبه قال الشافعي وأحمد. "وفي رواية: فائتِ الذي هو خيرٌ وكفِّرْ عن يمينك": وهذا يدل على جواز تقديم الحِنْثِ على الكفارة، وبه قال أبو حنيفة. * * * 2555 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن حَلَفَ على يمينٍ فرأَى غيرَها خيراً منها فليُكَفِّرْ عن يمينِه وليفعلْ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال: مَن حَلَفَ على يمينٍ، فرأى غيرَها خيرًا منها، فَلْيُكفِّرْ عن يمينِه وَلْيفعَلْ"، والخلاف في التكفير بالمال؛ لأن التكفير بالصوم لا يجوز تقديمُه على الحِنْثِ عند الشافعي أيضًا. * * * 2556 - وقال: "والله لأنْ يَلِجَّ أحَدُكم بيمينهِ في أهلِه، آثَمُ لهُ عندَ الله من أنْ يُعطيَ كفَّارتَه التي افترضَ الله عليهِ".

"وعنه أنه قال: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: والله لأَنْ يلجَ": اللام للابتداء. "أحدُكم بيمينه في أهله"؛ يعني: إقامتُه على اليمين لجاجًا مع أهله، بأن حلفَ ألا يفعلَ الشيءَ الفلانيَّ، ويعرفُ أن ذلك الشيءَ خيرٌ من إقامته على يمينه، ثم لَجَّ مع أهله، ولا يفعل ذلك تعلُّلاً باليمين. "آثَمُ له": أفعل تفضيل خبر (لأن يلج)؛ أي: أكثرُ إثمًا. "عند الله من أن يُعطيَ كفارتَه التي افتَرضَ الله عليه"، ولم يُرِدْ بذلك أن في تكفير تلك اليمين إثمًا حتى يكونَ في تركه أشدَّ، بل المراد: أمره بالتحلُّل بالكفارة إذا كان الفعلُ خيراً. * * * 2557 - وقال: "يمينُك على ما يُصدِّقُكَ عليهِ صاحبُكَ". "وعنه، عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: يمينُك على ما يُصدّقك عليه صاحبُك"؛ أي: يمينُك واقع على ذلك، لا يؤثّر فيها توريةٌ، بل العِبرُة فيها قصدُ المُستحلِف إن كان مستحقًّا لها، وإلا فالعِبرةُ بقصدِ الحالفِ، فله التوريةُ. * * * 2558 - وقال: "اليمينُ على نِيَّةِ المُسْتَحلِفِ". "وعنه عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال: اليمينُ على نيةِ المُستحلِف"؛ أي: النظرُ والاعتبارُ في اليمين على نية طالبِ الحلفِ، فإنْ أَضمرَ الحالفُ تأويلاً على نية المُستحلِف لم يتخلَّصْ من الحِنْثِ، وبه قال أحمد وإسحاق.

ورُوي عن إبراهيم النَّخَعي أنه قال: إن كان المُستحلِفُ ظالمًا فيه فهو على نية الحالف، وإن كان مظلومًا فعلى نية المُستحلِف، وقيل: على نية المُستحلِف مطلقًا. * * * 2559 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنها قالت: لَغْوُ اليمينِ قولُ الإنسانِ: لا والله، وبَلَى والله، ورفَعَهُ بعضُهم عن عائشةَ رضي الله عنها. "وعن عائشة قالت: لَغْوُ اليمينِ قولُ الإنسان: لا والله، وبلى والله" من غير أن يعتقدَ به قلبُه، كما هو عادة العرب في المكالمة؛ لا يُؤاخَذُ به، وهو مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة: لَغُو اليمينِ: عبارةٌ عن الحَلِف على شيءٍ مضى وهو كاذبٌ فيه، ويظن أنه صادقٌ، فلا كفارةَ فيه ولا إثمَ. "ورفعَه بعضُهم عن عائشة"؛ أي: أسندَه إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - برواية عائشة. * * * مِنَ الحِسَان: 2560 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحلِفوا بآبائِكم ولا بأُمَّهاتِكم ولا بالأندادِ، ولا تحلِفوا إلاَّ بالله، ولا تحلِفوا بالله إلاَّ وأنتم صادِقون". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تَحْلِفُوا بآبائكم

ولا بأمهاتِكم ولا بالأندادِ": وهي شركاء لله تعالى عنه علوًا كبيرًا، وهي الطواغي وما يُضاهِيها. "ولا تَحْلِفُوا إلا بالله، ولا تَحْلِفُوا بالله إلا وأنتم صادقون". * * * 2561 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن حَلَفَ بغيرِ الله فقد أَشْرَكَ". "عن ابن عمر أنه قال: سمعتُ رسولَ الله - عليه الصلاة والسلام - يقول: مَن حلفَ بغير الله"، معناه: معتقداً تعظيمَ ذلك الغير. "فقد أَشركَ"؛ لأنه أشركَ المحلوفَ به مع الله في التعظيم المختصِّ به، وإلا فلا بأسَ، كقوله: لا وأبي، ونحو ذلك، كما جرت به العادة. * * * 2562 - عن بُرَيدةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن حَلَفَ بالأَمانةِ فليسَ منا". "وعن بُريدة قال: قال - عليه الصلاة والسلام -: مَن حَلَفَ بالأمانة فليس منا"؛ أي: ممن اقتدى بطريقتنا، كرهَ - عليه الصلاة والسلام - الحَلِفَ بالأمانة؛ لعدم دخولها في أسمائه تعالى وصفاته، ولأنها من عادة أهل الكتاب. وقيل: أراد بـ (الأمانة): الفرائض؛ أي: لا تحلفوا بالصلاة والحج ونحوها، ولا كفارةَ في هذا الحَلِفِ اتفاقًا، أما لو قال: وأمانةِ الله! كان يمينًا عند أبي حنيفة دون الشافعي، ولعله جعل الأمانةَ من الصفات، فقد قيل: الأمين من أسمائه تعالى، أو المراد بأمانة الله: كلمة الله، وهي كلمة التوحيد. * * *

2563 - وعن بُرَيدةَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قالَ: إني بريءٌ مِن الإِسلامِ، فإنْ كان كاذِبًا فهوَ كما قالَ، وإنْ كانَ صادِقاً فلنْ يَرْجِعَ إلى الإسلامِ سالِمًا". "وعن بُريدة قال: قال - عليه الصلاة والسلام -: مَن قال: إني بريءٌ من الإسلام؛ فإن كان كاذباً فهو كما قال": وهذا يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما جعلَ عقوبتَه في دِينهِ دونَ مالِه. "وإن كان صادقًا فلن يرجعَ إلى الإسلام سالمًا"، قيل: هذا قريبٌ من اليمين بالأمانة، وقيل: يجوز أنه زعم أنه صادقٌ، وليس بصادقٍ في الحقيقة. * * * 2564 - وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اجتَهَدَ في اليمينِ قالَ: لا، والذي نفسُ أبي القاسمِ بيدِهِ". "عن أبي سعيد الخُدري أنه قال: كان - عليه الصلاة والسلام - إذا اجتهد في اليمين"؛ أي: بالَغَ فيها. "قال: لا"؛ أي: ليس كذلك. "والذي نفسُ أبي القاسم بيده". * * * 2565 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: "كانتْ يمينُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا حلفَ: لا، وأستغفِرُ الله". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: كانت يمينُ رسولِ - عليه الصلاة والسلام - إذا حلفَ: لا، وأستغفر الله": قيل: كان - عليه الصلاة والسلام - إذا حلفَ يمينَ

فصل في النذور

اللَّغو في أثناء المحاورات، كقولهم: لا والله، وبلى والله، استدركَه بذلك نافياً كونَه يمينًا معقوداً عليه. وقيل: معناه: أستغفر الله إن كان الأمرُ على خلاف ذلك، وسَمَّاه يميناً مجازاً، وقيل: الظاهر أن قوله: (لا، وأستغفر الله) كان حَلِفًا صادراً منه على سبيل اللَّغو. * * * 2566 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن حلفَ على يمينٍ فقالَ: إنْ شاءَ الله، فلا حِنْثَ عليهِ"، وَوَقَفَهُ بعضُهم على ابن عمرَ - رضي الله عنهما - "عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - عليه الصلاة والسلام - قال: مَن حلفَ على يمينٍ فقال"؛ أي: عقيبَ حلفِه متصلاً: "إن شاء الله، فلا حِنْثَ عليه"؛ للاستثناء. "ووقفَه بعضُهم على ابن عمر". * * * فصل في النُّذورِ (فصل في النذور) مِنَ الصِّحَاحِ: 2567 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَنْذُروا فإنَّ النَّذرَ لا يُغْني من القَدَرِ شيئًا، وإنما يُستَخرَجُ بهِ مِن البخيلِ".

"من الصحاح": " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: لا تَنْذُرُوا، فإن النذرَ لا يُغني من القَدَر شيئاً": وهذا يدل على أن النذرَ المَنهيَّ ما يُقصَد به تحصيلَ غرض، أو دفعَ مكروهٍ على ظنِّ أن النذرَ يردُّ عن القَدَر شيئًا، وليس مُطلَقُ النذرِ مَنهيًّا؛ لأنه لو كان كذلك لَمَا لزمَ الوفاءُ به، وقد أجمعوا على لزومه إذا لم يكن المنذورُ معصيةً، يدل عليه قولُه: "وإنما يُستخرَج به"؛ أي: يخرج المالُ بواسطة النذر "من البخيل"؛ لأن غيرَ البخيلِ يُعطي باختياره بلا واسطة النذر. * * * 2568 - وقال: "مَن نذرَ أنْ يُطيعَ الله فلْيُطِعْهُ، ومَن نذرَ أنْ يَعصيَهُ فلا يَعصِه". "وعن عائشة قالت: قال رسول الله - عليه الصلاة والسلام -: مَن نَذَرَ أن يطيعَ الله فَلْيُطِعْه، ومَن نذرَ أن يَعصيَه فلا يَعصِه"، فيه: دليل على أن مَن نذرَ طاعةً يلزمُه الوفاءُ به، وإن لم يكن معلَّقاً بشيءٍ، وأنَّ مَن نذرَ معصيةً فلا يجوز له الوفاءُ، كصومِ يومِ العيدِ ونحرِ ولدِه، ولا يلزمُه الكفارةُ أيضاً عند الشافعي. * * * 2569 - وقال: "لا وفاءَ لنذْرٍ في مَعصِيةٍ، ولا فيما لا يَملِكُ العبدُ". وفي روايةٍ: "لا نذْرَ في معصيةِ الله". "عن عمران بن حُصين قال: قال - عليه الصلاة والسلام -: لا وفاءَ لنذرٍ في معصيةٍ، ولا فيما لا يَملِك العبدُ": فُسِّر ذلك بنذرِ صومِ يوم العيد ونحرِ ولدِه، والأَولى تفسيرُه بأن نَذَرَ عتقَ عبدٍ ليس في ملكِه، ونحو ذلك.

"وفي رواية: لا نذرَ في معصيةِ الله". * * * 2570 - وقال: "كفَّارةُ النَّذرِ كفَّارةُ اليمينِ". "وعن عقبة بن عامر قال: قال - عليه الصلاة والسلام -: كفَّارةُ النذرِ كفَّارةُ اليمينِ"، وبه قال أبو حنيفة، وفيه حُجَّة على الشافعي. * * * 2571 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: قال: بينا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يخطُبُ إذا هو برجلٍ قائمٍ فسألَ عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيلَ، نذرَ أنْ يقومَ ولا يقعدَ، ولا يَستظِلَّ، ولا يتكلَّمَ، ويصومَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مُرْهُ فليتكلَّمْ وليستظِلَّ وليَقعُدْ، ولْيُتِمَّ صَوْمَهُ". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال: بينا رسولُ الله - عليه الصلاة والسلام - يَخطُبُ، إذا هو برجلٍ قائمٍ، فسأل عنه"؛ أي: النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - عن الرجلِ. "فقالوا: أبو إسرائيل، نَذَرَ أن يقومَ ولا يقعدَ ولا يستظلَّ ولا يتكلَّمَ ويصومَ": سؤالُه - عليه الصلاة والسلام - عنه إما سؤالٌ عن اسمِهِ؛ ولذلك أُجيب به وزِيدَ عليه، أو عن حالِه؛ فأُجيب به وزِيدَ باسمه، أو عنهما؛ فأُجيب بهما. وقيل: إنما سألَ عن علَّة انتصاب الرجل، دون اسمه؛ لأنه رجلٌ من قريش، فاشتبه على السامعين، فلم يدروا عن أي الأمرَين يسأل، فأَخبروا بهما جميعًا. "فقال - عليه الصلاة والسلام -: مُرُوه فَلْيتكَّلمْ وَليَستظلَّ وَلْيقعُدْ وَلْيُتمَّ

صومَه"، أمرُه - عليه الصلاة والسلام - إياه بوفاء الصوم دونَ ما عداه: يدلُّ على صحة نذرِ القُربة دونَ غيرها. * * * 2572 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى شيخاً يُهادَى بين ابنيْهِ فقال: "ما بالُ هذا؟ " قالوا: نذرَ أنْ يمشيَ، قال: "إنَّ الله - عز وجل - عَنْ تَعْذِيب هذا نَفْسَهُ لَغَنِيٌّ"، وأَمَرَهُ أنْ يركبَ. وفي روايةٍ: "اركبْ أيُّها الشَّيخُ، فإنَّ الله غنيٌّ عنكَ وعن نذرِك". "وعن أنس: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - رأى شيخاً يُهَادَى بين ابنيه"؛ أي: يمشي معتمداً عليهما من الضعف؛ لأجلِ نذرِه ماشيًا إلى بيت الله. "فقال: ما بالُ هذا؟ قالوا: نَذَرَ أن يمشيَ إلى البيت، قال: إن الله - عز وجل - عن تعذيبِ هذا نفسَه لَغنيٌّ، وأَمَرَه أن يَركبَ"، عملَ الشافعيُّ - رحمه الله - بظاهر الحديث وقال: لا دمَ عليه. وقال أبو حنيفة، وهو أحدُ قولَي الشافعي: عليه دمٌ؛ لأنه أَدخلَ نقصًا في الواجب بعدم وفائه كما التزمَه. "وفي رواية: اركبْ أيها الشيخُ؛ فإن الله غنيٌّ عنك وعن نذرِك". * * * 2573 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: أن سعدَ بن عُبادَةَ استفْتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نذرٍ كانَ على أُمِّهِ، فتُوفِّيَت قبلَ أنْ تَقْضيَه؟ فأَفتَاه بأنْ يَقضيَه عنها. "عن ابن عباس: أن سعدَ بن عُبادةَ استَفْتَى النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - "؛ أي: طلبَ الفتوى منه.

"في نذرٍ كان على أُمِّه، فتُوفِّيتْ"؛ أي: ماتتْ. "قبلَ أن تقضيَه، فأفتاه أن يقضيَه عنها"، قيل: هذا يدلُّ على أن مَن ماتَ، وعليه نذرٌ أو كفارةٌ، يجب قضاؤُها من رأس المال مقدَّمًا على الوصايا والميراث، كقضاء الديون، أوصى بها أو لا، وبه قال الشافعي. وعندنا: لا يُقضَى ما لم يُوصِ بها، فإن أوصى يُقضَى من الثلاث. * * * 2574 - وعن كعبِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: قلتُ يا رسولَ الله: إنَّ مِن تَوْبَتي أنْ أنخلِعَ مِن مالي صدقةً إلى الله وإلى رسولهِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمسِكْ بعضَ مالِكَ فهو خيرٌ لكَ"، قلتُ: فإني أُمسِكُ سَهْمي الذي بخيبرَ. "عن كعب بن مالك": وهو واحد الثلاثة الذين تخلَّفوا عنه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تَبُوك، والآخران مرارة بن الربيع وهلال بن أمية، فنزل في حقِّهم: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: 118] الآية، ثم ندموا من سوء صنيعهم ذلك، فتابوا، فقُبلَتْ توبتُهم بعد أيام، فأراد كعبٌ أن يتصدَّق بجميع ماله شكرًا لله. "قال: قلت: يا رسولَ الله! إن من توبتي"؛ أي: من تمامِها. "أن أَنخلَع من مالي"؛ أي: أتجرَّد منه. "صدقةً إلى الله وإلى رسوله"، كما يتجرَّد الإنسانُ وينخلع من ثيابه. "فقال رسولُ الله - عليه الصلاة والسلام -: أَمسِكْ بعضَ مالك؛ فهو خيرٌ لك، قلت: فإني أُمسكُ سَهْمِي الذي بخيبر" من العقار وغيره. * * *

مِنَ الحِسَان: 2575 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نذرَ في معصيةِ الله، وكفَّارتُه كفارةُ اليمينِ". "من الحسان" "عن عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا نذرَ في معصيةِ الله، وكفَّارتُه كفارةُ اليمين": تقدم بيانه. * * * 2576 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ نَذَرَ نَذْراً لم يُسَمِّهِ فكفّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذراً في معصيةٍ فكفَّارتُه كفارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذْراً لا يُطيقُه فكفَّارتُه كفَّارةُ يمينٍ، ومَن نَذَرَ نَذْراً أَطَاقَهُ فَلْيَفِ بهِ"، ووقَفه بعضُهم على ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -. "عن ابن عباس: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن نَذَرَ نذراً لم يُسمِّه"؛ أي: لم يُسمِّ شيئًا، بل نَذَرَ نذراً مطلقًا. "فكفارتُه كفارةُ يمين، ومَن نَذَرَ نذرًا في معصيةٍ فكفارتُه كفارةُ يمين، ومَن نَذَرَ نذرًا لا يطيقه فكفارتُه كفارةُ يمين، ومَن نَذَرَ نذراً يُطيقُه فَلْيَفِ به": أمرٌ من الوفاء. "ووقفَه بعضُهم على ابن عباس". * * * 2577 - عن ثابتِ بن الضَّحَّاك: أنه قال: أتَى رَجُلٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: إني نذرتُ أنْ أَنحر إبلاً ببُوانَةَ قال: "أكان فيها وَثَنٌ مِن أَوثانِ الجاهليةِ يُعْبَدُ؟ " قالوا:

لا، قال: "فهلْ كانَ فيها عيدٌ مِن أعيادِهم؟ " قالوا: لا، قال: "أَوْفِ بنذرِكَ فإنه لا نَذْرَ في معصيةِ الله، ولا فيما لا يملِكُ ابن آدمَ". "عن ثابت بن الضحَّاك أنه قال: أتى رجلٌ إلى النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال: إني نذرتُ أن أنحرَ إبلاً ببُوَانة": بضم الباء وتخفيف الواو: موضع في أسفل مكة دونَ يَلَمْلَم، وقد جاء محذوف التاء أيضًا. "قال: أكانَ فيها وَثَنٌ من أوثان الجاهلية يُعبَد؟ قالوا: لا، قال: فهل كان فيها عيدٌ من أعيادهم؟ قالوا: لا، قال: أَوفِ بنذرك": وهذا يدل على أن مَن نَذَرَ أن يُضحِّيَ بمكانٍ معينٍ صحَّ نذرُه ولزمَه الوفاءُ. "فإنه لا نذرَ في معصية الله، ولا فيما لا يَملِك ابن آدم". * * * 2578 - وعن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إني نَذَرتُ أنْ أَضرِبَ على رأسِكَ بالدُّفِّ؟ قال: "أَوْفي بنذرِكِ"، قالت: إني نذرتُ أنْ أذبَحَ بمكانِ كذا وكذا - بمكانٍ كانَ يذبحُ فيهِ أهلُ الجاهليةِ، قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: الِصَنَمٍ؟ " قالت: لا، قال: "أَوْفي بنذرِك". "وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أن امرأةً قالت: يا رسولَ الله! إني نَذرتُ أن أضربَ على رأسك بالدُّفِّ، قال: أوف بنذرِك"، قال الخطابي: ضربُ الدُّفِّ ليس من القُربات التي وجب على الناذر الوفاءُ به، بل من المباحات، كأكل الأطعمة اللذيدة ولبس الثياب الناعمة وغير ذلك، ولكنه - عليه الصلاة والسلام - أمرَها بالوفاء به؛ نظرًا إلى قصدِها الصحيحِ، الذي هو إظهارُ الفرح والسرور بمَقْدَمه - عليه الصلاة والسلام - سالمًا غانمًا مُظفَّرًا على الأعداء. "قالت: إني نَذرتُ أن أذبحَ بمكان كذا وكذا، لمكانٍ كان يَذبَح فيه أهلُ

الجاهلية، قال: لصنمٍ؟ قالت: لا، قال: أوفِ بنذرك". * * * 2579 - عن أبي لُبابَةَ: أنَّه قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ مِن تَوْبَتِي أنْ أَهْجُرَ دارَ قَوْمي التي أَصبتُ فيها الذنبَ، وأنْ أنخلِعَ مِن مالي كلِّه صَدَقةً، قال: "يُجْزِئ عنكَ الثُّلُثُ". "عن أبي لُبابة أنه قال للنبي - عليه الصلاة والسلام -: إن من توبتي أن أَهْجُرَ"؛ أي: أَتركَ "دارَ قومي التي أَصبتُ"؛ أي: وجدتُ "فيها الذنبَ"، وإنما قال هذا؛ فراراً عن موضعٍ غلبَ عليه الشيطانُ بالذنب، وذَنْبُه كان مناصحتَه ليهود بني قُريظة؛ لمَّا أن عيالَه وأموالَه كانت في أيديهم، فنزلت في حقِّه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] فشدَّ نفسَه على ساريةٍ من سواري المسجد وقال: لا أذوقُ طعامًا ولا شرابًا حتى أموتَ، أو يتوبَ الله عليَّ. فمكثَ سبعة أيام حتى خرَّ مغشيًا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تِيَب عليك، فحُلَّ نفسَك، فقال: لا، والله لا أحلُّها حتى يكونَ رسولُ الله - عليه الصلاة والسلام - هو الذي يحلُّني، فجاء - عليه الصلاة والسلام - فحلَّه بيده. "وأن أنخلعَ من مالي كلَّه صدقةً" شكرًا لقَبول توبتي. "قال: يُجزِئ"؛ أي: يَكفي "عنك الثلثُ"، وفيه: دليل الصوفية على إثبات الغرامة على أن من يذنب ذنبًا في الطريقة، ثم يستغفر. * * * 2580 - عن جابرِ بن عبدِ الله - رضي الله عنه -: أن رجلاً قالَ يومَ الفتح: يا رسولَ الله! إني نذرتُ إنْ فتحَ الله عليكَ مكَّةَ أنْ أُصلِّيَ في بيتِ المَقْدسِ ركعتينِ،

فقالَ: "صلِّ هاهنا"، ثم أَعادَ عليهِ فقال: "صل هاهنا"، ثم أَعادَ عليهِ فقالَ: "شَأنُكَ إذًا". "عن جابر بن عبد الله: أن رجلاً قال يومَ الفتح: يا رسولَ الله! إني نَذرتُ إنْ فتحَ الله عليك مكةَ أن أصلِّيَ في بيت المقدس ركعتين، قال: صلِّ هاهنا"، فيه: دليل على أن الصلاةَ في مكةَ أفضلُ منها في بيت المقدس. "ثم أعاد عليه "فقال: صلِّ هاهنا": نبَّهه - صلى الله عليه وسلم - على الأكمل مرتين، فلم يَقبَل، "ثم أعاد عليه فقال": تفويضًا الأمرَ إليه: "شأنك": نُصب بـ (الزم)؛ أي: الزمْ شأنَك. "إذًا": جوابًا لقوله: (نذرت) هناك، وجزاء المقدَّر هنا تقديره: إذا صلَّيتَ هناك فقد خَرجتَ عن عُهدة نَذرِك. * * * 2581 - وعن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن أختَ عُقْبَةَ بن عامرٍ نَذَرت أنْ تحُجَّ ماشيةً فسُئل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وقيلَ إنها لا تطيقُ ذلكَ، فقال: "إنَّ الله لغنيٌّ عن مَشْي أُختِكَ، فلتَرْكبْ ولتُهْدِ بَدَنَةً". وفي روايةٍ: "فأمَرَها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ تَرْكَبَ وتُهدِيَ هَدْيًا". وفي روايةٍ: قالَ النبيٌّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله لا يَصْنَعُ بشقاءِ أختِكَ شيئًا، فلْتَحُجَّ راكِبَةً وتُكَفِّرَ يمينَها". "عن عكرمة، عن ابن عباس: أن أختَ عقبة بن عامر نذرتْ أن تحجَّ ماشيةً، فسُئل النبيُّ - عليه الصلاة والسلام، وقيل: إنها"؛ أي: أختَ عقبةَ "لا تُطيق ذلك"؛ أي: الحجَّ ماشيًا.

"فقال: إن الله لغَنيٌّ عن مشي أختك، فَلْتَركَبْ": الفاء فيه جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ؛ يعني: إذا عجزتْ عن المشي فَلْتَركَبْ. "وَلْتُهْدِ"؛ أي: لِتُرسِلْ. "بَدَنةً" إلى مكة. "وفي رواية: فأَمرَها النبي - عليه الصلاة والسلام - أن تركبَ وتُهدِيَ هَدْيًا". "وفي رواية: قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: إن الله لا يصنع بشقاءِ أختكِ"؛ أي: بتعبها ومشقتِها "شيئاً؛ فَلْتَحُجَّ راكبةً": الفاءُ جوابُ شرط مقدَّرٍ أيضًا. "وتُكفِّرْ عن يمينها"، وفي بعض النسخ: "وَلْتُكفِّرْ". * * * 2582 - ورُوي: أن عُقْبَةَ بن عامرٍ - رضي الله عنه - سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أُختٍ له نذرَتْ أنْ تَحُجَّ حافيةً غيرَ مُخْتمِرَةٍ؟ فقال: "مروها فلْتَخْتَمِرْ ولتَركبْ، ولتَصمْ ثلاثةَ أيامٍ". "ورُوي: أن عقبةَ بن عامر سأل النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - عن أختٍ له نذرتْ أن تحجَّ حافيةً": حال من ضمير (تحج). "غيرَ مُختمِرةٍ": حال بعد حال منه. "فقال: مُرُوها فَلْتَختمِرْ وَلْتَركبْ، وَلْتَصُمْ ثلاثةَ أيام": أمَّا أمرُه - عليه الصلاة والسلام - إياها بالاختمار والاستتار فلأنَّ النذرَ لم ينعقد فيه؛ لأن ذلك معصيةٌ منها، وأمَّا نذرُها المشيَ حافيةً فالمشيُ قد يصحُّ فيه النذرُ، وعلى

صاحبه أن يمشيَ ما قَدِرَ عليه، وإذا عجزَ ركبَ وأَهدى هَدْيًا، فلعلها عجزتْ حتى أمرَها بالركوب، وأمَّا أمرُه بصيام ثلاثة أيام بدلاً من الهَدْي فخُيرتْ فيه كما خُير قاتلُ الصيد بين الفداء بمِثلِه إن كان له مِثل، وبين تقويمه وشراء طعام بقيمته وإطعام المساكين، وبين الصيام عن كل مُدٍّ يومًا. * * * 2583 - وعن سعيدِ بن المُسيبِ: أن أَخَوَيْنِ مِن الأنصارِ كانَ بينَهما ميراثٌ فسألَ أحدُهما صاحبَهُ القِسْمَةَ فقال: إنْ عُدْتَ تسألُني القِسْمَةَ فكلُّ مالي في رِتاجِ الكعبةِ، فقالَ لهُ عمرُ - رضي الله عنه -: إنَّ الكعبةَ غنيةٌ عن مالِكَ، كفِّرْ عن يمينِكَ وكلِّم أخاكَ، فإنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا يمينَ عليكَ، ولا نذرَ في معصيةِ الربِّ، ولا في قَطيعةِ الرَّحِم، ولا فيما لا تملكُ". "عن سعيد بن المسيب: أن أخوَين من الأنصار كان بينهما ميراثٌ، فسأل أحدُهما صاحبَه القِسمةَ، فقال: إن عُدتَ تسألُني القِسمةَ فكلُّ مالي في رِتَاجِ الكعبة": بكسر الراء المهملة؛ أي: بابها، لا يريد به نفس الباب، بل يريد: أن مالَه هَدْيٌ إلى الكعبة، فيضعُه منها حيث نَوَاه، كنَّى به عنها؛ لأنه منه يُدخَل إليها. "فقال له عمر: إن الكعبةَ غنيةٌ عن مالك، كفِّرْ عن يمينك وكلِّم أخاك؛ فإني سمعتُ رسولَ الله - عليه الصلاة والسلام - قال: لا يمينَ عليك"؛ أي: لا يجب إبرارُ هذه اليمين عليك، وإنما عليك الكفارةُ، وهو قول أكثر الصحابة والعلماء، وعليه الشافعي في أصح أقواله. قيل: قد كان عمرُ سمع النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - يقول قولاً يدل على أنه لا يجب على مَن نَذَرَ مِثلَ هذا النذر وفاءٌ، فعبَّرَ عنه بعبارته، وعطفَ

عليه من حيث المعنى: قولَه: "ولا نذرَ في معصية الربِّ، ولا في قطيعة الرَّحِم، ولا فيما لا يملك" (¬1). ° ° ° ¬

_ (¬1) جاء في نهاية النسخة الخطية المرموز لها بـ "م" ما نصه: "وقع الفراغ من تنميقِ النصف الأول من "شرح المصابيح" ومَشْقِه بعون الله تعالى وتوفيقه، على يد أفقر الورى وأحوج العباد الى عفو المولى خير بن محمد البلوي عفا عنهم وعن والديهم المَلِكُ العليُّ، في بلد بروسة، بمدرسة مرادي، حماها الله وسائرَ بلاد المسلمين عن الآفات والبلية، سنةَ ست وستين وألف مِن هجرةِ مَن له العزُّ والشرفُ، حامداً الله العليَّ الأعلى، ومصلِّياً على رسوله محمد المصطفى، وراجياً من العليم الخبير الميسِّر لكل عسير أن يوفّقني لإتمام النصف الأخير، ويرزقَني العمل بما يحتويه الأول والأخير، من السنن الواردة من البشير النذير، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير".

14 - كتاب القصاص

14 - كِتَابُ القِصَاص

1 - باب

14 - كِتَابُ القِصَاص (كتاب القصاص) القِصَاص: وهو إما من: (قصَّ أثرَه): إذا اتَّبعه، والوليُّ يتبع القاتلَ في فعلِه، وإما من: المُقاصَّة، وهي المساواة والمماثلة، معناه: القَوَد. 1 - باب مِنَ الصِّحَاحِ: 2584 - عن عبدِ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مُسلمٍ يشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وأنِّي رسولُ الله إلا بإحدى ثلاثٍ: النَّفْسُ بالنَّفْسِ، والثَّيبُ الزَّاني، والتارِكُ لديِنهِ المُفارِقُ للجماعةِ". "من الصحاح": " عن عبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلمٍ"؛ أي: إراقُة دمِه. "يَشهَد أن لا إله إلا الله وأني رسولُ الله": هذا تفسير لـ (مسلم). "إلا بإحدى ثلاث"؛ أي: عِلَلٍ ثلاثٍ. "النَّفْس"؛ أي: اقتصاصُ النَّفْس.

"بالنَّفْس، والثيب"؛ أي: زِنا الثيب. "الزاني"، والمراد من (الثيب: الزاني المحُصَن، وهو المسلم المكلَّف الحرُّ الذي أصاب في نكاحٍ صحيحٍ، ثم زَنىَ. "والمارق"؛ أي: مرقُ المارقِ. "لدِينه"؛ أي: الخارج عنه، من: المُرُوق، الخروج؛ يعني: المرتدُّ. "التارك للجماعة"؛ أي: الإجماع. * * * 2585 - وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لنْ يزالَ المؤمنُ في فُسْحَةٍ مِن ديِنهِ ما لم يُصِبْ دَماً حرامًا". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لن يزالَ المؤمنُ"، (لن): لتأكيد نفي المستقبل. "في فُسحةٍ"؛ أي: في سَعَةٍ. "مِن دِينهِ ما لم يُصِبْ"، (ما): للدوام، يقال: أصابَه: إذا وجدَه. "دماً حراماً"؛ يعني: إذا لم يَصدُر منه قتلُ نفسٍ بغير حقٍّ تسهُل عليه أمورُ دِينه، ويوفَّق للعمل الصالح. * * * 2586 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أوَّلُ ما يُقضَى بينَ الناسِ يومَ القيمةِ في الدِّماءِ". "وعن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أولُ ما يُقضَى بين الناس يومَ القيامة في الدماء"، وفيه: عظمُ أمرِها وكِبَرُ خطرها،

وليس هذا مخالفًا للحديث المشهور: "أولُ ما يُحاسَب به العبد صلاتُه"؛ لأنه فيما بين العبد وبين الله تعالى، وحديث الباب فيما بين العباد. * * * 2587 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقْتَلُ نفسٌ ظُلْمًا إلا كانَ على ابن آدمَ الأولِ كِفْلٌ مِن دَمِها، لأنهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القتلَ". "وعن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُقتَلُ نفسٌ ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كِفْلٌ من دمها؛ لأنه أولُ مَن سَنَّ القتلَ": تقدم بيانه في آخر (صحاح باب العلم). * * * 2588 - عن المِقْدادِ بن الأَسودِ: أنه قال: يا رسولَ الله! أرأيتَ إنْ لقيتُ رجلاً مِن الكُفَّارِ فاقْتَتَلْنا فضربَ إحدَى يديَّ بالسَّيفِ فقطعَها ثم لاَذَ مِنِّي بشجرةٍ، فقال: أسلمتُ للهِ، أَأَقْتُلُه بعدَ أَنْ قالَها؟ قال: "لاَ تقتلْهُ"، فقالَ: يا رسولَ الله! إنه قطعَ إحدى يديَّ! فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقتلْهُ، فإنْ قتَلْتَه فإنَّهُ بمنزِلَتِكَ قبلَ أَنْ تقتُلَهُ، وإنكَ بمنزِلَتِهِ قبلَ أنْ يقولَ كلمتَهُ التي قالَها". "عن المِقداد بن أسود أنه قال: يا رسولَ الله! أرأيتَ"؛ أي: أخبرْني. "إنْ لقيتُ" - بصيغة المتكلم - "رجلاً من الكفار، فاقتتلنا، فضربَ إحدى يديَّ بالسيف، فقطعَها، ثم لاذَ مني بشجرة"؛ أي: اعتصمَ بها وجعلَها مَلاذاً. "فقال: أسلمتُ لله، أأقتله" بهمزة الاستفهام. "بعد أن قالَها؟ "؛ أي: تلك الكلمةَ. "قال"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقتلْه": وهذا يستلزم الحكمَ بإسلامه،

ويُستفاد منه صحةُ إسلامِ المُكرَه، وأنَّ الكافرَ إذا قال: أسلمتُ، أو: أنا مسلم حُكِمَ بإسلامه. "فقال"؛ أي: المقدادُ: "يا رسولَ الله: إنه قَطعَ إحدى يديَّ؟! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تَقتلْه" فيه: دليل على أن الحربيَّ إذا جَنَى على مسلمٍ، ثم أَسلمَ، لم يُؤخَذ بالقصاص، إذ لو وجبَ لَرُخِّصَ له في قطع إحدى يدَيه بالقصاص. "فإنْ قتلتَه فإنه بمنزلتك"؛ يعني: أنه معصومُ الدمِ مُحرَّمٌ قتلُه بعد ذكر تلك الكلمة. "قبل أن تقتلَه، وإنك بمنزلته"؛ يعني: أنك غيرُ معصومِ الدمِ ولا مُحرَّمُ القتلِ "قبل أن يقول كلمتَه التي قالها". * * * 2589 - وعن أسامةَ بن زيدٍ - رضي الله عنه - قال: بعَثَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أُناسٍ من جُهَينةَ، فأتيتُ على رجلٍ منهم فذهبتُ أَطعنهُ فقالَ: لا إله إلا الله فطعنتُهُ فقتلتُه، فجئتُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرْتُهُ فقالَ: "أقَتَلْتَه وقد شهِدَ أنْ لا إلهَ إلا الله؟ " قلتُ: يا رسولَ الله! إنَّما فعلَ ذلكَ تعوُّذاً، قال: "فهلاَّ شَقَقْتَ عن قلبهِ". "عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - أنه قال: بعثنَا رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى أناسٍ من جُهَينةَ، فأتيتُ على رجلٍ منهم"، قيل: ذلك الرجل لم يكن جُهَينيًا، بل وُجِدَ بأرضهم، راعي غنمهم، فعُدَّ منهم، واسمه مرداس بن نهيك الفَزَاري، وقيل: مرداس بن عمرو الفَدَكي. "فذهبتُ"؛ أي: طفقتُ.

"أَطعنُه"؛ أي: أضربُه بالرمح. "فقال: لا إله إلا الله، فطعنتُه فقتلتُه"، ظنَّ أسامةُ أن إسلامَه لا عن ضمير قلبه، وأن الإيمانَ في مثل هذه الحالة لا يَنفَع. "فجئتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبرتُه، فقال: أَقتلتَه وقد شهد أن لا إله إلا الله؟! قلت: يا رسولَ الله! إنما فعل ذلك تعوُّذاً"؛ أي: ما أَسلمَ إلا مستعيذاً من القتل بكلمة التوحيد، وما كان مُخلِصًا في إسلامه. "قال: فهلاَّ شققتَ عن قلبه"، الفاء: جواب شرط مقدَّر؛ أي: إذا عرفتَ ذلك فلِمَ لا شققتَ عن قلبه؛ لتَعلَمَ ذلك وتطَّلعَ على ما في قلبه أتعوذاً قال ذلك أم إخلاصًا؟! وشقُّ القلب: مستعار هنا للفحص والبحث عن قلبه: أنه مؤمن أو كافر؟ حاصله: أن أسامةَ ادَّعى أمراً يجوز معه القتل، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نفاه لانتفاء سببه؛ لأن الاطلاعَ عليه إنما يمكن للباحث عن القلوب، ولا سبيلَ إليه للبشر، وهذا يدل على أن الحكمَ بالظاهر، وأما السرائرُ فتُوكَلُ الله تعالى. * * * 2590 - ورواه جُنْدبٌ البَجَلِيُّ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كيفَ تصنعُ بلا إلهَ إلا الله إذا جاءَتْ يومَ القيامةِ" قالَهُ مِراراً. "ورواه جُندب البَجَلي: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال" لأسامة: "كيف تصنع بلا إله إلا الله إذا جاءت"؛ أي: كلمةُ لا إله إلا الله، أو مَن يخاصم لها مِن الملائكة، أو صاحبُها الذي تلفَّظ بها "يومَ القيامة؟! قاله مراراً". * * *

2591 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قتلَ مُعاهِداً لم يَرِحْ رائحةَ الجنةِ، وإنَّ ريحَها تُوجدُ مِن مَسيرةِ أربعينَ خريفًا". "وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن قَتَلَ مُعاهِداً" بكسر الهاء: مَن عاهَدَ مع الإمام على ترك الحرب، ذمِّيًّا كان أو غيره، ورُوي بفتح الهاء، وهو مَن عاهَدَه الإمامُ. "لم يَرحْ": بفتح حرف المضارعة وضمها وفتح الراء وكسرها. "رائحةَ الجنة"؛ أي: لا يشمُّ ولا يجدُ رِيحَها. "وإن ريحَها": الواو فيه للحال. "يوجد من مسيرة أربعين خريفاً"؛ أي: عامًا، قيل: المستحقُّ للجنة يجد ريحَها في الموقف ويستريح منه، فهذا القاتل يُحرَم من تلك الرائحة بقتلهِ ذلك، وقيل: عدمُ وجدانِ الريحِ كنايةٌ عن عدم دخول الجنة، فيُؤوَّل بالمُستحِلِّ. * * * 2592 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من تردَّى مِن جبلٍ فقتلَ نفسَه فهو في نارِ جهنمَ يَتَردَّى فيها خالداً مُخلَّداً فِيها أبداً، ومَن تَحَسَّى سُمًّا فقَتَلَ نفسَه فسُمُّه في يدهِ يتحسَّاهُ في نارِ جهنمَ خالِداً مخلَّداً فيها أبداً، ومَن قتلَ نفسَهُ بحديدَةٍ فحديدتُه في يدهِ يَجَأ بها في بطنِهِ في نارِ جهنمَ خالِداً مخلَّداً فيها أبداً". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن تردَّى"؛ أي: أَلقَى نفسَه "من جبلٍ، فقَتلَ نفسَه، فهو في نار جهنم يتردَّى فيها خالداً مخلَّداً فيها أبداً": الحديث محمول على المُستحِلِّ، أو على بيان أن فاعلَه مستحقٌّ بهذا العذاب، أو المراد بالخلود: طول المدة، وتوكيده بـ (المخلَّد) والتأبيد يكون للتشديد.

"ومَن تحسَّى"؛ أي: شربَ في مهلةٍ يتجرَّع. "سمًّا، فقَتلَ نفسَه، فسمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومَن قتلَ نفسَه بحديدةٍ فحديدتُه في يده يَجَأُ بها"؛ أي: يضربُ بها "في بطنه في نار جهنم خالداً مخلَّدًا فيها أبداً". * * * 2593 - وقال: "الذي يخنُق نفسَه يخنُقُها في النَّار، والذي يطعنُها يطعنُها في النار". "وقال: الذي يخنقُ نفسَه يخنقُها في النار، والذي يطعنُها"؛ أي: يطعنُ نفسَه. "يطعنُها في النار"، والمعنى: أن مَن فعلَ فعلاً يتوصَّل به إلى هلاك نفسه في الدنيا عُوقِبَ في العُقبى بمِثلِ فعلِه. * * * 2594 - عن جُندبِ بن عبدِ الله قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانَ فيمن كانَ قبلَكم رجلٌ به جُرْحٌ فجزِعَ، فأخذَ سِكِّينًا فَحَزَّ بها يدَهُ فما رَقَأَ الدَّمُ حتى ماتَ، قال الله تعالى: بادَرَني عبدِي بنفسِه فحرَّمتُ عليهِ الجنة". "عن جُندب بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كان فيمَن كان قبلَكم رجلٌ به جرحٌ، فجزعَ"، الجزع: نقيض الصبر؛ أي: لم يصبر على ألم الجرح. "فأخذ سكِّينًا فحزَّ بها"؛ أي: قطعَ بالسكين "يدَه"، و (السكين): يُذكر ويُؤنث.

"فما رَقَأ" بالهمزة؛ أي: ما انقطعَ "الدمُ حتى مات، قال الله تعالى: بادَرَني عبدي بنفسه، فحرَّمتُ عليه الجنةَ": يُحمل الحديثُ على المُستحِلِّ، أو على أنه حرَّمها أولَ مرةٍ حتى يُذيقَه وبالَ أمره، ثم يرحمه بفضله. * * * 2595 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن الطُّفيلَ بن عمرٍو الدَّوسيَّ لما هاجَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينةِ، هاجرَ إليه وهاجرَ معَهُ رجلٌ مِن قومِهِ فمَرِضَ فجزِعَ، فأخَذَ مشاقِصَ له فقطَعَ بها بَرَاجِمَهُ فشخَبتْ يداهُ حتى ماتَ، فرآهُ الطُّفيلُ بن عمرٍو - رضي الله عنه - في منامهِ وهيئتُه حَسَنةٌ، ورآهُ مُغطِّيًا يدَيْهِ، فقالَ له: ما صنعَ بكَ ربُّكَ؟ فقال: غفرَ لي بهجرَتي إلى نبيهِ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: ما لي أراكَ مُغَطِّياً يديْكَ؟ قالَ، قيلَ لي: لن نُصلِحَ منكَ ما أَفْسَدْتَ، فقصَّها الطُّفيلُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ وَلِيَدَيْهِ فاغفِرْ". "عن جابر - رضي الله تعالى عنه -: أن الطُّفيلَ بن عمروٍ الدَّوسي لمَّا هاجَرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة هاجَرَ إليه"؛ أي: الطفيلُ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. "وهاجَرَ معه رجلٌ من قومه، فمرضَ"؛ أي: الرجلُ الذي هاجَرَ معه. "فجزع"؛ أي: اشتدَّ مرضُه. "فأخذ مَشَاقِصَ له" بفتح الميم: جمع المِشْقَص، وهو السكِّين، وقيل: نَصْلَ السهم إذا كان طويلاً عريضًا. "فقَطعَ بها بَرَاجِمهَ" بفتح الباء: جمع بُرْجُمَة، مفاصل الأصابع المتصلة بالكَفِّ، وقيل: رؤوس السُّلاَميات، وهي المرتفعة عند قبض الكَفِّ. "فشَخَبتْ يداه"؛ أي: سالَ دمُها "حتى مات، فرآه الطُّفيل بن عمرو في منامه وهيئته"؛ أي: صورته وحاله "حسنة، ورآه مغطياً يديه، فقال له: ما صنعَ

بك ربُّك؟ قال: غَفَرَ لي ربي بهجرتي إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم -، فقال: مالي أراك مغطياً يدَيك؟ قال: قيل لي: لن نُصلِحَ منك ما أفسدتَ، فقصَّها الطُّفيلُ على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم ولِيَدَيهِ": عطف من حيث المعنى على قوله: (قيل: لن نُصلِحَ منك ما أفسدتَ)؛ لأن التقديرَ: قيل لي: غُفرتْ سائرُ أعضائك إلا يدَيك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم ولِيَدَيه). "فاغفرْ": الفاء جواب شرط مقدَّر، تقديره: اللهم إذا غفرتَ لجنايةِ سائرِ جوارحِه فاغفرْ لجنايةِ يدَيه أيضًا، وفيه: دليل على عدم خلود المؤمن الجاني على نفسه في النار. * * * 2596 - عن أبي شُرَيْحٍ الكَعْبيِّ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "ثم أنتم يا خُزَاعَةُ قد قتلْتُم هذا القتيلَ مِن هُذَيْل وَأَنا والله عاقِلُهُ، مَن قتَلَ بعدَه قتيلاً فأهلُه بينَ خِيرتَيْنِ إن أَحَبُّوا قتَلُوا، وإنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا العَقْلَ". "عن أبي شُريح الكَعبي رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله [صلى الله] تعالى عليه وسلم أنه قال: ثم أنتم يا خُزاعةُ": لفظة (ثم) صدر هذا الحديث يؤذن بعدم إيراده بتمامه. "قد قتلتُم هذا القتيلَ من هُذَيل، وأنا والله عاقِلُه"؛ أي: معطي دِيته؛ إرادةً لإطفاء نائرة الفتنة بين القبيلتين، والعَقل: الدِّيَة، سُميت بها؛ لأنها تَعقِل عن القتل؛ أي: تَمنَع. "مَن قَتلَ بعدَه قتيلاً فأهلُه"؛ أي: أهلُ المقتول. "بين خِيرَتَين" بكسر الخاء المعجمة وفتح الياء: اسم بمعنى الاختيار. "إن أحبُّوا قتَلُوا وإن أحبُّوا أخذوا العقلَ": وهذا يدل على أن الخيارَ لولي

القتيل، ولا يُعتبر رضا القتيل، وأن الدِّيَة مستحقةٌ لأهله كلِّهم، الرجال والنساء والزوجات، وأنه إن غابَ بعضٌ أو كان طفلاً لم يقتصَّ الباقون، حتى يبلغَ الطفلُ ويَقْدَمَ الغائبُ، وعليه الشافعي. * * * 2597 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن يهوديًّا رَضَّ رأسَ جاريةٍ بينَ حَجَريْنِ فقيلَ لها: مَنْ فعلَ بكِ هذا أَفُلانٌ؟ أَفُلانٌ؟ حتى سُمِّيَ اليهوديُّ فأَوْمَأَتْ برأسِها، فجيءَ باليهوديِّ فاعتَرفَ، فأمرَ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَرُضَّ رأسُه بالحِجارةِ. "عن أنس - رضي الله تعالى عنه -: أن يهوديًّا رضَّ"؛ أي: كسرَ ودقَّ. "رأسَ جاريةٍ"، وهي مِن النساء: مَن لم يَبلُغ الحُلمَ. "بين حَجَرَين، فقيل لها: مَن فعل بك هذا؟ أفلان أم فلان؟ حتى سُمِّيَ اليهوديُّ، فأومتْ برأيها"؛ أي: أشارت به، أصله: أومأت - بالهمزة -، ثم لُينت بالفاء، ثم حُذفت للساكنَين. "فجيءَ باليهودي، فاعتَرفَ، فأمَر به رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فَرُضّ رأسُه بالحجارة"، فيه: دليل على قتل الرجل بالمرأة وبالعكس، وعليه العامة، إلا الحسن وعطاء فإنهما قالا: لا يُقتَل الرجلُ بالمرأة، وعلى أن القتلَ بمثقلٍ يَقتُل غالباً يُوجِب القصاصَ، وعليه الأكثر خلافاً لأصحاب الرأي وعلى اعتبار جهة القتل فيقتص منه بمثل فعله. * * * 2598 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّه قال: كَسَرَتْ الرَّبَيعُ، وهي عمَّهُ أنسِ بن مالكٍ، ثَنِيَّةَ جاريةٍ من الأنصارِ فأَتَوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأمَرَ بالقِصاصِ، فقال أنسُ بن

النّضر، عمُّ أنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -: لا والله لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُها يا رسولَ الله، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا أنسُ كتابُ الله القِصاصُ"، فرَضيَ القومُ وقَبلُوا الأَرْشَ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِن عبادِ الله مَنْ لو أَقسَمَ على الله لأبَرَّهُ". "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: كسَرَتِ الرُّبَيعُ، وهي عمَّة أنس بن مالك، ثَنِيَّةَ جاريةٍ من الأنصار"، فطلبوا منها العفوَ، فلم تَرْضَ. "فأتوا النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمر بالقصاص، فقال أنسُ بن النَّضْر عمُّ أنسِ بن مالك: لا، والله لا تُكسَر ثنيَّتُها يا رسولَ الله": وهذا ردٌّ لأمرِه - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص على سبيل التعجب، أو الكرامات؛ لكون الكاسرةِ أشرفَ، لا على سبيل الإنكار. "فقال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أنسُ! كتابُ الله القصاصُ": وهو قوله تعالى: {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45] الآية {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]، وقيل: كتابُ الله فرضَه على لسان نبيه. "فرَضيَ القوم"؛ أي: قومُ التي كُسِرَ سِنُّها بعدم الكسر. "وقَبلُوا الأَرْشَ، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن مِن عباد الله مَن لو أَقسَمَ على الله لأَبرَّه"؛ أي: يجعله بارًّا صادقاً في يمينه لكرامته. * * * 2599 - وعن أبي جُحَيْفَةَ قال: سألتُ علياً هل عِندَكم شيءٌ ليسَ في القرآنِ؟ فقال: والذي فلقَ الحبَّةَ وبَرَأَ النَّسَمَةَ ما عِندَنا إلا ما في القرآنِ، إلاَّ فَهْماً يُعطَى رجلٌ في كتابهِ، وما في الصَّحيفةِ! قلتُ: وما في الصَّحيفةِ؟ قال:

العقلُ، وفِكاكُ الأسيرِ، وأنْ لا يُقْتَلَ مُسلم بكافرٍ. "عن أبي جُحَيفة - رضي الله عنه - أنه قال: سألتُ عليًّا: هل عندكم شيء ليس في القرآن؟ ": وإنما سألوه بذلك لزعمهم أنه - صلى الله عليه وسلم - خصَّ أهلَ بيته - سيَّما عليًّا - رضي الله عنه - بأسرار الوحي، أو لأنهم وجدوا عندَه - رضي الله عنه - علماً وتحقيقًا لم يجدوه عند غيره، فحَلَفَ عليُّ - رضي الله تعالى عنه - إزاحة لوهمِ ما توهَّمُوه. "فقال: والذي فَلَقَ الحَبّةَ"؛ أي: شقَّها بإخراج النبات منها. "وَبَرأَ النَّسمةَ"؛ أي: خلقَها، والنسمة: النَّفْس، وكلُّ ذي روح فهي نسمة. "ما عندنا": جواب القَسَم. "إلا ما في القرآن": استثناء منقطع؛ أي: ليس عندَنا شيءٌ غير القرآن. "إلا فهماً يُعطَى الرجلُ في كتابه": استثناء من الاستثناء الأول، أراد به استدراكَ معنى اشتبه عليهم معرفتُه؛ يعني: لكن الناسَ يتفاوتون في الفهم والإدراك واستنباط المعاني، والفهم: الفِطنة التي يقف بها المرءُ على ما في الكتاب. "وما في الصحيفة": عطف على (ما في القرآن)، قَرَنَه به احتياطاً في يمينه؛ لاحتمال انفراده بسماع ما فيها، وكانت تلك الصحيفةُ مكتوبة من إملاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في علاقة سيف عليٍّ رضي الله تعالى عنه. "قلت: وما في الصحيفة؟ قال: العَقلُ": أراد به أسنانَ إبل الدِّيَة وعددَها وسائرَ أحكامها، وقيل: إيجاب الدِّيَة نفسا وطرفاً. "وفَكاكُ الأسير" بفتح الفاء: ما يُفتكُّ به؛ يعني: من جملة ما فيها تخليصُه، وفيه: استحبابُ فَكاكِه.

"وأن لا يُقَتلَ مسلم بكافرٍ": يدُّكُ على أن المؤمَن لا يُقتصَّ بالكافر، حربيًّا كان أو ذمِّيا؛ لعموم النفي، وعليه الشافعي. * * * مِنَ الحِسَان: 2600 - عن عبدِ الله بن عمرٍو - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَزَوالُ الدُّنيا أهونُ على الله مِن قتلِ رجلٍ مسلمٍ"، ووقَفَه بعضُهم، وهو الأصحُّ. "من الحسان": " عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لَزوالُ الدنيا": التي هي مَعبَرُ الإنسانِ إلى دار البقاء، ومحلُّ تحصيل الأنبياء والأولياء أنواعَ القربات، من عالِم الملكوت، ومما عند الله سبحانه مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلب بشر. "أهونُ"؛ أي: أَسهلُ. "على الله مِن قتلِ رجلٍ مسلمٍ"؛ أي: من إراقةِ دمهِ؛ إذ المسلمُ هو المقصود مِن إيجاد الدنيا وخلقها. "ووقفَه بعضُهم"؛ أي: وقفَ بعضُ أصحابِ الحديثِ هذا الحديثَ على ابن عمرو؛ "وهو الأصح". * * * 2601 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه -، وأبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو أن أهلَ السماء والأرضِ اشتركُوا في دمِ مؤمنٍ لأكَبَّهم الله في النارِ"، غريب.

"وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لو أن أهلَ السماء والأرض اشتركوا"؛ أي: لو ثبتَ اشتراكُهم. "في دمِ مؤمنٍ لَكبَّهم الله"؛ أي: صرعَهم. "في النار. غريب". * * * 2602 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "يجيءُ المقتولُ بالقاتِلِ يومَ القيامةِ ناصيتُه ورأسُه بيدِه وأَوْداجُه تَشْخُبُ دماً يقولُ: يا ربِّ قتلَني حتى يدُنِيَه مِن العَرشِ". "عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: يجيء المقتولُ بالقاتل يومَ القيامة، ناصيتُه ورأسُه بيده، وأوداجُه" جمع: وَدَج - بفتحتين -، وهو العِرق المحيطة بالعُنق، يقطعها الذابح. "تَشخُب"؛ أي: تَسيلُ "دماً، يقول: يا ربِّ قتلَني، حتى يُدنيَه"؛ أي: يُقرِّب المقتولُ القاتلَ "من العَرش": كان هذا عبارةٌ عن استقصاء المقتول في طلب ثأره. * * * 2603 - عن عثمانَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحِلُّ قتلُ امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاثٍ: كفرٌ بعد إيمان، أو زناً بعدَ إحصانٍ، أو قَتْلُ نفسٍ بغيرِ نفسٍ". "عن عثمان - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا يحلُّ دم امرئٍ مسلمٍ إلا بإحدى ثلاث: كفرٍ بعدَ إيمانٍ"، يريد به: الارتداد.

"أو زِنًا بعد إحصانٍ": تقدم معنى (الإحصان). "أو قتلِ نفسي بغير نفسٍ". * * * 2604 - عن أبي الدَّرداء، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزالُ المؤمنُ مُعْنِقا صالحاً ما لم يُصِبْ دماً حراماً، فإذا أصابَ دماً حراما بَلَّحَ". "عن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: لا يزالُ المؤمنُ مُعنقِاً"؛ أي: منبسطاً في سيرِه يومَ القيامة، يقال: أَعتَقَ الرجلُ؛ أي: سارَ العَنَقَ، وهو ضربٌ من السير السريع، وقيل: معناه: مسارعا إلى الخيرات موفَّقا لها. "صالحاً ما لم يُصِبْ دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بَلَّحَ"؛ أي: أَعيا وأعجزَ وانقطعَ وتحيَّر بشؤمِ ما ارتكب من الإثم. * * * 2605 - وعنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ ذنبٍ عسى الله أنْ يغفِرَهُ إلا مَن ماتَ مُشركاً، أو من يَقتُلُ مؤمناً مُتعمِّداً". "وعنه، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: كلُّ ذنبٍ"؛ أي: كلُّ قارفِ ذنبٍ. "عسى الله أن يغفرَه إلا ذنب مَن ماتَ مُشرِكاً، أو": ذنباً مَن يقتلُ مؤمناً متعمِّداً، إذا كان مُستحِلاً دمَه. * * *

2606 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُقامُ الحدودُ في المساجدِ، ولا يُقادُ بالولدِ الوالدُ". "عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُقام الحدودُ في المساجد"؛ لأنها بنيت للصلاة وقراءة القرآن وغير ذلك من العبادات. "ولا يُقاد بالولد الوالدُ"؛ أي: لا يُقتصُّ والد بقتلهِ ولدَه، أو لا يُقتَلُ الوالدُ عوضَ ولدِه الواجبُ عليه القصاصُ بقتلهِ أحداً ظلمًا، وقد كان في الجاهلية يُقتَل أحدُهما بالآخر، فنَهَى - صلى الله عليه وسلم - عنه. * * * 2607 - عن أبي رِمْثَةَ - رضي الله عنه - قالَ: دخلتُ مع أبي على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأَى أبي الذي بظَهرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: دَعْني أُعالجُ الذي بظهركَ فإني طبيبٌ، فقالَ: "أنتَ رفيق، والله الطبيبُ"، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ هذا مَعَك؟ " قالَ: ابني فاشهدْ به، فقالَ: "أَما إنه لا يَجني عليكَ ولا تَجْني عليهِ". "عن أبي رِمْثَةَ - رضي الله عنه - أنه قال: دخلتُ مع أبي على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فرأى أبي الذي بظَهر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، يريد به: موضع خاتم النبوة، وكان ذلك ناتئاً عن ظَهره، فظنُّ أبوه أنه سِلْعةٌ (¬1) تولَّدت من الفضلات. "فقال: دَعْني"؛ أي: اتركْني. "أعالج الذي بظَهرك"؛ أي: أُداويه. ¬

_ (¬1) السَّلْعَة: خراج في العنق، أو غُدَّة فيها، أو زيادة في البدن كالغُدَّة. "القاموس" (س ل ع).

"فإني طبيبٌ"، أخرجه - صلى الله عليه وسلم - عن زعمه إلى غيره راداً عليه، "فقال: أنتَ رفيق" من: الرِّفق؛ أي: لين الجانب، وقيل: الرِّفق: لطافة القول أو الفعل؛ أي: أنت ترفقُ بالناس في العلاج بلطافة الفعل وحفظ المزاج من الأغذية الرديَة. "والله الطبيبُ"؛ أي: المداوي الحقيقي الشافي عن الداء، العالِم بحقيقة الدواء، القادر على الصحة والبقاء؛ يعني: ليس هذا مما يُعالَج، بل يفتقر كلامُك إلى العلاج، حيث سَمَّيتَ نفسَك بالطبيب، والله هو الطبيب. قيل: كان مكتوباً على خاتم النبوة: توجَّه حيث شئتَ؛ فإنك منصورٌ. "وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن هذا معك؟ قال: ابني، فاشهَدْ به": بصيغة الأمر؛ أي: فاشهَدْ بأنه ابني، مريداً بهذا إلزامَ ابنهِ ضمانَ الجنايات عنه، على رسم الجاهلية. "فقال: أَمَا إنه لا يجني عليك"؛ أي: لا يجني جناية يكون القصاصُ أو الضمانُ فيها عليك. "ولا تجني عليه". * * * 2608 - عن عمرِو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: عن سُراقةَ بن مالكٍ - رضي الله عنه - قالَ: "حضرتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقِيْدُ الأبَ من ابنهِ، ولا يُقيدُ الابن من أبيهِ"، ضعيف. "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن سُراقةَ بن مِالك - رضي الله عنه - قال: حضرتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُقِيدُ الأبَ من ابنه، ولا يُقِيدُ الابن من أبيه"؛ أي: كان يَقتُلُ الأبَ إذا قَتلَ ابنه، ولا يَقتُلُ الابن إذا قَتلَ أباه.

"ضعيف"؛ أي: هذا الحديث ضعيف، لا يقاوم ما مرَّ من حديث ابن عباس: "ولا يُقاد بالولد الوالا"، وقيل: كان هذا في صدر الإسلام، ثم نُسخ. * * * 2609 - عن الحسنِ، عن سَمُرَة قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قتلَ عبدَهُ قتلْناهُ، ومَن جَدع عبدَهُ جَدَعْناهُ، ومَن أَخْصَى عبدَه أَخصيْناه". "عن الحسن، عن سَمُرة - رضي الله عنه - قال: قال - عليه الصلاة والسلام -: مَن قَتلَ عبدَه قتلناه، ومَن جَدع عبدَه"؛ أي: قطعَ أطرافَه "جَدَعْنَاه" ومَن أَخْصَى عبدَه"؛ أي: سلَّ خصيتَه "أَخْصَيْنَاه"، قيل: هذا على سبيل الزجر؛ ليرتدعوا ولا يُقدموا على ذلك، كما قال في شارب الخمر: "إذا شربَ فاجلدوه"، ثم قال في الرابعة أو الخامسة: "فإن عاد فاقتلوه"، ولم يَقتلْه حين جِيءَ به وقد شربَ رابعا أو خامسا، وتأوله بعضُهم على العبدِ المُعتَق؛ لأنه يُسمَّى عبدَه عُرفا باعتبار ما كان، وقيل: منسوخ. * * * 2609/ -م - عن عمرِو بن شُعيب، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن قتلَ متعمِّداً دفع إلى أولياءِ المقتولِ فإنْ شاءوا قتلُوا، وإنْ شاؤوا أخذُوا الدِّيَةَ وهي: ثلاثونَ حِقَّة، وثلاثونَ جَذَعَة، وأربعونَ خَلِفَةً، وما صالَحوا عليهِ فهو لهم". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدِّه - رضي الله عنهم -: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: مَن قتلَ" - ببناء الفاعل - "متعمِّداً دُفع" - ببناء المفعول؛ أي: القاتلُ - "إلى أولياء المقتول؛ فإن شاؤوا قَتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدِّيَةَ،

وهي ثلاثون حِقَّةً وثلاثون جَذَعةً وأربعون خَلِفَةً" بفتح الخاء وكسر اللام: الحامل من النُّوق. "وما صالحوا عليه فهو لهم". * * * 2610 - عن عليٍّ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلمونَ تَتكافَأُ دماؤُهم، وَيسعَى بذِمَّتِهم أَدناهم، وَيرُدُّ عليهم أَقْصاهم، وهُم يَدٌ على مَنْ سِواهم، ألا لا يُقتَلُ مُسلمٌ بكافرٍ، ولا ذُو عهدٍ في عهدِه". "عن عليٍّ رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: المسلمون تتكافَأ دماؤُهم"؛ أي: تتساوى في القصاص والديات، لا فضلَ فيها لشريف وكبير وعالِم على رجلٍ وضيعٍ وصغيرٍ وجاهلٍ وامرأة، خلافَ ما كان يفعله أهلُ الجاهلية؛ إذ كانوا يقتلون عدةً من قبيلة القاتل الوضيع، قيل: هذا من جملة ما في الصحيفة. "ويسعى بذَّمتهم"؛ أي: يُعطي أمانَهم. "أدناهم" في المنزلة، وفيه حُجَّة للشافعي في جواز أمان العبد. "وَيرُدُّ عليهم أقصاهم"؛ أي: ما أَخذَ أبعدُهم يُرَدُّ على أقربهم، وهذا إذا خرجت جيوش المسلمين إلى الغزو، ثم انفصل منهم سرية عند قربهم بلادَ العدوِّ، فغنموا، يردُّون ما غنموا على الجيش الذين هم رِدْءٌ لهم، ولا ينفردون به، بل يكونون جميعا شركاء فيه. "وهم يدٌ"؛ أي: المسلمون، نصرةً ومعونةً، يعاون بعُضهم بعضاً، كأنهم يدٌ واحدةٌ في التعاون والتناصر.

"على مَن سواهم" مِن الكفار. "ألا لا يُقتَل مسلمٌ بكافرٍ": ذهب الشافعي بهذا على أن المسلمَ لا يُقَتل بكافرٍ ذي عهد مؤبَّدٍ، أو مستأمنٍ ذي عهدٍ مؤقَّتٍ. وقال أبو حنيفة - رحمة الله عليه -: بُقتَل المسلم بالذمي، وتأويل الحديث: لا يُقتَل مسلمٌ بكافرٍ حربيٍّ؛ لأنه المرادُ، بدليل عطف ما بعده عليه. "ولا ذو عهدٍ في عهده": في موضع النصب على الحال، أراد: أن ذا العهدِ لا يجوزُ قتلُه ابتداء ما دام في العهد. * * * 2611 - عن أبي شرَيح الخُزاعي قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن أُصيبَ بدمٍ أو خَبْلٍ - والخَبْلُ: الجُرْحُ - فهو بالخيارِ بينَ إحدَى ثلاثٍ، فإن أرادَ الرَّابعةَ فَخُذُوا على يَدَيْه، بينَ أنْ يَقتَصَّ، أو يَعفُوَ، أو يأخذَ العَقْلَ، فإنْ أخذَ مِن ذلكَ شيئاً ثم عَدا بعدَ ذلكَ، فلهُ النارُ خالِداً فيها مخلَّداً أبداً". "عن أبي شُريح الخُزاعي - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: مُن أُصيبَ بدمٍ أو خَبْلٍ" بالسكون: فساد الأعضاء. "والخَبْلُ الجرح"؛ أي؛ أُصيب بقتلِ نفسٍ أو قطعِ عضوٍ. "فهو بالخيار بين إحدى ثلاث، فإن أراد"؛ أي وبعدَ هذا فإن أراد "الرابعةَ"؛ أي: الزائدةَ على الثلاث "فخذوا على يدَيه"؛ أي: امنعوه عن ذلك. "بين أن يَقتصَّ": بدل من قوله: (بين إحدى ثلاث).

"أو يَعفوَ، أو ياخذَ العقلَ"؛ أي: الديَةَ. "فإن أخذَ من ذلك"؛ أي: من الخصال الثلاث "شيئاً، ثم عدا بعد ذلك"؛ أي: تجاوَزَ بعد الخصال الثلاث بطلبِ شيءٍ آخرَ، كأن عَفَا، ثم طلبَ العقلَ بعد ذلك، أو طلبَ واحداً من العقل أو القصاص "فله النارُ خالداً مخلَّداً فيها أبداً". * * * 2612 - عن طاوسٍ، عن ابن عبَّاسٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قُتِلَ في عِمِّيَّةٍ، في رمي يكونُ بينَهم بالحجارةِ أو جَلْدٍ بالسِّياطِ أو ضَرْبٍ بعصاً، فهو خطأ، وعَقْلُه عَقْلُ الخَطَإ، ومَن قتلَ عمداً فهو قَوَدٌ، ومَن حالَ دونهَ فعليهِ لعنةُ الله وغَضَبُه، لا يُقبَلُ منه صَرْفٌ ولا عَدْلٌ". "عن طاوس، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: مَن قُتِلَ في عِمَيَّةٍ، بكسر العين والميم المشددة، ويروى بضم العين أيضاً: هي الضلالة، وقيل: الفتنة، وقيل: الأمر المُلتبس الذي لا يُعرَف وجهُه. "في رميٍ": بدل من قوله: (في عِمِّية). "يكون بينهم بالحجارة"؛ يعني: تَرَامَى القومُ، فيُوجَد بينهم قتيلٌ يَعمَى أمرُه ولا يُدرَى قاتلُه. "أو جَلْدٍ بالسِّياط" جمع: السَّوط. "أو ضربٍ بعصاً؛ فهو خطأ، وعَقلُه عَقلُ الخطأ، ومَن قتل عمداً فهو قَوَدٌ"؛ أي: بصددِ أن يُقاد منه، ومستوجبٌ له، مصدر بمعنى المفعول، أطلقه باعتبار ما يَؤُول إليه، وهذا على تقدير كونِ (قَتَلَ) على بناء الفاعل، وإن كان

على بناء المفعول فتفسيره: أن يُقاد له. "ومَن حَالَ"؛ أي: مَنعَ. "دونهَ"؛ أي: دونَ القصاص، أو دون القاتل؛ يعني: منعَ المستحقَّ من الاستيقاد، أو أَخفَى المُستحَقَّ عليه. "فعليه لعنةُ الله وغضبُه، لا يُقبَل منه صرفٌ"؛ أي: نافلةٌ "ولا عَدْلٌ"؛ أي: فريضةٌ. * * * 2613 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا أُعْفي مَن قتلَ بعدَ أخْذِ الدِّيةِ". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا أُعفي" بصيغة المضارع المتكلم المعلوم "مَن قَتلَ بعدَ أخذِ الدِّيَةِ"؛ أي: لا أَدعُ القاتلَ بعد أخذِ الديةِ، فيُعفَى عنه، أو يُرضَى منه بالدية، والمراد منه: التغليظ عليه بمباشرة الأمر الفظيع. وفي بعض النسخ: "لا يُعفَى" على بناء المجهول؛ أي: لا يُترَك، لفظه خبر ومعناه نهي، وهو حسنٌ إن صحَّ روايةَ، وفي بعضها: "لا أُعفِيَ" بصيغة الماضي المجهول، وهو دعاء عليه. * * * 2614 - عن أبي الدَّرداءَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ما مِن رجلٍ يُصابُ بشيءٍ في جسده فتصَدَّقَ به إلاَّ رفَعَه الله بهِ درجةً، وحَطَّ عنهُ بهِ خطيئةً".

2 - باب الديات

"عن أبي الدرداء - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: ما مِن رجلٍ يُصابُ بشيءٍ في جسدِه، فيتصدَّق به"؛ أي: يعفو عن الجاني، ولا يقتصُّ منه. "إلا رفعَه الله به"؛ أي: بذلك العفوِ "درجةً وحطَّ"؛ أي: أَسقطَ "عنه" بذلك "خطيئةً"؛ أي: ذَنْبًا من ذنوبه. * * * 2 - باب الدِّيَاتِ (باب الديات) جمع: دِيَة، وهي مصدر، كأنها اسم للمال. مِنَ الصِّحَاحِ: 2615 - عن ابن عبَّاسٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "هذهِ وهذهِ سواءٌ"، يعني الخِنْصَرَ والإبهامَ. "من الصحاح": " عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: هذه وهذه سواءٌ"؛ أي: في الدِّيَة. "يعني: الخِنْصِر والإبهام"، وإن كان الإبهامُ أقل مِفصلاً من الخِنْصِر. * * * 2616 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قَضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في جَنِينِ امرأةٍ من بني لِحْيانَ بغُرَّةٍ: عبدٍ أو أَمَةٍ، ثم إنَّ المرأةَ التي قَضَى عليها بالغُرَّةِ تُوفِّيَت،

فقَضَى بأنَّ ميراثِها لِبنيها وزوجِها، والعَقلُ على عَصَبَتِها. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قَضَى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم في جنين امرأةٍ من بني لحيان": بكسر اللام وفتحها. "بغُرَّةٍ عبدٍ" بالتنوين: عطف بيان لـ (غُرَّة) أو بدل، وإذا رُفع فهو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي عبدٌ أو أَمَةٌ، والغُرَّة: العبدُ نفسُه. "أو أَمَة"، وأصلها: البياض الكائن في وجه الفَرَس. وقال أبو عمر: والغُرَّة: عبد أبيض، أو أَمَة بيضاء، ويُسمى العبدُ الأبيضُ: غُرَّة؛ لبياضه، فلا يُقبَل الأسود، وعند الفقهاء: الغُرَّة مِن العبد: الذي يكون ثمنُه نصفَ عُشر الدِّيَة. "ثم إن المرأةَ التي قَضَى عليها"؛ أي: على عاقلتها "بالغُرَّة"؛ أي: بسبب جنايتها على الجنين "تُوفِّيتْ": جعلَ المقضيَّ عليه فعلها - وهو العاقلة - كالمقضي عليها، وإلا فالغُرَّة على عاقلتها بكل حال، والمعنى: أن المرأةَ الجانيةَ على الجنين ماتتْ. "فقضى بأن ميراثَها لبنيها وزوجِها، والعقلَ على عَصَبَتِها". * * * 2617 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: اقتتلَت امرأتانِ من هُذَيلٍ فرمَت إحداهما الأُخرى بحَجَرٍ فقتلَتْها وما في بطنِها، فقضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن دِيَةَ جنينها غُرَّةٌ: عبدٌ أو وَلِيدَةٌ، وقضَى بديَةِ المرأةِ على عاقِلَتِها، وَوَرثَها وَلَدَها ومَن معهم. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: اقتتلت امرأتانِ من هُذَيل": وكانتا ضَرَّتَين.

"فرمتْ إحداهما الأخرى بحَجَرِ فقتلتْها وما في بطنها": عطف على الضمير المنصوب؛ أي: وجنينَها. "فقضى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ديةَ جنينها غُرَّةٌ: عبدٌ أو وليدةٌ"؛ أي: أَمَةٌ. "وقضى بدِيَةِ المرأةِ على عاقلتها"؛ أي: بدِيَةِ المرأةِ المقتولةِ على عاقلة القاتلة، وهي العَصَبَة. "وورثَها"؛ أي: تلك الدّيَةَ "ولدُها ومَن معهم" من الورثة، الضمير عائد إلى جنس الولد؛ لأن المرادَ به: الأولاد. * * * 2618 - وعن المُغيرةِ بن شُعبةَ - رضي الله عنه -: أن ضَرَّتينِ رَمَتْ إحداهُما الأُخرى بعمُودِ فُسطاطٍ فألْقَتْ جنينَها، فقضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الجنينِ غُرةً: عبداً أو أَمَة، وجعلَها على عاقلةِ المرأةِ، ويروى: فَقتَلَتها، فجعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دِيَةَ المقتُولةِ على عَصَبةِ القاتِلَةِ. "وعن المغيرة بن شعبة: أن ضَرَّتَين رمتْ إحداهما الأخرى بعمود فسطاطٍ": بيت من الشَّعر، وهو الخَيمة. "فألقت جنينَها، فقضى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنين غُرَّة: عبداً أو أَمَةً، وجعلَه"؛ أي: المُقضَى به "على عاقِلة المرأة، ويروى: فقتلتْها، فجعل رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم دِيةَ المقتولةِ على عَصَبة القاتلة". * * *

مِنَ الحِسَان: 2619 - عن ابن عمرَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألاَ إنَّ في قَتيلِ العمدِ الخطأ بالسَّوطِ أو العَصا مائةً من الإبلِ مُغلَّطة، منها أربَعونَ خَلِفَةً في بُطوبها أولادُها". "من الحسان": " عن ابن عمر: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ألا" - حرف تنبيه - "إن في قتيل العمد الخطأ بالسَّوط أو العصا": وإنما وَصفَ - صلى الله عليه وسلم - هذا العمدَ بالخطأ؛ لقصورٍ في آلته، فإنها لا تُتلِفُ إلا نادراً. "مئةً من الإبل مغلَّظةً": وهذا يدل على أن دِيَةَ شبهِ العمدِ، وإن كانت معجَّلة من جهة كونِها على العاقلة ومؤجَّلةً إلى ثلاث سنين، فهي مغلَّظة من جهة كونها مِثلَه، ثلاثون حِقةً وثلاثون جَذَعةً. "منها أربعون خَلِفة"؛ أي: ناقةً حاملةً. "في بطونها أولادُها": تأكيد؛ لأن الخَلِفةَ لا تكون إلا حاملةً، أو هو تفسير للَخلِفة، وهذا بيانٌ لوجه التغليظ، ودفعٌ لوهم جريان سائر أنواع التغليظ الذي في العمد المَحْضِ مِن قتلِ الجاني وأخذِ الدّيَة منه دونَ عاقلته وحالَّة لا مؤجَّلة، بخلاف شبه العمد. * * * 2620 - عن أبي بكرِ بن محمِّد بن عَمرِو بن حزم، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إلى أهلِ اليمنِ، وكانَ في كتابه: أن مَن اعتَبَطَ مؤمِناً قتلاً فإنِّه قَوَدُ يده، إلا أنْ يَرضَى أولياءُ المقتولِ، وفيه: أن الرَّجلَ يُقتَلُ بالمرأةِ، وفيه: في النَّفسِ الدِّيَةُ، مائة مِن الإبلِ، وعلى أهلِ الذَّهبِ ألفُ دينارٍ، وفي

الأنفِ إذا أُوعِبَ جَدْعُه الديةُ مائةٌ من الإبلِ، وفي الأسنانِ الدِّيةُ، وفي الشِّفتَيْنِ الدِّيةُ، وفي البيضَتَينِ الدِّيةُ، وفي الذَّكَرِ الدّيةُ، وفي الصُّلْبِ الدِّيةُ، وفي العَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وفي الرِّجْلِ الواحدةِ نصفُ الديةِ، وفي المَأمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيةِ، وفي الجائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيةِ، وفي المُنَقِّلَةِ خمسَ عشْرةَ من الإبلِ، وفي كُلِّ إِصبَعٍ مِن أصابعِ اليدِ والرِّجْلِ عَشْرٌ من الإبلِ، وفي السِّنِّ خَمسٌ من الإبلِ. وفي رواية: وفي العينِ خَمسُونَ، وفي اليدِ خمسونَ، وفي الرِجْلِ خمسونَ، وفي المُوضحَةِ خَمسٌ. "عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهم -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتبَ إلى أهل اليمن، وكان في كتابه: إن مَن اعتبطَ مؤمناً قتلاً"؛ أي: قتلَه بلا جنايةً ولا جريرة تُوجب قتلَه، يقال: عَبطتُ الناقةَ وأعبطُها واعتَبطْتُها: إذا نحرتُها بغير علَّة. "فإنه قَوَدُ يدِه"؛ أي: يُقتصُّ منه بما جنتْه يدُه من القتل، فكأنه مقتولُ يدِه قصاصاً. "إلا أن يرضى أولياءُ المقتول": وذلك بترك القصاص والعفو عنه. "وفيه"؛ أي: وفي الكتاب: "أن الرجلَ يُقتَل بالمرأة، وفيه: في النفس الدِّيَةُ مئة من الإبل، وعلى أهل الذهب ألفُ دينار، وفي الأنف إذا أُوعِبَ جدعُه" على بناء المجهول؛ أي: استُؤصل قطعُه، والجَدع: قطع الأنف، ويجوز على بناء الفاعل؛ أي: أَوعبَه الجادع، فكان الفعل مسنداً إليه، والمراد: إبلاغ الجدع غايتَه بالاستئصال= "الدِّيَةُ مئة من الابل. وفي الأسنان" جمع: السِّنِّ "الدِّيَةُ، وفي الشفتَين الدِّيَةُ، وفي البَيضتين"؛ أي: الخصيتَين؛ يعني: في قطعِهما "الدِّيَةُ، وفي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وفي الصلْبِ"؛ أي: في الظَّهر؛ أي: في ضربه بحيث انقطعَ ماؤُه "الدِّيَةُ، وفي العينين الدِّيَةُ،

وفي الرِّجلِ الواحدةِ نصفُ الدِّيَةِ. وفي المأمومة": وهي أن تصلَ الجراحةُ أو الشَّجَّةُ إلى الجلدة الرقيقة فوق الدماغ، وهي خريطة الدماغ المحيطة به، وتُسمى أمَّ الرأس وأمَّ الدماغ "ثلثُ الدِّيَةِ. وفي الجائفة": وهي الشَّجَّة أو الجراحة التي تَنفُذ إلى الجوف؛ جوفِ الرأسِ، أو جوفِ البطنِ "ثلثُ الدِّيَة. وفي المُنقَلة" - بكسر القاف المشددة: الشَّجَّة التي تنقلُ العظمَ؛ أي: تَكِسُره حتى ينتقلَ عن محفه بعد كسرِه "خمسَ عشرةَ من الإبل. وفي كل إصبع من أصابع اليد والرِّجل عشرٌ من الإبل، وفي السِّنِّ خمسٌ من الإبل. وفي رواية: وفي العين خمسون، وفي اليد خمسون، وفي الرِّجل خمسون، وفي المُوضحَة" - وهي الجراحة التي ترفع اللحمَ عن العظم وتُوضحُه؛ أي: تُظهِرُه "خمسٌ". * * * 2621 - عن عمروِ بن شُعيب، عن أبيهِ، عن جدِّه، قال: قَضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في المَواضح خَمساً خَمسا مِن الإبلِ، وفي الأسنانِ خَمساً خَمساً مِن الإبلِ. "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهم - أنه قال: قَضَى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المواضح" جمع: مُوضحَة. "خمساً خمساً من الإبل، وفي الأسنان خمساً خمساً من الإبل"، فإن قيل: كيف يوافق هذا قولَه في الحديث السابق: (وفي الأسنان الدية)؟

قلت: اعتَبَر في الجمع هنا إفرادَه وهناك حقيقتَه، ومثاله في التعريف حقيقة الجنس واستغراقه، ولذلك كرَّر (خمساً ليستوعبَ الديةَ الكاملَة باعتبار أخماسها. قال ابن الحاجب: العربُ تكرِّر الشيءَ مرتين لتستوعبَ جميعَ جنسه باعتبار المعنى الذي دل عليه اللفظ المكرَّر. * * * 2622 - عن ابن عبَّاسٍ قال: جعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أصابعَ اليدينِ والرِّجلينِ سَواءً. "عن ابن عباس أنه قال: جعل رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصابعَ اليدَين والرِّجلَين سواءً": وهذا يدل على استواء ذات ثلاث أنامل وذات أنملتَين من الأصابع في وجوب عُشر الدِّيَة في كل واحدة. * * * 2623 - وقال: "الأسنانُ سَواءٌ، الثنِيَّةُ والضرْسُ سَواءٌ، والأصابعُ سَواءٌ هذه وهذه سَواءٌ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الأسنانُ سواءٌ، الثنيَّةُ والضرس سواءٌ، والأصابعُ سواءٌ، هذه وهذه سواءٌ" إشارة إلى الإبهام والخِنْصِر. * * * 2624 - عن عمْروِ بن شُعيب، عن أبيهِ، عن جدِّه، قال: خطبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتح ثم قال: "أيها الناسُ إنه لا حِلْفَ في الإسلامِ، وما كانَ

مِنْ حِلْفٍ في الجاهليةِ فإن الإسلامَ لا يَزيدُه إلا شِدَّةً، المؤمنونَ يدٌ على مَن سِواهم، يُجيرُ عليهم أَدْناهم، ويَرُدُّ عليهم أَقصاهُم، وَيرُدُّ سَراياهم على قَعِيدَتِهم، لا يُقتَلُ مؤمن بكافرٍ، دِيَةُ الكافرِ نِصفُ دِيةِ المسلم، ولا جَلَبَ ولا جَنَبَ، ولا تُؤخذُ صَدقاتُهم إلا في دُورِهم". ويروى: "دِيَةُ المُعاهِدِ نصفُ دِيةِ الحرِّ". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله تعالى عنهم - أنه قال: خطبَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عامَ الفتح"؛ أي: فتحِ مكةَ. "ثم قال: يا أيها الناس إنه لا حِلْفَ في الإسلام": وهو بكسر الحاء المهملة وسكون اللام: المعاقدة والمعاهدة بين القوم؛ أي: لا يحدث الحِلف في الإسلام، وكان الرجل في الجاهلية يعاهد الرجل فيقول: دمي دمُك، وثأري ثأرُك، وحربي حربُك، وسِلْمي سِلْمُك، وتَرِثُني وأَرِثُك، وتطلبُ لي وأطلبُ لك، وتَعقِل عني وأَعقِل عنك، فيعدُّون الحليفَ من جملة القوم الذين دخل في حِلفهم، فلما جاء الإسلام واستقر أمره نهوا عن أن يَحدُثَ ذلك في الإسلام. "وما كان من حِلْفٍ في الجاهلية فإن الإسلامَ لا يزيدُه إلا شدةً"؛ يعني: أقرَّ ما كان منه في الجاهلية بلا نقضِ؛ لتعلُّق المصالح به من حَقنِ الدماء وحفظِ العهود وغير ذلك. وقيل: معناه: لا يزيده إلا إبطالاً، فإذا أبطلَه يكون شدةً عليهم، وقيل: الحِلْفُ المَنهيُّ عنه: ما كان منه في الجاهلية على الفتن والقتال بين القبائل والغارات، وما كان في الجاهلية من نصرِ مظلومٍ وصلةِ رحيم فلا يزيدُه الإسلامُ إلا شدةً وتوكيداً. "المؤمنون يدٌ"؛ أي: يَنصُر بعضُهم بعضاً، جعلَهم بمنزلة اليد الواحدة في التناصر والتعاون.

"على مَن سواهم" مِن الكَفَرة. "يُجير عليهم"؛ أي: يُعطي الأمانَ على الكَفَرة "أدناهم" منزلةً، كالعبد والنِّسوان. "ويردُّ عليهم أقصاهم"؛ أي: يردُّ عليهم الغنيمةَ أبعدُهم. "وتَردُّ سراياهم" جمع: سَرِيَّة، وهي قطعة من الجيش تفرد لهم. "على قعيدتهم": وهي الجيوش المتأخرة عن القتال، النازلة بدار الحرب، المنتظرة عَودَ السرية إليها؛ يعني: تَردُّ ما غنمت سراياهم المبعوثةُ إلى العدو على القاعدين مِن حصَّتِهم؛ لأنهم كانوا رِدْءاً لهم، قيل: هذا كالتفسير لقوله: (ويردُّ عليهم أقصاهم)، وفيه نظر؛ لأنه مَحْضُ تكرارٍ، والصوابُ أن يُحمَل قولُه: (ويردُّ عليهم) على أن يُردَّ الأمانَ عليهم أقصاهم درجةً، وهو الإمام. "لا يُقتَل مؤمنٌ بكافرٍ": تقدم البيان فيه في (حسان كتاب القصاص) في حديث علي - رضي الله تعالى عنه -. "دِيَةُ الكافر نصفُ دِيَةِ المسلم"، بهذا قال مالك. "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ": تقدم بيانه في (باب الزكاة). "ولا تُؤخَذ صدقاتُهم"؛ أي: زكاتُهم "إلا في دُورِهم". "ويُروى: دِيَةُ المعاهد": وهو إما متأبد العهد كحاقنِ دمِه بالجزية، وإما إلى مدةٍ إذا انقضت تلك المدة عاد مباحَ الدم كما كان. "نصفُ دِيَةِ الحُرِّ". * * * 2625 - عن خِشْفِ بن مالكٍ، عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قَضَى

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في ديةِ الخطأ عشرينَ بنتَ مخاضٍ وعشرينَ ابن مخاضٍ ذُكوراً، وعشرينَ بنتَ لبونٍ، وعشرينَ جَذَعةً، وعشرينَ حِقَّةً، والصحيحُ أنَّه موقوفٌ على ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -، وخِشْفٌ مجهولٌ. "عن خِشْف" - بكسر الخاء ثم السكون - "ابن مالك، عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال: قضى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم في دِيَة الخطأ عشرين بنتَ مَخَاضٍ، وعشرين ابن مَخَاضٍ، ذكوراً، وعشرينَ بنتَ لَبُونٍ وعشرينَ جَذَعةً وعشرين حِقَّةً. والصحيح أنه موقوف على ابن مسعود، وخِشْفٌ مجهولٌ"؛ أي: في روايته عن ابن مسعود، كذا ذكره الخطابي. قال الشارح: إلا أن أحمد بن حنبل مِن جملة مَن أخذ بحديث ابن مسعود، وهو من أعلام أصحاب الحديث، فلا يَسَعُ الخطابيَّ طعنُه؛ فإنه أعلى رتبة منه، والراوي عن خِشفٍ في هذا الحديثِ زيدٌ الطائيُّ، ويروي عنه أبو جعفر الطحاوي. قيل: والعجب من المؤلف كيف شهد بصحته موقوفاً على ابن مسعود، ثم طعنَ في الذي يروي عنه. * * * 2626 - ورُوي: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وَدَى قتيلَ خَيبرَ بمائةٍ من إِبلِ الصَّدقةِ، وليسَ في أسنانِ إبلِ الصدقةِ ابن مخاضٍ، إنَّما فيها ابن اللَّبوُنِ. "ورُوي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وَدَ"؛ أي: أَعطَى الديةَ "قتيلَ خيبر بمئةٍ من إبل الصدقة"؛ إطفاءً لنائرة فتنة، ستأتي قصته في (باب القَسَامة).

"وليس في أسنان إبل الصدقة ابن مَخَاض": جملة حالية. "إنما فيها ابن لبون": وهذا يشبه أن يكون من قول المؤلف، وأنه ردٌّ وطعن على الحديث الذي قبله، حيث أثبت فيه ابن مَخَاضٍ. * * * 2627 - عن عَمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه، قال: كانت قيمةُ الدِّيَةِ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثمان مئةِ دينارٍ، أو ثمانيةَ آلافِ درهمٍ، وَدِيَةُ أهلِ الكتابِ يومَئذٍ النِّصفُ من دِيَةِ المسلمين. قال: فكانَ كذلكَ حتى استُخلِفَ عمرُ فقامَ خطيباً فقال: إنَّ الإبلَ قد غلَتْ، فَفَرَضَها عمرُ - رضي الله عنه -: على أهلِ الذهبِ ألفَ دينارٍ، وعلى أهلِ الوَرِقِ اثني عَشَرَ ألفاً، وعلى أهلِ البقرِ مائتَي بقرةٍ، وعلى أهلِ الشَّاءَ ألفَيْ شاةٍ، وعلى أهلِ الحُلَلِ مائتي حُلَّةٍ، قال: وتَركَ دِيَةَ أهلِ الكتابِ لمْ يرفعْها. "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله تعالى عنهم - أنه قال: كانت قيمةُ الدِّيَة على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثمانِ مئةِ دينار، أو ثمانية آلاف درهم، ودِيَةُ أهلِ الكتاب يومَئذٍ النصفَ من دِيَةِ المسلمين، قال: فكان كذلك حتى استُخلف عمر - رضي الله تعالى عنه - "؛ أي: جُعل خليفة. "فقام خطيباً"؛ أي: وعظَنا. "فقال: إن الإبلَ قد غلَتْ" من: الغلاء، وهو ارتفاع السِّعر؛ أي: زادت قيمتُها. "ففرضَها"؛ أي: فقدَّرها. "عمر على أهل الذهب ألفَ دينار، وعلى أهل الوَرِق" بفتح الواو وكسر الراء؛ أي: الفضَّة.

"اثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتَي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفَي شاة، وعلى أهل الحُلَل مئتَي حُلَّة": وهي إزار ورداء من أي أنواع الثياب، وعن أبي عبيد: الحُلَل: بُرُود اليمن، قيل؛ ولا تُسمى حُلَّة حتى تكونَ ثوبَين. "وترك"؛ أي: عمرُ - رضي الله تعالى عنه - "دِيَةَ أهل الكتاب" على ما كانت في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. "لم يَرفعْها"؛ أي: لم يزدْها على ما كانت في عهده - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2628 - عنِ ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه جعلَ الديةَ اثني عشَرَ ألفاً. "عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أنه جعلَ الدِّيَةَ اثنى عشرَ ألفا من الوَرِق". * * * 2629 - عن عَمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقَوِّمُ دِيَةَ الخطأ على أهلِ القُرى أربعَ مئةِ دينارٍ إلى ثمان مئةِ دينار، أو عَدْلَها مِن الوَرِقِ، ويُقَوِّمُها على أَثمانِ الإبلِ، فإذا غَلَتْ رَفَعَ في قيمتِها، وإذا هاجَت برُخْصٍ نقَصَ مِن قيمتِها، وبلغَتْ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ما بينَ أربع مئةِ دينارٍ إلى ثمان مئةِ دينارٍ، أو عَدْلِها مِن الوَرِقِ ثمانيةِ آلافِ درهم، قال: وَقَضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على أهلِ البقرِ مائتي بقرةٍ، وعلى أهلِ الشَّاءَ ألفي شاةٍ، وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إن العَقْلَ ميراث بينَ ورثةِ القتيلِ، وقضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أن عَقْلَ المَرأةِ بينَ عَصَبَتِها ولا يَرِثُ القاتِلُ شيئاً. "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهم - أنه قال: كان رسولُ الله

صلى الله تعالى عليه وسلم يُقوم"، التقويم: جعلُ الشيءِ ذا قيمةٍ معينةٍ. "دِيَةَ الخطأ على أهل القرى أربع مئة دينار، أو عِدْلَها"؛ أي: مِثْلَها. "من الوَرِق، ويقوِّمها على أثمان الإبل، فإذا غلَتْ"؛ أي: زادتْ أثمانُ الإبل "رفعَ في قيمتها"؛ أي: زاد في قيمة الدِّيَة. "وإذا هاجَتْ برُخصٍ"؛ أي: ظهرت، أنَّثَه مع أن فاعله مذكَر نظراً إلى القيمة؛ لأن الرخصَ رخصُها. "نقصَ من قيمتها، وبلغت"؛ أي: قيمةُ الدِّيَة "على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما بين أربع مئة دينار إلى ثمان مئة دينار أو عِدْلَها من الوَرِق ثمانية آلاف درهم"، قال الشافعي في الجديد: الأصل في الدِّيَة: الإبل، فإذا عَوِزَتْ يجب قيمتُها بالغةً ما بَلَغَتْ، بدليلِ تقويمه - صلى الله عليه وسلم - دِيَةَ الخطأ ذهبا أو وَرِقاً على حسب ارتفاع أثمان الإبل وانحطاطها، وبلوغِها على عهده - صلى الله عليه وسلم - ما بَلَغَتْ. "قال: وقضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على أهل البقر مائتَي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفَي شاة، وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن العقلَ"؛ أي: الدِّيَةَ "ميراث بين وَرثَة القتيل" من النَّسَب. "وقضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن عقلَ المرأة بين عَصَبَتِها"؛ يعني: أن الدِّيَةَ التي تجب بجناية المرأة إنما هي على عاقلتها، فيتحمَّلون عنها تحمُّلَهم عن الرجل. وقيل: معناه: أن المرأةَ المقتولةَ دِيَتُها تَرِكَةٌ بين ورثتها كسائر ما تركتْه لهم، يرجِّح المعنى الأولَ لفظُ (العَصَبَة)، والمعنى الثانيَ لفظةُ (بين)؛ لأنها ذُكرت قبلُ فيما كان العقلُ ميراثًا للورثة، وما كان عليهم ذُكر بلفظ (على)، والأَولى أن يُتركَ على العموم ليتناولَ كلا المعنيين؛ أي: أن عقلَها قاتلةً بين عَصَبَتِها ومقتولةً بين وَرثتِها، وأن ما كان غُنما فهو للوَرَثة مطلقاً، وما كان غُرماً

فهو على العَصَبَة فقط. "ولا يَرِثُ القاتلُ شيئاً" من المقتول. * * * 2630 - عن عمْرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جده: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَقْلُ شِبْهِ العَمدِ مُغَلَّظٌ مثلُ عَقْلِ العَمدِ، ولا يُقتَلُ صاحِبُه". "وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنهم، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: عَقلُ شبهِ العمدِ مغلَّظٌ مثلُ عقلِ العَمد"، لكن العقلَ في العمد المحض مغلَّظٌ في مال القاتل حالاً، وفي شبه العمد مغلَّظٌ على العاقلة مؤجلاً. "ولا يُقتَل صاحبُه"؛ أي: صاحبُ شبه العمد، وهو القاتل، سَمَّاه: "صاحبه"؛ لصدور القتل عنه، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - هذا؛ دفعاً لوهم جواز الاقتصاص في شبه العمد، حيث جعلَه كالعمد المحفض في العقل. * * * 2631 - وقال: قضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في العينِ القائمةِ السَّادَّةِ لمكانِها بثلثِ الديَةِ. "قال: وقضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في العين القائمة السادَّة لمكانها" يريد به: الباقية في موضعها صحيحة ذهبَ نظرُها وإبصارُها. "بثلث الدِّيَة"، عملَ إسحاقُ بظاهر الحديث، فأوجبَ الثلثَ في مثل العين المذكورة، وعامةُ العلماء أوجبوا حكومةَ العدل؛ لأن المنفعةَ لم تَفُتْ بكمالها، فصارت كالسِّنِّ إذا اسودَّت بالضرب، وحملوا الحديثَ على معنى

الحكومة؛ إذ الحكومةُ بلغت ثلثَ الدِّيَة. * * * 2632 - عن محمد بن عَمرٍو، عن أبي سلَمةَ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قَضَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الجَنينِ بغُرَّة: عبدٍ أو أَمَةٍ أو فَرَسٍ أو بَغْل. وقيل: (الفرسُ والبغْلُ) وَهْمٌ مِن الرَّاوي. "عن محمد بن عمرو، عن أبي سَلَمة، عن أبي هريرة - رضي الله عنهما - أنه قال: قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في الجنين بغُرَّةٍ: عبدٍ، أو أَمَةٍ، أو فَرَس، أو بَغلٍ. وقيل: الفَرَسُ والبَغْلُ وهمٌ من الراوي". * * * 2633 - عن عَمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَم مِنْهُ طِبٌّ فهو ضامِنٌ". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهم -: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: مَن تَطَبَّب"؛ أي: تعاطَى علمَ الطِّبِّ وعالَجَ مريضاً. "ولم يُعلَم منه طبٌّ"؛ أي: لم يكن مشهوراً به، فمات المريضُ مِن فعلِه. "فهو ضامن"؛ أي: تَضمَنُ عاقلتُه الديةَ اتفاقاً، ولا قَوَد عليه؛ لأنه لا يستبدُّ بذلك دونَ إذن المريض، فيكون حكمُه حكمَ الخطأ. * * * 2634 - عن عمران بن حصين: أن غلاماً لأُناسٍ فقراءَ قَطَعَ أُذُنَ غلامٍ لأناسٍ أغنياء فأتَى أهلُهُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: إنَّا أُناسٌ فقراء فلَمْ يجعلْ عليهم شيئاً.

3 - باب ما لا يضمن من الجنايات

"عن عِمران بن حُصين - رضي الله عنه -: أن غلاماً لأناسٍ فقراءَ"، المراد بهذا الغلام: الحُرُّ لا الرقيق؛ يعني: عاقلته كانوا فقراء. "قطعَ"؛ أي: بالخطأ "أُذنَ غلامٍ لأناسٍ أغنياء، فأتى أهلُه النبي - صلى الله عليه وسلم - (فقالوا) اعتذاراً بالفقر: "إنمّا أناسٌ فقراء فلم يجعل"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "عليهم شيئاً"؛ لأنه لا شيءَ على الفقير من العاقلة، ولو كان الجاني رقيقاً تعلَّق جنايته برقبته في قول العامة، وفقرُ مولاه لا يَدفَع ذلك. * * * 3 - باب ما لا يُضْمَنُ من الجنايات (باب ما لا يُضمَن من الجنايات) مِنَ الصِّحَاحِ: 2635 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "العَجْماءُ جُرْحُها جُبارٌ، والمَعْدِنُ جُبارٌ والبئرُ جُبارٌ". * * * "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: العَجْمَاءُ جرحُها جُبَارٌ"؛ أي: هَدَرٌ. "والمعدنُ جُبارٌ، والبئرُ جُبَارٌ": تقدم البيان فيه في (باب ما تجب فيه الزكاة). * * *

2636 - وعن يَعْلى بن أُميةَ قال: غزَوْتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - جيشَ العُسْرَةِ وكانَ لي أَجيرٌ، فقاتلَ إنسانًا فَعَضَّ أحدُهما يدَ الآخرِ، فانتزَعَ المعْضُوضُ يدَه مِن فِيْ العاضِّ فأنْدَرَ ثَنِيَّتَه فسقطَتْ، فانطلقَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأهدَرَ ثَنِيَّتَه وقال: "أيدع يدَهُ في فيكَ تَقضمُها كالفَحْلِ؟ ". "وعن يَعلَى بن أمية - رضي الله عنه - أنه قال: غزوتُ مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم جيشَ العُسرة"، المراد منه: غزوة تبوك، وسُميت بذلك؛ لشدة الأمر عليهم فيها بالحَرّ، وعُسرِ الحال من الزاد والماء والظَّهر. "وكان لي أجير، فقاتَلَ إنساناً، فعضَّ أحدُهما يدَ الآخر فانتزع المعضوضُ يدَه من في العاضِّ"؛ أي: من فمِه. "فأنْدَرَ"؛ أي: أسقطَ "ثنيتَه، فسقطت، فانطلق إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فأَهدرَ ثنيتَه"؛ أي: لم يُلزْمه شيئاً. "وقال"؛ أي: النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم إشارةً إلى علَّة الإهدار: "أيَدع"؛ أي: يتركُ "يدَه في فيك"؛ أي: في فمِك "تَقضَمُها" القضم: الأكل بأطراف الأسنان، "كالفحل" من الإبل. وفي الحديث: بيان أن دفعَ الشخصِ عن نفسِه مباحٌ. * * * 2637 - وعن عبدِ الله بن عَمرٍو - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن قُتِلَ دونَ مالِهِ فَهُو شَهيدٌ". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: مَن قُتل دونَ مالهِ"؛ أي: عند الدفع عن ماله، أو لأجل ماله. "فهو شهيد"، وفيه؛ جواز مقاتلة قاصد المال بغير حقٍّ، قلَّ أو كَثُرَ.

وقال بعض أصحاب مالك: لا يجوز إن طلبَ قليلاً، والحديثُ بإطلاقه حُجَّة عليهم. * * * 2638 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! أَرأيتَ إنْ جاءَ رجل يُريدُ أخْذَ مالي؟ قال: "فلا تُعْطِه مالَكَ"، قال: أرأيتَ إنْ قاتَلَني؟ قال: "قاتِلْهُ"، قال: أرأيتَ إنْ قتلَني؟ قال: "فأنتَ شهيدٌ"، قال: أرأيتَ إنْ قتلتُه، قال: "هوَ في النَّارِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: جاء رجل فقال: يا رسولَ الله! أرأيتَ"؛ أي: أخبرْني. "إنْ جاء رجل يريد أخذَ مالي؟ قال: فلا تُعطِه مالَك، قال: أرأيتَ إن قاتَلَني؟ قال: قاتِلْه، قال: أرأيتَ إن قتلَني؟ قال: فأنتَ شهيدٌ، قال: أرأيتَ إن قتلتُه؟ قال: هو في النار"، فيه: أيضاً دليل على أن دفعَ الصائلِ - وإنْ هلكَ في الدفع - مباحٌ. * * * 2639 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لو اطَّلَعَ في بيتِكَ أَحَدٌ ولم تأذَنْ له، وخَذَفْتَه بحَصاة فَفَقَأتَ عينَهُ، ما كانَ عليكَ مِن جُناحٍ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه سمع رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: لو اطَّلع في بيتك"؛ يعني: لو نظرَ فيه. "أحدٌ" من شقِّ بابٍ أو كوةٍ، وكان البابُ غيرَ مفتوح. "ولم تأذَن له" في ذلك.

"فحَذَفْتَه"؛ أي: فرميتَه "بحصاةٍ، ففقأتَ عينَه"؛ أي: قلعتَها. "ما كان عليك من جُناحٍ"؛ أي: إثيم، عمل الشافعي بالحديث، وأسقطَ عنه ضمانَ العين، قيل: هذا إذا فقأها بعد أن زجرَه فلم ينزجر، وأصحُّ قولَيه: أنه لا ضمانَ مطلقًا؛ لإطلاق الحديث. وقال أبو حنيفة: عليه الضمانُ، فالحديثُ محمولٌ على المبالغة في الزجر. * * * 2640 - وعن سَهْلِ بن سَعدٍ: أن رَجُلاً اطَّلَعَ في جُحْرٍ مِن بابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِدْرًى يَحُكُّ بهِ رأسَهُ فقال: "لو أَعلمُ أنَّكَ تَنْظُرني لَطَعَنْتُ بهِ في عينكَ، إنما جُعِلَ الاستِئْذانُ مِن أَجلِ البَصَرِ". "عن سهل بن سعد - رضي الله تعالى عنه -: أن رجلاً اطلع في جُحرٍ في باب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم مِدْرًى" بكسر الميم وسكون الدال المهملة: حديدة يُسوَّى بها شَعر الرأس، وفي "الصحاح": أنه القَرن. "يحك به رأسَه، فقال: لو أعلم أنك تنظرني لَطعنتُ به في عينك؛ إنما جُعل الاستئذانُ من أجل البصر"؛ أي: إنما احتِيجَ إلى الاستئذان في الدخول؛ لئلا يقعَ نظرُ مَن في الخارج إلى داخل البيت، فيكون النظرُ بلا استئذانِ منهيًّا كالدخول. * * * 2641 - عن عبدِ الله بن مُغفَّلٍ - رضي الله عنه -: أنَّه رأى رَجُلاً يَخذِفُ فقال له: لا تَخذِفْ فإنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهَى عن الخَذْفِ وقال: "إنه لا يُصادُ به صَيدٌ،

ولا يُنْكَأُ به عدوٌّ، ولكنَّه قد يَكْسِر السّنَّ ويَفقأُ العينَ". "عن عبد الله بن مغفَّل - رضي الله عنه -: أنه رأى رجلاً يَخذِف"، الخذف - بالخاء والذال المعجمتين -: رمي الحصاة من بين السبَّابتين، أو الإبهام والسبَّابة. "فقال له: لا تَخذِف؛ فإن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم نَهَى عن الخذف وقال: إنه لا يُصاد به صيد، ولا يُنكَأ به"؛ أي: لا يُجرَح به "عدوٌّ" من (نكيتُ في العدوّ نِكايةً): إذا أثَّرتُ فيه بجرحٍ. "ولكنها قد تَكسِر السنَّ وتَفقَأ العينَ"؛ أي: تقلعها، وإنما نهَى عن الخذف؛ لأنه لا مصلحةَ فيه، ويُخاف من فساده، ويلتحق به كلُّ ما شاركه في هذا المعنى. * * * 2642 - وقال: "إذا مرَّ أحدكم في مسجدنا، أو في سُوقنا، ومعَه نبلٌ فليُمسِك على نِصالِها أنْ يُصيبَ أحداً مِن المسلمينَ منها بشيء". "عن أبي بُردة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا مرَّ أحدكم في مسجدنا أو في سوقنا، ومعه نبَلٌ": وهي السِّهام العربية. "فَلْيُمسكْ على نصالها"؛ أي: فَلْيأخذْ نصالَها بيده. "أن يصيبَ"؛ أي: كراهةَ أن يصيبَ. "أحداً من المسلمين منها بشيءٍ". * * * 2643 - وقال: "لا يُشيرُ أحدكم على أخيهِ بالسِّلاحِ، فإنَّه لا يدري لعَلَّ الشَّيطانَ ينزِعُ في يدِه فيقَعُ في حُفرةٍ مِن النَّارِ".

"عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يشير": نفيٌ بمعنى النهي. "أحدُكم على أخيه"؛ أي: أخيه المسلم، ويُلحق به الذمِّي. "بالسلاح": وهو ما أُعدَّ للحرب من آلة الحديد. "فإنه لا يدري لعل الشيطانَ": مفعول (يدري)، ويجوز أن يكون (يدري) نازلاً منزلةَ اللازم، فنَفَى الدرايةَ عنه أصلاً، ثم استَأنفَ بقوله: (لعل). "يَنزِع" بالعين المهملة؛ أي: يَجذِبه "في يده": كانه يرفع يدَه فيحقق إشارتَه، ويُروى بالغين المعجمة من: النزغ الإفساد والإغراء؛ أي: يُغريه فيحمله على تحقيق الضرب والطعن، وإسناد الفعل إلى الشيطان من الإسناد إلى المسبب. "فيقع"؛ أي: المُشِير. "في حفرة من النار". وفيه: نهيٌ عن الملاعبة بالسلاح؛ فإنها تُفضي إلى صيرورة الهزلِ جداً واللعبِ حرباً، فيقتل أحدُهما الآخرَ، فيدخل النارَ. * * * 2644 - وقال: "من أشارَ إلى أَخيْهِ بحديدةٍ فإنَّ الملائكةَ تَلعنهُ حتى يضعَها، وإنْ كانَ أَخاهُ لأِبيهِ وأُمِّهِ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن أشارَ إلى أخيه بحديدة"؛ أي: بما هو آلةُ القتل. "فإن الملائكةَ تلعنُه"؛ يعني: تدعو عليه بالبُعد عن الجنة أولَ الأمر. "حتى يضعَها، وإن كان أخاه"؛ أي: المُشِير أخا المُشَار إليه "لأبيه

وأمِّه"؛ يعني: وإن كان هازلاً ولم يَقصد ضربَه، كنى به عنه؛ لأن الأخ الشقيقَ لا يقصد قتلَ أخيه غالباً. * * * 2645 - وقال: "مَن حَمَلَ علينا بالسِّلاحِ فليسَ مِنَّا، ومَن غشَّنا فليسَ مِنَّا". وفي رواية: "مَن سَلَّ علينا السَّيفَ فليسَ مِنَّا". "عن سَلَمة بن الأكوع - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن حَملَ علينا السلاحَ": نُصب بنزع الخافض؛ أي: بالسلاح، ويجوز أن يكون مفعول (حمل) و (علينا) حالاً؛ أي: حالَ كويه علينا لا لنا. "فليس منا"؛ أي: من عاملي سُنَّتنا. "ومَن غشَّنا"؛ أي: خاننَا وتركَ النصيحةَ لنا. "فليس منا"، قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين مَرَّ على صُبْرةِ طعامٍ، فأدخل يدَه فيها، فأصابت أصابعه بللاً، فقال: "ما هذا يا صاحبَ الطعام؟ " قال: أصابته السماء - أي: المطر - يا رسولَ الله، قال: "أفلا جعلتَ المبلولَ فوقَ الطعام حتى يراه الناسُ؟ ". "وفي رواية: مَن سلَّ علينا السيفَ فليس منا". * * * 2646 - وقال: "إنَّ الله يُعذِّبُ الذينَ يُعذِّبونَ النَّاسَ في الدُّنيا". "وعن هشام - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله

تعالى عليه وسلم يقول: إن الله تعالى يعذِّب الذين يعذِّبون الناسَ في الدنيا"؛ أي: بغير حقٍّ. * * * 2647 - وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يوشِكُ إنْ طالَتْ بكَ مُدَّةٌ أنْ تَرَى قوماً في أَيديهم مثلَ أذنابِ البقرِ، يَغْدُونَ في غضبِ الله، وَيرُوحونَ في سَخَطِ الله" ويُروى: "ويَروحونَ في لَعْنَتِهِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُوشِك"؛ أي: يَقرُب. "إن طالت بك مدةٌ"؛ أي: حياةٌ. "أن ترى": اسم (يوشك)، ولا خبر له؛ لأنه ليس بناقص. "قوماً في أيديهم سِيَاط" جمع: سَوط. "مثل أذناب البقر"، تُسمى تلك السياط في ديار العرب بالمقارع، جمع: مَقْرَعة، وهي جِلد طرفُها مشدود، عَرضُه كعَرض الإصبع الوسطى، يضربون بها السارقين عُراةً. وقيل: هم الطوَّافون على أبواب الظَّلَمة، الساعين بين أيديهم كالكلاب العقورة، يطردون الناسَ عنها بالضرب والسِّباب. "يَغْدُون في غضب الله، ويروحون في سخط الله، ويروى: ويروحون في لعنة الله". * * * 2648 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صِنفانِ مِن أهلِ النَّارِ لم أَرَهُما: قومٌ معهم سِياط كأذنابِ البقرِ يضرِبُونَ بها النَّاسَ، ونساءٌ كاسياتٌ عارياتٌ، مُمِيلاتٌ مائلاتٌ،

رؤوسُهنَّ كأسنِمَةِ البُخْتِ المائلةِ، لا يَدْخُلْنَ الجنَّةَ ولا يَجدْنَ ريحَها، وإنَّ ريحَها لتوجَدُ مِن مَسيرةِ كذا وكذا". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: صنفانِ من أهل النار لم أَرَهما"؛ أي: في عصره - صلى الله عليه وسلم -؛ لطهارة ذلك العصر، بل حَدَثَا بعدَه - صلى الله عليه وسلم -. "قوم"؛ أي: أحدُهما قومٌ "معهم سِيَاطٌ كأذناب البقر، يضربون بها الناسَ، ونساء"؛ أي: ثانيهما نساءٌ "كاسيات"؛ أي: في الحقيقة "عاريات"؛ أي: في المعنى؛ لأنهن يَلبَسْنَ ثياباً رِقَاقاً تصفُ ما تحتَها، أو معناه: عاريات من لباس التقوى، وهن اللواتي يُلقِينَ ملاحفَهنَّ من ورائهن، فتنكشف صدورهن، كنساء زماننا، وقيل: كاسيات من نِعَمِ الله تعالى، عاريات عن الشكر. "مميلاتٌ"؛ أي: يُمِلْنَ قلوبَ الرجال إلى النساء بهن، أو مميلاتٌ أكتافَهن وأكفالَهن كما تفعل الرقَّاصات، أو مميلاتٌ مقانعَهن عن رؤوسهن لتظهرَ وجوهُهنَّ. "مائلاتٌ"؛ أي: إلى الرجال، أو معناه: متبختراتٌ في مشيهنَّ. "رؤوسُهنَّ كأسنمة البُخت"؛ يعني: يعظِّمن رؤوسَهن بالخُمر والقَلَنْسُوة، حتى تشبهَ أسنمةَ البُخت. "المائلة" - بالهمزة - من: الميل؛ لأن أعلى السِّنام يميل لكثرة شحمه، وهذا من شعار نساء مصر. "لا يَدخلْنَ الجنةَ ولا يجدْنَ ريحَها" قبل دخول الجنة، كما تجده العفائف المتورِّعات قبل دخولهن الجنة، لا أنهن لا يَدخلْنَ الجنةَ أبدًا. "وإنَّ ريحها لَتوجد من مسيرة كذا وكذا"؛ أي: توجد من مسيرة أربعين عامًا، هكذا صُرِّحَ في حديث آخر. * * *

2649 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قاتَلَ أحدكم فليجتَنِبِ الوجْهَ، فإنَّ الله تعالى خَلَقَ آدمَ على صُورتهِ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا قاتَلَ أحدكم فَلْيجتنِبِ الوجهَ"؛ أي: فَلْيحتززْ عن ضرب الوجه؛ لأن في جرحِه الشَّينَ والمُثْلةَ، قيل: الأمر فيه للندب؛ لأن ظاهرَ حال المسلم أن يكون قتالُه مع الكفار، والضربُ في وجوههم أنجحُ للمقصود. "فإن الله تعالى خلقَ آدمَ على صورته": الضمير عائد إلى (آدم)؛ أي: على صورة مختصةٍ به لم يُخلَق عليها غيرُه، أو إلى الله، وإضافته للتكريم كإضافة: بيت الله، وناقة الله، والمعنى: أن اللُّه أكرمَ هذه الصورةَ؛ لأنه خلقَها بيده وأَمر ملائكتَه بالسجود لها، فمِن حقِّها أن تُكرَمَ ويُجتنبَ الاستخفافُ بها. * * * مِنَ الحِسَان: 2650 - عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرِّجْلُ جُبارٌ". 2651 - وقال: "النَّارُ جُبارٌ". "من الحسان": " عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الرِّجلُ جُبَارٌ"؛ يعني: أن الراكبَ دابة إذا رَمَحَتْ؛ أي: طَعنتْ دابتُه إنساناً برِجلها فهو هَدَرٌ، وإن ضربتْه بيدها فهو ضامن؛ وذلك لأن الراكبَ يملك تصريفَها من قُدَّامها دون خلفها. وقال الشافعي: اليد والرِّجل سواءٌ في كونهما مضمونيَن. * * *

"والنار جُبَار". 2652 - وعن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كَشَفَ سِتراً فأَدخَلَ بصرَهُ في البيتِ قبلَ أنْ يُؤذَنَ له فرأَى عَورةَ أهلِهِ فقد أتى حدًّا لا يَحِلُّ له أنْ يأتيَهُ، ولو أنَّه حينَ أَدخَلَ بصرَهُ فاستقبلَهُ رجلٌ ففقَأ عينَهُ ما عَيَّرتُ عليهِ، وإنْ مرَّ الرَّجُلُ على بابٍ لا سِترَ له، غيرِ مُغلَقٍ، فنظرَ فلا خطيئةَ عليهِ، إنَّما الخطيئةُ على أهلِ البيتِ"، غريب. "عن أبي ذَرٍّ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن كَشفَ سِتراً"؛ أي: رفعَ سِترَ بيتٍ. "فأدخلَ بصرَه في البيت قبل أن يُؤذَنَ له، فرأى عورةَ أهله، فقد أتى حدًّا"؛ أي: فقد فعلَ شيئاً يوجب حدًّا، والمراد به: التعزير. "لا يحل": أي: لا يجوز له. "أن يأتيَه، ولو أنه حين أدخلَ بصرَه، فاستقبله رجلٌ ففقأ عينَه، ما عَيَّرتُ عليه"؛ أي: ما لُمتُه وما ضمَّنتُه الأَرْشَ. "وإن مرَّ رجل على باب لا سترَ له غيرَ مُغلَق": بنصب (غير) على الحال. "فنظر، فلا خطيئةَ عليه" إنما الخطيئةُ على أهل البيت"؛ لعدم غَلقِهِم البابَ. "غريب". * * * 2653 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُتَعاطَى السَّيفُ مَسلولاً. "عن جابر - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى

عليه وسلم أن يُتعاطى السيفُ"؛ أي: يُتناول. "مسلولاً"؛ أي: مشهوراً. * * * 2654 - وعن الحسنِ، عن سَمُرةَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهى أنْ يُقَدَّ السَّيْرُ بينَ أُصبَعَينِ. "عن الحسن، عن سَمُرة - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى أن يُقدَّ"؛ أي: يُقطَع. "السَّيرُ": وهو القَدُّ من الجِلد. "بين أصبعَين"؛ لئلا تَعقُر الحديدةُ يدَه، والنهي في هذين الحديثين نهيُ تنزيهٍ وشفقةٍ. * * * 2655 - وعن سعيدِ بن زيدٍ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن قُتِلَ دونَ دِينهِ فهوَ شَهيدٌ، ومَن قُتِلَ دونَ دمِهِ فهو شَهيدٌ، ومَن قُتِلَ دونَ مالِهِ فهو شَهيدٌ، ومَن قُتِلَ دونَ أهلِهِ فهو شَهيدٌ". "عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه -، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: مَن قُتل دونَ دِينهِ"؛ أي: عند حفظ دينه "فهو شهيد، ومَن قُتل دون دمه فهو شهيد، ومَن قُتل دون ماله فهو شهيد، ومَن قُتل دون أهله"؛ أي: عند محافظة محارمه "فهو شهيد". وعامة العلماء على أن الرجلَ إذا قُصد مالُه، أو دمُه، أو أهلُه فله دفعُ القاصد بالأحسن فالأحسن، فإن لم يمتنع إلا بالمقاتلة، فقتلَه، فلا شيءَ عليه. * * *

4 - باب القسامة

2656 - عن ابن عُمرَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لِجَهنَّمَ سبعةُ أبوابٍ: باب منها لِمنْ سَلَّ السَّيفَ على أُمَّتي، أو قال: على أُمَّةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -. "عن ابن عمر - رضي الله عنهما -، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: لجهنم سبعةُ أبوابٍ: بابٌ منها لمن سَلَّ السيفَ"؛ أي: شَهَرَه "على أمتي، أو قال: على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ": شك من الراوي. "غريب". * * * 4 - باب القَسامة (باب القَسَامة) وهي الأيمان تُقسَم على أولياء المقتول المدَّعين لدمِه عند جهالة القاتل. مِنَ الصِّحَاحِ: 2657 - عن رافعِ بن خَديج، وسَهْلِ بن أبي حَثْمةَ: أنَّهما حدَّثا: أنَّ عبدَ الله بن سَهْلٍ ومُحَيصَةَ بن مسعودٍ أتَيا خيبرَ فتَفَرَّقا في النَّخلِ، فقُتِل عبدُ الله ابن سَهْلٍ، فجاءَ عبدُ الرحمنِ بن سَهْلٍ - رضي الله عنه -، وحُوَيصَةُ ومَحيصةُ ابنا مسعودٍ - رضي الله عنه - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فتكلَّموا في أمرِ صاحبهم، فَبَدَأَ عبدُ الرحمنِ، وكانَ أصغرَ القومِ، فقالَ لهُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كَبرِ الكُبْرَ" - يعني لِيَليَ الكلامَ الأكبرُ منكم - فتكلَّموا فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "استحِقُّوا قتيلَكُم - أو قال: صاحبَكُم - بأيمانِ خَمسينَ منكُم"، قالوا: يا رسولَ الله! أَمْرٌ لم نَرَهُ قال: "فتُبْرِئُكم يهودُ في أَيْمانِ خَمسينَ منهم"، قالوا: يا رسولَ الله قوم كفارٌ، ففدَاهُم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من قِبَلِهِ. وفي روايةٍ: "تَحلِفونَ خَمسينَ يَمِيناً وتستحِقُّونَ قاتِلَكُم - أو صاحِبَكُم - "

فَوَداهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن عندِه بمئةِ ناقَةٍ". "من الصحاح": " عن رافع بن خَدِيج وسهل بن أبي حَثْمَة - رضي الله تعالى عنهما -: أنهما حدَّثا: أن عبد الله بن سهل ومُحيصة بن مسعود أتيا خيبر، للخَرْص. "فتفرَّقا في النخل، فقُتل عبدُ الله بن سهل، فجاء عبد الرحمن بن سهل وحُوَيصة ومُحيصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فتكلموا في أمر صاحبهم"؛ أي: قتيلهم. "فبدأ عبد الرحمن"؛ أي: ابتدأ قبلَهم بالكلام. "وكان أصغرَ القوم، فقال له النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: الكُبْرَ"؛ أي: عظِّم مَن هو أكبرُ منك؛ أي: قدّمْه بالكلام. "يعني: لِيَلِي"؛ أي: لِيقرُب. "بالكلام الأكبرُ منكم"، وفيه: دلالة على أن الأكبرَ أحقُّ بالإكرام وبالبداية بالكلام، ولا دلالة على جواز الوكالة في المطالبة في الحدود وجواز وكالة الحاضر؛ لأن ولي الدمِ هو عبدُ الرحمن بن سهل، أخو القتيل، وحُوَيصة ومُحيصة ابنا عمِّه. "فتكلموا، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: استَحِقُّوا قتيلَكم"؛ أي: موجبَ جنايةِ قتيلِكم، وهي دِيَتُه. "أو قال: صاحبَكم": شك من الراوي، ويروى: "دمَ صاحبكم"؛ أي: دِيَتَه، سَمى الدِّيَةَ دماً؛ لأنها تُؤخَذ بسببه. "بأيمان خمسين منكم": يدل على ابتداء اليمين في القَسَامة بالمدَّعِي، وبه قال مالك والشافعي، وهذا حكم خاص بها، لا يُقاس على سائر الأحكام،

5 - باب قتل أهل الردة والسعاة بالفساد

وللشريعة أن تَخصَّ، وعندنا: يبدأ بالمُدَّعَى عليه، على قضية سائر الدعاوي. "قالوا: يا رسولَ الله أمر"؛ أي: صدورُ القتلِ أمرٌ. "لم نَرَه، قال: فتُبرِئكم اليهود"؛ أي: من دعواكم "بأيمان خمسين منهم"، قيل: هذا يدل على ثبوت رد اليمبن إذا نكل مَن توجَّهت عليه، ولا يُقضَى عليه بالنُّكُول، بل يُرَدُّ على الآخر، وعلى أن الحكمَ بين أهل الذمَّة كهو بين المسلمين في تحليفهم عند توجُّه اليمين عليهم وبراءتهم بالحَلِف، ومالك: لا تُقبَل أيمانُهم على المسلمين كشهادتهم. "قالوا: يا رسولَ الله! قومٌ"؛ أي: هم قومٌ. "كفارٌ"؛ فلا تُقبَل أيمانُهم، "ففداهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من قِبَله"؛ أي: من عنده؛ لدفع الفتنة. "وفي رواية: تَحْلِفون خمسين يمينًا وَتستحقُّون قاتلَكم، أو صاحبَكم، فوَداه"؛ أي: أعطاه الدِّيَةَ "رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم من عنده بمئة ناقة"، إذ كان من سُنَّته ألا يَتركَ دماً حراماً هَدَرًا، وكان قد أعطى اليهودَ عهداً، فلم يَرَ أن يُبطلَه، وإن كان سببُ النقض ظاهراً مِن قِبَلهم. * * * 5 - باب قتلِ أهل الرِّدةِ والسّعاةِ بالفسادِ " باب قتل أهل الردَّة والسُّعاة" - جمع: الساعي - "بالفساد". مِنَ الصِّحَاحِ: 2658 - عن عِكرِمةَ قال: أُتيَ علي بزنادِقةٍ فأَحرقَهم، فبلَغَ ذلكَ ابن عبَّاسٍ فقال: لو كنتُ أنا لَمْ أُحَرِّقهم لِنهيِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُعَذِّبُوا بعذابِ

الله"، وَلَقَتَلْتُهُم لقولِ رسولِ اللّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بدَّلَ دينَه فاقتلُوه". * * * "من الصحاح": " عن عكرمة - رضي الله عنه - أنه قال: أتى عليٌّ بزنادقةٍ" جمع: زِنديق، وهو الذي يخفي الكفرَ، وقيل: هو الذي يقول بحياة الدنيا ولا يقول بحياة الآخرة. والأصل: زناديق، فحُذفت الياء وعُوضت منها الهاء. "فأَحرقَهم" بأن حفرَ لهم حُفراً وأشعل فيها النار ورماهم فيها، وكان ذلك منه - رضي الله عنه - على اجتهاد. "فبلغ ذلك ابن عباس، فقال: لو كنتُ أنا لم أُحرِّقْهم؛ لنهي رسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تعذِّبوا بعذاب الله، ولَقتلتُهم؛ لقول رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن بدَّل دِينَه فاقتلوه". * * * 2659 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ النَّارَ لا يُعذِّبُ بها أحدٌ إلا الله". "وعن حمزة الأسلمي - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن النارَ لا يعذِّب بها أحدٌ إلا الله"، ولمَّا بلغَ علياً قولُ ابن عباس بذلك قال: ويحَ أمِّ ابن عباس! وهذا وَردَ مَوردَ المدح. * * * 2660 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "سيخرجُ قوم في آخرِ الزَّمانِ حُدَّاثُ الأَسنانِ، سُفهاءُ الأحلامِ، يقُولونَ خَيْرَ قَوْلِ البَرِيَّةِ، لا يُجاوزُ إيمانُهم حناجِرَهم يَمرُقونَ من الدِّينِ كما يَمرُقُ السَّهمُ من الرَّمِيَّةِ،

فأينما لقيتُموهُم فاقتُلوهُم، فإنَّ في قَتْلِهم أجراً لِمَن قتَلَهم يومَ القيامَةِ". "وعن عليِّ - كرَّم الله وجهه - أنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: سيخرج قومٌ في آخر الزمان حُدَّاثُ الأسنان"؛ أي: شبَّانٌ أحداثٌ. "سُفهاء الأحلام"؛ أي: خِفَاف العقول. "يقولون من قول خير البَرِبَّة"؛ أي: الخَلق، وهو النبي - عليه الصلاة والسلام -. "لا يجاوز إيمانُهم حناجرَهم" جمع: حَنْجَرة، وهي الحُلقوم؛ أي: لا يتعدَّى منها إلى الخارج، فيرفعه الله ويثبت عليه. "يَمْرُقُون"؛ أي: يخرجون "من الدِّين"، والمراد منه الطاعة للإمام. "كما يَمْرُق"؛ أي: كما يخرج "السَّهم من الرَّمِيَّة"؛ أي: من الدابة المَرْمِيَّة، لم يتعلق به منها شيءٌ، وهذا نعتُ الخوارج الذين لا يَدِينون للأئمة، ويستعرضون الناسَ بالسيف. "فأينما لقيتُمُوهم فاقتلوهم"، وأولُ ما ظهر من ذلك في زمن عليٍّ، فقاتَلَهم حتى قَتلَ كثيراً منهم. وسُئل عليٌّ - رضي الله عنه -: أكَفَّارٌ هم؛ فقال: مِنَ الكفرِ فرُّوا، قيل: أمنافقون هم؟ قال: إن المنافقين لا يذكرون الله إلا قليلاً، وهؤلاء يذكرون بُكرةً وأصيلاً، فقيل: ما هم؛ قال: قومٌ أصابتْهم فتنةٌ، فعَمُوا وصمُّوا. "فإن في قتلِهم أجراً لمن قتلَهم يومَ القيامة". * * * 2661 - وعن أبي سَعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكونُ

أُمَّتي فِرْقتينِ، فيخرجُ مِن بينهما مارِقةٌ، يَلي قَتْلَهم أَوْلاهم بالحقِّ". "وعن أبي سعيد الخُدري - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تكون أمتي فرقتَين، فيخرج من بينهما مارقة"؛ أي: فرقةٌ خارجةٌ؛ يعني بهم: الخوارج؛ لمروقهم من الدّين. "يلي قتلَهم أَولاهم"؛ أي: أَولى أمتي "بالحق"؛ يعني: مَن قتلَهم فهو أَولى الأمة؛ أي: أقربُهم إلى الحق. * * * 2662 - عن جَرِيرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّةِ الوداعِ: "لا تَرْجِعُنَّ بعدي كُفَّاراً يَضرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ". "عن جرير - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حَجَّة الوداع: لا تَرجِعُنَّ بعدي كفاراً يضرب بعضُكم رقابَ بعض" جمع: رقبة. قلنا: هذا على سبيل الزجر والوعيد، معناه: لا تَشَبُّهُوا بالكفار في قتل بعضهم بعضاً، وقيل: هم أهل الردَّة، قاتَلَهم الصدِّيقُ. [و] تأوَّل الخوارجُ هذا الحديثَ على الكفر الذي هو الخروج عن الدِّين، ويكفّرون مرتكبَ الكبيرة. * * * 2663 - عن أبي بَكْرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا التقى المُسلمانِ فحَمَلَ أحدُهما على أخيهِ بالسّلاح فهُما في جُرُفِ جَهنَّمَ، فإذا قتلَ أحدُهما صاحِبَهُ دَخلاها جميعاً".

"وعن أبي بَكرة - رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إذا التقى المسلمانِ، فحملَ أحدُهما على أخيه السلاحَ، فهما في جُرفِ جهنمَ"؛ أي: متعرّضان للهلاك، كأنهما وَقَفَا في حرف جنهم؛ أي: في طرفها. "فإذا قتلَ أحدُهما صاحبَه دخلاها"؛ أي: جهنمَ "جميعاً". * * * 2664 - عن أبي بَكْرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا التَقَى المُسلِمانِ بسَيْفَيْهِما فالقاتلُ والمقتولُ في النَّارِ"، قلت: هذا القاتلُ، فما بالُ المقتولِ؟ قال: "إنه كانَ حَريصاً عَلى قتلِ صاحبهِ". "عن أبي بَكرة - رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتلُ والمقتولُ في النار، قلت: هذا القاتلُ، فما بالُ المقتول؟ قال: إنه كان حريصاً عَلى قتل صاحبه". فيه: دلالة على أن الحرصَ على الفعل المُحرَّم مما يُؤاخَذ به، وعلى أن كلاً منهما كان قصدُه قتلَ الآخر لا الدفعَ عن نفسه، حتى لو كان قصدُ أحدِهما الدفعَ ولم يجد بُدًّا منه إلا بقتله، فقتله، لم يُؤاخَذ به؛ لكونه مأذوناً فيه شرعاً. * * * 2665 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قَدِمَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - نفرٌ من عُكْل فأَسْلَمُوا، فاجتَوَوْا المدينةَ فأمَرهم أنْ يأتُوا إبلَ الصَّدقةِ فيشربُوا مِن أَبوالِها وأَلبَانَها، فَفَعلوا فصَحُّوا، فارتَدُّوا وقتلُوا رُعاتَها واستاقُوا الإبلَ، فبَعثَ في آثارِهم فأُتيَ بهم، فقطعَ أيديَهم وأرجُلَهم، وسَمَلَ أعينَهم، ثُمَّ لم يَحْسِمْهم حتى ماتوا. ويروى: "فسَمِّروا أعينَهم". ويروى: فَأَمَرَ بمساميرَ فأُحمِيَتْ فَكَحَّلَهم بها، وطرَحهم بالحرَّة يَستسقونَ فما يُسْقَونَ حتَّى ماتوا.

"عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قدم على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم نفرٌ من عُكْلٍ"، كانوا ثمانيةَ أَنفسٍ، وعُكْل: قبيلة. "فأسلَموا، فاجتَوَوا المدينةَ"؛ أي: استَوخَمُوها، فما وافقهم ماؤُها وهواها، فمرضوا وكرهوا الإقامة بها. "فأمرَهم أن يأْتوا إبلَ الصدقة، فيشربوا من أبوالها وألبانها"، فيه: دليل على أن إبلَ الصدقة قد يجوز لأبناء السبيل الشربُ من ألبانها، وعلى جواز التداوي بالمُحرَّم عند الضرورة، وقاس بعضٌ التداويَ بالخَمر عليه، ومنعَه الأكثر؛ لميل الطِّبَاع إليها دونَ غيرها من النجاسات. "ففعلوا، فصحُّوا، فارتدُّوا وقتلوا رُعاتَها"؛ أي: رُعاةَ الإبل، جمع: الراعي. "واستاقوا الإبلَ"؛ أي: ساقوها. "فبعث"؛ أي: النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم "في آثارهم"؛ أي: في عقبهم، قيل: المبعوثُ عليّ - رضي الله عنه -. "فأتي بهم، فقطعَ أيديَهم وأرجلَهم، وسَمَلَ أعينَهم"؛ أي: فَقَأها بحديدة مُحمَّاة. "ثم لم يَحسِمْهم"، الحَسْم: كيُّ العروق بالنار لينقطعَ الدمُ. "حتى ماتوا، ويروى: فسَمَرَ أعينَهم"؛ أي: أَحْمَى لها مسامير الحديد، ثم كحلهم بها. "ويروى: أَمَر بمسامير فأُحميت، فكحلَهم بها، وطرحَهم"؛ أي: ألقاهم "بالحَرَّة" بالفتح: مَحْجِر بالمدينة. "يستسقون، فما يُسقَون، حتى ماتوا"، وإنما فعل - صلى الله عليه وسلم - بهم هذا مع نهيه عن المُثْلة؛ إما لأنهم فعلوا ذلك بالرعاة، كما رُوي عن أنس رضي الله تعالى

عنه: أن يساراً راعي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قتلوه، وقطعوا يدَيه ورِجلَيه، وغمزوا شوكةً في لسانه وعينيه، فعاقبهم بمثل ذلك، وإما لعِظَم جرمهم؛ فإنهم ارتدُّوا، وسَفَكُوا الدمَ المُحرَّمَ، وقطعوا الطريقَ، وأخذوا الأموالَ، وللإمام أن يجمعَ بين العقوبات في مِثلِه سياسةً. * * * مِنَ الحِسَان: 2666 - عن عِمْرانَ بن حُصَينٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَحُثُّنا على الصَّدقةِ وينهانا عَن المُثْلَةِ. "من الحسان": " عن عِمران بن حُصين - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحثُّنا"؛ أي: يحرِّضنا. "على الصدقة، وينهانا عن المُثْلة"، قيل: المراد بالمُثْلة: قطع الأعضاء الصغار كالأنف والأذن والشفة والأصابع، ويقال: أَمثلَ السلطانُ فلاناً: إذا قتلَه، أو أَسْوَدَ الوجهَ. * * * 2667 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن عبدِ الله، عن أبيه - رضي الله عنه - قال: كنَّا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ فانطلقَ لحاجتِهِ، فرأينا حُمَّرَةً معها فَرخانِ فأخذنا فرخَيْها، فجاءتْ الحُمَّرةُ فجعلَتْ تُفَرِّشُ، فجاءَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "مَنْ فَجَّعَ هذه بولدِها؟ رُدُّوا ولدَها إليها"، ورَأَى قريةَ نملٍ قد حرَّقناها قال: "مَن حرَّقَ هذه؟ " فقلنا: نحن، قال: "إنَّه لا ينبغي أنْ يُعذِّبَ بالنَّارِ، إلا رَبُّ النَّارِ". "عن عبد الرحمن بن عبد الله، عن أبيه - رضي الله عنهم - أنه قال: كنا مع رسول الله

صلى الله تعالى في سفر، فانطلق إلى حاجته"؛ أي: ذهبَ - صلى الله عليه وسلم - إلى قضاء حاجته من البَرَاز. "فرأينا حُمَّرَةً": نوع من الطائر كالعصفور. "معها فرخانِ"، الفَرخ: ولد الطائر. "فأخذنا فرخَيها، فجاءت الحُمَّرَةُ فجعلتْ"؛ أي: طفقتْ "تَفرُش": - بفتح التاء وضم الراء - من (فَرَشَ الطائرُ): إذا بسطَ جناحَيه، وبفتحهما وتشديد الراء؛ أي: تتفرَّش، حذفت إحدى التائين؛ أي: ترفرف بجناحيها وتَقرُب من الأرض. "فجاء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: مَن فجعَ هذه"؛ أي: مَن آذَى هذا الطائر "بولدها؟ "؛ أي: بأخذ ولدها. "رُدُّوا ولدها إليها"، والأمر للاستحباب؛ لأن اصطيادَ فرخِ الطائرِ جائزٌ. "ورأى قريةَ نملٍ"؛ أي: موضعَها ومحلَّها، جمع: نَملة. "قد حرقناها، قال: مَن حرقَ هذه؟ فقلنا: نحن، قال: إنه لا ينبغي أن يعذِّبَ بالنار إلا ربُّ النار"، وفيه: نهى عن التعذيب بالنار. * * * 2668 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ، وأنسِ بن مالكٍ - رضي الله عنهما -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "سيكونُ في أُمتي اختلافٌ وفُرْقةٌ، قوم يحسِنُونَ القِيلَ ويُسيؤون الفِعلَ، يقرؤونَ القرآنَ لا يجاوزُ تراقِيَهم، يَمرُقونَ مِن الدِّينِ مُرُوقَ السَّهم مِن الرميَّة، لا يَرجِعونَ حتى يرتدَّ السَّهمُ على فُوقه، هم شرُّ الخلقِ والخليقةِ، طُوبَى لمن قتَلهم وقتلُوه، يَدْعونَ إلى كتابِ الله ولَيْسوا مِنا في شيءٍ، مَنْ قاتَلَهم كانَ أَوْلَى بالله مِنهم، قالوا: يا رسولَ الله ما سِيماهُم؟ قال: التَّحْلِيقُ".

"عن أبي سعيد الخُدري وأنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: سيكون في أمتي اختلاف وفرقة"؛ أي: أهلُهما، أو المراد نفسُهما. "قوم يُحسِنون القِيلَ" بكسر القاف: مصدر، مثل: القَول. "ويُسِيئون الفعلَ، يقرؤون القرآنَ لا يجاوز تراقيَهم" جمع: تَرْقُوَة، وهو عظم بين ثغرة النحر والعاتق. "يَمْرُقون من الدِّين مُروقَ السَّهم من الرميَّة"؛ أي: كمروقه منها. "لا يرجعون"؛ أي: إلى طاعة الله ورسوله "حتى يرتدَّ السهمُ على فُوقهِ" بضم الفاء: موضع الوَتَر من السَّهم؛ يعني: لا يرجعون إلى الدّين وإلى الطاعة أبداً كما لا يرجع السهم إلى فُوقِه حين رُمِيَ، علَّق - صلى الله عليه وسلم - رجوعَهم إليه على مُحالٍ؛ مبالغةً في إصرارهم على ما هم عليه، وقطعاً لطمع رجوعهم إلى صلاح، والمراد بهؤلاء القوم: الخوارج. "هم شرَّ الخَلق والخليقة": وهما بمعنى، كرَّر مبالغةً للمعنى الذي أراده، وهو استيعاب أصناف الخلق، نحو: زيدٌ خيرُ الناسِ والبشرِ. وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: إنهم انطلقوا إلى آياتٍ نزَلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين. "طُوبَى لمن قتلَهم"؛ لأنه غازٍ. "وقتلوه"؛ لأنه شهيدٌ. "يدعون إلى كتاب الله، وليسوا منا في شيء"، وفيه: تنبيه على شدة العلاقة بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين كتاب الله تعالى. "مَن قاتَلَهم"؛ أي: مِن أمتي.

"كان أَولى بالله منهم"؛ أي: من باقي أمتي. "قالوا: يا رسولَ الله! ما سِيَماهم؟ "؛ أي: ما علامتُهم؟ "قال: التحليق": وهو الحلق والاستئصال للشَّعر، ذُكر بصيغة التفعيل؛ لتعريف مبالغتهم في حلق رؤوسهم وإكثارهم منه، ولا يَلزَم منه مَذمَّة في نفس الحلق؛ فإنه من شعائرِ الله وأنساكِه، وسَمْتِ عباده الصالحين. وقيل: المراد: تحليق القوم وإجلاسهم حِلقاً حولَهم. * * * 2669 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ دمُ امرئٍ مسلم يشهدُ أنْ لا إلهَ إلا الله وأنَّ محمداً رسولُ الله إلا بإحدى ثلاثٍ: زناً بعدَ إحصانٍ فإنَّه يُرجَمُ، ورجلٌ خرجَ مُحارِباً للهِ ورسوله فإنَّه يُقتَلُ أو يصلَبُ أو يُنفَى من الأرضِ، أو يَقتلُ نفسا فيُقتَلُ بها". "عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يحلُّ دمُ امرئٍ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله إلا بإحدى ثلاث: زناً بعدَ إحصانٍ"؛ يعني: مَن زَنىَ بعد ما حصل له الإحصانُ. "فإنه يُرجَم"؛ أي: يُرمَى بالحجارة معتدلةً حتى يموتَ. "ورجل خرج محارباً لله ورسوله" يريد به: قاطع الطريق. "فإنه يُقتَل" إذا قتل نفسًا ولم يأخذ المالَ. "أو يُصلَب" إن قتلَ وأخذَ المالَ، والمختار: أن يُقتَلَ أولاً، ثم يُصلَبَ مكفَّناً، ويُتركَ ثلاثةَ أيام؛ نكالاً وعِبرةً، وإن لم يصدر منه سوى التخويفُ وسدُّ الطريق عُزِّر بالحبس وغيره.

"أو يُنفَى من الأرض"، معناه: يُنفَى من بلدِ إلى بلدٍ، لا يزال يُطلَب وهو هاربٌ فزعًا، وقيل: يُنفَى من بلده. "أو يَقتُل نفسًا، فيُقتَل بها". * * * 2670 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لمسلم أنْ يُرَوَّعَ مسلمًا". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يحلُّ لمسلم أن يُروِّعَ مسلمًا"؛ أي: يخوّفَه بقطع الطريق ونحوه. * * * 2671 - عن أبي الدَّرداءِ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَخَذَ أرضًا بجزْيَتِها فقد استقالَ هِجْرَتَه، ومَن نزَعَ صَغارَ كافرٍ مِن عُنُقِهِ فجعلَه في عُنُقِه فقد ولَّى الإِسلامَ ظهرَهُ". "عن أبي الدَّرداء رضي الله تعالى عنه، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّه قال: مَن أَخذَ أرضًا بجزيتها"، الجِزية في الأصل: المالُ الذي يُؤخَذ من أهل الذمَّة عن رؤوسهم، والمراد بها هنا: الخَراج المؤدَّى عن أرضٍ ما، كأنه لازمٌ لصاحبها لزومَ الجِزية للذمِّي، فأُجري مَجرى المأخوذ عن الرؤوس. "فقد استقالَ هجرتَه"، قيل: معنى الحديث: أن مَن أَخَذَ أرضًا وضعَ عليها الخراجَ وتركَها في يد ذمِّي ليحمله عنه، فكأنه استقالَ هجرتَه؛ أي: إسلامَه.

وقيل: معناه: أن المسلمَ إذا اشترى أرضًا خراجيةَ من كافرِ فإن الخراجَ لا يسقط عنه، وإنما قال: (استقالَ هجرتَه)؛ لأن المهاجرَ له الحظُ الأوفرُ من مال الفيء، يُؤخَذ من أهل الذمَّة ويُردُّ عليه، فإذا أقام نفسَه مقامَ الذمي في أداء ما يلزمه من الخراج باشترائه أرضًا خراجيةً صار كالمستقيل عن هجرته. "ومَن نَزعَ"؛ أي: جَذَبَ. "صَغارَ كافرٍ"، الصَّغار - بالفتح -: الذلُّ والهَوان، ويُطلَق على الجِزية؛ للذلِّ فيها. "مِن عنقِه، فجعله في عنقه، فقد ولَّى الإِسلامَ ظَهرَه" من وَلِيَ: إذا قَرُبَ؛ أي: فقد جعلَ الإِسلامَ في جانب ظَهره، وهذا كالمبين لما قبلَه؛ يعني: مَن تكفَّل جِزيةَ كافرِ وتحمَّل عنه ذلَّه فكأنما بدَل الإِسلامَ بالكفر؛ لأنه بدَّل إعزازَه بذلَّه. وفي الحديث: حُجة للمانعِ صحةَ ضمانِ المسلمِ عن الذمِّي الجِزيةَ. * * * 2672 - عن جرِير بن عبدِ الله قال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَرِيةً إلى خثعم، فاعتصمَ ناسٌ منهم بالسُّجودِ، فأسرعَ فيهم القتلُ، فبلغَ ذلكَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأمرَ لهم بنصفِ العَقْلِ وقال: "أنا بريءٌ مِن كل مسلم مُقيمٍ بينَ أَظْهُرِ المشركينَ"، قالوا: يَا رسولَ الله! لِمَ؟ قال: "لا تتَراءى ناراهُما". "وعن جرير بن عبد الله - رضي الله تعالى عنه - أنَّه قال: بَعثَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: أَرسلَ. "سريةً"؛ أي: قطعةً من الجيش. "إلى خَثْعَم" بفتح الخاء المعجمة: قبيلة من اليمن.

"فاعتَصمَ"؛ أي: تمسَّك. "ناسٌ منهم"؛ أي: جماعةٌ من تلك القبيلة. "بالسُّجود"؛ يعني: إذا رَأَوا الجيشَ أسرعوا بالسجود. "فأَسرعَ فيهم القتلُ"؛ أي: الجيشُ قتلُوهم ولم يبالوا سجودَهم، ظانيّن أنَّهم يستعيذون من القتل بالسجود. "فبلغ ذلك النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فأَمرَ لهم بنصف العقل"؛ أي: الدِّيَة، وإنما لم يُكمل - صلى الله عليه وسلم - لهم الدِّيَةَ بعد علمه بإسلامهم؛ لأنهم أعانوا على أنفسهم بمقامهم بين الكفار، فكانوا كمَن هلك بجناية نفسه وجناية غيره، فتسقط حصة جنايته من الدِّيَة. "وقال: أنا بريء من كل مسلم"، المراد منه: البراءة في الذمة، أو البراءة من الموالاة. "مقيمٍ بين أَظهُر المشركين": وهذا يدل على أن المسلمَ إن كان أسيرًا في أيديهم، وأَمكنَه الخلاصُ والانفلَاتُ منهم لم يحلَّ له المقام معهم، وإن حلَّفوه ألا يخرجَ، لكن إن أُكرِه على اليمين فلا كفارةَ. "قالوا: يَا رسولَ الله! لِمَ؟ قال: لا تتَراءَى ناراهما": تفاعل من: الرؤية، يقال: تراءى القومُ؛ أي: رأى بعضُهم بعضًا، وإسناد الترائي إلى النَّار مجاز، فمعناه: ليتباعد منزلاهما، بحيث إذا أُوقدت فيهما ناران لم يَلُحْ إحداهما للأخرى، كأنه كَرهَ القرارَ في جوار الكفار؛ لأنه لا عهدَ لهم ولا أمانَ. وقيل: معناه: لا يتَّسم المسلمُ بسِمَة المُشرِك، ولا يتشبَّه به في هَدْيه وشكله وأخلاقه، من قولك: ما نارُ نعَمِك؟ أي: ما سمتها. وقيل: (النَّار) هنا الرأي؛ أي: لا يتفق رأياهما، ومنه: "لا تستضيئوا بنار المشركين"؛ أي: لا تُشاوروهم ولا تعملوا برأيهم.

وقيل: أراد بـ (النَّار): نار الحرب؛ أي: هما على طرفين متباعدين؛ فإن المسلمَ يحارب لله ولرسوله ويدعو إلى الرَّحْمَن، والكافرَ يحاربهما ويدعو إلى الشيطان، فكيف يتفقان ويجتمعان؟! * * * 2673 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإيمانُ قيَّدَ الفتْكَ، لا يفتِكُ مؤمنٌ". "عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: الإيمانُ قيدُ الفَتك"، وفي "الصحاح": الفَتك: أن يأتي الرَّجل صاحبَه وهو غارٌّ غافلٌ حتَّى يشدَّ عليه فيقتله؛ يعني: إن الإيمانَ يمنعَ صاحَبه عن قتلِ أحدِ بغتةً، حتَّى يَسألَ عن إيمانه، كما يمنع المُقَّيدَ قيدُه عن التصرُّف والمقصود. "لا يَفتِك مؤمنٌ" على بناء الفاعل: خبر في معنى النهي؛ أي: لا ينبغي للمؤمن أن يفعله لمنع الإيمان منه؛ لأن المقصودَ إن كان مسلمًا امتنع قتلُه، وإن كان كافرًا فلا بد من تقديم إنذار واستتابة، وكان الصحابةُ - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - إذا مروا بكافرِ غافلٍ نبَّهوه، فإن أَبَى بعد الإنذار والدعاء إلى الإِسلام قتلُوه. * * * 2674 - عن جرير، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أَبَقَ العبدُ إلى الشّركِ فقد حَلَّ دمُه". "وعن جرير رضي الله تعالى عنه، عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: إذا أَبَقَ العبدُ إلى الشِّرك"؛ يعني: إلى دار الحرب. "فقد حلَّ دمُه"؛ يعني: إذا قتلَه أحدٌ لا شيءَ على قاتله. * * *

2675 - عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أن يهوديةً كانتْ تشتُمُ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقعُ فيه، فخنقَها رجل حتَّى ماتَتْ، فأبطلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دمَها. "عن عليٍّ - رضي الله تعالى عنه -: أن يهوديةً كانت تشتمُ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتقع فيه"؛ أي: تغتابه. "فخنقها رجلٌ حتَّى ماتت، فأبطلَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دمَها"؛ لأنها أبطلت ذمَّتَها بشتمه - صلى الله عليه وسلم -. وفيه: دليل على أن الذمِّيَّ إذا لم يُكفَّ لسانَه عن الله تعالى ورسوله ودين الإِسلام فهو حربيٌّ مباحُ الدمِ، وعليه الشَّافعيّ. * * * 2676 - عن جُنْدُبٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "حدُّ السَّاحرِ ضربةٌ بالسَّيفِ". "عن جُندب - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: حدُّ الساحرِ ضربة بالسيف" ذهب جمع من الصَّحَابَة وغيرهم إلى قتل الساحر، رُوي: أن حفصةَ زوجةَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أَمرتْ بقتل جاريةٍ لها سحرتْها. وأن عمر: - رضي الله تعالى عنه - كتب: أن اقتلوا كلَّ ساحرٍ وساحرةٍ، قال الراوي: فقتلْنا ثلاثَ سواحرَ، وهو قول مالك، وتعلُّمه كفرٌ عندنا، خلافًا للشافعي. * * *

15 - كتاب الحدود

15 - كتاب الحدود

1 - باب

15 - كِتَابُ الحُدُودِ (كتاب الحدود) 1 - باب مِنَ الصِّحَاحِ: 2677 - عن أبي هريرةَ، وزيدِ بن خالدٍ: أن رَجُلينِ اختصَما إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ أحدُهما: اقضِ بينَنا بكتابِ الله، وقال الآخرُ: أجلْ يَا رسولَ الله، فاقضِ بيننَا بكتابِ الله وائذنْ لي أنْ أَتكلَّمَ، قال: "تَكَلَّمْ"، قال: إنَّ ابني كانَ عَسِيفًا على هذا، فزنىَ بامرأتِه فأَخبرُوني أن على ابني الرَّجمَ، فافتدَيْتُ مِنهُ بمئةِ شاةٍ وبجَاريةٍ لي، ثم إنِّي سأَلتُ أهلَ العِلْم فأَخبروني أن على ابني جلدَ مئةٍ وتَغرِيبَ عامٍ، وإنَّما الرجمُ على امرأتِهِ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا والذي نفسي بيدِه لأَقضيَنَّ بينَكما بكتابِ الله تعالى، أَمَّا غَنَمُكَ وجاريتُكَ فردٌّ عليكَ، وأمَّا ابنك فعليهِ جلدُ مئة وتغريبُ عامٍ، وأمَّا أنتَ يَا أُنيسُ فاغدُ على امرأةِ هذا فإنْ اعترفَتْ فارجمْها"، فاعترفَتْ فرجمَها. "من الصحاح": " عن أبي هريرة وزيد بن خالد: أن رجلَين اختصما إلى رسول الله، فقال

أحدهما: اقضِ بيننا بكتاب الله"؛ أي: بحكمِه. "وقال الآخر: أي: أي: نعمْ. "يَا رسولَ الله! فاقضِ بيننا بكتاب الله وائذَنْ لي أن أتكلَّمَ، قال: تكلَّمْ": وهذا يدل على أن للحاكم أن يبدأ باستماع كلام أيِّ الخصمَين شاء. "قال: إن ابني كان عَسيفًا"؛ أي: أجيرًا "على هذا": فعيل بمعنى: مفعول، كـ (أسير)، أو بمعنى: فاعل كـ (عليم)، وإنما قال: (عسيفًا على هذا)، ولم يقل: لهذا؛ نظرًا إلى جانب العَسِيف؛ فإن له على المستأجر الأجرةَ المسماةَ من جهة الخدمة، ولو قال: لهذا؛ لَكانَ نظره إلى جانب المستأجِر؛ لِمَا يَلزَم له على العَسِيف [من] العمل المسمى المعلوم. وفيه: دلالة على جواز إجارة الإنسان؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم يُنكِر قوله. "فزنى بامرأته، فأخبروني أن على ابني الرجمَ، فافتديت منه بمئةِ شاةٍ وجاريةٍ لي، ثم إنِّي سأَلتُ أهلَ العلم"، وفيه: دليل على أن الاستفتاءَ من المفضول مع وجود الفاضل جائزٌ. "فأخبروني أن على ابني جلدَ مئةٍ وتغريبَ عامٍ"؛ أي: سَنةٍ. "وإنما الرجمُ على امرأته، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أَمَا": حرف تنبيه. "والذي نفسي بيده! لاقضيَنَّ بينكما بكتاب الله"؛ أي: بما فرضَه وأوجبَه، قيل: ذَكر الرجمَ وإن لم يكن منصوصًا عليه صريحًا، فإنَّه مذكورٌ في الكتاب على سبيل الإجمال، وهو قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] والأذى ينطبق على الرجم وغيره من العقوبات. "أمَّا غنمُك وجاريتُك فردٌّ عليك"؛ أي: مردودٌ إليك، يدلُّ على أن المأخوذَ بعقدٍ فاسدٍ مستحقُّ الردِّ على صاحبه، غيرُ مملوكٍ للآخر.

"وأمَّا ابنك فعليه جلدُ مئةٍ" على تقدير إن ثبتَ ذلك بإقراره، أو بشهادة أربعة. "وتغريبُ عامٍ، وأما أنتَ يَا أُنيس": هو أُنيس الأسلمي. "فاغْدُ"؛ أي: اذهبْ وقتَ الغداة. "على امرأة هذا، فإن اعترفت"؛ أي: أقرَّتْ بالزنا "فارجُمْها، فاعترفتْ، فرجَمَها": وهذا يدل على إقامة الحد على المُقِرِّ على نفسه مرةً، وبه قال الشَّافعيّ، وعلى اشتراط عدم حضور الإِمام مجلسَ الرجم، وعلى جواز الوكالة في إقامة الحدود، وعلى أنها لو لم تعترفْ فلا حدَّ عليها، وعلى أن أحدَ الزانيَين لو كان مُحَصنا دونَ الآخر يُرجَم المُحصَنُ، ويُجلَد الآخرُ. * * * 2678 - عن زيدِ بن خالدٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يأمرُ فيمن زنىَ ولم يُحْصِنْ جلدَ مئةٍ وتَغريبَ عامٍ. "عن زيد بن خالد أنَّه قال: سمعتُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يأمر فيمَن زنى ولم يُحصن جلدَ مئةٍ وتغريبَ عام". مَن لم يَرَه من العلماء حدًّا يَحمل الأمرَ فيه على المصلحة، كما رُوي: أن رجلًا قَتلَ عبدَه عمدًا، فجلدَه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مئةَ ونفاه سنةً، ولم يكن ذلك بطريق الحدِّ، بل بطريق المصلحة التي رآها الإمام. * * * 2679 - وقال عمرُ - رضي الله عنه -: إنَّ الله تعالى بعثَ مُحمَّدًا بالحقّ وأنزلَ عليهِ الكتابَ، وكان ممَّا أَنزلَ الله: آيةَ الرَّجم، فرجَمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ورَجَمْنا بعدَه، والرَّجمُ في كتابِ الله حق على مَنْ زنىَ إذا أُحْصِنَ، مِن الرجالِ والنساءَ إذا قامَتْ البينة، أو كانَ الحَبَلُ، أو الاعترافُ.

"وقال عمر - رضي الله تعالى عنه -: إن الله بعث محمدًا - صلى الله عليه وسلم - بالحق، وأنزل عليه الكتابَ، فكان مما أنزل آيةُ الرجم": وهو قوله تعالى: {وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16]. "فرَجَمَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ورَجَمْنَا بعدَه، والرجمُ في كتاب الله حقٌّ على مَن زنى إذا أُحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة، أو كان الحَبَلُ" بفتح الباء؛ أي: الحَمْلُ. "أو الاعترافُ"؛ أي: الإقرارُ. * * * 2680 - عن عُبادةَ بن الصَّامتِ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خُذُوا عنِّي، خُذُوا عنِّي، قد جعلَ الله لهنَّ سبيلًا، البكرُ بالبكرِ جلدُ مئةٍ وتغريبُ عامٍ، والثيبُ بالثيبِ جلدُ مائةٍ والرَّجمُ". "عن عُبادة بن الصامت: أن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: خذوا عني"؛ أي: احفظوا عني هذا الحكمَ في حدِّ الزنا. "خذوا عني"، كرَّر للتأكيد. "قد جعل الله لهن سبيلًا"؛ أي: حدًّا واضحًا في حقِّ المحصن وغيره، وهو بيان قوله تعالى: {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا} [النساء: 15]. وإنما قال - صلى الله عليه وسلم -: (قد جعل الله لهن)، ولم يقل: لهم؛ ليوافقَ نظمَ القرآن. "البكْر"؛ أي: في زنا البكْر. "بالبكْر جلد مئة وتغريب عام": بيانٌ لذلك السبيل.

"والثيب"؛ أي: في زنا الشيب. "بالثيب جلد مئة والرجم"، وأكثر الصَّحَابَة والتابعين وعامة الفقهاء على أنَّه: لا جَلْدَ على المُحصَن مع الرجم، وقالوا: الجَلدُ منسوخٌ فيمَن وجب عليه الرجمُ. * * * 2681 - عن عبدِ الله بن عمرَ: أن اليهودَ جاؤوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فذكروا لهُ أن رجلًا مِنهم وامرأة زَنيَا، فقالَ لهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَجدونَ في التوراةِ؟، قالوا: نَفْضَحُهم ويُجْلَدُونَ، فقال عبدُ الله بن سَلَام: كذبْتم، إن فيها الرجمَ، فأتَوا بالتوراةِ فنَشَرُوها فوَضَعَ أحدُهم يدَه على آيةِ الرجم، فقرأَ ما قبلَها وما بعدَها، فقال له عبدُ الله بن سَلَام: ارفَعْ يدَكَ فرفَعَ يَدَه، فإذا فيها آيةُ الرجم - ويروى: فإذا فيها آيةُ الرَّجم تلوحُ - فأَمَر بهما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فرُجِما. "عن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: أن اليهودَ جاؤوا إلى النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم، فذكروا له أن رجلًا منهم وامرأةً زَنيَا، فقال لهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما تجدون في التوراة؟ قالوا: نَفضحُهم ويُجلَدون": سؤاله - صلى الله عليه وسلم - ليس لتقليدهم، ولا لمعرفة الحكم منهم؛ وإنما هو لإلزامهم ما يعتقدونه في كتابهم، ولإظهار ما كَتَمُوه من حكم التوراة. "قال عبد الله بن سلام: كذبتُم؛ إن فيها آيةَ الرجم، فَأَتَوا بالتوراة فنَشَرُوها"؛ أي: فتحوا التوراة. "فوضعَ أحدُهم": قيل: هو ابن صوريا، أعورُ من اليهود. "يدَه على آية الرجم، فقرأ ما قبلها وما بعدها، فقال له عبد الله بن سلام: ارفعْ يدَك، فرفع، فإذا فيها آيةُ الرجم".

"ويروى: فإذا آيةُ الرجم تَلُوحُ"؛ أي: تَظهَر. "فأَمرَ بهما رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرُجِمَا" فإن قيل: كيف رَجَمهما بقول اليهود: إنهما زَنيًا؛ إذ لا اعتبارَ بشهادتهم؟ قلنا: الظاهر أنهما أقرَّا بذلك، أو شَهِدَ عليهما أربعةٌ من المسلمين، والحديث يدل على أن أنكحتَهم توجب التحصينَ؛ إذ لا رجمَ إلَّا به، وعليه الشَّافعيّ. قلنا: رجمُه - صلى الله عليه وسلم - كان بحكم التوراة قبلَ نزول آية الجلد، ثم نُسخ. * * * 2682 - عن أبي هريرةَ - صلى الله عليه وسلم - قال: أتى النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلٌ وهو في المسجدِ فناداهُ: يَا رسولَ الله! إنِّي زنيتُ، فأَعرضَ عنه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فتَنَحَّى لِشقِّ وجههِ الذي أَعرضَ قِبَلَه فقال: إنِّي زنيتُ فأَعرَضَ عنه، فلمَّا شَهِدَ أربعَ شهاداتٍ دعاهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "أَبكَ جنون؟ " قال: لا، فقال: "أَحْصَنْتَ؟ " قال: نعم، يَا رسولَ الله، قال: "اذهبُوا بهِ فارجمُوه". "عن أبي هريرة أنَّه قال: أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رجل وهو في المسجد، فناداه: يَا رسول الله! إنِّي زنيت، فأعرض عنه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فتنحى لشقِّ وجهه الذي أعرض قِبَلَه"؛ أي: قَصَدَ الجهة التي إليها وجهُه ونحا نحوها. "فقال: إنِّي زنيت، فأعرض عنه، فلما شهد أربع شهادات"؛ أي: أقرَّ على نفسه أربع مرات، كأنه شهد عليها بإقراره بما يوجب الحد. "دعاه النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أبك جنون؟ قال: لا"؛ أي: ليس بي جنون. "فقال: أُحصنت"؛ أي: صرت محصنًا. "قال: نعم يَا رسول الله، قال: اذهبوا به فارجموه" وهذا يدل على أن

الإِمام ينبغي له أن لا يبادر إلى إمضاء الحد قبل تقرُّر مُوجِبه. * * * 2683 - وقال جابرٌ - رضي الله عنه -: فأَمَرَ بهِ فرُجِمَ بالمصلَّى، فلمَّا أَذْلَقَتْه الحجارةُ فرَّ فَأُدرِكَ فرُجِمَ حتَّى ماتَ، فقالَ لَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خيرًا، وصلَّى عليهِ. "وقال جابر - رضي الله تعالى عنه - فأمر به فرُجم بالمصلَّى، فلما أذلقته الحجارة"؛ أي: أصابته حِدَّتها وشدتها "فرّ"؛ أي: هرب. "فأُدرك فرُجم حتَّى مات" وهذا يدل على أن المرجوم لا يُشد ولا يُربط، ولا يجعل في حفرة، إذ لو كان شيء من ذلك لم يمكنه الفرار. "فقال له النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - خيرًا"؛ أي: أثنى عليه بعد موته. "وصلى عليه" صلاة الجنازة. * * * 2684 - وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: "لمَّا أتَى ماعِزُ بن مالكٍ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا رسولَ الله! زنيتُ فطهِّرْني، فقال لهُ: "لعلَّكَ قبَّلْتَ أو غَمَزْتَ أو نظرْتَ" قال: لا يَا رسولَ الله، قال: "أَنِكْتَها؟ " - لا يَكْني - قال: نعم، فعند ذلك أمرَ بِرَجمِهِ. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّه قال: لما أتى ماعز بن مالك النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: لعلك قبلت أو غمزتُ من غمزتُ الشيء بيدي؛ أي: لمستُه بها، أو من غمزته بعيني: إذا أشرف بها إليه. "أو نظرت" وهذا يدل على أن مَن أقرَّ بما يوجب عقوبة الله على نفسه فيجوز للإمام أن يلقِّنه ما يُسقط عنه الحد. "قال: لا يَا رسول الله، قال: أنكتها" من النيك وهو الجماع.

"لا يَكْني" من الكناية، وهو قول الراوي؛ أي: قال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - معه بالصريح لا بالكناية. "قال: نعم، فعند ذلك أمر برجمه". * * * 2685 - عن بُريدَة قال: جاءَ ماعِزُ بن مالك إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا رسولَ الله! طهِّرني، فقال: "ويحَكَ، ارجعْ فاستغفر الله وتُبْ إليهِ"، قال: فرجعَ غيرَ بعيدٍ ثم جاءَ فقال: يَا رسولَ الله! طهِّرني، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مثلَ ذلكَ، حتَّى إذا كانت الرابعةُ قالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فممَّ أُطهِّرُكَ؟ " قالَ: مِن الزنا، فسألَ رسولُ الله: "أَبهِ جنونٌ؟ " فأُخبرَ أنَّه ليسَ بمجنونٍ، فقال: "أشربَ خمراً؟ " فقامَ رجلٌ فاستَنْكَهَهُ فلم يجدْ منهُ ريحَ خمرٍ، فقال: "أَزَنيتَ؟ " قال: نعم، فأَمَرَ بهِ فرُجِمَ، فلَبثُوا يومينِ أو ثلاثةً ثم جاءَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "استغفُروا لِماعزِ ابن مالك، لقد تابَ توبةً لو قُسِمَتْ بينَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهم"، ثم جاءَتْه امرأةٌ مِن غامِدٍ من الأزْدِ فقالت: يَا رسولَ الله! طهِّرني، فقالَ: "ويحكِ! ارجِعِي فاستغفري الله وتوبي إليه"، فقالت: تُريدُ أنْ تُرَدِّدَني كما رَدَّدْتَ ماعِزَ بن مالكٍ، إنَّها حُبْلى مِن الزنا! فقال: "أنتِ؟ " قالت: نعم، قالَ لها: "حتَّى تَضَعي ما في بطنِكِ"، قال: فكَفَلَها رجلٌ من الأنصارِ حتَّى وضعَتْ، فأَتَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعَتْ الغامِديةُ، فقال: "إذًا لا نرجُمُها وندع ولدَها صغيراً لَيسَ له مَن تُرضعُه"، فقامَ رجلٌ مِن الأنصارِ فقال: إليَّ رَضاعُه يَا نبيَّ الله، قال: فرجَمَها. ويروى أنَّه قالَ لها: "اذهبي حتَّى تَلِدي"، فلمَّا وَلَدَتْ قال: "اذهبي فأَرضعيهِ حتَّى تَفْطِميه"، فلمَّا فطمَتْه أتته بالصبيِّ في يدِه كِسْرةُ خبزٍ فقالت: هذا يَا نبيَّ الله! قد فطمْتُه وقد كلَ الطعامَ، فدفعَ الصبيَّ إلى رجلٍ من المسلمينَ، ثم أمرَ بها فحُفِرَ لها إلى صدرها وأمَرَ النَّاسَ فرجمُوها، فيُقبلُ خالدُ بن الوليدِ بحجرٍ فرَمَى رأسَها،

فتَنَضَّح الدمُ على وجهِ خالدٍ فَسَبَّها، فقال النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مهلًا يَا خالدُ! فوَالذي نفسي بيدِه لقد تابَتْ توبةً لو تَابَها، صاحبُ مَكْسٍ لغُفِرَ لهُ"، ثم أَمَرَ بها فصلَّى عليها ودُفِنَت. "عن بريدة أنَّه قال: جاء ماعز بن مالك إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا رسول الله! طهّرني، فقال: ويحك" كلمة ترحُّمٍ وتوجُّعٍ. "ارجع واستغفر الله وتب إليه، قال: فرجع غير بعيد، ثم جاء فقال: يَا رسول الله! طهرني، فقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك، حتَّى إذا كانت الرابعة فقال له رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ممَّ أطهرِّك؟ قال: من الزنا"؛ أي: طهرني من ذنب الزنا بإقامة الحد عليَّ. "قال"؛ أي: الراوي: "فسأل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أبهِ جنون؟ فأُخبر أنَّه ليس بمجنون، فقال: أشربَ خمرًا؟ فقام رجل فاستنكهه"؛ أي: طلب نكهته وهي الرائحة "فلم يجد منه ريح خمر، فقال: أزَنيَت؟ قال: نعم، فأمر به فرجم، فلبثوا يومين أو ثلاثة، ثم جاء رسولَ الله فقال: استغفروا لماعز بن مالك" والفائدة منه طلبُ مزيد الغفران له من الترقِّي. "لقد تاب توبة لو قُسِمَت بين أمة محمَّد لوسعتهم"؛ يعني: تاب توبةً تستوجب مغفرةً ورحمة تستوعبان جماعة كثيرة من الخلق. "ثم جاءته امرأة من غامد": حي من اليمن. "من الأَزدِ": أبو حي، وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ. "فقالت: يَا رسول الله! طهِّرني، فقال: ويحكِ ارجعي واستغفري الله وتوبي إليه، فقالت: تريد" - خطاب إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - "إن تردِّدني كما ردَّدْتَ ماعز ابن مالك، إنها حبلى من الزنا" أرادت نفسَها، ولم تقل: إنِّي، حياءً.

"فقال: أَنْتَ؟ قالت: نعم، قال لها: حتَّى تضعي ما في بطنك، قال: فكفلها"؛ أي: تقبل حفظها والقيام بمصالحها "رجل من الْأَنصار حتَّى وضعت" وفيه دليل على أن الحامل لا يقام عليها الحدُّ ما لم تضع الحمل؛ لئلا يلزم إهلاكُ البريء بسبب المذنب، سواءٌ كانت العقوبةُ لله تعالى، أو للعباد. "فأتَى"؛ أي: ذلك الرَّجل "النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: قد وضعت الغامدية"؛ أي: المرأة الغامدية. "فقال"؛ أي: النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذن لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له مَن يرضعه، فقام رجل من الْأَنصار فقال: إلى رَضَاعه يَا نبي الله، قال: فرجمها". "وروي: أنَّه قال لها: اذهبي حتَّى تلدي، فلما ولدت قال: اذهبي فأرضعيه حتَّى تفطميه" فِطام الصبي: فِصاله عن أمه، وهذا يدل على أن رجم الحامل يؤخَّر إلى أن يستغني ولدها عنها إذا لم يوجد من يقوم بتربيته، وبه قال أبو حنيفة في رواية. "فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يَا نبي الله قد فطمتُه وقد كل الطعام، فدفع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها فحُفِر لها إلى صدرها" يدل على أنَّه يحفر للمرأة في الرجم. "وأمر النَّاس فرجموها" وهذه الرواية صريحةٌ في أن رجمها كان بعد الفطام، والرواية الأولى ظاهرةٌ في أن رجمها عقيب الولادة، والروايتان صحيحتان، تأويله: أن قوله: (إلى رضاعه) إنما كان بعد الفطام، وأراد بالرضاع: كفايتَه ومؤونته، سماه رضاعا مجازًا. "فيُقبل" بصيغة المضارعة من الإقبال. "خالد بن الوليد بحجر، فرمى رأسها فتنضَّح الدم"؛ أي: وقع رشاشُ دمٍ المرجومة "على وجه خالد، فسبها"؛ أي: شتمها خالد.

"فقال النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -: مهلًا يَا خالد"؛ أي: امهل مهلًا؛ أي: رفقًا، ولا تَغْتَبْ عليها؛ فإنَّها مغفورةٌ مرحومة. "فوالذي نفسي بيده لقد ثابت توبة لو تابها صاحبُ مَكْسٍ"، وهو ما يأخذه الماكس، وهو العشَّار الذي يأخذ العشر، وأصله: الخيانة. "لغُفِر له، ثم أَمُر بها فصُلِّي عليها ودُفِنت". * * * 2686 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال، سَمِعْتُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إذا زنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُم فتبيَّنَ زناها فلْيَجْلِدْها الحد ولا يُثرِّبْ عليها، ثم إنْ زَنَتْ فلْيجلِدْها الحدَّ ولا يثرِّبْ، ثم إنْ زنَت الثَّالثةَ فتبيَّنَ رناها فليَبعْها ولو بحبْلٍ من شَعرٍ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنَّه قال: سمعتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إذا زنت أمَةُ أحدكم فتبيَّن زناها فليجلدها الحد" نصب مفعول مطلق. وفي ذكر الأمة على الإطلاق إشعارٌ بأن حدَّها منكوحةً كانت أو غيرَها الجلدُ، إلَّا أنَّه نصفُ جَلْدِ الحرائر؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] أريد بالعذاب: الجلد لا الرجم؛ لأنه لا يتنصَّف. استدل بالحديث الشَّافعيّ على أن للمولى إقامةَ الحد على مملوكه، والحنفيون حملوا قوله: (فليجلدها) على التسبيب؛ يعني: ليكن سببًا لجلدها بالمرافعة إلى الإِمام. "ولا يثرِّب عليها؛ أي: لا يعيرها أحد بعد الحد فإنَّه كفارة لذنبها. ثم إن زنت فليجلدها الحدَّ ولا يثرِّب عليها، ثم إن رنت الثالثة فتبيَّن

زناها فليبعها ولو بحبلٍ من شعرٍ"؛ أي: وإن كان ثمنها قليلًا، وهذا الأمر للاستحباب، وهذا يدل على أن الزنا عيب يردُّ به المبيع، ولذا حطَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - به من قيمتها. فإن قيل: إنما يبيعها لأنه يكرهها، فكيف يرتضيها لأخيه المسلم؟!. قلنا: يبيعها على قصد أن تستعفَّ عند المشتري بهيبته، أو بالإحسان إليها، أو بغير ذلك. * * * 2687 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: يَاأيُّها النَّاسُ! أقيموا على أَرِقَّائِكُم الحدَّ، مَن أَحْصَنَ منهم ومَن لم يُحْصِنْ، فإنَّ أَمَةً لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - زنَتْ، فأَمَرَني أنْ أجلِدَها فإذا هيَ حديثُ عهدٍ بنفاسٍ، فخشيتُ إنْ أنا جلدتُها أنْ أقتُلَها، فذكرتُ ذلكَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: "أحسنتَ". وفي روايةٍ قال: "دعْها حتَّى ينقطعَ دمُها ثم أَقِمْ عليها الحدَّ، وأقيمُوا الحدودَ على ما ملكَتْ أيمانُكم". "عن علي - رضي الله تعالى عنه - أنَّه قال: يَا أيها النَّاس أقيموا على أرقَّائكم" - جمع رقيق -. "الحد" والمراد منه: الجلد. "من أُحصن منهم ومَن لم يُحصن، فإن أمةً لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زنت": وإنما صدر منها ذلك؛ لكونها قريبة العهد من الجاهلية. "فأمرني أن أجلدها، فإذا هي حديثُ عهدٍ بنفاسٍ، فخشيت إن أنا جلدتُها أن أقتلها، فذكرتُ ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: أحسنت"؛ أي: فعلت فعلًا حسنًا، وهذا يدل على أن جَلْدَ ذات النفاس يؤخَّر حتَّى تخرج من نفاسها؛ لأن نفاسها نوعُ مرضٍ فيؤخَّر إلى زمان البرُء.

"وفي رواية: دعها"؛ أي: اتركها "حتَّى ينقطع دمها، ثم أقم عليها الحدَّ، وأقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم". * * * مِنَ الحِسَان: 2688 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: جاءَ ماعِز الأسلَميُّ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنّه قد رنى - فذكر الحديثَ وقال - فلما وجدَ مسَّ الحجارةِ فرَّ يشتدُّ حتَّى مرَّ برجلٍ معه لَحْيُ جملٍ فضَربَهُ بهِ وضَربَهُ النَّاسُ حتَّى ماتَ، فذَكرُوا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّه فرَّ فقال: "هلاً تركتُموه". وفي رواية: "هلاً تركتُموه لعلَّه أنْ يتوبَ فيتوبَ الله عليهِ". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنَّه قال: جاء ماعز الأسلمي إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إنه قد زنى فذكر الحديث. "وقال"؛ أي: الراوي: "فلما وجد"؛ أي: ماعز "مسَّ الحجارة فر"؛ أي هرب "يشتد"؛ أي: يعدو. "حتَّى مر برجل معه لحْيُ جمل" (اللحي) بفتح اللام وسكون الحاء المهملة: منبتُ اللحية من الإنسان وغيره. "فضربه به وضربه النَّاس حتَّى مات، فذكروا لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّه فر فقال: هلا تركتموه" يدل على أن المقِرَّ على نفسه بالزنا لو قال: ما زنيت، أو: كذبت، أو: رجعت، سقط عنه الحد، وإن رجع في أثناء إقامته عليه سقط الباقي. وقال جمع: لا يسقط، إذ لو سقط لصار ماعز مقتولًا خطأ، فتجب الدية

على عواقل القاتلين. قلنا: بأنه لم يرجع صريحًا؛ لأنه هرب، وبالهرب لا يسقط الحد، وتأويل قوله: (هلا تركتموه)؛ أي: لننظر في أمره ونفتِّش عن المعنى الذي هرب من أجله؛ ليُعلم أهَرَبَ مِن ألم الحجارة، أو رجع عن إقراره بالزنا؟. "وفي رواية: هلا تركتموه لعله أن يتوب"؛ أي: عساه أن يرجع عن فعله. "فيتوب الله عليه"؛ أي: رجع بقبول توبته. * * * 2689 - عن ابن عباسٍ: "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لماعزٍ: "أَحَقٌّ ما بَلَغني عنكَ؟ " قال: وما بلنَكَ عني؟ قال: "بلغَني أنكَ وقعْتَ على جاربةِ آلِ فلانٍ"، قال: نعم، فشهدَ أربعَ شهاداتٍ فأَمَرَ به فرُجِمَ". "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال لماعز: أحق"؛ أي: أثابتٌ "ما بلغني عنك؟ قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني أنك وقعت على جارية آل فلان" وهو هَزَال مولى تلك الجارية، واسمها فاطمة؛ أي: زنيتَ بها. "قال: نعم، فشهد أربع شهادات"؛ أي: أقرَّ أربع مرات. "فأمر به برجمه فرُجم". * * * 2690 - عن ابن المُنكَدِر: أن هزَّالًا أَمَرَ ماعزًا أنْ يأتيَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيُخبرَهُ. "عن ابن المنكدر أن هزالًا" بفتح الهاء وتخفيف الزاي المعجمة.

"أمر ماعزًا أن يأتي النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - لي الله تعالى عليه وسلم فيخبره" يريد به السوء والهوان قصاصًا لفعله بمولاته. * * * 2691 - وعن يزيدَ بن نُعيم، عن أَبيه: أن ماعزًا أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأقرَّ عندَه أربعَ مراتٍ، فأمرَ برجمِهِ وقال لهزَّالٍ: "لو ستَرْتَه بثوبكَ كانَ خيرًا لك". "عن يزيد بن نعيم عن أَبيه: أن ماعزًا أتى النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأقر عنده أربع مرات، فأمر برجمه وقال"؛ أي: النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم "لهزال: لو سترته بثوبك لكان خيرًا لك" وفيه تعريض بالتوبيخ على صنيعه في هتك ستره. * * * 2692 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أَبيه، عن عبد الله بن عمرِو بن العاعرِ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "تَعافَوا الحُدودَ فيما بينَكم فما بَلغني مِن حدِّ فقد وَجب". "عن عمرو بن شعيب عن أَبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: تعافَوا الحدود فيما بينكم"؛ أي: ينبغي أن يعفو بعضُكم عن بعض قبل أن يبلغني عن حدود الله إذا رفع إليكم. "فما بلغني من حدٍّ فقد وجب"؛ أي: وجب عليَّ إقامتُها عليكم، يدل على أن الإِمام لا يجوز له العفو عن حدود الله إذا رفع [الأمر] إليه. * * * 2693 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: إنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَقِيلُوا

ذَوي الهَيْئاتِ عَثَراتِهم إلَّا الحُدودَ". "وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها -: أن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أقيلوا": من الإقالة بمعنى العفو. "ذوي الهيئات" جمع هيئة، وهي صورة الشيء وشكلهُ وحالته، والمراد هنا: الحالة التي يكون الإنسان عليها ونحوها، والمراد بذوي الهيئات هنا: ذوو المروءات وأصحاب الوجوه. وقيل: هم أهل الصلاح والورع. "عثراتهم": جمع عشرة وهي الزلة؛ يعني: اعفوا عن زلاتهم فيما يوجب التعزير. "إلَّا الحدود" قيل: استثناء الحدود دليلٌ على أن الخَطَّاب للأئمة الذين إليهم إقامة الحدود؛ فإنهم إذا بلغهم الحدود لا يقدرون على عفوها، وقيل: الخَطَّاب لذوي الحقوق، وقيل: لهما، والمراد بالعثرات. صغائر الذنوب وما يندر عنهم من الخطايا فيكون الاستثناء منقطعًا، أو الذنوب مطلقًا وبالحدود ما يوجبها من الذنوب فيكون متصلًا. * * * 2694 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرَؤوا الحدودَ عن المسلمينَ ما اسْتَطَعْتُمْ، فإنْ كانَ لهُ مَخْرَجٌ فخلُّوا سبيلَهُ، فإنَّ الإمامَ أنْ يُخطِيءَ في العفوِ خيرٌ مِن أن يُخطِيءَ في العقوبةِ" ولم يرفعْهُ بعضُهم وهو الأصحُ. "وعنها: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ادرؤوا الحدود"؛ أي: ادفعوها. "عن المسلمين ما استطعتم" بإظهار المحامل "فإن كان له"؛ أي: للحد

المدلول عليه بالحدود "مخرج"؛ أي: عذرٌ في دفعه "فخلوا سبيله فإن الإمام": الفاء للتعليل؛ يعني: ادفعوها ما استطعتم. قبل أن تصل إلى الإِمام، فإن الإِمام "أن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة"؛ يعني: إن يسلك سبيل الخطأ في عفو الذنب الذي صدر منكم خير من أن يسلك سبيل الخطأ في الحدود، فإن الحد إذا وصل إلى الإمام وجب عليه الإنفاذ. "ولم يرفع بعضهم"؛ أي: هذا الحديث إلى النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - "وهو الأصح". * * * 2695 - عن وائلِ بن حُجْرٍ - رضي الله عنه - قال: استُكْرِهَتْ امرأةٌ على عهدِ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، فدَرَأَ عنها الحَدَّ وأقامَهُ على الذي أصابَها، ولم يذكر أنَّه هل جعلَ لها مهرًا. "وعن وائل بن حجر أنَّه قال: استُكرهت امرأة"؛ أي: جامعها رجل بالإكراه. "على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: في زمانه. "فدرأ"؛ أي: دفع. "عنها الحد" لكونها مكرهةً. "وأقامه"؛ أي: الحد. "على الذي أصابها"؛ يعني: أمر بحدِّ الرَّجل فحُدَّ. "ولم يذكر"؛ أي: الراوي. "أنَّه هل جعل لها مهرًا" فعدم ذكره لا يدل على عدم وجوبه؛ لثبوت وجوبه بأحاديث أخرى. * * *

2696 - عن علقمةَ بن وائلٍ، عن أَبيه: أن امرأة خرجَتْ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تريدُ الصلاةَ، فتلقَّاها رَجُل فتَجَلَّلَها فقَضَى حاجتَه منها، فصاحَتْ وانطلقَ، ومرَّتْ عِصابةٌ مِن المُهاجرينَ فقالَت: إنَّ ذلكَ فعلَ بي كذا وكذا، فأخذوا الرجلَ فأتَوا بهِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها: "اذهبي فقد غفرَ الله لكِ" وقالَ للرَّجُل الذي وقعَ عليها: "ارجمُوه"، وقال: "لقد تابَ توبة لو تابَها أهلُ المدينةِ لَقُبلَ منهم". "عن علقمة بن وائل عن أَبيه: أن امرأة خرجت على عهد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تريد الصلاة فتلقاها"؛ أي: استقبلها؛ رجل فتجللها"؛ أي: غَشِيَها وعلاها، يقال: تجلَّلت بالثوب؛ أي: لبسته. "فقضى حاجته منها، فصاحت وانطلق، ومرت عصابة"؛ أي: جماعة "من المهاجرين فقالت: إن ذاك فعل بي كذا وكذا، فأخذوا الرَّجل فأتوا به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال لها: اذهبي فقد غفر الله لك"؟ يعني: ما أمر بحدها؛ لكونها مكرهة. "وقال للرجل" الذي وقع عليها: "ارجموه" معناه: أقر بالزنا، ثم أمر برجمه فرجموه لكونه محصنًا. "وقال: لقد تاب توبة لو تابها أهل المدينة لقُبل منهم". * * * 2697 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن رَجُلًا زَنَى بامرأةٍ فأَمَرَ بهِ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجُلِدَ الحدَّ، ثم أُخبرَ أنَّه مُحْصَنٌ فأمرَ به فرُجِمَ. "عن جابر - رضي الله تعالى عنه -: أن رجلًا زنى بامرأة، فأمر به النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فجلد الحد، ثم أُخبر أنَّه محصَن فأمر به فرجم"

وهذا يدل على أن أحد الأمرين لا يقوم مقام الآخر، وعلى أن الحاكم إذا حكم بشيء، ثم بأن أن الواجب غيره، وجب عليه الرجوع عنه إليه. * * * 2698 - عن سعيدِ بن سعدِ بن عُبادةَ: أن سعدَ بن عُبادة أبي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - برجل كانَ في الحيِّ مُخْدَجٍ سقيمٍ، فوُجِدَ على أَمةٍ مِن إمائِهم يَخْبُثُ بها فقال: "خُذُوا لهُ عِثْكالًا فيه مئةُ شِمْراخٍ فاضرِبُوهُ بهِ ضربةً". "عن سعيد بن سعد بن عبادة - رضي الله عنهما -: أن سعد بن عبادة أتى النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم برجل كان في الحي"؛ أي: في القبيلة. "مخدج"؛ أي: ناقص الخلق. "سقيم" صفة ثانية لـ (رجل). "فوُجد على أمة من إمائهم يخبث"؛ أي: يزني بها. "فقال"؛ أي: النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: "خذوا له عِثكالًا" بكسر العين: العِذْق، وهو العود الذي عليه البُسْرُ، وهو في النخل بمنزلة العنقود للعنب، وعيدان العثكال شماريخ، واحدها: شمراخ. "فيه مئة شمراخ فاضربوه به ضربة" قال الشَّافعيّ رحمه الله تعالى: هذا في المخدج، أو مريض لا يرجى بُرؤُه، فيضرب بما ذكر بحيث يتثاقل عليه الضرب بجميع الشماريخ، فإن كان على العثكال خمسون شمراخًا ضُرب به مرتين فيحصل الحد، قال الله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] وإن رُجي زوال مرضه أُخِّر الضرب حتَّى يبرأ. وهو يدل على أن للإمام المراقبة في الحدود، ولم هي كثيرٌ من العلماء العمل به لمخالفته النص وهو قوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور: 2]،

والضرب على هذا الوجه من جملة الرأفة. * * * 2699 - عن عكرمةَ، عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ وجدتُموه يعملُ عملَ قومِ لُوطٍ فاقُتلوه، الفاعِلَ والمفعولَ بهِ". "عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" وهذا أحد قولي الشَّافعيّ. قيل في كيفية قتلهما: يهدم بناء عليهما، وقيل: يرميهما من شاهق الجبل كما فُعل بقوم لوط، وقيل: يقتل بالضرب، وفي أظهر قولي الشَّافعيّ وهو قول أبي يوسف ومحمَّد: إن كان محصنًا يُرجم، وإلا فيجلد مدّة جلدة، ويحمل الحديث على مجرد التهديد من غير قصد إيقاع الفعل، ولأن الضرب الأليم قد يسمَّى قتلًا مجازًا. * * * 2700 - وقال: "مَن أتَى بهيمةَ فاقتُلُوهُ واقتلوها مَعَه". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من أتى بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه" عمل إسحاق بظاهر الحديث وقال: يقتل من أتى بها إن تعمَّد بذلك مع العلم بالنهي، قيل: إنما أمر بقتلهما لئلا يتولَّد منهما حيوان على صورة إنسان، أو كراهة أن يؤكل لحمها وقد فُعل بها ذلك الفِعل، وأن يلحق صاحبها خزي بإبقائها. وقيل: تقتل البهيمة وتحرق.

ذهب أبو حنيفة والشافعي ومالك وأَحمد إلى أن من أتى بهيمة يعزَّر ولا تقتل البهيمة، والحديث محمول على الزجر والوعيد. * * * 2701 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَخوَفَ ما أَخافُ على أمَّتي عملُ قومِ لُوْطٍ". "وعن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أخوف" أفعل تفضيل للمفعول. "ما أخاف على أمتي عمل قوم لوطًا"؛ يعني: إتيان المذكور، وإنما أضاف إليهم هذا العمل؛ لأنهم هم الفاعلون ابتداء، كما قال الله تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 28]. * * * 2702 - عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ رَجُلًا من بني بكرِ بن ليثٍ، أتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأَقَرَّ أنَّه زَنَى بامرأةٍ أربعَ مرَّات فجلدَه مِئَةً، وكانَ بِكرًا، ثم سألَهُ البينَةَ على المرأةِ فقالت: كذبَ فجُلِدَ حدَ الفِرْيَةِ ثمانينَ. "عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا من بني بكر بن ليث أتى النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فأقر أنَّه زنى بامرأة أربع مرات، فجلده مئةً وكان بكرًا، ثم سأله"؛ أي: النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم الرجلَ. "البينةَ على المرأة فقالت: كذب، فجُلد حدَّ الفِرْية"؛ أي: القذف؛ يعني: جلد ذلك الرَّجل الذي أقر بالزنا حدَّ القذف "ثمانين" جلدة لقذفه إياها بالزنا. * * *

2 - باب قطع السرقة

2703 - عن عَمْرَةَ، عن عائِشَةَ رضي الله عنها أنَّها قالت: لمَّا نزلَ عُذري قامَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - على المنبرِ فذكرَ ذلكَ، فلمَّا نزَلَ أَمَرَ بالرَّجُلَيْنِ والمرأةِ فضُرِبُوا حدَّهم. "عن عمرة عن عائشة أنها قالت: لما نزل عُذري" أرادت به الآيات الدالة على براءتها لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ} [النور: 11] إلخ، شبهتها بالعذر الذي يبرِّيءُ المعذور من الجُرْم. "قام النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم على المنبر فذكر ذلك، فلما نزل"؛ أي: من المنبر "أمر بالرجلين"؛ أي؛ بحدِّهما، وهما حسان بن ثابت ومسطح ابن أثاثة. "والمرأة"؛ أي: وبحدِّها، وهي حَمْنةُ بنتُ جَحْشٍ، فإنهم كانوا من أصحاب الإفك. "فضربوا حدهم"؛ أي: حدَّ المفترين؛ أي: القاذفين. * * * 2 - باب قطع السرقة (باب قطع السرقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 2704 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها، عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُقطَعُ يدُ السَّارقِ إلَّا في رُبُعِ دينارٍ فصاعِدًا". "من الصحاح": " عن عائشة رضي الله تعالى عنها عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: لا تقطع يد

السارق إلَّا في ربع دينار فصاعدًا"؛ أي: فزائدًا، والفاء فيه لعطف جملة على جملة نصب على الحال من المسروق المقدَّر، يعني: إذا وقع المسروق من (¬1) ربع دينار فيقع مرة أخرى في حال كونه زائدًا على الربع الذي هو نصاب القطع، والحديث يدل على أنْ لا قطع فيما دون ربع دينار، وهو قول الشَّافعيّ. * * * 2705 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: قَطعَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يدَ سارق في مِجَنٍّ، ثمنُه ثلاثةُ دراهمَ. "عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنَّه قطع النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - يد سارق في مجنٍّ" وهو الترس، مِفْعَل من جَنَّ؛ أي: سَتَرَ. "ثمنه ثلاثة دراهم" أوَّلَ الشَّافعيّ حديث المجن على مساواته ربع دينار؛ لصرف اثني عشر درهمًا بدينار؛ لأن التقويم في ذلك الزمان كان بالدنانير فتُقوَّم الدراهم أَيضًا بها. * * * 2706 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: "لعنَ الله السَّارقَ يسرقُ البيضةَ فتُقطَعُ يدُه، ويسرقُ الحبلَ فتُقطَعُ يدُه". "عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - عن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" قيل: المراد بالبيضة بيضة الحديد، وبالحبل حبل السفينة، وقيل: كان القطع بالقليل شرعًا في الابتداء، ثم نسخ بحديث عائشة رضي الله تعالى عنها. ¬

_ (¬1) في "ت": "مرة" مكان "من".

وقيل: معناه: يتَّبع نفسه أولًا في أخذ أمثال هذه المحقَّرات، حتَّى يعتاد السرقة فيفضي إلى أخذ نصاب القطع، أو المراد به التهديد. * * * 2707 - عن رافعِ بن خَديجٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا قطْعَ في ثَمرٍ ولا كثَرٍ". "من الحسان": " عن رافع بن خديج عن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّه قال: لا قطع في ثمر" وهو يقع على كل الثمار، ويغلب عندهم على ثمر النخل وهو الرُّطب ما دام على رأس النخل. "ولا كَثَرٍ" بالتحريك: جُمار النخل - بضم الجيم -؛ أي: شحمه الذي في وسطه يؤكل، وقيل: الطلع أول ما يبدو وهو يؤكل أَيضًا. وقد عمل أبو حنيفة بظاهر هذا الحديث، فلم يقطع في سرقة فاكهة رطبة وإن كانت مُحْرزة، وتأوَّله الشَّافعيّ - رحمة الله عليه - على الثمار المعلقة غير المحرزة كنخيل المدينة، إذ لا حوائط أكثرها. * * * 2708 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أَبيه، عن جدِّه عبدِ الله بن عمروِ بن العاصِ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّه سُئِلَ عن الثَّمرِ المُعلَّقِ، قال: "مَن سرقَ منه شيئًا بعدَ أنْ يُؤويَهُ الجَرِينُ، فبلغَ ثمنَ المِجَنِّ فعليهِ القطْعُ". "عن عمرو بن شعيب عن أَبيه عن جده - رضي الله تعالى عنهم - عن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّه سئل عن الثمر المعلق، قال: من سرق منه

شيئًا بعد أن يؤويه الجَرين"؛ أي: يُحرزه البيدر، وهو الموضع الذي يجمع فيه التمر للتجفيف. "فبلغ ثمن المجن فعليه القطع". * * * 2709 - وقال: "لَا قَطْعَ في ثمرٍ مُعَلَّقٍ، ولا في حَرِيسةِ جبل، فإذا آواهُ المُراحُ والجَرِينُ، فالقطعُ فيما بلغَ ثمنَ المِجَنِّ". "وقال: لا قطع في ثمر معلَّقٍ ولا في حريسة الجبل" أراد به ما يحرس في الجبل من النعم، يعني: لا قطع فيما سُرق من المرعى؛ لأنها لا تكون مُحرزةً في الغالب؛ لأنها تسرح بلا راع. وقيل: الحريسة: الشاة المسروقة ليلًا، وإنما أضيفت إلى الجبل لأن المحرس - أي: السارق - يذهب بها إلى الجبل ليكون أحرز من الطلب. "فإذا آواه المُراح" بضم الميم: مأوى الإبل والغنم للتحرز (¬1) بالليل. "والجرين، فالقطع فيما بلغ ثمن المجن". * * * 2710 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ على المُنتَهِبِ قطعٌ، ومَنْ انتَهَبَ نُهبَةً مشهورة فليسَ مِنا". "عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس على المنتهِب"؛ أي: المغير "قطع" لأنه ليس بسارق. "ومن انتهب نهبة مشهورة"؛ أي: ظاهرة معايَنةً غيرَ مَخْفِيَّة. ¬

_ (¬1) في "غ": "للحرز".

"فليس منا"؛ أي: من أخلاقنا ولا من طريقتنا. * * * 2711 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ على خائنٍ، ولا مُنتهِبٍ، ولا مُختلِسٍ قَطْعٌ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليس على خائن" المراد به: مَن يخون خيانةً لا يَصْدُق عليه فيها تعريفُ السارق؛ لكون المال دون نصابٍ، أو في حرزٍ، أو له شبهةٌ. "ولا منتهب ولا مختلس" وهو الذي استلب متاعًا من إنسان، "قطع". * * * 2712 - ورُوِيَ: أن صفوانَ بن أُميَّةَ قدِمَ المدينةَ فنامَ في المسجدِ وتَوَسَّدَ رِداءَهُ، فجاءَ سارقٌ وأخذَ رِداءَه، فأخذهُ صفوانُ، فجاءَ بهِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأَمَرَ أنْ تُقْطَعَ يدُه، فقال صفوانُ: إنِّي لم أُرِدْ هذا، هو عليهِ صدقةٌ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فهلاَّ قبلَ أنْ تأتيَني به". "وروي: أن صفوان بن أمية قدم المدنية فنام في المسجد وتوسَّد رداءه، فجاء سارق وأخذ رداءه، فأخذه صفوان فجاء به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فأمران تقطع يده، فقال صفوان: إنِّي لم أُرد هذا هو عليه صدقة، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فهلاَّ قبل أن تأتيني به"؛ أي: لم لا تركت حقك عليه وعفوتَ عنه قبل إتيانك إليّ به، وأما الآن فقطعُه واجب، ولا حقَّ لك فيه، بل هو من الحقوق الخالصة للشرع ولا سبيل فيها إلى الترك، وفيه دليل على أن العفو جائز قبل أن يعرف الحاكم. * * *

2713 - عن بُسْرِ بن أَرَطاةَ قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَّا تُقطَعُ الأَيْدي في الغَزوِ". "عن بُسْر بن أرطاة أنَّه قال: سمعت النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا تقطع الأيدي في الغزو"؛ يعني: لا تقطع يد السارق في الغزو إذا كان الجيش في دار الحرب ولم يكن الإمام فيهم، وإنما يتولَّاهم أمير الجيش، وإنما لم يقطع لاحتمال افتتان المقطوع باللحوق بدار الحرب، أو لأنه لو قطع لم يتمكن من الدفع عن نفسه في الحرب، فيُترك إلى أن ينفصل الجيش. * * * 2714 - عن أبي سلَمةَ، عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال في السَّارقِ: "إنْ سَرَقَ فاقطعُوا يَدهُ، ثمَّ إنْ سرقَ فاقطعُوا رِجْلَه، ثم إنْ سرَقَ فاقطعوا يدَه، ثم إنْ سرَقَ فاقطعوا رِجْلَه". "عن أبي سلمة عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال في السارق: إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله، ثم إن سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا رجله" اتفقوا على أن السارق أول مرة تُقطع يده اليمنى، وثانيةً رجلُه اليسرى، ولو سرق بعد ذلك فقيل: لا يقطع بل يحبس، والأكثر: على أنَّه تقطع في الثالثة يده اليسرى، وفي الرابعة رجله اليمنى، ثم بعده لو سرق عُزِّر وحبس، وعليه مالك والشافعي. * * * 2715 - ورُوِيَ عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: جيءَ بسارقٍ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اقطعُوه" فقُطِعَ، ثم جيءَ به الثانيةَ فقال: "اقطعُوه" فقُطِعَ، ثم جيء به الثالثةَ فقال: "اقطعُوه" فقُطِعَ، ثم جيءَ به الرابعةَ فقال: "اقطعُوه" فقُطِعَ، فأُتيَ به

الخامسةَ فقال: "اقتُلوه"، فانطلقْنا به فقتلْناه، ثم اجترَرْناه فألقيناهُ في بئرٍ ورميْنَا عليهِ الحِجارةَ. "وروي عن جابر رضي الله تعالى عنه أنَّه قال: جيء بسارق إلى النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: اقطعوه، فقطع، ثم جيء به الثَّانية فقال: اقطعوه، فقطع، ثم جيء به الثالثة فقال: اقطعوه، فقطع، ثم جيء به الرابعة فقال: اقطعوه، فقطع، فأتي به الخامسة فقال: اقتلوه، فانطلقنا به فقتلناه، ثم اجتررناه"؛ أي: جررناه. "فألقيناه في بئر ورمينا عليه الحجارة" قال الخطابي: لم أعلم أحدًا من الفقهاء يحيى دم السارق وإن تكررت منه السرقة، إلَّا أنَّه قد يُخرَّج على مذهب بعض الفقهاء إباحة دمه؛ لكون هذا من المفسدين في الأرض، فإن للإمام أن يجتهد في تعزيرهم ويَبْلُغَ منهم ما رأى من العقوبة بالتعزير والقتل وغير ذلك. وقيل: هذا الحديث منسوخ بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل دم امرى مسلم إلَّا بإحدى ثلاث" الحديث. وقيل: كان - صلى الله عليه وسلم - علم ارتداد هذا المقطوع فأباح دمه وأمر بقتله. وقيل: الوجه أن يحمل على أنَّه كان مستحلًّا للسرقة، وهو الظاهر؛ لأن اجتراره برجله وإلقاءه في البئر لو كان مسلمًا لم يجز. * * * 2716 - ورُوِيَ في قطعِ السارقِ عن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقطعُوه ثم احسِمُوه". "وروي في قطع السارق عن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: اقطعوه، ثم احسموه" وأصل الحسم: القطع، والمراد به هنا: كيُّ العروق لينقطع به الدم. * * *

3 - باب الشفاعة في الحدود

2717 - عن فُضالةَ بن عُبيدٍ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بسارقٍ فقُطِعَتْ يَدُه، ثم أَمَرَ بها فعُلِّقَت في عُنقِهِ. "عن فضالة بن عبيد أنَّه قال: أُتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بسارق فقطعت يده، ثم أَمر بها"؛ أي: النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم باليد المقطوعة "فعلِّقت في عنقه، ليكون عِبرة ونكالًا. * * * 2718 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سرقَ المَمْلوكُ فبعْهُ ولو بنشٍّ"، متصل. "عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا سرق المملوك فبعه ولو بنشٍّ": بتشديد الشين المعجمة: عشرون درهمًا نصف أوقية. والحديث يدل على أن السرقة في المملوك عيب، والعامة على قطع يده أَيضًا. "متصل". * * * 3 - باب الشَّفاعةِ في الحُدودِ (باب الشفاعة في الحدود) مِنَ الصِّحَاحِ: 2719 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أن قُريشًا أَهَمَّهم شأنُ المَرأةِ المخزوميَّةِ

التي سرقَتْ فقالوا: مَنْ يُكلِّمُ فيها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالوا: ومَن يَجترِيءُ عليهِ إلَّا أُسامةُ بن زيدٍ حِبُّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلَّمَه أُسامةُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَتشفعُ في حد مِن حدودِ الله!؟ " ثم قامَ فاختطبَ ثم قال: "إنَّما أَهلكَ الذينَ مِن قبلِكم أنَّهم كانوا إذا سَرقَ فيهم الشريفُ تركُوهُ، وإذا سرقَ فيهم الضعيفُ أقامُوا عليهِ الحدَّ، وَايمُ الله، لو أن فاطمةَ بنتَ مُحَمَّد سَرقَتْ لقطعْتُ يدَها". ورُوِيَ عن عائشةَ رضي الله عنها أنها قالت: كانتْ امرأةٌ مخزوميةٌ تستعيرُ المَتاعَ وتجحدُ، فأمرَ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بقطعِ يدِها، فأتَى أهلُها أسامةَ فكلَّموه، فكلَّمَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيها، فذكَر نحوه. "من الصحاح": " عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن قريشًا أهمَّهم" أي: أقلقهم وأحزنهم "شأن المرأة المخزومية"؛ أي: أمرها، وهي فاطمة بنت الأسود بن عبد الأسد، بنتُ أخي أبي سلمة. "التي سرقت، فقالوا: مَن يكلِّم فيها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، ومَن يجترئ عليه إلَّا أسامة بن زبد حِبُّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، بكسر الحاء؛ أي: محبوبة. "فكلمه أسامة، فقال النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: أتشفع" بهمزة الاستفهام للتوبيخ. "في حد من حدود الله، ثم قام فاختطب" بمعنى خطب. "ثم قال: إنما أهلك الذين من قبلكم أنَّهم كانوا" بفتح الهمزة، فاعل (أهلك). "إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد" وهذا حصر ادِّعائي؛ لأن الأمم الماضية كانت فيهم أمور كثيرة غير

المحاباة في حدود الله تعالى. "وايم الله" اسم موضوع للقسم، أصله: أيمن حذفت نونه للتخفيف. "لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطعت يدها" إنما ضرب المثل بفاطمة؛ لأنها كانت أعز أهله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وفيه دليل على أن الشفاعة في الحدود غير جائزة بعد بلوغ الإِمام، وأما قبله فالشفاعة من المجني عليه جائزة، والستر على المذنب مندوبٌ إذا لم يكن صاحبَ شر وأذًى؛ لمَا مر أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال لهزال عند أمره برجم ماعز: "لو سترت عليه بثوبك لكان خيرًا لك". "وروي عن عائشة - رضي الله تعالى عنه - أنها قالت: كانت امرأة مخزومية تستعير المتاع وتجحد" وإنما ذكرت جحودها المتاع المستعار تعريفًا لها بخاصِّ صفتها، إذ من عادتها وصنيعها أخذُ أموال النَّاس بغير حق إلى أن سرقت سرقة. "فأمر - صلى الله عليه وسلم - بقطع يدها، فأتى أهلها أسامة فكلَّموه، فكلَّم"؛ أي: أسامةُ "رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيها"؛ أي: في شأن المخزومية وشفاعتها. "فذكر نحوه"؛ أي: ذكر الراوي عن عائشة ثانيًا نحوَ ما ذُكر في حديثها أولًا، أو ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحو قوله: (أتشفع في حد ...)! لخ. * * * مِنَ الحِسَان: 2720 - عن عبدِ الله بن عمرَ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن ¬

_ (¬1) بعدها في "ت" "وسميته لها" وفي "غ": "وسميه لها".

حالَتْ شفاعتُه دونَ حدٍّ مِن حدودِ الله تعالى فقد ضادَّ الله، ومَن خاصَمَ في باطلٍ هو يعلَمُه لَمْ يزلْ في سخطِ الله تعالى حتَّى ينزِعَ، ومَن قالَ في مُؤْمِنٍ ما ليسَ فيه أَسكنَهُ الله رَدْغَةَ الخَبالِ حتَّى يخرُجَ ممّا قالَ". ويُروى: "ومَن أعانَ على خُصومةٍ لا يدري أَحَقٌّ هو أمْ باطلٌ، فهو في سخطِ الله حتَّى ينزِعَ". "من الحسان": " عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: من حالت"؛ أي: حجبت "شفاعته دون حدِّ"؛ أي: لأجل حد، يعني: مَن مَنعَ بشفاعته حدًا "من حدود الله، فقد ضادَّ الله"؛ أي: خالف أمره؛ لأن حكم الله فيه إقامة الحدود، وهذا بعد بلوغه إلى الإِمام. "ومن خاصم في باطل وهو يعلمه"؛ أي: يعلم بطلانه. "لم يزل في سخط الله تعالى حتَّى ينزع"؛ أي: حتَّى ينتهي عن مخاصمته، يقال: نزع عن الأمر نزوعًا إذا انتهى عنه. "ومن قال في مؤمن ما ليس فيه" من القبائح والمساوئ. "أسكنه الله رَدْغة الخبال" الردغة - ساكنًا ومتحركًا - في الأصل: طين ووحل شديد، وأهل الحديث يروونه بالسكون لا غير، والمراد به: عصارة أهل النَّار، والخبال: الفساد، سمي به الصديد لأنه من المواد الفاسدة، قيل: الخبال موضع في جهنم مثل الحياض يجتمع فيها صديد أهل النَّار وعصارتهم. "حتَّى يخرج مما قال": بأن يتوب عنه ويستحلَّ من المقول في حقه. "ويروى: من أعان على خصومة لا يدري أحق هو أم باطل فهو في سخط الله حتَّى ينزع".

4 - باب حد الخمر

2721 - عن أبي رِمْثَةَ المخزوميِّ - رضي الله عنه -: أن النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بلصٍّ قد اعترتَ اعترافًا وَلَمْ يوجدْ معَهُ مَتاعٌ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما إخالُكَ سرقتَ؟ " قال: بلى، فأعادَ عليهِ مرتينِ أو ثلاثًا، فأمرَ بهِ فقُطِعَ وجيءَ بهِ فقالَ: "استغفر الله وتُبْ إليهِ"، فقالَ: أَستغفِرُ الله وأتوبُ إليهِ، فقال: "اللهمَّ تُبْ عليهِ" ثلاثًا. "عن أبي رمثة المخزومي: أن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أُتي بلص"؛ أي: سارق "قد اعترف"؛ أي: أقر بسرقته "اعترافًا، ولم يوجد معه متاع، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما إخالك"؛ أي: أظنك "سرقت، قال: بلى، فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا" شك من الراوي. "فأمر به فقطع" وهذا يدل على أن للإمام أن يُعرِّضَ للسارق بالرجوع وأنه لو رجع بعد اعترافه سقط القطع كما في حد الزنا، وهو أصح القولين. "وجيء به"؛ أي: بالسارق "فقال: استَغْفِرِ الله وتب إليه، فقال: أستغفر الله وأتوب إليه، قال: اللهمَّ تب عليه، ثلاثًا"؛ أي: ثلاث مرات. * * * 4 - باب حدَّ الخمرِ (باب حد الخمر) مِنَ الصِّحَاحِ: 2722 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ضربَ في الخمرِ بالجَريدِ والنِّعالِ، وجلَدَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه - أربعينَ. وفي روايةٍ عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - كان يضرِبُ في الخمرِ بالجريدِ والنِّعال أربعينَ.

"من الصحاح": " عن أنس رضي الله تعالى عنه: أن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالجريد" وهو غصن النخل الذي جرِّد عنه الخُوصُ، وهو ورق النخل. "والنعال، وجَلَد أبو بكر أربعين". "وفي رواية عن أنس: أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين" وبه قال الشَّافعيّ. * * * 2723 - عن السَّائبِ بن يزيدَ قال: "كانَ يُؤتَى بالشَّاربِ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإمْرَةِ أبي بكرٍ وصَدْرًا مِن خلافةِ عمرَ، فنقومُ فيهِ بأيدينا ونعالِنا وأَرديَتِنا، حتَّى كانَ آخرُ إمرةِ عمرَ - رضي الله عنه - فجلدَ أربعينَ، حتَّى إذا عَتَوا وفسقُوا جلدَ ثمانينَ". "عن السائب بن يزيد قال: كان يؤتى بالشارب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإمرة أبي بكر"؛ أي: في زمان إمارته. "وصدرًا من خلافة عمر"؛ أي: شيئًا من أوائل عهده. "فنقوم فيه بأيدينا ونعالنا وأرديتنا" جمع رداء. "حتى كان آخر إمرة عمر رضي الله تعالى عنه"؛ أي: آخر زمان إمارته. "فجلد أربعين، حتَّى إذا عتوا"؛ أي: أفسدوا وانهمكوا في الطغيان، وقيل: أي: جاوزوا الحد بالفسق. "وفسقوا جَلَدَ ثمانين". * * *

مِنَ الحِسَان: 2724 - عن جابرِ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مَنْ شَرِبَ الخمرَ فاجلِدُوه، فإنْ عادَ في الرَّابعةِ فاقتُلُوه". قال: ثم أُتِيَ النَّبِيّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعدَ ذلكَ برجلٍ قد شربَ في الرَّابعةِ فضَربَهُ ولم يقتلْهُ. "من الحسان": " عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاقتلوه" لم يذهب أحدٌ قديمًا وحديثًا أن شارب الخمر يقتل. قال الخطابي: قد يَرِدُ الأمر بالوعيد ولا يراد به وقوع الفعل، وإنما يقصد به الردع والتحذير، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل عبده قتلناه"، وقيل: كان ذلك في ابتداء الإِسلام. "قال: ثم أتي النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك برجل قد شرب في الرابعة فضربه ولم يقتله": فثبت بهذا أن القتل بشُرب الخمر في الرابعة منسوخ. * * * 2725 - وعن عبدِ الرحمنِ بن الأزهرِ - رضي الله عنه - قال: كأني أنظرُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إذْ أُتيَ برجلٍ قد شَرِبَ الخمرَ، فقالَ للناسِ: "اضرِبُوه"، فمِنهم مَنْ ضربه بالنِّعالِ، ومنهم مَن ضربَه بالعَصا، ومِنهم مَن ضربَهُ بالمِيتَخَةِ، ثم أَخَذَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تُرابًا مِن الأرضِ فرمَى بهِ في وجهِهَ. "عن عبد الرَّحْمَن بن الأَزْهَر قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أُتي برجل قد شرب الخمر فقال للنَّاس: اضربوه، فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالعصا، ومنهم ضربه بالمِيتَخَة" بكسر الميم

وسكون الياء المثناة من تحت وفتح التاء المثناة من فوق وبالخاء المعجمة: اسم لجريد النخل، وقيل: العصا الخفيفة، وقيل: القضيب الدقيق اللين، وقيل: كلُّ ما ضرب به من عصا وجريدٍ ودرَّةٍ وغيرِ ذلك. "ثم أخذ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ترابًا من الأرض فرمى به في وجهه". * * * 2726 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أُتيَ برجلٍ قد شرِبَ الخمرَ فقال: "اضرِبُوه"، فمِنَّا الضارِبُ بيدِه، والضارِبُ بثوبه، والضاربُ بنعلِه، ثم قال: "بَكِّتُوه"، فأقبلُوا عليهِ يقُولونَ: ما اتقيتَ الله؟ ما خشيتَ الله؟ وما استحيَيْتَ مِن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقالَ بعضُ القوم: أَخزاكَ الله، قال: "لا تقُولوا هكذا، لا تُعينُوا عليهِ الشيطانَ، ولكنْ قولوا: اللهمَّ اغفرْ لهُ اللهمَّ ارحمْهُ". "عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أُتي برجل قد شرب الخمر فقال: اضربوه، فمنا الضاربُ بيده والضاربُ بثوبه والضاربُ بنعله، ثم قال: بكِّتوه" من التبكيت التوبيخ والتعيير (¬1) باللسان. "فأقبلوا عليه يقولون: ما اتقيت الله؟ ما خشيت الله؟ وما استحييت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال بعض القوم: أخزاك الله"؛ أي: أفضحك. "فقال: لا تقولوا هكذا، لا تُعِينوا عليه الشيطان" بسبب هذا الدعاء عليه، فإن الله تعالى إذا أخزاه استحوذ عليه الشيطان، أو لأنه إذا سمع منكم ذلك يُقطع رجاؤه من رحمة الله، أو غضب فدام على الإصرار فيصير الدعاء عليه ¬

_ (¬1) في "ت": و"والتعزير".

معونةَ في إغوائه وتسويله. "لكن قولوا: اللهمَّ اغفر له اللهمَّ ارحمه". * * * 2727 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - قال: شرِبَ رجلٌ فسكرَ، فلُقيَ يميلُ في الفَجِّ، فانطُلِقَ بهِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا حاذَى دارَ العبَّاسِ انفلَتَ فدخلَ على العبَّاسِ فالتزَمَهُ، فذُكِرَ ذلكَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فضحِكَ وقال: "أفعَلَها؟ " ولم يَأْمُرْ فيهِ بشيءٍ. "عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنَّه قال: شرب رجل فسكر فلُقي" على صيغة المجهول. "يميل" نصب على الحال من الضمير في (لقي). "في الفج"؛ أي: في الطريق الواسع. "فانطُلق به إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فلما حاذى"؛ أي: قابل. "دار العباس انفلت"؛ أي: فرَّ وهرب. "ودخل على العباس والتزمه"؛ أي: اعتنق الشاربُ العباسَ؛ يعني: تمسَّك به. "فذُكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فضحك وقال: أفعَلها؟ " الضمير المنصوب للفعلة المذكورة. "ولم يأمر فيه"؛ أي: النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم في الرَّجل الشارب. "بشيء"؛ يعني: لم يحدَّه؛ لأن شربه لم يثبت عنده - صلى الله عليه وسلم - بشهادة العدول. * * *

5 - باب لا يدعى على المحدود

5 - باب لا يُدْعى على المَحدودِ (باب لا يدعى على المحدود) من السوء كاللعنة ونحوها. مِنَ الصِّحَاحِ: 2728 - عن عمرَ بن الخطابِ - رضي الله عنه - قال: إنَّ رَجُلًا اسمُه عبدُ الله يُلقَبُ حِمارًا، كانَ يُضْحِكُ النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قد جَلَدَهُ في الشرابِ، فأُتيَ به يومًا فأَمَرَ به فجُلِدَ، فقال رَجُلٌ مِن القومِ: اللهمَّ العَنْه، ما أكثرَ ما يُؤتَى بهِ! فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَلْعنُوهُ، فَوَالله ما عَلِمْتُ إلَّا أنَّه يحبُ الله ورسولَهُ". "من الصحاح": " عن عمر بن الخَطَّاب رضي الله تعالى عنه: أن رجلًا اسمه عبد الله يلقب حمارًا كان يُضحِك النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - قد جلده في الشراب، فأتي به يومًا فأَمَر [به] فجُلِدَ، فقال رجل من القوم: اللهمَّ العنه ما أكثر ما يؤتى به" (ما) للتعجب؛ يعني: كم يوجد، أو يؤخذ بشرب الخمر. "فقال النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تلعنوه، فوالله ما علمتُ" (ما) موصولة أو مصدرية، وهو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: فوالله لهو الذي علمتُه، أو في علمي "أنَّه يحب الله ورسوله"، أو زائدة؛ أي: لقد علمتُ منه ذلك، لكنه قد يصدر منه الزَّلَّة، وهذا يدل على أنَّه لا يجوز لعن المذنب. * * * 2729 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - برجلٍ قد شرَبِ فقال: "اضرِبُوه" فمِنَّا الضارِبُ بيدِه، والضارِبُ بنعلِه، والضارِبُ بثوبهِ، فلمَّا

انصَرفَ قالَ بعضُ القومِ: أخزاكَ الله، قالَ: "لا تقولُوا هكذا، لا تُعِينُوا عليهِ الشيطانَ". "عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أنَّه أتي النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - برجل قد شرب الخمر فقال: اضربوه، فمنا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلما انصرف قال بعض القوم: أخزاك الله، قال: لا تقولوا هكذا، لا تعينوا عليه الشيطان". * * * مِنَ الحِسَان: 2730 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: جاءَ الأسلَميُّ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فشهِدَ على نفسِهِ أنهُ أصابَ امرأةً حرامًا، أربعَ مراتٍ، كلَّ ذلكَ يُعرِضُ عنهُ، فأَقبَلَ في الخامسةِ فقالَ: "أَنِكْتَها؟ "، قال: نعم، قال: "حتَّى غابَ ذلكَ منكَ في ذلكَ منها" قال: نعم، قال: "كما يغيبُ المِرْوَدُ في المُكْحُلَةِ، والرِّشاءُ في البئرِ"، قال: نعم، قال: "هل تَدري ما الزِّنا؟ " قال: نعم، أتيْتُ منها حَرامًا ما يأتي الرَّجُلُ مِن أهلِهِ حَلالًا، فأَمَرَ بهِ فرُجِمَ، فسمعَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - رجُلينِ مِن أصحابهِ يقولُ أحدُهما لصاحبه: انظرْ إلى هذا الذي سترَ الله عليهِ، فلمْ تدعْهُ نفسُه حتَّى رُجِمَ رجْمَ الكلبِ، فسَكتَ عنهما، ثم سارَ ساعةً حتَّى مرَّ بجيفِة حمارٍ شائلٍ برجلِه، فقال: "أينَ فلانٌ وفلان؟ " فقالا: نحنُ ذانِ يَا رسولَ الله فقال: "انزِلا فكُلا من جِيفةِ هذا الحِمارِ"، فقالا: يَا نبيَّ الله! مَنْ يأكلُ مِنْ هذا؟ قال: "فما نِلتُما مِن عِرْضِ أخيكُما آنِفًا أشدُّ مِن أكلٍ منه، والذي نفسي بيدِه إنَّه، الآنَ لَفي أنهارِ الجنَّةِ ينغمِسُ فيها". "من الحسان": " عن أبي هريرة أنَّه قال: جاء الأسلمي" وهو ماعز بن مالك.

"إلى النَّبِيّ - صلى الله تعالى عليه وسلم فشهد على نفسه"؛ أي: أقر أنَّه "أصاب امرأة حرامًا، أربع مرات" متعلق بـ (شهد). "كل ذلك يُعرِض عنه"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أعرض عن ذلك الأسلمي في كلِّ مرة. "فأقبل"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "في الخامسة قال: أنكتها؟ قال: نعم، قال: حتَّى غاب ذلك منك" إشارة إلى غيبوبة آلة الرجل. "في ذلك منها" إشارة إلى آلة المرأة وهي الفرج. "كما يغيب المِروَد" بكسر الميم؛ أي: الميل. "في المكحلة، والرِّشاء" بالكسر والمد؛ أي: الحبل. "في البئر قال: نعم، قال: هل تدري ما الزنا؟ قال: نعم أتيت منها حرامًا ما يأتي الرَّجل من أهله حلالًا، فأمر به فرجم، فسمع نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلين من أصحابه يقول أحدهما لصاحبه: انظر إلى هذا الذي ستر الله عليه فلم تَدَعْه"؛ أي: لم تتركه "نفسه حتى رُجم رجم الكلب، فسكت عنهما"؛ أي: النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم عن الرجلين من أصحابه. "ثم سار ساعة حتَّى مر بجيفة حمار شائل برجله"؛ أي: رافع لها. "فقال: أين فلان وفلان؟ فقالا: نحن ذان يَا رسول الله، فقال: انزلا فكلا من جيفة هذا الحمار، فقالا: يَا نبي الله! مَن يأكل من هذا؟ قال: فما نلتما"؛ أي: فالذي أصبتماه (¬1). "من عِرْضِ أخيكما"؛ أي: ما قلتما في غيبة ماعز. "آنفًا" بفتح الهمزة الممدودة؛ أي: الساعة. ¬

_ (¬1) في "غ": "أصبتما".

"أشد من أكلٍ منه والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس"؛ أي: يخوض. "فيها". * * * 2731 - عن خُزيمةَ بن ثابت - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أصابَ ذَنْبًا أُقيمَ عليهِ حدُّ ذلكَ الذَّنْبِ فهو كفَّارتُه". "عن خزيمة بن ثابت قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أصاب ذنبًا وأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته". * * * 2732 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أصابَ حدًّا فعُجِّلَتْ عقوبَتُه في الدنيا، فالله أعدلُ مِنْ أنْ يُثَنِّيَ على عبدِه العقوبةَ في الآخرةِ، ومَن أصابَ حدًّا فستَرَهُ الله عليهِ وعفا عنه، فالله أكرَمُ مِن أنْ يعودَ في شيء قد عَفا عنه"، غُريب. "عن علي رضي الله تعالى عنه عن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: من أصاب حدًا فعُجّلتْ" بصيغة المجهول. "عقوبتُه في الدنيا فالله أعدلُ من أن يثنِّي العقوبة"؛ أي: يكرِّرها. "على عبده في الآخرة، ومن أصاب حدًا فستره الله عليه وعفا عنه فالله تعالى أكرم من أن يعود في شيء قد عَفى عنه. غريب". * * *

6 - باب التعزير

6 - باب التَّعْزيرِ (باب التعزير) معناه: التأديب بالضرب وغيره دون الحد، وهو متعلّقٌ بنظر الإِمام. مِنَ الصِّحَاحِ: 2733 - عن أبي بُرْدَةَ بن نِيارٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُجلَدُ فوقَ عَشْرِ جَلَدات إلَّا في حدٍّ مِن حُدودِ الله". "من الصحاح": " عن أبي بردة بن نيار عن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّه قال: لا يجلد فوق عشر جلدات إلَّا في حد من حدود الله" قال أَحْمد: لا يتجاوز في ضرب الرجلِ عبدَه على المعصية وترك الصلاة عشر جلدات عملًا بالحديث. وقال بعض: جاز أن يزيد عشرًا بشرط أن ينقص عن أقل الحدود، وهو حدُّ العبد في شرب الخمر، وهو عشرون ضربة. وقال مالك: إن كان جُرمه أعظم من القذف ضُرب مئة وأكثر. وقال الشَّافعيّ: لا يبلغ بعقوبته أربعين تقصيرًا عن مساواة عقوبة الله في حدوده، وبه قال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه. تأوَّلَ بعضُ أصحاب الشَّافعيّ قولَه في جواز الزيادة على عشر جلدات إلى ما دون الأريعين، بأنْ لا تزيد بالأسواط، ولكن بالأيدي والنعال والثياب ونحوها على ما يراه الإِمام، فحديث أبي بردة مؤوَّلٌ أو منسوخ بحديث أبي هريرة وابن عباس اللذين يَلِيَانه، وبحديث عمرو بن شعيب عن أَبيه عن جده: أن النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - جلد رجلًا قتل عبده مئةً ونفاه سنة، أو المراد بما فوق العشر الأربعون فصاعدًا. * * *

مِنَ الحِسَان: 2734 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "إذا ضَرَبَ أحدكم فلْيتقِ الوجه". "وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنَّه قال: إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه"؛ أي: فليجتنب مِن ضربه. * * * 2735 - عن ابن عبَّاسِ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قال الرَّجُلُ للرجلِ: يَا يهوديُّ فاضرِبُوه عشرينَ، وإذا قال: يَا مُخَنَّثُ فاضرِبُوه عشرينَ، ومَنْ وقعَ على ذاتِ مَحْرَمٍ فاقتلُوه"، غريب. "من الحسان": " عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - عن النَّبِيّ صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّه قال: إذا قال الرَّجل للرجل: يَا يهودي، فاضربوه عشرين، وإذا قال: يَا مخنَّث، فاضربوه عشرين، ومن وقع على ذات محرم"؛ أي: جامعها "فاقتلوه" حكم أَحْمد بظاهر الحديث بقتله. وقيل: محمول على أنَّه في حق المستحِلِّ لذلك، وقيل: للزجر والوعيد، وإلا حكمُه حكم سائر الزناة: يرجم إن كان محصنًا وإلا يجلد. * * * 2736 - عن عمرَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وجدْتُم الرَّجُلَ قد غَلَّ في سبيلِ الله فأحرِقُوا متاعَهُ واضرِبُوه"، غريب. "عن عمر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم

7 - باب بيان الخمر ووعيد شاربها

قال: إذا وجدتم الرجل قد غلَّ في سبيل الله"؛ أي: سرق من مال الغنيمة قبل القسمة. "فأحرقوا متاعه واضربوه" قال الخطابي: أما تأديبُه عقوبةً في نفسه على سوء فعله فلا خلاف فيه، وأما عقوبتُه في ماله فقال جمع منهم الأوزاعي وإسحاق بن راهويه: يُحرق ماله دون حيوانٍ ومصحفٍ وثيابه التي هي ملبوسةٌ وما غلَّ لأنه حقُّ الغانمين. وقال أبو حنيفة والشافعي ومالك رحمة الله عليهم أجمعين: يعاقب في بدنه دون ماله، والمذكورُ في الحديث من إحراق ماله زجرٌ له. ويشبه أن العقوبة بالمال كان في صدر الإسلام ثم نسخ. "غريب". * * * 7 - باب بيانِ الخَمْرِ ووعيدِ شاربها (باب بيان الخمر ووعيد شاربها) مِنَ الصِّحَاحِ: 2737 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "الخَمرُ مِن هاتينِ الشجرتَيْنِ، النَّخلةِ والعِنَبةِ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنب" خصَّهما

بالذكر لأن معظم خمورهم كانت منهما، لا أنه لا خمر إلا منهما؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كلُّ مسكرٍ خمرٌ" وهو عام. * * * 2738 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: خطبَ عمرُ على منبر رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّه قد نزَلَ تحريمُ الخَمرِ، وهيَ مِن خمسةِ أشياءَ: العِنبِ، والتَّمرِ، والحِنطةِ، والشَّعيرِ، والعَسلِ. والخمرُ: ما خامَرَ العقلَ. "عن ابن عمر أنه قال: خطب عمر رضي الله تعالى عنه على منبر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إنه قد نزل تحريم الخمر"؛ أي: في (سورة المائدة). "وهي من خمسة أشياء"؛ أي: أكثر الخمور من هذه الخمسة. "العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل، والخمر ما خامر العقل"؛ أي: ستره وأزاله، يدل على أنها مشتقةٌ من خمر: إذا ستر، وعلى بطلان قول من زعم أنْ لا خمر إلا من عنب، أو رُطَب، أو تمرِ، بل كلُّ مسكرٍ خمرٌ. * * * 2739 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لقد حُرِّمَتْ الخمرُ حينَ حُرِّمَت وما نَجدُ خمرَ الأعنابِ إلا قليلاً، وعامَّةُ خمرِنا: البُسرُ والتمرُ. "عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: لقد حرِّمت الخمر حين حرِّمت وما نجد خمر الأعناب" - جمع عنب -. "إلا قليلاً، وعامة خمرنا البُسر والتمر". * * *

2740 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: عن البتْعِ - وهو نبيذُ العسلِ - فقال: "كلُّ شرابٍ أَسْكَرَ فهوَ حرامٌ". "وعن عائشة أنها قالت: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن البتْع" - بكسر الباء وفتحها - "وهو نبيذ العسل، فقال: كل شراب أسكر فهو حرام". * * * 2741 - عن ابن عُمرَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " كلُّ مُسكرٍ خَمرٌ، وكلُّ خَمرٍ حرامٌ، ومَن شَرِبَ الخَمرَ في الدُّنيا فماتَ وهوَ يُدْمِنُها، لم يَتُبْ، لم يشربْها في الآخرةِ". "عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام، ومن شرب الخمر في الدنيا فمات وهو يدمنها"؛ أي: يداوم على شربها. "ولم يتب" حتى مات على ذلك. "لم يشربها في الآخرة" قيل: هذا عبارة عن عدم دخوله الجنة؛ لأن مَن دخلها شَرِبَ مِن خمرها، فيؤوَّل الحديث بالمستحِلِّ، أو على المبالغة في الزجر والتحذير منها. * * * 2742 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن رَجُلاً قدِمَ مِن اليمنِ، فسألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن شَرابٍ يَشربُونَه بأَرضهم من الذُّرَةِ، يُقالُ له: المِزْرُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ مُسْكِرٌ هو؟ " قال: نعم، قال: "كلُّ مُسكرٍ حرامٌ، إنَّ على الله عَهْداً لِمَن يَشربُ المُسكِرَ أنْ يَسقِيَهُ مِن طِينَةِ الخَبالِ"، قالوا: يا رسولَ الله! وما طِينَةُ الخَبالِ؟

قال: "عَرَقُ أهلِ النَّارِ، أو عُصارةُ أهلِ النَّارِ". "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن رجلاً قدم من اليمن فسأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة يقال له"؛ أي: للشراب الذي يشربونه: "المِزْر" وهو بكسر الميم: نبيذ الذرة والشعير، مأخوذٌ من المَزَر وهو الذوق. "فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أوَ مُسْكِرٌ هو؟ قال: نعم، قال: كلُّ مسكر حرام، إن على الله عهداً لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال، قالوا: يا رسول الله! وما طينة الخبال؟ قال: عَرَقُ أهل النار، أو عُصارة أهل النار" بضمِّ العين: ما يسيل عنهم من الصديد والدم. * * * 2743 - عن أبي قَتادةَ: أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن خَلِيطِ التمرِ والبُسرِ، وعن خليطِ الزبيبِ والتمرِ، وعن خليطِ الزَّهْوِ والرُّطَبِ، وقال: "انتبذُوا كلَّ واحدٍ على حِدَةٍ". "عن أبي قتادة أن نبيَّ الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن خليط التمر والبُسر، وعن خليط الزبيب والتمر، وعن خليط الزَّهو": بفتح الزاي: البسر الملوَّن. "والرطب، وقال: انتبذوا كل واحد على حدة" ذهب أحمد ومالك والشافعي في أحد قوليه إلى تحريم النبيذ الذي جُمع فيه بين الخليطين المذكورين ونحوهما وإن لم يكن المتخذ منهما مُسْكِراً، عملاً بظاهر الحديث. * * * 2744 - عن أنسٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئلَ عن الخمرِ تُتَّخذُ خلاً، فقال: "لا".

"عن أنس: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سئل عن الخمر يُتخذ خلاً"؛ أي: عن جواز جعل الخمر خلاً بإلقاء شيء [فيه]. "فقال: لا" وهذا يدل على حرمة التخليل، وبه قال مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله. * * * 2745 - وعن وائلِ بن حُجْرٍ الحضرميِّ: أن طارقَ بن سُوَيدٍ سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن الخمرِ فنهاهُ، فقال: إنَّما أَصنعُها للدواءِ، فقال: "إنَّه ليسَ بدواءٍ، ولكنَّه داءٌ". "عن وائل بن حجر الحضرمي: أن طارق بن سويد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر فنهاه، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال: إنه ليس بدواء" وهذا يحتمل العموم؛ أي: لمرض ما، ويحتمل الخصوص؛ أي: لمرضك هذا. "ولكنه داء"؛ يعني: بل هي علة له؛ أي: يزيده، والأكثر على منع التداوي بصِرْفِها. * * * 2746 - عن عبدِ الله بن عُمرَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن شرِبَ الخمرَ لم يَقبلِ الله لهُ صلاةً أربعينَ صباحاً، فإنْ تابَ تابَ الله عليه، فإنْ عادَ لم يَقبلِ الله له صلاةً أربعينَ صباحاً، فإنْ تابَ تابَ الله عليهِ، فإن عادَ لم يَقبلِ الله له صلاةً أربعينَ صباحاً، فإنْ تابَ تابَ الله عليه، فإنْ عادَ الرَّابعةَ لم يَقبَل الله له صلاةً أربعينَ صباحاً، فإنْ تابَ لم يَتُب الله عليهِ، وسَقاهُ مِن نهرِ الخَبالِ". "من الحسان": " عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله

تعالى عليه وسلم: من شرب الخمر لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً"؛ أي: أربعين يوماً، يعني: لم يجد لذة المناجاة التي هي مخُّ الصلاة، ولا الحضورِ الذي هو روحُها، ولم يقع عند الله بمكان، وإن سقط مطالبةُ فرض الوقت عنه، وإنما خصَّ الصلاة بالذكر لأنها أفضل العبادات البدنية، فإذا لم تقبل فلأَنْ لا يقبل منه عبادةٌ مَّا كان أولى. "فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب تاب الله عليه، فإن عاد الرابعة لم يقبل الله له صلاة أربعين صباحاً، فإن تاب لم يتُب الله عليه"؛ أي: فإن تاب باللسان وقلبُه عازم على أن يعود إلى شرب الخمر لم يقبل الله توبته، وهذا مبالغةٌ في الزجر والتحذير لا الوقوع؛ لئلا يخالف الكتابَ وهو قوله تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} [النساء: 48]. "وسقاه من نهر الخبال" وهو صديد أهل النار. * * * 2747 - عن جابر: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أَسْكَرَ كثيرُه فقليلُه حرامٌ". "عن جابر - رضي الله تعالى عنه -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ما أسكر كثيره فقليله حرام". * * * 2748 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أَسْكَرَ الفَرَقُ، فمِلءُ الكفِّ منهُ حرامٌ". "عن عائشة - رضي الله تعالى عنها -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم قال: ما أسكر الفَرْق" وهو بالسكون من الأواني والمقادير: ما يسع ستة عشر رطلاً، وذلك ثلاثةُ أَصْوُعٍ، وبالفتح: ثمانون رطلاً، وقيل: يسع اثني عشر مُداً، وعن محمد بن الحسن: ستة وثلاثون رطلاً. "فمِلءُ الكف منه حرام" يدل على أن ما أسكر كثيره فقليله حرام، وعليه العلماء. * * * 2749 - عن النُّعمانِ بن بشيرٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِن الحِنْطةِ خَمراً، ومِن الشَّعيرِ خَمراً، ومِن التَّمرِ خَمراً، ومِن الزَّبيبِ خَمراً، ومِن العسلِ خَمراً"، غريب. "عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن من الحنطة خمراً" تسميته خمراً يكون مجازاً؛ لإزالته العقل. "وإن من الشعير خمراً، وإن من التمر خمراً، ومن الزبيب خمراً، ومن العسل خمراً. غريب". * * * 2750 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: كانَ عندَنا خمرٌ لِيَتيمٍ، فلمَّا نزَلَت المائدةُ سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وقلتُ: إنَّه لِيتَيمٍ، قال: "أَهرِيقُوه". "عن أبي سعيد أنه قال: كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة"؛ أي: الآيةُ الدالة على تحريم الخمر في هذه السورة، وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية [المائدة: 90]. قيل: هذه تدل على حرمة الخمر من سبعة أوجه:

أحدها: قوله: {رِجْسٌ}؛ أي: نجس، والنجسُ حرام. وثانيها: قوله: {مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} وما هو مِن عَمَله فهو حرامٌ. وثالثها: قوله: {فَاجْتَنِبُوهُ} والمأمورُ باجتنابه حرام. والرابع: قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} علَّق رجاءَ الفلاح باجتنابه، فالإتيانُ به حرام. وخامسها: قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] وما هو سببٌ لوقوعهما بين المسلمين فهو حرام. وسادسها: قوله: {وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ} [المائدة: 91] وما يَصُدُّ به الشيطان المسلمين عن ذكر الله وعن الصلاة فهو حرام. وسابعها: قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} قال المفسرون: معناه: فانتهوا، وما أمر الله عباده بالانتهاء عنه فالإتيانُ به حرام. "سألت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلت: إنه ليتيم، قال: أهريقوه" بفتح الهمزة؛ أي: انكبوه. * * * 2751 - وعن أنسٍ عن أبي طلحَة - رضي الله عنه -: أنَّه قال: "يا نبيَّ الله! إنَّي اشتريتُ خَمراً لأيتامٍ في حِجْري، فقال: أَهرِقِ الخَمرَ، واكسِرِ الدِّنانَ"، ضعيف. وفي رواية: أنَّه سَألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن أيتامٍ ورِثُوا خَمراً، قال: "أهرِقْها"، قال: أَفَلا أَجْعَلُها خَلاً؟ قال: "لا". "عن أنس عن أبي طلحة أنه قال: يا نبي الله! إني اشتريت خمراً لأيتام في

حجري"؛ أي: جانبي وكنفي. "قال: أهرق الخمر واكسر الدنان": جمع دن، إنما أمر بذلك زجراً وحذراً. "ضعيف". "وفي رواية: أنه سُئل - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمراً، قال: أهرقها، قال: أفلا أجعلها خلاً؟ قال: لا" قيل: الجواب عن قوله: (لا) عند مَن يجوِّز تخليل الخمر: أن القوم كانت نفوسهم ألفة بالخمر، وكلُّ مألوف تميل إليه النفس، فخشي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عليهم دواخل الشيطان، فنهاهم عن اقترابها نهيَ تنزيه؛ لئلا يتخذوا التخليل وسيلة إليها فيلقيهم الشيطان فيها، فأما بعد طول عهد التحريم فلا تُخشى هذه الدواخل حيث مرِّنتَ على الفطام عنها، يؤيده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم الإدام الخل" و"خير خلِّكم خلُّ خمركم". وقال بعض العلماء: ظاهر النهي للتحريم لا للتنزيه، ودواخلُ الشيطان كما هي مظنونة ومتوقَّعة بالمقاربة للتخليل، فكذلك هي متوقَّعةٌ في المدة التي تترك حتى تتخلل بنفسها، بل خشية دواخله هنا أكثر لطول المدة، وأما مدحه صلى الله تعالى عليه وسلم فوقع للخل لا للتخليل، وكون خلِّ الخمر خيراً لا يستلزم جواز التخليل. * * *

16 - كتاب الإمارة والقضاء

16 - كِتابُ الإِمَارَة وَالقَضَاءِ

1 - باب من الصحاح

16 - كِتابُ الإِمَارَة وَالقَضَاءِ (باب الإمارة والقضاء) 1 - باب مِنَ الصِّحَاحِ: 2752 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أطاعَني فقد أطاعَ الله، ومن عصَاني فقد عَصَى الله، ومَن يُطِع الأميرَ فقد أطاعَني، ومن يَعْصِ الأميرَ فقد عصَاني، وإنَّما الإمامُ جُنَّةٌ، يُقاتَلُ مِن ورَائِه ويُتَّقَى بهِ، فإنْ أَمَرَ بتقوَى الله وعَدلَ فإنَّ له بذلك أَجْراً، فإن قالَ بغيرِه فإنَّ عليهِ مِنهُ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله" لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر ولا ينهى إلا بما أمر الله ونهى. "ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يَعْصِ الأمير فقد عصاني" قيل: كانت قريش لا تعرف الإمارة، وإنما يطيعون رؤوساء قبائلهم، فلمَّا كان الإسلام وولِّي عليهم الأمراء أنكرته نفوسهم وامتنع بعضهم من الطاعة، فقال - صلى الله عليه وسلم - هذا القولَ إعلاماً بأن طاعتهم كطاعته، وعصيانهم كعصيانه؛ ليطيعوا مَن ولِّي عليهم من الأمراء.

"وإنما الإمام جُنَّة يقاتَلُ مِن ورائه ويُتَّقى به" الفعلان كلاهما على بناء المجهول، وهما كالبيان لكونه جنةً؛ يعني: ينبغي أن يكون الإمام في الحرب قدَّامَ القوم؛ ليستظهروا به ويقاتلوا بقوته كالترس للمتترس، والأَولى أن يحمل على جميع الحالات؛ لأن الإمام ملجأ للمسلمين في حوائجهم، ويدفع الظالمين عن المظلومين ويحميهم. "فإن أمر بتقوى الله وعدل فإن له بذلك"؛ أي: بأمره بالتقوى مع عدله "أجراً، وإن قال"؛ أي: حكم "بغيره" أو المراد مطلق القول أو أعم منه، وهو ما يراه ويُؤْثره فعلاً وقولاً. "فإن عليه منه"؛ أي: من ذلك الغير، وقيل: أي: من صنيعه وفعله وزراً. * * * 2753 - وقال: "إنْ أُمِّرَ عليكم عبدٌ مُجَدَّعٌ يَقودُكم بكتابِ الله، فاسمَعُوا له وأَطيعُوا". "عن أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أُمِّر عليكم"؛ أي: جُعل أميركم "عبدٌ مجدع"؛ أي: بين الجدع، وهو قطع الأنف أو الأذن، أو نحوه. "يقودكم"؛ أي: يسوقكم. "بكتاب الله تعالى"؛ أي: بالأمر والنهي على مقتضى الكتاب. "فاسمعوا له"؛ أي: قوله. "وأطيعوا"؛ أي: أمره، وهذا حثٌّ على المداراة والموافقة مع الولاة. * * *

2754 - وقال: "اسمعُوا وأطيعُوا وإنْ استُعمِلَ عليكم عبدٌ حَبَشيٌّ، كأنَّ رأسَهُ زَبيبةٌ". "وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبدٌ حبشيٌّ"؛ أي: وإن استعمله الإمام عليكم؛ أي: جعله أميراً، لا أن يكون هو الإمام؛ لأن الأئمة من قريش، أو المراد به الإمام على سبيل الفرض والتقدير مبالغةً في طاعته ونهياً عن مخالفته. "كأن رأسه زبيبة" وهذا أيضاً من قبيل المبالغة في باب طاعة الوالي وإن كان حقيراً، مع أن الحبشة توصف بصغر الرأس الذي هو نوع من الحقارة. * * * 2755 - وقال: "السُّمعُ والطَّاعةُ على المرءِ المسلمِ فيما أَحَبَّ وكرِهَ، ما لم يُؤمرْ بمعصيةٍ، فإذا أُمِرَ بمعصيةٍ فلا سَمْعَ ولا طاعةَ". "عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: السمع والطاعة"؛ أي: سماع كلام الإمام وطاعتُه واجبٌ على المرء المسلم فيما أحب وكره"؛ أي: فيما يوافق طبعَه وفيما لا يوافق طبعه. "ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أُمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة" لكن لا يحارب الإمام، بل يخبره أني لا أفعل لأنه معصية. * * * 2756 - وقال: "لا طاعةَ في معصيةٍ، إنَّما الطَّاعةُ في المعروفِ". "وعن علي - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا طاعة في معصية الله"؛ أي: لا يجوز طاعة الإمام فيما لا يرضى الله به.

"إنما الطاعة في المعروف". * * * 2757 - وعن عُبادة بن الصَّامت - رضي الله عنه - قال: بايعْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على السَّمعِ والطَّاعةِ، في العُسرِ واليُسرِ، والمَنْشَطِ والمَكْرَهِ، وعلى أثَرَةٍ علينا، وعلى أنْ لا ننُازعَ الأمرَ أهلَهُ، وعلى أنْ نقولَ بالحق أينما كُنَّا، لا نخافُ في الله لومَةَ لائمٍ. وفي روايةٍ: وعلى أنْ لا ننُازِعَ الأمرَ أهلَه، إلا أنْ تَرَوْا كُفراً بَواحاً عندَكم مِن الله فيهِ بُرهانٌ. "عن عبادة بن الصامت أنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: عاهدنا. "على السمع والطاعة في العسر واليسر" قد ينازع فيه السمع والطاعة؛ أي: في كل حالتي العسر واليسر؛ أي: الشدة والرخاء. "والمنشط والمكره " وهما مصدران؛ أي: في حالة النشاط، وهو الأمر الذي تنشط له النفس وتحث إليه، وعلى حالة الكراهة وهي ضده، أو اسما مكانِ وزمانٍ؛ أي: في مكان أو زمان انشراح صدرٍ منا وطيبِ قلب لنا ومضادَّةٍ. "وعلى أثَرة علينا" وهي - بفتحتين - اسم من آثره؛ أي: فضَّله؛ أي: وعلى أن نؤْثِره على أنفسنا. "وعلى أن لا ننازع الأمر أهله"؛ أي: لا نطلب الإمارة؛ أي: لا نعزل الأمير من الإمارة ولا نحاربه، والمراد من الأهل هو الذي وكل الأمر (¬1) للنيابة. ¬

_ (¬1) في "غ": "الأمير".

"وعلى أن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله"؛ أي: في أمر الله أو في سبيل الله. "لومة لائم"؛ أي: ملامةَ عاذلٍ؛ أي: على أن لا نخاف إيذاءَ منَ يؤذينا فيما فيه رضا الله. "وفي رواية: وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً"؛ أي: جهاراً ظاهراً. "عندكم من الله فيه برهان"؛ أي: آية أو سنة لا تحتمل التأويل، وهذا القول كالبيان للبواح، وصفة له. والحديث يدل على أن الإمام لا ينعزل بطريان الفسق، وللعلماء فيه خلاف، لكن لو أمكن تبديله بغير إثارةِ فتنة فهو أولى. * * * 2758 - وعن ابن عُمرَ: كُنَّا إذا بايَعْنا رسولَ الله على السَّمعِ والطَّاعةِ يقولُ لنا: "فيما استطعتُم". "وقال ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على السمع والطاعة يقول لنا: فيما استطعتم" الكلام فيه كالكلام في العسر واليسر. * * * 2759 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "من رَأَى مِن أمِيرِه شيئاً يكرهُهُ فليصبرْ، فإنَّه ليسَ أحدٌ يُفارِقُ الجماعةَ شِبراً فيموتُ، إلا ماتَ مِيتةً جاهليةً". "وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من

رأى من أميره شيئاً يكرهه"؛ أي: غير الكفر "فليصبر فإنه ليس أحدٌ يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات مِيْتَة" بكسر الميم للنوع. "جاهلية" صفة (ميتة)؛ أي: مات على الضلالة كما يموت أهل الجاهلية عليها، من جهةِ أنهم كانوا لا يطيعون أميراً ولا يتَّبعون إماما استنكافاً، بل كان يأكل القويُّ منهم الضعيف. * * * 2760 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن خرجَ مِن الطَّاعةِ وفارقَ الجَماعةَ فماتَ، ماتَ مِيتةً جاهليةً، ومَن قاتَل تحتَ رايةٍ عُمِّيةٍ يَغضبُ لِعَصبيَّةٍ، أو يَدعُو لِعَصبيَّةٍ، أو يَنصرُ عَصبيَّة فقُتِلَ، فقِتْلَةٌ جاهليةٌ، ومَن خرجَ على أُمَّتي بسيفِهِ يَضرِبُ بَرَّها وفاجِرَها، ولا يتحاشَى مِن مؤمِنِها، ولا يَفي لذي عَهْدٍ عهدَه، فليسَ مِنِّي ولَستُ مِنهُ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من خرج من الطاعة"؛ أي: طاعة الإمام. "وفارق الجماعة"؛ أي: ما عليه جماعة المسلمين، وما عليه أئمة الهدى من الاعتقادات. "فمات" على ذلك. "مات ميتة جاهلية، ومن قاتل تحت راية عِمِّيَّة" بكسر العين وضمِّها، وبالميم والياء المشددتين: من العمى، وهو الضلال، وهذه هي الراية التي يقاتل أهلها من غير بصيرةٍ ولا معرفة بأن المُحِقَّ أيُّ الطائفتين. "يغضب" حال، أو استئناف. "العصبية" وهي الخصلة المنسوبة إلى العصبة.

"أو يدعو"؛ أي: يطلب. "لعصبية، أو ينصر عصبية" لا يعلم أن هذا لإعلاء الحق وإظهار الدين. "فقُتل، فقِتْلة" بكسر القاف للنوع. "جاهلية"؛ أي: صارت قِتْلتُه كقِتْلةِ أهل الجاهلية؛ لأن مقاتلتهم لم تكن إلا لمجرَّد العصبية. "ومن خرج على أمتي بسيفه يضرب برها" بفتح الباء؛ أي: صالحها. "وفاجرها"؛ أي: فاسقها. "ولا يتحاشى"؛ أي: لا يبالي. "من مؤمنها، ولا يفي لذي عهد عهده"؛ أي: ينتقص عهد أهل الذمة بأخذ مالهم وقتلهم. "فليس مني ولست منه"؛ أي: ليس هو من أمتي، وفيه تهديد شديد، وهذا السلب يكون كسلب الأهلية عن ابن نوح في قوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] لعدم اتِّباعه لأبيه. * * * 2761 - عن عوفِ بن مالكٍ اْلأَشجعيِّ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خِيارُ أئِمَّتِكُم الذينَ تُحِبُّونَهم ويُحِبُّوَنُكم، وتُصَلُّونَ عليهم ويُصَلُّوَن عليكم، وشِرارُ أئِمَّتُكم الذينَ تُبغِضُونَهم ويُبغِضُونَكم، وتَلعنُونهَم ويَلعنُونَكم"، قال: قُلنا: يا رسولَ الله! أفلا ننُابذُهم عندَ ذلك؟ قال: "لا، ما أَقامُوا فيكم الصلاةَ، لا، ما أَقامُوا فيكم الصلاةَ؛ أَلا مَن وُلِّيَ عليهِ والٍ فرآهُ ياتي شيئاً مِن معصيةِ الله، فليَكرهْ ما يأتي مِن معصيةِ الله، ولا يَنزِعنَّ يداً مِن طاعةٍ". "وعن عوف بن مالك الأشجعي، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم أنه قال: خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم"؛ يعني: خير الأئمة الذين عدلوا في الحكم، فينعقد بينكم وبينهم مودةٌ ومحبة. "وتصلُّون عليهم"؛ أي: تدعون لهم بالمعونة على القيام بالحق والعدل. "ويصلُّون عليكم"؛ أي: يدعون لكم، ويجوز أن يراد بها صلاة الجنازة. "وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم"؛ أي: الذين ظلموا لكم بحيث انعقدت بينكم وبينهم عداوة وبغضٌ. "وتلعنونهم ويلعنونكم قلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم"؛ أي: أفلا ننبذ إليهم البيعة ونترك الطاعة ونحاربهم عند ذلك. "قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة، لا ما أقاموا فيكم الصلاة" منعه - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ما داموا مُقِيمي الصلاة الفارقةِ بين الإيمان والكفر يحذر هيجان الفتنة التي هي أشد من المصابرة على ما ينكر منهم، وفيه دليل على عدم انعزال الإمام بالفسق. "ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله ولا ينزعن يداً من طاعته (¬1) ". * * * 2762 - عن أمِّ سلمةَ قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يكونُ عليكم أمراءُ تَعرِفُونَ وتُنكِرون، فمَن أَنْكَرَ فقد بَرِئَ، ومَن كَرِهَ فقد سَلِمَ، ولكنْ مَن رضيَ وتابعَ"، قالوا: أفلا نقُاتلُهم؟ قال: "لا، ما صَلَّوا، لا، ما صلَّوا"، يعني: مَن كَرِهَ بقلبه وأنكرَ بقلبه. ¬

_ (¬1) في "غ": "طاعة".

"عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يكون عليكم أمراء تعرفون وتنكرون"؛ أي: ترضون بعض أقوالهم وأفعالهم؛ لكونه حسناً شرعاً. "فمن أنكر"؛ أي: بلسانه فسقَ الأمراء. "فقد برئ"؛ أي: من إثم صنيعهم، أو من النفاق، لكن ربما لم يَسْلَم من فتنةٍ يوقعونها به بسبب إنكاره. "ومن كره ذلك" بقلبه دون لسانه؛ لعدم الاقتدار على الإنكار باللسان. "فقد سَلِمَ" من عقوبة إثمهم وفتنتهم، أو من العقوبة على ترك النكير لأجل كراهته. "ولكن من رضي" فسقَهم بقلبه "وتابع" بعمله، لم يبرأ من الإثم والنفاق، ولم يَسْلَم من عقوبة يُوْقِعونها. "قالوا: أفلا نقاتلهم؟ قال: لا، ما صلَّوا، لا ما صلَّوا"؛ يعني: لا تقاتلوهم ما داموا صلَّوا، كرَّر للتأكيد. "يعني: من كره بقلبه وأنكر بقلبه (¬1) " هذا تفسير لقوله: (فمن أنكر) (ومن كره) المذكورَيْنِ في الحديث. قيل: هذا التفسير غير مستقيم؛ لأن الإنكار يكون باللسان والكراهية تكون بالقلب، ولو كان كلاهما بالقلب لكانا مكرَّرين (¬2)؛ لأنه لا فرق بينهما بالنسبة إلى القلب. ¬

_ (¬1) في "غ": "بقلبه". (¬2) في "غ": " منكرين".

وفي بعض النسخ: (يعني: من كره بقلبه وأنكر بلسانه) وهي جيدةٌ كما قلنا. * * * 2763 - عن عبدِ الله - رضي الله عنه - قال: قالَ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم سَتَرَوْنَ بعدي أثَرَةً وأُموراً تُنْكِرونها"، قالوا: فما تأمُرنا يا رسولَ الله؟ قال: "أَدُّوا إليهم حقَّهم، وسَلُوا الله حَقَّكم". "عن عبد الله - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: قال لنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنكم سترون بعدي أثَرَة"؛ أي: أصحابَ أثرةٍ يُؤثِرون أهواءَهم على الحق، ويخصُّون أنفسهم بالفيء والغنيمة. "وأموراً تنكرونها" من اختيارِ غيرِ مستحِقِّ الإمامة والفيء والغنيمة على مستحِقِّها، أو ما هو أعم من هذا، وذلك (¬1) بأن تروا الحكام يُفضلون عليكم مَن ليس له فضيلةُ التفضيل. "قالوا: فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: أدُّوا إليهم"؛ أي: إلى الولاة. "حقَّهم" وهو طاعتكم إياهم، يعني: أطيعوهم فيما يأمرونكم. "واسألوا الله" أن يواصل إليكم حقَّكم، وهو ما آثر فيه الأئمةُ من الولاة غيرَكم عليكم، ولا تقاتلوهم طلباً لاستيفاء حقكم، بل كِلُوا الأمر إلى الله إن الله لا يضيع عمل المصلحين. * * * 2764 - وسأل سلمةُ بن يزيدٍ الجُعْفيُّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا نبيَّ الله! ¬

_ (¬1) "وذلك": ليست في "غ".

أرأيتَ إنْ قامَتْ علينا أُمراءُ يَسأَلوننَا حقَّهم وَيمنعوننَا حقَّنا، فما تَأمرُنا؟ قال: "اسمعُوا وأَطيعوا، فإنَّما عليهم ما حُمَّلُوا وعليكم ما حُمِّلْتُم". "وسأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا نبيَّ الله أرأيت"؛ أي: أخبرني "إن قامت علينا أمراءُ يسألوننا حقَّهم ويمنعوننا حقنا، فما تأمرنا؟ قال: اسمعوا وأطيعوا فإنما عليهم ما حمِّلوا وعليكم ما حُمِّلتم"؛ يعني: إن الله يسألهم عما أمرهم به، ويسألكم عما أمركم به، وهذا مثلُ قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 134]. * * * 2765 - عن عبدِ الله بن عُمرَ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن خَلعَ يداً مِن طاعةٍ لقيَ الله يومَ القيامةِ لا حُجَّةَ لهُ، ومَن مَاتَ وليسَ في عُنقِهِ بَيْعةٌ ماتَ مِيتَةً جاهليةً". "عن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: مَن خلع يداً"؛ أي: نزعها. "من طاعة الله"؛ يعني: من نقض عهد الإمام، ولمَّا كان شأن البائع أن يضع يده على يد مَن يبايعه حالةَ المعاهدة؛ أي: العادة صار خلعُها كنايةً عن نقض العهد. "لقي الله يوم القيامة ولا حجة له"؛ أي: لا عذر له. "ومن مات وليس في عنقه بيعة"؛ أي: عهدُ إمام المسلمين "مات ميتة جاهلية". * * *

2766 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كانت بنو إسرائيلَ تَسُوسُهم الأنبياءُ، كُلَّما هلكَ نبيٌّ خَلَفَهُ نبي، وإنَّه لا نبيَّ بعدي، وسيكونُ خلفاءُ فيَكثُرونَ"، قالوا: فما تَأْمرُنا؟ قال: "فُوا بَيْعَةَ الأولِ فالأولِ، أَعطُوهم حقَّهم، فإنَّ الله تعالى سائِلُهم عَمَّا استرعاهُم". "عن أبي هريرة أنه قال: كانت بنو إسرائيل تسوسُهم الأنبياء"؛ أي: تحفظهم وتلي أمرهم. "كلما هلك نبي خلفه نبي"؛ أي: قام مقامه. "وإنه لا نبي بعدي، وسيكون خلفاء" (كان) هذه تامة. "فيكثرون"؛ أي: يقوم في كل ناحية شخص يطلب الإمامة. "قالوا: فما تأمرنا؟ "؛ أي: باقتدائهم تأمرنا؟ "قال: فُوا بيعة الأول فالأول" والوفاء ببيعة الأول: الاقتداءُ به وعزلُ الثاني. "أعطوهم حقهم من الطاعة فإن الله سائلهم عما استرعاهم" حِفْظَه، بحذف المفعول الثاني؛ يعني: إذا جعل الله أحداً حاكماً على قوم فقد استرعاه؛ أي: طلب منه حفظ نفوسهم وأموالهم وجميع مصالحهم، فإنْ ظلمهم في شيء من ذلك فلا ينبغي أن ينتقموا منه، بل عليهم بالصبر، فإن الله يسأله عن ذلك كلِّه وينتقم لهم منه. * * * 2767 - وعن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بُويعَ لخليفتَيْنِ، فاقتلوا الآخِرَ منهما". "عن أبي سعيد - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا بويع

لخليفتين فاقتلوا الآخِرَ منهما"؛ أي: أبطلوا دعوته واكسروا بيعته، واجعلوه كميتٍ في توهين أمره، أو المراد المقاتلةُ. وإنما أمر بذلك؛ لأنه لا يجوز أن يكون للمسلمين إمامان؛ لئلا يتفرق أمرهم وتقع الفتنة بينهم. * * * 2768 - وقال: "إنَّه سيكونُ هَنَاتٌ وهَنَاتٌ، فمَن أرادَ أنْ يُفرِّقَ أمرَ هذهِ الأُمةِ وهي جَمِيعٌ، فاضرِبُوهُ بالسَّيفِ كائِناً مَنْ كانَ". "وعن عرفجة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: سيكون هناتٌ وهنات"؛ أي: شرورٌ وفساد وخصال سيئةٌ خارجة عن السنَّة والجماعة، يقال: فلان في هنات؛ أي: خصالِ شرٍّ، ولا يستعمل في الخير، والمراد منها الفتن؛ أي: سيظهر في الأرض أنواع الفتنة والفساد، ويطلب الإمامةَ في كلِّ جهة واحد، وإنما الإمام مَن انعقدت له البيعة أولاً. "فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع"؛ أي: مجتمعون متفقون؛ يعني: من أراد أن يعزل الإمام الأولَ ويأخذ الإمامة. "فاضربوه بالسيف كائناً من كان"؛ أي: سواءٌ كان من أقاربي، أو من أولادي، أو من غيرهم، لكن بشرط أن يكون الإمام الأول قرشياً، إذ لا يجوز إمامةُ غيره، والمراد بالإمامة هنا الخلافة. * * * 2769 - وقال: "مَنْ أَتاكُم وأَمرُكم جَمِيعٌ على رَجُلٍ واحدٍ، يريدُ أنْ يَشُقَّ عَصَاكُم، ويُفرِّقَ جماعتَكم فاقتُلُوه".

"وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من أتاكم وأمركم جميعٌ على رجل واحد"؛ أي: مَن قصد أن يعزل إمامكم الذي اتفقتم على إمامته، وأراد أن يأخذ الإمامة. "يريد أن يشق عصاكم"؛ أي: يفرِّق جماعتكم، والعصا كنايةٌ عن الاجتماع والائتلاف، وشقُّها عن التفريق والاختلاف. "ويفرِّق جماعتكم" عطفُ تفسيرٍ له، "فاقتلوه". * * * 2770 - وقال: "مَنْ بايَعَ إماماً فأعطاهُ صَفْقَةَ يدِه وثَمَرةَ قلْبهِ، فلْيُطِعْهُ إنْ استطاعَ، فإنْ جاءَ آخرُ يُنازِعُه فاضرِبُوا عُنُقَ الآخرِ". "وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده"؛ أي: يمينَه وبيعته. "وثمرة قلبه"؛ أي: خالِصَ عهده، أو المال. أو (صفقة يده) كناية عن المال، و (ثمرة قلبه) عن المحبة، أو (ثمرة قلبه) كناية عن مبايعته مع ولده. "فليطعه إن استطاع، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر". * * * 2771 - وقال: "يا عبدَ الرحمنِ بن سَمُرةَ! لا تَسأل الإمارةَ، فإنَّك إنْ أُعطِيتَها عن مسألةٍ وُكِلتَ إليها، وإنْ أُعطِيتَها عن غيرِ مسألةٍ أُعِنتَ عليها". "وقال: يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة"؛ أي: لا تطلبها. "فإنك إن أعطيتها عن مسألة"؛ أي: سؤال.

"وُكِلت" على بناء المجهول وتخفيف الكاف؛ أي: خُلِّيت "إليها"؛ يعني: لا يعينك الله فيها؛ لأنك حرصت على المنصب معتمداً على نفسك، فتكون أنت مفوَّضاً إلى تلك الإمارة. "وإن أُعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها" على بناء المجهول؛ أي: أعانك الله على تلك الإمارة وحفظك من الإثم فيها؛ لأن عملك يكون لطاعة الإمام. * * * 2772 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّكم ستحرِصُونَ على الإمارةِ وستكونُ نَدامةً يومَ القِيامَةِ، فَنِعمَتِ المُرضعَةُ، وبئْستِ الفاطِمَةُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنكم ستحرصون على الإمارة وستكون ندامةً يوم القيامة" لأنه قلَّما يقدر الرجل على العدل؛ لغلبة الحرص وحب المال والجاه. "فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة" والمخصوص بالمدح والذم محذوفٌ، وهو الإمارة، ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - المرضعةَ مثلاً للإمارة الموصلةِ إلى صاحبها من المنافع العاجلة، والفاطمة - وهي التي انقطع لبنها - مثلاً لمفارقتها عنها بالانعزال أو بالموت. * * * 2773 - عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسولَ الله! ألا تَستعمِلُني، قال: فضربَ بيدِه على مَنْكِبيْ ثم قال: يا أبا ذر، إنَّك ضعيفٌ، وإنَّها أَمانةٌ، وإنَّها يومَ القيامةِ خِزْيٌ ونَدامةٌ، إلا مَنْ أخذَها بحقِّها وأَدَّى الذي عليهِ فيها". "عن أبي ذر أنه قال: قلت: يا رسول الله! ألا تستعملني": الهمزة

للاستفهام؛ أي: ألا تجعلني حاكمًا على قوم؟. "قال: فضرب بيده على منكبي، ثم قال: يا أبا ذر! إنك ضعيف وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة، إلا مَن أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها". * * * 2773/ -م - وقال: يا أبا ذرٍّ! إنِّي أَرَاكَ ضعيفاً، وإنِّي أُحِبُّ لكَ ما أُحِبُّ لنفسي، لا تَأَمَّرَنَّ على اثنينِ ولا تَوَلَّيَنَّ مالَ يتيمٍ". "وقال: يا أبا ذر! إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي"؛ أي: أحب لك الخير كما أحبه لنفسي. "لا تَأَمَّرنَّ على اثنين"؛ أي: لا تَّصِرْ حاكماً عليهما، فمان العدل أمر شديد في الحكم. "ولا تَوَلَّيَنَّ مال يتيم" من التولِّي وهو التقلُّد، حُذفت إحدى التاءين من كِلا الفعلين. * * * 2774 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: دخلتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنا ورَجُلانِ مِن بني عمِّي فقالا: أمِّرْنا على بعضِ ما وَلَّاكَ الله، فقال: "إنَّا والله لا نُوَلِّي على هذا العملِ أحداً سألَهُ، ولا أحداً حَرَصَ عليهِ". "عن أبي موسى - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا ورجلان من بني عمي، فقا لا: أمِّرنا" بصيغة الأمر؛ أي: اجعلنا أميراً. "على بعض ما ولاك الله"؛ أي: جعلك الله حاكماً فيه من الأمور.

"فقال: إنا والله لا نولِّي على هذا العمل أحداً سأله، ولا أحداً حرص عليه". * * * 2774/ -م - وقال: "لا نستعملُ على عَملِنا مَنْ أرادَهُ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا نستعمل"؛ أي: لا نجعل عاملاً "على عملنا مَن أراده"؛ أي: طلب العمل وحرص عليه. * * * 2775 - وقال: "تَجدونَ مِن خيرِ النَّاسِ أشدَّهُم كَراهِيةً لهذا الأمرِ حتى يقعَ فيه". "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تجدون من خير الناس أشدَّهم كراهية لهذا الأمر"؛ أي: للإمارة. "حتى يقع فيه" غاية للكراهية. * * * 2776 - وقال: "ألا كلُّكُم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رَعيَّتِه، فالإمامُ الذي على النَّاسِ راعٍ، وهوَ مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، والرجلُ راعٍ على أهلِ بيتِهِ وهو مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ، والمرأةُ راعيةٌ على بيتِ زوجها وولدِه وهي مسؤولةٌ عنهم، وعبدُ الرَّجُلِ راعٍ على مالِ سيدِهِ وهو مسؤولٌ عنهُ، أَلا فَكُلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤولٌ عن رعيَّتِهِ". "عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله

تعالى عليه وسلم: ألا كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيته" يقال: رعى الأميرُ القومَ رعايةً فهو راع؛ أي: قام بإصلاح ما يتولاه، وهم رعيةٌ فَعِيلة بمعنى مفعول، ودخلت التاء لغلبة الاسمية. "فالإمام الذي على الناس راعٍ وهو مسؤول عن رعيته"؛ يعني: يَسأل الله يوم القيامة من كل حاكم أَعَدَلَ في رعاية أمر رعيته أم لا؟ فرعايتُه حفظُ أمور الرعية وقيامُه بإصلاحهم بدفع العدو وإقامة الحدود. "والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول عن رعيته" فرعايتُه قيامه عليهم بحق النفقة والكسوة وحسن العشرة. "والمرأة راعية على بيت زوجها وولده وهي مسؤولة عنهم" فرعايتها حسنُ التدبير في ذلك وخدمة أضيافه. "وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسؤول عنه" فرعايته حفظ ما في يده من مال سيده والقيام بشغله. "ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته". * * * 2777 - وقال: "ما مِن والٍ يلي رعيةً مِن المسلمينَ، فيموتُ وهو غاشٌّ لهم إلا حرَّمَ الله عليهِ الجنةَ". "وعن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من والٍ يلي رعيةً من المسلمين فيموت وهو غاشٌّ لهم"؛ أي: خائنٌ، وقيل: أي: ظالمٌ لا يعطي حقوقهم ويأخذُ منهم ما لا يجب عليهم. "إلا حرَّم الله عليه الجنة". * * *

2778 - وقال: "ما مِن عبدٍ يَسْتَرعيهِ الله رَعِيّةً، فلم يَحُطْها بنصيحةٍ إلاَّ لم يَجدْ رائحةَ الجنَّةِ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من عبد يسترعيه الله رعية"؛ أي: يطلب أن يكون راعيَ جماعته بأن يكون أميراً عليهم. "فلم يحطها"؛ أي: لم يحفظها. "بنصيحة"؛ أي: بخير. "إلا لم يجد رائحة الجنة". * * * 2779 - وقال: "إنَّ شرَّ الرِّعاءِ الحُطَمَةُ". "وعن عائذ بن عمرو - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن شر الرِّعاء": جمع راعٍ، والمراد بهم هنا: الأمراء. "الحطمة"؛ أي: الذي يظلم الرعية ولا يرحمهم، من الحَطْمِ وهو الكسر. * * * 2780 - وقال: "اللهم مَن وَلِيَ مِن أَمْرِ أُمَّتي شَيئاً فشَقَّ عليهم فاشْقُقْ عليهِ، ومَن وَلِيَ مِن أمرِ أُمَّتي شَيئاً فَرَفَقَ بهم فارْفُقْ بهِ". "وعن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهم مَن وليَ من أمر أمتي فشق عليهم"؛ أي: عسَّر عليهم أمورهم وأوصل المشقة إليهم "فاشقُق عليه". "ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرَفَقَ بهم"؛ أي: رحمهم ويسَّر عليهم

أمورهم "فارفق به". * * * 2781 - وقال: "إنَّ المُقسِطينَ عندَ الله على منابرَ مِن نورٍ عن يمينِ الرَّحمنِ، وكِلتا يديهِ يمينٌ، الذينَ يَعدِلُون في حُكْمِهِم وأهليهم وما وَلُوا". "وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن المقسطين"؛ أي: العادلين. "عند الله" خبر (إن)؛ يعني: مقرَّبون، وهذه العندية عنديةُ مكارِمَ. "على منابر" خبرٌ بعد خبر، أو حالٌ من الضمير المستتر في الظرف. "من نور" صفة (منابر) صفة مخصِّصة لبيان الحقيقة. "عن يمين الرحمن" صفة أخرى للمنابر، أو حالٌ بعد حال على التداخل، مبينةٌ للمرتبة والمنزلة؛ لأن الجالس عن يمين السلطان على كرسيٍّ أعظم قدراً عنده. "وكلتا يديه يمين" جملة معترضة، إشارة إلى أن يمينه تعالى ليست جارحة وليست من جنس اليمين المقابل لليسار، بل له القدرةُ الكاملة من غير نقص. "الذين يعدلون" صفة كاشفة للمقسطين، أو صفة مادحة، أو بدلٌ منه. "في حكمهم"؛ أي: فيما تقلَّدوا من خلافةٍ أو إمارةٍ أو قضاءٍ. "وأهليهم"؛ أي: فيما يجب لأهله عليه من الحقوق. "وما وَلُوا" بالتخفيف بصيغة المعلوم من الولاية؛ أي: فيما له ولايةٌ من النظر على يتيم، أو صدقة، أو وقف، أو نحو ذلك.

وروي بتشديد اللام على بناء المجهول؛ أي: جُعِلوا والين. * * * 2782 - وقال: "ما بَعَثَ الله مِن نبيٍّ ولا استخلَفَ مِن خَليفةٍ إلا كانَتْ لهُ بِطانتَان: بِطانَةٌ تَأمُرُهُ بالمعروفِ وتَحُضُّهُ عليهِ، وبطانةٌ تأمرُهُ بالشرِّ وتَحضُّهُ عليهِ، والمعصومُ مَن عَصَمَهُ الله". "وعن أبي سعيد - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان"؛ أي: داعيان باطنان: أحدهما الملك، والآخر الشيطان، وبطانةُ الرجل: صاحب سرِّه الذي يشاوره في جميع أحواله، وقيل: البطانة: الخليل والخاصة. "بطانة تأمره بالمعروف وتحضه"؛ أي: تحرِّضه وتحثُّه "عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضُّه عليه"؛ أي: لكلِّ أحدٍ جليسٌ أو خليلٌ يأمر بالخير، وآخَرُ بالشر. "والمعصوم مَن عصمه الله"؛ يعني: لا يقدر الرجل على طاعة ذا أو ذاك إلا بتوفيقه تعالى. * * * 2783 - وقال أنس: كانَ قيسُ بن سعدٍ - رضي الله عنه - مِن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمنزلةِ صاحِبِ الشُّرَطَةِ مِن الأميرِ. "وقال أنس - رضي الله تعالى عنه - كان قيس بن سعد" هو سعد بن عبادة الأنصاري سيد الخزرج، وقيس هذا ذو رياسة للجيوش صاحب رأي صائب وكرم وسخاء.

"من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بمنزلة صاحب الشُّرَط من الأمير"، (الشُّرَط) بالضم ثم الفتح: جمع شرطة، وهو الذي يقال [له] بالفارسية: سرهنك، يعني: هو المقدَّم بين يدي النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لتنفيذ أوامره، ونائبُه في إقامة الأمور [و] السياسة. * * * 2784 - وعن أبي بَكْرةَ قال: لمَّا بَلَغَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهلَ فارسَ قد مَلَّكُوا عليهم بنتَ كِسرَى قال: "لن يُفْلِحَ قومٌ وَلَّوْا أَمْرَهم امرأةً". "وعن أبي بكرة أنه قال: لمَّا بلغ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أهل فارس قد ملَّكوا عليهم بنت كسرى"؛ أي: جعلوها ملكةً. "قال: لن يفلح قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة" إذ متولِّي الأمر من إمامةٍ وقضاء يحتاج للخروج لقيام أمور المسلمين، والمرأة عورةٌ لا تصلح لذلك، ولأنها ناقصةٌ والإمامةُ والقضاء من أكمل الولايات لا يصلح لهما إلا الكامل من الرجال. * * * مِنَ الحِسَان: 2785 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "آمُرُكم بخمسٍ: بالجَماعةِ، والسَّمعِ، والطَّاعةِ، والهِجرةِ، والجهادِ في سَبيلِ الله، فإنَّهُ مَن خرجَ مِن الجَماعةِ قِيْدَ شِبْرٍ، فقد خَلعَ رِبْقةَ الإسلامِ مِن عُنُقِهِ، إلا أنْ يُراجِعَ، ومَن دَعا بدعْوَى الجاهِليةِ فهوَ مِن جُثَاء جهنَّمَ، وإنْ صامَ وصلَّى وزَعمَ أنَّه مسلمٌ". "من الحسان": " عن الحارث الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:

آمركم بخمس: بالجماعة"؛ أي: باتِّباع جماعة المسلمين في القول والعمل والاعتقاد. "والسمع"؛ أي: بسماع كلمة الحق من الأمير والمفتي وغيرهما. "والطاعة"؛ أي: بالانقياد للأمير فيما وافق الشرعَ. "والهجرة"؛ أي: بالانتقال (¬1) من مكة إلى المدينة قبل فتح مكة، ومن دار الكفر إلى دار الإسلام بعد الإسلام، ومن المعصية إلى التوبة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "المهاجِرُ مَن هَجَر الخطايا والذنوب". "والجهاد في سبيل الله" مع الكفار ومع النفس بكفِّها عن شهواتها. "وإنه من خرج من الجماعة قيد شبر"؛ أي: قدرها. "فقد خلع"؛ أي: نزع "رِبقة الإسلام من عنقه"، (الرِّبقة) بكسر الراء: واحد الرِّبْق، وهو حبلٌ فيه عدَّةُ عُرًى يُشدُّ بها البُهْم، وهي أولاد الضأن، استُعيرت للإسلام؛ أي: ما يَشد المسلم نفسه من عرى الإسلام؛ أي: حدودِه وأحكامه، واستعير الخلع للنقض، والربقة لمَا لزم من الذمة والعهد. والمعنى: أن مَن خرج مِن الطاعة وفارق الجماعة بترك السنة وارتكاب البدعة، أو عن موافقة إجماع المسلمين ولو بقَدْرِ شبرٍ، فقد نقض عهد الإسلام الذي لزم أعناق العباد. "إلا أن يراجع، ومَن دعا"؛ أي: نادى. "بدعوى الجاهلية"؛ أي: بمثْلِ ندائهم، وذلك أن الواحد منهم إذا كان مغلوبًا في الخصام نادى بأعلى صوته: يا آل فلان، مستصرخاً قومَه، فأتوه مسرعين لنصرته ظالمًا كان أو مظلوماً، جهلاً منهم وعصبيةً. ¬

_ (¬1) في "غ": "والهجرة والانتقال".

"فهو من جُثى" بضم الجيم والقصر؛ أي: جماعة "جهنم" أعلمهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يبتغي سنَّة الجاهلية فهو من أهل جهنم "وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم". * * * 2786 - وقال: "مَن أهانَ سُلطانَ الله في الأرضِ أَهَانَهُ الله"، غريب. "عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى تعالى عليه وسلم: من أهان سلطان الله في الأرض"؛ أي: أذلَّ حاكماً بأن آذاه أو عصاه. "أهانه الله"؛ أي: أذلَّه الله. "غريب". * * * 2787 - وقال: "لا طَاعةَ لمخلُوقٍ في معصيةِ الخَالقِ". "عن النواس بن سمعان قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"؛ يعني: لا يجوز لأحد أن يطيع أحداً فيما فيه معصية. * * * 2788 - وقال: "ما مِن أميرِ عَشَرَةٍ إلا يُؤتَى بهِ يومَ القيامةِ مَغْلولاً، حتى يَفُكَّ عنه العَدلُ، أو يُوبقَهُ الجَوْرُ". "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من أمير عشرة إلا يؤتى به يوم القيامة مغلولاً"؛ أي: مشدودةً يداه إلى عنقه. "حتى يفكَّ عنه العدلُ" بفتح الياء وضم الفاء وتشديد الكاف؛ أي: يَحُلَّ

ويزيل عنه القيدَ بأن كان قد عَدَل في الحكم. "أو يوبقه الجور"؛ أي: يهلكه بأن كان قد ظلم فيه. * * * 2789 - وقال: "وَيْلٌ للأُمراءِ, ويلٌ للعُرفاءِ, ويلٌ للأُمناءِ, لَيَتَمنَّينَّ أقوامٌ يومَ القيامةِ أن نَواصِيَهم مُعلَّقةٌ بالثُريَّا، يَتَجَلْجَلُونَ بينَ السَّماءِ والأرضِ وأنَّهم لم يَلُوا عَملاً". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ويل للأمراء"؛ أي: الذين ظلموا. "ويل للعرفاء" جمع عريف، فعيل بمعنى مفعول، وهو سيد القوم والقيمُ بأمور الجماعة من القبيلة والمحلة يلي أمورهم ويتعرف الأمير منه أحوالهم، وهو دون الرئيس. "ويل للأمناء" جميع الأمين، وهو الذي جُعل قيماً على اليتامى لحفظهم وحفظِ أموالهم، وكذلك مَن جُعل أميناً على خزانة مال، أو تصرُّفٍ (¬1) فيه. "ليتمنين أقوام يوم القيامة أن نواصيهم" جمع ناصية، وهي شعر مقدَّم الرأس. "معلقة بالثُّرَيَّا" بضم الثاء وتشديد الياء: النجم المجتمع. "يتجلجلون"؛ أي: يتحركون مع الصوت. "بين السماء والأرض، وأنهم لم يَلُوا عملاً"؛ أي: لم يَصيروا حاكمين في أمورهم. * * * ¬

_ (¬1) في "غ": "تصدق".

2790 - وقال: "إنَّ العِرافَةَ حقٌّ، ولا بُدَّ للنَّاسِ مِن عُرَفاءَ، ولكنَّ العُرفاءَ في النَّار". "وقال: إن العرافة حق"؛ أي: سيادةُ القوم جائزةٌ في الشرع؛ لأنها تتعلَّق بمصالح الناس وقضاء أشغالهم. "ولا بد للناس من عرفاء، ولكن العرفاء في النار"؛ أي: أكثرُهم فيها، فإن المجتنب للظلم منهم يستحق الثواب، لكن لمَّا كان الغالب منهم خلافَ ذلك أجراه مجرى الكل. * * * 2791 - وقال لكعبِ بن عُجْرَةَ: "أُعيذُكَ بالله مِن إمارةِ السُّفهاءِ"، قال: وما ذاكَ يا رسولَ الله؟ قال: "أُمراءُ سيكونُونَ مِن بَعْدي، مَن دَخلَ عليهم فصدَّقَهم بكذبهم وأعانهَم على ظُلمِهم، فلَيْسوا مِنِّي ولستُ منهم، ولم يَرِدُوا عليَّ الحوضَ، ومَن لم يدخلْ عليهم ولم يُصَدِّقْهم بكذبهم ولم يُعِنْهم على ظُلمِهم، فأولئكَ مِنِّي وأنا مِنهم، وأُولئكَ يَرِدُونَ عليَّ الحَوضَ". "عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لكعب بن عجرة: أُعيذك بالله من إمارة السفهاء، قال: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أمراءُ سيكونون من بعدي مَن دخل عليهم فصدقهم بكذبهم وأعانهم على ظلمهم فليسوا مني ولست منهم" وإنما قال ذلك لكعب بن عجرة تحذيراً له من الرئاسة والتأمُّر. "ولن يَرِدُوا عليَّ الحوض، ومَن لم يدخل عليهم ولم يصدَّقهم بكذبهم ولم يُعنهم على ظلمهم فأولئك مني وأنا منهم، وأولئك يَرِدُون عليَّ الحوض". * * *

2792 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن سَكن الباديةَ جَفا، ومن اتَّبَع الصَّيدَ غَفَلَ، ومَن أَتَى السُّلطانَ افتُتِن". ويروى: "من لزِمَ السُّلطانَ افتُتِنَ، وما ازدادَ عبدٌ مِن السُّلطانِ دُنُوًّا إلا ازدادَ مِن الله بُعْداً". "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مَن سكن البادية"؛ أي: اتخذ البادية وطناً. "جفا"؛ أي: صار غليظ القلب؛ لقلة اختلاطه بالناس فيترك المودة والصلة. "ومن اتبع الصيد"؛ أي: واظب على الاصطياد لهواً وطرباً. "غفل" عن الطاعات ولزوم الجماعات؛ لحرصه على اللهو، أو لتشبُّهه بالسباع ببعده عن الرقة والترحُّم (¬1). "ومن أتى السلطان"؛ أي: دخل عليه وصدَّقه على ظلمه، أو داهنه ولم ينصحه". "افتُتن"؛ أي: وقع في الفتنه لأنه مخاطر على دينه، وأما مَن دخل على السلطان وأمره بالمعروف ونهاه [عن] المنكر فكان دخوله عليه أفضل من الجهاد. "ويروى: مَن لزم السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان دنواً"؛ أي: قرباً "إلا ازداد من الله بعداً". ¬

_ (¬1) في "غ": "والرحم".

2793 - عن المِقْدَامِ بن مَعْدِيكَرِبَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ضربَ على مَنْكِبَيْهِ ثم قالَ: "أَفْلَحتَ يا قُدَيْمُ انْ مُتَّ ولم تَكُنْ أميراً ولا كاتِباً ولا عَرِيفاً". "عن المقدام بن معدي كرب: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ضرب يده على منكبيه، ثم قال: أفلحت يا قُديم" تصغير مقدام بالترخيم بحذف الزوائد. "إن مِتَّ ولم تكن أميراً ولا كاتباً ولا عريفاً، وهذا أيضاً للتحذير من التعرُّض للرئاسة والتأمُّر؛ لمَا فيه من الفتنة واستحقاقِ العقوبة إذا لم يقم بحقه. * * * 2794 - عن عُقْبةَ بن عامرٍ قال: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يدخُلُ الجنَّةَ صاحِبُ مَكْسٍ"، يعني الذي يَعْشُرُ النَّاسَ. "عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يدخل الجنة صاحب مَكْسٍ"؛ أي: الماكِسُ الذي يأخذ من التجار إذا مرُّوا عليه مكساً باسم العُشر. "يعني الذي يعشر الناس"؛ أي: يأخذ عُشْرَ أموال المسلمين، لا الساعي الذي يأخذ الصدقة وما على أهل الذمة من العُشر. * * * 2795 - وقال: "إنَّ أحبَّ النَّاسِ إلى الله يومَ القِيامةِ، وأَقربَهم منهُ مجلِساً إمامٌ عادِلٌ، وإنَّ أبغضَ النَّاسِ إلى الله يومَ القيامةِ وأشدَّهم عذاباً - ويروى: وأَبعدَهم منهُ مجْلِساً - إمَامٌ جائرٌ"، غريب. "وعن سعد - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى

عليه وسلم: إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة وأقربهم منه مجلساً" يريد به قربَ الثواب والدرجة. "إمامٌ عادل، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدَّهم عذاباً - ويروى: وأبعدهم منه مجلساً - إمامٌ جائر. غريب". * * * 2796 - وقال: "أفضلُ الجهادِ مَن قالَ كلمةَ حَقٍ عندَ سُلطانٍ جائرٍ". "وعن أبي أمامة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أفضل الجهاد مَن قال"؛ أي: جهادُ مَن قال. "كلمةَ حق عند سلطان جائر" وإنما كان أفضل؛ لأن مجاهد العدو متردِّدٌ بين أن يَغْلِبَ ويُغْلَبَ، ومَن عند السلطان مقهورٌ في يده، فإذا قال الحق أو أَمر به فقد تعرَّض للتلف. * * * 2797 - وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أرادَ الله بالأميرِ خيراً جَعلَ لهُ وزيرَ صدقٍ، إنْ نَسيَ ذَكَّرَهُ وإنْ ذَكَرَ أعانَهُ، وَإذا أرَادَ بهِ غيرَ ذلكَ جَعلَ لهُ وزيرَ سُوءٍ, إنْ نَسيَ لم يُذَكِّرْهُ، وإنْ ذَكَرَ لم يُعِنْهُ". "عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أراد الله بالأمير خيراً جعل له وزير صدق"؛ أي: وزيراً صادقاً مصلحاً. "إن نسي" ما هو الحق "ذكَّره"؛ أي: علَّمه. "وإن ذكر"؛ أي: كان عالماً به.

"أعانه" بأن يحرِّضه على إتمام الحق ورغِّبه فيه ويعلم (¬1) ثوابه، ولا يتركه حتى ينساه. "وإذا أراد الله به غير ذلك جعل له وزير سوء إن نسي لم يذكره وإن ذكر لم يُعنه". * * * 2798 - عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الأميرَ إذا ابتغَى الرِّيبَةَ في النَّاسِ أَفْسَدَهم". "عن أبي أمامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس"؛ أي: طلب عيوبهم وتجسَّس أحوالهم واتهمهم. "أفسدهم" لأن الإنسان قلما يخلو من صغيرة أو زلَّة، فلو آذاهم بكلِّ فعلٍ وقول لشقَّ الحال عليهم، بل ينبغي أن يستر عليهم عيوبهم ما أمكن. * * * 2799 - وعن مُعاويةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّك إذا اتَّبَعْتَ عَوراتِ النَّاسِ أَفسدْتَهم". "وعن معاوية - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إنك إذا اتبعت عورات الناس": جمع عورة، وهي القبيح من الفعل والقول. "أفسدتهم" معناه كمعنى الحديث المتقدم. * * * ¬

_ (¬1) في "غ": "وبعلم"، ولعل الصواب: "ويعُلمه".

2 - باب ما على الولاة من التيسير

2800 - عن أبي ذرٍّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ أنتم وأَئمةً مِن بَعدي يسْتأثِرونَ بهذا الفَيْءِ؟ "، قلتُ: أَما والذي بعَثَكَ بالحقِّ أَضَعُ سَيْفِي على عاتِقي ثم أَضْرِبُ بهِ حتى أَلقاكَ، قال: "أَوَلا أَدُلُّكَ على خيرٍ من ذلكَ؟ تَصْبرُ حتى تَلْقاني" ". "وعن أبي ذر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كيف أنتم بأئمة من بعدي يستأثرون بهذا الفيء"؛ أي: يأخذون مال بيت المال وما حصل من الغنيمة ويستخلصون لأنفسهم، ولا يعطونه لمستحقيه. "قلت: أما والذي بعثك بالحق أضع سيفي على عاتقي ثم أضرب به"؛ يعني: أحاربهم "حتى ألقاك"؛ أي: حتى أموت وأَصِلَ إليك. "قال: أَوَلا أدُّلك على خيرٍ من ذلك؟ تصبر"؛ يعني: لا تحاربهم بل اصْبر على ظلمهم "حتى تلقاني"؛ أي: حتى تموت. * * * 2 - باب ما على الوُلاةِ من التيسيرِ (باب ما على الولاة من التيسير) مِنَ الصِّحَاحِ: 2801 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعثَ أحداً مِن أصحابهِ في بعضِ أمرهِ قال: "بَشِّروا ولا تُنَفِّروا وَيسِّروا ولا تُعَسِّرُوا". "من الصحاح": " عن أبي موسى - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: كان رسول الله صلى الله

تعالى عليه وسلم إذا بعث أحداً من الصحابة في بعض أمره قال: بشّروا"؛ أي: بشروا الناس بالأجر على الطاعات وأفعال الخيرات. "ولا تنفِّروا"؛ أي: لا تخوِّفوهم بأنْ تجعلوهم قانطين من رحمة الله بالذنب. "ويسِّروا"؛ أي: سهّلوا عليهم الأمور من أخذ الزكاة بسهولةِ وتلطُّف. "ولا تعسرِّوا" عليهم بأن تأخذوا أكثر مما يجب عليهم وتتَّبعوا عوراتهم. * * * 2802 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يسِّرُوا ولا تُعسِّروا، وسَكِّنوا ولا تُنَفِّروا". "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يسِّروا ولا تعسِّروا، وسكِّنوا"؛ أي: سهِّلوا على الناس الأمور. "ولا تنفروا"؛ أي: الخلق عن الدين باليأس عن رحمة الله تعالى عند مباشرتهم المنكرات وارتكابهم السيئات، بل ادعوهم إلى التوبة والطاعات وطيبوا أنفسهم بقبولها وبالثواب على ترك المنكرات، قال - صلى الله عليه وسلم -: "لعنة الله على المنفِّرين، قيل: مَن هم يا رسول الله؟ قال: الذين يُقنطون الناس (¬1) من رحمة الله". * * * 2803 - وعن أبي بُردَةَ - رضي الله عنه - قال: بَعثَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جدَّهُ أبا موسى ومُعاذًا إلى اليَمَنِ فقالَ: "يَسِّرا ولا تُعَسِّرا، وبَشِّرا ولا تُنَفِّرا، وتَطاوَعا ولا تَخْتَلِفا". ¬

_ (¬1) في "غ": "العباد".

"عن أبي بردة - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: بعث النبي صلى الله تعالى عليه وسلم جدَّه أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن فقال: يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفرا، وتطاوَعَا ولا تختلفا". "وتطاوعوا"؛ أي: كونوا متفقين في الحكم. "ولا تختلفوا" لئلا يقع بينكم العداوةُ والبغضاء والمحاربة. * * * 2804 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الغادِرَ يُنصَبُ لهُ لِواءٌ يومَ القيامةِ، فيقالُ: هذهِ غَدْرَةُ فُلانِ ابن فلان". "عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن الغادر"؛ أي: ناقض العهد. "ينصب له لواء"؛ أي: راية. "يوم القيامة" تفضيحاً له. "فيقال: هذه غدرة فلان ابن فلان" فيشهِّره الله على رؤوس الأشهاد عمَّا ارتكبه من الغدر. "عن أبي سعيد - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لكل غادرٍ لواءٌ يوم القيامة يُعرف به" كما يُعرف زعيم الجيش بلوائه المنصوبِ خلفه. * * * 2805 - وقال: "لِكُلِّ غادِرٍ لواءٌ يومَ القيامَةِ يُعرَفُ به". 2806 - وقال: "لِكُلِّ غادِرٍ لِواءٌ عندَ استِهِ يومَ القيامةِ، أَلا ولا غادِرَ

أَعْظمُ غَدْراً مِن أميرِ عَامَّةٍ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لكل غادر لواءٌ عند اسْتِهِ يوم القيامة" أراد به خلف ظهره، تحقيراً له بذكره واستهانةً بأمره وزجراً له عن غدره، وإلا فعَلَمُ العز يُنصب تلقاءَ وجه الرجل. "ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة"؛ أي: من غدرِ أمير عامة، وهو الذي يستولي على الأمور بتقديم العوام من غير استحقاقٍ، ولا مشورةٍ من أهل الحلِّ والعقد، وعظمُ غدره لنقضه العهد المشروع، إذ الولاية برأي الخواص. * * * مِنَ الحِسَان: 2807 - عن عَمرِو بن مُرَّةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن وَلاَّهُ الله شيئاً مِن أمرِ المُسلمينَ، فاحتَجَبَ دونَ حاجَتِهم وخَلَّتِهم وفقرِهم، احتجَبَ الله دونَ حاجَتِهِ وخَلَّتِهِ وفقرِهِ". وفي رواية: "أَغلَقَ الله أبوابَ السَّماءَ دونَ خَلَّتِهِ وحاجَتِهِ ومَسْكَنَتِهِ". "من الحسان": " عن عمرو بن مرة عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: مَن ولاَّه الله شيئاً من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم"؛ يعني: منع أرباب الحوائج عند حاجتهم "وخلتهم وفقرهم" أن يلجوا عليه فيَعْرِضوها ترفُّعاً منه عن استماع كلامهم. "احتجب الله دون حاجته"؛ أي: أبعده الله ومنعه، عما يبتغيه، فلا يجد سبيلاً إلى حاجته. "وخلَّته وفقره" والحاجة والخلة والفقر متقاربةٌ في المعنى، وإنما ذكرها

3 - باب العمل في القضاء والخوف منه

إما على وجه التأكيد، وإما لأنه أراد بالأولى ما هو أخفُّ مؤونةً من الثانية، وبالثانية ما هو أضعفُ، وعلى هذا الثالثة. "وفي رواية: أغلق الله أبواب السماء دون خلَّته وحاجته ومسكنته". * * * 3 - باب العَملِ في القضاءِ والخَوفِ منهُ (باب العمل في القضاء والخوف منه) مِنَ الصِّحَاحِ: 2808 - عن أبي بَكْرَةَ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يَقْضيَنَّ حَكَمٌ بيْنَ اثنينِ وهو غَضبانُ". "من الصحاح": " عن أبي بكرة أنه قال: سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: لا يقضين حكم (¬1) بين اثنين وهو غضبان": لأنه لا يقدر على الاجتهاد والتفكير في مسألة الخصمين. * * * 2809 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حَكَمَ الحاكمُ فاجْتَهَدَ فأصابَ فلهُ أجرانِ، وإذا حكمَ فاجتَهَدَ فأَخطأَ فلهُ أَجْرٌ واحدٌ". "عن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ¬

_ (¬1) في "ت": "أحدكم".

إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب"؛ أي: وقع اجتهادُه موافقاً لحكم الله. "فله أجران" أجر الإصابة، وأجر الاجتهاد. "وإذا حكم فاجتهد فاخطأ فله أجر واحد" وهو أجر الاجتهاد، وإنما يؤجَر المجتهد المخطئ على اجتهاده في طلب الحق؛ لأن اجتهاده عبادة، وليس عليه مع خطئه إثم. وهذا في جامعٍ لشرائط الاجتهاد المذكورة في الأصول، وأما غيرُه فغيرُ معذورِ الخطأ، بل يُخاف عليه أعظم الإثم. * * * مِنَ الحِسَان: 2810 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن جُعِلَ قاضياً بينَ النَّاسِ فقد ذُبحَ بغيرِ سِكِّينٍ". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من جُعل قاضياً بين الناس فقد ذُبح بغير سكين" وإنما عدل عن الذبح بالسكين إلى غيره؛ ليعلم الصرف عن الظاهر من هلاك المرء في دينه دون بدنه، أو المراد أنه كالمذبوح بغير سكين في التعذيب مبالغةً في التحذير من الحكومة، إذ الذبحُ بغيرها أشدُّ تعباً ومشقة. ويمكن أن يقال: المراد منه: أن مَن جُعل قاضياً فينبغي أن يموت جميع دواعيه الخبيثة، وشهواته الردية، فهو مذبوحٌ بغير سكين، فالقضاء على هذا الوجه مرغوبٌ فيه، وعلى الوجهين الأولين تحذيرٌ عن الحرص عليه لمَا فيه من الأخطار الردية. * * *

2811 - وقال: "مَن ابتغَى القضاءَ وسألَهُ وُكِلَ إلى نَفْسِه، ومَن أُكْرِهَ عليهِ أَنزَلَ الله عليهِ ملَكاً يُسدِّدُه". "عن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من ابتغى"؛ أي: طلب "القضاء وسأل": بميل نفسِه إلى المنصب. "وُكل إلى نفسه"؛ أي: لم يعنه الله؛ لأنه اتَّبع هوى نفسه. "ومن كره عليه أنزل الله عليه ملكاً يسدِّده"؛ أي: يحمله على الصواب. * * * 2812 - وقال: "القضاةُ ثلاثةٌ: واحدٌ في الجنَّةِ، واثنانِ في النَّارِ، فأمَّا الذي في الجنَّةِ: فرَجُلٌ عَرَفَ الحقَّ فقَضَى بهِ، ورَجُلٌ عرفَ الحقَّ فَجارَ في الحُكْم فهوَ في النَّارِ، ورَجُلٌ قضَى للنَّاسِ على جهل فهوَ في النَّارِ". "عن أبي بردة الأسلمي - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: القضاة ثلاثةً واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار"؛ أي: ظلم "في الحكم، فهو في النار، ورجلٌ قضى للناس على جهلٍ فهو في النار". * * * 2813 - وقال: "مَن طلَبَ قضاءَ المسلمينَ حتى ينالَهُ، ثم غلبَ عدلُه جَوْرَهُ فلهُ الجنَّةُ، ومَن غلبَ جَوْرُهُ عدلَهُ فلهُ النَّارُ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من طلب قضاء المسلمين حتى يناله ثم غلب"؛ أي: قوي.

"عدلُه جورَه" بحيث منعه عن الجور؛ أي: الظلم في الحكم. "فله الجنة، ومن غلب جورُه عدلَه" بحيث يمنعه عن العدل "فله النار". فإن قيل: قوله: (حتى يناله) غايةٌ للطلب يُفهم منه أنه بالَغَ في الطلب ثم ناله، فمثلُ هذا موكلٌ إلى نفسه ولا ينزل عليه ملكٌ يسدده، فكيف يغلب عدلُه جورَه؟ يمكن أن يقال: بأن الطالب قد يكون مؤيَّداً بتأييد الله كالصحابة والتابعين، فمَن طلب منهم بحقه لا يكون موكلاً إلى نفسه، وهو يقضي بالحق، وقد لا يكون مؤيَّداً، وهو الذي يكون موكلاً إلى نفسه ويغلبُ جورُه عدلَه. * * * 2814 - عن معاذِ بن جَبلٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا بعثَهُ إلى اليمنِ قال: "كيفَ تقضي إذا عَرضَ لكَ قضاءٌ؟ "، قال: أقضي بكتابِ الله، قال: "فإنْ لم تَجدْ في كتابِ الله؟ "، قال: فبسُنَّةِ رسولِ الله، قال: "فإنْ لم تَجدْ في سُنَّةِ رسولِ الله؟ "، قال: أَجتهِدُ رأيي ولا آلو، قال: فضربَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على صدرِهِ وقال: "الحمدُ للهِ الذي وَفَّقَ رسولَ رسولِ الله لِما يُرضي رسولَ الله". "عن معاذ بن جبل - رضي الله تعالى عنه -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما بعثه إلى اليمن قال: كيف تقضي إذا عرض عليك قضاءٌ؟ قال: أقضي بكتاب الله، قال: فإن لم تجد في كتاب الله؟ قال: فبسُنَّة رسول الله، قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ قال: أجتهد رأيي"؛ أي: أطلب تلك الواقعة بالقياس على المسائل التي جاء فيها نصٌّ، فإن وجدتُ مشابهةً بين تلك الواقعة وبين المسألة التي جاء فيها نصٌّ، أَحْكُمُ فيها بمثل المسألة التي جاء فيها نص لمَا بينهما من المشابهة.

"ولا آلو"؛ أي: لا أقصِّر في الاجتهاد وبلوغِ الوسع منه في طلب الحق. "قال: فضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يُرضي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - " وهذا يدل على جواز الاجتهاد وحُجِّية القياس. * * * 2815 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما أقضي بينَكم برَأْيي فِيمَا لم يُنْزَلْ عليَّ فيهِ". "وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل عليَّ فيه" وهذا يدل على جواز الاجتهاد للرسول صلى الله تعالى عليه وسلم. * * * 2816 - وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: بَعثَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمنِ قاضياً، فقلتُ: يا رسولَ الله! تُرسِلُني وأنا حديثُ السنِّ ولا عِلْمَ لي بالقضاء! فقال: "إنَّ الله تعالى سيَهدي قلبَكَ وَيُثَبتَ لِسانَك، إذا تَقاضَى إليكَ رجلانِ فلا تَقْضِ للأولِ حتى تسمعَ كلامَ الآخَرِ، فإنَّه أَحْرَى أنْ يتبيَّنَ لكَ القضاءُ"، قال: فما شكَكْتُ في قضاءٍ بَعْدَهُ. "عن علي - كرم الله وجهه - أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إلى اليمن قاضياً، فقلت: يا رسول الله! ترسلني وأنا حديث السن، ولا علم لي بالقضاء؟ " لا يريد به نفي العلم مطلقاً؛ لأن علياً كان كثير العلم، بل المراد أنه لم يكن تُرفع إليه القضايا والأحكام، ولم يكن مشتغلاً بفصل الخصومات وكيفية دفع كلام الخصمين؛ لأنه ربما يَمكُر أحدهما الآخر بكلام أو

4 - باب رزق الولاة وهداياهم

فِعْلٍ، ويَخْفَى على القاضي ذلك المكر. "فقال: إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك، إذا تقاضى إليك رجلان فلا تَقْض للأول حتى تسمع كلام الآخر، قيل: فيه دليلٌ على منع الحكم على غائب؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - منع من الحكم على أحدهما عند حضور أحدهما بدون سماع كلام الآخر، ففي الغائب أَوْلى؛ لإمكان أن يكون معه حجةَ تُبطل دعوى الأخرى. "فإنه أحرى"؛ أي: أحقُّ وأجدر "أن يتبين لك القضاء، قال: فما شككتُ في قضاء بعد". * * * 4 - باب رزقِ الوُلاةِ وهداياهم (باب رزق الولاة وهداياهم) مِنَ الصِّحَاحِ: 2817 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أُعطيكم ولا أمنعُكم، أنا قاسِمٌ أضعُ حيثُ أُمِرْتُ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أعطيكم ولا أمنعكم"؛ يعني: لا أعطي أحدًا شيئًا تميل نفسي إليه، ولا يمنع أحدًا شيئًا إلا بأمر الله. "أنا قاسمٌ أضع حيث أُمرت" قاله حين قَسَمَ الأموال؛ لئلا يقع في قلوبهم سخطٌ لأجل التفاضُل في القسمة. * * *

2818 - وقال: "إنَّ رِجالًا يَتَخَوَّضُونَ في مالِ الله بغيرِ حق، فلهُمُ النَّارُ يومَ القيامةِ". "وعن خولة بنت ثامر قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن رجالًا يتخوَّضون في مال الله"؛ أي: يشرعون ويتصرَّفون في مال بيت المال، أو الزكاة، أو الغنيمة. "بغير حق"؛ أي: بغير إذن الإمام، فيأخذون منه أكثر من أجرة عملهم. "فلهم النار يوم القيامة". * * * 2819 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: لمَّا استُخْلِفَ أبو بكرٍ قال: لقد عَلِمَ قومي أن حِرْفَتي لم تكنْ تعجِزُ عن مَؤُونةِ أهلي، وشُغِلتُ بأمرِ المُسلمينَ، سيأكلُ آلُ أبي بكرٍ من هذا المالِ، ويَحترِفُ للمسلمينَ فيهِ. "وعن عائشة قالت: لمَّا استُخلف أبو بكر"؛ أي: جُعل خليفةً. "قال: لقد علم قومي" يريد به قريشًا. "أن حرفتي"؛ أي: صنعتي، وهي ما كان يشتغل به من الكسب قبل الخلافة من التجارة. "لم تكن تعجز"؛ أي: تقصر. "عن مؤونة أهلي" بل كانت تكفيهم قبل خلافتي. "وشغلت بأمر المسلمين"؛ أي: بإصلاح أمورهم من الخلافة، فلا سبيل إلى التفرُّغ للتجارة. "فسيأكل آل أبي بكر"؛ أي: أهله. "من هذا المال" إشارة إلى الحاضر في الذهن، وهو مالُ بيت المال.

"ويحترف"؛ أي: أبو بكر. "للمسلمين فيه"؛ أي: في هذا المال بتثميره لهم بدل ما كان يأخذ منه. * * * مِنَ الحِسَان: 2820 - عن بُرَيْدةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن استعْمَلناهُ على عملٍ فرَزَقْناهُ رِزْقًا، فما أخذَ بعدَ ذلكَ فهوَ غُلُولٌ". "من الحسان": " عن بريدة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من استعملناه"؛ أي: جعلناه عاملًا "على عمل فرزقناه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غُلُولٌ"؛ أي: خيانة. * * * 2821 - وقال عمرُ - رضي الله عنه -: عَمِلْتُ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فعَمَّلَني. "وقال عمر: عملتُ"؛ أي: جُعلت عاملًا "على عهد رسول الله"؛ أي: في زمانه. "فعملني"؛ أي: أعطاني العُمالة، وهي بضم العين: أجرة العمل. * * * 2822 - عن مُعاذٍ - رضي الله عنه - قال: بعثنَي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمنِ، فلمَّا سِرْتُ أَرسلَ في أَثَري فرَدَدْتُ، فقال: "أَتدري لِم بعثتُ إليكَ؟ لا تُصيبن شيئًا بغيرِ إذْني فإنّهُ غلولٌ {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، لهذا دَعوْتُكَ فامضِ لِعَملِك". "وعن معاذ - رضي الله تعالى عنه - قال: بعثني رسول الله صلى الله تعالى

عليه وسلم إلى اليمن فلمَّا سرت أرسل في أثري"، أثر الشيء: حصول ما يدل على وجوده. "فرددت، فقال: أتدري لم بعثت إليك؟ "؛ أي: هل تعلم لمَ أرسلت إليك أحدًا؟ "لا تصيبن شيئًا"؛ أي: لا تأخذنَّه "بغير إذني فإنه غلول {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161] " تفضيحًا له وتعذيبًا عليه. "لهذا"؛ أي: لأجل هذا "دعوتك فامض"؛ أي: اذهب "لعملك". * * * 2823 - عن المُسْتَورِدِ بن شدَّادٍ - رضي الله عنه - قال: سمِعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن كانَ لنا عامِلًا فليكتَسبْ زوجةً، فإنْ لم يكنْ لهُ خادمٌ فليكتَسبْ خادمًا، فإنْ لم يكنْ لهُ مَسْكَنٌ فليكتَسبْ مَسكنًا". ويروى: "مَن اتخذَ غيرَ ذلكَ فهو غالٌّ". "عن المستورد بن شداد أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: مَن كان لنا عاملًا فليكتسب زوجةً"؛ أي: يحل له أن يأخذ من بيت المال قَدْرَ مهرِ زوجة ونفقتها وكسوتها. "فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادمًا، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنًا" "وروي: من اتخذ غير ذلك فهو غالٌّ". * * * 2824 - وعن عَدِيِّ بن عُمَيْرةَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أيُّها

النَّاسُ، مَن عُمِّلَ منكم لنا على عملٍ، فكتَمَنا منهُ مِخْيَطًا فما فوفَهُ فهوَ غالٌّ يأتي بهِ يومَ القيامةِ"، فقامَ رجلٌ مِن الأنصارِ فقالَ: يا رسولَ الله!، اقبلْ عنِّي عَمَلَك فقال: "وما ذاكَ؟ "، قال: سمعتُكَ تقولُ كذا وكذا، قال: "وأنا أقولُ ذلكَ، مَن استعملناهُ على عَمَلٍ فليَأْتِ بقليلِهِ وكثيرِهِ، فما أُوتيَ منهُ أخذَهُ، وما نُهيَ عنهُ انتهَى". "عن عدي بن عَميرة" بفتح العين على وزن سَرِيرة. "أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: يا أيها الناس مَن عَمِلَ منكم"؛ أي: جُعل عاملًا "لنا على عمل فكتمَنا"؛ أي: أخفى عنا. "منه مِخْيطًا" بكسر الميم؛ أي: إبرة. "فما فوقه" معطوف على (مخيطًا)؛ أي: شيئًا يكون فوق الإبرة في الصِّغر. "فهو غالٌّ يأتي به"؛ أي: بما غلَّ "يوم القيامة". "فقام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله! اقْبَلْ عني عملك": أراد به الاستقالة منه. "فقال: وما ذاك؟ قال: سمعتك تقول كذا وكذا، قال: وأنا أقول ذلك، مَن استعملناه على عمل فليأت بقليله وكثيره فما أُوتي منه"، أي: أُعطي من ذلك العمل "أخذه، وما نهي عنه انتهى". وفي الحديث تحريضٌ للعمال على الأمانة، وتحذيرهم عن الخيانة وإن كان في شيء قليل. * * * 2825 - عن عبدِ الله بن عمرِو قال: "لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّاشيَ والمُرْتَشيَ".

"عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال: لعن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الراشي" وهو معطي الرشوة، "والمرتشي" وهو آخذها، قيل: الرشوة ما يُعْطِي لإبطال حق أو لإحقاق باطل، فأما إذا أَعْطَى ليتوصَّل به إلى حق، أو ليدفع عن نفسه ظلمًا، فلا بأس به، وكذا إذا أخذ ليسعى في إصابة صاحب الحق فلا بأس به، لكن هذا ينبغي أن يكون في غير القضاة والولاة؛ لأن السعي في إصابة الحق إلى مستحِقِّه ودفعِ الظلم عن المظلوم واجبٌ عليهم فلا يجوز لهم الأخذ عليه. * * * 2826 - وعن عمرِو بن العاص قال: أرسلَ إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَنْ اجمعْ عليكَ سِلاحَكَ وثيابَكَ ثُم ائتِني، قال: فأَتيتُهُ وهوَ يتوضَّأُ فقال: "يا عَمْرُو، إنِّي أرسلتُ إليكَ لأِبعثَكَ في وَجْهٍ يُسَلِّمُكَ الله ويُغنِّمُكَ، وأَزْعبُ لكَ زَعْبَةً مِن المالِ"، فقلتُ: يا رسولَ الله! ما كانَتْ هِجرَتي لِلمالِ، ما كانَتْ إلا للهِ ولرسوله، فقال: "نِعِمَّا بالمالِ الصَّالح للرَّجُلِ الصَّالحِ". "وعن عمرو بن العاص أنه قال: أرسل إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اجمع عليك سلاحك وثيابك ثم ائتني، قال: فأتيته وهو يتوضأ فقال: يا عمرو! إني أرسلت إليك لأبعثك في وجه"؛ أي: أُرسلك في شغل. "يسلِّمك الله"؛ أي: يفيد السلام. "ويغنِّمك"؛ أي: يرزقك الغنيمة. "وأَزْعَبَ"؛ أي: أدفع "لك زَعْبةً؛ أي: قطعة "من المال" أجرةَ لعملك وحقًا لسعيك. "فقلت: يا رسول الله! ما كانت هجرتي للمال، ما كانت" هجرتي "إلا لله

5 - باب الأقضية والشهادات

ولرسوله، فقال: نعما"، (ما) بمعنى شيئًا، والباء في "بالمال" زائدة؛ أي: نعم الشيء المال "الصالح للرجل الصالح"؛ أي: لا بأس بجمع المال الحلال، وفي وصف المال بالصالح إيماءٌ إلى أنه إذا كان يؤدَّى منه حقوق الله تعالى. * * * 5 - باب الأقضيةِ والشَّهاداتِ (باب الأقضية والشهادات) مِنَ الصِّحَاحِ: 2827 - عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلي الله عليه وسلم - قال: "لو يُعْطَى النَّاسُ بدعْواهُم لادَّعى ناسٌ دِماءَ رِجالٍ وأموالَهم، ولكنَّ البينةَ على المُدَّعي، واليمينَ على المُدَّعَى عليهِ". "من الصحاح": " عن ابن عباس عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: لو يعطى الناس بدعواهم لادَّعى ناسٌ دماء رجال وأموالهم"؛ يعني: لا يُدفع إلى المدَّعي ما ادعاه بمجرد دعواه. "ولكن البينة على المدير واليمين على المدَّعى عليه" والحديث بعمومه حجة على مالك في أن اليمين إنما يتوجه على المدعى عليه المنكِر بشرطِ أن يكون بينه وبين المدعي مخالطةٌ أو مداينةٌ بشهادة شاهدين أو شاهد. * * * 2828 - وقال: "مَن حَلَفَ على يمينِ صَبْرٍ، وهو فيها فاجِرٌ، يَقتَطِعُ بها

مالَ امرئٍ مسلم، لقيَ الله يومَ القيامةِ وهو عليهِ غضبانُ". "عن الأشعث بن قيس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من حلف على يمينِ صبرٍ" بالإضافة، وأصل الصبر: الحبس. والمراد بيمين الصبر: أن يَحبس السلطان الرجل حتى يحلف بها، وهي لازمة لصاحبها من جهة الحكم، و (على) بمعنى الباء، أو المراد المحلوف عليه، فعلى هذا قيل لها: مصبورة مجازًا، وإن كان المصبور حقيقةً صاحبُها؛ لأنه إنما صُبر - أي: حُبس - لأجلها. وقيل: يمين الصبر هي التي يكون الرجل فيها متعمدًا الكذب قاصدًا لإذهاب مال مسلم، وهو المراد هنا ظاهرًا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وهو فيها فاجر"؛ أي: كاذب؛ أي: يَفْجُر بالكذب، فأقامه مقام الكذب ليدل على أنه من أنواعه. "يقتطع بها مال امرئ مسلم"؛ أي: يذهب بتلك اليمين بطائفة من ماله. "لقي الله يوم القيامة وهو عليه غضبان"؛ أي: مُعْرِضٌ عنه ومعذِّبه. * * * 2829 - وقال: "مَن اقتَطَعَ حقَّ امرئٍ مسلمٍ بيَمينِه فقد أَوْجَبَ الله لهُ النَّارَ وحرَّم عليهِ الجنَّةَ"، فقالَ لهُ رَجُلٌ: وإنْ كانَ شَيْئًا يَسيْرًا يا رسولَ الله؟ قال: "وإن كانَ قَضيبًا مِن أراكٍ". "عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من اقتطع حقَّ امرئ" وهذا بعمومه متناولٌ لما ليس بمال كحد القذف ونصيب الزوجة وغيرهما. "مسلم" تقييده به؛ لأن المخاطبين بالشريعة هم المسلمون، لا للاحتراز عن الكافر، إذ الحكم فيه كما في المسلم.

"بيمينه"؛ أي: بحلف الكاذب. "فقد أوجب الله له النار وحرَّم عليه الجنة" شدد بإيجاب النار وتحريم الجنة تعظيمًا للأمر، ومبالغة في الزجر والتحذير، أو يُحمل على الحقيقة بتقدير الاستحلال لذلك. "فقال له رجل: وإن كان"؛ أي: حلفه "شيئًا يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبًا"، وهو قطعة غصن "من أراك" وهي شجرة السواك (¬1). * * * 2830 - وقال: "إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّكم تَخْتصِمونَ إليَّ، ولعلَّ بعضَكم أنْ يكونَ أَلحنَ بحُجَّتِه مِن بعضٍ، فأقضيَ لهُ على نحوِ ما أسمَعُ منهُ، فمَن قضيتُ لهُ بشيءٍ مِن حقِّ أخيهِ فلا يأخُذنَّهُ، فإنَّما أَقطعُ لهُ قِطعةً مِن النَّارِ". "وعن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنما أنا بشرٌ، وهذا تمهيدٌ لعذره - صلى الله عليه وسلم - فيما عسى يصدر عنه من سهو ونسيان؛ لأن ذلك غير مستبعد من الإنسان، ابتداءً بـ (إنما) تنبيهًا على أن الوضع البشري يقتضي أن لا يدرك من الأمور إلا ظواهرها، فمن الجائز أن يسمع الشيء فيسبق إلى وهمه أنه صدق ويكون الأمر بخلاف ذلك. "وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن"؛ أي: أفصحَ وأفطن. "بحجتهِ من بعض" فيزين كلامَه بحيث أظنه صادقًا في دعواه. "فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه ¬

_ (¬1) في "غ": "المسواك".

فلا يأخذنه، فإنما أقطع له قطعة من النار" والحديث يدل على وجوب الحكم بالظاهر. * * * 2831 - وقال: "إنَّ أبغضَ الرِّجالِ إلى الله الأَلدُّ الخَصِمُ". "وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أبغض الرجال إلى الله الألدُّ" بتشديد الدال: صفة من اللَّدَد، وهو الخصومة الشديدة. "الخصِم": بكسر الصاد: شديد الخصومة، تأكيد للألدّ، واللام فيه للعهد؛ أي: الخَصِم مع الله، وهو الكافر، خصومتُه إنكارُه إنشاء الأموات، كما قال الله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)} [يس: 77]، وإن حصل للجنس فالحديث محمول على الزجر. * * * 2832 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بيَمينٍ وشاهدٍ. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بيمين وشاهد"؛ يعني: كان للمدَّعي شاهدٌ واحدٌ، فأمره - صلى الله عليه وسلم - أن يحلف على ما يدعيه بدلًا عن الشاهد الآخر، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد رحمهم الله. ووجهُ الحديث عند مَن لا يرى القضاء باليمين والشاهد الواحد أنه قضى بيمين المدَّعَى عليه بعد أن أقام المدَّعي شاهدًا واحدًا وعجز عن إتمام البينة. * * * 2833 - وعن عَلْقَمَةَ بن وائِلٍ، عن أبيهِ، قال: جاءَ رجلٌ مِن حَضْرمَوْتَ

ورَجُلٌ مِن كِنْدَةَ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ الحَضرَمِيُّ: يا رسولَ الله! إنَّ هذا غَلبني على أرضٍ لي، فقالَ الكِنْدِيُّ: هي أرضي وفي يَدِي ليسَ له فيها حَقٌّ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للحضْرَمِيِّ: "أَلَكَ بَينةٌ؟ "، قال: لا، قال: "فَلَكَ يمينُهُ"، قال: يا رسولَ الله! إن الرَّجُلَ فاجِرٌ لا يُبالِي على ما حَلفَ عليه، وليسَ يَتَوَرَّعُ مِن شيء، قال: "ليسَ لك مِنهُ إلَّا ذلك"، فانْطَلَقَ ليَحلِفَ، فقال رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أَدْبَرَ: "لَئِنْ حَلَفَ على مالِهِ لِيَأْكُلَهُ ظُلمًا لَيَلْقَينَّ الله وهوَ عنهُ مُعرِضٌ". "عن علقمة بن وائل عن أبيه أنه قال: جاء رجل من حضرموت": اسم بلدة وقبيلة أيضًا، وهما اسمان جعلا اسمًا واحدًا. "ورجل من كِندة" بكسر الكاف: أبو حيٍّ من اليمن، وهو كندة بن ثور. "إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال الحضرمي: يا رسول الله! إن هذا غلبني على أرض لي، فقال الكندي: هي أرضي وفي يدي ليس له فيها حق، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للحضرمي: ألك بينة؟ قال لا، قال: فلك يمينه، قال: يا رسول الله! إن الرجل فاجرٌ لا يبالي على ما حلف عليه"؛ أي: لا يلتفت إلى شيء حلال أو حرام، أو خير أو شر، أو نفع أو ضر. "وليس يتورع"؛ أي: يتنزه "من شيء، قال: ليس لك منه إلا ذلك"؛ أي: اليمين. "فانطلق"؛ أي: ذهب "ليحلف، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لمَّا أدبر"؛ أي: رجع ذلك الرجل للوضوء: "لئن حلف على ماله ليأكله ظلمًا ليَلْقَينَّ الله وهو عنه مُعْرِضٌ"؛ أي: لا ينظر بنظر الرحمة. * * * 2834 - وقال: "مَن ادَّعى ما ليسَ لهُ فليسَ منَّا، وليَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِن النَّارِ".

"وقال: من ادعى ما ليس له"؛ يعني: مَن ادَّعى دعوى كاذبةً ليأخذ مال أحدٍ بالباطل "فليس منا" في هذا الفعل، "وليتبوأ مقعده من النار". * * * 2835 - وقال: "أَلَا أُخْبرُكم بخيرِ الشُّهداءَ؟ الذي يأتِي بشهادَتِهِ قبلَ أن يُسْأَلَها". "وعن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخبركم بخير الشهداء: الذي يأتي بشهادته قبل أن يسألها" قيل: هذا مخصوص بشهادة الحسبة من حقه تعالى كالزكاة والكفارات ورؤية هلال رمضان، أو بما له فيه حق مؤكَّد كالطلاق والعتاق والخلع والعفو عن القصاص، وتحريم الرضاع، وكذلك في حق الآدمي إذا لم يعلم صاحبُ الحق بشهادته، فيشهد بذلك ولا يكتمها كيلا يضيع حقه. * * * 2836 - وقال: "خيرُ النَّاسِ قَرْني، ثُمَّ الذينَ يَلُونهَم، ثُمَّ الذين يَلُونهَم، ثُمَّ يَجيءُ قومٌ تَسْبقُ شهادةُ أحدِهم يمينَه، ويمينُهُ شهادَتَه". "عن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خير الناس قرني"؛ أي: أصحابي، وقيل: مَن رآه، وقيل: بل كلُّ من كان حيًا في عهده - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: القرن: أهل كل زمان اقترن أهلُه فيه بعضُهم ببعض في أعمارهم وأحوالهم، وقيل: ثلاثون سنة، وقيل: أربعون، وقيل: ستون، وقيل: ثمانون، وقيل: مئة، روي أنه - صلى الله عليه وسلم - مسح رأس غلام وقال: "عش قرنًا" فعاش مئة سنة. "ثم الذين يلونهم" وهم الصحابة.

"ثم الذين يلونهم" وهم التابعون. "ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينَه، ويمينُه شهادته" وذلك عبارة عن تكثير شهادة الزور واليمين الفاجرة. وقيل: أن يكون متَّهمًا في شهادته لاشتهاره بالزور، فيروِّج شهادتَه تارةَ باليمين قبلها بأن يقول: والله إني لصادق، ثم يشهد، أو بالعكس، وهذا مثلٌ في سرعة الشهادة واليمين والحرص عليهما حتى لا يدري بأيهما يبتدئ من قلة مبالاته بالدين. * * * 2837 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عرضَ على قومٍ اليمينَ فأسرَعوا، فَأَمَرَ أَنْ يُسْهَمَ بينَهم في اليمينِ أَيُّهم يَحلِفُ. "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عرض على قوم اليمين فأسرعوا"؛ أي: في اليمين. "فأمر أن يسهم"؛ أي: يقرع. "بينهم في اليمين أيهم يحلف" صورته: رجلان تداعيا شيئًا في يد ثالث ولا بينة لأحدهما، أو لكلٍّ منهما بينة، وقال الثالث: لا أعلم أنه لكما أو لغيركما، فيقرع بين المتداعيين فأيهما خرجت له القرعة حلف وقُضي له به، وبه قال أحمد والشافعي في أحد أقواله. وفي قوله الآخر، وبه قال أبو حنيفة أيضًا: أنه يجعل بين المتداعيين نصفين مع يمين كل منهما، وفي قول آخر له: يترك في يد الثالث. * * *

مِنَ الحِسَان: 2838 - عن عمرِو بن شُعيْبٍ، عن أبيهِ عن جده: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "البينَةُ على المُدَّعِي، واليمينُ على المُدَّعَى عليه". "من الحسان": " عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده - رضي الله تعالى عنهم -: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: البينة على المدعي واليمين على المدعَى عليه بينهما والقسمة تقطع الشركة" (¬1). * * * 2839 - عن أُمِّ سَلمةَ رضي الله عنها، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: في رَجُلَيْنِ اختصَما إليهِ في مَوَاريثَ لم يكنْ لهما بينَةٌ إلا دَعْوَاهُمَا فقال: "مَنْ قضَيتُ لهُ بشيءٍ مِن حقِّ أخيهِ فإنَّما أَقطعُ لهُ قِطعةً مِن النّارِ"، فقال الرَّجُلانِ كلُّ واحدٍ منهما: يا رسولَ الله! حقِّي هذا لِصَاحِبي، فقالَ: "لا ولكنْ اذهبَا فاقتسِما وتَوَخَّيا الحقَّ، ثم استَهِما ثم لْيُحَلِّلْ كلُّ واحدٍ منكما صاحِبَهُ". ويُروى أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ في هذا الحديث: "إنما أَقضي بينَكم برأيي فيما لم يُنْزَلْ عليَّ فيهِ". "عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في رجلين اختصما إليه في مواريث": جمع موروث؛ يعني: تداعَيا في أمتعة، فقال أحدهما: هذه لي ورثتها من مُوَرِّثي، وقال الآخر كذلك. "لم يكن لهما بينة إلا دعواهما"، (إلا) هذه بمعنى غير، ويجوز أن يجعل استثناءً منقطعًا. "فقال: من قضيتُ له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار" ¬

_ (¬1) وقع بعدها في "ت" قوله: "قسم - صلى الله عليه وسلم - بينهما والقسمة تقطع الشركة".

خوَّفهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. "فقال الرجلان كلُّ واحد منهما: يا رسول الله! حقي هذا لصاحبي، فقال: لا، ولكن اذهبا فاقتسما وتوخَّيا الحق"؛ أي: اطلبا العدل في قَسْمِه واجعلاها نصفين. "ثم اسْتَهِما"؛ أي: اقترعا ليَظهر أيُّ القسمين وقع في نصيب كلٍّ منكما. وقيل: توخَّيا في معرفة مقدار الحق، وذلك يدل على أن الصلح لا يصح إلا في شيء معلوم، والتوخِّي إنما يفيد ظنًّا فضم إليه القرعة؛ لتكون أقوى. "ثم ليُحْلِلْ كلُّ واحد منكما صاحبه": أمر بالتحليل (¬1) ليكون افتراقهما عن تعيُّنِ براءةٍ وطيبة نفس. "وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في هذا الحديث: إنما أقضي بينكم برأي فيما لم ينزل علي فيه" وهذا يدل على جواز الاجتهاد له - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2840 - عن جابرِ بن عبدِ الله - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلينِ تَدَاعَيَا دابةً فأقامَ كلُّ واحدٍ منهما البينةَ، أنَّها دابَّتَهُ نتَجَها، فقضَى بها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِلَّذي في يَدَيْهِ. "عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -: أن رجلين تداعيا دابةً، فأقام كل واحد منهما بينةً أنها دابته نتجها"؛ أي: ولدها. "فقضى بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للَّذي في يده" وهذا يدل على تقديم بينة صاحب اليد على بينة غيره. * * * ¬

_ (¬1) في "غ": "بالتحلل".

2841 - عن أبي موسى الأشعريِّ: أن رَجُلَيْنِ تَدَاعَيا بعيرًا على عهدِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فبعثَ كلُّ واحدٍ منهما شاهدَيْنِ فَقَسَمَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَهما نِصفينِ. وبإسناده: أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا بعيرًا ليستْ لواحدٍ منهما بينَةٌ فجَعَلَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بينَهما. "عن أبي موسى الأشعري: أن رجلين ادعيا بعيرًا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبعث كلُّ واحد منهما شاهدين فقسمه النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما نصفين". "وبإسناده: أن رجلين ادعيا بعيرًا ليست لواحد منهما بينةٌ، فجعله النبي - صلى الله عليه وسلم - بينهما" وهذا يدل على أنه لو تداعيا اثنان (¬1) شيئًا ولا بينة لواحد منهما، أو لكلٍّ منهما بينة، وكان المدَّعَى به في أيديهما، أو لم يكن في يد واحد منهما، ينصَّف المدَّعَى به بينهما. * * * 2842 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلينِ اختصَمَا في دابَّةٍ وَلَيْسَ لهما بينَةٌ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "استهِمَا على اليَمينِ". "وعن أبي هريرة: أن رجلين اختصما في دابة وليس لهما بينة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - اسْتَهِمَا"؛ أي: أقرعا "على اليمين" وهذا مثلُ الحديث الذي قبل الحسان. * * * 2843 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لرجلٍ حلَّفَهُ: "احْلِفْ بالله الذي لا إله إلا هو، ما لَهُ عندَك شيءٌ". ¬

_ (¬1) "لو تداعيا اثنان" كذا في "ت" و "غ"، وهي جائزة على لغة "أكلو ني البراغيت".

"عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل حلَّفه"، بتشديد اللام؛ أي: أراد أن يحلِّفه. "احلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندك شيء". * * * 2844 - عن الأَشْعَثِ قال: كانَ بَيْنِي وبينَ رجُلٍ مِن اليَهودِ أرضٌ فجحدَني، فقدَّمتُهُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "ألَكَ بَينَةٌ؟ "، قلتُ: لا، قال لليهوديِّ: "احلِفْ"، قلتُ: يا رسولَ الله، إِذَنْ يَحْلِفَ ويذهبَ بمالي، فأنزلَ الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا}، صحيح. "عن الأشعث بن قيس أنه قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني"؛ أي: أنكرني. "فقدمته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ألك بينة؟ قلت: لا، قال لليهودي: احلف، قلت: يا رسول الله! إذًا يحلف"؛ يعني: لو حلَّفته لا يبالي بحلفه؛ لأنه يهودي لا يخاف الله. "ويذهب بمالي، فأنزل الله تعالى" تخويفًا لمن يحلف كاذبًا، أو ينقض عهدًا بسبب متاع الدنيا. {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ}؛ أي: يستبدلون {بِعَهْدِ اللَّهِ}؛ أي: بما عهد إليهم من أداء الأمانة {وَأَيْمَانِهِمْ}: الكاذبة {ثَمَنًا قَلِيلًا}؛ أي: شيئا قليلًا من حطام الدنيا {أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ}؛ أي: لا نصيب لهم من الخير {فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} بما يَسرُّهم ويُفْرِحهم. {وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ}؛ أي: نظر الرحمة {يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ}؛ أي: لا يطهِّرهم من الذنوب {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآية [آل عمران: 77]. * * *

2845 - عن الأَشْعَثِ بن قيْسٍ: أنَّ رَجُلًا مِن كِنْدَةَ ورَجُلًا مِن حَضْرَمَوْتَ اختصَمَا في أرضٍ مِن اليمنِ، فقال الحَضْرَمِيُّ: يا رسولَ الله، إنَّ أرضي اغتَصبنيها أبو هذا وهي في يَدِهِ، قال: "هَلْ لَكَ بَينَةٌ؟ "، قال: لا ولكن أُحَلِّفُه: والله ما يَعْلمُ أنَّها أرضي اغتَصَبنيها أبوهُ، فتَهَيَّأَ الكِنْدِيُّ لليمينِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَقْتَطِعُ أحدٌ مالًا بيمينٍ إلا لقيَ الله وهو أَجْذَمُ"، فقالَ الكِنْدِيُّ: هي أَرْضُه. "وعنه: أن رجلًا من كندة ورجلًا من حضرموت اختصما في أرض من اليمن، فقال الحضرمي: يا رسول الله! إن أرضي اغتصبنيها أبو هذا، وهي في يده، قال: هل لك بينة؟ قال: لا ولكن أُحلِّفه والله يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه، فتهيأ الكندي لليمين"؛ أي: أراد أن يحلف. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يقتطع أحد مالًا بيمين إلا لقي الله وهو أجذم"؛ أي: مقطوع اليد، أو المراد: أجذم الحجة لا لسان له يتكلم به، ولا حجة في يده تكون عذرًا له في أخذ مال مسلم ظلمًا وفي حلفه كاذبًا. "فقال الكندي: هي أرضه". * * * 2846 - عن عبد الله بن أُنيسٍ، قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِن أكبرِ الكَبائِرِ الشِّركَ بالله وعُقوقَ الوالدَيْنِ، واليمينَ الغَمُوسَ، وما حَلَفَ حَالِفٌ بالله يمينَ صَبْرٍ، فأَدْخَلَ فيهِ مثلَ جَناحِ بعُوضَةٍ إلا جُعِلَتْ نُكْتَةً في قلبهِ إلى يومِ القِيامَةِ"، غريب. "وعن عبد الله بن أنيس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن من أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوقُ الوالدين، واليمين الغموس"؛ أي: الحلف على فعلٍ ماضٍ كاذبًا، سميت غموسًا لأنها تغمسُ صاحبها في الإثم.

"وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها"؛ أي: في تلك اليمين. "مثل جناح بعوضة" من الكذب والخيانة، وما يخالف ظاهرُه باطنَه؛ لأن اليمين على نية المستحلِف. "إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة" خصَّ الأخير من هذه الثلاثة بالوعيد لزيادة التحذير؛ لكثرة وقوعها في الناس واحتقارهم لها. "غريب". * * * 2847 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحْلِفُ أَحَدٌ عندَ مِنبري هذا عَلَى يَمِينٍ آِثمَةٍ - ولو على سِوَاكٍ أخضرَ - إلا تَبَوَّأَ مَقْعَدَهُ من النَّارِ، أو وَجَبَتْ لهُ النَّارَ". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يحلف أحد عند منبري هذا على يمينٍ آثمة"؛ أي: كاذبةٍ، سميت اليمين بها كتسميتها فاجرة اتساعًا، أو وُصفت بصفة صاحبها، أو: ذات إثم. "ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار، أو وجبت له النار" شكٌّ من الراوي، قيَّد الحلف بكونه عند منبره تغليظًا لشأن اليمين وتعظيمه وشرفه، وإلا فاليمين الآثمةُ موجبةٌ لسخط الله حيثما وقعت، فتكون في الموضع الشريف أكثر إثمًا. * * * 2848 - عن خُرَيْم بن فَاتِكٍ قال: صلى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الصُّبح فلمَّا انصرفَ قامَ قائِمًا وقالَ: "عُدِلَت شَهادةُ الزورِ بالإشراكِ بالله، ثلاثَ مَرَّاتٍ، ثم

قَرَأَ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} ". "عن خريم بن فاتك أنه قال: صلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم صلاة الصبح، فلما انصرف قام قائمًا فقال: عُدلت شهادةُ الزور بالإشراك بالله"؛ أي: ساوته، قالها "ثلاث مرات، ثم قرأ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج: 30 -] " جعلت الشهادة الكاذبة مماثلة للإشراك بالله في الإثم، لكن الشرك كذب على الله بما لا يجوز، وشهادة الزور كذب على العبيد بما لا يجوز، وكلاهما غير واقعٍ في الواقع. * * * 2849 - عن عائشةَ رضي الله عنها تَرْفَعُه قالتْ: لا تَجُوزُ شَهادةُ خائنٍ ولا خائِنَةٍ ولا مَجلُودٍ حدًّا، ولا ذِيْ غِمْرٍ على أخيهِ، ولا ظَنِينٍ في وَلاءٍ, ولا قَرابَةٍ، ولا القانِعِ لِأَهْلِ البيتِ. ضعيف. "عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - ترفعه: لا تجوز شهادة خائن" أراد به الخائن بأمانات الناس لا الخائن في أحكام الدين، وقيل: أراد به الفاسق، والخيانة من جملة الفسوق، والفاسق: مَن فعل كبيرة، أو أصرَّ على الصغيرة (¬1). "ولا خائنةٍ، ولا مجلودٍ حدًا" وهو الذي جُلد في حد القذف على ما ورد به التنزيل، وبه ذهب أبو حنيفة إلى أن المجلود فيه لا تقبل شهادته أبدًا وإن تاب. "ولا ذي غمر"؛ أي: حقد "على أخيه" وهو أن يكون بينه وبين المشهود ¬

_ (¬1) في "غ": "الصغائر".

عليه عداوةٌ ظاهرة، وهذا يدل على أنه لا يقبل شهادة عدو، وبه قال الشافعي. "ولا ظنينٍ"؛ أي: متهم، فعيل بمعنى مفعول، من الظِّنَّة بمعنى التهمة. "في ولاء" بأن ينسب إلى غير مواليه. "ولا قرابة" بأن ينسب إلى غير أبيه. "ولا القانع مع أهل البيت" المراد به: خادمهم، تردُّ شهادته لهم للتهمة بجلب النفع إلى نفسه. وفي الأصل: هو السائل، من القنوع: الرضا بيسير العطاء. "ضعيف". * * * 2850 - عن عَمرِو بن شُعيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجوزُ شهادةُ خائنٍ، ولا خائنةٍ، ولا زانٍ، ولا زانيةٍ، ولا ذِيْ غِمْرٍ على أخيهِ"، ورَدَّ شهادةَ القانِعِ لأهلِ البيتِ. "وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا زانٍ ولا زانية، ولا ذي غمرٍ على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت، تقدم بيانه. * * * 2851 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجوزُ شهادةُ بَدَويٍّ على صاحِبِ قَرْيةٍ". "وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية، لجهالة البدوي أحكامَ الشريعة، وكيفيةَ تحمُّلِ

الشهادة وأدائها (¬1)، وغلبة النسيان عليهم، فإن عَلِمَ هذه يجوز. وقيل: لمَا بينهما من العداوة بسبب غبن أهل القرية إياهم. عَمِل مالك بظاهر الحديث وردَّ شهادته، والأكثر على جواز شهادة البدوي العدل على القروي، وأوَّلوا الحديث بما بينَّا. * * * 2852 - عن عَوْفِ بن مالكٍ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَضَى بينَ رَجُلينِ، فقالَ المَقْضىُّ عليهِ لَمَّا أَدبرَ: حَسْبيَ الله ونِعْمَ الوكيلُ، فقالَ النَّبىُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله يَلُومُ على العَجْزِ، ولكنْ عليكَ بالكَيْسِ، فإذا غَلَبَكَ أمرٌ فقلْ: حَسْبيَ الله ونِعْمَ الوكيلُ". "عن عوف بن مالك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بين رجلين فقال المقضىُّ عليه لما أدبر"؛ أي: رجع. "حسبي الله ونعم الوكيل": إنما قال المقضيُّ عليه هذا الكلام إشارة إلى أن المدَّعي أخذ المال منه باطلًا. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يلوم على العجز" وهو القصور عن فعل ما ينبغي، يعني: أنت مقصِّرٌ في الاحتياط ومَلُومٌ من قِبَل الله بترك ما أقام الله لك من الأسباب. "ولكن عليك بالكيس" وهو التفطُّن والتيقُّظ في الأمور؛ أي: عليك أن تثبت حجتك حتى لاتغلب. "فإذا غلبك أمر فقل: حسبي الله ونعم الوكيل". ¬

_ (¬1) في "غ": "وآدابها".

ولعل المقضيَّ عليه كان عليه دينٌ فأداه بغير بينة، فعابه النبي - صلى الله عليه وسلم - على التقصير في الإشهاد. * * * 2853 - عن بَهْزِ بن حَكِيْمٍ، عن أبيه، عن جده: "أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حَبَسَ رَجُلًا فَي تُهْمةٍ ثم خلَّى عنه". "عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حبس رجلًا في تهمة": بأن ادعى عليه شخص ذنبًا أو دينًا، فحبسه - صلى الله عليه وسلم - ليعلم صدق الدعوى بالبينة. "ثم" لما لم يقم بينة. "خلى عنه" وهذا يدل على أن الحبس من أحكام الشرع. * * *

17 - كتاب الجهاد

17 - كِتابُ الجِهَاد

17 - كِتَابُ الجهَاد (كتاب الجهاد) مِنَ الصِّحَاحِ: 2854 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ آمَنَ بالله وَبرَسُولِهِ، وأقامَ الصلاةَ، وصامَ رمضانَ، كانَ حَقًّا على الله أَنْ يُدْخِلَهُ الجنَّةَ، جاهدَ في سبيلِ الله أو جَلَسَ في أرضهِ التي وُلِدَ فيها"، قالوا: أفلا نبُشِّرُ الناسَ؟ قال: "إنَّ في الجَنَّةِ مئةَ درجةٍ أعدَّها الله للمُجاهِدِينَ في سبيلِ الله، ما بين الدَّرجتَيْنِ كما بيْنَ السَّماءِ والأرضِ، فإذا سَأَلتمُ الله فاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فإنَّه أَوْسَطُ الجَنَّةِ وأَعلى الجَنَّةِ، وفوقَهُ عَرْشُ الرَّحمَنِ، ومنه تَفَجَّرُ أنهارُ الجَنَّةِ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من آمن بالله ورسوله وأقام الصلاة وصام رمضان" خصَّهما بالذكر من بين العبادات البدنية تنبيهًا على عظم شأنهما، وتحريضًا عليهما؛ لصعوبة موقعهما على الطباع، ومَن راعاهما على كونهما أشق لا يترك غيرهما غالبًا. "كان حقًا على الله"؛ أي: ثابتًا عليه بوعده الصدق. "أن يدخله الجنة" بمزيد رفع الدرجات، أو بالتجاوز عن السيئات. "جاهد في سبيل الله، أو جلس في أرضه التي ولد فيها" وإنما سوى - صلى الله عليه وسلم -

بين الجهاد في سبيله تعالى، وبين عدمه في دخول الجنة؛ لأنه فرض كفاية. وروي: (هاجر) مكان (جاهد)، وهذا يدل على أن الحديث صَدَرَ بعد فتح مكة؛ لأن الهجرة قبله كانت فريضة لكل مؤمن؛ ليجتمعوا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - وينصروا دينه. "قالوا: أفلا نبشر الناس، قال: إن في الجنة مئة درجة" المراد بالمئة هنا الكثرة، وبالدرجة: المرقاة. "أعدَّها الله للمجاهدين في سبيل الله" وهم الغزاة والحجَّاج (¬1)، أو الذين جاهدوا أنفسَهم لمرضاة ربهم. "ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض" قال القاضي: يحتمل أن تجري الدرجات على ظاهرها محسوسًا كما جاء في أهل الغرف أنهم يتراءون كالكوكب الدري، وأن يجري على المعنى، والمراد: كثرة النعم وعظم الإحسان مما لم يخطر على قلب بشر. "فإذا سألتم الله"؛ أي: إذا سألتم على الجهاد من الله تعالى درجةً من درجات الجنة المعدة للمجاهدين. "فاسألوا الفردوس" وهو بستان في الجنة جامعٌ لأصناف الثمر. "فإنه أوسط الجنة"؛ أي: أفضلها وأشرفها. "وأعلى الجنة" وضع المُظْهَر موضع المضمر؛ أي: أعلاها. "وفوقه عرش الرحمن" وهذا يدل على أنه فوق جميع الجنان. "ومنه"؛ أي: من الفردوس "تفجَّر"؛ أي: تتفجر "أنهار الجنة" وهي أربعة مذكورة في قوله تعالى: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ ¬

_ (¬1) في "غ": "أو الحجاج".

وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15] المراد منها أصول أنهار الجنة. * * * 2855 - وقال: "مَثَلُ المُجَاهِدِ في سَبيلِ الله كمثلِ الصائمِ القائمِ القانِتِ بآياتِ الله، لا يَفْتُرُ مِن صِيامٍ ولا صَلاةٍ حتى يرجِعَ المُجاهدُ في سَبيلِ الله". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه تعالى عليه وسلم: مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم بالليل القانت بآيات الله"؛ أي: القارئ للقرآن في صلاته، أو طويل القيام في الصلاة، وهو أخصُّ من القائم. "لا يَفْتُر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله" هذا مِن وَضْعِ الظاهر موضع المضمَر. * * * 2856 - وقالَ: "انتدَبَ الله لِمَن خَرجَ في سَبيلهِ لا يُخْرِجُه إلا إيمانٌ بي، وتصدِيقٌ برُسُلِي، أنْ أُرْجِعَهُ بما نالَ مِن أجْرٍ أو غَنِيمةٍ، أو أُدْخِلَهُ الجَنَّةَ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: انتدب الله"؛ أي: أجاب أو تكفَّل. "لمن خرج في سبيله" قائلًا: "لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي" فالجملة معمولٌ لقول هو حال عن (الله). "أن أرجعه" بدل عن (من خرج)، أو ضمِّن (انتدب) معنى ضَمِنَ، فيكون مفعوله؛ أي: ضمن الله لمن خرج في سبيله أن يرجعه سالمًا. "بما نال من أجر أو غنيمة" معناه: مع ما حصل له من الأجر بلا غنيمة إن لم يغنموا، أو مع الأجر والغنيمة إن غنموا، وروي: (من أجر وغنيمة) بالواو

أيضًا، وهذه أولى. "أو أدخله الجنة". * * * 2857 - وقال: "والذي نفسِي بيدِهِ، لو أَنَّ رِجَالًا مِن المؤمنينَ لا تطيبُ أنفسُهم أنْ يتخلَّفوا عني، ولا أجدُ ما أَحمِلُهم عليه، ما تَخلَّفتُ عن سَرِيَّةٍ تَغْزو في سَبيلِ الله، وقال: والذي نفسِي بيدِهِ، لَوَدِدْتُ أنِّي أُقْتَلُ في سَبيلِ الله ثم أُحيا، ثم أُقْتَلُ ثم أُحيَا، ثم أُقْتَل ثم أُحْيَا ثم أُقْتَلُ". "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: والذي نفسي بيده لولا أن رجالًا من المؤمنين" والمراد بعض أصحابه الفقراء. "لا تطيب أنفسهم أن يتخلفوا عني" لعدم مركوبهم. "ولا أجد ما أحملهم عليه"، وجواب (لولا): "ما تخلفت عن سرية" وهي طائفةٌ من الجيش يبلغ أقصاها أربع مئة. "تغزو في سبيل الله، والذي نفسي بيده لوددت" واللام جواب القسم؛ أي: تمنيت "أن أقتل في سبيل الله، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل" وفيه فضل الجهاد، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يترك أحيانًا رفقًا بالمؤمنين الدين لا مركب لهم. * * * 2858 - وقال: "رِبَاطُ يومٍ في سَبيلِ الله خيرٌ مِن الدُّنيَا وما فيها". "وعن سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رباط يوم" بكسر الراء: المرابطة، وهو ملازمة ثغر العدو.

وقيل: هو أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم في ثغرهم؛ ليكون كل واحد منهم معدًا لصاحبه معترضًا لقصده. "في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها" من المال. * * * 2859 - وقال: "لَغَدوَةٌ في سَبيلِ الله أو رَوْحَةٌ خيرٌ مِن الدُّنيَا وما فيها". "وعن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لغدوة" بفتح الغين: الذهاب في أول النهار واللام للابتداء. "في سبيل الله أو روحة" بفتح الراء: الذهاب في آخره. "خير من الدنيا وما فيها" معناه: فضل الغدوة والروحة في سبيل الله وثوابُها خير من نعيم الدنيا كلها؛ لأنه زائل، ونعيم الآخرة باقٍ. * * * 2860 - وقال: "رِباطُ يومٍ وليلةٍ خيرٌ من صِيامِ شَهرٍ وقِيامِهِ، وإنْ مَاتَ جَرَى عليهِ عَمَلُه الذي كانَ يعمَلُهُ، وأُجْرِيَ عليهِ رِزقُهُ، وأَمِنَ الفَتَّانَ". "وعن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه، وإن مات"؛ أي: المرابط؛ لدلالة الرباط عليه. "جرى عليه عمله الذي كان يعمله" من الجهاد لو لم يمت، فإنه رابَطَ ليجاهد؛ يعني: يُعطَى ثواب الجهاد، فيعطَى ثواب عمله ناميًا غير منقطع إلى يوم القيامة. "وأجري عليه رزقه" وهو الرزق الموعود للشهداء، كما قال الله تعالى:

{بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 169، 170]. "وأمن الفتان" بفتح الفاء مفرد من الفَتْن: الابتلاء والامتحان. قيل: أراد به منكرًا ونكيرًا؛ أي: يَسْهُلُ عليه جوابهما. وقيل: الشيطان فإنه يفتن الناس بخدعه وغروره، وقيل: الدجال لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعوذ بك من فتنة المسيح الدجال". ويروى بضم الفاء جمع فاتن، وهم المضلُّون الناس عن الحق. * * * 2861 - وقال: "ما اغبَرَّت قَدَمَا عبدٍ في سَبيلِ الله فتمسَّهُ النَّارُ". "وعن أبي عبس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما اغبرت قدما عبد"؛ أي: صارا ذا غبرة. "في سبيل الله فتمسه النار"؛ يعني: من يصل إليه غبار الغزو لم تصل إليه نار جهنم. * * * 2862 - وقال: "لا يجتَمعُ كافِرٌ وقاتِلُهُ في النَّارِ أبَدًا". "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يجتمع كافر وقاتله" أراد به المؤمن الذي قتله لإعلاء كلمة الله. "في النار أبدًا" فإن جهاده ذلك إن كان مكِّفرًا لجملة ذنوبه فلا إشكال، وإلا فيجوز أن يعاقب بغير دخول النار كالحبس في موضع آخر. * * *

2863 - وقال: "مِن خَيْرِ مَعاشِ النَّاسِ لَهم، رَجُلٌ مُمْسِكٌ عِنَانَ فرسِهِ في سَبيلِ الله يطيرُ على مَتْنِهِ، كلما سَمعَ هَيْعةً أو فَزْعَةً طارَ عليه يبتغي القتلَ والمَوتَ مَظَانَّةٌ، أو رَجُل في غُنَيْمَةٍ في رأسِ شَعَفَةٍ مِن هذهِ الشَّعَفِ أو بطنِ وادٍ من هذه الأودِيةِ، يُقيمُ الصَّلاةَ ويُؤْتي الزَّكاةَ ويعبدُ ربَّهُ حتى يَأتِيَه اليقينُ، ليسَ مِن النَّاسِ إلا في خَيرٍ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من خير معاش الناس لهم" والمعاش - بفتح الميم - إما مصدر من عاش معاشًا؛ أي: عيشًا، وإما اسم لما يعاش به، والجملة خبر للمبتدأ - وهو (رجل) - بتقدير المضاف؛ أي: معاش. "رجل ممسك عنان فرسه"؛ أي: لجامه. "في سبيل الله يطير"؛ أي: يسرع راكبًا. "على متنه"؛ أي: على ظهره، والضمير للفرس، والمراد مسارعتُه إلى ما يكاد ينثلم من الثغور الاسلامية. "كلما سَمِعَ هَيْعَةً"؛ أي: صوتًا يفزع منه ويخاف من عدو. "أو فَزْعَةً": وهي المرَّة من الفَزَعَ: الاستغاثة. "طار عليه"؛ أي: أسرع على مَتْنِ فرسه. "يبتغي"؛ أي: يطلب. "القتل والموت مَظَانَّه": جمع المَظِنَّة، وهي موضع ظَنِّ الشيء، مَفْعَلَةٌ بمعنى العلم، ونصبه على الظرفية للابتغاء، ووحِّد الضمير فيه لأن الموت والقتل مآلهما شيء واحد، وهو الهلاك، أو أعيد إلى الأقرب، وأكثر الروايات بـ (أو) فيوحَّد على القياس.

"أو رجل في غُنَيْمَة": تصغير غنم؛ أي: في قطيعة من الغنم، وظهور التاء؛ لأنه مؤنث سماعي. "في رأس شَعْفَةٍ". بالشين المعجمة والعين المهملة المفتوحتين: رأس الجبل. "من هذه الشَّعَف، أو بَطْنِ وَادٍ من هذه الأودية": والإشارة فيها إلى الجنس، أو إلى ما كانوا يعرفونه منهما؛ أي: يفرُّ من الناس ويسكن رؤوس الجبال، أو بطون الأودية طلبًا للسلامة من الناس. "يقيم الصَّلاة، ويؤتي الزَّكاة، ويعبد ربَّه حتى يأتيه اليقين"؛ أي: الموت، سمي به لأنه لا شكَّ في وقوعه. "ليس من الناس إلا في خَيْرٍ": حال من مفعول (يأتيه)؛ أي: يأتيه اليقين سالمًا من الناس ليس من أمورهم إلا في خير، وسالمًا الناس منه. * * * 2864 - وقال: "مِن جَهَّزَ غازِيًا في سَبيلِ الله فقد غَزَا، ومَن خَلَفَ غازيًا في أهلِهِ فقد غَزَا". "عن زيد بن خالد الجهني قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ جهَّز غازيًا في سبيل الله"، تجهيزه: تهيئة جهاز سفره. "فقد غَزَا"؛ أي: حصل له أجرُ الغزو. "ومن خلف غازيًا"؛ أي: صار خَلَفًا له، وقائمًا بعده برعاية أموره "في أهله فقد غزا". * * *

2865 - وقال: "حُرمَةُ نساءِ المُجَاهدينَ على القَاعِدينَ كحُرمةِ أُمَّهاتِهِم، وما مِن رَجُلٍ مِن القاعِدين يَخْلُفُ رَجُلًا مِن المُجاهدينَ في أهلِهِ، فيَخُونُه فيهم، إلا وُقِفَ له يومَ القيامَةِ فيَأْخُذُ مِن عَمَلِهِ ما شاءَ فما ظَنُّكم؟ ". "وعن بريدة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: حُرْمَةُ نساء المجاهدين على القاعدين كحُرمَةِ أمهاتهم" عليهم، أراد بهذا القول: المبالغة في اجتناب القاعدين عن مخالطتهم نساء المجاهدين. "وما من رجل من القاعدين يَخْلُفُ رجلًا من المجاهدين"؛ أي: يصير خَلَفًا له. "في أهله فيخونه فيهم"؛ أي: الرجل الخَلَف الرجل المجاهد في أهله. "إلا وُقِفَ له يوم القيامة فيأخذ من عمله ما شاء، فما ظنكم؟! "؛ أي: بالله مع هذه الخيانة هل تشكُّون في هذه المجازاة، فـ (ما) للاستفهام، فإذا علمتم صدق ما أقول فاحذروا من الخيانة في نسائهم. وقيل: معناه: فما ظنكم بمن أحلَّه الله هذه المنزلة وخصَّه بهذه الفضيلة، وبما يكون وراء ذلك من الكرامة. * * * 2866 - عن أبي مسعودٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ بناقةٍ مَخْطومَةٍ فقالَ: هذه في سَبيلِ الله، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لكَ بها يومَ القيامَةِ سَبع مِئَةِ ناقَةٍ كلُّها مَخْطُومَةٌ". "عن أبي مسعود الأنصاري قال: جاء رجل بناقة مَخْطُومة"؛ أي: جعل الخِطَام على أنفها، وهو الزِّمَام. "فقال: هذه في سبيل الله فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لك بها يوم القيامة سبع

مئة ناقة كلها مَخْطُومة". * * * 2867 - وعن أبي سعيدٍ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَ بَعْثًا إلى بني لِحْيانَ مِن هُذَيْل، فقالَ: "لِيَنْبَعِثْ مِن كُلِّ رَجُلينِ أحدُهما والأجرُ بينَهما". "عن أبي سعيد: أن رسول الله بَعَثَ بَعْثًا"؛ أي: أرسل جيشًا. "إلى بني لِحْيَان" بكسر اللام: طائفة "من" قبائل "هذيل، فقال: لِيَنْبَعِثْ"؛ أي: لينتهض إلى العدو. "من كلِّ رجلين أحدهما، والأجر"؛ أي: ثواب الغزو "بينهما"؛ أما الغازي فظاهر، وأما القاعد فلأن الغازي يغزو بإعانته. * * * 2868 - وقال: "لنْ يَبْرَحَ هذا الدِّينُ قائمًا يقاتِلُ عليهِ عِصابةٌ مِن المسلمين حتى تقومَ الساعةُ". "وعن جابر بن سَمُرَة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لن يَبْرَحَ"؛ أي: لن يزال. "هذا الدِّين قائمًا يُقاتِلُ عليه عِصَابة" بكسر العين؛ أي: جماعة. "من المسلمين حتى تقوم الساعة"؛ يعني: لا يخلو وجه الأرض من الجهاد إن لم يكن في ناحية يكون في ناحية أخرى. * * * 2869 - وقال: "لا يُكْلَمُ أَحَدٌ في سبيلِ الله - والله أعلمُ بمَنْ يُكْلَمُ في سبيلِهِ - إلا جاءَ يومَ القيامَةِ وجُرْحُهُ يَثْعَبُ دمًا، اللونُ لونُ الدَّمِ، والريحُ ريحُ المِسْكِ".

"وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يُكْلَمُ" بصيغة المجهول؛ أي: لا يُجْرَح. "أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله": جملة اعتراضية. "إلا جاء يوم القيامة وجرحه يَثْعَبُ"؛ أي: يسيل. "دمًا": أضاف الفعل إلى الجرح؛ لأنه السبب في ذلك، جُعِلَ ذلك علامة له يُعرَف بها يوم القيامة بلا ألم يلحقه من سيلانه. "اللون لون الدم، والرِّيح ريح المسك". * * * 2870 - وقال: "ما أحدٌ يدخلُ الجَنَّةَ يحبُّ أنْ يَرجعَ إلى الدُّنيا وله ما في الأرض مِن شيءٍ إلا الشهيدُ، يتمنَّى أنْ يرجَعَ إلى الدُّنيا فيُقْتَلَ عَشْرَ مرَّاتٍ لِمَا يرى من الكرامةِ". "وعن أنس بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من أحدٍ يدخل الجنَّهّ يحبُّ أن يرجع إلى الدنيا وله ما في الأرض من شيء"، جاز كونه عطفًا على قوله: (أن يرجع)؛ أي: ما يحبُّ الرُّجوع ولا أن يكون شيء في الدنيا، وجاز كونه حالًا؛ أي: لا يحبُّ الرُّجوع في حال كونه مالكًا لكثير من أمتعة الدنيا والبساتين والأملاك والأقارب. "إلا الشَّهيد يتمنَّى أن يرجع إلى الدُّنيا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مرَّات لما يَرَى من الكرامة". * * * 2871 - وسُئِلَ عبدُ الله بن مسعودٍ عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي

سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} قال: إنَّا قد سَأَلْنَا عن ذلكَ فقال: "أرواحُهُم في جَوْفِ طيرٍ خُضْرٍ لها قناديلُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ، تسرحُ من الجنَّةِ حيثُ شاءَتْ، ثم تَأْوِي إلى تلكَ القناديلِ، فاطَّلَعَ عليهم ربُّهم اطِّلاعةً فقال: هل تَشْتهونَ شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نَشْتَهِي ونحنُ نَسْرَحُ مِن الجنَّةِ حيثُ شِئْنَا! فَفَعَلَ ذلكَ بهم ثلاثَ مرَّاتٍ، فلمَّا رَأَوْا أنَّهم لن يُتْرَكُوا مِن أَنْ يُسْأَلُوا، قالوا: يا ربِّ نريدُ أنْ تَرُدَّ أرواحَنَا في أجسادِنًا حتى نُقتَلَ في سبيلِكَ مرَّةً أُخرى، فلمَّا رَأَى أنْ ليسَ لهم حاجةٌ تُرِكُوا". "وسئل عبد الله بن مسعود عن هذه الآية: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ} [آل عمران: 169، 170] قال: إنا قد سألنا عن ذلك رسول الله، فقال: إنَّ أرواحهم"؛ أي: أرواح الشهداء. "في جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ"، قيل: إن أرواحهم بعد مفارقتها أبدانها تُهيَّأ لها طيور خُضْر تنتقل إلى أجوافها خَلَفا عن أبدانها، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} فيتوصل بسببها إلى نَيْلِ ما يشتهي من لذَّات الجنة، وإليه يرشد قوله تعالى: {يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 169، 170]. "لها قَناديل معلَّقةٌ بالعَرْشِ"؛ المراد منها: أوكارها الشريفة ومأواها. "تَسْرَح"؛ أي: ترعى وتتناول. "من الجنَّة حيث شاءَتْ، ثم تأوي"؛ أي: ترجع. "إلى تلك القناديل، فاطَّلَعَ إليهم ربُّهم": تعديته بـ (إلى) لتضمنه معنى النظر. "اطِّلَاعَةً"، وفي تنكيرها دلالة على خصوصيتها بما ذكر من الفضل والتضعيف، وأنها ليست من جنس اطِّلاعنا على الأشياء، رزقنا الله الشَّهادة، وبلغنا هذه السَّعادة.

"فقال: هل تَشْتَهُون شيئًا؟ قالوا: أيَّ شيءٍ نشتهي، ونحن نَسْرَح من الجنَّة حيث شِئْنَا، ففعل ذلك": وهو إشارة إلى قوله: (هل تشتهون). "بهم ثلاث مرَّات، فلما رأَوْا أنهم لن يُتْرَكوا مِنْ أن يُسْأَلُوا، قالوا: يا رب نريد أن تَرُدَّ أرواحَنَا في أجْسَادنا حتى نُقْتَلَ في سبيلك مرَّة أخرى"؛ معناه: لا يبقى لهم مُتَمَنًى ولا مطلوب سوى إرادة الرجوع إلى الدنيا ليستشهدوا ثانية وثالثة، يتمنون ذلك لما رَأَوا من الشَّرف والكرامة. "فلمَّا رأى أن ليس لهم حاجة"؛ أي: حاجة معتبرة؛ لأنهم سألوا ما هو خلاف عادة الله. "تُرِكُوا": على بناء المجهول. * * * 2872 - عن أبي قتادةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! أرأيْتَ إنْ قُتِلْتُ في سبيلِ الله يُكَفرُ عنِّي خطايَايَ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعمْ، إنْ قُتِلتَ في سبيلِ الله وأنتَ صابرٌ مُحتَسِبٌ، مُقْبلٌ غيرُ مُدْبرٍ"، ثم قال: "كيفَ قلتَ؟ "، قال: أرأيتَ إنْ قُتِلتُ في سبيلِ الله؛ أَيُكَفَّرُ عني خطايَايَ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعم، وأنتَ صابرٌ مُحْتَسِبٌ مُقْبل غيرُ مُدْبرٍ، إلا الدَّيْنَ فإنَّ جبريلَ قالَ لي ذلكَ". "عن أبي قتَادة أنه قال: قال رجل: يا رسول الله! أرأيْتَ"؛ أي: أخبرني. "إن قُتِلْتُ في سبيل الله يُكَفرُ عنِّي خَطايَايَ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعم، إن قُتِلْتَ في سبيل الله وأنت صابرْ مُحْتَسِبٌ"؛ أي: طالب الثواب من الله لا لأجل الرياء. "مُقْبلٌ غير مُدْبرٍ"، قيل: هذا احترازٌ عمَّنْ يُقْبلُ في وَقْتٍ ويُدْبرُ في

وقتٍ، ويجوز أن يكون (غير مدبر) تأكيدًا. "ثم قال: كيفَ قلْتَ؟ قال: أرأيْتَ إن قُتِلْتُ في سبيل الله يُكَفَّرُ عنِّي خطاياي، فقال: نعم، وأنْتَ صابرٌ محتسبٌ مُقْبلٌ غير مُدْبرٍ إلا الدَّيْن"؛ المراد به: ما يتعلق بذمَّته من حقوق الناس. "فإن جبريل قال لي ذلك". * * * 2873 - وقال: "القتلُ في سبيلِ الله يُكَفِّر كلَّ شيءٍ إلا الدَّيْن". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: القتل في سبيل الله يكفر"؛ أي: عن المقتول "كل شيء إلا الدين". * * * 2874 - وقال: "يَضْحَكُ الله إلى رجُلَيْنِ يَقتلُ أحدُهما الآخرَ يَدخُلَانِ الجنَّةَ، يُقاتِلُ هذا في سبيلِ الله فيُقْتَلُ ثم يتوبُ الله على القاتِلِ فيُسْتَشْهَدُ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يَضْحَكِ الله إلى رجُلَيْنِ"، الضَّحك في حقِّه تعالى مجازٌ عن الرضا؛ أي: يرضى عن رجلين. "يقتلُ أحدُهما الآخر يَدْخُلان الجنَّة، يُقَاتِلُ هذا في سبيل الله فُيقْتَل" فرحمه الله؛ لأنه قُتِلَ شهيدًا. "ثم يتوب الله على القاتل" الكافر؛ أي: يوفقه للإيمان فآمَنَ. "فيُسْتَشْهَد"؛ أي: يُقْتَلُ شهيدًا فيرحمه بفضله أيضًا. * * *

2875 - وقال: "مَن سألَ الله الشهادةَ بصِدقٍ، بَلَّغَهُ الله منازِلَ الشهداءَ وإن ماتَ على فراشِهِ". "عن سَهْل بن حُنَيْف قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ سأل الله الشَّهادةَ بصدق"؛ يعني: مَنْ طلب من الله أن يجعله شهيدًا، ويتمنى ذلك عن نيَّة خالصة. "بلَّغَهُ الله منازِلَ الشُّهداء"؛ أي: أعطاه أجر الشُّهداء بصدق نيته. "وإنْ مات على فِرَاشِهِ"، قيل: قال عمر - رضي الله عنه -: اللهم ارزقني الشَّهادة في بلد رسولك. * * * 2876 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن الرُّبَيع بنتَ البَراءِ - وهي أمُّ حارِثَةَ بن سُراقَةَ - أَتَت النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبيَّ الله! أَلَا تُحَدِّثُنِي عن حَارِثَةَ، وكانَ قُتِلَ يومَ بَدرٍ أصابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فإنْ كانَ في الجَنَّةِ صَبَرْتُ، وإنْ كَانَ غيرَ ذلكَ اجتهدتُ عليهِ في البكاءِ قال: "يا أُمَّ حارِثَةَ! إنها جِنانٌ في الجنةِ، وإنَّ ابنكَ أصابَ الفِردوسَ الأعلى". "عن أنس: أن الرُّبَيع بنت البراء، وهي أمُّ حارثة بن سُرَاقَةَ أتَتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا نبي الله! ألا تحدِّثُني"؛ أي: ألا تخبرني. "عن حَارِثَةَ"؛ أي: عن حاله. "وكان قُتِلَ يوم بَدْرٍ": هو موضع، وقيل: اسم ماء. قال الشعبي: بئر كانت لرجل يدعى بدرًا، ثم غلب على الموضع ومنه: يوم البدر. "أصابه سهمٌ غَربٌ" بفتح الراء وسكونها، وبالإضافة وتركها، وهو السَّهم

الذي لا يُعرف راميه، وقيل: بالسكون معناه: أُتِيَ مِنْ حيث لا يدري، وبالتحريك معناه: رماه فاصاب غيره، وقيل بالوصف: إذا لم يعرف راميه، وبالإضافة هو المتَّخذ من شجر الغرب. "فإن كان في الجنة صبرْتُ، وإن كان غير ذلك اجتهدْتُ عليه بالبكاء، فقال: يا أم حَارِثَة إنها": الضمير للقصة والحكاية، والجملة بعدها خبرها، وهو: "جنان في الجنة": تنكيرها للتعظيم، والمراد بها: الدرجات فيها. "وإنَّ ابنك أصاب الفردوس الأعلى". * * * 2877 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: انطلَقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهُ، حتى سَبقُوا المشركينِ إلى بدرٍ، وجاءَ المشركونَ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُومُوا إلى جنةٍ عرضها السماواتُ والأرضُ"، قالَ عُمَيْرُ بن الحُمَامِ: بَخْ بَخ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يَحْمِلُكَ على قولِكَ: بَخ بَخ؟ "، قال: لا والله يا رسولَ الله! إلَّا رجاءَ أنْ أكونَ من أهلِها، قال: "فإنكَ مِن أَهلِهَا"، قال: فأخرجَ تمراتٍ فجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْهُنَّ ثم قال: لئنْ أَنَا حَييتُ حتى آكلَ تَمَراتِي إنَّها لحَيَاةٌ طويلة، قال: فَرَمَى بما كانَ معَهُ مِنَ التَّمر ثم قاتَلَهم حتّى قُتِلَ". "عن أنس أنه قال: انطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: خرج هو "وأصحابه حتى سبقوا المشركين إلى بَدْرِ"؛ أي: نزلوا لبدر قبل نزول الكفار. "وجاء المشركون، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قوموا إلى جنَّة عَرْضُها السَّموات والأرض"؛ أي: إلى عمل هو سبب لدخولها. "فقال عمير بن حُمام" بضم الحاء المهملة، هو حُمَام بن الجموح الأنصاري

أحد بني سلمة قيل: إنه أول من قُتِل من الأنصار في الإسلام قتله خالد بن الأعلم. "بخ بخ": كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء، وتكرر للمبالغة، وتبنى على السُّكون وقد تنون تشبيهًا بـ (صه) (¬1)، وقيل: إذا أفردت وَقَفْتَ عليها، وإذا كُرِّرَتْ [تنون الألى وتُسَكَّن الثانية] (¬2). "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما يحملك على قولك: بخ بخ"، توهَّم - صلى الله عليه وسلم - أن قوله ذلك صدر من غير نيَّة ورويَّة، بل شبيه قول المزاح، فنفاه عمير عن نفسه بأن "قال: لا والله"؛ أي: ليس الأمر على ما توهَّمْتَ. "يا رسول الله! إلا رجاء": استثناء من مقدر؛ أي: لا لشيء إلا رجاء "أن كون من أهلها قال: فإنك من أهلها، قال: فأخرج تمرات فجعل يأكل منهنَّ، ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي إنها لحياة طويلة، قال"؛ أي: الراوي: "فرمى بما كان معه من التَّمر، ثم قاتلهم حتى قُتِلَ". * * * 2878 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تَعدُّونَ الشهيدَ فيكم؟ "، قالوا: يا رسولَ الله مَن قُتِلَ في سبيلِ الله، قال: "إنَّ شُهداءَ أُمَّتي إذًا لَقَلِيلٌ! مَن قُتِل في سبيلِ الله فهوَ شهيدٌ، وَمَن ماتَ في سبيلِ الله فهوَ شهيدٌ، ومَن ماتَ في الطاعُونِ فهوَ شهيدٌ، ومَن ماتَ في البَطْنِ فهوَ شهيدٌ". "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما تعدُّون الشَّهيد فيكم": (ما) استفهامية، والمراد هنا: السؤال عن الصِّفة والحال التي ينال بها المؤمن رتبة الشهادة، وهي تسدُّ مَسَدَّ (من) ولهذا "قالوا": في ¬

_ (¬1) في "غ": تشبهًا بصنعه. (¬2) في "غ" و"ت": "نونها مكسورة" ولعل الصواب ما أثبت.

الجواب: "يا رسول الله! مَنْ قْتِلَ في سبيل الله، قال: إنَّ شهداء أمَّتي إذًا لقليل" على تأويل جمع قليل. "مَنْ قُتِلَ في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في الطاعون فهو شهيد، ومن مات في البَطْنِ"؛ أي: مبطونًا و (في) بمعنى باء السببية. "فهو شهيد": معناه: أنهم يشاركون الشهداء في نوع من أنواع المثوبات التي يستحقها الشُّهداء، لا المساواة في جميع أنواعها. * * * 2879 - وقال: "ما مِن غازِيَةٍ أو سَرِيَّةٍ تغزُو فتَغْنَمُ وتَسْلَمُ إلا كانُوا قد تَعَجَّلُوا ثُلُثي أجورِهم، وما مِن غازِيَةٍ أو سَرِيَّةٍ تُخفِقُ وتُصابُ إلا تَمَّ أُجورُهم". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما من غازية"؛ أي: جماعة، أو فِئَةٍ غازية، والغزو: القصد لغةً، والخروج إلى محاربة الكفار شرعًا، وإلى محاربة العدو عرفًا. "أو سريَّة"، وإنما ذكرهما تنبيهًا على أن إثبات الحكم في القليل والكثير من الغزاة، ويحتمل أن يكون شكًّا من الراوي. "تغزو في سبيل الله، فتغْنَمُ وتَسْلَمُ إلا كانوا قد تعجَّلوا ثُلُثَي أجورهم" في الدنيا وهما السَّلامة والغنيمة، وبقي له ثلث أجره يناله في الآخرة بقصده محاربة أعداء الله ونصر دينه، ومن سلم ولم يغنم استوفى ثلث أجوره وبقي له ثلثان، ومن رجع مجروحًا يقسم على هذا التقسيم بحسب جراحته إن الله لا يضيع أجر المحسنين.

"وما من غازية، أو سريَّة تُخْفِقُ"، الإخفاق: أن تغزو ولا تغنم. "وتُصَاب"؛ أي: أصابهم مصيبة. "إلا تمَّ أجورهم": إذ الأجر بقدر التَّعب. * * * 2880 - وقال: "مَن ماتَ ولم يَغْزُ، ولم يُحَدِّثْ نفسَه، ماتَ على شُعبةٍ مِن نِفاقٍ". "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من مات ولم يَغْزُ، ولم يُحَدِّث نفسه بالغَزْوِ"؛ أي: لم تقل نفسه: يا ليتني كنْتُ غازيًا. وقيل: معناه: إرادة الخروج له، وعلامتها في الظاهر: إعداد آلته، كما قال الله تعالى: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46]. "مات على شُعْبَةٍ من نفاق"؛ أي: على نوع من أنواع النِّفاق تنوينها للتهويل، يعني: من مات على هذه الصِّفة فقد أشبه المنافقين المتخلفين عن الجهاد، وقيل: هذا كان مخصوصًا بزمانه - صلى الله عليه وسلم -، والظاهر أنه عام. * * * 2881 - وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرَّجلُ يُقاتِلُ للمَغْنَم، والرجلُ يقاتِلُ للذِّكْرِ، والرجلُ يقاتِلُ ليُرَى مكانُه، فمَن في سبيلِ الله؟ قال: "مَن قاتَلَ لتكونَ كلمةُ الله هي العُليا فهوَ في سبيلِ الله". "عن أبي موسى أنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: الرجل يقاتل للمَغْنَمِ والرجل يُقَاتِل للذِّكْرِ"؛ أي: ليُذْكَرَ بين الناس ويُوْصَفَ بالشَّجاعة.

"والرجل يُقَاتِل لِيُرَي": على صيغة المجهول من الرُّؤْية، وهو الصواب. "مكانُهُ"؛ أي: منزلته من الشَّجاعة. "فمَنْ في سبيل الله؟ قال: مَنْ قاتل لتكون كلمة الله": وهي قول: لا إله إلا الله. "هي العُليا": تأنيث الأعلى. "فهو في سبيل الله": تقديم (هو) يفيد الاختصاص، فيُفْهَم منه: أنَّ مَنْ قاتل للدنيا فليس في سبيل الله في الحقيقة، ولا يكون له ثواب الغزاة. * * * 2882 - وعن أنسٍ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رجعَ مِن غزوةِ تبوكَ فدَنَا مِن المدينةِ فقال: "إنَّ بالمدينةِ أقوامًا ما سِرْتُم مَسِيرًا ولا قَطَعْتُم وادِيًا إلا كانُوا معَكم - وفي روايةٍ: إلَّا شَركُوكُم في الأجر - "، قالوا: يا رسولَ الله وَهُم بالمدينةِ! قالَ: "وهَمُ بالمدينةِ حَبَسَهُم العذرُ". "وعن أنس: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجعَ من غزوة تبوك فدنا من المدينة"؛ أي: قرب إليها. "فقال: إن بالمدينة أقوامًا"، وهم الذين يتمنَّون الغَزْوَ، ويحدِّثون أنفسهم به، ولهم مانع من الخروج. "ما سِرْتُمْ مَسِيْرًا، ولا قَطَعْتُمْ واديًا إلا كانوا معكم"؛ أي: بالقلب والهمِّ والدُّعاء، وهذا يدلُّ على أن كون المعية بالقلب مع بُعْدِ الظَّاهر كهي بالظاهر، وأن المعتبر القرب بالأرواح لا الأشباح، وأن نَيْلَ المثوبة بالنِّية لا بالأعمال الظاهرة فقط، ولذلك ورد في حق الكل في التَّنزيل: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95].

"وفي رواية: إلا شركوكم في الأجر، قالوا: يا رسول الله! وَهُمْ بالمدينة! قال: وَهُمْ بالمدينة، حبسهم العذر": وهو عدم القدرة. * * * 2883 - عن عبدِ الله بن عَمرٍو قال: جاءَ رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاستأذَنَهُ في الجهادِ، فقال: "أَحَيٌّ والِدكَ؟ "، قال: نعم، قال: "ففيهما فجاهِد". وفي روايةٍ: "فارجِعْ إلى والدَيْكَ فأَحْسِنْ صُحْبَتَهُما". "وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيُّ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما"؛ أي: في خِدْمَة وَالِدَيْك "فجاهد"، يحتمل أن الرجل كان متطوعًا في الجهاد، فرأى له النبي - صلى الله عليه وسلم - خِدْمَةَ أبويه أهم الأمرين؛ لأنه فرضُ عين، والجهاد ليس كذلك، لاسيَّما إذا كان بهما حاجة إليه. "وفي رواية: فارجع إلى والديك فأحسِنْ صُحْبَتَهُما". * * * 2884 - وعن ابن عبَّاسٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ الفتحِ: "لا هِجْرَةَ بعدَ الفتحِ، ولكنْ جهادٌ ونِيَّةٌ وإذا اسْتُنْفِرتُمْ فانْفِرُوا". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال يوم الفتح"؛ أي: فتح مكة: الا هجرة بعد الفتح"، المنفي فريضة الهجرة وفضيلتها التي كانت قبله. "ولكن جهاد"؛ أي: محاربة الكفار. "ونيَّه"، المراد بالنيَّة: إخلاص العمل لله تعالى، أو قصد الجهاد؛ أي: لم

يبْقَ هجرة، وإنما بقي الإخلاص في الجهاد وقَصْدِهِ. "وإذا استُنْفِرْتُم"؛ أي: اسْتُنْصِرْتُم للغزو. "فانفروا" خارجين إلى الإعانة، وفيه إيجاب النَّفْرِ والخروج إلى الغزو إذا دُعِيَ إليه. * * * مِنَ الحِسَان: 2885 - عن عِمْرانَ بن حُصَينٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزالُ طائفةٌ من أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ على الحقِّ ظاهرينَ على مَن نَاوأَهم، حتى يُقاتِلَ آخِرُهم المَسيحَ الدَّجَّالَ". "عن عِمران بن حُصَين: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا يزال طائفة من أمَّتي يقاتلون على الحق ظاهرين"؛ أي: غالبين. "على من نَاوَأَهُم"؛ أي: ناهضهم وعاداهم، وكل من المتعادِيَيْنِ ينهض إلى قتال صاحبه. "حتى يُقَاتِل آخِرُهم"؛ والمراد به: عيسى بن مريم عليه السلام. "المسيحَ الدَّجال"، فإنه روي: أنه يقاتله فيقتله فسماه أمةً له. * * * 2886 - عن أبي أُمَامَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ لم يَغْزُ ولم يُجَهِّزْ غَازِيًا، أو يَخْلُفْ غَازِيًا في أهلِه بخيرٍ، أصابَهُ الله بقارعةٍ قبلَ يومِ القيامةِ". "عن أبي أمامة عن النَّبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: من لم يغْزُ ولم يجِّهزْ غَازِيًا، أو يَخْلُفْ": عطف على المنفي؛ أي: لم يَخْلُفْ.

"غَازِيا في أهله بخير"؛ يعني: مَنْ لم يفعل أحدَ هذه الثلاثة من الغَزْوِ بنفسه، أو تجهيز غَازٍ، أو النيابة عنه في أهله بخير. "أصابه الله بقارعة"؛ أي: بداهِيَةٍ شديدة تقرعه؛ أي: تدقُّه وتهلكه. "قبل يوم القيامة"، والعطف بالواو في الثاني، وبـ (أو) في الثالث يدل على أنهما في رتبة واحدة. * * * 2887 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "جاهِدُوا المُشركينَ بأموالِكُم وأنفسِكُمْ وأَلسِنَتِكُمْ". "عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: جاهدوا المشركين بأموالكم"؛ أي: أظهروا العداوة عليهم بأن تصرفوا أموالكم في أسباب المجاهدين، إن لم تقدروا أن تجاهدوا بأنفسكم. "وأنفسكم": إن قدرتم عليه. "وألسنتكم": بأن تدعوا عليهم بالخذلان والهزيمة، وللمسلمين بالنَّصر والغنيمة وتحرِّضوا القادرين على الغَزْوِ، ونحو ذلك. * * * 2888 - عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَفشُوا السَّلامَ، وأَطعِمُوا الطَّعامَ، واضْرِبُوا الهامَ، تُورَثُوا الجِنانَ"، غريب. "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أفشُوا السَّلام"، إفشاؤه: إظهارُهُ برفع الصَّوت، أو إشاعته بأن يسلِّم على مَنْ يراه عرفه أو لا.

"وأطعموا الطعام واضربوا الهام": جمع هَامَة - بالتخفيف - وهو الرأس، يعني: اقطعوا رؤوس الكفار، والمراد به: الجهاد. "تُورَثُوا الجِنَان" بالمضارع المجهول؛ لأنهم كأنهم ورثوها منها. * * * 2889 - عن فُضالةَ بن عُبيدٍ، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلُّ مَيتٍ يُخْتَمُ على عملِهِ، إلا الذي ماتَ مُرابطًا في سبيلِ الله؛ فإنه يُنَمَّى لهُ عملُهُ إلى يومِ القيامَةِ ويَأْمَنُ فتنةَ القبرِ". قال: وسمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "المُجاهِدُ مَن جاهَدَ نفسَه". "عن فُضَالة بن عُبَيْد: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: كل ميت يُخْتَم على عمله"؛ يعني: ينقطع عمله ولا يصل إليه ثواب عمل. "إلا الذي مات مرابطًا في سبيل الله، فإنه يُنَمَّى له عمله": على صيغة المجهول، وهو الثواب؛ أي: يُزَاد ثواب عمله. "إلى يوم القيامة": لأنه فدى نفسه فيما يعود نفعه إلى المسلمين، وهو إحياء الدِّين بدفع أعدائه عنهم. "ويأمن فتنة القبر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: المجاهد"؛ أي: المجاهد الحقيقي. "مَنْ جاهد نفسه" بامتثال الأوامر والانزجار عن النواهي. * * * 2890 - وعن معاذِ بن جبلٍ - رضي الله عنه - سَمِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ قَاتَلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ، فقد وَجَبَتْ لهُ الجنَّةُ، ومَن جُرحَ جُرحًا في سبيلِ الله أو نُكِبَ نَكْبَةً، فإنها تَجيءُ يومَ القيامةِ كَأَغْزَرِ ما كانتْ، لونُها الزَّعْفَرانُ وريحُها

المِسْكُ، ومَن خَرَجَ به خُرَاجٌ في سبيلِ الله فإنَّ عليهِ طابَعَ الشُّهداءِ". "عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه -: أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: مَنْ قاتل في سبيل الله فَوَاقَ ناقة"؛ أي: قَدْرَ ما بين حلبتيها من الوقت، وهذا يحتمل أن يكون ما بين الغَدَاة إلى العشاء؛ لأن الناقة تُحْلَب فيهما، وأن يكون ما بين حَلْب ملء ظرف، ثم ظرف آخر في زمان واحد، وأن يحلب، ثم يُتْرَك سُويعة يرضعها فصيلها لقدر، ثم تُحلب، وأن يكون قدر مدِّ الضرع مدة إلى مدة أخرى، وهذا الأخير أليق بالترغيب في الجهاد، يعني: مَنْ قاتل في سبيل الله لحظة. "فقد وَجَبَتْ له الجنة، ومَنْ جُرِحَ جُرْحًا في سبيل الله، أو نُكِبَ نَكْبَةً": قيل: الجرح والنكبة هنا بمعنى وأحد، بدليل أنه يصف لونها بلون الزَّعفران. وقيل: الجرح ما يكون من فعل الكفار، والنَّكبة: الجراحة التي نالته من سقوطه من دابته، أو من سلاحه، ونحو ذلك. "فإنها تجيء يوم القيامة كأغزر"؛ أي: أكثر. "ما كانت": في الدنيا. "لونها الزعفران"؛ أي: كلون الزعفران، إذ لونه يابسًا يشبه لون الدم. "وريحها المِسك، ومن خرج به خُراج" بضم الخاء المعجمة: ما يخرج من البدن من القروح والدماميل. "في سبيل الله، فإن عليه طابع" بفتح الباء الموحدة وكسرها: الخاتم الذي يُخْتَمُ به الشيء؛ أي: يُعلَّم، معناه: علامة "الشهداء" السَّاعين في إعلاء الدِّين؛ ليجازى بذلك جزاء المجاهدين. * * *

2891 - عن خُرَيْمِ بن فَاتِكٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أنفقَ نفقةً في سبيلِ الله، كُتِبَتْ لهُ بسَبع مئةِ ضعْفٍ". "عن خُرَيْم بن فَاتِك قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ أنفق نفقة في سبيل الله كتب الله له سبع مئة ضعْفٍ". * * * 2892 - عن أبي أمامةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أفضلُ الصَّدقاتِ ظِلُّ فُسْطاطٍ في سبيلِ الله، ومِنْحَةُ خادمٍ في سبيلِ الله، أو طَرُوقَةُ فَحْلٍ في سبيلِ الله". "عن أبي أمامة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أفضل الصَّدقات ظل فُسْطَاط"؛ أي: خيمة يضربها. "في سبيل الله" لاستظلال المجاهدين. "ومِنْحَةُ خادم في سبيل الله"؛ أي: هبته وعطيته من غَازٍ ليخدمه. "أو طَرُوْقَة"؛ أي: مِنْحَةُ طَرُوْقَة. "فَحْل"؛ أي: النَّاقة التي بلغَتْ أن يطرقها؛ أي: يضربها الفحل؛ أي: إعطاء مركوب الجهاد "في سبيل الله". * * * 2893 - عن أبي هريرةَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَلِجُ النَّارَ مَن بَكَى مِن خشيةِ الله، حتى يعودَ اللَّبن في الضَّرْعِ، ولا يجتمعُ غُبَارٌ في سبيلِ الله ودُخَانُ جهنَّمَ في مَنْخِرَي مُسلمٍ أبداً". ويُروَى: "في جوفِ عبدٍ أبداً، ولا يجتمعُ الشُّحُّ والإيمانُ في قلبِ عبدٍ أبداً".

"عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يَلِجُ النار"؛ أي: لا يدخلها. "مَنْ بكى مِنْ خشية الله حتى يعودَ اللَّبن في الضَّرْعِ": فإن اللَّبن لا يمكن عوده إلى الضَّرْعِ بعد أن خرج منه، فكذلك دخول الباكي من خشية الله النار. "ولا يجتمع غُبَارٌ في سبيل الله ودُخَان جهنَّم في مَنْخَرَي مسلم أبداً"؛ يعني: من دَخَلَ الغُبار منخره في الجهاد لا يدخل دُخَان جهنم في منخره. "ولا يجتمع الشُّحُّ"؛ أراد به: منع الزكاة ونحوها. "والإيمان"؛ أي: كمال الإيمان "في قلب عبد أبداً". * * * 2894 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَيْنَانِ لا تمسُّهما النارُ: عينٌ بَكَتْ مِن خشيةِ الله، وعينٌ باتَتْ تحرُسُ في سبيلِ الله". "عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: عينان لا تمسُّهما النار أبداً عينٌ بَكَتْ مِنْ خشية الله"، قيل: هذا كناية عن العالم العابد المجاهد مع نفسه لقوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: 28] حيث حصر الخشية فيهم. "وعين باتَتْ تحرس في سبيل الله"؛ أي: يكون حارساً للمجاهد [ين] يحفظهم عن الكفار، فحصلت النسبة بين العينين: عين مجاهدة مع النفس، وعين مجاهدة مع الكفار. * * * 2895 - عن أبي هريرةَ قال: مَرَّ رجلٌ مِن أصحابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِشِعْبٍ

فيهِ عُيَيْنَةٌ من ماءٍ عذبةٌ فَأَعْجَبَتْهُ، فقال: لو اعتزلتُ الناسَ فأَقَمْتُ في هذا الشِّعْبِ، فذكر ذلكَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تفعلْ! فإنَّ مُقامَ أحدِكم في سبيلِ الله أفضَلُ مِن صلاتِهِ في بيتِهِ سبعينَ عاماً، ألا تُحِبونَ أنْ يغفرَ الله لكم ويُدْخِلَكُمْ الجَنَّةَ، اُغزُوا في سبيلِ الله، مَن قاتَلَ في سبيلِ الله فَوَاقَ ناقةٍ وجبَتْ له الجَنَّةُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: مَرَّ رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بشِعْبٍ"، وهو بكسر الشين المعجمة: ما انفرج بين الجبلين من طريق ونحوه. "فيه عُيَيْنَةٌ": تصغير عَيْن. "من ماء عذبة"؛ أي: طيبة. "فأعجبته"؛ أي: حسنت في عينه، وطابت في قلبه. "فقال: لو اعتزلْتُ النَّاس فأقمت في هذا الشِّعب": (لو) هذه للتمني، أو للشرط، وجوابه محذوف؛ أي: لكان خيراً لي. "فذكر ذلك لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: لا تفعل": وإنما نهى عن ذلك؛ لأن الرجل صحابي، وقد وجب عليه الغزو، فكان اعتزاله للتَّطوع معصية لاستلزامه ترك الواجب. "فإن مُقَام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عاماً، ألا تِحبُّون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة، اغزوا في سبيل الله، مَنْ قاتل في سبيل الله فَوَاقَ ناقة وَجَبَتْ له الجنة". * * * 2896 - وعن عُثمانَ - رضي الله عنه - عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رِباطُ يومٍ في سبيلِ الله خيرٌ مِن ألفِ يومٍ فيمَا سِوَاهُ مِن المَنَازِلِ".

"عن عثمان - رضي الله تعالى عنه - عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: رِبَاط يومٍ في سبيل الله خيرٌ من ألف يومٍ فيما سِوَاه من المنازل". * * * 2897 - وعن أبي هريرةَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُرِضَ عليَّ أولُ ثلاثةٍ يدخلونَ الجنةَ: شهيدٌ وعَفيفٌ مُتعفِّفٌ، وعبدٌ أحسنَ عبادةَ الله ونصحَ لِمَوَاليهِ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: عُرِضَ عليَّ أولُ ثلاثة": وروي: (ثُلَّة) بالضم، وهي الجماعة من الناس؛ أي: أول جماعة. "يدخلون الجنة: شهيد، وعفيف"، وهو الذي يمنع نفسه عمَّا لا يحل في الشرع. "متعفِّف"؛ أي: محترز عن السؤال، ومكتفٍ باليسير عن طلب الفضول في المطعم والملبس، وقيل: أي صابر على مخالفة نفسه. "وعبد أحسن عبادة الله ونصح لمواليه"؛ أي: أراد الخير لهم، وأقام بحقوق خدمتهم. * * * 2898 - عن عبدِ الله بن حُبْشِيٍّ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سُئِلَ: أيُّ الأعمالِ أفضلُ؟ قال: "إيمانٌ لا شَكَّ فيهِ، وجِهادٌ لا غُلولَ فيهِ، وحَجَّةٌ مَبرورَةٌ"، قيلَ: فَأَيُّ الصَّلاةِ أفضلُ؟ قال: "طولُ القيامِ"، قيلَ: فأيُّ الصدقةِ أفضلُ؟ قال: "جُهْدُ المُقِلِّ"، قيل: فأيُّ الهِجْرةِ أفضلُ؟ قال: "مَن هَجَرَ ما حَرَّم الله عليهِ"، قيل: فأيُّ الجهادِ أفضلُ؟ قال: "مَن جاهَدَ المشركينَ بمالِهِ ونفسِهِ"، قيل: فأيُّ القتلِ

أشْرَفُ؟ قال: "مَن أُهْريقَ دَمُهُ وعُقِرَ جَوادُهُ". "عن عبد الله بن حُبْشِي: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم سُئِلَ، أيُّ الأعمال أفضل؟ قال: إيمان لا شكَّ فيه، وجهاد لا غلول فيه، وحَجَّة مبرورة"؛ أي: مقبولة. "قيل: فأيُّ الصلاة أفضل؟ قال: طول القيام"؛ أي: في الصلاة "قيل: فأي الصدقة أفضل؟ قال: جُهْدُ المُقِلِّ"؛ أي: طاقة الفقير؛ يعني: ما أعطاه الفقير مع احتياجه إليه. "قيل: فأيُّ الهجرة أفضل؟ قال: مَنْ هَجَرَ"؛ أي: هِجْرَةُ مَنْ هَجَرَ. "ما حرَّم الله عليه، قيل: فأيُّ الجهاد أفضل؟ قال: مَنْ جاهد"؛ أي: جِهَادُ مَنْ جَاهَدَ "المشركين بماله ونفسه، قيل: فأي القتل أشرف؟ قال: مَنْ أُهْرِيْقَ"؛ أي: قَتْلُ مَنْ أُهْرِيْقَ "دمه، وعُقِرَ جواده"؛ أي: جُرِحَ فرسه الجيد في سبيل الله، وفيه إشارة إلى أنه لغاية شجاعته، أوقع نفسه بين الكفار وحاربهم ولم يظفروا به إلا بعقر فرسه. * * * 2899 - عن المِقْدَامِ بن مَعدِ يكرِبَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "للشَّهيدِ عندَ الله سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لهُ في أولِ دفعةٍ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مِن الجَنَّةِ، ويُجَارُ مِن عذابِ القبرِ، ويَأْمَنُ مِن الفَزَعِ الأكبرِ، ويُوضَعُ على رأسِهِ تاجُ الوَقارِ، الياقوتَةُ منها خيرٌ من الدُّنيا وما فيها، ويُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وسبعينَ زوجةً من الحورِ العينِ، ويُشَفَّعُ في سبعينَ مِن أقربائه". "عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: للشهيد عند الله ستُّ خِصَال: يُففر له في أول دُفْعة" بالضم ثم السكون؛

أي: في أول قطرة من الدم. "ويرى مَقْعَدَهُ من الجنَّة": عند زهوق روحه. "ويُجَار"؛ أي: يُؤَمَّن. "من عذاب القبر، ويأمن من الفَزَع الأكبر": قيل: هو عذاب النار، وقيل: حين العرض عليها، وقيل: الوقت الذي يُؤْمَر أهل النار بدخولها، وقيل: الوقت الذي يُذْبَح فيه الموت فييأس الكفار عن التَّخلص من النار. "ويوضع على رأسه تاج الوَقَار"؛ أي: تاج العزِّ والتَّعظيم. "الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، وبزوَّج ثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع"؛ أي: تُقبل شفاعته "في سبعين من أقربائه". * * * 2900 - وقال: "مَن لَقِيَ الله بغيرِ أثرٍ مِن جهادٍ، لقِيَ الله وفيهِ ثُلمَة". "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ لَقِيَ الله بغير أثرٍ من جهاد"؛ أي: بغير علامة من علامات الغَزْوِ كالجراحة والتَّعب وبذل المال وغير ذلك. "لقي الله وفيه ثُلْمَة"؛ أي: في شأنه نقصان، أو في دينه خَلَل. * * * 2901 - وقال: "الشَّهيدُ لا يجدُ أَلَمَ القَتْلِ، إلا كما يَجِدُ أَحَدُكم ألمَ القَرْصَةِ"، غريب. "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الشَّهيد لا يجدُ ألم القتل إلا كما يَجدُ أحَدُكم ألمَ القَرْصَة"، وهي المرَّة من

القَرْصِ، وهو عَضُّ النَّملة، وقيل: الأخذ بأطراف الأصابع، وقيل: حكُّ الجلد بظفرٍ ونحوه. "غريب". * * * 2902 - وعن أبي أُمامَةَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ شيءٌ أَحَبَّ إلى الله مِن قَطْرَتَيْنِ وأثَرَيْنِ: قطرةُ دَمْعٍ مِن خَشيةِ الله، وقطرةُ دمٍ يُهْراقُ في سبيلِ الله، وأمَّا الأَثَرانِ: فأَثَرٌ في سبيلِ الله، وأَثَرٌ في فريضةٍ مِن فرائضِ الله تعالى"، غريب. "عن أبي أمامة - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس شيء أحبُّ إلى الله من قَطْرتين وأثرين: قطرةُ دَمْعٍ من خشية الله، وقطرة دَمٍ يُهْرَاق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله"، (الأثر) بفتحتين: ما بقي من الشيء، وهنا: علامة الغزو من الجراحات، أو غبار الطريق وغير ذلك. "وأثر في فريضة من فرائض الله": وذلك [كـ]ـبقاء بلل الوضوء عليه، واصفرار لونه في التهجد، وخلوف فمه في الصوم، واغبرار قدميه في الحجِّ ونحو ذلك. * * * 2903 - عن عبدِ الله بن عَمرٍو قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَركبِ البحرَ إلا حاجاً أو مُعتَمِراً أو غازياً في سبيلِ الله، فإنَّ تحتَ البحرِ ناراً، وتحتَ النارِ بحراً". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تركب البحر إلا حاجًّا، أو معتمراً، أو غازياً في سبيل الله": وهذا يدل على وجوب ركوبه للحجِّ والجهاد إذا لم يجد طريقاً آخر.

"فإن تحت البحر ناراً، وتحت النَّار بحراً": قيل: يحمل هذا على ظاهره، فإن الله على كل شيء قدير. وقيل: هو تفخيم لأمر البحر، وأنه بمثابة آفة مهلكة؛ لأن الآفة تسرع إلى راكبه فلا يأمن الهلاك كل ساعة، كما لا يأمَنُ في ملابسة النار ومداخلتها. * * * 2904 - عن أمَّ حرامٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المائدُ في البحرِ الذي يُصيبهُ القَيْءُ لهُ أجرُ شهيدٍ، والغريقُ لهُ أجرُ شهيدَيْنِ". "وعن أم حَرَام: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المائِدُ في البحر الذي يصيبه القيء"، (المائد): من المَيْدِ وهو الدوران؛ أي: الذي يُدَار برأسه من ريح البحر واضطراب السفينة بالأمواج فيصيبه القيء كما يقع ذلك لمن لم يتعوَّد ركوب البحر. "له أجر شهيد": إن كان ركوبه للغزو والحجِّ وطلب العلم وصلة الرحم، وأما التجار فإن لم يكن لهم طريق سواه وكان ركوبهم لطلب القوت لا لجمع المال فهم داخلون في هذا الأجر. "والغريق له أجر شهيدين"؛ أحدهما بقصد الطاعة، والآخر بالغرق. * * * 2905 - عن أبي مالكٍ الأشعريِّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن فَصَلَ في سبيلِ الله فماتَ، أو قُتِلَ، أو وَقَصَهُ فرسُه أو بعيرُه، أو لدَغتْهُ هامَّةٌ، أو ماتَ على فراشِهِ بأَيِّ حتفٍ شاءَ الله فإنه شهيدٌ، وإنَّ لهُ الجَنَّةَ" "عن أبي مالك الأشعري أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم يقول: من فَصَلَ في سبيل الله"؛ أي: خرج للجهاد. "فمات، أو قتل، أو وَقَصَه فرسه، أو بعيره"؛ أي: صَرَعَهُ ودقَّ عنقه. "أو لدغته هامَّة" بتشديد الميم: الحيوان الشُّمِّي كالحية والعقرب وغيرهما. "أو مات على فراشه": في طريق الغزو. "بأي حتفٍ شاء الله"؛ أي: بأي موتٍ قدَّره الله تعالى. "فإنه شهيد، وإنَّ له الجنة". * * * 2906 - عن عبدِ الله بن عَمرٍو أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "قَفْلَةٌ كغزوةٍ". "عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: قَفْلَةٌ"؛ أي: مَرَّةٌ من القَفُول، وهو الرجوع من السفر. "كغزوة"؛ يعني: أجر الغازي في رجوعه إلى أهله بعد غزوه، كأجره في إقباله إلى الجهاد، أو المراد: رجوعه ثانياً إلى الغزو الذي جاء منه، أو في غيره لأمر يقتضي الرُّجوع لقي عدواً وقاتل، أو لا. * * * 2907 - وقال: "للغازي أَجْرُه، وللجاعِل أَجرُهُ وأجرُ الغازي". "وعنه قال: قال رسول الله: للغازي أجره، وللجاعِل أجرُهُ وأجرُ الغازي"، وهو الذي يدفع جُعْلاً؛ أي: أجرة إلى غازٍ ليغزو، وهذا عندنا صحيح فيكون للغازي أجرةُ سعيه، وللجَاعل أجران: أجرة إعطاء المال في سبيل الله، وأجرة كونه سبباً لغزو ذلك الغازي، ومنعه الشافعي، وأوجب رَدَّه إنْ أخذه. * * *

2908 - عن أبي أيوبَ سَمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ستُفتَحُ عليكم الأمصارُ، وستكونُ جنودٌ مُجَنَّدةٌ، يُقطَعُ عليكم فيها بُعوثٌ، فيَكرهُ الرَّجلُ البعثَ فيَتخلَّصُ مِن قومِهِ، ثم يتصفَّحُ القبائلَ يَعرِضُ نفسَهُ عليهم: مَن أَكْفِيهِ بعثَ كذا، ألا وذلك الأجيرُ إلى آخرِ قطرةٍ من دمِهِ". "عن أبي أيوب - رضي الله تعالى عنه -: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ستُفْتَحُ عليكم الأمصار وستكون جنودٌ": جمع جند، وهم الأعوان والأنصار. "مجنَّدة"؛ أي: مجموعة. "يُقْطَع"؛ أي: يقدر. "عليكم فيها"؛ أي: في تلك الجنود. "بُعوث": جمع بَعْثٍ؛ أي: جيوش يُبعثون إلى الغزو من كل قبيلة ومن قوم. "فيكره الرجل البعث"؛ أي: الخروج مع الجيش إلى الغزو بلا أجرة. "فيتخلَّص"؛ أي: فيخرج ويفرُّ. "من قومه": طلباً للخلاص من الغزو. "ثم يتصفَّح"؛ أي: بعد أن فارق هذا الكسلان قومه كراهة الغزو وتتبع. "القبائل يعرض نفسه عليهم" قائلاً: "مَنْ أكفيه بعثَ كذا"؛ أي: مَنْ يأخذني أجيراً أكفيه جيش كذا، ويكفيني هو مؤنتي. "ألا وذلك الأجير إلى آخر قطرة من دمه"؛ أي: إلى أن يموت، أو يُقتل لم يكن له ثواب الجهاد كسائر الأُجَرَاء إذا لم يقصد بغزوه إلا الجعل المشروط، والمراد: المبالغة في نفي ثواب الغزو عن مثل هذا الشَّخص. * * *

2909 - عن يَعلى بن أُميَّةَ قال: آذَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالغزوِ، وأنا شيخٌ كبيرٌ ليسَ لي خادِمٌ، فالتمستُ أجيراً يَكفيني، فوَجَدْتُ رَجُلاً سَمَّيتُ لهُ ثلاثةَ دنانيرَ، فلمَّا حضرَتْ غَنيمةٌ أردْتُ أنْ أُجريَ لهُ سهمَهُ، فجئتُ إلى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فذكرتُ لهُ فقالَ: "ما أَجِدُ لهُ في غَزوَتهِ هذهِ في الدُّنيا والآخرةِ، إلا دنانيرَهُ التي سَمَّى". "عن يَعْلَى بن أميَّة أنه قال: آذن"؛ أي: أعلم. "رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالغَزْوِ، وأنا شيخ كبير ليس لي خادم، فالتمسْتُ"؛ أي: طلبْتُ. "أجيراً يكفيني"؛ أي: يقوم بالخروج عنِّي إلى الغَزْوِ يأخذ الأجرة. "فوجدْتُ رجلاً سمَّيْتُ له ثلاثة دنانير، فلما حضرَتْ غنيمةٌ أردْتُ أن أُجْرِيَ له سهمَهُ"؛ أي: أن آخذ له من الغنيمة مثل سهام سائر الغانمين. "فجئْتُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرْتُ له، فقال: ما أجِدُ له في غَزْوتهِ هذه في الدنيا والآخرة إلا دنانيره التي تُسمَّى"؛ أي: ليس له في الدنيا من الغنيمة ولا في الآخرة من الثواب إلا ما أخذه من الأجرة. * * * 2910 - عن أبي هريرةَ: أن رَجُلاً قال: يا رسولَ الله! رجل يريدُ الجِهادَ في سبيلِ الله وهو يبتغي عَرَضاً مِن عَرَضِ الدنيا؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا أَجْرَ لهُ". "عن أبي هريرة: أن رجلاً قال: يا رسول الله! رجلٌ يريد الجهاد في سبيل الله، وهو يبتغي"؛ أي: يطلب. "عَرَضاً من عَرَض الدنيا"، وهو - بالتحريك - ما كان من مال قلَّ أو كثر، وبالسكون المتاع، وكلاهما هنا جائز. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا أَجْرَ له"؛ أي: لا ثواب له؛ لأنه لم يغزُ لله. * * *

2911 - وعن معاذٍ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الغَزْوُ غَزْوانِ، فأمَّا مَن ابتغَى وجهَ الله، وأَطاعَ الإمامَ، وأَنفقَ الكريمةَ، وياسرَ الشَّريكَ، واجتنبَ الفسادَ، فإنَّ نومَهُ ونُبْهَهُ أجرٌ كلُّه، وأمَّا مَن غَزا فَخْراً ورِياءً وسُمْعَةً، وعَصَى الإمامَ وأَفسدَ في الأرضِ، فإنه لم يرجعْ بالكَفافِ". "عن معاذ بن جبل عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: الغزو غزوان، فأما مَنِ ابتغَى وجهَ الله"؛ أي: طلب رضا الله. "وأطاع الإمام وأنفق الكريمة"؛ أي: المال النفيس. "وياسَرَ الشَّريك"؛ أي: استعمل اليسر والسهولة مع الشَّريك؛ أي: الرفيق، نفعاً بالمعونة وكفاية. "واجتنب الفساد"؛ أي: التجاوز عن المشروع قتلاً ونهياً وتخريباً. "فإن نومه ونُبْهَهُ"؛ أي: يقظته وانتباهه من النوم. "أجرٌ كلُّه"؛ يعني: أن مَنْ شأنه هذا مِنَ الغزاة فجميع حالاته من حركته وسكونه موجب للأجر؛ لإعانته على الغزو الموجب للثواب. "وأما مَنْ غزا فَخْراً"؛ أي: لادعاء عظم وكبر وشرف. "ورياء وسُمْعة"؛ أي: ليراه الناس ويسمعوه. "وعصى الإمام، وأفسد في الأرض، فإنه لم يرجع بالكَفَاف" من الثواب، أو من الرزق، أو معناه: لم يرجع من الغزو رأساً برأس بحيث لا يكون له أجر ولا يكون عليه وزر، بل يرجع ووزره أكثر من أجره. * * * 2912 - عن عبدِ الله بن عَمرٍو أنه قال: يا رسولَ الله! أَخبرني عن الجهادِ؟ فقالَ: "إنْ قاتلْتَ صابراً مُحْتسِباً بعثَكَ الله صابراً محتسباً، وإنْ قاتلْتَ

مُرائياً مُكاثِراً، بعثَكَ الله مُرائياً مُكاثِراً، يا عبدَ الله بن عمروٍ! على أَيِّ حالٍ قاتلْتَ أو قُتِلْتَ بعثَكَ الله على تِيكَ الحالِ". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال: يا رسول الله! أخبرني عن الجهاد؟ "؛ أي: عن ثوابه. "فقال: إن قاتلت صابراً محتسباً"؛ أي: خالصاً لله. "بعثك الله صابراً محتسباً، وإن قاتلت مرائياً مكاثراً"؛ أي: مفاخراً، وقيل: هو أن يقول الرجل لغيره: أنا أكثر منك مالاً وعدداً، يعني: غزوت ليقال: إنك أكثر جيشاً وأشجع. "بعثك الله مرائياً مكاثراً": ويُنادى عليك يوم القيامة: إنَّ هذا غزا فخراً ورياءً لا محتسباً. "يا عبد الله بن عمرو! على أيَّ حال قاتلْتَ، أو قُتِلْتَ بعثَكَ الله على تيك الحالة": وهذا يشير إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الناس مجزيون بأعمالهم". * * * 2913 - عن عُقبَةَ بن مالكٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَعَجَزتُم إذا بَعثتُ رَجُلاً فلم يَمْضِ لأمري، أنْ تَجْعَلُوا مكانَه مَن يَمضي لأمري". "عن عُقْبَة بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أَعَجَزْتُم إذا بَعثْتُ رجلاً"؛ أي: جعلته عليكم أميراً وأمَّرتُهُ بأمْرٍ. "فلم يَمْضِ لأمري"؛ أي: لم يمتثل بما أمرته. "أن تجعلوا مكانه مَنْ يَمْضي لأمري"؛ يعني: فاعزلوه واجعلوا مكانه أميراً آخر يمتثل بما أمرته، وعلى هذا إذا ظلم الأمير الرَّعية ولم يَقُم بحقِّ حفظهم، جاز لهم أن يعزلوه ويقيموا غيره مقامه.

2 - باب إعداد آلة الجهاد

قيل: هذا إذا لم يكن في عزله إثارة فتنة وإراقة دم، فإنْ كان ذلك؛ فإنْ كان ظلمه في الأموال لم يجزْ لهم ذلك، وإن كان سفَّاكاً للدماء ظلماً، فإن كان حصول القتل في عزله أقل من القتل في بقائه على العمل، جاز لهم قتله وقتل متعصبيه، وإن كان الأمر بالعكس، لا يجوز قتله. * * * 2 - باب إعدادِ آلةِ الجِهادِ (باب إعداد آلة الجهاد) مِنَ الصِّحَاحِ: 2914 - عن عُقبةَ بن عامرٍ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبرِ يقولُ: " {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ}، أَلا إنَّ القُوَّةَ الرَّميُ، أَلا إن القُوَّةَ الرَّميُ، أَلا إنَّ القوةَ الرَّميُ". "من الصحاح": " عن عُقْبَة بن عامر - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على المنبر يقول: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ} ""؛ أي: هيئوا للكفار. {مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} ألا إنَّ القوة الرَّمي": أي: الرَّمي بالسهام ونحوه. "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي": ذكره ثلاث مرات إشارة إلى اعتنائه بشأن الرمي؛ لأنه يدفع العدو من بعيد، وأي قوة أقوى منه، وفي الحديث تصريح بتفسير القوة المذكورة في الآية. * * *

2915 - وقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ستُفْتَحُ عليكم الرُّومُ، ويَكفيكُم الله، فلا يَعجَزْ أحدُكم أنْ يَلهُوَ بأَسهُمِهِ". "وقال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله"؛ أي: يدفع عنكم شرَّهم. "فلا يعجز"؛ أي: فلا ينبغي أن يعجز "أحدكم أن يلهو"؛ أي: يلعب. "بأسهُمه": فإن حرب الروم غالباً بالرَّمي، فتعلَّموه ليمكنكم محاربتهم، حثَّ على تعلم الرَّمي باللهو استمالة للرغبات إلى تعلمه، وإلى الترامي والمسابقة لكون النفوس مجبولة على ميلها إلى ما يلهها. * * * 2916 - وقال: "مَن عَلِمَ الرَّميَ ثم تَرَكَهُ فليسَ مِنَّا - أَوْ: قد عصى - ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من عَلِمَ الرَّمي"؛ أي: رمي السهم. "ثم تركه"؛ أي: نسيه. "فليس منَّا"؛ أي: من عاملي سنتنا. "أو قد عصى": ترددٌ من الراوي. * * * 2917 - وعن سَلَمةَ بن الأَكْوعِ قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قومٍ من أسلمَ يَتناضَلُونَ بالسُّوقِ فقال: "ارمُوا بني إسماعيلَ! فإنَّ أَباكم كانَ رامياً، وأَنا معَ بني فلانٍ"، لأَحدِ الفَرِيقينِ، فأَمسَكُوا بأَيديهم فقال: "ما لَكم؟ "، قالوا: وكيفَ نرَمي وأنتَ مَعَ بني فلانٍ؟ قال: "ارمُوا وأَنا معكم كلِّكم".

"وعن سلمة بن الأكوع أنه قال: خرج رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على قومٍ من أَسْلَم"؛ أي: من قبيلة. "يتناضلون"؛ أي: يترامون. "بالسوق" بفتح السين المهملة: اسم موضع، والباء بمعنى (في). "فقال: ارموا بني إسماعيل": بحذف حرف النداء، والمراد منهم: العرب. "فإن أباكم"؛ أي: إسماعيل - عليه السلام -. "كان رامياً، وأنا مع بني فلان، لأحد الفريقين، فأمسَكُوا بأيديهم": الباء زائدة؛ أي: تركوا الرَّمي. "فقال: ما لكم؟ قالوا: وكيف نرمي وأنت مع بني فلان"؛ أي: لا نقدر أن نقاوم فريقاً أنت معهم. "قال: ارموا وأنا معكم كلِّكم". * * * 2918 - عن أنسٍ قال: كانَ أبو طلحةَ يَتترَّسُ مَعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بِتُرْسٍ واحدٍ، وكانَ أبو طلحةَ حَسَنَ الرَّميِ، فكانَ إذا رَمَى تشرَّفَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فينظرُ إلى موضعِ نَبْلِهِ. "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: كان أبو طلحةَ يتترَّس مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتُرْسٍ واحد"؛ أي: وقف هو والنبي - صلى الله عليه وسلم - خلف ترس واحد يوم أحد "وكان أبو طلحة حَسَنَ الرَّمي، فكان إذا رمى تشرَّف النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: رفع رأسه من خلف الترس ومدَّ عنقه.

"فينظر إلى مَوْضعِ نَبْلِهِ": فإنه - صلى الله عليه وسلم - من غاية حبه الرَّمي كان يطَّلع بكل رمي موقعه. * * * 2919 - عن أنسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "البَرَكةُ في نوَاصي الخيلِ". "عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: البركة"؛ أي: كثرة الخير. "في نواصي الخيل"؛ أي: في ذواتهم، كنى عن النَّاصية بالذات، يقال: فلان مُبَارك النَّاصية؛ أي: ذاته، إنما جعلت البركة في الخيل؛ لأن بها يحصل الجهاد الذي فيها خير الدنيا وخير الآخرة. * * * 2920 - وعن جريرِ بن عبدِ الله قال: "رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَلْوي ناصيةَ فرسٍ بإصبَعِه وهو يقولُ: الخيلُ معقودٌ بنواصيها الخيرُ إلى يومِ القيامةِ: الأجرُ والغَنِيمةُ". "عن جرير بن عبد الله أنه قال: رأيْتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يَلْوِي ناصيةَ الفرس"؛ أي: يدير. "بإصبعه، وهو يقول: الخيل معقود بنواصيها الخير"؛ أي: ملازم لها، كأن الخير معقودٌ فيها. "إلى يوم القيامة: الأجر": خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو الأجر، أو بدل من (الخير)؛ أي: معقود بنواصيها الأجر في الدنيا والآخرة. "والغنيمة" في الدنيا، فيه ترغيب اتخاذها للجهاد وأن الجهاد يدوم أبداً،

وأن المال المكتسب بها خير مال. * * * 2921 - وعن أبي هريرةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن احتبسَ فَرَساً في سبيلِ الله إيماناً بالله وتصديقاً بِوَعدِه، فإنَّ شِبَعَه ورِيَّهُ ورَوْثَه وبَوْلَه في ميزانِهِ يومَ القيامةِ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من احتَبَسَ فرساً"؛ أي: ربطه وحبسه على نفسه لما عسى أن يحدث من غزو، أو غير ذلك، ويجيء بمعنى الوقف. "في سبيل الله": وهو كلُّ سبيلِ يُطْلَب فيه رضاؤه، وعند الإطلاق يحمل على سبيل الجهاد، وقيل: على سبيل الحج. "إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده": في إثابة الطاعات. "فإن شِبَعَه"؛ أي: ما يشبعه. "ورِيَّه"؛ أي: ما يرويه. "ورَوْثَه وبَوْلَه في ميزانه يوم القيامة"؛ يعني: يُجعَل في ميزان صاحبه ثوابٌ بمقدار هذه الأشياء. * * * 2922 - عن أبي هريرةَ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَكْرهُ الشِّكالَ في الخَيلِ. والشِّكالُ: أنْ يكونَ الفرسُ في رجلِه اليُمنى بياضٌ وفي يدهِ اليُسرى، أَوْ في يدِه اليُمنى ورجلِه اليُسرى. "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكره

الشِّكال" بكسر الشين المعجمة: المُحَجَّل القوائم. "في الخيل، والشِّكال: في أن يكون الفرس في رجله اليمنى بياض، وفي يده اليسرى، أو في يده اليمنى، ورجله اليسرى": وجه كراهته مفوض إلى الشَّارع، أو جُرِّبَ هذا الجنس فلم يُوْجَد فيه نَجَابة. * * * 2923 - عن عبدِ الله بن عمرَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سابَقَ بين الخيلِ التي أُضْمِرَتْ مِن الحَفياءِ، وأَمَدُها ثَنِيَّةُ الوداعِ، وبينَهما ستةُ أميالٍ، وسابَقَ بين الخيلِ التي لم تُضَمَّرْ مِن الثَّنيَّةِ إلى مسجدِ بني زُرَيْقٍ، وبينَهما مِيلٌ. "عن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سابق بين الخيل التي أُضْمِرَتْ"؛ أي: جُعِلَتْ ضامراً؛ أي: دقيق الوسط، والمشهور من كلام العرب التَّضمير، فلعل بعض الرواة أقام الإضمار مقام التَّضمير، وهو مستعمل أيضاً. "من الحَفياء" بفتح الحاء مداً وقصراً: اسم موضع بالمدينة على أميال، وكان ابتداء مسابقة التي أضمرت منه. "وأَمَدُها"؛ أي: غايتها. "ثنيَّةَ الوداع": اسم موضع أيضاً بالمدينة. "وبينهما ستة أميال، وسابق بين الخيل التي لم تضمَّرْ من الثنيَّة إلى مسجد بني زُرَيق" بضم الزاء المعجمة وفتح الراء المهملة: اسم رجل. "وبينهما مِيْل": وإنما جعل غاية المضامير أبعد من غاية ما لم تضمر من الخيل لأن المضامير أقوى منه. * * *

2924 - عن أنسٍ - صلى الله عليه وسلم - قال: كانتْ ناقةٌ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تُسمَّى العَضْباءَ، وكانتْ لا تُسبَقُ، فجاءَ أعرابيٌّ على قَعُودٍ لهُ فسبقَها، فاشتدَّ ذلكَ على المُسلمينَ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ حَقاً على الله أنْ لا يرتَفِعَ شَيءٌ مِن الدُّنيا إلا وَضَعَهُ". "عن أنس قال: كانت ناقة لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم تسمَّى العَضْبَاء": سُمِّيت به لأنها كانت مقطوعة الأذن والعَضْبُ: القطع. "وكانت لا تُسْبَق، فجاء أعرابي على قَعُود له": وهو - بفتح القاف - من الإبل: ما أمكن أن يُرْكَب، وأدناه أن يكون له سنتان. "فسبقَها، فاشتدَّ ذلك على المسلمين فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ حقاً على الله أن لا يرتَفِعَ شيء من الدنيا إلا وَضَعَه"، وفي الحديث: بيان جواز المسابقة بالإبل أيضاً. * * * مِنَ الحِسَان: 2925 - عن عقبةَ بن عامرٍ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الله يُدخِلُ بالسَّهم الواحدِ ثلاثةَ نفرٍ الجنةَ: صانِعَهُ يَحتسِبُ في صنعَتِهِ الخيرَ، والرامي بهِ، ومُنَبلَهُ، وارمُوا واركبُوا، وأنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إليَّ مِن أنْ تَرْكبُوا، كلُّ شيءٍ يَلهُو بهِ الرجلُ باطِلٌ، إلا رَميَهُ بِقَوْسِهِ، وتَأْديبَهُ فرسَه، ومُلاعبتَهُ امرأتَهُ، فإنهنَّ مِن الحقِّ، ومَن تَرَكَ الرَّميَ بعدَ ما عَلِمَهُ رغبةً عنه، فإنه نِعمةٌ تَرَكَها، أو قال: كَفَرَها". "من الحسان": " عن عُقْبهَ بن عامر أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه

وسلم يقول: إن الله تعالى يُدْخِلُ بالسَّهم الواحد ثلاثةَ نفرٍ الجنَّة: صانِعَهُ يحتسب في صنعته الخير، والرَّامي به، ومُنَبلَه"؛ أي: الذي يناول الرّامي النَّبل، وهو السِّهام العربية؛ ليرمي به، فالضمير للسهم، ويجوز أن يراد بـ (المنبل): راد النَّبل على الرَّامي من الهدف، فالضمير للرَّامي. "وارموا واركبوا، وأن ترموا أحبُّ إليَّ من أن تركبوا، كلُّ شيء يلهو"؛ أي: يلعب "به الرجل باطل، إلا رَمْيَهُ بقَوْسِهِ وتأديبَهُ فرسَه"؛ أي: تعليمه إياه الركض والجولان على نيَّة الغزو. "وملاعبته امرأتَهُ فإنهنَّ"؛ أي: هذه المذكورات. "من الحقِّ، ومَنْ تَرَكَ الرَّمي بعد ما علمه رغبةً عنه"؛ أي: إعراضاً عن الرمي. "فإنه نعمةٌ تركها، أو قال: كفرها": شكٌّ من الراوي. * * * 2926 - عن أبي نَجِيحٍ السُّلَميِّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن بلغَ بسهمٍ في سبيلِ الله فهوَ لهُ درجة في الجنَّةِ، ومَن رَمَى بسهمٍ في سبيلِ الله فهوَ لهُ عِدْلُ مُحَرَّرٍ، ومَن شابَ شَيْبَةً في الإسلامِ كانَتْ لهُ نوراً يومَ القيامةِ". "عن أبي نجيح السُّلمي أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: مَنْ بلغَ بسهمٍ"؛ أي: أوصله إلى كافر. "فهو له درجة في الجنة، ومَنْ رَمَى بسهم في سبيل الله فهو له عِدْل محرَّرٍ": بالإضافة؛ أي: له ثواب مثل ثواب محرر؛ أي: معتق خالص لله من التحرير: الإعتاق، يعني: له من الثواب مثل ذلك، وإن لم يوصل ذلك السهم إلى كافر.

"ومن شَابَ شَيْبَةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة". * * * 2927 - وعن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا سَبْقَ إلا في نَصْلٍ أو خُفٍّ أو حافِرٍ". "عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا سَبق"، وهو بالتحريك: المال المشروط للسَّابق على سبقه، وبالسكون: مصدر. "إلا في نَصْلٍ"؛ المراد به: ذو نَصْلِ كالسَّهم ونحوه. "أو خُفٍّ"؛ أي: ذي خفٍّ كالإبل والفيل. "أو حافر"؛ أي: ذي حافر كالخيل والبغال والحمير، يعني: لا يحلُّ أخذ المال بالمسابقة إلا في أحدها، وألحق بها بعضٌ: المسابقة على الأقدام، وبعضٌ: المسابقة بالحجارة. * * * 2928 - وقال: "مَن أدخلَ فَرساً بينَ فرسينِ فإنْ كانَ يُؤمَنُ أَنْ يَسبقَ فلا خيرَ فيهِ، وإنْ كانَ لا يُؤمَنُ أنْ يَسبقَ فلا بأسَ بهِ". وفي روايةٍ: "وهوَ لا يَأْمنُ أنْ يَسبقَ فليسَ بقِمارٍ، وإنْ كانَ قد أَمِنَ أنْ يَسبقَ فهو قِمارٌ". "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من أدخلَ فرساً بين فرسين": هذا إشارة إلى المحلل، وهو مَنْ جعل العقد حلالاً، وهو أن يدخل ثالث بينهما. "فإن كان يُؤْمَنُ أن يَسبقَ": بأن كان فرسه بليداً فيأمنان سبقه إياهما.

"فلا خير فيه": لأن وجوده حينئذ كعدمه، فكأنها لم يدخل بينهما محلِّلاً. "وإن كان لا يُؤْمَنُ أن يَسبقَ" بأن كان فرسه جواداً، فلا يأمنان أن يسبقهما. "فلا بأس به، وفي رواية: وهو لا يأمنُ أن يَسبقَ فليس بقِمارٍ، ولو أمن أن يَسبقَ فهو قِمَار". * * * 2929 - وقال: "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ" يعني: في الرِّهانِ. "وعن عِمْرَان بن حُصَين قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا جَلَبَ"؛ أي: لا صياح على الخيل. "ولا جَنَبَ": وهو أن يَجْنِبَ إلى جَنْبِ مركوبه فرساً آخر ليركبه إذا خاف أن يُسْبَق. "يعني في الرِّهان"؛ أي: المسابقة، قيل: هذا من قول بعض الرواة، ويحتمل أنه من قول المؤلف. * * * 2930 - وعن أبي قتادةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ الخيلِ الأدْهمُ الأقرَحُ الأرثَمُ، ثم الأقرَحُ المُحَجَّلُ طُلْقُ اليمين، فإنْ لم يكنْ أَدْهَمَ فَكُمَيْتٌ على هذه الشِّيَةِ". "عن أبي قتادة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: خير الخيل الأدْهَمْ"؛ أي: الشَّديد السواد. "الأَقْرَحُ": وهو ما في جبهته قُرْحَة - بالضم -: بياضٌ يَسِيْرٌ في وجه

الفرس دون الغرة. "الأَرْثَمُ"؛ أي: الأبيض الشفة العليا، وقيل: الأبيض الأنف. "ثم الأَقْرَحُ المُحَجَّل"؛ أي: المرتفع البياض في قوائمه إلى موضع القيد، مجاوز الأرساغ، ولا يجاوز الركبتين. "طَلْقُ اليمين"؛ أي: مُطْلَقٌ يمينها، ليس فيها تحجيل. "فإن لم يكن أَدْهَم فَكُمَيْتٌ": وهو الذي ذَنَبُهُ وعُرْفُهُ أَسْوَد، والباقي أحمر. "على هذه الشِّيَة" بكسر الشين المعجمة وفتح الياء؛ أي: العلامة، وهذه إشارة إلى الأَقْرَح والأَرْثَم، والأَقْرَح: المحجَّل طلق اليمين. * * * 2931 - عن أبي وهبٍ الجُشَميِّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بكلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ مُحجَّلٍ، أو أَشقرَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ، أو أَدْهَمَ أَغَرَّ مُحَجَّلٍ". "عن أبي وهب الجشمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عليكم بكلِّ كُمَيْتٍ أَغَرَّ"؛ أي: أبيض الوجه. "مُحَجَّل أو أَشْقَر": وهو الأحمر بالذَّنَبِ والعُرْفِ. "أَغَرَّ محجَّل، أو أدهَمَ أَغَرَّ محجَّل". * * * 2932 - عن ابن عبَّاس - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُمْنُ الخَيلِ في الشُّقْرِ". "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله

تعالى عليه وسلم: يُمْنُ الخيل"؛ أي: البركة. "في الشُّقْرِ": لأن ذلك من الخيل أقوى من الغير، إذ العرب ترى أنَّ في كلِّ أحمر قوة وشدة فوق ما يُعتقد في غيره، ولذا وصَفَتِ الموت الشَّديد بالأحمر. * * * 2933 - عن شيخ من بني سُلَيمٍ، عن عُتبةَ بن عبدِ الله السُّلَميِّ أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تَقُصُّوا نَواصيَ الخيلِ ولا معارِفَها ولا أَذنابَها، فإنَّ أذنابَها مَذابُّها، ومَعارفَها دِفاؤُها، ونَواصيَها معقودٌ فيها الخيرُ". "وعن شيخ من بني سليم عن عُتْبَةَ بن عبد السَّلمي أنه سمع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: لا تَقُصُّوا نواصي الخيل"؛ أي: لا تقطعوا شعر نواصيها. "ولا معارِفَها": جمع مَعْرَفَة، وهو موضع العُرْف؛ أي: شعر العنق. "ولا أَذْنَابها": جمع ذَنَب. "فإن أَذْنَابها مَذابُّها" بفتح الميم: جمع مِذَبَّه - بالكسر -، وهي ما تذبُّ به الذُّباب عن نفسها. "ومَعَارِفَها دِفَاؤُهَا"؛ أي: يصير بها حاراً، يعني: يدفع البرد عن الخيل بمعرفها. "ونواصيها معقود فيها الخير". * * * 2934 - وعن أبي وَهْبٍ الجُشَميِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:

"ارتبطوا الخيلَ، وامْسَحُوا بنواصِيها وأَعجازِها - أو قال: أكَفالِها - وقَلِّدوها، ولا تُقَلِّدُوها الأوتارَ". "عن أبي وَهْبٍ الجُشَميِّ قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ارتبطوا الخيل"؛ أي: سمِّنوها لأجل الغزو. "وامسحوا بنواصيها وأَعجازِها": جمع عَجُز، وهو الكفل. "أو قال: وأَكفالِها": جمع كَفَل، يريد بهذا المسح: تنظيف الخيل من الغبار، وتعرف حالها من السِّمَن؛ لئلا تترك ضعيفة عاجزة عن الركض والكرِّ والفرِّ. "وقلِّدوها"؛ أي: اطلبوا إعلاء الدِّين والدِّفاع عن المسلمين، يعني: اجعلوا ذلك لازماً لها في أعناقها لزوم القلائد للأعناق، وقيل: معناه اجعلوا في أعناق الخيل ما شئتم إلا الوِتْر. "ولا تقلدوها الأوتار": جمع وِتْر - بالكسر ثم السكون -، وهو الدَّم وطلب الثأر، يعني: لا تركبوها لتطلبوا عليها أوتار الجاهلية التي كانت بينكم، أو جمع وَتَر القوس؛ أي: لا تجعلوها في أعناقها فتختنق؛ لأنها ربما رعت الأشجار فتشبثت ببعض شعبها فخنقتها، وقيل: نهوا عنها لاعتقادهم أن تقليدها بها يدفع عنها الأذى والعين، فأعلمهم أنها لا تدفع ضرراً. * * * 2935 - عن ابن عبَّاس قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عبداً مأموراً، ما اختصَّنا دونَ النَّاسِ بشيءٍ إلا بثلاثٍ: أَمَرَنا أنْ نُسبغَ الوُضوءَ، وأنْ لا نأكلَ الصَّدَقةَ، وأنْ لا نُنْزِيَ حِماراً على فرسٍ. "وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: كان رسول الله

صلى الله تعالى عليه وسلم عَبْداً"؛ أي: لله تعالى. "مأموراً"؛ أي: بأوامره ومنهياً عن نواهيه، أو مأموراً من الله بأن يأمر أمته بشيء وينهاهم عن شيء، يعني: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان عَبْداً مطواعاً لا مَلِكاً آمراً. "ما اختصَّنا دون الناس بشيء": أراد به ابن عباس نفسه وسائر أهل بيته وآل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا القول منه: تنبيه على أنه لم يكن يخصُّهم لقرابتهم بشيء دون الناس. "إلا بثلاث"؛ أي: بثلاث خلال. "أَمَرَنا أن نُسْبغَ الوضوء": والأمر أمر إيجاب، وإلا فلا اختصاص؛ فإن الإسباغ مندوب لغيرهم أيضاً. "وأن لا نأكل الصدقة": فإن عدم أكل الصدقة واجب، فيكون قرينه أيضاً واجباً. "وأن لا نُنْزِي حماراً على فرس": لئلا يقلَّ التَّوالد في الخيل، ولأن البغل لا يصلح للكرِّ والفرِّ، وتخويف الكفرة، ولذلك لا يُسْهَم له في الغنيمة، فيكون في ذلك استبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير. أو يراد بقوله: (ما اختصنا) ما حثَّنا بشيء إلا بمزيد الحثِّ والمبالغة في ذلك؛ لما عرف - صلى الله عليه وسلم - أنه سيأتي بعدهم مَنْ يرتكب الأمور الثلاثة؛ أعني ترك الإسباغ، وأكل الصدقة، وإنزاء الحمير، فخصَّهم بالذِّكر حتى يتوقوا عنه أشد التَّوقي؛ كيلا يصير تساهلهم حجة لمن بعدهم. * * * 2936 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: أُهديَتْ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَغْلَةٌ فركبَها، فقال عليٌّ: لو حَمَلْنا الحَميرَ على الخيلِ لكانَتْ لنا مثلَ هذه، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -:

"إنَّما يفعلُ ذلكَ الذينَ لا يعلمونَ". "عن علي - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: أُهْدَيَتْ لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بغلة فركبها، فقال علي: لو حملنا الحمير على الخيل، فكانت لنا مثل هذه": وجواب (لو) محذوف. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما يفعل ذلك"؛ أي: إنزاء الحمار على الفرس. "الذين لا يعلمون" أنَّ إنزاء الفرس على الفرس خيرٌ من ذلك؛ لما ذُكِرَ من المنافع، أو لا يعلمون أحكام الشريعة ولا يهتدون إلى ما هو أولى لهم وأنفع سبيلاً. * * * 2937 - وقال أنسٌ - صلى الله عليه وسلم -: كانتْ قَبيعَةُ سيفِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن فِضَّةٍ. "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: كانَتْ قَبيْعَةُ سيفِ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من فضَّة"، (قُبيْعَةُ السَّيف): ما على طرف مقبضه من فضة أو حديد يمنع السيف من الوقوع. * * * 2938 - عن هَوْذَةَ بن عبدِ الله بن سَعدٍ، عن جدِّه مَزِيدَةَ قال: دخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفَتْح وعلى سيفِهِ ذهبٌ وفضةٌ. غريب. "عن هَوْد" بفتح الهاء وسكون الواو "ابن عبد الله بن سعد عن جده مَزِيْدَة أنه قال: دخل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم الفتح وعلى سيفه ذهب وفضة": وفيه جواز تحلية السيف. * * *

2939 - عن السَّائبِ بن يزيدَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ عليهِ يومَ أُحُدٍ دِرْعانِ قد ظاهرَ بينَهما. "عن السَّائب بن يزيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان عليه يوم أُحُدٍ دِرْعَان قد ظَاهَرَ"؛ أي: جمع "بينهما": ولبس إحداهما فوق الأخرى، من التَّظاهر: التَّعاون والتَّساعد، وهذا يدل على أن لبس السلاح سُنَّة. * * * 2940 - عن ابن عبَّاسٍ قال: كانَتْ رايةُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سوداءَ ولِواؤُهُ أبيضَ. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه قال: كانت راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سوداء"، أراد به: ما غالب لونه أسود، بحيث يرى من البعد أسود؛ لا أنه خالص السواد. "ولواؤه أبيض"، الراية: العلم الكبير، واللواء دونه، وقيل: الراية: العلم الذي ينشر ثوبه، واللواء: العلم الذي لوي عليه ثوبه ولم ينشر. * * * 2941 - وسُئِلَ البراءُ بن عازبٍ عن رايةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: كانَت سوداءَ مُرَبَّعةً مِن نَمِرةٍ. "وسُئِل البُراء بن عازب عن راية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: كانت سوداء مَرَبَّعة من نَمِرَة": وهي بردة من صوف فيها تخطيط من سواد وبياض، تلبسها الأعراب، سُمِّيت نَمِرَة تشبيهاً بالنمر. * * * 2942 - وعن جابرٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ مكَّةَ ولِواؤُهُ أبيضُ.

3 - باب آداب السفر

"عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة ولِوَاؤُهُ أبيض". * * * 3 - باب آدابِ السَّفَرِ (باب آداب السفر) مِنَ الصِّحَاحِ: 2943 - عن كعبِ بن مالكٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ يومَ الخميسِ في غزوةِ تبوكَ، وكانَ بُحِبُّ أنْ يَخرُجَ يومَ الخميسِ. "من الصحاح": " عن كعب بن مالك - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم الخميس في غزوة تبوك": هو تَفْعُل من البَوْك، وهو تَثْوِيْرُ الماء بعُوْدٍ ونحوه؛ ليخرج من الأرض، وبه سميت غزوة تبوك، فإنهم كانوا يَبُوْكون عَيْنَ تَبُوك بقِدْح، ولما رآهم - صلى الله عليه وسلم - كذلك قال: "وما زلتم تَبُوكونها". "وكان يحبُّ أن يخرج يوم الخميس": اختياره - صلى الله عليه وسلم - للسفر؛ لأنه يوم مبارك ترفع فيه الأعمال إلى السماء، فأحبَّ أن يرفع له عمل فيه؛ إذ كانت أسفاره لله تعالى. * * * 2944 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو يعلمُ النَّاسُ ما في الوَحْدَةِ ما أَعْلَمُ، ما سارَ راكِبٌ بليلٍ وَحْدَهٌ". "وعن عبد الله بن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله

صلى الله تعالى عليه وسلم: لو يعلَمُ الناس ما في الوَحْدَةِ ما أَعْلَمُ" من المضرَّة الدينية والدنيوية كحرمانه من ثواب الصلاة بالجماعة، وعدم مَنْ يعينه في حوائجه، (ما) فيهما موصولة، والثانية بدل من الأولى. "ما سَارَ راكبٌ بليل وحدَهُ": (ما) هذه نافية، كان الظاهر أن يقول: ما سار أحد، وفيه نهي عن التَّفرد بالسفر راكباً كان أو رَاجِلاً، إنما قيد بالراكب وبالليل؛ لأن الخطر في الليل أكثر لاسيما إذا كان راكباً لنفور مركوبه من أدنى شيء. * * * 2945 - وقال: "لا تَصْحَبُ الملائكةُ رُفْقةً فيها كلبٌ ولا جَرَسٌ". "عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تصْحَبُ الملائكة رِفْقَةً": وهي الجماعة المرافقة في السفر. "فيها كلْبٌ ولا جَرَسٌ"، قيل: سبب نفرتهم عن الجرس أنه شبيه بالنَّاقوس، وقيل: كراهة صوته. قال العلماء: جرس الدواب منهيٌ عنه إذا اتُّخذ للهو، وأما إذا كان فيه منفعة فلا بأس به. * * * 2946 - وقال: "الجَرَسُ مَزاميرُ الشَّيطانِ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الجرس مَزَامير الشيطان": جمع مِزْمَار، أخبر عن المفرد بالجمع؛ لإرادة الجنس، [و] أضاف إلى الشيطان؛ لأن صوته شاغل عن الذِّكْرِ والفكر. * * *

2947 - عن أبي بشيرٍ الأنصاريِّ: أنه كانَ مع رسولِ الله في بعضِ أسفارِهِ فأرسلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رسولاً: "لا يُبْقَيَنَّ في رقبةِ بعيرٍ قِلادةٌ مِن وَتَرٍ، أو قِلادةٌ إلا قُطِعَت". "عن أبي بشير الأنصاري - رضي الله عنه -: أنه كان مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض أسفاره، فأرسل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رسولاً فقال: لا يَبْقَينَّ" بفتح القاف: من الإبقاء. "في رقبةِ بعيْرٍ قلادة من وَتَرٍ" بفتحتين: واحد أوتار القوس. "أو قِلادة": شكٌّ من الراوي. "إلا قُطِعَتْ"، قيل: سبب النَّهي: خوف اختناق البعير بها عند شدَّة الركض، أو عند تشبث الوتر بالشجر. * * * 2948 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سافرْتُم في الخِصْبِ فأعطُوا الإِبلَ حَظَّها مِن الأرضِ، وإذا سافرْتُم في السَّنَةِ فأسرِعُوا عليها السَّيْرَ، وإذا عرَّسْتُم بالليل فاجتنِبُوا الطَّريقَ، فإنها طُرُقُ الدَّوابِّ ومَأْوَى الهوامِّ بالليلِ". وفي روايةٍ: "وإذا سافرتُم في السَّنةِ فبادِرُوا بها نِقْيَها". "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا سافرتم في الخِصْبِ" بكسر الخاء المعجمة: زمان كثرة العَلَفِ والنبات. "فأعطوا الإبل حقها"؛ أي: حظَّها "من الأرض"؛ أي: مِنْ نباتها، وحظُّها: رعيها؛ أي: دعوها ساعة فساعة ترعى. "وإذا سافرتم في السَّنَة"؛ أي: في زمان القَحْطِ وانعدام نبات الأرض من يبسها.

"فأسرعوا عليها السَّير"؛ لتصل إلى المنزل فتعلف فيه قبل أن يلحقها جوع وعطش في الطريق، فتضعف عن السير. "وإذا عَرَّسْتُم بالليل"؛ أي: نزلتم في آخر الليل للاستراحة. "فاجتنبوا الطريق"؛ أي: انحرفوا عن الطريق ولا تنزلوا فيه. "فإنها طُرُقُ الدَّواب"، قيل: المراد بها: الإنسان الطَّارق بِشَرٍّ كقاطع الطريق ونحوه. "ومأوى الهوامِّ بالليل": فإنها تمشي بالليل على الطُّرق؛ لسهولتها، ولأنها تجد فيها من الرِّمَّةِ، وتأوي إليها. "وفي رواية: إذا سافرتم في السَّنَة فبادروا بها"؛ أي: بالإبل. "نِقْيَها"؛ أي: قبل ذهاب نِقْيها، وهو مخُّها؛ معناه: أسرعوا في السَّير بها؛ لتصلوا إلى المقصد، وفيها بقية من قُوَّتها. * * * 2949 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: بينما نحنُ في سفرٍ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، إذ جاءَ رجلٌ على راحلةٍ فجعلَ يضرِبُ يَميناً وشِمالاً، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ فلْيَعُدْ بهِ على مَن لا ظَهْرَ لهُ، ومَن كانَ لهُ فَضْلُ زاد فلْيَعُدْ بهِ على مَن لا زادَ لهُ، قال: فذكرَ مِن أصنافِ المالِ حتى رأيْتا أنه لا حَقَّ لأحدٍ منا في فَضْلٍ". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذ جاء رجل على راحلة فجعل"؛ أي: طفق ذلك الرجل. "يضرِبُ يميناً وشمالاً"؛ أي: يمين راحلته وشمالها لِكَلاَلها، وعدم

قدرتها على الشَير لهزالها، أو جعل يسير براحلته يمين الأرض وشمالها؛ لتعبها وعدم قدرتها على السير على نهج واحد، من ضرب في الأرض: سافر فيها. "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ كان معه فَضْلُ ظَهْرٍ"؛ أي: دابة زائدة على حاجته. "فلْيَعُدْ به": الباء للتعدية. "على مَنْ لا ظَهْرَ له"؛ أي: فليحمل عليه مَنْ لا ظَهْرَ له. "ومن كان معه فَضْلُ زاد فلْيَعُدْ به على مَنْ لا زاد له، قال"؛ أي: الراوي: "فذكر"؛ أي: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. "من أصناف المال"؛ أي: التي ينبغي أن تُبْذَل للرفقة. "حتى رأينا"؛ أي: ظننا. "أنه لا حقَّ لأحد منا في فَضْل"؛ أي: زيادة هي في يده، يعني: أنه - صلى الله عليه وسلم - بالغ في مساعدة رفقة السفر إلى هذه الغاية. * * * 2950 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "السَّفَرُ قِطعةٌ مِن العذابِ، يمنعُ أحدَكم نومَهُ وطَعامَهُ، فإذا قَضَى نَهْمَتَهُ مِن وَجهِهِ فليُعجِّلْ إلى أهلِهِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: السَّفر قطعة من العذاب، يمنَعُ": استئنافُ بَيَانٍ لعلَّة الحكم السابق؛ أي: يمنع السفر. "أحدكم نومه وطعامه وشرابه"؛ المراد منه: منع كمال الْتِذَاذ المسافر بها؛ لكونها مقارنة بالمشقَّة. "فإذا قضى"؛ أي: أحدكم.

"نهمَتَهُ"؛ أي: حاجته. "من وَجْهِهِ"؛ أي: مما توجَّه إليه. "فليعجِّل إلى أهله": وفيه ترجيح الإقامة على الأسفار غير الواجبة. * * * 2951 - عن عبدِ الله بن جَعْفرٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا قدِمَ مِن سَفَرٍ تُلُقِّيَ بصِبْيانِ أهلِ بيتِهِ، وإنه قدِمَ مِن سفرٍ فسُبقَ بي إليهِ فحملَني بينَ يديْهِ، ثم جِيءَ بأحدِ ابنيْ فاطمةَ فأردفَهُ خَلفَهُ، قال: فأُدخِلْنا المدينةَ ثلاثةً على دابَّةٍ. "عن عبد الله بن جعفر": ابن عمِّ رسول الله. "أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا قَدِمَ من سفر تُلُقِّيَ": على صيغة المجهول من التَّلْقِية. "بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفر فسُبقَ بي إليه": على صيغة المجهول. "فحملني بين يديه، ثم جِيء بأحد ابنيْ فاطمة، فَأَرْدَفَهُ"؛ أي: أركبه. "خلفه، قال فَأُدْخِلْنَا": بصيغة المجهول، وفي بعض النسخ: (فدخلنا). "المدينة ثلاثةً": نصب على الحال؛ أي: ثلاثة أشخاص. "على دابَّة": وهذا يدل على أن الإرداف سُنَّة؛ لأن فيه تواضعاً. * * * 2952 - عن أنسٍ: أنه أَقبَلَ هو وأبو طلحةَ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ومعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - صَفِيَّهُ مُرْدِفَها على راحلتِه. "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - أنه أَقْبَلَ هو وأبو طلحة مع النبي - صلى الله عليه وسلم -،

ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - صَفِيَّة مُرْدِفَها على راحلته"، وهذا يدل على أن استصحاب الزوجة في السفر سُنَّة. * * * 2953 - عن أنسٍ قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يَطْرُقُ أهلَهُ، كانَ لا يدخلُ إلا غُدْوةً أو عَشِيَّةً. "عن أنس: أنه كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يَطْرُقُ أهلَهُ"؛ أي: لا يأتيهم ليلاً، والطَّرْقُ: الدَّقُّ، سمي الآتي ليلاً طارقاً لحاجته إلى دقِّ الباب. "كان لا يدخل": بدل عن (كان لا يطرق أهله). "إلا غُدْوة أو عَشِيَّة"، ليبلُغَ خَبَرُ قدومه إلى الزَّوجات فيتهيأْنَ له. * * * 2954 - وعن جابرٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَطالَ أحدُكم الغَيْتَةَ فلا يَطرقْ أهلَهُ ليلاً". "عن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أطال أحدكم الغَيْبَة فلا يَطْرُقْ"؛ أي: لا يَأْتِ. "أهله ليلاً"، قال ابن عباس: فَطَرَقَ رجلان بعد نهيه - صلى الله عليه وسلم -، فوجد كلٌّ منهما مع امرأته رجلاً. * * * 2955 - وعن جابرٍ أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخلتَ ليلاً فلا تدخُلْ على أهلِكَ، حتى تَستحِدَّ المُغِيبَةُ، وتَمْتشِطَ الشَّعِثَةُ". "وعنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دخلْتَ ليلاً فلا تدخل على أهلك حتى

تَسْتَحِدَّ المُغِيْبَة": وهي المرأة التي غاب عنها زوجها، والمراد بالاستحداد: معالجة شعر العانة. "وتَمْتَشِطَ الشَّعِثَة" بكسر العين المهملة؛ أي: التي تفرَّق شعر رأسها. * * * 2956 - وعن جابرٍ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا قدِمَ المدينةَ نحرَ جَزُوراً أو بَقَرةً. "وعن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قَدِمَ المدينة نَحَرَ جَزُوراً أو بقرة"، وهذا يدل على سُنِّيَّة الضيافة للقدوم بقَدْرِ وُسْعِهِ. * * * 2957 - وعن كعبِ بن مالكٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَقْدَمُ مِن سفرٍ إلا نهاراً في الضُّحى، فإذا قَدِمَ بَدَأَ بالمسجدِ فصلَّى فيهِ ركعتينِ، ثم جلسَ فيهِ للناسِ. "وعن كعب بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لا يَقْدَمُ من سَفَرٍ إلا نهاراً في الضُّحى، فإذا قَدِمَ بدأ بالمسجد"؛ أي: يكون ابتداء نزوله بالمسجد. "فصلَّى فيه ركعتين، ثم جلس فيه للناس"؛ أي: ليزوره الناس والأصدقاء، ويفرحون بقدومه - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2958 - وقال جابرٌ: كنتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ، فلمَّا قدِمْنا المدينةَ قال لي: "اُدخُل المسجدَ فَصَلِّ ركعتينِ".

"وقال جابر: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر فلمَّا قدِمْنَا المدينة، قال لي: ادخل المسجد فصلِّ فيه ركعتين"، يدل على أن ذلك سُنَّة. * * * مِنَ الحِسَان: 2959 - عن صَخْرٍ الغامِديِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ بارِكْ لأِمتي في بُكورِها"، وكانَ إذا بعثَ سريةً أو جيشاً بعثَهم مِن أوَّلِ النَّهارِ. "من الحسان": " عن صَخْرٍ الغامِدِي قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهمَّ بارك لأمتي في بُكُورِها": وكان الغامدي الراوي تاجراً يبعث أمواله في أول النهار في الأسفار فكثر ماله لبركة مراعاته للسُّنَّة؛ لأن دعاءه - صلى الله عليه وسلم - مقبول لا محالة. "وكان إذا بعث سَرِيَّة، أو جيشاً بعثهم من أوَّل النهار"، وفيه سُنِّيَّة المسافرة في أول النهار. * * * 2960 - عن أنسٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بالدُّلْجَةِ، فإنَّ الأرضَ تُطوَى باللَّيلِ". "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: عليكم بالدُّلْجَة"؛ أي: الزموا الدُّلْجَة، وهي السَّير آخر الليل، فإن السَّير فيه أسهل حتى يظن المسافر أنه سار قليلاً وقد سار كثيراً، فكأنه طُوِيَتْ له الأرض.

"فإن الأرض تُطْوَى بالليل": ما لا تُطْوَى بالنَّهار. * * * 2961 - وعن عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الرَّاكِبُ شيطانٌ، والرَّاكِبانِ شيطانانِ، والثلاثةُ رَكْبٌ". "عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الرَّاكب شيطان"؛ أي: الانفراد والذَّهاب منفرداً من فعل الشيطان، أو شيء يحمل عليه الشيطان. "والراكبان شيطانان": لأنَّ كل واحدٍ منهما سَلَكَ مَسْلَكَ الشيطان في اختيار الوحدة والرغبة عن الجماعة. "والثلاثة رَكْبٌ": جمع راكب؛ أي: جماعة، وهذا حثٌّ على اجتماع الرفقة في السفر؛ لأن ما يحدث في السفر يحتاج إلى كثرة، خصوصاً إن نزل بهم نازل الموت للاحتياج فيه إلى الغسل والصلاة والدَّفن والحفر والوصية بردِّ وديعة ودين ونحوه، قيل: كان هذا في ابتداء الإسلام ثم نُسَخَ. * * * 2962 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانَ ثلاثةٌ في سَفَرٍ فليُؤمِّروا أحدَهم". "عن أبي سعيد الخُدْري - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان ثلاثةٌ في سفر فليُؤَمِّروا أحدهم"؛ أي: فليجعلوا أحدهم أميراً عليهم؛ ليجتمع أمرهم ولا يختلفوا فيتعبوا. * * *

2963 - عن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيرُ الصَّحابةِ أربعةٌ، وخيرُ السَّرايا أربعُمائةٍ، وخيرُ الجيوشِ أربعةُ آلافٍ، ولن يُغْلَبَ اثنا عَشَرَ ألفاً مِن قِلَّةٍ"، غريب. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: خير الصحابة"؛ أي: الرفقاء. "أربعة": لاستئناس كل منهم بآخر، وإذا عَنَّ لهم أمر يُحْتَاج فيه إلى ذهاب أحدهم وافقه آخر معاونة له ومؤانسةً. "وخير السَّرايا": جمع سرية "أربع مئة"، و (السرية): خيل، مأخوذ من سَرَى يَسْرِي من باب ضرب: إذا سار ليلاً؛ لأنها تسري خفية، أو من الاستِرَاء: الاختيار؛ لأنها جماعة مُسْتراة؛ أي مختارة من الجيش، ولم يَرِدْ في تحديدها نصٌّ. وقيل: التسعة فما فوقها سرية، والثلاثة والأربعة ونحو ذلك طَلِيْعَة لا سَرِيَّة. "وخير الجيوش أربعة آلاف، ولن يغلب اثنا عشر ألفاً عن قلة"؛ أي: لقلة، يعني: لو غُلبوا لم يكن للقلَّة بل لأمر آخر. "غريب". * * * 2964 - عن جابرٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتخلَّفُ في السَّيرِ، فيُزْجي الضَّعيفَ، ويُرْدِفُ، وَيدْعُو لهم. "عن جابر - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتخلَّف في السَّير"؛ أي: يتأخر ويسير خلف الجيش.

"فُيزْجِي"؛ أي: يسوق "الضعيف" في السَّير، ويعينه ليلحق بالرفقة. "ويُرْدِفُ"؛ أي: يُرْكِبُ خلفه رديفاً؛ تواضعاً ورحمة منه للخلق. "ويدعو لهم". * * * 2965 - عن أبي ثعلبةَ الخُشَنيِّ قال: كانَ النَّاسُ إذا نزَلوا مَنزِلاً تَفَرَّقوا في الشِّعابِ والأوديةِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ تَفَرُّقَكُم في هذهِ الشِّعابِ والأوديةِ إنما ذلكم مِن الشَّيطانِ"، فلم ينزِلوا بعدَ ذلكَ منزِلاً إلا انضَمَّ بعضُهم إلى بعضٍ، حتى يقالَ: لو بُسِطَ عليهم ثوبٌ لعمَّهم. "عن أبي ثعلبة الخُشَنيِّ قال: كان الناس إذا نزلوا منزلاً تفرَّقوا في الشِّعاب" بكسر الشين: جمع شِعْبٍ، وهو الطريق بين الجبلين. "والأودية": جمع الوادي. "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن تَفَرُّقَكُم في هذه الشِّعاب والأودية إنما ذلكم من الشيطان، فلم ينزلوا بعدَ ذلك مَنْزِلاً إلا انضمَّ بعضهم إلى بعض"؛ أي: قرب بعضهم بعضاً واجتمع. "حتى يُقَال: لو بُسِطَ"؛ أي: فُرِشَ. "عليهم ثوب لعمَّهم"؛ أي: لكفاهم. * * * 2966 - وعن عبدِ الله بن مسعودٍ قال: كنا يومَ بدرٍ كُلُّ ثلاثةٍ على بعيرٍ، فكانَ أبو لُبابَةَ وعليٌّ بن أبي طالبٍ زَميلَيْ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: وكانت إذا جاءَتْ عُقْبَةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالا: نحنُ نَمشي عنكَ، قال: "ما أنتما بأَقوَى منِّي،

وما أنا بأَغنَى عن الأجرِ منكما". "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنه - أنه قال: كنا يوم بدر كل ثلاثة على بعير، فكان أبو لُبَابة وعلي بن أبي طالب زَمِيلَيْ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: رديفيه. "قال: فكانت"؛ أي: القصة. "إذا جاءت عُقْبَةُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: نَوْبَةُ نزوله عن الدَّابة ومشيه. "قالا: نحن نمشي عنك، قال: ما أنتما بأقوى مني"؛ أي: على المشي. "وما أنا بأغنى عن الأجر منكما"؛ يعني: أنتما تريدان الأجر بالمشي، وأنا أيضاً أطلبه، وهذا تعليم منه - صلى الله عليه وسلم - للأمة مكارم الأخلاق وطلب الأجر. * * * 2967 - عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَتَّخِذوا ظُهورَ دوابكم منابرَ، فإنَّ الله تعالى إنَّما سخَّرَها لكم لتُبلِّغَكم إلى بلدٍ لم تَكونوا بالِغِيهِ إلا بِشِقِّ الأنفُسِ، وجعلَ لكم الأرضَ، فعليها فاقضُوا حاجاتِكم". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا تتَّخذوا ظُهور دوابكم منابرَ"؛ أي: لا تستقرُّوا عليها بدون السَّير، والنَّهي عن الوقوف على ظهر الدَّابة مع ثبوت أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب على راحلته واقفاً يدلُّ على جوازه لا رَيْبَ، وقيل: معناه: لا تركبوا عليها لغير حاجة ومشقَّة في السَّير راجلاً. "فإن الله تعالى إنما سخَّرها لكم لتبلِّغَكم إلى بلد لم تكونوا بَالِغِيْهِ إلا بِشِقِّ الأنْفُس"؛ أي: بمشقتها. "وجعل لكم الأرض"؛ أي: خلقها لتسكنوا فيها وتتردَّدوا عليها، كيف

شئتم ومتى شئتم فلا حرج عليكم في التَّردد عليها، بخلاف ركوب الدَّواب فإن ركوبها بلا حاجة منهيٌّ. "فعليها"؛ أي: فعلى الدَّواب. "فاقضوا حاجاتكم": من المسافرة راكبين عليها. * * * 2968 - قال أنسٌ: كنا إذا نَزَلْنا منزِلاً لا نُسبحُ حتى نَحُلَّ الرَّحالَ أي: لا نُصلِّي الضُّحى. "قال أنس - رضي الله تعالى عنه - كنا إذا نزلنا منزلاً لا نسبح حتى تحل الرحال"؛ أي: حتى نحط الأحمال عن ظهور الدواب كيلا تتعب بكون الحمل على ظهورها. "أي: لا نصلي الضحى": تفسير من المؤلف لقوله: "لا نسبح". * * * 2969 - عن بُرَيدَةَ قال: بينَما رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي، إذ جاءَ رجلٌ معَهُ حمارٌ فقال: يا رسولَ الله! اركبْ، وتَأَخَّرَ الرجلُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا، أنتَ أَحَقُّ بصدرِ دابَّتِكَ إلا أنْ تجعلَهُ لي"، قال: قد جعلْتُه لكَ، فركِبَ. "عن بُرَيْدَة قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمشي إذ جاء رجل معه حمار فقال: يا رسول الله! اركب وتأخَّر الرجل، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا، أنْتَ أحقُّ بصَدْرِ دابَّتك"، (صدرها) من ظهرها: ما يلي عنقها. "لا أن تجعَلَهُ لي": وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ لئلا يظنَّ الرجل أن مَنْ هو أكبر قدراً أحقُّ بركوب صَدْرِها مالكاً كان أو غيره، فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - أن المالك أحقُّ بصدر دابته إلا أن يُؤْثِرَ غيره به على نفسه.

"قال"؛ أي: الرجل: "قد جعلته لك، فركب"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَها. * * * 2970 - عن سعيدِ بن أبي هندٍ، عن أبي هُريرةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تكونُ إبلٌ للشَّياطينِ، وبيوتٌ للشَّياطينِ، فأمَّا إبلُ الشَّياطينِ فقد رأيتُها، يخرُج أحدُكم بنجيباتٍ مَعَهُ قد أَسْمَنَها فلا يَعْلو بعيراً منها، وَيمُرُّ بأَخيهِ قد انقطعَ بهِ فلا يحمِلُه، وأمَّا بيوتُ الشَّياطينِ فلم أَرَها" كان سعيدٌ يقولُ: لا أُراها إلا هذهِ الأقفاصَ التي تسترُ الناسَ بالدَّيباجِ. "عن سعيد بن أبي هِنْدٍ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تكون إِبلٌ للشياطين": يريد به: المُعَدَّة للتَّفَاخر والتَّكاثر دون قصد أمر مشروع. "وبيوتٌ للشياطين": قال أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه -: "فأما إبل الشياطين فقد رأيتها، يخرج أحدُكُم بنجِيْبَات معه": جمع نجيبة، وهي النَّاقة المختارة. "قد أسمنها فلا يَعْلو بعيراً منها"؛ أي: لا يركبه. "ويمرُّ بأخيه"؟ أي: برجل هو أخوه في الدِّين. "قد انقُطِعَ به": على بناء المجهول؛ أي: كلَّ عن السَّير، فالضَّمير للرجل المنقطع عن الرفقة، و (به) نائب عن الفاعل، والجملة حال. "فلا يحمله"، وهذا لأنَّ الدَّواب إنما خُلِقَتْ لينتفع بها بالركوب والحمل، فإذا لم يُحْمَل عليها مَنْ أعيى في الطريق، فقد أطاع الشيطان في منع الانتفاع، ومن وافق له فهو من الشيطان. "وأما بيوت الشياطين فلم أَرَها، كان سعيد يقول: لا أرَاها"؛ أي: لا أظنُّها.

"إلا هذه الأَقْفَاص": جمع القَفَص، وهو المحامل والهوادج التي يجلس فيها النساء على ظهر الدَّابة في الطريق. "تستر الناس بالدِّيْبَاج"، والنهي عنها ليس لذاتها، بل لتستُّرها بالدِّيباج ونحوه من الثِّياب الأبرسميات. * * * 2971 - عن سهلِ بن معاذٍ، عن أبيه، قال: غَزَوْنا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فضَيَّقَ الناسُ المنازلَ وقطعُوا الطَّريقَ، فبعثَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - مُنادِياً يُنادي في النَّاسِ: "أن مَن ضيَّقَ منزِلاً أو قطعَ طريقاً فلا جهادَ لهُ". "عن سهل بن معاذ، عن أبيه أنه قال: غزونا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فضيَّق الناس المنازل": بسبب أخذِ كلٍّ منهم منزلاً لا حاجة له فيه. "وقطعوا الطريق" بتضييقها على المارة، وقيل: بالاختلاس من الناس. "فبعث نبي الله منادياً ينادي في الناس: أن مَنْ ضَيَّقَ منزلاً، أو قطع طريقاً فلا جهاد له"؛ أي: لا كمال لثواب جهاده بإضراره الناس. * * * 2972 - عن جابرٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أحسنَ ما دخلَ الرجلُ على أهلِهِ إذا قدِمَ مِن سفرٍ أولُ الليلِ". "عن جابر - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إنَّ أحْسَنَ ما دخل الرجل على أهله إذا قدِمَ من سفر أولُ الليل"، يحمل هذا على الدُّخول بالزوجة وقضاء الوطء منها، فإنَّ ذلك في أول الليل أحسن منه نهاراً؛ إذ بالنهار قد يزاحم بالزوَّار فينقطع عما هو فيه، إذ المسافر يقدم غالباً مع

4 - باب الكتاب إلى الكفار ودعائهم إلى الإسلام

شهوة، فإذا قضى نهمته عند ذلك يكون أجلب للنوم وأدعى إلى الاستراحة. * * * 4 - باب الكتابِ إلى الكُفَّارِ ودعائِهم إلى الإسلامِ (باب الكتاب إلى الكفار ودعائهم إلى الإسلام) مِنَ الصِّحَاحِ: 2973 - عن ابن عبَّاسٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إلى قيصرَ يدعُوه إلى الإسلام، وبعثَ بكتابهِ إليه مع دِحْيَةَ الكلبيِّ، وأمَرَهُ أنْ يدفعَهُ إلى عظيمِ بُصْرَى ليدفَعه إلى قيصرَ، فإذا فيه: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مِن محمدٍ عبدِ الله ورسولهِ إلى هِرَقْلَ عظيمِ الرُّومِ، سلامٌ على مَن اتَّبعَ الهدَى، أمَّا بعدُ: فإني أَدعُوكَ بداعيةِ الإسلامِ، أسلِمْ تَسْلَم، وأسلِمْ يُؤْتِكَ الله أجرَكَ مرَّتينِ، فإنْ تَوَلَّيتَ فعليكَ إثمُ الأرِيسيَّينَ، و {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} ". ويُروَى: "بدِعايةِ الإسلامِ". "من الصحاح": " عن ابن عباس: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى قيصر": هو لقب كلِّ منْ يملك الروم. "يدعوه إلى الإسلام، وبعث بكتابه إليه"؛ أي: مع كتابه إلى قيصر.

"دِحْيَةَ الكلبي": وهو اسم المبعوث. "وأمره"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - دِحْيةَ الكلبي. "أن يدفعه"؛ أي: الكتاب. "إلى عظيم بُصْرَى"؛ أي: إلى من يُعَظِّمه أهل بُصْرى؛ أي: زعيمها وحاكمها، وبُصْرَى على وزن حبلى: موضع بالشام. "ليدفعه"؛ أي: عظيمُ بصرى ذلك الكتاب. "إلى قيصر، فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ من محمد": يتعلق بمحذوف؛ أي: صَدَرَ من محمد. "عبد الله": صفة، أو بدل منه، وليس عطف بيان؛ لأن محمداً أشهر منه. "ورسوله": تقديم لفظ (العبد) على لفظ (الرسول) يدل على أن العبودية إليه تعالى أقرب طرق العباد إليه تعالى، وهذا يدلُّ على أنَّ مِنْ آداب المكاتبة تصدير المكتوب بالبسملة وباسم المكتوب منه. "إلى هِرَقْل" بكسر الهاء وفتح الراء: اسم ملك الروم في ذلك الوقت، وقيصر اسم لجميع ملوك الروم، وقيل كلاهما واحد. "عظيم الروم": وإنما لم يكتب: ملك الروم؛ لئلا يكون ذلك مقتضياً لتسليم الملك إليه، وهو بحكم الدِّين معزولٌ عنه، وفيه جواز إطلاق (العظيم) مضافاً إلى غيره تعالى كـ (الربِّ). "سلامٌ على مَن اتَّبع الهدى"؛ أي: طريق الحقِّ، وهو الإسلام. "أما بعد: فإني أدْعُوك بداعية الإسلام": وهو مصدر بمعنى الدَّعوة كالعافية؛ أي: بكلمة الشهادة التي يُدْعَى إليها الناس كلهم. "أسْلِمْ تَسْلَم": من السلامة.

"وأسْلِمْ يؤتِكَ الله أجرَكَ مرتين": أجرُّ النصرانية التي كنت عليها مُحِقًّا قبل بعثتي، وأجر الإيمان بي، ويجوز أن يتعلق قوله: (مرتين) بقوله: (تسلم) أيضاً تعلق التنارع؛ أي: تسلم مرةً في الدنيا من القتل وأخذ الجزية، ومرة من عقاب العقبى، وتكرير (أسلم) مبالغةٌ وإيذانٌ بشفقته - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه. "وإن تولَّيْتَ"؛ أي: أعرضْتَ عن الإسلام. "فعليك إثم الأريْسِيين": جمع أَرِيْسيٍّ، وهو منسوب إلى الأَرِيس، وهو الزراع، والمراد بها: أتباعه من الرعايا؛ لأنه بإعراضه عن الإسلام يصدُّهم عنه فيكون إثم كُفْرِهم عليه. وقيل: الأريس مخففاً: الخدم والخَوَل (¬1)، وقيل: هو نصراني مشهور بينهم (¬2)، قَتَلَ هو وأصحابه نبياً بُعِثَ إليهم، وقيل: الأريسون: الملوك، وقيل: العشارون، وقيل: جمع إرِّيس - بكسر الهمزة وتشديد الراء - وهو الملك، وهذا أولى بالقَبول. " {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ} ": بيان لقوله {كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}. {وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا}؛ أي: لا يتخذُ مخلوقٌ مخلوقاً إلهاً. {مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي: من غيره. {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي: فإن أعرض أهل الكتاب عن الكلمة السواء. {فَقُولُوا}: أيها المسلمون: {اشْهَدُوا}: يا أهل الكتاب" {بِأَنَّا ¬

_ (¬1) في "غ" "الخيل" وهو تصحيف، والمثبث من "النهاية في غريب الحديث" (1/ 38). (¬2) في "غ": "سهم".

{مُسْلِمُونَ الْكِتَابِ}، ويروى: بدعاية الإسلام"؛ أي: بدعوته، مصدر أيضاً كالشِّكَاية، وقد جاء في بعض الأخبار الصحيحة: أنه لما وصل كتاب الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى هِرَقْل سأل عن حاله - صلى الله عليه وسلم - مَن الذي جاء بكتابه؟ فقيل: محمد مِنْ أشرف قومه، أو مِنْ أوسطهم (¬1)، أو من أوضعهم (¬2)؟ فقال: من أوسطهم، فقال: هكذا كان الأنبياء فقال: أفقراء أتباعه أم أغنياء؟ فقال: بل فقراء، فقال هكذا أتباع الأنبياء، فقال: إذا حارب قوماً يكون الظَّفَرُ كلُّه له، أو يكون بعض الظَّفَرِ له وبعضه لخصمه، فقال: يكون بعض الظَّفَر له وبعضه لخصمه، فقال: هكذا كان الأنبياء، فقال هرقل: آمنت بمحمد، وأَمَرَ قومه بالإيمان به، فارتفعَتْ أصواتهم، وقالوا: لا ندَعُ دين آباءنا، فخافهم هرقل، وأغلَقَ باب قصره، وأمر منادياً ينادي على سطح قصره: أيها الناس، إن هرقل يمتحنكم بعرض دين محمد عليكم؛ ليعلم أنكم ثابتون على دين آباءكم، فإن هرقل ثابت على دينه القديم، وقال لمن جاء بالكتاب: قل لمحمد: إني أعلم أنك نبي، لكن إنما لم أظهر إيماني خوفاً من الرعية ومن ذهاب الملك. * * * 2974 - وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثَ بكتابهِ إلى كِسرى مع عبدِ الله بن حُذافَةَ السَّهميِّ، فأمرَهُ أنْ يدفَعَه إلى عظيمِ البحرَيْنِ فدفعَهُ عظيمُ البحرينِ إلى كِسْرَى فلمَّا قرأهُ مَزَّقَه، قال ابن المسيبِ: فدعا عليهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُمَزَّقُوا كلَّ ممزَّقٍ. "وعن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بعَثَ بكتابه ¬

_ (¬1) في "غ ": "أوساطهم". (¬2) في "غ": "أوضاعهم".

إلى كسرى" بفتح الكاف وقد تكسر، وهو أبرويز بن أنوشروان. "مع عبد الله بن حُذَافة السَّهميِّ، فأمره"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عبدَ الله بن حُذَافة. "أن يدفعه"؛ أي: الكتاب. "إلى عظيم البحرين، فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلمَّا قَرَأَهُ مَزَّقَهُ"؛ أي: خرقه. "قال ابن المسيب: فدعا عليهم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أن يُمَزَّقوا كل مُمزَّق": مصدر كالتَّمزيق؛ أي: تفرقوا كلَّ أنواع من التفريق، يريد: زوال ملكهم، قيل: إن الذي مَزَّق كتابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبرويز بن أنوشروان قتله ابنه شيرويه، فلما أيقَنَ أبرويز الهلاك، وكان مأخوذاً عليه فَتْحَ خزانة الأدوية، وكتب على حُقَّة السُّمِّ: الدواء النافع للجماع، فلما قتل أباه فتح الخزانة فرأى الحُقَّة فتناول منها فمات من ذلك السُّم، ولم يستقم أمرهم بعد دعائه - صلى الله عليه وسلم - بالتمزيق. وقيل: هو خسرو زوج شيرين، قام ابنه شيرويه فشقَّ بطن أبيه لغلبة عشقه بها، فلما دفنه وطلب من شيرين أن يتزوج بها قالت: أمهلني حتى أودع أباك فدخلَتِ القبر، ووضعَتْ مقبض السَّيف على جرح خسرو ورأسه على بطنها، واعتمدَتْ عليه حتى دخل في بطنها وخرَّتْ عليه ميتة. وكان فتح بلاد العجم في زمن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه -، وكان ملكهم في ذلك الوقت يزدجرد شهريار بن شيرويه بن أبرويز، وتزوج الحسن بن علي - رضي الله عنه - شهربانو بنت يزدجرد. * * *

2975 - وقال أنسٌ: إنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - كتبَ إلى كسْرَى وإلى قيصرَ وإلى النَّجاشيِّ وإلى كلِّ جبَّارٍ يدعُوهم إلى الله، وليسَ بالنَّجاشيِّ الذي صلَّى عليهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. "وقال أنس - رضي الله تعالى عنه - إن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم كتب إلى كسرى وإلى قيصر وإلى النَّجاشي" بتخفيف الياء وسكونها، قيل: هو الصواب، اسم ملوك الحبشة. "وإلى كل جبَّار يدعوهم إلى الله، وليس بالنجاشي الذي صلَّى عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * 2976 - عن سليمانَ بن بُرَيْدةَ، عن أبيه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أمَّرَ أميراً على جيشٍ أو سريَّةٍ، أَوْصَاهُ في خاصَّتِه بتقوَى الله، ومَن معَهُ مِن المسلمينَ خيراً ثم قال: "اُغزُوا بسمِ الله في سبيلِ الله، قاتِلوا مَن كَفَر بالله، اُغزُوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تَغْدِروا، ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتُلوا وَليداً، وإذا لقيتَ عدُوَّكَ مِن المُشركينَ فادعُهم إلى ثلاثِ خِصالٍ، أو خِلالٍ، فأَيَّتُهنَّ ما أَجَابُوكَ فاقْبَلْ منهم وكُفَّ عنهم: ثمَّ ادعُهم إلى الإسلام، فإنْ أجابُوكَ فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعُهم إلى التحوُّلِ من دارِهم إلى دارِ المهاجرينَ، وأخبرْهم أَنَّهم إنْ فعلُوا ذلكَ فلهم ما للمُهاجرينَ، وعليهم ما على المُهاجرينَ، فإن أَبَوا أَنْ يَتَحوَّلُوا منها فَأَخْبرْهم أنهم يكونُونَ كأعرَابِ المسلمينَ، يجري عليهم حُكْمُ الله الذي يجري على المؤمنينَ، ولا يكونُ لهم في الغنيمةِ والفيءَ شيءٌ إلا أنْ يُجاهِدُوا مَعَ المسلمينَ، فإن هُم أَبَوا فسَلْهم الجزْيَةَ، فإنْ هُم أَجَابُوكَ فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، فإنْ هم أَبَوا فاستَعِنْ بالله وقاتِلهم، وإذا حاصرْتَ أهلَ حِصْنٍ فَأَرادُوكَ أنْ تجعلَ لهم ذِمَّةَ الله وذِمَّةَ نبَيهِ فلا تَجعلْ لهم ذِمَّةَ الله ولا ذِمَّةَ

نَبيهِ، ولكنْ اجْعَلْ لهمْ ذِمَّتَكَ وذمَّة أصحابكَ، فإنكم أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَمِكُمْ وَذِمَم أصحابكم، أهونُ مِن أنْ تَخْفِرُوا ذِمَةَ الله وذمةَ رسولِهِ، وإنْ حاصرْتَ أهلَ حِصْنٍ فأرادُوكَ أنْ تُنْزِلَهم على حُكْمِ الله فلا تُنْزِلْهم على حُكْمِ الله، ولكنْ أَنْزِلْهُمْ على حُكْمِكَ، فإنك لا تدرِي أَتُصيبُ حكمَ الله فيهمْ أم لا". "عن سليمان بن بُرَيْدَةَ عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أمَّر أميراً على جيشٍ أو سَرِيَّة أَوْصَاهُ في خاصَّته"؛ أي: في أمر نفسه. "بتقوى الله": بأن يقول له: اتق الله. "ومن معه من المسلمين خيراً"؛ يعني: أوصاه في أمرهم بحفظ مصالحهم، وأمره إيَّاهم بما فيه خير. "ثم قال: اغزوا باسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا فلا تَغُلُّوا"؛ أي: لا تسرقوا شيئاً من الغنيمة ولا تخونوا فيها. "ولا تَغْدِرُوا"؛ أي: لا تحاربوا الكفار قبل أن تدعوهم إلى الإسلام. "ولا تُمَثِّلُوا"؛ أي: لا تجعلوا المُثْلَةَ، وهي قطع الأعضاء، وقيل: المراد: التصوير والتمثيل بخلق الله؛ أي: لا تشبهوا بخلقه تعالى وتصوِّروا. "ولا تقتلوا وَلِيْداً"؛ أي: طفلاً. "وإذا لقيْتَ": الخطاب مع أمير الجيش. "عدوَّكَ مِنَ المشركين فادْعُهُمْ إلى ثَلاَثِ خِصَال": جمع خصْلَة. "أو خِلاَل": جمع خَلَّة - بفتح الخاء -، وهي الخصلة، شكٌّ من الراوي. "فأيَّتُهُنَّ ما أجابوك": (ما) هذه زائدة؛ أي: أيَّة واحدة من هذه الخِصَال الثلاث أجابوك. "فاقبلْ منهم، وكُفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى الإسلام": هذا هو الخصلة

الأولى، وفيه دليل لمالك على عدم مقاتلتهم قبل دعوتهم. "فإن أجابوك فاقبلْ منهم وكُفَّ عنهم، ثم ادعهم إلى التَّحول"؛ أي: الانتقال" من دارهم إلى دار المهاجرين، وأخبرهم أنهم إن فعلوا ذلك فلهم ما للمهاجرين" من الثَّواب واستحقاق مال الفيء، قيل: ذلك الاستحقاق كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ فإنه يُنْفِقُ على المهاجرين مما آتاه الله من الفيء. "وعليهم ما على المهاجرين": من الخروج إلى الجهاد؛ أي: في أيِّ وقت أمرهم الإمام سواء كان بإزاء العدو، أو لم يكن، بخلاف غير المهاجرين، فإنه لم يجب عليهم الخروج إلى الجهاد إذا كان بإزاء العدو مَنْ به الكفاية. "فإن أَبَوْا أن يتحوَّلوا منها"؛ أي: من دار الكفار، هذا هو الخصلة الثانية. "فأخبرهم أنهم يكونون كأَعْرَاب المسلمين"؛ أي: الذين لازموا أوطانهم في البادية، لا في دار الكفر، ولم يهاجروا. "يجري عليهم حُكْمُ الله الذي يجري على المؤمنين": من وجوب الصلاة والزكاة وغيرهما والقصاص أو الدية إن قتلوا أحداً عدواناً. "ولا يكونون لهم في الغنيمة والفَيْءِ شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أَبَوْا"؛ أي: عن قَبول الإسلام. "فسَلْهُم الجزية": هذا هو الخصلة الثالثة، ظاهره يوجِبُ قَبُول الجزية مِنْ كلِّ مشرك كتابيًّا كان أو غيره كعبدة الأوثان والنيران، وإليه ذهب الأوزاعي. وعن الشافعي: أنها لا تُقبل إلا مِنْ كِتَابي، أو مجوسي عربياً كان أو غيره. وعن أبي حنيفة: قبولها من الكتابي عموماً، ومن مشركي العجم. وعن أبي يوسف: عدم قبولها من العربي مطلقاً، وتُقْبَل مِنْ غيره مطلقاً. "فإن هم أجابوك فاقبل منهم وكُفَّ عنهم، فإن هم أَبَوْا"؛ أي: عن قَبول الجزية.

"فاستعن بالله وقاتلهم، وإذا حاصَرْتَ أهل حِصْنٍ" من الكفار، "فأرادوك"؛ أي: طلبوا منك. "أن تجعل لهم ذِمَّة الله وذِمَّة نبيه"؛ أي: عهدهما. "فلا تجعل لهم ذِمَّة الله ولا ذِمَّة نبيه، ولكن اجعل لهم ذِمَّتَكَ وذِمَّةَ أصحابك"؛ أي: قل لهم جعلت لكم ذِمَّتي وذِمَّة أصحابي. "فإنهم إن يخفروا ذممكم"؛ أي: إن ينقضوا عهدكم. "وذمم أصحابكم أهون مِنْ أن يخفروا ذِمَّة الله وذِمَّة رسوله"؛ أي: من أن ينقضوا عهدهما، إذ لو نقضوا عهدهما لم تدرِ ما تصنع حتى يُؤْذَنَ لكم فيهم بوحي ونحوه، وقد يتعذر ذلك عليك بسبب غيبتك عن مهبط الوحي، بخلاف ما إذا نقضوا عهدك؛ لأنك إذا أنزلتهم على حكمك فيهم باجتهادك كنت قادراً عليهم من قتلهم، أو ضرب الجزية عليهم، أو استرقاقهم، أو المن أو الفداء بحسب ما ترى من المصلحة بحسبك. "وإذا حاصَرْتَ أهلَ حِصْنٍ فأرادوك أن تُنْزِلْهُمْ على حُكْم الله، فلا تُنْزِلْهُمْ على حُكْمِ الله، ولكن أنزلْهُمْ على حُكْمِكَ، فإنك لا تدري أَتُصِيْبُ حُكْمَ الله فيهم أم لا". * * * 2977 - عن عبدِ الله بن أبي أَوْفَى - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في بعضِ أيَّامِهِ التي لَقِيَ فيها العَدُوَّ انتظرَ حتى مالَتْ الشمسُ ثم قامَ في الناسِ فقالَ: "يا أيُّها الناسُ، لا تتَمَنَّوْا لقاءَ العَدُوِّ، وسَلُوا الله العافيةَ، فإذا لقيتمُوهم فاصْبرُوا، واعلَمُوا أن الجَنَّةَ تحتَ ظِلالِ السيوفِ، ثم قال: اللهمَّ مُنزِلَ الكتابِ، ومُجْرِيَ السحابِ، وهازِمَ الأحزابِ، اهْزِمْهُمْ، وانُصْرَنا عليهم".

"عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بعض أيامه"؛ أي: غزواته. "التي لَقِيَ فيها"؛ أي: قاتل في تلك الأيام. "العدو انتظر"؛ أي: لم يحارب معهم لفرط الحرارة. "حتى مالَت الشَّمس" ودخل وقت الظُّهر، وانكسر بعض الحرِّ. "ثم قام في الناس"؛ أي: وعظ الناس وحرَّضهم على القتال. "فقال: يا أيها الناس! لا تتمنَّوا لقاء العدو واسألوا الله العافية"، إنما نهى عن تمنِّي لقاء العدو لما فيه من صورة الإعجاب والوثوق بالقوة، ولأنه يتضمَّن قِلَّةَ الاهتمام بالعدو وتحقيرهم، وهذا يخالف الاحتياط. "فإذا لقيتموهم"؛ أي: العدو، يستوي فيه الواحد والجمع. "فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظِلال السيوف"؛ يعني: كون المجاهد في القتال بحيث تعلوه سيوف الأعداء سببٌ للجنة، أو المراد بالسيوف: سيوف المجاهد، هذا كناية عن الدُّنَوِّ من العدو في الضراب، وإنما ذكر السيوف لأنها أكثر سلاح العرب. "ثم قال: اللهم مُنْزِلَ الكتاب ومُجْرِيَ السَّحاب وهازِمَ الأحزاب اهْزِمْهُمْ وانْصُرْنَا عليهم". * * * 2978 - عن أنسٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا غزَا بنا قوماً لم يكنْ يَغْزُو بنا حتى يُصْبحَ وينظرَ، فإنْ سمعَ أذَاناً كَفَّ عنهمْ وإنْ لم يَسْمَعَ أذَاناً أغارَ عليهم، قال: فخرجْنَا إلى خيبرَ فانتهَيْنَا إليهم ليلاً، فلمَّا أصبَحَ ولم يسمعْ أذاناً ركبَ وركبتُ خلفَ أبي طلحةَ وإنَّ قَدَمي لَتَمَسُّ قدمَ نبيِّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فخرجُوا إلينا بِمَكَاتِلِهم

ومَسَاحِيهم، فلمَّا رَأَوْا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالوا: مُحَّمدٌ والله، محمدٌ والجيشُ، فَلَجَأوا إلى الحصنِ، فلمَّا رآهمُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الله أكبرُ الله أكبرُ، خَرِبَتْ خيبرُ، إنَّا إذا نزَلْنَا بساحةِ قومٍ فَسَاءَ صباحُ المُنْذَرِينَ". "عن أنس - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا غَزَا بنا قوماً": الباء بمعنى المصاحبة؛ أي: غزونا وهو معنا، أو ملتبسا بنا، أو خرج بنا للغزو إلى قوم. "لم يكن يغزُ بنا": بدون الواو، من الغَزْوِ، وقيل: كذا هو في كتب الحديث، وفي بعض بالواو، وفي: (يغير بنا) من الإغارة؛ أي: لم يدعنا أن نغير عليهم ليلاً. "حتى يُصْبحَ وينظرَ، فإن سمع أذاناً كَفَّ عنهم"؛ أي: امتنع عن إغارتهم. "وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم"؛ يعني: يعرف بلد المسلمين من الكفار بالأذان، فيه بيان أن الأذان شِعَار لدين الإسلام لا يجوز تركه، ولا يُستَدَلُّ به على جواز الإغارة إذا لم يسمع أذاناً، بل يُحمَل الأمر فيه على الاحتياط في مغرة. "قال: فخرجنا إلى خيبر فانتهَيْنَا إليهم ليلاً، فلمَّا أصبح ولم يسمَعْ أذاناً ركب"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "وركبت خَلْفَ أبي طلحة، وإنَّ قَدَمِيْ لَتَمَسُّ قَدَمَ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ يعني: كنت أنا وأبو طلحة والنبي - صلى الله عليه وسلم - راكبين على بعير واحد. "قال: فخرجوا"؛ أي: الكفار من القلعة. "إلينا بِمَكَاتِلِهِمْ": جمع مِكْتَل - بكسر الميم -، وهو الزَّنبيل الكبير، يسع خمسة عشر صاعاً كأن فيه كُتَلاً من التمر؛ أي: قطعاً.

"ومَسَاحِيْهم" بفتح الميم: جمع مِسْحَاة، وهي المجرفة من حديد، قاصدين عمارة نخلهم، ولم يعلموا بدخولنا إليهم. "فلمَّا رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - قالوا: محمَّد"؛ أي: هذا محمد، أو أتانا محمد. "والله، محمَّد والخَمِيسُ"؛ أي: الجيش، سُمّي به لانقسامه خمسةَ أقسامٍ: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب، وقيل: لأنه يخمس الغنائم. "فلجؤوا"؛ أي: التجؤوا. "إلى الحصن، فلمَّا رآهم النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الله أكبر الله أكبر، خَرِبَتْ خيبر": دعاء، أو خبر. {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ}؛ أي: أرضهم. {فَسَاءَ}؛ أي: بِئْسَ. {صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ}؛ لنزول عذاب الله بالقتل والإغارة عليهم إن لم يؤمنوا. * * * 2979 - وعن النُّعمانِ بن مُقَرِّن قال: شهدتُ القتالَ مَع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَكانَ إذا لم يُقاتِلْ أولَ النهارِ انتظرَ حتى تهبَّ الأرواحُ وتحضُرَ الصَّلاةُ. "عن النُّعمان بن مُقَرِّن" بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة "قال: شهدْتُ"؛ أي: حضرْتُ. "القتالَ مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، كان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تَهْبَّ الأرواح": جمع ريح؛ لأن أصلها الواو، ويجمع على أرياح قليلاً، وعلى رياح كثيراً؛ أي: حتى تجيء الرياح، وتكسر حرارة النهار في وقت الزوال.

"وتحضر الصلاة"؛ أي: صلاة الظهر. * * * مِنَ الحِسَان: 2980 - عن النُّعمانِ بن مُقَرِّن قال: شهِدْتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فكانَ إذا لم يقاتِلْ أوَّلَ النَّهارِ انتظرَ حتى تزولَ الشمسُ وتَهُبَّ الرياحُ وينزِلَ النصرُ. "من الحسان": " عن النعمان [بن] مُقَرِّن قال: شهدْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا لم يقاتل أوَّل النهار انتظر حتى تزول الشَّمس"، انتظاره - صلى الله عليه وسلم - زوال الشَّمس ليطيب الوقت ويؤدي الصلاة. "وتَهُبَّ الرياح وينزل النَّصر"؛ أي: النصرة ببركة دعاء المسلمين عُقيب صلاتهم لجيوشهم. * * * 2981 - وعن قَتادَةَ عن النُّعمانِ بن مُقَرِّن قال: غزوتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فكانَ إذا طلَعَ الفجرُ أمْسَكَ حتى تطلعَ الشمسُ، فإذا طَلَعَتْ قاتَلَ، فإذا انْتَصَف النهارُ أمسكَ حتى تزولَ الشَّمسُ، فإذا زالَتْ الشمسُ قاتَلَ حتى العصرِ، ثم أمسكَ حتى يُصلِّيَ العصرَ ثم يقاتلُ، قال قتادةُ: كانَ يقالُ: عندَ ذلكَ تَهِيجُ رياحُ النصرِ، ويدعو المؤمنونَ لجيوشِهم في صلاتِهم. "عن قتادة عن النعمان بن مُقَرِّن قال: غزوْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان إذا طَلَعَ الفجْرُ أَمْسَكَ"؛ أي: امتنع عن الإغارة والقتال. "حتى تطلع الشمس، فإذا طَلَعَتْ قاتل، فإذا انتصف النَّهار أَمْسَكَ حتى

5 - باب القتال في الجهاد

تزول الشَّمس، فإذا زالَتْ الشَّمس قاتل حتى العصر، ثم أمسك حتى يصلي العصر، ثم يقاتل، قال قتادة: كان يقال: عند ذلك تَهِيجُ رياح النَّصر"؛ أي: تجيء رياح النصرة؛ لأن الله تعالى أجرى العادة أن الرِّياح تهب من قِبَل المنصور في وقت الزوال. "ويدعوا المؤمنون لجيوشهم في صلاتهم". * * * 2982 - عن عصامٍ المُزَنيِّ قال: بَعَثَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَرِيَّةٍ فقال: "إذا رأيتُم مَسجداً أو سمعْتُمْ مُؤَذِّناً فلا تقتُلوا أَحَداً". "عن عصام المُزَني قال: بعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سَرِيَّة فقال: إذا رأيتم مسجداً، أو سمعتم مؤذِّناً فلا تقتلوا أحداً"؛ يعني: إذا كان شيء من ذلك في دار الدِّين فأمسكوا عن القتال، فيه دليل على أن إظهار شعار الإسلام في القتال والغارة يحقِنُ الدَّم. * * * 5 - باب القِتالِ في الجهادِ (باب القتال في الجهاد) مِنَ الصِّحَاحِ: 2983 - عن جابرٍ قال: قالَ رجلٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ أُحُدٍ: أرأيتَ إنْ قُتِلْتُ فأينَ أنا؟ قال: "في الجَنَّةِ"، فأَلْقَى تَمَراتٍ في يدِهِ، ثم قاتَلَ حتى قُتِلَ.

"من الصحاح": " عن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رجل لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم أُحُد: أرأيت"؛ أي: أخبرني. "إن قُتِلْتُ فأينَ أنا؟ "؛ يعني: إِنْ قُتِلْتُ شهيداً في أيِّ منزل أكون، أفي الجنة أم في النار؟ "قال: في الجنة، فألقى تمرات في يده": صفة (تمرات)، "ثم قاتل حتى قُتِلَ". * * * 2984 - قال كعبُ بن مالكٍ: لم يكنْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يريدُ غزوةً إلا وَرَّى بغيرِها، حتى كانَتْ تلكَ الغَزْوةُ - يعني: غزوةَ تبوكَ - غزاهَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَرٍّ شديدٍ، واستقبلَ سَفَراً بعيداً ومَفَازاً، وعَدُوًّا كثيراً، فجلَّى للمُسلمينَ أمرَهم ليتأهَّبُوا أُهْبَةَ غَزْوِهِم، فأَخبرَهم بوَجْهِه الذي يريد. "قال كعب بن مالك: لم يكن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريد غَزْوَةً إلا وَرَّى"؛ أي: سترها "بغيرها": وأظهَرَ أنه يريد غيرها لما فيه من الحزم، وإغفال العدو، والأمن من جاسوس يطَّلع على ذلك، فيخبر به العدو، وتوريته - صلى الله عليه وسلم - كان تعريضاً بأن يريد مثلاً غَزْوَ مكة، فيسألُ الناسَ عن حال خيبر، وكيفيَّة سبيلها، لا تصريحاً بأن يقول: أني أريد غَزْوَ أهل الموضع الفلاني وهو يريد غيرهم؛ لأنَّ هذا كَذِبٌ غير جائز. "حتى كانت تلك الغزوة، يعني: غزوة تبوك": اسم ناحية في البَرِّيَّةِ قِبَل الروم قيل: بينها وبين المدينة قدر مسيرة شهر. "غزاها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في حرٍّ شديد واستقبل سفراً

بعيداً ومفازاً": وهي البَرِّيَّة القَفْر. "وعدواً كثيراً، فجلَّى للمسلمين أمرهم"؛ أي: أظهر الأمر لهم. "ليتأهَّبوا أُهْبَةَ غَزْوِهِمْ فأخبرهم بوجهه الذي يريد". * * * 2985 - وقال جابرٌ: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الحربُ خُدْعَةٌ". "قال جابر - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: الحربُ خَدْعَةٌ": - بفتح الخاء وسكون الدال - للمرة؛ يعني: إذا خدع المقاتل مرة لا تعاد هي ثانية. ورويت: - بضم الخاء - أيضًا، وهي الاسم من الخِدَاع، - وبالضم وفتح الدال - يعني: الحرب كثيرة الخداع. * * * 2986 - وقال أنسٌ: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يغزُو بأُمِّ سُلَيمٍ ونِسْوَةٍ من الأنصارِ مَعَه إذا غَزَا، فيَسْقينَ الماءَ، ويُدَاوينَ الجَرْحَى. "وقال أنس: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يغزو بأُمِّ سُلَيم": هي أم أنس. "ونِسْوَةٌ من الأنصار معه إذا غزا، فيَسْقِيْنَ الماء ويُدَاويْنَ الجرحى": جمع المجروح. * * * 2987 - وقالت أمُّ عطِيَّةَ: غَزَوْتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سبعَ غَزَوَاتٍ: أَخْلُفُهم في رِحالِهم فأَصنعُ لهم الطَّعامَ، وأُداوي الجرحَى، وأَقومُ على المَرْضى.

"وقالت أمُّ عطية: غزوْتُ مع رسول الله صلى الله - صلى الله عليه وسلم - سبع غزوات، أَخْلُفُهُم في رِحَالهم"؛ أي: أقوم مقامَهُم وأحفظ متاعهم. "فأصنع لهم الطَّعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى". * * * 2988 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلْ تُنْصَرُونَ وتُرْزَقونَ إلا بضُعفائِكم". "وعن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هل تُنْصَرُون وتُرْزَقون"؛ يعني: لا تنصرون ولا ترزقون. "إلا بضُعفائكم"؛ أي: بدعائهم لكم بالنصرة، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك لئلا يقع في نفوس المجاهدين شيء من تقاعد أولئك وتخلفهم عن الجهاد، فأعلمهم - صلى الله عليه وسلم - بأنهم معذورون لضعفهم، وبأنهم منصورون ببركة دعائهم. * * * 2989 - وعن عبدِ الله بن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: "نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتلِ النِّساءِ والصِّبيانِ". "عن عبد الله بن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى وسلم عن قَتْلِ النساء والصبيان"؛ يعني: لا تُقْتَلُ النساء والصبيان، ولكن تُسْبَى ويُرَق. * * * 2990 - عن الصَّعْبِ بن جَثَامَةَ قال: سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن أهلِ الدَّارِ يُبَيَّتونَ مِن المُشركينَ، فيُصابُ مِن نسائِهم وذَرَارِيهم، فقال: "هُم منهم". وفي روايةٍ: "هُم مِن آبائهم". "عن الصَّعب بن جَثَامة قال: سُئِل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم

عن أهل الدَّار": المراد بـ (الدّار): كل قبيلة اجتمعت في مَحِلَّةٍ باعتبار أنها تجمعهم وتدور حولهم. "يُبَيَّتون": على صيغة المجهول؛ أي: يُقْصَدون في الليل بالقتل. "من المشركين": بيان (أهل الدار). "فيُصَاب من نسائهم وذراريهم"؛ أي: يُقْتَلُ نساؤهم وذراريهم. "فقال: هم منهم"؛ أي: النِّساء والصبيان من المشركين، في أنه لا بأس بقتلهما عند تَبْييتهم؛ لأن الغازي لا يقدر على التَّمييز بينهما وبين الرِّجال في الليل، وإنما المنهيُّ قتلهما نهاراً لإمكان التمييز. "وفي رواية: هم من آبائهم"؛ يعني: حكمهم حكم آبائهم؛ لأنهم في هذه الصورة تَبَعُ لآبائهم. * * * 2991 - وعن البراءِ بن عازبٍ قال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رَهْطاً من الأنصارِ إلى أبي رافِعٍ، فدخلَ عليهِ عبدُ الله بن عَتِيكَ بيتَه لَيْلاً فقتَلَهُ وهو نائمٌ. "وعن البراء بن عازب قال: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رَهْطًا"؛ أي: جماعة. "من الأنصار إلى أبي رافع": هو ابن أبي الحُقَيْق، أحد بني النَّضير، وهو أمير من اليهود، وكان قد عاهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فنقض العهد وأبدى الخبث. "فدخل عليه عبد الله بن عَتِيك": وهو أمير الرَّهْط. "بيته ليلاً فقتَلَهُ وهو نائم": وهذا يدلُّ على جواز قتل الحربي بأي طريقٍ كان ليلاً أو نهاراً.

2992 - عن ابن عمرَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَطَعَ نخلَ بني النَّضيرِ وحَرَّقَ، ولها يقولُ حسانٌ - رضي الله عنه -: وهَانَ على سَرَاةِ بني لُؤَيٍّ. . . حَريقٌ بالبُوَيرةِ مُستَطِيرُ وفي ذلكَ نزَلَت: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} ". "وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قطع نخل بني النَّضير وحَرَّق"؛ لأنهم نقضوا العهد وهمُّوا بقتله - صلى الله عليه وسلم - حين أتاهم يستعين منهم في دية رجلين من بني عامر، فأعلمه الله ما هَمُّوا به بالوحي فقام من مجلسه، ولم يشعروا به حتى أتى مسجد المدينة، فبعث إليهم محمد بن سَلَمَة: أن اخرجوا من المدينة ولا تساكنوني، فإنكم هممْتُمْ بقتلي ونقضتُمْ عهدي، فبعث إليهم الخبيث ابن أُبَيٍّ: لا تخرجوا فإنيِّ معكم، وبنو قريظة معكم، فأتاهم - صلى الله عليه وسلم - وحاصروهم خمسة عشر يوماً فقذَفَ الله في قلوبهم الرُّعْبَ فصالحوا على حَقْنِ دمائهم، فخرجوا إلى قرى خيبر وإلى غيرها مما لم يفتح من البلاد، وذلك في السنة الرابعة من الهجرة. والحديث يدل على جواز قطع أشجار الكفار وتحريقها، وتحريق بيوتهم وأموالهم إذلالاً لهم. "ولها"؛ أي: لتلك الواقعة أو لنخلهم. "يقول حسان" بن ثابت، شاعر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "وهَان" أي: سهل. "على سَرَاة بني لُؤَيٍّ"؛ أي: على سادات بني قريش، ولؤي بن غالب من أجداد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهُمْ مِنْ قريش. "حريق"؛ أي: مُحْرِقٌ.

"بالبُويرَةِ": اسم موضع من بلد بني النَّضير. "مُسْتَطِير": صفة حريق؛ أي: متفرِّق كثير. "وفي ذلك نزلَتْ: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} "؛ أي: من شجر نخل. {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا}؛ أي: لم تقطعوها. {فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أي: لا بأس عليكم بما قطعتم من النَّخيل وبما تركتم قَطْعَهُ. * * * 2993 - عن عبدِ الله بن عَوْنٍ: أن نافِعًا كتبَ إليه يُخْبرُهُ، أن ابن عمرَ أخبَرَهُ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أَغَارَ على بني المُصْطَلَقِ غَارِّينَ في نعَمِهِم بالمُرَيْسيعِ، فقتَلَ المُقاتِلة وسَبَى الذُّرِّيَّةَ. "عن عبد الله بن عون: أن نافعاً كتَبَ إليه يُخْبرُهُ أن ابن عمر أخبره: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار على بني المصطلق غارِّين": حال من (بني المصطلق)؛ أي: غافلين. "في نَعَمِهم"؛ أي: مواشيهم. "بالمُرَيْسِيع" بضم الميم وفتح الراء المهملة: اسم ماء لهم. "فقتل المُقَاتِلة": جمع مُقَاتل، والتَّاء للتأنيث على تأويل الجماعة، والمراد بها هنا: مَنْ يصلح للقتال، وهو الرجل البالغ العاقل. "وسبى الذُّرية": وهذا يدل على جواز قتل الكفار وأخذ أموالهم حال كونهم غافلين. * * * 2994 - وعن أبي أُسَيْدٍ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لنا يومَ بدرٍ حينَ صَفَفْنَا لقُرَيشٍ

وصَفُّوا لنا: "إذا أَكْثَبُوكُمْ فعليكم بالنَّبْلِ". وفي روايةٍ: "إذا أكْثَبوكم فارمُوهم، واسْتَبْقُوا نَبْلَكم". "عن أبي أُسَيْدٍ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لنا يوم بدر حين صَفَفْنَا لقريش"؛ أي: لمحاربتهم. "وصَفُّوا لنا: إذا أَكْثَبُوكم"؛ أي: قاربوا منكم بحيث تصل إليهم سهامُكم. "فعليكم بالنَّبْل"؛ أي: ارموهم بالنَّبْل وهو السِّهام، ولا ترموهم على بُعْدِ. "وفي رواية: إذا أَكْثَبوكم فارموهم واسْتَبْقُوا نَبْلَكُم"؛ يعني: لا ترموهم بجميعها بل اتركوا شيئاً منها؛ لئلا يغلبوا عليكم. * * * مِنَ الحِسَان: 2995 - رُوِيَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَستَفتِحُ بصَعَالِيكِ المُهاجرينَ. "من الحسان": " عن أُميَّة بن خالد بن عبد الله بن أسيد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَسْتَفْتِحُ"؛ أي: يطلب الفتح والظَّفر على الكفار من الله. "بصَعَالِيك المهاجرين"؛ أي: بفقرائهم، يعني: ببركة دعائهم بأن يقول: اللهم انصرنا على الأعداء بحقِّ عبادك الفقراء المهاجرين، وهذا يدل على تعظيم الفقراء والرغبة إلى دعائهم والتَّبرك (¬1) بوجودهم. ¬

_ (¬1) في "ت": "البركة".

2996 - عن أبي الدَّرداءَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابغوني في ضُعَفائكم فَإنَّمَا تُرْزَقُون وتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ". "وعن أبي الدَّرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابغوني في ضُعَفائكم"؛ أي: اطلبوني في حفظ حقوقهم، وجَبْرِ قلوبهم، تجدوني هنالك فإنيِّ معهم بالصورة في بعض الأوقات، وبالقلب في جمعيها لما أعلم من شرفهم وعظم منزلتهم عند الله. "فإنَّما تُرْزَقون وتُنْصَرون بضعفائكم". * * * 2997 - قال عبدُ الرَّحمن بن عَوْفٍ: عَبَّأَنَا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ببدرٍ ليلاً. "قال عبد الرحمن بن عوف: عَبَّأَنَا النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: رتَّبنا في مواضعنا وهيأنا للحرب؛ يعني: سوَّى الصفوف وأقام كُلاً مقاماً يصلح له "ببدر ليلاً". * * * 2998 - ورُوِيَ أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنْ بَيَّتكُم العدوُّ فليكنْ شِعَارُكم: (حم لا يُنْصَرُون) ". "وروي أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن بَيَّتكُم العدو"؛ أي: قصدَكُم ليلاً للقتال. "فليكن شعاركم" أي: علامتكم التي يَعرِفُ بها بعضكم بعضاً؛ ليتميز بها عن الكفار قول كل منكم إذا لقي أحداً: "حم لا ينصرون"؛ معناه: اللهم لا ينصرون، خبر لا دعاء وإلا لجزم، وقيل: السور التي أوائلها {حم} لها شأن، فنبَّه أن ذكرها لشرف منزلتها مما يستظهره به على استنزال النَّصر من الله، و (لا ينصرون) كلام مستأنف كأنه قيل: ماذا يكون إذا قلنا {حم} فقال: لا ينصرون.

وعن ابن عباس: أنه اسم من أسماء الله، فكأنه يُقْسِم به أنهم لا ينصرون. * * * 2999 - وعن سَمُرَة بن جُنْدَب! قال: كان شِعارُ المهاجرين: (عبد الله) وشعارُ الأنصارِ: (عبدُ الرحمن). "عن سَمُرَة بن جُنْدَب قال: كان شِعَار المهاجرين: عبد الله، وشِعار الأنصار: عبد الرحمن". * * * 3000 - قال سلَمةُ بن الأكوعِ: غَزَوْنَا مع أبي بكرٍ زمنَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَبَيَّتنَاهُم نقتُلُهم، وكانَ شِعارُنا تِلكَ الليلَةِ: (أَمِتْ، أَمِت) ". "وقال سَلَمَة بن الأكوع: غزوْنَا مع أبي بكر في زَمَنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَبَيَّتنَاهُم"؛ أي: قصدناهم ليلاً للقتال. "نقتلهم، وكان شعارنا تلك الليلة: أَمِتْ أَمِتْ": أمر مخاطب؛ أي: أَمِتِ العدوَّ اللهم، والتكرير للتأكيد، كأنهم إنما اختاروا هذه الكلمة للقتال بالنصرة. * * * 3001 - عن قيسِ بن عُبَادٍ قال: كَانَ أصحابُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَكرهُونَ الصَّوتَ عندَ القتالِ. "عن قيس بن عُبَاد (¬1) قال: كان أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهون الصَّوت عند القتال": لأن رفع الصَّوت من عادة الأبطال لتعظيم نفسه، أو لتخويف عدوِّه، أو ¬

_ (¬1) في "ت" و"غ": "عبادة".

لإظهار الشجاعة، والصحابة كرهوه؛ إذ لا تقرب إليه تعالى في شيء من ذلك. * * * 3002 - عن الحسنِ، عن سَمُرَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اقتلوا شيوخَ المُشركينَ، واستَحْيوا شَرْخَهُم"، أي: صِبيانَهم. "عن الحسن عن سَمُرَة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: اقتلوا شُيُوخ المشركين": جمع شيخ، وهو المُسِنُّ الأشيب، قيل: المراد بهم هنا: الشُّبان الذين لهم جَلَدٌ وقوَّة على القتال، والأولى أن يراد بهم: أصحاب الرأي وذو الفتنة. "واستَحْيوا شَرْخَهُم؛ أي: صبيانهم": تفسير من المؤلف؛ يعني: استبقوهم أحياء للاسترقاق والاستخدام. * * * 3003 - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأسامَة: "أَغِرْ على أُبنى صباحاً وحَرِّقْ". "وعن عُرْوَة بن الزُّبير قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأيامَةَ: أَغِرْ": بصيغة الأمر من الإغارة. "على أُبنى" بضم الهمزة وسكون الباء الموحدة وفتح النون: اسم موضع من فلسطين بين عَسْقَلان والرَّمْلَة، وقيل: من بلاد جهينة، وهذا أقرب، إذ لم تبلغ غزواته - صلى الله عليه وسلم - إلى بلاد الشام في حياته. "صباحاً وحرِّق". * * * 3004 - عن أبي أُسَيْدٍ قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يومَ بَدْرٍ: "إذا أَكْثَبُوكم

فارمُوهم، ولا تَسُلُّوا السُّيوفَ حتى يَغْشَوْكُم". "عن أبي أُسَيْد قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم بدر: إذا أَكْثَبُوكُمْ فارمُوْهم ولا تَسُلُّوا السُّيوف"؛ أي: لا تُخْرِجُوها من غِمْدِها. "حتى يَغْشَوْكُم"؛ أي: حتى يقربوا منكم بحيث تَصِلُ إليهم سيوفكم. * * * 3005 - عن رباحِ بن الربيعِ قال: كنّا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ، فَرَأَى الناسَ مجتمعين على شيءٍ, فبعثَ رَجُلاً فقال: "انظرْ عَلاَمَ اجتمَع هؤلاءَ؟ " فجاءَ فقالَ: امرأةٌ قتيلٌ، فقال: "ما كانَتْ هذه لِتُقَاتِلَ"، وعلى المُقَدِّمَةِ خالدُ بن الوليدِ، فبعثَ رجلاً وقال: "قُلْ لخالدٍ: لا تقتلْ امرأةً ولا عَسِيفاً". "عن رباح بن ربيع - رضي الله تعالى عنه - قال: كنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في غَزْوَة، فرأى الناس مجتمعين على شيء، فبعث رجلاً فقال: انظر عَلاَمَ اجتمع هؤلاء؟ فجاء فقال: امرأةٌ قتيل": يستوي فيه المذكر والمؤنث. "فقال: ما كانت هذه لِتُقَاتل" اللام لتأكيد النفي؛ يعني: إنما ينبغي أن يُقْتَلَ الكافر المحارب، وهذه ما كانت مِنَ المحاربين. "وعلى المقدمة" وهي الجماعة المتقدِّمة على الجيش. "خالد بن الوليد، فبعث رجلاً فقال: قُلْ لخالد: لا تقتُلْ امرأة ولا عَسِيفاً" أي: أجيراً؛ يعني: لا تقتل خدَّام الكفار إذا لم يحاربوا كرعاة دوابهم. * * * 3006 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "انطلِقُوا باسم الله، وبالله،

وعلى مِلَّةِ رسولِ الله، لا تَقتلُوا شَيْخاً فانِياً، ولا طِفْلاً، ولا صغيراً، ولا امرأةً، ولا تَغُلُّوا، وضُمُّوا غنائِمَكم، وأَصْلِحُوا، وأَحْسِنُوا فإنَّ الله يُحِبُّ المحسنين". "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: انطلقوا باسم الله" أي: سيروا متبركين وملابسين ومعتصمين باسمه تعالى. "وبالله، وعلى ملَّة رسول الله، لا تقتلوا شيخاً فانياً" أي: ضعيفاً من غلبة الكبر. "ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تَغُلُّوا" أي: لا تسرقوا من الغنيمة شيئاً. "وضُمُّوا" أي: اجمعوا. "غنائِمَكُمْ" ولا تأخذوا شيئاً قبل القِسْمَة. "وأصلحوا" أي: أموركم. "وأحسنوا": إلى الناس "فإن الله يحبُّ المحسنين". * * * 3007 - قال عليٌّ - رضي الله عنه -: تقدَّمَ عُتْبَةُ بن ربيعةَ، وتَبعَهُ ابنهُ وأخوهُ، فنادَى: مَن يبارِزُ؟ فانتدبَ له شبابٌ مِن الأنصارِ فقالَ: مَن أنتم؟ فأَخبرُوه، فقال: لا حاجةَ لنا فيكم، إنَّما أردْنَا بني عَمِّنا، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قُمْ يا حمزةُ! قُمْ يا عليُّ! قُمْ يا عُبيدةُ بن الحارثِ! " فأقبلَ حمزةُ إلى عتبةَ، وأقبَلْتُ إلى شيبةَ، واختلفَ بينَ عُبيدةَ والوليدِ ضربتانِ، فأَثْخَنَ كلُّ واحدٍ منهما صاحِبَهُ، ثم مِلْنَا على الوليدِ فَقَتَلْنَاهُ، واحْتَمَلْنَا عُبَيْدة. "قال علي - رضي الله تعالى عنه -: تقدَّم عُتْبَةُ بن ربيعة" يوم بدر.

"وتبعه ابنه"؛ يعني: الوليد. "وأخوه"؛ يعني: شَيْبَة. "فنادى" أي: عتبة: "مَنْ يُبَارز؟ " أي: مَنْ يخرج إلى المحاربة؟ "فانْتَدَبَ" أي: أجاب. "له شُبَّان": جمع شاب. "من الأنصار فقال: مَنْ أنتم؟ فأخبروه" أي: قالوا: نحن شُبَّان من المدينة. "فقال: لا حاجة لنا فيكم، إنما أردنا بني عمنا" أي: القرشيين. "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: قُمْ يا حمزة، قُمْ يا عليُّ، قُمْ يا عبيدة بن الحارث، فأقبل حمزة إلى عتبة فقتَلَهُ، وأقبلْتُ إلى شَيْبَةَ فقتلتُهُ، واختلف" أي: تردَّد. "بين عُبَيدة والوليد ضربتان، فَأَثْخَنَ" أي: أَوْهَنَ وأَضْعَفَ من الجراحة "كلُّ واحد منهما صاحبه، ثم مِلْنَا على الوليد فقتلناه، واحتملناه" أي: حملنا "عبيدة"، وفيه جواز المعونة عند الضَّعف أو العَجْز عن القرن. * * * 3008 - عن ابن عمرَ قال: بعَثَنَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَرِيةٍ، فحاصَ الناسُ حَيْصةً، فَأَتَيْنَا المدينةَ فاختَفَيْنَا بها، وقلنا: هَلَكْنا، ثم أَتينا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلْنَا: يا رسولَ الله! نحنُ الفرَّارونَ؟ قال: "بل أنتَمْ العَكَّارُونَ، وأنا فِئَتُكم". وفي روايةٍ قال: "لا، بل أنتم العَكَّارون"، قال: فَدَنَوْنَا فقبَّلْنَا يَدَهُ فقال: "أنا فِئَةُ المُسلمين". "وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: بعثَنَا رسولُ الله صلى الله

6 - باب حكم الأسارى

تعالى عليه وسلم في سَرِيَّة فحاصَ الناس حَيْصَةً"؛ أي: مَالوا وعدلوا عن جهتهم إلى جهةٍ أخرى؛ يريد به: الفرار والانهزام، والمراد بالناس هنا: أصحاب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. "فأتينا المدينة فاختفينا بها"؛ استحياء من النبي - صلى الله عليه وسلم -. "وقلنا: هَلَكْنَا" أي: صِرْنا مستحقين للعذاب؛ لفرارنا من الحرب. "ثم أتينا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله! نحن الفرَّارون، قال: بل أنتم العَكَّارون" أي: العائدون إلى القتال. "وأنا فِئَتُكم" وهي الطائفة المقيمة وراء الجيش؛ للالتجاء إليهم عند الهزيمة. "وفي رواية: لا بل أنتم العكارون" مَهَّدَ - صلى الله عليه وسلم - بذلك عذرهم وأشار إلى قوله تعالى: {إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ} [الأنفال: 16]؛ لأن مَنْ فَرَّ على نِيَّةِ الالتجاء إلى جيش آخر والرجوع إلى الحرب فلا إثم عليه. "قال فدنونا" أي: فقربنا "فقبَّلنا يده، فقال: أنا فئة المسلمين". * * * 6 - باب حُكْمِ الأُسارىَ " باب حكم الأُسَرَاء": جمع الأسير، والمراد به هنا: الكفار الذين أخذهم المسلمون. مِنَ الصِّحَاحِ: 3010 - عن سَلَمةَ بن الأكْوَعِ - رضي الله عنه - قال: أتى النبَّيَّ - صلى الله عليه وسلم - عينٌ مِنَ المشركينَ وهو في سفرِ، فجلسَ عندَ أصحابهِ يتحدثُ، ثم انفتَلَ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -:

"اُطلبُوه واقتلُوهُ"، فَقَتَلْتُهُ، فنفَّلَنِي سَلَبَهُ. "من الصحاح": " عن سَلَمَة بن الأَكْوَع قال: أتى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - عَيْنٌ" أي: جاسوس. "من المشركين، وهو" أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "في سفر، فجَلَسَ" أي: العيْنُ. "عند أصحابه" أي: أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -. "يتحدَّث ثم انْفَتَلَ" أي: انصرف. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اطلبوه واقتلوه، فأدركْتُهُ فقتلْتُهُ"، قتله لدخوله من دار الحرب بلا أَمَان، وإن كان ذمياً فلنقْضِ العَهْدِ بالتَّجَسُّسِ للكفار. "فنفَّلَني سَلَبَه" أي: أعطاني ما عليه من الثياب والسلاح والفرس. * * * 3009 - عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "عَجبَ الله من قومٍ يدخُلونَ الجنةَ في السَّلاسِلَ". وفي روايةٍ: "يُقادُونَ إلى الجنةِ بالسَّلاسلِ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عَجبَ الله من قوم" أي: رضي منهم، وقيل: أي عظم شأنهم عنده. "يدخلون الجنة في السَّلاسل، وفي رواية: يُقَادون إلى الجنة بالسَّلاسل"؛ يعني: يؤخذون أسارى عنوة في السَّلاسل والقيود، فيدخلون في دار الإسلام، ثم يرزقهم الله الإيمان، فيدخلون به الجنة، فأَحَلَّ الدُّخول في الإسلام مَحَلَّ دخول الجنة لإفضائهم إليه. * * *

3011 - وعن سَلَمَةَ بن الأكوَعِ قال: غَزَوْنَا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - هَوَازِن، فَبَيْنَا نحنُ نتَضَحَّى معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءَ رجلٌ على جملٍ أحمرَ فَأَنَاخَهُ، وجَعَلَ ينظرُ، وفينا ضَعْفَةٌ وَرِقَّةٌ مِن الظَّهْرِ، وبعضُنا مشاةٌ، إذ خرجَ يشتدُّ فأَتَى جملَهُ فَأَثَارَهُ، فاشتدَّ به الجَمَلُ، وخرجْتُ أشتدُّ حتى أخذتُ بخِطامِ الجَمَلِ فَأَنَخْتُهُ، فلمَّا وضعَ ركبتَهُ في الأرضِ اخْتَرَطْتُ سيفي فضربْتُ رأسَ الرَّجلِ، ثم جئتُ بالجملِ أقودُه وعليهِ رَحْلُه وسِلاحُه، فاستقبلَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والناسُ فقالَ: "مَن قتلَ الرَّجلَ؟ " قالوا: ابن الأكوَعِ، قال: "لهُ سَلَبَهُ أَجْمَعُ". "وعن سَلَمَة بن الأَكْوَع قال: غزوْنَا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هوازن" قبيلة من قيس، وهذه الغزوة هي غزوة حنين. "فبينا نحن نتضحَّى" أي: نأكل الغداء وقت الضُّحى. "مع رسول الله، إذ جاء رجل على جمل أحمر فأناخه" أي: فأبركه. "وجعل" أي: طفق. "ينظر وفينا ضَعْفَةٌ" أي: ضعفاء. "ورِقَّةٌ"، وهي استعارة للقلَّة "من الظَّهر" أي: المركوب. "وبعضنا مشاة" جمع الماشي، خلاف الراكب. "إذ خرج" أي: الرجل بعد ما رآنا وعرف حالنا. "يشتدُّ" أي: يعدو. "فأتى جَمَلَهُ فأثَارَه" أي: أقامَهُ من موضعه فأزعجه. "فاشتدَّ به الجمل" أي: أسرع. "وخرجت أشتدُّ" أي: أعدو. "حتى أخذْتُ بخِطَام الجمل فأنختُهُ، فلمَّا وضَعَ ركبته في الأرض

اخْتَرَطْتُ سيفي" أي: سللته من غمده. "فضربْتُ به رأسَ الرجل، ثم جئْتُ بالجمل أقودُهُ عليه رَحْلُهُ"؛ أي: متاعه "وسلاحه، فاستقبلني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم والناس فقال: مَنْ قتلَ الرجل؟ فقالوا: ابن الأكوع، قال" - صلى الله عليه وسلم -: "له سَلَبُهُ أجمع"؛ أي: كله. * * * 3012 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: لما نزَلَتْ بنو قُرَيْظَةَ على حُكْمِ سعدِ بن معاذٍ، بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءَ على حمارٍ فلمَّا دَنَا قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قوموا إلى سَيدِكم"، فجاءَ فجلسَ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ هؤلاء نزَلُوا على حُكْمِكَ"، قال: فإني أَحْكُمُ أنْ تُقتَلَ المُقاتِلَةُ وأنْ تُسْبَى الذُّرِّيةُ، قال: "لقد حكمْتَ فيهم بحُكْمِ المَلِكِ". ويروى: "بحُكْمِ الله". "عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزَلَتْ بنو قُرَيْظَةَ" بعد ما حصرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - خمساً وعشرين ليلة وجهدهم الحصار. "على حُكْم سَعْدِ بن معاذ" سيد الأوس؛ ظناً منهم بمراعاة جانبهم. "بَعَثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إليه" أي: إلى سعد، وكان قد أُصِيْبَ يوم الخندق. "فجاء على حمار" شاكياً وَجَعَه. "فلمَّا دنا"؛ أي: قرب من النبي - صلى الله عليه وسلم -. "قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " لحاضريه من الأوس: "قوموا إلى سيدكم"، قال الطيبي: هذا القيام ليس للتَّعظيم بل كان للإعانة على النزول؛ لكونه وَجِعًا ولو كان المراد منه قيام التوقير لقال: قوموا لسيدكم.

"فجاء فجلس" مجلسه منه - صلى الله عليه وسلم -. "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ هؤلاء" أي: أهل بني قُرَيظة "نزلوا على حُكْمِكَ، فقال: فإني أحكم أن تقتل المقاتِلَة وأن تُسْبَى الذُّرِّية قال: لقد حكمْتَ فيهم بحُكْم الملِك" بكسر اللام، هو الله؛ أي: أصبْتَ فيهم وقضيْتَ بقضاء ارتضاه الله، ويُروى بفتحها؛ أي: النَّازل بالوحي، أو الذي يُلقِي الصواب في القلب. "ويروى: بحكم الله"، وهذه تُؤَيد الرواية الأولى. * * * 3013 - وعن أبي هريرةَ قال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خيلاً قِبَلَ نَجْدٍ فجاءَتْ برجلٍ مِن بني حَنِيفةَ يقال له: ثُمَامَةُ بن أُثالٍ سَيدُ أهلِ اليَمامةِ، فربطوهُ بساريةٍ من سَوَارِي المسجدِ فخرجَ إليه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ماذا عندَكَ يا ثُمَامَةُ؟ "، قال: عندي يا محمدُ! خيرٌ، إنْ تَقْتُلْ تَقتُلْ ذا دَمٍ، وإنْ تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكِرٍ، وإنْ كنتَ تريدُ المالَ فسلْ تُعْطَ منه ما شئتَ، فترَكَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كانَ الغدُ فقالَ لهُ: "ما عندَكَ يا ثُمَامَةُ؟ "، قال: عندي ما قلتُ لك: إن تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكرٍ، وإنْ تَقْتُلْ تقتلْ ذا دَمٍ، وإنْ كُنْتَ تريدُ المالَ فَسَلْ تُعْطَ منهُ ما شِئتَ، فتركَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كانَ بعدَ الغدِ فقال: "ما عِندكَ يا ثُمامَةُ؟ "، قال: عندي ما قلتُ لكَ: إن تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكرٍ، وإنْ تقتُلْ تقتُلْ ذا دمٍ، وإنْ كنتَ تريدُ المالَ فسلْ تُعْطَ منه ما شئتَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَطْلِقوا ثُمامَةَ"، فانطلَقَ إلى نخلٍ قريبٍ من المسجدِ فاغتسلَ ثم دخلَ المسجدَ فقال: أشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وأشهدُ أن محمَّداً عبدُه ورسولُه، يا محمدُ! والله ما كانَ على الأرضِ وَجْهٌ أبغضَ إليَّ مِن وجهِكَ، فقد أصبحَ وجهُكَ أحبَّ الوجوهِ كلِّها إليَّ، والله ما كانَ مِن دِينٍ أبغضَ إليَّ مِن دينِكَ فأصبحَ دينُكَ أحبَّ الدِّينِ كلِّه

إليَّ، والله ما كَانَ مِن بلدٍ أبغضَ إليَّ من بلدِكَ، فَأَصْبَحَ بلدُكَ أحبَّ البلادِ كلِّها إليَّ، وإنَّ خيلَكَ أَخَذَتْني وأنا أُريدُ العُمْرةَ فماذا ترى؟ فَبَشَّرَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَأَمَرَهُ أنْ يَعْتَمِرَ، فلمَّا قَدِمَ مكةَ قالَ له قائلٌ: صَبَأْتَ؟! فقال: لا، ولكنِّي أسلَمْتُ مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَلاَ والله لا يأْتِيكُمْ مِن اليمامَةِ حَبّهُ حِنْطَةٍ حتى يأذَنَ فيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: بعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خَيْلاً" أي: جيشاً. "قِبَلَ نَجْدٍ" أي: جانب أرض نجد، وذلك في السنة السادسة. "فجاؤوا برجل من بني حَنِيفة يقال له: ثُمامة بن أُثال سيد أهل اليَمامة، فربطوه بسارية" أي: بعمود. "من سواري المسجد" أي: من أعمده. "فخرج إليه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: ماذا عندك" أي: ما يقتَضيْ رأيُكَ "يا ثُمَامة؟ قال: عندي يا محمد خير، إن تَقْتُلْ تَقْتلْ ذا دم"، يحتمل أن يريد به: شرفه في قومه، وأنه ليس ممن يَبْطُل دمه، بل يُطْلَبُ ثأره، أو أراد: مَنْ توجَّه عليه القتل بما أصابه من دم، وهذا أنسب لباقي كلامه. قال الشافعي: كان قد توجَّه على ثُمَامة القصاص في الكفر. "وإن تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكر" أي: إن تعتقني أشكرك وأعرف نعمتك عليَّ. "وإن كنْتَ تريد المال فسَلْ تُعْطَ منه ما شِئْتَ، فتركَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كان الغد فقال له: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلْتُ لك، إن تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكر، وإن تَقْتُلْ تَقْتُلْ ذا دم، وإن كنت تريد المال فَسَلْ تُعْطَ منه ما شِئْتَ، فتركه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حتى كان بَعْد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلْتُ لك، إن تُنْعِمْ تُنْعِمْ على شاكر، وإن تَقْتُلْ تَقْتُلْ

ذا دم، وإن كنت تريد المال فسَلْ تُعْطَ منه ما شِئْتَ فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أطلقوا ثمامة"؛ أي: خلُّوا سبيله، وفيه دلالة على جواز المنِّ على الكافر بالإطلاق بلا فداء، ودخوله المسجد، وربط الأسير فيه، وتقديمه القتل على أخويه في اليوم الأول لمكان غضبه - صلى الله عليه وسلم - فيه، وتوسيطه في الثاني والثالث للرجاء حذاقة منه، وحَدَس وحُسْن سؤال الذي هو نصف العلم. "فانطلق إلى نخلٍ قريب من المسجد، فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمدا والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه كلِّها إليَّ، والله ما كان من دينِ أبغض إليَّ من دينك، فأصبح دينك أحبَّ الدِّين كلِّه إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك فأصبح بلدك أحبَّ البلاد كلها إليَّ، وإن خيلك أخذتني وإنِّي أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشَّره رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وأمره أن يعتمر" تبشيره - صلى الله عليه وسلم - إيَّاه؛ إما بما ناله بالإسلام على يده، أو بصحبته، أو بما سيناله من ثواب العمرة. "فلمَّا قدم مكة، قال له قائل" أي: كافر من كفار مكة! "صَبَوْتَ" أي: مِلْتَ عن الحقِّ إلى الباطل. "فقال لا"؛ يعني: ما صَبَوْتُ. "ولكني أسلمْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: على يديه. "ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حَبّه حِنْطَة حتى يأذَنَ فيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه دلالة على أنه يأمر بأوامره - صلى الله عليه وسلم - ولا يخرج عنه بحال. * * * 3014 - عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال في أُسارَى بدرٍ: "لو

كانَ المُطْعِمُ بن عَدِيٍّ حَيًّا ثم كلَّمني في هؤلاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهم له". "عن جُبَيْرِ بن مُطْعِم أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال في أُسَارى بدر: لو كان مُطْعِم بن عَديٍّ حَيًّا" مُطْعِم هذا: أبو الراوي، وكان له عنده - صلى الله عليه وسلم - يَد؛ لأنه أجاره وذَبَّ عنه المشركين حين رجع - صلى الله عليه وسلم - من الطَّائف فأحبَّ - صلى الله عليه وسلم - مكأفاته بأنه لو كان حياً، "ثم كلمني في هؤلاء النَّتْنَى" جمع نتِن، بمعنى مُنْتِن كالزمنى، سماهم (نَتْنَى) لتدنسهم بالكفر فجعلهم بمثابة الجيف المنتنة. "لتركتهم له" أي: هؤلاء الأسارى لأجله، قيل: إنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك تطييباً لقلب ابنه وتأليفاً له على الإسلام، وفيه بيان حسن المكافآت، وجواز فرض المحال. * * * 3015 - عن أنسٍ: أنَّ ثمانينَ رَجُلاً مِن أهلِ مكَّةَ هَبَطُوا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن جبلِ التَّنعيم مُتَسَلِّحِينَ، يُريدونَ غِرَّةَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وأصحابهِ، فأخذَهم سِلْماً فاستَحْيَاهُم - ويُروى: فَأَعْتَقَهُمْ - فأنزلَ الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} ". "عن أنس أن ثمانين رجلاً من أهل مكَّة هبطوا" أي: نزلوا. "على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من جبل التَّنعيم متسلِّحين" أي: مجهزين بالسلاح. "يريدون"؛ أي: يقصدون. "غِرَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - " بكسر الغين المعجمة؛ أي: غفلته. "وأصحابه"؛ أي: غِرَّة أصحابه. "فأخذهم"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - أولئك.

"سِلْماً"؛ أي: أُسَرَاء. "فاسْتَحْيَاهم" أي: تركهم أحياء ولم يقتلهم. "ويروى: فأعتقهم، فأنزل الله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ} ". * * * 3016 - عن أبي طلحةَ: أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - أمرَ يومَ بدرٍ بأربعةٍ وعشرينَ رَجُلاً من صَنَادِيدِ قُرَيشٍ، فَقُذِفُوا في طَوِيٍّ من أطواءِ بدرٍ خَبيثٍ مُخْبثٍ، وكانَ إذا ظهرَ على قومٍ أقامَ بالعَرْصَةِ ثلاثَ ليالٍ، فلمَّا كانَ ببدرٍ اليومَ الثالثَ أمرَ براحِلَتِهِ فَشُدَّ عليها رَحْلُها ثم مَشَى، واتَّبَعَهُ أصحابُهُ، حتى قامَ على شَفَةِ الرَّكِيِّ، فجعلَ يُنادِيهِم بأسمائِهم وأسماءِ آبائهم: "يا فُلانُ بن فلانٍ، ويا فُلاَنُ بن فلانٍ، أَيَسرُّكم أنكم أطَعْتُم الله ورسولَهُ؟ فإنَّا قد وَجَدْنَا ما وَعَدَنَا ربنا حَقًّا، فهل وجدْتُم ما وَعَدَ ربُّكم حقاً؟ قالَ عمرُ: يا رسولَ الله! ما تُكَلِّمُ مِن أجسادٍ لا أَرْوَاحَ لها؟ قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: والذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيدِه، ما أنتُم بأسمَعَ لِمَا أقولُ منهم". وفي روايةٍ: "ما أنتُمْ بأسمعَ منهم، ولكنْ لا يُجيبونَ". "عن أبي طلحة - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ يومَ بَدْرٍ بأربعة وعشرين رجلاً من صَنَاديد قريش" جمع صِنْدِيد، وهو كل عظيم غالب، وقال الجوهري: السَّيد الشُّجاع، والمراد هنا: أكابر كفار مكة. "فَقُذفوا": أي: أُلقوا. "في طَوِيٍّ"، وهي البئر المطوية بالحجارة؛ أي: المحكمة بها. "من أطواء بدر خبيث": صفة بئر، وصفها به لإلقاء الجيف فيها. "مُخْبث"؛ أي: ذي خَبَث، أو أصحابه خبثاء، أو خبيث ماؤها؛ أي:

كريه الطعم، و (مخبث): فيها أشياء خبيثة كخرق الحيض وغيرها. "كان"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "إذا ظهر" أي: غلب. "على قوم أقام بالعَرْصَة" أي: عرصتهم وأرضهم، والعَرْصَة أيضًا: كل موضع واسع لا بناء فيه، والمراد هنا: المعترك. "ثلاث ليال"؛ ليطهر تلك الناحية من الكفرة. "فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فَشُدَّ عليها رَحْلُها ثم مشى"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "واتَّبعه أصحابه حتى قام"؛ أي: وقف. "على شَفَةِ الرَّكِيِّ"؛ أي: على طرف البئر التي أُلقِيَ فيها أولئك الصَّناديد. "فجعل"؛ أي: طفق. "يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم: يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان، أيسرُّكم أنكم أطعتم الله ورسوله"؛ يعني: تتمنون أن تكونوا مسلمين بعد ما كُشِفَ عنكم الغطاء، ورأيتم من عذاب الله. "فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً" من أن يجعلنا غالبين عليكم ويقوى ديننا بالنصرة عليكم {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا} من العذاب كذلك. "فقال عمر - رضي الله تعالى عنه: - يا رسول الله! ما تكلِّم"، (ما) مبتدأ بمعنى الذي "من أجسادٍ" بيان (ما) "لا أرواح لها" خبره؛ يعني: ما تكلم معهم يا نبي الله أجساد لا أرواح لها فكيف يجيبونك، وقيل: (ما) استفهامية و (من) زائدة. "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفس محمد بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول

منهم" متعلق بـ (أسمع)، قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله - صلى الله عليه وسلم - توبيخاً وحسرة وندامة. "وفي رواية: ما أنتم بأسمع منهم، ولكن لا يجيبون"؛ لعدم قدرتهم عليه. * * * 3017 - عن مروانَ، والمِسْوَرِ بن مَخْرَمَة: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ حينَ جاءَهُ وفدُ هَوازِنَ مسلمينَ فسألُوهُ أَنْ يَرُدَّ إليهم أموالَهم وسَبْيَهم، قال: "فاختارُوا إحدى الطَّائفَتينِ: إمَّا السَّبْيَ، وإمَّا المالَ"، قالوا: فإنَّا نختارُ سَبْيَنَا، فقامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَأَثْنَى على الله بما هوَ أهلُهُ ثم قالَ: "أمَّا بعدُ فإنَّ إخوانَكم قد جَاؤوا تائبينَ، وإني قد رأيتُ أنْ أَرُدَّ إليهم سَبْيَهم، فَمَنْ أَحَبَّ منكم أنْ يُطَيبَ ذلكَ فَلْيَفْعَلْ، ومَن أحبَّ منكُمْ أنْ يكونَ على حظِّهِ حتى نُعطِيَهِ إيَّاهُ مِن أوَّلِ ما يُفِيءُ الله علينا فليَفْعَلْ"، فقالَ الناسُ: قد طَيَّبنا ذلكَ يا رسولَ الله! فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لا نَدري مَن أذِنَ منكم ممن لَمْ يأذنْ، فارجِعُوا حتى يرفعَ إلينا عُرَفاؤُكم أَمْرَكُم"، فرجعَ النَّاسُ فكلَّمَهم عُرَفاؤُهم، ثم رَجَعُوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبروهُ أنهم قد طَيَّبُوا وأَذِنُوا. "عن مروان والمِسْوَر بن مَخْرَمَةَ: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال حين جاءه وفد هَوَازِن مسلمين" بعد ما أغار - صلى الله عليه وسلم - على قبيلتهم، وأخذ أموالهم، وسبى ذريتهم. "فسألوه أن يردَّ إليهم أموالهم وسَبْيَهُم، قال": بدل من (قال) الأول. "فاختاروا إحدى الطائفتين"، يريد به: أحد الأمرين. "إما السَّبْي وإما المال، قالوا: فإنا نختار سَبْيَنَا، فقام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: أما بعد، فإن إخوانكم قد جاؤوا تائبين"؛ أي: مسلمين.

"وإني قد رأيْتُ أن أَرُدَّ إليهم سَبْيَهم"؛ أي: مسبيَّهم. "فمَنْ أحبَّ منكم أن يُطَيب ذلك" بتشديد الياء؛ أي: يردَّ ما في يده بطِيب قلبه "فليفعل"، وإنما استأذنهم - صلى الله عليه وسلم - في ذلك لصيرورته مُلْكاً للمجاهدين، فلا يجوز استردادها منهم إلا بطِيب قلوبهم. "ومن أحبَّ منكم أن يكون على حظّه"؛ أي: يكون له نصيب عوض ما رده. "حتى نعطيه" أي: ذلك الحظ. "إيَّاه من أول ما يفيء الله تعالى علينا"؛ أي: يعطينا فيئاً، وهو ما حصل من أموال الكفار من غير قتال. "فليفعل" أي: ليرده. "فقال الناس: قد طَيَّبنا ذلك يا رسول الله! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا لا ندري مَنْ أَذِنَ" أي: مَنْ رَضي "منكم" في ردِّ السَّبي. "ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم أمركم": جمع العريف، وهو القيم بالأمور؛ أي: يخبرنا رضاءكم في غيبتي. "فرجع الناس، فكلمهم عرفاؤهم، ثم رجعوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخبروه أنهم طَيَّبوا وأَذِنُوا". * * * 3018 - عن عِمرانَ بن حُصَيْنٍ قال: كان ثَقِيفٌ حليفاً لبنِي عُقَيْلٍ، فأسَرَتْ ثَقيفٌ رجلينِ من أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَسَرَ أصحابُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً من بني عُقَيْلٍ، فأَوْثَقوهُ فطَرَحُوه في الحَرَّةِ، فمرَّ به النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَادَاهُ: يا مُحمدُ! يا محمدُ! فيمَ أُخِذْتُ؟ قال: "بجريرةِ حُلفائِكم ثَقيفٍ"، فتركَهُ ومضى، فنادَاهُ: يا محمدُ! يا محمدُ! فَرَحِمَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فرجَعَ فقال:

"ما شأنُكَ؟ "، فقال: إنِّي مُسلِمٌ، فقال: "لو قُلْتَها وأنتَ تملِكُ أمرَكَ أفلحْتَ كلَّ الفَلاَحِ"، قال: فَفَدَاهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالرَّجُلَينِ اللَّذَيْنِ أَسَرَتْهُما ثقيفٌ. "عن عِمْرَان بن حُصَيْن قال: كان ثَقِيْفٌ حليفاً" أي: محالفاً. "لبني عُقَيل" بالتصغير: قبيلة، وكان بينه - صلى الله عليه وسلم - وبين ثَقِيْفُ عهداً: أن لا يتعرضوا لأحد من المسلمين. "فأسَرَتْ ثَقِيْفُ رجلين من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأَسَرَ أصحاب رسول الله"؛ أي: أخذوا. "رجلاً من بني عُقَيْل" عوضاً عن الرجلين الذين أخذهما ثَقِيْف، وكان عادة العرب أن يأخذوا الحليف بجرم حليفه، ففعل - صلى الله عليه وسلم - هذا الصَّنيع على عادتهم. "فأوثقوه" أي: شدُّوه بالوثاق. "وطَرَحُوه" أي: ألقوه. "في الحرَّة" وهي الأرض الكثيرة الحجارة السُود بين جبلين بظاهر المدينة. "فمرَّ به رسول الله، فناداه: يا محمد! فِيْمَ أُخِذْتُ؟ " استفهام عن السبب الموجِب للأخذ. "قال بِجَرِيْرَة حلفائكم ثَقِيْف"؛ أي: بجنايتكم، وهذا يحمل على ابتداء الإسلام ثم نسخ. "فتركه" أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الرجل. "فمضى، فناداه: يا محمد! يا محمد! فرحمه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فرجع فقال: ما شأنك؟ فقال: إني مسلم، فقال: لو قلتها" أي: كلمة الشهادة.

"وأنت تملِكُ أمرَكَ" أي: في حال اختيارك وقبل كونك أسيراً. "أفلحْتَ كلَّ الفلاح" أي: نجوت في الدنيا بالخلاص من الرقِّ، وفي العقبى بالنجاة من النار، وفيه دلالة على أن الكافر إذا وقع في الأسر فادَّعى أنه كان قد أسلم قبله لم يقبل إلا ببينة، وإن أسلم بعده حرم قتله، وجاز استرقاقه، وإن قَبلَ الجزية بعده، ففي حرمة قتله خلاف. "قال: ففداه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بالرجلين اللذين أسرهما ثقيف" فيه دلالة على جواز الفدية. قيل: الظاهر أنه مسلم لأن معنى قوله: (أفلحت كلَّ الفلاح) أفلحت بإسلامك، ولكن لم يحصل لك كل الخلاص به؛ لذِكْرِك إيَّاه بعد الأسر، ولو ذَكَرْتَه قبله تخلصْتَ كلَّ الخَلاَص، وأما رده وأخذه الرجلين بدله، فلا ينافي إسلامه لجواز أن يكون الرد شرطاً بينهم في العهد الجاري بينه - صلى الله عليه وسلم - وبينهم. * * * مِنَ الحِسَان: 3019 - عن عائشةَ قالت: لمَّا بعثَ أهلُ مكَّةَ في فداءَ أُسرَائِهم، بعثَتْ زينبُ في فداءَ أبي العاص بمالٍ، وبعثَتْ فيهِ بقِلادةٍ لها كانَتْ عندَ خديجةَ أدخلَتْها بها على أبي العاصِ، فلمَّا رَآها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - رَقَّ لها رِقَّةً شديدةً، وقال: "إنْ رأيتُم أَنْ تُطْلِقُوا لها أَسيرَها، وتردُّوا عليها الذي لها؟ "، فقالوا: نعم، وكانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أخذَ عليه أنْ يُخلِّيَ سبيلَ زينبَ إليه، وبعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زيدَ بن حارثةَ ورَجُلاً من الأنصارِ فقال: "كُونَا ببطنِ يَأْجِجٍ حتى تَمُرَّ بِكُمَا زينبُ فتصْحَبَاها حتى تَأْتِيا بها". "من الحسان": " عن عائشة - رضي الله عنها [قالت:] لما بَعَثَ أهل مكَّة في فداء

أُسَرَائهم" حين غلب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر عليهم، فقتل بعضهم وأَسَرَ بعضهم، وطلب منهم الفداء. "بعثَتْ زينب" بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - من خديجة. "في فِدَاء" زوجها. "أبي العاص" بن الربيع، عبد الشمس القرشي. "قال (¬1) "، وهو كان من جملة أُسَرَاء بدر، وكان تزويج الكافر بالمسلم جائز، فنسخ بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وقيل: زوجها منه قبل المبعث. "وبعثَتْ فيه"؛ أي: في فِدَائه. "بقِلادة لها كانت"؛ أي: تلك القلادة. "عند خديجة أدخلَتْها بها"؛ أي: خديجة القلادة بزينب؛ أي: معها. "على أبي العاص"؛ يعني: دفعتها إليها حين دخل عليها أبو العاص وزُفَّتْ إليه. "فلما رآها" أي: تلك القلادة. "رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رَقَّ لها" أي: لزينب. "رِقَّةً شديدة" لوجدتها، وتذكَّر عهد خديجة وصحبتها؛ فإن القلادة كانت لها وفي عنقها. "وقال" أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة: "إن رأيتم أن تطلقوا أسيرها وتردُّوا عليها الذي لها" وثاني مفعولي (رأيتم) وجواب الشرط محذوفان؛ أي: إن رأيتم ¬

_ (¬1) في "ت": "بمال".

الإطلاق والرد حسناً فافعلوا (¬1). "فقالوا: نعم"، وفيه: جواز المَنِّ على الأسير بلا فداء. "وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ عليه"؛ أي: على أبي العاص عهداً عند إطلاقه. "أن يُخلي سبيل زينب" ويرسلها. "إليه"؛ أي: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويأذن لها بالهجرة إلى أبيها بالمدينة. "وبعث رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم زيد بن حارثة ورجلاً من الأنصار فقال: كونا ببطن ناجح" بالنون والجيم والحاء المهملة بعد الجيم، وفي بعض النسخ: بالياء حرف العلة والجيمين: موضعٌ بمكة، وهو من بطون الأودية التي حول الحرم، وقيل: موضع أمام مسجد عائشة. "حتى تمرَّ بكما زينب، فتصحباها حتى تأتيا بها"، وفيه: أن للإمام الأعظم إرسال رجلين فصاعداً مع أجنبية في طريق إن أمن الفتنة. * * * 3020 - ورُوِيَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أسرَ أهلَ بدرٍ قتلَ عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ والنضرَ بن الحارثِ، ومَنَّ على أبي عزَّة الجُمَحِي. "وروي أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لما أَسَرَ أهل بدر قتل عُقْبَةَ بن أبي مُعَيْط والنَّضر بن الحارث، ومنَّ على أبي عَزَّة الجُمَحي"؛ أي: خلَّى سبيله، وهذا يدل على جواز قتل الأسارى، وجواز المنَّ. * * * 3021 - ورُوِيَ عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أرادَ قتلَ عُقْبَةَ ¬

_ (¬1) في "غ": "فافعلوهما".

ابن أبي مُعَيْطٍ قال: مَن للصِّبْيَةِ؟ قال: "النارُ". "وروي عن ابن مسعود: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أراد قتل عُقْبَة بن أبي مُعَيْطٍ قال" أي: عقبة: "مَن للصِبْيَة"؛ أي: من يحفظ أطفالي ويتكفل أمورهم. "قال: النار" فيه دليل على أن ذراري المشركين مع (¬1) آبائهم، ويحتمل أن يكون الجواب من الأسلوب الحكيم، يعني: اهتمَّ بشأن نفسك، وما هُيئَ لك من النار، ودَعْ الصبية فإن كافلهم هو الله. * * * 3022 - عن عُبَيْدَةَ عن عليٍّ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أن جبريلَ هبطَ عليهِ فقالَ لهُ: "خَيرْهُم - يعنى: أصحابَكَ - في أُسارَى بدرٍ: القتلَ، أو الفِداءَ على أنْ يُقتَلَ منهم قابلاً مثلُهم"، قالوا: الفِداءُ ويُقْتَلُ مِنَّا. غريب. "عن عُبَيْدَةَ عن عليٍّ - رضي الله عنهما - عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أن جبرائيل هبط" أي: نزل. "عليه فقال له: خَيرهم، يعني: أصحابَكَ"؛ أي: قل لهم: أنتم مخيرون. "في أُسَارى بدر: القتل أو الفداء"؛ أي: بين أن يقتلوا أُسَرَاء بدر ولا يلحقكم ضرر، وبين أن تأخذوا منهم الفداء وتطلقونهم. "على أن يُقتل منهم"؛ أي: من الصحابة. "قابلاً"؛ أي: في السنة القابلة. "مثلهم"؛ أي: بعدد مَنْ يُطْلِقُون منهم؛ لكون الظَّفر للكفار فيها. "قالوا"؛ إي: الصحابة. ¬

_ (¬1) في "ت" و"غ": "من".

"الفداء"؛ أي: اخترنا الفداء. "ويُقْتَلَ منَّا" نصب بإضمار (أن) بعد الواو العاطفة على (الفداء)؛ أي: وأن يقتل منا في العام القابل مثلهم، قيل: قُتِلَ من المسلمين يوم أحد مثل ما قَتَلَ المسلمون منهم يوم بدر، وإنما اختاروا ذلك رغبةً في إسلام أسارى بدر، وقتلهم للشهادة ورِقَّة منهم على الأسارى لمكان قرابتهم منهم. "غريب". * * * 3023 - عن عَطِيَّةَ القُرَظِيِّ قالَ: كنتُ مِنْ سَبْي قُرَيظةَ، عُرِضْنا على النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا ينظرونَ، فَمَنْ أَنْبَتَ الشَّعرَ قُتِلَ، ومَن لم يُنْبتْ لم يُقْتَل، فكَشَفُوا عانتِي فوجدُوهَا لم تُنْبتْ، فجعَلوني في السَّبْي. "عن عَطِيَّةَ القُرَظِي قال: كلنت من سَبْي قُرَيظة، عُرِضْنا على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا ينظرون، فمَنْ أنْبَتَ الشَّعر قُتِلَ، ومن لم يُنْبتْ لم يُقْتَل"، وإنما نظروا إلى عانتهم ولم يسألوا عن بلوغهم؛ لأنهم كانوا لم يتحدثوا بالصِّدق لما رأوا فيه الهلاك. "فكشَفُوا عانتي فوجدوها لم تنبت، فجعلوني في السَّبي". 3024 - عن عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قال: خرجَ عبْدَانٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يعني يومَ الحُدَيْبيَةِ قبلَ الصُّلح، فكتبَ موالِيهِم قالوا: يا محمدُ! والله ما خَرَجُوا إليكَ رَغبةً في دينِكَ، وإنَّما خَرجُوا هَرَباً مِنَ الرِّقِّ، فقال ناسٌ: صَدَقُوا يا رسولَ الله! رُدَّهُم إليهم، فغضبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ما أُراكُم تَنْتَهونَ يا معشَرَ قريشٍ! حتى يبعثَ الله عليكم مَن يَضْرِبُ رِقابَكم على هذا، وأَبَى أنْ يَرُدَّهُم وقال: هُمْ عُتَقَاءُ الله".

7 - باب الأمان

"عن علي - رضي لله تعالى عنه - قال: خرج عبدان" بكسر العين المهملة وضمها وسكون الباء فيهما وبكسرتين وتشديد الدال أيضاً: جمع عبد؛ يعني: خرجوا من مكة هاربين مِنْ مواليهم وجاؤوا. "إلى رسول الله" - صلى الله عليه وسلم - مسلمين. "يعني: يوم الحديبية قَبْلَ الصلح، فكتب مواليهم فقالوا: يا محمد! والله ما خرجوا إليك رغبةً في دينك، وإنما خرجوا هرباً من الرِّق، فقال ناس: صدقوا يا رسول الله! رُدَّهُمْ إليهم، فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ما أُراكم تنتهون": (ما) نافية؛ يعني: لا تنتهون. "يا معشر قريش" مِنْ تَعَصُّبٍ لأهل مكة. "حتى يبعث الله عليكم مَنْ يَضْرِبُ رقابَكم على هذا"؛ أي: على هذا الحكم، وإنما غضب - صلى الله عليه وسلم - عليهم لمعارضتهم حكم الشرع فيهم بالظنِّ والتَّخمين، وصدقوا المشركين فيما ادعوه، فكان معاونتهم لملَّاكهم تعاوناً على العدوان. "وأبى أن يردهم وقال: هم عتقاء الله". * * * 7 - باب الأمانِ (باب الأمان) مِنَ الصِّحَاحِ: 3025 - عن أُمِّ هانئٍ بنتِ أبي طالبٍ قالت: ذهبتُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عامَ الفتح فوجدتُهُ يغتسلُ، وفاطمةُ ابنتُهُ تَستُرُه بثوبٍ، فَسَلَّمْتُ فقال: "مَن هذهِ؟ "، فقلتُ: أنا أمُّ هانئٍ بنتُ أبي طالبٍ، فقالَ: "مرحباً بأمِّ هانئٍ"، فلمَّا

فرغَ مِن غُسْلِهِ قامَ فصلَّى ثمانيَ ركَعاتٍ مُلْتَحِفاً في ثوبٍ ثم انصرفَ، فقلتُ: يا رسولَ الله! زَعَمَ ابن أُمي عليٌّ أنهُ قاتِلٌ رجلاً أَجَرْتُه فلانُ بن هُبَيرةَ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أَجَرْنَا من أَجَرْتِ يا أمَّ هانئٍ! "، وذلك ضُحَى. ورُوِيَ عن أمِّ هانئٍ قالت: أجرْتُ رَجُلَينِ من أحمائي، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قد أَمَّنَا مَن أَمَّنْتِ". "من الصحاح": " عن أمِّ هانئ"، اسمها فاختة. "بنت أبي طالب قالت: ذهبْتُ إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الفتح، فوجدته يغتسل، وفاطمة ابنته تستره بثوب، فسَلَّمْتُ، فقال: مَنْ هذه؟ فقلْتُ: أنا أم هانئ بنت أبي طالب فقال: مرحباً بأمِّ هانئ" أي: لقيت رحباً وسَعَة. "فلما فرغ من غُسْله، قام فصلَّى ثماني ركعات مُلْتَحِفاً"؛ أي: ملفوفاً. "في ثوب، ثم انصرف فقلت: يا رسول الله! زعم ابن أمي"؛ أي: أخي "عليٌّ" قالت هذا غضباً عليه. "أنه قاتِلٌ رجلاً أَجَرْتُهُ" بفتح الهمزة وقصرها: صفة رجلاً؛ أي: يريد أن يقتل رجلاً أمَّنْتُه، من الإجارة بمعنى الأمن، أصله أجورته فنقلت حركة الواو إلى الجيم فانقلبت ألفاً، ثم حُذفت للساكنين. "فلان بن هبيرة" بدل من (رجلًا) أو بيان له. "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: قد أجرنا من أجرْتِ يا أم هانئ، وذلك ضحى"؛ أي: المذكور من القصة في وقت الضحى، فتكون تلك الصلاة صلاة الضحى.

"وروي عن أم هانئ قالت: أجرْتُ رجلين من أحمائي" أي: من أقارب زوجي. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد أمَّنَّا مَنْ أمَّنْتِ". * * * مِنَ الحِسَان: 3026 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمونَ تَتكافَأُ دماؤُهم ويَسْعَى بذِمَّتِهم أَدْناهُم". "من الحسان": " قال عليٌّ - رضي الله تعالى عنه -: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: المسلمون تتكافأ دماؤهم" أي: تتماثل وتتساوى في الديات والقصاص. "ويسعى بذمتهم أدناهم" منزِلَة، قد مرَّ شرحه في (حسان كتاب القصاص)، وقد ذكر ثَمَّ؛ لما فيه من الدلالة على أن الشريف يُقَاد بالوضيع، وهاهنا؛ لما فيه أن الأمان يصح من الأدنى حتى المرأة والعبد. * * * 3027 - وعن أبي هريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ المرأةَ لتأخُذُ للقَومِ"، يعني: تُجيرُ على المسلمينَ. "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن المرأة لتأخذ" أي: جاز أن تأخذ المرأة المسلمة الأمان. "للقوم؛ يعني: تجير على المسلمين".

3028 - عن عمرِو بن الحَمِقِ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَن آمنَ رجلاً على نفسِه فقتلَه، أُعطيَ لواءَ الغَدْرِ يومَ القيامةِ". "عن عمرو بن الحَمِق" بفتح الحاء المهملة وكسر الميم. "قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من أَمَّن رجلاً على نفسه فقتله، أعطي لواء الغدر يوم القيامة". * * * 3029 - وعن سُلَيْمٍ بن عامرٍ قال: كانَ بينَ معاويةَ وبينَ الرُّومِ عَهْدٌ، فكانَ يسيرُ نحوَ بلادِهم حتى إذا انقضَى العهدُ أغارَ عليهم، فجاءَ رجلٌ على فرسٍ أو بِرْذَوْنٍ وهو يقولُ: الله أكبرُ، الله أكبرُ، وفاءٌ لا غَدْرٌ، فنَظَروا فإذا هو عمرُو بن عَبَسَةَ، فسألَهُ معاويةُ عن ذلكَ، فقالَ: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن كانَ بينَهُ وبينَ قومٍ عَهْدٌ فلا يُحِلَّنَ عَهْداً ولا يَشُدَّنه حتى يَمضيَ أمدُه أو يَنْبذَ إليهم على سواءٍ"، قال: فرجعَ معاويةُ بالناسِ. "وعن سُليم بن عامر قال: كان بين معاوية وبين الروم عهدٌ، وكان يسير" أي: يذهب معاوية. "نحو بلادهم" قبل انقضاء مدة العهد؛ ليقرب من بلادهم حين انقضاء العهد. "حتى إذا انقضى العهد، أغار عليهم" على غفلةٍ منهم. "فجاء رجل على فرس"، أراد به: الفرس العربي. "أو بِرْذَونٍ" بكسر الباء الموحدة وفتح الذال المعجمة ثم السكون: هو الفرس التركي. "وهو يقول: الله أكبر، الله أكبر، وفاءٌ لا غدر" أي: الواجب علينا وفاء؛ يعني: ليكن بينكم وفاء بالعهد، لا نقض عهد.

"فنظروا فإذا هو عمرو بن عَبْسة، فسأله معاوية عن ذلك؟ فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من كان بينه وبين قوم عهدٌ، فلا يُحِلنَّ عهداً" أي: فلا يجوز نقض العهد. "ولا يشدنه"؛ أي: ولا يجوز الزيادة على تلك المدة، بل يتركه. "حتى يمضي أمده"؛ أي: غاية مدته. "أو ينبذ إليهم على سواء"؛ أي: يخبر بأنه نقض العهد؛ ليكون خصمه مساوياً في النقض؛ كيلا يكون ذلك غدراً منه. "قال: فرجع معاوية بالناس" من مغزاه؛ لعلمه بالخطأ، وفيه تعريضٌ بالنهي عن الغدر، وأن العهد بيننا وبينهم ليس بعقد لازم، لكن لا يجوز أن يقاتلهم إلا بعد الإعلام والمنابذة. * * * 3030 - عن أبي رافعٍ قال: بَعَثتنِي قُرَيشٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أُلقيَ في قلبي الإسلامُ، فقلتُ: يا رسولَ الله! إنِّي والله لا أَرجِعُ إليهم أبداً، قال: "إنِّي لا أَخِيسُ بالعهدِ ولا أحبسُ البُرُدَ، ولكنْ ارجعْ فإنْ كانَ في نفسِكَ الذي في نفسِكَ الآنَ فارجِعْ"، قال: فذهبتُ ثم أَتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأَسلمتُ. "عن أبي رافع قال: بعثتني قريشٌ رسولاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما رأيت رسول الله ألقي في قلبي الإسلام، فقلت: يا رسول الله! إني والله لا أرجع إليهم أبداً، قال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "إني لا أخيسُ"؛ أي: لا أغدر. "بالعهد، ولا أنقضه"، وفيه بيان أن العهد يُراعى مع الكفار، كما يُراعى مع المسلمين.

"ولا أحبس البُرُد" بضمتين، وقيل: بسكون الحشو؛ جمع بريد، وهو الرسول، وإنما لم يحبسه - صلى الله عليه وسلم - لاقتضاء الرسالة جواباً، فالمرسَلُ أولى به. "ولكن ارجع": استدراك عن مقدر؛ أي: لا تقم هاهنا، ولا تظهر الإسلام، ولكن ارجع. "فإن كان في نفسك الذي في نفسك"؛ يعني: إن كان في قلبك الإسلام في المستقبل، كما كان في قلبك "الآن، فارجع"؛ أي: من بين الكفار إلينا، ثم أسلم؛ لأني لو قبلت منك الإسلام الآن، وما أردك إليهم لغدرت. "قال"؛ أي: أبو رافع: "فذهبت، ثم أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فأسلمت". * * * 3031 - عن نُعَيْمِ بن مَسعودٍ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ لرجُلَينِ جاءَا مِن عندِ مُسَيْلِمةَ: "أَما والله لَوْلا أن الرُّسُلَ لا تُقتَلُ لضربتُ أعناقَكما". "عن نعيم بن مسعود رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال لرجلين جاءا من عند مسيلمة" الكذاب، أحدهما عبد الله بن النوَّاحة (¬1): "أما والله لولا أن الرسل لا تقتل، لضربت أعناقكما"، إنما قال لهما ذلك؛ لأنهما قالا بحضرته: نشهد أن مسيلمة رسول الله، قيل: عدم قتل الرسل مستفادٌ من قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6]، والوافد في حكم المستجير. ¬

_ (¬1) في "غ" و"ت": "رواحة"، والصواب المثبت.

8 - باب قسمة الغنائم والغلول فيها

3032 - عن عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ في خُطبتِهِ: "أَوْفُوا بحِلْفِ الجاهليةِ فإنه لا يزيدُه - يعني: الإسلامَ - إلا شِدَّة، ولا تُحْدِثُوا حِلْفاً في الإسلامِ". "عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده رضي الله تعالى عنهم: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال في خطبته: أوفوا بحلف الجاهلية"؛ يعني: إن كنتم حلفتم في الجاهلية بأن يعين بعضكم بعضاً، فإذا أسلمتم فأوفوا بذلك الحلف. "فإنه لا يزيده؛ يعني: الإسلام" لا يزيد الحلف "إلا شدة، ولا تُحدِثوا حِلْفاً في الإسلام": مخالفاً لحكم الإسلام بأن يرث بعضكم من بعض، وأن يفتنوا بين القبائل، فإن الإسلام أقوى من الحلف، فمن استمسك بالعاصم القوي استغنى عن العاصم الضعيف. * * * 8 - باب قِسْمَةِ الغنائمِ والغُلولِ فيها " باب قسمة الغنائم": جمع الغنيمة، وهي: ما أخذ من الكفار الحربية قهراً. "والغلول فيها"! أي: الخيانة في الغنيمة. مِنَ الصِّحَاحِ: 3033 - عن أبي هريرةَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "فلم تَحِلَّ الغنائمُ لأحدٍ من قبلِنا، ذلكَ بأنَّ الله رَأَى ضَعْفَنا وعَجْزَنا فَطَيَّبَها لنا".

"من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لم تحل الغنائم لأحد من قبلنا"، قيل: كانت الأمم الماضية إذا غزوا وغنموا، كانوا يجمعونها، فإن نزلت نارٌ من السماء وأحرقتها، علموا أن غزوتهم مقبولة. "ذلك": إشارة إلى تحليل الغنائم لنا. "بأن الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيَّبها"؛ أي: أحلها "لنا". * * * 3034 - عن أبي قَتادةَ قال: خَرَجْنا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عامَ حُنَيْنٍ، فلمَّا التقيْنا كانَتْ للمُسلمينَ جَوْلَةٌ، فرأيتُ رجلاً مِن المشركينَ قد عَلا رجلاً مِن المسلمينَ، فضربتُ مِن وَرائه على حَبْلِ عاتقِهِ بالسَّيفِ، فقَطَعْتُ الدِّرْعَ، وأقبلَ عليَّ فضَمَّني ضَمَّةً وجدتُ منها ريحَ الموتِ، ثم أَدْركَهُ الموتُ فأَرسلَني، فلَحِقْتُ عمرَ فقلتُ: ما بالُ النَّاسِ؟ قال: أمرُ الله، ثم رجعُوا وجَلَسَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "مَن قتلَ قتيلاً لهُ عليهِ بَينةٌ فلهُ سَلَبُه"، فقلتُ: مَن يشهدُ لي؟ ثم جلستُ، فقال النبيُّ مثلَه، فقمتُ فقالَ: "ما لَكَ يا أَبا قَتادةَ؟ "، فأَخبرتُهُ، فقالَ رجلٌ: صَدَقَ، وسلَبُهُ عندي فأرْضهِ مِنِّي، فقالَ أبو بكرٍ: لاها الله، إذاً لا يَعمِدُ إلى أَسَدٍ مِن أُسْدِ الله يقاتلُ عن الله ورسولهِ فيُعطيكَ سلَبَه! فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "صَدَقَ فأَعْطِهِ"، فأعطانِيهِ، فابتَعْتُ به مَخْرَفاً في بني سَلَمةَ، فإنه لأَوَّلُ مالٍ تَأَثَّلُتُه في الإِسلامِ. "عن أبي قتادة قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام حُنين، فلما التقينا"؛ أي: المشركين. "كانت للمسلمين جَوْلةٌ" - بفتح الجيم وسكون الواو - من الجولان،

يقال: جال في الحرب جولة؛ أي: دار، وقد فُسِّرت في الحديث بالهزيمة، عبر عنها بالجولة؛ لاشتراكهما في الاضطراب وعدم الاستقرار. "فرأيت رجلاً من المشركين قد علا" أي: غلب. "رجلاً من المسلمين، فضربت من ورائه على حبل عاتقِهِ": وهو موضع الرداء من العنق، وقيل: ما بين العنق والمنكب، وقيل: عرق أو عصب هناك. "بالسيف، فقطعت الدرع، فأقبل عليَّ، فضمني"؛ أي: ضغطني وعصرني. "ضمة وجدْتُ منها ريحَ الموت، ثم أدركه الموتُ، فأرسلني" أي: أطلقني. "فلحقت عمر، فقال: ما بال الناس"؛ أي: ما حالهم ينهزمون؟ "قال: أمر الله"؛ أي: كائن، أو ما تراه أمر الله. "ثم رجعوا"؛ أي: المسلمون. "وجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: من قتل قتيلاً"، سماه قتيلاً باعتبار ما يؤول إليه. "له عليه"؛ أي: على قتله "بينةٌ، فله سلبه": وهو ما على القتيل ومعه من ثياب وسلِاح ومركب. "فقلت: من يشهد لي؟ " بأني قتلت رجلاً من المشركين؛ ليكون سلبه لي. "ثم جلست، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله"؛ أي: مثل قوله: " من قتل قتيلاً. . . " إلخ. "فقلت: من يشهد لي؟ ثم جلست، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - مثله، فقمت، فقال: ما بالك يا أبا قتادة؟ فأخبرته فقال رجلٌ: صادق"؛ أي: أبو قتادة أنه قتل كافراً.

"وسلبُهُ عندي، فأرضهِ"؛ أي: أبا قتادة. "عنه"؛ أي: عن السلب. "مني"؛ أي: أعطه قدر ما يرضيه عني، وأسهمني معه، وقيل: معناه أعطه عوضاً عنه؛ ليكون ذلك لي. "فقال أبو بكر: لاها الله إذاً"، كذا رُوِي، حمله بعض النحاة على الغلط من بعض الرواة، والصواب: لاها الله ذا، فـ (ها) بدلٌ من واو القسم، والجملة مقسم عليها؛ يعني: لا يفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ما يقول، والله. "لا يعمدُ" تفسير للمقسم عليها؛ أي: لا يقصد النبي - صلى الله عليه وسلم -. "إلى أسد من أسد الله، يقاتل عن الله ورسوله، فيعطيك سلبه"؛ يعني: لا يقصد إبطالَ حقه، وإعطاءَ سلبه إياك. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صدق"؛ أي: أبو بكر فيما قاله. "فأعطه"، وهذا يدل على جواز إفتاء المفضول بحضرة الفاضل إذا كان بينهما زيادة انبساط. "فأعطانيه"، فيه دليل على أن كل مسلم قتل مشركاً في القتال استحقَّ سلبه من بين سائر الغانمين، وأنه لا يخمَّسُ، سواء كان القتل مبارزة أو لا. وشرط الشافعي كون المقتول مقبلاً على القتال، فلو انهزم قبل القتال، أو جرح وعجز عن القتال، لم يستحق سلبه، إلا أن يكون القاتل (¬1) هزمه أو جرحه بحيث أعجزه. "فابتعت به"؛ أي: اشتريت بذلك السلب. "مَخْرَفاً" بفتحتين وسكون الحشو؛ أي: بستاناً، يريد به: حائط نخل ¬

_ (¬1) في "ت" و"غ": "القتيل"، ولعل الصواب المثبت.

يُختَرف؛ أي: يجتنى منه الثمر. "في بني سَلِمة" بكسر اللام؛ أي: في محلتهم. "فإنه"؛ أي: ذلك المخرف. "لأول مال تأثَّلته"؛ أي: تملكته، وجمعته، وجعلته أصل مال "في الإسلام". * * * 3035 - عن ابن عمرَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَسْهَمَ للرَّجلِ ولفرسِهِ ثلاثةَ أَسْهُم: سهمًا له وسهمَينِ لفرسِهِ. "عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أسهم للرجل ولفرسه"؛ أي: أعطى. "ثلاثة أسهم: سهمًا له"، واللام فيه للتمليك. "وسهمين لفرسه" وهذه اللام للتسبيب؛ أي: لأجل فرسه لعنائه في الحرب؛ إذ مؤنة فرسه تُضاعَف على مؤنة صاحبه، وهذا قول الأكثر، وقيل: للفارس سهمان، وعليه أبو حنيفة. * * * 3036 - عن يزيدَ بن هُرْمزَ قال: كتبَ نَجْدَةُ الحَرُورِيُّ إلى ابن عبَّاسٍ يسألُه عن العبدِ والمرأةِ يحضُرانِ المَغْنَمَ، هل يُقسَمُ لهما؟ فقالَ ليزيدَ: اكتبْ إليهِ أنه ليسَ لهُما سَهْمٌ إلا أنْ يُحْذَيا. وفي روايةٍ: كتبَ إليه ابن عباسٍ: إِنكَ كتبتَ تَسألُني: هل كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يغزُو بالنِّساءِ, وهل كانَ يَضْرِبُ لهنَّ بسهمٍ؟ قد كانَ يغزُو بهِنَّ يُداوينَ المرضَى،

ويُحْذَيْنَ مِن الغنيمةِ، وأمَّا السَّهمُ فلم يَضْرِبْ لهنَّ بسهمٍ. "عن يزيد بن هُرْمز قال: كتب نجدةُ الحروري إلى ابن عباس يسأله عن العبد والمرأة يحضران المغنم: هل يُقسَم لهما؛ فقال" أي: ابن عباس "ليزيد: أكتب إليه"؛ أي: إلى نجدة. "أنه ليس لهما سهم إلا أن يُحذَيا"؛ أي: يُعطيا شيئًا أقل من سهم ذكر حر. "وفي رواية: كتب إليه ابن عباس: أنك كتبت تسألني: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يغزو بالنساء؟ وهل كان يضرب"؛ أي: يقسم. "لهن بسهم؟ قد كان يغزو بهن، يداوين المرضى، ويُحذَين"؛ أي: يعطين شيئًا. "من الغنيمة، وأما السهمُ فلم يضرب"؛ أي: لم يقسم. "لهن بسهم" تام. 3037 - وعن سلمةَ بن الأكْوَعِ قال: بَعَثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بظهرِهِ معَ رباحٍ كلامِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا معه، فلمَّا أصبحْنا إذا عبدُ الرَّحمنِ الفَزارِيُّ قد أغارَ على ظهرِ رسولِ الله - عز وجل -، فقُمْتُ على أكَمَةٍ فاستقبلتُ المدينةَ فناديْتُ ثلاثًا: يا صَباحاهُ، ثم خرجتُ في آثارِ القومِ أَرميهِم بالنبلِ، وأرتجزُ أقولُ: أنا ابن الأكْوَعِ ... واليومُ يومُ الرُّضَّعِ فمازلتُ أَرميهِم وأعقِرُ بهم، حتى ما خلَقَ الله مِن بعير من ظهرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا خَلَّفتُه وراءَ ظَهْري، ثم اتَّبعْتُهم أَرميهِم، حتى ألقَوا أكثرَ من ثلاثينَ بُردةً وثلاثينَ رُمحًا يَستخِفُونَ، ولا يَطرَحُونَ شيئًا إلَّا جعلتُ عليهِ آرامًا مِن الحجارةِ يعرفُها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأصحابُهُ، حتى رأيتُ فوارِسَ

رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ولحِقَ أبو قتادةَ فارسُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعبدِ الرَّحمنِ فقتلَهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ فُرْساننا اليومَ أبو قتادةَ، وخيرُ رجَّالتِنا سَلَمةُ"، قال: ثم أَعطاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سهمَينِ، سهمَ الفارسِ وسهمَ الرَّاجِلِ، فجمَعُهما في جميعًا، ثم أَرْدَفَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وراءَهُ على العَضْباء, راجعينَ إلى المدينةِ. "وعن سلمة بن الأكوع قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بظهره"؛ أي: بدوابه. "مع رباحٍ" بالفتح "غلامِ رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - "؛ ليرعاها، ويسرحها في الصحراء. "وأنا معه فلما أصبحنا إذا عبد الرحمن الفزاري": بالفاء والزاي المعجمة قبل المهملة، وروي بقاف مضمومة؛ كافرٌ "قد أغار على ظهر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، فقمت على أَكَمةٍ"؛ أي: على تل. "فاستقبلت المدينةَ، فناديت ثلاثًا: يا صباحاه" كلمة استغاثة عن الغارة؛ لكثرتها صباحًا. "ثم خرجت في آثار القوم"؛ أي: الذين أغاروا [على] الدواب. "أرميهم بالنبل، وأرتجز" أي: أقول الشعر رجزًا. "وأقول"، وفي بعض: (وأرتجز أقول)؛ أي: أرتجز قائلًا: "إني أنا ابن الأكوع ... واليوم يوم الرضع" جمع الراضع، وهو: اللئيم، يريد به: يوم هلاك اللئام؛ يعني: يوم تهلكون أيها الكفار بأيدينا. "فما زلت أرميهم، وأعقرهم"؛ أي: قتلت مركوبهم، وأجعلهم راجلًا، عقر الناقة بالسيف: ضرب قوائمها. "حتى ما خلق الله من بعير من ظهر رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -

إلا خلَّفته" أي: تركته "وراء ظهري، ثم اتبعتهم أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين بُردةً": وهي شملة مخططة، أو كساء أسود مربع صغير يلبسه الأعراب. "وثلاثين رمحًا، يستخفُّون"؛ أي: يطلبون التحفة بإلقائها في الفرار. "ولا يطرحون شيئًا، إلا جعلت عليه آراماً"؛ أي: أعلامًا. "من الحجارة"؛ يعني: وضعت عليه حجارة؛ ليكون علمًا أن أحدًا أخذه من الكفار. "يعرفها رسول الله وأصحابه"، وكان من عادة الجاهلية: أنهم إذا وجدوا شيئًا لم يمكنهم استصحابه، تركوا عليه حجارة يعرفونه بها، حتى إذا عادوا أخذوه، أو ليعلم من يأتي أن أحدًا أخذ من الكفار شيئًا، فيلحقه ويعينه. "حتى رأيت فوارسَ رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -، ولحق أبو قتادة فارسُ رسول الله بعبد الرحمن فقتله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير فرساننا" جمع فارس. "اليوم أبو قتادة، وخير رَجَّالتنا" بفتح الراء وتشديد الجيم: جمع راجل خلاف الفارس. "سلمة بن الأكوع، قال"؛ أي: سلمة: "ثم أعطاني رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - سهمين: سهم الفارس، وسهم الراجل"، وإنما أعطاه - صلى الله عليه وسلم - سهم فارس مع سهم راجل؛ لأن معظم أخذ تلك الغنيمة كان بسبب سلمة، ويجوز للإمام أن يعطي من كثر سعيه في الجهاد شيئًا زائدًا على نصيبه؛ لترغيب الناس، وإنما لم يعطه - صلى الله عليه وسلم - الجميع؛ لأن من حضر الحربَ قبل انقضائها بنية الحرب، فهو شريكٌ في الغنيمة. "فجمعهما"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - السهمين "لي جميعًا، ثم أردفني رسول الله وراءه"؛ أي: أركبني خلفه.

"على العضباء": وهي ناقة رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -. "راجعين إلى المدينة": وتسمى هذه الغزوة غزوة ذي قرد، وكانت في السادسة من الهجرة، وذو قرد: موضع قريب من المدينة. * * * 3039 - عن ابن عمرَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُنفِّلُ بعضَ مَن يبعثُ مِن السَّرايا لأنفسِهم خاصَّةً، سِوَى قِسْمةِ عامَّةِ الجيشِ. "عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله كان يُنفِّلُ بعضَ من يبعث من السرايا لأنفسهم خاصة"؛ يعني: يعطيهم من الغنيمة زائدًا، ويخصهم بشيء. "سوى قسمة عامة الجيش". * * * 3038 - عن ابن عمرَ قال: نفَّلَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - نفلاً سِوى نصيبنا مِن الخُمُسِ فأصابني شارِفٌ، والشارِفُ المُسِنُّ الكبيرُ. "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: نفَّلنا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - نفَلاً"؛ أي: أعطانا من الغنيمة زائدًا. "سوى نصيبنا من الخمس"، والنفل بفتحتين: اسم لزيادة يعطيها الإمام بعضَ الجيش على القدر المستحق. " فأصابني شارف. والشارف: المسن الكبير" من النوق. * * * 3040 - وعن ابن عمرَ قال: ذهبتْ فرسٌ لهُ فأخذَها العَدُوُّ، فظهرَ عليهمُ المسلمونَ فرُدَّ عليهِ في زمنِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَبَقَ عبدٌ لهُ فلَحِقَ بالرُّومِ، فظهرَ عليهمُ المسلمونَ فردَّهُ عليهِ خالدُ بن الوليدِ بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -.

"وعن ابن عمر قال: ذهبت فرسٌ له"؛ أي: نفرت وذهبت إلى جهة الكفار. "فأخذها العدو، فظهر" أي: غلب "عليهم المسلمون"، وأغاروا عليهم، وكانت تلك الفرس فيما أغاروا. "فرُدَّ عليه في زمن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - "، وهذا يدل على أن الكفار إذا استولوا على مال مسلم لا يتملكونه، ويُردُّ على مالكه بعد استنقاذه من أيديهم، سواء كان قبل القسمة أو بعدها، وبه قال الشافعي خلافًا لمن خالف بعد القسمة. "وأبق عبدٌ له"؛ أي: لابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -. "فلحق بالروم، فظهر عليهم المسلمون، فرد [هـ] عليه خالدُ بن الوليد بعد النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - "، وهذا يدل على أنهم لا يملكون العبد الآبق، فإذا أخذه المسلمون وجب رده إلى صاحبه قبل القسمة وبعدها، وبه قلنا. * * * 3041 - عن جُبَيْرِ بن مُطعِمٍ قال: مشيتُ أنا وعثمانُ بن عفَّانَ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أعطيتَ بني المطَّلِبِ مِن خُمُسِ خيبرَ وتركتنا، ونحنُ بمنزلةٍ واحدةٍ منكَ، فقال: إنَّما بنو هاشم وبنو المطَّلبِ شيءٌ واحدٌ، قال جُبَيرٌ: ولم يَقْسِم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لِبني عبدِ شمسٍ وبني نوفلٍ شيئًا. "عن جُبيرِ بن مُطعِم قال: مشيت أنا وعثمان إلى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك، فقال: إنما بنو هاشم وبنو عبد المطلب شيء واحد"؛ أي: كالشيء الواحد، بأن كانوا متوافقين متحابين متعاونين، فلم يكن بينهم

مخالفة في الجاهلية والإسلام. "قال جبير: ولم يقسم النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - لبني عبد الشمس وبني نوفل شيئًا"؛ لأنه لم يكن بينهم وبين أولاد بني هاشم موافقة، بل كانوا متخالفين. أعلم أن هاشمًا والمطلب ونوفلاً وعبدَ شمس هم أبناء عبد مناف، وعبد مناف، هو الجد الرابع للرسول - صلى الله عليه وسلم -، وجبير بن مطعم من بني نوفل، وعثمان بن عفان من بني عبد شمس، والنبي - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم. * * * 3042 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما قَرْيَةٍ أَتيتُمُوها وأقمتُم فيها فسهمُكم فيها، وأيُّما قَرْيَةٍ عَصَتِ الله ورسولَهُ فإنَّ خُمُسَها للهِ ورسولهِ، ثمَّ هي لكم ". "وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: أيُّما قرية أتيتموها، وأقمتم فيها"؛ يعني: إذا أتيتم قرية من قرى الكفار، وما أوجفتم عليهم بخيل ومحاربة، بل صالحتم أهلها على مال. "فسهمكم فيها"؛ يعني: ما أخذتم منهم يكون فيئًا مصرفه جميع المسلمين. "وأيما قرية عصت الله ورسوله"، فأخذتم منهم مالًا بإيجافِ خيل ومحاربة. "فإن خمسَها لله ولرسوله، ثم هي لكم"؛ يعني: ذلك المال يكون غنيمة، يؤخذ خمسها لله ولرسوله، ويقسم الباقي منها بينكم، والحديث يدل على أن مال الفيء لا يخمَّس، وقال الشافعي: إنه يخمَّس كمال الغنيمة، والحديثُ يكون حجة عليه. * * *

3043 - عن أبي هريرةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أُعطِيكُم ولا أمنعُكم، أنا قاسِمٌ أضعُ حيثُ أُمِرْتُ". "عن أبي هريرة: أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: ما أعطيكم، ولا أمنعكم، أنا قاسمٌ أضعُ حيث أمرتُ" تقدم بيانه في (باب رزق الولاة). * * * 3044 - عن خَوْلةَ الأنصاريَّةَ قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ رِجالًا يتخوَّضُون في مالِ الله بغيرِ حقٍّ، فلَهُم النارُ يومَ القيامةِ". "عن خولة الأنصارية قالت: سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول: إن رجالًا يتخوَّضون في مال الله"؛ أي: يتصرفون في الفيء والغنيمة والزكاة. "بغير حق"؛ أي: بغير أمر الله ورسوله. "فلهم النار يوم القيامة". * * * 3045 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قامَ فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ فذَكرَ الغُلولَ، فعَظَّمَهُ وعظَّمَ أمرَهُ ثم قال: "لا أُلفِيَنَّ أحدكم يَجيءُ يومَ القيامةِ على رقبَتِهِ بعيرٌ لهُ رُغاءٌ، يقولُ: يا رسولَ الله أَغِثْني! فأقولُ: لا أملِكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ، لا أُلفِينَّ أحدَكم يَجيءُ يومَ القيامةِ على رقبَتِهِ فرسٌ لهُ حَمْحَمَةٌ فيقولُ: يا رسولَ الله أغِثني! فأقولُ: لا أملكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ، لا أُلفِينَّ أحدكم يجيءُ يومَ القِيامَةِ على رقبَتِهِ شاةٌ لها ثُغاءٌ يقول: يا رسولَ الله أغِثني! فأقولُ: لا أملكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ، لا أُلفِينَّ أحدَكم يجيءُ يومَ القِيامَةِ على رقبَتِهِ نفسٌ لها صياحٌ فيقول: يا رسولَ الله أغِثني! فأقولُ: لا أملكُ لكَ شيئًا قد

أبلغتُكَ، لا أُلفِينَّ أحدَكم يجيءُ يومَ القيامةِ على رقبَتِهِ رِقاعٌ تَخفِقُ فيقول: يا رسولَ الله أغِثني! فأقولُ: لا أملِكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ، لا أُلفينَّ أحدَكم يجيءُ يومَ القيامةِ على رقبتِهِ صامِتٌ فيقولُ: يا رسولَ الله أغثني! فأقولُ: لا أملكُ لكَ شيئًا قد أبلغتُكَ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قام فينا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - ذات يوم، فذكر الغُلولَ"؛ أي: الخيانة في الغنيمة. "فعظَّمه، وعظَّم أمره، ثم قال: لا ألُفين"؛ أي: لا أجدنَّ. "أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رُغاء": وهو صوت البعير. "يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا"؛ أي: لا أقدر أن أدفع عنك من عذاب الله شيئًا؛ لأني لم أشفع إلا لمن أذن الله. "قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرسٌ له حَمْحَمةٌ" بفتح الحاءين المهملتين وسكون الميم الأولى وفتح الثانية: صوت الفرس دون الصهيل. "فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئاً، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثُغاء" بضم الثاء: صوت الشاة. "يقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته نفسٌ لها صياحٌ" أراد بالنفس: الرقيق الذي غلَّه من السبي، أو قتل بغير حق. "فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته رِقاعٌ" بكسر الراء: جمع رقعة، وهي قطعة من الثوب أو القرطاس، ويحتمل أن يراد بها: ما عليه من الحقوق المكتوبة في الرقاع.

"تخفق"؛ أي: تضطرب على رقابهم، وتشبه أن يكون حال الخياطين السرَّاقين كذلك. "فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك، لا ألفينَّ أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامتٌ": وهو الذهب والفضة، خلاف الناطق، وهو الحيوان. "فيقول: يا رسول الله! أغثني، فأقول: لا أملك لك شيئًا، قد أبلغتك"، نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - نفسه عن إلفاءِ الغلول بمثل المذكورات، والمراد: نهي المخاطبين عن إتيانهم بمثل ذلك الفعل الشنيع الذي عظَّم الله أمره في كتابه بقوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161]، وأوعدهم بإفضاحهم على رؤوس الملأ. * * * 3046 - عن أبي هريرةَ قال: أهدى رَجُلٌ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - غُلامًا يقالُ له: مِدْعَمٌ، فبينَما مِدْعَمٌ يَحُطُّ رَحْلًا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سهمٌ عائِرٌ فقتلَهُ، فقالَ النَّاسُ: هنيئًا له الجَّنَةُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كلا! والذي نفسي بيدهِ إنَّ الشَّمْلَةَ التي أخذَها يومَ خيبرَ مِن المغانِم لم تُصِبْها المَقاسِمُ لتشْتَعِلُ عليهِ نارًا"، فلمَّا سمعَ ذلكَ الناسُ جاءَ رجلٌ بشِراك أو شِراكَينِ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "شِراكٌ مِن نارٍ، أو شِراكانِ مِن نارٍ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: أهدى رجل لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - غلامًا يقال له: مِدْعَم": بكسر الميم وسكون الدال وفتح العين المهملتين "فبينما مِدْعَم يحط رحلاً"؛ أي: ظهر المركوب.

"لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا" أصابه "سهم عائر": وهو السهم الذي لا يُدَرى من أين رمي؟ "فقتله، فقال الناس: هنيئًا له الجنة"؛ لأنه مات في خدمته - صلى الله عليه وسلم -. "فقال رسول الله: كلا"؛ أي: ليس الأمرُ كما تظنون. "والذي نفسي بيده إن الشملة": وهي الكساء المشتمل به الرجل. "التي أخذها يوم خيبر من المغانم لم تصبها المقاسم": حال من الضمير المنصوب في (أخذها)؛ أي: غير مقسومة؛ أي: أخذها قبل القسمة، فكان غلولاً؛ لأنها كانت مشتركة بين الغانمين. "لتشتعل عليه نارًا"؛ أي: تَجعَلُ تلك الشملةُ عليه نارًا لتحرقه. "فلما سمع ذلك الناس جاء رجل بشِراكٍ": وهو أحد سيور النعل التي على وجهها. "أو شراكين إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: شراك من نار، أو شراكان من نار"؛ أي: يجعل شراك من المغنم شراكًا من نار على رجله يوم القيامة، وإنما قال في الشراك هذا القول بعد إتيانه به إليه؛ لأنه قد تعذَّرت قسمته بين الغانمين، فلم يُفِدِ الردُّ شيئًا. * * * 3047 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قال: كانَ على ثَقَلِ النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ يقالُ لهُ كَرْكَرْةُ، فماتَ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هوَ في النَّارِ"، فذَهبوا ينظرونَ، فوجدُوا عباءَةً قد غلَّها. "عن عبد الله بن عمرو قال: كان على ثَقَلِ رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بكسر الثاء (¬1) وفتح القاف: وهو متاع المسافر، وقيل: المتاع ¬

_ (¬1) المعروف أنه بفتح الثاء والقاف، وانظر "القاموس المحيط"، و"الصحاح" (مادة: ثقل).

المحمول على الدابة. "رجل يقال له: كركرة" بكسر الكافين: اسم ذلك الرجل، كان يحفظ أمتعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وينقلها من منزل إلى منزل. "فمات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هو في النار، فذهبوا" إلى رحل ذلك الرجل "ينظرون، فوجدوا" في رحله "عباءة"، فهو ضرب من الكساء. "قد غلها". * * * 3048 - قال ابن عمرَ: كنَّا نُصيبُ في مَغازينا العَسَلَ والعِنَبَ فنأكلُهُ ولا نرفعُه. "وقال ابن عمر: كنا نصيبُ في مغازينا": جمع المغزى، وهو مصدر ميمي، أو مكان من (غزا يغزو). "العسل والعنب، فنأكله، ولا نرفعه"؛ أي: إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأجل القسمة، واتفقوا على جواز أكل الغزاة طعام الغنيمة قبل القسمة على قدر الحاجة ما داموا في دار الحرب، سواء فيه الخبز واللحم وغيرها. قال الشافعي: إن أكل فوق الحاجة أدَّى ثمنه في المغنم، ورخَّص الأكثر في علف الدواب للحاجة إليه. * * * 3049 - عن عبدِ الله بن مُغَفَّلٍ قال: أَصبْتُ جِرابًا من شحمٍ يومَ خيبرَ فالتزمتُهُ فقلتُ: لا أُعطي اليومَ أَحَدًا مِن هذا شيئًا، فالتَفَتُّ فإذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يبتسِمُ إليَّ. "عن عبد الله بن مغفل قال: أصبت" أي: لقيت.

"جرابًا من شحم يوم خيبر، فالتزمته"؛ أي: عانقته وضممته إلى نفسي. "فقلت: لا أعطي اليوم أحدًا من هذا شيئًا، فالتفتُّ فإذا رسولُ الله يتبسم إلي"، وهذا دليل على جواز أخذ المجاهدين من طعام الغنيمة قدر ما يحتاجون إليه. * * * مِنَ الحِسَان: 3050 - عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله فضَّلَني على الأنبياءِ"، أو قالَ: "فضَّلَ أُمَّتي على الأمم، وأَحَلَّ لنا الغنائمَ". "من الحسان": " عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله فضَّلني على الأنبياء، أو قال" شك من الراوي "فضل أمتي على الأمم، وأَحَلَّ لنا الغنائم"، ولم يكن ذلك للأمم الماضية. * * * 3051 - عن أنسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ، يعني يومَ حُنَينٍ: "مَن قتَلَ كَافِرًا فلهُ سَلَبُه"، فقتلَ أبو طلحةَ يومئذٍ عشرينَ رجلًا وأخذَ أَسْلابَهم. "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يومئذ - يعني: يوم حُنين -: من قتل كافرًا، فله سلبه. فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلًا، وأخذ أسلابهم"، وهذا يدل على أن السلب للقاتل يستوي فيه من له سهم من الغنيمة أو لا، وسواء قتله مقبلاً أو مدبرًا، وفي الصف أو خارج الصف. * * *

3052 - عن عوفِ بن مالكٍ الأَشْجَعِي وخالدِ بن الوليدِ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَضَى في السَّلَبِ للقاتلِ، ولم يُخَمِّس السَّلَبَ. "عن عوف بن مالك الأشجعي وخالد بن الوليد: أن رسول الله - صلى الله تعالى - عليه وسلم قضى في السلب للقاتل، ولم يخمِّس السلب". * * * 3053 - عن عبدِ الله بن مَسعودٍ قال: نَفَّلني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ بدرٍ سيفَ أبي جهلٍ، وكانَ قَتَلَهُ. "عن عبد الله بن مسعود قال: نفَّلني رسولُ الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يوم بدر سيفَ أبي جهل"؛ أي: أعطانيه زائدًا من نصيبي من الخمس. "وكان قتله "؛ أي: ابن مسعود - وقيل: أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا جهل. * * * 3054 - عن عُمَيْرٍ مَوْلى آبي اللَّحم قال: شهدتُ خيبرَ مع سادَتي، فكلَّمُوا فِيَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلَّمُوه أني مملوكٌ، فأَمَرَني فقُلِّدْتُ سيفًا فإذا أَنا أجرُّه، فأمرَ لي بشيء من خُرْثيِّ المتاعِ، وعرضتُ عليهِ رُقْيَةً كنتُ أرْقي بها المجانينَ، فأمرني بطَرْحِ بعضها وحَبْسِ بعضها. "عن عمير": بصيغة التصغير. "مولى أبي اللحم": اسمه الحويرث بن عبد الله وكان لا يأكل اللحمَ. " قال: شهدت"؛ أي: حضرت. "خيبر مع ساداتي"؛ أي؛ مع كبار أهلي. "فكلموا في"؛ أي: في حقي.

"رسولَ الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -" أن يأخذني للغزو. "وكلَّموه أني مملوك، فأمرني" بأن أحمل السلاح، وأكون مع المجاهدين؛ لأتعلم المحاربة. "فقُلِّدتُ سيفاً"؛ أي: علق سيفي بمنكبي. "فإذا أنا أجره"؛ أي: كنت أجرُّ السيف على الأرض لصغري وقصر قامتي. "فأمر لي بشيء من خُرْثِيِّ المتاع" بضم الخاء المعجمة وسكون الراء المهملة وكسر الثاء المثلثة وتشديد الياء: شيء حقير من متاع البيت، وهو ما يستعمل في البيت كالقدر وغيرها؛ أي: أمر بدفع شيء منها إلي. "وعرضْتُ عليه رقيةً كنت أرقي بها المجانين، فأمرني بطرح بعضها"؛ أي: بعض الرقية. "وحبس بعضها"؛ يعني: كان بعضها حسنًا، وبعضها كلمات قبيحة، فأمرني أن أترك قراءة ما هو القبيح منها، وأقرأ ما هو الحسن منها. * * * 3055 - عن مُجمِّعِ بن جاريةً قال: قُسِمَتْ خيبر على أهلِ الحُدَيْبيةِ، قسمَها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانيةَ عَشرَ سهمًا، وكانَ الجيشُ ألفًا وخمسَ مئةٍ، قال الشيخُ - رضي الله عنه -: فيهم ثلاثُ مئةِ فارس! وهذا وَهْمٌ، إنَّما كانوا مئتي فارس". "عن مُجمِّع": على صيغة اسم الفاعل. "ابن جارية": بالجيم والياء حرف العلة. "قال: قُسِمَتْ خيبر"؛ أي: قسم - صلى الله عليه وسلم - نصف أراضي خيبر، وجميع منقولات غنائمها.

"على أهل الحديبية"؛ أي: الذي كانوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديبية، وحفظ نصف أراضيها لنفسه يهيئ من غلتها أسباب أهله وأضيافه. "قسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سهمًا، وكان الجيش ألفًا وخمس مئة، فيهم ثلاث مئة فارس"، وهذا مستقيم على قول من قال: لكل فارس سهمان؛ لأن الرجالة على هذه الرواية تكون ألفًا ومئتين، ولهم اثني عشر سهمًا، لكل مئة سهم، وللفرسان ستة أسهم، لكل مئة سهمان، فالمجموعُ ثمانية عشر، وأما على قول من قال: للفارس ثلاثة أسهم، فمشكل؛ لأن سهام الفرسان تسعة، وسهام الرجالة اثنا عشر، فالمجموع أحد وعشرون. "وهذا وهم"؛ أي: خطأ من الراوي من أنه قال: فيهم ثلاث مئة فارس. "إنما كانوا مئتي فارس"، فعلى هذا كان نصيبهم ستة، ونصيب الرجالة ثلاثة عشر؛ لما ذكر من أن الجيش ألف وخمس مئة، يصير المجموع تسعة عشر، لا ثمانية عشر، فإذن هذه القسمة تحتاج إلى تأويل؛ فقيل: كان فيهم مئة عبد، ولم يقسم لهم سهم؛ إذ لا سهمَ للعبد، بل يُعطى رضخًا. * * * 3056 - عن حبيبِ بن مَسْلَمةَ الفِهريِّ قال: شهدتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نفَّلَ الرُّبُعَ في البَدْأَةِ، والثُّلُثَ في الرَّجْعَةِ. "عن حبيب بن مَسلمة": بفتح الميم واللام. "الفهري": بكسر الفاء وسكون الهاء. "قال: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - نفَّلَ الربعَ في البَدْأة"؛ أي: في ابتداء الغزو؛ يعني: إذا نهضت طائفة من العسكر، فإن وقعت بطائفة من العدو قبل وصول الجيش، كان لهم الربع مما غنموا؛ لنهوضهم من بين سائرهم ويشركهم سائر

العسكر في ثلاثة أرباعه. "والثلث"؛ أي: نفل الثلث. "في الرجعة"؛ يعني: إن رجعوا من الغزو، ثم رجع طائفة من العسكر، فوقعوا بالعدو ثانية، كان لهم الثلث مما غنموا؛ لزيادة مشقتهم وخطرهم، وشركهم سائرهم في الثلثين، وذلك لأن وجهة السريةِ والجيشِ في البدأة واحدة، فيصلُ مددهم إلى أهل البدأة من خلفهم، بخلاف الرجعة فإن السرية فيها راجعة إلى دار الحرب، والجيشُ راجعٌ عنها، فلا يكون خلفها من تأمن به، فتكون جراءة الكفار على أهل الرجعة (¬1) أكثر منها على أهل البدأة. * * * 3057 - وعن حبيبِ بن مَسْلَمَة الفِهْريِّ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُنفِّلُ الرُّبُعَ بعدَ الخُمُسِ، والثُّلُثَ بعدَ الخُمُسِ إذا قَفَلَ. "وعنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل الربع بعد الخمس"؛ أي: بعد إخراج الخمس. "والثلثَ بعد الخمس إذا قفل"؛ أي: رجع من الغزو، وهذا (¬2) الحديث كالذي قبله غير أنه لم يبين في الذي قبله أنَّ إعطاءه ذلك كان قبل إخراج الخمس أو بعده، وبيَّن هنا أنه كان يخرج أولاً الخمس من المغنم، ويصرفه إلى أهله، ثم بعد ذلك يعطي ربع ما بقي أو ثلثه لأهل البدأة والرجعة. * * * ¬

_ (¬1) من قوله: فإن السرية فيها. . . إلى قوله: أهل الرجعة: ليس في "غ". (¬2) في "غ": "هذا".

3058 - عن أبي الجُويريةِ الجَرْميِّ قال: أصبتُ بأرضِ الرُّومِ جَرَّةً حمراءَ فيها دنانيرُ في إمْرَةِ مُعاويةَ، وعلينا رجلٌ مِنْ أصحابِ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُقالُ لهُ: مَعْنُ بن يزيدَ، فأتَيْتُه بها فقَسَمها بينَ المُسلمينَ وأعطاني منها مِثلَ ما أعطَى رجُلاً منهم، ثمَّ قال: لولا أنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا نَفْلَ إلَّا بعدَ الخُمُسِ"، لأَعطَيْتُكَ. "عن أبي الجويرية": تصغير الجارية. "الجرمي": بفتح الجيم وسكون الراء. "قال: أصبت بأرض الروم جرة حمراء فيها دنانير في إمرة معاوية"؛ أي: في زمان إمارته. "وعلينا"؛ أي: أُمِّر علينا في ذلك الجيش. "رجلٌ من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يقال له: معن بن يزيد، فأتيته بها، فقسمها بين المسلمين، وأعطاني منها مثل ما أعطى رجلًا منهم، ثم قال: لولا أني سمعت رسول الله يقول: لا نفل إلا بعد الخمس، لأعطيتك"؛ أي: النفل، قيل: يشبه أن يكون هنا سهو من الراوي في الاستثناء، وأن الصواب: لا ينفل بعد الخمس؛ أي: بعد وجوب الخمس في الغنيمة. * * * 3059 - عن أبي موسى الأشعريِّ قال: قَدِمْنا فوافَقْنا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ افتتحَ خَيْبَرَ فأسهمَ لنا - أو قال: فأعطانا منها - وما قسمَ لأحَدٍ غَابَ عنْ فتح خَيْبَرَ منها شيئًا إلاّ لمنْ شَهِدَ معهُ إلَّا أصحابَ سفينَتِنا جَعْفَرًا وأصحابَهُ، أسهمَ لهمْ معهم. "عن أبي موسى الأشعري قال: قدمنا، فوافقنا رسولَ الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - "؛ أي: صادفنا.

"حين افتتح خيبر، فأسهم لنا، أو قال: فأعطانا منها، وما قسم لأحد غاب عن فتح خيبر منها"؛ أي: ما أعطى له من غنيمة خيبر. "شيئًا إلا لمن شهد معه"؛ أي: حضر مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ". "إلا أصحاب سفينتنا؛ جعفرًا" نصب على أنه عطف بيان من المستثنى. "وأصحابه، أسهم لهم"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - لأصحاب سفينتنا الغُيَّبِ عن فتح خيبر. "معهم"؛ أي: مع الشاهدين لفتحها. قصة هذا: أن جعفر بن أبي طالب مع جماعة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - خرجوا من مكة إلى حبشة حين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فلما سمعوا بمهاجرة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة، وقوة دينه، هاجروا من حبشة إلى المدينة، وكانوا راكبين في السفينة، فوافق ذلك فتح خيبر، ففرح - صلى الله عليه وسلم - بقدومهم، وأعطاهم من غنيمة خيبرَ سهامهم. * * * 3060 - عن زيدِ بن خالدٍ: أنَّ رجُلًا مِنْ أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُوفِّيَ يومَ خيبرَ فذكرُوا لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صَلُّوا على صاحِبكُمْ". فتغيَّرَتْ وُجوهُ النَّاسِ لذلك، فقال: "إنَّ صاحِبَكُمْ غَلَّ في سبيلِ الله". ففتَّشْنا متاعَهُ فوجَدْنا خَرَزًا مَنْ خَرَزِ اليَهودِ لا يُساوي دِرهَمَيْنِ. "عن زيد بن خالد - رضي الله تعالى عنه -: أن رجلًا من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي يوم خيبر، فذُكِرَ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: صلوا على صاحبكم، فتغيَّرت وجوهُ الناس لذلك"؛ أي: لأمره - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليه دون مباشرته إياها بنفسه الكريمة. "فقال: إن صاحبكم غَلَّ"؛ أي: سرق.

"في سبيل الله، ففتشنا متاعه"؛ أي: فطلبنا من بين متاعه. "فوجدنا خَرَزًا من خرزِ يهود، لا يساوي درهمين". * * * 3061 - عن عبدِ الله بن عَمروٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أصابَ غنيمةً أمرَ بلالاً فنادَى في الناسِ، فيَجيئُون بغنائِمِهِمْ، فيُخمِّسُهُ ويقْسِمُهُ، فجاءَ رجلٌ بعدَ ذلكَ بزِمامٍ مِنْ شَعْرٍ فقال: هذا فيما كُنَّا أصبناهُ مِنَ الغَنيمَةِ، فقال: "أسمِعْتَ بلالاً يُنادِي ثلاثًا؟ " قال: نعم، قال: "فما مَنَعَكَ أنْ تجيءَ بهِ؟ " فاعتذَرَ، قال: "كُنْ أنتَ تجيءُ بهِ يومَ القِيامةِ، فلنْ أقبلَهُ عنك". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما - قال: كان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إذا أصاب غنيمة، أمر بلالًا فنادى في الناس، فيجيؤون بغنائمهم، فيخمسه"؛ أي: يخرج من مال الغنيمة الخمس. "ويقسمه، فجاء رجل بعد ذلك"؛ أي: بعد التخميس. "بزمام من شعر، فقال: هذا فيما كنا أصبناه من الغنيمة، قال: أسمعت بلالاً نادى ثلاثًا؟ قال: نعم [قال]: فما منعك أن تجيء به؟ فاعتذر"؛ أي: أظهر عذرًا في التأخير. "قال: كنْ أنت تجيء به يوم القيامة، فلن أقبله عنك" وإنما لم يقبله لأنه كان لجميع الغانمين فيه شركةٌ، وقد تفرقوا، ولم يمكن إيصال نصيب كلِّ واحد منهم، فتركه يزيده؛ ليكون إثمه عليه؛ لأنه هو الغاصب. * * * 3062 - عن عمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكرٍ وعمرَ حَرَّقُوا متاعَ الغالِّ وضربُوه.

"عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله تعالى عنهم -: أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - وأبا بكر وعمر حرَّقوا متاعَ الغالِّ، وضربوه "، أما عقوبة المال في نفسه تأديبًا له على سوء صنيعه؛ فلا خلاف فيه، وأما في ماله؛ فقال بعضٌ بظاهر الحديث، وقال أحمد: يحرق ماله غير حيوان ومصحف، ولا يحرق ما غل؛ لأنه حق الغانمين، يرد عليهم، فإن استهلكه غرم قيمته. وقال الأوزاعي: يحرق متاعه الذي غزا به وسرجه وإيكافه دون دابته ونفقته وسلاحه وثيابه الذي عليه. وعندنا والشافعي ومالك: لا يحرق شيء من متاعه، بل يعزَّر، وحملوا الحديث على الزجر والوعيد دون الإيجاب. * * * 3063 - عن سَمُرةَ بن جُندبٍ قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ يكْتُمْ غالًّا فإنَّهُ مثلُه". "عن سمرة بن جُندبٍ قال: كان رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول: من يكتم غالاً"؛ أي: يستره، ولا يظهر [هـ] عند الأمير. "فهو مثله"؛ أي: الكاتم مثل الغالِّ في الإثم. * * * 3064 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ شِراءَ المغانِم حتَّى تُقْسَمَ. "عن أبي سعيد - رضي الله تعالى عنه - قال: نهى رسول الله - صلى الله

تعالى عليه وسلم عن شَرْي المغانم حتى تُقسمَ". * * * 3065 - عن أبي أُمامةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنّه نهى أنْ تُباعَ السّهامُ حتَّى تُقْسَمَ. "عن أبي أمامة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن تباع السهام حتى تُقسمَ"؛ يعني: لو باع أحد نصيبه من الغنيمة قبل القسمة، لم يصحَّ؛ لعدم الملك عند من يوقف الملكَ على القسمة، [و] للجهل بعين المبيع وصفته عند الملك قبل القسمة. * * * 3066 - عن خَوْلَة بنتِ قَيْسِ قالت: سمعتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ المالَ خَضرَةٌ حُلْوَةٌ، فمنْ أصابَهُ بحقِّهِ بُورِكَ له فيهِ، ورُبَّ مُتخَوِّضٍ فيما شاءتْ بهِ نفسُهُ مِنْ مالِ الله ورسُولهِ ليسَ لهُ يومَ القِيامَةِ إلَّا النَّارُ". "عن خولة بنت قيس قالت: سمعت رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول: إن المال خضرة"؛ أي: حسنة "حلوة"، إنما وصفه بالخضرة؛ لأن العرب تسمي الشيء الناعم خضرًا، أو لتشبيهه بالخضروات في سرعة زواله. "فمن أصابه بحقه، بُورِك له فيه، ورُبَّ مُتَخِّوضٍ": وهو المتكلف للخوض، وهو: المشي في الماء وتحريكه، ثم استعمل في التلبيس بالأمر والتصرف؛ أي: رب متصرف. "فيما شاءت به نفسه من مال الله ورسوله" كالزكاة والغنيمة وغير ذلك. "ليس له يوم القيامة إلا النار". * * *

3067 - عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تنفَّلَ سَيْفَهُ ذا الفَقارِ يومَ بَدْرٍ، وهو الذي رأَى فيها الرُّؤْيا يومَ أُحُدٍ. "عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تنفل سيفه ذا الفقارِ"؛ أي: اصطفاه لنفسه "يوم بدر"، وجعله صفيةَ المغنمِ التي لا تحل لأحد دونه - صلى الله عليه وسلم -، وكان لمنبه ابن الحجاج، قتله - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بني المصطلق في السنة الثانية من الهجرة، فتنفله، وكان يشهد به الحروب دون سائر سيوفه. "وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أحد"؛ يعني: أنه - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامه أنه هز ذا الفقار، فانقطع من وسطه، ثم هزَّ [هـ] هزة أخرى، فعاد أحسن مما كان. * * * 3068 - عن رُويفِعِ بن ثابتٍ: أنَّ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " مَنْ كانَ يُؤمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلا يركبْ دابَّةً منْ فَيْءِ المُسلمينَ حتَّى إذا أعْجَفَها ردَّها فيهِ، ومنْ كانَ يُؤمنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلا يلبَسْ ثوبًا منْ فَيْءِ المُسلمينَ حتَّى إذا أخْلَقَهُ رَدَّهُ فيهِ". "عن رُوَيفع بن ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يركب دابة مِنْ فيءِ المسلمين، حتى إذا أعجفها"، من العجف: ضد السمن. "ردَّها فيه"؛ أي: الدابة في الفيء. "ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين، حتى إذا أخلقه"؛ أي: أبلاه، "رده فيه". * * *

3069 - وعن محمَّدِ بن أبي المُجالدِ، عن عبدِ الله بن أبي أوْفى قال: قلتُ: هلْ كنتمْ تُخَمِّسُونَ الطعامَ في عهدِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: أصَبنا طعامًا يومَ خَيْبَرَ، فكانَ الرجُلُ يَجيءُ فيأخُذُ منهُ مِقْدارَ ما يكفيهِ ثمَّ ينصرِفُ. "عن محمد بن أبي المجالِدِ، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: قلت: هل كنتم تخمِّسون الطعام في عهد رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -؟ قال: أصبنا طعامًا يوم خيبر، فكان الرجل يجيء، فيأخذُ منه مقدارَ ما يكفيه، ثم ينصرف". * * * 3070 - عن ابن عمرَ: أنَّ جيشًا غَنِمُوا في زَمانِ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا وعَسَلاً، فلمْ يُؤخَذْ منهمُ الخُمُس". "عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه -: أن جيشًا غنموا في زمان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم طعامًا وعسلًا، فلم يؤخذ منهم الخمس". * * * 3071 - عن القاسم مَوْلى عبدِ الرَّحمنِ عن بعضِ أَصْحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: كُنَّا نأكُلُ الجَزورَ في الغزْوِ ولا نقسِمُهُ، حتَّى إنْ كنَّا لنرجِعُ إلى رِحالِنا وأخْرِجَتُنا منهُ مَمْلوءٌ. "عن القاسم مولى عبد الرحمن، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: نأكل الجزور": جمع جزر. "في الغزو ولا نقسمه، حتى إن كنا لنرجُع إلى رحالنا، وأخْرِجَتُنا": جمع الخرج.

"منه مملوءة"، وفي بعض: (مملاة) مبالغة في الامتلاء، من ملأت الشيء. * * * 3072 - عن عبادةَ بن الصَّامتِ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "أدُّوا الخِياطَ والمِخْيَطَ، وإيَّاكمْ والغُلُولَ فإنَّهُ عارٌ على أهلِهِ يومَ القِيامَةِ". "عن عبادة بن الصامت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أدُّوا الخِياط" بكسر الخاء: جمع خيط. "والمِخْيَط" بكسر الميم وسكون الخاء: هو الإبرة. "وإياكم والغلول؛ فإنه عارُ على أهله يوم القيامة". * * * 3073 - عن عمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: دَنا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - منْ بعيرٍ فأخذَ وَبَرَةً منْ سَنامِهِ ثمَّ قال: يا أيُّها الناسُ! إنَّهُ ليسَ لي منْ هذا الفَيْءَ شيءٌ ولا هذا - ورفعَ أُصبعَهُ - إلا الخُمُسَ، والخُمُسُ مَردودٌ عليكُمْ، فأَدُّوا الخِياطَ والمِخْيَطَ"، فقامَ رجُلٌ في يدِهِ كُبَّةٌ منْ شَعرٍ فقال: أخذتُ هذهِ لأصلِحَ بها بَزذعَةً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا ما كانَ لي ولبني عبدِ المطَّلِبِ فهوَ لَكَ". فقال: أمَّا إذْ بلَغَتْ ما أَرَى فلا أَرَبَ لي فيها، ونَبَذَها. "عن عمرو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جده - رضي الله تعالى عنهم - قال: دنا النبي - صلى الله عليه وسلم - من بعير، فأخذ وَبَرَةً" بفتحات ثلاثة؛ أي: صوفًا. "من سنامه، ثم قال: يا أيها الناس! إنه ليس في من هذا الفيء شيء، ولا هذا - ورفع أصبعيه - إلا الخمس، والخمس مردود عليكم" أي: مصروف في مصالحكم من السلاح والخيل وغيرهما.

"فأدوا الخياط والمخيط، فقام رجل في يده كبةٌ من شعر"؛ أي: قطعة من غزل شعر. "فقال: أخذت هذه لأصلح بها برذعة": وهي الحلس الذي يلقى تحت الرجل. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أما ما كان لي ولبني المطلب فهو لك"؛ أي: ما كان نصيبي ونصيب بني المطلب أحللناه لك، وأما باقي أنصباء الغانمين؛ فاستحلاله ينبغي أن يكون منهم. "فقال"؛ أي: الرجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما إذا بلغت" أي: الكبة. "ما أرى" من التبعة والمضايقة فيها. "فلا أرب"؛ أي: فلا حاجةَ "لي فيها ونبذها"؛ أي: ألقاها من يده. * * * 3074 - عن عمرِو بن عَبَسةَ قال: صلَّى بنا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بَعيرٍ منَ المغنمَ فلمَّا سلَّمَ أَخَذ وَبَرَةً مِنْ جَنْبِ البَعيرِ، ثمَّ قال: ولا يَحِلُّ لي منْ غنائِمِكُمْ مثلُ هذا إلَّا الخُمُس، والخُمُسُ مَردودٌ فيكُمْ". "عن عمرو بن عَبَسةَ قال: صلى بنا رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - إلى بعير"؛ أي: استقبل في صلاته إلى جهة بعير. "من المغنم"، وجعله سترة. "فلما سلَّم أخذ وبرة من جنب البعير، ثم قال: ولا يحلُّ لي من غنائمكم مثلُ هذا إلا الخمس، والخمسُ مردودٌ فيكم ". * * *

3075 - عن جُبَيْرِ بن مُطْعِم قال: لمَّا قَسَمَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سهْمَ ذَوي القُرْبَى بينَ بني هاشِمٍ وبني المُطَّلب أتيتُهُ أنا وعُثمانُ بن عفَّانَ، فقلنا: يا رسُولَ الله! هؤلاِءِ إخواننُا منْ بني هاشِم لا نُنْكِرُ فضلَهُمْ لمكانِكَ الذي وَضَعَكَ الله منهُم، أرأَيْتَ إخواننَا منْ بني المطَّلِبِ أعطيتَهُمْ وترَكْتَنا، وإنَّما قرابَتُنا وقَرابتُهم واحِدَةٌ فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أمَّا بنو هاشِمٍ وبنو المطَّلِبِ فشيءٌ واحدٌ هكذا، وشبَّكَ بين أصابعِهِ". وفي روايةٍ: "أنا وبنو المطَّلِبِ لا نفتَرِقُ في جاهِليَّةٍ ولا إسلامٍ، وإنَّما نحنُ وهُمْ شيءٌ واحِدٌ، وشبَّكَ بينَ أصابعِهِ". "عن جُبير بن مُطعِمٍ قال: لما قسم رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - سهمَ ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب، أتيته أنا وعثمان بن عفان، فقلنا: يا رسول الله! هؤلاء إخواننا من بني هاشم، لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم"؛ أي: بنو هاشم أفضل منا؛ لأنهم أقرب إليك منا؛ لأن جدك وجدهم واحد، وهو هاشم. "أرأيت إخواننا من بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة"؛ لأن أباهم أخو هاشم وأبانا كذلك أخو هاشم. "فقال رسول الله: أما بنو هاشم وبنو المطلب فشيء واحد هكذا، وشبَّك بين أصابعه"؛ أي: أدخل أصابع إحدى يديه بين أصابع يده اليسرى؛ يعني: كما أن هذه الأصابع داخلة في بعض، فكذلك بنو هاشم وبنو المطلب كانوا متوافقين مختلطين في الكفر والإسلام، وأما غيرهم من أقاربنا؛ فلم يكن موافقًا لبني هاشم، قيل: أراد به المخالفة التي كانت بين بني هاشم وبني المطلب في الجاهلية، وذلك أن قريشًا وبني كنانة حالفت على بني هاشم وبني المطلب أن لا يناكحوهم، ولا يبايعوهم، حتى يسلموا إليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -.

9 - باب الجزية

"وفي رواية: إنا وبنو المطلب لا نفترق في جاهليةٍ ولا إسلام، وإنما نحن وهم شيء واحدٌ، وشبك بين أصابعه". * * * 9 - باب الجزية (باب الجزية) وهي من (جَزَى عنه)؛ أي: قضى؛ لأنها تجزئ عن الذمي. مِنَ الصِّحَاحِ: 3076 - عن بُرَيْدةَ - رضي الله عنه - قال؛ كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أَمَّرَ أميرًا على جَيشٍ أو سَريَّةٍ أوصاهُ، وقال: "إذا لقيتَ عدُوَّكَ فادْعُهُمْ إلى الإسلامِ، فإن أجابوكَ فاقبلْ منهُمْ، فإنْ أَبَوْا فسَلْهُمُ الجزْيَةَ، فإنْ أَبَوْا فاستَعِنْ بالله وقاتِلْهُمْ ". "من الصحاح": " عن بريدة - رضي الله تعالى عنه - قال: كان النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم - إذا أمَّر أميرًا على جيش أو سرية، أوصاه وقال: إذا لقيت عدوك، فادْعُهم إلى الإسلام"، وهذا يدل على وجوب دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال، لكن هذا إذا لم تبلغهم الدعوة، أما إذا بلغتهم فغير واجبة؛ لأنه صحَّ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أغار [على] بني المصطلق وهم غافلون. "فإن أجابوك فاقبلْ منهم، فإن أبوا فسَلْهم الجزيةَ، فإن أبوا فاستعنْ بالله، وقاتلهم". * * *

3077 - عن بَجالَةَ قال: كنتُ كاتِبًا لجَزْءِ بن مُعاويةَ عمَّ الأحنفِ، فأتانا كتابُ عُمرَ بن الخطَّابِ قبلَ موتهِ بسنَةٍ أنْ فَرِّقُوا بينَ كُلِّ ذِى مَحرمٍ مِنْ المَجُوسِ، ولَمْ يكُنْ عُمرُ أخذَ الجزْيَةَ مِنَ المَجوس حَتَّى شَهِدَ عبدُ الرحمنِ بن عَوْفٍ أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أخذَها منْ مَجوسِ هَجَرَ. "وعن بَجَالة": بفتح الباء وبالجيم: وهو بجالة بن عبدة. "قال: كنت كاتبًا لجَزْءِ": بفتح الجيم، هو الصحيح. "ابن معاوية عم الأحنف، فأتانا كتاب عمر بن الخطاب قبل موته بسنة: أنْ فرقوا" (أن) هذه مفسرة. "بين كل ذي محرم من المجوس"؛ أي: في النكاح. "ولم يكن عمر أخذ الجزية من المجوس حتى شهد عبد الرحمن بن عوف: أن رسولَ الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أخذها"؛ أي: الجزية. "من مجوس هَجَر" بكسر الهاء وفتحها وبفتح الجيم: اسم بلد في اليمن، وقيل: اسم قرية بالمدينة. اتفقوا على أخذ الجزية من اليهود والنصارى إذا لم يكونوا عربًا، ولا تؤخذ من الوثني بحال، وأوجبها الشافعي على العربي منهم أيضًا؛ لأن الجزية على الأديان لا على الأنساب، واتفقوا على أخذها من المجوس، والأكثرُ على أنهم ليسوا من أهل الكتاب. * * * مِنَ الحِسَان: 3078 - عن مُعاذٍ - رضي الله عنه - قال: بعثَني النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إلى اليَمنِ، فأمرَه أنْ يأخُذَ منْ كُلِّ حالِمٍ دينارًا أوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ.

"من الحسان": " عن معاذ - رضي الله تعالى عنه - قال: بعثني النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى اليمن، فأمره أن يأخذَ من كل حالم"؛ أي: بالغ. "دينارًا، أو عَدْله" بفتح العين؛ أي: ما يساويه. "مَعَافِرَ": قيل: نوع من ثياب اليمن، وقيل: فيه مضاف محذوف؛ أي: ثياب معافر؛ حي من همدان، غير منصرف، تنسب إليهم الثياب المعافرية. وفيه دليل على أن الجزية على البالغ من الرجال دون النساء والصبيان والمجنون والعبد، استدل الشافعي بهذا على أن أقل الجزية دينار كل سنة سواء كان غنيًا أو فقيرًا أو متوسطًا؛ لعدم الفصل بينهم. * * * 3079 - عن ابن عبَّاسٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "لا تصلُحُ قِبلَتانِ في أرضٍ واحدةٍ، وليسَ على المُسلمِ جِزْيَةٌ". "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تصلح قِبْلتان"؛ أي: أهل قبلتين؛ يعني: دينين. "في أرض واحدة"؛ أي: على جهة المظاهرة والغلبة؛ لما بينهما من التضاد، فإن ظهر الكفر واستعلى، فعلى المسلم المهاجرة، وإن ظهر الإسلام واستولى، غلب عليهم، فينبغي أن يُشارَع. وقيل: معناه راجع إلى إجلاء اليهود والنصارى من جزيرة العرب. "وليس على المسلم جزية"، قيل: المراد بها: الخراج الذي وضع على أراضي بلد فُتِحَ صلحًا على أن تكون أراضيه لأهلها بخراج مضروب عليهم، فإذا أسلموا سقط الخراج عن أراضيهم، وتسقط الجزية عن رؤوسهم حتى يجوز لهم

بيعها، بخلاف ما لو صولحوا على أن تكون الأراضي لأهل الإسلام، وهم يسكنون بها بخراج وضع عليهم أجر الأراضي، أو فتح عنوة وأسكن أهل الذمة بخراج يؤدونه، فإنه لا يسقط بإسلامهم، ولا يبيعون أرضًا. والأكثرون على أن المراد منه: أن من أسلم من أهل الذمة بعد تمام الحول قبل أدائها سقطت عنه، وبه قلنا، وقال الشافعي: لا يسقط بالإسلام ولا بالموت؛ لأنه دَينٌ حلَّ عليه أجله كسائر الديون. * * * 3080 - عن أَنسٍ قال: بعثَ النبي - صلى الله عليه وسلم - خالدَ بن الوليدِ إلى كُيْدِرِ دُومَةَ فأخذُوهُ فأتَوْهُ بهِ، فحقَنَ لهُ دمَهُ وصالَحَهُ على الجزْيَةَ. "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: بعث رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - خالدَ بن الوليد إلى كُيدرِ دومةَ" بضم الهمزة وفتح الكاف وسكون الياء وبالدال والراء المهملتين هو أكيدر بن عبد الملك الكندي، كان نصرانيًا صاحب دومة الجندل بضم الدال وقد تفتح، وهي من بلاد الشام قريب تبوك، بعث - صلى الله عليه وسلم - إليه سرية من المهاجرين وأعراب المسلمين، وجعل أبا بكر على المهاجرين، وخالدًا على الأعراب، وقال لخالد: إنك ستجده يصيد البقرَ، فانتهت السرية إلى الحصن في ليلة مقمرة وهو على السطح مع امرأته، فجاءت البقرة وجعلت تحكُّ باب قصره بقرنيها، فقالت له امرأته: هل رأيت مثل هذا قط؟ قال: لا والله، قالت: أفتتركُ مثل هذه؟ فنزل، فأمر بفرسه فأسرج، وركب معه نفرٌ من أهل بيته معهم أخٌ له يقال له: حسان، فتلقاهم خيلُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "فأخذوه"؛ أي: أكيدر، وقتلوا حسان، وكان - صلى الله عليه وسلم - وصَّاهم أن يقتلوه. "فأتوه به، وحقن له"؛ أي: حفظ عليه "دمه" عن القتل.

"وصالحه على الجزية"، وخلى سبيله، ثم إنه أسلم بعد ذلك، وحسن إسلامه. * * * 3081 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما العُشُورُ على اليَهُودِ والنَّصارَى وليسَ على المُسلمِينَ عُشُورٌ". "وعن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - قال: إنما العُشُورُ": جمع عشر، أراد به: عشر مال التجارة، لا عشر الصدقات. "على اليهود والنصارى، وليس على المسلم عُشُور"، قال الخطابي: الذي يلزم اليهود والنصارى من العشور هو ما صولحوا عليه وقت العقد، فإن لم يصالحوا على شيء، فلا يلزمهم إلا الجزية، وهذا مذهب الشافعي، وعندنا: إن أخذوا العشور منا إذا دخلنا بلادهم للتجارة، أخذنا منهم إذا دخلوا بلادنا لها، وإلا فلا. * * * 3082 - عن عُقْبةَ بن عامِرٍ قال: قلتُ يا رسُولَ الله! إنّما نمرُّ بقومٍ فلا هُمْ يُضَيفُوننا، ولا هُمْ يُؤَدُّونَ ما لنا عليهمْ مِنَ الحق، ولا نحنُ نأخُذُ منهمْ، فقالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ أَبَوْا إلَّا أنْ تأخُذُوا كَرْهًا فخُذُوا". "عن عقبة بن عامر - رضي الله تعالى عنه - قال: قلت: يا رسول الله! إنما نمرُّ بقوم، فلا هم يضيفوننا، ولا هم يؤدُّون ما لنا عليهم من الحق"؛ أي: حق الضيافة، قيل: كان مرورهم على قوم من أهل الذمة، وقد كان شرط الإمام عليهم ضيافة من يمر بهم. "ولا نحن نأخذُ منهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن أبَوا إلا أن تأخذوا منهم كرهًا،

10 - باب الصلح

فخذوا"، وأما إذا لم يكن قد شُرِط عليهم، والنازلُ غير مضطر، فلا يجوز أخذ مال الغير بغير طيبة نفس منه. قال أبو عيسى: معنى الحديث: أنهم كانوا يخرجون في الغزو، فيمرون بقوم، ولا يجدون من الطعام ما يشترون بالثمن، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن أبوا أن يبيعوا إلا أن تأخذوا كرهًا فخذوا"، هكذا روي في بعض الحديث مفسَّرًا. * * * 10 - باب الصُّلحِ (باب الصلح) مِنَ الصِّحَاحِ: 3083 - عن المِسْوَر بن مَخْرَمَة ومَرْوانَ بن الحَكَم قالا: خَرَجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عامَ الحُدَيْبيةِ في بِضْعَ عَشْرَةَ مئةً منْ أصحابهِ، فلما أتى ذا الحُلَيْفةِ قلَّدَ الهَدْي وأَشْعَرَه وأحرمَ منها بعُمرةٍ، وسارَ حتَّى إذا كانَ بالثَّنيَّةِ التى يُهبَطُ عليهمْ مِنها بَرَكَتْ به راحلتُه، فقال النَّاسُ: حَلْ حَلْ خَلأَتِ القَصْواءُ خلأَتِ القَصْواءُ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " ما خلأتِ القَصْواءُ وما ذاكَ لها بخُلُقٍ، ولكنْ حَبَسَها حابسُ الفيلِ"، ثم قال: " والذى نَفْسي بيدِهِ لا يَسْألوني خُطَّةً يُعَظِّمون فيها حُرُماتِ الله إلا أعْطَيْتُهم إيَّاها". ثمَّ زَجَرَها فوثَبتْ، فعَدَلَ عنهمْ حتَّى نزَلَ بأقصَى الحُدَيْبيةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ يتَبَرَّضه النَّاسُ تَبرُّضًا، فلم يُلَبثْهُ الناسُ حتَّى نزَحوهُ وشُكِيَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - العَطَشُ، فانتَزَعَ سَهْمًا من كِنانتِهِ ثمَّ أمرَهمْ أنْ يَجعلوهُ فِبهِ، فَوَالله ما زالَ يَجيشُ لهم بالرِّيِّ حتَّى صَدَروا عنهُ، فبَيْنما هُمْ كذلك إِذْ جاءَ بُدَيْلُ ابن وَرْقاءَ الخُزاعيُّ في نَفَرٍ مِنْ خُزاعةَ، ثم أتاه عُرْوةُ بن مسعودٍ وساقَ الحديثَ

إلى أنْ قال: إذْ جاء سُهيلُ بن عَمْرٍو، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اكتُبْ هذا ما قاضى عليهِ مُحمدٌ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ". فقال سُهيل: والله لو كنَّا نَعلمُ أنَّكَ رسولُ الله ما صَدَدْناكَ عن البيتِ ولا قاتَلْناك، ولكن اكتُبْ محمدُ بن عبْدِ الله، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "والله إنِّي لَرسولُ الله وإنْ كذَّبتُموني، اكتُبْ محمدُ بن عبدِ الله ". فقال: سُهيل: وعلى أنْ لا يأْتِيكَ منَّا رجُل وإنْ كانَ على دينكَ إلَّا ردَدْتَهُ علينا. فلما فَرَغَ مِنْ قضيَّةِ الكِتابِ قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأصْحابهِ: "قوموا فانحَرُوا ثمَّ احْلقُوا". ثم جاء نِسوةٌ مؤْمِناتٌ، فأنزلَ الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ. . .} [الممتحنة: 10] الآية. فنهاهُم الله - عز وجل - أنْ يَردُّوهُنَّ وأَمَرهُم أَنْ يَرُدُّوا الصَّداقَ. ثم رَجَعَ إلى المدينةِ فجاءَهُ أبو بَصيرٍ رجلٌ منْ قُرَيْشٍ وهو مُسلمٌ فأرسَلوا في طَلَبهِ رَجُلَيْنِ، فدفعَهُ إلى الرَّجُلَين، فخَرجا بهِ حتَّى بَلَغا ذَا الحُلَيْفة نزلُوا يأكُلونَ منْ تمرٍ لهمْ، فقال أبو بَصيرٍ لأحدِ الرجُلَين: والله إنِّي لأَرى سَيفَكَ هذا يا فُلانُ جيدًا، فَأَرِنى أنظُرْ إليهِ، فأمْكَنَهُ منهُ، فضَرَبَهُ حتَّى بَرَدَ، وفرَّ الآخَرُ حتَّى أتى المدينةَ، فدخَلَ المَسجدَ يَعْدو، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لقد رأَى هذا ذُعْرًا". فقالَ: قُتِلَ والله صاحِبي وإنّي لَمقتولٌ. فجاءَ أبو بَصيرٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَيلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَربٍ لو كانَ لهُ أحدٌ". فلمَّا سمعَ ذلكَ عَرَفَ أنَّهُ سيَرُدُّهُ إليهمْ، فخَرَجَ حتَّى أتى سِيفَ البحرِ، قال: وتَفَلَّتَ أَبو جَنْدَلِ بن سُهيلٍ فلَحِقَ بأبي بَصيرٍ، فجعلَ لا يخرجُ من قُرَيشٍ رجل قد أَسْلَمَ إلَّا لَحِقَ بأَبى بَصيرٍ، حتَّى اجتمعَتْ منهُمْ عِصابة، فوالله ما يَسْمعونَ بعِيرٍ خَرَجَتْ لقُرَيْشٍ إلى الشّامِ إلَّا اعترَضُوا لها، فقَتَلُوهم وأَخَذوا أموالَهم، فأرسلَتْ قُريشٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - تُناشِدُهُ الله والرَّحِمَ لمَّا أرسلَ، فمنْ أتاهُ فهوَ آمِنٌ، فأرسلَ النبىُّ - صلى الله عليه وسلم - إليهم. "من الصحاح": " عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - عام

الحديبية): بتخفيف الياء، وكثير من المحدثين يشددونها، وهي قرية قريبة من مكة خارجة من الحرم. "في بضع"؛ أي: مع بضع. "عشرة مئة من أصحابه" نصب (مئة) على التمييز. وروي عن كثير من الصحابة: أنهم كانوا ألفًا وأربع مئة رجل. "فلما أتى ذا الحُليفة": موضع على ميل من المدينة. "قلَّد الهدي"، تقليده: أن يعلق شيء على عنق البدنة؛ ليعلم أنها هدي. "وأشعر"، إشعار الهدي: أن يُطعَن في سنامه الأيمن حتى يسيلَ منه الدم؛ ليعلم أنه هدي. "فأحرم منها"؛ أي: من ذي الحليفة. "بعمرة، وسار حتى إذا كان بالثنية": وهي الجبل الذي عليه الطريق. "التي يهبط عليهم"؛ أي: ينزل على قريش؛ أعني: أهل مكة. "منها"؛ أي: من تلك الثنية. "بركت به راحلته"؛ أي: استناخت ناقته بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، والباء للمصاحبة؛ أي: في الحالة التي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - على ظهر راحلته. "فقال الناس: حَلْ حَلْ" بالحاء المهملة المفتوحة واللام الخفيفة: كلمة زجر للبعير إذا حثثته على السير، والثانية تأكيد في الزجر، وتنون الأولى إذا وصلت بالأخرى، والمحدثون يسكِّنونها في الوصل. "خلأت القصواءُ"؛ أي: حَرَنَت وبركت من غير علة، والقصواء: الناقة المقطوع طرف أذنها. قال الجوهري: كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ناقة تسمى قصواء، ولم تكن مقطوعة الأذن.

"فقال النبي - صلى الله تعالى عليه وسلم -: ما خَلأَت القصواءُ, وما ذاك لها بخلق" بضم الخاء واللام. "ولكن حبسها حابسُ الفيل"؛ أي: منعها من السير - كيلا تدخلَ مكة - مَنْ منع أصحاب اللَّيل من مكة، وهو الله؛ لئلا تقع محاربة وإراقة دم في الحرم قبل أوانه. "ثم قال: والذي نفس محمد بيده، لا يسألونني"؛ أي: لا تطلب أهل مكة مني "خُطَّة": وهي - بضم الخاء المعجمة - الأمر العظيم، أريد به: المصالحة. "يعظمون فيها حرمات الله": جمع حرمة، كـ (ظلمات)، أراد بها: حرمة الحرم والإحرام والشهر بالكفِّ فيها عن القتال. "إلا أعطيتهم إياها"؛ أي: تلك الخطة المسؤولة، عبَّر عن المستقبل بالماضي مبالغة. "ثم زجرها"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الناقة. "فوثبت"؛ أي: طفرت. "فعدل عنهم"؛ أي: انحرف - صلى الله عليه وسلم - ومال عن أصحابه، وذهب أمامهم، وتوجَّه غير جهة أهل مكة. "حتى نزل بأقصى الحديبية على ثَمَدٍ" بفتح الثاء والدال المهملة؛ أي: على ماء قليل، وإنما وصفه بقوله: "قليل الماء"؛ إرادة للتأكيد، والمراد هنا: البئر. "يتبرَّضُه الناس تبرُّضًا"؛ أي: يأخذونه قليلًا قليلًا، أو يشربونه كذلك. "فلم يلبثه الناس"؛ أي: فلم يجعلوا لبثَ ذلك الماء طويلًا في تلك البئر. "حتى نزحوه"؛ أي: نزعوه، وأفرغوه منها عن قريب.

"وشكوا إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم العطش، فانتزع سهمًا من كنانته": وهي التي يجعل فيها السهام. "ثم أمرهم أن يجعلوه فيه"؛ أي: ذلك السهم في البئر. "فو الله ما زال يجيشُ"؛ أي: يفور ويرتفع ويمتد. "لهم بالري" متعلق بـ (يجيش)؛ أي: بماء يرويهم. "حتى صدروا عنه"؛ أي: رجعوا عن ذلك الماء راضين، فما لهم حاجةٌ إلى الماء. "فبينما هم كذلك إذ جاء بُدَيل" - بصيغة التصغير والتخفيف - "ابن ورقاء الخزاعي": بضم الخاء المعجمة. "في نفر من خزاعة" بعثه أهل مكة بالرسالة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. "ثم أتاه عروة بن مسعود، وساق الحديث" من كلام المؤلف أو الراوي؛ أي: ساق الراوي هذا الحديث طويلًا. "إلى أن قال: إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أكتب هذا ما قاضى عليه" من (المقاضاة)؛ لأن القضية كانت بينه وبين أهل مكة، من (قضى الحاكم): إذا فصل في الحكم؛ أي: هذا ما صالح عليه. "محمد رسول الله" مع أهل مكة. "فقال سهيل: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت"؛ أي: ما منعناك عن زيارة الكعبة. "ولا قاتلناك، اكلتب: محمد بن عبد الله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب: محمد بن عبد الله، فقال سهيل: وعلى أن لا يأتيك" معطوف على مقدر؛ أي: أكتب: على أن تأتينا من القابل، وعلى أن [لا] يأتيك.

"منا رجل"، وروي: (واحد) مكان رجل. "وإن كان على دينك إلا رددته علينا، فلما فرغ من قضية الكتاب"؛ أي: من حكم كتبة كتاب الصلح. "قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - لأصحابه: قوموا فانحروا"؛ أي: اذبحوا. "ثم احلقوا"، وهذا يدل على أن مَنْ أحرم بحج أو عمرة، ثم منع عن إتمامهما، فإنه ينحر الهدي في مكانه الذي أُحصِر فيه، ويفرِّقُ اللحمَ على مساكين ذلك الموضع، ويحلق، ويتحلل من إحرامه، وإن لم يبلغ هديه الحرم. "ثم جاء"؛ أي: من جانب الكفار. "نسوة مؤمنات، فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} [الممتحنة: 10] الآية، فنهاهم الله تعالى أن يردوهن"، اختلفوا في دخولهن في شرطهم مع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: على أن لا يأتيك منا أحد؛ قيل: لم يدخلن في ذلك الشرط؛ لأن المراد: الرجال، فعلى هذا لا إشكال في عدم ردهن. وقيل: يدخلن في الشرط؛ لأن لفظ (أحد) يتناولهن، فتكون الآية ناسخةٌ لذلك. "وأمرهم أن يردوا الصداق"؛ أي: ما أعطاهن أزواجهن من الصداق إذا جاؤوا في طلبهن، إن كانوا قد سلَّموا الصداق إليهن، وإلا لا يُعطَون شيئًا. "ثم رجع"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "إلى المدينة، فجاءه أبو بَصير" - بفتح الباء - "رجل من قريش وهو مسلم، فأرسلوا"؛ أي: أهل مكة. "في طلبه رجلين، فدفعه"؛ أي: ردَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بصير" إلى الرجلين،

فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة، نزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً، أرنى أنظرْ إليه، فأمكنه منه"؛ أي: رفع السيف إلى أبي بصير. "فضربه"؛ أي: أبو بصير ذلك الكافر. "حتى برد"؛ أي: مات، وسكنت منه حركة الحياة، وهذا من إطلاق اللازم على الملزوم. "وفرَّ الآخرُ حتى أتى المدينة، فدخل المسجدَ يعدو، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لقد رأى هذا ذُعراً"؛ أي: خوفًا. "فقال: قتل والله صاحبي، وإني لمقتول"؛ يعني: لو لم أفرَّ دنوت أن أقتل. "فجاء أبو بصير، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويلَ أمه": بالنصب على المصدر، وبالرفع على الابتداء، والخبر محذوف، معناه في الأصل: الحزن والمشقة والهلاك، وقد يراد به التعجب، وهو المراد؛ فإنه - صلى الله عليه وسلم - تعجَّب من حسن نهضته للحرب، وجودة معالجته لها. "مِسْعَرُ": بكسر الميم وسكون السين وفتح العين، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هو مسعر "حرب": وهو الذي يحمي الحرب، ويهيج الشر، وسعرت النار والحرب؛ أي: أوقدتها، والمسعر والمسعار: ما تحرَّك به النار، يصفه بالمبالغة في الحرب والنجد [ة]. "لو كان له أحدٌ"؛ أي: لأبي بصير صاحبٌ ونصيرٌ ينصره، وقيل: معناه: لو كان له أحدٌ يعرفه أن لا يرجَع إليَّ حتى لا أرده إليهم، وهذا أنسبُ بسياق الحديث. "فلما سمع"؛ أي: أبو بصير "ذلك" القولَ من النبي - صلى الله عليه وسلم -.

"عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتى سِيْفَ البحر" بكسر السين وسكون الياء؛ أي: ساحل البحر. "قال"؛ أي: الراوي. "وانفلت"؛ أي: ففرَّ. "أبو جندل بن سهل" من أيدي المشركين. "فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجلٌ قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عِصابةٌ": بكسر العين؛ أي: جماعة. "فو الله ما يسمعون بعِيرٍ": وهي - بكسر العين المهملة وسكون الياء -: الإبل، وقيل: الحمير أيضًا بأحمالها، والمراد هنا: القافلة. "خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها"؛ أي: استقبلوا عليهم بالمحاربة. "فقتلوهم، وأخذوا أموالهم، فأرسلت قريشٌ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - تناشده الله والرحمَ"؛ أي: يحلفونه بالله وبحق القرابة التي بينهم وبينه - صلى الله عليه وسلم -. "لما أرسل ": بتشديد الميم بمعنى: ألا؛ أي: لا يعاملهم بشيء إلا بإرساله "إليهم"؛ أي: إلى أبي بصير وأتباعه أحدًا، وردهم إلى المدينة؛ كيلا يتعرضوا لهم في سبيلهم. "فمن أتاه"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - من المسلمين منهزمًا من أيدي الكفار. "فهو آمن": من طلبهم له، ومن عدم رده - صلى الله عليه وسلم - إليهم. "فأرسل النبي - صلى الله عليه وسلم - إليهم "، وردهم إلى المدينة. * * * 3084 - عن البراءَ بن عازِبٍ قال: صالحَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المُشْرِكينَ يومَ

الحُدَيْبيةِ على ثلاثةِ أشياءَ: على أَنَّ مَنْ أتاهُ مِنَ المُشركينَ ردَّهُ إليهِمْ، ومَنْ أتاهُمْ مِنَ المُسلمينَ لم يَرُدُّوه. وعلى أنْ يدخُلَها مِنْ قابلٍ ويُقيمَ بها ثلاثةَ أَيَّامٍ، ولا يدخُلَها إلَّا بجُلُبَّانِ السِّلاحِ: السَّيْفِ والقَوسِ ونحوه. فجاءَ أبو جَندَلٍ يَحْجُلُ فِى قُيودِهِ فردَّهُ إليهمِ. "عن البراء بن عازب قال: صالح النبي - صلى الله عليه وسلم - المشركين يوم الحديبية على ثلاثة أشياء: على أن من أتاه من المشركين ردَّه إليهم، ومن أتاهم من المسلمين لم يردوه، وعلى أن يدخلها"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة. "من قابلٍ"؛ أي: في السنة القابلة. "ويقيم بها"؛ أي: بمكة. "ثلاثة أيام، ولا يدخلها إلا بجُلبَّان السلاح" بضم الجيم واللام وتشديد الباء: وهو جراب من أديم يُوضَع فيه السيف مغمودًا، ويطرح فيه السوط والآلات، فيعلَّق من آخرة الرجل، ومن عادة العرب أن لا يفارقهم السلاح في السلم والحرب. "السيف": بدل من (السلاح). "والقوس ونحوه": والمراد: أنهم لا يدخلون مكة كاشفي سيوفهم متأهبين للحرب، وإنما شرطوه ليكون إمارةً للسلم، فلا يُظَنَّ أنهم دخلوها قهرًا، واشتراطُهُ - صلى الله عليه وسلم - لهذه الشروط كان لضعف حال المسلمين وعجزهم عن مقاومة الكفار ظاهرًا. "فجاء أبو جندل"؛ بن سهل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة متفلتًا منهم بعد أن أخذه أهل مكة، وقيَّده لإسلامه. "يَحْجُلُ" بفتح الياء وسكون الحاء قبل الجيم المضمومة: هو مشي المقيد.

"في قيوده"؛ أي: يمشي كمشي الأعرج؛ لقيد رجله. "فرده إليهم": فإنه لما رده - صلى الله عليه وسلم - وفاء بشرطه، انفلت كرة أخرى، فجاء سيف البحر، ولحق أبا بصير، كما ذكر. * * * 3085 - وعن أنسٍ: أنَّ قُرَيْشًا صالَحُوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فاشْتَرَطُوا عَلَى النَّبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّ مَنْ جاءَنا منكُمْ لم نَرُدَّهُ عليكُمْ، ومَنْ جاءكمْ منَّا رَدَدْتُمُوهُ علينا، فقالوا يا رسُولَ الله! أَنَكْتُبُ هذا؟ قالَ: "نعَمْ، إنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إليهمْ فَأَبْعَدَهُ الله، ومَنْ جاءَنا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ الله لهُ فَرَجًا ومَخْرَجًا". "وعن أنس - رضي الله تعالى عنه -: أن قريشًا صالحوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشترطوا على النبي - صلى الله عليه وسلم - على أنَّ من جاءنا منكم لم نرده عليكم، ومن جاءكم منا رددتموه علينا، قالوا"؛ أي: الصحابة لرسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - استبعادًا لهذه الشرط. "يا رسول الله! أتكتب هذا؟ قال: نعم؛ إنه من ذهب منا إليهم"؛ أي: إلى الكفار واختار دينهم. "فأبعده الله"؛ لأنه مرتد. "ومن جاءنا منهم"؛ أي: من أهل مكة بعد أن أسلم، ثم رددناه وفاءً بالعهد. "سيجعل الله له فرجًا ومخرجًا"؛ أي: خروجًا؛ يعني: سوف يخلِّصه الله من أيديهم. * * *

3086 - وقالت عائِشَةُ في بَيْعَةِ النِّساءِ: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَمتحِنُهُنَّ بهذِه الآية {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ ...} [الممتحنة: 12] الآية، فمَنْ أَقَرَّتْ بهذا الشَّرْطِ منْهُنَّ قال لها: "قدْ بايَعْتُكِ" كلامًا" يُكَلِّمُها بهِ، والله ما مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امرأةٍ قطُّ في المُبايَعَة. "وقالت عائشة في بيعة النساء: إن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان يمتحنهنَّ بهذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12]، فمن أقرت بهذا الشرط منهن، قال لها: قد بايعتك كلامًا": نصب على أنه مصدر (قال) من غير لفظه. "يكلمها به"؛ أي: بعقد المبايعة، أو بذلك الكلام. "والله ما مسَّت يده يدَ امرأة قطُّ في المبايعة". * * * مِنَ الحِسَان: 3087 - عن المِسْوَرِ ومروانَ: أنَّهم اصْطَلَحُوا على وضْعِ الحَرْبِ عَشْرَ سنين يأمَنُ فيهِنَّ النَّاسُ، وعلى أنَّ بَيْننا عَيْبةً مَكفوفةً، وأنَّهُ لا إسْلالَ ولا إغلالَ. "من الحسان": " عن المسور ومروان أنهم"؛ أي: أهل مكة. "اصطلحوا"؛ أي: صالحوا مع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -. "على وضع الحرب"؛ أي: على ترك المحاربة. "عشر سنين": قال الشافعي: أقصى المدة التي تُصالَح الكفارُ فيها عند الضعفِ عشرُ سنين، وقيل: إلى أربع سنين، وقيل: إلى ثلاث سنين، وقيل: لا حدَّ له معلوم، بل بحسب ما يراه الإمام.

وأما في حال قوة الإسلام؛ فلا يصالحون سنة بلا جزية، ويجوز إلى أربعة أشهر، ولو صُـ[ـو] لحوا إلى مدة - على أنه لو بدا لنا النقضُ فعلنا - جاز. ولا يصالحهم الإمام عند ضعفنا على النساء خشيةَ إصابة المشركين إياها، وخشية ردتها إذا خُوِّفت أو أكرهت. لضعف قلبها، وقلة هدايتها إلى التورية بكلمة الكفر بخلاف الرجل. "يأمن فيهن الناس، وعلى أن بيننا عَيْبة": وهي - بفتح العين المهملة ثم السكون -: ما يجعل فيه الثياب. "مكفوفة"؛ أي: مشدودة؛ يعني: يُحفَظُ العهد والشرط ولا ننقضه، كما يُحفظ ما في العيبة بشد رأسها؛ يعني: لا تُذكَر العداوة التي كانت بيننا قبل هذا، ولا ينتقم بعضنا بعضًا، فكان بيننا صدر سليم وعقائد صحيحة في المحافظة على العهد الذي عقدناه بيننا. "وأنه لا إسلالَ"؛ أي: لا سرقة. "ولا إغلالَ"؛ أي: ولا خيانة؛ يعني: لا يأخذ بعضنا مال بعض؛ لا في السر، ولا في العلانية. وقيل: الإسلال: من سل السيوف، والإغلال: لبس الدروع؛ أي: لا يحارب بعضنا بعضًا، فلما مضى بعد هذا الصلح ثلاثُ سنين، نقضوا عهدهم بإعانتهم بني بكر على حرب خزاعة حلفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ومحاربُ حليف الشخص كمحارب ذلك الشخص. * * * 3088 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا مَنْ ظَلَمَ مُعاهدًا أو انتقَصَهُ، أو كلَّفَهُ فوقَ طاقتِهِ، أو أخذَ منهُ شيئًا بغيرِ طيبِ نَفْسٍ، فأنا حَجيجُهُ يومَ القِيامَةِ".

"وقال: ألا مَنْ ظلم معاهدًا أو انتقضه": بالضاد المعجمة؛ أي: نقض من الأجل المضروب لأمنه وأمانه، أو بالصاد المهملة؛ أي: انتقص حقه. "أو كلفه فوق طاقته": بأن أخذ جزيته أكثر مما يطيق أداءه إن كان ذميًا، وفوق عشر مال تجارته إن كان حربيًا جاء للتجارة، وجرى بيننا وبينه عهد. "أو أخذ منه شيئًا بغير طيبة نفس، فأنا حجيجُهُ يوم القيامة"؛ أي: محاججه؛ مبالغة في إظهار الحجة عليه، والحجة: الدليل. * * * 3089 - عن أُمَيْمةَ بنتِ رُقَيقةَ قالت: بايعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نِسْوَةٍ، فقال لنا: فيما اسْتَطَعْتُنَّ وأطَقْتُنَّ. قلتُ: الله ورسُولُهُ أرحَمُ بنا مِنَّا بأنفُسِنا، قلتُ: يا رسُولَ الله! بايعْنا، تعني: صافِحْنا، قال: "إنَّما قَوْلي لمئةِ امرأَةٍ كقَوْلي لامرأةٍ واحِدةً". "عن أُمَيمة بنت رُقَيقة قالت: بايعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في نسوة"؛ أي: مع نسوة. "فقال لنا: فيما استطعتن": متعلق بمحذوف؛ أي: أبايعكن فيما استطعتن. "وأطقتن": كأنه - صلى الله عليه وسلم - أشفق عليهن حيث قيَّد المبايعة في التكاليف بالاستطاعة. "قلت: الله ورسوله أرحمُ بنا منا بأنفسنا، قلت: يا رسول الله! بايعنا؛ تعني: صافحنا"؛ يعني: فرع يدك يزيد كل واحدة منا. "قال: إنما قولي لمئة امرأة كقولي لامرأة واحدة": فإن قلت: كيف طابق قوله: "إنما قولي" جوابًا عن قولها: صافحنا؛ لأنها طلبت المصافحة باليد، وأجابها بالقول؟ قلت: هذا ردٌّ لقولها: (صافحنا) بوجهين:

11 - باب الجلاء: إخراج اليهود من جزيرة العرب

أحدهما: أن المبايعة مقصورة على القول دون الفعل. وثانيهما: أن قولي لك هذا بمحضر من النساء كقولي لسائرهن. * * * 11 - باب الجلاء: إخراجِ اليهودِ من جزيرةِ العَرَبِ (باب إخراج اليهود من جزيرة العرب) مِنَ الصِّحَاحِ: 3090 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: بَيْنا نحنُ في المسْجدِ، خَرَجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: اِنطلِقُوا إلى يَهُودَ فَخَرَجْنا معهُ حتَّى جَئْنا بَيْتَ المدراسِ، فقامَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "يا مَعْشَرَ يَهُودَ! أسْلِمُوا تَسْلَمُوا، واعْلَمُوا أن الأَرضَ للهِ ولرسُولِهِ، وإنَّي أُريدُ أَنْ أُجْلِيَكُم مِنْ هذه الأرْضِ، فَمَنْ وَجَدَ منكُمْ بمالِهِ شيئًا فلْيَبعْه". "من الصحاح": " عن أبي هريرة قال: بينا نحن في المسجد إذ خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: انطلقوا إلى يهود خيبر، فخرجنا معه حتى جئنا بيتَ المدراس" بكسر الميم: موضع الدرس والقراءة؛ أي: البيت الذي يجتمعون لدراسة التوراة ويقرءون فيه. قال أبو موسى: المدارس: صاحب دراسة كتبهم. "فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا معشر يهود! أسلموا"؛ أي: ادخلوا في دين الإسلام طائعين. "تسلموا"؛ أي: تنجوا حسن الذل في الدنيا، والعذاب في الآخرة.

"اعلموا أن الأرض لله ولرسوله، وإني أريد أن أجليكم"؛ أي: أخرجكم. "من هذه الأرض"؛ أي: من جزيرة العرب، والخطابُ لمن بقي في المدينة وحواليها من يهود بني قينقاع وغيرهم بعد إخراج بني النضير، وقيل: بني قريظة. "فمن وجد منكم مسألة شيئًا"؛ أي: وجد شيئًا من ماله مما لا يتيسر له نقلُهُ كالأراضي والأشجار، "فليبعه". * * * 3091 - عن ابن عمرَ قالَ: قامَ عمرُ خَطِيبًا فَقَالَ: إنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ عامَلَ يَهُودَ خَيْبَرَ على أموالِهم وقال: نُقِرُّكمْ على ما أقرَّكُمُ الله. وقد رأَيْتُ إجلاءَهُم، فلمَّا أَجْمَعَ عُمرُ على ذلِكَ أتاهُ أحدُ بني أبي الحُقَيقِ فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ! أتُخْرِجُنا وقد أقرَّنا محمدٌ وعامَلَنا على الأموالِ؟ فقالَ عمرُ: أَظَنَنْتَ أنِّي نسيتُ قولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ بكَ إذا أُخْرِجْتَ من خَيْبَرَ تَعْدُو بكَ قَلُوصُكَ ليْلةً بعدَ لَيْلةٍ. فقال: هذهِ كانتْ هُزَيْلةً من أبي القاسم. قالَ: كذبتَ يا عدوَّ الله. فأجلاهم عمرُ، وأَعْطاهم قِيمةَ ما كانَ لهمْ مِنَ الثمَرِ مالاً وإبلاً وعُروضًا من أقتابٍ وحِبالٍ وغيرِ ذلك. "عن ابن عمر قال: قام عمر خطيبًا فقال: إن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - كان عامل يهود خيبر على أموالهم"؛ أي: ساقاهم على الكروم والنخيل. "وقال: نقركم على ما أقركم الله"؛ أي: ما شاء الله بإعطائكم الجزية؛ أي: ما دمتم تعطونها، وقيل: معناه نترككم ما ترككم الله؛ أي: ما لم يأمرنا الله بإخراجكم من جزيرة العرب.

"وقد رأيتُ إجلاءَهم": هذا كلام عمر؛ أي: قال: رأيتُ المصلحةَ في إجلاءهم. "فلما أجمع عمر"؛ أي: عزم. "على ذلك"؛ أي: إجلائهم. "أتاه أحدُ بني أبي الحقيق": بضم الحاء المهملة وفتح القاف وسكون الياء. "فقال: يا أمير المؤمنين! أتخرجنا وقد أقرَّنا محمد، وعاملنا على الأموال؟ "؛ أي: جعلنا عاملين على أرض خيبر بالمساقاة. " فقال عمر - رضي الله عنه -: أظننْتَ أني نسيتُ قول رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: كيف بك"؛ أي: كيف يكون حالك "إذا أُخرِجتَ من خيبر تعدو"؛ أي: تسرع. "بك قَلوصُك": وهو - بفتح القاف -: المفتي من الإبل، وقيل: الأنثى منها. "ليلة بعد ليلة": وهذا مقول قول رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - لهذا اليهود [ي]. "فقال: هذه كانت هُزَيلةٌ": تصغير (هزلة): مرة من الهزل نقيض الجد؛ يعني: هذه الكلمة كانت على طريق المزاح. "من أبي القاسم، قال: كذبت يا عدو الله! فأجلاهم عمر، وأعطاهم قيمة ما كان لهم من الثمر": المراد: ما ينبت لهم باعتمال في النخيل بالسقي والتدبير والتأبير وغير ذلك من حصة التمر في سنتهم تلك. "مالًا وإبلاً وعروضًا من أقتاب": جمع قتب، وهو للجمل كالإكاف لغيره.

"وحبال" بكسر الحاء: جمع حبل. "وغير ذلك": وهذا الإجلاء إنما يكون بعد فراغهم من العمل، وفيه دليلٌ على أن أراضيهم ونخيلهم أُخِذت منهم عنوة، لم يكن لهم فيها حقٌّ سوى ما شرطوا عليه بالاعتمال. * * * 3092 - عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَوْصى بثَلاثةٍ قال: أخْرِجُوا المُشْرِكينَ مِنْ جَزيرَةِ العَرَبِ، وأَجِيزوا الوَفْدَ بنحْوِ ما كُنتُ أُجيزُهُم. قال ابن عبَّاسٍ: وسكتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أو قال: فأُنْسِيتُها. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - أوصى بثلاثة قال: أخرجوا المشركين": يريد بهم: اليهود والنصارى. "من جزيرة العرب": وهي [على] ما حكي عن مالك: مكة والمدينة واليمامة واليمن. "وأجيزوا الوفد"؛ أي: أعطوا الرسلَ من النفقة. "بنحو ما كنتُ أجيزهم"؛ أي: أعطيهم، وإنما خصَّ ذلك بالوصية لما فيه من المصلحة العظيمة؛ لأن الوافد إذا لم يُكرَمْ رجع إلى قومه بما يفتِّرُ رغبتهم في الإسلام، وفي إجازته ترغيبٌ لمن أرسلوا الوافد في الإسلام، فإنه سفيرهم، ففي ترغيبه ترغيبهم. "قال ابن عباس: وسكت عن الثالثة، أو قال: فأنسيتها": على صيغة المجهول. * * *

3093 - عن جابرِ بن عبدِ الله قال: أخبرني عمرُ بن الخَطَّابِ - رضي الله عنه - أنَّه سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لأخْرِجَنَّ اليهودَ والنَّصارَى مِنْ جَزيرَةِ العَرَبِ حتَّى لا أدعَ فيها إلَّا مُسلِمًا". وفي روايةٍ: "لَئِنْ عِشْتُ إنْ شاءَ الله لأخرِجَنَّ اليهودَ والنَّصارَى منْ جَزِيرَةِ العَرَبِ". "عن جابر بن عبد الله قال: أخبرني عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنهم -: أنه سمع رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - يقول: لئن بقيت لأخرجنَّ اليهودَ والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدعَ"؛ أي: لا أترك "فيها إلا مسلمًا، وفي رواية: لئن عشت إن شاء الله ": قيد للإخراج. " لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب". مِنَ الحِسَان: * * * 3094 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تكونُ قِبلتانِ في بلدٍ واحِدٍ". "من الحسان": " عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم -: لا تكون قبلتان"؛ أي: لا يجوز أن يسكن المسلم وغير المسلم. "في بلدة واحدة": وهذا مختص بجزيرة العرب. * * *

12 - باب الفيء

12 - باب الفَيْء (باب الفيء) وهو المال الحاصل للمسلمين من الكفار من غير جريان حرب. مِنَ الصِّحَاحِ: 3095 - عن مالِكِ بن أَوْسِ بن الحَدَثان قال: قال عمرُ - رضي الله عنه -: إنَّ الله قَدْ خَصَّ رسولَهُ في هذا الفَيءِ بشيءٍ لم يُعْطِهِ أَحَدًا غيْرَه، ثم قرأ {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} - إِلَى قَوْلهِ - {قَدِيرٌ}، فكانَتْ هذهِ خالِصَةً لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يُنْفِقُ على أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهم مِنْ هذا المالِ، ثم يأْخُذُ ما بَقيَ فيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مالِ الله. "من الصحاح": " عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: قال عمر: إن الله قد خصَّ رسوله في هذا الفيء بشيء لم يعطه"؛ أي: الله تعالى ذلك الشيء. "أحدًا غيره"؛ أي: غير رسوله. "ثم قرأ: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} "؛ أي: ما نفلَ (¬1) الله رسوله من أموال الكفار. "إلى قوله: {قَدِيرٌ} [الحشر: 6]، فكانت هذه": إشارة إلى السهام المخصوصة به - صلى الله عليه وسلم -، وهو أحدٌ وعشرون سهمًا من خمسة وعشرين سهمًا. "خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: مختصة به، وليس لأحد من الأئمة ¬

_ (¬1) في "ت" و"غ ": "دفع"، ولعل الصواب المثبت، والله أعلم.

بعده - صلى الله عليه وسلم - التصرف فها تصرفَهُ - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدل على أن أربعة أخماس الفيء كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصة (¬1). "ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال، ثم يأخذ ما بقي فيجعله مَجْعَلَ مالِ الله"؛ أي: فيصرفه في مصالح المسلمين، ويقسم الخمسَ منه على خمسة أسهم: سهم له - صلى الله عليه وسلم -، وسهم لأقربائه من بني هاشم وبني المطلب، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لأبناء السبيل. * * * 3096 - عن مالِكِ بن أَوْسِ بن الحَدَثان، عن عُمَرَ قالَ: كانتْ أموالُ بني النَّضيرِ ممَّا أفاءَ الله على رسولهِ ممَّا لم يُوجِفِ المسلمونَ عليهِ بخَيْلٍ ولا رِكابٍ، فكانتْ لِرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - خاصَّةً، يُنْفِقُ على أهلِهِ منها نَفَقَةَ سَنَتِهِ، ثُمَّ يَجْعَلُ ما بقيَ في السّلاحِ والكُراعِ عُدَّةً في سَبيلِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وعن مالك بن أوس بن الحَدَثان، عن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يُوجِفِ المسلمون عليه": خبر (كانت)؛ أي: مما لم يسرعوا إليه. "بخيل ولا رِكاب" بكسر الراء: هو الإبل التي يسار عليها، بل حصل من غير قتال معهم. "فكانت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم خاصةً، ينفق على أهله منها نفقة سنتهم، ثم يجعل ما بقي في السلاح والكراع": وهو الدواب التي تصلح للحرب. "عدة في سبيل الله"؛ أي: أهبة وجهازًا للغزو، وأما الغنيمة فهو ما حصل ¬

_ (¬1) في "غ": "خاصة".

منهم بالإيجاف بأن يعملوا خيلهم وركابهم في تحصيله. * * * مِنَ الحِسَان: 3097 - عن عَوْفِ بن مالكٍ أنَّ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا أتاهُ الفَيْءُ قَسَمَهُ في يومِهِ فأعطَى الآهِلَ حظَّيْنِ وأعطَى الأعزَبَ حظًّا، فدُعِيتُ فأعطاني حظَّيْنِ، وكانَ لي أهلٌ، ثمَّ دُعيَ بعدِي عمَّارُ بن ياسرٍ فأُعطيَ حظًّا واحِدًا. "عن عوف بن مالك رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أتاه الفئ قسمه في يومه، فأعطى الآهِل": بالمد وكسر الهاء؛ أي: المتأهل. "حظين، وأعطى الأعزب"؛ أي: الذي لا زوجةَ له، وهي لغة ردية، والفصحى: عزب. "حظًا، فدُعِيت فأعطاني حظين، وكان لي أهل، ثم دُعِي بعدي عمار بن ياسر، فأعطاه حظًا واحدًا". * * * 3098 - وقال ابن عمرَ: رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أوَّلَ ما جاءَهُ شيءٌ بدأَ بالمُحَرَّرينَ. "وقال ابن عمر: رأيتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أول ما جاءه شيء": من الفيء. "بدأ بالمحرَّرين"؛ أي: بإعطاء نصيب المكاتبين، وقيل: أي: المنفردين لطاعة الله خلوصًا. * * *

3099 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: "أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتيَ بظَبْيةٍ فيها خَرَزٌ فقسَمها للحُرَّةِ والأمَةِ. وقالت عائشةُ: كانَ أبي يَقسِمُ للحُرّ والعَبْدِ. "وعن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أُتِي بظبية": بكسر الظاء: جراب صغير، وقيل: هي شبه الخريطة والكيس. "فيها خرزٌ، فقسمها للحرة والأمة، وقالت عائشة: كان أبي يقسم"؛ أي الفيء. "للحر والعبد"؛ أي: يعطي كل واحد من الحر والعبد بقدر حاجته. * * * 3100 - عن مالِكِ بن أَوْسِ بن الحَدَثان قال: ذكرَ عمرُ بن الخطَّابِ يومًا الفَىْءَ فقال: ما أنا أحقُّ بهذا الْفَئِ منكمْ، وما أحدٌ مِنَّا باحقَّ بهِ منْ أحَدٍ، إلَّا أنا على منازِلنا منْ كتابِ الله عز وجل، وقَسْم رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، والرَّجُلُ وقِدَمُهُ، والرَّجُلُ وبلاؤُهُ، والرَّجُلُ وعِيالُهُ، والرَّجُلُ وحاجَتُهُ. "عن مالك بن أوس بن الحدثان قال: ذكر عمر بن خطاب - رضي الله تعالى عنه - يومًا الفيَء قال: ما أنا بأحق بهذا الفيء منكم": أشار به إلى أنه ليس أحقَّ به، كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم -. "ولا أحد منا بأحق به من أحد، إلا أنا على منازلنا من كتاب الله عز وجل وقسم رسوله - صلى الله عليه وسلم -: يريد بقوله: (من كتاب الله) قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] إلى آخر الآيات الثلاث من سورة الحشر، وقوله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 100]، الآية الدالة على تفاوت منازل المسلمين، ويريد بقسم رسوله - صلى الله عليه وسلم -: ما كان يسلكه - صلى الله عليه وسلم - من مراعاة التمييز بين أهل بدر، وأصحاب بيعة الرضوان، وذوي المشاهد الذين شهدوا الحروب، ومن المعيل وغيره المشار إليه بقوله:

"والرجلُ وقِدَمُهُ"؛ أي: سبقه في الإسلام، قيل: تقدير الكلام: الرجل يقسم له ويراعى قدمه في القسمة، أو الرجل وقدمه معتبران. "والرجل وبلاؤه"؛ أي: شجاعته وعناؤه الذي ابتلي به في سبيله تعالى من الحروب والمقامات المحمودة. "والرجل وعياله، والرجل وحاجته". * * * 3101 - وقالَ: قرأ عمرُ بن الخطَّابِ {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} حتَّى بلغَ {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقال: هذ لهؤلاءَ، ثمَّ قرأَ {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} حتَّى بلغَ {وَابْنِ السَّبِيلِ}، ثم قال: هذهِ لهؤلاءِ، ثم قرأَ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} حتَّى بلغَ {لِلْفُقَرَاءِ}، ثم قرأَ {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} ثمّ قال: هذِهِ استَوْعَبَتِ المُسلمينَ عامَّةً، فلئِنْ عِشْتُ فلَيأْتيَنَّ الرَّاعي وهو بِسَرْوِ حِمْيَرَ نصيبُه منها، لمْ يَعْرَقْ فيها جَبينُهُ. "وقال: قرأ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] حتى بلغ {عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقال: هذه"؛ أي: الزكاة. "لهؤلاء"؛ أي: لأهل الزكاة. "ثم قرأ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} حتى بلغ: {وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]، ثم قال: هذه" أي: الخمس. "لهؤلاء"؛ أي: لأهل الخمس. "ثم قرأ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] حتى بلغ: {لِلْفُقَرَاءِ} [الحشر: 8] ثم قرأ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10]، ثم

قال: هذه": إشارة إلى أموال الفيء الدال عليها الآية المذكورة من قوله: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} إلخ. "استوعبت المسلمين عامة"؛ أي: هي معدة لمصالحهم تصرف إليهم، وكان رأي عمر أن الفيء لا يُخمَّس كما تُخمَّس الغنيمةُ، لكن تكون جملته معدة لمصالح المسلمين، ومجعولة لهم على تفاوت درجاتهم وتفاضل طبقاتهم، وإليه ذهب عامة أهل الفتوى غير الشافعي، فإنه كان يرى أن يخمَّس الفيء، ويصرف أربعة الأخماس إلى المقاتلة والمصالح. "فلئن عشتُ"؛ أي: حييت إلى فتح بلاد الكفار وكثرة الفيء وإيصال جميع المحتاجين ما يحتاجون إليه. "فليأتينَّ الراعي": بالنصب مفعول (ليأتين)؛ أي: ليصيبه. "وهو بسَرْوِ حميرَ": (السرو) بفتح السين وسكون الراء المهملتين: اسم موضع من ناحية اليمن، وحمير بكسر الحاء المهملة وسكون الميم وفتح الياء: أبو قبيلة من اليمن، أضافه إلى حمير؛ لأنه محلتهم. "نصيبُهُ": بالرفع فاعله. "منها"؛ أي: من أموال الفيء المقدر. "لم يعرق جبينه فيها (¬1) "؛ أي: لم يتعب في تحصيل تلك الأموال، وإنما ذكر سرو حمير لما بينه وبين المدينة من البعد، وخصَّ الراعي مبالغةً في التعميم وإيصال القسم إلى الطالب وغيره، والقريب والبعيد. * * * ¬

_ (¬1) في "غ": "فيها جبينه".

3102 - عن مالِكِ بن أَوْسٍ، عن عمرَ قال: كانَ لرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثُ صَفايا: بنو النَّضيرِ وخَيْبَرُ وفَدَكُ، فأمَّا بنو النَّضيرِ فكانتْ حُبْسًا لنوائِبهِ، وأمَّا فدَكُ فكانتْ حُبسًا لأبناءِ السَّبيلِ، وأمَّا خيبرُ فجَزَّأَها رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثةَ أجزاءٍ: جُزءَيْنِ بينَ المُسلِمِينَ، وجُزءًا نَفَقَةً لأهلِهِ، فما فَضَلَ عنْ نفقةِ أهلِهِ جعلَهُ بينَ فُقراءِ المُهاجِرينَ. "عن مالك بن أوس، عن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: كانت لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ثلاثُ صفايا": جمع صفية، وهي: ما يصطفيه الإمام؛ أي: يختاره لنفسه من الغنيمة. "بنو النضير"؛ أي: أموالهم. "وخيبر"؛ أي: أموال خيبر. "وفدك"؛ أي: أموال فدك. "فأما بنو النضير فكانت حُبْسًا" بضم الحاء المهملة وسكون الباء؛ بمعنى: المحبوس والمحفوظ. "لنوائبه"؛ أي: لحوادثه تصيبه؛ أي: كانت محبوسة مهيئة مرصدة ليوم الحاجة؛ يعني: للأضياف ولمن يأتيه من الأطراف لرسالة، أو حاجة، وللسلاح والخيل في سبيل الله تعالى. "وأما فدك فكانت حُبْسًا لأبناء السبيل": يحتمل أن يكون معناه: أنها كانت موقوفة لأبناء السبيل، أو معدة لوقت حاجتهم إليها دون وقف شرعي. "وأما خيبر فجزَّأها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلمًا" أي: قسمها. "ثلاثة أجزاء؛ جزأين بين المسلمين، وجزءًا نفقة لأهله، فما فضل عن نفقة أهله، جعله بين فقراء المهاجرين": وإنما فعل بخيبر ذلك؛ لأنه كان لها

قرى كثيرة فتح بعضها عنوة وكان له خمس الخمس، وبعضها صلحًا بلا قتال فكان فيئًا خاصًا به يضعه حيث أراه الله من حاجته ونوائبه ومصالح المسلمين، فاقتضت القسمة والتعديل أن يكون الجمع بينه وبين الجيش أثلاثًا. * * *

18 - كتاب الصيد والذبائح

18 - كِتَابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِح

18 - كِتَابُ الصَّيْدِ والذَّبَائِح (باب الصيد والذبائح) مِنَ الصِّحَاحِ: 3103 - عن عَدِيِّ بن حاتِم - رضي الله عنه - قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أَرسلْتَ كلبَكَ المعلَّمَ فاذكرِ اسمَ الله تعالى، فإنْ أَمْسكَ عليكَ فأدْركْتَهُ حيًّا فاذبَحْهُ، وإنْ أدْركْتَهُ قد قتلَه ولم يأكلْ منهُ فكُلْهُ، وإنْ كان أكلَ فلا تأكلْ فإنَّما أَمْسكَ على نفسِه، وإنْ وَجَدْتَ مع كَلْبكَ كلبًا غيرَهُ وقد قَتلَ فلا تأكلْ فإنَّكَ لا تدري أَيُهُما قتلَهُ، وإذا رمَيْتَ بسهمِكَ فاذْكر اسمَ الله، فإنْ غابَ عنك يومًا فلمْ تَجدْ فيه إلّا أثرَ سهمِكَ فكُلْ إنْ شئتَ، وإنْ وجدْتَهُ غريقًا في الماءِ فلا تأكُل". "من الصحاح": " عن عدي بن حاتم قال: قال لي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أرسلت كلبك المعلَّم، فاذكر اسم الله"؛ أي: قل: (بسم الله) عند إرسالك الكلب إلى الصيد. "فإن أمسك عليك"؛ أي: الكلبُ الصيدَ لك. "فأدركته حيًا فاذبحه"، فإن لم تذبحه حتى مات حرم. "وإن أدركته"؛ أي: الصيد.

"وقد قتل"؛ أي: قتله الكلب. "ولم يأكل منه فكله، وإن أكل"؛ أي: الكلب من الصيد. "فلا تأكله": وعليه الأكثر، وبه قال ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وأصح قولي الشافعي. "فإنما أمسك على نفسه"؛ أي: أمسك الكلب الصيد لنفسه لا لك. "وإن وجدت مع كلبك كلبًا غيره"؛ أي: إذا وجدت صيدًا صاده كلبك وكلب غيرك لم يرسله أحد، بل صاد لنفسه، أو أرسله من لم تحل ذبيحته. "وقد قتل": ذلك الصيد. "فلا تأكل، فإنك لا تدري أيهما"؛ أي: أي الكلبين "قتله"، وهذا يدل على أن الكلب إذا خرج بنفسه من غير إرسال صاحبه لا يحل صيده، وأنه لو اشترك مسلم ومجوسي، أو مرتد في الذبح، أو إرسال كلب، أو سهم على صيد فقتله = حرم. "وإذا رميت بسهمك، فاذكر اسم الله عليه، فإن غاب عنك يومًا": بعد أن علمت يقينًا أن سهمك أصابه. "فلم تجد فيه إلا أثر سهمك"؛ يعني: لم يكن غريقًا، ولا ساقطًا من علو، ولا أثرَ عليه من حجر، أو سهم آخر، "فكل إن شئت، وإن وجدته غريقًا في الماء فلا تأكل". * * * 3103/ -م - ورُوِيَ عن عَدِيٍّ قال: قلتُ: يا رسولَ الله! إنَّا نُرْسلُ الكِلابَ المُعَلَّمةَ، قال: "كُلْ ما أَمْسكْنَ عليكَ"، قلتُ: وانْ قتلْن؟ قال: "وإن قتلْنَ"، قلتُ: إنا نَرْمي بالمِعْراضِ، قال: "كُلْ ما خَزَقَ، وما أصابَ بِعَرْضهِ

فقتلَ فإنَّه وَقيذٌ فلا تأْكُلْ". "وروي عن عدي قال: قلت: يا رسول الله! إنا نرسل الكلاب المعلمة قال: كل ما أمسكنَ عليك، قلت: وإن قتلن؟ قال: وإن قتلن، قلت: إنا نرمي بالمِعْرَاض" بكسر الميم: هو السهم الذي لا ريشَ له ولا نصلَ. "قال: كُلْ ما خزق": بالخاء والزاي المعجمتين المفتوحتين؛ أي: طعن. "وما أصاب بعرضه فقتل فإنه وقيذ": بالقاف والذال المعجمة؛ أي: موقوذ، يقال: وقذه: إذا أثخنه ضربًا بعصًا أو حجر حتى يموت. "فلا تأكل". * * * 3104 - عن أبي ثَعْلَبةَ الخُشَنيِّ: أنَّه قال: قلتُ: يا نبيَّ الله! إنَّا بأرضِ قَوْمٍ منْ أهلِ الكتابِ أفنأكلُ في آنِيتَهم؟ وبأرضِ صيدٍ أَصيدُ بقَوْسي وبكلبي الذي ليسَ بِمُعلَّم، وبكلبي المُعلَّم، فما يَصْلحُ لي؟ قال: "أمَّا ما ذكَرْتَ منْ آنية أهلِ الكتابِ، فإنْ وَجَدْتُم غيرَها فلا تأكُلُوا فيها، فإنْ لم تَجدوا فاغسِلُوها وكُلُوا فيها، وما صِدْتَ بقَوْسِكَ فذَكرْتَ اسمَ الله فكُلْ، وما صِدْتَ بكلْبكَ المُعَلَّم فذكرتَ اسمَ الله فكُلْ، وما صِدْتَ بكلبكَ غيرَ مُعَلَّمٍ فأَدْركتَ ذَكاتَه فَكُلْ". "عن أبي ثعلبة الخشني": بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين. "قال: قلت: يا نبي الله! إنا بأرض قومٍ أهلِ الكتاب": بدل من (قوم). "أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيدٍ، أصيد بقوسي، وبكلبي الذي ليس بمعلَّم، وبكلبي المعلَّم، فما يصلح لي؟ قال: فأما ما ذكرت من آنية أهل الكتاب؛ فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا فاغسلوها، وكلوا فيها": أمره - صلى الله عليه وسلم - بغسل إناء الكفار فيما إذا تيقن نجاسته، وما لا فكراهته كراهة تنزيه.

"وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله فكُلْ، وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله فكُلْ، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركتَ زكاتَهُ"؛ أي: أدركت حيًا وذبحته، "فكُلْ". * * * 3105 - وقال: "إذا رَمَيْتَ بسَهْمِكَ فغابَ عنكَ فأدْركْتَهُ فكُلْ ما لم يُنْتِنْ". "وإذا رميت بسهمك، وغاب عنك، فأدركته، فكُلْ ما لم يُنتنْ": يقال: نتن الشيء وأنتن؛ أي: صار ذا نتن. وهذا على طريق الاستحباب، وإلا فالنتن لا أثرَ له في الحرمة، وقد روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - أكل وَدكًا متغير الريح. * * * 3106 - عن أبي ثَعْلَبةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الذي يُدْرِكُ صَيْدَهُ بعدَ ثلاثٍ: "فكُلْهُ ما لم يُنْتِنْ". "وعن أبي ثعلبة الخشني، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم في الذي يدرك صيدَهُ بعد ثلاث: فكله ما لم ينتن". * * * 3107 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قالوا: يا رسولَ الله! إنَّ ها هنا أقوامًا حَديث عهدُهم بشِرْكٍ، يأتُوننا بلُحْمانٍ لا ندري يذكرونَ اسمَ الله عليها أَمْ لا؟ قال: "اذْكُروا أنتُم اسمَ الله وكُلُوا". "عن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: قالوا"؛ أي: الأصحاب.

"يا رسول الله! إن هاهنا أقوامًا حديثٌ عهدهم بشرك"؛ أي: أسلموا عن قريب. "يأتوننا بلُحْمان" بالضم: جمع لحم. "لا ندري يذكرون اسم الله عليه أم لا، قال: اذكروا أنتم اسم الله، وكلوا": أمرهم بذكر اسم الله على وجه الاستحباب؛ لأنه لو لم يذكروه، ثم ذكروه، يحل بهذا الذكر. * * * 3108 - وسُئِلَ عليٌّ - صلى الله عليه وسلم -: أَخَصَّكُم رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بشيءٍ؟ فقال: ما خصَّنا بشيءٍ لم يَعُمَّ بهِ الناسَ إلَّا ما في قِرابِ سيَفْي هذا، فأخرجَ صحيفةً فيها: لعنَ الله مَنْ ذَبَحَ لغيرِ الله، ولعنَ الله مَنْ سَرَقَ مَنارَ الأرضِ - ويُرْوى: مَنْ غَيَّرَ مَنارَ الأرضِ - ولعنَ الله مَنْ لعنَ والدَيْهِ، ولعنَ الله مَنْ آوَى مُحْدِثًا. "وسُئِل علي رضي الله تعالى عنه: أخصكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بشيء؟ ": الهمزة للاستفهام. "فقال: ما خصنا بشيء لم يعمَّ به الناسَ إلا ما في قِرابِ سيفي هذا": قراب السيف: وعاء يكون فيه السيف بغمده وعِلاقته. "فأخرج صحيفة فيها: لعن الله من ذبح لغير الله"؛ أي: ذبح باسم غير الله، كقول الكفار عند الذبح: باسم الصنم. "ولعن الله من سرق منار الأرض": جمع منارة، وهي: العلامة التي تكون بين الحدين؛ يعني سرقته ذلك: أن يطمس تلك العلامة؛ ليستبيحَ به ملك غيره. "ويروى: من غيَّر منار الأرض"؛ أي: رفعها وجعلها في أرضه، أو رفعها

لقطع شيء من أرض الجار إلى أرضه. "ولعن الله من لعن والده، ولعن الله من آوى مُحدِثًا" بكسر الدال: وهو الذي جنى على غيره جناية، وإيواؤه: إجارتُهُ من خصمه، وحماه عن التعرض له، والحيلولةُ بينه وبين أن يقتصَّ، قيل: يدخل في ذلك الجاني على الإسلام بإحداث بدعة. * * * 3109 - عن رافعِ بن خَدِيج - رضي الله عنه - أنَّه قال: قلتُ: يا رسُولَ الله! إنَّا لاقُو العَدُوِّ غدًا وليْسَتْ معَنا مُدى، أفنذبحُ بالقَصَبِ؟ قال: "ما أَنهَرَ الدمَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه فكُلْ، ليسَ السّنَّ والظُّفُرَ، وسأُحَدِّثُكُ عنه: أمَّا السِّنُّ فعَظْمٌ، وأمَّا الظُّفُرُ فمُدَى الحُبْشِ". وأصَبنا نَهْبَ إبلٍ وغنَمٍ فندَّ منها بعيرٌ فرماهُ رجلٌ بسَهْمٍ فحبَسَهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لهذهِ الإِبلِ أوابدَ كأوابدِ الوَحْشِ، فإذا غَلَبَكُمْ منها شيءٌ فافعلُوا بهِ هكذا". "عن رافع بن خديج قال: قلت: يا رسول الله! إنا لاقو العدو": جمع لاقٍ، حذفت النون للإضافة. "غدًا، وليست معنا مُدًى" بضم الميم: جمع مدية، وهي السكين والشفرة. "أفنذبح بالقصب؟ قال: ما أنهرَ"؛ أي: أسأل. "الدمَ وذكر اسم الله"؛ أي: معه، ويجوز أن تكون هذه الجملة حالًا. "فكل، ليس السنَّ": استثنى أن يكون المنهر السن، "والظفر"؛ لأن من تعرض للذبح بهما خنق المذبوح، ولم يقطع حلقه، والحديث يدل على أن كل محدد مخرج يحصل به الذبح؛ حديدًا كان، أو خشبًا، أو قصبًا، أو زجاجًا، أو حجرًا، إلا السن والظفر.

"وسأحدثك عنهما؛ أما السن فعظم": وهذا يدل على أن الذبح لا يحصل بشيء من العظام، وعليه الأكثر والشافعي، وقال بعض أصحابه: يحصل الذبح بعظم مأكول اللحم، وعامة أصحابه على خلافه. "وأما الظفر فمُدَى الحُبُش" بضم الحاء: جمع الحبش؛ يعني: أنهم يحلون أظفارهم محل المدى. "وأصبنا نهب إبل وغنم"؛ يعني: أغرنا على قوم من الكفار، فوجدنا إبلًا وغنمًا. "فندَّ منها بعير"؛ أي: نفر وتوحش. "فرماه رجل بسهم، فحبسه"؛ أي: منعه من التوحش والنفار. "فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن لهذه الإبل": اللام في (لهذه) بمعنى: من، والإشارة إلى جنس الإبل. "أوابد": جمع آبدة، وهي التي توحشَّت ونفرت. "كأوابد الوحش"، وفي"الصحاح": يقال: مكان وَحْش - بالتسكين -: إذا خلا عن الناس؛ يعني: ما نفرت من الحيوانات الأهلية يصير كالصيد الوحشي في حكم الذبح. "فإذا غلبكم منها شيء، فافعلوا به هكذا"؛ يعني: فارموه بسهم؛ لأن ذكاته اضطرارية، فجميع أجزائه مذبح، وكذا لو وقع بعير في البئر منكوسًا. وقال مالك: الآبدة ليست كالوحشية في حكم الذبح، وفي الحديث حجةٌ عليه. * * * 3110 - عن كعبِ بن مالك - رضي الله عنه -: أنَّه كانتْ لهُ غنمٌ ترعَى بسَلْع فأبصرَتْ

جاريةٌ لنا بشاةٍ مِن غَنمِنا مَوْتًا، فكسَرت حَجَرًا فَذَبَحتْها بهِ، فسألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأمرَهُ بأكْلِها. "عن كعب بن مالك: أنه كانت له غنمٌ ترعى بسَلْع" بفتح السين وسكون اللام والعين المهملة: جبل بالمدينة، وقيل: هو الشعب، وقيل: ربوة من الجبل. "فأبصرت جاريةٌ لنا بشاة من غنمنا موتًا"؛ أي: أثر الموت. "فكسرت حجرًا": محددًا كالسكين. "فذبحتها به، فسأل النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأمره بأكلها". * * * 3111 - عن شدَّادِ بن أوْسٍ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله كتَبَ الإحْسَانَ على كلِّ شيءٍ، فإذا قتلتُمْ فأحسِنوا القِتلَةَ، وإذا ذَبَحْتُمْ فأحسِنوا الذَّبْحَ، ولْيُحِدَّ أحدُكُمْ شفرتَهُ ولْيُرِحْ ذبيحَتَه". "عن شدَّاد بن أوس، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله كتب الإحسان على كل شيء": (على) بمعنى: في؛ أي: أمركم بالإحسان في كل شيء. "فإذا قتلتم، فأحسنوا القِتلة" بكسر القاف: الهيئة التي عليها القاتل في قتله، والمراد بها: المستحقة قصاصًا، والإحسانُ فيها اختيارُ أسهل الطريق وأقلها إيلامًا. "وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح، وليحدَّ أحدُكم شفرته": وهي السكين العظيم؛ أي: ليجعلها حادة، وليعجل في إمراوها. "وليرح ذبيحته" أي: ليتركها حتى يستريح ويبرد، وهذان الفعلان كالبيان للإحسان في الذبح.

3112 - عن ابن عمرَ أنَّه قال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ينهَى أنْ تُصْبَرَ بَهيمةٌ أو غيرُها للقتلِ. "عن ابن عمر قال: سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى أن تُصبَرَ بهيمة، أو غيرها"؛ أي: تحبس "للقتل": بلا أكل وشرب، أو معناه: نهى عن أن يُمسَك ذو روح حيًا، ويجعل هدفًا، ثم يرمى إليه حتى يموت، وأصل الصبر: الحبس. * * * 3113 - وعنه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لعنَ مَن اتَّخذَ شيئًا فيهِ الرُّوحُ غَرَضًا. "وعنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن من اتخذ شيئًا فيه الروحُ غرضًا"؛ أي: هدفًا ترمى إليه السهام؛ لأنه تعذيب للحيوان. * * * 3114 - عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تتَّخِذُوا شيئًا فيهِ الرُّوح غرَضًا". "وعن ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتخذوا شيئًا فيه الروحُ غرضًا". * * * 3115 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: نهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الضَّرْبِ في الوَجهِ، وعن الوَسْم في الوجْهِ. "عن جابر قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الضربِ في الوجه، وعن الوسم في الوجهِ "؛ أي: الكي فيه بالميسم، وهو: آلة من حديد يُكَوى بها. * * *

3116 - وعنه أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مرَّ عليه حِمارٌ قد وُسِمَ في وجهِهِ فقال: "لعنَ الله الذي وَسَمَهُ". "وعنه: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم مرَّ عليه حمارٌ قد وُسِمَ في وجهِهِ، [فـ]ـــقال: لعن الله الذي وسمه". * * * 3117 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: غدَوْتُ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبدِ الله بن أبي طلحةَ - رضي الله عنه - لِيُحَنِّكهُ، فوافَيْتُه في يدِه المِيسَمُ يَسِمُ إبلَ الصَّدقَةِ. "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: غدوت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: ذهبت إليه غُدوة. "بعبد الله بن أبي طلحة؛ ليحنّكه": والتحنيك: أن يمضغ تمرًا أو غيره من الحلو، ويدلكه داخل حنكه، وهو: أقصى فمه، وهذا سنة في الصبيان؛ لتصل إليه بركته - صلى الله عليه وسلم -. "فوافيته"؛ أي: وجدته. "في يده الميسمُ يَسِمُ إبلَ الصدقة": وهذا يدل على جواز وسم الدواب، وهو مسنون في نعم الصدقة والجزية؛ ليمتاز كلٌّ منهما عن الآخر؛ لأن مستحقَّ كلِّ منهما مختلف. * * * 3118 - ويُروَى عن أنسٍ - رضي الله عنه -: قال: دخلتُ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو في مِربَدٍ، فرأيتُه يَسِمُ شاةً. حسِبْتُهُ قال: في آذانِها. "ويروى عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: دخلت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو في مِربَدٍ" بكسر الميم وسكون الراء وفتح الباء: موضع

يحبس فيه الإبل والبقر والغنم، والربد: الحبس. "فرأيته يسم شيئًا حسبته"؛ أي: يقول الراوي: ظننت إنسًا (¬1) "قال: في آذانها"؛ أي: يسم فيها؛ أي: قال - صلى الله عليه وسلم - سموها في آذانها، وهذا يدل على أن الآذان ليست من الوجه؛ لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن وسم الوجه، وإنكاره على ما رأى من وسم وجه الحمار. * * * مِنَ الحِسَان: 3119 - عن عَديِّ بن حاتِم - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسُولَ الله! أرأيْتَ أحدُنا أصابَ صَيْدًا وليس معهُ سِكِّينٌ، أيذبحُ بالمَرْوَةِ وشِقَّةِ العَصا؟ فقال: "أَمْرِر الدَّمَ بما شِئْتَ واذْكُرِ اسْمَ الله". "من الحسان": " عن عدي بن حاتم - رضي الله تعالى عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أرأيت أحدنا أصاب صيدًا، وليس معه سكين، أيذبح بالمروة؟ ": وهي حجارة بيض براقة. "وشقَّةِ العصا، فقال: أمرر الدم": من الإمرار؛ أي: أسلِ الدم "بما شئتَ واذكر اسم الله" عليه. * * * 3120 - عن أبي العُشَراءِ عن أبيه: أنَّه قال: يا رسولَ الله! أما تكُونُ الذَّكاةُ إلَّا في الحَلْقِ واللَّبّةِ؟ فقال: "لو طَعَنْتَ في فَخِذِها لأجْزأَ عنكَ". ¬

_ (¬1) في "غ " و"ت": "شيئًا"، والتصويب من "صحيح البخاري" (5222).

"عن أبي العشراء": كنية أسامة على الأصح. "عن أبيه أنه قال: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللَّبة" بفتح اللام: آخر الحلق، قريب من الصدر. "فقال: لو طعنت في فخذها، لأجزأ عنك": وهذا في غير المقدور عليه؛ لأنه صار جميع بدنه مذبحًا. * * * 3121 - عن عَديِّ بن حاتِم: أنّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما عَلَّمْتَ مِنْ كَلْبٍ أو بازٍ ثمَّ أرسلتَهُ وذكرتَ اسمَ الله فكُلْ مِمَّا أمسَكَ عليكَ". قلت: وإنْ قتلَ؟ قال: "إذا قتَلَهُ ولمْ يأكلْ منهُ شيئًا فإنَّما أمسكَهُ عليكَ". "عن عدي بن حاتم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما علَّمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله تعالى، فكل مما أمسك عليك، قلت: وإن قتل؟ قال: إذا قتله ولم يأكل منه شيئًا، فإنما أمسكه عليك". * * * 3122 - عن عَديِّ بن حاتِمٍ قال: قلتُ: يا رسُولَ الله! أرْمي الصَّيْدَ فأجِدُ فيهِ مِنَ الغَدِ سَهْمي؟ قال: "إذا عَلِمْتَ أن سَهْمَكَ قتلَهُ ولمْ تَرَ فيهِ أثَرَ سَبُعٍ فكُلْ". "وعنه قال: قلت: يا رسول الله! أرمي الصيد، فأجد فيه من الغد سهمي؟ قال: إذا علمت أن سهمك قتله، ولم ترَ فيه أثرَ سبع، فكل": وإن رأيت فيه أثر سبع، فلا تأكل؛ لأنه لا يُعلَم سببُ قتله يقينًا. * * *

3123 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: نُهينا عنْ صيْدِ كلبِ المَجُوسِ. "وعن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: نُهينا عن صيد كلب المجوس": وهذا يدل على أن من لا تحل ذبيحتُهُ لا يحلُّ صيدُ جارحةِ أرسلها. * * * 3124 - عن أبي ثَعْلبةَ الخُشَنيِّ قال: قلتُ: يا رسول الله! إنَّا أهْلُ سَفرٍ نَمُرُّ باليهُودِ والنَّصارَى والمَجُوسِ فلا نَجدُ غيرَ آنِيتهِمْ، قال: "فإنْ لمْ تَجدُوا غَيْرَها فاغسِلُوها بالماءَ ثمَّ كلُوا فيها واشْرَبُوا". "عن أبي ثعلبة الخُشني قال: قلت: يا رسول الله! إنا أهل سفر نمرُّ باليهود والنصارى والمجوس، فلا نجد غيرَ آنيتهم، قال: فإن لم تجدوا غيرها، فاغسلوها بالماء، ثم كلوا فيها، واشربوا". * * * 3125 - وعن قَبيصةَ بن هُلْب، عن أبيه قال: سَأَلتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ طعامِ النَّصارَى - وفي روايةٍ: سألَهُ رجل فقال - إنَّ مِنَ الطعامِ طعامًا أتَحَرَّجُ منه، فقال: "لا يتخَلَّجَنَّ في صدركَ شيءٌ ضارَعْتَ فيهِ النَّصْرانِيّةَ". "عن قَبيصَة بن هُلْبٍ، عن أببه قال: سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عن طعام النصارى، وفي رواية سأله رجل فقال: إن من الطعام"؛ أي: طعام اليهود والنصارى. "طعامًا أتحرَّجُ"؛ أي: أجتنب (¬1) وأمتنع. "منه": من الحرج: الضيق في الأصل، ويقع على الإثم والحرام. ¬

_ (¬1) في "غ": "أتجنب".

"فقال: لا يتخلجَنَّ في صدرك شيء"؛ أي: لا يتحركن في قلبك شكٌّ وريبة. "ضارعتَ"؛ أي: شابهت. "فيه النصرانية"؛ أي: الملة النصرانية من حيث إن ما وقع في قلب أحدهم أنه حرام أو مكروه، فهو كذلك، وهذا في المعنى تعليل للنهي، وخصَّ النصرانية بالذكر؛ لأن السائل - وهو عدي بن حاتم الطائي - كان قبل الإسلام نصرانيا. * * * 3126 - عن أبي الدَّرداء - رضي الله عنه - قال: نهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أكْلِ المُجَثَّمَةِ، وهيَ التي تُصْبَرُ بالنَّبْل. "عن أبي الدرداء قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أكل المجثَّمَةِ": يقال: جثم الطائر بالأرض يجثم جثومًا: إذا لزمها والتصق بها. "وهي التي تُصبَرُ"؛ أي: تحبس، وتجعل هدفًا، ويُرمى إليها "بالنبل" ونحوه؛ لأن هذا القتل ليس بذبح. * * * 3127 - عن العِرباضِ بن سارِية: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهَى يومَ خَيْبَرَ عنْ كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، وعنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ، وعنْ لحُومِ الحُمُرِ الأهْلِيَّةِ، وعنْ المُجَثَّمَةِ، وعنِ الخَلِيسةِ، وأنْ تُوطأ الحَبالَى حتَّى يضَعْنَ ما في بُطُونهنَّ. قيل: الخَلِيسة ما يُؤخَذُ مِنَ السَّبُعِ فيموتُ قبلَ أنْ يُذَكَّى. "عن العِرْباضِ بن سارية: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى يوم خيبر عن كلِّ ذي ناب"؛ أي: عن أكل كل ذي ناب.

"من السباع": أراد به، ما يعدو ويحمل بنابه، كالأسد والذئب والنمر والفهد والدب والقرد ونحوها. "وعن كلِّ ذي مخلب من الطير"؛ أي: نهى عن أكله، أراد به: كل طير يصطاد بمخلبه، كالنسر والصقر والبازي ونحوها. "وعن لحوم الحمر الأهلية، وعن المجثَّمة، وعن الخَلِيسَةِ"؛ أي: المخلوسة، من خلست الشيء أخلسه خلسًا: سلبته. "وأن توطأَ الحَبَالى": جمع الحُبْلى، وهي الحامل. "حتى يضعْنَ ما في بطونهن"؛ يعني: إذا حصلت لشخص جارية حُبلى لا يجوز له وطؤها حتى تضعَ حملها. "قيل: الخليسة: ما يؤخذ من السبع، فيموتُ قبل أن يذكَّى": سميت بذلك لاختلاس السبع إياها. * * * 3128 - عن ابن عبَّاسٍ: أنَّه قال: نهَى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شَرِيطةِ الشَّيطانِ، وهيَ التي تُذْبَحُ فيُقْطَعُ الجلدُ، ولا تفْرَى الأَوداجُ، ثمَّ تتركُ حتَّى تموتَ. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن شريطةِ الشيطان": من شرطة الحجام؛ أي: شق جلده. "وهي التي تُذبَح، فيُقطَع الجلدُ، ولا تُفرَى"؛ أي: لا يشق، ولا يقطع فيها. "الأوداج": وهي العروق المحيطة بالعنق التي تُقطَع بالذبح، واحدها: (وَدَج) بالتحريك.

"ثم تترك حتى تموت": وكان أهل الجاهلية يقطعون شيئًا يسيرًا من حلق البهيمة، ثم يتركونها حتى تموت، ويرون ذلك ذكاتها، وأضافها إلى الشيطان؛ لأنه الحاملُ لهم عليه، والمحسِّنُ لهذا الفعل لهم. * * * 3129 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذَكاةُ الجَنينِ ذَكاةُ أمِّهِ". "عن جابر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ذكاةُ الجنين"؛ أي: تزكيته. "ذكاةُ أمه"؛ يعني: ذكاة الأم كافية في حِلِّ الجنين"؛ لأنه كالعضو المتصل بها، فلو ذبحت شاة ونحوها - وفي بطنها جنين ميت - حل أكله، وبه قال الشافعي، وعند أبي حنيفة: لا يحل أكله، إلا أن يخرج حيًا ويذبح. * * * 3130 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: قُلنا: يا رسولَ الله! ننحَرُ النَّاقةَ ونذبحُ البقرةَ والشَّاةَ فنجدُ في بطنِها الجَنينَ، أنلُقِيه أمْ نأكلُهُ؟ قال: "كلُوهُ إنْ شِئتمْ، فإنَّ ذكاتَهُ ذكاة أُمِّه". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه - قال: قلنا: يا رسول الله! ننحر الناقة، ونذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله؟ قال: كلوه إن شئتم؛ فإن ذكاته ذكاة أمه": والحديث يدل على أن السنة في الإبل النحر، وهو: قطع موضع القلادة من الصدر، وفي البقر والشاة الذبح، وهو: في الحلق، وعلى أن الجنين يحل بذكاة أمه. * * *

3131 - عن عبدِ الله بن عَمْرِو بن العاصِ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قتلَ عُصفورًا فما فَوْقَها بغيرِ حَقِّها سألَهُ الله عز وجل عَنْ قَتْلِهِ"، قِيلَ: يا رسُولَ الله! وما حقُّها؟ قال: "أنْ يَذْبَحها فيأكُلَها ولا يَقْطَع رأسَها فيَرْمي بها". "عن عبد الله بن عمرو بن العاص: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قتل عصفورًا فما فوقها"؛ أي: فما دونها، وقيل: أي: أعظم منها. "بغير حقِّها، سأله الله عز وجل عن قتله، قيل: يا رسول الله! وما حقها؟ قال: أن يذبحها فتأكلها، ولا يقطع رأسها، فيرمي بها": وفيه دليل على كراهة ذبح الحيوان لغير الأكل. * * * 3132 - وعن أبي واقِدٍ اللَّيثيِّ قال: قَدِمَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المدينةَ وهُمْ يَجُبُّونَ أسْنِمَةَ الإبلِ ويَقْطعُونَ ألْياتِ الغَنَمِ، قال: "ما يُقْطعُ مِنَ البهيمةِ وهيَ حيَّةٌ فهو مَيْتَة". "عن أبي واقد الليثي قال: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - المدينة، وهم يجبُّون"؛ أي: يقطعون. "أسنمةَ الإبل": جمع السنام. "ويقطعون أليات الغنم": جمع أَلْية. "فقال: ما يُقطَعُ من البهيمةِ وهي حيةٌ فهو ميتةٌ"؛ يعني: كل عضو قُطِع من حي، فذلك العضو حرام؛ لأنه ميت بزوال الحياة عنه، وكانوا يفعلون ذلك في حال الحياة، فنهوا عنه. * * *

2 - باب (باب ذكر الكلب)

2 - باب (باب ذكر الكلب) مِنَ الصِّحَاحِ: 3133 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنِ اقتنَى كَلْبًا إلا كلبَ ماشيةٍ أو ضارٍ نقصَ من عملهِ كلَّ يومٍ قيراطان". "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من اقتنى"؛ أي: أمسك. "كلبًا، إلا كلبَ ماشيةٍ": وهو الذي يحرس الدواب. "أو ضارٍ"؛ أي: كلب تعوَّد بالصيد، يقال: ضَرِي الكلب بالصيد يَضْرِى ضَرَاوةً فهو ضارٍ؛ أي: تعود الصيد. "نقص من عمله"؛ أي: من أجر عمله الماضي، فيكون الحديث محمولًا على التهديد؛ لأن حبطَ الحسنةِ بالسيئةِ ليس مذهبَ أهل السنة. وقيل: من أجر عمله المستقبل حين يوجد، وهذا أقرب؛ لأن الله تعالى إذا نقص من مزيد فضله في ثواب عمله، ولا يكتب كاملًا، لا يكون حبطًا. "كل يوم قيراطان": القيراط في الأصل: نصف دانق، والمراد به هاهنا: مقدار معلوم عند الله. * * * 3134 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنِ اتَّخَذَ كلبًا إلَّا كلبَ ماشِيةٍ أو صيدٍ أو زَرْعٍ انتُقَصَ مِنْ أَجرِهِ كلَّ يومٍ قيراطٌ".

"عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: من اتخذ كلبًا إلا كلب ماشية، أو صيد، أو زرع، انتقضَ من أجره كل يوم قيراط": فالتوفيق بين هذا وبين الحديث السابق: أنه يجوز أن يكون باختلاف المواضع، فالقيراطان في المدينة ومكة لفضلهما، والقيراط في غيرهما، أو باعتبار الزمنين، فالقيراطان للتغليظ؛ لكثرة ألفتهم بالكلاب حتى حُكِي أنهم يأكلون معها. * * * 3135 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - أنه قال: أمرَنا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلِ الكِلابِ، حتى أنَّ المرأةَ تَقْدَمُ مِنَ البادِيةِ بكلبها فنَقتُلُه، ثم نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن قَتْلِها، وقال: "عليكُمْ بالأسْودِ البهيم ذِي النُّقطَتَيْنِ؛ فإنهُ شيطانٌ". "عن جابر رضي الله تعالى عنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بقتل الكلاب حتى إن المرأة تقدم من البادية بكلبها فنقتله": قيل: هذا خاص بالمدينة؛ لكونها مهبط الملائكة بالوحي، وهم لا يدخلون بيتًا فيه كلب. "ثم نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن قتلها وقال: عليكم بالأسود"؛ أي: بقتل الكلب الأسود. "البهيم"؛ أي: الذي لا بياضَ فيه. "ذي النقطتين"؛ أي: الذي فوق عينيه نقطتان بيضاوان. "فإنه شيطان": وإنما جعله شيطانًا لخبثه؛ فإنه أضرُّ الكلاب وأعقرها، وأقلها نفعًا، وأسوؤها حراسة، وأبعدها عن الصيد، وأكثرها نعاسًا. * * *

3136 - عن ابن عمرَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بقتلِ الكِلابِ، إلَّا كلبَ صَيْدٍ أو كلْبَ غنَمٍ أو ماشِيةٍ. "عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الكلاب إلا كلب صيد، أو كلب غنم، أو كلب ماشية". * * * مِنَ الحِسَان: 3137 - عن عبدِ الله بن مُغفَّلٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَوْلا أنَّ الكِلابَ أُمَّةٌ مِنَ الأُمَم لأمَرْتُ بقَتْلِها كُلِّها، فاقتُلُوا منها كُلَّ أسودَ بهيمٍ، وما منْ أهلِ بَيْتٍ يَرْتَبطونَ كلبًا إلَّا نقصَ منْ عَمَلِهِمْ كُلَّ يومٍ قِيراط إلَّا كلبَ صَيْدٍ أو كلبَ حَرْثٍ أو كلبَ غَنَم". "عن عبد الله بن مغفل، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لولا أن الكلابَ أمة"، أي: جماعة. "من الأمم، لأمرت بقتلها": نهى عن قتلها كراهته إعدام جيل من خلق الله، إذ لا يخلو من نوع حكمة. والفاء في: "فاقتلوا" جزاء شرط محذوف، فكأنه قال: إذا لم يكن سبيل إلى قتل الكل لهذا المعنى فاقتلوا "منها كل أسود بهيم"، وأبقوا ما سواها؛ لتنتفعوا به في الحراسة. "وما من أهل بيت يرتبطون كلبًا إلا نقص من عملهم كل يوم قيراط إلا كلب صيد، أو كلب حرث، أو كلب غنم". * * *

3 - باب ما يحل أكله وما يحرم

3138 - عن ابن عبَّاسٍ قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التَّحريشِ بين البهائم. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن التحريش بين البهائم": وهو إغراء بعضها على بعض بأن ينطح، أو يعضَّ هذا ذاك. * * * 3 - باب ما يحلّ أكلُه وما يحرُمُ (باب ما يحل أكله وما يحرم) مِنَ الصِّحَاحِ: 3139 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ ذي نابٍ مِنَ السَّباعِ فأكْلُهُ حرامٌ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كل ذي ناب من السباع" كالأسد والذئب وغير ذلك "فأكله حرام". * * * 3140 - وعن ابن عبَّاسٍ قال: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن كُلِّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، وكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطيْرِ. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع"؛ أي: عن أكله.

"وكل ذي مخلب من الطير": كالصقر والبازي وغير ذلك، وكل طيرٍ حرم أكلُهُ حرم بيضُهُ. * * * 3141 - عن أبي ثعلبةَ قال: حرَّمَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لحومَ الحُمُرِ الأهْليَّة. "عن أبي ثعلبة قال: حرَّم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لحوم الحمر الأهلية": وأكثر أهل العلم على تحريمها. * * * 3142 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى يومَ خَيْبَرَ عنْ لُحومِ الحُمُرِ الأهليَّةِ، وأَذِنَ في لُحومِ الخيْلِ. "عن جابر رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل": أباح جمعٌ لحومَ الخيل، منهم الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة: يكره كراهة تحريم. قال إبراهيم: لا بأس بألبان الخيل. * * * 3143 - وعن أبي قتادَة - رضي الله عنه -: أنَّه رأَى حِمارًا وحشيًّا فعقَره، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل معكُمْ منْ لحمِهِ شيءٌ؟ " قالوا: معنا رِجْلُهُ، فأخذَها فأكلَها. "عن أبي قتادة: أنه رأى حمارًا وحشيًا، فعقره"؛ أي: جرحه. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هل معكم من لحمه شيء؟ قال: معنا رِجله، فأخذها فأكلها": وهذا يدل على جواز أكل لحم الحمار الوحشي. * * *

3144 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: أنْفَجْنا أرنبًا بمرِّ الظَّهْران، فأخَذْتُها فأَتيتُ بها أبا طَلْحَةَ، فذبحَها وبَعَثَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بوَرِكها وفَخِذَيْها فقبلَه. "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: أنفجنا"؛ أي: أثرنا وهيَّجنا "أرنبًا" بمر الظَّهْران" بفتح الميم والظاء المعجمة والهاء الساكنة (¬1): موضع بين مكة والمدينة، وقيل: موضع قريب من عرفات. "فأخذتها فأتيت بها أبا طلحة، فذبحها وبعث إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بوركها وفخذيها، فقبله"؛ وهذا يدل على إباحة الأرنب، وعليه الأكثر. * * * 3145 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الضَّبُّ لستُ آكُلُهُ، ولا أُحَرِّمُه". "وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الضبُّ لستُ آكله، ولا أحرِّمه": قيل: عدم أكله - صلى الله عليه وسلم -؛ لعيافة الطبع، وعدم تحريمه؛ فلأنه لم يوحَ إليه فيه شيء. * * * 3146 - وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ خالدَ بن الوليدِ أخبَره أنَّه دخلَ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على مَيْمونةَ، وهيَ خالتهُ وخالَةُ ابن عبَّاسٍ، فوجدَ عِندَها ضَبًّا مَحْنُوذًا، فقدَّمَتِ الضَّبَّ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ عن الضَّبِّ، فقال خالدٌ: أحرامٌ الضَّبُّ يا رسولَ الله؟ قال: "لا، ولكنْ لمْ يكُنْ بأرضِ قَوْمي ¬

_ (¬1) في "ت" و"غ": "الساكنين"، والصواب المثبت.

فأَجِدُني أعافُهُ". قال خالدٌ: فاجْتَرَرْتُهُ فأكلْتُهُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينظرُ إليَّ. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أن خالد بن الوليد أخبره: أنه دخل مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم على ميمونة، وهي خالته وخالة ابن عباس، فوجد عندها ضبًا محنوذًا"؛ أي: مشويًا بالحجارة المحماة بالنار. "فقدمت الضب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فرفع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يده عن الضب، فقال خالد: أحرام الضب يا رسول الله؟ قال: لا، ولكن لم يكن بأرض قومي، فأجدني أعافه"؛ أي: أكرهه "قال خالد: فاجتررته": بمعنى: جررته. "فأكلته، ورسولُ الله ينظر إلي": وهذا يدل على إباحة الضب، وبه قال جمع؛ إذ لو حُرِّم لما أُكُلَ بين يديه - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3147 - عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يأكلُ دَجاجًا. "عن أبي موسى قال: رأيت النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم يأكل دجاجًا": وهذا يدل على إباحة أكله. * * * 3148 - عن ابن أبي أوفى قال: غَزَوْنا معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سبْعَ غَزَواتٍ كُنَّا نأكلُ معهُ الجَرادَ. "عن ابن أبي أوفي قال: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سبعَ غزوات، كنَّا نأكلُ معه الجراد": فيه دليل على إباحة أكل الجراد، ولم يذكر مسلم لفظة: (معه)، وكذا الترمذي ومن رواه تأوَّل على أنهم كانوا يأكلونه وهم معه - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر

عليهم؛ لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل الجراد، وسئل عنه وقال: "لا آكله، ولا أحرمه"، كما يأتي في (الحسان). * * * 3149 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنه قال: غَزَوْنا جيْشَ الخَبَط، وأُمِّرَ علينا أبو عُبَيدةَ فجُعْنا جُوعًا شديدًا، فألْقَى لنا البَحرُ حُوتًا ميتًا لم نَرَ مثلَهُ يُقالُ لهُ العَنْبر، فأكَلْنا منهُ نِصفَ شَهرٍ، فأخذَ أبو عُبَيدةَ عَظمًا مِنْ عِظامِهِ، فَمَرَّ الراكِبُ تحتَهُ، فلمَّا قَدِمنا ذَكَرْنا للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "كُلُوا رِزقا أخرجَهُ الله، أطْعِمُونا إنْ كانَ مَعَكُمْ". قال: فأرْسَلْنا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنهُ فأكلَهُ. "عن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: غزوت جيشَ الخَبَط" بالتحريك: ورق الشجر يضرب بعصًا فيسقط، وإنما سموا جيش الخبط؛ لاضطرارهم إلى أكله من الجوع حتى قرحت أشداقهم، وقد ضمَّن الغزوَ معنى الصحبة؛ أي: صحبت جيش، أو المراد: الغزو معهم. "وأُمِّر أبو عبيدة": بصيغة الماضي المجهول من (التأمير)؛ أي: جُعِل أمير الجيش. "فجعنا جوعًا شديدًا، فألقى البحر حوتًا ميتًا لم نرَ مثله يقال له: العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، فأخذ أبو عبيدة عظمًا من عظامه، فمَّر الراكب تحته، فلما قدمنا"؛ أي: المدينة. "ذكرنا للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: كلوا رزقًا أخرجه الله لكم، أطعمونا إن كان معكم قال"؛ أي: الراوي: "فأرسلنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه، فأكله": والحديث يدل على إباحة جميع ميتات البحر؛ لظاهر قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ

صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96]. قال عمر رضي الله تعالى عنه: صيدُهُ ما صيد، وطعامُهُ ما رمى. وقال ابن عباس: طعامه ميته. وعليه الأكثر، إلا الضفدع على مذهب الشافعي والتمساح، وقال قوم: ما له في البر نظير حرام ككلب الماء وخنزيره وحماره وغيرها فهو حرام، وما له نظير يوكل فميتته من البحر حلال، وأبو حنيفة حرَّم الجميعَ إلا السمك. * * * 3150 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وَقَعَ الذُّبابُ في إناءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ، ثُمَّ ليَطْرَحْهُ، فإنَّ في أَحَدِ جَناحَيْهِ شفاءً وفي الآخَر داءً". "عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه"؛ أي: فليدخله. "كله": فيما في الإناء من الماء أو غيره، وهذا يدل على أنه طاهر، إذا مات في ماء قليل أو شراب لا ينجسه؛ إذ ليس له دم سائلة. "ثم ليطرحه"؛ أي: ليلقيه في البر. "فإن في أحد جناحيه شفاءً وفي الآخر داء": قيل: الداء والشفاء محمول على الحقيقة؛ إذ لا بُعدَ في حكمة الله أن يجمعها في جزئي حيوان واحد، كالعقرب يهيج من إبرتها السم، ويتداوى من ذلك بجرمها، ويجوز أن يكونا مجازين؛ لأن الذباب يغمس أحد جناحيه حين وقوعه فتندفع النفس من شربه، فهذا كالداء، وإذا غمس كله يكون كسرًا للنفس، وهو كالشفاء. * * *

3151 - وعن مَيْمونةَ: أنَّ فأْرةً وقعتْ في سَمْنٍ فماتتْ، فسُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: "ألْقُوها وما حَوْلَها وكلوهُ". "عن ميمونة: أن فأرة وقعت في سمن فماتت، فسُئِل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عنها فقال: ألقوها"؛ أي: الفأرة. "وما حولها": من السمن إن كان جامدًا. "فكلوه"؛ يعني: ما بقي منه طاهرٌ يجوز أكله، وإن كان مائعًا كالزيت فقد نجس الكل، لا يجوز أكله اتفاقًا، ولا بيعه عند الشافعي خلافًا لأبي حنيفة. * * * 3152 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنه -: أنَّه سَمعَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "اقتُلُوا الحَيَّاتِ، واقتُلُوا ذا الطُّفْيَتَيْنِ والأبْتَرَ، فإنَّهما يَطْمِسانِ البَصَرَ ويَسْتَسْقِطانِ الحَبَل". وقال أبو لُبابةَ: إنَّه نَهَى بعدَ ذلكَ عنْ ذَواتِ البُيوتِ، وهنَّ العَوامِرُ. "عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: اقتلوا الحيات": جمع الحية. "واقتلوا ذا الطُّفْيتين" بضم الطاء المهملة وسكون الفاء: هي الحية التي على ظهرها خطان أسودان. "والأبتر": وهي قصير الذنب من الحيات، خصَّهما بالذكر بعد الحيات؛ لكون ضررهما أكثر، وإهلاكهما أجدر. "فإنهما يطمسان البصر"؛ أي: يخطفانه ويعميانه بمجرد نظرهما إليه؛ لخاصية السمية في بصرهما. "ويستسقطان الحبل": بالخاصية عند النظر إليهما، أو من الخوف منهما. "وقال أبو لُبابة": بضم اللام.

"إنَّه نهى بعد ذلك"؛ أي: بعد أمره بقتل الحيات. "عن ذوات البيوت"؛ أي: عن قتل سواكن البيوت. "وهنَّ العوامرُ"؛ أي: هذه الحيات عوامر البيوت: جمع عامرة؛ أي: التي تسكنها، سميت بها لطول عمرها، وقيل: هي نوع من الجن يسكن البيوت، ويتشكَّل بأشكال الحيات. * * * 3153 - ورُوِيَ عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ لهذهِ البُيوتِ عَوامِرَ، فإذا رأَيْتُم شيئًا منها فحَرِّجُوا علَيْها ثلاثًا، فإنْ ذهَبَ وإلا فاقتُلُوهُ فإنَّه كافِرٌ". "عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم شيئًا منها فحرِّجُوا"؛ أي: شددوا"عليها"، ونفروها "ثلاثًا"؛ أي: ثلاث مرات؛ ليتوارى، وقيل: أي: قولوا لها: أنت في حَرَج - أي: ضيق - إن عدت إلينا، وعلى القول بأنها جن فالتحريج عليها التشديد بالأيمان المحرجة، كما يأتي في (الحسان). "فإن ذهب وإلا"؛ أي: إن لم يذهب، وعاد بعد ذلك، "فاقتلوه؛ فإنه كافر"؛ أي: جني كافر، أو كالكافر في جرأته وصولته، وقصده وكونه مؤذيًا. * * * 3153/ -م - ويُروَى أنّه قال: "إنَّ بالمدينةِ جِنًّا قدْ أسلَمُوا، فإذا رأَيْتُمْ منهمْ شيئًا فآذِنُوهُ ثلاثةَ أيَّامٍ، فإنْ بدا لكمْ بعدَ ذلكَ فاقتُلُوهُ فإنَّما هو شيطانٌ". "ويروى أنه قال: إن بالمدينة جِنًّا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئًا"؛

يعني: حية، و (منهم) حال عن شيء، و (من) فيه للبيان؛ أي: حال كونه من الجن على وجه الاحتمال. "فآذنوه" بمد الهمزة: أمر من الإيذان على الندب. "ثلاثة أيام": وهو أن يقول: نسألك بالعهد الذي أخذ عليك سليمان بن داود أن لا تؤذينا. "فإن بدا لكم"؛ أي: ظهر. "بعد ذلك فاقتلوه؛ فإنما هو شيطان": سماه شيطانًا؛ لتمرده وعدم ذهابه بالإيذان، وكل متمرد من الجن والإنس والدابة يسمى شيطانًا. * * * 3154 - وعن أمِّ شَريكٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَمَرَ بقتلِ الوَزَغِ، وقال: "كان ينفُخُ على نارِ إبراهيمَ". "عن أم شريك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوَزَغ" بفتحتين وزاي وغين معجمتين: واحدها وزغة، وهي دويبة مؤذية، وسامُ أبرص كبيرُها، وجمعها: أوْزَاغ ووزغان. "وقال: كان ينفخ على إبراهيم"؛ أي: ناره؛ لخبثها وإفسادها، وأنها بلغت مبلغًا استعملها الشيطان، فحملها على نفخ النار الملقى فيها الخليل عليه السلام، وهي من ذوات السموم، ومن شغفها بإفساد الطعام - وخصوصًا الملح - أنها إذا لم تجد طريقًا إلى إفساده، ارتقت السقف، وألقت خُرْءها فيه من موضع يحاذيه، وفي الحديث بيان أن جِبلَّتها على الإساءة. * * *

3155 - وعن سعدٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بقتلِ الوَزَغِ، وسمَّاهُ فُوَيْسِقًا. "وعن سعد رضي الله تعالى عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتل الوزغ، وسماه فويسقًا": تصغير فاسق. * * * 3156 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ قتَلَ وَزَغًا في أوَّلِ ضَرْبَةٍ كُتِبتْ لهُ مِئَة حسنةٍ، وفي الثَّانيةِ دُونَ ذلكَ، وفي الثَّالِثَةِ دُونَ ذلك". "وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من قتل وزغًا في أول ضربة كُتب له مئة حسنة، وفي الثانية دون ذلك"؛ أي: أقل منه. "وفي الثالثة دون ذلك": وفيه ترغيبٌ وحثٌّ على قتلها بضربة؛ فإنها خبيثة كثيرة الزوغان، فلعلها إذا لم تُقتَلْ بالضربة الأولى انفلتت، وفات قتلها المقصود. * * * 3157 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قَرَصَتْ نَمْلةٌ نبيًّا مِنَ الأنبياءِ، فَأَمَرَ بقريةِ النَّمْلِ فأحْرِقَتْ، فأوْحَى الله إليهِ أنْ قَرَصَتْكَ نملة أحْرقْتَ أُمَّةً مِنَ الأمم تُسبحُ. "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قرصت نملةٌ"؛ أي: عضت ولدغت. "نبيًا من الأنبياء، فأمر بقرية النمل"؛ أي: بمسكنها. "فأحرقت، فأوحى الله تعالى إليه" على وجه العتاب: "أن قرصتك نملة": (أن) هذه مفسرة.

"أحرقت أمة"؛ أي: جماعة. "من الأمم تسبح": وفيه إشارة إلى أن قتل النمل غير المؤذية لا يجوز. * * * مِنَ الحِسَان: 3158 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وَقَعتِ الفَأْرةُ في السَّمْنِ فإنْ كَانَ جامِدًا فألقُوها وما حَوْلَها، وإنْ كانَ مائِعًا فلا تَقْرَبُوه". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا وقعت الفأرة في السمن؛ فإن كان جامدًا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعًا فلا تقربوه": أراد به أكلًا وطعمًا، لا انتفاعًا، فيجوز أن يُستصَبحَ [به]، وتُدهَن به السفن. * * * 3159 - عن سَفِينةَ قال: أكلتُ مَعَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لَحْمَ حُبارَى. "عن سفينة - رضي الله عنه - قال: أكلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحم حُبارى" بضم الحاء المهملة: نوع من الطير مختلف الألوان يُضرَب به المثلُ في الحماقة. * * * 3160 - عن ابن عمرَ قال: نهى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ أكلِ الجَلالَةِ وألْبانِها. ويُروَى: أنَّه نهى عن رُكوبِ الجلالةِ.

"عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أكل الجَلّالة" بفتح الجيم وتشديد اللام الأولى: هي الدابة التي تأكل العذرة. "وألبانها"؛ أي: وعن شرب ألبانها. فإن لم يظهر في لحمها نتنٌ فلا بأسَ بأكلها، والأحسن أن تُحبس أيامًا حتى يطيب لحمها، ثم تذبح، وحلَّل الجلالة الحسن ومالك، وقيل: لا بأس به بعد غسل لحمها غسلًا جيدًا. والتي تأكل العذرة أحيانًا ليست بجلالة كالدجاجة ونحوه، وكان ابن عمر يحبس الدجاج ثلاثًا. "ويروى: أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ركوب الجلالة"؛ لنتنها عند عرقها كنتن لحمها. * * * 3161 - وعن عبدِ الرَّحمن بن شِبْلٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهُى عنْ أكلِ لحم الضَّبِّ. "وروي عن عبد الرحمن بن شِبْل": بكسر الشين المعجمة وسكون الباء. "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحم الضبِّ": وهذا يدل على حرمته، وبه قال أبو حنيفة. * * * 3162 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عنْ أكلِ الهرَّةِ وَعن ثمنِها. "وعن جابر رضي الله تعالى عنه: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم

نهى عن كل الهرة، وأكل ثمنها": أكل لحم الهرة حرام بالاتفاق، وأما بيعها وأكل ثمنها، قيل: ليس بحرام، بل مكروه. * * * 3163 - عن جابر - رضي الله عنه - قال: حَرَّمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَعني يومَ خَيْبَرَ - الحُمُرَ الأنْسِية، ولُحومَ البغالِ، وكُلَّ ذِي نابٍ مِنَ السِّباعِ، وَكلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْر. غريب. "عن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: حرم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم - يعني: يوم خيبر - الحمر الإنسية": وهي التي تألف البيوت. "ولحوم البغال": وهما حرامان بالاتفاق. "وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير". * * * 3164 - عن خالدِ بن الوَليدِ - رضي الله عنه -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عنْ أكلِ لحُومِ الخَيْلِ والبغالِ والحَميرِ. "عن خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن كل لحوم الخيل والبغال والحمير". * * * 3165 - وقال: "ألا لا تحِلُّ أموالُ المُعاهِدينَ إلَّا بحقِّها". "وقال: ألا لا تحلُّ أموالُ المعاهدين إلا بحقها": حقُّ مال المعاهد إن كان ذميًا الجزيةُ، وإن كان مستأمنًا للتجارة فالعُشرُ. * * *

3166 - وعن ابن عمرَ: أنّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُحِلَّتْ لَنا مَيْتَتانِ وَدَمَانِ، المَيْتَتان الحُوتُ والجَرادُ، والدَّمانِ الكَبدُ والطحالُ". "وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أُحِلَّت لنا ميتتان ودمان، الميتتان: الحوت والجراد، والدَّمان: الكبد والطحال". * * * 3167 - ورُوِيَ عن أبي الزُّبَيرِ عن جابرٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ألقاه البحرُ أو جَزَرَ عنهُ فكُلوهُ، وما ماتَ فيهِ وطَفا فلا تأكُلوه"، والأكثرون على أنَّه موقوفٌ على جابرٍ. "وروي عن أبي الزبير، عن جابر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما ألقاه البحر"؛ أي: ما قذفه إلى الساحل. "أو جزر"؛ أي: ذهب وانكشف. "عنه الماء": من حيوان وبقي على وجه الأرض. "فكلوه، وما مات فيه وطفا"؛ أي: علا وظهر فوقه بعد أن مات. "فلا تأكلوه": وهذا يدل على حرمة السمك الطافي، وبه قال أبو حنيفة، وأباحه مالك والشافعي. "والأكثرون على أنه موقوف على جابر". * * * 3168 - ورُوِيَ عن سلمانَ - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الجرادِ فقال:

"أكثرُ جُنودِ الله، لا آكُلُهُ ولا أُحَرِّمُه"، ضعيف. "ورُوي عن سلمان: سُئِلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الجراد فقال: أكثر جنود الله": إذا غضب الله على قوم أرسل إليهم الجراد؛ ليأكل زروعهم وأشجارهم، ويظهر فيهم القحط، "لا آكله ولا أحرمه". "ضعيف". * * * 3169 - عن زيدِ بن خالدٍ - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ سَبِّ الدِّيكِ وقال: "إنَّهُ يؤذِّنُ للصَّلاةِ". ويُروى: "لا تَسبُّوا الدِّيكَ فإنَّهُ يُوقِظُ للصَّلاةِ". "عن زيد بن خالد قال: نهى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم عن سبِّ الديك"؛ أي: عن شتمه، "وقال: إنه يؤذن للصلاة، ويروى: لا تسبوا الديك فإنه يوقظ"؛ أي: ينبه "للصلاة". * * * 3170 - وعن عبدِ الرَّحمنِ بن أبي ليلى - رضي الله عنه - قال: قال لي أبو ليلى: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ظَهَرتِ الحيَّةُ في المَسْكَنِ فقولوا لها: إنّا نسألُكِ بعهدِ نُوحٍ وبعهدِ سُليمانَ بن داودَ أنْ لا تُؤْذِيَنا، فإنْ عادتْ فاقْتُلُوها". "عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا ظهرت الحية في المسكن، فقولوا لها: إنا نسألك بعهد نوح وبعهد سليمان بن داود أن لا تؤذينا، فإن عادت فاقتلوها"، وأما في الصحراء أو في الطريق فتقتل كلها لأن النبي عهد بالجن أن لا تتشكل في الصحراء والطريق. * * *

3171 - ورَوَى أيوبُ عن عِكرمةَ، عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: لا أعلَمُهُ إلّا رفعَ الحديثَ أنَّهُ كانَ يأْمُرُ بقتلِ الحَيَّاتِ، وقَال: "مَنْ تَرَكَهُنَّ خَشْيَةَ ثائِرٍ فليسَ مِنَّا". "وروى أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهم - قال"؛ أي: أيوب، وقيل: عن عكرمة، وهو الصواب. "لا أعلمه"؛ أي: ابن عباس "إلا رفع الحديث": إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. "أنه كان يأمر بقتل الحيات": وإنما قال كذا؛ لأن قوله: (كان يأمر) يحتمل لأن ينسب إلى ابن عباس، ويكون موقوفًا. "وقال: من تركهنَّ خشيةَ ثائرٍ"؛ أي: طالب للدم والانتقام. "فليس منا"؛ أي: من المقتدين بسنتنا؛ يعني: لا تتركوا قتل الحيات خوفًا من انتقام أزواجهن، فإنه لا أصلَ لهذا الانتقام والقول والاعتقاد. * * * 3172 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما سالمناهُمْ منذُ حاربناهُمْ، ومَنْ تركَ منهُمْ شيئًا خِيفةً فليسَ مِنَّا". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما سالمناهنَّ": المسالمة المصالحة؛ أي: ما صالحنا الحيات. "منذ حاربناهن"؛ أي: وقع بيننا وبينهن الحرب، فإن المحاربة والمعاداة بين الحية والإنسان جِبلِّية؛ لأن كلًّا منهما مجبول ومطبوع على طلب قتل الآخر، وقيل: أراد به العداوة بينها وبين آدم - عليه السلام - على ما يقال: إن إبليس قصد دخول الجنة، فمنعه الخزنة، فأدخله الحية في فيها، فوسوس إلى آدم وحواء - عليهما السلام - حتى أكلا من الشجرة المنهية، فأخرجا منها، قال

تعالى: {اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [الأعراف: 24]، والخطاب لآدم وحواء وإبليس والحية، وكانت في أحسن صورة فمسخت، فينبغي أن تدوم تلك العداوة. وفي بعض النسخ: (ما سالمناهم)، أتى بضمير العقلاء للحيات، وأجراها مجراهم؛ لإضافة الصلح الذي هو من أفعال العقلاء إليهم. "ومن ترك شيئًا منهن خيفةً"؛ أي: من ترك التعرض لهن مخافةَ لحوق ضرر منهن، أو من صاحبتها، "فليس منا". * * * 3173 - وعن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اُقتُلُوا الحيَّاتِ كلَّهُنَّ، فمنْ خافَ ثأرَهُنَّ فليسَ منِّي". "عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اقتلوا الحيات كلهنَّ، فمن خاف ثأرهَّن"؛ أي: انتقامهن، "فليس مني". * * * 3174 - وقال العبَّاسُ - رضي الله عنه - لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّا نريدُ أنْ نكْنُسَ زمزَمَ وإنَّ فيها مِنْ هذهِ الجنَّانِ - يعني الحيَّاتِ الصِّغارَ - فأمرَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بقَتْلِهِنَّ. "وقال العباس - رضي الله تعالى عنه - لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنا نريد أن نكنس زمزم"؛ أي: نطهر بئر زمزم. "وإن فيها من هذه الجنان": جمع جان؛ "يعني: الحيات الصغار، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتلهن". * * * 3175 - عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: اقتُلُوا الحيّاتِ كُلَّها إلَّا الجانَّ الأبيضَ

الذي كأنَّه قضيبُ فِضَّةٍ. "وعن ابن مسعود - رضي الله تعالى عنه - قال: اقتلوا الحيات كلها إلا الجانَّ الأبيضَ الذي كأنه قضيب فضة"؛ أي: سوط من فضة، لعل النهي عن قتل هذا النوع من الحيات إنما كان لعدم ضررهن؛ لأنه لا سمَّ له. وعن ابن عباس: أنه مسخ الجن كمسخ القردة من بني إسرائيل. * * * 3176 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وَقَعَ الذُّبابُ في إناءِ أحدِكمْ فامْقُلُوهُ ثمَّ انقُلُوه، فإنَّ في أحدِ جناحَيْهِ داءً وفي الآخرِ شِفاءٍ، وإنه يتَّقي بجناحِهِ الذي فيهِ الدَّاءُ، فلْيغمِسْهُ كُلَّهُ". "عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فامْقُلُوه"؛ أي: فاغمسوه في الطعام. "ثم انقلوه"؛ أي: فأخرجوه منه. "فإن في أحد جناحيه داء، وفي الآخر شفاء، وإنه يتَّقي بجناحه": يقال: اتقى زيد بحق عمرو: إذا استقبله به، وقدَّمه إليه؛ أي: إنه يقدم جناحه. "الذي فيه الداء، فليغمِسْهُ كلَّه": ويجوز أن يكون معناه: يحفظ نفسه بتقديم ذلك الجناح من أذيةٍ تلحقه من حرارة ذلك الطعام. * * * 3177 - ويرويه أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وقعَ الذُّبابُ في الطَّعامِ فامقُلُوهُ، فإنَّ في أحدِ جناحَيْهِ سُمًّا وفي الآخرِ شِفاءً" وإنَّهُ يُقَدِّمُ السُّمَّ، ويُؤخّرُ الشِّفاءَ".

4 - باب العقيقة

"ويرويه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا وقع الذباب في الطعام فامْقُلُوه؛ فإن في أحد جناحيه سُمًّا، وفي الآخر شفاء، وإنه يقدم السُّم، ويؤخر الشفاء". * * * 3178 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: نهَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ قتلِ أربعٍ مِنَ الدَّوابِّ: النَّملةِ والنَّحْلةِ والهُدْهُدِ والصُّرَدِ. والله المُستعان. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل أربع من الدواب: النملة": والنهي عن قتلها خاص بالكبار دون طوال الأرجل؛ لقلة ضررها. "والنحلة": وهذا لمنفعة العسل والشمع. "والهدهد، والصُّرَد": وهو طائر ضخم الرأس والمنقار، له ريش عظيم، نصفه أبيض ونصفه أسود، وهذا لتحريم لحمها وعدم ضررها، فإنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن ذبح حيوان لغير مأكله. وقيل: الهدهد منتن الريح، فهو كالجلالة، والصُّرد تتشاءم به العربُ، وتتطير بصورته وشخصه. * * * 4 - باب العقِيقةِ (باب العقيقة) وهي الشاة المذبوحة على ولادة المولود، من (العقّ)، وهو: الشعر المحلوق

من رأسه عند ولادته، سميت الشاة بها مجازًا؛ لذبحها عند حلقه في السابع، أو من (العق): القطع والشق، ويسمى الشعر والذبيحة المذكوران بهما؛ لقطعهما وشقِّ حلقومها. مِنَ الصِّحَاحِ: 3179 - عن سلمانَ بن عامِرٍ الضَّبيِّ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مع الغُلامِ عَقيقةٌ، فأَهْريقُوا عنه دمًا، وأمِيطُوا عنهُ الأذَى". "من الصحاح": " عن سليمان بن عامر الضَّبيِّ": بفتح الضاد وتشديد الباء والياء. "قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: مع الغلامِ"؛ أي: مع ولادته. "عقيقةٌ، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا"؛ أي: أبعدوا "عنه الأذى": يريد به النجاسة والأوساخ التي يلطخ بها المولود حال الولادة، وقيل: هو الشعر. 3180 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُؤتَى بالصِّبيانِ فيُبَرِّكُ عَلَيْهِمْ ويُحنِّكُهم. "عن عائشة رضي الله تعالى عنها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يؤتى بالصبيان، فيبرك عليهم"؛ أي: يدعو لهم بالبركة. "ويحنكهم"؛ أي: يمضغ التمر، أو شيئاً من الحلو، ثم يطعمهم.

3181 - وعن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ رضي الله عنها: أنَّها حَمَلتْ بعبدِ الله ابن الزُّبَيْرِ بمكَّةَ، قالت: فولدتُ بقُباءٍ، ثمَّ أتيتُ بهِ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فوضَعتُهُ في حَجْرِهِ، ثمَّ دعا بتَمْرةٍ فمضَغَها ثمَّ تَفَلَ في فيهِ، ثمَّ حنَّكَهُ، ثم دعا لهُ وبَرَّكَ عليهِ، فكانَ أوَّلَ مولودٍ وُلدَ في الإسلامِ. "عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما: أنها حملت بعبد الله بن الزبير بمكة قالت: فولدتُ بقُباء" بالضم والمد: موضع بالحجاز، وقيل: قرية جامعة على ثلاثة أميال من المدينة. "ثم أتيتَ به رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فوضعته في حجره، ثم دعا بتمرة فمضغها، ثم تفل"؛ أي: ألقى ذلك التمر. "في فيه، ثم حنَّكه، ثم دعا له وبرَّك عليه"؛ أي: قال: بارك الله عليك. "وكان أول مولود": من المهاجرين. "ولد في الإسلام": بعد الهجرة. مِنَ الحِسَان: 3182 - عن أمِّ كُرْزٍ: أنَّها قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "أقِرُّوا الطَّيرَ على مَكِناتِها". قالت: وسمعتُهُ يقول: "عنِ الغُلامِ شاتانِ وعنِ الجاريَةِ شاةٌ، ولا يَضُرُّكُمْ ذُكْرانًا كُنَّ أو إناثًا"، صحيح. "من الحسان": " عن أم كُرْز": بضم الكاف وسكون الراء المهملة وبعده زاي معجمة. "قالت: سمعت رسول الله يقول: أقِرُّوا الطيرَ على مُكُناتها" بضم الميم والكاف، وقيل: بالفتح ثم الكسر: جمع مكنة، وهي: أوكار الطيور؛ أي:

اتركوا الطير على حالها في مواضعها، لا تنفروها، ولا تتعرَّضُوا لها، ودعوا التطيُّر بها؛ فإنها لا تضر ولا تنفع، وكانت الجاهلية إذا أراد أحدهم سفرًا أتى طيرًا ساقطًا على الأرض، أو في وكره، فينفر [هـ]؛ فإن طار يمينًا مضى لحاجته، وإن طار شمالاً رجع، فنهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك. "قالت: وسمعته يقول: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة": وبه قال جمع، وعليه الشافعي، وسوَّى قوم بين الغلام والجارية عن كلٍّ شاة، وهو قول مالك، ولا يرى الحسن وقتادة عن الجارية عقيقة، والحديث حجةٌ عليهم، ويختص بما يجوز أضحيته. "ولا يضركم ذكرانًا كن": تلك الشياه، "أو إناثًا"؛ لأن السنة ذبح مطلق الشاة. "صحيح". 3183 - وعن الحَسَنِ، عن سَمُرةَ: أنَّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الغُلامُ مُرْتَهَنٌ بعقيقتِهِ يُذبَحُ عنهُ يومَ السابعِ ويُسمَّى ويُحْلَقُ رأْسُه"، ورَوى بعضُهم: "ويُدَمَّى" مكانَ "ويُسمَّى". "عن الحسن، عن سَمُرةَ قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الغلام مُرتهَن": بضم الميم وفتح الهاء؛ أي: مرهون. "بعقيقته": معناه: أنه محبوس سلامته عن الآفات بعقيقته، أو أنه كالشيء المرهون؛ لا يتمُّ الاستمتاع به دون أن يقابل بالعقيقة؛ لأنه نعمة من الله على والديه، وإنما تتمُّ (¬1) النعمة على المنعم عليه إذا قابلها بالشكر (¬2). ¬

_ (¬1) في "غ" و"ت": "هم"، والصواب المثبت. (¬2) في "غ" و"ت": "بالشك"، والصواب المثبت.

وقيل: معناه تعلق شفاعته لأبويه بعقيقته؛ لا يشفع لهما إن مات طفلاً ولم يعقَّ عنه. "يذبح عنه يوم السابع": فإن لم يهيأ فيوم الرابع عشر، وإلا فيوم أحد وعشرين. "ويسمى" [في] هذا اليوم السابع لا قبله، "ويحلق رأسه". "وروى بعضهم: (ويُدمَّى) مكان: ويسمى": معناه يلطخ رأسه بدم العقيقة، عن قتادة: أنه تُأخذ قطعة صوف، وتوضع على أوداج العقيقة إذا ذبحت؛ لتصب عليها الدم، ثم تُوضع على يافوخ الصبي. وكره الأكثرُ تلطخ رأسه بالدم؛ لأنه صنيع الجاهلية، وضعَّفوا رواية التدمية؛ لأنه يسن إماطة الأذى عنه، فكيف يؤمر بازدياده؟! وقيل: هو الختان، وهذا أقرب. 3184 - وعن عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي الله عنه - قال: عَقَّ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ الحَسَنِ بشاةٍ وقال: "يا فاطمَةُ! اِحلِقي رأسَهُ وتصدَّقي بزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً". فوزنَّاهُ فكانَ وزنُهُ دِرهمًا أو بعضَ دِرهمٍ. غريبٌ غيرُ متَّصلٍ. "وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قال: عقَّ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الحسن بشاة فقال: يا فاطمة! احلقي رأسه، وتصدقي بزنة شعره فضة، فوزناه فكان وزنه درهمًا، أو بعض درهم". "غريب غير متصل".

3185 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَقَّ عنِ الحَسنِ والحُسَيْنِ كَبشًا كَبشًا. "عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عقَّ عن الحسن والحسين كبشا كبشًا"؛ أي: لكل واحد كبشًا. 3186 - عن عمرِو بن شُعَيْب - رضي الله عنه -، عن أبيه، عن جدِّه قال: سُئِلَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ العَقِيقةِ فقال: "إن الله تعالى لا يُحبُّ العُقُوقَ". كأنَّهُ كرِهَ الاسمَ. وقال: "مَنْ وُلِدَ لهُ فأَحبَّ أنْ يَنسُكَ عنهُ فلْيَنْسُكْ، عنِ الغُلامِ شاتانِ، وَعنِ الجارِيَةِ شاةٌ". "عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده قال: سُئِلَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن العقيقة فقال: لا يحبُّ الله العقوق"؛ أي: العصيان. "كأنه كره الاسم": هذا من كلام بعض الرواة؛ أي: استقبح أن تسمَّى عقيقة؛ لئلا يظن أنها مشتقة من العقوق، وأحب أن يسميه بأحسن منه من ذبيحة، أو نسيكة على مذهبه في تغيير الاسم القبيح إلى ما هو أحسن منه. "وقال: من ولد له مولود، فأحب أن ينسكَ عنه، فلينسكْ عن الغلام بشاتين (¬1)، وعن الجارية بشاة (¬2) ": وقيل: إن العقوق حقيقة في حق المولود، فإنه إذا لم يراعِ حقَّ أبويه صار عاقًا، ثم استعير لامتناع الوالد من أداء حق المولود، يسمى ترك الوالد أداء ما توجه عليه من السُّنة عقوقًا على الاتساع، فقال: لا يحب الله العقوق؛ أي: ترك ذلك من الوالد مع قدرته عليه يُشبهُ ¬

_ (¬1) في "غ ": "شاتين". (¬2) في "غ": "شاة".

إضاعةَ المولود حق أبويه، ولا يحب الله ذلك. 3187 - وعن أبي رافعٍ عنه قال: رأيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَذَّنَ في أُذُنِ الحسنِ ابن عليٍّ حينَ ولدَتْهُ فاطِمةُ بالصَّلاةِ. صحيح. "عن أبي رافع - رضي الله تعالى عنه - قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أذَّن في أُذُنِ الحسن بن علي - رضي الله عنه - حين ولدته فاطمة بالصلاة": متعلق بـ (أذن)؛ أي: أذن بمثل أذان الصلاة، وهذا يدل على سنية أذان المولود، وكان عمر بن عبد العزيز يؤذن في الأذن اليمنى، ويقيم في أذنه اليسرى حين ولد الصبي. "صحيح".

19 - كتاب الأطعمة

19 - كِتابُ الأَطْعِمَةِ

19 - كِتابُ الأَطْعِمَةِ (كتاب الأطعمة) مِنَ الصِّحَاحِ: 3188 - قال عمرُ بن أبي سلمةَ - رضي الله عنه -: كنتُ غُلامًا في حَجْرِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانتْ يَدي تَطيشُ في الصَّحْفَةِ، فقال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَمِّ الله، وكُلْ بيمينِكَ، وكُلْ ممَّا يَليكَ". "من الصحاح": " قال عمر بن أبي سلمة: كنت غلامًا في حجر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: كنت صبيًا في تربيته، وكانت أمي زوجته - صلى الله عليه وسلم -. "وكانت يدي تطيش في الصحفة"، أي: تَخِفُّ (¬1)، وتتناول في القصعة من كل جانب. قيل: الصحفة: ما يشبع خمسة، والقصعة: ما يشبع عشرة. "فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سمِّ الله"؛ أي: قل: بسم الله. "وكُلْ بيمينك، وكُلْ مما يليك"؛ أي: يقربك، لا من كل جانب. ¬

_ (¬1) في هامش "غ": "أي: تدور".

3189 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الشَّيطانَ يَستحِلُّ الطعامَ أنْ لا يُذكرَ اسمُ الله عليهِ". "عن حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الشيطان يستحل الطعام"؛ أي: يعتقد حله بأن يجعله منسوبًا إليه. "أن لا يُذكَر" أي: لأن لا يذكر "اسمُ الله عليه"؛ لأن التسمية تكون مانعة عنه، فيصير كالشيء المحرم عليه. وقيل: المراد به: تطير البركة بحيث لا يشبعُ مَنْ أكله. 3190 - وقال: "إذا دخلَ الرَّجلُ بيتَهُ فذكرَ الله عندَ دُخولِهِ وعندَ طعامِهِ قالَ الشَّيطانُ: لا مَبيتَ لكُمْ ولا عَشاءَ، وإذا دخلَ فلمْ يذكُرِ الله عندَ دُخولِهِ قالَ الشيطانُ: أدركْتُمُ المَبيتَ، وإذا لمْ يَذْكُرِ الله عندَ طعامِهِ قال: أدركْتُمُ المَبيتَ والعَشاءَ". "عن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا دخل الرجل بيته فذكر الله عند دخوله وعند طعامه، قال الشيطان" لأعوانه: "لا مبيتَ لكم"؛ أي: موضع البيتوتة. "ولا عَشاء" بفتح العين والمد: هو الطعام الذي يؤكل في العشية، وهي من صلاة المغرب إلى العتمة؛ يعني: لا يتيسر لكم المسكن والطعام في هذا البيت، فالتيقظُ لذكر الله في جميع الحالات مؤمِّنٌ من إغواء الشيطان وتسويله، ومؤنسٌ له بالكلية. "وإذا دخل فلم يذكر الله عند دخوله، قال الشيطان: أدركتم المبيت، وإذا لم يذكر الله عند طعامه، قال: أدركتم المبيت والعشاء": فإن انتهاز

الشيطان الفرصة من الإنسان هو [في] حالة الغفلة عن الذكر. * * * 3191 - وقال: "إذا أكلَ أحدٌ منكُمْ فليأكُلْ بيمينِهِ، وإذا شَرِبَ فلْيَشربْ بيمينهِ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أكل أحدكم فليأكلْ بيمينه، وإذا شرب فليشربْ بيمينه". 3192 - وقال: "لا يأكُلَنَّ أحدٌ مِنْكُم بشِمالِهِ، ولا يشرَبن بها، فإنَّ الشَّيطانَ يأكُلُ بشِمالِهِ ويشربُ بها". "وعن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يأكلنَّ أحدكم بشماله، ولا يشربن بها"؛ لما فيه من الاستهانة بنعمة الله؛ إذ كرامة النعمة أن يتناول باليمين. "فإن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها"؛ أي: يحمل أولياءه من الإنس على ذلك الصنيع؛ ليضار به عباد الله الصالحين، ويجوز حمله على حقيقته؛ لأن الجن لهم أكلٌ. 3193 - عن كعبِ بن مالكٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأكُلُ بثلاثِ أصابعَ ويَلْعَقُ يدَهُ قبلَ أنْ يمسحَها. "عن كعب بن مالك - رضي الله تعالى عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأكل بثلاث أصابع": وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأكل بإصبع أكل الشيطان، والأكل

بإصبعين أكل الجبابرة". "ويلعق يده": ويلحس أصابع يده. "قبل أن يمسحها" بشيء، والمسحُ بالمنديل قبل اللعق عادة الجبابرة. 3194 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ بلَعْقِ الأصابعِ والصَّحْفَةِ، وقال: "إنَّكمْ لا تدرُونَ في أيهِ البَرَكَةُ". "عن جابر - رضي الله تعالى عنه -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أمر بلعق الأصابع والصّحْفة وقال: إنكم لا تدرون في أية"؛ أي: أية إصبع أو لقمة من الطعام "البركةُ"، فليحفظ تلك البركة باللعق، أنَّث لفظ (أيَّة) باعتبار الإصبع، أو اللقمة. 3195 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أكلَ أحدُكُمْ طعامَه فلا يَمسحْ يَدَهُ حتَّى يَلعقَها أو يُلعِقَها". "وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أكل أحدُكم فلا يمسح يده حتى يلعقَها"؛ أي: الأصابع بنفسه بعد الفراغ من الطعام. "أو يُلعِقَهَا"، بضم الياء، مفعوله الثاني محذوف؛ أي: غيرَه، ومن الأدب ترك لعق الأصابع، أو تركْ مَسْحِها بشيء قبلَ الفراغِ من الأكل. 3196 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّ الشَّيطانَ يحضُرُ أحدُكُمْ عندَ كُلِّ شيء مِنْ شأنِهِ حتَّى يحضُرَهُ عندَ طعامِهِ، فإذا سقَطَتْ منْ

أحدِكُمْ اللُّقْمَةُ فلْيُمِطْ ما كان بِهَا مِنْ أذى ثمَّ ليأكُلْها ولا يدَعْها للشَّيطانِ، فإذا فرغَ فلْيَلْعَقْ أصابعَهُ فإنَّهُ لا يَدْري في أيِّ طَعَامِهِ تكونُ البركَةُ". "وعن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنَّ الشيطانَ يحضُرُ أحدُكم عند كلِّ شيءٍ من شأنه"، صفة شيء من فعله. "حتى يحضرَه عندَ طعامهِ، فإذا سقطتْ مِن يدِ أحدِكم اللقمةُ فليُمِطْ"؛ أي: فليُزِل عن اللُّقمة "ما كان بها من أذى"، المراد به ما يُستقذَر من ترابِ ونحوِه. "ثم ليأكلْها"، وإن وقعتْ على نَجِسٍ فليغسِلْها إن أمكنَ، وإلا أطعمَها هِرَّةً أو كلبًا. "ولا يَدَعْها"؛ أي: لا يترك اللُّقمةَ الساقطةَ "للشيطان"، تركها له: كناية عن تضييع النعمة والاستحقارِ بها، والتخلُّق بأخلاقِ المتكبرين على رفْعهِا وتناولهِا، وهذا من عمل الشيطان. "فإذا فرغَ"؛ أي: أحدُكم من الطعام. "فليلعَقْ أصابعَه، فإنه لا يدريِ في أيِّ طعامِه تكونُ البَرَكة"؛ أي: في الطعام الذي أكلَه أم في الذي لَصِقَ في أصابعه. 3197 - عن أبي جُحَيْفة - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا آكلُ مُتَّكِئًا". "عن أبي جُحَيفة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا آكلُ متكئًا"، يجوز أن يرادَ بالاتكاء هنا إسنادُ الظهرِ إلى الشيءِ، أو وَضْعُ إحدى اليدين على الأرضِ والاتكاءُ عليها، أو القُعودُ على وجهِ التمكُّن من الأرضِ والاستواءُ جالسًا، كلَّ ذلك منهيٌّ عنه عندَ الأكل؛ لأن فيه تكبُّرًا.

روي أنه قال: "آكلُ كما يأكلُ العبدُ، وأجلسُ كما يجلِسُ العبدُ، وإنما أنا عبدٌ"، وأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس على الأرض ويأكلُ عليها. 3198 - وعن قَتادةَ، عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: ما أكلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على خِوانٍ ولا في سُكُرُّجَةٍ، ولا خُبزَ لهُ مُرَقَّقٌ. قيل لقتادةَ: علامَ يأكُلونَ؟ قال: على السُّفَرِ. "عن قَتادة، عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: ما أكلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على خِوانٍ"، وهو - بالكسر - الذي يؤكَل عليه، معرَّبٌ؛ لأن ذلك دأْبُ الجَبَّارين. "ولا في سُكُرُّجَةٍ" بضم اليسن والكاف والراء (¬1): معربة قَصْعَة صغيرة. وقيل: بفتح الراء؛ لأنه معرَّب سُكَّرَة، والراء في الأصل مفتوحة، وهي غالبًا يوضع فيها الحوامضُ حولَ الأطعمةِ للتشهِّي والهَضْم، وذلك من فِعل الأعاجم، وإنما لم يأكلْ منها احترازًا عن التكبُّر والبخل. "ولا خُبزَ له"، على صيغة الماضي المجهول. "مرقَّقٌ "؛ أي: رقيق. "قيل لقَتَادة: على ما يأكون؟ قال: على السُّفَر"، بضم السين وفتح الفاء جمع السُّفْرَة بالسكون، وهي في الأصل طعامٌ يتخِذُه المسافِرُ، ثم سُمَّي الجِلْد المستدير المحمول. * * * 3199 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: ما أعلمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأَى رغيفًا مُرقَّقًا حتَّى لحِقَ بالله، ولا رأَى شاةً سَميطًا بعَيْنهِ قطُّ. ¬

_ (¬1) في "ت" و"غ": "بضم المثلثة والتشديد".

"وقال أنسٌ: ما أعلَمُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى رَغِيفًا مرقَّقًا"؛ أي: خبزًا رقيقًا. "حتى لَحِقَ بالله"؛ أي: مات. "ولا رأى شاة سَمِيطًا"؛ أي: مشوِيًا مع جِلد بعد أن ينقِّيه من الشعر بالماء الحار؛ أي: ما رآها. "بعينه قطُّ"؛ لأن فيه تنعُّمًا. 3200 - وعن سهلِ بن سعدٍ - رضي الله عنه - قال: ما رأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّقيَّ منْ حِينِ ابتعثَهُ الله حتَّى قبضَهُ الله. وقال: ما رأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُنخُلًا مِن حِينِ ابتعثَهُ الله حتَّى قبضَهُ الله. قيل: كيفَ كُنْتُمْ تأكلُونَ الشَّعيرَ غيرَ منخُولٍ؟ قال: كنَّا نَطحَنُهُ وننفخُهُ فيطيرُ ما طار، وما بقي ثَرَّيْناهُ فأكلناه. "عن سَهْل بن سعد قال: ما رأى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم النَّقِيَّ"؛ أي: خبزَ الحِنْطة المنقاد، أو ما نُقِّي دقيقُه من النِّخَالة. "من حينَ ابتعثَه الله"؛ أي: أوحى إليه. "حتى قَبَضَه الله"؛ أي: إلى أن فارقَ الدنيا. "وقال: ما رأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُنْخُلاً من حينَ ابتعثَه الله حتى قبضَه الله، قيل: كيف كنتم تأكلُون الشَّعيرَ غيرَ مَنْخُولٍ؟ قال: كنا نطحَنهُ وننفُخُه" بأفواهنا. "فيطيرُ ما طارَ"؛ يعني يذهَبُ ما ذهبَ من النُّخَالَة. "وما بقي ثَرَّيْناه"؛ أي: بَلَلْناه بالماء، مِن ثَرى الترابَ يَثْرِيه؛ أي: رشَّ عليه الماء. "فأكَلْنَاه".

3201 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -. قال: ما عابَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قَطُّ، إن اشتَهاهُ أكلَهُ وإنْ كَرِهَهُ تركَهُ. "عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: ما عابَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - طعامًا قطُّ، إن اشتهاه أكلَه وإن كرهَه تركَه"، فالسنَّةُ ألَّا يُعابَ الطعامُ. 3202 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المؤمنَ يأكُلُ في مِعًى واحِدٍ، والكافرُ يأكُلُ في سَبعةِ أمعاءً". "وعن أبي هريرة وابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قالا: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ المؤمنَ يأكلُ في مِعًى واحد"، بكسر الميم، جمع الأمعاء. "والكافِرُ يأكلُ في سبعةِ أَمْعَاء"؛ يعني أنَّ المؤمنَ يبارَكُ له في طعامِه ببركة التسميةِ حتى يقعَ النسبةُ بينَه وبينَ الكافر كنسبةِ مَن يأكُلُ في مِعًى واحدٍ مع مَن يأكلُ في سبعة أمعاء، وقيل: معناه يأكلُ الكافِرُ سبعةَ أمثالِ أكْلِ المؤمن، أو تكون شهوتُه سبعةَ أمثالِ شهوة المؤمن، فتكون الأمعاء كنايةً عن الشهوة. وقيل: أُرِيدَ بالسبعة مجردُ التَّكْثِير، أو المراد: المؤمنُ لا يأكُلُ إلا من جهةٍ واحدةٍ، وهي الحلال، والكافر يأكُل من جهات مختلِفة مَشُوبَة، أو هو مَثَلٌ ضربَه - صلى الله عليه وسلم - لزهد المؤمن في الدنيا، وحِرْصِ الكافرِ عليها، فهذا يأكلُ بُلْغةً وقُوتاً فيشبعُه القليلُ، وذاك يأكلُ شهوةً وحرصًا فلا يكفيه الكثيرُ، وليس المعنى زيادةَ مِعاءِ الكافر على مِعاءِ المؤمن. قال أبو عُبيد: وردَ الحديثُ خاصًا في رجلٍ كان أَكُولًا في الكفر، فلما أسلمَ قلَّ أكلُه، وإلا فكم مِن كافرٍ أقلُّ أَكْلًا من مُسْلِم.

3203 - وفي روايةٍ: "المُؤْمنُ يشربُ في مِعًى واحدٍ، والكافرُ يشربُ في سَبعةِ أمعاءٍ". "وفي رواية: المؤمنُ يشرَبُ في مِعًى واحدٍ، والكافر يشرَبُ في سبعة أمعاء"، قاله لمَّا ضافَه - صلى الله عليه وسلم - ضيفٌ كافرٌ، فأمرَ له - صلى الله عليه وسلم - بشاة فحُلِبَتْ، فشرِبَ حِلاَبَها إلى حِلاَبِ سبعِ شياه، ثم إنه أصبحَ فأسلمَ، فأمرَ له - صلى الله عليه وسلم - بشاةٍ فحُلِبت فشرب حِلابَها، ثم أمر له بأخرى فلم يَسْتَتِمَّها. 3204 - وقال: "طعامُ الاثنينِ كافي الثلاثةِ، وطعامُ الثلاثةِ كافي الأربعَةِ". "وقال: طعامُ الاثنين كافي الثلاثة"، قيل: معناه: طعامُ الاثنين يُغذِّي الثلاثة، ويُزِيل الضعف عنهم، لا أنه يُشبعِهُم فإنه مذمومٌ كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أكثركُم شَبَعًا في الدنيا أَطْولُكم جوعًا يوم القيامة". "وطعام الثلاثةِ كافي الأربعة". 3205 - وفي روايةٍ: "طعامُ الواحِدِ يَكفي الاثنَيْنِ، وطعامُ الاثنَيْنِ يَكفي الأَربعَةَ، وطعامُ الأَرْبَعَةِ يَكفي الثَّمانِيةَ". "وفي رواية: طعامُ الواحدِ يَكفي الاثنين، وطعامُ الاثنينِ يكْفِي الأربعةَ، وطعامُ الأربعة يكفي الثمانية"، والغرضُ منه: أن الرجلَ ينبغي أن يَقْنعَ بنصف الشبع، ويعطي الزائد محتاجًا إليه. 3206 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها قالت: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -

يقولُ: "التَّلْبينَةُ مُجمَّةٌ لفُؤادِ المريضِ، تَذهبُ ببعضَ الحُزْنِ". "وعن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: التَّلْبينَة"، وهي حِساءٌ يُتَّخَذُ مِن دقيق، أو نِخَالة، وربما يُجْعَلُ فيها عَسَلٌ، وقيل: هو ماءُ الشعير، سُمِّيت بذلك تشبيهًا باللبن ببياضها ورِقَّتِها. "مُجِمَّة" بضم الميم، وهو الأكثر بمعنى مريحة من الجِمَام، وهو الراحة، ومنهم من يفتح الميم؛ أي: راحة. "لفؤاد المريض"؛ أي: لقلبه. "تذهبُ ببعض الحُزْن"، هذا كالتفسير والبيان لقوله: (مُجِمَّة). 3207 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ خيَّاطًا دعا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لطعامٍ صَنعهُ، فذهبتُ معَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقرَّبَ خُبزَ شعيرٍ ومَرَقًا فيهِ دُبّاءٌ وقَدِيدٌ، فرأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَتتَبعُ الدُّبَّاءَ منْ حَوالَي القَصْعَةِ، فلمْ أَزَلْ أُحِبُّ الدُّبّاءَ بعدَ يَومئذٍ. "وعن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه -: أن خَيَّاطًا دعا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - إلى طعام صَنعَه، فذهبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقرَّبَ خبزَ شعير، ومَرَقًا فيه دُبَّاءٌ"؛ أي: قَرْعٌ. "وقَدِيدٌ"؛ أي: لحمٌ مُقدَّد. "فرأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يتتبَّع الدُّبَّاء"؛ أي: يطلُبُ القَرْع. "من حوالَي القَصْعَة"، وهذا يدل على جواز مَدِّ اليدِ إلى ما يلي إذا اختلف، أو لم يعرفْ مِن صاحبهِ كراهة. "فلم أزلْ أُحبُّ الدُّبَّاء بعدَ يومئِذٍ".

3208 - عن المغيرةِ بن شُعبةَ قال: ضفتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلةٍ فأمرَ بجَنْبٍ فشُوِي، ثمَّ أخذَ الشَّفرةَ فجعلَ يَحُزُّ لي بها منه، قال: فجاءَ بلالٌ يُؤْدِنُهُ بالصَّلاة، فألقَى الشَّفرةَ فقال: "ما لَه تَرِبَتْ يَدَاهُ؟ " قال: وكانَ شَارِبُهُ وَفَى، فقال لي: "أَقُصُّه لك على سِواكٍ" أو "قُصَّهُ على سِواكٍ". "عن المْغيرة بن شُعبة - رضي الله تعالى عنه - قال: ضفْتُ معَ رسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذاتَ ليلةٍ"؛ أي: كنتُ ليلةً ضيفًا. "فأمرَ بَجنْبٍ فشوي، ثم أخذ الشَّفْرَة فجعلَ يَحُزُّ"؛ أي: يقطعُ "لي بها منه"؛ أي: بالشَّفْرَة من الجَنْبِ المشوِيِّ. "فجاء بلالٌ يُؤْذِنُه"؛ أي: يُعْلِمُه "بالصلاة، فألقى الشَّفْرة فقال: ما لَه"؛ أي: ما لبلال يؤِّذنُ في هذا الوقت. "تَرِبَتْ يداه"، دعاء بالفقر تقولُها العرب عند اللوم، وقد يُطْلِقُونها ولا يريدون وقوعَ ذلك. "قال"؛ أي: المغيرة. "وكان شارِبُه"؛ أي: شارِبُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -. "وفاءً"؛ أي: تامًا كاملًا، وقيل: كثيرًا، وفي "شرح السنة": طويلًا. "فقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "لي: أَقُصُّه لك على سِواك"؛ أي: أُمَكِّنك من قَصِّه قدر سِوَاكٍ عرضًا. "أو قُصَّه على سِوَاك" بأن يوضَعَ السِّوَاك على الفم، ثم يُقْطَعَ ما يحاذِيه من الشارب. 3209 - عن عمرِو بن أُمَيَّةَ: أنَّهُ رأَى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يحتزُّ مِنْ كَتِفِ شاةٍ في

يدِهِ، فدُعيَ إلى الصَّلاةِ فألقاها والسِّكِّينَ التي يحتزُّ بها، ثمَّ قامَ فصلَّى ولمْ يتوضَّأْ. "عن عمرو بن أمية: أنه رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يجتَزُّ؛ أي: يْقطَعُ "من كتِفِ شاة" بسِكِّينٍ كان "في يده، فدُعيَ إلى الصلاة فألقاها"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - كتف الشاة. "والسِّكّينَ التي يَجْتَزُّ بها، ثم قام فصلَّى ولم يتوضَّأْ"؛ أي: لم يغسِلْ يده. 3210 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّ الحلواءَ والعسلَ. "وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يحبُّ الحُلْوَاء والعَسَل". 3211 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - سألَ أهلَهُ الأُدْمَ، فقالوا: ما عِندَنا إلا خَلٌّ، فدَعا بهِ فجعلَ يأكُلُ ويقول: "نِعْمَ الإدامُ الخلُّ، نِعْمَ الإدامُ الخلُّ". "وعن جابر - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سألَ أهلَه الأُدمَ"، بضم الهمزة وسكون الدال المهملة: ما يؤتدَم به. "فقالوا: ما عندنا إلا خَلٌّ فدعا به"؛ أي: طلبَ الخَلَّ. "فجعلَ"؛ أي: شَرعَ "يأكل به"؛ أي: الخبز بالخل. "ويقول: نِعْمَ الإدامُ الخَلُّ"، قيل: هذا مَدْحُ الاقتصاد في المأكَلِ ومَنعْ

النفس عن ملاذِّ الأطعمة. 3212 - وقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الكَمْأَةُ منَ المَنِّ، وماؤُها شِفاءٌ للعَيْن". وفي روايةٍ: "مِنَ المَنِّ الذي أنزلَ الله تعالى على موسى عليه السَّلام". "وعن سعيدِ بن زيد قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الكَمْأَة" بفتح الكاف وإسكان الميم وبعدها همزة: نبت بالبرية تنشَقُّ عنه الأرض. "من المَنِّ"؛ أي: مما مَنَّ الله على عباده وأعطاه، أو هي شبيهةٌ بالمنِّ النازل من السماء في حصولها بلا تَعَبٍ وزَرْع. "وماؤها شفاءٌ للعَيْن"، قيل: مخلوطًا بالأدوية، وقيل: مُفرَدًا وهو الظاهر؛ لأنه - عليه السلام - أطلقَ ولم يَذْكُر الخَلْطَ، ولَمِا رُويَ عن أبي هريرة أنه قال: عُصَرْتُ ثلاثَة أكمؤةٍ، وجعلتُ ماءَها في قارورةٍ فكَحَلْتُ به جاريةً لي فَبرئَتْ باذن الله تعالى. "وفي رواية: من المنِّ الذي أنزلَ الله تعالى على موسى". 3213 - عن عبدِ الله بن جعفرٍ - رضي الله عنه - قال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يأكُلُ الرُّطَبَ بالقِثَّاء. "عن عبد الله (¬1) بن جعفر أنه قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأكلُ الرُّطَب بالقِثَّاء". ¬

_ (¬1) في غ": "عبد الرحمن".

3214 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بمَرِّ الظَّهْرانِ نَجْني الكَباثَ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكُمْ بالأسودِ منهُ فإنَّهُ أطيبُ". فقيلَ: كنتَ ترعَى الغنمَ؟ فقال: "نعمْ، وهلْ مِنْ نبيٍّ إلَّا رَعاها". "وعن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: كنا مع رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بَمرِّ الظَّهْران"، اسمُ موضعٍ قريب من المدينة. "نجني الكَباثَ"، وهو - بفتح الكاف -: النضيجُ منَ ثَمرِ الأراك. "فقال: عليكم بالأَسْوَد منه"؛ أي: اقصِدُوا ما كان أسودَ من الكَبَاث. "فإنه أَطْيَبُ"؛ أي: أكثرُ لَذَّةً. "فقيل: كنتَ تَرْعَى الغنم؟ "؛ يعني هل كنتَ راعيَ الغنم حتى تعرِفَ الأطيبَ من غيره؟ فإن الراعيَ لكثرة تردُّده في الصحراء أعرَفُ به من غيره. "قال: نعم، وهل من نبيٍّ إلا رعاها"، أراد به: أن الله تعالى لم يضَع النبوةَ في أبناء الدنيا وملوكِها، ولكن في رِعاءِ الشَّاء، وأهلِ التواضع من أصحاب الحِرَف، كما روي أن أيوب - عليه السلام - كان خَيَّاطًا، وزكريا كان نجارًا، وغير ذلك، ورعاية موسى عليه السلام لشعيبٍ عليه السلام مشهورةٌ. قيل: الحكمةُ في رَعْيهم الغنمَ تحصيلُ التواضعِ بمؤانسة الضعفاء، وتصفية قلوبهم بالخَلْوة. 3215 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُقْعِيًا يأكُلُ تَمرًا. وفي روايةٍ: يأكُلُ منهُ أكلاً ذَريعًا. "عن أنسٍ قال: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُقْعِيًا"، من الإقعاء وهو الجلوس على الوركين.

"يأكل تمرًا، وفي رواية: يأكلُ منه أكلًا ذَرِيعًا"؛ أي: سَرِيعًا، قيل: وفيه دليل على أنه لا بأس بالمناهضة في الطعام وإن تفاوتوا في الأكْلِ إذا لم يقصِد مغالبةَ صاحبهِ. 3216 - وعن ابن عمرَ قال: نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَقْرُنَ الرَّجلُ بينَ التَّمرتَيْنِ حتَّى يستأذِنَ أصحابَهُ. "عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يقرِنَ الرجلُ بين التمرتين"؛ أي: يأكلَ اثنين اثنين. "حتى يستأذنَ أصحابَه"، هذا إذا كان زمانَ قَحْط، أو كان الطعام قليلاً والآكلون كثيرًا، فإنه إذ ذاك يَحتاج إلى الاستئذان. 3217 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يجوعُ أهلُ بيتٍ عندَهُمْ التَّمرُ". "عن عائشةَ - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يجوعُ أهلُ بيتٍ عندهم التمر"، أرادَ به أهلَ المدينة؛ لأن التمَر غالبُ أقواتهِم، أو مرادُه تعظيمُ شأنِ التمر. 3218 - وقال: "يا عائشةُ! بيتٌ لا تمرَ فيهِ جِياعٌ أهلُهُ"، قالها مرَّتينِ أو ثلاثًا.

"وقال: يا عائشةُ! بيتٌ لا تمرَ فيه جِياعٌ أهلُه"، جمع جائع؛ لأن من عادتهم ألَّا يشبَعُوا بالخبز دون التمر. "قالها مرتين أو ثلاثًا". 3219 - وقال: "من تصبَّحَ بسبعِ تَمَراتٍ عَجْوَةً لمْ يضُرَّهُ في ذلكَ اليومِ سُمٌّ ولا سِحْرٌ". "وعن سعدِ بن أبي وقَّاص قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن تصبَّحَ بسبع تمراتٍ"؛ أي: أَكلَها صباحًا. "عَجْوةً"، نصب على التمييز، وهو نوعٌ جيدٌ من التمر. "لم يَضُرَّه ذلك اليومَ سمٌّ ولا سِحْر"، تخصيص هذا النوع بالذِّكْر؛ لثبوت خاصية فيه لدفع السمِّ والسحر، عرفَها النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو لدعائه - صلى الله عليه وسلم - بأن يكون شفاءً لذلك الداء. 3220 - وقال: "إنَّ في عَجْوَةِ العالِيَة شِفاءً، أو إنَّها تِرْيَاقٌ أوَّلَ البُكْرَةِ". "وعن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ في عجوةِ العَالِيَة"، وهي موضع قريب من المدينة. وفي "المغرب": هي ما فوقَ نَجْدٍ إلى تِهَامة. "شِفاءً، وإنها تِرْيَاقٌ"؛ أي: تُفيد فائدةَ التِّرْياق. "أَوَّلَ البُكْرَة"، منصوبٌ على الظرفية؛ يعني: وقت الصبح.

3221 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كانَ يأتي علينا الشَّهرُ ما نُوقدُ فيهِ نارًا، إنّما هو التَّمرُ والماءُ، إلا أنْ نُؤتَى باللُّحَيْم. "عن عائشةَ - رضيَ الله تعالى عنها - قالت: كان يأتي علينا الشهرُ ما نوقِدُ فيه نارًا"؛ أي: لا نَطْبُخُ شيئاً. "إنما هو التَّمْرُ والماء"، الضمير للطعام وإن لم يُذْكَر. "إلا أن نُؤْتَى باللُّحَيْم" تصغير لحم؛ أي: إلا أنْ يرسَلَ إلينا قطعةُ لحم، فحينئذ نوقِد نارًا، والتصغير للإشعار بأنَّ ما يؤتَى به إلى أمهات المؤمنين لم يكن كَثيرًا، أو للمحبة والاشتهاء؛ لكونه سيدَ الإِدَام، أو تصغيرُ تَعظيم. 3222 - وقالت: ما شَبعَ آلُ محمَّدٍ يَومَيْنِ مِنْ خُبْزِ بُرٍّ إلا وأحدُهُما تَمرٌ. "وقالت: ما شبعَ آلُ محمدٍ يومين من خبزِ بُرٍّ إلا وأحدُهما"؛ أي: أحدُ اليومين. "تمرٌ"؛ أي: كنَّا نأكلُ يومًا خبزًا ويومًا تمرًا، ولا نأكلُ يومين متتابعَين خبزًا. 3223 - وقالت: ما شَبعَ آلُ محمِّدٍ مِنْ خُبزِ الشَّعير يَومينِ مُتَتابعينِ حتَّى قُبضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقالت: ما شبعَ آلُ محمد من خبزِ الشعير يومين متتابعين، حتى قُبضَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، وتجويعُهم هذا كان عن اختيار؛ لأنهم تركُوا الدنيا ولذتها، وقنِعُوا بأدنى قُوتٍ ولباس مختصر من غاية التنزُّه عنها،

وكانوا يُطْعِمُون الطعامَ على حُبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. 3224 - وقالت: تُوفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وما شَبعْنا مِنَ الأَسْوَدَيْنِ. "وقالت: توفِّي رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم وما شَبعْنا من الأَسْوَدين" التمرِ والماءِ، وإنما السَّوادُ التمر دون الماء، فُنعتا بنعتٍ واحد؛ لأن العربَ يسميانهما باسم الأشهرِ منهما. 3225 - وقالَ أبو هريرةَ - رضي الله عنه -: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الدُّنيا ولم يَشْبَعْ من خُبْزِ الشَّعيرِ. "وقال أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه -: خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا ولم يشبَعْ من خبزِ الشعير". 3226 - وقال النُّعمانُ بن بشيرٍ: ألَسْتُمْ في طعامٍ وشرابٍ ما شِئتم؟ لقد رأيتُ نبيَّكُمْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما يَجدُ مِنَ الدَّقَلِ ما يملأَ بطنَهُ. "وقال النعمان بن بَشِير - رضي الله عنه -: ألسْتُم في طعامٍ وشرابٍ ما شئتم؟ "؛ أي: ألستم متنعِّمين مقدارَ ما شئتُم في الوُسْعةِ؟ (ما) موصولةٌ، ويجوز أن تكون مصدريَّة، وفيه توبيخ. "لقد رأيتُ نبيَّكم وما يجدُ من الدَّقَل"، بفتح الدال: رديء التمر ويابسُه، (ما) هذه نافية. "ما يملأ بطنَه"، والجملةُ المنفيةُ تكون حالاً إن كان (رأيت) بمعنى النظر،

وإن كان بمعنى العلم يكون مفعولاً ثانيًا. 3227 - عن أبي أيوبَ - رضي الله عنه - قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتيَ بطعامٍ أكلَ منهُ وبعثَ بفضلِهِ إليَّ، وإنَّهُ بعثَ إليَّ يومًا بشيءٍ لمْ يأْكُلْ منهُ لأنَّ فيهِ ثُومًا، فسألتُهُ أحرامٌ هو؟ قال: "لا، ولكنِّي أكرهُ ريحهُ". قال: قلتُ: فإنِّي أكرهُ ما كَرِهْتَ. "عن أبي أيوبَ - رضي الله تعالى عنه - قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتِيَ بطعامٍ أكلَ منه وبعثَ بفضْلهِ إليَّ، وإنه بعثَ إليَّ يومًا بشيءٍ لم يأكُلْ منه؛ لأن فيه ثومًا، فسألتهُ أحرامٌ هو؟ قال: لا، ولكنِّي أكرَهُ ريحَه، قلت: فإني أكرَه ما كرهتَ". 3228 - وعن جابرٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أكلَ ثُومًا أو بَصَلًا فلْيَعْتزِلْنا" - أو قال: "فلْيعتزِلْ مسجدَنا"، أوَ "ليقعُدْ في بيتِه: - وأنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتيَ بقِدْرٍ فيها خَضراتٌ منْ بُقولٍ، فوجدَ لها ريحًا فقال: قرِّبوها - إلى بعضِ أصحابه، قال: "كُلْ فإنِّي أُناجِي مَنْ لا تُناجي". "وعن جابرٍ - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: مَن أكلَ ثومًا أَو بصلًا فليعتزلْنا"؛ أي: ليبعُدْ منا. "أو قال: فليعتزْل مسجدَنا، أو ليقعُدْ في بيتهِ". "وأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتي بقِدْرٍ"، رواه البخاري بالقاف في كتابه، وقيل: الصواب: (ببدر) بالباء الموحدة مكان القاف، وهو طبقٌ يُتَّخذُ من الخُوص، سُمِّيَ بذلك؛ لاستدارتهِ استدارةَ البَدْر.

"فيه خَضرَاتٌ" بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين: جمع خضر، ويروى: بضم الخاء وفتح الضاد واحدها خضرات. "مِن بُقُولٍ، فوجدَ لها ريحًا، فقال: قَرِّبوها، إلى بعض أصحابه، وقال: كلْ فإني أناجِي مَن لا تُنَاجي"، أراد به جبريل - عليه السلام -؛ يعني: فإني أُكلِّمَ جبريلَ - عليه السلام - وأنتَ لا تكلِّمُه. 3229 - عن المِقدامِ بن مَعْد يَكرِبَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كِيلُوا طَعامَكم يُبارَكْ لكُمْ فيهِ". "عن المقدام بن معدي كرب - رضي الله تعالى عنه -، عن النبيِّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: كِيلُوا طعامَكم يبارَكْ لكم فيه"، والغرض من كيل الطعام معرفةُ ما يصرِفُ إلى العِيال حتى لا يكونَ تَقْتِيرًا ولا إسرافًا، ومعرفةُ المستقرض والمَبيع والمشتري، ففي ذلك أغراضٌ صحيحة. 3230 - عن أبي أُمامة - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ إذا رَفَع مائِدَتَه قال: "الحمدُ لله كثيرًا طَيبًا مُباركًا فيه، غيرَ مَكْفيٍّ ولا مُوَدَّعٍ ولا مُسْتَغْنىً عنهُ ربنا". "عن أبي أُمامةَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رفعَ مائدتَه قال: الحمدُ لله حمدًا كثيرًا"، صفة حمدًا، وكذا "طَيبًا مباركًا فيه"، متعلق بـ (مباركًا). "غيرَ مَكْفِيٍّ"، مفعول من الكفاية؛ أي: غيرَ مَكْفِيِّ الزيادةِ عليه، فإنَّ كلَّ حَمْدٍ يَحْمَدك به الحامدون فإنهم يقصِّرون في ذلك. "ولا مودَّع" بفتح الدال المشددة؛ أي: غير متروكِ الطلَّبِ إليه والرغبةِ فيما عندَه.

"ولا مستغنًى عنه، ربنا": بالرفع؛ معناه: غير متروك فلا يُدْعى ولا يُطلَب، فإنَّ كلَّ مَن استغنى عن الشيء تركَه. قيل: (ربنا) مبتدأ، و (غيرُ مَكْفِيٍّ) خبر مقدم، وكذا ما عُطِفَ عليه، فالكلام راجعٌ إلى الله تعالى، ويُروَى: بنصب (غير) على الصفة بعد الصفة، وكذا (ربنا) نصب على حذف حرف النداء، فيكون معنى (غير مكفي): غير كاف؛ أي: نحمَدُك حمدًا لا نكتفي به، بلَ نعود فيه كَرَّةً بعد أخرى، ولا نستغني عنه، فالكلام على هذا راجعٌ إلى الحمد. 3231 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله لَيَرْضَى عن العبدِ أنْ يأْكُلَ الأكْلةَ فيحمدَهُ علَيها، أو يشربَ الشَّرْبَةَ فيحمدَهُ عليها". "وعن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله ليَرْضَى عن العبدِ أن يأكلَ الأَكْلَةَ" بفتح الهمزة: المَرَّةُ من الأكل حتى يَشْبَع وبالضم: اللُّقْمة. "فيحمَدُه عليها، أو يشرَبُ الشَّرْبَة فيحمَدُه عليها"، ثم من السنة ألَّا يرفَعَ صوتَه بالحمد عند الفراغ من الأكل إذا لم يفرغ جلساؤه كي لا يكونَ منعًا لهم. مِنَ الحِسَان: 3232 - عن أبي أيُّوبَ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقُرِّبَ طعامٌ، فلمْ أَرَ طعامًا كانَ أعظمَ بركةً منهُ أوَّلَ ما أَكَلْنا، ولا أقلَّ بركةً في آخِرِه، قلنا: يا رسولَ الله! كيفَ هذا؟ قال: "إنَّا ذَكَرْنا اسمَ الله حِينَ أَكَلْنَا، ثمَّ قعدَ منْ أكَلَ ولمْ يُسمِّ الله فأكَلَ معهُ الشَّيطانُ".

"من الحسان": " عن أبي أيوبَ - رضي الله تعالى عنه - قال: كنا عندَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فُقرِّبَ طعامٌ، فلم أرَ طعامًا كان أعظمَ بركةً منه أولَ ما أكَلْنا، ولا أقلَّ بركةً في آخره، قلنا: يا رسولَ الله كيف هذا؟ قال: إنَّا ذكَرْنا اسمَ الله تعالى حين أكَلْنا، ثم قعدَ مَن أكلَ ولم يُسَمِّ الله، فأكلَ معه الشيطان"، هذا محمولٌ على حقيقته، أو على ذهابِ البركةِ كما مرَّ، فكأنه أكلَ معه. 3233 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أكلَ أحدُكُم فنَسيَ أنْ يذكرَ اسمَ الله عَلَى طعامِهِ فليَقُلْ: بسم الله أوّلَهُ وآخرَهم". "عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أكلَ أحدُكم فنَسِيَ أن يذكرَ الله على طعامهِ فليقُلْ: بسم الله أولَه وآخرَه"، منصوبان على الظرفية، فإذا قال ذلك فقد تداركَ ما فاته من التقصير بترك اسم الله تعالى. 3234 - عن أُميةَ بن مَخْشِيٍّ قال: كانَ رجلٌ يأكلُ فلم يُسمِّ حتَّى لمْ يبقَ منْ طعامِهِ إلا لُقمَةٌ، فلمَّا رفَعها إلى فيهِ قال: بسم الله أوَّلَهُ وآخرَهُ، فضَحِكَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ثمّ قال: "ما زالَ الشَّيطانُ يأكُلُ معهُ، فلمَّا ذكرَ اسمَ الله اسْتَقَاءَ ما في بطنِهِ". "عن أمية بن مَخْشِيٍّ"، بفتح الميم وكسر الشين المعجمة وتشديد الياء. "قال: كان رجلٌ يأكُلُ، فلم يسمِّ الله حتى لم يبقَ من طعامِه إلا لقمةٌ، فلمَّا رفعَها إلى فيه قال: بسم الله أولَه وآخرَه، فضحكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال:

ما زالَ الشيطانُ يأكُلُ معه فلمَّا ذكرَ اسمَ الله تعالى استقاءَ ما في بطنه"؛ أي: استفرغَ، استفعال مِن القيء، وهو محمولٌ على الحقيقة، أو المراد رَدُّ البركةِ الذاهبةِ بتركِ التسميةِ، كأنها كانت في جوف الشيطان، فلمَّا سَمَّى رَجَعت إلى الطعام؛ أي: صارَ ما كان حظًا له من الطعام قبلَ التسميةِ مستردًّا. 3235 - عن أبي سعيدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - أنَّه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا فَرَغَ مِنْ طعامِهِ قال: "الحمدُ لله الذي أطعَمَنا وسقانا وجعلَنا مُسلمين". "عن أبي سعيد الخُدْري - رضي الله تعالى عنه - قال: كانَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا فرغَ مِن طعامه قال: الحمدُ لله الذي أطعمَنا وسقانا وجعلَنا مسلِمين". 3236 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كالصَّائِم الصَّابرِ". "عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الطاعِمُ"؛ أي: الآكلُ. "الشاكِرُ"، قيل: شُكْرُه أن يسمّيَ إذا أكلَ، ويحمَدَ إذا فَرَغَ. "كالصائم الصابر"؛ أي: في الثواب. 3237 - عن أبي أيُّوبَ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أكلَ وشربَ قال: "الحمدُ لله الذي أطعمَ وسقَى وسوَّغَهُ وجعلَ لهُ مَخْرجًا".

"عن أبي أيوبَ - رضي الله تعالى عنه - قال: كانَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أكلَ أو شَرِبَ قال: الحمدُ لله الذي أطعمَ وسقى وسَوَّغه"؛ أي: سهَّل دخولَ الطعام والشرابِ في الحَلْق. "وجعلَ له مَخْرَجًا"؛ أي: السَّوْأَتين؛ ليُخرِجَ منهما الفَضْلَة، فإنه تعالى جعل للطعام مقامًا في المعدة زمانًا كي تنقسمَ مضارُّه ومنافعُه، ليبقى ما يتعلَّقُ بالقوة واللَّحْم والدم والشَّحْم، وتندفع الفَضْلَة، وذلك من عجائب فضلِ الله تعالى ولطفهِ بمخلوقاته، فتبارك الله أحسنُ الخالِقين. 3238 - عن سلمانَ قال: قرأتُ في التَّوراةِ أنَّ بَركةَ الطعامِ الوُضوءُ بعدَهُ، فذكرتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَركةُ الطَّعامِ الوُضوءُ قبلَهُ والوُضوءُ بعدَهُ". "عن سلمان - رضي الله تعالى عنه - قال: قرأتُ في التوراة: أنَّ بركةَ الطعامِ الوضوءُ بعدَه"، المراد من الوضوء هنا: غسلُ اليدين والفمِ من الزُّهومة إطلاقًا للكل على الجزء. "فذكرتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: بركةُ الطعامِ الوضوءُ قبلَه والوضوءُ بعدَه"، أمَّا الوضوءُ قبلَه؛ فلأنه تعظيمٌ لنعمة الله تعالى، فيبارَكُ له فيه، أو لأن الأكلَ مع غَسْلِ اليدين أهنَأُ وأمرَأُ، وأما بعدَه فلأنه لو لم يغسِل يديه لا يأمَن المَسَّ. 3239 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خرجَ مِنَ الخَلاءَ فقُدِّمَ إليهِ طعامٌ فقالوا: ألا نأتِيكَ بوَضُوءٍ؟ قال: "إنَّما أُمِرْتُ بالوُضوءَ إذا قُمتُ إلى الصَّلاةِ".

"عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ من الخَلاَء فقُدِّم إليه طعامٌ، فقالوا: ألا نأتيك بوَضوء؟ " بفتح الواو. "قال: إنما أُمرت بالوضوء إذا قمتُ إلى الصلاة"، وهذا بناء على الأعمِّ الأغَلبِ، وإلا فيجبُ الوضوءُ عند السجدة ومَسِّ المصحف. 3240 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه أُتيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثريدٍ فقال: "كُلوا من جَوانِبها، ولا تأْكُلوا مِنْ وسطِها، فإن البَركةَ تنزِلُ في وسَطِها". وفي روايةٍ: "إذا أكلَ أحدُكُمْ طعامًا فلا يأْكُلْ منْ أعلَى، ولكنْ يأكُلُ مِنْ أسفَلِها، فإنَّ البَركةَ تنزِلُ مِنْ أعلاها". "عن ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بقَصْعَةٍ من ثَرِيد فقال: كلُوا من جَوانبها ولا تأكلُوا من وَسَطِها فإنَّ البركةَ تنزِلُ في وسطها"، والوسَطُ أَعْدَلُ المواضع، وكان أحقَّ بنزول البركةِ فيه. "صحيح". "وفي رواية: إذا أكَل أحدُكم طعامًا فلا يأكلْ مِن أعلَى الصَّحْفَة"؛ أي: من وسط القَصْعَة. "ولكنْ يأكلُ مِن أسفلِها"؛ أي: من جانبها الذي يليه. "فإنَّ البركةَ تَنزِلُ من أعلاها". 3241 - عن عبدِ الله بن عمرٍو - رضي الله عنهما -: أنَّه قال: ما رُئي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأكلُ

متَّكِئًا قطُّ، ولا يطأُ عَقِبَهُ رجُلان. "عن عبدِ الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنه - قال: ما رُؤِيَ رسولُ الله تعالى عليه وسلم يأكلُ مُتَّكِئًا قط، ولا يَطَأُ عَقِبَه"؛ أي: لا يمشي خلفه. "رجلان"؛ يعني كان يمشي منفردًا أو معه رجلٌ واحدٌ دون جمع؛ لأنه فعل المتكبرِّين، وقيل: أي: ما كان يمشي قُدَّام الجَمْع، بل في وسطهم أو آخرِهم تواضعًا. 3242 - عن عبدِ الله بن الحارثِ بن جَزْءٍ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: أُتيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بخُبْزٍ ولَحْمٍ وهو في المسجدِ، فأكلَ وأكلنا مَعَهَ، ثمّ قام فصلَّى وصلَّيْنا معهُ، ولم نَزِدْ على أنْ مَسَحْنا أيْدِيَنا بالحَصْباءَ. "عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء"، بفتح الجيم وسكون الزاي المعجمة. "قال: أُتِيَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم بخبز ولحمٍ وهو في المسجد فأكلَ وأكَلْنا معه"، من الأدب: أنَّ مَن أُهْدِيَ إليه طعام وهو في جمعٍ شارَكُوه. "ثم قام فصَلَّى وصلَّينا معه ولم نَزِدْ على أن مَسَحْنا أيدينا بالحَصْبَاء"، وهي الحجارةُ الصغيرةُ؛ يعني لم نَغْسِل أيدينا. 3243 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: أُتِيَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بلَحْمٍ فرُفِعَ إليهِ الذِّراعُ، وكانتْ تُعجبُهُ فنَهَسَ منها. "عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: أُتِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلحمٍ، فرُفع

إليه الذِّراعُ"؛ أي: دُفِعَ إليه ليأكلَ منها. "وكانَتْ"؛ أي: الذراع "تُعْجِبُه"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -، يريد: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحبُّها من الشاة المشوية. "فنهسَ منها"، بالسين المهملة؛ أي: أخذَ من الذراع ما عليها من اللَّحْم بأطراف مُقَدَّم الأسنان، وبالمعجمة: أَخْذُه بالأضراس، واستحبَّ النِّهْسَ للتواضعِ وتَرْكِ التكبر. 3244 - ورُوِيَ عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقْطَعُوا اللَّحْمَ بالسِّكّينِ فإنَّهُ منْ صُنْعِ الأعاجِمِ، وانهَشُوهُ فإنَّهُ أهنأُ وأمرأُ"، غريب. "وروي عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تقطَعُوا اللَّحْمَ بالسِّكِّين، فإنه مِن صَنِيع الأعاجم"؛ أي: المتكبرين الذين لا يتلَقُّون نعمةَ الله بالتعظيم. "وانهسُوه"؛ أي: كُلُوه بالأسنان. "فإنه أَهْنَأُ وأَمْرَأُ"، وهما أَفْعَلا تفضيل مِن: هَنأَ الطعام وَمَرأ إذا كان سائغًا بلا تَنغِيص، وقيل: الهنيء ما يَلَذُّه الآكِلُ، والمَرِيء: ما يَحَمدُ عاقبتَه، وقيل: ما ينساغُ في مَجْرَاه. "غريب". 3245 - عن أمِّ المُنْذِرِ قالت: دخلَ على رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومعهُ عليٌّ ولنا

دوالٍ مُعلَّقةٌ، فجعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأكُلُ وعليٌّ معهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: "مَهْ يا عليُّ! فإنَّكَ ناقِهٌ". قالت: فجعلتُ لهمْ سِلْقًا وشَعيرًا، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عليُّ منْ هذا فأصِبْ فإنَّهُ أَوْفَقُ لكَ". "عن أم المنذر - رضي الله عنها - قالت: دخلَ عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ومعه عليٌّ، ولنا دوالٍ معلَّقة"، جمع دالية وهي عنقودُ الُبْسر المحمرَّة، كانوا يعلِّقونها في البيوت، فيأكلون إذا أَرْطَب. "فجعل": شرع "رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأكلُ وعليٌّ معه، فقال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم لَعِليٍّ: مَهْ"، اسم فعل بمعنى: اكفف في "يا عليُّ"، أي: عن الأكل. "فإنك ناقِهٌ" بكسر القاف، هو الذي قامَ مِن الضعف، من: نقِهَ من المرض - بالفتح والكسر - إذا بَرِئَ منه وفاقَ، وكان قريبَ العهد بالمرض، ولم تكمل صحتُه وقوتُه؛ يعني: يضرُّك أَكْلُ البُسْر والتَّمْر. "قالت: فجعلتُ لهم سِلْقًا وشعيرًا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: يا عليُّ، مِن هذا فأصِبْ"؛ أي: تناولْ من السِّلْق والشعير، والفاء زائدة، أو معطوف على مقدر. "فإنه أَوْفَقُ" وأنفع. 3246 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُعجبُهُ الثُّفْلُ. "عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعجبُه الثُّفْل"، بضم الثاء، وهو أفصحُ من الكسر، وهو ما رُسِبَ من الطعام في أسفل القَصْعَة، وقيل: ما بقيَ في أسفلِ القِدْر والتصقَ فيها، وقيل: هو الثَّرِيد، وقيل: هو الدقيق والسَّوِيق ونحوهما.

3247 - عن نبُيْشَةَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ أكلَ في قَصْعَةٍ فلَحَسَها استغفرَتْ لهُ القَصْعَةُ"، غريب. "عن نُبيشة" بضم النون وفتح الباء الموحدة: اسم رجلٍ من هُذَيل. "عن رسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: مَن أكلَ في قَصْعةٍ فلَحِسَها"؛ أي: لَعقَ ما فيها من الطعام. "استغفرتْ له القَصْعَة"، استغفارُ القصعة عبارةٌ عن براءةِ صاحبها من التكبُّر موصوفًا بالتواضُع، وهما سببُ المغفِرَة بواسطةِ القَصْعَة. "غريب". 3248 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ باتَ وفي يدِهِ غَمَرٌ لمْ يَغْسِلْهُ فأصابَهُ شيءٌ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نفسَه". "عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن باتَ وفي يده غَمَرٌ" بفتح الغين المعجمة والميم: دَسَمُ اللَّحْم وزهُومَته. "لم يغسِلْه، فأصابه شيء"؛ أي: من إيذاء الهَوامِّ؛ لأنه ربما يقصِدُه نائمًا لرائحة الطعام في يده فيؤذيه، وقيل: من البَرَص ونحوِه؛ لأن اليدَ حينئدٍ إذا وصلتْ إلى شيء من بدنه بعد عرقه فربما أورث ذلك. "فلا يلومَنَّ إلا نفسَه". 3249 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ أحبَّ الطَّعامِ إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -

الثَّريدُ مِنَ الخُبزِ، والثَّريدُ مِنَ الحَيْسِ. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: كان أحبَّ الطعام إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الثَّرِيدُ من الخبز، والثَّرِيدُ من الحيس"، وهو تمرٌ يُخلَطُ بسمن وأَقِط، وأصل الحَيْس: الخَلْطُ. 3250 - عن أبي أَسِيدٍ الأنصارِيِّ: أنَّه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُوا الزَّيْتَ وادَّهِنُوا بهِ فإنَّهُ مِنْ شَجرةٍ مُباركةٍ". "عن أبي أُسيَد الأنصاري قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: كلُوا الزيتَ وادَّهِنُوا به، فإنه من شجرةٍ مباركة". 3251 - عن أُمِّ هانئٍ قالت: دخلَ عليَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أعِندَكِ شيءٌ؟ " قلتُ: لا، إلا خُبْزٌ يابسٌ وخَلٌّ، فقال: "هاتي، ما أفْقَرَ بيتٌ مِنْ أُدُمٍ فيهِ خَلٌّ"، غريب. "عن أم هانئٍ - رضي الله تعالى عنها - قالت: دخلَ عليَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أعندَكِ شيء؟ قلت: لا، إلا خبز يابس وخَلٌّ، فقال: هاتي، ما أَفْقَرَ بيتٌ"؛ أي: ما خَلِيَ "من أُدُمٍ فيه خَلٌّ"، وهذا يدلُّ على أن الخَلَّ إدامٌ. "غريب". 3252 - عن يُوسُفَ بن عبدِ الله بن سَلامٍ قال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخذَ كِسْرةً مِنْ خُبْزِ الشَّعيرِ فوضعَ عليها تَمْرةً، فقال: هذهِ إدامُ هذِه، وأكَلَ".

"عن يوسفَ بن عبد الله بن سُلاَم - رضي الله تعالى عنهم - قال: رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أخذَ كِسْرةً من خبزِ الشعير، فوضعَ عليها تمرةً، فقال: هذه إدامُ هذه وأكل"، وفيه دليلٌ على أن التمر إدام. 3253 - عن سعدٍ قال: مرضْتُ مَرَضًا فأتاني النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يعُودُني، فوضعَ يدَهُ بينَ ثَدْيَيَّ حتَّى وجَدْتُ بردَها على فُؤادي، وقال: "إنَّكَ رجل مَفْؤودٌ، وائتِ الحارثَ بن كَلَدَةَ أخا ثَقِيفٍ فإنَّهُ رجلٌ يتطبَّبُ فلْيَأْخُذْ سبعَ تَمَراتٍ مِنْ عَجْوةِ المدينةِ فلْيَجَأهُنَّ بنواهُنَّ ثمَّ ليَلُدَّكَ بهِنَّ". "عن سعدٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: مرضتُ مرضًا، فأتاني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يعودُني، فوضعَ يدَه بين ثدييَّ حتى وجدتُ بَرْدَها على فؤادي"؛ أي: في قلبي. "فقال: إنك رجلٌ مفؤودٌ"، وهو الذي أصابهَ داءٌ في فؤاده. "وائتِ الحارثَ بن كَلَدَةَ"، بفتح الكاف واللام. "أخا ثقيفٍ، فإنه رجلٌ يتطبَّبُ"، وفيه إشارةٌ إلى استصغار طِبه، وأنَّ الطبيبَ هو الله. "فليأخُذْ"؛ أي: المتطبب المذكور. "سبعَ تمرات من عَجْوةِ المدينة"، تخصيصُها بالذكر للبركة المجعولة فيها بدعائه - صلى الله عليه وسلم -، أو لأنها أوفقُ لمزاجِ سَعْدٍ لتعوُّذهِ بها في المدينة. "فَلَيَجْأهُنَّ"؛ أي: فليَدُقَّهُنَّ. "بنواهنَّ ثم ليُلدَّكَ": أي: ليَسْقِك "بهن"، واللُّدود - بفتح -: هو من الأدوية ما يُسقَى المريض في أحد شِقَّي الفم، فإنه - صلى الله عليه وسلم - رأى أن تناولَ هذا النوع أيسرُ وأنفعُ وأليقُ بمرضه، وإنما وصفَ العلاجَ بعد حوالَيه على المتطبب إعلامًا

بأن رأيهَ - صلى الله عليه وسلم - يوافِقُ رأيَه، فأحبَّ - صلى الله عليه وسلم - أن يصدق المتطبب، ويشهدَ له - صلى الله عليه وسلم - بالإصابة، أو ليطمئنَّ قلب المريض، أو لأجل حِذاقَتهِ في اتخاذ الدواء، وكيفيةِ استعمالهِ، والحارث بن كَلَدَة الثقفي مات في أول الإسلام، ولم يصحَّ له إسلام، ويُستدُّل بهذا على جواز مشاوَرةِ الطبيبِ الكافر. 3254 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يأكُلُ البطيخَ بالرُّطَبِ، ويقولُ: "يُكسرُ حَرُّ هذا ببردِ هذا، وبردُ هذا بحرِّ هذا"، غريب. "عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأكل الطبيخ": وهو مقلوب البطِّيخ، وهو لغة فيه عند أهل الحجاز، وهو الهنديُّ؛ يعني: يأكل البطِّيخ. "بالرُّطَب، ويقول: يُكْسَرُ حَرُّ هذا ببْردِ هذا، وبردُ هذا بَحرِّ هذا"، لعله أراد - صلى الله عليه وسلم - بالبطّيخ هنا قبلَ أن ينضجَ ويصيرَ حُلْوًا باردًا، وأما بعدَ نُضْجهِ فهو حارٌّ. "غريب". 3255 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بتمرٍ عتِيقٍ فجعلَ يُفتِّشُهُ ويُخرِجُ السُّوسَ منهُ. "عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: أُتِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بتمر عَتِيقٍ"؛ أي: قديمٍ وقعَ فيه السُّوسُ من غاية قِدَمهِ. "فجعل" - صلى الله عليه وسلم - "يفتِّشُه ويُخرِج السُّوسَ منه"، ويطرحُه ويأكلُ التمرَ، والسُّوسُ: دودٌ يقعُ في الصوفِ والطعام، وفيه دليلٌ بأن الطعام لا ينجُسُ بوقوع

السُّوسِ فيه ولا يَحْرُم. 3256 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: أُتيَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بجُبنةٍ في تَبُوكَ فدعا بالسِّكِّين فسمَّى وقطَعَ. "عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: أُتيَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بجُبنةٍ" - بضمتين وتشديد النون -: الجبن الذي يؤكَل، يقالُ. جُبن وجُبنة والجُبنة أخص منها. "في تبوك فدعا بالسِّكِين، فسمَّى الله وقطعَ" الجبنة، وهذا يدلُّ على طهارة الأُنْفحة. 3257 - وعن سلمانَ قال: سُئِلَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن السَّمْنِ والجُبن والفِراءِ؟ قال: "الحَلالُ ما أحلَّ الله في كتابهِ، والحَرامُ ما حرَّمَ الله في كتابهِ" وما سكتَ عنهُ فهوَ ممَّا عفا عنهُ"، غريب وموقوفٌ على الأصَحِّ. "عن سلمانَ - رضي الله تعالى عنه - قال: سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السَّمْن والجبن والفِرَاء" بكسر الفاء ممدودًا، قيل: جمع الفَرَءَ بفتح الفاء والهمزة والقصر، وهو الحمارُ الوحشي، وقيل: إنه جمع الفَرْو الذي يُلْبَس، وإنما سألُوا عنها حَذَرًا من صُنع أهلِ الكفر في اتخاذهم الفِراءَ من جلود الميتة من غير دباغ. "فقال: الحلالُ ما أحلَّ الله"؛ أي: ما بيَّنَ تحليلَه "في كتابه، والحرام ما حَرَّم الله"؛ أي: بيَّنَ تحريمَه "في كتابه، وما سكتَ عنه"؛ أي: الكتاب عن بيانه. "فهو مما عُفي عنه"؛ أي: أبيحَ وهذا يدلُّ على أن الأصلَ في الأشياء الإباحةُ.

"غريب وموقوف على الأصح". 3258 - ورُوِيَ عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - أنَّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وَدِدتُ أنَّ عِندي خُبْزةً بيضاءَ مِنْ بُرَّةٍ سَمْراءَ مُلَبَّقَةً بِسمنٍ ولَبن". فقامَ رجلٌ مِنَ القومِ فاتَّخذَهُ فجاءَ بهِ، فقال: "في أيِّ شيءٍ كانَ هذا؟ " قال: في عُكَّةِ ضَبٍّ قال: "اِرفَعْهُ". "عن ابن عمَر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: وَدِدْتُ"؛ أي: تمنيتُ "أن عندي خبزةً بيضاءَ من بُرَّةٍ سمراءَ"، نوع من الحنطة فيها سوادٌ خَفِيٌّ، وهو أحمر الأنواع عندهم. "ملبَّقة": وبتشديد الباء؛ أي: مخلوطة. "بسمنٍ ولبن": خلطًا شديدًا. "فقام رجلٌ من القوم فاتخذَه، فجاءَ به": رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم. فقال - صلى الله عليه وسلم - "في أي شيء"؛ أي: في أي ظرف. "كان هذا السمن؟ قال: في عُكَّة": وهو - بضم العين وتشديد الكاف - آنيةُ السمن، وقيل: هي وعاءٌ من جلود مستديرة مختص بالسمن والعسل وبالسمن أخصُّ؛ أي: في وعاءٍ من جِلْدِ "ضَبِّ، قال: ارفعه"، وإنما أمرَ - صلى الله عليه وسلم - برْفعهِ؛ لأنه يَعَافُ الضَّبَّ؛ لأنه لم يكن بأرض قومهِ، لا لنجاسَةِ جِلْده. 3259 - رُوِيَ عن عليٍّ قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ أكلِ الثّومِ إلَّا مَطْبوخًا.

"وروي عن عليِّ - رضي الله تعالى عنه - قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن أَكْلِ الثوم إلا مطبوخًا"، وهذا مع الحديثِ الثاني يدلَّان على أن المراد بالنهي ما لم يكن مطبوخًا. 3260 - ورُوِيَ عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّها سُئِلتْ عَنِ البَصَلِ فقالت: إنَّ آخِرَ طَعامٍ أكلَهُ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - طَعامٌ فيهِ بَصَلٌ. "وروي عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - أنها سُئلت عن البصل، فقالت: إنَّ آخرَ طعامٍ أكلَه رسولُ الله طعامٌ فيه بَصَلٌ"، قيل: إنما أكلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك في آخر عمره؛ ليعلمَ أن النهيَ للتنزيه لا للتحريم. 3261 - عن ابني بُسْرٍ السُّلَمِيَّين قالا: دخلَ عَلَيْنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقَدَّمْنا زُبْدًا وتَمرًا، وكانَ يُحِبُّ الزُّبدَ والتَّمرَ. "عن ابني بُسْرٍ": بضم الباء ثم السكون. "السُّلَمِيَّين"، بضم السين وفتح اللام المخففة وكسر الميم وفتح الياء الأولى المشددة وسكون الثاني، هما عبد الله وعطية. "قالا: دخلَ علينا رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقدَّمْنا زُبدًا وتَمرًا، وكان يحبُّ الزُّبْد والتَّمْر". 3262 - عن عِكْراشِ بن ذُؤَيْبٍ أنَّه قال: أُتِينا بجَفْنَةٍ كثيرةِ الثَّريدِ والوَذْرِ، فَخَبطْتُ بيدِي في نَواحِيها، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلْ مِنْ مَوْضعٍ واحِدٍ، فإنَّهُ طعامٌ

واحِدٌ"، ثُمَّ أُتِينا بطَبَقٍ فيهِ ألوانُ التمرِ، فجعلتُ آكُلُ منْ بينِ يدَيَّ، وجالَتْ يدُ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في الطَّبَقِ، فقال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا عِكْراشُ كُلْ مِنْ حيثُ شِئْتَ فإنه غيرُ لَونٍ"، غريب. "عن عِكْراش" بكسر العين ثم السكون. "ابن ذُؤَيب" بضم الذال المعجمة وفتح الواو ثم السكون. "قال: أُتِينا بجَفْنَة كثيرةٍ الثَّرِيد والوَذْر" بفتح الواو وسكون الذال المعجمة: جمع وَذْرَة، وهي القطعة من اللحم الذي لا عظم فيه. "فخبطتُ بيدي"؛ أي: أَدَرْتُها، "في نواحيها"، مِن: خبطَ البعيرُ بيده إذا ضربَ بها. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - كلْ مِن موضعٍ واحدٌ؛ فإنه طعامٌ واحدِ، ثم أُتِينا بطبقٍ فيه ألوانُ التمر"؛ أي: أنواعه. "فجعلتُ آكْلُ مِن بينِ يديَّ، وجالتْ يدُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، أي: دارَتْ "في الطبق، فقالَ يا عِكْرَاش: كلْ من حيثُ شئتَ فإنه غيرُ لَوْنٍ"، وفيه تنبيهٌ على أن الفاكهةَ إذا كانت لونًا واحدًا لا يجوزُ أن يَخْبطَ بيده كالطعام، وعلى أن الطعامَ إذا كان ذا ألوان يجوزُ أن يخبطَ ويأكلَ في أي نوع يريد. 3263 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أخذَ أهلَهُ الوَعَكُ أمرَ بالحِساءَ فصُنِعَ، ثُمَّ أَمَرهُمْ فحَسَوْا منهُ، وكانَ يقولُ: "إنَّه لَيَرْتُو فُؤادَ الحزينِ وَيَسْرُو عنْ فُؤادِ السَّقيمِ كما تَسْرُو إحْداكُنَّ الوَسَخَ بالماء عنْ وجهِها"، صحيح.

"عن عائشةَ - رضي الله عنها - قالت: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا أخذَ أهلَه الوَعكُ"؛ أي: الحُمَّى. "أمر بالحِسَاء" بالفتح والمد: طعامٌ معروفٌ، وهو الحَريرَة. "فصنعَ، ثم أمرَهم فحَسَوا منه، وكان يقول: إنه لَيَرْتُو"؛ أيَ: يقوِّي. "فؤادَ الحزَين ويَسْرُو عن فؤاد السقيم"؛ أي: يكشِفُ عن فؤاده الضيْقَ والتعبَ والسَّقَم. "كما تَسْرُو إحداكنَّ الوسخَ بالماء عن وجهِها". "صحيح". 3264 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "العَجْوَةُ مِنَ الجَنَّةِ فيها شِفاءٌ مِنَ السَّمِّ، والكَمْأَةُ مِنَ المَنِّ وماؤُها شِفاءٌ للعينِ". "عن أبي هريرةَ - رضيَ الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: العَجْوة مِن الجَنة"؛ أي: من جِنْسِ نَخْلِ الجنة. "وفيها شفاءٌ من السمِّ"، أو لأنها لغزارةِ نفعِها ولطافته لمَا فيها من اللذة والشفاء من السم والسحر، كأنها من ثمار الجنة؛ لأن ثمارَها تُزِيلُ الأذى والتعب. "والكَمْأَة من المَنِّ، وماؤُها شفاءٌ للعين"، تقدَّمَ بيانُه في "صحاح" هذا الباب.

2 - باب الضيافة

2 - باب الضيافَةِ (باب الضيافة) مِنَ الصِّحَاحِ: 3265 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ كانَ يُؤمِنُ بالله واليوم الآخِرِ فلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ، ومَنْ كانَ يُؤمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلْيَقُلْ خَيْرًا أو ليَصْمُتْ". وفي روايةٍ: بدلَ الجارِ: "مَنْ كانَ يُؤمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فلْيَصِلْ رَحِمَه". "من الصحاح": " عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن كان يؤمِنُ بالله واليومِ الآخِر فليُكْرِمْ ضيفَه"، قيل: إكرامُه بشاشةُ الوجْه له، وتعجيل قِرَاهُ وقيامه في خدمته بنفسه، ذهب الفقهاء إلى أن الأمر فيه للندب. "ومن كان يؤمن بالله واليومِ الآخر فلا يؤذِ جارَه، ومَن كان يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليقُلْ خيرًا"؛ أي: قولاً يثابُ عليه. "أو ليصمِتْ"؛ أي: ليسكُتْ. "وفي رواية: بدل الجار: من كان يؤمِنُ بالله واليوم الآخر فليصِلْ رحمه": وفيه إشارة إلى أن القاطعَ عنها كأنه لم يؤمنْ بالله واليومِ الآخرِ؛ لعدمِ خوفهِ من شدةِ العقوبةِ المترتِّبةِ على القَطِيعة.

3266 - عن أبي شُرَيْحٍ الكَعْبيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كانَ يُؤمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ فليُكْرِمْ ضَيْفَهُ، جَائِزَتُهُ يومٌ وليلة، والضيافَة ثلاثةُ؛ أيَّامٍ، فما بعدَ ذلكَ فهو صَدَقةٌ، ولا يَحِلُّ لهُ أنْ يَثْوِيَ عندَهُ حتَّى يُحْرِجَه". "وعن أبي شُرَيح الكعبي - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن يؤمنُ بالله واليوم الآخرِ فليُكْرِمْ ضيفَه جائزتُه يومٌ وليلة"؛ أي: إكرامُه بتقديم طعامٍ حَسَنِ إليه سُنَّة مؤكدة في اليوم الأول وليلته، وفي اليوم الثاني والثالث يقدَّمُ إليه ما كان حاضرًا عنده بلا زيادة على عادته. "والضيافة ثلاثةُ أيام، فما بعد ذلك فهو صدقة" ومعروف، إن شاء فعل وإلا فلا. "ولا يَحِلُّ له"؛ أي: للضيف. "أن يَثْوِيَ عندَه"؛ أي: يُقيمَ عند مضيفه بعد الثلاث بلا استدعائه. "حتى يُحْرِجَه"؛ أي: يضيق صدرَه فتكون الصدقة على وجه المَنِّ والأذى، فإن حبَسَه عذرٌ من مرض ونحوهِ أنفقَ من مال نفسه. 3267 - وقال: "إنْ نزَلْتُمْ بقَوْمٍ فأَمَرُوا لكمْ بما يَنبغي للضَّيْفِ فاقْبَلُوا، فإنْ لمْ يفعلُوا فخُذُوا منهمْ حقَّ الضَّيْفِ الذي يَنْبغي له". "وعن عقبةَ بن عامرٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا نزلتُم بقومٍ فأَمَرُوا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلُوا، فإن لم يَفْعَلُوا فُخُذوا منهم حقَّ الضيفِ الذي يَنبغي له"، يحتمل أن يكونَ الخِطابُ للمسلمين الذين يمرُّون على أهل الذِّمَّة، وقد شرطَ الإمامُ عليهم ضيافةَ مَن يمرُّ بهم من المسلمين، أو يكونُ المرادُ بهم المضطرين في المَخْمَصَة، وإلا فلا يحِلُّ أخذُ مالٍ الغير بدون

رضاه، وعند هذا أوجبَ قومٌ ضمانَ القِيمة، وهو قياسُ مذهبِ الشافعي. وقال جمعٌ من أهل الحديث: لا ضمانَ فيه، وهو الظاهر. 3268 - عن أبي مسعودٍ الأنصاريُّ - رضي الله عنه - قال: كانَ رجلٌ مِنَ الأنصارِ يُكنَّى: أبا شُعَيْبٍ، وكانَ لهُ غُلامٌ لحَّامٌ، فقال: اصنع طعامًا يَكفي خَمسةً لَعلِّي أدعُو النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خامِسَ خمسةٍ، فصنعَ طُعَيمًا ثمَّ أتاهُ فدعاهُ فتبعَهُمْ رجلٌ، فقال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا شُعيبٍ إنَّ رجُلًا تَبعَنا فإنْ شِئْتَ أذِنتَ لهُ وإنْ شِئْتَ تركتَهُ". قال: لا بلْ أذِنتُ لهُ. "عن أبي مسعودٍ الأنصاري - رضي الله تعالى عنه - قال: كان رجلٌ من الأنصار يُكْنَى أبا شُعيب، وكان له غلامٌ لحامٌ"؛ أي: بائع اللحم. "فقال: اصنع طعامًا يَكْفِي خمسةً لعلِّي أَدْعُو النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خامَس خَمْسة"، حال من النبي - صلى الله عليه وسلم - أي: أحد الخمسة. "فصنَع طُعَيمًا ثم أتاه فدعاه، فتبعهم رجلٌ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا شُعيب! إن رجلًا تَبعَنا فإن شئتَ أذنتَ له وإن شئتَ تركتَه، قال: لا بل أذنتُ له"، فيه بيانُ أنه لا يجوز لأحدٍ أن يدخلَ في ضيافة قومٍ بغير دعوةِ صاحبها، ولا للضيف أن يتبعَ غيرَه بغيرِ إذن المضيف. 3269 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكرٍ وعُمرَ، فقال: "ما أخْرجَكُما مِنْ بُيُوتكُما هذ السَّاعَةَ؟ " قالا: الجُوعُ. قال: "أنا والذي نفسي بِيدِهِ لأخرَجَني الذي أخرجَكُما، قُومُوا".

فقامُوا معَهُ، فأتَى رجُلًا مِنَ الأنصارِ، فإذا هو ليسَ في بيتِهِ فلمَّا رأتْهُ المرأَةُ قالتْ: مَرْحبًا وأهلًا، فقالَ لها رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أينَ فُلانٌ؟ " قالت: ذهبَ يَسْتَعذِبُ لنا مِنَ الماءِ، إذْ جاءَ الأنصارِيُّ فنظرَ إلى رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحِبَيْهِ، ثمَّ قال: "الحمدُ لله، ما أَحَدٌ اليومَ أكرمَ أَضْيافًا مِنِّي". قال: فانطلقَ فجاءَهُمْ بعِذْقٍ فيهِ بُسْرٌ وتَمرٌ ورُطَبٌ، فقال: كُلوا مِنْ هذهِ. وأخذَ المُدْيَةَ، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إيَّاكَ والحَلُوبَ". فذبحَ لهمْ، فأكَلُوا مِنَ الشَّاةِ ومِنْ ذلكَ العِذْقِ وشَرِبُوا، فلمَّا أَنْ شَبعُوا ورَوُوا قالَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بَكْرٍ وعُمرَ: "والذي نفسي بيدِه لتُسْأَلُنَّ عنْ هذا النَّعيمِ يومَ القيامَةِ، أخرجَكُمْ مِنْ بُيُوتكُمْ الجُوعُ ثمَّ لمْ تَرجِعُوا حتَّى أصابَكُمْ هذا النَّعيمُ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: خرجَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذاتُ يومٍ أو ليلةٍ، فإذا هو بأبي بكرٍ وعمَر"؛ أي: اتفقَ خروجُهم من بيوتهم قاصِدين ضيافةً. "فقال: ما أخرجَكما من بيوتكما هذه الساعة؟ قالا: الجوع، قال: أنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجَكما"، فيه جوازُ ذِكْر الإنسان ما ينالُه من ألمٍ ونحوهِ لا على التشكِّي وعدم الرضا، بل للتسلية والتَّصْبيرِ؛ لفعله - صلى الله عليه وسلم - هنا فهذا ليس بمذموم. "قومُوا، فقامُوا معه، فأتى رجلًا من الأنصار، يقال له أبو الهيثم بن تيهان الأنصاري الخزرجي. "فإذا هو ليس في بيته فلمَّا رأته المرأة قالت: مرحبًا وأهلًا، فقال لها رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أين فلان؟ قالت: ذهبَ يستعذِبُ لنا من الماء"؛ أي: يطلب لنا الماء العذب، وذلك لأن أكثرَ مياه المدينة كانت مالحة. "إذ جاء الأنصاريُّ فنظرَ إلى رسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم

وصاحِبَيه، ثم قال: الحمدُ لله، ما أحدٌ اليومَ أكرمُ أضيافًا مني، قال"؛ أي: الراوي: "فانطلقَ"؛ أي: خرج الأنصاري من بيته. "فجاءَهم بعِذْقٍ"، وهو - بكسر العين المهملة وسكون الذال المعجمة -: العُرْجُون بما فيه من الشَّمارِيخ. "فيه بُسْرٌ وتمر ورُطَب، فقال: كلُوا من هذه، وأخذَ المُدْية"؛ أي: السِّكِّين ليذبحَ لهم ذبيحة. "فقال له رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إياك والحَلُوبَ"؛ أي: لا تذبح الشاةَ الحَلُوب. "فذبحَ لهم شاةً فأكلُوا من الشاة ومن ذلك العِذْق وشربُوا" من الماء. "فلما أن شبعوا": أن هذه زائدة. "ورَوَوا، قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم لأبي بكر وعمر: والذي نفسي بيده لتُسْأَلُنَّ عن هذا النعيم يوم القيامة"، قيل: المراد به السؤال عن القيام بحقِّ الشكر والتقريع، وقيل: سؤالُ تعداد النِّعمَ والامتنان لا سؤالُ تقريع. "أخرَجكم الجوعُ من بيوتكم، ثم لم ترجِعُوا حتى أصابكم هذا النعيم". مِنَ الحِسَان: * * * 3270 - عن المِقْدام بن مَعْدِ يَكرِبَ - رضي الله عنه -: أنه سمعَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيُّما مُسلمٍ ضافَ قومًا فأصبحَ الضَّيفُ مَحرومًا كانَ حقًّا على كُلِّ مُسلمٍ نصَرُهُ حتَّى يأْخُذَ لهُ بقِراهُ مِنْ مالِهِ وزَرْعِهِ".

وفي روايةٍ: "أيُّما رجُلٍ أضافَ قومًا فلمْ يَقْرُوهُ كانَ لهُ أنْ يُعقِبَهُمْ بمثلِ قِراهُ". "من الحسان": " عن المقدام بن معدي كرب - رضي الله تعالى عنه -: سمعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أيُّما مسلمٍ ضافَ قومًا"؛ أي: نزلَ عندَهم ضيفًا. "فأصبَح الضيفُ مَحْرومًا كان حقًا على كل مسلمٍ نصرُه حتى يأخَذ له بقِرَاه"؛ أي: بضيافته؛ يعني بقَدْر شِبَعِه. "من مالهِ وَزْرعِه"، فالمضطرُّ النازلُ بأحدٍ يجبُ عليه ضيافتُه بما يحفَظُ عليه رمقَه، ويجوزُ له أَخْذُ ذلك منه سرًا وعلانية. "وفي رواية: أيُّما رجلٍ ضافَ قومًا فلم يُقْرُوه كان له أن يُعْقِبَهم"؛ أي: يَجْزِيَهم. "بمثلِ قِراه"، بأن يأخذَ من مالهم عَقِيبَ صنيعهِم قَدْرَ قِراه عادةً. * * * 3271 - عن أبي الأحُوَصِ الجُشَميِّ، عن أبيه قال: قلتُ يا رسُولَ الله! أرأيتَ إنْ مررتُ برجلٍ فلمْ يَقْرِني ولمْ يُضفْني؟ ثمّ مرَّ بي بعدَ ذلكَ أَقْرِيه أمْ أجْزِيه؟ قال: "بلِ اقْره". "عن أبي الأحوص الجُشَمي عن أبيه - رضي الله تعالى عنهم - قال: قلتُ: يا رسولَ الله أرأيتَ"؛ أي: أخبرْني "إن مررتُ برجلٍ فلم يُقرِني ولم يُضفْني، ثم مرَّ"؛ أي: ذلك الرجل "بي بعدَ ذلك أقريه"؛ أي: أُضيفه "أم أَجْزِيه؟ "؛ أي: أكافِئُه بمنع الطعام كما فعل بي. "قال: بل اقْرِه". * * *

3272 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، أو غيرِه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استأْذَنَ على سعدِ بن عُبادَةَ فقال: "السَّلامُ عليكُمْ ورحمةُ الله وبركاتُهُ"، فقال سَعدٌ: وعليكُمُ السَّلامُ ورحمةُ الله وبركاتُهُ، ولم يُسمعِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، حتَّى سلَّمَ ثلاثًا وردَّ عليهِ سَعدٌ ثلاثًا ولمْ يُسمِعْهُ، فرجَعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فاتَّبَعَهُ سَعدٌ فقال: يا رسُولَ الله! بأبي أنتَ وأُمِّي ما سلَّمْتَ تسليمَةً إلاّ هيَ بأُذُني، ولقدْ ردَدْتُ عليكَ ولمْ أُسْمِعْكَ، أحببتُ أنْ أَستَكثِرَ منْ سلامِكَ ومنَ البَرَكَةِ. ثمَّ دخلُوا البيتَ فقرَّبَ لهُ زَبيبًا، فأكلَ منهُ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا فَرَغَ قال: "أكلَ طعامَكُمُ الأبرارُ وصلَّتْ عليكُمُ المَلائِكةُ، وأفطَرَ عِندَكُمُ الصائِمُون". "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - أو غيره: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - استأذنَ على سعدِ بن عُبَادة"؛ أي: طلبَ الإذنَ أن يدخُلَ. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه، فقال سعدٌ: وعليكم السلام ورحمةُ الله، فلم يُسمِع النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - "، من الإسماع. "حتى سلَّم ثلاثًا، وردَّ عليه سعدٌ ثلاثًا فلم يُسْمِعْه، فرجعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاتَّبَعه سعدٌ فقال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي"؛ أي: فديت بهما. "ما سلَّمْتَ تسليمةً إلا هي بأُذُني، ولقد رددْتُ عليكَ ولم أُسْمِعْك، أَحببْتُ أن أستكِثَر من سَلاَمِك ومنَ البَرَكة"، وهذا يدلُّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يُسَلِّمُ إلى: (وبركاته). "ثم دخلُوا البيتَ، فقرَّبَ إليه زَبيبًا فأكلَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا فرغَ قال: أكلَ طعامَكم الأبرارُ، وصلَّت عليكم الملائكةُ، وأفطرَ عندكم الصائمون"، وهذا يجوزُ أن يكونَ دعاءً منه - صلى الله عليه وسلم - للمُضيف وأهلِ بيتهِ، وأن يكونَ إخبارًا منه - صلى الله عليه وسلم - بذلك. * * *

3273 - وعن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مثلُ المؤمِنِ ومثلُ الإِيمانِ كمثلِ الفَرَسِ فِي آخِيَّتِهِ يجُولُ ثمَّ يرجِعُ إلى آخِيَّتِهِ، فإنَّ المؤمِنَ يَسْهُو ثمَّ يرجعُ إلى الإيمانِ، فأطعِمُوا طعامَكُم الأتقياءَ وأَوْلُوا مَعروفَكُم المؤمنِينَ". "عن أبي سعيد - رضي الله تعالى عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: مَثَلُ المؤمنِ ومَثَلُ الإيمانِ كمَثَلِ الفَرَسِ في آخِيَّتهِ". بفتح الهمزة الممدودة وكسر الخاء وفتح الياء المشددة: عروةُ حبلٍ في وَتِدٍ، وعُوَيْدٌ يدُفَن طرفاه في حائط أو أرض، فيصيرُ وسطُه كالعُرْوة ويُشَدُّ فيها الدابة في المَعْلَف. "يجولُ، ثم يرجِعُ إلى آخِيَّتهِ"، والمعنى: أن المؤمنَ يبعدُ عن ربه بالذُّنوب، وأصلُ إيمانه ثابتٌ، ثم يعودُ ويقرب بالآخرة إليه بالندم والتوبة، ويتلاَفى ما فَرَّطَ فيه وهو المراد بقوله: "وإنَّ المؤمن يسهو، ثم يرجِعُ إلى الإيمان"، أو المرادُ بالإيمان شُعَبُه كالصلاة والزكاة وغيرهما، فكما أن الفرسَ يَبعُدُ عن آخِيَّتهِ ثم يعودُ إليها، فكذا المؤمن قد يتركُ بعضَ شُعَب الإيمان، ثم يتدارك ما فاته ويندَمُ على ما فعلَ من التقصير. "فأطعِمُوا طعامَكم الأتقياءَ وأَولُوا معروفَكم"؛ أي: أعطُوا إحسانكَم وعطيَّتَكم "المؤمنين". * * * 3274 - عن عبدِ الله بن بُسْرٍ قال: كانَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَصْعة يحمِلُها أربعةُ رجالٍ، يقال لها الغَرَّاءُ، فلمَّا أضْحَوْا وسجَدُوا الضُّحَى أُتيَ بتلكَ القَصْعَةِ - يعني وقد ثُرِدَ فيها - فالتفُّوا عليها، فلمَّا كَثُروا جثَا رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال أعرابيٌّ: ما هذه الجِلْسَةُ؟ فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله جَعَلَني عبدًا كريمًا، ولم يجعَلْني جبَّارًا

عنيدًا"، ثمَّ قال: "كُلُوا مِنْ جوانِبها ودَعُوا ذِرْوَتها يُبارَكْ لكُمْ فيها". "عن عبد الله بن بُسْر - رضي الله تعالى عنه -: كان للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قصعةٌ يحمِلُها أربعةُ رجالٍ يقال لها: الغَرَّاءُ": تأنيث الأغرِّ، كأنه فيه غُرَّة. "فلما أَضْحَوا"؛ أي: دخلُوا في الضحى. "وسجدُوا الضُّحَى"؛ أي: صلَّوا صلاةَ الضُّحَى. "أتي بتلك القَصْعةِ؛ يعني: وقد ثُرِدَ فيها، فالتُّفوا عليها"؛ أي: اجتمعُوا حولهَا. "فلما كثُروا جثا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: جلسَ على ركبتيه مِن ضيقِ المكان. "فقال أعرابيٌّ: ما هذه الجِلْسة" - بكسر الجيم - يا رسول الله؟. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - إن الله قد جعلني عبدًا كريمًا"؛ أي: متواضعًا فهذه الجلسة أقرب إلى التواضع وأنا عبد، والتواضع أليق بالعبد. "ولم يجعلْني جَبَّارًا عنيدًا"؛ أي: مائلًا عن الحق. "ثم قال: كُلُوا من جوانبها ودَعُوا ذِروَتَها"؛ أي: اتركوا أعلاها؛ يعني: وسطَها. "يبارَكْ لكم فيها". * * * 3275 - وعن وَحْشِيِّ بن حَرْبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه: أنَّ أصحابَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسولَ الله! إنَّا نأكلُ ولا نَشبعُ، قال: "فلعلَّكُمْ تَفْترِقُون؟ " قالوا: نعم، قال: "فاجتمِعُوا عَلَى طعامِكُمْ، واذكُرُوا اسمَ الله يُبارَكْ لكُمْ فيهِ". "عن وحشيِّ بن حَرْب، عن أبيه، عن جده: أن أصحابَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالوا: يا رسولَ الله! إنا نأكلُ ولا نشبَعُ، قال: فلَّعلكم تَفْترقون؟ قالوا: نعم، قال:

فصل

فاجتمعوا على طعامكم واذكرُوا اسمَ الله يبارَكْ لكم فيه". * * * فصل (فصل) مِنَ الحِسَان: 3276 - عن الفُجَيع العامِريِّ: أنّهُ أَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يحلُّ لنا مِنَ المَيْتَة؟ فقال: "ما طعامُكُمْ؟ " قلنا: نَغْتَبقُ ونَصْطَبحُ، قال: "ذلكَ - وأبي - الجُوعُ". فأحلَّ لهم المَيْتَةَ عَلَى هذا الحالِ. فسَّرُوا قولَهُ: نَغْتَبقُ ونَصْطَبحُ: أي قَدَحٌ غُدوةً وقَدَحٌ عَشِيَّةً. "من الحسان": " عن الفُجَيع": بالضم ثم الفتح ثم بكسر الياء المشددة. "العامريِّ أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما يحلُّ لنا من الميتة": استفهامٌ وسؤالٌ عن القَدْر الذي يُباح لهم عند المَخْمَصة، فيكون (¬1) القوم مضطرين إلى تناول الميتة. "قال: ما طعامكم؟ " سؤالٌ منه - صلى الله عليه وسلم - عن قَدْر طعامهم (¬2). "قلنا: نغتبقُ ونصطبحُ"؛ أي: طعامَ غَبوق وصَبوحٍ من لبن، والاغتباقُ والاصطباحُ في الأصل شُرْبُ الشراب عَشيةً وغُدْوةً، فاسُتعير هنا لتناولِ اللبن فيهما لمكان الشراب. ¬

_ (¬1) قوله: "استفهام وسؤال عن القدر الذي يباح لهم عند المخمصة فيكون" ليس في "غ". (¬2) في "ق" و "غ": "طعامكم"، والصواب المثبت.

"قال: ذاك"، مبتدأ. "وأبي": كلمةٌ تستعملها العربُ كثيرًا في خطابها توكيدًا، ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن الحَلِف بالآباء، فلعل هذا قبلَ النهي، أو جرى على عادتهم في ذلك وهو معترِضٌ بين المبتدأ وخبره، وهو "الجوع"؛ يعني: ذلك الشراب الذي تقولون قليلٌ تجوعون معه. "فأحلَّ لهم الميتةَ"؛ أي: أباحَ لهم أكلَ الميتة. "على هذه الحال"، قال المصنف: "فسَّرُوا"؛ أي: العلماء، "قولَه"؛ أي: قول الفُجَيع: "نغتبقْ ونَصْطَبح؛ أي: قدحٌ غدوةً وقدحٌ عشيةً"، وبهذا قال مالكٌ والشافعي في أحد قوليه: إنَّ المضطرَّ لو وجدَ طعامًا مباحًا يمسِكُ رمقَه دون شبعهِ فله تناولُ الميتةِ أيضًا حتى تشبع؛ لأن قَدَحًا عشية يُمسِكُ الَّرمَق. * * * 3277 - عن أبي واقِدٍ اللَّيْثيِّ: أنَّ رجُلًا قال: يا رسُولَ الله! إنَّا نكُونُ بالأرضِ فتُصيبنا بها المَخْمَصَةُ، فمتَى تحلُّ لنا المَيْتةُ؟ قال: "ما لَمْ تصْطَبحُوا أو تَغْتَبقُوا أو تَحْتفِئُوا بها بَقْلًا فشأنُكُمْ بها" معناه: إذا لم تجدوا صَبُوحًا ولا غَبُوقًا ولم تجدوا بَقْلةً تأكلونها حلَّتْ لكم المَيْتَةُ". "وعن أبي واقد اللَّيثي - رضي الله تعالى عنه -: أن رجلًا قال: يا رسولَ الله! إنا نكونُ بالأرضِ فتُصِيبنا بها المَخْمَصَة"؛ أي: الجوع. "فمتى يحِلُّ لنا الميتةُ، قال: ما لم تَصْطَبحوا أو تَغْتَبقُوا"؛ أي: ما لم تَجِدُوا صَبُوحًا ولا غَبوقًا. "أو تَحْتَفُّوا" بالحاء المهملة، وأكثر الرواة يروونه بالهمزة من الحفاء، وهو

3 - باب الأشربة

أصل البَرْدِيِّ الأبيضِ الرَّطْبِ، وهو يؤكَل فاستُعيَر هنا لاقتلاع البقل؛ أي: ما لم يْقَتلِعُوا. "بها"؛ أي: بالأرض. "بقلًا" فتأكلوه. "فشأنَكم"، منصوب بفعل محذوف تقديره: الزموا شأنكم. "بها"؛ أي: بالميتة. "معناه: إذا لم تجدوا صَبوحًا أو غَبوقًا ولم تجِدُوا بقلةً تأكلونها حَلَّتْ لكم الميتةُ"، وبهذا قال أبو حنيفة: لا يجوزُ تناولُ الميتةِ ما دام يجدُ مباحًا يمسِكُ رمقَه، وإذا لم يَجِد لم يَجُزْ أن يتجاوزَ ما يسدُّ الرمقَ، وهو القولُ الآخر للشافعي. والتوفيق بين هذا الحديث وحديثِ العامريِّ المتقدِّم: أن الاغتباقَ بقدَحٍ والاصطباحَ بآخرَ كان على سبيل الاشتراكِ بينَ القومِ كلِّهم، بدليل قولِ السائل: (ما يحلَّ لنا)، إذ لم يسأل عن خاصَّةِ نَفْسِه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما طعامكم؟) بصيغة الجمع فيهما، فلم يكن مُغْنيًا لسَدِّ رَمَقِهم. * * * 3 - باب الأشرِبةِ (باب الأشربة) مِنَ الصِّحَاحِ: 3278 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتنفَّسُ في الشَّرابِ ثلاثًا، ويقولُ: إنَّهُ أرْوَأُ وأبْرَأُ وأمْرَأُ.

"من الصحاح": " عن أنس - رضي الله تعالى عنه - قال: كان رسول صلى الله تعالى عليه وسلم يتنفَّسُ في الشراب ثلاثًا"؛ أي: يشربُ بثلاثِ مراتٍ، يُبين الإناءَ عن فمه كل مرة. "ويقول: إنه أَرْوَى"؛ أي: أشدُّ رواء وأَدْفَعُ للعطش. "وأبَرأُ": من البُرْء؛ أي: أكثرُ براءَ؛ أي: صحةً للبَدَن. "وأَمْرَأُ"؛ أي: أَكْثَرَ مَراءةً. * * * 3279 - عن بن عباس - رضي الله عنهما - قال: "نَهَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الشُّربِ مِنْ فِيِّ السِّقاءِ". "عن ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما - قال: نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الشربِ مِن في السِّقَاء"؛ أي: من فم القِرْبة، وإنما نهى عن ذلك لِلَّعبِ المذموم، فإِنَّ جريان الماء وانصبابَه في الحَلْق دفعةً مُضرٌّ بالمعدة، وقد أمرَ - صلى الله عليه وسلم - بمصِّ الماء عند شُرْبه، ولا يمكنُ ذلك، ولا يمسكُ مِن فم السقاء، أو نهى عنه كي لا يدخلَ في جوفه شيءٌ مُؤْذٍ يكونُ في القِرْبَة وهو لا يعلَم به؛ لِمَا رُوِيَ عن أَيُّوب: أن رجلًا شربَ من فم قِربةٍ فدخلتْ جوفهَ حيةٌ. * * * 3280 - وعن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ - رضي الله عنه - قال: نَهَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عنِ اخْتِناثِ الأسْقِيَةِ، يعني أنْ تُكسَرَ أفواهُها فيُشرَبَ منها. "عن أبي سَعيد الخدريِّ - رضي الله تعالى عنه - قال: نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن

اختناثِ الأَسْقِيَة"، وهو التكسَّر والتثنِّي، ومنه المخنث، وقيل: خَنَثْتُ السِّقَاء: ثنيتُ فمَه إلى خارجٍ، ثم شربتُ. "يعني أنْ تُكسَرَ أفواهُها فَيُشْرَبَ منها"، وإنما نهى عنه؛ لئلا ينصبُّ عليه الماءُ لسعةِ فَمِها، أو لأنه إذا أدامَ الشربَ مثها أنتنت وتغيَّرتْ رائحتُها، وقد جاء في حديثٍ آخرَ الإباحةُ، فلعلَّ النهيَ خاصٌّ بالسِّقَاء الكبيرِ دون الإداوة. * * * 3281 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ نَهَى أنْ يشرب الرَّجُلُ قائمًا. "عن أنس - رضي الله تعالى عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن يشربَ الرجلُ قائمًا "، وهذا نهيُ تنزيهٍ وتَأْدِيبٍ؛ ليكونَ تناولُه عن طمأنينة فيبعدَ أن يكونَ منه ضررٌ. * * * 3282 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَشرَبن أحدٌ منكُمْ قائمًا فمنْ نَسيَ فلْيَسْتقِئْ". "عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يشربن أحدُكم قائمًا، فمن نسيَ فليَسْتَقِئْ"، والاستقاءُ: التكلُّفُ لدفْع ما في الجوف، وهذا مبالغةٌ في الزجر والتهديد؛ لأنه لا ينبغي للمُتَقَيئين أن يصلَ طعامٌ أو شرابٌ إلى جوفِهم على وجهٍ مخالفٍ لأمر الشَّرْع. * * * 3283 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بدَلوٍ مِنْ ماءِ زمزمَ فشرِبَ وهو قائِمٌ.

"عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بدلْوٍ من ماء زمزمَ فشربَ وهو قائم"، قد يدلُّ هذا على أنه لم يجد موضعًا للقُعود؛ لازدحامِ الناسِ على ماء زمزمَ وابتلالِ المكان، فُيْعلَمُ مِن هذا جوازهُ لعُذْرٍ مع احتمال النسخ؛ لمَا رُوي عن جابر - رضي الله عنه - أنه لمَّا سمع روايةَ مَن روى أنه يشربُ قائمًا قد رأيتهُ صنعَ ذلك، ثم سمعتُه بعد ذلك يَنْهَى عنه. * * * 3284 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّهُ صلَّى الظُّهرَ ثمَّ قعدَ في حَوائِجِ النَّاسِ في رَحبةِ الكُوفةِ حتَّى حَضَرَتْ صلاةُ العصرِ، ثمَّ أُتيَ بماءٍ فشرِبَ وغسلَ وجهَهُ ويدَيْهِ، وذكرَ رأسَهُ ورِجلَيْه، ثمَّ قامَ فشرِبَ فضلَهُ وهو قائمٌ، ثمَّ قال: إنَّ ناسًا يكرَهونَ الشُّرْبَ قائمًا، وإنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صنعَ مثلَ ما صنعتُ. "عن عليٍّ - رضي الله تعالى عنه - أنه صلَّى الظهرَ، ثم قعدَ في حوائجِ الناسِ"؛ أي: في القضاءِ وفَصْلِ الخصومات. "في رَحْبةِ الكُوفَةِ"؛ أي: في موضع ذي فضَاءٍ وفُسْحَةٍ بالكوفة. "حتى حَضَرَتْ صلاةُ العَصْر، ثم أُتِيَ بماءٍ فشَرِبَ وغسلَ وجهَه ويديه وذكَر"؛ أي: الراوي. "رأسَه": قيل: مَسَحَه، وقيل: غَسلَه. "ورجليه، ثم قامَ فشربَ فَضْلَه وهو قائم، ثم قال: إن ناسًا يَكْرَهُون الشُّرْب قائمًا، وإنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صنعَ مثل ما صنعت"، فإن قلتَ: ما ذكرَ عليٌّ - رضي الله تعالى عنه - يدلُّ على أن الشربَ قائمًا لم يُنسَخ. قلت: يجوزُ خفاءُ النهيِ على عليِّ - رضي الله عنه -، والأَولى أن يُقال: المنهيُّ عنه: الشربُ الذي يَتخذُه الناسُ عادةً. * * *

3285 - عن جابرٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ على رجُلٍ مِنَ الأنصارِ ومعَهُ صاحِبٌ لهُ، فسلَّمَ، فردَّ الرجُلُ، وهو يُحوِّلُ الماءَ في حائطٍ، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ كانَ عِندَكَ ماءٌ باتَ في شَنَّةٍ وإلاَّ كَرَعْنا". فقال: عِندِي ماءٌ باتَ في شَنٍّ. فانطلقَ إلى العَريشِ فسكبَ في قَدَحٍ ماءً، ثمَّ حَلَبَ عليهِ مِنْ داجِنٍ، فشرِبَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمّ أعاد فشرِبَ الرجُلُ الذي جاءَ مَعَهُ. "عن جابرٍ - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ على رجلٍ من الأنصار ومعه صاحبٌ له فسلَّم"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. "فردَّ الرجلُ وهو يحوِّلُ الماءَ"؛ أي: ينقلُه من عمقِ البئرِ إلى ظاهرِها، وقيلَ: مِن جانبٍ إلى آخرَ. "في حائط"؛ أي: في بستانٍ. "فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إن كان عندك ماءٌ باتَ في شَنَّةٍ"، بفتح الشين المعجمة وفتح النون المشددة هي القِرْبَة العتيقة، وهي أشد تبريدًا للماء من الجديدة. "وإلا"؛ أي: وإن لم يكن عندَك ماءٌ بات في شَنَّة. "كَرَعْنا"؛ أي: شَرْبنا من الساقية، يقال: كَرَعَ في الماء يكرَعُ كُروعًا: إذا تناولَه من النهر ونحوه بلا كَفٍّ ولا إناءٍ، كشُرْب البهائم لإدخالهِا أكارِعَها؛ أي: قوائمَها فيه. "فقال: عندي ماءٌ بات في شَنٍّ، فانطلقَ"؛ أي: ذهب الرجلُ "إلى العَرِيش"، وهو المسقف من البستان بالأغصان، وأَكْثُره بالكروم. "فسكَبَ"؛ أي: صبَّ "في قدحِ ماءٍ، ثم حلبَ عليه مِن داجِنٍ"، وهي الشاةُ الحَلُوب التي تعلِفُ في المنازل، يقال: شاةٌ داجِنٌ، ودَجنَت تَدجُن دُجُونًا إذا أَلِفَتِ البيوتَ واستأنسَتْ.

"فشربَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم أعادَ فشرِبَ الرجلُ الذي جاء معَه". * * * 3286 - وعن أُمّ سَلمةَ: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الذي يشْرَبُ في إناءِ الفِضَّةِ إنَّما يُجَرْجِرُ في بطنِهِ نارَ جهنَّمَ". وفي روايةٍ: "إنَّ الذي يأكُلُ ويشرَبُ في آنِيَةِ الفِضَّةِ والذَّهبِ". "وعن أم سَلَمة - رضي الله تعالى عنها -: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: الذي يشرَبُ في إناءِ الفِضَّة إنما يُجَرْجِرُ"، الجَرْجَرَة: صوتُ البعيرِ في حنجرته، والمرادُ به هنا صوتٌ يُسْمَع في حَلْق الإنسانِ عند تجرُّعه الماء. " في جوفه نارَ جهنَّم "، إنما جعلَ المشروبَ منه نارًا مبالغةٌ؛ لكونه سببًا لها، كما في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]. "وفي رواية: إن الذي يأكلُ ويشرَبُ في آنيةِ الفِضَّة والذهب"، وهذا يدلُّ على حُرمة استعمال آنيتهِما. * * * 3287 - وعن حذيفةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تلبَسُوا الحريرَ ولا الدِّيباجَ، ولا تشرَبُوا في آنِيَةِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ ولا تأْكُلوا في صِحافِها فإنَّها لهمْ في الدُّنيا وهي لكُمْ في الآخِرةِ". "وعن حُذَيفة - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تلبَسُوا الحريرَ ولا الدِّيباج"، بفتح الدال وكسرها: نوعٌ من الحرير أَعْجَمي معرَّبٌ، والإستبرقُ ما غَلُظَ منه.

"ولا تشرَبُوا في آنيةِ الذهبِ والفِضَّة ولا تأكلُوا في صحائفِها"، جمع صَحْفة وهي دون القَصْعَة. "فإنها"؛ أي: صِحَافَ الذهب والفضة. "لهم"؛ أي: للكفار " في الدنيا، وهي لكم في الآخرة". * * * 3288 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قال: حُلِبَتْ لرسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شاةٌ داجِنٌ، وشِيبَ لبنها بماءٍ مِنَ البئرِ التي في دارِ أنَسٍ، فأُعْطِي رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - القَدَحَ فشربَ، وعلى يَسارِهِ أبو بكرٍ وعنْ يمينِهِ أعرابيٌّ، فقال عمرُ: أعطِ أبا بكرٍ يا رسولَ الله، فأعطَى الأعرابيَّ الذي على يمينِهِ ثمّ قال: "الأَيمنُ فالأَيمنُ". وفي روايةٍ: "الأَيْمَنونَ الأَيْمَنونَ، ألا فيَمِّنوا". "عن أنس - رضيَ الله تعالى عنه - قال: حُلِبَتْ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شاةٌ داجنٌ وشيبَ"؛ أي: خُلِطَ "لبنها بماء من البئر التي في دارِ أنسٍ، فأُعْطِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - القدَحَ فشَربَ وعلى يسارِه أبو بكر وعن يمينه أعرابيٌّ، فقال عمر: أعطِ أبا بكر يا رسول الله، فأعطى الأعرابيَّ الذي على يمينه، ثم قال: الأيمنَ فالأيمنَ"، يروى - نصبًا - على أنه مفعول لفعل محذوف؛ أي: ناوِل، أو قَدَّم أو اسقِ، ونحو ذلك، ويروى رفعًا على أنه مبتدأٌ خبرُه محذوف؛ أي؛ الأيمن أَولى أو مقدَّم. وفي رواية: "الأيمنون الأيمنون، أَلا فيمِّنوا"؛ أي: ابتدؤوا بالأَيمن. * * * 3289 - عن سَهْلِ بن سَعدٍ قال: أُتيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَدَحٍ فشَرِبَ منهُ، وعنْ يمينِهِ غُلامٌ أصغرُ القومِ، والأشياخُ عن يَسارِهِ، فقال: "يا غُلامُ أتأْذَنُ لي أنْ

أُعْطِيَهُ الأشياخَ؟ " قال: ما كنتُ لأِوثِرَ بفضلٍ منكَ أحدًا يا رسولَ الله، فأعطاهُ إيَّاه. "عن سهل بن سعد - رضي الله تعالى عنه - قال: أُتِيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقدَحٍ فشَرِبَ منه، وعلى يمينه غلامٌ أصغرُ القومِ"، قيل: هو الفَضْلُ بن عباس رضي الله تعالى عنهما. "والأشياخُ عن يسارِه، فقال"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. "يا غلامُ! أتأذَنُ أن أُعْطِيَه الأشياخَ، فقال: ما كنتُ"، (ما) هذه نافية، واللام في "لأُوثِرَ": زائدة لنفي (كان)؛ أي: لا أختار "بفضلٍ منك"؛ أي: بفضلِ مائك. "أحدًا " على نفسي "يا رسول الله! فأعطاه إياه". * * * 3290 - عن أبي قَتادةَ - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ساقي القومِ آخرُهُمْ شُرْبًا". "عن أبي قَتادة - رضي الله تعالى عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ساقي القوم آخرُهم"؛ يعني "شربًا". * * * مِنَ الحِسَان: 3291 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما - قال: كُنَّا نأكُلُ على عهدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ونحنُ نمشي، ونشربُ ونحن قِيامٌ، صحيح. "من الحسان": " عن ابن عمرَ - رضي الله تعالى عنهما - قال: كنا نأكلُ على عهدِ

رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن نَمْشِي، ونشربُ ونحن قيام"، روي أن الحسنَ البصري رخَّصَ في الأكل ماشيًا للمسافِر، وكان حُذَيفة يأكل راكبًا، والمختارُ عند الأئمة: أنه لا يأكُل راكبًا ولا ماشيًا ولا قائمًا. "صحيح". * * * 3292 - عن عمرِو بن شُعَيْبٍ، عن أبيه، عن جدِّه - رضي الله عنه - قال: رأيتُ رسُولَ - صلى الله عليه وسلم - يشربُ قائِمًا وقاعِدًا. "عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله تعالى عنهم - قال: رأيتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يَشْرَبُ قائمًا وقاعدًا". * * * 3293 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُتنفَّسَ في الإِناءِ أو يُنفخَ فيهِ. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن يُتَنفَّسَ في الإناء"؛ لخوف بروزِ شيءٍ مِن ريقهِ في الماء، وقد يكونُ متغيرَ الفمِ فتعلَقُ الرائحةُ بالماءِ لرقَّته ولَطَافته، ولأنه مِن فِعْلِ الدَّوابِّ. "أو يُنْفَخَ فيه"، فالنفخُ فيه إن كان لحرارة الشرابِ فليَصْبرِ حتى يبرُدَ، وإن كان لقَذًى فيه فليُمِطْه بخِلاَلٍ أو نحوه لا بالإصبع؛ لأنه ينفر الطَّبْعَ منه. * * * 3294 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَشربُوا واحِدًا كشُرْبِ البَعيرِ، ولكن اشْرَبُوا مَثْنَى وثُلاثَ، وسَمُّوا إذا أنتمْ شَرِبْتُم، واحْمَدُوا

إذا أنتمْ رفَعتُمْ". "وعن ابن عباس - رضي الله نعالى عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تَشْرَبوا واحدًا"؛ أي: شُرْبًا واحدًا. "كشُرْبِ البَعِير"؛ أي: كما يَشْرَبُ البعير دفعةً واحدة. "ولكن اشرَبُوا مَثْنَى وثُلاثَ"، منصوبان على المصدر. "وسَمُّوا إذا أنتم شربتم، واحَمُدوا إذا أنتم رَفَعْتَم"؛ أي: الإناء عن الفم، أو رؤوسكم عن الشراب. * * * 3295 - عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن النَّفْخِ في الشَّرابِ، فقال رجلٌ: القَذاةُ أراها في الإِناءِ؟ قال: "أهرِقْها"، قال: فإنِّي لا أرْوَى مِنْ نَفَسٍ واحِدٍ؟ قال: "فَأَبنِ القدَحَ عنْ فِيكَ ثمَّ تنفَّسْ". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النَّفْخ في الشراب، فقال رجلٌ: القَذَاةُ" - بفتح القاف -: ما سقطَ في الشراب والعَيْن. "أَراها في الإناء؟ فقال: أَهْرِقْها"؛ أي: بعض الماء لتخرجَ تلك القَذَاةُ معه. "قال: فإني لا أَرْوَى في نَفَسٍ واحد، قال: فأَبنِ القَدَح"، أمرٌ بالإبانة؛ أي: أَبْعِدْه "عن فيك، ثم تَنَفَّسْ"، يدلُّ على أن الأحسنَ أن يتنفَّسَ بعد الإبانة عن الفم. * * *

3296 - وعنه قال: نَهَى رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الشُّرْبِ مِنْ ثُلْمَةِ القَدَحِ، وأنْ يُنفخَ في الشَّرابِ. "وعنه قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الشرب من ثُلمَة القَدَح"، بضم الثاء وسكون اللام: هي مَوضع الكسر، وإنما نهى عنه؛ لعدم تماسُكِ الشَّفَة منه عليها فيسيلُ الماءُ على وجهه، أو لأن مَوضعَها لا ينالُه التنظيفُ التامُّ عند غَسْلِ الإناء. "وأن يُنفخَ في الشَّراب". * * * 3297 - عن كَبْشةَ أنها قالت: دخلَ عليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فشربَ منْ في قِرْبَةٍ مُعلَّقَةٍ قائمًا، فقُمْتُ إلى فِيها فقطعْتُهُ، واتخذته سقاءً نتبرَّكُ به. "عن كَبْشَةَ"، بفتح الكاف وسكون الباء. "قالت: دخلَ عليَّ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فشَرِبَ مِن في قِرْبَة"؛ أي: من فم قِرْبةٍ "معلَّقةٍ قائمًا فقُمْتُ إلى فيها"؛ أي: إلى فمِها. "فقَطْعُته" تبرُّكًا لمكان فمِ النبي - صلى الله عليه وسلم -، "واتخذتُه سِقاءً نتبرَّكُ به". "صحيح". * * * 3298 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ أحبُّ الشَّرابِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الحُلْوَ البارِدَ. والصَّحيحُ أنّ هذا مُرسلٌ. "عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت: كان أحبُّ الشرابِ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحُلْو البارِدُ".

"والصحيح: أن هذا مرسل". * * * 3299 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أكلَ أحدُكُمْ طعامًا فلْيقُل: اللهمَّ بارِكْ لنا فيهِ، وأطعِمْنا خيرًا منهُ، وإذا سُقيَ لَبنًا فلْيقُل: اللهمَّ بارِكْ لنا فيهِ، وزِدْنا منهُ، فإنَّهُ ليسَ شيءٌ يُجزئُ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ إلَّا اللَّبن". "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا أكلَ أحدُكم طعامًا فلَيُقْل: اللهمَّ بارِك لنا فيه وأطعِمْنا خيرًا منه، فإذا سُقيَ لبنًا فليقُلْ: اللهمَّ بارِكْ لنا فيه وزِدْنا منه، فإنَّه ليس شيءٌ يُجْزِئ"؛ أي: يَكْفِي في دفع الجوعِ والعطش معًا. "مِن الطعام والشراب إِلا اللَّبن"، وذلك لكونه صالحًا لهما مع أنه خالصٌ سائغٌ للشارِبين ملين مُرَطِّب، قيل: هذا لفظُ بعضِ الرواةِ، وظاهرُ اللفظِ يوهِمُ أنه من تتمة الحديث. * * * 3300 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يُستَعذَبُ له الماءُ مِنَ السُّقْيا. قيل: هيَ عَيْنٌ بينَها وبينَ المدينةِ يومانِ. "عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُستَعذَب له الماء"؛ أي: يُجاءُ بالماءِ العَذْب؛ لكون مياهِ المدينة مالحةً. "من السُّقيا"، بضم السين مقصور. "قيل: هي عينٌ بينَها وبين المدينةِ يومان". * * *

4 - باب النقيع والأنبذة

4 - باب النَّقيعِ والأنبذةِ " باب النقيع": نَقْعُ الزَّبيب ونحوِه: صبُّ الماءِ عليه؛ لتخرُجَ حلاوتُه فيه، يقال: شرابٌ نَقِيع. "والأَنْبذَة": جمع نبَيذ وهو ما يُنْبَذُ في الماء؛ أي: يُطْرَحُ فيه من تمرٍ وغيره ليحلُوَ. مِنَ الصِّحَاحِ: 3301 - قال أنسٌ - رضي الله عنه -: لقدْ سَقَيْتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقَدَحي هذا الشَّرابَ كلَّهُ، العسلَ والنبيذَ والماءَ واللَّبن. "من الصحاح": " قال أنس - رضي الله تعالى عنه -: لقد سقيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بقَدَحِي هذا الشَّرابَ كلَّه"؛ أي: كلَّ صِنْفٍ منه. "العسلَ": عطف بيان، أو بدل له. "والنبيذَ والماءَ واللَّبن". * * * 3302 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كُنَّا نَنْبذُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سِقاءٍ يوكأُ أعلاهُ، ولهُ عَزْلاءُ، نَنْبذُهُ غُدْوَةً فيشرَبُهُ عِشاءً، وَنَنْبذُهُ عِشاءً فيشرَبُهُ غُدْوَةً. "عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت: كنا نَنْبذُ لرسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم في سِقاءٍ يُوكَأُ أَعْلاه"؛ أي: يُشَدُّ بالوكاء وهي الرِّبَاط.

"وله عَزْلاَءُ" - بفتح العين المهملة وسكون الزاي المعجمة، وبالمد -: فم المزادة الأسفلِ؛ يعني: له ثقبةٌ في أسفلِه يشربُ منه الماء. "ننبذُه"؛ أي: النَّبيذ. "غُدْوةً فيشرَبهُ عِشاءً، وننبذُه عِشَاءً فيَشْرَبُه غُدوةً". * * * 3303 - وعن ابن عبَّاسٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُنْتَبَذُ لهُ أوَّلَ الليلِ فيشرَبُهُ إذا أصبحَ يومَهُ ذلكَ والليلةَ التي تجيءُ والغدَ والليلةَ الأُخرى والغدَ إلى العصرِ، فإنْ بقيَ شيءٌ وسقاهُ الخادِمَ أوْ أمر به فصُبَّ. "عن ابن عباس قال: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يُنْتَبَذُ له أولَ الليلِ فيَشْرَبُه إذا أصبحَ يومَه ذلك، والليلةَ التي تجيء، والغَدَ والليلةَ الأُخْرى والغدَ إلى العصر، فإنْ بقيَ شيءٌ سقاهُ الخادمَ، أو أمرَ به فصُبَّ"؛ لمخافة تغيُّره؛ لكونه دُرْدِيًّا، وهذا يدلُّ على جواز إطعام المملوكِ طعامًا أسفلَ. * * * 3304 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ يُنْبَذُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِي سِقاءٍ، فإذا لَمْ يجدُوا سقاءً يُنبذُ لهُ في تَوْرٍ مِنْ حِجارةٍ. "عن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: يُنْبَذُ لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سقاءٍ، فإذا لم يجِدُوا سقاء يُنْبَذُ له في تَوْرٍ من حِجَارة"، وهو ظَرْفٌ يشبهُ القِدْر ليشربَ منه، وقد يتوضَّأُ منه. * * * 3305 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الدُّبَّاءِ والحَنْتَمِ

والمُزَفَّتِ والنَّقِيرِ، وأمرَ أنْ يُنْبَذَ في أسْقِيَةِ الأَدَمِ. "عن ابن عمرَ - رضي الله تعالى عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الدُّبَّاء والحَنْتَم والمُزَفَّت والنَّقِير"؛ أي: عن الانتباذ في ظَرْفٍ من هذه الظروف. "وأمرَ أن يُنْبَذَ في أَسْقِية الأُدْم"، جمع أَدِيم وهو الجِلْد. * * * 3306 - عن بُرَيْدةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "نَهَيْتُكُمْ عن الظُّروفِ، فإنَّ ظَرْفًا لا يُحِلُّ شيئًا ولا يُحرِّمُهُ، وكُلُّ مُسكِرٍ حرامٌ". وفي روايةٍ قال: "نَهَيْتُكُمْ عن الأشربةِ إلا في ظُروفِ الأَدَمِ، فاشربُوا في كُلِّ وِعاءٍ غيرَ أنْ لا تشربُوا مُسْكِرًا". "عن بُرَيدة: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: نَهَيتكُم عن الظروف، فإن ظرفًا": أُريدَ به جِنْسُ الظَّرْف. "لا يُحِلُّ شيئًا ولا يُحرِّمُه، وكلُّ مُسْكِر حرامٌ"، اختلفَ الناسُ في الانتباذ في هذه الأوعية، ذهبَ بعضٌ إلى بقاء الحَظْر، يُروى ذلك عن ابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم -، وإليه ذهبَ مالكٌ وأحمد، وذهبَ آخرون إلى أن التحريمَ كان ثابتًا، ثم نُسِخَ بالرواية المذكورة بعد. "وفي رواية قال: نهيتُكم عن الأشربةِ إلا في ظروف الأُدم، فاشْرَبوا في كل وعاءٍ غيرَ ألاَّ تشربوا مُسْكِرًا". مِنَ الحِسَانِ: * * * 3307 - عن أبي مالكٍ الأشعَريِّ: أنَّه سَمِعَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لَيَشْرَبن ناسٌ منْ أُمَّتي الخمرَ يُسمُّونَها بغيرِ اسْمِها".

5 - باب تغطية الأواني وغيرها

"من الحسان": " عن أبي مالكٍ الأشعريِّ: أنه سمعَ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقولُ: لَيَشْرَبن"، جواب قسم محذوف. "ناسٌ مِن أمتي الخمرَ يُسَمُّونها بغير اسمها"؛ يعني يتوصَّلُون إلى شربها بأسماءِ الأنبذة المُبَاحة كماءِ العَسَل وماءِ الذُّرَة ونحو ذلك، ويزعُمون أنه غير مُحرَّم؛ لأنه ليس من العِنَب والتمر، وهم فيه كاذبون؛ لأنَّ كلَّ مُسْكِرٍ حرام. * * * 5 - باب تغطيةِ الأواني وغيرِها " باب تغطية الأواني وغيرها"، مصدر غَطَّى يُغطِّي؛ إذا سترَ، والأَواني جمع إناء أو آنية، وهي ظُروف الماء. مِنَ الصِّحَاحِ: 3308 - عن جابرٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ جُنحُ اللَّيلِ أوْ أمسيتُمْ فكُفُّوا صِبيانَكُمْ، فإنَّ الشَّياطينَ تنتَشِرُ حِينَئذٍ، فإذا ذهبَ ساعةٌ مِنَ الليلِ فحلُّوهُمْ، وأغلِقُوا الأبوابَ واذكُرُوا اسمَ الله، فإنَّ الشَّيطانَ لا يَفتحُ بابًا مُغلقًا، وأوْكلوا قِربَكُمْ واذكُرُوا اسمَ الله، وخمِّرُوا آنِيَتَكُمْ واذكُرُوا اسمَ الله، ولوْ أنْ تَعْرُضُوا عليهِ شيئًا وأطْفِئُوا مصابيحَكُم". "من الصحاح": " عن جابر قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا كان جُنْحُ الليل"، بكسر الجيم وفتحها: طائفةٌ منه، وقيل: أولُه وهو المراد هنا.

"أو أَمْسَيتم": شكٌّ من الراوي. "فكُفُّوا"؛ أي: امنعوا "صِبيانكَم" عن التردد والخروجِ من البيوت. "فإنَّ الشيطانَ"؛ أي: الجِنَّ. "ينَتشِرُ"؛ أي: يتفرَّقُ "حينئذ"، ويتردَّد على أبواب البيوت ليخطَفَهم. "فإذا ذهبَ ساعةٌ من الليل فخَلُّوهم وأغلِقُوا الأبوابَ واذكرُوا اسمَ الله، فإنَّ الشيطانَ لا يَفْتَحُ بابًا مغلَقًا"، وعن بعض الفُضَلاَء: أن المراد بالشيطان هنا شيطانُ الإنس؛ لأنَّ غَلْقَ الأبوابِ لا يَمنُع شياطينَ الجِنَّ. وفيه نظر؛ لأن المرادَ بالغَلْقِ الغلقُ المذكورُ فيه اسمُ الله، فيجوزُ أن يكونَ دخولُهم من جميع الجهات ممنوعًا ببركة التسميةِ، وإنما خُصَّ البابُ بالذِّكْر لسهولة الدخولِ منه، فإذا مَنَعَ مانعٌ من الدخول من الأسْهَلِ كان منعُه إياه من الأصعبِ بطريق الأَولى. "وأَوْكُوا قِرَبَكم"؛ أي: شُدُّوا رَأْسَها بالوِكَاء. "واذكُرُوا اسمَ الله وخَمِّرُوا"، بتشديد الميم المكسورة؛ أي: غَطُّوا. "آنيتَكم" كي لا يقعْ فيها نجاسةٌ، أو غيرها من الدواب. "واذكروا اسمَ الله" عليه. "ولو أن تَعرَّضوا"، في تأويل المصدر منصوب المحل؛ أي: ولو كان تخميرُكم عَرَضًا. "عليه شيئًا" من خشيةٍ أو غيرها. "وأطْفِئُوا مصابيحَكم"، جمع مصباح وهو السراج. * * * 3309 - وفي روايةٍ: "خَمِّرُوا الآنيةَ، وأوْكُوا الأَسْقِيةَ، وأجِيفُوا الأبوابَ،

وأكْفِتُوا صِبيانَكُمْ عندَ المساءِ، فإنَّ للجِنِّ انتشارًا وخَطْفَةً، وأطفِئُوا المصابيحَ عندَ الرُّقادِ، فإنَّ الفُوَيْسِقةَ رُبَّما اجترَّتِ الفتيلةَ فأحرَقَتْ أهلَ البيتِ". "وفي رواية: خَمِّروا الآنيةَ وأَوْكُوا الأَسْقِيَة، وأَجِيفُوا"؛ أي: أَغْلِقُوا "الأبوابَ"، وقيل: أي: رُدُّوها، وأصله: القَلْب، يقال: جفوتُ القِدْر وأَجَفْتُها: قَلَبْتُها. "وأَكْفِتُوا صِبيانَكم"؛ أي: ضُمُّوهم إلى أنفسِكم "عندَ المَساءِ، فإن للجِنِّ انتشارًا"؛ أي: تفرُّقًا. "وخَطْفَةً"؛ أي: استلابًا. "وأطفئوا المصابيحَ عند الرُّقَاد"؛ أي: النوم. "فإنَّ الفُوَيسِقَة"، تعليلٌ لقوله: (أطفئوا)، وهي تصغيرُ الفاسِقَة؛ أراد بها الفأرةَ لإفسادهِا. "ربما اجترَّتِ الفَتِيلة"، من الجَرِّ، وهو السَّحْبُ. "فأَحْرَقَتْ أهلَ البيت". * * * 3310 - وفي روايةٍ: "غَطُّوا الإِناءَ وأوْكُوا السِّقاءَ وأغلِقُوا البابَ وأطفئُوا السِّراجَ، فإنَّ الشَّيطانَ لا يَحُلُّ سِقاءً ولا يفتَحُ بابًا ولا يكشِفُ إناءً، فإنْ لَمْ يجِدْ أحدُكُمْ إلا أنْ يَعْرُضَ على إنائهِ عُودًا ويذكُرَ اسمَ الله عليه فليفعل؛ فإنَّ الفُوَيْسِقَةَ تُضْرِمُ على أهلِ البيتِ بيتَهُمْ". "وفي رواية: غَطُّوا الإناءَ، وأَوْكُوا السِّقَاء، وأَغْلِقُوا الأبوابَ، وأطفئوا السراجَ، فإنَّ الشيطانَ لا يَحُلُّ" بضم الحاء؛ أي: لا يَنْزِل. "سِقاءً، ولا يفتحُ بابًا، ولا يكشِفُ إناءً، فإنْ لم يجْدِ أحدُكم"؛ يعني: ما يغطِّي به الإناء.

"إلا أن يَعْرُضَ"؛ أي: يَضَعَ بالعَرْض "على إنائِه عودًا" أو غيره، يقال: عَرَضْتُ العودَ على الإناء عَرْضَةً ضمًا وكسرًا. "وَيذكُرَ اسمَ الله عليه"؛ أي: على وضعهِ بالعَرْض. "فلَيفْعَلْ، فإنَّ الفُوَيْسِقَة تُضْرِمُ"، بضم التاء وكسر الراء؛ أي: توقِدُ "على أهل البيت بيتَهم". * * * 3311 - وقال: "لا تُرْسِلُوا فَوَاشِيَكُمْ وصِبيانَكُمْ إذا غابتْ الشَّمسُ حتَّى تذهبَ فَحْمةُ العِشاءِ، فإنَّ الشَّيطانَ يُبعَثُ إذا غابت الشَّمسُ حتَّى تذهبَ فحْمَةُ العِشاءِ". "وعن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُرْسِلُوا فَواشِيَكم"، وهي - بالفاء المفتوحة -: كلُّ منتشِر من الأموال كالإبل والبقر والغنم. "وصبيانَكم إذا غابت الشمس حتى تذهبَ فَحْمةُ العِشَاء"؛ أي: أولَ ظلمتهِ وسوادهِ. "فإنَّ الشيطانَ يُبْعَثُ إذا غابت الشمس حتى تذهبَ فَحْمةُ العِشاء". * * * 3312 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "غَطُّوا الإِناءَ وأوْكُوا السِّقاءَ، فإنَّ في السَّنةِ ليلةً ينزلُ فيها وباءٌ لا يمرُّ بإناءٍ ليسَ عليهِ غطاءٌ أو سِقاءٌ ليسَ عليهِ وِكاءٌ إلَّا نزَلَ فيهِ مِنْ ذلكَ الوَباءِ". "عن جابرٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: غَطُّوا الإناءَ، وأَوْكُوا السِّقَاءَ، فإنَّ في السنة ليلةً ينزِلُ

فيها وباءٌ"، وهو - مدًا وقصرًا - الطاعونُ والمرضُ العامُّ. "لا يمرُّ بإناءٍ ليسَ عليه غِطاءٌ، أو سِقَاءٌ ليس عليه وِكاءٌ إلا نزلَ فيه من ذلك الوباء". * * * 3313 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: جاءَ أبو حُمَيْدٍ - رجلٌ مِنَ الأنصارِ - مِنْ النَّقيعِ بإناءٍ منْ لبن إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا خَمَّرْتَهُ ولوْ أنْ تَعْرُضَ عليهِ عودًا". "وعن جابرٍ قال: جاءَ أبو حُميد رجلٌ من الأنصار من النَّقِيع"، بالنون: روضةٌ بالمدينة حَماها - صلى الله عليه وسلم - لإبل الصدقة وغيرِها، ومَن قال: بالباء وهو اسمُ مَقْبَرة بها فقدْ صَحَّف. "بإناءٍ مِن لَبن إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ألاَ خَمَّرْتَه"؛ أي: هلاً سَتَرْتَه. "ولو أنْ تَعْرُضَ عليه عُودًا". * * * 3314 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تترُكُوا النَّارَ في بُيُوتِكُمْ حِينَ تنامونَ". "وعن ابن عمرَ - رضي الله تعالى عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تتركُوا النارَ في بيوتكِم حين تنامُون". * * * 3315 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ هذه النَّارَ إنَّما هيَ عَدوٌّ لكُمْ، فإذا نِمتُمْ فأطْفِئوها عنكُمْ".

"عن أبي موسى قال: قال رسولُ الله صلَّى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ هذه النارَ"؛ أي: النار التي يُخافُ من انتشارها. "إنما هي عدٌّو لكم"، وهذا القصدُ بطريق الادِّعاء مبالغةً في التحذير عن إبقائها مع أنَّ كثيرًا من المنافعِ مربوطٌ بها. "فإذا نمتُم فأطفئوها عنكم"، المرادُ به إسكانُها بحيث لا يخاف عن إضرارِها، الجار والمجرور متعلِّقٌ بمحذوف؛ أي: متجاوزًا ضرارها عنكم. * * * مِنَ الحِسَان: 3316 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا سمعتُمْ نبُاحَ الكِلابِ ونهيقَ الحميرِ من اللَّيل فتعوَّذُوا بالله من الشَّيطانِ الرَّجيم، فإنهنَّ يَرَوْنَ ما لا ترَوْنَ، وأقِلُّوا الخُروجَ إذا هدأتِ الأرجُلُ فإنَّ الله عز وجل يَبُثُّ مِنْ خَلْقِهِ في ليلته ما يشاءُ، وأجِيفُوا الأبوابَ واذكُرُوا اسمَ الله عليه، فإنَّ الشَّيطانَ لا يفتحُ بابًا إذا أُجِيفَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه، وغطُّوا الجِرارَ وأكْفِئوا الآنيةَ وأوْكُوا القِرَبَ". "من الحسان": " عن جابرٍ - رضي الله عنه -: قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: إذا سمعتُم نباحَ الكَلْبِ ونهيقَ الحَمير"، جمع الحمار. "مِن الليل، فتعوَّذُوا بالله من الشيطان، فإنهنَّ يرين ما لا تَرون"؛ أي: إنهن يَرين الشيطانَ. "وأقِلُّوا الخُروجَ"؛ أي: مِن بيوتكم. "إذا هدأَتِ الأرجل" جمع الرِّجل؛ أي: سكنت. "فإن الله يبثُّ"؛ أي: ينشر ويفرِّقُ "مِن خَلْقهِ" من الجِن والشياطينِ

والحيواناتِ المُضرَّة. "في ليله ما يشاء، وأَجِيفُوا الأبوابَ، واذكروا اسمَ الله عليه، فإن الشيطانَ لا يفَتُح بابًا إذا أُجِيفَ وذُكِرَ اسمُ الله عليه، وغُطُّوا الجِرار"؛ - بكسر الجيم - جمع الجَرَّة. "وأكْفِئُوا الآنية"؛ أي: اقلِبُوها لئلاً يدب عليها شيءٌ ينجِّسُها. "وأَوْكُوا القِرَب". * * * 3317 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: جاءتْ فأرةٌ تَجُرُّ الفتيلةَ فألقَتْها بين يَدَيْ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على الخُمْرَةِ التي كانَ قاعِدًا عليها، فأحرقَتْ منها موضعِ الدِّرهَم، فقال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا نِمتُمْ فأطفِئُوا سُرُجَكُمْ فإنَّ الشَّيطانَ يدُلُّ مِثلَ هذِهِ على هذا فتحرقَكُم". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جاءت فَأْرَةٌ تجر الفَتِيلة، فألَقْتها بين يدي رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على الخُمْرَة"، وهي السجادة الصغيرةُ من الحصير. "التي كان قاعدًا عليها، فأحرقتْ منها مثلَ موضعِ الدِّرْهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إذا نمتم فأطفِئُوا سُرجَكم، فإنَّ الشيطانَ يدلُّ على مِثلِ هذه"؛ أي: على هذه الفَعْلَة فتحرقكم مثلَ هذه؛ يعني: الفأرة أو الفُوَيْسِقَة. "على هذا"؛ أي: على هذا الفعل، في بعضٍ: (على هذه)؛ أي: على هذه الفعلة. "فتُحْرِقكم"؛ أي: الشيطان. * * *

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ مَصَابِيحِ السُّنَّةِ لِلإمَامِ البَغَوِيِّ [5]

20 - كتاب اللباس

20 - كِتابُ اللِّبَاسِ

20 - كِتابُ اللِّبَاسِ (كتاب اللباس) مِنَ الصِّحَاحِ: 3318 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ أحبُّ الثِّيابِ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَلْبَسَها الحِبَرة. "من الصحاح": " عن أنسٍ قال: كان أحبُّ الثيابِ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن يَلْبَسَها": بدل من الثياب. "الحِبَرة"، وهي على وزن العِنَبة: البُرْد اليمنيُّ المخطَّطُ، وقد تُفتَح الحاء. * * * 3319 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ غَداةٍ وعليهِ مِرْطٌ مُرَحَّلٌ مِن شعرٍ أَسودَ. "وقالت عائشةُ: خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ غداةٍ وعليه مِرْطٌ"، بكسر الميم ثم السكون: كساءٌ من صوف أو خزٍّ يؤتَزرُ به، وربَّما تُلْقيه المرأةُ على رأسها.

"مرَحَّلٌ من شعر أسود"، وهو بالحاء المهملة على أكثر الرواية، قال بعضٌ: هو الذي نقشَ فيه صُوَرَ الرجالِ، ذهبُوا في هذه التسمية إلى اختلاف الألوانِ والخطوطِ التي فيه، وبالجيم ما فيه صُوَر الرجال، وقيل ممشَّط الأَهْدَاب، والأَولى أن تُحملَ على ما في "صحاح الجوهري": مِرْطٌ مُرَحَّلٌ: إزارُ خَزٍّ فيه عَلَمٌ، فإنه أَولى مِن أن يقدَّرَ في ملبوسه - صلى الله عليه وسلم - صورةُ رجل، أو رجلٌ الذي هو مِن ملابس المَسَاخِر الذين يُضْحَك بهم. * * * 3320 - عن المغيرةِ بن شُعبةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لبسَ جُبَّةً روميةً ضَيقةَ الكُمَّينِ. "عن المغيرةِ بن شُعبة - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لبسَ جُبَّةً روميَّةً ضَيقةَ الكمين": بيانٌ لقوله: (رومِيَّة). * * * 3321 - عن أبي بُرْدةَ قال: أخرجَتْ إلينا عائِشَةُ كِساءً مُلَبَّدًا وإزارًا غليظًا فقالت: قُبضَ روحُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في هذيْنِ. "عن أبي بُرْدة قال: أخرجتْ إلينا عائشةُ كِساءً ملبَّدًا"؛ أي: مرَّقعًا، واللِّبْدَة: الرقعة. "وإزارًا غليظًا، فقالت: قُبضَ روحُ رسولِ الله في هذين". * * *

3322 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كانَ فِراشُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي ينامُ عليهِ أَدَمًا، حَشْوُهُ ليفٌ. "وعن عائشة رضي الله عنها - رضي الله تعالى عنها -: كان فراشُ رسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي يَنامُ عليه أَدَمًا" بفتحتين: فراشٌ من الجلد. "حشوه ليف". * * * 3323 - وقالت: كانَ وِسادَةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يَتَّكِئُ عليهِ أَدَمًا، حَشْوُه ليفٌ. "وقالت عائشةُ: كان وِسادةُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الذي يتَّكِئ عليه أَدَمًا حَشْوُه لِيفٌ". * * * 3324 - وقالت عائشةُ: بينا نحنُ جُلوسٌ في بيتِنا في حَرِّ الظَّهيرةِ قالَ: قائلٌ لأبي بكرٍ: هذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُقْبلًا مُتَقَنِّعًا. "وقالت عائشة رضي الله عنها: بينا نحن جلوسٌ في بيتنا في حَرِّ الظهيرةِ قال قائل لأبي بكر: هذا رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم مُقْبلًا"؛ أي: جائيًا قاصدًا إلى مكان. "متقنِّعًا"؛ أي: مغطِّيًا رأسه بطرَفِ ردائهِ، وإنما فعلَ - صلى الله عليه وسلم - ذلك لحَرِّ الظهيرةِ، وهو من عادةِ العرب عند الظهيرة. * * * 3325 - وعن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: فِراشٌ للرَّجلِ، وفِراشٌ

لامرأتهِ، والثالثُ للضَّيفِ، والرابعُ لِلشَّيطانِ. "عن جابر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: فِراشٌ للرجل، وفراشٌ لامرأته"، استدلَّ بعضٌ بهذا على أن الرجلَ لا ينامُ بامرأته، وهو ضعيف؛ لأن النومَ معها بغير إزارٍ أفضلُ؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - فعلَه، بل تعدادهُ فِراشًا لامرأته من جهة أنه يحتاجُ كلُّ واحدٍ منهما إلى فراشٍ عند المرض. "والثالثُ للضَّيف، والرابع للشيطان"، معناه: أنه زائدٌ على الحاجة، وما زادَ عليها فإنَّما يُتَّخذُ للمباهاة غالبًا وهي مذمومة، وكل مذموم يضاف إلى الشيطان. * * * 3326 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ينظرُ الله يومَ القيامةِ إلى مَن جرَّ إزارَه بَطَرًا". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه -: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا ينظرُ الله يومَ القيامة"؛ أي: نظرَ الرَّحْمةِ، فيكونُ محمولًا على المستحلِّ، أو على الزَّجْر، ويجوزُ أن يرادَ به نَظَرُ اللُّطْفِ والعناية. "إلى مَن جَرَّ إزارَه بَطَرًا"؛ أي: للِكبْر، يُفْهَمُ منه أنَّ جَرَّه إن لم يكن للكِبْر لا يكون حرامًا، لكنه مكروهٌ كراهةَ تَنْزيه. * * * 3327 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن جَرَّ ثوبَه خُيَلاءَ، لم يَنظُر الله إليهِ يومَ القيامةِ". "عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما -، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: مَن جَرَّ ثوبَه خُيلاءَ"، بضم الخاء المعجمة؛ أي: كِبْرًا.

"لم يَنْظُر الله إليه يومَ القيامة". * * * 3328 - وقال: "بينَما رَجُلٌ يجرُّ إزارَه مِن الخُيَلاءِ، خُسِفَ بهِ فهو يَتجَلْجَلُ في الأرضِ إلى يومِ القيامةِ". "وعنه قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بينما رجلٌ يجرُّ إزارَه من الخيلاءِ خُسِفَ به"؛ أي: دخلَ في الأرض. "فهو يتجَلْجَلُ في الأرض"؛ أي: يتحرَّكُ وينخسِفُ بالتدريج. "إلى يوم القيامة"، يحتمل أن يكونَ ذلك من هذه الأمة، أخبرَ بصيغة الماضي لتحقُّقِ وقوعهِ، وأن يكونَ من الأمم الماضية، وهذا هو الصحيح. * * * 3329 - وقال: "ما أسفلَ مِن الكعبينِ مِن الإزارِ في النَّارِ". "عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أسفلَ": (ما) مبتدأ موصولة، أو موصوفة، وصلتها، أو صفتها (كان) محذوفةً و (أسفلَ) ظرفٌ لهما. "مِن الكعبين مِن الإزارِ في النارِ"، خبر المبتدأ. قال الخَطَّابي: تأويلُه على وجهين: أحدهما: أن ما دون الكَعبين مِن قدمِ صاحبهِ في النار عقوبةً له على فِعله. وثانيهما: أن فِعلَه ذلك في النار؛ أي: معدودٌ من أفعال أهلِها. * * *

3330 - وعن جابر - رضي الله عنه - قال: نَهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يأكلَ الرَّجلُ بشِمالهِ، أو يمشيَ في نعلٍ واحدةٍ، وأنْ يشتملَ الصَّمَّاءَ، أو يحتبيَ في ثوبٍ واحدٍ كاشِفًا عن فَرْجهِ. "عن جابرٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن يأكلَ الرجلُ بشِماله"، تقدم بيانُه في (كتاب الأطعمة). "أو يمشي في نَعْلٍ واحدةٍ"، يأتي بيانَه في (باب النعال). "وأن يَشْتَمِلَ الصَّمَّاء"، وهو عند العرب تجليلُ الجَسدِ كلِّه بثوبٍ بلا رفعِ جانبٍ تخرجُ منه اليدُ، وذكر أبو عُبيد: أن الفقهاءَ يقولون: هو الاشتمالُ بثوبٍ واحدٍ، وليس عليه غيرُه، ثم يرفعُ مِن أحدِ جانبيه، ويوضَع على المَنْكِب فيبدو منه الفرج. "أو يحتبيَ في ثوبٍ واحدٍ"، وهو جمعُ الظَّهر والساقين بثوبٍ أو غيره. "كاشفًا عن فَرْجِه"، هذا إذا لم يكن الثوبُ واسِعًا قد أسبلَ شيئًا منه على فرجه، فإن كان واسعًا لا تظهرُ عورتُه فلا بأسَ بالاحتباء فيه، رويَ أنه - صلى الله عليه وسلم - احتبى بشَمْلَةِ وقعَ هدبُها على قدميه. * * * 3331 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن لبسَ الحريرَ في الدُّنيا لم يَلْبَسْهُ في الآخرةِ". "وعن عبدِ الله بن الزُّبَير - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من لَبسَ الحريرَ في الدنيا لم يلبَسْه في الآخرة". * * *

3332 - وقال: "إنَّما يلبسُ الحريرَ في الدُّنيا مَن لا خَلاقَ لهُ في الآخرةِ". "وقال: إنما يلبَسُ الحريرَ في الدنيا مَن لا خَلاَقَ"؛ أي: لا نصيبَ "له"، مِن لبسِ الحرير. "في الآخرة"، فيكونُ عدمُ نصيبهِ منه كنايةً عن عدم دخولِ الجَنة؛ لقوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] فيُؤَوَّل بالمستحل. * * * 3333 - عن حُذَيْفَةَ قال: نَهانا النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ نشربَ في آنيةِ الذَّهَبِ والفضَّةِ، وأنْ نأكلَ فيها، وعن لُبْسِ الحريرِ والدِّيباجِ، وأنْ نجلسَ عليهِ. "عن حُذَيفة قال: نهانا رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن نشربَ في آنيةِ الفضةِ والذهبِ وأن نأكلَ فيها وعن لبسِ الحريرِ والدِّيباج، وأن نجلسَ عليه". * * * 3334 - وقال عليُّ - رضي الله عنه -: أُهْدِيَتْ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةُ سيَراءَ فبعثَ بها إليَّ فلَبستُها، فعرفْتُ الغضبَ في وجههِ، فقالَ: "إنِّي لم أبعثْ بها إليكَ لِتَلبَسَها، إنما بعثتُ بها إليكَ لتُشَقِّقَها خُمُرًا بينَ النساءِ". "وقال عليٌّ: أُهْدِيَتْ لرسولِ الله حُلَّةُ سيَرَاء" بكسر السين وفتح الياء: بُرْدٌ فيه خطوطٌ صغيرة، وقيل: نوعٌ من البرود مخالطةُ حريرٍ. "فبعثَ بها إليَّ فلبستُها، فعرفتُ الغضبَ في وجهه، فقال: إني لم أبعث بها إليكَ لتلبسَها إنما بَعثتُ بها إليكَ لتشقِّقَها خُمُرًا"، حال أو تمييز، جمع

الخِمَار وهو المقنعة؛ أي: لتقطِّعَها قطعةً قطعةً، كلُّ قطعةِ قَدْر خِمار، وتقسِمَها "بين النساء". * * * 3335 - عن عمرَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى عن لُبْسِ الحريرِ إلا هكذا، ورفعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إصْبَعَيْهِ، الوسطَى والسَّبَّابَةَ وضَمَّهُما. "وعن عمرَ - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبسِ الحريرِ إلا هكذا"، أي: بقدر إصبعين مضمومتين عَرْضًا. "فرفع رسولُ الله إصبعَيه الوُسْطَى والسَّبَابة وضَمَّهما"، وهذا يدلُّ على أنه يجوزَ أن يجعل قَدْر إصبعين من الإبريسم علمًا. * * * 3336 - ورُوِيَ عن عمرَ: أنَّه خطبَ بالجابيَةِ فقال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن لُبْسِ الحريرِ إلا في موضعِ إصْبَعَينِ، أو ثلاثٍ، أو أربعٍ. "ورويَ عن عمرَ: أنه خطبَ بالجابية"، وهي مدينة بالشام؛ أي: وعظَ الناسَ فيها. "فقال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن لُبْسِ الحريرِ إلا موضعَ إصبعين"؛ أي: قَدْر إصبعين. "أو ثلاثٍ أو أربعٍ"، (أو) هذه للإباحة. * * * 3337 - وعن أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ: أنها أخرجَتْ جُبَّةَ طَيالِسَةٍ كِسْرَوانِيَّةٍ لها لِبنةُ ديباجٍ، وفرجَيْها مكفوفَيْنِ بالدِّيباجِ، وقالت: هذه جُبَّةُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -،

كانَتْ عندَ عائشةَ رضيَ الله عنها، فلمَّا قُبضَتْ، قَبَضْتُها، وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يلبَسُها، فنحنُ نغسِلُها للمَرْضَى نستَشْفي بها". "عن أسماءَ بنتِ أبي بكر: أنها أخرجتْ جُبَّةً طَيَالِسَةٍ"، كنَّى بالإضافة إلى الطيالسة عن الخَلق: لأن صاحبَ الخَلَق لم يكن ليلبسَه إلا بطيلسَانٍ ليوارِيَ به ما يحرقُ منه، أو تكون الجُبَّة منسوبةً إلى الباعَة الذين يبيعُون الخُلْقَان فيكون بناء الطَّيَالَسةِ من الطلس، مثل بناء الصَّيَارفةِ من الصَّرْف، والهاء فيه للنسبة، يقال: ثوبٌ أَطْلَس؛ أي: أَخْلَق، وكذا الطِّلْس - بالكسر -، وجمعه: أَطْلاَس، ويقال أيضًا للأَسْوَد الوَسِخ مِن طُول ما لُبسَ أطلس. "كِسْرَوانِيَّة"، بكسر الكاف؛ أي: منسوبة إلى كسرى بزيادة الألف والنون. "لها لِبنة ديباج"، واللِّبنة - بالكسر -: رقعةٌ تُعمَلُ موضعَ جيبِ القَميص والجُبَّة. "وفَرْجَيها"، نصب بإضمار فعل، أو عطفٌ على الجُبَّة؛ أي: أخرجتها، وأخرجتْ فرجيها؛ يعني: شِقَّيها شقٌّ من قُدَّام وشِقٌ مِن خَلْف كما هو عادة الأعراب. "مَكْفُوفين بالدِّيباج"؛ يعني: خيطُه على طَرَف كلِّ شِقِّ قطعةِ حريرٍ من الأعلى إلى الأسفل، وهذا يدلُّ على جواز لُبْسِ الرجالِ الثوبَ المطرَّز بالدِّيباج ونحوه. "وقالت"؛ أي: أسماءُ: "هذه جُبَّةُ رسولِ الله كانت عندَ عائشة رضي الله عنها"، وهبَها - صلى الله عليه وسلم - لها. "فلما قُبضَتْ"؛ أي: تُوفِّيتْ عائشةُ "قَبَضْتُها"؛ أي: الجُبَّة بالوارثة منها.

"وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يلبَسُها، فنحن نغسِلُها للمرضى نستشفي بها". * * * 3338 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: رَخَّصَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - للزُّبيرِ وعبدِ الرحمنِ ابن عوفٍ في لُبْسِ الحريرِ لحِكَّةٍ بهما. ورُوِيَ: أنهما شَكَوَا القَمْلَ فرخَّصَ لهما في قُمُصِ الحريرِ. "عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: رخَّصَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم للزُّبير وعبدِ الرحمن بن عوف في لُبْسِ الحريرِ لحكَّةٍ بهما"، وهذا يدلُّ على جوازِ لُبْسِ الحرير للحَرْب. "وروي: أنهما شَكَوَا القملَ، فرخَّصَ لهما في قُمُصِ الحرير"، وهذا يدل على جواز لبسه للقمل. * * * 3339 - عن عبدِ الله بن عمرِو بن العاصِ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: رَأَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علىَّ ثَوْبَيْنِ مُعَصْفَرَيْنِ فقال: "إنَّ هذه مِن ثيابِ الكُفَّارِ فلا تلبسهما". وفي روايةٍ: "قلتُ: أَغسِلُهما؟ قال: "أَحرِقْهما". "عن عبدِ الله بن عمرو بن العاص قال: رأى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلَيَّ ثوبين مُعَصْفَرَين"؛ أي: مَصْبُوغَين بالعُصْفُر. "قال: إن هذه"، إشارة إلى جِنْسِ الثياب. "من ثيابِ الكُفَّار"؛ أي: الذين لا يُمَيزُون بين الرجال والنساء في اللِّباس. "فلا تَلْبَسْها"، وإنما نهى الرجالَ عن ذلك لمَا فيه من التشبُّه بالنساء،

قيل: المنهي عنه: المصبوغُ بعد النسج زينة دونَ ما صُبغَ غزلُه ثم نُسِجَ ولم يكن له رائحةٌ، فإنه مرخَّصٌ عندَ البعض. "وفي رواية: قلت: أغسِلُهما؟ قال: أحرقهما"، أرادَ به الإفناءَ ببيع أو هبة، فإنه قد يُستَعمل فيه، وفيه مبالغةٌ في النَّكِير، وإنما لم يأْذَنْ في الغسل؛ لأن المُعَصْفَرَ وإنْ كُرِهَ للرجال لم يُكْرَهْ للنساء، فغسلُه تضييعٌ للمال. * * * مِنَ الحِسَان: 3340 - عن أمِّ سَلَمةَ رضي الله عنها: أنَّها قالت: كانَ أحبُّ الثِّيابِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - القميصَ. "من الحسان": " عن أمِّ سَلَمةَ قالت: كان أحبُّ الثيابِ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - القميص"، وهو اسمٌ لما يلبَسُه الرجلُ من المَخِيط الذي له كُمَّانِ وجَيْب. * * * 3341 - عن أسماءَ بنتِ يزيدَ رضي الله عنها قالت: كانَ كُمُّ قميصِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرُّسْغِ. غريب. "عن أسماءَ بنتِ يزيدَ قالت: كان كُمُّ قميصِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الرُّسْغ"، وهو - بضم الراء وسكون السين المهملتين -: مفصل ما بينَ الكَفِّ والساعدِ ويُسمَّى الكُوع. * * * 3342 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا لبسَ قميصاً بدأَ بميامِنِهِ.

"عن أبي هريرةَ قال: كانَ رسولُ الله إذا لَبسَ قميصًا بدأ بميامنه"؛ أي: أخرجَ يدَه اليمنى من الكُمِّ قبلَ اليُسْرى. * * * 3343 - وعن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إزْرَةُ المؤمنِ إلى أنصافِ ساقَيْهِ، لا جُناحَ عليهِ فيما بينَهُ وبينَ الكعبينِ، ما أسفلَ مِن ذلكَ ففي النارِ"، قال ذلكَ ثلاثَ مرَّاتٍ، "ولا ينظرُ الله يوم القيامةِ إلى مَن جَرَّ إزارَهُ بَطَراً". "عن أبي سَعِيد الخُدْري قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إِزْرةُ المؤمن"؛ أي: الحالة التي تُرْضَى منه في الائتزار. "إلى أنصافِ ساقيه لا جُنَاحَ"؛ أي: لا إثمَ "عليه فيما بينَه"؛ أي: بين نصف ساقيه. "وبينَ الكعبين، ما أسفلَ من ذلك ففي النار، قال ذلك ثلاث مرات، ولا ينظرُ الله يومَ القيامة إلى مَن جَرَّ إزارَه بَطَرًا". * * * 3344 - عن سالمٍ، عن أبيهِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإِسبالُ في الإِزارِ والقميصِ والعمامةِ، مَن جرَّ مِنها شيئًا خيلاءً لم ينظر الله إليه يومَ القيامةِ". "عن سالمٍ عن أبيه قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الإسبالُ في الإزار"؛ أي: الإسبالُ يكونُ فيه: يقال: أسبلَ إزارَه: إذا أَرْخَاه. "والقميصِ والعِمَامَة"، فينبغي أن لا يجرَّها كِبْراً. "من جَرَّ منها شيئًا خُيَلاَء لم ينظُرِ الله إليه يومَ القيامة". * * *

3345 - عن أبي كبشةَ - رضي الله عنه - قال: "كانَ كِمامُ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بُطْحًا". "عن أبي كَبْشَة قال: كانت كِمامُ أصحابِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -"، بكسر الكاف: جمع كُمَّة بالضم، وهي القَلَنْسُوة المستديرة سُمِّيتْ بها؛ لأنها تغطِّي الرأس. "بُطحًا" بضم الباء: جمع الأبطح؛ أي: لازقة بالرأس غير ذاهبةٍ في الهَواء يعني منبطحِة غير منبسِطَة. * * * 3346 - عن أمِّ سلمَةَ قالت لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حينَ ذَكَرَ الإِزارَ: فالمرأةُ يا رسولَ الله؟ قال: "تُرْخي شِبْرًا"، فقالت: إذًا ينكشفُ عنها - ويُروَى: تنكشفُ أقدامُهنَّ - قال: "فذراعًا، لا تَزيدُ عليهِ". "عن أم سَلَمةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين ذكرَ الإزارَ: فالمرأةُ"؛ أي: ما تفعل المرأة "يا رسول الله؟ قال: تُرْخِي شبرًا"؛ أي: تُسْبل ذيلها أو إزارَها زائدًا على نصف ساقيها قَدْر شِبر. "فقالت: إذًا ينكشِفُ عنها، ويُروى: تنكشِفُ أقدامُهنَّ، قال: فذراعًا"؛ أي: تُرْخِي قَدْرَ ذراع بحيثَ يصِلُ ذلك إلى الأرضِ ويسترُ: أقدامَهنَّ. "لا تزيدُ عليه"، فيجوزُ للنساء إطالةُ أذيالهِنَّ بذلك القَدْر؛ لتكونَ أقدامُهن مستورةً. * * * 3347 - عن معاويةَ بن قُرَّةَ، عن أبيه قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في رَهْطٍ مِن مُزَيْنَةَ، فبايعوهُ وإنه لَمُطْلَقُ الإِزارِ، فأدخلتُ يدَيَّ في جيبِ قميصِهِ، فمَسَسْتُ الخاتمَ.

"عن معاويَة بن قُرَّة"، بضم القاف وتشديد الراء. "عن أبيه قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في رَهْطٍ من مُزينة فبايَعُوه وإنه لمُطْلَقُ الأزرار"؛ أي: كان جيبُ قميصهِ مفتوحًا واسعًا، ولم يكنْ مشدودًا بالأزرار جمع زِر القميص بالكسر، وعادةُ العربِ توسيعُ الجيوب، فربَّما يشدُّونها، وربما يتركُونها مفتوحةً. "فأدخلتُ يَدِي في جَيْبِ قميصِه فمسَسْتُ الخاتم"؛ أي: خاتم النبوة. * * * 3348 - عن سَمُرةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اِلبَسُوا الثيابَ البيضَ، فإنها أَطْهرُ وأطيبُ، وكفِّنوا فيها مَوْتاكم". "عن سَمُرةَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: البَسُوا الثيابَ البيضَ فإنها أَطْهرُ"؛ لأنه لم تَصِلْ إليه يدُ الصباغ ولا الصبغ، فإنه قد يكونُ نَجِسًا بملاقاته شيئًا نجسًا. "وأطيبُ"؛ أي: أحسنُ لبقائه على اللون الذي خُلِقَ عليه. "وكفِّنُوا فيها موتاكم". * * * 3349 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا اعْتَمَّ سَدَلَ عمامَتَهُ بينَ كتفيْهِ. غريب "عن ابن عمَر - رضي الله تعالى عنهما - قال: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا اعتمَّ"، بتشديد الميم؛ أي: لفَّ العِمامة. "سدلَ عمامته"؛ أي: أرسلَ طَرَفَها "بينَ كتفيه". "غريب". * * *

3350 - وعن عبدِ الرَّحمنِ بن عوفٍ - رضي الله عنه -: أنه قال: عمَّمَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فسدَلَها بينَ يديَّ ومِن خلفي". "وعن عبدِ الرحمن بن عوف - رضي الله تعالى عنه - قال: عَمَّمَني رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فسدَلَها"؛ أي: أَسْبَلَ (¬1) لعمامتي طَرَفَيْنِ، أحدُهما "بين يديَّ" على صدري، "و" الآخر "من خلفي". * * * 3351 - وعن رُكانةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَرْقُ ما بَيننَا وبينَ المُشركينَ، العَمائمُ على القَلانِسِ"، صحيح. "عن رُكانَة، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: فَرْقُ ما بيننَا وبينَ المشركين العمائمُ على القَلاِنس"، جمع القَلَنْسُوة وكانوا يتعمَّمُون بلا قَلَنْسُوَة، ونحن نعمِّم عليها. "غريب". * * * 3352 - عن أبي موسى الأشعريِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُحِلَّ الذَّهبُ والحريرُ للإناثِ مِن أمَّتي، وحُرِّمَ عن ذكورِها"، صحيح. "عن أبي موسى الأشعري - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أُحِلَّ الذهبُ والحريرُ للإناث من أمتي"؛ أي: للحُلِيِّ. "وحُرِّمَ على ذكورها"، وأما الأواني من الذهب والفِضَّة فحرامٌ على الذكور والإناث. "صحيح". * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "أرسَلَ".

3353 - عن أبي سعيد الخُدريِّ - رضي الله عنه - قال: "كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استجَدَّ ثوباً سمَّاهُ باسمهِ، عمامةً، أو قميصاً، أو رداءً"، ثم يقولُ: "اللهمَّ لكَ الحمدُ كما كَسَوْتَنِيهِ، أسألُكَ خيرَه وخيرَ ما صُنِعَ لهُ، وأعوذُ بكَ مِن شرِّه وشر ما صُنِعَ له". "عن أبي سعيد الخدري قال: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا استجدَّ ثوباً"؛ أي: لبسَ ثوباً جديداً. "سَّماه باسمِه عِمامةً، أو قميصاً، أو رداءً"، بأن يقول: رَزَقَني الله هذه العِمامَة، أو القميصَ، أو الرداء. "ثم يقولُ: اللهمَّ لك الحمدُ كما كَسَوْتَنيه": متعلِّق بما بعدَه وهو "أسألُك خيرَه"؛ أي: خيرَ هذا الثوب. "وخيرَ ما صُنِعَ له، وأعوذُ بك من شره، وشرِّ ما صُنِعَ له". * * * 3354 - عن سهلِ بن مُعاذِ بن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن أبيه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أكلَ طعاماً ثم قال: الحمدُ للهِ الذي أطعَمني هذا الطَّعامَ ورزقنيهِ، بغيرِ حولٍ مني ولا قوةٍ، غُفِرَ لهُ ما تقدَّمَ مِن ذنبهِ وما تأخَّرَ"، وقال: "مَن لبسَ ثوباً فقال: الحمدُ للهِ الذي كَساني هذا ورزقنيهِ، مِن غيرِ حولٍ مني ولا قوةٍ، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذنبهِ وما تأخرَ". "عن سهل بن معاذ، عن أنس، عن أبيه: أنَّ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: مَن أكلَ طعاماً، ثم قال: الحمدُ لله الذي أطعَمَني هذا الطعامَ ورَزَقَنيه مِن غيرِ حولٍ مني ولا قوة، غُفِرَ له ما تقدَّم مِن ذنبه وما تأخَّر"؛ أي: من الصغائر. "ومَن لَبسَ ثوباً فقال: الحمد لله الذي كساني هذا ورزَقَنِيه من غير حولٍ

مني ولا قوة، غُفِرَ له ما تَّقدم من ذنبه وما تأخَّر". * * * 3355 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائشةُ! إنْ أردتِ اللُّحوقَ بي فليكفِكِ مِن الدُّنيا كزادِ الرَّاكبِ، وإيَّاكِ ومجالسةَ الأغنياء، ولا تستخلقي ثوباً حتى ترقعيهِ"، غريب. "عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال لي رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا عائشةُ! إن أردتِ اللَّحوقَ بي فليكفِك من الدنيا كزادِ الراكب"؛ أي: مثل زاده في محل الرفع بأنه فاعل (فليكفِك)؛ أي: لتقنعي بشيءٍ يسيرٍ من الدنيا. "إياك ومجالسَة الأغنياء"؛ أي: احذَرْ من المجالسة معهم. "ولا تستَخْلَقِي ثوباً"؛ أي: لا تعدِّيه خَلَقًا. "حتى تَرْقَعِيه"؛ أي: تَخِيْطِي عليه رقعةً، ثم تلبَسيه مرة أخرى، أرادَ - صلى الله عليه وسلم - بهذا تحريض عائشةَ على تركِ الدنيا واختيارِ القَناعة. "غريب". * * * 3356 - وقال: "إن البَذاذَةَ مِن الإيمانِ". "وقال أبو أمامةَ الحارثي: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ البَذَاذَةَ"، بفتح الباء -؛ أي: رثاثة الهيئة؛ يعني: بترك الزِّينة واختيارِ الفَقْر بلُبْسِ الخَلَق من الثياب. "من الإيمان"؛ أي: من خُلُق أهلِ الإيمان. * * *

3357 - وقال: "مَن لبسَ ثوبَ شُهْرةٍ في الدنيا، ألبسَهُ الله ثوبَ مَذَلَّةٍ يومَ القيامةِ". "عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنَ لَبسَ ثوبَ شهرةٍ في الدنيا"، وهو ما يُقصَدُ بلبسه التفاخرُ والتكبّر على الفقراء وكَسْر قلوبهم، أو ما يتخذِهُ المُساخِر ليجعلَ به نفسَه ضُحْكَةً بين الناس، أو ما يتخذُه الزهَّاد ليُشْهِرَ نفسَه بالزهد ويقصِد به الرياء. "ألبسَه الله ثوبَ مذلةٍ يوم القيامة"، وهذا كناية عن شُمول الذُّلّ به شُمولَ الثوب البدَن؛ أي: يصغّرُه في العيون ويحقّره في القلوب. * * * 3358 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تَشبَّهَ بقومٍ فهو منهم". "وقال: مَن تشَبَّهَ بقومٍ"؛ يعني من شبَّه نفسَه بالكفارِ مثلاً في اللِّباس وغيرِه، أو بالفُسَّاق، أو بالنّساء، أو بأهلِ التصوف والصلَحاء. "فهو منهم" في الإثم والخير. * * * 3359 - وقال: "مَن تركَ لُبْسَ ثوبِ جَمالٍ وهو يقدرُ عليهِ - ويُروَى: تَواضعاً - كساهُ الله حُلةَ الكرامةِ". وقال: "مَن زَوَّجَ للهِ توجَّهُ الله تاجَ الملكِ". "وقال: مَن تركَ لُبْسَ ثوبِ جَمالٍ"؛ أي: زينة. "وهو يقدِرُ عليه"؛ أي: على لُبْسِه.

"ويروى: تواضُعاً كساه الله حُلَّة الكرامة"؛ يعني أكرَمه الله وألبسَه من ثياب الجنة. "ويروى: مَن زَوَّجَ لله"؛ أي: ابنته، أو نفسَه، أو أختَه، أو عبدَه، وقيل: أي: أَعطى مِن كلِّ شيء زوجين، وفي بعض النسخ: (من تزوَّجَ)، وفسر التزوُّج لله بالنزولِ عن درجته في الكفاءة. "تَوَّجَهُ الله"؛ أي: ألبسَه "تاجَ المُلْك". * * * 3360 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يُحِبُّ أن يَرَى أثرَ نِعمَتِهِ على عبدِه". "عن عمرو بن شُعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله تعالى عنهم - قال: قال رسولُ الله صلَّى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ الله تعالى يُحبُّ أن يَرى أثرَ نعمتهِ على عبدهِ"؛ يعني: إذا أعطى الله عبداً نعمةً يحبُّ أن يُظهِرَ أثرَها في حالة من تحسينِ الثيابِ بالتنظيفِ والتجديدِ عند الإمكان بلا مبالغةٍ قاصداً إظهارَ نعمةِ الله عليه؛ ليقصدَه المحتاجون لطلبِ الزكاةِ والصدقاتِ، ولا يجوزُ أن يكتُمَ نِعَمَ الله بحيث لا يعرفونه، وكذلك العلماءُ؛ ليظهروا علمَهم لمعرفَهم الناسُ ويسفِيدُوا مِن عِلْمِهم. * * * 3361 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: أتانا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - زائِراً، فرأَى رجلاً شَعِثاً قد تفرقَ شَعرُهُ فقال: "أَما كانَ يجدُ هذا ما يُسَكِّنُ بهِ رأسَهُ"، ورأَى رَجُلاً عليهِ ثيابٌ وَسِخةٌ فقال: "أَما كانَ يجدُ هذا ما يغسلُ بهِ ثوبَهُ". "عن جابرٍ - رضي الله تعالى عنه -: أتانا رسولُ الله صلَّى الله تعالى عليه

وسلم زائراً فرأى رجلاً شَعِثًا قد تفرَّقَ شعرُه فقال: ما كان يجدُ هذا"، بحذف همزة الاستفهام. "ما يسكِّن به رأسَه"؛ أي: يلمّ شعثَه ويجمَع متفرّقَه. "ورأى رجلاً عليه ثيابٌ وَسِخةٌ فقال: ما كان يجدُ هذا ما يغسِلُ به ثوبَه". * * * 3362 - عن أبي الأَحْوَصِ الجُشَميِّ - رضي الله عنه -، عن أبيهِ قال: رآني النبيّ - صلى الله عليه وسلم - وعليَّ أَطمارٌ فقال: "هل لكَ مِنْ مالي؟ " قلتُ: نعم، قال: "مِن أيِّ المالِ؟ " قلتُ: مِن كلٍّ قد آتاني الله، مِن الشَّاءَ والإبلِ، قال: "إذا آتاكَ الله مالاً فلتُرَ أثرُ نعمةِ الله وكرامتِهِ عليكَ". "عن أبي الأحوص الجُشَمي": بضم الجيم وفتح الشين المعجمة. "عن أبيه قال: رآني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وعليَّ": الواو للحال. "أطمارٌ" بفتح الهمزة: جمع طِمْر بكسر الطاء وسكون الميم، وهو الثوبُ الخَلَق. "فقال: هل لك مِن مال؟ قلت: نعم، قال: من أيِّ المال؟ قلت: من كل قد آتاني الله من الشاء والإبل، قال: إذا آتاك الله مالاً فلتُرِ نعمةَ الله وكرامتَه عليك"؛ يعني البَسْ ثوباً ليعرِفَ الناسُ أنك غنيٌّ، وأن الله تعالى أنعمَ عليك بأنواعِ النّعَم. فإن قلت: أليسَ أنه - صلى الله عليه وسلم - حثَّ على البَذَاذة؟. قلت: إنما حثَّ عليها حتى لا يؤنَفَ عنها، فأمَّا مَن اتخذَ ذلك دَيدَنًا من قدرةٍ على الجديد فلا؛ لأنه دَناءةٌ وخِسَّةٌ. * * *

3363 - وعن عبدِ الله بن عَمرٍ - رضي الله عنه - قال: مَرَّ رجلٌ وعليهِ ثَوْبانِ أحمرانِ، فسلَّم على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلَمْ يَرُدَّ عليهِ. "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنه - قال: مرَّ رجلٌ عليه ثوبان أحمران، فسلَّم على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فلم يَرُدَّ عليها، وهذا يدلَّ على أنَّ مَنْ كان مشغولاً بمنهيٍّ في وقتِ تسليمهِ لا يُستحبُّ الجوابُ، لكن مستحَبٌّ أن ينبَّهَ بأنْ يقال له: إنما لم أُجِبْك لكذا؛ لُيْقِلعَ عما هو فيه، وكراهيته - صلى الله عليه وسلم - للحُمْرة محمولةٌ على الصِّبغْ بعد النَّسْج، وفي معناه ما روى الحسن عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "الحُمْرةُ زينةُ الشيطان". * * * 3364 - عن عِمرانَ بن حُصَينٍ - رضي الله عنه -: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا أركبُ الأُرْجُوانَ، ولا أَلبَسُ المُعَصْفَر، ولا أَلبسُ القميصَ المكفَّفَ بالحريرِ". وقال: "ألا وَطِيبُ الرِّجالِ ريحٌ لا لونَ لهُ، وطيبُ النِّساء لونٌ لا ريحَ له". "عن عمرانَ بن حُصَين: أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا أركبُ الأُرجوانَ"، بضم الهمزة والجيم وسكون الراء: صِبغٌ شديدُ الحُمْرة معرَّب أُرْغُوان، أراد به المِيثَرةَ الحمراءَ يُتَّخَذُ من حريرٍ أحمرَ، وهي وسادةٌ صغيرةٌ توضَعُ على السَّرْج، ويمكن التَّعميمُ فيما يُجلَسُ عليه أيضًا من الثيابِ الحمرة، والمعنى: لا أجلِسُ على ثوبٍ أحمَر ولا أركَبُ دابةً على سَرْجِها وسادةٌ صغيرة حمراءُ. "ولا ألبَسُ المعصفَرَ"؛ أي: الثوبَ المصبوغَ بالعُصْفُر. "ولا ألبَسُ القَمِيصَ المكفَّفَ"؛ أي: المرقَّع جيبُه وأطرافُ كُمَّيه وذيلُه "بالحرير"، والتوفيقُ بين هذا وحديثِ أسماءَ بنتِ أبي بكرٍ: أنَّ قَدْرَ ما كُفِّفَ

بالحرير هنا أكثرُ من القَدْر المرخَّصِ ثَمَّةَ، وهو أربعُ أصابعَ، أو يُؤَوَّلُ هذا على الوَرَع وذاك على الرُّخْصَة، أو هذا يتأخَّر عن لُبْس الجُبَّةَ. "وعن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا وطيبُ الرجال ريحٌ لا لونَ له"، نحو المِسْك والكافورِ والعُوْد. "وطيبُ النساءِ لونٌ لا ريحَ له"، نحو الزَّعْفرانِ والخَلُوق والحِنَاءِ، ولا يجوزُ لهنَّ التطيُّب بما له رائحة طيبة عند الخروج من بيوتهن، ويجوزُ إذا لم يَخْرُجْن. * * * 3365 - وعن أبي ريحانةَ - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن عشرٍ: عن الوَشْرِ، والوَشْم، والنتفِ، وعن مُكامَعةِ الرَّجُلِ الرَّجلَ بغيرِ شِعارٍ، ومُكامعةِ المَرأةِ المَرأةَ بغيرِ شِعارٍ، وأنْ يَجعَلَ الرَّجلُ في أسفلِ ثيابهِ حريراً مثلَ الأعاجِم، أو يَجعلَ على مَنْكِبَيْهِ حريراً مثلَ الأعاجم، وعن النُّهْبَى، ورُكوبِ النُّمورِ، ولُبوسِ الخاتم إلا لِذِي سُلطانٍ. "عن أبي ريحانة قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن عَشْرٍ: عن الوَشْرِ" بفتح الواو وسكون الشين المعجمة: تحديدُ الأسنانِ بحديدةٍ وترقيقُ أطرافِها، تفعلُه المسِنَّةُ تشبها بالأحداث. "والوَشْم" بفتح الواو ثم السكون: غَرْزُ إبرة أو نحوِها في ظَهْرِ الكَفِّ، أو في غيرِه ويُحشَى بشيءٍ من سوادٍ ليبقَى نَقْشُه. "والنَّتْف"، أراد به نتفَ النساءِ الشّعورَ من وجوهِهنَّ، أو نتفَ الشَّعْرِ الأبيضِ من اللِّحْية، أو نتفَ الشَّعْرِ من اللِّحْية والرأسِ عند المُصِيبة.

"وعن مكامَعَةِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ"، وهي المضاجَعة. "بغير شِعارٍ"؛ أي: بغيرِ اللِّباس. "ومكامَعَةِ المرأةِ المرأةَ بغير شِعَارٍ، وأن يَجعلَ الرجلُ في أسفلِ ثيابهِ حريراً مثلَ الأعاجم"، فإنَّ عادةَ الجُهَّالِ من الرجال أن يَلْبَسُوا تحت الثياب ثوباً قصيراً من الحريرِ لتليينِ الأعضاء. "أو يجعلَ على مَنْكِبَيه حريراً"؛ أي: عَلَمَ حَريرٍ زائداً على قَدْر ما رُخِّصَ فيه. "مثلَ الأعاجم"، فأما العَلَم بقدْرِ الرُّخْصَة، أو سوى الثوب من الحريرِ فلا بأسَ به، وكان ابن عمر يكرَهُ أعلام الحرير في الثياب. "وعن النُّهبَى" بضم النون، اسمُ ما نُهِبَ به؛ يعني: من إغارة أموال المسلمين. "وركوبِ النُّمور"، جمع نَمِر؛ أي: ركوب جلودهِا لمَا فيه من الزينة والخُيَلاَء، أو لأنها زِيُّ العَجَم، أو لمَا عليها من الشُّعور فإنها لا تطهُرُ بالدِّبَاغ. "ولُبْسِ الخاتم" من الفضة؛ لأنه زينةٌ مَحْضَة. "إلا لذي سلطانٍ"، فإنه محتاجٌ إليه لختْمِ الكتاب، وفي معناه كلُّ محتاجٍ إلى ذلك، قيل: المرادُ بالنهيِ التنزيُه، أو القَدْرُ المشتركُ بينه وبينَ التحريم، وقيل: منسوخٌ بدليل الصحابةِ في عصرِه - صلى الله عليه وسلم - وعصرِ خلفائهِ بلا نَكِير. * * * 3366 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: "نهاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن خاتمِ الذَّهَبِ، وعن لُبْسِ القَسِّيِّ والمياثِر". وفي روايةٍ: عن مَياثِر الأُرْجُوان.

"عن عليٍّ قال: نهاني رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن خاتَم الذَّهَب، وعن لُبْسِ القَسِّيِّ"، بفتح القاف وكسر السين المشددة: نسبة إلى القَسِّ من بلاد مصر تُنسَب إليها الثيابُ، والمنهيُّ عنه هو إذا كان من حرير. "والمياثِر" بفتح الميم: جمع مِيثَرة بالكسر. "وفي رواية: نهى عن مياثرِ الأُرْجُوان". * * * 3367 - وعن معاويةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَركبُوا الخَزَّ ولا النِّمارَ". "وعن معاويةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تركَبُوا الخَزَّ": وهو الثوبُ المنسوجُ من إِبْرِيسيم وصوف. "ولا النِّمَار": جمع نَمِر؛ أي: على جلودها، كان العجمُ مياثِرُهم من الحرير والديباجِ وجلودِ النُّمور فنهاهم عنها، وقيل: جمع نَمِرَة: كساءٌ مخطَّط، فالكراهيُة للتنزيه. * * * 3368 - عن البَراء - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى عن المَيْثَرةِ الحمراء. "وعن البراء بن عازب: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الميثَرة الحمراء". * * * 3369 - عن أبي رِمْثَةَ التَّيمِيِّ - رضي الله عنه - قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعليهِ ثَوْبانِ أخضرانِ، ولهُ شعرٌ قد علاهُ الشَّيبُ وشَيبُهُ أحمرُ. وفي روايةٍ: وهو ذو وَفْرَةٍ، وبها رَدْعٌ من حِنَّاءٍ.

"عن أبي رْمِثةَ"، بكسر الراء. "التيميِّ قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثوبان أخضران، وله شعرٌ قد علاه الشَّيبُ"؛ أي: صار شيبٌ. "وشيبُه أحمرُ"؛ أي: بالحِنَّاء. "وفي رواية: وهو ذو وَفْرَة"، والوَفْرَة: شعرُ الرأس الواصِلُ إلى شَحْمةِ الأذن. "وبها"؛ أي: بالوَفْرَة. "رَدْغٌ من حِنَّاء"؛ أي: لَطْخٌ منه وَأَثرٌ. * * * 3370 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ شاكِياً، فخرج يتَوكَّأُ على أسامةَ، وعليهِ ثوب قِطْري قد تَوَشَّحَ به، فصَلَّى بهم. "وعن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان شاكِياً"؛ أي: مريضًا. "فخرَج يتوكَّأُ على أسامةَ وعليه ثوبُ قِطْرٍ" بكسر القاف وسكون الطاء: نوعٌ من برودِ اليمنِ فيه حُمْرة، وقيل: حلة جيد لحمَلُ من قِبَلِ البحرين. "قد توشَّحَ به"؛ أي: ألقى ذلك الثوبَ على عاتِقَيه؛ لأنه كان شبهَ رداءٍ، وقيل: معناه أدخله تحَت يدهِ اليمنى وألقاه على مَنْكِبه الأيسرِ كما يفعلُ المُحْرِمُ، وقيل: تغشَّى به. "فصلى بهم"؛ أي: بأصحابه. * * * 3371 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كانَ على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثوبانِ

قِطْرِيَّانِ غَليظانِ، فكانَ إذا قعدَ فعرِقَ ثَقُلا عليهِ، فقدِمَ بَزٌّ مِن الشَّامِ لفلانٍ اليهودي، فقلتُ: لو بعثتَ إليه فاشتريتَ منهُ ثَوْبينِ إلى المَيْسَرَةِ، فأَرسلَ إليه فقالَ: قد علمتُ ما يريدُ، إنما يريدُ أنْ يذهبَ بمالي، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذبَ؟ قد علمَ أنِّي من أتقاهُم وآداهُمْ للأَمانةِ". "عن عائشَة قالت: كان على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثوبان قِطْرِيان غَلِيظَان، فكانَ إذا قعدَ فعَرِقَ ثَقُلا عليه": من الثّقَل. "فَقِدمَ بَزٌّ" بفتح الباء وتشديد الزاي المعجمة: أمتعة البزاز من ثياب ونحوها. "من الشام لفلانٍ اليهوديِّ، فقلت: لو بعثتَ إليه"؛ أي: لو أرسلْتَ إلى ذلك اليهوديِّ "فاشتريتَ منه ثوبين" بثمنٍ مؤجَّل. "إلى المَيْسَرة"؛ أي: إلى الغِنَى، وجواب (لو) محذوف؛ أي: لكان حسناً حتى لا تتأذَّى بهذين الثوبين القِطْرِيَّين وكانا من الصوف، وهذا البَزُّ كان من القُطْن، وقيل: (لو) للتمني. "فأرسلَ إليه"؛ أي: أرسلَ رسولاً إلى اليهوديِّ يتسلَّفُ بَزًّا إلى المَيْسَرة. "فقال"؛ أي: اليهودي. "قد علمتُ ما تُرِيد"، (ما) استفهامية عَلَّقت العِلْم عن العمل، ويجوزُ أن تكونَ مصدريةً، والعِلْمُ بمعنى العرفان. "إنما تريدُ أن تذهبَ بمالي"؛ أي: لا تؤدِّي إلي ثمنَه. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كذبَ"؛ أي: اليهوديُّ. "قدَ عِلَم" في التوراة "أني أتقاهم"؛ أي: أتقى الناس. "وآداهم"؛ أي: أقضاهم اللأمانة"، ولكن إنما يقولَ ذلك القول من الحسد. * * *

3372 - عن عبدِ الله بن عمِرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: رآني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وعليَّ ثوب مَصْبوغ بعُصْفُرٍ مُوَرَّداً فقال: "ما هذا؟ " فعَرَفْتُ ما كرِهَ، فانطلقتُ فأحرقته، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما صنعتَ بثوبكَ؟ " فقلتُ: أحرقتُه، قال: "أفلا كسَوْتَهُ بعضَ أهلِكَ، فإنه لا بأسَ بهِ للنِّساء". "عن عبدِ الله بن عمرو بن العاص قال: رآني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وعليَّ ثوبٌ مصبوغٌ بعُصْفُرٍ مورَّداً"، نصبه على أنه صفةُ مصْدَرٍ محذوفٍ؛ أي: صِبْغاً مورَّداً؛ أي: على لونِ المَوْرِد، أو على الاختصاص. "فقال: ما هذا؟ فعرفْتُ ما كَرِه"، (ما) هذه مصدرية. "فانطلقتُ فأحرقتُه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما صنعتَ بثوبكِ؟ فقلتُ: أحرقتُه، قال: أفلا كسوتَه بعضَ أهِلك، فإنه لا بأسَ به للنِّساء". * * * 3373 - عن هلالِ بن عامرٍ - رضي الله عنه -، عن أبيه قال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بمِنَى يخطُبُ على بغلةٍ وعليهِ بُرْد أحمرُ وعليّ يُعَبرُ عنه. "عن هلالِ بن عامرٍ، عن أبيه قال: رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنًى يخطُبُ على بغلةٍ وعليه بُرْد أحمرُ"، وتأويله أنه لم يكن كلُّه أحمرَ، بل كان عليه خطوط حُمْرٌ. "وعليٌّ يُعبِّرُ عنه"؛ أي: يُبلِّغُ كلامَه - صلى الله عليه وسلم - بأعلى صوته إلى ورائه؛ لأنه من كثرةِ الخَلْق لا يصلُ صوتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى جميعهم. * * * 3374 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: صُنِعَتْ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بُرْدَةٌ سوداءُ فلَبسَها، فلمَّا عَرِقَ فيها وجدَ ريحَ الصُّوفِ فقَذَفَها.

"عن عائشةَ قالت: صنعتُ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بُرْدَةَّ سَوداءَ فَلبسَها، فلما عَرِقَ فيها وجدَ ريحَ الصُّوتِ فقذفَها"؛ أي: ألقاها. * * * 3375 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: أَتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو مُحْتَبٍ بشَمْلَةٍ قد وقع هُدْبُهَا على قدمَيْهِ. "عن جابرٍ قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو محتبٍ بشَمْلَةٍ"، قيل: معناه كان جالساً على هيئة الاحتباء، وألقَى شَمْلَةً خلفَ ركبتيه. "قد وقع هُدْبُها"؛ أي: حاشيتُها. "على قدميه"، وأخذَ بكلِّ يدٍ طرفًا من تلك الشَّمْلَة؛ ليكون كالمتَّكِئ على شيء، وهكذا عادةُ العرب إذا لم يَتَّكِئوا على شيء. * * * 3376 - عن دِحْيةَ بن خليفةَ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ النبي - صلى الله عليه وسلم - بقَباطيَّ فأعطاني منها قُبطِيَّةً فقَال: "اصدَعْها صَدْعَينِ، فاقطعْ أحدَهما قميصاً وأعطِ الآخرَ امرأتَكَ تختمرُ بهِ"، فلما أدبرَ قال: "وأْمُرِ امرأتَكَ أنْ تجعلَ تَحْتَهُ ثوباً لا يصِفُها". "عن دِحْيةَ بن خَلِيفة الكَلْبي قال: أُتيَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بقَباطيَّ"، بفتح القاف: جمع قِبْطِيَّة، وهي ثيابٌ بيضٌ رِقَاقٌ تتَّخذُ من كِتَّانٍ بمصرَ، وقد تضم القاف؛ لأنهم يغيرون في النّسبة. "فأعطاني منها قِبْطِيَّةً فقال: اصدَعْها صِدْعَين"؛ أي: شُقَّها شِقَّين وكلُّ شِقٍّ فهو صِدْع بكسر الصاد. "فاقَطْع أحدَهما قميصاً، وأعطِ الآخَر امرأتَك تختمرُ"؛ أي: تتقنع "به، فلمَّا أدبرَ قال: وأْمُرِ امرأتَك أن تجعلَ تحتَه ثوبًا لا يصِفُها"؛ أي: كي لا يصفَها

2 - باب الخاتم

بظهورِ لونِ بشرتهِا؛ لكونِ ذلك القِبْطِيِّ رقيقًا تظهرُ من تحته البَشَرَةُ. * * * 3377 - عن أمِّ سلَمَةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ عليها وهي تختمِرُ فقال: "لَيَّةً لا لَيَّتَيْنِ". "عن أم سَلَمةَ - رضي الله تعالى عنها -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخلَ عليها وهي تختمرُ فقال: لَيَّةً" بفتح اللام والياء المشددة: مفعولٌ مطلق؛ أي: لوَّى لَيَّةً واحدة. "لا لَيَّتَين"؛ أي: لا تَلْوِيه وتُدِيريه مَرَّتين، أمرَها أن تلويَ الخمارَ على رأسِها، وما تحت حَنَكِها عطفةً واحدةً كي لا تشبهي الرجالَ إذا اعْتَمُّوا. فيه تنبيه على أن النساءَ لا ينبغي لهن أن يلَبَسْنَ مثلَ لباسِ الرجالِ وعكسه. * * * 2 - باب الخاتَمِ (باب الخاتم) مِنَ الصِّحَاحِ: 3378 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: اتَّخَذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خاتماً مِن ذَهَبٍ - وفي روايةٍ: وجعلَهُ في يدِه اليُمنَى - ثم ألقاهُ، ثم اتَّحْذَ خاتَماً مِن وَرِقٍ نقِشَ فيهِ: محمدٌ رسولُ الله، وقال: "لا ينقشْ أحدٌ على نقشِ خاتَمي هذا"، وكانَ إذا لَبسَه جعلَ فَصَّهُ مما يلي بطنَ كفِّهِ.

"من الصحاح": " عن ابن عمَر - رضي الله تعالى عنهما - قال: اتخذَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خاتماً من ذهب"، قيل: هذا كان قبلَ تحريمِ الذهبِ على الرجال. "وفي رواية: وجعَله في يده اليمنى، ثم ألقاه، ثم اتخذَ خاتماً من وَرِق"، بكسر الراء؛ أي: من فِضَّةٍ مضروبة. "نُقِشَ فيه" على صيغة المجهول -: "محمدٌ رسولُ الله"، مبتدأ وخبر، فالجملَةُ في محل الرفع نحو كتبَ: زيا قائمٌ؛ أي: لفظُه. "وقال: لا يَنْقُشْ أحدٌ على نَقْشِ خاتمي هذا"، (على) هنا بمعنى المِثل؛ يعني: لا يجوزُ لأحدٍ أن ينقشَ على خاتمِه مثلَ نقش خاتمي، وهو: محمدٌ رسولُ الله، وإنما نهى عنه؛ لاختصاصِ مضمونهِ به مع ما فيه من التهاونِ بالاسمين، وهو ألَّا ينزَعِ الخاتمَ في المواضع المكروَهةِ. "وكان إذا لَبسَه جعلَ فَصَّه مما يلي بَطْنَ كفَّه"؛ لبعده عن الخُيَلاَء وإظهارِ الزِّينة، وكَرِهَ بعضٌ خاتَمَ الفِضَّة للمرأة؛ لأنه زِيُّ الرجالِ، فإن لم تجِدْ غيرَه صَفَّرَتْه ولو بزَعْفَران. * * * 3379 - عن علي - رضي الله عنه - قال: "نهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن لُبْس القَسِّيِّ، والمُعَصفرِ، وعن تَخَتُّم الذهبِ، وعن قراءةِ القرآنِ في الركوعِ". "عن علي قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن لُبْسِ القَسِّي، وعن المُعَصْفَر، وعن تختُّم الذهبِ، وعن قراءةِ القرآنِ في الركوع"؛ لأن الركوعَ موضعُ التسبيحِ لا القراءة. * * *

3380 - وعن عبدِ الله بن عباسٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رأى خاتماً من ذهبٍ في يَدِ رجلى، فنزعَهُ فطرحَه، فقال: "يَعْمِدُ أحدكم إلى جَمْرٍ من نارٍ فيجعلُه في يدِه". "وعن عبد الله بن عباس: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: رأى خاتماً من ذهبٍ في يدِ رجلٍ؛ فنزعَهُ فطرحَه، فقال يعمِدُ"؛ أي: يقصِدُ "أحدكم إلى جمرٍ من نارٍ فيجعلُه في يده". * * * 3381 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أرادَ أنْ يكتبَ إلى كِسرَى وقبصرَ والنجاشِيِّ فقيلَ: إنَّهم لا يقبلونَ كتاباً إلا بخاتَم، فصاغَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خاتَماً حَلْقَةً فضة، نَقَشَ فيهِ: "مُحمدٌ رسولُ الله". "عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرادَ أن يكتُبَ إلى كِسْرى وَقْيصَرٍ والنَّجَاشِيِّ، فقيل: إنهم لا يقبَلُون كتاباً إلا بخاتم، فصاغَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خاتماً"؛ أي: أمر بصُنْعِ خاتمٍ، "حَلْقَةَ فِضَّةِ"، بالإضافة بدل من خاتم أو بياناً له. "نقشَ فيه: محمد رسول الله" - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3381/ -م - "كانَ نقشُ الخاتَم ثلاثةَ أسطُر: مُحمَّد سطرٌ، ورسولُ سطرٌ، والله سطرٌ". "كان نقشُ الخاتَم ثِلاثةَ أسْطُرٍ: محمدٌ سَطْرٌ، ورسولُ سطرٌ، والله سَطْرٌ". * * *

3382 - عن حُمَيْدٍ، عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كانَ خاتمهُ مِن فضةٍ، وكانَ فَصُّه منه. "عن حُمَيد" بصيغة التصغير. "عن أنسٍ: أن نبيَّ الله كان خاتَمُه من فِضة، وكان فَصُّه منه"؛ أي: فَصُّ الخاتم من الفضة، تذكيرُ الضمير بتأويل الورق. * * * 3383 - وعن ابن شِهابٍ، عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لبسَ خاتمَ فضةٍ في يمينهِ، فيهِ فَصٌّ حَبَشيٌّ، كانَ يجعلُ فَصَّهُ مما يلي كَفَّهُ. "عن ابن شِهابٍ"، بكسر الشين المعجمة: هو الزُّهْريّ، وهو محمدُ بن مسلمِ بن عُبيد الله بن شِهَاب. "عن أنس: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَبسَ خاتمَ فِضَّةٍ في يمينه، فيه فَصٌ حبشي"؛ أي: عقيق، أو جَزْع؛ لأن معدنَهما اليمنُ والحَبَشة، أو نوعٌ آخر يُنْسَب إليها. "كان يُجْعَلُ فَصَّه مما يلي كَفَّه"، وهذا الحديثُ لا يخالِفُ الأولَ لجوازِ كونِ هذا الخاتم غِيرَ ذلك الخاتم، أو يكونَ غيرَ فَصِّه. * * * 3384 - عن ثابت، عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ خاتَمُ النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه، وأشارَ إلى الخِنْصَرِ من يدِه اليُسرَى. "عن ثابتٍ، عن أنس - رضي الله تعالى عنهما - قال: كان خاتَمُ النبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - في هذه، وأشار إلى الخِنْصَر من يده اليسرى"، وهذا لا يخالِفُ حديثَ التختّم في اليمنى؛ لجوازِ كونهِ تارةَ في ذا، وتارةً في ذاك، وارتضَى كلَّ واحدِ من

المحَلَّين، أما التختُّمَ في اليمين فِلكَرَامته، وأما اليسارُ فلأنه جعلَ العبرةَ فيه للفِعل لا للمَحَلِّ. والأَولى أن يقال: إنه يَجبرُ نقصانَها وحرمانَها عن جميع الأفعال الفاضلة، وتخصيصُ الخِنْصَر لضَعْفِها أيضا. * * * 3385 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: نهاني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أتخَتَّمَ في أُصبَعي هذه أو هذه، قال: فأوْمَأَ إلى الوُسْطَى والتي تليها. "وعن عليّ - رضي الله تعالى عنه - قال: نهاني رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن أتختَّمَ في إصبعي هذه أو هذه، قال فأومَأ إلى الوَسْطَى والتي تَلِيها"؛ يريد بها السَّبَّابة. * * * مِنَ الحِسَان: 3386 - عن عبدِ الله بن جَعْفَرٍ قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَتَّمُ في يمينِهِ. "من الحسان": " عن عبد الله بن جعفر قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتختَّمُ في يمينه". * * * 3388 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذَ حريراً فجعلَه في يمينه، وأخذَ ذهباً فجعلَه في شِمالِه ثم قالَ: "هذينِ حرام على ذكورِ أُمَّتي". "وعن علي - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ حريراً فجعلَه في يمينه، وأخذ ذهباً فجعلَه في شِمَاله، ثم قال: إن هذين حرامٌ على ذُكُور أمتي"،

وهذا يدلُّ على أنها تَحِلّ للنساء. * * * 3387 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: كانَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يتَخَتَّم في يسارِه. "عن ابن عمَر قال: كان النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يتختَّم في يَسَارِه". * * * 3389 - وعن معاويةَ - رضي الله عنه -: "أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن ركوبِ النّمورِ، وعن لُبْسِ الذَّهبِ إلا مُقَطعاً". "عن معاويةَ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن رُكوبِ النّمُور وعن لُبْسِ الذَّهبِ إلا مقطَعاً"، يريد به اليسيرَ كالحَلَقِ في آذان النساء والخاتَمِ لهنَّ، وقيل: وكرهَ من ذلك الكثيرُ الذي هو عادةُ أهلِ السَّرَف، وزينةُ أهل الخُيَلاَء؛ لأنه ربما يحلُّ صاحبُه بإخراج زكاتهِ فيأثَمُ بذلك. وفيه نظر، لأن الحديثَ لا يُشْعِرُ التخصيصَ بالنساء، ولئنْ سُلِّم فالظاهرُ استواءُ الكثير والقليلِ بالنسبة إليهن. والصوابُ: أن يحملَ الحديثُ على الرجال؛ لأن ركوبَ النمور من عادتهِم، ويراد حينئذ لبسَ قطعةِ أنفِ من ذهب، أو قطعةَ إصبع، أو سِنٍّ منه لمن قُطِعَ منه هذه الأعضاء، أو قطعة يُشَدُّ بها فَصّ الخاتم ونحوها. * * * 3390 - وعن بُرَيدَةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لرجلٍ عليهِ خاتم مِن شبَهٍ: "ما لي أجدُ منكَ ريحَ الأصنامِ؟ " فطرحَهُ ثم جاءَ وعليهِ خاتم مِن حديدٍ، فقالَ: "ما لي أَرَى عليكَ حِليةَ أهلِ النارِ؟ " فطرحَهُ فقال: "اتَّخِذْهُ مِن وَرِقٍ ولا تُتِمَّهُ مِثْقالاً".

"عن بُرَيدة: أن النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال لرجلٍ عليه خاتَمٌ مِن شَبَهٍ"، وهو ضربٌ من النحاس، سُمّيَ به لشبهه بالذهب لونًا. "ما لي أجدُ منك ريحَ الأَصْنَام"؛ لأنها كانت تُتخَذُ من الشَّبَه. "فطرحَه"؛ أي: ألقى الرجلُ ذلك الخاتَم. "ثم جاءَ وعليه خاتَم من حديد، فقال: ما لي أرى عليكَ حِلْيةَ أهلِ النار"، حليةُ الرجلِ - بالكسر -: صفة، وإنما كرهَه؛ لأنه زِيُّ بعضِ الكُفار، أو لأنَّ الكُفَّارَ يعذَّبُون بالسلاسلِ والأغلالِ، وهي في عُرْفنا تُتخَذُ من الحديد. "فطرحَه"، وبهذا كرهَ بعضٌ التختُّمَ به. "فقال: اتَّخِذْه من وَرِقٍ ولا تُتِمَّه مثقالاً"، وهذا نهيُ إرشادِ على الوَرَع، فإنَّ الأَولى أن يكون الخاتمُ أقلَّ من مثقال؛ لأنه من السَّرَف أبعدُ، وإلى التواضع أقربُ، فإن أتمَّه مثقالاً، أو زادَ عليه جاز. * * * 3390/ -م - قالَ الإمامُ رحمه الله: وقد صحَّ عن سهلِ بن سَعْدٍ في الصَّداقِ: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجلٍ: "اِلتَمِسْ ولو خاتَماً مِن حديدٍ". "قال المصنِّفُ: وقد صحَّ عن سهلِ بن سعدٍ في حديث الصَّدَاق: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: التمِسْ ولو خاتَمًا مِن حديد"، وهذا يدلُّ على الرُّخْصَة في التختُّم بالحديد، وبه قال بعضٌ، وأوردَه المؤلِّفُ هنا تنبيهاً على أنَّ النهيَ عنه ليس نهيَ تحريمٍ، وإلا لما جَوَّزَ التماسَ الخاتم من حديدٍ وجَعْلَه صداقًا. قيل: وجهُ التوفيقِ هو أنَّ معنى قوله: (ولو خاتماً) المبالغةُ في بَذْل ما يمكِنُه في النِّكاح، وإن كان شيئاً يسيراً، كما يقال: أعطِ زيداً ولو كَفاً من تراب، فجَعْلُه - صلى الله عليه وسلم - إياه مَهْراً لا يدلُّ على جواز التختُّم به، وإن سُلِّمَ الجوازُ فحديثُ سهلٍ

كان قبلَ استقرارِ الشرائع، وحديثُ بُريدةَ بعده. * * * 3391 - عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: "كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يكرهُ عشرَ خلالٍ: الصُّفْرةَ، يعني الخَلُوقَ، وتَغْييرَ الشَّيبِ، وجَرَّ الإزارِ، والتختُّمَ بالذَّهبِ، والتبرُّجَ بالزينةِ لغيرِ مَحَلِّهَا، والضَّربَ بالكِعابِ، والرُّقَى إلا بالمعوِّذاتِ، وعقدَ التمائم، وعزلَ الماء لغير مَحَلِّه، وفسادَ الصَّبيِّ غيرَ مُحَرِّمِه". "عن ابن مسعودٍ قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يكرَهُ عَشْر خِلالٍ"؛ أي: خِصَال. "الصُّفْرَةَ؛ يعني الخَلُوقَ" بفتح الخاء المعجمة وضم اللام: طِيبٌ معروفٌ، وقد أبيحَ مرةً ونُهِيَ عنه أخرى، وهو أكثر؛ لأنه مِن طِيبِ النساء، وكأنه ناسخٌ للإباحة. "وتغييرَ الشَّيبِ بالنَّتفِ"، أو إلى السواد إخفاءً له وإظهاراً للشباب دون الخِضَاب بالحِنَّاء. "وَجرَّ الإزار، والتختُّمَ بالذهب، والتبرُّجَ بالزِّينة"؛ أي: إظهارَ المرأةِ محاسنَها "لغير مُحِلِّها"، بكسر الحاء واللام، وقيل بفتحهما أيضًا؛ أي: لغيرِ من يَحِلُّ لها مِن زوجِها. "والضرْبَ بالكِعَاب" بكسر الكاف: جمع كَعْب، قالوا: هي فصوصُ النَّرْد فاللَّعِبُ به حرامٌ كرهه عامةُ الصحابة، وقيل: كان ابن مُغَفل يفعلُه مع امرأته، ورخَّصَ فيه ابن المسيَّب على غير قمار. "والرُّقَى" جمع رُقْيَة، وقد جاء جوازُها، والنهيُ عنها، فتحمَلُ الكراهةُ على ما كان بغيرِ العربيِّ، وبغيرِ أسمائِه تعالى وصفاتِه وكلامِه، ولا يُكرَهُ ما خالف ذلك.

"إلا بالمعوِّذات"، وهي كلُّ سورةٍ أولُها: {قُل} كـ (الإخلاص) و (المُعوِّذَتين) و (الكافرون)، لأمره - صلى الله عليه وسلم - بقراءتها على الأطفالِ، وفي معناه جميعُ ما يتعوَّذُ به من آيِ القرآن وأسمائهِ وصفاته والرُّقَى المُرْقِية. "وعَقْدَ التمائم"، جمع تَمِيم، وهي أباطيلُ الجاهليةِ، نحو خَرَزَاتٍ علَّقَها الجاهلية على أولادِهم اتقاءَ العينِ فأبطَله الإسلام؛ لأنه لا يدفَعُ شيئًا إلا الله. "وعَزْلَ الماءِ لغيرِ مَحَلِّه"، واللام في (لغير) بمعنى (عن)؛ يعني: إبعادَ المَنِيِّ عن الفرجِ وإراقتَه خارجَ الفَرْج، وقيل: فيه تعريضٌ لإتيانِ الدُّبُر، ويجوزُ كون معنى (لغير محله) لغير الإماء؛ أي: محل العَزْل الإماءُ دون الحرائر. "وفسادَ الصَّبي"، باغيًا له بمجامعةِ مُرْضعه فُيفْسِدُ عليه لبنه إذا حملتْ، فيكون من ذلك فسادُ الصبي، وسُمِّي الغَيْلَة. "غيرَ محرِّمِه"، نصب (غير) على الحال عن فاعل (يكره)، والضميرُ المجرورُ يعود إلى فساد الصبي؛ أي: أنه كرهَهُ بلا تحريمٍ. * * * 3392 - عن ابن الزُّبيرِ: أنَّ مولاةً لهم ذهبَتْ بابنةِ الزُّبيرِ إلى عمرَ بن الخَطَابِ وفي رجلِها أجراسٌ، فقَطَعَها عمرُ وقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مع كلِّ جَرَسٍ شَيطانٌ". "عن ابن الزُّبَير: أن مولاًة"؛ أي: معتقةً "لهم ذهبت بابنة الزبيرِ إلى عمرَ ابن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - وفي رِجْلِها أجراسٌ"، جمع جَرَس بفتحتين، وهو معروف. "فقطعَها عمرُ وقال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: مع كلِّ جَرَسٍ شيطانٌ"؛ يريد به شيطانَ الإنس، والتعميمُ أَولى. * * *

3393 - ودُخِلَ على عائشةَ رضي الله عنها بجاريةٍ عليها جَلاجِلُ يُصَوِّتنَ فقالت: لا تُدخِلْنَها عليَّ إلا أنْ تُقطِّعْنَ جَلاجِلَها، سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تدخلُ الملائكةُ بيتاً فيهِ جرسٌ". "ودُخِلَ على عائشةَ بجاريةٍ عليها جَلاَجِلُ"، جمع جُلجُل بضم الجيمين. "يُصَوِّتْنَ فقالت: لا تُدْخِلنّها عليَّ إلا أن يُقطَّعْنَ جلاجلُها، سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تدخلُ الملائكةُ بيتاً فيه جَرَسٌ". * * * 3394 - وعن عبدِ الرَّحمنِ بن طَرَفةَ: أنَّ جدَّه عَرفجَةَ بن أسعدَ قُطِعَ أنفُه يومَ الكُلابِ، فاتَّخذَ أنفاً مِن وَرِقٍ فأَنتنَ عليهِ، فأمرَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يتخِذَ أنفاً مِن ذهبٍ. "عن عبد الرحمن بن طَرَفَة": بالفتحات. "أن جَدَّه عَرْفجَةَ": بفتح العين والفاء وسكون الراء. "ابن أسعدَ قُطِعَ أنفُه يوم الكُلاَب"، بالضم والتخفيف، قيل: اسمُ ماءٍ، وكان به للعرب في الجاهلية يومٌ معروفٌ من أيامهم، فيومُ الكُلاَب إذن اسمُ حَرْبٍ معروفة مِن حروبهم. "فاتخذَ أنفاً من وَرِق" بكسر الراء. "فأنتنَ عليه، فأمرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخِذَ أنفاً من ذهب"، وبهذا أباحَ العلماءُ اتخاذَ الأنفِ من ذهبٍ، وربْطَ الأسنانِ بالذهَب. * * * 3395 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أحبَّ أن يُحَلِّقَ

حبيبَهُ حَلْقَةً مِن نارٍ فليُحلِّقْه حلْقةً مِن ذهبٍ، ومَن أحبَّ أنْ يُطوِّقَ حبيبَهُ طَوْقاً مِن نارٍ فليُطوِّقْه طَوْقاً مِن ذهبٍ، ومَن أحبَّ أنْ يُسَوِّر حبيبَهُ سِوَاراً مِن نارٍ فليُسوِّرْه سِوَاراً مِن ذهبٍ، ولكنْ عليكم بالفِضَّةِ فالعَبوا بها". "عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه -: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: مَن أحبَّ أن يُحلِّق حَبيبَه"، أراد به المحبوبَ من زوجهِ وأولادهِ وغيرهما. "حَلْقةً من نار فليحلِّقْه حلقةً من ذهب، ومن أحبَّ أن يطوِّقَ حبيبَه طوقاً من نار فليطوِّقْه طوقاً من ذهب، ومن أحبَّ أن يسِّورَ حبيبَه سِواراً من نارٍ فليسوِّرْه سِواراً من ذهبٍ ولكن عليكُم" - وهو للترغيب - "بالفِضَّة، فالعَبُوا بها"، واللعبُ بالشيءِ: التصرُّفُ فيه كيفما شاء؛ يعني: اجعلُوها الفضةَ في أيِّ نوعٍ شئتُم من أنواع حُلِيِّ النساء دون الرجال، إلا التختُّمَ وتحلِيةَ السيفِ وغيرَه من آلات الحرب. * * * 3396 - عن أسماءَ بنتِ يزيدَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّما امرأةٍ تقلَّدَتْ قِلادَة مِن ذهبٍ قُلِّدَتْ في عُنُقِها مثلَه مِن النارِ يومَ القيامةِ، وأيُّما امرأةٍ جعلَتْ في أُذنِها خُرْصاً مِن ذهبٍ جَعَلَ الله في أُذنِها مثلَها مِن النَّارِ يومَ القيامةِ". "عن أسماءَ بنت يزيدَ - رضي الله تعالى عنها -: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: أيما امرأةٍ تقلَّدَتْ قلادةً من ذهب قُلِّدت في عُنُقِها مثلَها من النار يوم القيامة، وأيما مرأة جَعَلَتْ في أذنها خُرْصاً"، بضم الخاء المعجمة وسكون الراء، وقيل: بكسر الخاء؛ أي: حَلْقةَ "من ذهبٍ جعلَ الله في أذنِها مثله من النارِ يومَ القيامة".

3 - باب النعال

هذا الحديثُ والذي يليه محمولٌ على كراهةِ التَّنْزِيهِ للإسرافِ في الزينة، أو على ألَّا تؤدَّى زكاتُها. * * * 3397 - عن أختٍ لِحُذَيفةَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا معشرَ النِّساء أَمَا لَكُنَّ في الفِضَّةِ ما تُحَلَّينَ بهِ، أَمَا إنه ليس مِنكنَّ امرأةٌ تَحَلَّت ذهباً تُظْهِرُه إلا عُذِّبَت بهِ". "عن أخت حُذَيفة: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: يا معشرَ النساء أَمَا"، بالتخفيف: حرفُ تنبيه، أو الهمزة فيه للاستفهام على سبيلِ الإنكار و (ما) نافية. "لَكُنَّ في الفِضَّة ما تُحلَّينَ به"، (ما) هذه موصولة مبتدأ خبرُه (لَكُنَّ). "أمَا إنه ليس منكنَّ امرأةٌ تُحلَّى ذهباً فتُظْهِرُه إلا عُذِّبتْ به"، قال المؤِّلف: "هذا منسوخ بحديثِ أبي موسى الأشعري أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: أحلَّ الله الذهبَ والحريرَ للإناثِ من أمتي". * * * 3 - باب النعَال (باب النعال) مِنَ الصِّحَاحِ: 3398 - قال ابن عمرَ - رضي الله عنه -: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَلبَسُ النِّعالَ التي ليسَ فيها شعرٌ.

"من الصحاح": " عن ابن عمَر - رضي الله تعالى عنه - قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يلبَسُ النِّعالَ التي ليس فيها شعر"؛ يعني: يلبس النعال من جلود نقيت من الشعر. * * * 3399 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: إنَّ نعلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لها قِبالانِ. "وقال أنسٌ: إن نَعْلَي النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان لهما قِبالاَن"، القِبال - بالكسر: - زمامُ النعلِ يكونُ بين الإصبعين الوُسْطَى والتي تَليها، فيكفي لكلِّ نعلٍ زمامان يُدخِل الوسطى والإبهام في قِبال، والأصابعُ والأُخرى في قِبَال. * * * 3400 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في غزوةٍ غزَاها: "استكِثرُوا مِن النِّعالِ فإن الرَّجلَ لا يزالُ راكبًا ما انتعلَ". "وعن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في غزوةٍ غزاها يقولُ: استكثِرُوا من النّعال فإنَّ الرجلَ لا يزالُ راكباً ما انتعلَ"؛ يعني لا يزالُ يُشْبهُ الراكبَ في خِفَّة المَشْيِ وسلامةِ رِجْلهِ من الأذى ما دام مُنتعِلاً. * * * 3401 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا انتعلَ أحدكم فليبدَأ باليُمنَى، وإذا نزعَ فليبدَأ بالشِّمالِ، لِتكنِ اليُمنَى أوَّلَهما تُنعَلُ وآخِرَهما تُنزَعُ". "عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا انتعلَ أحدكم"؛ أي: لَبسَ النعلَ. "فليبدَأْ باليُمْنَى"، فإن الابتداءَ باليمنى مستحَبٌّ في كُلِّ فعل.

"وإذا نزعَ فيبدأُ بالشِّمال، لتكنِ اليُمنى أولَهما تُنَعلُ وآخرَهما تُنْزَع". * * * 3402 - وقال: "لا يمشي أحدكم في نَعلٍ واحدةٍ، ليُحْفِهما جميعاً، أو ليُنعِلْهُما جَميعاً". "وعنه قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يمشيَنَّ أحدُكم في نعلٍ واحدةٍ، ليُحفِهما جميعاً"، أمز من الإحفاء ضدُّ الإنعال، ليمشِ حافيَ الرّجْلَين. "أو لينعلْهما جميعاً"؛ لأنه قد يشُقُّ المشيُ ينعل واحدةٍ، ولا يأمَنُ عند ذلك من العثار، ويندرجُ تحتَه ما هو في معناه من الجَوْربين، أو الخُفَّين، أو نحوهِما، وهذا نهيُ تنزيه لا تحريم، أو هو مختصٌّ بمسافةٍ يَلْحَق الرِّجْلَ الحافِيةَ مشقَّة [منها]، فأمَّا المشيُ القليل كمِن البيتِ إلى المسجد المتقارِبَين فلا بأسَ به. * * * 3403 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن انقطعَ شِسْع نَعْلِه فلا يَمشِيَنَّ في نعَلٍ واحدةٍ حَتَّى يُصلِحَ شِسْعَهُ، ولا يمشِ في خُفٍّ واحد، ولا يأكلْ بشِمالِه، ولا يَحْتَبِ بالثَّوبِ الواحدِ، ولا يلتحِف الصَّمَّاءَ". "عن جابرٍ وأبي هريرَة - رضي الله تعالى عنهما - قالا: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من انقطعَ شِسْع نَعْلِه"، بكسر الشين المعجمة وسكون المهملة: واحدُ شُسوعِ النَّعْل التي تُشَدُّ بها زمامُها. "فلا يمشِيَنَّ في نعل واحدةٍ حتى يُصْلِحَ شسْعَه، ولا يمشيَنَّ في خُفٍّ واحدٍ، ولا يأكْل بشماله، ولا يحتبِ بالثوب الواحد"؛ لئلا تنكشِفَ عورتُه.

"ولا يلتحِفْ بالصَّمَّاء"؛ وهو اشتمالُ الصَّمَّاء، وقد مرَّ ذِكرُه. * * * مِنَ الحِسَان: 3404 - عن ابن عبَّاسٍ قال: كانَ لنعلِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قِبَالانِ مُثْنًى شِرَاكهما. "من الحسان": " عن ابن عَبَّاسٍ قال: كان لنعلِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قِبالاَن مُثنًى شِرَاكُهما". * * * 3405 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَنتعِلَ الرَّجلُ قائماً. "عن جابر قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن ينتعلَ الرجلُ قائماً"، وهذا النهيُ مختصّ بما في لُبْسهِ تعبٌ عن القيام كالخُفّ؛ لأنه إذ ذاك ربما يقَعُ على الأرض. * * * 3406 - عن القاسم بن محمَّدٍ، عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: رُبَّما مَشَى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في نَعلٍ واحدةٍ، والصَّحيح: أنه عن عائشةَ رضي الله عنها: أنها مَشَتْ بنعلٍ واحدةٍ. "عن القاسم بن محمَّدٍ عن عائشةَ قالت: ربما يمشي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في نعلٍ واحدةٍ"، وهذا يدلُّ على الرُّخْصَة في المَشْيِ القَلِيلِ كما بيناه. "والصحيحُ: أنه عن عائشة أنها مَشَتْ بنعل واحدةٍ". * * *

4 - باب الترجيل

3407 - عن ابن عبَّاس قال: مِن السُّنَّةِ إذا جلسَ الرَّجُلُ أنْ يخلَعَ نعلَيْهِ فيضعهما بجنبهِ. "عن ابن عباسٍ - رضيَ الله تعالى عنهما - قال: مِن السُّنَّةِ إذا جلسَ الرجلُ أن يخلَعَ نعليه فيضعَهما بجنبه"؛ ليكون آمناً من السرقة ونحوها. * * * 3408 - عن ابن بُرَبدةَ، عن أبيه: أن النَّجاشي أهدَى إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خُفَّينِ أسودينِ ساذَجَيْنِ، فلبسَهما ثم توضَّأ ومسحَ عليهما. "عن ابن بُرَيدة عن أبيه: أن النجَاشيَّ أَهْدَى إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خُفَّين أَسْوَدين ساذَجَيْنِ"؛ أي: غيرَ منقوشين. "فَلبسَهما، ثم توضَّأَ ومسَحَ عليهما". * * * 4 - باب التَّرجيل " باب التَّرْجيل": وهو التطهيرُ والتَّزْيينُ، والتَّرْجِيلُ: تسريحُ الشَّعْر بالمِشْط؛ أي: استعمالُه فيه. مِنَ الصِّحَاحِ: 3409 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كنتُ أُرَجِّلُ رأسَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا حائِض. "من الصحاح": " عن عائشةَ قالت: كنتُ أُرَجِّلُ شعرَ رسولِ الله صلى الله تعالى عليه

وسلَّم وأنا حائِضٌ"، وفيه دليلٌ على جوازِ المخالَطَة مع الحُيَّض. * * * 3410 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الفِطْرةُ خمسٌ: الختانُ، والاستِحدادُ، وقَصُّ الشَّاربِ، وتقليمُ الأظفارِ، ونتفُ الآباطِ". "عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - أنه قالَ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: الفِطْرة"؛ أي: السُّنةُ "خَمس: الخِتانُ"، قال الحسن: أنه للرجال سُنَّة، وعند أكثَر: أنه واجبٌ، وشدَّدَ فيه ابن عباس فقال: الأَقْلَف لا تُقْبَلُ شهادتُه وصلاتُه وذبيحتُه، وكان أبو العباس بن شُرَيح يقول: سترُ العورةِ واجبٌ وفاقاً، فلولا وجوبُ الخِتانِ لم يَجُزْ كشفُه له، فجوازُ الكشفِ له دليلُ وجوبهِ. "والاستحدادُ"؛ أي: حَلْقُ العانة. "وقصُّ الشارب، وتقليمُ الأظفار، ونتفُ الآباط"، جمع الإبط، والتوفيقُ بينَه وبين حديثِ عائشةَ: "عشرةٌ من الفِطْرة" أنه أشارَ في هذا الحديثِ إلى مُعْظَمِها. * * * 3411 - وقال: "خالِفُوا المُشركينَ: أَوفِروا اللِّحَى، وأَحفُوا الشَّواربَ". ويُروَى: "أَنهِكوا الشَواربَ، وأَعفُوا اللحىَ". "وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - خالِفُوا المُشْرِكين": فإنهم يقُصُّون اللّحَى ويتركُون الشواربَ حتى يطولَ. "وأَوْفرُوا اللّحَى"، بضم اللام: جمع اللِّحْية، والتوفيرُ بعدَمِ القَطْع وبتخلِيحهِا وافرة؛ أي: تامة.

"وأَحْفُوا الشَّوَارب"، بقطع الهمزة والوصل أيضًا؛ أي: بالِغُوا في أَخْذِها حتى يُلْزِقُوا الجَزَّ بالشفة، والأصلُ في الإحفاء: الاستقصاءُ. "ورُوِي: انهكُوا الشَّوارب"؛ أي: بالِغُوا في قَصِّها. "وأعْفُوا اللحى": مِن: عفا النبتُ والشعر؛ أي: كَثُرَ. * * * 3412 - وقال أنسٌ - رضي الله عنه -: وُقِّتَ لنا في قصِّ الشَّاربِ، وتقليم الأظفارِ؛ ونتفِ الإبْطِ، وحَلْقِ العانةِ، أنْ لا نتَرُكَ أكثرَ مِن أربعينَ ليلةً. "وقال أنس - رضي الله عنه -: وُقِّتَ لنا في قَص الشاربِ، وتقليم الأظفار، ونتفِ الإبط، وحَلْقِ العانة، أن لا نتركَ أكثرَ من أربعين ليلة"، وقد جاءَ في بعض الروايات عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذُ أظفارَه وشاربَه كلَّ جمعة، ويحلِقُ العانةَ في كلّ عشرين يومًا، وينتِفُ الإبط في كلِّ أربعين يومًا. * * * 3413 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ اليهودَ والنَّصارَى لا يَصبُغُونَ فخالِفوهم". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال -: إنَّ اليهودَ والنصارى لا يَصْبغُون"؛ أي: لحاهم وشعورَهم، وهو - بضم الباء وفتحها - لغتان. "فخالِفُوهم"؛ أي: اصبغُوا لحاكم بالحِنَّاء ونحوِه مما ليس بسواد. * * * 3414 - وعن جَابرٍ - رضي الله عنه - قال: أُتيَ بِأبي قُحَافةَ يومَ فتح مَكَّةَ، ورأسُه

ولحيَتُه كالثُّغامَةِ بَيَاضًا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "غَيروا هذا بشيءٍ، واجتنِبُوا السَّوادَ". "عن جابر - رضي الله تعالى عنه - قال: أُتِيَ بأبي قُحَافة"؛ اسمهُ عثمانُ بن عامر. "يومَ فَتْح مَكَّةَ ورأسُه ولحيتُه كالثغَامة"، نبتٌ في الجبل أبيضُ الزَّهْرِ والثَّمَر، تبيضُّ كأنه الثَّلْجُ، شُبهَ به الشَّيْبُ. "بياضاً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: غيرُوا هذا" الشَّيْبَ. "بشيءٍ"؛ أي: اخضبُوه بخِضَابٍ سوى السَّوَاد. "واجتَنِبُوا السوادَ"، قيل: هذا في حقِّ غيرِ الغُزَاة، وأما مَن فعلَ ذلك مِن الغُزَاة؛ ليكون أهيبَ في عينِ العدوّ، لا للتزين فلا بأسَ به، روي: أن عثمانَ والحسنَ والحسينَ خَضَبُوا لحاهم بالسواد للمهابة. * * * 3415 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ موافقةَ أهلِ الكتابِ فيما لم يُؤمرْ فيهِ، وكانَ أهلُ الكتابِ يَسدِلُون أشعارَهم، وكانَ المشركونَ يَفرُقون رؤوسهم فسَدَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ناصيتَه ثم فَرَقَ بعدُ. "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبُّ موافقةَ أهلِ الكتاب"؛ أي: اليهودَ والنصارى. "فيما لم يؤمَرْ فيه"؛ أي: فيما لم ينزِلْ عليه فيه حكمٌ بالمخالَفة لهم، قيل: فعلَه - صلى الله عليه وسلم - في أولَ الإسلام ائتلافاً لهم، فلمَّا أُظْهِرَ الإسلامُ على الدّين كلّه خالفَهم في أمورٍ منها صبغَ الشَّيْبَ. استدلَّ بعضٌ بالحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مأموراً باتباعِ شرائعِهم فيما لم

يُوحَ إليه شيء، وإنما كان هذا فيما عَلِمَ أنهم لم يبدِّلُوه. وقيل: معناه موافقةُ أهلِ الكتاب أَولَى من موافقة المشركين الذين لا كتابَ لهم؛ لأن أهلَ الكتابِ احتملَ أن يعملوا بكتابهم، ولا كذلك المشركين. "وكان أهلُ الكتاب يُسْدِلُون أشعارهم"، أراد به إرسالَ الشعرِ حولَ الرأسِ من غيرِ أن يقسِمَه بنصفين نصفٍ من جانب يمينه نحوَ صَدْرِه، ونصفٍ من جانبِ يساره كذلك. "وكان المشركون يَفْرِقُون رؤوسَهم، فسدَلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ناصيتَه" حين قَدِمَ المدينةَ فرآهم يُسْدِلُون، ففعَل المُسْلِمُون كذلك. "ثم فَرَقَ بعدَه"؛ لأن جبريلَ - عليه السلام - أتاه وأخبرَه بالفَرْقِ، ففَرَقَ المسلمون رؤوسَهم. * * * 3416 - عن نافعٍ، عن ابن عمرَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ينهي عن القَزَعِ، قيلَ لنافعٍ: ما القَزَعُ؟ قال: يُحْلَقُ بعضُ رأسِ الصَّبيِّ ويُتْرَكُ البعضُ، وأَلحقَ بعضُهم التفسيرَ بالحديثِ. "عن نافعٍ، عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهم - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَنْهَى عن القَزَع"، بفتحتين: جمع قَزَعَة، وهي في الأصل قِطْعة من السَّحَاب. "قيل لنافع: ما القَزَع؟ قال: يَحْلِقُ بعضَ رأسِ الصَّبيِّ ويتركَ البَعْض"، شَبَّهَ كلَّ قطعةٍ من الشعر المحلوق ما حولَه بِقطْعة سحاب، وجهُ كراهَتهِ تقبيحُ الصورةِ، وأنه من عادة الكفار. "وألحقَ بعضُهم التفسيرَ بالحديث". * * *

3417 - ورُوِيَ عن ابن عمرَ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى صبياً قد حُلِقَ بعضُ رأسِه وتُرِكَ بعضُه، فَنَهاهُمْ عن ذلكَ وقال: "اِحلِقُوا كلَّه، أو اتُركُوا كلَّه". "ورويَ عن ابن عمَر - رضي الله تعالى عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى صبياً قد حَلَقَ بعضَ رأسِه وتركَ بعضَه، فنهاهم عن ذلك وقال: احلِقُوا كلَّه أو اتركُوا كلَّه"، فيه إشار إلى أن الحَلْق في غير الحَجِّ والعمرة جائزٌ، وأن الرَّجُلَ مخيَّرٌ بين الحَلْقِ وتَرْكهِ. * * * 3418 - عن ابن عبَّاسٍ قال: "لعنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - المُخَنَّثينَ مِن الرِّجالِ، والمُترجِّلاتِ من النِّساء"، وقال: "أَخرِجُوهم مِن بيوتكم". "عن ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما - قال: لعَن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المُخَنثِين من الرجال"، أرادَ بهم المشبَّهين بالنساء في الزِّيّ واللّباس والخِضَاب والصُّورة والتَّكَلُم والحَرَكات والسَّكَنَات، فهذا الفعل منهيٌّ؛ لأنه تغيير لخَلْقِ الله. "والمترجِّلات من النساء"، وهن المتشبهات بالرجال زِياً وهيئةً لا رأيًا وعلماً؛ لمَا رُوِيَ: أن عائشةَ كانت رَجلَةَ الرأيِ رأيها كرأي الرجال. "وقال: أخرجوهم من بيوتكم"، وهذا خطاب للرجال بمنعهم المخنثين من دخول بيوتهِم، فيه دليل على أنه لا يجوزُ دخولُهم على النساء. * * * 3419 - وعنه قال: لَعَنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المُتَشبهينَ مِن الرِّجالِ بالنِّساءَ والمتشبهاتِ مِن النِّساء بالرِّجالِ. "وعنه قال: لعنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المتشبهين من الرجال بالنساء، والمتشبهات

من النساء بالرجال". * * * 3420 - عن ابن عمرَ: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَعنَ الله الواصلةَ والمُسْتَوْصلَةَ، والواشِمَةَ والمسْتَوْشِمَةَ". "عن ابن عمَر - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لعَن الله الواصلَة"، وهي المرأةُ التي توصِلُ شعرًا أجنبيًّا بشعرها. "والمستوصِلَة"؛ أي: التي تطلُبُ هذا الفِعْل. "والواشمِة"، وهي التي تفعَلُ الوشَمْ، وقد مرَّ معناه وبيانه. "والمستوشمِة"؛ أي: التي تطلُبُ أن يُفْعلَ بها ذلك. * * * 3421 - عن عبدِ الله بن مسعودٍ قال: لعنَ الله الواشِمَاتِ والمُستَوشِماتِ، والمُتَنَمِّصَاتِ، والمُتَفَلِّجاتِ للحُسْنِ المُغيراتِ خلقَ الله، فجاءتهُ امرأة فقالت: إنَّه بلغَني أنكَ لعنتَ كيتَ وكيتَ؟ فقالَ: ما لي لا ألعنُ مَن لَعَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ومَن هو في كتابِ الله! فقالت: لقد قرأتُ ما بين اللوحَينِ، فما وجدتُ فيهِ ما تقولُ؟ قال: لئنْ كنتِ قرأتِهِ لقد وجدْتِه، أَمَا قرأتِ {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}؟ قالت: بلى، قال: فإنه قد نهى عنه. "عن عبد الله بن مسعود قال: لعَن الله الواشماتِ والمستوشماتِ والمتنِّمصَاتِ"، جمع المتنمّصَة وهي التي تنتِفُ شعرَ الوجهِ بالمِنْمَاص؛ وهو المِنقَاش. "والمتفلِّجات": جمع المتفلِّجَة وهي التي تباعِدُ بين الثنايا والرَّبَاعِيات بترقيقِ الأسنان.

"للحُسْن"، قد تُنازِع فيه الصِّفاتُ التي قبلَه. "المغِّيراتُ خلقَ الله"؛ أي: بالوَصْل والوَشْم ونحوِهما. "فجاءَتْه"؛ أي: ابن مسعود. "امرأة فقالت: إنه بلغَني أنكَ لَعَنْتَ كيتَ وكيتَ"؛ يعني الواشمات والمستوشمات. . . إلخ. "فقال: ما لي لا ألعَنُ مَن لعَن رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: لعَن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هؤلاء. "ومَن هو في كتاب الله فقالت: لقد قرأتُ ما بين اللَّوحين"، أرادتْ بهما جِلْدَ أولِ المصحَفِ وآخرَه؛ يعني: قرأتُ جميعَ القرآن. "فما وجدتُ فيه ما تقولُ، قال: لئن قرأْتيه لقد وجدتيه"، الياء فيهما زائدة حصلَتْ من إشباعِ كسرة التاء. "أما قرأتَ: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؟ قالت: بلى، فإنه قد نهى عنه"؛ يعني: إذا كان العِبادُ مأمورِين بانتهاءِ ما نهاهم الرسول وقد نهاهم - صلى الله عليه وسلم - عن الأشياءِ المذكورة في هذا الحديث وغيرِه، فكان جميعُ منهيَّات الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - منهيًا مذكورًا في القرآن. * * * 3422 - عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "العَينُ حَقٌّ"، ونهَى عن الوَشْم. "عن أبي هريرةَ - رضيَ الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله: العينُ"؛ أي: إصابتُها. "حقٌّ"؛ اي: لها تأثير مَقْضيٌّ به في الأنفس والأموالِ في الوضع الإلهي

لا شبهةَ فيه. "ونهى عن الوشم"، لعل اقترانَ النَّهْيِ عن الوشْمِ بإصابة العَيْن رَدّ لزعمِ الواشِم أنه يردُّ العين. * * * 3422/ -م - وقال: "لا تَشِمْنَ وَلاَ تَسْتَوْشِمْنَ". "وقال: لا تشِمُوا ولا تستوشِمُوا". * * * 3423 - وقال ابن عمرَ: لقد رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مُلَبداً. "وقال ابن عمرَ: لقد رأيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - مُلَبداً" بكسر الباء؛ والتلبيدَ إلصاقُ شعرِ الرأسِ بعضَه ببعض بأن يجعَلَ فيه صَمْغاً ليدفعَ القَمْل، ولئلاً يتفرَّقَ شعرُ الرأسِ، وفيه بيانُ جوازِ التَّلْبيد في غير الإحرام. * * * 3424 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يتزعفرَ الرَّجلُ. "عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يتزعْفَرَ الرجلُ"؛ أي: يستعمِلَ الزعفرانَ في ثوبه وبدنِه؛ لأنه عادةُ النساءِ، أما القليلُ منه فيجوزُ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لم ينكِرْه لمَّا رآه ببعضِ الصحابة. * * * 3425 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كنتُ أُطَيبُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأطيبِ ما نجدُ، حتى أجدَ وبيصَ الطّيبِ في رأسِه ولحيتِه.

"عن عائشة - رضَي الله تعالى عنها - قالت: كنت أطيبُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بأطيبِ ما نجدُ حتى أجدَ وبيصَ الطيبِ"؛ أي: بريقَه ولمعانَه "في رأسِه ولحيتهِ". قيل: التوفيقُ بين هذا الحديث وبين قولهِ: "طِيبُ الرجالِ ما ظهرتْ ريحُه وخَفِيَ لونُه" أن يقال: كلُّ طِيب له لونٌ وفيه تشبُّهٌ بالنساء من حيث أنَّ لونَه للتزيين والجَمال كالصفرةِ والحمرةِ فهو حرامٌ على الرجالِ، وما لا فلا، كالمِسْك والعَنْبَر والكافور. قال بعضُهم: ليس في هذا التوفيقِ توفيق لمكان الوَبيص، ويمكن أن يقال: المرادُ من ظهورِ اللونِ ما كان لَوْناً ناشئاً من نفسِ الطيب كالزعفران مثلاً، وهنا جازَ أن يكونَ الوبيصُ لمخالطتهن. * * * 3426 - وقالَ نافعٌ: كانَ ابن عمرَ إذا استجمرَ استجمرَ بأُلُوَّةٍ غيرِ مُطَرَّاة، وبكَافُورٍ يطرحُه مع الأُلُوَّةِ ثم قال: هكذا كان يَستجمِرُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقال نافعٌ: كان ابن عمَر إذا استَجْمَرَ"؛ أي: تبخَّرَ وتعطَّر بالمِجمَرَة. "اسَتْجَمَر بألوَّةٍ" بفتح الهمزة وضمها أيضاً وضم اللام وتشديد الواو: العودُ الذي يُتبخَّر به. "غيرِ مُطَرَّاة"؛ أي: غير مربَّاة ولا مطيَّبة بكافور أو عنبر ونحوِه مما يزيدُ في رائحته. "وبكافورٍ يطرحُه": صفة كافور. "مع الأُلوَّة، ثم قال: هكذا كان يستَجْمِرُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ". * * *

مِنَ الحِسَان: 3427 - عن ابن عبَّاس قال: كانَ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُصّ - أو يأخذُ - مِن شاربه وكانَ إبراهيمُ خليلُ الرَّحمن يفعلُه. "من الحسان": " عن ابن عبَّاس قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقصُّ أو يأخذُ"، شك من الراوي. "مِن شاربهِ، وكان إبراهيمُ خليلُ الرحمن يفعلُه". * * * 3428 - عن زيدِ بن أرقمَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن لم يأخذْ مِن شاربه فليس منا". "عن زيدِ بن أرقمَ: أنَّ رسولَ الله صلَّى الله تعالى عليه وسلَّم قال: مَنْ لم يأخذْ من شاربهِ فليس منا"، وهذا تهديدٌ لمن تركَ هذه السّنَّة. * * * 3429 - عن عبدِ الله بن عمرَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يأخذُ أظفارَه وشارِبَه كل جمعةٍ. "وروي نحوُه عن عبد الله: أنَّ رسولَ الله كانَ يأخذُ أظفارَه وشارَبه كلَّ جمعة". * * * 3431 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يأخذُ مِن لِحيتِه، مِن عرضها وطولها. غريب.

"عن عمرو بن شُعَيب، عن أبيه، عن جده: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذُ من لحيتِه من عَرْضها وطولهِا"، فتسوية شعر اللّحْية سنّة، وهي أن يَقُصَّ كل شعرةٍ أطولَ من غيرها لتَسْتَوِيَ جميعاً. "غريب". * * * 3432 - عن يَعْلَى بن مُرَّةَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى عليهِ خَلُوقاً فقال: "ألكَ امرأة؟ " قال: لا، قال: "فاغسِلْه، ثم اغسِلْه، ثم اغْسِلْهُ، ثم لا تَعُدْ". "عن يَعْلَى بن مُرَّة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى عليه خَلُوقاً"، نوعٌ من الطّيبِ فيه الصُّفْرة. "فقال: ألك امرأة"؛ أي: إن كان لك امرأة أصابَكَ الخَلُوقُ من بدنهِا، أو ثوبهِا فأنت معذورٌ. "قال: لا قال: فاغسِلْه، ثم اغسِلْه، ثم اغسِلْه، ثم لا تَعُدْ"؛ أي: لا ترجِعْ إلى استعمالِه؛ فإنه لا يَليقُ بالرجال. * * * 3433 - عن أبي موسى قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبلُ الله صلاةَ رجل في جَسَدِه شيء مِن خَلُوق". "عن أبي موسى قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يَقْبَلُ الله صلاةَ رجلٍ"؛ أي: لا كمالَ لصلاة رجلٍ "في جَسَدِه شيء من خَلُوق"، وهذا وعيدٌ وَزْجرٌ عن استعمال الخَلُوق. * * *

3434 - عن عمَّارِ بن ياسرٍ قال: قدِمْتُ على أهلي وقد تَشَقَّقتْ يَدَاي فخَلَّقوني بزعفرانَ، فغدوْتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسلَّمتُ عليهِ فلم يردَّ عليّ، وقال: "اذهبْ فاغسلْ هذا عنك". "عن عمارِ بن ياسرٍ قال: قدمتُ على أهلي، وقد تشقَّقَتْ يداي، فخلَّقُوني بزَعْفَران"؛ أي: جعلُوه في شقوقِ يديّ للمداواة. "فغدوتُ على النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: جئتُه وقتَ الغداة. "فسلَّمْتُ عليه، فلم يرد عليَّ وقال: اذهب فاغسِلْ هذا عنك". * * * 3435 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "طِيبُ الرجالِ ما ظهرَ ريحه وخَفِيَ لونُه، وطِيبُ النِّساء ما ظهرَ لونُه وخفيَ ريحه". "وعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: طِيْبُ الرجالِ ما ظهرَ ريحه وخَفِيَ لونُه، وطِيْبُ النّساء ما ظهرَ لونُه وخَفِيَ ريحه". * * * 3436 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سُكَّةٌ يتطيَّبُ منها. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سُكَّة"، بضم السين المهملة وتشديد الكاف المفتوحة: نوعٌ من الطّيبِ عربي، وقيل: السُّكُّ معجون من أنواع الطّيْبِ، والسُّكَّة قطعة منها. "يتطيبُ منها". * * * 3437 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكثِرُ دَهْنَ رأسِه وتسريحَ

لحيتِه، ويُكثِرُ القِناعَ، كأنَّ ثوبَه ثوبُ زيَّاتٍ. "وعنه: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكِثرُ دَهْنَ رأسهِ"، بفتح الدال. "وتسريَح لحِيتهِ، ويُكثِرُ القِناع"؛ أي: يكثر اتخاذَ القِنَاع، وهو الخِرْقَة التي تُجْعَلُ على الرأسِ لحفظِ العِمَامَة عِند التَّدْهِين من الدُّهْن. "وكأنَّ ثوبَه ثوبُ زيّات": لحِرْصِه على التَّدْهين. * * * 3438 - عن أمِّ هانئٍ قالت: قدِمَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - علينا بمكَّةَ قَدْمةً ولهُ أربعُ غَدَائر. "عن أم هانئ قالت: قَدِمَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم علينا مكةَ قَدْمةً"، وهي مرة من القُدُوم. "وله أربعُ غدائرَ"؛ جمع غديرة: وهي الضَّفِيرة والذؤَابة. * * * 3439 - وقالت عائشةُ رضي الله عنها: كنتُ إذا فَرقتُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رأسَه صَدَعْتُ فرقَهُ عن يَافُوخِهِ، وأرسلتُ ناصيتَهُ بينَ عينيهِ. "وقالت عائشةُ: كنتُ إذا فَرَقْتُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - رأسَه"؛ أي: إذا قَسَمْتُ شعرَ رأسِه قِسْمين أحدُهما من جانبِ يمينهِ، والآخر من جانب يَسارِهِ. "صَدَعْتُ"؛ أي: شَقَقْتُ. "فَرْقَه"، بالفتحات: هو الخطُّ الظاهرُ بين شعرِ الرأسِ إذا قُسِمَ نصفين وهو بياضُ بَشَرَةِ الرأس. "عن يافوخِه"، وهو مؤخرُ الرأسِ مما يلي القَفَاء، يعني كان أحدُ طَرَفي

ذلك الخَطِّ عند اليافُوخِ والآخرُ عند جبهته. "وأرسلْتُ ناصيتَه"؛ أي: شعرَ ناصيتِه. "بين عينيه"، بحيث يقعُ نِصْفَ شعرِ ناصيتهِ من جانبِ يمينه، والآخرُ من جانب يساره. * * * 3440 - عن عبدِ الله بن مُغَفَّل قال: نهىَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن التَّرجُّلِ إلا غِبًّا. "عن عبد الله ابن مغفَّل قال: نهى رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الترجُّل"؛ أي: التمشُّط. "إلا غِبًّا"، وهو أن يَفْعلَ يوماً ويتركَ يوماً، والمرادُ هنا النهيُ عن دوام تسريحِ الشعر وتدهينه؛ لأنه مبالغة في التزيين والتَّنْعِيم إلا حيناً بعد حين. * * * 3441 - قال رجلٌ لفُضالةَ بن عُبَيْد: ما لي أراكَ شَعِثاً؟ قال: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ ينهانَا عن كثيرٍ مِن الإِرْفَاهِ، قال: ما لي لا أَرَى عليكَ حِذَاءً؟ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يأمُرنا أنْ نَحتَفِي أحياناً. "قال رجلٌ لفُضالَة بن عُبيد: ما لي أراك شَعِثاً؟ "؛ أي: متفرّقَ الشعر. "قال: إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان ينهانا عن كثيرٍ من الإِرْفاه"، بكسر الهمزة على المصدر معناه: الترجُّل والتَّدْهِين كلَّ يوم، مأخوذ مِن: رَفَهَتِ الإبل ترفُه رُفُوهاً ورَفَهاً وردتِ الماءَ كلَّ يومٍ متى شاءت، ومنه الرفاهية، وهي الخَفْضُ والدَّعَة، وفي معناه مظاهرةُ اللباس على اللباس، والطعامِ على الطعام، كعادة الأعاجم، فإنَّ كثرةَ التنعُّم تجعلُ النَّفْسَ متكبرةً غافلةً، ولأنَّ اعتيادَ ذلك قد

يضُرُّ؛ لأنه ربما حدَثَ به فقرٌ وسوءُ عيشٍ فيشُقُّ عليه. "قال"؛ أي: الرجلُ لفُضَالةَ: "ما لي لا أرى عليك حِذاءً؟؛ أي: نعلًا، وإنما قال عليكَ؛ لأن النعلَ لها اشتمالٌ على الرِّجْل. "قال"؛ أي: فُضَالَة: "كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يأمَرُنا أن نَحْتَفِيَ"؛ أي: نَمْشِي حافياً "أحيانًا" تواضعًا وكَسْرًا للنفس، وليتمكَّن ذلك عند الاضطرار إليه. * * * 3442 - وعن أبي هريرةَ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن كانَ له شعر فليُكْرِمْهُ". "وعن أبي هريرة: أن النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: من كان له شعر فليُكْرِمْه" بالتدهين والترجيلِ بلا مبالَغة، والتنظيفِ بالغَسْل. * * * 3443 - وعن أبي ذرٍّ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أحسنَ ما غيرَ بهِ الشَّيْبُ: الحِنَّاءُ والكَتَمُ". "عن أبي ذَرٍّ قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ أحسنَ ما غيرَ به الشيبُ الحِنَّاءُ والكَتَمُ" بفتحتين والتخفيف: نبت يخلَطُ بالوسمة، ويصبَغُ به الشعرُ؛ أي: الشَّيْبُ يُخضَبُ بالحِنَّاء تارةَ فيكون لونُه أحمرَ، وبالكَتَم أخرى فيكون لونه أخضرَ، فالمرادُ استعمالُ كل منهما مفرَدًا، إذ لو خُلِطَ الحِنَّاءُ بالكَتَم، أو خُضبَ بالحِنَّاء، ثم بالكَتَم يكونُ لونُه أسودَ، واللونُ الأسودُ منهي عنه، فالواو تكون بمعنى (أو).

والظاهر: أن المرادَ تفضيلُهما في تغييرِ الشيبِ بهما على غيرِهما، لا بيانُ كيفيةِ التغيير. * * * 3444 - عن ابن عبَّاسٍ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "يكونُ قومٌ في آخرِ الزَّمانِ يخضبُونَ بهذا السَّوَادِ، كحَوَاصلِ الحَمَامِ، لا يَجدُون رائحةَ الجنَّةِ". "عن ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: يكونُ قوم في آخرِ الزمانِ يَخْضبُون"؛ أي: الشعرَ الأبيضَ "بهذا السَّوَادِ كحواصلِ الحَمَام"؛ أي: في برقه، وحوصلةُ الحَمَام معدتُه، والمرادُ هنا صدرُه، وليس جميعُ الحمائِمِ حواصِلُها سود بل بعضُها. "لا يجدُون رائحةَ الجَئة"، يرادُ به التهديدُ والتَّشْدِيدُ. * * * 3445 - عن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يلبَسُ النِّعالَ السِّبْتيَّة، ويُصَفّرُ لحيتَهُ بالوَرْسِ والزَّعفرانِ، وكانَ ابن عمَر - رضي الله عنه - يفعلُ ذلكَ. "عن ابن عمَر - رضي الله تعالى عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يلبَسُ النِّعالَ السَّبْتيةِ"، والسَّبْتُ - بالكسر -: جلودُ البقر المدبوغة بالقرظ، وهو ورق السلم يُتَّخَذُ منها النعال، سُمّيت بها؛ لأن شعورَها قد سُبتَ عنها؛ أي: حُلِقَتْ وأُزيلتْ بالدّبَاغ. "ويُصَفِّر لحيتَه": من التصفير؛ أي: يجعلها أصفر. "بالوَرْس": وهو نبث أصفرُ يكونُ باليمن. "والزَّعفرانِ، وكانَ ابن عمر يفعلُ ذلك". * * *

3446 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: مرَّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ قد خَضَبَ بالحِنَّاء فقال: "ما أحسنَ هذا! " قال: فمرَّ آخرُ قد خضبَ بالحِنَّاء والكَتَم، فقال: "هذا أحسنُ مِن هذا! " ثم مرَّ آخرُ قد خضبَ بالصُّفْرَةِ فقال: "هذا أحسنُ مِن هذا كلِّه". "عن ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: مرَّ على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - رجلٌ قد خضبَ"؛ أي: شعَره بالحِنَّاء، فقال: ما أحسنَ هذا! قال: فمرَّ آخرُ وقد خضَبَ شعرَه"بالحِنَّاء والكَتَم، فقال: هذا أحسُن من هذا، ثم مرَّ آخرُ قد خضبَ بالصُّفْرَة، فقال: هذا أحسُن مِن هذا كلِّه". * * * 3447 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "غَيرُوا الشَّيْبَ، ولا تَشَبَّهوا باليهودِ". "عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه تعالى عليه وسلم: غيرُوا الشَّيْبَ ولا تَشَبَّهُوا باليهود"؛ أي: لا تَشَبُّهوا بهم في تَرْكِ خضابِ الشَّيْب. * * * 3448 - عن عمرِو بن شُعيبٍ، عن أبيه، عن جدِّه قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَنتِفُوا الشَّيْبَ فإنه نورُ المسلم، مَن شابَ شيبةً في الإسلامِ كتبَ الله لهُ بها حسنةً، وكفَّر عنه بها خطيئةً، ورفَعهُ بها درجة". "عن عمروِ بن شُعَيب، عن أبيه، عن جَدِّه قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تَنْتِفُوا الشَّيْب"؛ أي: لا تقلَعُوه "فإنه نورُ المُسْلِم"؛ لأنه يمنُع عن الغرور، ويدْعُو إلى الإنابة إلى دارِ السُّرور، ويكسِرُ الشهواتِ، ويُميلُ

إلى الطاعات، وكلُّ ذلك موجِبٌ للثواب المُفْضي إلى النُّورِ في دار المآب. "مَنْ شابَ شيبةً في الإسلام كتَب الله له بها حسنةً، وكَفَّرَ عنه بها خطيئةً، ورفَعه بها درجة"، وأولُ مَن شابَ من بني آدم كان إبراهيمُ خليلُ الله، فلمَّا رأى الشيبَ في لحيتِه، فقال: ما هذا يا ربِّ؟ فقال الله تعالى: هذا الوَقَارُ، فقال إبراهيم - عليه السلام -: يا ربِّ! زِدْني وقارًا. * * * 3449 - عن كعبِ بن مُرَّةَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن شابَ شَيْبةً في الإسلامِ، كانتْ لهُ نُوراً يومَ القيامةِ". "عن كعب بن مرَّة: عن رسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: مَن شابَ شيبةً في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة"؛ أي: ضياءً ومُخلِّصًا عن شِدّة القيامة. * * * 3450 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: كنتُ أغتسِلُ أنا ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن إناءٍ واحدٍ، وكانَ لهُ شعر فوقَ الجُمَّةِ ودونَ الوَفْرةِ. "عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها -: كنتُ أغتسِلُ أنا ورسولُ الله من إناء واحدٍ، وكان له شعر فوق الجُمَّة"، بضم الجيم وتشديد الميم: الشعرُ الذي يكونُ إلى المَنْكِب. "ودون الوَفْرَة"، وهي - بالفتح - الشعرُ الذي إلى شَحْمةِ الأذن، واللِّمَّة دون الجُمَّةَ؛ لأنها ألمّتْ بالمَنْكِبَين، فإذا زادتْ فهي الجُمَّة، ودون الوَفْرَة، وقيل: الجُمَّة أطولُ من الوَفْرة، واللمَّة أطولُ من الجُمَّة، فعلى هذا معناه: أنه بين الجُمَّة والوَفْرَة. * * *

3451 - وقال ابن الحَنْظَلِيَّةِ - رجل مِن أصحابِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ الرجلُ خُزَيْم الأَسْديُّ لَوْلاَ طولُ جُمَّتِه وإسبالُ إزارِه"، فبلغَ ذلكَ خُرَيْماً فأخذَ شَفْرَة فقطعَ بها جُمَّتَه إلى أُذُنيهِ، ورفعَ إزاره إلى أنصافِ ساقَيْهِ. "وقال ابن الحَنْظَلِيَّة رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - نِعْمَ الرجلُ خُرَيم الأسديُّ لولا طولُ جُمَّتهِ"، وطولُ الشعر ليس مذموماً، ولعله - صلى الله عليه وسلم - رأى في هذا الرجل تبخترًا بطول جُمَّتهِ، فأرادَ تقصيرَها منه. "وإسبالُ إزارِه"؛ أي: إطالُة ذيلهِ. "فبلغَ ذلك خُرَيمًا، فأخذ شَفْرة"؛ أي: سِكِّيناً. "فقطَع بها جُمَّتَه إلى أذنيه، ورفعَ إزارَه إلى أنصاف ساقيه"، وفي الحديثِ دليل على جوازِ ذِكْرِ المسلمِ أخاه الغائبِ بما فيه مكروه شرعاً إذا عَلِمَ تركَه لو سمعَه. * * * 3452 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانت لي ذُؤابَةٌ فقالَت لي أمي: لا أَجُزُّهَا، كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يمدُّها ويأخذُها. "عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانْت لي ذُؤَابة، فقالت لي أمي: لا أَجُزُّها"؛ أي: لا أقطعُها. "كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يمدُّها ويأخذُها"؛ أي: يلعَبَ بها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان ينبسِطُ معه، وقيل: يمدُّها حتى يصلَ الأذن، ثم يقطعُ الزائدَ من الأُذُن. * * * 3453 - عن عبدِ الله بن جَعْفَرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أمهلَ آلَ جعفرِ ثلاثاً، ثم

أَتاهم فقالَ: "لا تَبْكُوا على أخي بعدَ اليوم"، ثم قال: "ادعُوا لي بني أخي"، فجيءَ بنا كأننا أفرُجٌ، فقال: "ادْعُوا لي الحلاقَ"، فأمَرَهُ فحلقَ رؤوسنا. "عن عبد الله بن جعفر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهلَ آل جعفر" بن أبي طالب؛ أي: تركَ أهلَه بعد وفاته يبكُون عليه. "ثلاثاً"؛ أي: ثلاثةَ أيام، وإنما ثلاثاً اعتباراً بالليالي، وهذا يدلّ على أن البكاءَ على الميت من غير نَدْب، ونياحةٍ جائزٌ ثلاثةَ أيام. "ثم أتاهم فقال: لا تَبْكُوا على أخي بعد اليوم"، وهذا يدلّ على أن المستَحبَّ ألَّا يزادَ في البكاء على الميت والتعزيةِ فوقَ ثلاثةِ أيام، وسمَّى جعفراً الطيارَ أخا توسُّعاً؛ لأنه ابن عمِّه وأخوه في الدين. "ثم قال: ادْعُوا لي بني أخي"، وهم عبد الله، وعوف، ومحمد. "فجيء بنا كأننا أَفْرُخٌ": جمع الفرخ ولدُ الطير؛ أي: كُنَّا صغاراً. "فقال: ادْعُوا لي الحَلَّاق فأمرَه فَحَلقَ رؤسَنا"، وإنما حلقَ رؤوسَهم لمَا رأى من اشتغالِ أمِّهم عن تَرْجِيل شعورِهم بما أصابهَا مِن قَتْل زوجِها في سبيل الله، فأشفقَ عليهم الوسَخَ والقَمْلَ، وهذا يدلّ على أن للوَليِّ التصرفَ في الأطفال حَلْقاً وخِتَاناً. * * * 3454 - عن أمِّ عطَّيةَ الأنصاريةَ: أنَّ امرأةً كانت تختِنُ بالمدينةِ، فقالَ لها النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنْهِكِي، فإنَّ ذلِكَ أَحْظَى للمرأةِ وأحبَّ إلى البعلِ". "عن أم عطيةَ الأنصاريةِ: أن امرأةً كانت تختِنُ بالمدينةِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لها: لا تُنْهِكِي"؛ أي: لا تبالِغي في القَطْع، ولا تَسْتَقْصِي في الخِتَان. "فإنَّ ذلك"؛ أي: عدمَ النَّهْكِ.

"أَحْظَى"؛ أي: أَنْفَعُ "للمرأةِ، وأحبُّ إلى البَعْل"، وهو الزوجُ، فإنه إذا بولغَ في خِتَانهِا لا تَلْتَذُّ هي ولا هو. * * * 3455 - ورُوِيَ: أنَّ امرأة سألت عائِشَةَ رضي الله عنها عن خِضَابِ الحِنَّاءَ؟ فقالت: لا بأسَ ولكِنِّي أكَرهُهُ، كانَ حبيبي - صلى الله عليه وسلم - يكرهُ ريحَهُ. "رويَ أن امرأة سألتْ عائشةَ عن خِضَابِ الحِناء، فقالت: لا بأسَ، ولكني لا أكرَهُه، كان حبيبي"؛ أي: أرادت به النبي " - صلى الله عليه وسلم - يكرَهُ ريحَه". * * * 3456 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ هنداً بنتَ عتبةَ قالت: يا نبَي الله بايعْني؟ فقالَ: "لا أُبايُعكِ حتى تُغَيري كفَّيْكِ، فكأنهما كَفَّا سَبُعٍ". "عن عائشةَ: أن هنداً بنت عُتْبةَ قالت: يا نبيَّ الله بايعني؟ فقال: لا أُبايعُكِ حتى تُغَيري كَفَّيْكِ"؛ أي: بخضابِ الحِنَّاء. "فكأنهما كَفَّا سَبُع"، وهذا يدلُّ على شِدَّةِ استحبابِ الخِضَابِ بالحِنَّاء للنِّساء. * * * 3457 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أَوْمَأَتْ امرأة مِن وراء سِتْرٍ، في يدها كتابٌ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقبضَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يدَه، فقال: "ما أَدري أيدُ رَجُلٍ؛ أَمْ يدُ امرأة؟ "، قالت: بل يدُ امرأةٍ، قال: "لو كنتِ امرأةً لغيَّرتِ أظفاركِ"؛ يعني بالحِنَّاء. "عن عائشةَ قالتْ أومَأتِ امرأة"؛ أي؛ أشارتْ "من وراء سِتْر، بيدِها

كتابٌ إلى رسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، متعلق بـ (أومأَت). "فقبضَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدَه، وقال: ما أدْرِي أيدُ رَجُلٍ أم يدُ امرأة؟، قالت: بل يدُ امرأة، قال: لو كنتِ امرأةً"؛ أي: لو كنتِ تُراعِين شِعَارَ النساء "لَغيَّرْتِ أظفارَكِ"؛ يعني بالحِنَّاء. * * * 3458 - عن ابن عبَّاسٍ قال: لُعِنَتْ الواصِلةُ والمُستَوْصِلَةُ، والنَّامِصةُ والمُتنمِّصةُ، والواشِمةُ والمُستَوْشمةُ، مِن غيرِ داءٍ. "عن ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما - قال: لُعِنَت الواصلُة والمستوصِلَةُ، والنَّامِصَةُ والمتنمِّصَةُ، والواشِمَةُ والمستوشمِةُ من غير داء"؛ أي: من غير عِلَّة؛ يعني: لو كان بها عِلَّةٌ فاحتاجتْ إلى أن تكونَ يدُها للمداواةِ جازَ. * * * 3459 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: لَعَنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّجلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ المرأةِ، والمرأةَ تَلْبَسُ لِبسةَ الرجلِ. "عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: لعَن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرجلَ يَلبَسُ لِبسةَ المرأة، والمرأةُ تلبَسُ لِبسْةَ الرجل". * * * 3460 - وقيلَ لعائشةَ رضي الله عنها: إنَّ امرأةً تلبَسُ النَّعلَ! قالت: لعنَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلَة مِن النِّساءِ. "وقيل لعائشة: إن امرَأة تَلبَسُ النعلَ، قالت: لعَن رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الرَّجُلَةَ من النِّساء"، وهي التي تُشبه نفسَها بالرجال في الكلام واللِّباس. * * *

3461 - عن ثوبانَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافرَ كانَ آخرُ عهدِه بإنسانٍ مِن أهلِه فاطمةَ، وأولُ مَن يدخلُ عليها فاطمةَ، فقَدِمَ مِن غَزَاةٍ وقد عَلَّقتْ مِسْحًا أو سِتْرًا على بابها، وحَلَّتِ الحَسَنَ وَالحُسَيْنَ قُلْبَينِ مِن فِضَّةٍ، فقَدِمَ فلم يدخلْ، فظنَّت أنَّما منعَه أنْ يدخلَ ما رَأَى، فَهتكَتْ السِّترَ وفكَّتِ القُلْبينِ عن الصَّبيَّيْنِ وقطعَتهُ منهما، فانطلقَا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يبكيانِ، فأخذه منهما وقال: "يا ثوبانُ! اذهبْ بهذا إلى آلِ فلانٍ، إنَّ هؤلاءَ أهلي أَكرَهُ أنْ يأكلوا طيباتِهم في حياتِهم الدُّنيا، يا ثوبانُ اشترِ لفاطمةَ قِلادَةً مِن عَصَبٍ وسِوَارينِ من عاجٍ". "عن ثوبانَ قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا سافرَ كان آخُر عهدهِ بإنسانٍ من أهله فاطمةَ، وأولُ مَن يدخلُ عليها فاطمةُ، فَقدِمَ مِن غزاةٍ"، أصله غَزَوَة، نُقِلَتْ حركةُ الواو إلى الزاي فُقِلبتْ ألفًا لعروض سكونهِا. "وقد عَلَّقتْ"؛ أي: فاطمةُ "مِسْحًا"؛ أي: بَلاسًا، "أو سِترًا على بابها، وحلَّتْ"، أصلُه: حَلَّيَتْ، فقلبت الياءُ ألفًا وحُذِفَت؛ أي: زَيَّنَتْ "الحسنَ والحسينَ قُلْبَيْنِ": بضم القاف؛ أي: سِوارَين "من فِضَّة، فقَدِمَ"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وهو تأكيدٌ لـ (قَدِمَ) الأَوَّل. "فلم يَدْخُلْ" بيتَ فاطمة. "فظَّنتْ أَنَّما" - بفتح الهمزة - "منعَه أن يدخُلَ ما رأى"، يحتمل أن تكونَ (ما) في (أنما) كافة، وفاعل (منعه) ما رأى تقديره: ما منعَه من الدُّخُول إلا ما رآه من تعليقِ السِّتْر وتحليةِ الحَسَن والحُسَين، ويحتملُ أن تكونَ موصولةً و (منعَه) صِلَتُه، وفاعله ضمير يعود إلى (ما)، وما رأى خبر (أن)، فتقديره: أن الَّذي منعه من الدخول ما رآه، فعلى هذا تكتَبُ (ما) منفصلة. "فَهتكَتِ السِّتْر"؛ لظنها أنَّه - صلى الله عليه وسلم - كرهَه للصُّورَ فيه، أو للتجَمُّل والزِّينة.

"وفَكَّت"؛ أي: فصَلَتِ "القُلْبَين عن الصَّبيَّين وقَطَعَتْه منهما، فانطلقا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبكِيان فأخذَه"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - القُلْبَ. "منهما، فقال: يا ثوبانُ! اذهبْ بهذا"، أشار به إلى دراهمَ، أو دنانيرَ أعطاها ثوبان، أو إلى القُلْبَين. "إلى آلِ فلانٍ، إنَّ هؤلاء أَهْلِي أكرَهُ أن يأكلُوا طَيباتهِم"؛ أي: أن يَتَلَذَّذُوا بطيبِ طعامٍ ولبسٍ نفيسٍ، بل أختارُ لهم الفقرَ والرِّياضَة. "في حياتهِم الدّنيا، يا ثوبان! اشترِ لفاطمة قلادةً من عَصْبٍ"، بفتح العين وسكون الصاد المهملتين: سِنُّ دابةٍ بحريةٍ تسمَّى فَرَسَ فِرْعَون، يُتَّخذُ منه الخَرَزُ البيضُ ونصابُ السِّكِّين وغيره، وهي لغة يمانِيَة. "وسوارين مِن عاجٍ"، وهو عظم الفيل. * * * 3462 - عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اكتحِلُوا بالإثمدِ فإنه يَجْلُو البَصرَ، ويُنْبتُ الشَّعرَ" وزعم: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانتْ لهُ مُكْحُلَةٌ يكتحلُ بها كلَّ ليلةٍ ثلاثةً في هذه، وثلاثةً في هذه. "عن ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: اكتحِلُوا بالإثمد": - بكسر الهمزة -، هو الحَجَرُ المعدنِي يُكتحَلُ به. "فإنه يجلُو البَصَر"؛ أي: يزيدُ نورَ العَيْن. "ويُنْبتُ الشَّعْر"؛ أي شعرَ أهداب العَيْن. "وزعمَ"؛ أي: ابن عباس. "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانت له مُكْحُلَةٌ"، بضم الميم والحاء: هي التي فيها الكُحْل.

"يَكْتَحِلُ بها كلَّ ليلةٍ ثلاثةً في هذه وثلاثةً في هذه"، وهذا يدلُّ على [أن] السُّنةَ في الاكتحالِ الإيتارُ في كُلِّ عين. * * * 3463 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كانَ نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم - يكتحلُ قبلَ أنْ ينامَ بالإثمدِ ثلاثًا في كلِّ عينٍ، قال: وقال: "إنَّ خيرَ ما تَدَاويتُم به اللَّدُودُ، والسَّعُوطُ، والحِجَامَةُ، والمَشِيُّ، وخيرَ ما اكتحَلْتُم بهِ الإثمدُ، فإنه يجلُو البصرَ ويُنْبتُ الشعرَ، وإنَّ خيرَ ما تَحتجمونَ فيهِ يومُ سبعَ عشرةَ، ويومُ تسعَ عشرةَ، ويومُ إحدى وعشرينَ"، وإن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حيثُ عُرِجَ بهِ ما مَرَّ على ملأٍ مِن الملائكةِ إلا قالوا: عليكَ بالحِجَامةِ. غريب. "وعنه: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يكتحِلُ قبل أن ينامَ بالإثمد ثلاثًا في كل عينٍ، قال"؛ أي: ابن عباس. "وقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن خيرَ ما تداويتم به اللَّدُود" بفتح اللام: ما سُقيَ المريضُ في أحدِ شِقَّي فَمِه. "والسَّعُوطُ"، بفتح السين: ما يُصَبُّ في الأنفِ من الدواء. "والحِجامَةُ، والمَشِيُّ"، بفتح الميم، وكسر الشين المعجمة، وتشديد الياء، ويجوز ضم الميم وكسرها، وهو الدواءُ المُسْهِل، فَعِيل مِن المشيء لحملهِ شاربَه على المشيِ إلى الخَلَاء. "وخيرُ ما اكتحلتُم به الإِثْمدُ، فإنه يجلُو البصرَ ويُنْبتُ الشَّعْر، وإنَّ خيرَ ما تحتجمُون فيه يومَ سبعَ عشرةَ، ويوم تسعَ عشرةَ، ويومَ إحدى وعشرين، وإنَّ رسول الله حيث عُرِجَ به"؛ أي: حين عُرِجَ به إلى السماء ليلةَ المعراج. "ما مرَّ على ملإٍ"؛ أي: جماعةٍ من الملائكة.

"إلا قالوا: عليكَ بالحِجَامة": بكسر الحاء المهمَلَة؛ أي: الزمِ الحِجَامة، قيل: وجهُ مبالغةِ الملائكةِ فيها أن الدَّمَ أصلُ القِوى الحيوانية، فإذا نزفَ ضعفت الموادُّ السفليَّةُ وتهذيب الروح القدسية. "غريب". * * * 3464 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهَى الرِّجالَ والنِّساءَ عن دخولِ الحَمَّاماتِ، ثم رخَّصَ للرِّجالِ أنْ يدخلُوا بالميازرِ. "عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى الرجالَ والنساءَ من دخولِ الحمَّاماتِ، ثم رخَّصَ للرجال أن يدخلُوها بالمَيازر"، بفتح الميم: جمع المئزر، وهو الإزارُ، دون النِّساء؛ لأن جميعَ أعضائِهنَّ عورةٌ وكشفها غيرُ جائزٍ إلا عند الضرورة بأن اقتضت الحاجُة إلى دخولِ الحَمَّام بأن تكونَ مريضةً فتدخل للتداوي، أو انقطعَ حَيْضُها، أو تكون جُنُبًا، والبَرْدُ شديدٌ فجازَ لها دخولُ الحَمَّام. * * * 3465 - عن أبي المَليح قال: قَدِمَ على عائشَةَ رضي الله عنها نِسوةٌ مِن أهلِ حمْصَ فقالت: مِن أينَ أَنتُنَّ؟ قُلْنَ: مِن الشامِ، قالت: فلعلَّكُنَّ مِن الكُورَةِ التي تدخلُ نِسَاؤها الحمَّامَاتِ؛ قُلْنَ: بلى، قالت: فإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تخلعُ امرأةٌ ثيابَها في غيرِ بيتِ زوجِها إلا هَتكَتْ السِّترَ بينَها وبينَ ربها". وفي روايةٍ: "في غيرِ بيتِها إلا هتكَتْ سترَها فيما بينَها وبينَ الله - عَزَّ وَجَلَّ -. "عن أبي المَلِيح" بفتح الميم.

"قال: قَدِمَ على عائشةَ نسوةٌ من أهل حِمْص"، بكسر الحاء وسكون الميم، بلدة من الشام. "فقالت: من أين أنتنَّ؟ قلن: مِن الشام، قالت: فلعلَّكن من الكُورَة": من البلدة، أو الناحية "التي تدخلُ نساؤُها الحَمَّامات؟ قلن: بلى"، فيه دليلٌ على أن العربَ تستعملُ (إلى) في تصديقِ ما بعدَ النفيِ وغيرِه. "قالت: فإني قد سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تخلَعُ امرأةٌ ثيابهَا في غير بيتِ زوجِها إلا هتكتْ السِّتْرَ بينَها وبين ربها"؛ لأنها مأمورةٌ بالتستُّر والتحفُظ من أن يَراها أجنبيٌّ حتَّى لا يجوزَ لهنَّ أن يكشِفْنَ عورتَهنَّ في الخَلْوة أيضًا إلا عند أزواجِهَّن، فإذا كشفتْ أعضاءَها في الحَمَّام من غير ضرورة، فقد هَتَكَتِ السِّتْرَ الَّذي أمرَها الله به. "وفي رواية: في غير بيتها إلا هتكت سترها فيما بينها وبين الله - عَزَّ وَجَلَّ -. * * * 3466 - عن عبدِ الله بن عمرٍو: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنها ستُفْتَحُ لكم أرضُ العجم، وستجدُونَ فيها بُيوتًا يقالُ لها الحمَّاماتِ، فلا يَدخُلَنَّها الرِّجالُ إلا بالأُزُرِ، وامنعُوها النِّساءَ إلا مريضةً أو نفساءَ". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنها"، ضمير القصة. "ستُفْتح لكم أرضُ العَجَم، وستَجدُون فيها بيوتًا يقالُ لها الحَمَّامات"، أسندَ الوجدانَ إليهم دون الفَتْح؛ لأن الفتحَ ليس مضافًا إلى فِعْلِهم بل بتأييدٍ منه تعالى. "فلا يدخلَنَّها الرجالُ إلا بالأُزُر"، جمع الإزار.

5 - باب التصاوير

"وامنعُوها النساءَ إلا مريضةً، أو نُفَسَاءَ"، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يجوزُ لهنَّ دخولُ الحَمَّام إلا بعُذْر. * * * 3467 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن كانَ يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يدخل الحَمَّامَ بغيرِ إزارٍ، ومَن كانَ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يُدْخِلْ حَلِيلَتَهُ الحَمَّامَ، ومَن كانَ يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يجلسْ على مائدةٍ تُدَارُ عليها الخَمْرُ". "عن جابرٍ - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن كان يؤمنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يدخلِ الحَمَّام بغيرِ إزارٍ، ومَن كان يؤمِنُ بالله واليومِ الآخرِ فلا يُدخِلْ حليلتَه"، أي: امرأتَه "الحَمَّامَ، ومَنْ كان يؤمِنُ بالله واليوم الآخرِ فلا يجلِسْ على مائدة"؛ أي: على خِوان "تدارُ عليها الخَمْر"؛ أي: يُشْرَبُ فيها الخَمْر. * * * 5 - باب التَّصاويرِ " باب التصاوير": جمع التصوير، وهو فِعْلُ الصُّورة، والمرادُ بها صورُ الحيوانات التي تكونُ على حائطٍ أو سِتْر. مِنَ الصِّحَاحِ: 3468 - عن أبي طلحةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيهِ كلبٌ ولا تصاويرُ".

"من الصحاح": " عن أبي طَلْحَةَ قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تدخلُ الملائكةُ"، المراد بهم غير الحَفَظَة. "بيتًا فيه كَلْبٌ"، يعمُّ جميعَ أنواعِ الكِلَاب، وقيل: يختصُّ بما لا يجوزُ اقتناؤُه منها. "ولا تصاويرُ"، جميع تصويرٍ، يعمُّ جميعَ أنواعِ الصُّوَر، وقد رخَّصَ بعضٌ فيما كان في الأنماطِ المَوْطُوءة بالأَرجُلِ. * * * 3469 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن مَيْمونةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أصبحَ يومًا وَاجِمًا وقال: إنَّ جبريلَ كانَ وَعَدَني أنْ يلقَاني الليلةَ فلَمْ يَلْقَني! أَمَا والله ما أَخْلَفَنيِ"، ثم وقعَ في نفسِه جَرْوُ كلبٍ تحتَ فُسْطَاطٍ، فأَمرَ بهِ فأُخرِجَ ثم أخذَ بيدِه ماءً فنضحَ مَكَانَهُ، فلمَّا أَمسَى لقيَهُ جبريلُ، فقالَ لهُ: "قد كنتَ وعدتَني أنْ تَلقَاني البارحةَ؟ " فقال: أَجَلْ، ولكِنَّا لا ندخُل بيتًا فيهِ كلبٌ ولا صورةٌ، فأَصبحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ فأمرَ بقتلِ الكلابِ، حتَّى إنَّه يأمرُ بقتلِ كلبِ الحائطِ الصَّغيرِ، ويتركُ كلبَ الحائطِ الكبيرِ. "عن ابن عباسٍ، عن ميمونَة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أصبحَ يومًا واجمًا"؛ أي: حزينًا. "وقال: إن جبريلَ كان وعدَني أن يلقاني الليلةَ فلم يلقَني، أمَ"، أصلُه (أمَا) للتنبيه حُذِفت الألف تخفيفًا. "والله ما أَخْلَفني" جبريلُ في الوعد. "ثم وقعَ في نفسِه جروُ كلبٍ": أي: خطرَ في نفسِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أن جريلَ

إنما لم يأتهِ الليلة للجَرْوِ الَّذي رآه. "تحت فُسْطاطٍ" بضم الفاء، أي: خيمة. "فأمرَ به"؛ أي: بإخراج الجَرْو. "فأُخْرِجَ، ثم أخذَ بيده ماءُ فنضَحَ مكانَه"؛ أي: رشَّ مكانَ الجَرْو. "فلمَّا أمسى لقيَه جبريلُ - عليه السلام - فقال له: قد كنتَ وعدتَني أن تلقاني البارحةَ، قال أجل"؛ بمعنى: نعم. "لكنَّا لا ندخلُ بيتًا فيه كَلْبٌ ولا صورةٌ، فأصبحَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذ فأمرَ بقتلِ الكِلَابِ حتَّى إنه يأمرُ بقتلِ كَلْبِ الحائطِ"؛ أي: البستان "الصغيرِ"، لأنه لا يُحتاجُ إلى حراسةِ الكَلْبِ لصِغَرِه. "ويتركُ كَلْبَ الحائطِ الكبير"؛ لعُسْرِ محافظتِه بلا كَلْب. * * * 3470 - عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يَكُنْ يتركُ في بيتِه شيئًا فيهِ تَصَاليبُ إلَّا نَقَضَه. "عن عائشةَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يتركُ في بيته شيئًا فيه تصاليب"، هو في الأصل صُنع الصَّليب وتصويرُه، فأطلقَ على نفسِ الصَّليب تسميتَه بالمصدر، ثم جمع على تصاليب لتسميةِ الصورة بالتصوير، ثم جُمعَ على تصاوبر. "إلا نقضَه"؛ أي: أزالَه وقَطَعه، والنقضُ إبطالُ أجزاءِ البناءِ بعضها من بعضٍ. * * *

3471 - وقالت قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أصحابَ هذه الصُّوَرِ يُعَذَّبونَ يومَ القيامةِ ويقالُ لهم: أَحْيوا ما خَلَقتُم". وقال: "إنَّ البيتَ الَّذي فيه الصُّورةُ لا تدخُلُه الملائكةُ". "وقالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن أصحابَ هذه الصُّوَرِ يعذَّبون يومَ القيامة، ويقال لهم: أَحْيُوا ما خَلَقْتُم"؛ يعني صَوَّرْتُم، شبَّه تصويَرهم بالخَلْق، فعبَّر عنه به سخريةً بهم، وهذا الأمرُ للتعجيز؛ أي: انفخُوا فيه الروحَ ولن يقدِرُوا عليه فيعذَّبون ما شاء الله تعالى. "وعن أبي طلحة قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: إن البيتَ الَّذي فيه الصورةُ لا تدخلُه الملائكُة". * * * 3472 - وعن عائشةَ رضي الله عنها: أنها كانَتْ قد اتخذَتْ على سَهْوَةٍ لها سِترًا فيهِ تَماثيلُ، فهتكَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فاتخذْتُ منهِ نُمْرُقتَيْنِ، فكانتا في البيتِ يجلِسُ عليهِما. "وعن عائشةَ - رضي الله عنها -: أنها قد اتخذتْ على سهوةٍ لها"، وهي الكُوَّة بين الدَّارين، وقيل: هي الصفةُ بين يَدَي البيت، وقيل: بيتٌ صغيرٌ يُشْبهُ المَخْدَع وهو الخزانةُ يكونُ فيها المتاع. "سِترًا فيه تماثيل"؛ جمع تمِثال بالكسر، والمرادُ بها صورُ الحيوانات. "فهتكَه"؛ أي: خَرَقَه. "النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فاتخذَتْ منه"؛ أي: عائشةُ من ذلك السِّتْر المخرَّق. "نُمْرُقَتَين"، والنُّمْرُقَةُ بضمتين يتخللهما سكون، أو بكسرتين كذلك، وبالهاء ودونها: الوسادةُ الصغيرةُ، وجمعها نمارق.

"وكانتا في البيتِ يجلِسُ عليهما)، وهذا يدلُّ على جوازِ كَوْنِ الصُّوَر فيما يجلِسُ عليه. * * * 3473 - ورُوِيَ عن عائشةَ رضي الله عنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ في غزاةٍ، فأخذتُ نَمَطًا فسترتُه على البابِ، فلمَّا قدِمَ فرَأَى النَّمطَ فجذبَهُ حتَّى هتكَهُ، ثمَّ قال: "إنَّ الله لم يأمرْنَا أنْ نكسُوَ الحِجارةَ والطِّين". "ورويَ عن عائشَة - رضي الله تعالى عنها -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - خرجَ في غزاةٍ فأخذت نَمَطًا"؛ ضربٌ في البُسُط، وقيل: هو ثوبٌ من صوف يُطرَحُ على الهَوْدَج. "فسَتَرتْه على البابِ، فلمَّا قَدِمَ فرأى النمطَ فجذبَه حتَّى هتكَه، ثم قال: إنَّ الله لم يأمْرنا أن نكسُوَ الحجارَة والطين"، وفيه دلالةٌ على كراهة سَتْرِ الحيطانِ بالثياب كراهَة تنزيهٍ إنْ لم يكن للبَطَر. * * * 3474 - عن عائشةَ رضي الله عنها، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أشدُّ الناسِ عذابًا يومَ القيامةِ الذينَ يُضاهونَ بخلقِ الله". وروي: "عن عائشةَ - رضي الله تعالى عنها -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: أشدُّ الناس عذابًا يوم القيامة الذين يُضَاهون"؛ أي: يشابهُون "بخْلقِ الله"، فيفعلون ما يضاهِي خَلْقَه؛ أي: مخلوقَه، أو يُشْبِّهون فِعلَهم بفِعْلِه في التصوير والتَّحلِيق، فإن اعتقدَ ذلك فهو كافرٌ يزيدُ عذابُه بزيادة قُبْحِ كُفْرِه، وإلا فالحديثُ محمولٌ على التهديد. * * *

3475 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله: ومن أظلمُ ممن ذهبَ يخلق كخلقي، فليخلقوا ذَرَّةً أو ليخلقوا حَبَّةً أو شعيرةً". "عن أبي هريرةَ قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: قال الله تعالى: ومَن أَظْلَمُ"، (مَن) هذه للاستفهام. "ممن ذَهبَ"؛ أي: أراد وطَفِقَ "يخلُقُ كخَلْقِي"؛ أي: يصوِّرُ صورةً شِبَه صورةٍ خلقْتُها. "فلْيَخْلُقوا ذَرَّةً"، والأمرُ للتعجيز. "أو ليخْلُقُوا حَبَّةً، أو شَعِيرةً". * * * 3476 - وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أشدُّ الناسِ عذابًا عندَ الله المُصَوِّرون". "عن عبد الله بن مسعود قال: سمعتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: أشدُّ الناسِ عذابًا عند الله المصِّورون"، الأَولَى أن يُحمل على التهديدِ؛ لأن قولَه (عند الله) تلويحٌ إلى أنَّه يستحِقُّ أن يكون كذا لكنه محلُّ العَفْو. * * * 3477 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "كُلُّ مصوِّرٍ في النارِ، يُجعَلُ له بكلِّ صورةٍ صَوَّرَها نفسًا فتُعَذِّبُه في جهنَّم". "عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: كُلُّ مصوِّرٍ في النارِ، يُجعَلُ له"؛ أي: يُخْلَقُ في القيامة "بكل صورةٍ"؛ أي: بعددِ كلِّ صورةٍ "صوَّرَها، في الدنيا "نفسٌ، فتعذِّبُه"؛

أي: تلك النفسُ ذلك المصوِّرَ "في جهنم". * * * 3478 - عن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن تَحَلَّمَ بحُلمٍ لم يَرَهُ، كُلِّفَ أنْ يعقِدَ بينَ شعيرتينِ ولن يفعلَ، ومَن استمعَ إلى حديثِ قومٍ وهم له كارِهونَ، أو يَفِرُّونَ منهُ، صُبَّ في أُذُنيهِ الآنُكُ يومَ القيامةِ، ومَن صَوَّرَ صورة عُذِّبَ وكلِّفَ أن ينفخَ فيها وليسَ بنافخٍ". "عن ابن عباسٍ قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: من تحلَّم"؛ أي: ادَّعى الرؤيا كاذبًا. "بحُلُمٍ لم يَرَه" في منامه. "كُلِّفَ أن يعقدَ بين شَعِيرتين، ولن يفعلَ" ذلك، وهذا التكليف بلا قدرةٍ عليه مبالغةً في التعذيب، ومعناه عُذِّب أبدًا. "ومن استمعَ إلى حديثِ قومٍ"، عدَّى الاستماع بـ (إلى) لتضمنُّهِ معنى الإصغاء. "وهم له كارِهُون"، الجملة حالٌ من القوم، أو من ضمير (استمع)؛ يعني حالَ كونهِم يكرهونَه لأجل استماعهِ، أو صفة (قوم)، والواو لتأكيد لصوقِها بالموصوف. "أو يفرُّون منه"، شكٌّ من الراوي. "صُبَّ في أذنيه الآنِكُ" - بالمد وضم النون وتخفيف الكاف -: الأُسْرُب. "يومَ القيامة"، الجملة إخبارٌ، أو دعاءٌ عليه، وهذا الوعيدُ في حقِّ من يستمِعُ لأجل النميمة، وأما مَن استمَع حديثَ قومِ ليمنعَهم عن الفساد، أو ليتحرَّزَ من شرورهم فلا يدخلُ تحتَه.

ومن صوَّر صورةً" ذي الروح. "عُذِّبَ وكُلِّفَ أن ينفُخَ فيها"؛ أي: الروح. "وليس بنافخٍ". * * * 3479 - وعن بُريدةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن لعبَ بالنَّردَشِيرِ فكأنَّما صبغَ يدَهُ في لحم خنزيرٍ ودمِهِ". "عن بُرَيدةَ: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: من لَعِبَ بالنَّرْدَشِير": وهو اسمُ لعبٍ معروفٍ، عجمي معرَّب، وقيل: اسمه نَرْدَرَشِير، معناه على لغتهم حُلْو. "فكأنما صَبغَ يدَه في لحم الخنزيرِ ودمِه"؛ أي: أدخلَ يدَه فيها وتخصيص الصبغ بهما؛ لكونه نجِسَ العَيْن، فيكون أَقْلَعَ للاعبيه عنه، قالوا: هذا من موضوعات سابوُر بن أَرْدَشِير بن بابك ثاني ملوك الساسانية، فمن يلعبُ به يكونُ مجتهدًا في إحياءِ سُنَّةِ المَجْوس المستكبرَة على الله. * * * مِنَ الحِسَان: 3480 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتاني جبريلُ عليهِ السَّلامُ فقالَ: أتيتُكَ البارحةَ فلم يَمنعْني أنْ كونَ دخلتُ إلا أنَّه كانَ على البابِ تماثيلُ، وكانَ في البيتِ قِرامُ سِترٍ فيهِ تماثيلُ، وكانَ في البيتِ كلبٌ، فمُرْ برأسِ التمثالِ الَّذي على بابِ البيتِ فيُقطَع، فيصير كهيئةِ الشَّجرةِ، ومُرْ بالسِّتْرِ فليقطعْ، فليُجعَلْ وسادتينِ منبوذتَيْنِ تُوطَآن، ومُرْ بالكلبِ فليُخرَجْ"، ففعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.

"من الحسان": " عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أتاني جِبريلُ - عليه السلام - فقال: أتيتكَ البارحَة فلم يَمْنَعْنِي أن كونَ دخلتُ إلا أنَّه كان على الباب تماثيلُ، وكان في البيت قِرَامٌ"، وهو سِتْرٌ فيهَ رقْمٌ ونقوشٌ فقوله: "سِتْرٍ فيه تماثيل": تفسيرٌ لـ (قِرام). "وكان في البيت كلبٌ، فمُر برأسِ التمثال"؛ أي: بقطعِ رأسِ التِّمْثَال. "الَّذي على بابِ البيتِ، فيُقطعُ فيصيرُ كهيئة الشجر"، فإن قلتَ: ما الفائدة في ذكر هذا؟. قلت: الإعلامُ أن القطعَ ليس المرادُ به محوَ موضعِ الرأسِ من القِرَام، بل فصْلُه عنه؛ لأنه لا يَصِيرُ كهيئة الشَّجَر إلا إذا فُصِلَ منه الرأسُ، فأما ما دام الرأسُ باقيًا ظاهرًا، أو ممحوًّا فلا. "ومُرْ بالسِّتْر فليُقْطَعْ فليجعلْ وسادتين منْبوذَتَين"؛ أي: مَطْرُوحَتَين. "توطَآن": وأَصْلُ الوَطْء الضربُ بالرِّجْل؛ أي: يجلِسُ عليهما، والفائدة في اتخاذ ذلك صيرورةُ السِّتْر مخروقًا بقطعِ موضعِ الرَّأْس وألَّا يكون موضعٌ من الصورة باقيًا. والحديث يدلُّ على أن الصورةَ لو غُيرَتْ هيئتُها حتَّى لم يبقَ لها أثرٌ فلا بأسَ بها، وعلى جوازِ تصويرِ نحوِ الأشجارِ مما لا حياةَ فيه. "ومُر بالكَلْبِ فليُجرَجْ، ففعلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. * * *

3481 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يخرجُ عنقٌ مِن النارِ يومَ القيامةِ لها عينانِ تُبصِرانِ، وأُذُنانِ تَسمعانِ، ولسانٌ يَنطقُ تقولُ: إني وُكِّلتُ بثلاثٍ: بكلِّ جَبَّارٍ عنيدٍ، وكلِّ مَن دَعا معَ الله إلهًا آخرَ، والمصوِّرينَ". "عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يخرجُ عنقٌ"؛ أي: طائفةٌ، وقيل: شخصٌ طويلٌ. "من النار"، (منْ) هذه للبيانِ أو تتعلَّقُ بمقدار؛ أي: تكوَّنَتْ، أو كائنةٌ من النار. "يومَ القيامة، لها عينان تُبْصِران وأُذُنَان تَسْمَعان ولسانٌ يَنْطِق، تقولُ: إني وُكِّلْتُ بثلاثٍ، بكلِّ جَبَّارٍ"؛ أي: متمِّردٍ عاتٍ. "عَنِيدٍ"؛ أي: جائرٍ عن القَصْد رادٍّ للحقِّ مع عِلْمِه به. "وكلِّ مَنْ دعا مع الله إلهًا آخر، والمُصَوِّرِين"؛ يعني: وَكَّلَني الله بأن أُدْخِلَ هؤلاءِ الثلاثَة النارَ وأُعذِّبَهم. * * * 3482 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله حرَّمَ الخَمْرَ والمَيْسرَ والكُوبَة"، وقال: "كلُّ مُسْكِرٍ حرامٌ" قيلَ: الكُوبَةُ: الطَّبْلُ. "عن ابن عباس: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إنَّ الله حَرَّم الخَمْرَ والمَيْسر"، تحريمُهما مذكور في القرآن. "والكُوَبةُ"، بضم الكاف ثم السكون، تحريمُها على لسانِ نبيه. "وقال: كلُّ مُسْكِرٍ حرامٌ، والكوبة: الطبلُ": وقيل: البَرْبَط، وقيل: النرد. * * * 3483 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَى عن الخَمْرِ والمَيْسرِ

والكُوبَةِ والغُبَيراءِ. والغُبَيراءُ: شرابٌ تعملُه الحَبَشةُ مِن الذرةِ يقالُ لهُ: السُّكْرُكَةُ. "عن ابن عمرو - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم نهى عن الخَمْر والمَيْسِر والكُوْبَة والغُبَيْرَاء، والغُبَيْرَاء شراب يعملُه الحَبَشَة مِن الذُّرَة يقال له السُّكْرُكة"، بضم السين والراء وسكون الكاف الأولى، نوعٌ من الخمور يُتَّخَذُ من الذُّرَة. قال الجوهري: هي لفظةٌ حبشيةٌ قد عُرّبَتْ إلى السُّقُرْقَع. * * * 3484 - عن أبي موسى الأشعرِيِّ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن لعبَ بالنردِ فقد عَصَى الله ورسولَهُ". "عن أبي موسى - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن لَعِبَ بالنَّزدَشِير فقد عصى الله ورسولَهُ". * * * 3485 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - رَأَى رجلًا يتبعُ حمامةً فقال: "شيطانٌ يتبعُ شيطانةً". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم رأى رجلًا يتبعُ حمامةً"، أي: يَقْفُو أثرَها لاعبًا بها. "فقال: شيطانٌ يَتبَعُ شيطانَةً"، سَّماه شيطانًا لاشتغاله بما لا يَعنيه، وسَمَّاها شيطانةً لأنها أورثته الغفلَة عن ذْكِر الله وعن أمر دينهِ ودنياه. * * *

21 - كتاب الطب والرقى

21 - كِتَابُ الطِّبُ وَالرُّقَى

1 - باب "باب الطب والرقى"

21 - كِتَابُ الطِّبُ وَالرُّقَى 1 - باب "باب الطّبِّ والرُّقَى" بضم الراء وفتح القاف: جمع رقية. مِنَ الصِّحَاحِ: 3486 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنزلَ الله داءً إلَّا أنزلَ لهُ شفاءً". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما أنزلَ الله داءً"؛ أي: عِلَّةَ. "إلا أنزلَ له شِفاءً"؛ أي: دواء، وفيه إشارةٌ إلى جوازِ التَّدَاوي واستعمالِ الطِّبِّ. * * * 3487 - وقال: "لكلِّ داءٍ دواءٌ فإذا أُصيبَ دواءُ الدَّاءَ بَرَأَ بِإذنِ الله". "وعن جابرٍ قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلَّم: لكلِّ داء دواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَواءُ الداءِ بَرَأ" بفتحتين، يقال: بَرَأْتُ من المرض أَبَرأُ بَرْءًا بالفتح، فأنا بارِئ، وأبرأَني الله منه، وعن أهل الحجاز: بَرِئْتُ بالكسر، بُراءً بالضم.

"بإذن الله"؛ أي بتقديرِه مع الشِّفَاء. * * * 3488 - وقال: "الشِّفاءُ في ثلاثةٍ: في شَرْطَةِ مِحْجَمٍ، أو شَرْبةِ عَسَلٍ، أو كَيَّةٍ بنارٍ، وأنا أَنْهَى أُمَّتي عن الكيِّ". "وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الشِّفاءُ في ثلاثٍ: في شَرْطَة مِحْجَم"، الشرْطَة - بفتح الشين -: الضربُ بالمِشْرَاط على مَوْضع الحِجَامة ليخرجَ منه الدَّمُ. والمِحْجَمُ - بالكسر -: الآلةُ المجتمعُ فيها الدَّمُ عند المَصِّ، وبالفتح: موضعُ الحِجَامَة، وهو المراد في الحديث. "أو شربةِ عَسَل، أو كَيَّةٍ بنارِ"، والكَيُّ من جملة العلاجِ المأذونِ فيه، وقيل: ذلك عند عدمِ القُدْرَة على المداواة بدواءٍ آخر. "أنا أنهى أمتي عن الكَيِّ"، والنَّهيُ قبلَ وقوعِ ضرورةٍ داعيةٍ إليه، أو في موضع يعظُمُ خطرُه، أو الكَيُّ الفاحِش، وإليه وقعتِ الإشارةُ بقوله: أو كَيَّةٍ؛ أي: كَيَّةٍ واحدةٍ غيرِ فاحِشَة، أو لأنَّ أهلَ الجاهليةِ كانوا يعتقِدُون أن الشّفَاءَ يحصلُ منه البتةَ فنهاهم عنه؛ لأن الشافيَ هو الله تعالى، وقيل: النهيُ عنه نهيُ تَنْزِيه. * * * 3489 - عن جابرٍ قال: رُميَ أُبَيُّ يومَ الأحزابِ على أَكْحَلِه فكَواهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وعن جابر - رضي الله عنه - قال: رُمي أُبَيٌّ": وهو أبي بن كعب.

"يومَ الأحزابِ على أَكْحَلِه": عِرْقٌ معروفٌ في وسَطِ الذراع، ومنه يُفْصَد. "فَكَواه رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم" بيده. * * * 3490 - وقال: رُميَ سعدُ بن معاذٍ في أَكْحَلِه فحَسَمَهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بيدهُ بمِشْقَصٍ، ثم وَرِمَتْ فحسمَهُ الثانيةَ. "وقال: رُمي سَعدُ بن معاذ في أَكْحَلِه فحسَمه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: كَواه. "بمِشْقَصٍ" بكسر الميم وفتح القاف: نَصْل السهمِ إذا كان طويلًا. "ثم وَرِمَتْ فحَسَمه الثانيةَ". * * * 3491 - وقال: بعثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أُبَيِّ بن كعبٍ طبيبًا، فقطعَ منهُ عِرْقا ثم كَواهُ عليهِ. "وقال: بعث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أُبَيَّ بن كعبٍ طبيبًا فقطعَ منه عِرْقًا، ثم كَواه عليه". * * * 3492 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّه سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "في الحَبَّةِ السَّوداءِ شفاءٌ مِن كلِّ داءٍ إلا السَّامُ"، قال ابن شِهابٍ: السَّامُ: المَوْتُ، والحَبَّةُ السوداءُ: الشُّونيزُ. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّه سمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في الحَبَّةِ السوداءِ: شفاءٌ مِن كلِّ داء"، قال جالينوس: إنها تخلَّلُ النَّفْخَ، وتقتُلُ ديدانَ البطنِ إذا أُكِلَ أو وُضعَ على البطن، وتنفَعُ الزكام إذا قُلِيَ وصُيرَ في خِرْقَةٍ وشُمَّ، وتنفَعُ

الصّدَاع إذا طُلِيَ به الجَبين، ويقلَعُ البُثُور والجَرَب، وتنفَعُ الأورامَ البَلْغَمِيَّة إذا يضمَّد به مع الخل، ويتمضْمَضُ به من وجعِ الأسنان ويُدُّر البولَ واللَّبن وغيرَ ذلك. "إلا السَّام. قال ابن شهاب: السَّام الموت، والحبة السوداء الشُّونيزُ". * * * 3493 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قال: جاءَ رجُلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنَّ أخي استَطْلَقَ بطنُهُ، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسقِهِ عسلًا" فسقاهُ، ثم جاءَهُ فقال: سقَيْتُه عَسَلًا فلم يزِدْهُ إلا استِطْلاقًا!؟ فقال له ثلاثَ مرَّات، ثم جاءَ الرَّابعةَ فقال: "اسقِهِ عَسَلًا" فقال: لقد سقيْتُه فلم يزدْهُ إلا استِطْلاقًا!؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدقَ الله وكذبَ بطنُ أخيكَ"، فسقاهُ فبَرَأَ. "عن أبي سعيدٍ الخُدْري - رضي الله تعالى عنه - أنَّه قال: جاء رجلٌ إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنِّ أخي استَطْلَقَ بطنُه، فقال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اسقهِ عَسَلًا فسقاه، ثم جاء فقال: سقيته فلم يَزِدْه إلا استطلاقًا، فقال له ثلاث مرات، ثم جاء الرابعة، فقال: اسقِه عسلًا، أَمْرُه - صلى الله عليه وسلم - بسَقْي العسل كأنَّه لعلمه أن السببَ اجتماعُ فضلات بَلْغَمِيةٍ لَزِجَةٍ دفعتْها الطبيعةُ بذلك مرةً بعد أخرى ليَسْهُلَ باقيه. "فقال: لقد سقيتُه فلم يزْدِه إلا استطلاقًا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدق الله" في كلامه؛ يريدُ به قوله تعالى: {فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَاسِ} [النحل: 69]. "وكذَبَ بطنُ أَخِيك" في أنَّه لم يُصِبْه الدواءُ بعد حظِّه، "اسقِه عسلًا". "فسقَاه فَبرَأ". * * *

3494 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَمْثَلَ ما تَداويتُم بهِ الحِجامَةُ، والقُسْطُ البَحريُّ". "عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ أمثلَ ما تداويتمُ به"؛ أي: أفضلُه وأنفعُه. "الحِجَامةُ والقُسْطُ البحريُّ"، القُسط - بضم القاف - يكون بحريًا وهنديًا فالبحريّ، وهو الأبيضُ أَجْوَدُ من الهنديّ الأسودِ، وهو من عقاقيرِ البحرِ تتبخَّر به النساء. * * * 3495 - وقال: " لا تُعذِّبُوا صِبيانكَم بالغَمْزِ مِن العُذْرةِ، وعليكم بالقُسْطِ". "وقال: لا تُعذِّبُوا صِبيانَكم بالغَمْزِ"، وهو إدخالُ الإصبَعِ في حَلْق المعذورِ فيَعْصِرُ بها. "من العُذْرَة"؛ أي: مِن أجلها، وهي - بالضم -: وَجَعٌ في الحلق يَهيجُ من الدم، ومن عادةِ النساءِ أن يعصِرْنَه بالإصْبَع فيخرجُ منه دمٌ أسودُ، فنهى عنه وأمرَ بمداواته بالقُسْط بقوله: "وعليكم بالقُسْط". * * * 3496 - وقال: "عَلَامَ تَدْغَرْنَ أولادكُنَّ بهذا العِلاقِ؟ عليكُنَّ بهذا العودِ الهِنديِّ، فإن فيهِ سبعةَ أَشفِيَةٍ، منها ذاتُ الجَنْبِ، يُسعَطُ مِن العُذْرَةِ، ويُلَدُّ مِن ذاتِ الجَنْبِ". "وقال: علامَ تَدْغْرَن"، بالدال والراء المهملتين بينهما غين معجمة: استفهامُ إنكار، وأصل الدَّغْر - بالفتح ثم السكون -: الدفعُ، ويراد به هنا دفعُ

لَهِاءِ المَعْذُور بالإصبَع. "أولادكُنَّ بهذا العِلاق؟ " وهو - بالكسر -: الداهيةُ، وبالضم: ما يعصرُ به العُذْرَة من إصبع وغيرها؛ أي: لا تعصرن عُذْرَة أولادِكنَّ بالإصْبَع وغيرها. بل "عليكنَّ بهذا العودِ الهِنْدِي": وهو القُسْط؛ أي: الْزَمْنَ باستعمالهِ في عُذْرَة أولادِكُنَّ، والإشارةُ إلى الجنس المستحضَر في الذهن. "فإن فيه سبعةَ أشفيةٍ؛ منها ذاتُ الجَنْب"؛ أي: مِن تلك الأشفيةِ شفاءُ ذاتِ الجَنْب، أو التقديرُ فيه سبعةُ أَشْفِيَة من سبعةِ أدواء: منها ذاتُ الجَنْب وهي دُبيلة كبيرةٌ ظاهرةٌ في باطن الجَنْب منفجِرَةٌ إلى داخل. "يُسْعَطُ من العُذْرة": بيانٌ لكيفية التَّداوِي به؛ يعني: يُدَقُّ العودُ ناعمًا ويُدْخَلُ في الأنف. "ويُلَدُّ من ذاتِ الجَنْب"، على صيغة المجهول، يقال: لَدَّ الرجلُ إذا صَبَّ من الدواء في أحد شِقَّي الفَم، سكتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الخمسةِ منها لعدمِ الاحتياجِ إلى تفصيلهِا في ذلك الوقت. * * * 3497 - وقال: "الحُمَّى مِن فيح جَهنَّمَ فأبرِدُوها بالماءِ". "عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: الحُمَّى من فَيْح جَهنَّم"؛ أي: من شِدَّةِ حَرِّها؛ يعني: حرارةُ الطبيعة تُشْبهُ نارَ جهنَّمَ في العذاب وإذابةِ الجَسَد. "فأبرِدُوها بالماء"، فإنَّ الماءَ الباردَ ينفَعُ المحمومَ في الحُمَّيات الحارَّةِ شُرْبًا ووَضْعا للأطراف؛ لأن الماءَ للطافتهِ يصلُ إلى أماكنِ العِلَّة فيدفَعُ حرارتَها. * * *

3498 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: رخَّصَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الرُّقيَةِ مِن العَيْنِ، والحُمَةِ والنَّملةِ. "وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: رَخَّصَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في الرُّقْيَة" إذا لم يكن فيها مِن ألفاظ الجاهلية، وهذه الرُّخْصَة بعد النهي. "من العَينِ والحُمَة" بالضم وتخفيف الميم: سمُّ ذواتِ السُّموم، قيل: يريدُ بها لدْغَ العقربِ وأشباهِها، وأصلُها: حَمُوَ أو حَمِيَ، والهاء عوض. "والنُّملة" - بضم النون -: بَثْرَة، أو بثورٌ صِغَارٌ يحدثَ عن صفراء حريقة شَبهتْ بالنَّمْل؛ لانتشارها في البَدَن ودبيبها فيه، ويقال لها بالفارسية: إتش بارسي فَيُرقَى فيذهَبُ بإذن الله تعالى. * * * 3499 - وعن عائشةَ رضي الله عنها قالت: أمرَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُستَرقَى مِن العينِ. "عن عائشَة - رضي الله عنها - أنها قالتْ: أمرَ النبيُّ أن يُسْتَرْقَى"؛ أي: نطلبَ الرُّقَية. "من العين"، وهذا تصريحٌ بأنَّ مَنْ أصابْته عينٌ من الإنس والجِنِّ يُستَحبٌّ أن يُرْقَى عليه. * * * 3500 - وعن أمِّ سلَمَةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى في بيتِها جاريةً في وجهِها سَفْعَةٌ، تعني صُفرةً، فقالَ: "استرقُوا لها، فإنَّ بها النَّظْرَةَ مِن الجنِّ". "وعن أمّ سَلَمَة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى في بيتها جاريةً في وجهها سَفْعَة"،

بفتح السين المهملة. "تعني صُفْرَة، فقال: اسَتْرقُوا لها"؛ أي: اطُلُبوا لها الْرُّقَية. "فإنَّ بها النظرةَ"، أراد بها العين أصابَتْها "من" نَظَرِ "الجَنِّ"، قيل: عيونهم أنفَذُ من أسِنَّةِ الرماح. * * * 3501 - عن جَابرٍ قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرُّقَى، فجاءَ آلُ عمرِو ابن حَزْمٍ فقالوا: يا رسولَ الله! إنَّه كانَتْ عِندَنا رُقْيَّةٌ نَرقي بها مِن العقرب، وأنتَ نَهَيْتَ عن الرُّقَى؟ قال: "اعرِضُوها" فعَرَضُوها عليهِ فقالَ: "ما أَرَى بأسًا، مَن استطاعَ منكم أنْ ينفعَ أخاهُ فلْيَنْفَعْه". "عن جابرٍ - رضي الله تعالى عنه - أنَّه قال: نهى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الرُّقَى، فجاءَ آلُ عمرو بن حزم فقالوا: يا رسول الله! إنه كانتْ عندنا رُقْيَةٌ: نَرْقَى بها من العَقَرَب، وأنتَ نهيتَ عن الرُّقَى؟ قال: اعرِضُوها، فعَرَضُوها عليه، فقال: ما أرى بها بأسًا، مَن استطاع منكم أن ينفَعَ أخاه فلينفَعْه". * * * 3502 - عن عوفِ بن مالكٍ الأشجَعيِّ قال: كنا نرَقي في الجاهليةِ فقلنا: يا رَسولَ الله! كيفَ تَرَى في ذلكَ؟ فقال: "اِعرِضُوا عليَّ رُقاكم، لا بأسَ بالرُّقَى ما لم يكنْ فيهِ شِرْكٌ". "عن عوفِ بن مالكٍ الأشجعيِّ أنَّه قال: كنا نرقِي في الجاهلية، فقُلْنا: يا رسولَ الله كيف ترى في ذلك؟ فقال: اعرِضُوا عليَّ رُقاكم، لا بأس بالرقى ما لم يكنْ فيه شِرْكٌ". * * *

3503 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "العينُ حقٌّ، ولو كانَ شيءٌ سابقَ القَدَرَ سبقَتْهُ العينُ، فإذا استُغْسِلتُم فاغْسِلُوا". "وعن ابن عباسٍ - رضي الله تعالى عنهما -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: العينُ حَقٌّ"؛ أي: أثرُها حَقٌّ، وتحقيقُه: أن الشيءَ لا يُعانُ إلا بعد كَماله، وكلُّ كاملٍ فإنه يُعْقِبُه النقصُ بقضاء، ولمَّا كان ظهورُ القضاءِ بعد العينِ أُضيفَ ذلك إليها. "فلو كان شيءٌ سابقَ القدرَ سبقَتْه العينُ"؛ أي: لو كان شيءٌ مهلِكًا، أو مُضرًا بغير قضاءِ الله وقَدَرهِ لكانَ العينَ؛ أي: أصابَتْها لشِدَّةِ ضررِها. "فإذا استغسلْتُم فاغسِلُوا"؛ أي: إذا طلبَ المصابُ بالعين أن يغتَسِلَ مَن أصابه بعينهِ فليُجِبْه، وكان من عادتهم أن يجيءَ المصابُ إلى العائن بقَدَح فيه ماء فيُدْخِلُ كفَّه فيه فيتمَضْمَض، ثم يمجُّه في القَدَح، ثم يغسِلُ وجهَه فيه، ثم يأخذُ غَرْفَةً بكفِّه اليُسْرَى، فيصبُّها على اليمنى وباليمنى فيصبُّها على اليسرى، ثم يُدْخِلُ اليسرى فيصبُّ على مِرفقهِ اليمنى، ثم يُدْخِلُ اليمنى فيصُبُّ على مِرفقهِ اليسرى، ثم يدخِلُ يده اليُسْرَى فيصُبُّ على قدمهِ اليمنى، ثم يدخِلُ يدَه اليمنى فيصُبُّ على قدمه اليُسْرَى، ثم يُدْخِلُ يدَه اليُسْرَى فيصُبُّ على ركبته اليمنى، ثم يُدخِلُ يدَه اليُمْنَى فيصُبُّ على ركبته اليسرى، ثم يغسِلُ داخلَ إزارهِ بلا وضع القَدَحِ بالأرض، ثم يصبُّ ذلك الماءَ المستعمَلَ على رأس المصابِ بالعين مِن خلفهِ صبةً واحدةً فيبَرأُ بإذن الله تعالى، كذا نقل عن الزهري في صفةِ غسلِ العائِن. * * * مِنَ الحِسَان: 3504 - عن أسامةَ بن شَريكٍ قال: قالوا: يا رسولَ الله! أَفَنَتَداوَى؟ قال:

"نعم يا عبادَ الله تَداوَوْا، فإنَّ الله لم يَضعْ داءً إلا وضعَ لهُ شفاءً، غير داءً واحدٍ الهَرَمُ". "من الحسان": "عن أسامة بن شريك أنَّه قال: قالوا: يا رسولَ الله! أفنتداوى؟ قال: نعمْ يا عبادَ الله! تداوَوا، فإنَّ الله لم يضَعْ داءً إلا وضعَ له شفاءً غيرَ داءٍ واحدٍ: الهَرَمُ"، بالرفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: وهو الهرم، وبالجر بدلًا من داءٍ، شَبَّهَ الهَرَمَ وهو الكِبَرُ؛ السنِّ بالداء؛ لأن الموتَ يتعقَّبه كالأدواء. * * * 3505 - عن عُقْبةَ بن عامرٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُكْرِهُوا مَرْضاكُم على الطَّعامِ والشَّرابِ، فإنَّ الله يُطعِمُهم ويَسقيهم"، غريب. "عن عقبةَ بن عامر قال: قالَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُكْرِهُوا مرضاكم على الطَّعَام والشَّرَاب"؛ يعني لا تُطْعِمُوهم كرهًا. "فإنَّ الله يُطْعِمُهم ويسقيهم"؛ أي: يُمِدّهم بما يقعُ موقَع الطعامِ والشرابِ منهم، ويقوِّيهم على الصَّبْرِ عنهما واحتمالِ المكروه، فإنَّ الحياةَ والصبرَ والقوةَ مِن الله، لا من الطعام والشراب. "غريب". * * * 3506 - عن أنسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَوَى أسعدَ بن زُرارةَ مِن الشَّوكةِ. غريب. "عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه -: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم كَوى أسعدَ بن زُرارة": بضم الزاي.

"من الشَّوْكَة"، قيل: هي حُمْرةٌ تعلُو الوجهَ والجَسَد. "غريب". * * * 3507 - عن زيدِ بن أرقمَ قال: أمرَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نَتَداوَى مِن ذاتِ الجَنْبِ بالقُسْطِ البحريِّ والزيتِ". "عن زيد بن أرقمَ أنَّه قال: أمَرنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن نَتَدَاوَى من ذات الجَنْب بالقُسْط البحريِّ والزيت". * * * 3508 - وعنه قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينعتُ الزِّيتَ والوَرْسَ مِن ذاتِ الجَنْبِ. "وعنه أنَّه قال: كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ينعَتُ الزيتَ والوَرْس"؛ أي: يصِفُ حُسْنَهما. "مِن ذاتِ الجَنْب"؛ أي: في مداواة داء الجَنْب. * * * 3509 - عن أسماءَ بنتِ عُمَيْسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سألَها: "بِمَ تَستمشِينَ؟ " قالت: بالشُّبْرُمِ، قال: "إنَّه حارٌّ حارٌّ"، قالت: ثُمَّ استمشَيْتُ بالسَّنا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لو أنَّ شيئًا كانَ فيهِ الشِّفاءُ مِن الموتِ لكانَ في السَّنا". "عن أسماءَ بنتِ عُمَيس": - بالضم ثم الفتح -. "أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سألهَا بما تَسْتَمْشِين"؛ أي: تَسْتَسْهِلين بطَنكِ، ويجوزُ إرادةُ المشيِ العارِضِ عند شُرْبِ الدواء إلى بيت الخلاء.

"قالت بالشُّبْرُمَة" بضم الشين المعجمة والراء المهملة: نبتٌ يسهِّلُ البطنَ، وقيل: حَبٌّ يُشْبهُ الحِمِّصَ يُطبَخُ ويُشْرَبُ ماؤُه للتداوي. "قال: حارٌّ حارٌّ": بحائين مهملتين، كرَّرَ للتأكيد؛ يعني: هذا الدواءُ حارٌّ لا يَليقُ بإسهالِ البَطْن، فإنَّ إسهالَه ينبغي أن يكونَ بشيءٍ بارد، وفي بعضٍ: بالجيم في الثاني، وفي بعضٍ: (حارٌّ بارٌّ)، وهو أكثرُ استعمالًا يقال: حارٌّ بارٌّ، وحارَّان بارَّان. "قالت: ثم استَمْشَيْتُ بالسَّنَا" مقصورًا، معروفٌ، وقد يروى بالمد، يقال: سنامَكِّي. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو أنَّ شيئًا كان فيه الشفاءُ من الموت لكانَ في السَّنَا". "غريب". * * * 3510 - عن أبي الدَّرداء قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله أَنْزَلَ الداءَ والدواءَ، وجعلَ لكلِّ داءٍ دواءً فتَداوَوْا، ولا تَتَداوَوْا بحرامٍ". "عن أبي الدَّرْدَاء - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ الله أنزلَ الداءَ والدواءَ"؛ يعني: الإنزالُ هنا: الإحداث. "وجعلَ لكلِّ داءٍ دواءً، فتَدَاوَوْا، ولا تتدَاوَوا بحرامٍ". * * * 3511 - ورُوِيَ عن أبي هُريرةَ قال: نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدَّواءَ الخبيثِ. "وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أنَّه قال: نهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الدَّواءَ الخَبيثِ"، وهو إمَّا

النَّجِسُ إلا ما خصَّتْه السُّنَّة من بولِ الإبل، أو خبيثُ المَطْعَم والمذاقِ، كَرِهَه - صلى الله عليه وسلم - لمشقَّتهِ طبعًا. * * * 3512 - عن سَلْمى خادمِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالت: ما كانَ أحدٌ يشتكي إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في رأسِهِ إلا قال: "احتجِمْ"، ولا وَجَعًا في رجلَيْه إلا قال: "اِخْضبْهما". "عن سَلْمى خادمةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنها قالتْ: ما كان أحدٌ يَشْتكِي إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وجَعًا في رأسِه إلا قال: احْتَجمْ، ولا وَجعًا في رِجْلَيه إلا قال: اخْتَضبْهما". * * * 3513 - وقالت: ما كانَ يكونُ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَرْحَةٌ ولا نكْبَةٌ إلا أمرني أنْ أَضَعَ عليها الحِنَّاءَ. "وقالت: ما كان يكونُ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قُرحةٌ"، بضم القاف؛ أي: جراحةٌ من السيفِ وغيرِه من الأَسْلِحَة. "ولا نَكبةٌ": - بفتح النون -؛ أي: جِراحةٌ من حَجَرٍ، أو شَوْكٍ، أو غيرهما. "إلا أَمَرَني أن أضعَ عليهما الحِنَّاء". "غريب". * * * 3514 - وعن أبي كَبْشَةَ الأَنْمَاريِّ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يحتجمُ على هامَتِه وبينَ كَتِفَيْهِ وهو يقولُ: "مَن أَهْراقَ مِن هذهِ الدَّماءِ فلا يَضُرُّهُ أنْ لا يَتَداوى بشيءٍ".

"عن أبي كَبْشَة الأنماريِّ: أن رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يَحْتَجِمُ على هَامتهِ"؛ أي: على وسَطِ رأسِه. "وبين كَتِفَيه وهو يقولُ: مَنْ أَهْرَاقَ مِن هذه الدِّماءَ فلا يَضُرّه أن لا يتدَاوى بشيءٍ". * * * 3515 - وعن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - احتجمَ على وِرْكِهِ مِن وَثْءٍ كانَ بهِ. "وعن جابرٍ - رضي الله تعالى عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - احتجمَ على وَرِكِه"، وهو جانِبُ الفَخِذ من طَرَفِ الأَلية. "من وَثْءٍ كان به"، الوَثْءُ - بفتح الواو وسكون الثاء وبالهمزة وتركها -: وجعٌ يصيب العَظْمَ من غير كسر. * * * 3516 - عن ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قال: حدَّثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن ليلةِ أُسْرِيَ بهِ أنَّه لم يَمُرَّ على مَلأٍ مِن الملائكةِ إلا أَمَرُوه: "مُرْ أُمَّتَكَ بالحِجامةِ". غريب. "عن ابن مسعودٍ أنَّه قال: حدَّثَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن ليلةِ أُسْرِيَ به أنَّه لم يمرَّ على ملأٍ من الملائكة إلا أَمَرُوه: مُرْ أمَّتَك بالحِجَامة"، غريب. * * * 3517 - عن عبدِ الرَّحمن بن عُثمانَ: أنَّ طبيبًا سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عن ضفْدَعٍ يجعلُها في دواءٍ، فنهاهُ النبيُّ عن قتلِها.

"عن عبد الرحمن بن عثمان - رضي الله عنهما -: أن طَبيبًا سألَ النبيَّ عن ضَفْدَع": على وزن خِنْصَر، وفتح الدال ضعيف. "يجعُلها في دواءٍ، فنهاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن قَتْلِها"، ونهيُه عن قَتْلِها لا لشَرَفِها، بل لم ير التداويَ بها لنجاسَتِها، أو لتَنَفُّرِ الطبعِ عنها، أو لمعرفتهِ المُضرَّة منها فوقَ معرفةِ الطبيبِ المنفعَة فيها. * * * 3518 - عن أنسٍ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحتَجمُ في الأَخْدَعَينِ والكاهِلِ، وكانَ يحتجمُ لسبعَ عشرةَ، وتسعَ عشرةَ، وإحدَى وعشرينَ. "عن أنس أنَّه قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يحتَجمُ في الأَخْدَعَين"، وهما عْرِقَان في موضعِ الحِجَامة من جانِبَي العُنُق بين الكتفين. "والكاهل": وهو ما بين الكتفين. "وكان يحتجمُ لسبعَ عشرةَ، وتسعَ عشرةَ، واحدى وعشرين". * * * 3519 - عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يستحِبُّ الحِجامةَ لسبعَ عشرةَ، وتسعَ عشرةَ، وإحدَى وعشرينَ". "عن ابن عباسٍ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يستحِبُّ الحِجَامَة لسبعَ عشرةَ، وتسعَ عشرةَ، وإحدى وعشرين". * * * 3520 - وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن احتجمَ لسبعَ عشرةَ وتسعَ عشرةَ وإحدَى وعشرينَ، كانَ شفاءً مِن كلِّ داءٍ".

"وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: مَن احتجمَ لسبعَ عشرةَ وتسعَ عشرَة وإحدى وعشرين، كان شفاءً مِن كلِّ داء". * * * 3521 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَن احتجمَ يومَ الثُّلاثاءِ لسبعَ عشرةَ خَلَتْ مِن الشَّهرِ أخرجَ الله منهُ داءَ سنةٍ". "وقال - صلى الله عليه وسلم -: من احتجَم يومَ الثلاثاءِ لسبعَ عشرةَ خلتْ من الشهرِ أخرجَ الله تعالى منه داءَ سَنة". * * * 3522 - وعن كبْشَةَ بنتِ أبي بكرةَ: أنَّ أباها كانَ يَنْهَى أهلَه عن الحِجامةِ يومَ الثلاثاءَ، ويزعُمُ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ يومَ الثلاثاءَ يومُ الدَّمِ، وفيهِ ساعةٌ لا يرقَأُ. "عن كَبْشَة بنتِ أبي بَكْرَة: أن أباها كان يَنْهَى أهلَه عن الحِجَامة يومَ الثلاثاء ويزعُمُ عن رسولِ الله صلى الله تعالى عليه وسلم"، والزعم - بالفتح والضم -: قريبٌ مِن الظنِّ، عدَّاه بـ (عن) لتضمين معنى الرواية. "أن يومَ الثلاثاءَ يومُ الدَّمِ"؛ أي: يومٌ كان الدَّمُ فيه، والمرادُ قتلُ ابن آدمَ أخاه، وقيل: يومُ غَلَبة الدَّم. "وفيه ساعةٌ لا يرقَأُ"؛ أي: لا يسْكُنُ فيها الدَّمُ ولا ينقطِعُ، لو احتجَمَ أو فُصِدَ فيها، وربَّما يهلَكُ الإنسانُ بعدمِ انقطاعه. * * * 3523 - ورُوِيَ عن الزُّهرِيِّ مُرْسلًا، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن احتجمَ يومَ

الأَربعاءِ ويومَ السَّبتِ فأصابَهُ وَضَحٌ فلا يلومَنَّ إلا نفسَه"، وقد أُسنِدَ، ولا يصحُّ. "وروي عن الزهري مرسلًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: من احتجم يوم الأربعاء، أو يوم السبت فأصابَه وَضَحٌ" - بفتح الواو والضاد المعجمة -؛ أي: بَرَصٌ، والأصل فيه البياضُ. "فلا يلومَنَّ إلا نفسَه. وقد أسند، ولا يَصِحُّ". * * * 3524 - ويُروَى: "مَن احتَجَمَ أو اطَّلَى يومَ السَّبتِ أو الأربعاءِ فلا يلومنَّ إلا نفسَه في الوَضَح". "ويُرْوَى: مَن احتجَمَ أو اطلَّىَ"؛ أي: لطَّخَ عضوًا بدواءٍ، وأصلُه اطتلى. "يومَ السبتِ أو الأربعاءِ فلا يلومَنَّ إلا نفسَه في الوَضَح". * * * 3525 - وعن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - رفعه: "خيرُ ما تَدَاوَيتُم بهِ اللَّدُودُ والسَّعُوطُ والحِجَامةُ والمَشِيُّ"، غريب. "وعن ابن عباس - رضي الله عنهماما - رفعَه قال: خيرُ ما تداوْيتُم به اللَّدُود والسَّعُوط والحِجَامة والمَشِيُّ". "غريب". * * * 3526 - عن زينبَ امرأةِ عبدِ الله بن مسعودٍ: أنَّ عبدَ الله رأَى في عُنُقي خيطًا فقال: ما هذا؟ فقلتُ: خيطٌ رُقِيَ لي فيهِ، قالت: فأخذه فقَطَعَه ثم قال:

أنتم آلَ عبدِ الله لأغنياءُ عن الشِّرْكِ! سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ الرُّقَى والتَّمائمَ والتِّوَلَةَ شِرْكٌ"، فقلتُ: لِمَ تقولُ هكذا؟ لقد كانَت عيني تُقْذَفُ، فكنتُ أَختلِفُ إلى فلانٍ اليهوديِّ فإذا رَقاها سكنَت! فقالَ عبدُ الله: إنَّما ذلكَ عملُ الشيطانِ، كانَ ينخَسُها بيدِه، فإذا رُقي كَفَّ عنها، إنَّما كانَ يَكفيكِ أنْ تقولي كما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أَذهِبِ البأسَ ربَّ الناسِ، واشفِ أنتَ الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤُكَ، شفاءً لا يغادِرُ سَقَمًا". "عن زينبَ امرأةِ عبدِ الله بن مسعود: أن عبدَ الله رأى في عُنُقي خَيْطًا فقال: ما هذا؟ فقلت: خيطٌ رُقِيَ لي فيه، قالت: فأخذَه فقطعَه، ثم قال: أنتم آلَ عبدِ الله"، أنتم مبتدأ وخبُره، "لأغنياءُ عن الشِّرْك"، فـ (آل) منصوبٌ بتقدير: أعني، وقيل: على الاختصاص، وقيل: منادى مضاف، أو خبره (آل عبد الله) و (لأغنياء) جواب قسمٍ محذوف، والمرادُ بالشِّرْك اعتقادُ أنَّ ذلك سببٌ قويٌّ وله تأثير. "سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنَّ الرُّقَى"، يريدُ بها رقيةَ فيها اسمُ صَنمٍ، أو شيطانٍ، أو غيرِهما مَّما لا يجوزُ في الشرع. "والتمائِم": جمعُ تَميمة وهي خَرَزَاتٌ تُعلِّقُها النساءُ على عُنُقِ أولادِهِنَّ يزعُمْنَ أنها تَدْفَعُ العَيْن. "والتِّوَلَة" بالكسر ثم الفتح: نوعٌ من السِّحْر، وقيل: خيطٌ يُقرَأ فيه من السِّحر والنيرنجات، أو قِرْطاسٌ يُكْتَبُ فيه شيءٌ بلا منهما للمحبة. "شِرْكٌ": لاعتقادِهم خلافَ المُقَدَّر. "فقلت: لمَ تقولُ هكذا؟ لقد كانت عيني تُقذَف"، علي بناء المجهول؛ أي: يُرْمَى بما يَهيجُ الوجعُ، وعلي بناء المعلوم؛ أي: ترمي بالرَّمَض والماءِ من الوَجع.

"وكنتُ أختلِفُ"؛ أي: أتردَّد بالرَّواح والمجيء. "إلى فلانٍ اليهوديِّ، فإذا رقَاها سكنَتْ، فقال عبد الله: إنما ذلك عملُ الشيطان"، إشارة إلى الوجَع الَّذي كانتْ العينُ تجِدُه؛ أي: إنه لم يكنْ وجَعًا في الحقيقةِ، بل نَخْرَةً من نَخَراتِ الشَّيْطان. "كان يَنْخَسُها"؛ أي: يطعُنُها بيده. "فإذا رُقِيَ"؛ أي: إذا رَقى اليهوديُّ عينَك. "كفَّ عنها"؛ أي: تركَ الشيطانُ ضَرْبَ عينكِ بيده؛ لتعتقدَ أن تلك الرقيةَ من اليهودي حَقٌّ. "إنما كان يكفيكِ أن تقولِي كما كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أَذْهِبِ الباسَ ربَّ الناس، واشفِ أنت الشافي، لا شفاءَ إلا شفاؤُك شِفاءً لا يغادِرُ سَقَمًا"، تقدم البيانُ فيه في (باب عيادة المريض). * * * 3527 - عن جابرٍ قال: سُئلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن النُّشْرَةِ، فقال: "هو مِن عملِ الشَّيطانِ". "عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: سُئِلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن النُّشْرة" بضم النون وسكون الشين المعجمة: نوعٌ من الرّقْية كان يُعالَجُ في الجاهلية بها مَن يُظَنُّ أن به مَسَّ الجِنِّ. "فقال: هو مِن عملِ الشيطان". * * * 3528 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما أُبالي

ما أَتيتُ إنْ أنا شربتُ تِرْياقًا، أو تعلَّقتُ تَميمةً، أو قلتُ الشِّعرَ مِن قِبَلِ نفسي". "عن عبدِ الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقولُ: ما أُبالِي": (ما) هذه نافية. "ما أتيتُ": (ما) مفعولُه مقدَّمٌ عليه. "إنْ أنا شربتُ تِرْياقًا" بكسر التاء: ما ينفَعُ في السمِّ من الأدويةِ والمعاجِينِ، حُذِفَ جوابُ (إنْ) لدلالة ما تقدَّم عليه والمعنى: إن أنا فعلتُ هذا فما أُبالي كلَّ شيء أتيتُ به، لكنِّي أُبالي مِن إتيان بعضِ الأشياءِ، وإنما كَرِهَ - صلى الله عليه وسلم - شُرْبَ التِّرْياق لمَا فيه من لحوم الأفاعي والخَمْر مع ما فيه من الانتزاع عن التوكُّل. "أو تعلَّقْتُ، لي "تميمةً"؛ أي: أخذتُها لي عُلَاقةً. "أو قلتُ الشِّعْرَ مِن قِبَلِ نفسي"؛ يعني كما أنَّ إنشاءَ الشِّعْر حرامٌ عليَّ فكذلك شربُ التِّرْياق وتعليقُ التمائم حرامان عليَّ، وأمَّا في حقِّ الأمة التمائمُ وإنشاءُ الشِّعْر غيرُ حَرَامٍ إذا لم يكُنْ فيه كَذِبٌ، أو هَجْوُ مُسْلِمٍ، أو من المعاصي، وكذا التِّرْياق الَّذي ليس فيه محرَّمٌ شَرْعًا. * * * 3529 - عن المغيرةِ بن شُعبةَ قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن اكتوَى أو استرقَى فقد بَرِئَ مِن التَّوَكُّلِ". ويُروَى: "مَن تَعلَّقَ شيئًا وُكِلَ إليه". "عن المغيرة بن شُعْبَةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن اكتَوى": بمعنى كَوى، من الكَيِّ. "أو اسْتَرْقى فقد بَرِئَ من التوكُّل"؛ أي: سقطَ مِنْ مرتَبَتهِ، وهذا محمولٌ

على أنْ يَرَى المُكْتَوِي الشفاءَ من الكَيَّةِ والمُسْتَرْقِي مِن الرُّقْيَة. "ويروى: مَن تَعلَّق شيئًا"؛ أي: تمسَّكَ بشيءٍ من المداواة والرُّقية واعتقد الشفاءَ منه. "وُكِلَ إليه"؛ أي: شفاؤُه إلى ذلك الشيءِ، فلا يحصُلُ شفاؤه. * * * 3535 - عن عِمْرانَ بن حُصَينٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا رُقيةَ إلا من عينٍ أو حُمَةٍ". "عن عمرانَ بن حُصَين: أنَّ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لا رُقْيَة إلا من عَيْنٍ أو حُمَةٍ"؛ أي: لا رقيةَ أَوْلَى وأنفَعُ مِن رقيتِهما. * * * 3531 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا رُقيةَ إلا مِن عينٍ أو حُمَةٍ أو دمٍ". "عن أنسٍ - رضيَ الله تعالى عنه - قال: قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لا رقيةَ إلا من عينٍ أو حُمةٍ أو دَمٍ"؛ أي: دمِ الرُّعَاف، وإنما خصُّها بهذه الثلاثة؛ لأن رقيتَها أَشْفَى وأفشى بين الناسِ، ولم يَرِدْ به نفيَ الرقيةِ عما سواها؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان يَرْقِي أصحابَ الأمراضِ والأوجاعِ بكلماتِ الله التاماتِ والآياتِ المنَزلاتِ المبارَكات. * * * 3532 - عن أسماءَ بنتِ عُمَيسٍ قالت: يا رسولَ الله! إنَّ وَلَدَ جعفرٍ تسرعُ إليهم العينُ، أَفأسترقي لهم" قال: "نعم، فإنَّه لو كانَ شيءٌ سائقَ القَدَرَ لسبَقَتْهُ العينُ".

ورُوِيَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للشِّفاءِ بنتِ عبدِ الله، وهي عندَ حَفْصَةَ: "أَلا تُعَلِّمينَ هذهِ رُقيةَ النَّمْلَةِ كما علَّمتِيها الكتابةَ". "عن أسماءَ بنت عُميس أنها قالت: يا رسولَ الله! إنَّ وُلْدَ جعفرٍ": - بضم الواو وسكون اللام - جمع وَلَد. "تُسْرعُ إليهم العينُ"؛ أي: تؤثِّرُ فيهم العينُ. "أفأَسْتَرْقِي لهم؟ قال: نعم، فإنه لو كان شيءٌ سابقَ القَدَرَ لسبقتْه العينُ، ويروى: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال للشِّفَاء بنتِ عبدِ الله وهي عند حَفْصَة" زوجةِ النَّبيِّ: - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تُعلِّمينَ هذه" - أي: حفصةَ - "رُقْيةَ النَّمْلَة"، ذهب أكثرُ العُلَماءِ أن المرادَ بها ما مرَّ ذِكرُه سالفًا من المَرَض، وقيل: هي شيءٌ كانت تستعمِلُه نساءُ العَرَب يعلمُ كلُّ مَن سَمِعَه أنَّه كلامٌ لا يَضُرُّ ولا يَنْفَع. "كما عَلَّمْتِيها الكتابةَ"، والياء نشأتْ من إشباع الكَسْرَة، وهذا يدلُّ على أن تعليمَ النِّساءِ الكتابةَ غيرُ مكروهِ، أو خُصَّتْ به حفصة؛ لأنَّ نساءَه - صلى الله عليه وسلم - خُصِصْنَ بأشياءَ، قال الله تعالى: {يَانِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: 32]. وما رُوي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تُعَلِّموهنَّ الكتابة" يُحمَل على نساء العامَّة؛ لخوف الافتتان عليهنَّ. * * * 3533 - عن أبي أُمامةَ بن سَهْلٍ بن حُنيفٍ قال: رأَى عامرُ بن ربيعة سهلَ ابن حُنيفٍ يغتسلُ فقالَ: والله ما رأيتُ كاليومِ، ولا جِلْدَ مخبَّأةٍ! قال: فلُبطَ سَهْلٌ، فأُتِيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقيلَ له: يا رسولَ الله! هل لكَ في سَهْلِ بن حُنَيفٍ، والله ما يرفَعُ رأسَه! فقالَ: "هل تتَّهمونَ لهُ أحدًا؟ " قالوا: نتَّهمُ عامرَ بن ربيعةَ، قال فدَعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامرًا فتَغَلَّظَ عليهِ وقال: "عَلامَ يقتلُ أحدكم أخاهُ، أَلا

بَرَّكْتَ؟ اغتسِلْ لهُ"، فغَسلَ عامرٌ وجهَهُ وبدَيهِ ومِرفَقيهِ ورُكْبَتيه وأطرافَ رِجلَيهِ وداخِلةَ إزارِه في قدَح ثم صُبَّ عليه، فراحَ مع النَّاس ليسَ بهِ بأسٌ. "عن أبي أمامةَ بن سهلِ بن حُنَيف": بصيغة التصغير. "أنَّه قال: رأى عامرُ بن ربيعة سهلَ بن حُنَيف يغتسِلُ فعانَه"؛ أي: أصابَتْه عينٌ. "فقال: والله ما رأيتُ كاليومِ ولا جِلْدَ مُخبَّأَةٍ": عطف على مفعول (رأيت) مقدَّرًا، والكافُ مفعول مطَلقٌ، والتقديرُ: ما رأيتُ في وقتٍ ما جِلْدَ غيرِ مُخبَّأَةٍ ولا جِلْدَ مُخبَّأَةٍ، أو ما رأيتُ جِلْدَ رجُل في اللَّطافَةِ ولا جِلْدَ مُخَبَّأَةٍ في البياضِ والنعومةِ مثل رؤيتي اليومَ؛ أي: مثلَ الجِلْد الَّذي رأيتُه اليومَ، وهو جِلْدُ سَهْلِ بن حُنَيف؛ لأنَّ جِلْدَه كان لطيفًا، والمخَبَّأةَ: الجاريةُ التي في خِدْرها لم تتزَّوجْ بعدُ؛ لأن صيانتَها أبلَغُ من المتزوِّجة وجلدُها أَنْعَم. "قال"؛ أي: الراوي. "فلُبطَ"، بضم اللام وكسر الباء الموحدة؛ أي: صُرِعَ "بسَهْلٍ" وسقطَ إلى الأرضِ من تأثير إصابةِ عَيْنِ عامر. "فاُتِيَ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقيل: يا رسولَ الله! هل لك"؛ أي: من خير، أو مداواة "في سهل بن حُنيف؟ "؛ أي: شأنهِ. "والله ما يَرْفَعُ رأسَه، فقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هل تَتَّهِمُون له أحدًا"؛ أي: تظنُّون أحدًا أصابَه بالعين. "فقالوا: نتَّهِمُ عامرَ بن ربَيعة، قال: فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عامرًا فتغلَّظَ عليه"؛ أي: قال معه كلامًا غليظًا. "فقال: علامَ"، أصلُه: علا ما، حَذِفت الألف مِن (ما) الاستفهامية، معناه:

لمَ "يقُتلُ أحدكم أخاه؟ ألَا بَرَّكْتَ"؛ أي: هلَّا قلتَ: باركَ الله عليك، حتَّى لا تؤثِّرَ العينُ فيه. "اغْسِل له، فغسَلَ له عامرٌ وجهَه ويديه ومِرفَقيه وركبتيه وأطرافَ رِجْلَيه وداخِلةَ إزارهِ"، قيل: المرادُ به الذَّكَر، وقيل: الأفاخذ والوَرِك، وقيل: طرفُ الإِزارِ الَّذي يَلِي الجسد مما يَلِي الجانبَ الأيمن. "في قَدَحٍ، ثم صُبَّ عليه" ذلك الماء. "فراحَ مع النَّاسِ"؛ أي: ذهبَ بهم. "وليس به بأس". * * * 3534 - عن أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتعوَّذُ من الجانِّ وعينِ الإنسانِ حتَّى نزلَتْ المُعَوِّذتانِ، فلمَّا نزلَتا أخذَ بهما وتركَ ما سِواهما. غريب. "عن أبي سعيدٍ الخُدْري - رضي الله عنه -: أنَّه قال: كان رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يتعوَّذُ من الجَانِّ" بأن يقولَ: أعوذ بالله من الجانِّ "وعينِ الإنسانِ، حتَّى نزَلَتِ المعوِّذَتان، فلمَّا نزلتْ أخذَ بهما وتركَ ما سواهما" غريب. * * * 3535 - قالت عائشةُ رضي الله عنها: قالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هل رُئيَ فيكم المُغَرِّبُونَ؟ قلت: وما المُغرِّبونَ؟ قال: "الذينَ يشتركُ فيهم الجِنُّ"، غريب.

2 - باب الفأل والطيرة

"قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: قال لي رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هل رُئيَ فيكم المغرِّبون؟ ": بتشديد الراء وكسرها. "قلتُ: وما المغرِّبُون؟ قال: الذين يشترِكُ فيهم الجِنُّ"؛ لتركهِم ذْكِرَ الله عند الوِقَاع، فيلْتَوي الشيطانُ على إِحْلِيله فيجامعُ معه، قال الله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الإسراء: 64] فيجبُ على الإنسانِ إذا خالطَ امرأتَه أن يقول: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، اللهمَّ جَنِّبنا الشيطانَ وجَنِّبِ الشيطانَ ما رَزَقْتَنا"، فإذا تركَ هذا الدعاءَ عند المواقعةِ شاركَه الشيطانُ في الوِقَاع، ويُسمَّى هذا الولدُ مُغرِّبًا؛ لأنه دخلَ فيه عِرْق. "غريب". * * * 2 - باب الفَأْلِ والطِّيرَةِ (باب الفال والطيرة) مِنَ الصِّحَاحِ: 3536 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا طِيَرَةَ، وخيرُها الفألُ"، قالوا: وما الفألُ؟ قال: "الكلِمةُ الصَّالحةُ يسمعُها أحدُكم". "من الصحاح": " عن أبي هريرةَ أنَّه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا طِيَرَةَ"، وهي - بكسر الطاء وفتح الياء - اسمٌ ما يتشاءَم، وقيل: مصدر تَطَيَّر؛ أي: تشاءَم، وكان أهلُ الجاهلية إذا قصد أحدٌ إلى حاجة، وأتَى من جانبهِ الأيسرِ طير، أو

غيره يتشاءَم به فيرجِعُ، هذا هو الطِّيَرة، فأبطَلها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. "وخيرُها الفَأل"؛ أي: الفَألُ خيرٌ من الطِّيَرَة، لا بمعنى أنَّ في الطِّيَرَة خيرًا، أو الفأل خير منها، إذ لا خيرَ فيها أصلًا، وهذا كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} [الفرقان: 24]؛ أي: أصحابُ الجَنَّة خيرٌ من أصحابِ النار. "قالوا: وما الفَأل؟ قال: الكلمةُ الصالحةُ يسمَعُها أحدكم"، على قَصْدِ التفاؤل كسماعِ مريضٍ: يا سالم، وطالبِ ضالَّة: يا واجد، وخارجٍ لحاجةٍ؛ يا راشد، يا نَجِيح. * * * 3537 - وقال: "لا عَدْوَى، ولا طِيَرَةَ، ولا هامَةَ، ولا صَفَرَ، وفِرَّ مِن المجذومِ كما تَفِرُّ مِن الأسدِ". "وعن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا عَدْوَى"، وهو اسمٌ من الإِعْدَاء، وهو مجاوزَةُ العِلَّة من صاحبها إلى غيره. "ولا طِيَرَة ولا هامَةَ"؛ اسمُ طير يَتَشَاءَم به الناسُ، وكانت العربُ تزعُمَ أن عظامَ الميتِ إذا بَلِيَتْ تصيرُ هامةً، وتخرج من القَبْرِ وتتَردَّدُ، وتأتي الميتَ بأخبار أهلهِ، فأبطل - صلى الله عليه وسلم - هذا الاعتقاد. "ولا صَفَرَ"، وقيل: أراد به النَّسِيءَ المَجْعُول في الجاهلية بتأخيرِ المُحرَّم إلى صفر وجَعْلِهم إياه الشهرَ الحرامَ، فيقاتِلُون في المُحَرَّم ويحرِّمونه في صَفَر بدلَه، وقيل: كانوا يتشاءمون بصَفَر، وقيل: الصَّفَر حَيَّةٌ في بطن الإنسان والماشية، تؤذيه وتلدَغُه إذا جاعت.

"وفِرَّ من المَجْذُومِ كما تَفِرُّ من الأسد"، والعِلَّةُ فيه أن الجُذَام من الأمراض المُعْدِية كالجَرَب والحَصْباء والبَرَص والوَبَاء وغيرِها، وقد تُعْدِي بإذن الله تعالى فيحصُلُ له منه ضررٌ، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا عدوى)، فالمرادُ منه نفيُ ما كان أهلُ الجاهليةِ يزعُمُونه من أن المرضَ يتعدَّى بطبعه لا بفعل الله تعالى. * * * 3538 - وقالَ: "لا عَدوَى، ولا هامةَ، ولا صفَرَ"، فقالَ أعرابيٌّ: يا رسولَ الله! فمَا بالُ الإبلِ يكونُ في الرَّملِ كأنَّها الظِّباءُ، فيخالطُها البعيرُ الأجربُ فيُجربُها؟ فقالَ - صلى الله عليه وسلم -: فمَن أَعدَى الأَوَّلَ؟ ". "وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لا عَدْوَى ولا هامَةَ ولا صَفَرَ، فقال أعرابيٌّ: يا رسول الله! فما بالُ الإبلِ تكونُ في الرَّمْل كأنَّها الظِّباءُ، فيخالِطُها البعيرُ الأجْرَبُ فيُجْرِبهُا، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: فمَنْ أَعْدَى الأول؟ ": استفهام؛ أي: فمن أَجْرَبَ ذلك البعيرَ أولًا؟ يريدُ أنَّه كان ذلك بقضاءِ الله تعالى وقَدَرِه لا بالعَدْوى. * * * 3539 - وقال: "لا عَدْوَى، ولا هامَةَ، ولا نَوْءَ، ولا صَفَرَ". "وقال لا عَدْوَى ولا هامَةَ ولا نَوْءَ"، والنَّوْءُ عند العَرَبِ: سقوطُ نَجْمٍ وطلوعُ نظيرِه من الفَجْر أحدُهما في المَشْرِق والآخرُ في المَغْرِب من المنازل الثمانية والعشرين، كانوا يعتقِدُون أن لا بُدَّ عنده من مَطَر، أو ريحٍ ينسبُونه إلى الطالع أو الغارب، فنفى - صلى الله عليه وسلم - صحةَ ذلك. "ولا صَفَرَ". * * *

3540 - وعن جابر قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا عَدوَى، ولا صَفَرَ، ولا غُوْلَ". "عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنَّه قال: سمعُت رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقولُ: لا عَدْوَى ولا صَفَرَ ولا غُولَ"، وهو واحد الغِيْلَان وهي نوعٌ من الجِنِّ كان العربُ يعتقِدُون أنَّه في الفلاة يتصرَّف في نفسه ويتراءَى الناسُ بألوانِ مختلفِة وأشكالٍ شَتَّى ويُضلُّهم عن الطريق ويُهْلِكُهم. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تغوَّلَت الغِيْلَان فعليكُم بالأذان"، فمحمولٌ على أنَّه كانَ ذلك في الابتداء، ثم دفعَه الله عن عبادهِ. * * * 3541 - عن عَمْرِو بن الشَّريدِ، عن أبيه قال: كانَ في وفدِ ثَقيفٍ رجلٌ مجذومٌ فأرسلَ إليهِ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّا قد بايعناكَ فارجعْ". "وعن عمروِ بن الشَّرِيد، عن أبيه أنَّه قال: كان في وَفْدِ ثقيف"، وهي قبيلةٌ. "رجلٌ مَجْذُومٌ، فأرسَلَ إليه النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم: إنا قد بايعناكَ فارْجِعْ"، وفيه رَخْصَةٌ لمن أراد أن يَحْتَرِزَ من المَجْذُوم لِقَّلة توكُّلهِ. * * * مِنَ الحِسَان: 3542 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتفاءَلُ ولا يتطيرُ، وكانَ يحبُّ الاسمَ الحَسَنَ. "من الحسان": " عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما - أنَّه قال: كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يتفاءَلُ

ولا يَتَطيَّرُ، وكان يُحِبُّ الاسم الحسن". * * * 3543 - عن قَطِن بن قَبيصَةَ، عن أبيه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "العِيَافةُ والطَّرْقُ والطيرَةُ مِن الجبْتِ". "عن قَطَن": بفتحتين. "ابن قَبيصَةَ": بفتح القاف وكسر الباء. "عن أبيه: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: العِيَافَةُ"، أرادَ به زَجْرَ الطيرِ للتفاؤُلِ، والاعتبارُ في ذلك بأسمائِها وأصواتهِا ومَمرِّها ومساقِطِها، والعيافةُ أخصُّ من الطِّيَرَة. "الطَّرْقُ" بفتح الطاءِ وسكونِ الراء المهملتين: الضربُ بالحَصَا، قيل: أي: ضربَ الطيرَ بالحَصَا لتَسْنَحَ، أو تَبْرَح، يقال: سَنَحَ لي الظبيُ [يَسْنَح] سُنُوحًا: إذا مَرَّ من مياسِرِكَ إلى ميامِنِك، والعربُ تتيمَّن بالسانح وتتشاءَم بالبارح، والبارِحُ ما ولَّاك مياسِرَه، والسانِحُ ما ولَّاك ميامِنَه، وقيل: الَّذي يفعلُه النساء بالحصا، وهي نوعٌ من التكَهُّن. "والطِّيَرَة من الحبْتِ"؛ أي: مِن السِّحْر والكِهَانة؛ أي: هذه الأشياءُ محرَّمَةٌ كالسِّحْر. * * * 3544 - عن عبدِ الله بن مسعودٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الطِّيرَةُ شرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ"، قاله ثلاثًا - ما مِنَّا إلا - ولكنَّ الله يُذهِبُه بالتوكُّلِ، قيل: قوله: "وما مِنا" قولُ ابن مسعودٍ.

"عن عبد الله بن مسعودٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: الطِّيَرَةُ شِرْكٌ"؛ لاعتقادهِم أنَّ التطيُّرَ يجلُبُ لهم نَفْعًا، أو يدَفُع عنهم ضَرَرًا إذا عَمِلُوا بموجِبه، فكأنَّهم أَشْرَكُوه مع الله في ذلك. "الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، قاله ثلاثًا، وما مِنّا إلا"، تفاؤلٌ؛ أي: ليس منا مَن تعرَّضَ له الوَهْمُ من قِبَلِ الطِّيَرَة، وقيل: أي: ما مِنَّا مَن كان في قلبه الطِّيَرَة؛ يعني: نفوسُنا كنفوس الجاهِلِيَّة في اعتقاد الطِّيَرَة. "ولكنَّ الله يُذْهِبُه بالتوكُّل"؛ أي: بتوكُّلنِا على الله تعالى واعتقادِنا صِدْقَ حديثِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. قيل قوله: (وما منا) قولُ عبدِ الله بن مسعودٍ، لا قولُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، كذا قاله سليمانُ بن حارث. * * * 3545 - وعن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أخذَ بيدِ مَجذومٍ فوضعَها معَهُ في القَصْعَةِ وقال: "كُلْ ثِقَةً بالله وتَوَكُّلًا عليهِ". "وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم أخذَ بيد مَجْذُومٍ فوضَعها معه في القَصْعَة وقال: كُلْ ثقةً بالله وتوكُّلًا عليه"، نصبَهما على أنهما مفعولان مُطْلَقان مؤكّدان لغيرِهما، والتقديرُ: أثِقُ بالله ثقةً وأتوكَّلُ عليه توكُّلًا، والجملةُ حالية، والثقةُ الاعتمادُ، وهذا درجةُ المتوكِّلِين، فإنَّ حالَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في التوكُّلِ على الله تعالى أَقْوى من حالِ الأُمَّة، فجازَ ألَّا يُخافَ عليه ما يُخافُ على غيره من العِلَل المتعدِّية، مع أن الأنبياءَ معصُومُون مِن مثل هذه الأمراضِ المنَفِّرة. * * *

3546 - وعن سعدِ بن مالكٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا هامَةَ، ولا عَدْوَى، ولا طِيَرَة، وإنْ تَكُن الطِّيَرةُ في شيءٍ ففي الدَّارِ والفَرَسِ والمرأةِ". "وعن سعدِ بن مالكٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا هامَةَ ولا عَدْوَى ولا طِيَرَةَ، فإنْ تكنِ الطِّيَرَةُ"؛ أي: الشؤمُ "في شيءٍ ففي الدَّار والفَرَسِ والمَرْأَةِ"، قيل: ربطُ الشرطيَّة على قوله: "ولا طِيَرَة" يدلُّ على انتفاءِ الشُؤْم عن هذه الثلاثةِ أيضًا؛ أي: لو كان للشُّؤْمِ وجودٌ في شيء؛ لكانَ في هذه الأشياءِ لكنْ لا وجودَ له فيها ولا وجودَ له أصلًا. * * * 3547 - عن أنسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُعجبُه إذا خرجَ لحاجةٍ أنْ يسمعَ: يا راشدُ! يا نجيحُ!. "وعن أنسٍ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان يُعْجبُه إذا خرجَ لحاجةٍ أن يَسْمَع: يا راشد! "؛ أي: يا واجدَ الطريقِ المستقيم. "يا نَجيح! "، وهو الَّذي قُضيْت حاجتُه، تفاءَلَ بهذين اللَّفْظَين وأشباههِما. * * * 3548 - وعن بُرَيْدَةَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ لا يتطيرُ مِن شيءٍ، فإذا بعثَ عامِلًا سألَ عن اسمِهِ؟ فإذا أعجبَهُ اسمُه فَرِحَ به ورُئيَ بِشْرُ ذلكَ في وجهِهِ، وإنْ كرِهَ اسمَهُ رُئيَ كراهيةُ ذلكَ في وجهِهِ، وإذا دخلَ قريةً سألَ عن اسمِها؟ فإنْ أعجبَهُ اسمُها فَرِحَ بها ورُئيَ بِشْرُ ذلكَ في وجهِهِ، وإنْ كَرِهَ اسمَها رُئيَ كراهيةُ ذلكَ في وجهِهِ. "عن بُريدة: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطيَّرُ من شيءٍ، فإذا بعثَ عاملًا يسألُ

عن اسمهِ، فإذا أعجبَه اسمُه فَرحَ به ورئي بِشْرُ ذلك في وجههِ، وإن كَرِهَ اسمَه رئيَ كراهيةُ ذلك في وجهه"، فالسنَّةُ أن يختارَ الإنسانُ لولدهِ وخادمهِ الأسماءَ الحسنةَ، فإنَّ الأسماءَ المكروهةَ قد تُوافِقُ القَدَر، مثلاً لو سَمَّى أحد ابنه بِـ (خَسَارٍ) فربما جرى قضاءُ الله بأنْ يَلْحَقَ بذلك المسمَّى به خَسَار، فيعتقِدُ بعضُ النَّاس: أن ذلك بسببِ اسمه فيتشاءمون به، ويحتَرِزون عن مجالسته ومواصَلَتِه. وروي عن سعيدِ بن المسيَّب: أن عمرَ بن الخَطَّاب قال لرجلٍ: ما اسمك؟ قال: جَمْرَة، قال: ابن من؟ قال: ابن شهاب، قال: ممن؟ قال: من الحَرَّاقَة، قال: أين مسكنُك؟ قال: بحرَّة النَّار، قال: بأيها؟ قال: بذات لَظًى، فقال عمر: أَدْرِكْ أهلك فقد احترَقُوا، فكان كما قال عمر. "وإذا دخلَ قريةً سألَ عن اسمِها، فإنَّ أعجبَه فَرِحَ بها، فرُئِيَ بِشْرُ ذلك في وجهِه، وإن كَرِهَ اسمَها رئي كراهيةُ ذلك في وجهه". * * * 3549 - عن أنسٍ قال: قال رجل: يا رسولَ الله! إنَّا كنا في دارٍ كثيرٌ فيها عَدَدُنا وأموالُنا فتحوَّلنا إلى دار قل فيها عددُنا وأموالُنا؟ فقالَ رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ذَرُوها ذَمِيمَةً". "عن أنسٍ أنه قال: قال رجلٌ: يا رسول الله! إنَّا كنَّا في دار كثيرٍ فيها عددنا وأموالُنا فتحوَّلْنا"؛ أي: انتقَلْنا "إلى دارٍ قلَّ فيها عددُنا وأموالُنا، فقال - صَلَّى الله عليه وسلم -: ذَرُوها"؛ أي: اتركُوها بالتحوُّل عنها. "ذميمةً"، وهي مذمومة نصب على الحال؛ أي: في حال كونهِا مذمومةً؛ لأنَّ هواها غيرُ موافِقٍ لكم. * * *

3 - باب الكهانة

3550 - ورُوِيَ عن فَرْوَةَ بن مُسَيْكٍ أنَّه قال: يا رسولَ الله! أرض عندَنا هي أرضٌ ريعِنا ومِيرتِنا، وإنَّ وباءها شديدٌ؟ فقالَ: "دَعْها عنكَ، فإنَّ مِن القَرَفِ التَّلَفَ". "وروي عن فَروة بن مُسَيك"، بالتصغير. "أنه قال: يا رسول الله! أرض عندنا هي أرضٌ ريعِنا"؛ الرَّيْعُ: الزيادةُ؛ يعني: يحصلُ لنا فيها الثمارُ والنبات. "ومِيرتُنا": المِيْرَةُ: الطعامُ المنقولُ من بلدٍ إلى بلد. "وأن وباءَها شديدٌ، فقال: دَعْها"؛ أي: اترُكْها "عنك، فإنَّ من القَرَف": وهو مداناةُ المرِيضِ ومداناة الوباء، (من) هنا للسببية. "التَّلَف"؛ أي: الهلاك، وهذا ليس من باب العَدْوى، بل مِن بابِ الطّبِّ، فإنَّ استصلاحَ الهواءِ مِنْ أَعْوَن الأشياءِ على الصِّحَّة، وفَسَاده من أسرعِها إلى الأسقام عند الأطباء، وكلُّ ذلك بإذنِ الله تعالى. * * * 3 - باب الكهانَةِ " باب الكِهَانة": وهو الإخبار عن الغَيْبِ في الكوائن المستقبلة. مِنَ الصِّحَاحِ: 3551 - عن مُعاويةَ بن الحَكَم - رضي الله عنه - قال: قلتُ: يا رسولَ الله! أموراً كُنَّا نصنعُها في الجاهليةِ، كنَّا نأتي الكُهَّانَ؟ قال: "فلا تأتُوا الكُهَّانَ" قال: قلتُ: كُنَّا نتطيَّرُ؟ قال: "ذلكَ شيءٌ يجدُه أحدكم في نفسِهِ فلا يَصُدَّنَكم"، قال: قلتُ: وما مِنَّا رِجال يَخُطُّونَ؟ قال: "كانَ نبيّ من الأنبياء يَخُطُّ فمَنْ وافقَ خطَّهُ فذاكَ".

"من الصحاح": " عن معاويةَ بن الحَكَم أنه قال: قلت: يا رسولَ الله! أموراً"؛ أي: أذكر أموراً "كنا نصنَعُها في الجاهليةِ، كنَّا نأتي الكُهَّان قال: فلا تأتُوا الكُهَّان، قال: قلت: كنا نتطيَّر قال: ذلك شيء يجدُه أحدكم في نفسِه" مِن قِبَلِ الظنونِ المعتَرِيَةِ بحُكْمِ البشريَّة بلا تأثيرٍ منه. "فلا يصدَّنكَم"؛ أي: لا يَمنعنَكم التطُّيرُ عن الأمر الذي قَصَدْتُم. "قال: قلتُ: ومنَّا رجالٌ يخطون؟ قال: كان نبي من الأنبياء يخطُّ فمن وافقَ خَطَّه فذاك"، تَقدمَ بيانهُ في (باب ما لا يجوزُ من العمل في الصَّلاة). * * * 3552 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سألَ أُناس رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عن الْكُهانِ؟ فقالَ لهم رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "ليسوا بشيءٍ"، قالوا: يا رسولَ الله! فإنَّهم يُحَدثونَ أحياناً بالشَّيءِ يكونُ حَقًّا؟ فقالَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "تلكَ الكلِمةُ مِن الحقِّ يخطَفُها الجنِّيُّ فيقُرُّها في أُذُنِ وَلِيهِ قَرَّ الدَّجاجةِ، فيخلِطونَ فيها أكثرَ مِن مِئَةِ كَذْبةٍ". "عن عائشةَ أنها قالتْ: سألَ أناس رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عن الكُهَّانِ، فقال لهم رسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: لَيْسُوا بشيءٍ"؛ أي: لا يُعْتَمدُ على قَوْلهِم. "قالوا: يا رسول الله! فإنهم يحدِّثُون أحياناً بالشيء يكون حقًا، فقال رسول الله: تلك الكلمةُ مِن الحَقِّ"؛ أي: من الصدْق. "يخطَفُها الجنِّيُّ"؛ أي: يَسْتَلِبُها بسرعة، قيل: الجِنُّ قد تتصِلُ بالملائكةِ اتصالاً ما بسببِ مناسبةٍ ما بينَهما، فيستفيدُ بعضَ علومِها بحسب استعدادهِا.

"فَيقُرُّها"؛ أي: يُصَوِّتُ الجِنِّي تلك الكلمةَ "في أُذنِ وَليه" من الكهَّان بحيث لا يَطَّلِعُ عليه غيرُه. "قَرَّ الدَّجاجةِ"؛ أي: مِثْلَ صوتهِا بما لا يُفْهَم، أو يردِّدُها حتَّى يَفْهَمه كما تُردِّدُ الدجاجةُ صوتهَا، أو يصبها بحيث يتولَّد منها كلماتٌ يصدُقُ في بعضها ويكذِبُ في أكثرَ، مثل صَبِّ الدجاجةِ مَنِيه في صاحبته بحيثُ يتولد منه بيضاتٌ كثيرةٌ. "فيَخْلِطُون فيها"؛ أي: الكُهَّان في تلك الكلمة. "أكثر من مئة كَذْبَة" بفتح الكاف وسكون الذال. * * * 3553 - وعن عَائِشَةَ رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ الملائكةَ تنزِلُ في العَنان - وهو السَّحابُ - فتذكرُ الأمرَ قُضيَ في السَّماءَ فتَسترِقُ الشَّياطينُ السَّمعَ فتسمعُه، فتُوحيهِ إلى الكُهَّانِ فيكذبونَ معَها مِئَةَ كَذْبةٍ مِن عندِ أنفسِهِم". "وعن عائشةَ أنها قالت: سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - يقولُ: إنَّ الملائكةَ تنزِلُ في العَنَان، وهو السَّحَاب" يحتملُ أن يكونَ من قولِ الرَّاوي تفسيراً للعَنَان، والسحاب مجازٌ عن السماء. "فَتْذكُرُ"؛ أي: الملائكةُ "الأمرَ الذي قضيَ"؛ أي: قَضَى الله تعالى في كلِّ يومِ من الحوادثِ في الدُّنيا، فيحدِّثُ بعضهُم بعضاً. "في السماء، فتسترِقُ الشياطينُ السَّمْعَ"؛ أي: يسْتَرِقُونه مَسْتَخْفِين. "فَتْسمَعُه فُتْوحِيه"؛ أي: الشياطينُ الأمرَ. "إلى الكُهَّان"، والإيحاءُ والوَحْيُ: الإعلامُ بخُفْيَة، وعن الزَّجَّاج: الإيماءُ يُسَمى وَحْياً.

"فَيْكذِبُون معها مئة كذبَةٍ من عندِ أَنْفُسِهم"، فما ظهرَ صِدْقُه فهو من قَسْمِ ما سمعَ من الملائكةِ وما ظهَر كَذِبُه فهو من قَسْمِ ما قالُوه مِن تلقاءِ أنفسِهم، قيل: صعودُ الجِنِّ إلى السَّماءِ قبلَ ولادةِ نبينا - صَلَّى الله عليه وسلم -، وأمَّا بعدَها فكانت إذا صعدَتْ لاستراقِ السَّمْعِ رُجِمَتْ بكواكبَ أمثالِ النَّارِ يُحرَقُون بها. * * * 3554 - وقال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "مَن أتى عَرَّافاً فسألَه عن شيءٍ لم تُقبَلْ له صلاةٌ أربعينَ ليلةً". "وعن صفيَة بنت أبي عُبيدة أنها قالتْ: قالَ رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: من أَتى عَرَّافاً"، وهو مَن يُخْبرُ بما أخْفِي من المسروق ومكانِ الضَّالَّة. وفي "الصحاح": العرَّاف: الكاهِن. "فسألَه عن شيءٍ لم تُقبَلْ له صلاة أربعين ليلةً"؛ أي: يومًا، والمرادُ بعدمِ قَبُولِ صلاتهِ عدُم كمالهِا، وتخصيصُ الصَّلاة مِن بينِ الأعمالِ يَحتملُ أنْ يكونَ لكونهِا عمادَ الدّين فيكونُ صيامُه وغيرُه كذلك، أو يفوضُ عِلْمَه إلى الشَّارع، قيل: ذِكْرُ العَدَدِ هنا للتَّكْثِير، وهذا في حَقِّ مَن اعتقدَ صِدْق العَرَّافِ، لا في حقِّ مَن سألَ للاستهزاءِ أو للتَّكْذيب. * * * 3555 - عن زيدِ بن خالدٍ الجُهنيَّ قال: صلَّى لنا رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - صلاةَ الصُّبح بالحُديبيةِ على إثرِ سماءً كانت من اللَّيلِ، فلمَّا انصرفَ أقبلَ على النَّاسِ، فقال: "هلْ تدرونَ ماذا قالَ ربُّكم؟ " قالوا: الله ورسولُه أعلمُ، قالَ: "أصبحَ مِن عبادِي مؤمن بي وكافر، فأمَّا من قال: مُطِرنا بفضلِ الله وبرحمتِه، فذلك مؤمنٌ

بي كافرٌ بالكواكبِ، وأمَّا مَن قالَ: مُطِرنا بنوْء كذا وكذا، فذلكَ كافِرٌ بي مُؤْمِنٌ بالكواكبِ". "عن زيدِ بن خالدٍ الجُهَنيِّ أنه قال: صلَّى لنا رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلمَ صلاةَ الصبُّح بالحُدَيْبية على إثْرِ سماءٍ"، بكسر الهمزة وسكون الثاء وبفتحتين أيضًا؛ أي: عَقِيب مطرٍ "كانْت من اللَّيل"، تأنيثُه باعتبار الرَّحمة، أو نظرًا إلى لفظة السَّماء. "فلما انصرفَ أقبلَ على النَّاسِ فقال: هل تَدْرُون ماذا قال ربُّكم؟ قالوا: الله ورسولُه أعلَمُ، قال: قالَ الله تعالى: أصبحَ مِن عبادي"، (من) للتبعيضِ، وهو مبتدأ، وما بعدَه خبر له، والجملة خبر (أصبح). "مؤمن بي" وكافرٌ بالكواكب. "وكافرٌ بي" ومؤمن بالكواكب، ويحتملُ أن يكونَ اسمُه (مؤمنٌ بي)، و (من عبادي) خبرُه، فـ (مِن) بيانية، وفيه قلبٌ مِن حيثُ المعنى كقوله: عرضتُ الناقَة على الحَوْض. "فأمَّا مَن قال"، تفصيل للمُجْمَل. "مُطِرْنا" بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي وكافرٌ بالكواكب، وأمَّا مَن قال: "مُطِرْنا بنوء كذا وكذا فذاك كافرٌ بي ومؤمن بالكواكب". * * * 3556 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "ما أنزل الله مِن السَّماء من بركةٍ إلَّا أصبحَ فريق مِن النَّاسِ بها كافرينَ، يُنَزِلُ الله الغيثَ فيقولونَ: بكوكبِ كذا وكذا".

"عن أبي هريرةَ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: ما أنزلَ الله من السماءَ من بركةٍ"؛ أي: مِن مطرٍ. "إلَّا أصبحَ فريق من النَّاسِ بها كافِرينَ، يُنزلُ الله الغيثَ فيقولون: بكوكبِ كذا وكذا"؛ أي: نزولُ المطرِ بسببِ طُلوعِ كذا أو غروبه، أو وصوله إلى موضع كذا وكذا، قالوا: مَن قال ذلك معتقِداً أن الكواكبَ فاعلٌ مدِّبر مُنْشئٌ للمطر كما كان بعضُ أهلِ الجاهلية يزعُمُ فهو كافرٌ بالله، ومَن اعتقدَ أنه مِن الله وبرحمتهِ، وأنَّ النَّوْءَ ميقات له وعلامةٌ اعتبارًا بالعادَةِ فلا يكفُر، لكنْ يُكْرَهُ في الأَظْهَر كراهةَ تَنْزيه. * * * مِنَ الحِسَان: 3557 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن اقتبسَ عِلْماً مِن النُّجومِ؛ اقتبسَ شُعبةً مِن السَّحْرِ، زادَ ما زادَ". "من الحسان": " عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: من اقتْبَسَ"؛ أي: تعلَّمَ. "عِلماً من النجوم اقتبسَ شُعْبةً"؛ أي: قطعةَ "من السِّحْر"؛ لأنَّ المنجم يُضيفُ الكوائنَ إلى غير الباري تعالى، كالساحرِ يُضيفُها إلى سِحْرِه. "زاد" اقتباس شعبة السحر "ما زاد" اقتباسُ عِلْمِ النجوم. * * * 3558 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أتى كاهِناً

فصدَّقه بما يقولُ، أو أتَى امرأتَه حائِضًا، أو أتى امرأتَه في دبرِها فقد بَرِئَ ممَّا أُنزِلَ على محَّمدٍ - صَلَّى الله عليه وسلم - ". "عن أبي هريرةَ - رضيَ الله تعالى عنه - قال: قالَ رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: مَن أَتى كاهناً فصدَّقَه بما يقولُ، أو أَتى امرأتَه حائضًا، أو أتى امرأتَه في دبرِها" مُستحِلاً بها. "فقد بَرِئَ بما أنْزِلَ على محمد". * * *

22 - كتاب الرؤيا

22 - كِتَابُ الرُّؤْيَا

22 - كِتَابُ الرُّؤْيَا (كتاب الرؤيا) وهو ما يُرى في المنام، يقال: رأى في منامِه رُؤْيا - بلا تنوين - بمعنى الرؤية، لكن فُرقَ بينَ ما يُرى مناماً ويقظة بتاء التأنيث وألفه. مِنَ الصِّحَاحِ: 3559 - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لم يَبْقَ مِن النُّبوَّةِ إلَّا المبشِّراتِ"، قالوا: وما المُبشَراتُ؟ قال: "الرُّؤيا الصَّالحةُ يَراها المسلمُ، أو تُرَى لهُ". "عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: لم يَبْقَ مِن النُّبوة"؛ أي: من أجزاءِ النبوة. "إلَّا المبشِّرات، قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: الرؤية الصالحِة"؛ أي: الحسَنَةُ، وقيل: أي: الصحيحة. "يَراها المسلمُ"؛ أي: لنفسِه. "أو ترَى له" عليّ بناء المجهول؛ أي: يَراها مسلم لأجل مسلم آخرَ. * * *

3560 - وقال: "الرّؤيا الصَّالحةُ جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأربعينَ جُزْءاً مِن النُّبوَّةِ". "عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - الرؤيا الصالحة جُزْء مِن ستةٍ وأربعين جُزْءاً من النّبوَّة"، قيل: هذا إخبارٌ من النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - عن رؤياه؛ لأنَّه - صلى الله عليه وسلم - أنبأَ بالرؤيا في بدءِ نبَّوتهِ ستةَ أشهُرٍ وكانَ زمانُ نبوتهِ ثلاثًا وعشرين سنة، فزمانُ رؤياه بالنسبةِ إلى جميعِ زمانِ وَحْيه جزءٌ من ستةٍ وأربعينَ جزءًا. 3561 - وقال: "مَن رآني في المنامِ فقد رآني فإنَّ الشَّيطانَ لا يتمثَّلُ في صورتي". "وعنه قال: قالَ رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: مَن رآني في المنام فقدْ رَآني"؛ أي: قدَ رأى مِثَالِي. "فإنَّ الشيطانَ لا يتمثَّلُ بي"؛ أي: لا يكونُ على مثِالي، وهذا غير مختصِّ بنبينا - صلى الله عليه وسلم - بل جميعُ الأنبياء معصومون من أنْ يظهرَ شيطان بصُوَرهم في النوم واليقظَة؛ لئلا يشتَبهَ الحقُّ بالباطل، ويروى: (في صورتي). * * * 3562 - وقال: "مَن رآني فقد رأى الحَقَّ". "عن أبي قَتادة قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: مَن رآني في المنامِ فقدْ رأى الحَقَّ"؛ أي: الرؤيا الصادقة. * * * 3563 - وقال: "من رَآني في المنامِ فسَيراني في اليقَظةِ، ولا يتمثَّلُ الشَّيطانُ بي". "وعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ

رآني في المنام فسَيَراني في اليَقَظَة"، والمرادُ به يقظةُ دارِ الآخرةِ، وبرؤيتهِ فيها الرؤيةَ الخاصَّة بالقُرْب منه، وقيل: المرادُ به أهلُ عَصْرِه، معناه: مَن رآني في المنامِ ولم يكنْ هاجَرَ ورزقَه الله الهِجْرةَ وفي رؤيته في اليقظة. "ولا يتمثَّلُ الشيطانُ بي". * * * 3564 - وقال: "الرُّؤيا الصَّالحةُ مِن الله، والحُلْمُ مِن الشَّيطانِ، فإذا رَأَى أحدكم ما يُحِبُّ فلا يحدِّثْ بهِ إلَّا مَن يُحِبُّ، وإذا رَأَى ما يكرهُ فليتعوَّذْ بالله مِن شرِّها ومِن شرِّ الشَّيطانِ وليتفُلْ ثلاثًا، ولا يُحدِّثْ بها أحدًا فإنَّها لن تَضُرَّه". "وعن قَتادَة قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: الرؤيا الصالحةُ مِن الله "؛ أي: بشارةٌ منه تعالى له بالخيرِ، مثل أن يَرى في منامه شيئًا فيه بِشَارةٌ، أو تنبيهٌ عن الغَفْلَة. "والحُلمُ من الشيطان": وهو - بضم الحاء - ما كان من وساوس الشيطانِ، مثل أن يَرى أنه شَرِبَ الخَمْرَ، أو يقتلَ، أو يَزْنيَ وغير ذلك من المُحَرَّمات، ولمَّا كانت الرؤيا الصالحةُ موسومة بالحقّ أضافَها إلى الله تعالى، ولمَّا كانت الحلم تخليطاً لا حقيقة له أضافها إلى الشيطان وإن كان كل منهما بقضاء الله تعالى. "فإذا رأى أحدكم ما يحبُّه فلا يحدِّث به إلَّا مَن يُحِبُّ"؛ لأنَّ مَن لا يحبُّه لا يأمَن مِن تأييد تعبيره بسوء، قال الله تعالى حكاية عن يعقوب ويوسف: {يَابُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا} [يوسف: 5]. قال عمر رضي الله تعالى عنه: إذا رأى أحدَكم رؤيا فقصَّها على أخيه فليقلْ: خيراً لنا وشراً لأعدائنا.

"وإذا رأى ما يَكْرَهه فليتعوَّذْ بالله من شَرِّها وشَرِّ الشيطانِ، وليَتْفُلْ"؛ أي: ليرْمِ البُصَاقَ من طَرَفِ لسانهِ "ثلاثاً"؛كراهة لتلك الرؤيا وطَرْداً للشيطان. "ولا يحدِّثْ بها أحداً"؛ لئلا يزدادَ هماً. "فإنَّها لن تَضُرَّه". * * * 3565 - وقال: "إذا رَأَى أحدُكم الرُّؤيا يكرهُها فلَيَبْصُقْ عن يسارِه ثلاثًا، ولِيستَعِذْ بالله مِن الشَّيطانِ ثلاثًا، وليتحوَّلْ عن جنبه الذي كانَ عليهِ". "وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: إذا رأى أحدكم الرؤيا يَكرَهُها فليَبْصُقْ عن يسارِه ثلاثًا، وليستعِذْ بالله من الشيطان ثلاثًا"، قصدًا لطَرْدِه عنه. "وليتحوَّلْ"؛ أي: لينْقُلْ "عن جَنْبهِ الذي كان عليه" إلى جَنْبه الآخر، ليزولَ عنه رؤيةُ حلم الشيطانِ. * * * 3566 - وقَال: "إذا اقتَربَ الزَّمانُ لَمْ تَكَدْ تَكذِبُ رؤُيَا المُؤْمنِ، ورُؤيَا المُؤْمنِ جُزْء مِن سِتَّةٍ وأربَعِينَ جُزْءاً مِن النُّبوَّةِ، ومَا كَانَ مِن النُّبوَّةِ فإنَّه لا يَكْذِبُ"، رواهُ مُحمَّدُ بن سِيرِينَ، عَنْ أبي هُريْرةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، قَال مُحَمَّدٌ: وأَنا أقُولُ: الرُّؤيا ثَلاثٌ: حَدِيْثُ النَّفسِ، وتَخْوْيفُ الشَّيطانِ، وبُشرَى مِن الله، فمَنْ رَأَى شَيْئاً يَكْرَهُه فلا يقُصَّه عَلى أَحَدٍ، ولْيقُمْ فليُصَلِّ، قَال: وكَانَ يَكرَهُ الغُلَّ في النَّومِ ويُعْجبُه القَيْدُ، ويُقالُ: القَيْدُ ثبات في الدِّينِ. وأَدْرجَ بعضُهم الكُلَّ في الحَديثِ. "وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم:

إذا اقتربَ الزمانُ لم تَكَدْ تكذِبُ رؤيا المؤمنِ"، المراد منه اقترابُ الساعة، وقيل: وقت اعتدالِ اللَّيل والنهار؛ لأنَّ عند ذلك تَصِحُّ الأمزِجَةُ فتكونُ الرؤيا آمنةً عن التَّخَالِيط، وقيل: المرادُ منه زمان يستَقْصِرُ ويتقارَبُ أطرافُه حتَّى يكونَ السنةُ كالشهر، والشهرُ كالجمعة، والجمعةُ كاليوم، واليومُ كالساعة؛ لاستلذاذِه وَبْسطِ العَدْل فيه، وذلك يكونُ في زمانِ المَهْدِيِّ، ويحتملُ أنه أرادَ بذلك إذا قَرُبَ أَجَلُ الرجل بسِن الكهولةِ والمَشِيبِ فإنَّ رؤياه قلَّما يكذِبُ لذهاب الظُّنونِ الفاسِدَةِ، وتوُّزع الشهواتِ عنه، قيل: رؤيا الليلِ أَقْوى مِن رؤيا النَّهارِ وأصدَقُ ساعاتهِ وقتَ السَّحَر. "ورؤيا المؤمنِ جُزءٌ من ستةٍ وأربعين جُزْءاً من النُّبوةِ، وما كانَ من النُّبوةِ فإنَّه لا يكذِبُ، رواه محمد بن سيرين": وهو مِن التَّابعين. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، قال محمد بن سيرين: وأنا أقولُ: الرؤيا ثلاثة: حديثُ النفس"، كمَنْ يكونُ في أمر وفي حِرفة يَرى نفسَه في ذلك الأمر، وكالعاشق يَرى معشوقَه، ونحو ذلك. "وتخويف الشيطانِ"، بأنَّ يلعبَ بالإنسانِ فيُرِيَه ما يُحزِنُه كقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] ومِن لَعِبهِ به الاحتلامُ الموجِبُ للغُسْل، وهذان لا تأويلَ لهما. "وبُشْرَى من الله"، بأنَّ يأتَيك به مَلكُ الرؤيا من نسخةٍ أمِّ الكتابِ؛ يعني من اللوح المحفوظ، وهذا هو الصحيحُ من الرؤيا، وما سوى ذلك أضغاثُ أحلام. "فمَنْ رأى شيئًا يَكْرَهُه فلا يَقُصَّه على أحدٍ، ولتقُمْ فليصلِّ، قال"؛ أي: ابن سيرين وأبو هريرة: "وكانَ"؛ أي: النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - "يكره الغُلَّ في النوم"؛ لأنَّه كُفْرٌ لقوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} [المائدة: 64]، {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ

أَغْلَالًا} [يس: 8] وقد يكونُ بُخلاً لقوله تعالى: {وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29] وقد يكون كفًّا عن المعاصي بأنَّ يراه الصالح. وقيل: ضمير (قال) يعود إلى أيوب، وهو الذي يَروي عن ابن سيرين - رضي الله تعالى عنه - كان يعودُ إلى ابن سيرين، أو في (قال) ضمير ابن سيرين، وفي (كان) ضمير أبي هريرة، وإنَّما يكره الغُلَّ؛ لأنَّه تقييدُ العُنُقِ وتثقيلُه، وذلك يكونُ بتحمُّلِ الدِّيون، أو المظالم، أو كونهِ محكوماً ورقيقاً متعلِّقاً بشيء، أو لأنَّه في حقِّ الكُفار في النَّار. "ويُعجبُه القَيْدُ"؛ أي: يحبُّ القَيْد. "ويقال: القيدُ ثباتٌ في الدِّين"؛ يمنعه صاحبُه عن النُّهوض والتقلُّب، فهو كالوَرَعِ المانعِ صاحبَه عمَّا لا يوافِقُ الدِّين، وهذا إذا كان مقيَّداً في مسجدٍ أو في سبيلٍ من سُبُل الخير، أو عملٍ من أعمال البرِّ، فإنْ رآه مسافِراً فهو إقامةٌ عن السَّفَر. "وأدرجَ بعضُهم الكُلَّ في الحديثِ"، قال أبو عبد الله الثَّقفيُّ: عن أيوبَ السِّجستاني عن محمدِ بن سيرينَ: إنَّ الرؤيا ثلاثة. . . إلخ، من جملة الحديثِ لا مِن قولِ محمد بن سيرين. * * * 3567 - عَنْ جَابرٍ قال: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقَالَ: رأيتُ في المَنامِ كَأنَّ رأْسِي قُطِعَ، قال: فضحِكَ النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وقال: "إذا لَعِبَ الشَّيطَانُ بأحدِكمُ في مَنامِه فلا يُحدِّثْ به النَّاسَ". "عن جابرٍ - رضي الله عنه - أنه قال: جاءَ رجل إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: رأيتُ في المنامِ كأنَّ رأسي قُطِعَ، قال"؛ أي: جابر: "فضَحِكَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقال: إذا لعبَ الشيطانُ

بأحدِكم في منامهِ فلا يحدِّثْ به النَّاسَ". * * * 3568 - وعَنْ أنسٍ - رضي الله عنه - قَال: قالَ رَسُولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "رَأَيْتُ ذاتَ ليلَةٍ فِيْمَا يرَى النَّائمُ كأنَّا في دَارِ عُقبةَ بن رافِعٍ، فأُتِيْنا برُطَبٍ مِن رُطَبِ ابن طَابٍ، فأَوَّلتُ أنَّ الرِّفعةَ لنا في الدُّنيا، والعَاقِبةَ في الآخِرَةِ، وأَنَّ دينَنَا قَدْ طَابَ". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: رأيتُ ذاتَ ليلةٍ"، (ذات) زائدة. "فيما يَرى النائمُ كأنَّا في دار عُقبَة بن رِافع فأُتينا"، عليّ بناء المجهول. "بُرطَبٍ مِن رُطَب ابن طَابٍ" رجلِ من أهل المدينة يُنْسَب إليه الرُّطَب والتَّمر. "فأَوَّلْتُ أنَّ الرفعةَ لنا في الدُّنيا والعاقبةَ في الآخرة، وأنَّ دينَنا قد طابَ"؛ أي: كَملَ وحَسُنَ وزالَ المَكَارِه، أخذَ - صَلَّى الله عليه وسلم - الرفعةَ من لفظ (رافع)، والعاقبة من لفظ (عُقْبة)، والباقي من لفظ (طاب)، وفيه إشارةٌ إلى أن تعبيرَ الرؤيا قد يؤخَذ من حروف كلماتِه ودلالةِ اشتقاقِها. * * * 3569 - عَنْ عبدِ الله بن عُمرَ - رضي الله عنه -، في رُؤْيَا النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في المَدِيْنَةِ: "رَأَيْتُ امْرَأة سَوداءَ ثائِرةَ الرأسِ، خرجَتْ مِن المَدينةِ حتَّى نزلَتْ مَهْيَعَةَ، فتأَوَّلْتُها: أنَّ وَبَاءَ المَدينةِ نُقِلَ إلى مَهْيَعةَ، وَهِي الجُحْفَةُ". "عن عبد الله بن عمرَ - رضي الله عنهما - في رؤيا النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في المدينة"؛ أي: في حقِّها. "رأيتُ امرأةً سوداءَ ثائرةَ الرأسِ"؛ أي: منتشِراً شعرُه.

"خرجتْ من المدينة حتى نزلتْ مَهْيَعة"، بفتح الميم والياء. "فَأَّوَّلتُها أن وباءَ المدينةِ نقُلَ إلى مَهْيَعَة، وهي الجُحْفَة"، ميقاتُ أهلِ الشام، وهو موضعٌ شديدُ الوَخَامة. * * * 3570 - وعَنْ أبي مُوسَى - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قَال: "رأيتُ في المَنامِ أنِّي أُهاجِرُ مِن مكَّةَ إلى أرضٍ بها نَخْل، فذهبَ وَهَلي إلى أنَّها اليَمامةُ، أو هَجَر، فإذا هِيَ المَدِينةُ يَثْرِبُ، ورأيتُ في رُؤيَايَ هذه أنِّي هَزَزْتُ سَيْفاً فانقَطَعَ صَدْرُهُ، فإذا هُوَ ما أُصِيْبَ مِن المُؤْمِنينَ يَومَ أُحُدٍ، ثُمَّ هَزَزْتُه أُخرَى فَعَادَ أَحْسَنَ مَا كَانَ، فإذا هُوَ مَا جاءَ الله بهِ مِن الفَتْح واجتِمَاعِ المُؤْمنينَ". "عن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: رأيتُ في المنامِ أنِّي أهاجِرُ من مكةَ إلى أرضٍ بها نخلٌ، فذهبَ وَهْلي"، بفتح الواو وسكون الهاء؛ أي: وَهْمي. "إلى أنها اليمامُة أو هَجَر" بفتح الهاء والجيم، وهما بلدتان معروفتان. "فإذا هي المدينةُ "يَثْرِب": عطف بيانِ للمدينة. "ورأيتُ في رؤيايَ هذه أني هَزَزْتُ"؛ أي: حَرَّكْتُ "سيفاً فانقطعَ صَدْرُه"؛ أي: صدْرُ السَّيف. "فإذا هو ما أُصِيبَ من المؤمنين"؛ بيانٌ للموصول. "يومَ أُحُد"، إنما أَوَّلَ - صَلَّى الله عليه وسلم - السيفَ بالمؤمنين؛ لأنهم أنصارُه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يصولُ بهم كما يصولُ الرجلُ بسيفهِ، وأَوَّلَ انقطاعَ صَدْرِه بما استشهدَ يومَ أُحُدٍ معظَمُ عَسْكَرِه كحمزة وغيرِه الذين كانوا كالصَّدْر في جيشِه، وهَزُّه - صلى الله عليه وسلم - هو حَثُّهم على الجهاد. "ثم هَزَزْتُه أُخْرَى"، وفيه إشارةٌ إلى أنه - صلى الله عليه وسلم - حملَهم على الجِهَاد على ذلك

اليومِ مَرَّةَ أُخْرَى. "فعادَ"؛ أي: السيفُ "أحسنَ ما كانَ، فإذا هو ما جاءَ الله به من الفَتْح واجتماعِ المؤمنين". * * * 3571 - وعَنْ أبي هُريْرةَ - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتيْتُ بخزائِنِ الأَرْضِ، فوُضعَ في كَفِّي سِوارَانِ مِن ذَهَبٍ فكبُرا عَلَيَّ، فأُوحِيَ إِليَّ: أن انفُخْهُما، فَنَفَخْتُهُما فذَهَبا، فأَوَّلتُهُما الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَنَا بينَهمَا: صَاحِبَ صَنعاءَ، وصَاحِبَ اليَمامةِ". وفي رِوايةٍ: "يُقالُ لأَحدِهِما: مُسَيْلمةُ صَاحِبُ اليمامةِ، والعَنْسيُّ صَاحِبُ صَنعاءَ". "عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى - صلى الله عليه وسلم -: بينا أنا نائمٌ أُتِيتُ"، على بناء المَجْهول. "بخزائنِ الأرضِ"؛ يعني أتاني المَلَكُ بمفاتيحِ خَزَائِنِ الأرضِ، وقيل: أُتَي بالخزائنِ حقيقة إشارة إلى تملُّك أمتهِ عليها بفتح البلادِ عُنوةً ودعوةً. "فُوضعَ"؛ أي: مِن خزائنِ الأرض "في كَفِّي سِواران من ذهبٍ فكَبُرَا"؛ أي: ثَقُلا "عليَّ"؛ لكراهةِ نفسي إياهما. "فأُوحِيَ إلي أن انفُخْهما"، (أن) هذه مفسِّرة لتضمُّنِ (أوحي) معنى القول، وفيه إرشاد إلى سهولةِ أمرِهما وذهابهمِا بأدْنىَ سَعْي. "فنفخْتُهما فذهبَا، فأوَّلْتُهما الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنا بينَهما؛ صاحبُ صنعاء" وهو الأسودُ العَنْسِي، "وصاحبُ اليَمامة" مُسَيلَمةُ الكَّذاب، رجلان ادَّعيا النبوةَ في عهدِ رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وجهُ تأويلهِما بالكَذَّابَين أن السِّوَارَين كالقَيْد لليدِ يمنُعها عن البَطْشِ، فكذا الكَذَّابان يقومان بمعارضةِ شريعتهِ ويصُدَّان عن نفاذِ أمرِها، أمَّا

الأسودُ العَنْسي فقد قتلَه فيروز الدَّيْلَمي في مَرَضِ وفاةِ النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فلمَّا بلغَه خبرُ قتلِه قال: فازَ فيروزُ، وأمَّا مُسيلمةُ فقد قتلَه الوحشيُّ قاتلُ حمزةَ في خلافةِ الصِّديق، فلمَّا قتلَه قال: قتلتُ خيرَ النَّاسِ في الجاهلية وشَرَّ النَّاسِ في إسلامي. "وفي رواية قال: أحدُهما: مُسَيلَمةُ صاحبُ اليمامة، والعَنْسِيُّ صاحبُ صنعاء": بلدة باليمن. * * * 3572 - وقالت أمُّ العَلاءَ الأنصاريَّةُ: رأيتُ لِعثُمانَ بن مَظْعُونٍ - رضي الله عنه - في النَّومِ عَيْناً تَجرِي، فقَصَصْتُها على رَسُولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "ذاكَ عَمَلُه يُجْرَى لهُ". "وقالت أمُّ العلاءَ الأنصاريةُ: رأيتُ لعثمانَ بن مظعون"، بفتح الميم وسكون الظاء المعجمة. "في النوم عيناً تَجْرِي"، وكانت هذه الرؤيا بعد وفاةِ عثمان. "فقصَصْتُها على رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، فقال: ذاك عملُه يُجْرَى له"، عبَّرَ - صلى الله عليه وسلم - العينَ الجاريةَ له بأعمالهِ الصالحةِ التي يَصِلُ ثوابهُا إليه. * * * 3573 - عن سَمُرَةَ بن جُنْدبٍ - رضي الله عنه - قَال: "كَانَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا صَلَّى أقبلَ علينا بوجْهِهِ فَقَال: "مَن رَأَى مِنْكُم اللَّيلةَ رؤيا؟ " قال: فإِنْ رَأَى أحدٌ قَصَّها، فيقولُ: "ما شاءَ الله! " فسألنا يَوْماً فقال: "هل رَأَى منكُم أَحَدٌ رؤيا؟ " قُلْنَا: لا، قال: "لكنِّي رأيتُ الليلةَ رَجُلَيْنِ أتَياني، فأَخَذا بيدَيَّ فأَخْرجاني إلى أرْضٍ مُقدَّسةٍ، فإذا رَجُلٌ جَالِسٌ، ورَجُلٌ قائمٌ بيدِهِ كلُّوب مِن حَديدٍ، يُدْخِلُه في شِدْقِه فيُشقَّه حتَّى يبلُغَ قَفاهُ، ثم يفعَلُ بشِدْقِه الآخرِ مِثلَ ذلكَ، ويَلتئمُ شِدْقُه هذا،

فيعَودُ فيصْنَعُ مِثلَه، قُلْتُ: ما هذا؟ قالا: انطلِقْ، فانطلَقْنا حتَّى أتيْنا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجعٍ على قفَاهُ، ورَجُلٌ قائمٌ على رأسِهِ بِفِهْرٍ أو صَخْرةٍ يشْدَخُ بِهِ رأسَهُ، فإذا ضَرَبَه تَدَهْدَهَ الحَجرُ، فَانطَلقَ إليهِ لِيأْخُذَه، فلا يرجِعُ إلى هَذا حتَّى يلْتَئِمَ رأسُهُ، وعَادَ رأسُهُ كَمَا كَانَ، فعادَ إليهِ فضرَبَه، فقلْتُ: ما هذا؟ قالا: انطلِقْ، فانطلَقْنا حتَّى أتيْنا إلَى نَقْبٍ مِثلِ التَّنُّورِ، أَعْلاهُ ضَيقٌ وأسفَلُه واسِعٌ، تتوقَّدُ تحتَه نارٌ، فإذا اتَّقدَتْ ارتفعُوا حتَّى يَكادوا يَخرُجُونَ منها، فإذا خَمَدَتْ رجَعُوا فيها، وفيها رِجَالٌ ونسَاءٌ عُراةٌ، فَقُلتُ: ما هذا؟ قَالا: انطلِقْ، فانْطَلَقْنا حتَّى أتيْنا على نَهرٍ مِن دَمٍ، فيهِ رَجُل قائمٌ، وعلى شَطِّ النَّهرِ رَجُل بَيْنَ يَدَيهِ حِجارَةٌ، فأقبلَ الرَّجُلُ الذي في النَّهرِ، فإذا أرادَ أنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلَ بحَجَرٍ في فِيْهِ، فردَّه حيثُ كان، فجعَلَ كُلَّما جَاءَ ليخرُجَ رَمَى في فِيْهِ بحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَان، فَقُلتُ: مَا هذا؟ قَالا: انْطَلقْ، فانطلَقْنا حتَّى انتهَيْنا إلى رَوضةٍ خَضراءَ فيها شَجرةٌ عظيمةٌ، وفي أَصْلِها شَيْخٌ وصِبْيانٌ، وإذا رَجُل قريبٌ مِن الشَّجَرةِ بَيْنَ يَدَيهِ نارٌ يوقدُها، فصَعَدا بيَ الشَّجَرةَ فأَدخَلاني دارًا أَوْسَطَ الشَّجرةِ لم أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ منها، فيها رِجَالٌ شُيوخٌ وشُبَّانٌ ونِساءٌ وصِبيَانٌ، ثم أخرَجاني منها فصَعَدا بيَ الشَّجرةَ، فأدخلاني دارًا هي أفضلُ وأحسنُ، فيها شُيوخٌ وشبَّانٌ، فقلتُ لهما: إنَّكما قد طَوَّفتُمانِي اللَّيلةَ فأخبراني عمَّا رأيتُ، قالا: نعم، أمَّا الّذي رأيتَه يُشَقُّ شِدقُه فكذَّابٌ يُحدث بالْكَذْبَةِ فتُحْمَلُ عَنْهُ حتَّى تَبْلُغَ الآفاقَ، فيُصنَعُ بهِ ما تَرَى إلى يومِ القيامةِ، والَّذي رأيتَه يُشدَخُ رأسُه فرجلٌ علَّمَه الله القُرآنَ، فنامَ عنه بالليلِ ولم يعملْ بما فيه بالنَّهارِ، يُفعَلُ بهِ مَا رأيتَ إلى يومِ القيامةِ، والذي رأيتَه في النَّقْبِ فهم الزُّناةُ، والذي رأيتَهُ في النَّهرِ آكلُ الرِّبا، والشَّيخُ الَّذي رأيتَه في أصلِ الشَّجرةِ إبراهيمُ عليه السَّلامُ والصِّبيانُ حَوْلَه فأولادُ النَّاسِ، والَّذي يوقِدُ النَّارَ مالِكٌ

خازِنُ النَّارِ، والدَّارُ الأُولَى التي دَخْلَتَ دارُ عامَّةِ المؤمنينَ، وأمَّا هذه الدَّارُ فدارُ الشُّهداءِ، وأَنَا جِبْريلُ، وهذا مِيْكائِيْلُ، فارفعْ رأسَكَ، فرفعْتُ رأسي فإذا فوقي مثلُ السَّحاب - وفي رِوَايةٍ: مثلُ الرَّبابةِ البَيْضَاءِ - قالا: ذاكَ منزلُكَ، قلتُ: دَعاني أَدْخُلْ منزِلي، قالا: إِنَّه بَقِيَ لكَ عُمُرٌ لَمْ تَستكمِلْهُ فلو استكمَلْتَهُ أتيتَ منْزِلَك". "عن سَمُرَة بن جُنْدَب أنه قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صَلَّى"؛ أي: صلاةَ الصُّبْحِ وفرغَ من أورادهِ. "أقبلَ علينا بوجههِ فقال: مَن رأى منكم الليلةَ رؤيا؟ ": على وزن فُعلَى بلا تنوين. "قال"؛ أي: الراوي: "فإنَّ رأَى أحدٌ قَصَّها"؛ أي: أخبرَ بتلك الرؤيا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. "فيقول"؛ أي: النبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في تعبيره "ما شاء الله"؛ أي: ما يُلْهِمُه الله تعالى على قَلْبه، ويُجْرِي على لسانه. "فسألَنا"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "يومًا فقال: هل رأى منكم أحدٌ رؤيا؟ قلنا: لا، قال: لكنِّي رأيتُ الليلةَ رَجْلَين أتَياني فأخَذَا بيدِي فأخْرَجَاني إلى أرضٍ مُقدَّسة"؛ أي: مطهَّرة مطيبَّة، وهي الشَّام. "فإذا رجل جالسٌ، ورجل قائمٌ بيدِه كَلُّوب" بفتح الكاف وتشديد اللام المضمومة: حديد معوجَّةُ الرأسِ. "من حديدٍ، يُدْخِلُه في شِدْقَهِ" بكسر الشين المعجمة وسكون الدال المهملة، وهو طرفُ شفتيه من جانبِ الأُذُن. "فيشقُّه حتَّى يبلغَ قفاه، ثم يفعلُ بشِدْقِه الآخرِ مثلَ ذلك، ويلتَئِمُ شِدْقُه هذا"؛ أي: يبَرأ شِدْقُه المشقوقُ.

"فيعودُ فيَصْنَعُ مِثلَه، فقلتُ: ما هذا؟ قالا: انطِلْق"؛ أي: اذهبْ. "فانطلْقنا حتَّى أتيْنا على رجلٍ مضطجعٍ على قَفَاه ورجلٍ قائمٍ على رأسِه بِفِهْر": بكسر الفاء، وهو الحَجَر مِلْء الكَفِّ. "أو صخرةٍ"، شكٌّ من الراوي. "يَشْدَخُ" بالشين والخاء المعجمتين وبفتح الدال المهملة؛ أي: يَكْسِرُ "به رأسَه، فإذا ضربَه تَدَهْدَهَ الحَجَرُ"؛ أي: تَدَحْرَجَ. "فانطلقَ إليه"؛ أي: الرجلُ إلى ذلك الحَجَر. "ليأخذَه فلا يرجِعُ إلى هذا"؛ أي: ذلك الرجلُ إلى هذا المَشْدُوخ. "حتَّى يلتَئِمَ رأسُه، وعادَ رأسُه كما كان"، هذه الجملةُ تأكيدٌ لمَا قبلَها. "فعادَ إليه فضربَه، فقلتُ: ما هذا؟ قالا: انطلِقْ فانطلَقْنا حتَّى أتينْا إلى نَقْبٍ"؛ أي: ثُقْبَة "مثلِ التَّنُّور، أعلاه ضَيقٌ وأسفلُه واسعٌ، تتوقَّدُ تحته نارٌ فإذا اتَّقدَتِ"؛ أي: اشتعلتْ النارُ "ارتفعُوا"؛ أي: النَّاسُ الذين في النَّقْب. "حتَّى يكادُوا يخرجون منها فإذا خَمدَتْ" بفتح الخاء المعجمة والميم؛ أي: سكنَ لَهبُها. "رجَعُوا فيها، وفيها رجالٌ ونساءٌ عراةٌ، فقلت: ما هذا؟ قالا: انطلِقْ فانطلَقْنا حتَّى أتيْنا على نهرٍ من دَمٍ فيه رجل قائمٌ، وعلي شَطِّ النَّهْرِ"؛ أي: طرفه "رجلٌ بين يديه حجارةٌ، فأقبلَ الرَّجُلُ الذي في النهر فإذا أرادَ أن يَخْرُجَ رمى الرجلَ بحجَرٍ في فيه فردَّه حيث كان، فجعلَ كما جاءَ ليخرُجَ رمى في فيه بحجرٍ فيرجِعُ كما كان، فقلتُ: ما هذا؟ قالا: انطلِقْ، فانطلقْنا حتَّى أتينا إلى روضةٍ خضراءَ فيها شجرةٌ عظيمة، وفي أصلِها شيخٌ وصِبيان، فإذا رجلٌ قريبٌ من الشجرة وبين يديه نارٌ يوقدُها، فصعدَا بي الشجرة"؛ أي: رفعاني على الشجرة.

"فأدْخَلاني دارًا" وسطَ الشَّجَرة "لم أرَ قطُّ أحسنَ منها، فيها رجالٌ وشيوخ وشُبَّانٌ" بضم الشين وتشديد الباء: جمع شاب. "ونساءٌ وصِبْيان، ثم أَخْرَجَاني منها فصعدَا بي الشَّجرةَ فأَدْخَلاَني دارًا هي أحسنُ وأفْضَلُ" من الدار الأولى. "وفيها شيوخٌ وشبانٌ، فقلتُ لهما: قد طَوَّفتُماني الليلةَ، فأخبرَاني عما رأيت؟ قالا: نعَم، أمَّا الرجلُ الذي رأيتَه يَشُقُّ شِدْقَه فكذَّابٌ يحدِّث بالكِذْبَة يتحمَّل"؛ أي: ينقُلُ تلك الكِذْبةَ "حتَّى تبلغَ الآفاقَ، فيُصْنَعُ به ما تَرى إلى يومِ القيامةِ، والذي رأيتَه يَشدَخُ رأسه فرجلٌ علَّمه الله القرآنَ، فنام عنه باللَّيل"؛ أي: لم يكنْ يَقْرَأ القرآنَ بالليل، "ولم يعملْ بما فيه بالنهار، يُفعلُ به ما رأيتَ إلى يوم القيامة، والذي رأيتَه في النَّقْبِ فهم الزُّنَاة، والذي رأيتَه في النَّهْرِ آكلُ الرِّبا، والشيخُ الذي رأيتَه في أصْلِ الشجرة إبراهيمُ، والصِّبْيانُ حولَه فأولادُ النَّاسِ، والذي يوقِدُ النَّارَ مالِكٌ خازِنُ النَّار، والدارُ الأُولى التي دخلتَ دارُ عامَّةِ المؤمنين، وأمَّا هذه الدارُ فدارُ الشهداءِ، وأنا جبريل، وهذا ميكائيل فارفَعْ رأسك، فرفعتُ رأسي فإذا فوقي مِثلُ السَّحاب، وفي رواية مثل الرَّبَابة"؛ وهي - بفتح الراء وبالباء الخفيفة: - السحابةُ التي رَكِبَ بعضُها بعضاً. "البيضاءَ، قالا: ذلك منزِلُكَ، قلت: دَعاني"؛ أي: اتركاني "أدخلْ منزلي، قالا: إنه قد بقيَ لك عُمْرٌ لم تستكمِلْه، فلو استكملْتَه أتيتَ منزِلَك". وفي الحديثِ استحبابُ السؤالِ عن الرؤيا، والمبادَرةُ إلى تعجيل تأويلِها أولَ النهار قبلَ أن يشتغِلَ الذِّهْنُ في معايشِ الدُّنيا. * * *

مِنَ الحِسَان: 3574 - عن أبي رَزينٍ العُقَيْلِيِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "رُؤيا المؤمن جُزءٌ مِن سِتةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزءاً مِن النَّبوُّةِ، وهي على رِجْلِ طائرٍ ما لم يُحدَّثْ بها، فإذا حدَّثَ بها وقعَتْ - وأَحْسِبُه قال: - لا يُحدِّثُ إلَّا حَبيباً أو لَبيْباً". وفي رِوَايةٍ: "الرُّؤيا على رِجْلِ طَائرٍ ما لم تُعَبَّرْ، فإذا عُبرت وقعَتْ، - أَحْسِبُه قال: - ولا تَقُصَّها إلَّا على وادٍّ أو ذيْ رَأْيٍ". "من الحسان": " عن أبي رزِينٍ" بفتح الراء، "العُقَيلِيِّ" بضم العين. "قال: قال رسولُ الله - صلَّى الله تعالى عليه وسلم: رؤيا المؤمنِ جُزءٌ من ستةٍ وأربعين جزءًا من النبوة، وهي"؛ أي: الرؤيا. "على رِجْلِ طائرٍ"، هذا مَثَلٌ في عدَم قِرارِ الشيءِ؛ أي: لا تستقِرُّ الرؤيا قرارَها كالشَّيء المعلَّقِ على رِجْل طائرٍ. "ما لم يحدَّثْ بها، فإذا حُدِّثَ بها وقعتْ" على وفق ما يسوقُه التقديرُ إليك من التعبير. "وأحسَبُه"؛ من كلام الراوي؛ أي: أظنه "قال"؛ أي: النبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا يحدِّث إلَّا حَبيباً أو لبيباً"؛ أي: عاقلاً. "وفي رواية: الرؤيا على رِجْلِ طائرٍ ما لم تُعبَّر"، عليّ بناء المجهول؛ أي: لم تفسَّر. "فإذا عُبرَتْ وَقَعَتْ أحسَبُه، قال: ولا تقصَّها إلَّا على وادٍّ" بتشديد الدال؛ أي: مُحِبٍّ؛ لأنَّه لا يستقبلُك في تعبيرِها إلَّا بما يُحِبُّ، ولم يعجِّلْ

لك بما لا يَعْلَم. "أو ذي رَأْيٍ"؛ أي: ذي عِلْمٍ؛ لأنَّه يُخبرُك بحقيقةِ تفسيرِها، أو بأقربِ ما يُعلَم منها. * * * 3575 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن وَرَقَةَ، فقالَت لهُ خَدِيْجةُ: إنَّه كَانَ صَدَّقَكَ، ولكنْ مَاتَ قبلَ أنْ تظهرَ، فقالَ رَسُولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "أُرِيتُهُ في المَنامِ وعَلَيْهِ ثيابٌ بيضٌ، ولو كَانَ مِن أهلِ النَّارِ لكانَ عليهِ لِباسٌ غيرُ ذلكَ". "عن عائشةَ أنها قالتْ: سُئِلَ رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - عن ورقَة" بن نوفل: هو من أهل النَّار أم لا؟، وسيأتي قصتُه في (باب البعث). "فقالت له"؛ أي: للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - "خديجةُ: إنه كان صدَّقَك"؛ أي: في نبوَّتِك. "ولكنْ ماتَ قبل أن تَظْهَرَ"؛ أي: قبل ظهورِ صِيتِ نبوَّتِك. "فقال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: أُريتُه في المنام وعليه ثيابٌ بيضٌ، ولو كانَ من أهلِ النَّارِ لكانَ عليه لباسٌ غيرُ ذلك"، عبَّر - صَلَّى الله عليه وسلم - الثيابَ البيضَ عليه بدِينه، وهذا يدلُّ على أنها مِن لباسِ أهلِ الجَنَّة وأهلِ الخَيْر. * * * 3576 - عن أبي بَكْرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَال ذاتَ يَوْمٍ: "مَن رَأَى مِنْكُم رُؤيا؟ " فقال رَجُل: أنا رَأَيْتُ كأنَّ ميْزَاناً نزلَ مِن السَّماءَ، فوُزنْتَ أَنْتَ وأبو بَكْرٍ فرجَحْتَ أَنْتَ بأبي بَكرٍ، ووُزِنَ أبو بَكْرٍ وعُمَرُ فرجَحَ أبو بَكْرٍ، ووُزِنَ عُمرُ وعُثْمَانُ فرجَحَ عُمرُ، ثم رُفع الميزانُ، فرأيتُ الكَراهيةَ في وَجْهِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. ورُويَ: أنَّ خُزيمةَ بن ثابتٍ رَأَى فيما يَرَى النَّائمُ أنَّه سَجدَ على جَبْهةِ

النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرَهُ، فاضطَجَعَ له وقَال: "صَدِّقْ رؤُياكَ"، فسَجدَ على جبهتِهِ. "عن أبي بَكْرَة - رضي الله تعالى عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال ذاتَ يومٍ: مَن رأى منكم رؤيا؟ فقال رجل: أنا رأيتُ كأنَّ ميزاناً نزلَ من السماءَ فوُزنتَ أنتَ وأبو بكر فرجحتَ أنت بأبي بكر، ووزِنَ أبو بكر وعمُر فرجَح أبو بكر، ووزن عُمَرُ وعثمانُ فرجَح عمر، ثم رُفعَ الميزانُ، فرأيتُ الكراهيةَ في وجهِ رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - "، وإنَّما ظهرتِ الكراهةُ في وجهه - صلى الله عليه وسلم - لِمَّا عرَفَ من تأويلِ رَفْعِ الميزانِ انحطاطَ رتبةِ الأمرِ، وظهورَ الفِتَنِ بعد خلافة عمر - رضي الله عنه -؛ لأنَّ استقرارَ الإسلام في حياته وبعد وفاته إلى زمان عثمانَ - رضي الله عنه - لم تظهرْ الفِتَنُ والاختلافُ بين الصّحابة، ومعنى ترجيح كلِّ واحدٍ من الآخر في الميزان أنَّ الراجِحَ أفضلُ من المَرْجُوح، وإنَّما لم يُوزَنْ عثمانُ وعليٌّ - رضي الله عنهما -؛ لأنَّ خِلافَة عليّ - كرم الله وجهه - تكونُ على اختلاف الصّحابة فِرقَتين: فرقةً معه وفِرقةً مع معاوية، فلا تكونُ خلافتهُ مستقِرَّةً مُتَّفَقاً عليها. "ورويَ أن خُزَيمة بن ثابتٍ رأى فيما يَرى النائمُ أنه سَجدَ على جبهةٍ النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فأخبرَه فاضطجعَ له وقال: صَدِّقْ رؤياك، فسجدَ على جبهته"، وإنَّما أمرَه بالسجود على جبهتهِ لأنَّ فيها تعظيماً للنبي - صَلَّى الله عليه وسلم - كالسجودِ نحوَ الكعبةِ لتعظيمِها، وتعظيُمه - صلى الله عليه وسلم - أفضلُ القُرَب، وفيه تشريفٌ لذلك الساجدِ بوصولِ جبهتهِ إلى جبهةِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * * *

23 - كتاب الأدب

23 - كِتَابُ الأَدَبِ

1 - باب السلام

23 - كِتَابُ الأَدَبِ (كتاب الأدب) 1 - باب السَّلامِ (باب السلام) مِنَ الصِّحَاحِ: 3578 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "خَلَقَ الله آدمَ على صُورتهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِراعاً، فلمَّا خلقَه قالَ: اذهبْ فَسَلِّمْ على أولئكَ النَّفَرِ، وهم نفرٌ مِن الملائكةِ جُلوسٌ، فاستمعْ ما يُحيُّونَكَ فإنَّها تحيَّتُكَ وتحيَّةُ ذُرَّيتِكَ، فذهبَ فقالَ: السَّلامُ عليكم، فقالوا: السلامُ عليكَ ورحمةُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، قَال: فزادُوهُ: "وَرَحْمَةُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، قَال: "فَكُلُّ مَنْ يَدخُلُ الجَنَّةَ على صُوْرَةِ آدمَ، وطولُهُ سِتُّونَ ذراعاً، فَلَمْ يَزَلْ الخَلْقُ ينقُصُ بعَدَهُ حتَّى الآن". "من الصحاح": " عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: خَلَقَ الله آدمَ على صورته"، قيل الضميرُ فيه لآدمَ: لأنَّ ذريتَه خُلِقُوا على سبعةِ أَطْوَار؛ لأنهم كانوا في مبدأ الفطرة نُطْفَةً، ثم عَلَقة، ثم مُضْغَة، ثم صارُوا صُوَراً

أَجِنَّةً إلى تمام مُدَّةِ الحَمْل، فيُوْلَدُون أطفالاً، وينشؤون صغارًا إلى أن يكبروا، فيتمُّ طولِ أجسامهم، وهذا بخلافِ آدمَ، فإنَّ خَلْقَه لم يكن على هذه، بل أَولَ ما تناولته الخِلْقَة وُجِدَ خَلْقاً تاماً. "طولُه سِتُّون ذراعاً"، وقيل: الضميرُ عائدٌ إلى الله تعالى لمَا في رواية أخرى: (خُلِقَ آدمُ على سورة الرَّحمن)، والأَوْلَى أن يحالَ المرادُ منه إلى عِلْمِ الله تعالى كما هو مذهبُ السَّلَف، أو يقال: إن الإضافةَ فيها إلى الله تعالى إضافةُ تكريمٍ وتشريفٍ كخلقه تعالى إياه على سورة لا يشاكِلُها صورةٌ أخرى كَمَالاً وجَمَالاً، ويحتمل أن يكونَ المرادُ من الصورةِ الصفةُ. "فلمَّا خَلقَه قال: اذهبْ فسلِّمْ على أولئك النَّفَر"؛ أي: الجماعة. "وهم نفرّ من الملائكة جلوسٌ"، جمع جالس. "فاستمعْ ما يُحيُّونك"؛ أي: احفَظْ تحيتَهم بك. "فإنَّها تحيتُك وتحيةُ ذُرَّيتِكَ فذهبَ فقال: السلامُ عليكم، فقالوا: السلامُ عليكَ ورحمةُ الله، قال"؛ أي: الراوي: "فزادُوه ورحمةُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -، وهذا يدلُّ على جوازِ الزيادة. قال بعضٌ: يقولُ في الجوابِ أيضًا: السلامُ عليكَ لردِّ الملائكةِ على آدمَ كذلك، والأكثرُ على أنه يقول: وعليكَ السلامُ بتقديم الخطاب، وأمَّا قولهُم. ذلك، فليس جواباً لسلامه بل هو تحيّة له منهم على طريقةِ التعليمِ له. "قال: فكلُّ مَن يَدْخُل الجنةَ على صورةِ آدَم وطولُه ستون ذراعاً، فلم يزلِ الخُلْقُ ينقُصُ بعدَه"؛ أي: طولهُم بعدَ آدم. "حتَّى الآنَ"، بالنصب: ظرفٌ؛ يعني: حتَّى وصلَ النقصانُ إلى الوقتِ الذي ذَكرُ النبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فيه الحديثَ، قيلَ: هذا مقدَّمٌ في التَّرتيب على قوله: (وكلُّ مَن يدخلُ الجَنة). * * *

3579 - عن عبدِ الله بن عمرٍو - رضي الله عنهما -: أنَّ رجلًا سألَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الإسْلامِ خيرٌ؟ قَال: "تُطعِمُ الطَّعامَ، وتَقْرأُ السَّلامَ على مَنْ عَرَفْتَ ومَن لَمْ تعرِفْ". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا سألَ النبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: أيُّ الإسلامِ"؛ أي: خِصالُه المتصِلَةُ بحقوقِ الآدَمِيين "خير؟ قال: تُطْعِمُ الطَّعام، وتقرَأُ السَّلاَم على مَن عرفْتَ ومَن لم تَعْرِف"، ولعلَّ تخصيصَه - صَلَّى الله عليه وسلم - بالخَصْلَتين لِعِلْمهِ بمناسبتهما بحالِ السائلِ، ولذلك أسنَدَهما إليه بلفْظِ الخِطَاب. * * * 3580 - وقَال: "لِلْمُؤْمنِ على المُؤْمنِ ستُّ خِصَالٍ: يَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ، ويَشهدُهُ إِذَا مَاتَ، ويُجيبُهُ إِذَا دَعَاهُ، ويُسَلِّمُ عليه إِذَا لَقِيَه، وَيُشمِّتُه إذَا عَطَسَ، وينصَحُ لَهُ إِذَا غابَ أو شَهِدَ". "وعن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: للمؤمِنِ على المؤمنِ سِتُّ خِصالٍ: يعودُه إذا مَرِضَ، ويشهدُه إذا مات، ويجيبُه إذا دَعاه، ويسلِّمُ عليه إذا لَقِيَه، ويشمِّتُه إذا عَطَس"، تشميتُ العاطِسِ - بالشين المعجمة - دعاءٌ له بالخير، وكلُّ داعٍ بالخير فهو مُشَمِّت. قيل: معناه: أبعدَكَ الله عن الشَّماتة، وجنَّبكَ عما يُشْمَتُ به عليك، وبالسين المهملة أيضًا، قيل: وهي الأصلُ؛ لأنَّه من السَّمْتِ بمعنى القَصْد والهُدَى، وقيل: بمعنى الهيئة الحَسَنة؛ أي: جعلكَ الله على سَمْتٍ حَسَن. "ويَنْصَحُ له إذا غابَ أو شَهِدَ"؛ أي: يراعِي حقَّه بالقَوْل المعروفِ وكَفِّ الأَذَى، وقيل: يريدُ له الخيرَ ويرشِدُه إليه. * * * 3581 - وقال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "لا تدخُلونَ الجَنَّةَ حتَّى تُؤمِنوا،

ولا تُؤمِنونَ حتَّى تحابُّوا، أَوَلا أدُلُّكُم على شَيءٍ إذا فَعْلتُمُوهُ تحابَبْتُم؟ أَفْشُوا السَّلامَ بَينَكم". "وعنه قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - لا تدخلونَ الجنةَ حتَّى تؤمنوا"، فإنَّ الإيمانَ شرطٌ لدخولهِا. "ولا تؤمنون"؛ أي: لا يكمُلُ إيمانكُم ولا يصلُحُ حالُكم في الإيمان. "حتَّى تحابُّوا"؛ أي: يُحِبُّ كلٌّ مِنْكم صاحبَه، ثم عرضَ لهم بما يَدُلُّ على شيءٍ يُوْجِبُ فعله التحابَّ رأفةً على أمته فقال: "أَولا أدُّلكم على شيءٍ إذا فَعَلْتَموه تحاببتم: أَفْشُوا السلامَ"؛ أي: أظهِرُوه وانشُروه "بينكم"؛ فإنَّ السلامَ أولُ أسبابِ التآلفِ، ومفتاحُ استجلابِ المودَّة، وفي إفشائه تمكُّنُ أُلفةِ المسلمين بعضهم لبعضٍ، وإظهارُ شعارِهم المميزِ لهم عن غيرهم من أهل الملل. * * * 3582 - وقال: "يُسلِّم الرَّاكِبُ على المَاشِيْ، والمَاشِي على القَاِعدِ، والقَليلُ على الكَثيرِ". "وعنه قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ على الماشي، والماشي على القاعد": إزالةً للخَوْف، أو لأنَ ذلك أَقْرَبُ إلى التواضع. "والقليلُ على الكَثِير"؛ رعايةً للأدب؛ لأنَّ التعظيمَ من القليل إلى الكثير. * * * 3583 - وقال: "يُسلِّمُ الصَّغِيرُ على الكَبيرِ، والمَارُّ على القَاعِدِ، والقَلِيلُ على الكَثِيرِ".

"وعنه قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: يسلِّمُ الصغيرُ على الكَبير"؛ للتواضع والتعظيم. "والمارُّ على القاعد، والقليلُ على الكثير". * * * 3584 - وقال أَنسٌ: إنَّ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مَرَّ على غِلْمَانٍ فَسَلَّم عَلَيْهِم. "وقال أنسٌ: إنَّ رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مرَّ على غِلمانٍ فسلَّم عليهم" للتواضع. * * * 3585 - وقال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَبدؤوا اليَهُودَ والنَّصَارَى بالسَّلامِ، فإذا لَقِيتُمْ أحدَهُم في طَرِيقٍ فاضطرُّوهُ إلى أَضْيقِهِ". "وعن ابن عمَر قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: لا تبدَؤُوا اليهودَ والنَّصَارَى بالسلام"؛ لأنَّ الابتداءَ بالسلام إعزازٌ للمسلَّم عليه، وهؤلاءِ المَخْذُولون لا يجوزُ إعزازُهم. "فإذا لقيتُم أحدَهم في طريقٍ فاضطرُّوه إلى أَضْيَقهِ"؛ أي: مُروه ليعدِلَ عن وسطِ الطريق إلى أحدِ طَرَفَيه. * * * 3586 - وقال: "إذا سلَّم عليْكُم اليَهُودُ فإِنَّما يقولُ أَحَدُهُم: السَّامُ عَلَيْكَ، فقُلْ: عَلَيْكَ". "وعنه قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: إذا سلَّم عليكم اليهودُ فإنَّما يقول أحدُهم: السَّامُ عليكَ"، والسَّامُ الموتُ. "فقل: عليك". * * *

3587 - وقال: "إذا سَلَّمَ عَلْيُكم أَهْلُ الكِتابِ فقوْلُوا: وعليكُم". "وعن أنس قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: إذا سَلَّم عليكم أهلُ الكتابِ فقولُوا: وعليكُم"، قال الخَطَّابي: هكذا يرويه عامةُ المحدِّثين، وكان ابن عُييَنة يَروي بحذف الواو، وهو الصواب؛ ليصيرَ قولهُم بعينهِ مردودًا عليهم، وبالواو يقع التَّشْرِيك معهم في قولهم، حتَّى قال بعضٌ: لو سَلَّم مُسْلِم على مثلهِ أُجيبَ بالواو المشترِكة. * * * 3588 - وعن عَائِشةَ رَضيَ الله عنها قالَتْ: اسْتَأذَنَ رَهْطٌ مِنَ اليَهوُدِ على النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فقالوا: السَّامُ عَلَيْكُم، فقلتُ: بَلْ عَلَيْكُم السَّامُ واللَّعْنَةُ، فقال: "يا عَائِشَةُ! إنّ اللهَ رَفِيْقٌ يُحبُّ الرّفقَ في الأَمرِ كُلِّه"، قُلْتُ: أَوَ لَمْ تَسْمَعْ ما قالوا؟ قال: "قَد قُلتُ: وعليكم". وفي رواية قال: "مَهْلاً، يا عَائِشَةُ! عَلَيْكِ بالرِّفقِ، وإياكِ والعُنفَ والفُحْشَ، فإنَّ الله لا يُحبُّ الفُحْشَ والنتَّفحُّشَ". وفي رِوَايَةٍ: "لا تكوني فاحِشَةً"، قالت: أَوَلَمْ تَسْمَعْ ما قالوا؟ قالَ: "رَدَدتُ عَلَيْهِم فيُستَجَابُ لِي فِيْهِم، ولا يُستَجابُ لَهُمْ فِيَّ". "وعن عائشةَ - رضي الله عنها - أنها قالت: استأذنَ رَهْط من اليهودِ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالوا السَّام عليكَ، فقلت: بل عليكم السَّامُ واللَّعْنَةُ، فقال: يا عائشةُ! إنَّ الله رفيق"؛ أي: رحيمٌ، وهو من الرِّفق ضد العُنْف. "يحبُّ الرِّفْقَ في الأمرِ كلِّه، قلت: أولم تسمَع ما قالوا؟ قال: قد قلتُ: وعليكُم، وفي رواية: قال: مَهْلاً"، منصوب على المصدر؟ إذًا: ارفُقِي رِفْقاً. "يا عائشة! عليكَ بالرِّفْقِ، وإياكِ والعنف والفحشَ"، وهو في الأصلِ كلُّ

ما يشتدُّ قبحُه من الذنوب، والمرادُ به هنا التعدِّي بزيادةِ القُبْحِ في القولِ والجواب. "فإنَّ الله لا يُحِبُّ الفُحْشَ والتَّفَحُّشَ"، وهو التكلُّفُ في التلفُّظِ بالفُحْشِ، قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة ذلك لمكان قولهِا واللَّعْنَة. "وفي رواية: لا تَكُوني فاحشةً"؛ أي: متكلُمَة بكلامٍ قبيحِ. "قالت: أولم تسمَع ما قالوا؟ قال: رددتُ عليهم فيستجابُ لي فيهم، ولا يُستجابُ لهم فيَّ". * * * 3589 - عن أُسَامةَ بن زيدٍ: أنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مَرَّ بمجلِسٍ فِيْهِ أَخْلاَطٌ مِن المُسلِمِينَ والمُشرِكينَ عَبَدَةِ الأوْثَانِ واليَهودِ، فَسَلَّم عليهم. "عن أسامَة بن زيدٍ: أن رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - مرَّ بمجلسٍ فيه أَخْلاَطٌ"، بفتح الهمزة: جمعُ خِلْط؛ وهو ما يُخْلَط. "من المُسْلِمين والمشركين عَبَدَةِ الأوثان"، عطف بيان مِن (المشركين) أو بدل. "واليهودِ، فسلَّم عليهم"، وهذا يدلُّ على جواز السلامِ على الكُفَّار إذا كان بينهم مُسْلِمٌ بنيَّة السلامِ على المُسْلِم. * * * 3590 - عن أبي سَعِيْدٍ الخُدرِيِّ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إيَّاكُم والجُلُوسَ في الطُّرقَاتِ"، فَقَالُوا: يا رسولَ الله! ما لَنا مِنْ مَجَالِسِنا بُدٌ، نتَحدَّثُ فيها، قالَ: "فإذا أبَيْتُم إِلاَّ المَجْلِسَ فأَعطُوا الطَريْقَ حقَّهُ"، قالوا: وما حَقُّ الطَّرِيْقِ يا رسولَ الله؟

قالَ: "غَضُّ البَصَرِ، وكَفُّ الأَذَىَ، ورَدُّ السَّلاَمِ، والأَمرُ بالمَعْرُوْفِ، والنَّهيُ عن المُنكرِ". ورَوَى أبو هُريْرَةَ - رضي الله عنه - في هذه القِصَّة: "وإِرْشَادُ السَّبيلِ". ورَوَاهُ عُمَرُ - رضي الله عنه -، وفيه: "وتُغيثْوُا المَلهُوفَ، وتَهدُوا الضَّالَ". "عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: إياكم والجلوسَ بالطُّرَقاتِ": الباء بمعنى (في)؛ يعني: احذروا عن الجلوسِ في الطرقات. "فقالوا: يا رسولَ الله! ما لنا من مجالسنا بُدٌّ"؛ أي: لا بُدٌّ لنا من الجلوس في الطرقات "نتحدَّثُ فيها، قال: فإذا أبيتُم إلَّا المَجْلِسَ"؛ أي: فإنَّ لم تتركوا المَجْلِسَ في الطرقات وجَلَسْتُم فيها. "فأعْطُوا الطريقَ حقَّه؟ قالوا: وما حقُّ الطريقِ يا رسول الله؟ قال: غَضُّ البَصَر" عن النظر إلى المُحَّرَمات. "وكفُّ الأذى، وردُّ السلام، والأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المُنْكَر". "وروى أبو هريرةَ في هذه القصة: وإرشادُ السَّبيل، ورواه عمر، وفيه"؛ أي: في مَرْوِيِّ عُمَرَ: "وتُغِيثُوا المَلْهُوفَ"؛ أي: تُعِينُوا المتحيرَ المَظْلُوم في أمره. "وتُهْدُوا الضَّالَّ". * * * مِنَ الحِسَان: 3591 - عن عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "للمُسْلِم على المُسْلِم سِتٌ بالمَعْرُوفِ: يُسلِّمُ عَلَيْهِ إذا لَقِيَهُ، ويُجيْبُهُ إذا دَعَاهُ، ويُشمِّتُهُ إذا عَطَسَ، وَيعُوْدُهُ إذا مَرِضَ، ويتْبَعُ جِنَازَتَهُ إذا مَاتَ، ويُحِبُّ لهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ".

"من الحسان": " عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: للمسلم على المسلم سِتُّ" خصالٍ "بالمعروف"، متعلِّقٌ بالجار الذي قبله. "يُسَلِّمُ عليه إذا لقيَه، ويجيبُه إذا دعاه ويشمِّتُه إذا عطسَ، ويعودُه إذا مَرِضَ، ويَتْبَعُ جِنَازَتَه إذا مات، ويُحِبُّ له ما يُحِبُّ لنَفْسِه". * * * 3592 - وعن عِمْرَانَ بن حُصيْنٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً جَاءَ إلى النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فقالَ: السَّلامُ عَلَيْكُم، فردَّ عليه ثُمَّ جَلَسَ، فقال النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "عشْرٌ"، ثمَّ جاءَ آخَرُ فقال: السَّلامُ عَلَيْكُم ورَحْمَةُ الله، فردَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ، فقال: "عِشْرُون"، ثُمَّ جاء آخرُ فقال: السَّلامُ عَلَيْكُم وَرَحْمَةُ الله وبَرَكاتُه، فردَّ عَلَيْه فَجَلَسَ، فَقَال: "ثلاثون". "عن عمرانَ بن حُصَين: أن رَجُلاً جاءَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: السلامُ عليكُم، فردَّ عليه، ثم جلسَ فقال النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: عَشْرٌ"؛ أي: وجبَ له عشرُ حَسَنات. "ثم جاءَ آخرُ فقال: السلامُ عليكم ورحمةُ الله، فردَّ عليه فجلَسَ فقال: عشرون"؛ أي: عشرون حسنات، "ثم جاء آخرُ فقال: السلام عليكم رحمةُ الله وبركاته، فردَّ عليه، فجلس، فقال: ثلاثون"؛ أي: ثلاثون حسنات، بكلِّ لفظ عَشْر. * * * 3593 - ورُوِيَ عن مُعاذِ بن أَنسٍ - رضي الله عنهما -، عن أبيْهِ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بمعناهُ وزَادَ: ثم أتى آخرُ فَقَال: السَّلاَمُ عَليْكُم ورَحْمَةُ الله وبَرَكَاتُه ومَغْفِرتُه، فقال:

"أَربعونُ، هكذا تكونُ الفَضائلُ". "ورويَ عن سهلِ بن مُعاذِ بن أنسٍ، عن أبيه، عن النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - بمعناه"؛ أي: رُوِيَ الحديثُ المذكورُ بمعناه لا بلفظِه المذكورِ. "وزاد: ثم أتَى آخرُ فقال: السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه ومغفرتُه، فقال: أربعون"؛ أي: أربعون حَسَنَاتٍ. "هكذا تكونُ الفضائلُ"؛ يعني: تزيدُ الفضائِلُ والمَثُوباتُ بكلِّ لفظ يريدُه المسلم. * * * 3594 - عَنْ أَبي أُمَامَة - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بالله مَنْ بَدَأَ بالسَّلامِ". "عن أبي أُمامةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بالله"؛ أي: أقرَبهُم إليه "مَنْ بدأ بالسَّلاَم". * * * 3595 - عَنْ أَبيْ جُرَيٍّ الهُجَيْمِيِّ - رضي الله عنه - قَال: أتَيْتُ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فقُلْتُ: عَلَيْكَ السَّلامُ يا رسولَ الله! فقال: "لا تقُلْ عليكَ السَّلامُ؛ فإنَّ عليكَ السَّلامُ، تحيَّةُ الموتى". "عن أبي جُرَيٍّ"، بضمّ الجيم وفتح الدال المهملة وتشديد الياء. "الهُجَيْمي"، بضم الهاء وفتح الجيم ثم السكون وكسر الميم والياء المشددة. "أنه قال: أَتيتُ النبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، فقلتُ: عليك السلامُ يا رسول الله فقال:

لا تَقُلْ، عليك السلامُ، عليك السلامُ تحيةُ الموتى"، لم يرِدْ به أنَّ هذا تحيتُهم لا غير، بل يريدُ به أن هذا مخصوصٌ بهم لمَا رُوِيَ: أنه - صَلَّى الله عليه وسلم - يسلِّم عليهم: "السلامُ عليكم ديارَ قومٍ مؤمنين"، وقيل: أراد بالموتى أهلَ الجاهلية. * * * 3596 - وعَنْ جَرِيرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبي - صَلَّى الله عليه وسلم - مرَّ على نِسْوةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِن. "عن جريرٍ: أن النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - مرَّ على نسوةٍ فسلَّم عليهنّ"، هذا مختصٌّ بالنَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - لأمنهِ عن الوقوعِ في الفِتْنَة، وأمَّا غيرُه فيَكْرَه أن يسلِّمَ الرجلُ على المرأةِ الأجنبيةِ، أو العكسِ إلَّا أن تكونَ عجوزةَ بعيدةَ عن مَظِنَّة الفِتْنة. قيل: وكثيرٌ من العلماء لم يَكْرَهُوا تسليمَ كلِّ من الرجلِ والمرأةِ الأجنبيةِ على الآخر. * * * 3597 - وعَنْ عَليِّ بن أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه -، رَفَعَه: "يُجزِئُ عن الجَمَاعةِ إذا مرُّوا أنْ يُسلِّم أحَدُهُم، ويُجزئُ عن الجُلوْسِ أنْ يَرُدَّ أَحَدُهم". "عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - رفعَه قال: يُجْزِئُ"؛ أي: يَكْفِي "عن الجماعة إذا مَرُّوا أن يُسَلِّمَ أحدُهم، ويُجْزِئُ عن الجُلُوس" - جمع جالس - "أنَّ يُردَّ أحدُهم". * * * 3598 - عَنْ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ، عن أَبيْهِ عن جَدِّهِ: أنَّ رَسُوَلَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيْسَ مِنَّا مَن تَشبَّه بِغَيْرِنَا، لا تَشبَّهوا باليَهُودِ ولا بالنَّصَارَى، فإنَّ تسليمَ اليَهُودِ الإشارةُ بالأَصَابعِ، وتَسْلِيْمَ النَّصَارَى الإِشارَةُ بالأكُفِّ"، ضعيف.

"عن عمرو بن شُعَيبٍ، عن أبيه، عن جَدِّه: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليسَ مِنَّا مَنْ تَشَبَّهَ بغيرِنا، لا تَشَبَّهوا"، بحذف إحدى التائين. "باليهودِ ولا بالنَّصارَى في الإشارة بالكفِّ أو الأُصْبُع عند التسليم، فإنَّ تسليمَ اليهودِ الإشارةُ بالأصابع، وتسليم النصارى الإشارة بالكَفِّ"، ضعيف. * * * 3599 - عَنْ أبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه -، عَن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا لَقِيَ أَحَدُكُم أَخَاهُ فلْيُسلِّمْ عليه، فِإنْ حَالَتْ بَيْنَهُما شَجَرَةٌ أو جِدَارٌ أو حَجَر ثُمَّ لَقِيَه فلْيُسلِّمْ عَلَيْهِ". "وعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا لَقِيَ أحدكم أخاه فلْيُسَلِّمْ عليه، فإنَّ حالتْ بينهما" بعد أن يُسلِّمَ عليه. "شجرةٌ أو جِدارٌ أو صَخْرَةٌ، ثم لَقِيهَ" ثانياً "فلْيُسَلِّم عليه ثانيًا". * * * 3600 - عَنْ قتادَةَ قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إذا دَخلْتُم بَيْتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِه، وإذَا خَرَجْتُم فأَوْدِعُوا أَهْلَهُ بالسَّلاَمِ"، مُرسل. "عن قَتادةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: إذا دخلْتُم بيتاً فسلِّمُوا على أهلهِ"، فإنَّ لم يكنْ في البيتِ أحد يُستحبُّ أن يقول: السلامُ علينا وعلي عباد الله الصالحين. "وإن خرجْتُم فأَوْدِعُوا أهلَه بالسلام"، وجوبُ سلامِ الوَدَاع مستحَبٌّ. "مرسل". * * * 3601 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قَال: "يابنيَّ! إذا دَخَلْتَ على

أَهْلِكَ فَسَلِّمْ، يكونُ بَرَكَةً عَلَيْكَ وعلى أَهْلِ بَيْتِكَ". "عن أنسٍ عن أن رسولَ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: يا بنيَّ"؛ بصيغة التصغير. "إذا دخلتَ على أهلِكَ فسَلِّم، يكونُ بركةً عليك وعلي أهلِ بَيْتِك". * * * 3602 - ويُرْوَى عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أنَّه قَال: "السَّلامُ قَبْلَ الكَلامِ"، وهذا مُنكر. "ويُروَى عن جابرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: السلامُ قبلَ الكَلاَم"؛ يعني إذا أتى رجلٌ إلى رجلِ فلْيُسَلِّمْ عليه قبلَ أن يتكلَّم معه بكلام. "وهذا مُنْكَر"، مدارُه على عَنْبسَةَ بن عبد الرحمن، وهو ضعيفٌ جداً، ثم إنه يَروي عن محمدِ بن زادان وهو منكَرُ الحديث، وهذا مِن جُمَلةِ ما زعمَ المؤلِّفُ أنه أعرضَ عنه ولم يُعْرِضْ عنه، قيل: يحتملُ أن يكونَ الإلحاقُ في "المصابيح" من غيرِ المؤلِّف. * * * 3603 - عَنْ عِمْرَانَ بن حُصَيْنٍ أنَّه قَالَ: كُنَّا في الجَاهِلِيَّةِ نقولُ: أَنْعَمَ الله بِكَ عَيْناً، وأَنْعِمْ صَبَاحًا، فلمَّا كانَ الإسْلاَمُ نُهيْنَا عَنْ ذَلِكَ. "عن عمران بن حُصَين أنه قال: كُنَّا في الجاهليةِ نقولُ: أنعمَ الله بك عيناً"، والباء في (بك) زائدةٌ للاكتفاء بالهمزة في التعدية؛ بمعنى: أقرَّ الله عينَك بما تحبُّه من النعمة، ويجوزُ أن يكونَ مِن: أنعمَ الرجلُ: إذا دخلَ في النعيم، فالباء حينئذ للتعدية، و (عيناً) نصب على التمييز، قيل: عن (الكاف) في (بك)، والصوابُ عن التشبُّه. "وأنعم بك صباحاً"، من النعومة، نَعِمَ نعومةَ إذا صار ناعِماً ليناً؛ أي:

طابَ عيشُك في الصباح. "فلمَّا كان الإسلامُ نُهِينا عن ذلك". * * * 3604 - ورُويَ: أنَّ رَجُلاً قال لِرَسُولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: إنَّ أَبي يُقرِئُكَ السَّلامَ، فَقَالَ:، عَلَيْكَ وعَلَى أَبيْكَ السَّلامُ". "وروي أن رجلًا قال لرسول الله صَلَّى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ أبي يُقْرِئُك السلامَ، فقال: وعليكَ وعلي أبيك السَّلاَمُ"، يُفْهَم من هذا أنَّ مَن جاء بالتحيةِ مِنْ شخصٍ ينبغي للمُجِيبِ أن يَرُدَّ التحيةَ على الجائي بها ومَرسِلِها. * * * 3605 - عَن ابن العَلاَءِ الحَضْرَميِّ: أنَّ العَلاَءَ الحَضْرَمِيَّ كَانَ عَامِلَ النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، وكان إذا كتَبَ إلَيْهِ بَدَأَ بنفْسِهِ. "عن ابن العلاء الحضرمي: أنَّ العلاءَ الحضرميَّ كان عاملَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان إذا كتبَ إليه"؛ أي: إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -. "بدأ بنفسِه" بأنَّ كتبَ هذا من العلاءِ الحَضْرَميّ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3606 - ورُوِيَ عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كتَبَ أَحَدُكُم كِتاباً فَلْيُتَرِّبْهُ، فإنَّه أَنْجَحُ لِلْحَاجَةِ"، هذا مُنكَر. "ورويَ عن جابر: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كتبَ أحدكم كتاباً فْليُتَرِّبْه"، والتَّتْرِيبُ: ذَرُّ الترابِ على المكتوب، وقيل: المرادُ المبالغةُ في التواضُعِ في الخطاب.

"فإنَّه أَنْجَحُ"؛ أي: أَيْسُرُ "للحاجة، هذا مُنْكَر". * * * 3607 - عَنْ زيدِ بن ثَابتٍ - رضي الله عنه - قَال: دَخَلْتُ عَلَى النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وبَيْنَ يَدَيْهِ كَاتِبٌ، فسَمِعْتُه يَقُولُ: "ضَع القَلَمَ على أُذُنِكَ، فإنَّه أَذْكَرُ لِلْمُمْلِي"، ضعيف. "عن زيد بن ثابتٍ أنه قال: دخلتُ على النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - وبين يديه كاتبٌ، فسمعتُه يقول: ضعِ القلمَ على أُذنيكَ فإنَّه أَذْكَرُ للحال"؛ أي: العاقبةُ، يعني أنه أسرَعُ تَذَكُّراً فيما يُراد من إنشاءِ العبارة في المعنى المُقْصُود. وفي نسخة: "فإنَّه أَذْكَرُ للمُمْلِي"، وذلك لاجتماع خاطِرهِ، وأَمْنهِ من أنْ يكتُبَ شيئًا بغيرِ إملائهِ، وأمَّا لو كان القلمُ على وجهِ الكاغِد فإنَّه يُشَوِّشُ ذِهْنَه، ولا يَأْمَنُ مِن أن يكتبَ شيئًا ليس من إملائه. * * * 3608 - عن زيدِ بن ثَابتٍ - رضي الله عنه - أنّه قَال: أَمَرني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ أتعلَّمَ السُّرْيانِيَّةَ - ويَرْوَى: - أنَّه أَمَرني أنْ أتعَلَّمَ كِتَابَ يَهُودَ وقال: "إنِّي ما آمَنُ يَهُودَ على كِتَابٍ"، قال: فَمَا مرَّ بِي نِصْفُ شَهْرٍ حتَّى تعلَّمْتُ، فَكَان إذا كتَبَ إلى يَهُوَدَ كتَبْتُ، وإذا كتبوا إِلَيْهِ قَرَأْتُ لَهُ كِتَابَهُم". "عن زيدِ بن ثابتٍ أنه قال: أمرَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أن أتعلَّمَ السُّريَانِيَّةَ، ويُرْوَى أنه أَمَرني أن أتعلَّمَ كتابَ اليهودِ، وقال: إنِّي ما آمنُ يهودَ على كتابٍ"؛ يعني: لا آمن إن أمرتُ يهودياً بأنَّ يكتبَ عني إلى قومٍ من بني إسرائيل، أو يقرأَ كتاباً يأتِيني منهم أن يزيدَ، أو ينقصَ. "قال"؛ أي: زيدُ بن ثابت.

"فما مرَّ بي نِصْفُ شهرٍ حتَّى تعلَّمْتُ، وكان إذا كتبَ"؛ أي: أرادَ النبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - أن يكتبَ "إلى يهودَ كتبتُ"؟ أي: أنا أكتبُ. "وإذا اكتبوا إليه قرأتُ له كتابهَم". * * * 3609 - عَنْ أَبيْ هُرَيْرةَ - رضي الله عنه -، عنِ النَّبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: "إذا انتهَى أَحَدُكم إلَى مَجْلِسٍ فَليُسلِّمْ، فإنْ بَدا لَهُ أنْ يَجْلِسَ فَلْيجلِسْ، ثُمَّ إذا قَامَ فليُسَلِّمْ، فَلَيْسَتِ الأُولَى بأَحَقَّ مِنَ الآخِرَةِ". "عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - عن النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: إذا انتهى أحدُكم إلى مجلِسٍ فليُسَلِّمْ، فإنَّ بدا له أن يَجْلِسَ فلْيَجْلِسْ، ثم إذا قامَ فلْيُسَلِّمْ، فليست الأُولى"؛ أي: التسليمةُ الأولى "بأحقّ من الآخرة"؛ أي: من التسليمة الآخرة، بل كِلْتاهما حقٌّ وسُنَّة. * * * 3610 - وقال: "لاَ خيرَ في جُلُوس في الطُّرُقَاتِ إلَّا لِمَن هَدَى السَّبيْلَ، وَرَدَّ التَّحيةَ، وغَضَّ البَصَرَ، وأَعَانَ على الحَمُولَةِ". "وقال: لا خيرَ في جلوسٍ في الطرقات إلَّا لمن هَدَى السبيلَ، وردَّ التحيةَ، وغَضَّ البَصَر، وأعانَ على الحُمُولة"؛ بفتح الحاء المهملة: الدابة، وبضمها: ما يُحمَلُ عليها، جمع حِمْل بالكسر، أرادَ إعانةَ مَن يرفعَ حمِلَه على ظهرِ دابَّة، أو ظهرِه، أو رأسِه، ونحو ذلك. * * *

2 - باب الاستئذان

2 - باب الاسْتِئْذَانِ (باب الاستئذان) مِنَ الصِّحَاحِ: 3611 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدريِّ - رضي الله عنه - أنَّه قال: أتانَا أبو مُوْسَى، قال: إنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِليَّ أَنْ آتِيَهُ، فأتيتُ بَابَه، فسَلَّمْتُ ثَلاثاً فَلَمْ يَرُدَّ عليَّ فَرَجعْتُ، فقال: ما مَنَعَكَ أنْ تأتِيَنا؟ فَقُلتُ: إنِّي أَتيْتُ، فسَلَّمْتُ على بابكَ ثَلاَثاً فلَمْ تَرُدُّوا عَليَّ فَرَجَعْتُ، وقَدْ قَالَ رَسُولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم -: "إِذَا اسْتَأذَنَ أَحَدُكُم ثَلاَثاً فلم يُؤذَنْ له فلْيرجِعْ" فقَالَ عُمرُ: أَقِمْ عَلَيْهِ البَينَةَ، قال أبو سَعيْدٍ: فقُمتُ مَعَه فَذَهَبْتُ إلى عُمرَ فشهِدْتُ. "من الصحاح": " عن أبي سعيدٍ الخُدْري - رضي الله عنه - أنه قال: أتانا أبو موسى فقال: إنَّ عمَر أرسلَ إليَّ أنْ آتِيَه فأتيتُ بابَه، فسلَّمْتُ ثلاثًا، فلم يَرْدُّوا عليَّ، فرجعت، فقال: ما منعَك أن تأتيَنا، فقلتُ: إنِّي أتيتُ فسلَّمْتُ على بابك ثلاثًا فلم تَرُدُّوا عليَّ، فرجَعْتُ، وقد قال رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - إذا استأذنَ أحدكم ثلاثًا فلم يؤذَنْ له فليرجِعْ، فقال عمر: أقمْ عليه البَينَة"؛ أي: على الحديث الذي رويتَه عنه - صَلَّى الله عليه وسلم - أَمْرَه بذلك ليزدادَ أمرُ الحديث الذي رواه وضوحاً عنده. "قال أبو سعيد: فقمتُ معه"؛ أي: مع أبي موسى. "فذهبتُ إلى عمَر فشهدتُ". * * * 3612 - وقال عبدُ الله بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: قَالَ لِي النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "إذْنُكَ عليَّ أنْ

تَرْفَعَ الحِجَابَ وإنْ تَسْمَعَ سِوَادِي حتَّى أَنْهَاكَ". "قال عبدُ الله بن مسعود: قال لي النبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم -: إذْنُكَ عليَّ أن ترفَعَ الحِجابَ"؛ أي: المقصودُ من الاستئذان رفعُ الحجاب. "وأن تسمَع سِوادِي": - بكسر السِّين -؛ أي: سِرِّي وكلامي الخَفِيَّ، فقد آذنتُك أن تدخُلَ عليَّ بلا استئذان. "حتَّى أنهاك" وأمنعَك من الدخول إن كان عندي مَن يحتجِبُ منك، وهذا دليل على تشريفِ ابن مسعودِ وانبساطِه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 3613 - وقال جَابرٌ: أتيْتُ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في دينٍ كَانَ عَلى أَبيْ، فدَقَقْتُ البَابَ فقال: "مَنْ ذَا؟ " فقُلْتُ: أَنَا، فَقَال: "أَنَا، أَنَا! "، كأنَّه كَرِهَها. "وقال جابر: أتيتُ النبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم - في دَيْنٍ كان على أبي، فدقَقْتُ البابَ فقال: مَن ذا؟ فقلت: أنا، فقال: أنا، أنا، كأنه"؛ أي: كأنَّ النَّبيّ - صَلَّى الله عليه وسلم - "كَرِهَها"؛ أي: كلمة (أنا) يحتملُ أنَّ كراهتَه لتركه الاستئذانَ بالسَّلام، أو لأنَّ قولَه: (مَن ذا) استكشاف للإبهام، وقوله: (أنا) لم يُزلْ به الإشكالَ والإبْهامَ؛ لأنَّه بيانٌ عند المشاهدةِ لا عندَ المغايَبَةِ، فكانَ وجْهُ الجوابِ أن يقولَ: أنا جابرٌ؛ ليقعَ التعريف، ويحتملُ أن يكونَ وجهُ كراهتهِ - صلى الله عليه وسلم - أنَّ هذا اللفظَ يُشْعِرُ بالإخبارِ عن نفسِه على وجهِ التعظيمِ، وهو لا يَليقُ في حَضْرَة النبيِّ - صَلَّى الله عليه وسلم -. * * * 3614 - وقَالَ أبُو هُرْيرَةَ: دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فوجَدَ لَبناً في قَدَحٍ فقالَ: "أَبَا هِرٍّ! الْحَقْ بِأَهْلِ الصُّفَّةِ فادْعُهُم إليَّ"، فأَتيتُهُم فدَعَوتُهُم فأَقْبَلُوا، فاسْتَأذَنوُا فأُذِنَ لَهُم فَدَخَلُوا.

"وقال أبو هريرةَ: دخلتُ مع رسولِ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - فوجدَ لبناً في قَدَحٍ، فقال: أبا هِرٍّ! "؛ أي: يا أبا هريرة! بحذف حرف النداء. "الحَقْ بأهلِ الصُّفَة فادعُهم إليَّ، فأتيتُهم فدعوتهُم فأقبَلُوا فاستأذنُوا، فأَذِنَ لهم فدَخَلُوا"، والتوفيقُ بين هذا وبين قولهِ - صلى الله عليه وسلم - في "الحسان": "إذا دُعِيَ أحدُكم فجاء مع الرسول فإنَّ ذلك إذن له" أنَّ أهل الصُّفَّة جاؤوا بعدَ الدَّاعِي فاحتاجُوا إلى إذنِ جديد. * * * مِنَ الحِسَان: 3615 - قَالَ أَنسٌ: أتى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على سَعْدِ بن عُبَادةَ فَقَال: "السَّلاَمُ عَلَيْكُم ورَحْمَةُ الله" فَقَال سَعْدٌ: وعَلَيْكُمُ السَّلامُ ورَحْمَةُ الله، ولَم يُسْمع النبيَّ - صَلَّى الله عليه وسلم -، حتَّى سَلَّمَ ثَلاَثاً ورَدَّ عليه سَعْدٌ ثَلاَثاً، ولَمْ يُسْمِعْه، فَرَجَعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فاتَّبعَهُ سعدٌ. "من الحسان": " قال أنسٌ - رضي الله عنه -: أتى رسولُ الله - صَلَّى الله عليه وسلم - على سَعْدِ بن عُبَادة فقال: السلامُ عليكم ورحمةُ الله" وهذا يدلُّ على أن الاستئذان يكون بالسلام. "فقال سعدٌ: وعليك السلامُ ورحمةُ الله، ولم يُسْمعِ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -"، من الإسماع؛ أي: لم يُسْمِعْه - صلى الله عليه وسلم - سعدٌ ردَّ السلام، وإنَّما لم يُسْمِعْه ليسلِّمَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مرةً أُخرى ليزدادَ إليه وإلى أهل بيتهِ بركُة سَلامِه. "حتَّى يسلِّمَ ثلاثًا، وردَّ عليه سعدٌ ثلاثًا ولم يُسْمِعْه، فرجَعَ النبيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فاتَّبعَه سعدٌ" واعتذر إليه بذلك. * * *

3616 - وعَنْ كَلَدَةَ بْنِ حَنْبَلٍ: أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ بَعَثَ بِلَبَن وَجَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّبِيُّ بِأَعْلَى الوَادِي، قَالَ: فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلِّمْ وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ، فَقَالَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "ارْجِعْ فَقُلْ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، أَأَدْخُلُ؟ ". "عن كَلَدَةَ بن حنبلٍ أنَّ صَفْوانَ بن أميةَ بعثَ بلَبن وجَدَايةٍ"، بفتح الجيم وكسرها: من أولادِ الظِّباءِ ما بلغَ سِتَّةَ أَشْهُر أو سبعةً، بمنزلة الجَدْيِ مِن المَعْز. "وَضَغابيسَ": جمع ضَغْبُوس بفتح الضاد وسكون الغين المعجمتين؛ وهو صغيرُ القِثَّاء. "إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم بأعْلَى الوادي، قال: فدخلتُ عليه ولم أسلِّمْ ولم أستأذِنْ، فقال النبيُّ: ارجِعْ فقل: السلامُ عليكم، أأدخل؟ "، وهذا يدلُّ على أن السنةَ تقديمُ السلامِ على الاستئذان. فإن قيلَ: قوله تعالى: {لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} [النور: 27] معناه: حتى تستأذِنُوا يدلُّ على تقديمِ الاستئذان. أُجيبَ: بأنَّ في الآيةِ تقديمًا وتأخيراً، والفائدةُ في تقديم الاهتمامِ بالاستئذان عندَ الدخولِ، فإنه أهمُّ من السلام حتى لا يجوزَ لك أن تدخلَ بغير استئذان، ويجوزُ لك تركُ السلام. وقيل: إنْ وقعَ بصرُه على إنسانٍ قدَّمَ السَّلام وإلا قَدَّم الاستئذان. * * * 3617 - ورُوِيَ عن أَبيْ هُريْرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ، فَإِنَّ ذَلِكَ إذْنٌ". وفي رِوَايةٍ: قال رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "رَسُولُ الرَّجُلِ إلى الرَّجُلِ إذْنُه". "ورويَ عن أبي هريرَة أنَّ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم قالَ: إذا

3 - باب المصافحة والمعانقة

دُعِيَ أحدُكم فجاءَ مع الرسول"؛ أي: معَ الرسولِ الذي أرسلَه المُرْسِلُ. "فإنَّ ذلك إذْنٌ، وفي رواية: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: رسولُ الرجل إلى الرَّجُلِ إذنُه". * * * 3618 - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُسْرٍ - رضي الله عنه -، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ، أَوِ الْأَيْسَرِ، فَيَقُولُ: "السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، السَّلَامُ عَلَيْكُمْ"، وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ يَوْمَئِذٍ لَمْ تَكُنْ عَلَيْهَا سُتُورٌ. "عن عبد الله بن بُسْرٍ أنه قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى بابَ قومٍ لم يستقبلِ الباب من تِلْقَاء وَجْهِه"؛ أي: مقابلة وجهه؛ لئلَّا يقعَ بصرُه على داخلِ البيت. "ولكن من ركنه"؛ أي: من جانبه "الأيمن أو الأيسر، فيقول: السلام عليكم السلام عليكم، وذلك أن الدُّور لم يكن يومئذ عليها ستور": جمع ستر. * * * 3 - باب المُصافَحَةِ والمُعانَقَةِ (باب المصافحة والمعانقة) مِنَ الصِّحَاحِ: 3619 - عَن قتَادَة قَالَ: قُلْتُ لأَنسٍ - رضي الله عنه -: أكانت المُصافَحَةُ في أَصْحَابِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قَالَ: نعَم. " من الصّحاح": " عن قتادة - رضي الله عنه - أنه قال: قلت لأنس: أكانت المصافحة في أصحاب

النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم" وهذا يدل على جواز المصافحة عند التلقِّي. قال النووي: ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صلاة الصبح والعصر لا أصل له في الشرع، ولكن لا بأس به. * * * 3620 - عَنْ أَبِيْ هُريْرَةَ رضي الله عنه قال: خَرَجْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى أتى خِبَاءَ فَاطِمَةَ فَقَالَ: "أثمَّ لُكَعُ؟ " -يَعْنِيْ حَسَنًا-، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ جَاءَ يَسْعَى حتَّى اعتَنَقَ كُلُّ واحِدٍ مِنْهُما صَاحِبَه. "عن أبي هريرة أنه قال: خرجت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى أتى جناب فاطمة" بفتح الجيم؛ أي: فِناءَ دارها. "فقال: أثمَّ لكع؟ " بضم اللام وفتح الكاف، وهو الصغير قَدْراً أو جثةً، والثاني هو المراد هنا. "يعني: حسنًا، فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه": وهذا يدل على جواز المعانقة. * * * 3621 - وقَالَتْ أُمِّ هَانِئٍ: ذَهَبْتُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عَامَ الفَتْح فقال: "مَرْحَباً بأُمِّ هَانِئٍ". "وقالت أم هانئ: ذهبت إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عام الفتح فقال: مرحباً بأم هانئ، يدل على أن الترحيب سنَّة للقادم. * * * 3622 - عَنْ أَبيْ هُريْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قبَّلَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم الحَسَنَ بن عليٍّ

وعِنْدَه الأَقْرَعُ بن حَابسٍ، فَقَال الأقْرَعُ: إن لِيْ عَشَرَةً مِنَ الوَلَدِ مَا قبَّلتُ مِنْهُم أَحَداً، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ قَالَ: "مَنْ لا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا! فنظر إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: من لا يَرحم لا يُرحم" كلاهما بالجزم، يدلُّ على جواز تقبيل الولد رحمةً وشفقة. * * * مِنَ الحِسَان: 3623 - عَنِ البَراءِ بن عَازِبٍ رضي الله عنه أنَّه قَالَ: قَالَ النَّبي صلى الله عليه وسلم: "ما مِنْ مُسْلِمَيْن يَلْتَقِيَانِ فيتَصَافَحَانِ إِلاَّ غُفِرَ لَهُما قبلَ أن يتفَرَّقَا". وفي رِوَايَةٍ: "إِذَا التَقَى المُسْلِمَانِ، فتَصَافَحَا وحَمِدَا الله واسْتَغفَراه، غُفِرَ لَهُمَا". "من الحسان": " عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يتفرقا" وفي رواية: (أنزل الله تعالى عليهما مئة رحمة، تسعون منها للذي بدأ بالمصافحة وعشرٌ للذي صوفح). "وفي رواية: إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه"؛ أي: طلبا الغفران من الله تعالى. "غفر لهما". * * *

3624 - وعَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَال: قَالَ رَجُلٌ: يا رسولَ الله! الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أو صَدِيقَهُ، أَيَنْحَنِي لَهُ؟ قَالَ: "لا"، قَالَ: أفَيلْتزَمُه ويُقَبله؟ قَالَ: "لا"، قال: أفيَأْخُذُ بِيَدِه ويُصَافِحُهُ؟ قال: "نعم". "عن أنس رضي الله عنه قال: قال رجل: يا رسول الله! الرجل منا يَلْقَى أخاه، أو صديقه، أينحني له" والانحناء إمالة الرأس والظهر تواضعًا ورحمة. "قال: لا، قال أفيلتزمها"؛ أي: أفيعانقه "ويقبله، قال: لا" استَدَل بهذا مَن كره المعانقة والتقبيل، قيل: المكروه ما كان على وجه التملُّق والتعظيم في الحضر، وأما المأذون فيه فعند التوديع، والقدومِ من السفر، وطولِ العهد بالصاحب، وشدة الحب في الله تعالى، مع أمن النفس، ومَن قبَّل فلا يقبل الفم بل اليد والجبهة والرأس، وقيل: لا يكره التقبيل لزهدٍ وعلم وكبر سنٍّ. "قال: أفيأخذ بيده ويصافحه؟ قال: نعم". * * * 3625 - عَنْ أَبيْ أُمَامَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "تَمَامُ عِيَادَةِ المَرِيْضِ أنْ يَضَعَ أحدُكُم يَدَه على جبهَتِهِ، أَو عَلَى يَدِه، فَيَسْأَلهُ: كيفَ هو؟ وتَمَامُ تَحِيَّاتِكُمْ بيْنَكم المُصَافَحَةُ"، ضعيف. "عن أبي أمامة: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: تمام عبادة المريض أن يضع أحدكم يده على جبهته أو على يده فيسأله: كيف هو؟ وتمام تحياتكم بينكم المصافحة": "ضعيف". * * * 3626 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَت: قَدِمَ زيدُ بن حَارِثَةَ - رضي الله عنه - المَدِيْنَةَ ورَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم في بَيْتي، فأَتَاهُ فقَرَعَ البَابَ، فقامَ إلَيْهِ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم عُرْياناً يَجُرُّ

ثَوْبَه، والله مَا رَأَيتُه عُرْيانًا قَبْلَهُ ولا بَعْدَه، فاعتْنَقَه وقبَّلَه. "عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قدم زيد بن حارثة المدينة ورسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في بيتي، فأتاه فقرع الباب، فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم عرياناً يجر ثوبه" يريد به أنه - صلى الله عليه وسلم - كان ساتراً ما بين سرَّته وركبته، ولكن سقط رداؤه عن عاتقه فكان ما فوق سرته عرياناً. "والله ما رأيته قبله ولا بعده" لعلها أرادت: عريانًا استقبل رجلًا واعتنقه، فاختصرت الكلام لدلالة الحال، إذ من الممتنع عادةً أنها لا تراه عرياناً قبل ذلك مع طول الصحبة وكثرة الاجتماع في لحاف واحد. "فاعتنقه وقبله". * * * 3627 - وسُئِلَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه: هَلْ كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُصَافِحُكُم إذا لَقِيتُمُوهُ؟ قال: مَا لَقِيتُه قَطُّ إِلاَّ صَافَحَني، وبَعَثَ إِليَّ ذاتَ يومٍ ولَم أكُنْ في أَهْلِي، فلمَّا جِئْتُ أُخْبرْتُ، فَأتَيْتُه وهُوَ عَلَى سَرِيْرٍ فالتَزَمَني، فكَانَتْ تِلْكَ أَجْوَدَ وأَجْوَدَ. "وسئل أبو ذر: هل كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يصافحكم إذا لقيتموه؟ قال ما لقيته قط إلا صافحني، وبعث إلي ذات يوم ولم أكن في أهلي، فلما جئت أُخبرت فأتيته وهو على سريرًا قد يعبر بالسرير عن الملك والنعمة، فالسرير هنا يجوز أن يكون ملك النبوة ونعمتها، وقيل: هو سريرٌ من جريد النخل يتخذه كلُّ أحد من أهل المدينة وأهل مصر للنوم فيه توفِّيًا عن الهوام. "فالتزمني"؛ أي: اعتنقني.

"وكانت تلك"، أي: تلك الالتزامة "أجود" من المصافحة "وأجود". "ضعيف". * * * 3628 - عَنْ مُصْعبِ بن سَعْدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ بن أَبي جَهْلٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَومَ جِئتهُ: "مَرْحَباً بالرَّاكِبِ المُهَاجِرِ". "عن مصعب بن سعد، عن عكرمة بن أبي جهل، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم جئته: مرحباً بالراكب المهاجر". * * * 3629 - عَنْ أُسَيْدِ بن حُضَيْرٍ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ قال: بَيْنَما هُوَ يُحَدِّثُ القَومَ وكَانَ فيْهِ مُزاحٌ، بَيْنَما يُضْحِكُهم فَطَعَنَهُ النَّبي صلى الله عليه وسلم في خَاصِرَتِه بِعُودٍ، فَقَال: أَصْبرْني، فَقَال: "اصْطَبر"، قَالَ: إنَّ عَلَيْكَ قَمِيْصًا ولَيْسَ عليَّ قَمِيْصٌ، فَرَفَعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عَنْ قَمِيصِهِ، فاحْتَضَنَهُ وجَعَلَ يُقَبلُ كَشْحَهُ، قال: إنَّما أَرَدْتُ هَذَا يا رَسُولَ الله". "عن أسيد بن حضير" بصيغة التصغير فيهما: "رجلٌ من الأنصار" المراد بالرجل على ما في "جامع الأصول" غيرُ أسيد بن حضير، فـ (رجل) يرفع ابتداءً نكرة مخصوصة خبره: "قال". وعلى ما في "شرح السنة": أنه أسيد، فـ (رجل) مرفوعٌ (¬1) بدلاً من (أسيد)، و (قال) قولُ الراوي هو عبد الرحمن [بن أبي ليلى]، وتنزيل الحديث على هذه الرواية أسهل وأبعد من التكلف من تلك الرواية. ¬

_ (¬1) كذا ذكر، والصواب: "مجرور".

"بينما هو"؛ أي: أسيد "يحدث القوم، وكان فيه مزاح" هذه الجملة جملة حالية من ضمير (يحدث)، و (المزاح) بالضم: الاسم، وبالكسر؛ مصدر مازَحَ. "بينا يضحكهم" ظرف لقوله: "فطعنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في خاصرته بعودٍ، فقال: أصبرني" بفتح الهمزة؛ أي: أَقْدِني من القود. "قال: اصطَبر"؛ أي: استقدِ. "قال: إن عليك قميصاً وليس عليَّ قميص، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قميصه" عدَّاه بـ "عن" لتضمُّنه معنى كشف؛ أي: كشف عمَّا ستره قميصُه فرفعه عنه. "فاحتضنه"؛ أي: اعتنقه وأخذه في حضنه، وهو ما دون الإبط إلى الكشح. "وجعل يقبل كشحه" وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع الأقصر من أضلاع الجنب. "قال: إنما أردتُ هذا يا رسول الله". * * * 3630 - وعن البَيَاضيِّ: "أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - تَلَقَّى جَعْفَرَ بن أَبي طَالِب فالتَزَمَه وقبَّلَ مَا بَيْنَ عَيْنَيْهِ". "عن عبد الله بن جابر البياضي قال: إنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تلقَّى"؛ أي: استقبل. "جعفر بن أبي طالب" حين قدومه من السفر. "فالتزمه"؛ أي: اعتنقه "وقبَّل ما بين عينيه". * * * 3631 - وعَنْ جَعْفرِ بن أَبي طَالِبٍ - رضي الله عنه - في قِصَّةِ رُجوعِه مِنْ أَرْضِ الحَبَشَةِ قَال: فخرجْنَا حتَّى أتيْنا المَدِينةَ، فتَلقَّانِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتَنَقَني ثُمَّ

قَالَ: "ما أَدْرِي أَنا بِفَتْح خَيْبَرَ أَفْرحُ، أَمْ بِقُدُومِ جَعَفَرٍ؟ "، ووَافقَ ذلكَ فتحَ خَيبَرَ. "وعن جعفر بن أبي طالب في قصة رجوعه من أرض الحبشة قال: فخرجنا حتى أتينا المدينة، فتلقاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاعتنقني، ثم قال: ما أدري أنا بفتح خيبر أفرحُ أم بقدوم جعفر، ووافق ذلك"؛ أي: قدومه "فتح خيبر". * * * 3632 - وقَال زَارعٌ - وكَانَ في وَفْدِ عَبْدِ القَيْسِ - فَجعَلْنا نتَبَادَرُ مِن رَوَاحِلِنا فنُقَبلُ يَدَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم ورِجْلَهُ. "وقال: زارع وكان في وفد عبد القيس: فجعلنا نتبادر من رواحلنا فنقبل يد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ورجله". * * * 3633 - وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها أنَّها قَالَت: مَا رَأَيْتُ أَحَداً كانَ أَشْبَهَ سَمْتاً وهَدْيًا ودَلاًّ - وفي رِوَايةٍ - حَدِيْثاً وكَلامًا بِرَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ فَاطِمَةَ، كَانَتْ إِذَا دَخَلتْ عَلَيْهِ قَامَ إِليْهَا فأَخَذَ بِيَدِهَا فقبَّلَهَا وأَجْلَسَهَا في مَجلِسِه، وكَانَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْها قَامَتْ إِليْهِ فأَخَذَتْ بِيَدِه فَقَبَّلَتْهَا وأَجْلَسَتْهُ في مجلِسِها. "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: ما رأيت أحداً كان أشبه سمتاً" وهو عبارةٌ عن الهيئة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار وحسن السيرة. "وهدياً"؛ أي: سيرة وطريقة في أفعاله. "ودَلاً" وهو الهيئة في الصورة والقيام والقعود. وقيل: الإشارة بالسمت إلى ما يُرى على الإنسان من الخشوع والتواضع،

وبالهدي إلى ما يتحلى به من السكينة والوقار، وبالدلِّ: إلى لين الخلق وحسن الحديث. "وفي رواية: حديثاً وكلاماً برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه قام إليها"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم إلى فاطمة تعظيمًا لله تعالى، فإنه - صلى الله عليه وسلم - عرف قَدْرَها عند الله تعالى. "فأخذ بيدها وقبلها وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها قامت إليه فأخذت بيده فقبلته وأجلسته في مجلسها". * * * 3634 - ودَخَلَ أبَو بَكْرٍ - رضي الله عنه - على عَائِشةَ وهي مُضْطَجعَة قَدْ أصابَتْها حُمَّى فَقَال: كَيْفَ أَنْتِ يا بنيَّة؟ وقبَّلَ خدَّهَا. "ودخل أبو بكر على عائشة وهي مضطجعة قد أصابها حمى" بضم الحاء وتشديد الميم المفتوحة. "فقال: كيف أنت يا بنية؟ وقبَّل خدها". * * * 3635 - وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أُتِيَ بِصَبيٍّ فَقَبَّلَهُ فَقَال: "أَمَا إِنهم مَبْخَلَةٌ مَجْبنة مَحْزَنة، وإنَّهم لَمِنْ ريحَانِ الله تَعَالَى". "عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، أتي بصبي فقبله فقال: أَمَا" بفتح الهمزة وتخفيف الميم: للتنبيه. "إنهم"؛ أي: الأولاد. "مبخلة" بفتح الميم وسكون الباء الموحدة؛ أي: يحمل أبويه على البخل اتّقاءً على ماله.

4 - باب القيام

"مَجْبنةٌ" بفتح الميم وسكون الجيم وفتح الباء الموحدة قبل النون المفتوحة؛ أي: يَحمل على الجبن، وهو الخوف في الحرب من القتل فيضيع ولده بعده. "وإنهم لمن ريحان الله تعالى"؛ أي: مِن رزقه تعالى، ومنه قولهم: سبحان الله وريحانه؛ أي: أسبحه وأسترزقه، والريحان: المشموم، وأطلق عليهم الريحان لأنهم يُشمُّون ويقبَّلون. * * * 4 - باب القِيَام (باب القيام) مِنَ الصِّحَاحِ: 3636 - عَنْ أَبي سَعْيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أنَّه قَالَ: لمَّا نزَلَتْ بنو قُرَيْظَةَ على حُكْمِ سعدٍ بَعَثَ إليهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكَانَ قَرِيباً مَنْهُ، فَجَاءَ على حِمَارٍ فَلَمَّا دَنَا مِنَ المَسْجدِ قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم للأنْصَارِ: "قُومُوا إلى سَيدِكُم". "من الصحاح": " عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أنه قال: لما نزلت بنو قريظة على حكم سعد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد وكان قريبًا منه"؛ أي: كان سعدٌ نازلًا في موضع قريب من النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فجاء على حمار، فلما دنا"؛ أي: قَرُبَ "من المسجد"؛ أي: المصلى. "قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم للأنصار: قوموا إلى

سيدكم"؛ أي: إلى أفضلكم رجلًا، قيل: المراد به القيام للتوقير والتعظيم؛ لاقترانه بلفظ: (سيدكم)، فيدل على أن التعظيم بالقيام جائز لمن يستحق الإكرام كالعلماء والصلحاء. يؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قام لعكرمة بن أبي جهل عند قدومه عليه، وكذلك لعدي بن حاتم، فالقيام لا يتعدى عن الترخيص فيه بحسب ما يقتضيه الحال، وذلك لأن عديًا كان سيدَ بني طيئ، فقصد بذلك استجلابَ قلبه، وكذلك عكرمة كان من رؤساء قريش. * * * 3637 - وعَنْ ابن عُمَرَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لا يُقيْمُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مِنْ مجلِسِه ثُمَّ يَجْلِسُ فِيْهِ، ولَكنْ تَفَسَّحُوا وتَوَسَّعُوا". "عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يُقِيم الرجلُ الرجلَ من مجلسه، ثم يجلس فيه" وهذا يعمُّ المساجد وغيرها. "ولكن: تفسحوا"؛ أي: ليقل: تفسَّحوا "أو توسعوا"؛ أي: ليقرب بعضهم من بعض ليتسع المجلس، قال الله تعالى: {فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11]. قال النووي: أصحابنا استثنوا من هذا الحكم ما أُلف من المسجد موضعًا للتدريس أو الإفتاء، فهو أحق به، فإذا قعد فيه غيره فله أن يقيمه. * * * 3638 - وعَنْ أَبى هُريْرَةَ - رضي الله عنه - أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من قام من مجلسه"؛ يعني: من

كان جالسًا في مجلس فقام منه ليتوضأَ أو ليقضيَ شغلاً يسيراً سواء ترك في موضعه خُمرةً ونحوها. "ثم رجع إليه فهو أحق به" فإذا وَجد فيه قاعداً فله أن يُقيمه؛ لأنه لم يَبْطُل اختصاصُه به. * * * مِنَ الحِسَان: 3639 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قال: لَمْ يَكُنْ شَخْصٌ أَحَبَّ إِليْهِم مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وكَانوُا إِذَا رَأَوْهُ لَمْ يَقُومُوا، لِمَا يَعْلَمُوْنَ مِنْ كَراهِيَّتِهِ لِذَلِكَ. صحيح. "من الحسان": " عن أنس أنه قال: لم يكن شخص أحبَّ إليهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وكانوا إذا رأوه لم يقوموا؛ لِمَا علموا من كراهته ذلك" القيام، إنما كره صلى الله عليه وسلم أن يقام له للتواضع. "صحيح ". * * * 3640 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يتَمَثَّلَ لَهُ الرِّجَالُ قِياماً فَلْيَتَبَوَّأ مَقْعَدَه مِنَ النَّارِ". "وعن معاوية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن سرَّه أن يتمثل له الرجال"؛ أي: أن يقوموا له. "قياماً" وهو جالس. "فليتبوأ مقعده من النار" لفظه الأمر ومعناه الخبر، وهذا الوعيد فيمن

سلك فيه طريق المتكبرين؛ لقرينةِ السرور للمثول، وأما إذا لم يطلب ذلك وقاموا من تلقاء أنفسهم طلباً للثواب والتواضع فلا بأس به؛ لما ثبت: أن مغيرة ابن شعبة قام على رأس النبي - صلى الله عليه وسلم - وبيده سيف يوم الحديبية، وكان يزجر مَن يَصْدُر عنه سوءُ الأدب عند النبي صلى الله عليه وسلم ممن جاء بالرسالة من مكة. * * * 3641 - عَنْ أَبي أُمَامَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَوَكِّئاً عَلَى عَصَاهُ، فقُمْنَا له، فَقَالَ: "لا تَقُومُوا كمَا تَقُوْمُ الأَعَاجِمُ يُعظِّمُ بَعْضُهُم بَعْضاً". "عن أبي أمامة أنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوكئاً"؛ أي: متكئًا. "على عصى" لمرض كان به. "فقمنا له فقال: لا تقوموا كما تقوم الأعاجم يعظِّم بعضُهم بعضاً" لماله ومنصبه، وإنما ينبغي التعظيم للعلم والصلاح. * * * 3642 - عَنْ سَعِيْدِ بن أَبي الحَسَنِ قَالَ: جَاءَنَا أَبُو بَكْرَةَ فِيْ شَهادَةٍ، فَقَامَ لَهُ رَجُلٌ مِن مجلِسهِ فأَبَى أنْ يَجْلِسَ فَيْهِ وقَالَ: إِنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نهى عَنْ ذَا، ونهى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يَمْسَحَ الرَّجُلُ يَدَهُ بِثَوبِ مَنْ لَمْ يَكْسُهُ. "عن سعيد بن أبي الحسن أنه قال: جاءنا أبو بكرة في شهادة"؛ أي: لأداء شهادة كانت عنده. "فقام له رجل من مجلسه فأبى" أبو بكرة "أن يجلس فيه"؛ أي: في ذلك المجلس. "وقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذا"؛ أي: عن أن يُقيم أحد أحداً ويجلس مجلسه.

"ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح الرجل يده" إذا كانت ملوَّثة بطعام مثلاً. "بثوبِ مَن لم يكسه"؛ أي: لم يلبسه، فيُعلم منه أنه إذا مسح يده بثوبِ مَن أكساه كغلامه وخادمه جاز، وقيل: هو نهيٌ عن التصرف في مال الغير والتحكُّم على من ليس له عليه ولاية، وقيل: معناه نهي عن أن يمنَّ الرجل على مَن لم يُحسن إليه. * * * 3643 - عَنْ أَبي الدَّرْدَاءِ - رضي الله عنه - أنَّه قَالَ: "كانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا جَلَسَ وجَلَسْنَا حَوْلَه، فَقَامَ فَأرَادَ الرُّجُوْعَ نزَعَ نعْلَهُ أَوْ بَعْضَ مَا يَكُوْنُ عَلَيْهِ، فَيَعْرِفُ ذَلِكَ أَصَحَابُهُ فَيثْبُتُونَ". "عن أبي الدرداء أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جلس وجلسنا حوله، فقام فأراد الرجوع نزع نعليه أو بعضَ ما يكون عليه، فيعرف ذلك أصحابه"؛ أي: يعرفون أنه يريد الرجوع إليهم "فيثبُتون" مكانهم ولا يتفرقون عنه. * * * 3644 - عَنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَحِلُّ لرَجُل أَنْ يُفَرِّقَ بَيْن اثْنَيْنِ إلاّ بإذْنِهِمَا". "عن عبد الله بن عمرو عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين" بأن يجلس بينهما. "إلا بإذنهما" لأنه قد يكون بينهما محبةٌ وجريانُ سر فيشُقُّ عليهما التفرُّق. * * * 3645 - وعَنْ عَمْرِو بن شُعَيْبٍ، عَنْ أَبيْه، عَنْ جَدِّهِ: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -

5 - باب الجلوس والنوم والمشي

قَالَ: "لَا تَجلِسْ بَيْن رَجُلَيْنِ إلَّا بِإِذنِهِمَا". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تجلس بين رجلين إلا بإذنهما". * * * 5 - باب الجُلوُسِ والنَّومِ والمَشْيِ (باب الجلوس والنوم والمشي) مِنَ الصِّحَاحِ: 3646 - عَنْ ابن عُمَرَ قَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بفِنَاءَ الكَعْبَةِ مُحتَبياً بِيَدِهِ". "من الصحاح": " عن ابن عمر أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بفناء الكعبة" وهو الموضع المتَّسع المحاذي لباب الدار، وقيل: ما امتد من جوانب البيت. "محتبيًا بيديه"؛ أي: جالسًا بحيث تكون ركبتاه منصوبتين وبطن قدميه على الأرض، ويداه موضوعتين على ساقيه، والمراد به سنِّيةُ الاحتباء في الجلوس. * * * 3647 - عَنْ عَبَّادِ بن تميمٍ، عَن عمِّهِ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم في المَسْجدِ، مُسْتَلْقِياً واضعاً إحْدَى قَدَمَيْهِ عَلَى الأُخْرَى.

"وعن عَبَّاد بن تميم، عن عمه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مستلقياً"؛ أي: مضطجعاً على الظهر. "واضعاً إحدى قدميه على الأخرى". * * * 3648 - وعَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: نهى رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْفَعَ الرَّجُلُ إِحْدَى رِجْلَيْه عَلَى الأخْرَى، وهُوَ مُسْتَلْقٍ عَلَى ظَهْرِهِ. "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله أن يرفع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره". * * * 3649 - وعَنْهُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَسْتَلْقِيَنَّ أَحَدُكُم ثُمَّ يَضَعُ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى". "وعنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يستلقينَّ أحدكم ثم يضعَ إحدى رجليه على الأخرى" وجه التوفيق بين النهي وفِعْلِ النبي صلى الله عليه وسلم: أن النهي لخوفِ انكشاف العورة خصوصًا مع ضيق الإزار، مع أن الغالب عليهم ذلك، فأما إذا كان الإزار واسعًا، أو كان الشخص متسروِلًا، فلا بأس به إن لم يكن للتكبُّر. * * * 3650 - عَنْ أَبي هُريرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: "بَيْنَمَا رَجُل يَتَبَخْتَرُ فِي بُرْدينِ وَقَدْ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُه، خُسِفَ بِهِ الأَرْضُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيْهَا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم:

بينما رجل يتبختر في بُردين"؛ أي: يفتخر ويتكبَّر في لبس بردين. "وقد أعجبته نفسه خُسِفَ، على صيغة المجهول. "به" قائم مقام الفاعل. "الأرضَ" بالنصب. "فهو يتجلجل فيها"؛ أي: يغوص (¬1) ويذهب في الأرض من حين خسف "إلى يوم القيامة". * * * مِنَ الحِسَان: 3651 - عَنْ جَابرٍ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُوْلَ الله - صلى الله عليه وسلم - مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَة عَلَى يَسَار. "من الحسان": " عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئاً على وسادة على يساره" وهذا يدل على سنِّية الاتكاء ووضعِ الوسادة على الجانب الأيسر. * * * 3652 - وعَن أَبي سَعْيدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا جَلَسَ فِي المَجْلِسِ احْتَبَى بِيَدَيْهِ. "عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم إذا جلس في المجلس احتبى بيديه" تقدَّم بيانُ سنِّية الاحتباء بهما. * * * ¬

_ (¬1) في "ت": "يغوض بالضاد المعجمة".

3653 - وعَنْ قَيْلَةَ بنتِ مَخرَمَة: أَنَّها رَأَتْ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المَسْجدِ وهُوَ قَاعِدٌ القُرْفُصَاءَ، قَالَت: فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - المتَخَشِّعَ أُرْعِدْتُ مِنَ الفَرَقِ. "عن قيلة بنت مخرمة: أنها رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وهو قاعد القرفصاء" بضم القاف وسكون الراء المهملة وضم الفاء، والفتحُ أفصح، يمدُّ ويقصر، قيل: هو أن يجلس على إليتيه ويلصق بطنه فخذيه ويحتبي بيديه يضعهما على ساقيه، وقيل: أن يجلس على ركبتيه متكئا ويلصق بطنه بفخذيه ويتأبط كفيه، وهو جلسة الأعراب. "قالت: فلما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم المتخشع في الجلسة" بمعنى الخاشع والمتواضع، مفعولٌ ثان لـ (رأيت)، وهو أخصُّ من الخاشع؛ لأنه يدل على زيادة الخشوع. "أُرعدت" على بناء المجهول؛ أي: أخذتني الرعدة. "من الفَرَق" بفتحتين؛ أي: من الخوف والفزع، وهذا غاية المهابة؛ لأنه أمر سماوي لا يتصنع، فقال: عليك السكينةُ يا مسكينة. * * * 3654 - وعَن جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم إذَا صَلَّى الفَجْرَ، تَرَبَّع في مَجْلِسِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ حَسْنَاءَ. "عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى الفجر تربع في مجلسه"؛ أي: جلس مربعًا. "حتى تطلع الشمس حسناء" فعلاء، حالٌ من (الشمس)؛ أي: حتى ترتفع كاملة.

قال التورِبشْتي: هو خطأ والصواب: "حسن" مصدرًا؛ أي: طلوعًا حسنًا، أو حالًا؛ أي: نقيةً بيضاء زائلةً عنها الصفرة المتخيَّلة دونها على الأفق. * * * 3655 - عَنْ أَبيْ قتادَةَ - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا عَرَّسَ بِلَيْلٍ اضْطَجَع عَلَى شِقِّهِ الأَيْمن، وإذَا عَرَّسَ قُبَيْلَ الصُّبْح نَصَبَ ذِراعَهُ، وَوَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى كَفِّهِ. "عن أبي قتادة - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عرَّس بليل": والتعريس: نزول المسافر بالليل للاستراحة، وهنا بمعنى نام فيها. "اضطجع على شقه الأيمن، وإذا عرَّس قبيل الصبح نصب ذراعيه ووضع رأسه على كفه" كيلا يطول نومه فتفوت صلاة الصبح عن وقتها. * * * 3656 - عَنْ بَعْضِ آلِ أُمِّ سَلَمَةَ أنَّه قَالَ: كَانَ فِرَاشُ رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم نَحْواً مِمَّا يُوضَعُ في قَبْرِهِ، وكَانَ المَسْجدُ عِنْدَ رَأْسِهِ. "عن بعض آل أم سلمة أنه قال: كان فراش رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم نحواً مما يوضع في قبره"؛ أي: كان ما يستفرشه للنوم قريبًا [مما] وضع في قبره؛ يعني: كان شيئًا خفيفًا. "وكان المسجد"؛ أي: مصلاه "عند رأسه". * * * 3657 - وعَنْ أَبي هُرَيْرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَى رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم رَجُلاً مُضطجعاً عَلَى بَطْنِه فَقَال: "إنَّ هَذِهِ ضجْعَةٌ لا يُحِبُّهَا الله".

"عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه [قال]: رأى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم رجلاً مضطجعاً على بطنه فقال: إن هذه ضجعة" بالكسر للنوع. "لا يحبها الله تعالى" لأن وضع الصدر والوجه اللذان من أشرف الأعضاء على الأرض إذلالٌ في غير السجود. * * * 3658 - وعَنْ يَعِيْشَ بن طِخْفَةَ بن قَيسٍ الغِفَارِيِّ، عَنْ أَبيْهِ، وكَانَ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ أَنَّهُ قَالَ: بَيْنَمَا أَنَا مُضْطَجعٌ مِنَ السَّحَر عَلَى بَطْنِي إِذَا رَجُل يُحرِّكُنِيْ بِرِجْلِهِ فَقَالَ: "إنَّ هَذِهِ ضجْعَة يُبغِضُهَا الله"، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم -. "عن يعيش بن طخفة" - بكسر الطاء المهملة وسكون الخاء المعجمة وبالفاء المفتوحة - "ابن قيس الغفاري عن أبيه، وكان"؛ أي: أبوه "من أصحاب الصفة، قال: بينما أنا مضطجع من السَّحَر" وهو - بفتحتين - وجع الرئة. "على بطني، إذا رجل يحركني برجله وقال: إن هذه ضجعةٌ يبغضها الله تعالى، فنظرت فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم". * * * 3659 - عَنْ عَلِيِّ بن شَيْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ بَاتَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَيْسَ عَلَيْهِ حِجَاب فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُ الذِّمَّةُ". "عن علي بن شيبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من بات على ظهر بيت ليس عليه حجًى (¬1) " يروى بكسر الحاء المهملة وفتحها، والمراد منه: الستر والحجاب، ¬

_ (¬1) في "ت": "حجاب"، وهي رواية.

ومَن كَسَرَ الحاء شبَّهه بالحِجَى الذي بمعنى العقل، وذلك أن العقل يمنع الإنسان من التعرض للهلاك، فكذلك الستر على السطح يمنع عوراته عن عيون الناس والتردِّي، ومَن فتح الحاء ذهب إلى الطَّرف، وأحجاءُ الشيء نواحيه. "فقد برئت منه الذمة"؛ أي: لم يبق بيننا وبينه عهدٌ وذمة بالحفظ والعصمة، وقيل: معناه: فقد تصدى للهلاك وإزالة العصمة عن نفسه، وصار كالمهدَر الذي لا دية له، فلعله ينقلب من نومه فيسقط ويموت مُهْدَراً. * * * 3660 - عَنْ جَابَرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: نهى رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنَامَ الرَّجلُ عَلَى سَطْح لَيْسَ بِمْحجُوْبٍ عَلَيْهِ. "عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: نهى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أن ينام الرجل على سطح ليس بمحجور عليه" والحجر: المنع؛ يعني: ليس حوله جدار. * * * 3661 - عَنْ عَبْدِ الله بن عَمْرٍو: أَنَّ رَسُوْلَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَحِلُّ لأِحَدٍ أَنْ يُفرِّق بَيْنَ اثنَيْنِ إِلاَّ بإذنِهمَا". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله تعالى عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يحلُّ لأحد أن يفرِّق بين اثنين إلا بإذنهما". * * * 3662 - عَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: مَلْعُوْن عَلَى لِسَانِ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مَن قَعَد وَسْطَ الحَلْقةِ.

"عن حذيفة أنه قال: ملعون على لسان محمد من قعد وسط الحلقة" وهو أن يأتي حلقةً فيتخطى الرقاب ويقعد وسطها، ولا يقعد حيث ينتهي به المجلس، أو يقعد وسطها حائلًا بين وجوه المتحلقين فيحجب بعضهم عن بعض. وقيل: المراد به الماجن المقيم نفسَه وسطها للسخرية والضحكة، وإنما لُعن لأنهم يلعنونه ويذمونه، وإنما قيَّد بلسان محمد قيل: لجواز أن يكون ملعونًا عند الله تعالى، والظاهر أنه أراد به شدة الوعيد؛ لأن اللعن على لسان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعظم. * * * 3664 - وعَنْ أَبيْ سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم: "خيرُ المَجَالِسِ أَوْسَعُهَا". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: خير المجالس أوسعها". * * * 3663 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم وَأَصْحَابُهُ جُلوْسٌ فقال: "مَا لِيْ أَرَاكُم عِزِيْنَ؟ ". "عن جابر بن سمرة أنه قال: جاء رسولُ الله - رضي الله عنه - وأصحابه جلوس، فقال: ما لي أراكم عزين؟ "؛ أي: متفرِّقين لا يجمعكم مجلس واحد، والمفرد: عِزَّة، وهي الفِرقة المجتمعة من الناس، وأصلها: عزوة، حُذفت الواو وجُمعت جمعَ السلامة على غير القياس؛ يعني: لمَ جلستم متفرِّقين؟ وهلا جلستم متحلِّقين جمع؛ أي: اجلسوا في الحلقة أو في الصف، أمرهم بذلك

كيلا يدبر بعضُهم بعضًا. * * * 3665 - وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: "إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ في الفَيْءَ فَقَلَصَ عَنْهُ، فَصَارَ بَعْضُهُ في الشَّمْسِ فَلْيَقُمُ، فِإنَّه مَجْلِسُ الشَّيطَانِ"، ويُروَى مَرْفُوعاً. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: إذا كان أحدكم في الفيء"؛ أي: في الظل. "فقَلَصَ"؛ أي: ارتفع الفيء "عنه فصار بعضه في الشمس" وبعضه في الفيء. "فليقم" من ذلك الموضع؛ لأنه مضرٌّ بالمزاج؛ لاختلاف حال البدن لمَا يحلُّ به من المؤثّرَيْنِ المتضادَّيْنِ. "فإنه"؛ أي: ذلك المجلس. "مجلس الشيطان" أضافه إلى الشيطان؛ لأنه الباعث عليه والآمر به ليصيبه السوء. وقد روي هذا الحديث موقوفًا على أبي هريرة، "ويروى مرفوعًا" إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الظاهر؛ لأن الصحابي لا يُقْدِم على التحدث بالأمور الغيبية من تلقاء نفسه. * * * 3666 - وعَنْ عليٍّ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا مَشَىَ تَكَفَّأَ تكَفُّؤاً كَأنَّما يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ. ويُرْوَى: كَانَ إذَا مَشَى تَقَلَّعَ. "وعن علي - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفَّأ"؛ أي: تمايل إلى قدَّام.

"تكفاً كأنما ينحط"؛ أي: ينزل. "من صبب"؛ أي: موضع منحدر، سمي به لأن المشي ينصبُّ عنه. "ويروى: كان إذا مشى تقلَّع"؛ أي: يرفع رجليه من الأرض رفعا بائنًا بقوة كأهل الجلادة، لا كمن يمشي اختيالًا وتكبراً. * * * 3667 - وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَسْرعَ فِيْ مَشْيهِ مِنْ رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم، كَأنَّما الأَرْضُ تُطْوَى لَهْ، إنَّا لنجْهِدُ أنفُسَنَا وَإنَّه لَغيْرَ مُكْتَرِثٍ. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: ما رأيت أحداً أسرع في مَشيهِ من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له، إنا لنجهد"؛ أي: لنتعِبُ. "أنفسنا" بالمشي، يقال؛ جهدتُ الدابة وأجهدتُها: إذا حملت عليها في السير فوق طاقتها. "وإنه لغير مكترث"؛ أي: غير مبالٍ بمشينا وغير مسرعٍ بحيث يلحقه مشقةٌ. * * * 3668 - عَنْ أَبيْ أُسَيْدٍ الأَنْصَارِي - رضي الله عنه -: أَنَّه سَمِعَ رَسُوَلَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُوْلُ وَهُوَ خَارِجٌ مِنَ المَسجدِ، فاخْتَلَطَ الرِّجَالُ مَعَ النِّساءَ في الطَرِيْقِ، فَقَالَ للنساءِ: "اسْتَأخِرْنَ، فإنَّه لَيْسَ لَكُنَّ أَنْ تَحقُقْنَ الطَّرِيْقَ، عَلَيْكُن بِحَافَّاتِ الطَريقِ"، فَكَانَتْ المَرْأةُ تَلْصَقُ بالجدارِ حَتَّى إِن ثَوْبَها لَيعْلَقُ بالجدَارِ. "عن أبي أسيد" بفتح الهمزة والضم "الأنصاري أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو خارج من المسجد فاختلط الرجال مع النساء في الطريق، فقال للنساء: استأخرن"؛ أي: ابعدن عن وسط الطريق إلى جانبه، استأخر وتأخَّر بمعنى.

6 - باب العطاس والتثاؤب

"فإنه ليس لكنَّ أن تَحْقُقْنَ الطريق"؛ أي: تمشين في حاقِّها وهو وسطُها. "عليكن بحافات الطريق" جمع حافة، بتخفيف الفاء، وهي الناحية والطرف. "فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار". * * * 3669 - وعَنِ ابن عُمَرَ: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أَنْ يَمْشِيَ -يَعْنِي: الرَّجُلَ- بَيْنَ المَرْأتَيْنِ. "عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يمشي - يعني الرجل - بين المرأتين". * * * 3670 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا إذَا أتيْنَا النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم جَلَسَ أَحَدُنَا حَيْثُ يَنتهِيْ. "عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أنه قال: كنا إذا أتينا النبي صلى الله عليه وسلم جلس أحدنا حيث ينتهي"؛ أي: في المجلس، ولا يقصد المنصب. * * * 6 - باب العُطَاسِ والتَّثَاؤُبِ (باب العطاس والتثاؤب) مِنَ الصِّحَاحِ: 3671 - عَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إِنَّ الله يُحِبُّ العُطَاسَ

ويَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإذَا عَطَسَ أَحَدُكُم وَحَمِدَ الله كَانَ حَقاً علَى كُلِّ مُسلْمٍ سَمِعَه أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُكَ الله، فَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فإنَّما هُوَ مِن الشَّيطَانِ، فَإِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرُدَّهُ مَا اسْتَطَاعَ، فإنَّ أحَدُكُم إِذَا تَثَاءَبَ ضَحِكَ مِنْهُ الشَّيطَانُ". وفي رِوَايةٍ: "فَإنَّ أَحَدُكُمْ إذا قَالَ: هَا، ضَحِكَ الشَّيطانُ". "من الصحاح": "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إن الله يحب العطاس"؛ يعني سببه، وهو انفتاح المسامِّ وخفةُ الدماغ، إذ به تندفع الأبخرة المنخنقة فيُعين صاحبَه على الطاعة. "ويكره التثاؤب"؛ يعني: سببه، وهو ثقل البدن وكثرةُ الغذاء وميلُه إلى الكسل، فيمنع صاحبه عن الطاعة، فالمحبةُ والكراهية تنصرف إلى الأسباب الجالبة لهما. "فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقاً على كل مسلم" وفيه إشارة إلى أن التسمية فرضُ عينٍ، وإليه ذهب بعضٌ، والأكثرون على أنه فرض كفاية كرد السلام. وقال الشافعي: إنه سنة، وحمل الحديث على الندب كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "حقٌّ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام". "سمعه"؛ أي: سمع تحميده، وفيه إشعار بأن العاطس إذا لم يجهر بالتحميد ولم يُسمع من عنده لا يستحقُّ التشميت. "أن يقول: يرحمك الله، فأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان وإنما أضيف إليه لأنه هو الذي يزين للنفس شهوتها. "فإذا تثاءب أحدكم فليردَّه ما استطاع، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه

الشيطان" فرحًا بذلك. "وفي رواية: فإن أحدكم إذا قال: ها" حكاية صوت المتثاءب؛ يعني: إذا بالغ في التثاؤب وفتح فاه وخرج منه هذا الصوت "ضحك الشيطان" لأنه يكون من غلبة النوم وامتلاءِ المعدة، وذلك مما يُفرح الشيطان. * * * 3672 - وقال: "إذا عَطَسَ أحدُكُم فلْيَقُلْ: الحَمْدُ للهِ، وليقُلْ لَهُ أَخُوْهُ أَوْ صَاحِبُه: يَرْحَمُكَ الله، فَإِذَا قَالَ لَهُ: يَرْحَمُكَ الله، فَلْيَقُلْ: يَهْدِيْكُم الله ويُصْلِحُ بالَكَم". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله" عدَّه الشارع نعمةً فسنَّ عقيبه الحمد لله. "وليقل له أخوه أو صاحبه: يرحمك الله" وإنما شُرع الترحُّم من جانب المشمِّت؛ لأنه كان من أهل الرحمة حيث عظَّم ربَّه بالحمد على نعمته وعرف قَدْرَها. "فإذا قال له: يرحمك الله، فليقل"؛ أي: العاطس في جوابه: "يهديكم الله ويصلح بالكم"؛ أي: حالكم؛ لأنه إذا دعا له بالرحمة شرع في حقه دعاء الخير له تأليفًا للقلوب، ولفظُ العموم خرج على الغالب؛ لأن العاطس قلَّما يخلو عند عطاسه عن أصحابه، أو هو إشارة إلى تعظيمه واحترامه في الدعاء، أو إلى أمة محمد كلهم. * * * 3673 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "عَطَسَ رَجُلانِ عَنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَشَمَّتَ أَحَدَهُمَا ولَمْ يُشَمّتِ الآخرَ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ الله! شَمَّتَّ هَذَا ولَمْ

تُشَمِّتْنِي، قَالَ: إنَّ هَذَا حَمِدَ الله، وَلَمْ تَحْمَدِ الله". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: عطس رجلان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فشمَّت"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم "أحدهما"؛ أي: قال: يرحمك الله، وهو بالشين المعجمة على ما قاله أبو عبيد، وبالسين المهملة على ما اختار ثعلب. "ولم يشمت الآخر، فقال الرجل: يا رسول الله! شمتَّ هذا ولم تشمتني؟ فقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن هذا حمد الله تعالى ولم تحمد الله تعالى". * * * 3674 - وَعَنْ أَبي مُوسَى - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُوْلَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "إذَا عَطَسَ أَحَدُكُم فَحَمِدَ الله فَشَمِّتُوهُ، وإِنْ لَمْ يَحْمَدِ الله فَلَا تُشَمِّتُوهُ". "عن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت رسول الله يقول: إذا عطس أحدكم فحمد الله فشمتوه، وإن لم يحمد الله فلا تشمتوه، وهذا يدل على أنه لا يستحق التشميت إذا لم يحمد الله. * * * 3675 - عَنْ سَلَمَةَ بن الأَكوَعِ - رضي الله عنه -: أنَّه سَمعَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وعَطَسَ رَجُلٌ عِنْدَه فَقَالَ لَهُ: "يَرْحَمُكَ الله"، ثُمَّ عَطَسَ أُخْرَى فَقَالَ: "الرَّجُلُ مَزْكُومٌ". وَيُروَى أَنَّه قَالَ في الثَّالِثة: "إنَّه مَزْكُومُ". "عن سلمة بن الأكوع أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وعطس رجل عنده فقال له: يرحمك الله، ثم عطس أخرى فقال"؛ أي: النبي صلى الله عليه وسلم: "الرجل مزكوم "؛ أي: أصابه زكام.

"ويروى أنه قال في الثالثة: إنه مزكوم). * * * 3676 - وعَنْ أَبيْ سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُوَلَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا تَثَاءَبَ أَحَدُكُمْ فليُمْسِك بِيَدِهِ عَلَى فِمَهِ، فَإنَّ الشَّيطَانَ يَدخُلُ". "عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إذا تثاءب أحدكم فليمسك بيده على فمه فإن الشيطان يدخل"، أي: يجد سبيلًا إليه بالتثقيل. * * * مِنَ الحِسَان: 3677 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه -: أَن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إِذَا عَطَسَ غَطَّى وَجْهَهُ بِيَدهِ، أَوْ بثوبهِ، وغَضَّ بِهَا صَوْتَه. صحيح. "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا عطس غطى"؛ أي: ستر "وجهه بيده أو بثوبه، كيلا يترشَّش من لعابه أو مخاطه إلى أحد. "وغض بها"؛ أي: نقص بيده؛ يعني: بوضعها على فمه. "صوته" كيلا يرتفع، قال الله تعالى: {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان: 19]. قيل: هذا نوع من الأدب بين يدي الجلساء؛ لأنه لا يأمن مما يكرهه الناس من فضلات الدماغ. "صحيح". * * *

3678 - عَنْ أَبي أَيْوبٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِذَا عَطَسَ أَحَدُكُم فَلْيَقُلْ: الحَمْدُ للهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ، ولْيَقُلِ الَّذِيْ يَرُدُّ عَلَيْهِ: يَرْحَمُكَ الله، وليَقُلْ هُوَ: يَهْدِيْكُمُ الله ويُصلِحُ بَالَكمُ". "عن أبي أيوب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله على كل حال، وليقل الذي يردُّ عليه: يرحمك الله، وليقل هو: يهديكم الله ويصلح بالكم". * * * 3679 - عَنْ أَبي موسى - رضي الله عنه -، أنَّه قَالَ: كَانَ اليَهُوْدُ يتَعَاطَسُونَ عِنْدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم يَرْجُونَ أَنْ يَقُولَ لَهُم: يَرْحَمُكُمُ الله، فَيَقُولُ: "يَهْدِيكُمُ الله ويُصلِحُ بالَكُمْ". "عن أبي موسى - رضي الله عنه - أنه قال: كان اليهود يتعاطسون"؛ أي: يطلبون العطسة من أنفسهم "عند النبي صلى الله عليه وسلم يرجون أن يقول لهم: يرحمكم الله، فيقول: يهديكم الله ويصلح بالكم" الفاء بمعنى أو، لعل هؤلاء اليهود هم الذين عرفوه حق معرفته لكنْ منعهم عن الإسلام إما التقليد، وإما حبُّ الرئاسة، وعرفوا أن ذلك مذمومٌ، فيتحرَّوا طلب أن يهديهم الله تعالى ويزيل عنهم ذلك ببركة دعائه - صلى الله عليه وسلم -". * * * 3680 - عَنْ هِلَالِ بن يَسَافٍ قَالَ: كُنَّا مَعَ سَالِمٍ بن عُبَيْدٍ، فَعَطَسَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ فَقَالَ: السَّلامُ عَلَيْكُمْ، فقَالَ سَالِمٌ: عَلَيْكَ وعَلَى أُمِّكَ، فَكَانَّ الرَّجُلَ وَجَدَ في نفْسِه، فَقَالَ: أَمَا إنِّي لَمْ أقلْ إلَّا مَا قَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم، عَطَسَ رَجُلٌ عِنَدَ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَال: السَّلامُ عَلَيْكُم، فَقَال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "عَلَيْكَ وعَلَى أُمِّكَ، إذَا عَطَسَ أَحَدُكُم فليَقُل: الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمينَ، ولْيَقُلْ لَهُ مَن يَرُدُّ عَلَيْهِ: يَرْحَمُكَ الله،

وليَقُلْ: يَغْفِرُ الله لِيْ ولَكُم". "عن هلال بن يساف أنه قال: كنا مع سالم بن عبيد فعطس رجل من القوم فقال: السلام عليكم" ظن العاطس أنه يجوز أن يقول ذلك بدل: الحمد لله. "فقال سالم: عليك وعلى أمك" نبه بهذا على حماقتهما حيث سرى فيه من صفاتها فافتقر إلى الدعاء لهما بالسلامة من الآفات، وقيل: إنما قاله زجرًا على ترك قول: الحمد لله. "فكأنَّ الرجل وجد في نفسه"؛ أي: الكراهة والاستخجال والحزن والغضب لما قاله سالم. "فقال أما" -بالتخفيف- "إني لم أقل إلا ما قال النبي صلى الله عليه وسلم، عطس رجل عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليكم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عليك وعلى أمك، إذا عطس أحدكم فليقل: الحمد لله رب العالمين، وليقل له من يردُّ عليه: يرحمك الله، وليقل هو: يغفر الله لي ولكم". * * * 3681 - عَنْ عَمْرِو بن إسْحَاقَ بن أَبيْ طلْحةَ، عَنْ أُمِّهِ، عَنْ أَبيْهَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "شَمَّتِ العَاطِسَ ثَلَاثًا، فَإنْ زَادَ فَإِنْ شِئْتَ فشَمِّتْهُ وإنْ شِئْتَ فَلَا"، غريب. "عن عمر بن إسحاق بن أبي طلحة، عن أمه، عن أبيها" أنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: شمّت العاطس ثلاثًا، فإن زاد فإن شئت فشمته وإن شئت فلا". "غريب". * * *

7 - باب الضحك

3682 - عَنْ أَبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قَالَ: "شَمِّتْ أَخَاكَ ثَلَاثاً فَمَا زَادَ فَهُوَ زُكَامٌ"، وَوَقَفَهُ بَعْضُهُم. "عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: شمِّت أخاك ثلاثاً فما زاد فهو زكام". "ووقفه بعضهم" على أبي هريرة - رضي الله عنه -؛ أي: هو من كلامه لا من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. * * * 7 - باب الضَّحِكِ (باب الضحك) مِنَ الصِّحَاحِ: 3683 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَجمِعاً ضَاحِكاً حَتَّى أَرَى مِنْهُ لَهَواتِه، إنَّما كَانَ يَتَبسَّمُ. "من الصحاح": " عن عائشة أنها قالت: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مستجمعاً ضاحكاً"؛ أي: مستجمعًا لضحكه في حال ضحكه؛ يعني: لم أره يضحك تامًّا مقبلًا بكلَّه على الضحك وضاحكًا بجميع فيه. "حتى أرى منه لَهَواته، بفتح اللام والهاء: جمع لُهاة بالضم، وهي لحمة مشرفة على الحلق في أقصى الفم. "إنما كان يتبسَّم". * * *

3684 - عَنْ جَرِيرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: مَا حَجَبني النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مُذْ أَسْلَمْتُ ولَا رَآنِي إلَّا تَبَسَّمَ. "وعن جرير أنه قال: ما حجبني النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ما منعني من الدخول عليه. "منذ أسلمت"؛ يعني: ما جئت إليه إلا أذن لي في الدخول عليه. "ولا رآني إلا تبسم" لمكارم أخلاقه. * * * 3685 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لا يَقُومُ مِنْ مُصَلَّاهُ الذِي يَصلِّي فيْهِ الصُّبحَ حَتَّى تطلُعَ الشَّمسُ، فإذَا طَلعَتِ الشَّمسُ قَامَ، وكَانُوا يَتَحَدَّثُونَ فَيَأخُذُونَ في أمرِ الجَاهِلِيَّةِ فيضحَكُونَ ويتبسَّمُ. ويروى: "يَتَنَاشَدُوْنَ الشِّعرَ. "عن جابر بن سمرة أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقوم من مصلاَّه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس، فإذا طلعت الشمس قام، وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم، ويروى: ويتناشدون"؛ أي: يقرؤون "الشعر" وهي جائزة إذا لم يكن فيها من المناهي شيء. * * * مِنَ الحِسَان: 3686 - عَنْ عَبْدِ الله بن الحَارِثِ بن جَزْءٍ - رضي الله عنه - قَالَ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَكثرَ تَبَسُّماً مِن رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم". "من الحسان": " عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء رضي الله عنه -بفتح الجيم وسكون الزاي-

8 - باب الأسامي

بعدهما همزة - "أنه قال: ما رأيت أحداً أكثر تبسُّما من رسول الله صلى الله عليه وسلم". * * * 8 - باب الأَسَامِي (باب الأسامي) مِنَ الصِّحَاحِ: 3687 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم في السُّوقِ، فَقَالَ رَجُل: يَا أَبَا القَاسِم! فالْتفَتَ إِلَيْهِ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم، فَقَال: إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا، فَقَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "سَمُّوا بِاسمي، ولا تَكَنَّوْا بِكُنَيتي". "من الصحاح": " عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم في السوق فقال رجل: يا أبا القاسم! " وكانت كنية ابنه: أبا القاسم. "فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال"؛ أي: الرجل: "إنما دعوت هذا"؛ يعني ابنه. "فقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سمُّوا باسمي ولا تَكَنُّوا بكنيتي" قال الشافعي: لا يجوز لأحد أن يكني ابنه أبا القاسم سواءٌ كان اسمه محمداً أو لا، وجوَّز جمع التكني إذا لم يكن الاسم محمداً أو أحمد. * * * 3688 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَمُّوْا باسْمِي، ولا تَكَتَنُوا

بكُنيَتِي، فإنِّي إنما جُعِلْتُ قَاسِمًا أَقْسِمُ بَيْنَكُم". "وعن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سموا باسمي ولا تكنُّوا بكنيتي فإني إنما جُعلت قاسمًا"؛ أي: كُنيت بأبي القاسم لأني "أَقْسِم بينكم"؛ أي: البشارة للصالح والإنذار للطالح، وكان يتولَّى القسمة من قِبَلِ الله تعالى في العلم الذي يُوْحَى إليه، وإنزال الناس منازلهم في الفضيلة، وإعطائه المالَ إياهم على قَدْر غناهم وحَسَبِ حاجتهم، ولما لم يكن أحد يشاركه في هذا المعنى منع أن يكتني به غيره بهذا المعنى. * * * 3689 - عَنْ ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُم إلَى الله: عَبْدُ الله وعَبْدُ الرَّحْمَنِ". "عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أحب أسمائكم إلى الله عبد الله وعبد الرحمن" وإنما صار هذان الاسمان أحبَّ إليه تعالى؛ لأن أحدهما إضافة إلى أعلى أسماء الله الذي خصَّ التوحيد به في كلمة الشهادة، والآخر إضافة إلى اسمه الرحمن الدال على كمال رحمته العامة بكلِّ خليقته. * * * 3690 - وقَالَ: "لا تُسَمِّيَنَّ غُلَامَكَ يَسَاراً، ولَا رَباحاً، ولَا نجِيحًا، ولَا أَفْلحَ، فَإِنَّكَ تقولُ: أثَمَّ هُوَ؟ فَلا يَكُونُ، فَيَقُولُ: لا". وفي رِوَايَةٍ: "لَا تُسَمِّ غُلامَك رَبَاحًا، ولَا يَسَاراً، ولَا أفلحَ، ولَا نَافِعاً". "عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُسمِّينَّ غلامك يساراً، وهو من اليسر ضد العسر. "ولا رباحًا" - بفتح الراء - من الربح.

"ولا نجيحاً" من النجح وهو الظفر. "ولا أفلح" من الفلاح وهو الفوز؛ لأن الناس يقصدون بهذه الأسماء التفاؤل بحسن ألفاظها ومعانيها، وربما انقلب ما قصدوه إلى الضد. "فإنك تقول أثمَّ هو؟ " الهمزة فيه للاستفهام، و (ثَمَّ) - بفتح الثاء المثلثة - إشارة إلى مكان. "فلا يكون"؛ أي: لا يوجد ذلك المسؤول عنه في ذلك المكان. "فيقول: لا" فلا يحسن هذا في التفاؤل. "وفي رواية: لا تسم غلامك رباحاً ولا أفلح ولا نافعاً". * * * 3691 - وعَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه - أنَّه قَالَ: أَرَادَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَنهَى عَنْ أنْ يُسَمَّى: بيَعْلَى، وببَرَكَةَ، وبِأَفْلَحَ، وبيَسارٍ، وبنافِعٍ، وبنحْوِ ذَلِكَ، ثُمَّ رَأَيتُهُ سَكَتَ بَعْدُ عَنْهَا، ثُمَّ قُبضَ - صلى الله عليه وسلم - ولَمْ يَنْهَ عَنْ ذَلِكَ. "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينهى عن أن يسمى بـ: يَعلى" مضارع علا في الشرف. "وببركة وبأفلح وبيسار وبنافع وبنحو ذلك، ثم رأيته سكت عنها بعدُ، ثم قُبض ولم ينه عن ذلك" لعله نهاه في الابتداء، ثم سكت عن ذلك لمَا رأى من تعوُّد القوم بهذه الأسماء فسحةً لهم، أو خاف عليهم داخل الطيرة. * * * 3692 - وَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "أَخْنَى الأَسْمَاءِ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ الله رَجُلٌ تَسمَّى: مَلِكَ الأَمْلَاكِ".

"وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أخنى الأسماء"؛ أي: أقبحها وأكثرها مذلَّةً "يوم القيامة عند الله رجل"؛ أي اسم رجل "تسمَّى" - بفتح التاء وتشديد الميم - "ملك الأملاك" وكذا ما في معناه. * * * 3693 - وقَالَ: "أَغْيَظُ رَجُلٍ عَلَى الله يَوْمَ القِيَامَةِ وَأَخْبَثُهُ رَجُلٌ كَانَ يُسمَّى: مَلِكَ الأَمْلَاكِ، لَا مَلِكَ إلَّا الله". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أغيظ رجل على الله" أفعل تفضيل من الغيظ، مجاز عن عقوبته للمسمَّى بهذا الاسم؛ أي: أشد أصحاب هذه الأسماء عقوبةً عند الله "يوم القيامة وأخبثه رجل تسمَّى ملك الأملاك، لا ملك إلا الله" استئناف لبيان تعليل تحريم التسمية، فبيَّن أن المالك الحقيقي ليس إلا هو، ومالكيةُ غيره مستعارةٌ، فمَن تسمى بهذا الاسم نازع الله في رداء كبريائه واستنكف أن يكون عبداً لله، فيكون له الخزي. * * * 3694 - وَعَنْ زينَبَ بنتِ أَبيْ سَلَمَة قَالَتْ: سُمِّيتُ: بَرَّة، فَقَالَ رَسُولُ الله: لَا تُزكُّوا أَنْفُسَكم، الله أَعْلَمُ بِأَهْلِ البرِّ مِنْكُم، سَمُّوهَا: زينَبَ". "عن زينب بنت أبي سلمة" زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. "قالت: سُمِّيتُ" على بناء المجهول للمتكلم؛ أي: كان اسمي "برة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تزكوا أنفسكم" تزكية الرجل نفسَه ثناؤه عليها. "الله أعلم بأهل البر منكم" وهو اسمٌ لكلِّ فعلٍ مَرْضي. "سموها زينب" وفيه دلالة على استحباب تغيير الاسم الذي فيه التمدُّح. * * *

3695 - عَنِ ابن عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَتْ جُوَيرِيَةُ اسْمُهَا: بَرَّةُ، فَحَوَّلَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم اسْمَهَا: جُوَيرِيَةَ، وَكَانَ يَكْرَهُ أنْ يُقالَ: خَرَجَ مِنْ عِنْدِ بَرَّةَ. "عن ابن عباس أنه قال: كانت جويرية اسمها برة" زوجة النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فحوَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها جويرية، وكان يكره أن يقال: خرج من عند برة" فإن ذلك لا يحسن في التفاؤل. * * * 3696 - وَعَنِ ابن عُمَرَ: أَنَّ بنتاً لِعُمَرَ يُقَالُ لَهَا: عَاصِيةُ، فَسَمَّاهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: جَمِيْلة. "عن ابن عمر: أن بنتاً كانت لعمر يقال لها: عاصية، فسماها رسول الله جميلة" وفيه دليل على جواز تغيير الاسم المكروه إلى اسم حسن. * * * 3697 - وعَنْ سَهْلِ بن سَعْدٍ قَالَ: أُتِيَ بالمُنْذِرِ بن أَبيْ أُسَيْدٍ إلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم حِيْنَ وُلِدَ، فَوَضَعَهُ على فَخِذِه فَقَالَ: "مَا اسْمُه؟ " قَالَ: فُلان، قَالَ: "لكِنْ اسْمِهِ: المُنْذِرَ". "عن سهل بن سعد أنه قال: أتي بالمنذر بن [أبي] أسيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين ولد، فوضعه على فخذه فقال: ما اسمه؟ قالوا: فلان، قال: ليكن اسمه المنذر". * * * 3698 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يَقُوْلَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِيْ، وأَمَتِي؛ كُلُّكُم عَبيْدُ الله، وكلُّ نِسَائِكُم إمَاءُ الله، وَلَكنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي، وجَارِيَتي، وفتَايَ،

وفَتاتِي، ولَا يَقُلِ العَبْدُ: رَبي، ولَكِنْ لِيَقُل: سَيدِي". ويُروَى: "لِيَقُلْ: سَيدِي، ومَوْلَايَ". وَيُروَى: "لَا يَقُلْ العَبْدُ لِسَيدِه: مَوْلَايَ؛ فإنَّ مَوْلَاكم الله". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي، كلكم عبيد الله وكلُّ نساءكم إماء الله، ولكن ليقل: غلامي وجاريتي، وفتاي وفتاتي" قيل: إنما كره ذلك إذا قال على طريق التطاول على الرقيق والتحقير لشأنه، وإلا فقد جاء القرآن به، قال الله تعالى: {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور: 32]. "ولا يقل العبد: ربي" وذلك لأن الإنسان مربوبٌ متعبَّدٌ بإخلاص التوحيد، فكره المضاهاة بالاسم لئلا يدخل في معنى الشرك. "ولكن ليقل: سيدي" لأن مرجع السادة إلى معنى الرئاسة له وحسنِ التدبير لأمره. "ويروى: ليقل: سيدي ومولاي، ويروى: ولا يقل العبد لسيده: مولاي، فإن مولاكم الله". * * * 3699 - وَقَالَ: "لَا تَقُوْلُوا: الكَرْمُ؛ فإنَّ الكَرمَ قَلْبُ المُؤْمِنِ". ويُروَى: "لَا تَقُولُوا: الكَرْمُ، ولَكِنْ قُولُوا: العِنَبُ، والحَبَلَةُ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقولوا: الكَرْم، فإن الكَرْمَ قلب المؤمن" لطيبه وزكائه؛ لأنه معدن التقوى والإيمان. "ويروى: لا تقولوا: الكرم، ولكن قولوا: العنب والحَبَلة" بفتحتين، أصله شجرة العنب، أو قضيبها، سمي الحبلة العنب إطلاقًا لاسم الشجر على ثمره، وسبب النهي أن العرب كانوا يسمون العنب وشجرته كرمًا، لأن الخمر

المتخذ منه يحمل شاربها على الكرم، فكره النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه التسمية؛ لئلا يتذكروا به الخمر ويدعوهم حسنُ الاسم إلى شربها. * * * 3700 - وَقَالَ: "لَا تُسَمُّوا العِنَبَ: الكَرْمَ، ولَا تَقُوْلُوا: خَيْبَةَ الدَّهرِ؛ فإنَّ الله هُوَ الدَّهرُ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تُسموا العنب الكرم، ولا تقولوا: خيبة الدهر" والخيبة: الحرمان، كانت العرب إذا أصابتهم مصيبة أو نالهم حرمان في سفر أو حرب قالوا: يا خيبة الدهر، يريدون: يا دهر صرتَ خائبًا - على طريق الدعاء عليه - كما صيَّرتني كذلك، يريدون سبَّه فنهاهم عنه. "فإن الله هو الدهر"؛ أي: مقلِّبه والمتصرِّف فيه على حذف المضاف. * * * 3701 - وقال: "لا يَسُبُّ أَحَدُكُم الدَّهرَ؛ فإنَّ الله هُوَ الدَّهرُ". "وعنْه قال: قال رسول الله: لا يسب أحدكم الدهر فإن الله هو الدهر". * * * 3702 - وقَالَ: "قَالَ الله تَعَالَى: يُؤْذِيْنِي ابن آدمَ، يَسُبُّ الدَّهرَ، وأَنَا الدَّهرُ، بِيَدِي الأَمْرُ، أُقلِّبُ اللَّيلَ والنَّهارَ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: قال الله تعالى: يؤذيني ابن آدم، يسبُّ الدهر وأنا الدهر بيدي الأمر أقلِّب الليل والنهار" تقدَّم البيان فيه في (كتاب الإيمان).

3703 - وَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَا يقُولَنَّ أَحَدُكُم: خَبُثَتْ نَفْسِي، ولَكِنْ لِيَقُلْ: لَقِسَتْ نَفْسِي". "وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي، ولكن ليقل: لقست نفسي" يقال: (خبُثت) بضم الباء، و (لقَست) بفتح القاف بمعنى: غَثَى قلبي، وإنما كره - صلى الله عليه وسلم - لفظ (خبثت) لئلا يضيف المؤمن الخباثة إلى نفسه التي هي صفة الكفار، قال الله تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26]. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فأصبح خبيث النفس كسلان" فواردٌ مورد الوعيد في حق من ثبَّطه الشيطان عن قيام الليل. * * * مِنَ الحِسَان: 3717 - عَنِ المِقْدِامِ بن شُرَيحٍ، عَنْ أَبيْهِ شُرَيْحٍ، عَنْ أَبيْهِ هَانِئٍ: أنَّه وَفَدَ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَعَ قَوْمِهِ، سَمِعَهُم يُكَنُّونهَ بِأبي الحَكَم، فقالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "الله هُوَ الحَكمُ، وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ"، فَقَالَ: كَانَ قَوْمِي إذَا اخَتَلفُوا في شَيء أتوْنِي فَحَكَمْتُ بَيْنَهُم فَرَضيَ الفَرِيَقْانِ، فَقَالَ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم: "مَا أَحْسَنَ هَذا! فَمَا لَكَ مِنَ الوَلَدِ؟ " قَالَ: شُرَيْحٌ، ومُسْلِمٌ، وعَبْدُ الله، قَالَ: "فمَنْ أكبرُهُم؟ " قُلْتُ: شُرَيْحٌ، قَالَ: "فَأَنْتَ: "لَو شُريْحٍ". (من الحسان): " عن المقدام بن شريح، عن أبيه شريح، عن أبيه هانئ قال: إنه وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قومه سمعهم يكنونه" الضمير المنصوب فيه إلى هانئ. "بأبي الحكم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله تعالى

هو الحكم" وهو الحاكم الذي إذا حكم لا يردُّ حكمه. "وإليه الحكم" وذلك لا يليق بغيره تعالى. "فقال"؛ أي: هانئ: "كان قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم، فرضي به الفريقان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما أحسن هذا! "؛ أي: الحكم بين الناس، (ما) للتعجب. "فما لك من الولد؟ قال: شريح ومسلم وعبد الله، قال: فمن أكبرهم؟ قلت: شريح، قال: أنت أبو شريح" قصد به تسميته بذلك، والحديث يدل على أن الأولى أن يُكنى الرجل والمرأة بأكبر بنيهما، فإن لم يكن ابنهما فبأكبر بناتهما. * * * 3718 - عَنْ مَسْروُقٍ قَالَ: لَقِيْتُ عُمَرَ - رضي الله عنه - فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟ قُلْتُ: مَسْرُوقُ بن الأجْدَعِ، قَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُوَلَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُوْلُ: "الأجْدَعِ شَيْطَان". "وعن مسروق أنه قال: لقيت عمر فقال: من أنت؟ قلت: مسروق بن الأجدع، قال عمر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الأجدع شيطان". * * * مِنَ الحِسَان: 3704 - عَنْ أَبيْ الدَّرْداء - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُوْلُ الله صلى الله عليه وسلم: "تُدْعَونَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُم وأَسْمَاءِ آبَائِكُم، فَأَحْسِنُوا أَسَمَاءَكُم". "عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تُدعون يوم القيامة بأسمائكم

وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم". * * * 3705 - عَنْ أَبيْ هُرِيْرةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم نهَى أَنْ يَجْمَعَ أَحْدٌ بَيْنَ اسْمِهِ وكُنيتَهِ ويُسَمَّى: مُحَمَّداً أَبَا القَاسِم. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام نهى أن يجمع أحدٌ بين اسمه وكنيته ويسمِّي محمداً أبا القاسم" لوقوع اللبس إذا نودي الغير بحضرته، فيكون مقيَّدًا بحياته. * * * 3706 - وَعَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا سَمَّيْتُم باسْمِي فَلَا تَكْتَنُوا بكُنْيتي"، غريب. وفي رِوايَةٍ: "مَنْ تَسَمَّى باسْمِي فَلَا يَكتَنِ بِكُنْيتِي، ومَنْ اكتَنَى بِكُنيَتي فَلَا يَسَمَّ باسِمْي". "وعن جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا سميتم باسمي فلا تكتنوا بكنيتي". "غريب ". "وفي رواية: من تسمى باسمي فلا يَكْتَنِ بكنيتي، ومن اكتنى بكنيتي فلا يتسمَّ باسمي، وهذا يدل على أن الإفراد جائز فإنه أقلُّ كراهة من الجمع؛ لأن في الإفراد يمكن رفع اللبس بخلاف الجمع فإنه لا يمكن الرفع فيه إلا بكلفة؛ لكثرة الاشتراك سواءٌ في زمنه صلى الله عليه وسلم أو بعده. * * * 3716 - عَنْ عَائِشَةَ: قَالَتْ امرَأةٌ: يَا رَسُوَلَ الله! إنِّي وَلَدْتُ غُلَاماً

فَسَمَّيتُهُ: مُحمَّداً وكنَّيتُهُ: أَبَا القاسِم، فذُكِرَ لِيْ أنَّكَ تَكْرَهُ ذَلَكَ، قَالَ: "مَا الَّذِي أَحَلَّ اسْمِي وَحَرَّمَ كُنْيَتِي؟ "، أَوْ: "مَا الَّذِي حَرَّمَ كُنيتَي وأَحَلَّ اسْمِي؟ "، غريب. "عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: قالت امرأة: يا رسول الله! إني ولدت غلامًا فسميته محمدًا وكنيته أبا القاسم، فذُكر لي أنك تكره ذلك؟ قال: ما الذي أحل اسمي وحرم كنيتي، أو: ما الذي حرم كنيتي وأحل اسمي" وهذه شك من الراوي؛ يعني: لا فرق بين التسمية باسمي والتكنية بكنيتي بل كلاهما جائز، وهذا منسوخ عند مَن لم يجوّز الجمع بينهما. * * * 3707 - عَنْ مُحَمَّدِ بن الحَنَفيَّةِ، عَنْ عليٍّ أنِّه قَالَ: يَا رسَوُلَ الله! أَرَأَيْتَ إنْ وُلِدَ لِيْ بَعْدَك وَلَدٌ، أُسَمِّيهِ: مُحمَّداً وأُكَنِّيهِ بكُنيَتِكَ؟ قَالَ: "نعَم"، وكانَتْ رُخْصَةً لِيْ. "عن محمد بن الحنفية عن علي أنه قال: يا رسول الله! أرأيت"؛ أي: أخبرني. "إن ولد لي بعدك ولد أسميه محمداً وأكنيه بكنيتك؟ قال: نعم، وكانت رخصة لي" علم منه أن النهي مقصورٌ على زمانه - صلى الله عليه وسلم -، فيجوز الجمع بينهما بعده لرفع الالتباس، وبه قال مالك. * * * 3708 - وَقَالَ أَنسٌ - رضي الله عنه -: كَنَّانِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَا حَمْزَةَ ببقْلَةٍ كُنْتُ أَجتِنيْها. صحيح. "وقال أنس - رضي الله عنه -: كناني رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبا حمزة ببقلة كنت أجتنيها"؛ أي: أقلعها؛ يعني: كنت أقلع حمزة، وهو بقلة حِرِّيفة،

وقيل: في طعمها حموضة، فكناني أبا حمزة. "صحيح". * * * 3709 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْهَا قَالَتْ: إِنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُغيرُ الاسْمَ القَبيْحَ. "عن عائشة أنها قالت: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يغير الاسم القبيح". * * * 3710 - ورُوِيَ: أَنَّ رَجُلاً يُقالُ لَهُ؛ أَصْرَمُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا اسْمُكَ؟ " قَالَ: أَصْرمُ، قَالَ: "بَلْ أَنْتَ: زُرْعَةُ". "وروى أسامة بن أخدري أن رجلاً يقال له: أصرم" من الصَّرْم وهو القطع، وذلك غير مستحسن في التفاؤل. "قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: أصرم، قال" كراهة لهذا الاسم: "بل أنت زُرعة" بضم الزاي وسكون الراء المهملة: فُعْلة من الزرع، وهي قطعة منه، والزرع مستحسن فلهذا غيَّر أصرم إليه. * * * 3711 - ورُوِيَ: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - غيَّرَ اسْمَ: العَاص، وعَزيْزٍ، وعَتَلَةَ، وشيطان، والحَكَم، وغُرَابٍ، وحُبَابٍ، وشِهابٍ. "وروي أنه صلى الله عليه وسلم غيَّر اسم العاص" كراهةً لمعنى العصيان؛ لأن شعار المؤمن الطاعة والاستسلام.

"وعزيز" لأنه من أسماء الله تعالى، والعبد موصوفٌ بالذل والخشوع والاستكانة. "وغَتَلة" بالفتحات؛ لأن معناه: الغلظة والشدة، ومن صفة المؤمن اللين والسهولة وخَفْضُ الجناح. "وشيطان" لأن اشتقاقه من الشطن، وهو البعد من الخير، وهو اسم المارد والخبيث من الجن والإنس. "والحكم" لما قلنا: إنه هو الحاكم الذي إذا حكم لا يردُّ حكمه، وهذه الصفة لا تليق بغير الله تعالى. "وغراب" لأن معناه البعد. "وحُبَاب" بضم الحاء المهملة؛ لأنه نوعٌ من الحيات، وقيل: هو اسم شيطان. "وشهاب" بكسر الشين؛ لأنه شعلة نار ساطعة، أي: مرتفعة، والنار عقاب الله، ولأنه يُرجم به الشيطان. * * * 3712 - وعَنْ أَبيْ مَسْعُودٍ الأَنْصَاريِّ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ في: زعموا: "بئسَ مَطيَّةُ الرَّجُل! ". "عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول في زعموا"؛ أي: في حق لفظ (زعموا)، والزعم؛ الادعاء، والمراد به: التكلُّمُ بكلام سمعه من غيره ولم يعلم صحته؛ لأن استعمالها (¬1) ¬

_ (¬1) في "غ": "لاستعمالها" بدل "لأن استعمالها".

غالبًا في حديثٍ لا سند له ولا تثبت فيه بل تحُكى على الألسن. "بئس مطيةُ الرجل"؛ أي: مركوبُه، والمخصوص بالذم محذوفٌ للعلم به، شبَّه - صلى الله عليه وسلم - ما يقدِّمه الرجل أمام كلامه توصُّلاً به إلى حاجته من قول: (زعموا) بالمطية المتوصَّل بها إلى المقصد، فأمر - صلى الله عليه وسلم - بالتثبُّت في المحكي والاحتياط في المروي، فلا يروي حديثًا إلا عن ثقة، فقد روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكل ما سمع". * * * 3713 - وعَنْ حُذيْفَةَ عَنِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقَوُلُوا: مَا شَاءَ الله وشَاءَ فُلَانٌ، وَقُولُوا: مَا شَاءَ الله ثُمَّ شَاءَ فُلَانٌ". "عن حذيفة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقولوا ما شاء الله" فيه حذف، أي: فهو كائن، أو: كان ونحوه. "وشاء فلان" بالعطف عليه؛ لأنه يلزم منه الاشتراكُ والتسويةُ بين الله وبين العباد في المشيئة؛ لأن الواو للجمع والاشتراك. "وقولوا: ما شاء الله ثم شاء فلان" لأن (ثم) للتراخي. * * * 3714 - وَيُروَى: "لَا تَقُوْلُوا: مَا شَاءَ الله وشَاءَ مُحَمَّد، وَقُولُوا: مَا شَاءَ الله وَحْدَهُ"، منقطع. "ويروى: لا تقولوا: ما شاء الله وشاء محمد، وقولوا: ما شاء الله وحده"، "منقطع". * * *

9 - باب البيان والشعر

3715 - وَقَالَ: "وَلَا تَقُولُوا للمُنَافِقِ: سيدٌ، فإنَّه إِنْ يَكُ سَيداً فَقَدْ أَسْخَطُتُم ربَّكُم". "عن بريدة الأسلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تقولوا للمنافق سيدنا، فإنه إن يك سيداً"؛ أي: صاحبَ عبيدٍ وإماءٍ وأموال. "فقد أسخطتم"؛ أي: أغضبتم "ربكم" لأنكم عظَّمتم مَن لا يستحقُّ التعظيم، وإن لم يكن كذلك فقد كذبتم. * * * 9 - باب البَيانِ والشِّعرِ (باب البيان والشعر) و (البيان): إظهار المقصود بأفصح لفظ وأبلغه، وأصله: الكشف والظهور. مِنَ الصِّحَاحِ: 3719 - عَنِ ابن عُمرَ قَال: قَدِمَ رَجُلانِ مِنَ المَشْرقِ فخطَبا فعَجبَ النَّاسُ لِبيَانِهِما، فَقَالَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْراً". "من الصحاح": " عن ابن عمر قال: قدم رجلان من المشرق فخطبا" ببلاغة ومحسنات ألفاظ. "فعجب الناس لبيانهما، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن من البيان لسحراً": يعني: إن بعض البيان بمثابة السحر في ميلان القلوب أو في العجز عن الإتيان بمثله، وهذا النوعُ ممدوحٌ إذا صُرف إلى الحق، ومذمومٌ إذا

صرف إلى الباطل. * * * 3720 - وقَالَ: "إنَّ مِنَ الشِّعرِ حِكْمَةً". "وعن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن من الشعر لحكمة"؛ أي: كلامًا نافعًا يمنع عن الجهل والسفه، وهو ما نَظَمه الشعراء من المواعظ والأمثال المنتفِع بها الناسُ، والثناءِ على الله ورسوله، والنصيحةِ للمسلمين، وما أشبه ذلك، وهذا النوع من الشعر محمودٌ وممدوحٌ، والشعر المذمومُ ما فيه كلام قبيح. * * * 3721 - وقَالَ: "هَلَكَ المُتَنَطِّعُونَ"، قَالَهَا ثَلاثاً. "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ألا هلك المتنطعون" وهم المتعمِّقون في الكلام الغالُون في خوضهم فيما لا يعنيهم منه، وقيل: المتكلِّفون في الفصاحة، وقيل: أراد بهم المصوِّتين من قعر حلوقهم والمردِّدين لكلامهم في أفواههم رعونةً في القول وفصاحة. "قالها"؛ أي: هذه الكلمة. "ثلاثاً" تهويلًا لشأن هذا الأمر وتحريضًا على التيقُّظ لمَا فيه من الغائلة العظيمة. * * * 3722 - وقَالَ: "أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قالَها الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبيدٍ: أَلا كُلُّ شَيءٍ مَا خَلا الله باطِلٌ"

"عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أصدق كلمة"؛ أي: كلام. "قالها الشاعر كلمة لبيد بن ربيعة: ألا كل شيء ما خلا الله باطل"؛ أي: فانٍ في حد ذاته، وهو الممكن، و (خلا) بمعنى سِوى، وإنما كان هذا القولُ أصدق لأن النقل والعقل شاهدان عليه. روي: أن لبيداً لما أنشد هذا المِصرَاع قال - صلى الله عليه وسلم - له: "صدقت"، ولمَّا قال: وكلُّ نعيم لا محالةَ زائلُ، قال - صلى الله عليه وسلم -: "كذبتَ فإن نعيم الجنة لا يزول". 3723 - وعَن عَمرِو بن الشَّريدِ، عَنْ أبيهِ، قال: رَدِفْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْماً فَقَالَ: "هلْ مَعَكَ مِن شِعرِ أُمَيَّةَ بن أبي الصَّلتِ شَيء؟ " قُلتُ: نعم، قَال: "هِيْهِ"، فأَنشدْتُه بَيْتاً، فَقَال: "هيهِ"، ثُمَّ أنشدتُهُ بيتاً، فَقَالَ: "هِيْهِ"، حتى أَنشدتُه مئةَ بيْتٍ. "وعن عمرو بن الشريد، عن أبيه أنه قال: ردفتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال: هل معك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم، قال: هيه" بمعنى إيهِ -بكسر الهمزة- هو اسم فعل معناه الأمر؛ أي: تكلَّم، وقد تنوَّن فتحاً وكسراً للتنكير نحو: إيهٍ وإيهاً؛ أي: حدّث حديثاً. "فأنشدته بيتاً، فقال: هيه، ثم أنشدته بيتاً فقال: هيه، حتى أنشدته مئة بيت". وأمية ثقفيٌّ من شعراء الجاهلية، وكان مترهِّباً وحريصًا على استعلام أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - مصدِّقا لخروجه، راجيًا كونَه من قومه ثقيف، فلما أُخبر أنه من قريش أيس منه ومنعه الحسدُ عن الإيمان به، ولم يلبث أن مات.

يروى أنه قال عند وفاته: إن تغفر اللهم فاغفر جماً. . . وأيُّ عبدٍ لك لا ألمَّا وقال: وكلُّ عيشٍ كان تطاول دهراً. . . صائرٌ مدةً إلى أنْ يزولا ليتني كنت قبل ما بدا لي. . . في قلال الجبال أرعى الوعولا ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم - في بعض طرق الحديث: "أسلم شعرُه وكفر قلبُه". وقال - صلى الله عليه وسلم - لأخته لمَّا قدمت عليه بعد فتح الطائف: "كان مَثَلُ أخيك كمَثَلِ الذي أعطاه الله آياتِ فانسلخ منها فكان من الغاوين"، وهذا يدل على استحباب قراءة الشعر إذا كان فيه حكمة وموعظة. 3724 - وعَنْ جُنْدَبٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ في بَعضِ المَشَاهدِ وقَد دَمِيَتْ إصبَعُه فَقَال: "هلْ أنتِ إلاَّ إصبَعٌ دَمِيتِ. . . وفي سَبيْلِ الله ما لَقِيتِ" "وعن جندب بن سفيان البجلي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان في بعض المشاهد"؛ أي: الغزوات. "وقد دميت إصبعه" والواو للحال. "فقال هل أنت إلا إصبع دميت" بكسر التاء: خطابٌ للإصبع؛ أي: جُرحت. "وفي سبيل الله ما لقيت"؛ أي: الذي لقيته في سبيل الله لا في سبيل غيره، والحبيب إذا لقي في سبيل حبيبه سوءاً لا يشتكي منه، لم يقصد - صلى الله عليه وسلم - بتكلُّمه بهذا

وأشباهه الشعر، ولكن خرج من غاية فصاحته على نظم الشعر من غير قصده إياه. 3725 - وعَنِ البَراءِ بن عَازِبٍ - رضي الله عنه - قَال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ قُرَيْظَةَ لِحَسَّانَ بن ثابتٍ: "اهْجُ المُشْرِكِينَ، فإن جِبْرِيلَ مَعَك". "وعن البراء بن عازب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قريظة لحسان بن ثابت: اهجُ المشركين"؛ أي: اذكر عيوبهم وقلةَ عقولهم في عبادة الأصنام. "فإن جبريل معك". 3726 - وكَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ لِحَسَّانَ: "أَجِبْ عنِّي، اللهمَّ! أَيدهُ بِرُوحِ القُدُسِ". "وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لحسان: أجب عني"؛ أي: اهجُهم فإني لا أُحسن الشعر حتى أهجوهم. "اللهم أيده"؛ أي: قوِّه، يعني حسان. "بروح القدس"؛ أي: بجبريل، سمي به لأنه كان يأتي الأنبياء بما فيه حياة القلوب، و (القُدُس) بمعنى المقدَّس وهو الله، فإضافة الروح للتشريف، أو (القدس) صفة للروح وإنما أضيف إليه تنبيهاً على زيادة الاختصاص، وتأييدُه إمداده بالجواب وإلهامه بالصواب. 3727 - وعَنْ عَائِشةَ رَضيَ الله عَنْها: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "اهْجُوا قُرَيْشاً، فإنَّه أَشَدُّ عَليْهِم مِن رَشْقِ النَّبلِ".

وقَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ لِحَسَّانَ: "إن رُوحَ القُدُسِ لا يَزالُ يُؤَيدُكَ ما نافَحْتَ عَنِ الله ورَسُوله". وقالتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: "هجاهُم حَسَّانُ فَشَفَى واشْتَفَى". "عن عائشة- رضي الله عنها-: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: اهجوا قريشاً، فإنه"؛ أي: الهجو "أشدُّ عليهم من رشق النبل" بفتح الراء وسكون الشين؛ أي: من رمي السهم. "وقالت: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول لحسان: إن روح القدس لا يزال يؤيدك" يجوز أن يكون هذا دعاءً أو إخباراً. "ما نافحت"؛ أي: خاصمت. "عن الله"؛ أي: مدةَ دفعك عن عباد الله. "ورسوله" وتقويتهم على المشركين. روي عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يضع لحسان منبراً فيقوم عليه يهجو من كان يهجو رسول الله. "وقالت: سمعت رسول الله يقول: هجاهم حسان فشفى"؛ أي: غيره من المؤمنين؛ يعني: وجدوا بذلك شفاءً لما في قلوبهم من الغيظ. "واستشفى" هو بنفسه. 3728 - عَنِ البَراءِ قَال: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ينقُلُ التُّرابَ يومَ الخَنْدقِ حتَّى اغبَرَّ بطْنُهُ ويَقُولُ: "والله لَوْلا الله ما اهتَدَيْنَا. . . ولا تَصَدَّقْنَا ولا صَلَّينَا

فأنْزِلَنْ سَكِيَنة عَلَيْنَا. . . وَثَبت الأَقْدَامَ إنْ لاَقَيْنَا إنَّ الألَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا. . . إذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا يَرفَعُ بِها صَوْتَه: أَبَينا، أَبَيْنا". "عن البراء أنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقل التراب يوم الخندق": وهو يوم اتفق قبائل العرب على محاربة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاجتمعوا وجاؤوا حتى نزلوا حول المدينة، فقيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: طريق دفعهم أن يحفر حولها خندقاً كيلا يقدروا أن يتجاوزوا الخندق فإنهم أكثر من أن نقدر على مقاومتهم، فاشتغل - صلى الله عليه وسلم - هو وأصحابه بحفر الخندق. "حتى اغبر بطنه"؛ أي: صار ذا غبار. "ويقول: والله لولا الله"؛ أي: لولا هدايةُ الله، أو فضلُه علينا بأن هدانا إلى الإسلام. "ما اهتدينا" مصداقه قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف: 43]. "ولا تصدَّقنا ولا صلينا، فأنزلن سكينة علينا"ـ؛ أي: وقاراً وأمنًا من العدو. "وثبت الأقدام"؛ أي: أقدامنا على محاربة العدو. "إن لاقينا"؛ أي: العدو. "وإن القريش قد بغوا علينا"؛ أي: ظلمونا بإخراجنا من مكة. "إذا أرادوا فتنة" أراد بها الرد إلى الكفر. "أبينا"؛ أي: امتنعنا. "يرفع"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "بها صوته" ويكرر: "أبينا أبينا".

3729 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَال: جَعَلَ المُهاجِرُونَ والأنْصَارُ يَحْفِرُون الخَنْدقَ وينقُلُونَ التُّرابَ وهُم يَقُولُونَ: نَحْنُ الَّذِينَ بايَعُوا مُحَمَّداً. . . على الجهادِ ما بَقِيْنا أَبَدًا ويَقُولُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يُجيبُهُم: "اللهمَّ! لا عَيْشَ إلا عَيْشُ الآخِرهْ. . . فاغْفِر للأَنْصَارِ والمُهاجِره" "عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: جعل المهاجرون والأنصار"؛ أي: شرعوا "يحفرون الخندق وينقلون التراب وهم يقولون: نحن الذين بايعوا محمداً على الجهاد ما بقينا أبداً، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يجيبهم: اللهم لا عيش إلا عيش الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة" التاء فيها للجمع، يريد المهاجرين. 3735 - وقَال رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ رَجُلٍ قَيْحاً يَرِيْهِ خَيْرٌ مِن أَنْ يَمتَلِئَ شِعراً". "عن سعد بن أبي وقاص - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأَنْ يمتلئ جوف رجل قيحاً حتى يَرِيَه" الضمير للجوف، معناه: يفسد رئته، من قولهم: وَرَى القيحُ جوفَه؛ أي: أكله. "خير من أن يمتلئ شعراً" والمراد به: كلُّ شعر شاغل عن ذكر الله والعلم.

مِنَ الحِسَان: 3731 - عَنْ كعبِ بن مَالكٍ - رضي الله عنه -: أنَّه قَال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الله تعالى قَدْ أَنْزلَ في الشِّعرِ مَا أَنْزلَ، فَقَال النَّبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المُؤْمنَ يُجاهِدُ بسيفِه ولِسانِه، والذي نفسي بيدِه، لَكَأنَّما ترمُونهم بِهِ نضحُ النَّبلِ". "من الحسان": " عن كعب بن مالك أنه قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله قد أنزل في الشعر ما أنزل" وهو ذم الشعراء بقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء: 224]، فهل يجوز لنا أن نقول الشعر في هجو الكفار؟. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه" تنبيهاً على أن هذا ليس من الغواية بل هو مجاهدةٌ في سبيل الله. "والذي نفسي بيده لكأنَّ ما ترمونهم به"؛ أي: بالشعر واللسان. "نضحُ النبل"؛ أي: نضحاً مثل نضح النبل، أي: رمياً مثل رمي السهم، يعني: تأثيره في نفوسهم كتأثير السهام بل أشد. 3732 - عن أَبي أُمامَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "الحَيَاءُ والعِيُّ شُعبَتانِ مِن الإِيْمانِ، والبَذاءُ والبَيَانُ شُعبَتانِ مِن النِّفاقِ". "عن أبي أمامة عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: الحياء والعِيُّ" بكسر العين المهملة هو التحيّر في الكلام والعجزُ، والمراد هنا: السكوت عما فيه إثم من الكلام. "شعبتان من الإيمان" وذلك لمناسبتهما له في منعهما من المعاصي والاجتراء على الله بِعَثْرةِ اللسان وتبيعة القول كما يمنع الإيمان من ذلك.

"والبذاء" بفتح الباء: هو الفحش من القول. "والبيان" أراد به ما فيه إثم من الفصاحة، كهجو أحد، أو مدحه (¬1) بما لا يليق بالبشر. "شعبتان من النفاق" يريد أن منشاهما النفاق. 3733 - عَنْ أَبي ثَعلبةَ الخُشَنيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَال: "إنَّ أَحَبَّكم إِليَّ وأَقْرَبَكم مِنِّي يَوْمَ القِيَامةِ أحاسِنُكُم أَخَلاَقاً، وإِنَّ أَبْغضَكُم إليَّ وأَبْعَدَكم مِنِّي مَسَاوِئُكم أخلاَقاً، الثَّرثَارُونَ المُتشدِّقُونَ المُتَفَيْهِقُونَ". "عن أبي ثعلبة الخشني: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن أحبكم إلي وأقربكم مني يوم القيامة أحاسنكم" -جمع الأحسن- "أخلاقاً". "وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مساوئكم" - بفتح الميم: جمع السوء، وهو ضد الحسن- "أخلاقاً". "الثرثارون" وهم الذين يكثرون الكلام تكلُّفًا وخروجاً عن الحق. "المتشدقون"؛ أي: المتمخصون، وقيل: المستهزئون بالناس. "المتفيهقون"؛ أي: المتوسعون في الكلام، وفي هذا شيء من التكبُّر والرعونة. 3734 - عَنْ سَعْدِ بن أبي وَقَّاص قَال: قَال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى يخرُجَ قَوْمٌ يأكُلُونَ بألسِنَتِهِم كَمَا تأكُلُ البقَرُ بأَلِسنَتِها". ¬

_ (¬1) في "ت": "أو ذمه".

"عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعة حتى يخرج قوم يأكلون بألسنتهم كما تأكل البقر بألسنتها"؛ يعني: كما أن البقر تأكل الحشيش من كل نوع ولا تميز بين النافع والضار، فكذلك هؤلاء لا يبالون بما يقولون من كلامهم. وقيل: إن البقرة كما لا تهتدي إلى الكلأ، ولا تتمكن من الاحتشاش إلا بلسانها، فكذلك هؤلاء لا يهتدون إلى المآكل إلا بذلك، لا يميزون بين الحق والباطل، وبين الحلال والحرام، سمَّاعون للكذب أكَّالون للسحت، فوقع ضربُ المثل بالبقر عن هذين المعنيين. 3735 - عَنْ عَبدِ الله بن عَمرٍو: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَال: "إنَّ الله يُبغِضُ البَليغَ مِن الرَّجالِ، الَّذي يتَخَلَّلُ بلِسَانِهِ كَمَا تتَخَلَّلُ البَاقِرَةُ بِلِسانِها"، غريب. "عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن الله تعالى يبغض البليغ"؛ أي: الفصيح، وهو المبالغ في الكلام. "من الرجال الذي يتخلَّل"؛ أي: يأكل "بلسانه"؛ يعني يدير اللسان حول الأسنان في التكلم تفاصحاً. "كما تتخلل الباقرة" بمعنى البقرة. "بلسانها" ومعناه كمعنى الحديث الأول، فالمرضيُّ من الكلام أن يكون قَدْرَ الحاجة غيرَ زائد عليها، يوافق ظاهرُه باطنَه. "غريب". 3736 - عَنْ أنسٍ - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَرَرْتُ لَيْلةَ أُسرِيَ بي بِقَومٍ تُقْرَضُ شِفاهُهم بمقارِيض مِنَ النَّارِ، فَقُلْتُ: يا جبريلُ! مَن هؤُلاءَ؟ قَال:

هؤُلاءَ خُطباءُ أُمَّتِكَ الَّذينَ يقولونَ ما لا يعلَمونَ"، غريب. "عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مررتُ ليلةَ أسري بي" بناء (ليلة) على الفتح؛ لإضافتها إلى الجملة. "بقوم تقرض"؛ أي: تقطع. "شفاههم" بكسر الشين: جمع شَفة بالفتح. "بمقاريض": جمع مقراض. "من النار، فقلت: يا جبريل! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك"؛ أي: علماؤهم. "الذين يقولون ما لا يعلمون". "غريب". 3737 - عَنْ أبي هُريْرَة - رضي الله عنه - قَال: قَال رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تَعَلَّم صَرْفَ الكَلامِ ليَسبيَ به قُلوبَ الرِّجَالِ -أَوِ: النَّاس- لَمْ يقبلِ الله مَنْهُ يومَ القِيامةِ صَرفاً ولا عَدلاً". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من تعلَّم صرف الكلام" يريد به فضله وزيادته؛ يعني: مَن تعلَّم الفصاحة وأنواعَ البلاغة من الشعر وغيره من العلوم لا لله تعالى بل "ليسبي به قلوب الرجال أو الناس"؛ أي: ليجعل قلوبهم إليه مائلةً. "لم يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً"؛ أي: حيلةً، أو توبة، أو فريضة. "ولا عدلاً"؛ أي: فداء، أو نافلةً، أو قُربةً.

3738 - عَنْ عَمرِو بن العَاصِ: أنَّه قَال يَوْماً -وقَامَ رجل فأكثرَ القَولَ- قَالَ عمرٌو: لو قَصَدَ في قويهِ لَكَانَ خَيْراً لهُ، سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "لَقْد رَأَيتُ -أو: أُمِرتُ- أنْ أتجوَّزَ في القَولِ، فإنَّ الجَوازَ هُوَ خيرٌ". "عن عمرو بن العاص أنه قال يوماً"؛ أي: قولاً. "وقام رجل فأكثر القول، قال عمرو: لو قصد في قوله" والقصد في القول هو ما بين الإفراط والتفريط قِصَراً وطولاً. "لكان خيراً له، سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: لقد رأيت" بمعنى علمت. "أو أمرت أن أتجوَّز"؛ أي: أقتصر. "في القول، فإن الجواز"؛ أي: الاقتصار فيه "هو خير". 3739 - عن صَخْرِ بن عبدِ الله بن بُرَيْدَةَ، عَنْ أبيْهِ، عَنْ جَدِّه - رضي الله عنه -، قَال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: "إن مِن البَيانِ سحراً، وإنَّ مِن العِلْم جَهْلاً، وإنَّ مِن الشِّعرِ حُكْمًا، وإنَّ مِنَ القَولِ عِيَالاً". "عن صخر بن عبد الله بن بريدة، عن أبيه، عن جده أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إن من البيان لسحراً وإن من العلم جهلاً"؛ يعني: قد يكون من العلوم ما يكون كالجهل بل الجهلُ خيرٌ منه؛ لكونه عِلْماً مذمومًا، وقيل: معناه: إن بعضًا من العلوم لا يُحتاج إليه كعلوم القدماء، فالاشتغال به يمنعه عن تعلم ما يحتاج إليه في دينه فيكون جهلاً. "وإن من الشعر حكمًا" قيل: المراد به الحكمة، كقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12]؛ أي: الحكمة، وقوله تعالى: {فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا} [الشعراء: 21]؛ أي: حكمة، وأصل الحكمة المنع.

10 - باب حفظ اللسان والغيبة والشتم

وإن من القول عيالاً" بكسر العين؛ أي: وبالاً وثقلاً؛ يعني: قد يكون من أقوال الرجل ما يكون عليه منه إثم؛ لكونه من مناهي الشرع. 10 - باب حِفْظِ اللِّسانِ والغِيْبةِ والشَّتمِ (باب حفظ اللسان من الغيبة (¬1) والشتم) مِنَ الصِّحَاحِ: 3740 - قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كَانَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَومِ الآخِرِ فلْيقُلْ خَيْراً، أو لِيَسْكُتْ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليسكت"؛ يعني: إن تكلَّمَ فليتكلَّم بما له ثواب وإلا فليسكت؛ لأن السكوت خيرٌ من كلام فيه إثم. 3741 - وقَال - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ ومَا بينَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ". "وعن سهل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يضمن لي"؛ أي: يكفل بمحافظة "ما بين لحييه" وهو الفم من أكل الحرام وقبح الكلام. "وما بين رجليه" وهو الفرج من الزنا. ¬

_ (¬1) في "غ": "والغيبة".

"أضمن له الجنة" كونه - صلى الله عليه وسلم - مكفولاً له باعتبارِ أنه طالبٌ لهذه المحافظة، ونفعُها عائد إليه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - هو الهادي، واهتداء المولى المدلول نافع له. 3742 - وَقَال - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ العَبْدَ لَيتكلَّمُ بالكَلِمةِ مِن رِضْوانِ الله لا يُلْقي لَها بَالاً يَرْفعُهُ الله بِها دَرَجَاتٍ، وإنَّ العَبْدَ لَيتكلَّمُ بالكَلِمةِ مِن سَخَطِ الله لا يُلْقِي لَها بالاً يَهوي بِها في جَهنَّم". ويُروى: "يَهْوِي بِهَا في النَّارِ أَبْعدَ مَا بَيْنَ المَشرقِ والمَغربِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن العبد" اللام فيه للجنس. "ليتكلم بالكلمة"؛ أي: بالكلام. "من رضوان الله"؛ أي: حالَ كونها مما يَرضَى الله بها. "لا يلقي لها بالاً" بضم ياء المضارعة وكسر القاف؛ أي: لا يُحضر لها قلبه ولا يلتفت عاقبتها، حالٌ من ضمير (يتكلم). "يرفعه الله بها درجات" هذا استئناف جواب عمن قال: ماذا يستحق المتكلّم بها؟. "وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها"؛ أي: يسقط بتلك الكلمة "في جهنم"؛ والمعنى: إنه ليتكلم بكلمة الحق يظنها قليلة وهي عند الله جليلةٌ، فيحصل له بها رضوانه، وقد يتكلم بسوء ولا يعلم أنها كذلك وهو عند الله ذنبٌ عظيم، فيحصل له السخط من الله تعالى، وفيه حث على التدبُّر والتفكُّر عند المتكلم. "ويروى: يهوي بها في النار أبعد" صفته مصدر محذوف؛ أي: هوى أبعدَ.

"ما بين المشرق والمغرب"، (ما) موصولة والظرفُ صلته؛ يعني: أبعد قعراً من البعد الذي بين المشرق والمغرب. 3743 - وقَالَ: "سِبَابُ المُسْلِم فُسُوقٌ وقِتَالُه كُفْرٌ". "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سِباب" بكسر السين؛ أي: شتم "المسلم فسوق"؛ لأن شتمه بغير حق حرام. "وقتاله"؛ أي: مجادلته ومحاربته بالباطل "كفر" والحديث محمول على التغليظ والتهديد. 3744 - وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "أَيُّمَا رَجُل قَالَ لأِخِيهِ: كَافرٌ، فَقَد باءَ بِها أَحَدُهُمَا". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أيما رجل قال لأخيه كافر فقد باء بها"، أي: رجع بتلك الكلمة "أحدهما"، وفي بعض النسخ: (به)، أي: بالكفر، وهو أولى. وإنما رجع بالكفر أحدهما؛ لأنه إما أن يَصْدُقَ عليه أو يكذب، فإن صدق فهو كافر، وإن كذب عاد الكفر إليه لتكفيره أخاه المسلم بسبب ذنبٍ صدر عنه (¬1) واعتقد فيه كونه كافراً بذلك، قيل: هذا فيمن كفَّر مسلماً بلا تأويل، وأما المتأوِّل فخارجٌ عنه. ¬

_ (¬1) في "غ": "منه".

3745 - وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَرْمِي رَجُل رَجُلاً بالفُسُوقِ، ولا يَرْمِيْهِ بالكُفْرِ، إِلاَّ ارتَدَّتْ عَلَيْه إنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كذَلَك". "وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يرمي رجل رجلاً بالفسوق ولا يرميه بالكفر إلا ارتدَّت عليه"؛ أي: على الرجل الرامي؛ يعني: رجعت تلك الكلمة إلى قائلها "إن لم يكن صاحبه كذلك". 3746 - وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ دَعَا رَجُلاً بالكفُرِ، أو قَالَ: عَدُواً للهِ، ولَيْسَ كَذَلك، إِلَّا حَارَ عَلَيْهِ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من دعا رجلاً بالكفر، أو قال: عدو الله، وليس كذلك إلا حار"؛ أي: رجع ذلك "عليه". 3747 - وقَالَ: "المُسْتَبَّانِ مَا قَالا، فعلى البَادِئَ مَا لَمْ يَعتَدِ المَظْلُومُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المستبَّان"؛ أي: اللذان سبَّ كلٌّ منهما الآخر؛ أي: شتمه. "ما قالا"؛ أي: إثم ما قالا من السباب "فعلى البادئ ما لم يعتد المظلوم"؛ أي: لم يتجاوز المسبوبُ في السبِّ عن حدِّه، فإذا تجاوز لا يكون الإثم على البادئ فقط بل يكون الآخرَ آثما أيضاً باعتدائه. 3748 - وقَالَ: "لاَ ينبَغِي لِصدِّيقٍ أنْ يَكُونَ لعَّاناً".

"وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينبغي لصِدِّيقٍ أن يكون لعَّاناً" وهو الذي يكثر اللعن على لسانه. 3749 - وقَالَ: "إنَّ اللَّعَّانِينَ لاَ يَكُونُونَ شُهدَاءَ ولاَ شُفَعَاءَ يومَ القِيَامةِ". "وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن اللعانين لا يكونون شهداء"؛ أي: على الأمم السالفة بأنَّ رسلهم بلَّغوا الرسالة إليهم، فيحرمون من هذه الرتبة الشريفة المختصة بهذه الأمة. "ولا شفعاء،" أي: لا يكونون أيضًا شفعاء في إخوانهم العاصين. "يوم القيامة" قيل: في ذكر اللعانين بصيغة التكثير إشارةٌ إلى أن هذا الذمِّ إنما هو لمن أكثر منه اللعن لا لمن يصدر منه مرة أو مرتين. 3750 - وقَالَ: "إِذَا قَالَ الرَّجُلُ: هلَكَ النَّاسُ، فَهُوَ أَهْلَكُهُم". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا قال الرجل: هلك الناس"؛ أي: استوجبوا النار بسوء أعمالهم. "فهو أهلكَهم" بفتح الكاف فعلاً ماضيا؛ أي: أوقَعَهم في الهلاك لأنه حملهم على ترك الطاعات والتلئس بالمعاصي يأساً منهم، أو هو الذي أوجب لهم الهلاك لا الله تعالى. ويروى بالضم أفعلَ تفضيلٍ؛ أي: هو أشدُّهم هلاكاً وأسوؤهم حالاً؛ لأنه يُولع بعيبهم ويذهب بنفسه عجباً. قيل: لو قاله تحزُّنا عليهم لمَا يرى فيهم من أمر دينهم فلا بأس به.

3751 - وقَالَ: "تَجدُوْنَ شَرِّ النَّاسِ يَوْمَ القِيَامةِ ذَا الوَجْهيْنِ، الَّذي يأتِي هؤُلاءِ بِوَجهٍ وهؤلاء بوجهٍ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تجدون شر الناس يوم القيامة ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه" هذا إذا لم يكن للإصلاح، فلو كان لأجله جاز. 3752 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدخُلُ الجُنَّةَ قَتَّاتٌ". ويروى: "لا يَدخُلُ الجَنَّةَ نمَّامٌ". "وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل الجنة قتَّات" بفتح القاف وتشديد التاء الأولى؛ أي: نمَّام، والنميمة: نقلُ الكلام على وجه الإفساد. "ويروى: لا يدخل الجنة نمام" فرَّق بعضٌ بينهما: بأن النمام هو الذي يتحدث مع القوم فينم، والقتات هو الذي يتسمَّع على القوم وهم لا يعلمون ثم يَنُمُّ. 3753 - وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "عَلَيْكُم بالصدقِ، فإنَّ الصِّدقَ يَهدِي إلَى البرِّ، وإنَّ البرَّ يَهْدِي إلَى الجَنَّةِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ الله صِدِّيقاً، وإيَّاكُم والكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلَى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلَى النَّارِ، ومَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويتحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكْتَبَ عِندَ الله كَذَاباً". وفي رِوَايَةٍ: "إنَّ الصِّدقَ بِرٌّ، وإنَّ البرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الكَذِبَ فُجُورٌ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ".

"وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عليكم بالصدق"؛ أي: الزموا الصدقَ، وهو الإخبار على وفاقِ ما في الواقع. "فإن الصدق يهدي"؛ أي: يوصل صاحبه. "إلى البر" وهو اكتساب الحسنات والاجتنابُ عن السيئات. "وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يَصْدُقُ ويتحرى الصدق"؛ أي: يجتهد في طلب الصدق. "حتى يكتب عند الله صدِّيقاً" بكسر الصاد وتشديد الدال للمبالغة. "وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله تعالى كذاباً". "وفي رواية: إن الصدق بر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب فجورٌ، وإن الفجور يهدي إلى النار". 3754 - وقَالَ: "لَيْسَ الكَذَّابُ الَّذي يُصلِحُ بَيْنَ النَّاسِ، ويَقُولُ خَيْراً، وَينْمِي خَيْراً". "وعن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس الكذاب" فيه نفي المبالغة في الكذب. "الذي يصلح بين الناس"؛ يعني: مَن كذب ليصلح بين الناس لم يكن عليه إثم ذلك الكذب، بل يثبت له أجرٌ. "ويقول خيراً وينمي"؛ أي: يبلِّغ "خيراً" ويقال: نَمَى يَنْمِي نَميْاً: إذا بلَّغ أحداً حديثَ أحد على وجه الإصلاح وطلبِ الخير، بأن يقول مثلاً للإصلاح بين

زيد وعمرو: يسلِّم عليك زيدٌ، ويمدحك، ويقول: أنا أحبه، وكذلك يجيء إلى زيد ويبلِّغه من عمرو السلامَ مثل ذلك. 3755 - وقَالَ: "إِذَا رَأيْتُم المَدَّاحينَ فاحثُوا في وُجُوهِهِمُ التُّرابَ". "عن مقداد بن الأسود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا رأيتم المداحين" وهم الذين اتخذوا مدح الناس عادةً وبضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه. "فاحثوا في وجوههم التراب" كنى به عن الحرمان؛ أي: فلا تعطوهم شيئاً. وقيل: يؤخذ التراب ويُحثى؛ أي: يرمي به في وجه المادح عملاً بالظاهر. وقيل: معناه الأمر بدفع المال إليهم، إذ المال شيء حقير كالتراب؛ أي: أعطوهم إياه واقطعوا به ألسنتهم؛ لئلا يهجوكم ويذمُّوكم. أما إذا مدح رجلاً على فعلٍ حسن ترغيبًا له على أمثاله وحثاً للناس على الاقتداء به في أشباهه، فغير مدَّاح. 3756 - وعَنْ أَبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قَال: أثنى رَجُلٍ على رَجُلٍ عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: "ويلَكَ! قَطَعتَ عُنُقَ أَخِيْكَ -ثَلاثاً- مَن كَانَ مِنْكُم مَادِحًا لا مَحالَةَ فليقُلْ: أَحْسِبُ فُلاناً والله حَسِيبه، إنْ كَانَ يَرَى أنَّه كَذَلِكَ، ولاَ يُزكِّي على الله أَحَداً". "وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - أنه قال: أثنى رجل على رجل عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ويلك قطعت عنق أخيك! ثلاثاً" إنما كره ذلك لئلا يغترَّ المقولُ له فيستشعر

الكبر والعجب، وذلك خيانةٌ عليه، فيصير كأنه قطع عنقه فأهلكه. "من كان منكم مادحاً لا محالة" بالفتح؛ أي: في حالة لا بدَّ من مدحه. "فليقل: أحسب فلاناً"، كذا وكذا، وهو من الحسبان بمعنى الظن. "والله حسيبه"؛ أي: مُجازيه على أعماله، وهو العالم بحقيقة حاله. "إن كان يرى"؛ أي: يظن. "أنه كذلك"؛ أي: الممدوح كما مدحه. "ولا يزكي" عطف على (يرى)، وهو الصواب؛ أي: وكان لا يزكي. "على الله أحداً"؛ أي: لا يقطع بتقوى أحد ولا بزكاته عند الله، فإن ذلك غيبٌ عنا، عدَّاه بـ (على) لتضمنه معنى الغلبة؛ لأن مَن جزم على تزكية أحد عند اللُّه فكأنه غَلَبَ عليه في معرفته. 3757 - عن أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أتدرُوْنَ مَا الغِيْبةُ؟ " قَالُوا: الله ورَسَولهُ أَعلَمُ، قَال: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بَما يَكْرَه"، قِيْل: أفرَأَيْتَ إنْ كَانَ في أَخِيْ مَا أقولُ؟ قَال: إنْ كَانَ فيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغتبْتَهُ، وإنْ لَمْ يَكُنْ فيهِ فَقَد بهتَّهُ". ويُروَى: "إذَا قُلْتَ لأِخيْكَ مَا فيهِ فَقْد اغْتبْتَهُ، وإذَا قُلْتَ مَا لَيْسَ فيهِ فَقدْ بَهتَّهُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتدرون ما الغيبة؟ "؛ أي: أتدرون جواب هذا السؤال؟. "قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره"؛ يعني: الغيبة أن تصف أخاك حال كونه غائباً بوصفٍ يكرهه إذا سمعه.

"قيل: أفرأيت"؛ أي: أخبرني يا رسول الله "إن كان في أخي ما أقول؟ "؛ أي: إن كان أخي موصوفاً بما وصفتُه هل يكون غيبة؟. "قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتَّه"؛ أي: قلت فيه بهتاناً؛ أي: كذبًا عظيماً، والبهتان هو الباطل الذي يُتحيَّر من بطلانه وشدة فكره. "ويروى: أذا قلت لأخيك ما فيه فقد اغتبته، وإذا قلت ما ليس فيه فقد بهتَّه". 3758 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها: أنَّ رَجُلاً اسْتأذَنَ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: "ائْذَنُوا لَهُ، فبئسَ أَخُو العَشِيرَةِ هُوَ"، فَلَمَّا جَلَسَ تَطَلَّقَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في وَجْهِهِ، وانْبَسَطَ إليْه، فلمَّا انْطَلَقَ الرَّجُلُ قَالَت عَائِشَةُ رَضيَ الله عَنْها: يَا رَسُولَ الله! قُلْتَ لهُ: كَذا وكَذا، ثُمَّ تَطلَّقتَ في وجْهِهِ، وانبسَطْتَ إليه! فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَتَى عَهدتِنِي فَحَّاشاً؟ إنَّ شَرَّ النَّاس عِنَدَ الله مَنْزلةً يَومَ القِيامةِ مَن تَرَكهُ النَّاس اتقَاءَ شَرِّه". ويُرْوَى: "اتّقاءَ فُحشِهِ". "وعن عائشة - رضي الله عنه - أن رجلاً" قيل: هو عيينة بن حصن. "استأذن على النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: طلب الإذن في الدخول عليه. "فقال: ائذنوا له فبئس أخو العشيرة" هو؛ أي: بئس هو في قومه، وهذا تعريف له بسوء الفعل وخبث النفس، وكذلك يدل على جواز ذكر مساوئ الخبيث ليُحترز منه ويُتوقَّى شره. "فلما جلس تطلَّق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: أظهر الطلاقة والبشاشة "في

وجهه وانبسط إليه"؛ يعني جعله قريبًا من نفسه وتبسم في وجهه. "فلما انطلق الرجل"؛ أي: ذهب "قالت عائشة: يا رسول الله! قلت له كذا وكذا، ثم تطلَّقت في وجهه وانبسطت إليه؟! فقال رسول الله: متى عاهدتني"؛ أي: وجدتني "فحاشاً؟ " أصل الفحش: زيادة الشيء على مقداره، وهذا إنكارٌ على عائشة قولها: إنك خالفت بين الغيبة والحضور. "إن شر الناس" استئنافٌ كالتعليل لقوله: (متى عاهدتني فحاشًا). "عند الله منزلةً يوم القيامة من تركه الناس"؛ أي: تركوا التعرُّض له "اتقاء شره" كيلا يؤذيه بلسانه، وفيه رخصةُ التواضع لدفع الضرر. "ويروى: اتقاء فحشه" وهو مجاوزة الحد قولًا وفعلاً، قيل: ذلك الرجل ظهر كما وصفه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ارتدَّ بعده مع المرتدين وجيء به أسيراً إلى أبي بكر - رضي الله عنه -. 3759 - عَنْ أَبي هُريرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "كُلُّ أُمَّتِي مُعَافَى إلَّا المُجاهِرِينَ، فإنَّ مِن المُجَاهرةِ: أنْ يَعمَلَ الرَّجُلُ باللَّيلِ عَمَلاً ثُمَّ يُصبحُ وقد سَتَرَهُ الله فَيقولَ: يَا فُلانُ! عَمِلْتُ البَارِحَةَ كذا وكذا، وقد بَاتَ يسْترُه ربُّه، ويُصْبحُ يكشِفُ سِتْرَ الله عَنْهُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: كلَّ أمتي معافًى" مفعول من عافاه الله، قيل: أي: أعطاه العافية وهي السلامة من المكروه. "إلا المجاهرون" مستثنى من (معافى)؛ لأنه في معنى النفي؛ أي: كل أمتي لا ذنب عليهم إلا المجاهرون بالمعاصي. "وإن من المجانة": يقال: مَجَنَ يَمجنُ مُجوناً ومَجَانة فهو ماجِنُ؛ أي: لم يبال بما صنع ولا بما قيل له من غيبته ومذمتِه، ونسبتِه إلى فاحشة.

"أن يعمل الرجل بالليل عملاً ثم يصبح وقد ستره الله، فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، وقد بات يستره ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه"؛ يعني: مَن أظهر ذنبه بين الناس فهو الذي لا يبالي بأن يغتابه الناس ويذمونه، وهذا غير مرضيٍّ عند الله وعند الناس. مِنَ الحِسَان: 3760 - قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تَرَكَ الكَذِبَ وهُوَ بَاطِلٌ بنيَ لَهُ في رَبَض الجَنَّةِ، ومَن تَرَكَ المِراءَ وهُوَ مُحِقٌّ بنيَ لَهُ في وَسَطِ الجنةِ، ومَن حَسَّنَ خُلُقَه بنيَ لَهُ في أَعلاَها". "من الحسان": " عن أبي أمامة وأنس قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ترك الكذب وهو باطل" جملة اعتراضيةٌ إخبارٌ عن الواقع؛ أي: الكذبُ باطلٌ في الواقع، أو حاليةٌ؛ أي: وحالُ ذلك أنه باطل لا مصلحة فيه أصلاً، قيد به لأنه إن لم يكن باطلاً بأنْ كان لإصلاح ذات البين فالإتيانُ به يوجب الأجر فلا يستحبُّ تركه. "بني له في ربض الجنة"، و (الربض) بالضم: وسط الشيء، وبالتحريك: نواحيه؛ أي: حوالي الجنة من داخلها لا من خارجها. "ومن ترك المراء"؛ أي: الجدال. "وهو مُحِقٌّ"؛ أي: والحالُ أن التارك محق؛ أي: صادقٌ في تكلُّمه بالحق. "بني له في وسط الجنة" نيلُه وسطَها بترك المراء مع أنه محق؛ لتركه كسر قلب مَن يجادله، ورفعة نفسه وإظهار فضله.

"ومَن حَسُنَ خلقُه بني له في أعلاها". "غريب". 3761 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتدرُوْنَ مَا أكثرُ مَا يُدخِلُ النَّاسَ الجَنَّة؟ تَقْوَى الله وحُسنُ الخُلُقِ، أترُوْنَ مَا أكثرُ مَا يُدخِلُ الناسَ النَّار؟ الأَجْوَفانِ: الفَمُ والفَرجُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة" (ما) الأولى استفهامية والثانية موصولة أو موصوفة؛ أي: أيُّ شيء أكثرُ إدخالاً للناس الجنة؛ يعني: أتدرون جواب هذا القول؟. "تقوى الله وحسن الخلق أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار؟ الأجوفان الفم والفرج" فإنهما يوقعان الناس في الإثم؛ لأن الرجل ربما لا يقنع بقليل من الحلال ويطلب الكثير من الحرام، وكذلك الفرج، فيدخل بسببه النار. 3762 - وقَالَ: "إِنَّ الرَّجُلَ لَيتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن الخَيْر مَا يعلمُ مَبْلَغَها، يَكْتُبُ الله لَهُ بِها رِضْوانَه إلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيتكَلَّمُ بالكَلِمةِ مِن الشرِّ مَا يَعلَمُ مبلَغَها، يَكْتُبُ الله بِها عَلَيْهِ سَخَطَه إِلَى يَوْمِ يَلْقَاه". "عن بلال بن الحارث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الرجل ليتكلَّم بالكلمة من الخير ما يعلم مبلغها"؛ أي: قَدرَ تلك الكلمة عند الله؛ إذ ربما يظن أنها يسير وهي عند الله عظيمة. "يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه" بالإضافة؛ أي: إلى يوم القيامة.

"وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من الشر ما يعلم مبلغها، يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم يلقاه". 3763 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وْيلٌ لِمَنْ يُحَدِّثُ فَيَكْذِبُ لِيُضحِكَ بهِ القَوْمَ، ويلٌ لَهُ، ويلٌ له". "وعن معاوية بن حَيْدةَ القشيري قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ويل لمن يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ويل له" والويل: الهلاك، وقيل: وادٍ في جهنم، وهذا يدل على أن من يحدِّث فيَصدُق في المزاح فيضحك منه الحاضرون فلا بأس به. 3764 - وقَالَ: "إنَّ العَبْدَ لَيقُولُ الكَلِمَةَ لاَ يَقْولُها إلَّا ليُضحِكَ بِها النَّاسَ يَهْوِي بِها أَبْعَدَ مَمَّا بَيْنَ السَّماءِ والأرضِ، وإنَّه لَيزِلُّ عَنْ لِسَانِهِ أَشَدَّ مِمَّا يَزِلُّ عَنْ قدمِهِ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن العبد ليقول الكلمة لا يقولها إلا ليُضْحِك بها الناس يهوي بها"؛ أي: يسقط بسبب تلك الكلمة الكاذبة إلى جهنم سقوطاً "أبعدَ مما بين السماء والأرض". وقيل: معناه: يبعد بها عن الخير والرحمة بعداً أبعد مما بينهما. "وإنه ليزل"؛ أي: يسقط "عن لسانه أشد مما يزل عن قدمه" يريد أن صدور الكذب عن لسانه أضرُّ عليه من سقوطه عن رجله على وجهه. 3765 - وقَالَ: "كَفَى بالْمَرءِ كذِبًا أنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ ما سَمِعَ".

"وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع" تقدم بيانه في (باب الاعتصام بالكتاب والسنة). 3766 - وقَالَ: "مَن صَمَتَ نَجَا". "عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من صمت"؛ أي: سكت عن الشر "نجا"؛ أي: خلص من عذاب الدارين. 3767 - وقَالَ عُقْبةُ بن عَامِر: لَقِيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْتُ: مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: "املِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، ولْيَسَعكَ بيتُكَ، وابْكِ عَلَى خَطِيْئَتِكَ". "وقال عقبة بن عامر: لقيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: ما النجاة؟ فقال: املك" بكسر الهمزة: أَمرٌ مِنْ مَلَكَ يملك؛ أي: احفظ "عليك لسانك"؛ أي: ولا تتكلم إلا بما يكون لك لا عليك. "وليسعك بيتك"؛ أي: اسكن في بيتك ولا تخرج منه إلا للضرورة، ولا تضجر من الجلوس في مسكنك والاشتغالِ بشأنك، ودع ما لا يعنيك ومخالطةَ من يشغلك عن دينك. "وابك على خطيئتك" أمر من الندم والتوبة. وهذا أسلوب الحكيم؛ لأنه سأل عن النجاة فأجاب - صلى الله عليه وسلم - بسببها. 3768 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ رَفَعَهُ، قَالَ: "إِذَا أَصبَحَ ابن آدَمَ فَإِنَّ الأَعضَاءَ كُلَّها تُكَفِّرُ اللّسانَ فتَقُولُ: اتَّقِ الله فيْنَا، فإنَّما نَحْنُ بِكَ، فإنْ استَقمتَ استَقَمنا،

وإنْ اعْوَجَجْتَ اعوجَجْنَا". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - يرفعه قال: إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفر اللسان"؛ أي: تَذِلُّ وتخضع، والتكفير هو أن يطاطئ رأسه وينحني قريباً من الركوع عند تعظيم صاحبه. "فتقول"؛ أي: الأعضاء للِّسان: "اتق الله فينا"؛ أي: في حفظ حقوقنا. "فإنما نحن بك"؛ أي: نستقيم بك ونعوجُّ بك. "فإن استقمت استقمنا وإن اعوَجَجْتَ اعوَجَجْنا". 3769 - وقَالَ - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ حُسْنِ إسْلام المرَءَ تَركُه مَا لا يَعْنيهِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مِن حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه"؛ أي: لا يهمُّه؛ يعني: إسلامُ الرجل إنما يَحسُنُ ويكمُلُ إذا ترك من الأقوال والأفعال ما لا ضرورة فيه ولا منفعةَ له منه. 3770 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَال: تُوفِّيَ رَجُل مِنَ الصَّحَابةِ فَقَال رَجُل: أبشِرْ بالجنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَلا تدرِي، فلعَلَّه تكلَّمَ فيْمَا لا يَعنِيهِ، أو بَخِلَ بَمِا لا يُنقِصُهُ". "عن أنس - صلى الله عليه وسلم - أن قال: توفِّي رجل من الصحابة، فقال رجل: أبشر بالجنة"؛ أي: افرح بحصول الجنة لك بأن صحبت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أوَلا تدري" يروى بفتح الواو عاطفةً على مقدَّر؛ أي: أتقول هكذا ولا تدري ما تقول؟ أو للحال؛ أي: والحال أنك لا تدري،

ويروى بسكونها عاطفةً على مقدَّر أيضًا؛ أي: أتدري أنه من أهلها أو لا تدري؟ أي: بأيِّ شيء علمت ذلك؟. "فلعله تكلم بما لا يعنيه أو بخل بما لا ينقصه" من التكلُّم بكلام الخير والتأديب والتعليم وغير ذلك، فإن ذلك لا ينقص شيئًا من لسانه، وقيل: معناه: بخل بالزكاة التي لا تنقص المال، فالضمير المنصوب عائد إلى الرجل والمرفوع إلى (ما)، أو هو عام في جميع ما لا ينقص بالبذل من المال والمسائل العلمية التي لا يحتاج الناس إليها. 3771 - عَنْ سُفيَانَ بن عَبْدِ الله الثَّقَفي قَالَ: قُلتُ: يا رسولَ الله! مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ؟ قَالَ: فأخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ وقَالَ: "هذا"، صحيح. "عن سفيان بن عبد الله الثقفي أنه قال: قلت: يا رسول الله! ما أخوف" (ما) استفهامية مبتدأ خبره (أخوف)، وهو أفعل التفضيل للمفعول. "ما تخاف"، (ما) هذه موصولة، والعائد محذوفٌ تقديره: أيّ شيء أخوفُ أشياء تخاف منها "عليَّ؟ قال: فأخذ بلسان نفسه وقال: هذا" إشارة إلى لسانه؛ يعني: "أكثر خوفي عليك منه. "صحيح". 3772 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذَا كَذَبَ العَبْدُ تَبَاعَدَ عَنْهُ المَلَكُ مِيْلاً مِن نتنِ مَا جَاءَ بهِ". "عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا كذب العبد تباعَدَ عنه الملك"، لعله الحفظة. "ميلاً" وهو ثلث الفرسخ، أو قطعة من الأرض، أو مدَّ البصر.

"من نتن ما جاء به" من الكذب الذي تكلم به. 3773 - وقَالَ: "كبُرَتْ خِيَانةً أنْ تُحدِّثَ أَخَاكَ حَدِيْثاً، هُوَ لَكَ بهِ مُصَدِّقٌ، وأَنْتَ بهِ كَاذبٌ". "عن سفيان بن أسيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كبرت خيانة" نصبٌ على التميز، و (كبرت) مسند إلى (أن تحدِّث)، والتأنيث على تأويل الخصلة أو الفعلة، وقيل: تقديره: كبرت الخيانةُ خيانةً. "أن تحدِّث أخاك حديثاً هو لك به مصدِّق وأنت به كاذب"؛ يعني: هذا الفعل خيانةٌ عظيمة عند الله. 3774 - وقَالَ: "مَن كَانَ ذا وَجْهينِ في الدُّنيا، كَانَ لَهُ يَومَ القِيامةِ لِسَانَانِ مِن نَارٍ". "عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: من كان ذا وجهين في الدنيا" المراد به مَن يرى نفسه عند شخص أنه من جملة محبيه وناصحيه وهو يحدِّثُ بمساوئه في غيبته. "كان له يومَ القيامة لسانان من نار". 3775 - وقَالَ: "لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ، ولا باللَّعَّانِ، ولا الفَاحِشِ، ولا البَذِيء"، غريب. "وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس المؤمن

بالطعان"؛ أي: ليس المؤمن الكاملُ طعاناً، طَعَنَ عليه يطعنُ فتحاً وضماً؛ أي: عابه، ومنه الطعن في النسب. "ولا باللعان" واللعن منهيٌّ عنه أن يلعن رجلاً بعينه مواجهةً براً كان أو فاجراً؛ لأن عليه توقيرَ البر ورَحْمَ الفاجر بالاستغفار له، وأما لعنُ الكافر والفاجر على العموم فغير مني عنه. "ولا الفاحش" وهو الذي يشتم الناس. "ولا البذيء": وهو الذي لا حياء له. "غريب". 3776 - وقَالَ: "لا يَكُونُ المُؤْمِنُ لَعَّاناً". وفي رِوَاية: "لا يَنْبَغِي للمُؤْمنِ أنْ يَكُونَ لعَّاناً". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يكون المؤمن لعاناً"؛ أي: ليس من صفة المؤمن الكامل أن يلعن أحداً. "وفي رواية: لا ينبغي للمؤمن أن يكون لعاناً". 3777 - وقَالَ: "لا تَلاَعَنُوا بِلَعنَةِ الله، ولا بِغَضَبِ الله، ولا بِجَهنَّم". وفي رِوَايَةً: "ولا بالنَّارِ". "وعن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تلاعنوا" بحذف إحدى التائين للتخفيف، وفي بعض: (لا تلعنوا). "بلعنة الله"؛ أي: لا تقولوا لمسلم: عليك لعنة الله.

"ولا بغضب الله" بأن تقولوا: عليك غضب الله. "ولا بجهنم" بأن تقولوا: لك جهنم. "وفي رواية: ولا بالنار" بأن تقولوا: أدخلك الله النار، وما أشبه ذلك. 3778 - وقَالَ: "إنَّ العَبْدَ إِذَا لَعَنَ شَيْئاً صَعِدَتْ اللَّعنةُ إلى السَّماءِ، فتُغلَقُ أبْوَابُ السَّماءِ دُوْنها، ثُم تَهْبطُ إلى الأَرضِ فتغْلَقُ أبوابُها دونها، ثُمَّ تأخُذُ يَمينًا وشِمَالاً فإذا لَمْ تَجد مَساغاً رَجَعَتْ إلى الَّذي لُعِنَ، فإنْ كَانَ لِذَلكَ أَهلاً، وإلَّا رَجَعَتْ إلى قائِلِها". "وعن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن العبد إذا لعن شيئاً صعدت اللعنة إلى السماء فتغلق أبواب السماء دونها، ثم تهبط إلى الأرض فتغلق أبوابها دونها، ثم تأخذ يميناً وشمالاً" صعود اللعنة وهبوطها وضربُها يميناً وشمالاً تجوُّزٌ وتصوير أن فعله هذا كالضالِّ المتردّد الذي لا يجد سبيلًا. "فإذا لم يجد مساغاً" بفتح الميم؛ أي: مدخلاً وطريقاً، ساغ الشراب في الحلق يسوغ؛ أي: دخل سهلاً. "دخلت"؛ أي اللعنة "إلى الذي لُعِنَ" على صيغة المجهول. "إن كان لذلك" اللعن "أهلاً، وإلا"؛ أي: كان لم يكن لذلك أهلاً بأن كان مظلوماً "رجعت إلى قائلها". 3779 - عَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ رَجُلاً نَازَعَتْهُ الرِّيحُ رِدَاءَهُ فلَعَنَها، فَقَال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَلْعَنْها فَإِنَّها مَأمُورَةٌ، وإِنَّه مَنْ لَعَنَ شَيْئاً لَيْسَ لهُ بأهْلٍ رَجعتْ اللَّعنةُ عَلَيهِ".

"عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رجلاً نازعته الريح بردائه"؛ أي: جاذبته. "فلعنها، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تلعنها فإنها مأمورةٌ، وإنه من لعن شيئاً ليس له بأهل رجعت اللعنة عليه". 3780 - وقَالَ: "لا يُبَلِّغْنِي أَحَدٌ مِنْ أَصحَابي عَنْ أَحَدٍ شَيئاً فإنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إليْكُم وأَنَا سَليمُ الصَّدرِ". "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يبلِّغني أحدٌ من أصحابي عن أحد شيئاً" بأن شتم أحداً، أو آذاه، أو فيه خصلة سوء، كيلا أغضب عليه. "فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر" ليس فيه غضب ولا حقد لأحد، وهذا تعليم للأمة. 3781 - وعن عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: قلتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: حَسبُكَ مِن صفِيَّة كَذَا وكَذَا، تَعِني: قَصِيْرةً، فَقَال: "لَقَد قُلْتِ كَلِمَةً لَوْ مُزِجَ بِها البَحرُ لَمَزَجَتهُ"، صحيح. "وقالت عائشة -رضي الله عنها- للنبي - صلى الله عليه وسلم -: حسبك من صفية كذا وكذا، تعني"؛ أي: تريد "قصيرة". "فقال: لقد قلت كلمة لو مُزج بها البحر"؛ أي: بالكلمة التي اغتبت بها أختك المؤمنة. "لمزجته"؛ أي: لغلبته بالمزج، وصار البحر مغلوباً بها، وهو مبالغةٌ في عظم تلك الكلمة؛ يعني: إن هذه الكلمة لو كانت مما يمزج بالبحر لغيرته عن

حاله مع كثرته من غاية قبحها. 3782 - وقَالَ: "مَا كانَ الفُحْشُ في شَيْءٍ إلَّا شَانَهُ، ومَا كانَ الحَيَاءُ في شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما كان الفحش في شيء إلا شانه"؛ أي: عابه. "وما كان الحياء في شيء إلا زانه"؛ أي: زيَّنه. 3783 - وقَالَ: "مَن عيَّرَ أَخَاهُ بِذَنْبٍ لَمْ يَمُتْ حَتَّى يعمَلَهُ"، منقطع. "وعن خالد بن معدان، عن معاذ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من عيَّر أخاه"؛ أي: عابه ولامه "بذنب" قد تاب عنه "لم يمت حتى يعمله". "منقطع". 3784 - وقَالَ: "لا تُظْهِرِ الشَّمَاتَةَ لأِخيكَ، فَيَرْحَمُهُ الله ويَبْتلِيْكَ"، غريب. "وعن واثلة بن الأسقع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تظهر الشماتة لأخيك"؛ أي: لا تفرح بذنبٍ صدر من عدوك، أو بنكبةٍ وردت إليه، فلعلك تقع في مثل ذلك. "فيرحمه" في بعض: (فيعافيه) "الله ويبتليك". "غريب".

3785 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أُحِبُّ أَنِّي حَكَيْتُ أَحَداً وأَنَّ لِيْ كذا وكذا"، صَحِيْح. "عن عائشة قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما أحب أني حكيت أحداً"؛ أي: فعلت مثل فعله، يقال: حكاه؛ أي: شابهه، وأكثر ما تستعمل المحاكاة في القبيح، وقيل: معناه: ما أحبُّ أن أتحدث بعيب أحد. "وأن لي" -الواو للحال-"كذا وكذا" من الدنيا بسبب ذلك الحديث. "صحيح". 3786 - عَنْ جُنْدُبٍ قَالَ: جَاءَ أَعرَابيٌّ فأنَاخَ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ عَقَلَها، ثُمَّ دَخَلَ المَسْجدَ فصَلَّى خَلْفَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلَمَّا سَلَّم أتى راحِلَتَهُ فأَطْلَقَها، ثُمَّ رَكِبَ، ثُمَّ نَادَى: اللهمَّ! ارحَمني ومُحَمَّداً، ولا تُشْرِكْ في رَحمَتِنا أَحداً، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتقُولُونَ: هُوَ أَضَلُّ أَمْ بَعِيْرُه؟ ألم تَسْمَعُوا إِلَى مَا قَالَ؟! قَالُوا: بَلَى". "عن جندب: أنه جاء أعرابي فأناخ راحلته ثم عقلها، ثم دخل المسجد فصلى خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما سلَّم أتى راحلته فأطلقها" من وثاقها، والإطلاقُ ضدُّ القيد. "ثم ركب، ثم نادى: اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً، فقال رسول الله: أتقولون"؛ أي: أتظنون "هو أضل"؛ أي: أجهلُ أو أَهْلَكُ "أم بعيره، ألم تسمعوا إلى ما قال؟ قالوا: بلى".

11 - باب الوعد

11 - باب الوعد (باب الوعد) مِنَ الصِّحَاحِ: 3787 - عَنْ جَابرٍ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: لَمَّا مَاتَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وجَاءَ أَبا بَكْرٍ مَالٌ مِنْ قِبَلِ العَلاءَ بن الحَضْرَميِّ، فقَالَ أبَو بَكْر: مِنْ كَانَ لهُ عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - دين أَوْ كَانَتْ لَهُ قِبَلَهُ عِدَةٌ فَلْيَأتِنَا، قَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: فَقُلْتُ: وَعَدَني رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُعطِينيَ هكَذَا وهكَذَا وهكَذَا، فَبَسَطَ يَدَيْهِ ثَلاثَ مرَّاتٍ، قَالَ جَابرُ - رضي الله عنه -: فَحَثا لِي حَثْيَةً فَعَددتُها فإِذَا هي خَمس مئةٍ، قَالَ: خُذْ مِثْلَيْها. "من الصحاح": " عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: لما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاء أبا بكر مالٌ من قبل العلاء بن الحضرمي"؛ أي: من عنده أو جهته، وهو كان عاملَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "قال أبو بكر: مَن كان له على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دينٌ، أو كانت له قِبلَه عِدَةٌ"؛ أي: وعد. "فليأتنا" وكان أبو بكر خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي دينه ويفي بما ومحمد أحداً أن يعطيه شيئاً. "قال جابر: فقلت: وعدني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، فبسط يديه ثلاث مرات، قال جابر: فحثا لي حثيةً"؛ أي: ملأ كفيه دراهم وصبها في ذيلي. "فعددتها فإذا هي خمسمئة فقال: خذ مثليها" والحديث يدلُّ على استحباب

قضاء دين الميت وإنجازِ وعده لمن يخلفه بعده، أجنبيًّا كان أو وارثاً. مِنَ الحِسَان: 3788 - عَنْ أَبي جُحَيْفَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبْيَضَ قَدْ شَابَ، وكَانَ الحَسَنُ بن عَلِيٍّ - رضي الله عنه -؛ يُشْبهُهُ، وأَمَرَ لَنَا بثلاثةَ عَشَرَ قَلُوْصاً، فذَهبنا نَقْبضُها فَأَتَانا مَوْتُهُ، فَلَمَّا قَامَ أبو بَكْرٍ قَالَ: مَنْ كانَتْ لهُ عِنْدَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - عِدة فَلْيَجئْ، فَقُمتُ إلَيْهِ فأَخْبَرْتُهُ، فَأَمَرَ لَنَا بِها. "من الحسان": " عن أبي جحيفة أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبيض"؛ أي: وقع في لحيته بياض. "قد شاب، وكان الحسن بن علي يشبهه" جملة معترضة. "وأمر له"؛ أي: لأبي جحيفة. "بثلاثة عشر قلوصاً" بفتح القاف: الناقة الشابة. "فذهبنا نقبضها فأتانا موته"؛ أي: خبر موت النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فلما قام أبو بكر قال: من كان له عند رسول الله عِدَةٌ فليجئْ، فقمت إليه"؛ أي: توجَّهت إليه. "فأخبرته فأمر لنا بها"؛ أي: أبو بكر بالقلوص. 3789 - عَنْ عَبدِ الله بن أَبي الحَسْمَاءِ أَنَّهُ قَالَ: بايَعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَبْلَ أَنْ

يُبْعَثَ، وبقِيَتْ لَهُ بقِيَّةٌ، فَوَعَدتُهُ أنْ آتيَهُ بها في مَكَانِهِ فَنَسِيتُ، فذَكَرتُ بَعدَ ثَلاثٍ، فإذَا هُوَ في مَكَانِهِ، فَقَالَ: "لَقد شَقَقْتَ عَلَيَّ، أَنَا هاهُنا مُنْذُ ثَلاثٍ أَنتظِرُكَ". "عن عبد الله بن أبي الحمساء أنه قال: بايعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: اشتريت منه شيئًا. "قبل أن يُبعث" للرسالة. "وبقيت له بقية" من ثمن ذلك المبيع. "فوعدته أن آتيه بها"؛ أي: بتلك البقية. "في مكانه"؛ أي: في موضعه المعيَّن. "فنسيت"؛ أي: ذلك الوعد. "فذكرت بعد ثلاث"؛ أي: ثلاث ليال، فجئت ذلك المكان "فإذا هو في مكانه"، أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - ينتظرني بذلك المكان وفاءً بما وعد من لزوم المكان حتى أجيئه بما بقي من الثمن. "فقال: لقد شققت علي"، أي: أوصلت المشقة إلي. "أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك" وهذا يرشد إلى استحباب تصديق الوعد والوفاء بالقول. 3790 - عَنْ زيدِ بن أَرقَمَ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وَعَدَ الرَّجُلُ أَخَاهُ، ومِنْ نِيَّتِهِ أنْ يَفيَ، فَلَم يَفِ وَلَم يَجيءْ للمِيعادِ فَلا إثْمَ عَلَيْه". "عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا وعد الرجل أخاه ومن

12 - باب المزاح

نيته أن يفي فلم يف ولم يجئ للميعاد" لاعتراضه مانعٌ يمنعه عن الوفاء بما وعد. "فلا إثم عليه" وهذا يدل على أن النية الصالحة يثاب الرجل عليها وإن تخلَّف المَنْوِيُّ عنها. 3791 - عَنْ عَبْدِ الله بن عَامرٍ قَالَ: دَعَتْني أُمِّي يَوْماً ورَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قاعِدٌ في بَيْتِنا فقالَتْ: تَعَالَ أُعْطِيْكَ، فقالَ لَها رَسُوْلُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَمَا إنَّكِ لَوْ لَمْ تُعطِيْهِ شَيْئاً كُتِبَتْ عَلَيْكِ كِذْبَةٌ". "عن عبد الله بن عامر أنه قال: دعتني أمي يوماً وَرسول الله قاعد في بيتنا، فقالت: تعال أعطيك، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما" بالتخفيف "إنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت"؛ أي: هذه الكلمة "عليك كذبة" بكسر الكاف ثم السكون، وبفتحها مع كسر الذال، والتاءُ للوحدة، وهذا يدل على استحباب إنجاز العِدَة مع مَن كانت. 12 - باب المُزَاحِ (باب المزاح) مِنَ الصِّحَاحِ: 3792 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: إِنْ كَانَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - لَيُخالِطُنَا حتَّى يَقُولَ لأِخٍ لِي صَغير: "يَا أَبَا عُمَيْر! ما فَعَلَ النُّغَيْرُ؟ "، كَانَ لَهُ نُغَيرٌ يَلْعَبُ بهِ فَمَاتَ.

وهو- بالضم- مصدر مزحته، -وبالكسر- مصدر مازحته. "من الصحاح": " قال أنس - رضي الله عنه -: إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - "، (إن) هنا مخففة من المثقَّلة؛ أي: إنه - صلى الله عليه وسلم - "ليخالطنا"؛ أي: يجالسنا ويمزح بنا. "حتى يقول لأخ لي صغير: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟ " تصغير نُغُر، وهو فرخ العصفور، وقيل: طائر كالعصفور أحمر المنقار واحدتُها نغرة. "كان له نغير يلعب به"؛ أي: يتلهَّى بحبسه وإمساكه. "فمات" وهذا يدلُّ على إباحة طير المدينة، وأنه لا بأس بإعطاء الصبي الطير ليلعب به بلا تعذيبه، وعلى إباحة السجع وتصغير الأسماء، والممازحة ما لم يكن إثماً، وجوازِ تكنِّي الصبي. مِنَ الحِسَان: 3793 - عَنْ أَبيْ هُرَيْرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! إِنَّكَ تُداعِبنا. قال: "إنِّي لاَ أقَوُلُ إلَّا حَقًّا". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قالوا: يا رسول الله! إنك تداعبنا"؛ أي: تمازحنا، والدعابة: المزاح. "قال: إني لا أقول إلا حقاً". 3794 - وعَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً استَحمَلَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَالَ: "إنِّي

حَامِلُكَ على وَلَدِ نَاقةٍ"، فَقَالَ: مَا أصنَعُ بِوَلَدِ النَّاقَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وهلْ تَلِدُ الإبلَ إلَّا النُّوقُ؟ ". "وعن أنس - رضي الله عنه -: أن رجلاً استحمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: طلب منه - صلى الله عليه وسلم - أن يحمله على دابة. "فقال: إني حاملك على ولد ناقة، فقال"؛ أي: الرجل: "ما أصنع بولد الناقه؟ " زعماً منه أنه - صلى الله عليه وسلم - يريد فصيلاً لا يطيق حمله. "فقال النبي" - صلى الله عليه وسلم - في جوابه: "وهل تلد الإبل إلا النوق"؛ يعني: جميع الإبل تلد النوق، جمع ناقة؛ يعني: أريد به ولداً كبيراً يطيق حملك، وهذا من جملة مزاحه. 3795 - وعَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لَهُ: "يا ذَا الأُذُنينِ! ". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال له: يا ذا الأذنين" قيل: هذا كناية عن مدحه بذكائه وحسنِ استماعه مع كونه خارجاً مخرج انبساطه منه - صلى الله عليه وسلم - ومزاح معه. 3796 - ورُوِيَ: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِعَجوز: "إِنَّ الجنَّةَ لا يَنخُلها العُجَّزُ"، فَوَلَّتْ تَبْكِي. قَالَ: "أَخْبرُوها أنَّها لا تَدخُلُها وهِيَ عَجُوزٌ، إنَّ الله تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا}. "وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لعجوز: إن الجنة لا يدخلها العُجُز" بضمتين: جمع عجوز. "فولَّت"؛ أي: أعرضت العجوز "تبكي، قال: أخبروها أنها لا تدخلها

وهي عجوز"؛ أي: في حال كونها عجوزاً، بل يصيرها الله شابة بكرًا، وكذلك جميع الإنسان يكونون على سنِّ مَن له ثلاثون سنة. "إن الله تعالى يقول: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً}؛ أي: خلقنا وصيرنا النساء يوم القيامة شواباً {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} ". 3797 - وعَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً مِنَ البَادِيَةِ اسْمُهُ: زاهِرُ بن حَرَامٍ كان يَهدِي للنَّبي - صلى الله عليه وسلم - مِنَ البَاديَةِ فيُجَهِّزُهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ زاهراً بادِيتُنا، ونَحْنُ حَاضروُه"، وكَانَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يُحِبُّهُ، وكَانَ دَميْماً، فَأَتَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْماً وهُوَ يَبيعُ مَتاعَهُ، فَاحْتَضَنَهُ مِنْ خَلْفِهِ وَهُوَ لا يُبْصِرُهُ، فقال: أَرسِلْنِي، مَنْ هذَا؟ فالْتَفَتَ فَعَرَفَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ لا يَأْلُو مَا ألزَقَ ظَهْرَهُ بِصدرِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حِينَ عَرَفَهُ، وجَعَلَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَقولُ: "مَنْ يَشْتَري العَبْدَ؟ "، فقالَ: يا رسولَ الله! إذاً والله تَجدُني كَاسِداً، فَقَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لَكِنْ عِنْدَ الله لَسْتَ بِكَاسِدٍ". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن رجلاً من أهل البادية اسمه زاهر بن حرام كان يهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - من البادية"؛ أي: يهدي له متاع البادية من الرياحين والأدوية. "فيجهزه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: يهيئ له - صلى الله عليه وسلم - أسباباً من أمتعة البلد. "إذا أراد أن يخرج، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن زاهراً باديتنا"؛ أي: من أهل باديتنا [يزوِّدنا] من أمتعة البادية بما يزيد، وقيل: معناه صديقنا من البادية. "ونحن حاضروه"؛ أي: نهيئ له ما يريد من أمتعة البلد، أو معناه: نحن صديقه من الحضر. "وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبه، وكان دميماً"؛ أي: كريه اللقاء.

"فأتى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه"؛ أي: أخذ من حضنه. "من خلفه وهو لا يبصره، فقال"؛ أي: زاهر: "أرسِلْني"؛ أي: اتركني "مَن هذا؟ فالتفت فعرف النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجعل"؛ أي: طفق زاهر "لا يألو ما ألزق ظهره"، (ما) مصدرية، وقيل: زائدة؛ أي: لا يقصِّر في إلصاق ظهره "بصدر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين عرفه، وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: من يشتري العبد؟ فقال: يا رسول الله! إذاً والله تجدني كاسداً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لكن عند الله تعالى لست بكاسد". 3798 - عَنْ عَوفِ بن مالِكٍ الأَشْجَعِيِّ قَالَ: أتيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في غزْوَةِ تبوكَ وهُوَ في قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ، فَسَلَّمتُ فَرَدَّ عَلَيَّ وقَالَ: "ادخُلْ"، فَقُلْتُ: أكُلِّي يا رسولَ الله؟ قالَ: "كُلُّك"، فَدَخَلْتُ قِيْل: إِنَّمَا قَالَ: أَدخُلُ كُلِّي؟ مِنْ صِغَرِ القُبَّةِ. "عن عوف بن مالك الأشجعي أنه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم فسلمت فردَّ علي فقال: ادخل، فقلت: أكلِّي يا رسول الله؟ قال: كلك، فدخلت" قيل: إنما قال: أدخل كلي، من صغر القبة. 3799 - عَنِ النُّعمَانِ بن بشيْرٍ أَنه قَالَ: اسْتَأذَنَ أبُو بَكرٍ - رضي الله عنه - عَلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَمعَ صَوْتَ عَائِشةَ رَضيَ الله عَنْها عالِياً، فَلَمَّا دَخَلَ تَناوَلَها لِيَلْطِمَها، وقَالَ: لاَ أَراكِ تَرْفَعينَ صَوْتَكِ على رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَحْجزُهُ، وَخَرَجَ أَبو بَكْرٍ مُغْضَباً، فَقَالَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - حِينَ خَرَجَ أبَو بَكْرٍ: "كَيْفَ رأَيتني أَنْقَذْتُكِ مِنَ الرَّجُلِ؟ "، قَالَتْ: فمكَثَ أبَو بكْرٍ أياماً، ثُمَّ اسْتَأذَنَ فَوَجَدَهُمَا قَدْ اضْطَجَعَا، فَقَالَ لَهُما: أَدخِلاَنِي في سلْمِكُمَا كَمَا أَدخَلْتُمَانِي في حَربكُمَا، فَقَالَ

النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: قَدْ فَعَلْنَا، قد فَعَلْنا". "عن النعمان بن بشير أنه قال: استأذن أبو بكر على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمع صوت عائشة عالياً، فلما دخل تناولها"؛ أي: أخذها "ليلطمها"؛ أي: ليضربها. "وقال: لا أراك" همزة الاستفهام مقدَّرة على سبيل الإنكار. "ترفعين صوتك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم -"؛ أي: طفق. "يحجزه"؛ أي: يمنع أبا بكر عن ضربها. "وخرج أبو بكر مغضباً" -بفتح الضاد- أغضبه رفع صوتها. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين خرج أبو بكر: كيف رأيتني أنقذتك من الرجل"؛ يعني: خلصتك من أبيك. "قال: فمكث أبو بكر أياماً، ثم استأذن فدخل فوجدهما قد اضطجعا، فقالمالهما: أدخلاني في سِلْمِكما"؛ أي: صُلْحكما "كما أدخلتماني في حربكما" والمراد به رفع صوت عائشة للنبي - صلى الله عليه وسلم -. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: قد فعلنا قد فعلنا"؛ أي: أدخلناك في صلحنا. 3800 - عَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: "لا تُمارِ أَخاكَ، ولا تُمازِحهُ، ولا تَعِدْهُ مَوْعِداً فتخْلِفَهُ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تُمار"؛ أي: لا تخاصم "أخاك ولا تمازحه" بما يتأذى منه. "ولا تَعده موعداً فتُخْلِفَه". "غريب".

13 - باب المفاخرة والعصبية

13 - باب المُفاخَرَةِ والعَصَبيَّةِ (باب المفاخرة والعصبية) مِنَ الصِّحَاحِ: 3801 - عَنْ أبي هُريْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَيُّ النَّاسِ أكرَمُ؟ قالَ: "أكْرَمُهُم عِنْدَ الله أتقاهُم"، قالوا: لَيْسَ عَنْ هذَا نسألكَ، قالَ: "فأكرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ الله، ابن نَبِيِّ الله، ابن نَبِيِّ الله، ابن خَليلِ الله"، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هذَا نسألكَ، قالَ: "فَعَنْ مَعَادِنِ العَرَبِ تَسْألُوني؟ "، قَالُوا: نعم، قالَ: "فَخِيارُكم في الجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُم في الإسْلامِ إذا فَقُهُوا". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ الناس أكرم؟ قال: أكرمهم عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله" سمي كريماً لأنه اجتمع له شرف النبوة والعلم وكرم الأخلاق والعدل ورئاسة الدنيا والدين. "ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب"؛ أي: أصولها التي ينسبون إليها ويتفاخرون بها "تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية" بالمآثرة والشرف "خياركم في الإسلام إذا فقهوا" بضم القاف؛ أي: علموا آداب الشريعة وأحكام الإسلام، ومن لم يُسلم فقد هدم شرفه وضيَّعه. 3802 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكَريم، ابن الكَريم، ابن الكَريْم، ابن

الكَريْم: يُوسُفُ بن يَعْقُوبَ بن إسْحَاقَ بن إبْراهِيْمَ صلَّى الله عليْهِم". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم"، (الكريم) اسم جامع لكل ما يحمد به، فإنه مع الشرف والفضائل المذكورة ابن ثلاثة أنبياء مرسلين، فأيُّ رجل أكرمُ من هذا؟. 3803 - عَنِ البَرَاء بن عَازِبٍ: أَنَّه قَالَ في يَوْمِ حُنَيْنٍ: كَانَ أبو سُفْيانَ بن الحَارِثِ آخِذاً بِعِنَانِ بَغْلَتِهِ -يَعْنِي: بَغْلَةَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فلمَّا غَشِيه المُشْرِكونَ نزَلَ فَجَعَلَ يَقُولُ: "أَنَا النَّبيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابن عبدِ المُطَّلِبْ" قَالَ: فَمَا رئيَ مِنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ أَشَدُّ مِنْهُ. "عن البراء بن عازب أنه قال: في يوم حنين كان أبو سفيان بن الحارث آخذاً بعنان بغلته -يعني: بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما غشيه المشركون"؛ أي: غلبوه وأتوه من كل جانب "نزل" - صلى الله عليه وسلم - عن بغلته. "فجعل يقول: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب" قيل: انتسب - صلى الله عليه وسلم - إلى عبد المطلب للتعريف دون المفاخَرة، وذلك أن عبد الله كان قد رأى في المنام أن شجرة عظيمة خرجت من صلبه وانتشرت، وبلغت أغصانُها في المغرب والمشرق، وارتفعت فروعها إلى السماء، فقص الرؤيا على المعبرين فعبروها بأنه نبي آخر الزمان يخرج من صلبك، وكانت هذه القصة مشهورةً فيما بين العرب، فأشار - صلى الله عليه وسلم - بهذا إلى أنه هو الولد الذي رآه في المنام، وهذا وأمثاله مقولٌ على سبيل الشكر والتحدُّث بالنعمة، قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ

فَحَدِّثْ}، فاللام في (أنا النّبي) حينئذ للعهد. وقيل: انتسابه للمفاخرة، والافتخارُ المنهيُّ ما كان في غير جهاد الكفار، وقد رخَّص الخيلاء في الحرب مع نهيه عنها في غيرها. "قال"؛ أي: الراوي: "فما رؤي من الناس يومئذ أشد منه"؛ أي: أقوى وأشجع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. 3804 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: يا خَيْرَ البَرِيَّةِ! فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ذاكَ إبراهِيمُ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا خير البرية! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ذاك إبراهيم عليه السلام" يحمل على أنه - صلى الله عليه وسلم - قاله على جهة التواضع؛ ليوافق الأحاديث الدالة على فضله - صلى الله عليه وسلم - على سائر البشر، أو يحمل على أن إبراهيم كان يُدعَى بهذا النعت حتى صار عَلَماً له كالخليل، فيكون معنى (خير البرية) على هذا في إبراهيم راجعًا إلى مَن خُلق دون مَن لم يُخلق بعد. 3805 - وقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ تُطْرُوني كما أَطْرَتْ النَّصَارَى ابن مَرْيَمَ، فإنَّما أنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ الله ورَسُولُهُ". "وعن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تُطروني"، أي: لا تُجاوِزوا عن الحد في مدحي. "كما أطرت النصارى ابن مريم"؛ أي: كما بالغوا في مدحه حتى ضلُّوا وجعلوه ولداً لله وإلهًا، تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.

"فإنما أنا عبده فقولوا" في حقي: "عبد الله ورسولُه". 3806 - عَنْ عِياضِ بن حِمارِ المُجاشِعيِّ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ اللهَ أَوْحىَ إِلَيَّ أَنْ تَواضَعُوا حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلى أَحَدٍ، ولا يَبْغِي أَحدٌ على أَحَدٍ". "عن عياض بن حمار" المجاشعي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله - عز وجل - أوحى إليَّ أن تواضعوا"، (أن) هذه مفسِّرة، والتواضعُ تفاعُل من الضَّعَة وهي الذلُّ والهوان. "حتى لا يفخر أحد على أحد" والفخر ادعاءُ العظم والكبر والشرف. "ولا يبغي"؛ أي: لا يظلم "أحد على أحد". مِنَ الحِسَان: 3807 - عَنْ أَبيْ هُريْرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَينتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ يَفْتَخِرُونَ بِآبائِهم الَّذينَ مَاتُوا، إِنَّما هُم فَحمٌ مِنْ جَهنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ من الجُعَلِ الَّذي يُدَهْدِهُ الخُرْءَ بأَنْفِهِ، إنَّ الله قَدْ أَذهبَ عَنْكُم عُبيَّةَ الجَاهِلِيةِ وفَخْرَها بِالآباءَ، إِنَّما هُوَ مُؤْمِن تَقيٌّ، أَوْ فاجِرٌ شَقيٌّ، النَّاسُ كُلُّهُم بنو آدمَ، وآدَمُ مِنْ تُرابٍ". "من الحسان": " عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لينتهين أقوام يفتخرون بآبائهم الذين ماتوا، إنما هم فحم جهنم، أو ليكونُنَّ"؛ أي: القوم. "أهون على الله"؛ أي: أذلُّ.

"من الجعل" بضم الجيم وفتح العين: هي الدُّوَيبَّةَ السوداء. "الذي يدهده الخرء"؛ أي: يدحرج العَذِرة والرَّوث. "بأنفه" شبَّه - صلى الله عليه وسلم - المفتخرين بآبائهم الذين ماتوا في الجاهلية بالجعل، وآباءَهم المُفْتخَرَ بهم بالعذرة، ونفسَ افتخارهم بهم بالدهدهة بالأنف، و (أو) في (ليكونن) لأحد الأمرين من الانتهاء عن الافتخار بآبائهم ومن كونهم أذلَّ عند الله من الجعل الموصوف، والتخيير ثابتٌ في وصفهم بأيهما أريد، وجاز جَعلُ (أو) بمعنى (إلا) الاستثنائية، والمعنى: لينتهين الأقوام المذكورون، وإلا؛ أي: وإن لم ينتهوا عن الافتخار بالآباء فوالله ليكونن كذا. "إن الله قد أذهب عنكم عبية الجاهلية" بضم العين وكسرها وفتح الباء ثم الياء المشددة؛ أي: فخرَها وتكبُّرها. "وفخرها بالآباء، إنما هو"؛ أي: المفتخر المتكبر بالآباء "مؤمن تقي" فإذن لا ينبغي له أن يتكبر على أحد، "أو فاجر شقي" فهو ذليل عند الله، والذليل لا يستحق التكبر، فالتكبر منفيٌّ بكل حال. "الناس كلهم بنو آدم وادم من تراب"؛ أي: خُلق منه فلا يليق بمن أصلُه التراب أن يفتخر. 3816 - وعن مُطَرِّفٍ قَالَ: انطَلَقْتُ في وَفْدِ بنىْ عَامِرٍ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقُلْنَا: أنتَ سَيدناُ، فَقَال: "السَّيدُ الله"، فَقُلْنَا: وأَفْضَلُنَا فَضْلاً، وأَعْظَمُنَا طَوْلاً، فَقَال: "قُولُوا قَوْلَكُم، أَوْ بَعض قَولكُم، ولا يَسْتَجْرِيَنَّكُم الشَّيْطَان". "وعن مطرف بن عبد الله [بن] الشخير أنه قال: قال أبي: انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلنا: أنت سيدنا"، سلك القوم فيه على عادتهم في الخطاب مع رؤسائهم، فكرهه - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان من حقه أن يخاطبوه بالنبي - صلى الله عليه وسلم -

والرسول، فإنها المنزلة التي لا منزلة وراءها لأحد من البشر، وحوَّل الأمر فيه إلى الحقيقة. "فقال: السيد هو الله؛ أي: الذي يملك أمور الخلق ويسوسهم هو الله تعالى، وأما العبد فسيادته قاصرة، قيل: إنما منعهم أن يدعوه سيداً مع أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنا سيد ولد آدم"؛ لأنهم قوم حديثُـ[ـوا] عهد بالإسلام، فحسبوا أن السيادة بالنبوة كهي بأسباب الدنيا. "فقلت: أنت أفضلنا فضلًا وأعظمنا طَوْلاً"؛ أي: عطاء. "فقال: قولوا قولكم"؛ أي: قولوا مجموع ما قلتم من قولكم: (أفضلنا فضلاً وأعظمنا طولاً). "أو بعض قولكم" بأن تقتصروا على إحدى الكلمتين من غير حاجة إلى المبالغة بهما. أو معناه: قولوا قولَ أهل ملَّتكم، فخاطبوني بما يخاطبونني: بالنبي والرسول، ودعوا التكلُّف في الثناء. "ولا يَسْتجرينَّكم الشيطان"؛ أي: لا يتَّخذنكم جَرِيَّه؛ أي: وكيله، وهو من الجريِّ: الوكيل؛ لأنه يجري مجرى موكِّله، يريد: تكلموا بما حضركم من القول ولا تتكلفوه كأنكم وكلاء الشيطان تنطقون عنه في الإضلال والكفر والبدع، أو من الجرأة -بالهمزة- وهو الشجاعة، فالمعنى: لا يجعلنكم ذوي شجاعة على التكلُّم بما لا يجوز. 3808 - عَنِ الحَسَنِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحَسَبُ المَالُ، والكَرَمُ التَّقْوَى".

"عن الحسن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الحسب" بفتح الحاء والسين المهملتين، وهو ما يفتخر به الرجل من خصال حميدة توجد فيه وفي آبائه؛ يعني: الشيء الذي يكون الرجل به عظيمَ القَدر عند الناس: "المال، والكرم، وهو ضد اللوم؛ يعني: الشيء الذي يكون الرجل به عظيم القَنر عند الله: "التقوى"، قال الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] والافتخار بالآباء ليس بشيء منهما. 3809 - وعَنْ أُبَيِّ بن كَعبٍ - رضي الله عنه - أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "مَنْ تَعَزَّى بِعَزاءِ الجَاهِلِيَّةِ فأَعِضُّوْهُ بِهنِ أَبيْهِ ولا تَكْنُوا". "وعن أبي بن كعب أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: مَن تعزَّى"؛ أي: انتسب "بعزاء الجاهلية"؛ أي: بنسبها؛ يعني: مَن افتخر بآبائه وقبائله الكفارِ على العادة الأولى. "فأَعِضُّوه بِهَنِ أبيه"؛ أي: قولوا له: اعضض بأير أبيك. "ولا تكنوا" عن الأير بالهنِ؛ تنكيلاً له عفا تباهى به، والعضُّ: أخذ الشيء بالأسنان. قال [أبو] عبيد الهروي: الهنُ: القبيح من الفعل والقول؛ يعني: قولوا له: اذكر قبائح آبائك من عبادة الأصنام والزنا وشرب الخمر وغيرها، ويجوز أن يكون معناه: عُدُّوا أنتم يا مسلمون قبائح ابائه ولا تكنوا؛ أي: لا تذكروا قبائح آبائه بطريق الكناية بل بالمجاهرة والتصريح، فلعله يستحي من الافتخار بآبائه.

3810 - عَنْ عَبْدِ الرّحمَنِ بن أَبي عُقَبةَ، عْن أَبي عُقْبةَ - رضي الله عنهما -، وكانَ مَوْلَى مِنْ أَهْلِ فارِسٍ، قَالَ: شَهِدتُ معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أحُداً، فَضَرَبتُ رَجُلًا مِنَ المُشْرِكينَ، فَقُلْتُ: خُذْها مِنِّي وأَنا الغُلامُ الفارِسيُّ، فالْتَفَتَ إلَيَّ فقالَ: "هَلَّا قُلْتَ: خُذْها مِنِّي وأَنا الغُلامُ الأَنْصارِيُّ؟ ". "عن عبد الرحمن بن أبي عقبة، عن أبي عقبة وكان مولًى"؛ أي: معتقاً "من أهل فارس أنَّه قال: شهدت"؛ أي: حضرت "مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أُحدًا، فضربتُ رجلًا من المشركين فقلت: خذها"؛ أي: الضربة أو الطعنة مني. "وأنا الغلام الفارسي، فالتفت"؛ أي: الرسول - صلى الله عليه وسلم - "إليَّ فقال: هلَّا قلت: خذها مني وأنا الغلام الأنصاري"؛ أي: هلَّا افتخرت بشرف النسبة؛ يعني: إذا افتخرت عند الضراب فانتسب إلى الأنصار الذين هاجرتُ إليهم ونصروني، وكان عادة المحاربين إذا خرج واحد منهم للمبارزة أن يخبره باسمه وقبيلته إظهارًا لشجاعته، وكان أهل فارس في ذلك الزمان كفارًا، فكره - صلى الله عليه وسلم - الانتسابَ إليهم لذلك وأمره بالانتساب إلى الأنصار. * * * 3811 - عنِ ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ نَصَرَ قَوْمَهُ عَلَى غَيْرِ الحَقِّ فَهُوَ كالبَعيْرِ الَّذي ترَدَّى، فَهُوَ يُنْزَعُ بِذَنبَهِ". "عن ابن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من نصر قومه على غير الحق فهو كالبعير الذي تردَّى"؛ أي: سقط في البئر وهلك. "فهو يُنزع بذنبه" شبَّه القوم بالبعير الهالك؛ لأنَّ من كان على غير الحق فهو هالكٌ، وشبَّه ناصرهم بذَنَب هذا البعير الهالك؛ لأنه يُنزع بذَنبَه منها فلا يقدر على خلاصة وإن جهد كل الجهد بنزعه إياه بالذّنَب، فكما أن نزعه بذَنبَه

لا يخلِّصه من الهلكة، فكذلك الناصر على غير الحق وقع في الإثم والهلاك. * * * 3812 - عَنْ واثِلَةَ بن الأسْقَع قَالَ: قُلْتُ يا رَسُولَ الله! ما العَصَبيَّةُ"؟ قال: "أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ على الظُّلْم". "وعن واثلة بن الأسقع أنَّه قال: قلت: يا رسول الله! ما العصبية؟ "؛ أي: التعصب. "قال: أن تُعين قومك على الظلم". * * * 3813 - وعَنْ سُراقَةَ بن مالِكِ بن جُعْشُم قَالَ: خَطَبنا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقالَ: "خَيْرُكُمْ المُدافعُ عَنْ عَشِيرَتِهِ ما لَمْ يَأثَمْ". "عن سراقة بن مالك بن جُعْشُم أنَّه قال: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: خيركم المدافع"؛ أي: مَن يدفع الظلم "عن عشيرته"؛ أي: عن أقاربه. "ما لم يأثم"؛ أي: ما لم يظلم؛ يعني: لو قدر في دفعه عنهم بكلام لم يَجز له الضربُ، ولو قدر بالضرب لم يجز له بالقتل. * * * 3814 - عَنْ جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَيْسَ مِنّا مَنْ دَعا إِلَى عَصَبيَّةٍ، ولَيْسَ مِنَّا مَنْ قاتَلَ عَصَبيَّةً، ولَيْسَ مِنّا مَنْ ماتَ عَلَى عَصَبيَّةٍ". "عن جبير بن مطعم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس منا من دعا إلى عصبية"؛ أي: إلى معاونة ظالم. "وليس منا من قاتل عصبيةً"؛ أي: بالباطل.

14 - باب البر والصلة

"وليس منا من مات على عصبية"؛ أي: على الباطل. * * * 3815 - عَنْ أَبيْ الدَّرداءَ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: "حُبُّكَ الشَّيءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ". "عن أبي الدرداء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: حبك الشيء يُعمي"؛ أي: يجعلك أعمى عن رؤية معايبه بحيث لا تبصر فيه عيباً. "ويصم"؛ أي: يجعلك أصمَّ عن سماع قبائحه بحيث لا تسمع منه كلاماً قبيحاً لاستيلاء سلطان المحبة على فؤادك، وعينُ المحبّ عمياءُ وأذنُه صمّاءُ. * * * 14 - باب البر والصِّلَةِ (باب البر والصلة) يريد بالصلة: صلة الرحم وغيرها، والبر أعم منها. مِنَ الصِّحَاحِ: 3817 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَجُل: يا رَسُولَ الله! مَنْ أَحَقُّ بِحُسْنِ صَحابَتي؟ قال: "أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمُّك"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أبوك". ويُروَى: مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: "أمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أُمَّكَ، ثُمَّ أَباكَ، ثُمَّ أَدْناكَ أدناك". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: قال رجل: يا رسول الله! من أحقُّ بحسن

صحابتي؟ "؛ أي: مَن الأَوْلى بأن أُحسنَ إليه وأَحفظَ حقوقه. "قال: أمك، قال: ثمَّ مَن؟ قال: أمك، قال: ثمَّ مَن؟ قال: أمك، قال: ثمَّ مَن؟ قال أبوك". ويروى: من أبرُّ؟ قال: أمك، ثمَّ أمك، ثمَّ أمك، ثمَّ أباك، ثمَّ أدناك فأدناك"؛ أي: أقرباءك. * * * 3819 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ، رَغِمَ أَنْفُهُ"، قِيْلَ: مَنْ يا رسولَ الله! قَالَ: "مَنْ أَدرَكَ والِدَيْهِ عِنْدَ الكِبَرِ، أَحَدَهُما أَوْ كِلَيْهِما، ثمَّ لَمْ يَدخُلِ الجَنَّةَ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رغم أنفه" معناه: لصق بالرَّغام وهو ترابٌ مختلطٌ بالرمل، والمراد منه الذل، إخبارٌ أو دعاءٌ عليه. "رغم أنفه، رغم أنفه، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدُهما" بالرفع فاعلٌ للظرف وهو: (عند)، "أو كلاهما" عطف عليه، وفي بعض النسخ بالنصب، فيكون بدلًا عن (والديه)، خص حال الكبر لأنه أحوجُ الأوقات إلى الخدمة والإحسان إليهما. "ثمَّ لم يدخل الجنة"؛ يعني: بسبب عقوقهما والتقصيرِ في حقوقهما. * * * 3820 - وعَنْ أَسماءَ بنتِ أَبي بَكْرٍ أَنَّها قالَت: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهيَ مُشْرِكَةٌ في عَهْدِ قُرَيْشٍ، فَقُلْتُ: يا رَسُولَ الله! إنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وهيَ راغِبةٌ، أفأَصِلُها؟ قَالَ: "نعمْ، صِليْهَا".

"عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - أنها قالت: قدمتْ عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش، فقلت: يا رسول الله! إن أمي قدمت علي وهي راغبة"؛ أي: في صلتي وطامعةٌ لعطائي، وقيل: راغبة في الإسلام، ويروى: (راغمة) بالميم، قيل: هو الصواب؛ أي: ذليلة محتاجة إلى عطائي، أو غاضبة لإسلامي وهجرتي. "أفأَصِلُها؟ "؛ أي: أعطيها شيئًا. "قال: نعم صليها"؛ أي: أعطيها، وفيه دليل بوجوب نفقة الأب والأم الكافرين على الولد المسلم، وأن الإحسان إلى الكفار جائز. * * * 3820 / -م - وعَنْ عَمْرِو بن العاص قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّ آلَ أَبي فُلانٍ لَيْسوا لي بأَوْلِياءَ، إِنَّما وَلييَ الله وصالح المُؤْمِنينَ، ولكِنْ لَهُمْ رَحِمٌ أَبُلُّها ببَلالِها". "عن عمرو بن العاص أنَّه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن آل أبي فلان" قيل: هذه الكناية من بعض الرواة خوفاً من الفتنة، والمكنيُّ عنه هو أبو سفيان، وقيل: هو الحكم بن العاص. "ليسوا لي بأولياء"؛ أي: لا أوالي أحدًا بالقرابة ولا أحبه. "إنما ولييَ الله وصالح المؤمنين" قيل: المراد بهم الأنبياء، وقيل: أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وقيل: علي كرم الله وجهه. "ولكن لهم رحم أبلُّها ببلالها"، (البلال) بكسر الباء: كل ما يُبل به الحلق من الماء واللبن، والمراد به هنا: ما يوصَل به الرَّحِمُ من الإحسان؛ أي: أصِلُ تلك الرحم بصلتها والإحسان إليهم.

3821 - وقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْكُم عُقُوقَ الأُمَّهاتِ، وَوَأْدَ البناتِ، ومَنْعًا وَهاتِ، وكَرِهَ لَكُم قِيلَ وقالَ، وكَثْرَةَ السُّؤالِ، وَإِضاعَةَ المالِ". "عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله حرَّم عليكم عقوق الأمهات"؛ أي: عصيانها، خصَّ الأم لأنَّ لعقوقها مزيةً في القبح. "ووأد البنات"؛ أي: دفنهن أحياء. "ومنع" يروى علي بناء الماضي وعلى المصدر، "وهات" اسم فعل بمعنى أعطني؛ عبَّر بهما عن البخل والمسألة، وقيل: منع الواجب من الحقوق وأخذ ما لا يحلُّ من أموال الناس. "وكره لكم قيل وقال"؛ أي: نهى عن فضول ما يتحدث به المجالسون من قولهم قيل كذا وقال كذا، وقيل: المراد بهما النهي عن القول بما لا يصح ولا تُعلم حقيقته، وقيل: أراد النهي عن كثرة الكلام مبتدئًا ومجيبًا؛ لأنَّ كثرته تورث قساوة القلب. "وكثرة السؤال"؛ أي: من العلماء فيما لا حاجة فيه للمعاندة والمعارضة، أو هي مسألة الناس أموالَهم، أو السؤالُ عن أمورهم وكثرةُ البحث عنها. "وإضاعة المال"؛ أي: إنفاقه في غير طاعة الله، وإيتاؤه صاحبَه وهو سفيه حقيقٌ بالحجر، وقيل: التبذير والإسراف وإن كان في حلالٍ مباحٍ، كمجاوزة الحد في النفقة والملبس والمفرش وتمويه الأواني والسقوف. * * * 3822 - وقالَ: "مِنَ الكَبائِرِ شَتْمُ الرَّجُلِ والِدَيْهِ"، قالوا: يا رسولَ الله! وهَلْ يَشْتِمُ الرَّجُلُ والِدَيْهِ؟ قال: "نعمْ، يَسُبُّ أَبا الرَّجُلِ، فَيَسُبُّ أَباهُ، وَيسُبُّ أُمَّهُ، فَيَسُبُّ أُمَّهُ". "وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من الكبائر شتم

الرجل والديه، قالوا: يا رسول الله! وهل يشتم الرجل والديه؟ قال: نعم، يسبّ أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه" فإن عقوق الوالدين من الكبائر، وارتكابُ ما يفضي إلى سب أحدهما مما يقرُب إلى العقوق، قيل: إنما يكون هذا من العقوق إذا كان المسابة بالزنا والكفر أو البهتان. * * * 3823 - وقالَ: "إن مِنْ أَبَرِّ البرِّ صِلَةُ الرَّجُلِ أهْلَ وُدِّ أَبيهِ، بَعْدَ أَنْ يُوَلِّي الأَبُ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه" بضم الواو بمعنى المودة. "بعد أن توفي"، في بعض: (بعد أن يولي)؛ أي: غاب، أعم من أن يكون بموتِ أو سفر، وفيه إشارةٌ إلى تأكيد حق الأب. * * * 3824 - وقالَ: "مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ في رِزْقِهِ، ويُنْسأَ لَهُ في أثَرِهِ، فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ". "وعن أنس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له"؛ أي: يؤخَّر. "في أثره" وهو ما بقي من رسم الشيء، والمراد هنا: ما بقي من العمر والأجل. "فليصل رحمه" ويجوز أن يكون المعنى: إن الله يبقي أثر واصل الرحم مدة طويلة في الدنيا، وأنه لا يضمحل سريعاً.

3825 - وقالَ: "خَلَقَ الله الخَلْقَ، فَلمَّا فَرَغَ مِنْهُ قامَتْ الرَّحِمُ فأَخَذَتْ بِحِقْوَي الرَّحمَنِ، فقالَ: مَهْ؟ قالَتْ: هَذا مَقامُ العائِذِ بِكَ مِنَ القَطيعَةِ، قَالَ: أَلا تَرضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ؟ قالَتْ: بَلَى، يا رَبّ! قَالَ: فَذاكَ لَكِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خلق الله الخلق"؛ أي: قدَّر المخلوقات في علمه السابق على ما هم عليه وقت وجودهم. "فلما فرغ منه"؛ أي: قضاه وأتمه؛ لأنَّ الفراغ الحقيقي بعد الشغل، وهو على الله ممتنع. "قامت الرحم فأخذت بحقوِي الرحمن" والأصل في الحقو - بالفتح -: معقد الإزار، ثمَّ سمي به الإزار للمجاورة، قيل: المراد به كبرياء الله وعظمته، وهذا تمثيل واستعارة؛ يعني: التجأت الرحم وعاذت بعزة الله وعظمته من أن يقطع أحد الرحم. "فقال: مه" بطريق الزجر للرحم؛ أي: اكْفُفي وامتنعي عن هذا الالتجاء، ويجوز أن يكون استفهاماً فقلبت الألف هاءً؛ يعني: ما لك؟ بأيِّ سبب عذت بي؟ فالمراد منه الأمر بإظهار الحاجة دون الاستعلام. "قالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة" (هذا) صفةُ محذوفٍ؛ أي: مقامي هذا مقامُ المستعيذ بك من قطيعتي. "قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فذاك"؛ أي: أفعل ما قلتُ مِن وصلي مَن وصلك وقطعي مَن قطعك.

3827 - وقالَ: "الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بالعَرْشِ، تَقوْلُ: مَنْ وَصَلَني وَصَلَهُ الله، ومَنْ قَطَعَني قَطَعَه الله". "وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الرحم معلقة بالعرش"؛ أي: متمسكةٌ به تتعوَّذ بالله مِن قَطْع الرحم، وهذا من باب التمثيل أيضًا، وفيه تنبيهٌ على منزلتها عند الله حيث جعل الرحم متشبثةَّ بالعرش الذي هو أعظم خلق الله تعالى. "تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني قطعه الله تعالى"؛ أي: قطع عنه كمال عنايته، وهذا إخبارٌ أو دعاء. * * * 3826 - وقالَ: "الرحمُ شجْنَة مِنَ الرّحمَنِ، قَالَ الله تَعالَى: مَنْ وَصَلكِ وَصَلْتُهُ، ومَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الرحم شجنة" بضم الشين المعجمة وكسرها: عروقُ شجرٍ متداخلةٌ. "من الرحمن"؛ يعني حروف الرحم موجودة في اسم الرحمن ومتداخلةٌ فيه كتداخل العروق؛ لكونهما من أصل واحد وهو الرحمة. "فقال الله تعالى: من وصلك وصلْته"؛ أي: بالرحمة. "ومن قطعك قطعته"؛ يعني: أعرضت عنه. * * * 3828 - وقالَ: "لا يدخلُ الجَنَّةَ قاطِعُ رَحِمٍ". "وعن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل الجنة قاطع"؛

أي: قاطع الرحم، وهذا محمولٌ على من اعتقد حِلَّ القطيعة. * * * 3829 - وقالَ: "لَيْسَ الواصِلُ بالمُكافِئ، ولَكِنَّ الوَاصِلَ الَّذي إِذا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وصلَها". "وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس الواصل" اللام فيه لتعريف الجنس؛ يعني: ليس حقيقةُ الواصل ومَن يعتدُّ به وصله. "بالمكافئ"؛ أي: الذي إذا أنعم عليه صاحبه يجازيه بمثل ما فعله. "ولكن الواصل"؛ أي: الذي يعتدُّ وصله. "هو الذي إذا قطعت رحمه وصلها"؛ يعني: يصل قريبه الذي يقطع عنه. * * * 3830 - وعَنْ أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا قَالَ: يا رَسُولَ الله! إِنَّ لي قَرابَة أصلُهُمْ وَيقْطَعُوني، وأُحسِنُ إلَيْهِمْ ويُسيؤونَ إلَيَّ، وأَحلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فقالَ: "لَئِنْ كنْتَ كَما قُلْتُ فَكأَنَّما تُسِفُّهُمُ المَلَّ، ولا يَزالُ مَعَكَ مِنَ الله ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ ما دُمْتَ عَلَى ذَلِك". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال: يا رسول الله! إن لي قرابة"؛ أي: ذوي قرابة. "أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إلي، وأَحلُم عنهم" بضم اللام من الحلم وهو الأناة. "فيجهلون علي"؛ أن يسبون. "فقال: لئن كنت كما قلت"؛ أي: إن كان مقولك ذلك كما قلت.

"فكأنما تُسفُّهم الملَّ" (تُسِف) من باب الإفعال من السفوف، و (المَل) بفتح الميم، وهو الرماد الحار، معناه: كأنما تطعمهم الملَّ، شبَّه النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يلحقهم من الإثم بما يلحق آكل الرماد من الألم. وقيل: معناه: إنك بالإحسان إليهم تُخزيهم وتحقرهم في أنفسهم، فصاروا كمن سفَّ المل. وقيل: معناه: إحسانك إليهم كالمل تحرق أحشاءهم. "ولا يزال معك من الله ظهير عليهم"؛ أي: معينٌ دافع عنك أذاهم. "ما دمت على ذلك"؛ أي: على الإحسان إليهم. * * * مِنَ الحِسَان: 3831 - عَنْ ثَوبَانَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَرُدُّ القَدَرَ إلَّا الدّعاءُ، ولا يَزيدُ في العُمُرِ إِلَّا البرّ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيُحرَمُ الرِّزْقَ بالذَّنْبِ يُصِيبُهُ". "من الحسان": " عن ثوبان قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يردُّ القدر إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر" قيل: المراد من (القَدَر): الأمر الذي لولا الدعاءُ لكان مقدَّراً، ومن (العمر): العمر الذي لولا البر لكان قصيرًا، وهذا من القضاء المعلَّق، فيكون الدعاء والبر سببين من أسباب ذلك وهما مقدَّران كتقدير حسن الأعمال وسيئها اللذين هما من أسباب السعادة والشقاوة مع أنهما مقدَّران أيضًا. "وإن الرجل ليحرم الرزق"؛ أي: يصير محروماً من الرزق. "بالذنب يصيبه"؛ أي: بشؤم اكتسابه ذنباً، وقيل: معناه: الذنب إذا فكَّر في عاقبته كدَّر في صفاء الرزق فكأنه حُرِمَه بسبب ذنبه، وإلا فالكفار أكثر رزقاً،

والفسّاقُ تراهم أكثر أموالاً وصحةً من الصُّلحاء. وقيل: هذا الحديث خاص ببعض الناس، فإن الله تعالى إذا أراد أن يدخل مسلماً مذنباً الجنة بلا عذاب يَلْحقُه بذنبه في الآخرة عاقبه بذنبه في الدنيا بأن يصيبه عقيب ذنبٍ ارتكبه مثلًا من فقر، أو مرض، أو ضيق قلب، أو غير ذلك، ثمَّ يلهمه أن هذا بشؤم ذلك الذنب ليُتيبه ويتوبَ عليه. * * * 3832 - وقالَتْ عائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَخَلْتُ الجَنَّةَ فَسَمِعْتُ فيها قِراءَةَ، فَقُلتُ: مَنْ هذا؟ قالُوا: حارِثَةُ بن النُّعمانِ، كذلِكُمُ البرُّ، كَذلِكُمُ البرُّ -، وكانَ أَبَرَّ النَّاسِ بأُمِّهِ - ". "وقالت عائشة - رضي الله عنها - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان كذلكم البر كذلكم البر" المشار إليه ما سبق، والمخاطبون الصحابة؛ يعني: مثلُ تلك الدرجةِ تُنال يسبب البر. "وكان"؛ أي: حارثة "أبرَّ الناس بأمه" وهذا من كلام الراوي. * * * 3833 - وقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رِضا الرَّبِّ في رِضا الوالِدِ، وسَخَطُ الرَّبِّ في سَخَطِ الوَالِدِ". "وعن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد"؛ يعني إذا رضي الوالد من الولد رضي الرب عنه، وكذلك السخط، وهكذا رضا الوالدة.

3834 - عَنْ أَبيْ الدّرداءَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "الوالِدُ أَوْسَطُ أَبْوابِ الجَنَّةِ، فَإنْ شِئْتَ فَحافِظْ عَلَى البابِ أَوْ ضَيعْ". "عن أبي الدرداء - رضي الله عنه - أنَّه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: الوالد أوسط أبواب الجنة"؛ أي: خير أبوابها وأفضلُها؛ يعني أن للجنة أبواباً وأحسنُها دخولًا أوسطُها، وأن سبب دخول ذلك الباب الأوسط هو محافظة حقوق الوالدين ورضاهم عنه. "فإن شئت فحافظ على الباب أو ضيعْ". * * * 3835 - وعَنْ بَهْزِ بن حَكِيْمٍ، عنْ أَبيْه، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ الله! مَنْ أَبَرُّ؟ قَالَ: "أُمَّكَ"، قُلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمَّكَ"، قُلتُ: ثمَّ مَنْ؟ قَالَ: أُمَّكَ، قلتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أَباكَ، ثُمَّ الأَقْرَبَ فالأَقْرَبَ". "عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله! مَن أَبَرُّ؟ " على صيغة المتكلم. "قال: أمك، قلت: ثمَّ من؟ قال: أمك، قلت؛ ثمَّ من؟ قال: أمك، قلت: ثمَّ من؟ قال: أباك، ثمَّ الأقرب فالأقرب". * * * 3836 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن عَوْفٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قَالَ الله تباركَ وتعالى: أنا الله، وأنا الرّحمنُ، خَلَقْتُ الرَّحِمَ، وشَقَقْتُ لها من اسمي، وَمَنْ وَصَلَها وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعها بَتَتُّهُ". "عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: أنا الله وأنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققتُ لها من اسمي"؛ يعني:

الرحم مشتقةٌ من الرحمن. "فمن وصلها وصلْتُه، ومن قطعها بَتتُّه"؛ أي: قطعته من رحمتي. * * * 3837 - وعن عبدِ الله بن أبي أَوْفَى - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تَنزِلُ الرّحمَةُ على قَوْمٍ فيهِمْ قاطِعُ رَحِمٍ". "عن عبد الله بن أبي أوفى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع الرحم" والمراد بهم هم الذين يساعدونه على قطيعة الرحم ولا ينكرون عليه ذلك، أو المراد بالرحمة المطر؛ أي: يحبس المطر عنهم بشؤم قاطع الرحم. * * * 3838 - وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ ذَنْبٍ أَحرَى أَنْ يُعَجِّلَ الله لِصاحِبهِ العُقوبَةَ في الدُّنْيا مَعَ ما يَدَّخِرُ لهُ في الآخِرَةِ مِنَ البَغْي وقَطيعَةِ الرَّحِم". "وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من ذنب أحرى"؛ أي: أجدر وأقرب. "أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة"؛ أي: من العقوبة. "من البغي" متعلق بـ (أحرى)؛ أي: من الظلم والتكبر "وقطيعة الرحم". * * * 3839 - وقال: "لا يدخلُ الجَنَّةَ مَنّانٌ، ولا عاقٌّ، ولا مُدمِنُ خَمْرٍ". "عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل الجنة منَّان": قيل:

هو قاطع الرحم، من المن: القطع؛ يعني: لا يدخلها مع الفائزين، أو لا يدخلها حتى يعاقب بما اجترحه من الإثم، وقيل: هو الذي يمن على الناس بما يعطيهم. "ولا عاق"؛ أي: الذي يعصي والديه. "ولا مدمن خمر"؛ أي: الذي يداوم على شرب الخمر. * * * 3840 - وقال: "تَعَلَّمُوا من أَنْسابكَمْ ما تَصِلُونَ بِهِ أَرحامَكُمْ، فإنَّ صِلَةَ الرَّحِم مَحَبَّةٌ في الأَهْلِ، مَثْراةٌ في المالِ، مَنْسأةٌ في الأثرِ"، غريب. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم"؛ يعني: تعلَّموا من أسماء آبائكم وأجدادكم وأعمامكم وأخوالكم وجميع أقاربكم لتعرفوا أقاربكم؛ ليمكنكم صلة الرحم، فإن معنى الصلة التقرُّبُ إليهم والشفقةُ عليهم. "فإن صلة الرحم محبة في الأهل"؛ أي: سببٌ لها. "ومثراة في المال"؛ أي: سببٌ لكثرة المال. "ومنسأة في الأثر"؛ أي: سبب لتأخير الأجل وطول العمر. "غريب". * * * 3841 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رَجُلًا أتى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله! إنِّي أَصَبتُ ذَنبًا عَظيماً، فهل لي مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: "هل لكَ مِنْ أُم"؟ قَالَ: لا، قَالَ: "وهَلْ لكَ مِنْ خالَةٍ"؟ قَالَ: نعَمْ، قَالَ: "فَبرَّها".

"عن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن رجلًا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ قال: هل لك من أم؟ قال: لا، قال: وهل لك من خالة؟ قال: نعم، قال: فبَرَّها" بفتح الباء بصيغة الأمر، من (بَرِرتُه) بالكسر: إذا أحسنت إليه. لعل ذلك الذنب من الصغائر عَلِمَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن صلة الرحم تكون كفارةً له، فوصفُه بكونه عظيمًا على ظنه، فلا ينبغي للمؤمن أن يحتقر الذنب لأنه عصيان الباري تعالى، وإن كان من الكبائر كان مخصوصاً بذلك الرجل. * * * 3842 - عن أبي أُسَيْدٍ السّاعدِيِّ قال: بينا نحنُ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءَه رَجُل مِن بني سَلَمَةَ فقالَ: يا رسولَ الله! هل بقيَ مِن برِّ أَبَوَيَّ شيءٌ أَبَرُّهُما بهِ بعدَ مَوْتِهِما؟ قال: "نعم، الصَّلاةُ عليهما، والاستِغْفارُ لهما، وإنفاذُ عَهْدِهِما مِن بَعدِهِما، وصِلَةُ الرَّحِم التي لا تُوصَلُ إلا بهما، وإكرامُ صَديقِهِما". "عن أبي أسيد الساعدي أنَّه قال: بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله! هل بقي من أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما"؛ أي: الدعاء لهما. "والاستغفار لهما، وإنفاذُ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصل إلا بهما"؛ يعني صلة الأقارب التي تتعلّق بالأب والأم؛ يعني: الإحسان إلى أقاربهما. "وإكرام صديقهما".

15 - باب الشفقة والرحمة على الخلق

3843 - عن أبي الطُّفَيْلِ - رضي الله عنه - قال: "رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقْسِمُ لَحمًا بالجعِرَّانةِ، إذ أقبلَتِ امرأةٌ حتى دَنَتْ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَبَسَطَ لها رِداءَهُ فجلسَتْ عليهِ، فقلتُ: مَن هي؟ فقالوا: هذه أُمُّهُ التي أَرضَعَتْهُ". "عن أبي الطفيل قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لحمًا بالجعْرانة": اسم موضع. "إذ أقبلت امرأة حتى دنت"؛ أي: قربت "إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبسط لها رداءه فجلست عليه، فقلت: مَن هي؟ فقالوا: هذه أمُّه التي أرضعته". * * * 15 - باب الشَّفَقَةِ والرَّحمَةِ على الخَلْقِ (باب الشفقة والرحمة على الخلق) مِنَ الصِّحَاحِ: 3844 - عن جَريرِ بن عبدِ الله - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَرحَمُ الله مَن لا يَرحَمُ النّاسَ". "من الصحاح": " عن جرير بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يرحم الله من لا يرحم الناس" يكون نفي الرحمة عنه مؤوَّلًا بأن [لا] يكون مع الفائزين السابقين. * * * 3845 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: جاءَ أعرابيٌّ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -

فقال: أتقَبلونَ الصّبيانَ؟ فما نُقبلهُم، فقال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ أَمْلِكُ لكَ أنْ نزَعَ الله مِن قَلْبكَ الرّحْمَةَ؟ ". "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: جاء أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال"؛ أي: الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه: "أتقبلون الصبيان"؛ أي: أتقبلون أنتم صبيانكم. "فما نقبلهم"، (ما) نافية. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أوَأَمْلِكُ لك" - بفتح الواو - "أن نزع الله"، (أن) هذه مصدرية؛ أي: لا أملك نَزْعَ الله؛ أي: دَفَعَ نزعه "من قلبك الرحمة"، أو لا أقدر أن أضع في قلبك ما نزعه الله منه من الرحمة. أو شرطية؛ أي: إن نزعها من قلبك لا أملك لك دفعه ومنعه. * * * 3846 - وعن عائِشَةَ قالت: جاءتني امرَأةٌ مَعَها ابنتانِ تَسألُني، فلم تَجدْ عندي غيرَ تمرةٍ واحدةٍ، فأعطيتُها، فقَسَمَتْها بينَ ابنتَيْها، ثُمَّ خَرَجَتْ، فدخلَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وحدَّثتُه، فقال: "مَن يَلي مِن هذه البناتِ شيئًا فأَحسَنَ إليهِنَّ كُنَّ له سِتْراً مِن النّارِ". "وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: جاءتني امرأة معها ابنتان تسألني، فلم تجد عندي غير تمرة واحدة، فأعطيتها فقسمتها بين ابنتيها ثمَّ خرجت، فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثته، فقال: مَن بُليَ" البلاء: الامتحان. "مِن هذه البنات بشيء"، (من) هذه بيانيةٌ [وهي] مع مجرورها حالٌ عن (شيء). "فأحسن إليهن" قيل: بتزويجهن بالأكفاء، والأوجهُ أن يعم الإحسان.

"كنَّ له سترًا من النار" لأنَّ احتياجهن إلى الإحسان كان أكثر حالَ الصغر والكبر، فمن سترهن بالإحسان يجازَى بالستر من النيران. * * * 3847 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن عالَ جارِيَتَيْنِ حتَّى تَبْلُغا جاءَ يومَ القيامةِ أنا وهو هكذا"، وضَمَّ أصابعَهُ. "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من عال جاريتين"؛ يعني: مَن ربَّى صغيرتين وقام برعاية مصالحهما من قوتٍ وكسوةٍ وغيرهما. "حتى تبلغا"؛ أي: تصيرا بالغتين. "جاء يوم القيامة أنا وهو هكذا"؛ أي: جاء مصاحبًا لي. "وضم"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "أصابعه" مشيراً إلى قُرب ذلك الرجل منه، وهذا من كلام الراوي. * * * 3848 - وقال: "السَّاعي على الأَرْمَلَةِ والمِسْكينِ كالسَّاعي في سبيلِ الله"، وأحسِبُه قَالَ: "كالقائِم لا يَفْتُرُ، وكالصّائم لا يُفطِرُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الساعي على الأرملة" وهي بفتح الميم: مَن لا زوج لها، غنيةً كانت أو فقيرة، تزوَّجت قبل ذلك أم لا. "والمسكين" أراد بالساعي الكاسب لتحصيل مؤونتها. "كالساعي في سبيل الله"؛ يعني يكون ثوابه كثواب المغازي. "وأحسبه"؛ أي: قال الراوي: أظنه؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "قال: كالقائم"؛ أي: في العبادة.

"لا يَفْتُر"؛ أي: لا يضعف عنها. "وكالصائم لا يفطر". * * * 3849 - وقال: "أنا وكافِلُ اليتيم، لهُ ولغَيرِه، في الجَنَّةِ هكذا"، وأشارَ بالسَّبّابَةِ والوُسْطَى، وفرَّجَ بينَهما شيئًا. "وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا وكافل اليتيم"؛ أي: القائم بأمره المربي له سواءٌ كان اليتيم "له"؛ أي: لذلك الكافل كابن ابنه وإن سفل، أو ابن أخيه. "أو لغيره" من الأجنبي. "في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرَّج بينهما شيئًا". * * * 3850 - وقال: "تَرَى المُؤْمنينَ في تَراحُمِهِم وتَوادِّهم وتَعاطُفِهم كمثلِ الجَسَدِ، إذا اشتكَى عُضْوًا تداعَى لهُ سائِرُ الجَسَدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى". "وعن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مثل المؤمنين في تراحُمهم وتوادِّهم وتعاطُفهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوًا"؛ أي: تألَّم من جهة عضو. "تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى" التداعي: أن يدعو بعضهم بعضًا ليتفقوا على فعل شيء؛ يعني: كما أن عند تألُّم بعض أعضاء الجسد يسري ذلك إلى كلِّه، فكذا المؤمنون كلُّهم كنفسٍ واحدة إذا أصاب واحداً منهم مصيبةٌ ينبغي أن يغتم بها جميعهم ويهتموا (¬1) بإزالتها عنه. ¬

_ (¬1) في "غ": "ويهموا".

3851 - وقال: "المؤمنونَ كرجلٍ واحدٍ إن اشتكَى عينُه اشتكَى كلُّه، وإنْ اشتكَى رأسُه اشتكَى كلُّه". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المؤمنون كرجل واحد إذا اشتكى عينه اشتكى كله وإن اشتكى رأسه اشتكى كله". * * * 3852 - وعن أبي مُوسى، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُؤْمِنُ للمُؤْمِنِ كالبنيانِ يَشُدُّ بَعْضُه بَعْضًا"، ثُمَّ شَبَّكَ بينَ أصابعِه. "وعن أبي موسى - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: المؤمن للمؤمن كالبنيان" وهو الحائط. "يشد بعضه بعضاً"؛ يعني: المؤمن لا يتقوَّى في أمر دينه ودنياه إلا بمعونة أخيه كما أن بعض البناء يَقْوَى ببعضه. "ثمَّ شبك بين أصابعه"؛ أي: أدخل أصابع إحدى اليدين بين أصابع اليد الأخرى. * * * 3853 - وعنه، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه كانَ إذا أتاهُ السّائِلُ أو صاحِبُ الحاجَةِ قال: "اِشفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، ويقضي الله على لسانِ رسولهِ ما شاءَ". "وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان إذا أتاه السائل أو صاحب الحاجة قال: اشفعوا له"؛ أي: لصاحب الحاجة إليَّ وإلى غيري إن كان مضطراً. "فلتؤجروا"؛ يعني: يحصل لكم بتلك الشفاعة أجرٌ قُبلت شفاعتكم أو لا.

"ويقضي الله على لسان رسوله ما شاء" يريد به نفسَه؛ أي: إن قضيت حاجةَ مَن شفعتُم له فهو بتقدير الله، وإن لم أقضها فهو بتقدير الله. * * * 3854 - وقال: "اُنصُرْ أخاكَ ظالمًا أو مَظْلومًا"، فقال رَجُلٌ: يا رسولَ الله! أَنصُرُه مَظْلومًا، فيكفَ أنصُرُه ظالِمًا؟ قال: "تمنعُه مِن الظُّلمِ، فذلك نصرُكَ إيّاهُ". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله! أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالمًا؟ قال: تمنعه من الظلم، فذلك"؛ أي: منعُك أخاك من أن يظلم أحدًا. "نصرُك إياه" لأنه قد دفعته عن الإثم الذي هو سببُ دخول النار فكأنك دفعت النار عنه، وأيُّ نصرة أكملُ من دفع النار عن أخيك. * * * 3855 - وقال: "المُسْلِمُ أخُو المُسْلِم، لا يَظلِمُه ولا يُسلِمُه، ومَن كانَ في حاجَةِ أخيهِ كانَ الله في حاجَتِهِ، ومَن فَرَّجَ عن مُسْلِم كُربَةً فرَّجَ الله عنه كُربةً مِن كُرُباتِ الآخِرَةِ، ومَن سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَه الله يَوْمَ القِيامَةِ". "عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المسلم أخو المسلم"؛ أي: في الدين. "لا يظلمه ولا يُسلمه"؛ أي: لا يخذله عن النصرة ولا يتركه في أيدي الأعداء بل يخلصه عن أيديهم، والنفي هنا بمعنى النهي. "ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربةً

فرج الله تعالى عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة". * * * 3856 - وقال: "المُسْلِمُ أخو المُسْلِم، لا يَظلِمُه، ولا يَخذُلُهُ، ولا يَحْقِرُه، التَّقْوَى ها هنا"، ويُشيرُ إلى صَدرِهِ ثلاثَ مرّاتٍ، "بِحَسبِ امرئٍ مِن الشَّرِّ أَنْ يحقِرَ أخاهُ المُسْلِم، كل المُسْلِم على المُسْلِم حَرامٌ، دمُه، ومالُه، وعِرضُه". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا" هذه الجملة مبتدأ وخبر. "ويشير"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (ها هنا). "إلى صدره ثلاث مرات"؛ يعني: التقوى محلُّه القلب، فيكون أمراً مخفياً فلا ينبغي للمسلم أن يحقر شأن أخيه المسلم بأن يحكم بعدم التقوى، أو المعنى: مَن كان في قلبه شيء من التقوى فلا يَحقِرْ مسلماً لأن المتقي لا يحقرُ مسلماً. "بحسب امرئ من الشر" الباء زائدة و (حسب) مبتدأ في موضع الرفع. "أن يحقر أخاه المسلم" فاعلٌ ناب مناب الخبر؛ أي: يكفي المرءَ من الشر تحقيرُه مسلمًا؛ يعني: لو لم يكن له شرٌّ سوى تحقيرِه مسلماً لكفاه في استدخاله النار. "كل المسلم على المسلم حرام دمُه ومالُه وعرضُه". * * * 3857 - وقالَ: "أَهْلُ الجَنَّةِ ثلاثةٌ: ذو سُلْطانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، ورَجُلٌ

رحيمٌ رقيقُ القَلْبِ لكلِّ ذي قُربَى ومُسْلِمٍ، وعَفيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذو عيالٍ، وأهلُ النّارِ خَمْسةٌ: الضَّعيفُ الذي لا زَبْرَ لهُ، الذينَ هم فيكم تَبَعٌ، لا يبغُونَ أهلًا ولا مالًا، والخائِنُ الذي لا يَخْفَى له طَمَعٌ وإنْ دقَّ إلا خانهُ، ورَجُلٌ لا يُصبحُ ولا يُمسي إلا وهو يُخادِعُكَ عن أهلِكَ ومالِكَ"، وذكرَ البُخْلَ والكذِبَ، "والشِّنْظيرُ الفَحّاشُ". "وعن عياض بن حمار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان"؛ أي: ذو حُكْم وسلطنة، "مقسطٌ"؛ أي: عادل، "متصدقٌ"؛ أي: محسنٌ إلى الناس، "موفَّق" وهو مَن هيئ له أسبابُ الخير وفُتح له أبواب البر. "ورجل رحيم رقيق القلب"؛ أي: في قلبه رقة وشفقة ورحمة "لكل ذي قربى". "ومسلم عفيف"؛ أي: صالح، "متعفف"؛ أي: مانعٌ نفسَه عما لا يحلُّ ولا يليق. "ذو عِيال" ولا يحمله حبُّ العيال على تحصيل المال الحرام. ويحتمل أن يكون أشار بالعفيف إلى ما في نفسه من القوة المانعة عن الفواحش، وبالمتعفّف إلى إبراز ذلك بالفعل وإظهار العفة عن نفسه. "وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زَبْرَ له"؛ أي: لا تماسُك له عند مجيء الشهوات، فلا يرتدع عن فاحشةٍ ولا يتورَّع عن حرام، و (الذي) بمعنى الذين ولذا أُبدل منه. "الذين هم فيكم تبع" قيل: هم أهل البطالات لا همم لهم في عمل الآخرة. "لا يبغون"؛ أي: لا يطلبون. "أهلًا" فأعرضوا عن التزوُّج وارتكبوا الفواحش.

"ولا مالًا"؛ أي: لا يطلبون مالًا بكسب حلالٍ إذ لا رغبة لهم في عمل الدنيا. وقيل: هم الذين يدورون حول الأمراء ويخدمونهم لا يبالون من أيِّ وجه يأكلون ويلبسون، أَمِنَ الحلال أم من الحرام؟ ليس لهم همةٌ إلى أهلٍ ولا إلى مالٍ، بل قَصَروا أنفسَهم على المأكل والمشرب، ومن هذا القبيل أيضًا الجماعة الجوالقية ونحوهم. "والخائن الذي لا يَخْفَى له طمعٌ"؛ أي: لا يخفى طمعُه في شيء ما "وإن دق"؛ أي: قلَّ، "إلا خانه"؛ أي: إلا سعى فيه حتى يجده فيخونه، أو معناه: لا يتطلع إلى موضع خيانة إلا خان ما طمع فيه وإن كان المطموعُ فيه شيئاً يسيرًا، وهذا هو الثاني من الخمسة. "ورجل لا يصبح ولا يمسي إلا وهو يخادعك"؛ أي: لا يفارق مخادعته إياك "عن أهلك ومالك" صباحَه ومساءه؛ أي: يخادعُك في أكثر أحواله، وهذا هو الثالث منها. "وذكر"؛ أي: قال الراوي: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخمسة: "البخل والكذب"؛ أي: البخيل والكذاب، فأقام المصدر مُقامَ اسم الفاعل؛ لأنَّ المذموم هو المصدر لا مَن يقوم به، وهذا هو الرابع منها. "والشنظير" بكسر الشين والظاء المعجمتين يتخللهما السكون: هو السيئ الخلق. "الفحاش" نعتٌ له؛ أي: هو مع سوء خلقه فحَّاشٌ في كلامه، وهذا هو الخامس منها.

3858 - وقالَ: "والذي نفسي بيدِه، لا يؤمنُ عبدٌ حتَّى يُحِبَّ لأخيهِ ما يحب لَنْفسِه". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد"؛ أي: لا يكمُل إيمانه "حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". * * * 3859 - وقالَ: "والله لا يُؤْمِنُ، والله لا يؤمنُ، والله لا يؤمنُ"، قيلَ: مَن، يا رسولَ الله؟ قال: "الذي لا يَأْمَنُ جارُه بَوائِقَه". "وعن أبي شريح قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن، قيل: مَن يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جارُه بوائقه"؛ أي: غوائلَه وشرورَه، جمع بائقة وهي الداهية. * * * 3860 - وقالَ: "لا يَدخُلُ الجَنَّةَ مَن لا يَأْمَنُ جارُه بَوائِقَه". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه". * * * 3861 - وقالَ: "ما زالَ جِبْريلُ يوصيني بالجارِ حتَّى ظَنَنْتُ أنَّه سَيُوَرِّثُه". "وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما زال جبريل يوصيني بالجار"؛ أي: يأمرني بحفظ حق الجار والإحسانِ إليه ودفعِ الضرر عنه.

"حتى ظننتُ أنَّه سيورِّثُه"؛ أي: سيحكم بميراث أحد الجارين من الآخر. * * * 3862 - وقالَ: "إذا كُنْتم ثلاثةً فلا يتَنَاجَى اثنانِ دونَ الآخرِ حتى يختلِطُوا بالنّاسِ مِن أجْلِ أنْ يُحزِنَه". "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كنتم"؛ أي: في المصاحبة "ثلاثة فلا يتناجى اثنان"؛ أي: لا يتكلمان بالسر. "دون الآخر" لأنه ربما يتوهَّم أن نجواهما لأجلِ قَصدِهما له بشرِّ. "حتى يختلطوا بالناس" وهذا يؤذِنُ بأن النهي خاصٌّ بموضعٍ لا يأمنُ الشخص فيه صاحبه على نفسه. "من أجل أن يَحزُنَه"؛ أي: لا يحزنه، مفعول له، وضمير الفاعل للمتناجي وضمير المفعول للآخر، قيَّد بالثلاثة لأنهم إذا كانوا أربعة فتناجى اثنان فلا بأس به. * * * 3863 - وعن تَميم الدّارِيِّ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدِّينُ النَّصيحَةُ"، ثلاثًا، قلنا: يا رسولَ الله! لِمَن؟ قال: اللهِ، ولكِتابه، ولرَسُوله، ولأئِمَّةِ المُسلِمينَ، وعامَّتِهم". "وعن تميم الداري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الدِّين"؛ أي: عماد الدين، أو أفضل أعماله "النصيحة" وهي إرادة الخير للمنصوح له بقولٍ أو فعل، وأصل النصح الخلوص. "ثلاثًا"؛ أي: ذكرها ثلاث مرات.

"قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال لله" والنصيحة لله تعالى الإيمانُ به وإخلاصُ العمل فيما أَمر به. "ولكتابه" نصيحته الاعتقادُ بأنّه كلام الله والعملُ بمحكمه التسليمُ بمتشابهه. "ولرسوله" نصيحته تصديقه بكلِّ ما عُلم مجيئه، وإحياءُ طريقته، وفي الحقيقة هذه النصائح راجعة إلى العبد. "ولأئمة المسلمين" نصيحتهم إطاعتهم في المعروف وتنبيههم عند الغفلة. "وعامتهم" نصيحة عامة المسلمين دفعُ المضارّ عنهم وجلبُ المنافع إليهم بقدْر الوسع. * * * 3864 - وعن جَريرٍ قال: "بايعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على إقامِ الصَّلاةِ، وإِيتاءِ الزَّكاةِ، والنُّصح لكُلِّ مُسْلِم". "وعن جرير أنَّه قال: بايعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم". * * * مِنَ الحِسَان: 3865 - عن أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ أبا القاسم الصّادقَ المصدوقَ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تُنزَعُ الرَّحمَةُ إلا مِن شَقي". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنَّه قال: سمعت أبا القاسم"؛ يعني الرسول.

"الصادق"؛ أي: في أقواله وأفعاله. "المصدوق"؛ أي: المشهور بصدقه في كلامه، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. "يقول: لا تُنزع الرحمة إلا من شقي"؛ يعني: مَن ليس في قلبه شفقةٌ ورحمة فهو شقي. * * * 3866 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الرَّاحِمُونَ يَرحَمُهم الرَّحمنُ، اِرحَمُوا مَن في الأرضِ يَرحَمْكم مَن في السماءَ". "وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"؛ أي: مَنْ ملكُه وقدرته في السماء، وهو الله، أو المراد به الملائكة، وذلك حفظُهم عن الأعداء وسائر المؤذيات بأمره تعالى، واستغفارهم للراحمين في الأرض. * * * 3867 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليسَ منا مَن لم يَرحَمْ صَغيرَنا، ويُوَقِّر كبيرَنا، ويَأمُر بالمَعْروفِ، ويَنْهَ عن المُنْكَرِ"، غريب. "وعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس منا"؛ أي: من متابعينا في هذا الفعل. "من لم يرحم صغيرنا، ويوقر كبيرنا، ويأمر بالمعروف، وينه عن المنكر"، "غريب".

3868 - وقال: "ما أكرمَ شابٌّ شَيْخًا مِن أجلِ سِنِّهِ إلا قَيَّضَ الله لهُ عندَ سِنِّهِ مَن يُكْرمُهِ". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أكرم شابٌّ شيخاً من أجل سنه إلا قيض الله"؛ أي: قدَّر، أو وَّكل، أو سبَّب، أو سلَّط. "له عند سنه"؛ أي: عند كبر سنه. "من يكرمه" وفيه إشعارٌ ببلوغ ذلك الشاب سنَّ ذلك الشيخ المكرم. * * * 3869 - وقالَ: "إنَّ مِن إِجْلالِ الله إكرامَ ذي الشَّيبةِ المُسْلِم، وحاملِ القُرآنِ غيرِ الغالي فيهِ والجافي عنه، وإكرامَ ذي السُّلْطانِ المُقْسِطِ". "وقال: إن من إجلال الله"؛ أي: من تعظيمه، والمصدر مضافٌ إلى الفاعل، أو إلى المفعول. "إكرامَ ذي الشيبة المسلم وحاملِ القرآن غيرِ الغالي فيه"؛ أي: المجاوِزِ فيه عن الحد لفظاً ومعنى، أو الخائنِ فيه بتحريفه أو في معناه بتأويله بباطل. "والجافي عنه"؛ أي: المتباعد عنه، المُعْرِضِ عن تلاوته والعمل به. "وإكرام ذي السلطان المُقْسِط". * * * 3870 - وقالَ: "خيرُ بيتٍ في المُسلِمينَ بيتٌ فيهِ يتيمٌ يُحسَنُ إليه، وشرُّ بيتٍ في المُسْلِمينَ بيتٌ فيهِ يتيمٌ يُساءُ إليهِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير بيت في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُحسَنُ إليه، وشر بيت في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يساء إليه"؛ أي:

يؤذى بالباطل، فإنَّ ضربه للتأديب وتعليم القرآن جائز. * * * 3871 - وقال: "مَن مَسَحَ رَأْسَ يتيم لم يَمْسَحهُ إلا للهِ، كانَ لهُ بِكُلِّ شَعْرةٍ تَمُرُّ عليها يدُه حَسَناتٌ، ومَن أحسَنَ إلى يتيمةٍ أو يَتيم عندَهُ كنتُ أنا وهوَ في الجَنَّةِ كهاتينِ، وقَرَنَ بينَ أصبُعَيْهِ"، غريب. "وعن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مسح رأس يتيم"؛ أي: مسح يده على رأسه للتلطف به والرحمة إليه، أو ادَّهن رأسه، أو ستر رأسه. "لم يمسحه إلا لله، كان له بكلِّ شعرة تمر عليها يدُه حسناتٍ، ومن أحسن إلى يتيمة أو يتيم عنده كنتُ أنا وهو في الجنة كهاتين، وقرن بين أصبعيه"، "غريب". * * * 3872 - وقال: "مَن آوَى يتيمًا إلى طَعامِه وشَرابهِ أوجَبَ الله لهُ الجَنَّةَ البتَّةَ، إلا أنْ يَعْمَلَ ذنبًا لا يُغفَرُ، ومَن عالَ ثلاثَ بناتٍ أو مِثْلَهن مِن الأَخَواتِ، فأدَّبَهُنَّ وَرَحِمَهُنَّ حتى يُغنِيَهُنَّ الله، أَوْجَبَ الله له الجَنَّةَ"، فقالَ رجل: يا رسولَ الله! أو اثنتَينِ؟ قال: "أو اثنتينِ"، حتى لو قالُوا: أو واحدةً، لقالَ: واحِدَةً، "ومَن أَذْهَبَ الله كريمتَيْهِ وجبَتْ له الجنةُ"، فقيلَ: يا رسولَ الله! وما كريمَتاهُ؟ قال: "عيناهُ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من آوى يتيمًا إلى طعامه وشرابه أوجب الله له الجنة البتة، إلا أن يعمل ذنبًا لا يغفر"، والذنب غيرُ المغفور: الشرك، قيل: ومظالمُ الخَلْق.

"ومن عال ثلاث بنات"؛ أي: ربّاهن وقام برعاية مصالحهن. "أو مثلهن من الأخوات، فأدَّبهن ورحمهن حتى يُغنيهن الله، أوجب الله له الجنة، فقال رجل: يا رسول الله! أو اثنتين؟ قال: أو اثنتين - حتى لو قالوا: أو واحدة؟ لقال: أو واحدة - ومَن أذهب الله كريمتيه وجبت له الجنة، قيل: يا رسول الله! وما كريمتاه؟ قال: عيناه". * * * 3873 - عن جابرِ بن سَمُرَةَ قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنْ يُؤَدِّبَ الرَّجُلُ ولدَهُ خيرٌ مِن أنْ يتصدَّقَ بصاعٍ"، غريب. "وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأَن يؤدِّبُ الرجلُ ولده خيرٌ له من أن يتصدق بصاع"، "غريب". * * * 3874 - ورُوِيَ: "ما نَحَلَ الوالِدُ وَلَدَهُ مِنْ نَحْلٍ أَفْضَلَ مِنْ أدَبٍ حَسَنٍ"، مرسل. "ويروى: ما نَحَل الوالد"؛ أي: ما أعطى "ولده من نحل"؛ أي: عطية "أفضل من أدب حسن"، "مرسل". * * * 3875 - عن عَوْفِ بن مالكٍ الأَشْجَعيِّ قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا وامرَأةٌ سَفْعاءُ الخَدَّيْنِ كهاتينِ يومَ القيامةِ - وأَوْمأَ الرّاوِي بالسَّبابةِ والوُسْطى - امرأةٌ آمَتْ مِن زَوْجِها ذاتُ مَنْصِبٍ وجَمالٍ، حَبَسَتْ نفسَها على يتامَاهَا حتى بانُوا أو مَاتُوا".

"عن عوف بن مالك الأشجعي - رضي الله عنه - قال: قال [رسول الله - صلى الله عليه وسلم -]: أنا وامرأة سفعاء الخدين"؛ أي: متغيرة الخدين من غاية الجهد والمشقة وترك الزينة والترفُّه إقامةَ على ولدها بعد وفاة زوجها. "كهاتين يوم القيامة. وأومأ الراوي"؛ أي: أشار "بالسبابة والوسطى". "امرأةٌ": عطف بيان لـ (امرأة سفعاء)، أو بدلٌ منها، أو خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: هي امرأة. "آمَتْ"؛ أي: صارت أيماً "من زوجها ذاتُ منصبٍ وجمال حبست نفسها على يتاماها"؛ أي: تركت التزوُّج بزوج آخر واشتغلت بتعهد أطفالها. "حتى بانوا"؛ أي: انقطعوا عنها بالكبر والبلوغ، واستقلوا بالقوة والعقل والرشد بحيث يقدر كلٌّ منهم بالقيام بأمور نفسه، فإن الولد ما لم يكبر فهو ملتزقٌ بأمه غيرُ بائن عنها، أو معناه: انتشروا، أو ظهروا. "أو ماتوا". * * * 3876 - وعن ابن عبّاسٍ قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن كانت لهُ أُنثَى فلم يَئِدها، ولم يُهِنْها، ولم يُؤْثر ولدَه عَلَيها - يعني الذُّكورَ - أَدْخَلَهُ الله الجَنَّةَ". "وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من كان له أنثى فلم يئدها"؛ أي: فلم يدفنها حية كما هو عادة الجاهلية فراراً من العار أو الفقر. "ولم يُهنها"؛ أي: لم يُذِلَّها. "ولم يُؤْثِر"؛ أي: لم يختر. "ولده عليها، يعني الذكور" على الأنثى.

"أدخله الله الجنة". * * * 3877 - عن أنسٍ عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَن اغتيبَ عندَه أخوهُ المُسْلِمُ وهوَ يقدِرُ على نَصْرِه فنَصَرَهُ نصرَهْ الله في الدُّنْيا والآخِرَةِ، فإنْ لم يَنْصُره وهو يَقْدِرُ على نصرِه أدركَه الله بهِ في الدُّنيا والآخِرةِ". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من اغتيب" علي بناء المجهول من الغيبة. "عنده أخوه المسلم وهو يقدر على نصره فنصره نصره الله في الدنيا والآخرة، فإن لم ينصره وهو يقدر على نصره أدرك الله به"؛ أي: انتقم منه بسبب ترك النصرة "في الدنيا والآخرة". * * * 3878 - وقال: "مَن ذَبَّ عَن لَحْم أخيهِ بالمغيبَةِ كانَ حَقًّا على الله أنْ يُعتِقَه مِن النّارِ". "وعن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من ذبَّ عن لحم أخيه بالمغيبة"؛ أي: دفع مغتاباً عن غيبة أخيه المسلم. "كان حقًا على الله أن يعتقه من النار". * * * 3879 - وعن أبي الدَّرداءِ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ما مِن مُسْلِم يَرُدُّ عن عِرْضِ أخيهِ، إلَّا كان حَقًّا على الله أنْ يَرُدَّ عنهُ نارَ جَهَنَّمَ يومَ القيامةِ، ثمَّ تلا هذه الآيةَ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} ".

"عن أبي الدرداء أنَّه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من مسلم يردّ [عن] عرض أخيه"؛ أي: يمنع عن غيبة مسلم. "إلا كان حقًا على الله أن يردَّ عنه نار جهنم يوم القيامة، ثمَّ تلا هذه الآية: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47] ". * * * 3880 - عن جابرٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن امرئٍ مُسْلِم يَخْذُلُ امرَأً مسلمًا في موضعٍ تُنْتَهَك فيه حُرمَتُهُ، ويُنتَقَصُ فيه مِن عِرضهِ، إلا خَذَلَهُ الله تعالى في مَوْطِنٍ يُحِبُّ فيهِ نصرتهُ، وما من امرئٍ مُسْلِم ينصُرُ مُسلِمًا في مَوْضعٍ يُنتَقَصُ مِن عِرضهِ، ويُنتَهكُ فيه مِن حُرمَتِه إلا نصَره الله في مَوْطِنٍ يُحِبّ نُصرَتَه". "عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما من امرئ مسلم يخذل امرأ مسلمًا"؛ أي: يترك نصره ولا يمنع من اغتيابه. "في موضع يُنتهك فيه حرمته" وانتهاكُها تناولُها بما لا يَحلُّ. "ويُنتقص فيه من عرضه، إلا خذله الله تعالى في موضع يحب فيه نصرته، وما من امرئ مسلم ينصر مسلمًا في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله في موطن يحب نصرته". * * * 3881 - وقال: "مَن رَأَى عَوْرَةً فستَرها كانَ كمَن أحيا مَوْؤُدَةً". "وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من رأى عورة" وهي ما يكره الإنسان ظهوره؛ أي: من رأى عيبًا، أو أمرًا قبيحًا في مسلم.

"فسترها كان كمن أحيا موؤدة"؛ أي: المدفونة حية بأن أخرجها من القبر كيلا تموت، وجه التشبيه: أن من اطُّلع على عيبه وقبيحه قد يختار الموت على اطِّلاع الغير عليه لما يلحقه من الخجالة؛ فإذا ستر عليه فقد دفع عنه تلك الخجالة التي هي عنده بمثابة الموت فكأنه أحياه. "صحيح". * * * 3886 - عن أبي هريرة قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أحدكم مِرآةُ أخيهِ، فإنْ رَأى به أَذى فَلْيُمِطْ عنه"، ضعيف. وفي رِواية: "المُؤْمِنُ مِرآةُ المُؤمِنِ، والمُؤْمِن أخو المؤمنِ، يَكُفُّ عنهُ ضَيْعتَهُ، ويَحُوطُه مِن وَرائِهِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أحدكم مرآة أخيه فإن رأى به أذى فليُمِطْ"؛ أي: فليُبْعِد ذلك الأذى "عنه" وليشتغل بإصلاح حاله بأيِّ طريق أمكنه، وليعلم نفسه كنفسه. "ضعيف". "وفي رواية: المؤمن مرآة المؤمن، والمؤمن أخو المؤمن يكفُّ"؛ أي: يمنع "عنه ضيعته"؛ أي: تَلَفه وخسرانه؛ أي: ليدفع عنه ما فيه عليه ضرر. وقيل: ضيعة الرجل ما يكون منه معاشه من حرفة أو تجارة أو غلة، والمعنى: يجمع عليه معيشته ويضمها إليه. "ويحوطه"؛ أي: يحفظه "من ورائه"؛ أي: في غيبته نَفْساً ومالاً وعِرضاً بأن لا يسكت إذا اغتيب عنده.

3882 - وقال: "مَنْ حَمَى مُؤْمِنًا مِن مُنافِقٍ بعثَ الله لهُ مَلَكًا يحمي لَحْمَهُ يومَ القِيامةِ مِن نارِ جَهَنَّمَ، ومَن رمَى مُسْلِمًا بشَيءٍ يُريدُ شَيْنَه بهِ حَبَسَه الله على جِسْرِ جَهَنَّمَ حتى يخرُجَ ممَّا قَالَ". "وعن معاذ وأنس - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من حمى مؤمنًا من منافق بعث الله ملكة يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن رمى مسلمًا"؛ أي: قذفه "بشيء يريد شَيْنَه به حبسه الله على جسر جهنم"؛ أي: على الصراط. "حتى يخرج مما قال"؛ أي: حتى ينقَّى من ذنبه ذلك بإرضاء خصمه، أو بتعذيبه بقَدْر ذنبه. * * * 3883 - عن عائِشَةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أنزِلُوا النّاسَ مَنازِلَهم". "عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنزلوا الناس منازلهم"؛ أي: أكرموا كل شخص على حسب فضله وقَدْرِ عمله، ولا يجوز للإمام أن يسوِّي بين الخادم ومخدومه ولا بين سيد القوم وقومه. 3884 - وقالَ: "المَجالسُ بالأمانِة إلا ثلاثةَ مَجالسٍ: سَفْكُ دمٍ حَرامٍ، أو فَرجٌ حَرامٌ، أو اقتِطاعُ مالٍ بغيرِ حَقٍّ". "قال: المجالس بالأمانة إلا ثلاثة مجالس: سفك دم حرام، أو فرج حرام، أو اقتطاع مال بغير حق". * * * 3885 - وقال: "إنَّ مِن أَعظَم الأمانةِ عندَ الله يومَ القيامةِ: الرَّجُلَ يُفضي إلى امرأَتِه وتُفضي إليهِ ثُمَّ يَنشُرُ سِرَّها".

"وقال: إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثمَّ ينشر سرها". * * * 3887 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيْرُ الأصحابِ عندَ الله خيرُهم لصاحبهِ، وخيرُ الجيرانِ عندَ الله خيرُهم لجارِه، غريب. "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه، وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره". "غريب". * * * 3888 - عن ابن مَسْعودٍ قال: قال رَجُل للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: كيفَ لي أنْ أَعْلَمَ إذا أحسنتُ أو إذا أسَأتُ؟ فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا سَمِعتَ جيرانَك يقولونَ: قد أحسَنْتَ؛ فقد أحسَنْتَ، وإذا سَمِعتَهم يقولونَ: قد أسأتَ؛ فقد أَسَأتَ". "عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: كيف لي أن أعلم إذا أحسنت وإذا أسأت؟ "؛ أي: كيف أعلم أني محسن أو مسيء؟. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إذا سمعت جيرانك يقولون: قد أحسنت، فقد أحسنت، وإذا سمعتهم يقولون: قد أسأت، فقد أسأت" قيل: أراد بهذا أن المحسن مَن سَلِمَ الناسُ من يده ولسانه، والمسيء عكسه.

16 - باب الحب في الله والبغض في الله

16 - باب الحُبِّ في الله والبُغْضِ في الله " باب الحب في الله"؛ أي: لأجل الله (ومن الله)؛ أي: الحبُّ بين الله والعبد. مِنَ الصِّحَاحِ: 3889 - قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَزواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فما تعارَفَ منها ائتلفَ، وما تناكرَ منها اخَتَلفَ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة وعائشة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الأرواح جنود مجنَّدة"؛ أي: جموعٌ مجموعة. "فما تعارف منها"؛ أي: من الأرواح، والتعارف جريانُ المعرفة بين اثنين فصاعدًا. "ائتلف"؛ أي: اجتمع في الدنيا. "وما تناكر منها" والتناكر ضد التعارف. "اختلف" قيل: هي إخبارٌ عن مبدأ كون الأرواح وتقدُّمها على الأجساد؛ أي: خُلقت في أول خلقها على قسمين من ائتلافب واختلاف؛ كالجنود المجموعة إذا تقابلت وتواجهت، ومعنى تقابُلِ الأرواح: ما جعلها الله عليه من السعادة والشقاوة والائتلافِ والاختلاف في مبدأ الخلقة، فتآلُفُ الأجساد في الدنيا وتخالُفُها على حسب ما خُلقت الأرواح عليه في عالم الملكوت، ولذا ترى الخير يميل إلى الأخيار، والشريرَ يميل إلى الأشرار. وفي الحديث دليل على أن الأرواح ليست بأعراضٍ، وأنها قد كانت

موجودة قبل الأجساد. * * * 3890 - وقالَ: "إنَّ الله إذا أحَبَّ عَبْدًا دَعا جِبْريلَ فقال: إنِّي أُحِبُّ فلانًا فأَحِبَّهُ"، قَالَ: "فيُحِبُّه جِبْريلُ، ثُمَّ يُنادِي في السَّماء فيقولُ: إنَّ الله يُحِبُّ فلانًا فأَحبُّوه، فيُحِبُّه أهلُ السَّماء، ثم يُوضَعُ له القَبولُ في الأرضِ، وإذا أبغَضَ عَبْدًا دَعا جِبْريلَ فيقول: إنِّي أُبغِضُ فُلاناً فأَبْغِضْهُ"، قال: "فيُبْغِضُه جبريلُ، ثُمَّ ينادِي في أهلِ السَّماءِ: إن الله يُبغِضُ فلاناً فأبغِضُوه"، قال: "فيُبغِضُونَه، ثُمَّ تُوضَعُ لهُ البَغْضاءُ في الأرضِ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله إذا أحب عبدًا دعا جبريل فقال: إني أحب فلانًا فأحبه، قال: فيحبه جبريل" محبتُه يحتمل أن تكون ثناؤه ودعاؤه له، وأن تكون الميل له والاشتياق إلى لقائه. "ثمَّ ينادي في السماء فيقول: إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثمَّ يوضع له القبول في الأرض" وهو المحبة والرضا بالشيء وميل النفس إليه؛ أي: توضع [له] المحبة في قلوب الناس. "وإذا أبغض عبدًا دعا جبريل فيقول: إني أبغض فلانًا فأبغضه، قال: فيبغضه جبريل، ثمَّ ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلانًا فأبغضوه، قال: فيبغضونه، ثمَّ يوضع له البغضاء في الأرض". * * * 3891 - وقالَ: "إنَّ الله يقولُ يومَ القِيامةِ: أينَ المُتَحابُّونَ بجلالي؟ اليَوْمَ أُظِلُّهم في ظِلِّي يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلِّي".

"وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى يقول يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ "؛ أي: بسبب عظمتي؛ يعني: الذين يكون التحابُّ بينهم لأجل رضائي لا للأغراض الدنيوية. "اليوم" ظرف لمتعلق (أين). "أظلهم في ظلي"؛ أي: أريحهم من حرارة الموقف راحةَ مَن استظلَّ. "يوم لا ظل إلا ظلي" بدل من (اليوم). * * * 3892 - عن أبي هُرَيْرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنَّ رَجُلًا زارَ أخًا له في قَريةٍ أُخرَى، فأَرصدَ الله لهُ على مَدرَجتِهِ مَلَكاً قال: أينَ تريدُ؟ قال: أريدُ أخًا لي في هذه القَريةِ، قال: هل لكَ عليهِ مِن نِعْمَةٍ تَرُبُّها؟ قال: لا، غيرَ أنِّي أَحْبَبتُه في الله، قال: فإنّي رسولُ الله إليكَ بأنَّ الله قد أحَبَّكَ كما أحبَبْتَهُ فيه". "وعنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أن رجلًا زار أخًا له في قرية أخرى"؛ يعني: أراد زيارة أخيه، وهو أعم من أن يكون أخاً حقيقةً أو مجازًا. "فأرصد الله على مدرجته"؛ أي: أعدَّ وهيأ على طريقته. "ملكاً، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة" قيل: (نعمة) مبتدأ و (من) زائدة و (لك) خبره و (عليه) متعلق بحالٍ محذوف؛ أي: هل لك نعمةٌ داعيةٌ إلى زيارته. "تربُّها؟ "؛ أي: تحفظها وتستزيدها بالقيام على شكرها. "قال: لا، غير أني أحببته في الله" بنصب (غير) استثناءً؛ أي: ليس لي داعية إلى زيارته إلا محبتي إياه في طلب رضا الله.

"قال: فإني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته فيه". * * * 3893 - وعن ابن مَسْعودٍ: أنَّه قال: جاءَ رَجُلٌ إلى رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسولَ الله! كيفَ تقولُ في رَجُلٍ أَحَبَّ قَوْماً ولم يَلْحَقْ بهم؟ فقال: "المرْءُ معَ مَنْ أَحَبَّ". "عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنَّه قال: جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! كيف تقول في رجل أحب قومًا ولم يلحق بهم؟ "؛ أي: بالصحبة، أو بالعمل؛ يعني: لم يصاحبهم، أو لم يعمل بمثل ما عملوا، وقيل: لم يرهم. "قال: المرء مع مَن أحبَّ". * * * 3894 - عن أنسٍ: أنَّ رَجُلًا قال: يا رسولَ الله! متَى السَّاعةُ؟ قال: "ويلَكَ، وما أعدَدتَ لها؟ " قال: ما أعْدَدتُ لها إلا أنِّي أُحِبُّ الله ورسولَهُ، قال: "أنتَ معَ مَنْ أحبَبْتَ". "وعن أنس - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال: يا رسول الله! متى الساعة؟ " كان سؤاله عن وقت قيام الساعة إما على سبيل التعنُّت له - صلى الله عليه وسلم - والتكذيبِ بها، وإما على سبيل التصديق بها والشفق منها. "قال" امتحانًا له: "ويلك ما أعددت لها؟ "، (ما) هذه استفهامية. "قال: ما أعددت لها"، (ما) هذه نافية. "إلا أني أحب الله ورسوله" فلما علم - صلى الله عليه وسلم - أنَّه يسأل تصديقاً بها "قال: أنت مع من أحببت" قال أنس: فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء فرحهم به.

3895 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ الجليسِ الصّالح والسُّوءَ، كحامِلِ المسكِ ونافخ الكِيرِ، فحامِلُ المِسْكِ إمّا أنْ يُحذِيَكَ، وإمّا أنْ تَبْتاعَ منه، وإمَّا أنْ تَجدَ منهُ رِيحًا طيبةً، ونافخُ الكِيرِ إمَّا أنْ يَحرِقَ ثيابَكَ، وإمّا أنْ تجدَ منه رِيحًا خَبيثةً". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكبير، فحامل المسك إما أن يُحذيك"؛ أي: يعطيك، من الإحذاء: الإعطاء. "وإما أن تبتاع"؛ أي: تشتري "منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخُ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد ريحًا خبيثة". * * * مِنَ الحِسَان: 3896 - عن مُعاذِ بن جَبَلٍ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "قَالَ الله تعالى: وَجَبَتْ مَحبَّتي للمُتحابينَ فِيَّ، والمُتَجالِسينَ فِيَّ، والمُتَزاوِرِينَ فِيَّ، والمُتَباذِلينَ فِيَّ". وفي رِوايةٍ قال: "يقولُ الله تعالى: المُتَحابُّون في جلالي لهم منابرُ مِن نورٍ، يغبطُهم النَّبيُّونَ والشُّهداءُ". "من الحسان": " عن معاذ بن جبل أنَّه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: قال الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين فيَّ وللمتجالسين فيَّ والمتزاورين فيَّ"؛ أي: الذين يزور بعضُهم بعضاً لأجلي. "والمتباذلين فيَّ"؛ أي: الذين يبذلون في رضائي.

"وفي رواية: قال: يقول الله تعالى: المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء"؛ أي: يتمنون مثل حالهم من غير إرادةِ زوالها عنهم، قيل: المراد بيان فضلهم وعلوِّ شأنهم لا إثباتُ الغبطة لهم على حالهم، ولا يلزم أن يكون للمغبوط مرتبة أعلى من مرتبة النبيين والشهداء، ويحتمل أن يقصد إثباتها لأنَّ كل ما يتعاطاه الإنسان من علم أو عمل يكون لفاعله عنده تعالى منزلةٌ لا يشاركه فيها غيره، وإن كان للغير ما هو أرفع فيغبطه ويتمنى أن يكون له مثلُ ذلك مضموماً إلى حاله. * * * 3897 - عن أبي مالكٍ الأَشْعرِيِّ قال: كنتُ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذ قَالَ: "إن لله عِبادًا لَيْسُوا بأنبياءَ ولا شُهَداءَ، يغبطُهم النَّبيُّونَ والشُّهداءُ بقُربهم ومَقعَدِهم مِن الله يومَ القِيامةِ"، فقال أَعْرابيٌّ: حدِّثْنا يا رسولَ الله! مَن هُم؟ فقال: "هُم عِبادٌ مِن عِبادِ الله مِن بُلدانٍ شَتَّى وقبائلَ شتَّى، لم يَكنْ بينَهم أَرحامٌ يَتَواصَلُون بها، ولا دُنيا يتباذَلُون بها، يتحابُّون برُوحِ الله، يَجْعَلُ الله وُجوهَهُم نورًا، وتُجْعَلُ لهم منابرُ مِن نورٍ قُدّامَ عَرشِ الرَّحمنِ، يَفْزَعُ النّاسُ ولا يَفْزَعُون، ويخافُ النّاسُ ولا يخافُونَ". "عن أبي مالك الأشعري أنَّه قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ قال: إن لله عبادًا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء بقربهم"؛ أي: بسبب قربهم. "ومقعدهم من الله يوم القيامة، فقال أعرابي: حدثنا من هم يا رسول الله؟ فقال: هم عباد من عباد الله من بلدان": جمع بلد، "شتى"؛ أي: متفرقة، "وقبائل": جمع قبيلة، "شتى، لم يكن بينهم أرحام يتواصلون بها ولا دنيا يتباذلون بها، يتحابون برُوح الله" بضم الراء: ما يَحيَى به الخلقُ ويكون حياة

لهم، وقيل: القرآن الذي به حياة القلوب، قال الله تعالى: {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] أي: بالقرآن، فالمعنى: أن السبب الداعي إلى تحابهم الوحيُ المنزل الهادي إلى سواء السبيل. وقيل: المعنى: يتحابون بداعية الإِسلام ومتابعة القرآن فيما حثهم عليه من موالاة المسلمين ومصادقتهم. "يجعل الله وجوههم نورًا، وتجعل لهم منابر من نور قدّام عرش الرحمن" وهذا عبارةٌ عن قرب المنزلة من الله تعالى. "يفزع"؛ أي: يخاف "الناس ولا يفزعون، ويخاف الناس ولا يخافون" والفرق بين الفزع والخوف: أن الفزع أشد أنواع الخوف، وقيل: الفزع خوفٌ مع جبن، والخوف غمٌّ يلحق الإنسان بسبب أمر مكروه سيقع. * * * 3898 - عن ابن عبّاسٍ قال: قال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذرّ: "يا أبا ذرّ! أيُّ عُرا الإيمانِ أَوْثَقُ؟ " قال: الله ورَسولهُ أعْلَمُ! قال: "المُوالاةُ في الله، والحُبُّ في الله، والبُغْضُ في الله". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: يا أبا ذر! أيُّ عرى الإيمان": جمع عروة، وهي ما يتمسك به، والمراد بها الأركان؛ أي: أيُّ أركانه "أوثق؟ "؛ أي: أحْكَم. "قال: الله ورسوله أعلم، قال: الموالاة"؛ أي: الحبُّ من الطرفين "في الله، والحب في الله والبغض في الله". * * * 3899 - عن أبي هُريرةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عادَ المُسْلِمُ أخاهُ، أو زارَه،

قال الله تبارك وتعالى: طِبْتَ وطابَ مَمْشاكَ، وتَبَوأتَ مِن الجَنَّةِ منزِلاً"، غريب. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا عاد المسلم أخاه"؛ أي: في المرض. "أو زاره"؛ أي: في الصحة. "قال الله تعالى: طبت"؛ أي: حصل لك طيبُ المعاش (¬1) في الآخرة. "وطاب ممشاك"؛ أي: صار مشيك سببَ طيبِ عيشك فيها. "وتبوَّأت"؛ أي: هيَّأت "من الجنة منزلاً" غريب. * * * 3900 - عن المِقْدامِ بن مَعْدِ يكرِبَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أحبَّ الرَّجُلُ أَخاهُ فليُخْبرهُ أنَّه يُحِبُّه". "عن المقدام بن معدي كرب - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه" وذلك ليعلم أنه يرشده وينصحه بصوابٍ، وإن كان عدوَّه أزال العداوة. * * * 3901 - عن أنسٍ قال: مرَّ رَجُل بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعندَه ناسٌ، فقالَ رَجُلٌ مِمَّن عندَه: إنِّي لأحِبُّ هذا للهِ، فقال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أَعْلَمْتَهُ؟ " قال: لا، قَالَ: "قُمْ إليه فأَعْلِمْهُ"، فقامَ إليه فأَعْلَمَه فقالَ: أحبَّكَ الذي أَحببتَني له، قال: ثُمَّ رَجَعَ، فسألَهُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبَرَه بما قَالَ، فقالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنتَ مَع مَن أحبَبْتَ، ولكَ ما احتَسَبْتَ". ¬

_ (¬1) في "غ": "العيش".

وفي رِواية: "المرءُ معَ مَن أحبَّ، ولهُ ما اكتَسَبَ". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنَّه قال: مر رجل بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده أناس، فقال رجل ممن عنده: إني لأحب هذا لله، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أَعْلَمْتَه؟ " بالاستفهام. "قال: لا، قال: قم إليه فأَعْلِمْه، فقام إليه فأعلمه، فقال: أحبَّك الذي أحببتني له" يريد به الله، وهذا على طريق الدعاء له. "قال"؛ أي: الراوي: "ثمَّ رجع"؛ أي: ذلك الرجل. "فسأله النبي - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره بما قال، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، أنت مع من أحببت ولك ما احتسبت"؛ أي: ما أعددت به من أجر أو حسنة. "وفي رواية: المرء مع من أحب وله ما اكتسب". * * * 3902 - عن أبي سعيدٍ: أنَّه سَمعَ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تُصاحِبْ إلا مُؤْمِناً، ولا يأكُلْ طَعامَك إلا تَقِيٌّ". "عن أبي سعيد الخدري أنَّه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تصاحب إلا مؤمنًا" يجوز أن يراد به المؤمن الخالص الذي يقابله الفاسق، كقوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا} [السجدة: 18]. "ولا يأكل طعامك إلا تقي" قال الخطابي: هذا في طعام الدعوة دون طعام الحاجة والصدقة، قال الله تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، ومعلوم أن أَسراهم كفارٌ. وإنما حذَّر عن صحبة غير المتقي وزَجَر عن مؤاكلته لأنَّ المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب.

17 - باب ما ينهى من التهاجر والتقاطع واتباع العورات

3903 - عن أبي هُرَيرةَ قال: قَالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المرءُ على دينِ خليلِه، فلْيَنظرْ أحدُكم مَن يُخالِلْ" غريب. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المرء على دين خليله"؛ أي: صديقه، والخلة: الصداقة والمحبة. "فلينظر أحدكم مَن يخالل" وضمير المفعول محذوف؛ أي: يخالله؛ يعني: إن اتخذ صالحاً خليلاً يكون هو صالحاً، وإن اتخذ فاسقاً يكون هو فاسقاً. "غريب". * * * 3904 - عن يزيدَ بن نعامَةَ أنَّه قال: قَالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا آخَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فلْيَسألهُ عن اسمِه واسم أبيهِ وممَن هوَ، فإنَّه أَوْصَلُ للمَوَدَّةِ". "عن يزيد بن نعامةَ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا آخى الرجل الرجل"؛ أي: اتخذه أخاً. "فليسأله عن اسمه واسم أبيه وممن هو"؛ يعني: من أيَّ قبيلة؛ أي: من أيِّ قريةٍ وبلد هو. "فإنه"؛ أي: السؤال عن ذلك، "أوصلُ"؛ أي: أكثر وصلة، "للمودة" بينهما. * * * 17 - باب ما يُنهَى من التَّهاجُرِ والتَّقاطُعِ واتباعِ العَوْراتِ " باب ما ينهى من التهاجُر والتقاطع"، الهجر: ضد الوصل، والتهاجُرُ

أخصُّ من التقاطع، (واتباع العورات): جمع عورة، وهي ما في الرجل من عيب وخلل. مِنَ الصِّحَاحِ: 3905 - قَالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يلتقيانِ فيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا، وخَيْرُهما الذي يبدَأُ بالسَّلامِ". * * * "من الصحاح": " عن أبي هريرة وأبي أيوب - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لرجل أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، يلتقيان، جملة استئنافية بيانٌ لكيفية الهجران. "فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام" هذه الجملة عطف على الاستئنافية من حيث المعنى؛ لما يفهم منها أن ذلك الفعل ليس بخير، ويجوز أن تكون الأولى حالًا من فاعل (يهجر) ومفعولِه معًا، فالثانية معطوفة على قوله: (لا يحل). أما إباحة الهجرة في الثلاث فمفهومٌ من الحديث عند مَن يقول بمفهوم المخالفة، وإنما عُفي عنها في الثلاث؛ لأنَّ الآدمي مجبولٌ على سوء الخلق والغضب. قيل: هذا إذا كان الهجر لأمر دنيوي، وأما إذا كان لتقبيح المعصية فالزيادةُ على الثلاث مشروعةٌ، كما هجر - صلى الله عليه وسلم - الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وهم كعب بن مالك وهلال بن أمية ومرارة بن الربيع، وأمر الناس بهجرانهم خمسين يوماً.

3906 - وقالَ: "إيَّاكم والظَّنَّ! فإنَّ الظَّن أَكْذَبُ الحَديثِ، ولا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَناجَشُوا، ولا تَحَاسدُوا، ولا تَباغضوا، ولا تَدابروا، وكونوا عبادَ الله إِخْوانًا". ويُروَى: "ولا تَنافَسُوا". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إياكم والظنَّ"؛ أي: احذروا من أن تظنوا بأحدٍ ظنَّ سوء، قيل: المراد به ما يستقر عليه صاحبه دون ما يخطر في قلبه. "فإن الظن أكذب الحديث"؛ أي: حديث النفس؛ لأنه يكون بإلقاء الشياطين، قال الله تعالى: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] قيل: الظن الذي هو إثم أن يظن فيتكلم به. "ولا تحسسوا" بالحاء المهملة؛ أي: لا تطلبوا التطلُّع على خير أحد، "ولا تجسسوا" بالجيم؛ أي: لا تطلبوا التطلُّع على شر أحد، وكلاهما منهيٌّ؛ لأنه لو اطَّلعت على خير أحد ربما يحصل لك حسدٌ بأن لا يكون فيك ذلك الخير، وإن اطَّلعت على شره تَعيبُه وتفضحه. قيل: "التجسُّس" بالجيم: التفتيش عن بواطن الأمور بتلطُّفٍ. وقيل: بالجيم تطلُّب البحث عن العورات، وبالحاء الاستماع؛ يعني استراق السمع. وقيل: بالحاء: التعرُّف بالحواس، وبالجيم: تعرُّف الأمر، من الجَسِّ وهو اللمس. "وعن أنس (¬1) - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تناجشوا" قيل: المراد به ¬

_ (¬1) كذا ورد في بعض الروايات من حديث أنس، وورد في الصحيحين ضمن حديث أبي هريرة السابق.

تطلُّب الترفُّع والعلوِّ على الناس، وقيل: أن يُغرِيَ بعضٌ بعضًا على الشر، وقيل: هو الزيادة في الثمن بغير رغبة في السلعة ليخدع المشتري بالترغيب. "ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا" وقيل: أي: لا تولُّوا ظهركم على أخيكم ولا تُعرضوا عنه. "وكونوا عباد الله إخوانًا" خبر ثان لـ (كان). "ويروى: ولا تنافسوا"؛ أي: لا تحاسدوا ولا تنازعوا. * * * 3907 - وقالَ: "تُفتَحُ أبوابُ الجَنَّةِ يومَ الاثنينِ ويومَ الخَميسِ، فيُغفَرُ لكلِّ عَبْدٍ لا يُشْرِكُ بالله شيئًا، إلا رَجُلًا كانَتْ بينَهُ وبينَ أخيهِ شَحْناءُ فيقالُ: أَنْظِروا هذَينِ حتَّى يَصْطَلِحا". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئًا إلا رجلًا كانت بينه وبين أخيه شحناء"؛ أي: العداوة والبغض. "فيقال: أنظروا" أمرٌ من الإنظار والإمهال؛ أي: أمهِلوا في مغفرة "هذين حتى يصطلحا". * * * 3908 - وقالَ: "تُعرَضُ أَعْمَالُ النَّاسِ في كلِّ جُمُعَةٍ مرَّتينِ، يومَ الاثنينِ ويومَ الخَميسِ، فيُغفَرُ لكُلِّ عبدٍ مؤمنٍ، إلا عَبْدًا بينَه وبينَ أخيهِ شَحْناءُ، فيقال: اُترُكُوا هذَينِ حتَّى يَفيئَا". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تُعرض أعمال الناس في

كل جمعة"؛ أي: في كل أسبوع. "مرتين" بيَّن ذلك بقوله: "يوم الاثنين ويوم الخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدًا" - بالنصب - استثناء من كلام موجب، كذا في "كتاب مسلم" وهو الظاهر، وفي بعض النسخ بالرفع على أنه صفة لـ (كل عبد مؤمن)؛ لأن محله الرفع. "بينه وبين أخيه شحناء، فيقال: اتركوا هذين حتى يفيئا"؛ أي: يرجعا عما [هما] عليه من العداوة والغضب إلى الصلح. * * * 3909 - وقالَ: "إنَّ الشَّيطانَ قد أَيسَ أنْ يَعبُدَه المُصَلُّونَ في جَزيرةِ العَرَبِ، ولكنْ في التَّحريشِ بينَهم". "وعن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش"؛ أي: في الإغراء "بينهم": تقدم بيانه في (باب الكبائر). * * * 3910 - وعن أُمِّ كلثومَ بنتِ عُقبةَ بن أبي مُعَيطٍ قالت: سَمِعْتُ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ليسَ الكذَّابُ الذي يُصلِحُ بينَ الناسِ ويقولُ خيرًا ويَنْمِي خيرًا"، قالت: ولَمْ أَسمَعْهُ - تَعني النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُرَخِّصُ في شَيءٍ مِمَّا يقولُ النَّاسُ كَذِبًا، إلا في ثلاثٍ: "الحَرْبُ، والإصلاحُ بينَ النَّاسِ، وحَديثُ الرَّجُلِ امرأتَه وحَديثُ المَرْأةِ زَوْجَها". "عن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أنها قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يقول: ليس الكذَّاب الذي يصلح بين الناس فيقول خيرًا وَينمي خيرًا" تقدم بيانه في (باب حفظ اللسان). "قالت: ولم أسمعه - تعني النبي - صلى الله عليه وسلم - يرخص في شيء مما يقول الناس كذبًا إلا في ثلاث: الحرب" والكذب في الحرب مثل أن يقول: في جيش المسلمين كثرةٌ، وقد أتاهم مدد (¬1) كثير، أو يقول: انظر إلى خلفك فإن فلانًا قد أتاك من خلفك ليضربك. "والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته" مثل أن يقول: لا أجد أحبَّ إليَّ منك. "وحديث المرأة زوجها" مثل ذلك. * * * مِنَ الحِسَان: 3911 - عن أسماءَ بنتِ يزيدَ قالت: قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ الكَذِبُ إلا في ثلاثٍ: كَذِبُ الرَّجُلِ امرأتَه ليُرضيَها، والكذِبُ في الحَرْبِ، والكذِبُ ليُصلِحَ بينَ النَّاسِ". "من الحسان": " عن أسماء بنت يزيد قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل الكذب إلا في ثلاث: كذب الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس". * * * 3912 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يكونُ ¬

_ (¬1) في "غ": "ملأ".

لِمُسْلِمٍ أنْ يهجُرَ مُسْلِمًا فوقَ ثلاثةٍ، فإذا لقِيَهُ سَلَّمَ عليهِ ثلاثَ مَرَّاتٍ، كلُّ ذلكَ لا يَرُدُّ عليهِ فقد باءَ بإثمِهِ". "عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يكون لمسلم أن يهجر مسلمًا فوق ثلاثة، فإذا لقيه سلَّم عليه" بدلٌ من (لقيه)، أو حال من فاعله. "ثلاثَ مرار كلَّ ذلك" ظرف لقوله: "لا يرد عليه" أو صفة لـ (مرار) والعائد محذوف (¬1)؛ أي: لا يردُّ فيها؛ أي: في المرار. "فقد باء"؛ أي: رجع "بإثمه" جواب (إذا)؛ يعني: خرج المسلِّم عن إثم الهجران، ورجع الإثم إلى الهاجر الذي لم يردَّ السلام. * * * 3913 - وعن أبي هريرة: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحِلُّ لِمُسلِمٍ أنْ يهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثٍ، فمَن هَجَرَ فوقَ ثلاثٍ فماتَ دَخَلَ النَّارَ". "وعن أبي هريرة - رضي لله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحلُّ لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاثٍ فمات دخل النار"؛ أي: استوجب دخولها بالإثم، فالواقع فيه كالواقع فيها. * * * 3914 - عن أبي خِراشٍ السُّلَمِيِّ: سَمعَ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ هَجَرَ أخاهُ سَنَةً فهوَ كسَفْكِ دمِهِ". ¬

_ (¬1) أي: (كلُّ) بالرفع مبتدأ خبره (لا يرد)، والجملة صفة (ثلاث مرات)، والعائد محذوف. انظر "مرقاة المفاتيح" (9/ 238).

"عن أبي خراش السُّلَمي أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: من هجر أخاه سنة فهو كسفك دمه"؛ أي: الهاجر سنةً كالقاتل، وقيل: هو كالقاتل حرمةً إلا أن يكونا سواءً في قَدْر الإثم. * * * 3915 - عن أبي هُرَيرة قال: قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَحِلُّ لمؤمنٍ أنْ يَهْجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاثٍ، فإنْ مَرَّتْ بهِ ثلاثةٌ فَلْيَلْقَهُ فليُسَلِّمْ عليهِ، فإنْ رَدَّ عليهِ السَّلامَ فقد اشتركَا في الأَجْرِ، وإنْ لم يَرُدَّ عليهِ فقد باءَ بالإِثمِ، وخَرَجَ المُسَلِّمُ مِن الهِجْرَةِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يحل لمؤمن أن يهجر مؤمنًا فوق ثلاثٍ، فإن مرت به ثلاث فليَلْقه فليسلِّم عليه، فإن ردَّ عليه فقد اشتركا في الأجر، وإن لم يردَّ عليه فقد باء بالإثم وخرج المسلِّم من الهجر". 3916 - عن أبي الدَّرْداءِ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ أُخبرُكم بأفضلَ مِن دَرَجةِ الصِّيامِ والصَّدَقةِ والصَّلاةِ؟ " قال: قُلنا: بلى، قال: "إِصلاحُ ذاتِ البَيْنِ، وإِفْسادُ ذاتِ البَيْنِ هي الحالِقَةُ"، صحيح. "عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصدقة والصلاة" قيل: المراد بهذه المذكورات نوافلُها دون فرائضها. "قلنا: بلى، قال إصلاح ذات البين" أراد بذات البين: الخصال المفضية إلى البين من المهاجرة والمخاصمة بين اثنين بحيث يحصل بينهما الفُرقة. "وإفساد ذات البين" - ويروى: (وفساد) - مبتدأ خبره "هي الحالقة"؛ أي: المهلكة للدين المستأصِلةُ للثواب استئصالَ الموسى. "صحيح". * * *

3917 - وقالَ: "دَبَّ إليكُم داءُ الأممِ قبلَكم: الحَسَدُ والبغضاءُ، هي الحالِقَةُ، لا أقولُ: تحلِقُ الشَّعرَ، ولكنْ تحلِقُ الدِّينَ". "وعن الزبير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دبَّ"؛ أي: سرى "إليكم داء الأمم قبلكم: الحسد والبغضاء" بيان للداء وبدلٌ منه، سمِّيا داءٌ لأنهما داء القلب. "هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" لأنها تمنع الإنسان من فعل الخيرات والحضور في الصلاة والمحبة الكاملة في الله؛ لأن الممتلئ صدرُه حسدًا أو بغضا لا تكمل محبته ولا يجد حلاوة الطاعة في قلبه ولا يرضى بقضاء الله تعالى. * * * 3918 - عن أبي هُرَيرةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إيَّاكُم والحَسَدَ! فإنَّ الحَسَدَ يأكلُ الحَسَناتِ كما تأكلُ النَّارُ الحَطَبَ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم والحسد فإن الحسد يأكل الحسنات"؛ أي: يمحوها. "كما تأكل النار الحطب" يؤوَّل هذا بأن الحسد يفضي بصاحبه إلى وقوعه في عِرض المحسود وغيبته وسبه وثلبه، وربما أدى ذلك إلى تلف ماله، وكلُّ هذه مظالمُ يذهب في عوضها الحسنات كما جاء في حديث: "المفلس الذي يأتي يوم القيامة وقد ضَرب هذا وأخذ مال هذا وسفك دم هذا، فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته" إلى آخر الحديث. أو المراد: الحسنات التي يشغلُه الحسد عن الاشتغال بها، أو بأن الحاسد غيرُ راضٍ بحكم الله فربما غلب عليه الحسدُ والحقد والعداوة إلى أن تفوَّه

بكفرٍ مُبْطلٍ للحسنات. * * * 3919 - وعن أبي هُرَيرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إيَّاكُم وسوءَ ذاتَ البَيْنِ! فإنَّها الحالِقَةُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إياكم وسوء ذات البين فإنها الحالقة". * * * 3920 - عن أبي صِرْمَةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن ضَارَّ ضارَّ الله بهِ، ومَن شاقَّ شَقَّ الله عليهِ". "وعن أبي صرمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من ضارَّ"؛ أي: أوصل ضررًا إلى أحد. "ضارَّ الله به"؛ أي: أوصل الضرر إليه. "ومن شاقَّ شاقَّ الله عليه" والضرر والمشقة متقاربان، لكن الضرر يستعمل في إتلاف المال، والمشقة في إيصال الأذية إلى البدن بتكليف عمل شاق. "غريب". * * * 3921 - عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَلْعونٌ مَن ضَارَّ مُؤْمنًا أو مَكَرَ بهِ". "عن أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:

ملعون من ضارَّ مؤمنًا أو مكر به"، "غريب". * * * 3922 - عن ابن عُمَرَ قال: صَعِدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المِنْبرَ فنادَى بصَوتٍ رفيعٍ فقال: "يا مَعْشرَ مَن أَسْلَمَ بلِسانِه ولم يُفْضِ الإِيمانُ إلى قلبهِ! لا تُؤْذُوا المُسلمينَ ولا تُعَيروهم، ولا تَتَّبعُوا عَوْراتِهم، فإنَّه مَن يَتَّبعْ عَوْرَة أخيهِ المُسلمِ يتَّبعِ الله عَوْرتَه، ومَن يتبع الله عورتَهُ يفضَحْهُ ولو في جَوْفِ رَحْلِهِ". "وعن ابن عمر وأبي برزة - رضي الله عنهم - أنهما قالا: صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فنادى بصوت رفيع فقال: يا معشر مَن أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان"؛ أي: لم يصل. "إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم"؛ أي: لا تعيبوهم. "ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من يَتَّبعْ عورة أخيه المسلم" تقدم معنى العورة في أول الباب. "يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله"؛ أي: ولو كان مخفيًا في وسط منزله عن الناس. فإن قلت: ما النكتة في ذكر أخيه، فإن الكلام مع المنافقين وهم ليسوا بإخوة المسلمين؟. قلت: معناه: ومن يتبع من المسلمين عورة أخيه المسلم يتبع الله عورته فكيف بالمنافق؟. * * * 3923 - عن سعيدِ بن زَيدٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مِن أربَى الرِّبَا الاستِطالةَ في عِرْضِ المُسلِم بغيرِ حَقٍّ".

"عن سعيد بن زيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من أربى الربا"؛ أي: من أكثرها وبالًا "الاستطالة في عرض المسلم بغير حق"؛ أي: إطالة اللسان في غيبته أو قذفه أو شتمه؛ يعني: غيبةُ الناس وقذفُهم أشدُّ من أكل الربا؛ لأن نفس المسلم أشرف من ماله. وفي قوله: (بغير حق) تنبيه على استباحة العرض في بعض الأحوال بحقٍّ، كقوله: صاحب الحق الذي لا يعطي حقه إنه ظالم وإنه متعدٍّ، وكقوله الجارحِ في عِرْضِ الشاهد، وكذا ذكر مساوئ الخاطب. * * * 3924 - وعن أنسٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمَّا عَرَجَ بي ربي مرَرْتُ بقومٍ لهم أَظْفارٌ مِن نُحاسٍ يَخْمِشُونَ وجُوهَهم وصُدورَهم، فقلتُ: مَن هؤلاءِ يا جِبْريلُ؟ قال: هؤلاءَ الذينَ يأكلونَ لحومَ النَّاسِ ويَقَعُونَ في أَعْراضهم". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما عرج بي ربي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون"؛ أي: يجرحون. "وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس"؛ أي: يغتابونهم "ويقعون في أعراضهم". * * * 3925 - وعن أنسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَن حَمَى مُؤْمِنًا مِن مُنافِقٍ يعيبُه، بعثَ الله مَلَكًا يَحْمي لَحْمَهُ يومَ القيامةِ مِن نارِ جَهَنَّمَ، ومَن قَفا مُسْلِمًا بشيءٍ يريدُ شَيْنَهُ بهِ حَبَسَهُ الله على جِسْرِ جَهَنَّمَ حتى يَخْرُجَ ممَّا قالَ". "وعن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من حمى مؤمنًا من منافق بغيبة بعث الله ملكًا يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم، ومن قفا مسلمًا بشيء"؛ أي:

قذفه بما ليس فيه، أو من قَفَوْتُه: إذا تبعتَ أثره؛ يعني: من تجسَّس عن حال مسلم ليقف على عيبه. "يريد شينه به، حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال" تقدم بيانه في (حِسان باب الشفقة). * * * 3927 - عن المُستَوْرِدِ بن شدَّادٍ: أنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن أَكَلَ برجُلٍ مُسْلِمٍ أَكْلَةً فإنَّ الله يُطعِمُه مِثلَها مِن جَهَنَّمَ، ومَن كُسِيَ ثَوْبًا برجُلٍ مُسلِمٍ فإنَّ الله يكسوهُ مثلَه مِن جَهَنَّمَ، ومَن قامَ برجُلٍ مَقامَ سُمعةٍ ورِياءٍ فإنَّ الله يُقيمُهُ مَقامَ سُمْعَةٍ ورِياءٍ يومَ القيامةِ". "عن المستورد بن شداد: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من أكل برجلٍ مسلم"؛ أي: بسبب غيبته. "أُكلة" وهي بالضم (¬1): اللقمة، وبالفتحة: المرة من الأكل؛ يعني: أنه يقع في عرض مسلم أو يتعرض له بالأذية عند مَن يبغضه حتى ينال بذلك ممن يعاديه ويريدُ هوانَه طُعمةً. "فإن الله يطعمه مثلها من جهنم، ومَن كُسي ثوبًا برجلٍ مسلم فإن الله يكسوه مثله من جهنم، ومن قام برجل" الباء للتعدية؛ أي: من أقام رجلًا "مقام سمعة ورياء"؛ أي: نسبه إلى الصلاح والتقوى وشهره بالزهد في الدنيا، وجعله وسيلة إلى تحصيل غرضٍ نفسي وحطامٍ دنيوي، وعلم الذي شهره به أنه على خلاف ذلك. "فإن الله تعالى يقوم به"؛ أي: يُقِيمُه "يوم القيامة مقام سمعة ورياء" ¬

_ (¬1) في "غ": "بالضمة".

فينادى عليه بين الملأ: إنه كان كذابًا قد شهر رجلًا بالصلاح والزهد في الدنيا وهو يعلم أنه كان على خلاف ذلك، ثم يعذبه عذاب الكذابين. وقيل: الباء للسببية، وهذا أقوى وأنسب، فالمعنى: من قام بسبب رجلٍ - من أمير ونحوه - مقامًا يتظاهر فيه بصلاحٍ وزهد ليسمع به الناس فيعتقدوا فيه، ويجعل ذلك ذريعة إلى مطلب دنيوي من جاه ومال، أقامه الله يوم القيامة مثل مقامه ذلك، ويفضحه بأن ينادَى عليه على رؤوس الأشهاد ويقال: إنه كان مرائيًا، ثم يعذب عذاب المرائين. * * * 3928 - وقال: "حُسْنُ الظَّنِّ مِن حُسْنِ العِبادةِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حسن الظن من حسن العبادة"؛ يعني: اعتقاد الخير والصلاح في حق المسلمين عبادةٌ. * * * 3926 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: اعتَلَّ بعيرٌ لِصَفِيَّةَ وعندَ زينبَ فَضْلُ ظَهرٍ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لزينبَ: "أَعْطيها بَعيرًا"، فقالت: أنا أُعطي تلكَ اليهوديةَ! فغضبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فهَجَرَها ذا الحِجَّةِ والمُحَرَّمَ وبعضَ صَفَرَ. "وعن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: اعتلَّ"؛ أي: مرض "بعيرٌ لصفية وعند زينب فضلُ ظهر"؛ أي: دابةٌ زائدةٌ على قَدْرِ حاجتها. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزينب: أعطيها بعيرًا، فقالت: أنا أعطي تلك اليهودية؟ فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهجرها ذا الحجة والمحرم وبعض صفر" وهذا يدل على جواز الهجران فوق الثلاث لفعلٍ قبيح. * * *

18 - باب الحذر والتأني في الأمور

18 - باب الحذَرِ والتَّأَنِّي في الأُمورِ " باب الحذر والتأني في الأمور"، وهو ضد العجلة. مِنَ الصِّحَاحِ: 3929 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُلْدَغُ المُؤمنُ مِن جُحْرٍ واحدٍ مرَّتينِ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يلدغ المؤمن" - بصيغة النفي - "من جحر واحد مرتين" معناه لا ينبغي للمؤمن الحازم المتيقِّظ أن يخدع مما تَضَرَّرَ به مرة بعد أخرى، قاله - صلى الله عليه وسلم - لمَّا أَسر أبو غزة الشاعر يوم بدر فمنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعاهده على أن لا يهجو المؤمنين، فأطلقه ثم رجع إلى الهجو والإيذاء، فلما أُسر يوم أحد طلب المنَّ مرة ثانية، فقال: (لا يلدغ المؤمن) الحديث، وأمر بضرب عنقه. ويروى بصيغة النهي، معناه: لا يُخدعنَّ المؤمن ولا يُؤتينَّ من ناحية الغفلة فيقع في مكروه وشر؛ أي: لا يُفْعلْ به هذا الفعل مرتين. * * * 3930 - وقال لأِشَجِّ عبدِ القَيْسِ: "إنَّ فيكَ لخَصْلَتينِ يُحِبُّهما الله: الحِلْمُ والأَناةُ". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأشج عبد القيس" بالإضافة، وكان رئيسَ عبد القيس وهي قبيلة، وفي بعض النسخ بفتح (أشج) على أنه غير منصرِفٍ، فيكون (عبد القيس) بدلًا منه على حذف المضاف؛ أي: رئيس عبد القيس. "إن فيك لخلصتين يحبهما الله: الحلم" وهو بكسر الحاء: تأخير مكأفاة

الظالم، والمراد به هنا عدمُ استعجاله وتراخيه حتى ينظر في مصالحه. "والأناة" على وزن القناة، وهو التثبُّت والوقار، والمراد به جودةُ نظره في العواقب. * * * مِنَ الحِسَان: 3931 - عن سَهْلِ بن سَعْدٍ السَّاعديِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الأَناةُ مِن الله، والعَجَلَةُ من الشَّيطانِ"، غريب. "من الحسان": " عن سهل بن سعد الساعدي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الأناةُ من الله تعالى والعجلةُ من الشيطان"، "غريب". * * * 3932 - عن أبي سعيدٍ قال: قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حليمَ إلا ذو عَثرةٍ، ولا حَكيمَ إلا ذو تَجربةٍ"، غريب. "عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حليم إلا ذو عثرة"؛ أي: زلةٍ؛ يعني: لا حليم كاملًا إلا مَن وقع في زلةٍ وحصل منه الخطأ والاستخجال [فعُفي عنه] (¬1) فيَعْرِفُ به رتبةَ العفو، فيحلم به عند عثرة غيره، لأنه عند ذلك يصير ثابت القدم. "ولا حكيم إلا ذو تجربة"؛ أي: لا حكيم كاملًا إلا مَن جرَّب الأمور وعلم المصالح والمفاسد، فانه لا يفعل فعلًا إلا عن حكمة، إذ الحكمة: إحكام ¬

_ (¬1) ما بين معكوفتين من "مرقاة المفاتيح" (9/ 255).

الشيء وإصلاحه من الخلل. "غريب". * * * 3933 - عن أنسٍ: أنَّ رَجُلًا قالَ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَوْصِني، فقالَ: "خُذِ الأَمرَ بالتَّدبيرِ، فإنْ رأيتَ في عاقبتِه خَيْرًا فأَمْضهِ، وإنْ خِفْتَ غَيًّا فأَمْسِكْ". "عن أنس: أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصني، فقال: خذ الأمر بالتدبير"؛ أي: التفكُّر في مصالحه ومفاسده، والنظر في عاقبته. "فإن رأيت في عاقبته خيرًا فأمضه"؛ أي: فافعله. "وإن خفت غيًا"؛ أي: ضلالًا وخسارًا "فأمسك"؛ أي: فاتركه. * * * 3934 - عن مُصْعَبِ بن سَعْدٍ، عن أبيهِ - قالَ الأَعْمَشُ: لا أعلَمُه إلا عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "التُّؤَدَةُ في كلِّ شَيءٍ خيرٌ إلا في عَمَلِ الآخِرةِ". "عن مصعب بن سعد، عن أبيه، قال الأعمش: لا أعلمه إلا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ يعني: أنه مرفوع إليه - صلى الله عليه وسلم -. "قال: التؤدة" بضم التاء وفتح الهمزة؛ أي: التأني. "في كل شيء خير إلا في عمل الآخرة" قال الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران: 133]. * * * 3935 - عن عبدِ الله بن سَرْجَسَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "السَّمْتُ الحَسَنُ

والتؤَدَةُ والاقتصادُ، جزءٌ مِن أربعةٍ وعشرينَ جزأً مِن النبوةِ". "عن عبد الله بن سَرْجِس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: السمتُ الحسن"؛ أي: السيرةُ المَرْضيَّةُ وحسنُ الهيئة في الدين. "والتؤدة والاقتصاد" وهو سلوك القصد؛ أي: الوسط الذي لا إفراط فيه ولا تفريط في الأمور، والدخول فيها برفق. "جزء من أربع وعشرين جزءًا من النبوة"؛ يعني: إن هذه الخصال من خصال الأنبياء فاقتدوا بهم فيها. * * * 3936 - وعن ابن عبَّاسٍ: أنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الهَدْيَ الصَّالحَ، والسَّمْتَ الصَّالحَ، والاقتِصادَ، جُزْءٌ مِن خَمْسةٍ وعِشرينَ جُزْءًا مِن النُّبوَّةِ". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الهديَ الصالح" هديُ الرجل: حاله ومذهبه. "والسمت الصالح والاقتصاد جزءٌ من خمس وعشرين جزءًا من النبوة" والتقدير بأربع وعشرين في الحديث الأول وبخمس وعشرين في الحديث الثاني مما لا يهتدى إليه إلا بنور النبوة، ومن حق (الأربع) و (الخمس) إلحاقُ تاء التأنيث بهما، ولعل التغيير وقع من بعض الرواة. * * * 3937 - وعن جابرِ بن عبدِ الله، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا حَدَّثَ الرَّجلُ بالحديثِ ثُمَّ التفَتَ فَهِيَ أَمَانَةٌ". "وعن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أنه

قال: إذا حدَّث الرجلُ بالحديث، ثم التفتَ"؛ أي: غابَ عنك. "فهي أمانة" ضمير (هي): للحكاية؛ لأن الحديثَ بمعنى الحكاية؛ أي: صار حديثُه عندَك أمانة في عنقك، يَحرُم عليك إضاعتُها؛ أي: إفشاؤُها. * * * 3938 - عن أبي هُريرةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لأبي الهَيْثَم بن التَّيهانِ: "هلْ لكَ خَادِمٌ؟ " قال: لا، فقالَ: "فإذا أتَانَا سَبْيٌ فائتنا"، فأُتِيَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - برَأسَينِ، فأتاهُ أبو الهَيْثمِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اختَرْ مِنْهُما"، فقالَ: يا نبَيَّ الله! اختَرْ لي، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ المُسْتَشارَ مُؤْتَمَنٌ، خُذْ هذا فإنِّي رأيتُه يُصلي، واستَوْصِ بهِ مَعْروفًا". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي الهيثم بن التيهان" - بكسر التاء وفتحها وتشديد الياء -: "هل لك خادم؟ قال: لا، فقال: إذا أتانا سَبْيٌ فائتِنا، فأُتي النبي - صلى الله عليه وسلم - برأسينِ"؛ أي: غلامَينِ. "فأتاه أبو الهيثم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اختَرْ منهما، فقال: يا نبيَّ الله! اختَرْ لي، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن المستشار": اسم مفعول من (استشارَه): إذا طلبَ رأيَه فيما فيه المصلحةُ من الأمور. "مُؤتَمَن"؛ أي: ينبغي أن يكونَ أمينًا، فيجب عليه أن يُخبرَ المستشيرَ بما هو المصلحةُ. "خُذْ هذا؛ فإني رأيتُه يصلي، واستَوصِ به معروفًا"؛ أي: اقبَلْ وصيتي فيه بالمعروف، وقيل: معناه: لا تأمرْه إلا بالمعروف وانصَحْ له. * * *

3939 - وقال: "المَجالِسُ بالأَمانةِ إلا ثلاثةَ مَجالسٍ: سَفْكُ دَمٍ حَرامٍ، أو فَرْجٌ حَرامٌ، أو اقتطاعُ مالٍ بغَيرِ حَقٍّ". "وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المجالس بالأمانة"؛ يعني: ينبغي للمؤمن إذا رأى أهلَ مجلسٍ على مُنكَرٍ ألَّا يُشيعَ بما رأى منهم. "إلا ثلاثةَ مجالس: سفكُ دمٍ حرامٍ"، بأن قال واحد من أهل ذلك المجلس: إني أريد قتلَ فلان. "أو فرجٌ حرامٌ"، بأن قال: أريد الزِّنا بفلانةَ. "أو اقتطاعُ مالٍ بغيرِ حقٍّ"، بأن قال: أريد أخذَ مالِ فلانٍ؛ فإنه لا يجوز للمستمعين حفظُ هذا السِّر؛ لأنه فسادٌ كبيرٌ، وإخفاؤُه إضرارٌ عظيمٌ. * * * 3940 - وقال: "إنَّ مِن أعظَمِ الأَمانةِ عندَ الله تعالى يومَ القِيامةِ: الرَّجُلُ يُفْضي إلى امرأتِهِ وتُفضي إليه ثم يُفشي سِرَّها". "وعن أبي سعيد الخُدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أعظم الأمانة": بحذف المضاف؛ أي: أعظمِ خيانةِ الأمانةِ. "عند الله تعالى يومَ القيامة الرجلَ"؛ أي: خيانةَ الرجلِ. "يُفضي إلى امرأته"؛ أي: يصلُ إليها استمتاعًا. "وتُفضي إليه، ثم يُفشِي سرَّها": بأن يتكلم ما جرى بينه وبينها قولًا وفعلًا، قيل: تحريم إفشاء هذا السرِّ إذا لم يترتب عليه فائدةٌ، أما إذا ترتَّب بأن تدَّعي عليه العجزَ عن الجِمَاع، أو إعراضَه عنها، أو نحو ذلك فلا كراهةَ في ذِكرِه. * * *

19 - باب الرفق والحياء وحسن الخلق

19 - باب الرفق والحياء وحسن الخلق " باب الرِّفق": وهو المداراة ولين الجانب وأخذ الأمر بأحسن الوجوه وأيسرها، والعنف: ضده، "والحياء وحسن الخُلق". مِنَ الصِّحَاحِ: 3941 - عن عائِشةَ رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله رَفيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، ويُعطي على الرِّفْقِ ما لا يُعطي على العُنْفِ، وما لا يُعطِي على ما سِواهُ". "من الصحاح": " عن عائشة: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله رفيق"، معناه: أنه يريد بعباده اليُسر ولا يريد بهم العُسر، فلا يكلِّفهم فوقَ طاقتهم، بل يسامحهم وَيلطُف بهم. "يحب الرِّفق"؛ أي: أن يرفقَ العبادُ بعضُهم بعضًا، ويتلاطفوا فيما بينهم. "ويعطي على الرِّفق"؛ أي: يعطي من الثواب في مقابلة الرفق أو من المطالب والأغراض "ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على ما سواه"؛ أي: على ما سوى الرفق من الخِصَال الحسنة، وهذا يدل على أن الرفقَ أقوى الأسباب الحسنة كلِّها وأوثقُها. * * * 3942 - وقال - صلى الله عليه وسلم - لعائِشَةَ رضي الله عنها: "عليكِ بالرِّفْقِ، وإيَّاكِ والعُنْفَ والفُحْشَ، إنَّ الرِّفقَ لا يكونُ في شيءٍ إلا زانَهُ، ولا يُنزَعُ مِن شيءٍ إلا شانَهُ". "وقال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: عليك بالرِّفق، وإياكِ والعنفَ والفحشَ؛ إن الرِّفقَ

لا يكون في شيء إلا زانَه"؛ أي: زيَّنَه. "ولا يُنْزَع من شيءٍ إلا شانَه"؛ أي: عابَه. * * * 3943 - وعن جريرٍ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن يُحْرَمِ الرِّفْقَ يُحْرَمِ الخَيْرَ". "وعن جرير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: مَن يُحرَمِ الرفقَ يُحَرمِ الخيرَ"؛ أي: يصير محرومًا منه. * * * 3944 - وقال: "إنَّ الحياءَ مِن الإيمانِ". "وعن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الحياءَ من الإيمان"؛ أي: مِن شُعَبه. * * * 3945 - وقال: "الحياءُ لا يأتي إلا بخيرٍ". ويُروَى: "الحياءُ خيرٌ كلُّه". "عن عِمران بن حُصين قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحياءُ لا يأتي إلا بخير". "ويُروى: الحياءُ خيرٌ كلُّه": وهذا عامٌّ أُريد به الخاصُّ؛ أي: الحياء عن فعل ما لا يرضاه الله تعالى خيرٌ كلُّه. * * * 3946 - وقال: "إنَّ مِمَّا أدركَ النَّاسُ مِن كلامِ النُّبوَّةِ الأولى: إذا لم تَسْتَحِ فاصْنَعْ ما شئتَ".

"عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن مما أَدركَ الناسُ من كلام النبوة الأولى"؛ أي: مما بقي بين الناس، فأدركوه من كلام الأنبياء، وفي إضافة الكلام إلى النبوة إشعارٌ بأن هذا الكلامَ من نتائج الوحي، وفي التقييد بـ (الأولى) إشارةٌ بأن الحياءَ كان مندوبًا إليه في الأولِين، لم يجرِ عليه النسخُ من شرائعهم. "إذا لم تستحي فاصنعْ ما شئتَ"، قيل: هذا أمرُ تهديدٍ؛ أي: افعلْ ما شئتَ فستُجازَى به، كقوله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40]، وفيه إشعارٌ بأن الكافَّ للإنسان عن مواقعة السوء هو الحياءُ، فإذا رفضَه فهو كالمأمور بارتكابِ كلِّ ضلالةٍ وتعاطي كلِّ سيئةٍ، وقيل: لفظُه أمرٌ ومعناه خبرٌ؛ يعني: صنعتَ ما شئتَ، وفيه توبيخٌ له، وقيل: معناه: إذا كنتَ في فعلِك آمنا أن تستحيَ منه لجريك فيه على سَنَنِ الصواب فاصنعْ ما شئتَ. * * * 3947 - عن النَّواسِ بن سَمْعانَ قال: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن البرِّ والإِثمِ، فقال: "البرُّ حُسْنُ الخُلُقِ، والإِثمُ ما حاكَ في صَدْرِكَ وكَرِهتَ أنْ يطَّلِعَ عليهِ الناسُ". "عن النَّوَّاس" - بفتح النون وتشديد الواو - "ابن سِمْعَان": بكسر السين المهملة وسكون الميم: "أنه قال: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن البرِّ والإثم؟ فقال: البرُّ حسنُ الخُلق"، ومن ذلك: العفو عن الذنوب، ومدارة الناس، وتحمُّل أذاهم. "والإثم ما حاك في صدرك"؛ أي: أثَّر قبحُه في قلبك، أو تردَّد فيه ولم تُرِدْ إظهارَه. "وكرهتَ أن يطَّلعَ عليه الناس"؛ لقبحه. * * *

3948 - وقال: "إنَّ مِن أحبكم إليَّ أَحْسنَكم أَخْلاقًا". "وقال: إن مِن أحبكم إليَّ أحسنَكم أخلاقًا". * * * 3949 - وقال: "إنَّ مِن خِيارِكم أَحْسَنَكم أَخْلاَقًا". "وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من خيارِكم أحسنَكم أخلاقًا"، الخيار: المختار من كل شيء. * * * مِنَ الحِسَان: 3950 - عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أُعطِيَ حَظَّهُ مِن الرِّفقِ أُعطيَ حَظَّهُ من خيرِ الدُّنيا والآخرةِ، ومَن حُرِمَ حَظَّهُ مِن الرِّفْقِ حُرِمَ حظَّهُ مِن خيرِ الدُّنيا والآخِرَةِ". "من الحسان": " عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: مَن أُعطِيَ حظَّه من الرفق أُعطِيَ حظَّه من خير الدنيا والآخرة، ومَن حُرِمَ حظَّه من الرفق حُرِمَ حظَّه من خير الدنيا والآخرة". * * * 3951 - عن أبي هُريرَةَ قال: قالَ رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحياءُ مِن الإِيمانِ، والإيمانُ في الجَنَّةِ، والبَذَاءُ مِن الجَفاءِ، والجَفاءُ في النَّارِ". "وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحياءُ من الإيمان، والإيمانُ"؛ أي: أهلُ الإيمان "في الجنة، والبَذَاء" بفتح الباء: ضد الحياء.

"من الجَفَاء": وهو خلاف البر. "والجفاءُ"؛ أي: أهلُ الجفاء "في النار". * * * 3952 - وعن أُسامَةَ بن شَريكٍ قال: قالوا: يا رسولَ الله! ما خيرُ ما أُعْطِيَ الإنسانُ؟ قال: "الخُلُقُ الحَسَنُ". "عن أسامة بن شَرِيك": قيل: هو المدفون بتلٍّ من تلال سَهَنْد جبل على ستة فراسخ من تِبريز. "قال: قالوا: يا رسولَ الله! ما خيرُ ما أُعطِيَ الناسُ؟ قال: الخُلقُ الحَسنُ". * * * 3953 - عن حارِثَةَ بن وَهْبٍ، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ الجَوَّاظُ ولا الجَعْظَرِيُّ"، قال: الجَوَّاظُ: الذي جَمَعَ ومَنَعَ، والجَعْظَرِيُّ: الغَليظُ الفَظُّ. "عن حارثة بن وهب قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخلُ الجنةَ الجَوَّاظُ" بفتح الجيم والواو المشددة: الجَمُوع المَنُوع، وقيل: الكثير اللحم، المختال في مشيه. "ولا الجَعْظَرِي" بفتح الجيم وسكون العين وكسر الراء المهملتين وفتح الظاء المعجمة: المتكثِّر بما ليس عنده، وقيل: سييء الخُلق، وقيل: الدفَّاع المنَّاع. "قيل: الجَوَّاظ: الغليظُ الفَظُّ"؛ أي: المتكبر. * * *

3954 - عن أبي الدَّرْداءَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أثقلَ شَيءٍ يُوضَعُ في ميزانِ المُؤْمنِ يومَ القِيامةِ خُلُق حَسَنٌ، وإنَّ الله يُبغِضُ الفاحِشَ البَذيءَ"، صحيح. "وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن أثقلَ شيءٍ يُوضَعُ في ميزان المؤمن يومَ القيامة خُلقٌ حسن، وإن الله يُبغض الفاحشَ البذيءَ. صحيح". * * * 3955 - وعن عائِشَةَ، عن رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ المُؤْمِنَ لَيُدرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه درجَةَ قائمِ اللَّيلِ وصائِم النَّهارِ". "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن المؤمنَ لَيدركُ بحسن خُلقه درجةَ قائم الليل وصائم النهار". * * * 3956 - وعن أبي ذرٍّ قال: قال لي رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اتَّقِ الله حَيْثُما كنتَ، وأَتبعِ السَّيئةَ الحَسَنةَ تَمْحُهَا، وخالِقِ النَّاسَ بخُلُقٍ حَسَنٍ". "عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: اتَّقِ الله حيث ما كنتَ وأَتبعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها"، فعُلِمَ منه أن العبدَ لا يستغني في حالٍ من الأحوال عن محوِ آثار السيئات عن قلبه، بمباشرة حسناتٍ تضادُّ آثارُها آثارَ تلك السيئات؛ فسماعُ الملاهي يكفَّر بسماع القرآن ومجالس الذِّكر، وشربُ الخَمر يكفَّر بالتصدُّق بكل شراب حلال، فقِسْ على هذا؛ لأن المرضَ يُعالَج بضدِّه. "وخالِقِ الناسَ بخُلقٍ حسنٍ"؛ أي: استَعمِلِ الخُلقَ الحسنَ معهم. * * *

3957 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "ألا أُخْبرُكم بِمَن يَحرُمُ على النَّارِ وبمَن تَحْرُمُ النَّارُ عليهِ؟ على كلِّ هَينٍ لَينٍ قريبٍ سَهْلٍ"، غريب. "عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أُخبركم بمن يَحرُم على النار"؛ أي: لا يُطرَح فيها ولا يَدخلها. "وبمن تَحرُم النارُ عليه؟ "؛ أي: لا تَصِلُ إليه. "على كل هين" من: الهون، وهو السهولة. "لين"؛ أي: حليم، ضد الخشونة، قيل: هما يُطلَقان على الإنسان بالتثقيل والتخفيف، وعلى غيره بالتشديد على الأصل. وعن ابن الأعرابي: بالتخفيف للمدح، وبالتشديد للذم. "قريب" من الناس بمجالستهم وملاطفتهم. "سهل"؛ أي: في قضاء حوائجهم وتمشية أمورهم وإعانتهم. "غريب". * * * 3958 - عن أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "المُؤْمِنُ غِرٌّ كريمٌ، والفاجِرُ خِبٌّ لئيمٌ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: المؤمنُ غِرٌّ" بكسر الغين المعجمة: الذي لم يجرِّب الأمور. "كريم، والفاجر خَبٌّ" بفتح الخاء المعجمة: ضد (الغِرِّ)، وهو الخدَّاع، وقد يُكسَر. "لئيم"، والمعنى: أن المؤمنَ المحمودَ: مَن في طبعه غرارةٌ وقلةُ شرٍّ

وتركُ بحثٍ عنه، وليس ذلك منه جهلًا، بل كرمًا وحسنَ خلقٍ، والفاجرُ: مَن كانت عادتُه الدهاءَ والبحثَ عن الشرِّ؛ لا على أنه عقلٌ منه، بل خبثٌ ولؤمٌ. * * * 3959 - وقال: "المُؤمنونَ هَينونَ لَينونَ، كالجَمَلِ الأَنِفِ، إنْ قِيدَ انقادَ، وإنْ أُنيخَ على صَخْرةٍ استناخَ"، مُرسَلٌ. "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المؤمنون هينون لينون": هما جمعا (هين) و (لين). "كالجمل الأَنِف" بفتح الهمزة وكسر النون، وبالقصر في الصحيح: هو البعير الذي أثرت البُرَةُ في أنفه، فصار أنفُه مجروحًا، ويكون إذ ذاك أشدَّ انقيادًا. يقال: أنِفَ البعيرُ يَأنَف - بالكسر - أنِفًا، فهو آنف: إذا اشتكى أنفُه من الخشاش المدخول في عظم أنفه، وهو من خشب، والبُرَة من صُفْرٍ، والكاف مرفوعة محلًا خبرًا ثانيًا؛ أي: كلُّ واحدٍ منهم كالجمل الأَنِف، أو منصوبة المحل صفة مصدر محذوف؛ أي: لينًا مثلَ لِين الجمل الأَنِف. "إنْ قِيدَ انقادَ، وإن أُنِيخَ إلى صخرة استَناخَ"، والمعنى: أن المؤمنَ شديدُ الانقياد للشارع في أوامره ونواهيه، وذكر الصخرةَ في جانب الإناخة؛ لأنها عليها شاقةٌ؛ أي: هو كثيرُ تحمّل المشاقِّ. "مرسل". * * * 3960 - وعن ابن عمرَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُسْلِمُ الذي يُخالِطُ النَّاسَ ويَصبرُ على أذاهُمْ، أَفْضَلُ مِن الذي لا يُخالِطُهم ولا يَصْبرُ على أذاهُمْ".

"عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: المسلم الذي يخالط الناسَ ويصبر على أذاهم أفضلُ من الذي لا يخالطهم، ولا يصبرهم على أذاهم". * * * 3961 - وعن سهلِ بن مُعاذٍ، عن أبيه: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن كَظَمَ غَيْظًا وهو يقدِرُ على أنْ يُنْفِذَهُ دعاهُ الله على رُؤوسِ الخَلائقِ يومَ القِيامةِ، حتى يُخَيرَهُ في أيِّ الحُورِ شاءَ"، غريب. وفي رِوايةٍ: "مَلأَ الله قلبَه أَمْنًا وإيمانًا". وزادَ بعضُهم: "مَن تركَ لُبْسَ ثَوْبِ جَمالٍ وهو يقدِرُ عليهِ - أَحْسِبُه قال: - تواضُعًا كساهُ الله حُلَّةَ الكَرامةِ، ومَن تَزَوَّجَ للهِ توَّجَهُ الله تاجَ المُلكِ". "عن سهل بن معاذ، عن أبيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن كظمَ غيظًا"؛ أي: اجتَرعَ غضبًا كامنًا. "وهو يَقدِر على أن يُنفِذَه"؛ أي: يُمضيَه، من: الإنفاذ، الإمضاء. "دعاه الله على رؤوس الخلائق يومَ القيامة حتى يخيرَه في أيِّ الحُورِ شاء. غريب". "وفي رواية: ملأ قلبَه أمنًا وإيمانًا، وزاد بعضهم"؛ أي: بعضُ الرواة على الحديث المذكور روايةً عنه - صلى الله عليه وسلم -: "مَن تركَ لبسَ ثوبِ جمالٍ، وهو يَقدِر عليه، أَحسِبه"؛ أي: قال الراوي: أظنُّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - "قال: تواضعًا" - مفعول له لقوله: (ترك) - "كَسَاه الله حُلَّةَ الكرامة"؛ أي: زينتها. "ومَن تزوَّج لله توَّجه الله"؛ أي: أَلبسَه "تاج الملك". * * *

20 - باب الغضب والكبر

20 - باب الغضب والكبر (باب الغضب والكِبْر) مِنَ الصِّحَاحِ: 3962 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا قال للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أَوْصني، قال: "لا تَغضَبْ"، فرَدَّدَ مِرارًا، قال: "لا تَغضَبْ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أوصِني، قال: لا تَغضبْ، فردَّد"؛ أي: فردَّد الرجلُ السؤالَ "مرارًا، قال: لا تغضبْ": يحتمل أن يكون الرجلُ المُستوصِي مبتلًى بالقوة الغضبية، وعَرفَ - صلى الله عليه وسلم - ذلك منه بالكشف لأحوال الناس؛ إما بالاطلاع الإلهي، أو بالفِراسة الصادقة، فأجابه بكل مرة بكسر تلك القوة. * * * 3963 - وقال: "ليسَ الشَّديدُ بالصُّرَعَةِ، إنَّما الشَّديدُ الذي يَمْلِكُ نفسَهُ عندَ الغَضَبِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس الشديدُ"؛ أي: القويُّ. "بالصُّرَعة": وهي بضم الصاد وفتح الراء المهملتين للمبالغة؛ أي: يُكثِر الصَّرْعَ، وهو الإسقاط؛ يعني: ليس القويُّ مَن يكون قادرًا على إسقاط خصومه. "إنما الشديدُ الذي يَملِك نفسَه عند الغضب"؛ يعني: إنما القويُّ مَن يَقدِر

على أن يَقهرَ أقوى أعدائه، وهو النَّفْسُ، عند الغضب، حوَّل - صلى الله عليه وسلم - معنى هذا الاسم من أمر الدنيا إلى أمر الدين. * * * 3964 - وقال: "ألا أُخبرُكم بأَهْلِ الجَنَّةِ؟ كلُّ ضَعيفٍ مُتَضَعِّفٍ، لو أَقْسَمَ على الله لأبَرَّهُ، ألا أُخبرُكُم بأهْلِ النَّارِ؟ كلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ مُسْتكْبرٍ". ويُروَى: "كلُّ جَوَّاظٍ زَنيمٍ مُتكبرٍ". "عن حارثة بن وهب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كلَّ ضعيفٍ متضعَّف" بفتح العين؛ أي: مَن يستضعفه الناسُ ويحتقرونه. ورُوي بكسر العين؛ أي: متواضع، قيل: المراد به: الخاضع لله تعالى. "لو أَقسَمَ على الله"، بأن يقول: بحقِّك يا ربِّ! افعلْ كذا. "لأَبرَّه"؛ أي: لأَمضاه على الصدق، والضمير المفعول للقَسَم الدال عليه (أقسم). "ألا أخبركم بأهل النار؟ كلُّ عُتُلٍّ": وهو بضم العين والتاء وتشديد اللام - الشديد الخصومة بالباطل، وقيل: الفَظُّ الغليظ الذي لا ينقاد ويتجبّر. "جَوَّاظ (¬1) " بفتح الجيم وتشديد الواو وبالظاء المعجمة، وهو الذي يجمع ويمنع، وقيل: السَّمين الثقيل من المعاشرة والتنعُّم. "مُستكبر، ويروى: كلُّ جَوَّاظٍ زَنِيمٍ": وهو المُلحَق في النَّسَب بقومٍ ليس منهم، شُبه بالزَّنَمَة، وهي شيءٌ يُقطَع من أذن الشاة ويُترك معلقًا بها، وقيل: الفاخر، وقيل: اللئيم. "متكبر". ¬

_ (¬1) في هامش "غ": "جامع المال ومانع الزكاة".

والمراد بالحديث: أن أغلبَ أهل الجنة والنار هذان الفريقان. * * * 3965 - وقال: "لا يدخُلُ النَّارَ أَحَدٌ في قلبهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ من خَرْدلٍ مِن إيمانٍ، ولا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ في قلبهِ مِثْقالُ حبةٍ من خَرْدلٍ مِن كبْرياءَ". "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل النارَ أحدٌ في قلبه مثقالُ حبةٍ من خَردلٍ من إيمانٍ، ولا يدخل الجنةَ أحدٌ في قلبه مثقالُ حبةٍ من خردلٍ من كبرياء"، يريد به: كِبْر الكفر؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]، وبدليل مقابلته بالإيمان، وأراد بالدخول: دخولَ تأبيد، أو أراد: أنه لا يدخل المؤمنُ المتكبر الجنةَ حتى يعذَّب بقَدْر تكبُّره وتجبُّره، أو يُعفَى عنه، أو إذا دخل الجنةَ نُزِعَ ما في قلبه من كِبْرٍ؛ ليدخلَها بلا كِبْر، كما قال الله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43]. * * * 3966 - وقال: "لا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أحدٌ في قلبهِ مِثْقالُ ذَرَّةٍ مِن كِبْرٍ"، فقالَ رجلٌ: إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يكونَ ثوبُه حَسَنًا، ونَعْلُهُ حسنًا؟ قالَ: إنَّ الله جَميلٌ يُحبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ: بَطَرُ الحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل الجنةَ أحدٌ في قلبه مثقالُ ذَرَّةٍ من كِبْرٍ"، و (المِثقال) في الأصل: مقدار من الوزن أي شيء كان، من قليل أو كثير، فمعنى (مثقال ذَرَّة): وزنها، والذَّرَّة: واحدة الذَّرِّ، وهو النمل الأحمر الصغير، وقيل: يُراد بها ما يُرى في شعاع الشمس الداخل في الكُوة. "فقال رجل"، قيل: هو معاذ بن جبل، وقيل: عبد الله بن عمرو بن العاص، وقيل: ربيعة بن عامر.

"إن الرجلَ يحبُّ أن يكونَ ثوبُه حسنًا ونعلُه حسنًا؟ فقال: إن الله جميلٌ"؛ أي: حسنُ الأفعالِ كاملُ الأوصافِ. "يحبُّ الجمالَ. الكِبْرُ بَطَرُ الحق"، و (البَطَر): هو الطغيان عند النعمة وطول الغنى: والمراد هنا: أن يجعل ما جعلَه الله حقًّا من توحيده وعبادته باطلًا. قال الكِسائي: هو أن يتكبَّر عن الحق من أوامر الله ونواهيه. "وغَمْطُ الناسِ"؛ أي: احتقارُهم وازدراؤهم. * * * 3967 - وقال: "ثلاثةٌ لا يُكلِّمُهم الله يومَ القِيامَةِ ولا يُزَكِّيهم - ويُرْوَى: ولا يَنظُرُ إليهم - ولهم عَذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ، ومَلِكٌ كذَّابٌ، وعائِلٌ مُسْتكبرٌ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاثةٌ لا يكلِّمهم الله يومَ القيامة"؛ أي: كلامَ الرضا. "ولا يزكِّيهم"؛ أي: لا يطهِّرهم من دَنَس ذنوبهم. "ويروى: ولا ينظر إليهم"؛ أي: لا يَلطُف بهم. "ولهم عذابٌ أليمٌ: شيخٌ زانٍ"؛ لأن الزنا إذا كان قبيحًا من الشاب - مع كونه معذورًا طبعًا - فمِنَ الشيخ المنطفئ شهوتُه يكون أقبحَ. "ومَلِكٌ كذَّاب"؛ لأن الكذبَ مع كونه محظورًا يكون غالبًا لغرضٍ، كجلبِ نفعٍ ودفعِ ضرٍّ، فمِنَ الملكِ القادرِ عليه بدونه يكون أقبحَ. "وعائل مستكبر"؛ أي: فقير متكبر؛ لأن كِبْرَه - مع انعدام سبب فيه من المال أو الجاه - يدل على كون طبعه لئيمًا، وقيل: العائل: ذو العيال، فتكبُّرُه

عن سؤال الصدقة والزكاة، وعدم قَبوله ما يسدُّ خَلَّتَه وخَلَّةَ عياله، لم يكن إلا لاستيلاء هذه الرذيلة عليه، بحيث يلحقه وعيالَه الضررُ من تكبُّره. * * * 3968 - وقال: "قالَ الله تعالى: الكِبْرِياءُ رِدائي، والعَظَمةُ إزاري، فمَن نازَعَني واحِدًا منهما قَذَفتُهُ في النَّارِ". "وعن أبي سعيد وأبي هريرة - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: الكِبرياء ردائي، والعَظَمةُ إزاري؛ فمَن نازَعَني واحدًا منها قذفتُه في النار": تقدم بيانه في الباب الأول من الكتاب. * * * مِنَ الحِسَان: 3969 - عن سَلَمَةَ بن الأَكْوَعِ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يزالُ الرَّجُلُ يذهَبُ بنفْسِه حتى يُكتَبَ في الجبَّارِينَ، فيُصيبُهُ ما أصابَهم". "من الحسان": " عن سَلَمة بن الأكوع قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا يزال الرجلُ يَذهب بنفسه". الباء فيه: للتعدية؛ أي: يُعلِي نفسَه ويُبعدها عن الناس في المرتبة ويعتقدها عظيمةَ القَدْر، ويحتمل أن يكون للمصاحبة، فمعناه: يرافق نفسَه في ذهابها إلى الكِبْر ويعزِّزها ويكرِّمها. "حتى يُكتبَ في الجبَّارين، فيصيبه"؛ أي: الرجلَ "ما أصابهم" من بلاء الدنيا وعذاب الآخرة. * * *

3970 - عن عَمْرِو بن شُعَيبٍ، عن أَبيه، عن جَدِّه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُحشَرُ المُتكبرونَ أمثالَ الذَّرِّ يومَ القيامةِ في صُورة الرِّجالِ، يَغشاهُم الذُّلُّ مِن كلِّ مَكانٍ، يُساقونَ إلى سِجْنٍ في جَهَنَّم يُسَمَّى: بُولَسَ، تَعْلُوهم نارُ الأَنيارِ، يُسْقَوْنَ مِن عُصارةِ أهلِ النَّارِ طِينةَ الخَبَالِ". "وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يُحشَر المتكبرون أمثالَ الذَّرِّ" بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء: جمع ذَرَّة. "يومَ القيامة في صورة الرجال"، يريد: أن صُوَرَهم صورةُ الإنسان، وجُثَثَهم النملُ الصِّغارُ. "يغشاهم"؛ أي: يأتيهم. "الذلُّ من كل مكان"؛ أي: من كل جانب؛ يعني: يكونون على غاية الذل والحقارة، يَطؤُهم أهلُ المَحشر بأرجلهم. "يُساقون إلى سجنٍ في جهنم يُسمى: بَولَس" بفتح الباء الموحدة وسكون الواو وفتح اللام وكسرها: فَوعَل من: الإبلاس، بمعنى: اليأس، ولعل هذا السجنَ يُسمى به ليأسِ داخلهِ من الخلاص. "تعلوهم نارُ الأنيار" جمع: نار، ومعنى (نار الأنيار): هو أنه كأن هذه النارَ لفرط إحراقها وشدة حرها تفعل بسائر النيران فعلَ النار بغيرها. "يُسقَون من عُصَارةِ أهلِ النارِ طينةَ الخَبال" بفتح الخاء المعجمة: اسم عُصَارة أهل النار، وهو ما يَسيل منهم من الصَّديد والقَيح والدم. * * * 3971 - عن عَطِيَّةَ بن عُرْوةَ السَّعديِّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الغَضَبَ مِن الشَّيطانِ، وإنَّ الشَّيطانَ خُلِقَ مِن النَّارِ، وإنَّما تُطْفَأُ النَّارُ بالماءِ، فإذا

غَضبَ أحدُكم فليتَوَضَّأْ". "عن عطية بن عروة السعدي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الغضبَ من الشيطان، وإن الشيطانَ خُلِقَ من النار، وإنما تُطفَأ النارُ بالماء؛ فإذا غضب أحدكم فَلْيتوضَأ"؛ فإن فيه اشتغالًا مانعًا من البطش، وذِكرُ الله تعالى مُبعِدٌ للشيطان ومُسكِّنٌ لثائرة الغضب ببركة العبادة والذِّكر. * * * 3972 - وعن أبي ذَرٍّ: أنَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا غَضبَ أَحَدُكم وهو قائِمٌ فلْيَجْلِسْ، فإنْ ذَهَبَ عنه الغَضَبُ وإلا فَلْيَضْطَجِعْ". "عن أبي ذر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا غضبَ أحدكم وهو قائم فَلْيجلسْ، فإن ذهب عنه الغضبُ وإلا فَلْيَضطجِعْ": إنما أَمر الغضبانَ بالقعود والاضطجاع؛ لئلا يحصلَ منه حالَ غضبه ما يَندَم عليه، فإن المضطجعَ أَبعدُ من الحركة والبطش من القاعد، وهو من القائم. * * * 3973 - عن أسماءَ بنت عُمَيْس: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "بِئْسَ العَبْدُ عبدٌ تخيَّلَ واختالَ، ونَسِيَ الكبيرَ المُتَعالِ، بِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ تجبَّرَ واعتدَى، ونسيَ الجَبَّارَ الأَعْلى، بئْسَ العَبْدُ عبدٌ سَها ولها، ونَسِيَ المَقابرَ والبلَى، بِئْسَ العَبْدُ عَبْدٌ عَتا وطَغَى، وَنَسيَ المُبتدَأَ والمُنتَهى، بِئْسُ العَبْدُ عَبْدٌ يَخْتِلُ الدُّنْيا بالدِّينِ، بِئْسَ العَبْدُ عبدٌ يَخْتِل الدِّينَ بالشُّبُهاتِ، بئسَ العَبْدُ عبدٌ طَمَعٌ يقودُه، بئسَ العَبْدُ عبدٌ هَوًى يُضلُّه، بئسَ العَبْدُ عبدٌ رَغَبٌ يُذِلُّه"، غريب. "عن أسماء بنت عُميس قالت: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بئسَ العبدُ عبدٌ تخيَّل"، من: الخُيَلاء، الكِبْر والعُجْب، أو تُخيل له أنه خيرٌ من غيره،

واعتقد نفسَه عظيمةً. "واختال"؛ أي: تكبَّر وتجبَّر. "ونسيَ الكبيرَ المتعال"؛ أي: نسيَ أن الكبرياءَ والتعالي ليس إلا لله تعالى. "بئسَ العبدُ عبدٌ تجبَّر واعتدى"؛ أي: جاوَزَ قَدْرَه بأن يتكبَّر، وأعرضَ عن أوامر الله تعالى. "ونسيَ الجبارَ الأعلى، بئسَ العبدُ عبدٌ سَهَا"؛ أي: صار غافلًا عن الحق والطاعة، وإلا فسائر الأنبياء والصُّلَحاء قد سَهَوا، ومنه قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5]. "ولَهَا"؛ أي اشتغل باللهو واللعب والهَذَيان. "ونسيَ المقابرَ والبلَى" بكسر الباء وفتح اللام: هو الخُلُوقة، بأن يصيرَ الشخصُ في القبر رميمًا رُفاتًا. "بئسَ العبدُ عبدٌ عتا"؛ أي: تجبَّر وتكبَّر. "وطَغَى"؛ أي: جاوَزَ الحدَّ في الشر. "ونسيَ المُبتدَأَ"؛ أي: ابتداءَ خَلقِه، وهو النُّطفة ثم العَلَقة، فأنعمَ الله عليه فصوَّرُه صورةَ حسنةً. ورزقَه من أنواع النِّعَم، فلم يشكر هذه النِّعَمَ. "والمُنتهى": وهو القبر والقيامة؛ أي: الذي إليه عَودُه، وهو التراب، وكأن هذا إشارةٌ منه - صلى الله عليه وسلم - إلى التحريض على معرفة المَبدأ والمَعاد، النافعِ يومَ التناد. "بئسَ العبدُ عبدٌ يَختِل الدنيا بالدِّين"؛ أي: يَخدع أهلَ الدنيا بعمل الصُّلَحاء وأهل الديانة؛ ليعتقدوا فيه؛ لينالَ منهم مالًا وجاهًا، من: (خَتَلَ الذئبُ الصيدَ): خدعَه وتخفَّى له، وخَتَلَ الصائدُ مشيَه للصيد قليلًا في خفيةٍ؛ لئلا

21 - باب الظلم

يسمعَ حسًّا، شبَّه فعلَ المُظهِرِ دِينًا وورعًا ذريعةً إلى تحصيل الدنيا بختل الذئب والصائد وخدعهما للصيد. "بئسَ العبدُ عبدٌ يَختِل الدِّينَ بالشُّبهات"، أي: يقع في الحرام بالتأويل؛ أي: يجعل الإتيانَ بالشُّبهات أساسَ دِينه، ويَخدع أهلَ المِلَّة بذلك مُظهِرًا لهم مهارتَه في الدِّين. "بئسَ العبدُ عبدٌ طمعٌ": هو وصفٌ بالمصدر مبالغةً، أو على تقدير: ذو طمع، أو له طمع "يقوده"، وكذا في قوله: "بئسَ العبدُ عبدٌ هَوًى يُضلُّه"، ولو قُرِئ بالإضافة - كما ذُكر في شرحٍ - بها لَجازَ واستقامَ بلا تكلُّف. "بئسَ العبدُ عبدٌ رُغْبٌ": وهو - بضم الراء وسكون الغين المعجمة: الشَّرَهُ والحرصُ على الدنيا، وأصله: سعة الجوف، يقال: جوف رغيب، أي: واسع. "يُذلُّه"، وقيل: الرُّغْب: سعة الأمل وطلب الكثير. ويُروى بفتح الغين بمعنى: الرغبة في الدنيا. "ضعيف". * * * 21 - باب الظُّلمِ (باب الظُّلم) مِنَ الصِّحَاحِ: 3974 - عن ابن عُمَرَ: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الظُّلْمُ ظُلُماتٌ يومَ القِيامَةِ".

"من الصحاح": " عن ابن عمر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الظُّلمُ ظلماتٌ يوم القيامة" جمع: الظُّلمة، والمراد بها: الشدائد، كما فُسرت بها في قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 63]؛ يعني: الظلمُ سببٌ لشدائد صاحبه، ويجوز أن يُحمَل على ظاهره، فيكون الظلمُ سببًا لبقاء الظالم في الظُّلمة، فلا يهتدي إلى السبيل حين يسعى نورُ المؤمنين بين أيديهم. * * * 3975 - عن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اتَّقوا الظُّلْمَ، فإنَّ الظُّلْمَ ظُلُماتٌ يومَ القيامةِ، واتَّقوا الشُّحَّ، فإنَّ الشُّحَ أَهْلَكَ مَن كانَ قبلَكم، حَمَلَهم على أنْ سَفَكُوا دِماءَهم واستَحَلُّوا مَحارِمَهم". "وعن جابر: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اتقوا الظلم؛ فإن الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامة، واتقوا الشُّحَّ": وهو منع الواجب، وقيل: هو الحرص الشديد الذي يَحملُه على ارتكاب المَحارم وإتيان الفواحش. "فإن الشُّحَّ أَهلَكَ مَن كان قبلكم، حملَهم على أن يسفكوا دماءَهم"؛ أي: حرَّضَهم على جمع المال، حتى قتلَ بعضُهم بعضًا لأخذه. "واستحلُّوا مَحارمَهم"؛ أي: جعلوا المُحرَّمَ عليهم من وطءِ نسائهم حلالًا. * * * 3976 - وقال: "إنَّ الله لَيُملي للظَّالِم حتى إذا أخذَهُ لم يُفْلِتْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية". "وعن أبي موسى قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لَيُمْلِي للظالم"، من: الإملاء، الإمهال والتأخير؛ أي: لَيُمهِلُ ويطوِّل عمرَه حتى يَكثُرَ منه الظلمُ

والفواحشُ، ثم يأخذُه أخذًا شديدًا. "حتى إذا أخذَه لم يُفلِتْه"؛ أي: لم يتركْه، ولم يخلصْ من الله. "ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى} "؛ أي: أهلَ القرى. " {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} الآية". وفي الحديث: تسلية للمظلوم، ووعيد للظالم؛ لئلا يغترَّ بإمهاله. * * * 3977 - عن ابن عُمَرَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمَّا مَرَّ بالحِجْرِ قال: "لا تَدخُلوا مَساكِنَ الذينَ ظَلَموا أنفسَهم إلا أنْ تَكُونُوا باكينَ، أنْ يُصيبَكم مِثْلُ ما أصابَهم"، ثم قَنَّعَ رأسَه، وأَسْرَعَ السَّيْرَ حتى اجتازَ الوادِيَ. "عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنه -: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لمَّا مرَّ بالحجْر" بفتح الحاء المهملة قبل الجيم الساكنة وكسرها: اسمٌ لأرض ثمود قوم صالح عليه السلام "قال: لا تدخلوا مساكنَ الذين ظلموا أنفسَهم إلا أن تكونوا باكين؛ أن يصيبَكم"؛ أي: حذرَ أن يصيبَكم "ما أصابَهم"، وكان قولُه - صلى الله عليه وسلم - ذلك عند مسيره إلى تبوك، خَشِيَ - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه أن يجتازوا على تلك الديار ساهين، غيرَ متَّعظين بما أصاب أهلَ تلك الديار، وقد أمرَهم الله بالانتباه والاعتبار في مثل تلك المواطن. قيل: الداخلُ دارَ قومٍ أُهلكوا بخسفٍ أو عذابٍ غيرَ باكٍ شفقةً عليهم أو على نفسه من حلول مِثلِه به = يدلُّ على قساوة القلب وقلة الخشوع، فلا يَأمنَ مَن كان كذا أن يصيبَه ما أصابهم. وفيه: دليل على أن ديارَ هؤلاء لا تُتخذ وطنًا؛ لأنه لا يكون دهرَه كلَّه باكيًا.

"ثم قنَّع رأسَه" بتشديد النون: مبالغة من الإقناع؛ أي: أطرقَ ولم يلتفت يمينًا وشمالًا؛ لئلا يقعَ نظرُه عليها، أو جعلَ قناعًا على رأسه شبهَ الطَّيلسان. "وأسرعَ السيرَ حتى اجتاز الوادي"؛ أي: قطعَه وخرجَ من حدِّه. * * * 3978 - عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَن كانَت له مَظْلَمَةٌ لأَخيهِ مِن عِرْضه أو شيءٍ فَلْيَتَحَلَّلْهُ منه اليَومَ، قبلَ أنْ لا يكونَ دينارٌ ولا دِرْهمٌ، إنْ كانَ له عَمَلٌ صالحٌ أُخِذَ منهُ بقدرِ مَظْلَمَتِه، وإنْ لم يكنْ له حَسَناتٌ أُخِذَ مِن سَيئاتِ صاحبهِ فحُمِلَ عليهِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله: مَن كانت له مَظلِمة" بكسر اللام: اسمُ ما أخذَه الظالم. "لأخيه"؛ أي: في الدنيا. "مِن عِرضه"، عِرْضُ الرجل: جانبه الذي يَصُونه من نفسه وحَسَبه، ويَتَحامى أن يُنتقصَ. "أو شيء": تعميم بعد التخصيص؛ أي: من شيءِ آخرَ، كأخذ ماله أو المنع من الانتفاع به. "فَلْيتحلَّلْه منه"؛ أي: لِيَطلبْ من أخيه حِلَّه. "اليومَ" أراد به: حياة الدنيا. "قبلَ أن لا يكونَ دينار ولا درهم"؛ أي: قبلَ يومِ القيامة؛ لأن الدينارَ والدرهمَ لا يوجدان فيه. "إن كان له عمل صالح": هذا استئنافُ جوابٍ عمَّن قال: فكيف الحالُ إذا لم يكن دينار ولا درهم هناك؟

"أُخذ منه بقَدْر مَظلمته، وإن لم يكن له حسناتٌ أُخذ من سيئات صاحبه فحُمل عليه": يحتمل أن يكون المأخوذُ نفسَ الأعمال، بأن يتجسَّد فيصير كالجوهر، وأن يكون ما أُعدَّ لها من النّعَم والنِّقَم إطلاقًا للسبب على المسبب، وهذا لا ينافي قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164]؛ لأن الظالمَ في الحقيقة مَجْزِيٌّ بوِزْرِ ظلمِه، وإنما أَخذ من سيئات المظلوم تخفيفًا له وتحقيقًا للعدل. * * * 3979 - عن أبي هُريرةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أتدرونَ ما المُفْلِسُ"؟ قالوا: المُفْلِسُ فينا مَن لا دِرْهَمَ له ولا متاعَ، فقال: "إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يأتي يومَ القِيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي قد شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعطَى هذا مِن حَسَناتِه، وهذا مِن حَسَناتِه، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُه قبلَ أنْ يُقضَى ما عليهِ أُخِذَ مِن خطاياهم فطُرِحَتْ عليهِ، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله قال الله تعالى عليه وسلم: أتدرون مَنِ المُفلِسُ؟ قالوا: المُفلِس فينا مَن لا درهمَ له ولا متاعَ، فقال: إن المُفلِسَ مِن أمتي": هذا بيان لمُفلِس أمته في الحقيقة، وليس باحتراز عن سائر الأمم. "مَن يأتي يومَ القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شَتمَ هذا، وقَذفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا"؛ أي: أَراقَ. "وضربَ هذا"؛ يعني: بغير حقٍّ في الجميع. "فيُعطَى" - على بناء المجهول - "هذا من حسناته"؛ أي: المظلومُ بعضَ حسنات الظالم.

"وهذا من حسناته، فإن فَنِيَتْ حسناتُه قبلَ أن يُقضَى ما عليه"؛ أي: من الحقوق. "أُخذ من خطاياهم"؛ أي: خطايا أصحاب الحقوق. "فطُرحت عليه، ثم طُرِحَ في النار". * * * 3980 - وقال: "لَتُؤَدُّنَّ الحُقوقَ إلى أَهْلِها يومَ القِيامةِ حتى يُقادَ للشَّاةِ الجَلْحاءِ مِن الشَّاةِ القَرْناءِ". "وعن أبي الدرداء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لَتُؤَدُّنَّ الحقوقَ": اللام فيه جواب قَسَم مقدَّر، والدال فيه مضمومة، والفعل مسنَد إلى الجماعة الذين خُوطِبُوا به، و (الحقوقَ): مفعوله. "إلى أهلها يومَ القيامة حتى يُقادَ"؛ أي: يُقتَصَّ. "للشاة الجَلْحَاء": وهي التي لا قرنَ لها. "من الشاة القَرناء": وهي التي لها قرنٌ؛ يعني: لو نَطحتْ شاةٌ قرناءُ شاةً جلحاءَ في الدنيا؛ فإذا كان يومُ القيامة يُؤخَذ القرنُ من الشاة القرناء ويُعطَى الجلحاء، حتى تقتصَّ لنفسها من الشاة القرناء. فإن قيل: الشاة غير مكلَّفة، فكيف يُقتصُّ منها؟ قلنا: الله تعالى فعَّال لما يريد: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، والغرض منه: إعلامُ العباد بأن الحقوقَ لا تضيع، بل يُقتصُّ حقُّ المظلوم من الظالم. * * * مِنَ الحِسَان: 3981 - عن حُذَيفة - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تكونوا إمَّعةً؛

تقولونَ: إنْ أحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وإنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنا، ولكنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكم: إنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أنْ تُحْسِنُوا، وإنْ أساؤُوا فلا تَظْلِموا". "من الحسان": " عن حذيفة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تكونوا إمَّعَةً" بكسر الهمزة وفتح الميم المشددة: هو الذي يقول لكل أحدٍ: أنا معك؛ لضعف رأيه ويقلد الناس، والفعل منه: تأمَّع واستَأمَعَ، والهاء للمبالغة، ولا يُستعمل في النساء، ووزنه: (فِعِّلَة)، وليست الهمزة زائدة لعدم (إفْعَلَة) في الصفات، وهي في الأسماء أيضًا قليلةٌ والمراد به هاهنا: الذي يقول: أنا أكون مع الناس كما يكونون معي. "تقولون: إنْ أَحسنَ الناسُ أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمْنا، ولكن وطِّنُوا" أمر من: التوطين، وهو العزم الجازم على الفعل، وقيل: أي: ثبتوا "أنفسَكم إنْ أَحسنَ الناسُ أن تُحسِنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا". * * * 3982 - كتبَ مُعاوِيةُ إلى عائِشَةَ رضي الله عنها: أنْ اكُتُبي إليَّ كتابًا تُوصِيني فيهِ ولا تُكْثِري، فكتَبَتْ: سلامٌ عليكَ، أمَّا بعدُ: فإنِّي سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَن التَمَسَ رِضا الله بسَخَطِ النَّاسِ كفاهُ الله مَؤُولة النَّاسِ، ومَن التَمَسَ رِضا النَّاسِ بسَخَطِ الله وَكَلَهُ الله إلى النَّاسِ، والسَّلامُ عليكَ". "وكتب معاوية بن أبي سفيان إلى عائشة: أن اكتبي إليَّ كتابًا توصيني فيه ولا تُكْثِري، فكتبت: سلامٌ عليك، أما بعدُ: فإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: مَنِ التمسَ رضا الله بسخط الناس"؛ أي: مَن طَلبَ رضاه في شيءٍ يسخَطُ الناسُ بسببه عليه.

22 - باب الأمر بالمعروف

"كفاه الله مُؤْنَةَ الناس"؛ أي: من الظلم والشرِّ الواصل إليه منهم. "ومَنِ التمسَ رضا الناس بسخط الله وَكَلَه الله إلى الناس"؛ أي: سلَّطهم عليه، حتى يؤذوه ويظلموا عليه. "والسلام عليك"، اللام فيه: للعهد. * * * 22 - باب الأمر بالمعروف (باب الأمر بالمعروف) مِنَ الصِّحَاحِ: 3983 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن رَأَى مِنكم مُنكَرًا فلْيُغيرْه بيدِه، فإنْ لم يستَطِعْ فَبلسانِه، فإنْ لم يستطِعْ فبقلبهِ، وذلكَ أضعفُ الإيمانِ". "من الصحاح": " عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مَن رأى منكم منكرًا": وهو ما ليس فيه رضا الله تعالى من قول أو فعل، والمعروف ضده. "فَلْيغيرْه"؛ أي: فَلْيدفَعْ ذلك المنكرَ "بيده، فإن لم يستطع"؛ أي: لم يَقدِر على الدفع باليد؛ لأن فاعلَه أقوى منه. "فبلسانِه"؛ أي: فَلْيغيرْه بالقول. "فإن لم يستطع"؛ أي: على المنع بالقول. "فبقلبه"؛ أي: فَلْيَكرهْه بقلبه، بأن يقول: اللهم هذا مُنكَرٌ؛ إذ ليس في

وسعه التغييرُ إلا هذا القَدْر. "وذلك"؛ أي: كراهتُه بقلبه "أضعفُ الإيمان"؛ أي: أقله ثمرة. * * * 3984 - وقالَ: "مَثَلُ المُدْهِنِ في حُدودِ الله والواقِعِ فيها، مَثَلُ قَوْمٍ استَهمُوا سَفينةً، فصارَ بَعضُهم في أَسْفَلِها، وصارَ بعضُهم في أعلاها، فكانَ الذي في أَسْفَلِها يَمُرُّ بالماءِ على الذينَ في أعلاها فتَأَذَّوا بهِ، فأَخَذَ فَأْسًا فجعلَ ينقُرُ أَسْفَلَ السَّفينةِ، فأَتَوْهُ فقالوا: ما لكَ؟ فقالَ: تأذَّيتُم بي، ولا بُدَّ لي مِن الماءِ، فإنْ أَخَذُوا على يَدَيهِ أَنجوْهُ، ونَجَّوا أَنفُسَهم، وإنْ تَرَكُوه أَهْلَكُوه، وأهْلَكُوا أنفسَهم". "عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَثَلُ المُداهِن في حدود الله"، المداهنة: المساهلة في الأمر: والمداهنة في الشرع: أن يرى منكرًا، ويَقدِر على دفعه، ولم يَدفعْه؛ حفظًا لجانب مُرتكِبه أو جانب غيره، أو قلةَ مبالاةٍ في الدين، وقيل: هو الذي يخفيها ولا يتكلم بها؛ لخوفٍ أو طمعٍ. "والواقع فيها"؛ أي: في الحدود؛ أي: الفاعل للمناهي. "مَثَلُ قومٍ استهموا سفينةً"؛ أي: اقترعوا سُكْنَاها بالقُرعة. "فصار بعضُهم على أسفلها"؛ أي: في الطبقة الأسفل من السفينة. "وبعضُهم في أعلاها"، وفيه: إشارة إلى استحباب القُرعة إذا تشاجروا على الجلوس في الأسفل والأعلى، وذلك إذا نزلوا بها جملةً، وإذا نزلوا متفرقين فمَن سَبَقَ منهم إلى مكانٍ فهو أحقُّ به من غيره. "فكان الذي في أسفلها يمرُّ بالماء على الذين في أعلاها"، قيل: كنى بالماء عن البول والغائط المنفصلَين عنه، ليطرحَه في البحر.

"فتأذَّوا به"، أي: مَن في الأعلى بمروره عليهم. "فأخذ"؛ أي: مَن في الأسفل. "فأسًا، فجعل"، أي: فطفقَ. "ينقُر"؛ أي يثقُب. "أسفلَ السفينة، فأتَوه فقالوا: ما لك؟ قال: تأذَّيتم بي ولابدَّ لي من الماء"؛ أي: من مطرح الماء. "فإن أخذوا على يدَيه"؛ أي: منعوه من نقرِ السفينة "أَنْجَوه ونَجَّوا أنفسَهم، وإن تركوه" ولم يمنعوه من النقرِ "أهلكوه وأهلكوا أنفسَهم"؛ لأنه يخرج الماء من البحر إلى السفينة وغرقت السفينة، فكذلك إنْ منعَ الناسُ الفاسقَ عن الفسق نَجَوا ونجا من عذاب الله، وإن تركوه حتى يفعلَ المعاصيَ ولم يقيموا عليه الحدودَ حلَّ بهم العذاب وهلكوا بشؤمه، وقد شبَّه المُداهِنَ في الحدود بمن في أعلى السفينة، والواقعَ فيها بمن في أسلفها، ونَهْيَ الناهي عن مواقعتها بالآخذ باليد وبمنعه عن النقر، وفائدةَ المنع بنجاة الناهي والمَنهيِّ. * * * 3985 - وقال: "يُجاءُ بالرَّجُلِ يومَ القيامةِ فيُلقَى في النَّارِ فتَندلِقُ أَقتابُه في النارِ، فيَطحنُ فيها كطحنِ الحمارِ بِرَحَاهُ، فيَجتَمعُ أهلُ النَّارِ عليهِ، فيقولونَ: أَيْ فلانُ! ما شانُكَ؟ أَليسَ كنتَ تأمرُنا بالمَعْروفِ وتنهانا عن المُنْكَرِ؟ قال: كنتُ آمرُكم بالمَعْروفِ ولا آتِيهِ، وأنهاكُم عن المُنْكَرِ وآتِيهِ". "وعن أسامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُجاء بالرجل يومَ القيامة، فيُلقى في النار، فَتندلِقُ أقتابُه" جمع: قِتْب - بالكسر ثم السكون -؛ أي: تخرج أمعاؤه. "في النار، فيَطحن فيها"؛ أي: فيدور ويتردَّد في أقتابه؛ يعني: يدور

حولَ أقتابه ويضربها برجله. "كطحنِ الحمار"؛ أي كما يدور الحمار. "برَحَاه": وهو الموضع الذي يُربَط، ويمكنه أن يدورَ فيه. "فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: أيْ فلانُ ما شأنُك؟ ألستَ كنتَ تأمرُنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: كنتُ آمرُكم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه". * * * مِنَ الحِسَان: 3986 - عن حُذَيفَةَ بن اليَمانِ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "والذي نفسي بيدِه لتأمُرُنَّ بالمَعْروفِ ولتَنهَوُنَّ عن المُنْكرِ، أو لَيُوشِكَنَّ الله أنْ يَبْعَثَ عليكم عذابًا مِن عندِه، ثم لَتدْعُنَّهُ فلا يُستَجابُ لكم". "من الحسان": " عن حذيفة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده! لَتَأمُرُنَّ بالمعروف وَلتنهوُنَّ عن المنكر، أو لَيُوشكَنَّ الله أن يَبعثَ عليكم عذابًا من عنده"، (أو) هذه: لأحد الأمرين؛ أي: لا يجتمع أمرُكم بالمعروف ونهيُكم عن المنكر مع مقاربة بعث الله عليكم عذابًا، أو بمعنى: إلا؛ أي: إن أمرتُم بالمعروف ونهيتُم عن المنكر نَجَوتُم من العذاب، وإلا والله لَيَقرُب أن يُرسلَ الله عليكم عذابًا. "ثم لَتَدْعُنَّه فلا يُستجاب لكم"؛ يعني: وبعد مقاربة العذاب لو دعوتُم الله في رفع ذلك العذاب لا يُستجاب لكم. * * *

3987 - عن العُرْسِ بن عَميرَةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا عُمِلَتْ الخَطيئةُ في الأَرْضِ مَن شهِدَها فكرِهَها كانَ كمَن غابَ عنها، ومَن غابَ عنها فرَضيَها كانَ كمَن شَهِدَها". "وعن العُرْس" - بضم العين وسكون الراء - ابن قيس "ابن عُميرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا عُمِلَتِ الخطيئةُ في الأرض؛ مَن شَهِدَها"؛ أي: حضرَ الخطيئةَ. "فكرهَها كان كمَن غاب عنها، ومَن غاب عنها فرضيَها كان كمَن شهدها". * * * 3988 - عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - قال: يا أيُّها النَّاسُ! إنَّكم تَقْرؤونَ هذه الآية: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ النَّاسَ إذا رَأَوْا مُنْكَرًا فلم يُغَيرُوه يُوشِكُ أنْ يعُمَّهم الله بعِقابهِ"، صحيح. وفي رِوايةٍ: "إذا رَأَوْا الظَّالِمَ فلم يأخذُوا على يَدَيْه أَوْشَكَ ... ". وفي رِوايةٍ: "ما مِن قَوْمٍ يُعمَلُ فيهم بالمَعاصي، ثم يَقْدِرُونَ على أنْ يُغَيروا، ثُمَّ لا يُغيرون، إلا يُوشِكُ أنْ يَعُمَّهم الله بعقابٍ". وفي رِوايةٍ: "يُعمَلُ فيهم بالمَعاصي، هُمْ أَكْثَرُ ممَّن يَعْمَلُه. . . ". "عن أبي بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - قال: يا أيها الناسُ! إنكم تقرؤون هذه الآية {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ}؛ أي: الزموا حفظَ أنفسكم عن المعاصي. {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}: وإنما لا يضرُّ الرجلَ معاصي غيره إذا عجزَ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

"فإني سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الناسَ إذا رَأَوا منكرًا، فلم يغيروه، يوشك"؛ أي: يَقرُب. "أن يعمَّهم الله بعقابه. صحيح". "وفي رواية: إذا رَأَوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه"؛ أي: لم يمنعوه عن الظلم "أو شك. . . ". "وفي رواية: ما مِن قومٍ يُعمَل فيهم بالمعاصي، ثم يَقدِرون على أن يغيروا، ثم لا يغيرون إلا يوشك أن يعمَّهم الله بعقاب". "وفي رواية: يُعمَل فيهم بالمعاصي هم أكثرُ ممن يعمله"؛ يعني: إذا كان الذين لا يعملون المعاصي أكثرَ من الذين يعملونها فلم يمنعوهم عنها عمَّهم العذابُ. * * * 3989 - عن جريرِ بن عبدِ الله البَجَلي، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما مِن قومٍ يكونُ بينَ أظهرِهم رجلٌ يعملُ بالمعاصي، هم أَمْنعُ منهُ وأَعَزُّ، لا يُغَيرُونَ عليهِ = إلا أصابَهم الله بعقابٍ". "عن جرير البَجَلي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ما مِن قومٍ يكون" بينَ أَظهُرِهم رجلٌ "يعمل بالمعاصي، هم أمنعُ منه وأعزُّ"؛ أي: أقدرُ منه وأغلبُ. "لا يغيرون عليه إلا أصابَهم الله بعقاب". * * * 3990 - وعن أبي ثَعْلَبَةَ: في قولهِ تعالى: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فقال: أَمَا والله، لقد سَأَلْتُ عنها رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بل

ائتَمِروا بالمَعْروفِ، وتَناهَوْا عن المُنْكَرِ، حتى إذا رأيتَ شُحًّا مُطاعًا، وهوًى مُتَّبعًا، ودُنيا مؤثَرَةً، وإعجابَ كلِّ ذي رأيٍ برَأْيهِ، ورأيتَ أَمْرًا لا بُدَّ لكَ منهُ فعليكَ نفسَكَ، ودَعْ أَمْرَ العَوَامِّ، فإنَّ وراءَكُم أيامَ الصَّبرِ، فمَن صَبَرَ فيهنَّ كانَ كمَن قَبَضَ على الجَمْرِ، للعاملِ فيهنَّ أَجْرُ خَمسينَ رَجُلًا يعمَلونَ مثلَ عَمَلِهِ"، قالوا: يا رسولَ الله! أجرُ خَمْسينَ منهم؟ قال: "أَجْرُ خَمْسينَ منكُم". "وعن أبي ثعلبة الخُشَني - رضي الله عنه - في قوله تعالى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}، فقال: أَمَا والله لقد سألتُ عنها رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: بل ائتمروا"؛ أي: مُرُوا "بالمعروف وتَنَاهَوا عن المنكر، حتى إذا رأيتَ شُحًّا مطاعًا": وهو الذي غلب وبلغ مبلغًا بحيث يطيعُه صاحبُه في منع الحقوق الواجبة من الزكاة والفِطرة والكفارات والنذور ونفقة مَن عليه نفقته. "وهوًىَ مُتَّبَعًا"؛ أي: يتبع كلُّ أحدٍ هواه وما تأمره به نفسُه الأمَّارة. "ودنيا مُؤثَرة"؛ أي: مختارة على الآخرة، من: الإيثار، الاختيار لجمع الأموال على الأعمال الصالحة. "وإعجابَ كل ذي رأي برأيه"، الإعجاب - بكسر الهمزة -: وجدان شيء حسنًا؛ يعني: يجد كلُّ واحدٍ فعلَ نفسِه حسنًا، وإن كان قبيحًا في الواقع، ولا يراجع العلماءَ فيما فعل. "ورأيتَ أمرًا لابد لك منه"؛ يعني: رأيتَ بعضَ الناس يعملون المعاصي، ولابد لك من السكوت من عجزك وقدرتهم. "فعليك نفسَك"؛ أي: احفظْها عن المعاصي. "ودع أمرَ العَوَامِّ"؛ أي: لا تأمرْ أحدًا بالمعروف ولا تنهَه عن المنكر؛ كيلا يؤذيك.

"فإن وراءكم"؛ أي: أمامَكم وقُدَّامَكم "أيامَ الصبرِ"؛ أي: أيامًا يُحمَد فيها الصبرُ عن المحارم. "فمَن صَبَرَ فيهن"؛ أي: في تلك الأيام. "كان كمَن قبضَ على الجمرة"؛ أي: تلحقه المشقة الشديدة بالصبر، كمشقة الصابر على قبض الجمرة بيده. "للعامل فيهن أجرُ خمسين رجلًا يعملون مثلَ عمله"، فيه تأويلان: أحدهما: أن يكون أجرُ كل واحد منهم على تقدير أنه غيرُ مُبتلًى ولم يُضاعَف أجرُه. وثانيهما: أن يُراد أجرُ خمسين منهم أجمعين يُبْتَلُون ببلائه. "فقالوا: يا رسولَ الله! أجرُ خمسين منهم؟ قال: لا، أجرُ خمسين منكم". * * * 3991 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قامَ فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَطيبًا بعدَ العَصْرِ فلم يَدَع شيئًا يكونُ إلى قيامِ السَّاعةِ إلا ذَكَرَهُ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ ونسَيَهُ من نسَيَهُ، وكانَ فيما قال: "إنَّ الدُّنيا حُلْوَةٌ خَضرَةٌ، وإنَّ الله مُستَخْلِفُكم فيها فناظِرٌ كيفَ تعملونَ؟ أَلا فاتَّقُوا الدُّنيا، واتَّقُوا النِّساءَ"، وذَكَرَ أنَّ لكلِّ غادرٍ لِوَاءً يومَ القِيامةِ بقَدْرِ غَدْرتهِ في الدُّنيا، ولا غَدْرَ أكبرُ مِن غَدْرِ أميرِ العَامَّةِ، يُغرَزُ لِواؤُه عندَ استِهِ، قال: "ولا تَمنعَنَّ أَحَدًا منكم هيبةُ النَّاسِ أن يقولَ بحقِّ إذا عَلِمَه". وفي روايةٍ: "إنْ رأى منكرًا أن يغيرَه"، فبكى أبو سعيدٍ وقال: قد رأيناهُ فمَنَعَتْنا هيبةُ النَّاسِ أنْ نتكَلَّمَ فيهِ، ثُمَّ قال: "أَلا إنَّ بني آدَمَ خُلِقُوا على طَبَقاتٍ شَتَّى؛ فمنهم مَن يُولَدُ مُؤْمِنًا، ويحيا مُؤْمِنًا، ويموتُ مُؤْمِنًا، ومنهم مَن يُولدُ

كافِرًا، ويحيا كافِرًا، ويموتُ كافِرًا، ومنهم مَن يولدُ مُؤْمِنًا، ويحيا مُؤْمِنًا، ويموتُ كافرًا، ومنهم مَن يولدُ كافِرًا، ويحيا كافِرًا، ويموتُ مُؤْمِنًا"، قال: وذكرَ الغَضَبَ، "فمنهم مَن يكونُ سريعَ الغَضَبِ سريعَ الفَيْءِ، لإِحداهُما بالأخْرى، ومنهم مَن يكونُ بطيءَ الغَضَبِ بطيءَ الفَيءِ، فإحداهُما بالأخرى، وخِيارُكم مَن يكونُ بطيءَ الغَضَبِ سريعَ الفيء، وشرارُكم مَنْ يكون سريعَ الغَضَبِ بطيءَ الفَيءِ"، قال: "اتقوا الغَضَبَ، فإنهُ جَمْرَةٌ على قَلْبِ ابن آدمَ، أَلا تَرَوْنَ إلى انتِفاخِ أوداجِهِ وحُمرةِ عَيْنَيهِ؟ فمَن أَحَسَّ بشيءٍ مِن ذلكَ فَلْيَضْطَجِعْ وليتلَبَّدْ بالأَرْضِ"، قال: وذكرَ الدَّيْنَ فقال: "منكم مَن يكونُ حَسَنَ القَضاءِ، وإذا كانَ لهُ أَفْحَشَ في الطلَبِ، فإحداهُما بالأُخْرى، ومنكم مَن يكونُ سيئَ القَضاءِ، وإنْ كانَ لهُ أَجْمَلَ في الطَّلَبِ، فإحداهُما بالأُخْرى، وخِيارُكم مَن إذا كانَ عليهِ الدَّيْنُ أَحْسَنَ في القَضاءَ، وإنْ كانَ لهُ أَجْمَلَ في الطَّلَبِ، وشِرارُكم مَن إذا كانَ عليهِ الدَّيْنُ أساءَ القضاءَ، وإنْ كانَ لهُ أَفْحَشَ في الطَّلبِ، حتى إذا كانَت الشَّمْسُ على رُؤوسِ النَّخْلِ وأَطْرافِ الحِيطانِ فقالَ: "أَما إنه لم يَبْقَ مِن الدُّنْيا فيما مَضَى منها إلا كما بقيَ مِن يومِكم هذا فيما مَضَى منه". "وعن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - أنه قال: قام فينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا بعد العصر، فلم يَدَع"؛ أي: يتركْ. "شيئًا يكون إلى قيام الساعة إلا ذكرَه؛ حفظَه مَن حفظَه، ونسيَه مَن نسيَه، وقال"؛ أي: أبو سعيد الخُدري: "وكان فيما قال"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في خطبته: "إن الدنيا حُلوةٌ خَضرَةٌ"؛ أي: ناعمةٌ طريةٌ؛ يعني: الدنيا طيبة مليحة في عيون الناس وقلوبهم، لا يشبعون من جمع المال ومن الجاه، وفيه تنبيهٌ على شدة انجذاب النفوس إليها؛ لأن كل واحد من هذَين الوصفَين تميل إليه النفوسُ، فإذا اجتمعتا كانت إليه أميلَ.

"وإن الله مُستخلِفُكم فيها فناظرٌ كيف تعملون؟ ألا فاتقوا الدنيا واتقوا النساءَ، وذَكرَ أن لكل غادرٍ"، من الغَدر: ترك الوفاء. "لواءً"؛ أي: علامةً. "يومَ القيامة بقَدْر غدرته": مصدر بمعنى: الغَدر. "في الدنيا، ولا غدرَ أكبرُ من غدر أمير العامة": وهو المتغلِّب المستولي على أمور المسلمين وبلادهم بتغليب العامة ومعاضدتهم إياه. "يُغرَز لواؤه"؛ أي: تُنصَب علامته. "عند استه" تحقيرًا له. "قال: ولا تمنعن أحدًا منكم هيبةُ الناس أن يقول"؛ أي: مِن أن يقولِ "بحقٍّ إذا علمَه، وفي رواية: إذا رأى منكرًا أن يغيِّرَه"؛ أي: مِن أن يغيرَه، مكان قوله: (أن يقول بحقٍّ). "فبكى أبو سعيد وقال: قد رأيناه، فمنعتْنا هيبةُ الناس أن نتكلم فيه" ونغيره. "ثم قال: ألا إن بني آدم خُلقوا على طبقات شتى؛ فمنهم مَن يُولَد مؤمنًا ويحيا مؤمنًا ويموت مؤمنًا، ومنهم مَن يُولَد كافرًا ويحيا كافرًا ويموت كافرًا، ومنهم مَن يُولَد مؤمنًا ويحيا مؤمنًا ويموت كافرًا، ومنهم مَن يُولَد كافرًا ويحيا كافرًا ويموت مؤمنًا". "قال"؛ أي: أبو سعيد: "وذَكرَ"؛ أي: النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم "الغضبَ؛ فمنهم مَن يكون سريعَ الغضب سريعَ الفَيء"؛ أي: سريعَ الرجوع من الغضب. "فإحداهما بالأخرى"؛ يعني: إحدى الخصلتَين تُقابَل بالخصلة الأخرى،

لا يستحقُّ المدحَ والذمَّ فاعلُهما. "ومنهم مَن يكون بطيءَ الغضب بطيءَ الفَيء، فإحداهما بالأخرى، وخيارُكم مَن يكون بطيءَ الغضبِ سريعَ الفَيءَ، وشرارُكم مَن يكون سريعَ الغضبِ بطيءَ الفَيء، قال - صلى الله عليه وسلم -: اتقوا الغضبَ؛ فإنه جمرةٌ على قلب ابن آدم، ألا ترون إلى انتفاخ أوداجه" جمع: وَدجَ، وهو عِرق العُنق. "وحمرة عينَيه؟ فمَن أحسَّ بشيء من ذلك"؛ أي: إذا علمَه بالحسِّ. "فَلْيضطجعْ وَلْيتلبَّدْ بالأرض"؛ أي: يَلتَزق بها ويصير كاللِّبد ملتصقًا بها، حتى تتكسرَ نفسُه ويَسكُنَ غضبُه، وإنما أَمرَ بذلك لِمَا فيه من الضَّعَةِ عن الاستعلاء وتذكُّرِ أن أصلَه من تراب لا يَصلُح أن يتكبَّرَ ويتجبَّرَ من شدة الغضب. "وقال" أبو سعيد: "وذَكرَ الدَّينَ، فقال: فمنكم مَن يكون حسنَ القضاء وإذا كان له"؛ أي: الدَّينُ لمن هو حسنُ القضاء على أحدٍ "أَفحشَ في الطلب"؛ أي: آذاه في تقاضيه وعسَّر عليه في طلبه. "فإحداهما بالأخرى، ومنكم مَن يكون سيئَ القضاء، وإن كان له"؛ أي: للمسيء. "أَجملَ"؛ أي سهَّل ويسَّر "في الطلب، فإحداهما بالأخرى، وخياركم مَن إذا كان عليه الدِّينُ أحسنَ القضاءَ، وإذا كان له أَجملَ في الطلب، وشرارُكم مَن إذا كان عليه الدَّينُ أساءَ القضاءَ، وإذا كان له أَفحشَ في الطلب، حتى إذا كادت الشمس على رؤوس النخل وأطراف الحِيطان" بكسر الحاء: جمع حائط، هذا من كلام الراوي؛ أي: أنه - صلى الله عليه وسلم - وعظَهم هذه العِظَةَ بعد العصر إلى قرب الغروب.

"فقال: أَمَا إنه لم يبقَ من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه". 3992 - وقال: "لن يَهلكَ النَّاسُ حتى يُعذَروا مِن أنفُسِهم". "عن أبي البَختري، عن رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: قال رسول الله عليه وسلم: لن يهلكَ الناسُ حتى يُعذِرُوا مِن أنفسِهم"، يقال: أَعذَرَ الرجل: إذا صار ذا ذنبٍ كثيرٍ محتاجٍ إلى العذر من كثرة ذنوبه؛ يعني: حتى تَكثُرَ ذنوبُهم وعيوبُهم، فيستوجبوا العقوبةَ، ويقيموا لمن عاقبهم العذرَ في ذلك، حتى يدفعوا العقوبةَ عن أنفسهم، و (مِن): للتبيين. ويروى بصيغة المجهول من: (أُعذِرَ): إذا زال عذرُ أحدٍ؛ يعني: حتى يجعلَهم الله بحيث لا يَقدِرون على العذر، بأن يبعثَ عليهم الرسلَ ويبينوا لهم الرشادَ من الضلال، والحرامَ من الحلال، والحقَّ من الباطل. ويروى بفتح الياء؛ أي: حتى يَعذِرُوا أنفسَهم بتأويلاتٍ وأعذارٍ باطلةٍ. 3993 - وقال: "إنَّ الله تعالى لا يُعذِّبُ العَامَّةَ بعَمَلِ الخاصَّةِ حتى يَرَوُا المُنْكَرَ بينَ ظَهْرانيهِم، وهم قادرونَ على أن يُنكِرُوهُ فلم يُنْكِروهُ، فإذا فعلُوا ذلكَ عذَّبَ الله العَامَّةَ والخَاصَّةَ". "وعن عدي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لا يعذِّب العامةَ بعمل الخاصة" أراد بـ (العامة): أكثر القوم، وبـ (الخاصة): أقلها. "حتى يَرَوا المنكرَ بين ظَهْرَانيَهم"؛ أي: بينَهم.

"وهم قادرون على أن ينكروه، فلا ينكرون، فإذا فعلوا ذلك عذَّب الله العامةَ والخاصةَ". 3994 - وعن عبدِ الله بن مَسْعودٍ قال: قالَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمَّا وَقَعَتْ بنو إسرائيلَ في المعاصي نهتْهُم عُلَماؤُهُم فلم يَنتهُوا، فجالسُوهم في مجالِسِهم، وَواكلُوهُم وشارَبُوهم، فَضَرَبَ الله قلوبَ بعضهم ببَعْضٍ، ولعنَهم على لسانِ داودَ وعيسَى بن مريمَ {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} "، قال: فجَلَسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكانَ مُتَّكِئًا فقال: "لا وَالذي نَفْسي بيدهِ، حتى تَأْطِرُوهم أَطْرًا". وفي رِوايةٍ: "كلا والله، لتأمُرُنَّ بالمَعْروفِ، وَلَتنهَونَّ عن المنكرِ، ولتأخُذُنَّ على يَدَي الظالم، ولَتَأْطِرُنَّهُ على الحقِّ أَطْرًا، أو لتقْصُرُنَّه على الحَقِّ قَصْرًا، أو ليَضْرِبن الله بقلوبِ بعضكُم على بعضٍ، ثم لَيَلْعَننَّكُم كما لَعَنَهُم". "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لمَّا وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتْهم علماؤُهم، فلم ينتهوا، فجالَسُوهم في مجالسهم، وواكَلُوهم وشارَبُوهم، فضَربَ الله قلوبَ بعضهم ببعض"، الباء: للسببية؛ يعني: سوَّد قلبَ مَن لم يعصِ بشؤمِ مَن عَصَى، فصارت قلوبُ جميعهم قاسيةً بعيدةً عن قَبول الحق والخير والرحمة بسبب المعاصي، وسببِ مخالطة بعضهم بعضاً. "ولعنَهم على لسان داود وعيسى بن مريم {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ}، قال: فجلس رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وكان متكِئًا، فقال: لا"؛ أي لا تَنجُون مِن العذاب.

"والذي نفسي بيده حتى تَأطِروهم" - بكسر الطاء المهملة - "أَطْرًا" بفتح الهمزة ثم السكون: هو الإمالة والتحريف من جانب إلى جانب؛ يعني: حتى يمنعوا الظَّلَمة والفَسَقة عن الظلم والفسق، ويُميلوهم عن الباطل إلى الحق، (حتى): متعلقة بقوله: (لا)، والقَسَم معترضة بينهما. "وفي رواية: كلا، والله لَتأمُرُنَّ بالمعروف وَلَتنهوُنَّ عن المنكر، وَلَتأخذنَّ على يَدي الظالم، وَلتأطِرُنَّه على الحق، وَلَتقصُرُنَّه"؛ أي: لتَحبسُنَّه "على الحق قصرًا": وهو كـ (القسر) بمعنى: القهر. "أو ليَضربن الله بقلوب بعضكم على بعض، ثم ليَلعنَّنكم كما لعنَهم". 3995 - عن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رَأَيتُ ليلةَ أُسْرِيَ بي رِجالًا تُقرَضُ شِفاهُهم بمَقارِضَ مِن نارٍ، فقلتُ: مَن هؤلاءِ يا جبريلُ؟ قال: هؤلاءِ خُطَباءُ مِن أُمَّتِكَ يأمرونَ النَّاسَ بالبرِّ ويَنْسَوْنَ أنفُسَهم". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيتُ ليلةَ أُسرِيَ بي رجالًا تُقرَض"؛ أي: تُقطَع. "شفاههم بمقاريض" جمع: المِقْرَاض. "من نار، قلت: مَن هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباءُ من أمتك، يأمرون الناسَ بالبرِّ وَينسَون أنفسَهم". 3996 - عن عَمَّارِ بن ياسرٍ قال: قال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُنزِلَتْ المائِدَةُ مِن السَّماءِ خُبْزًا ولَحْمًا، وأُمِروا أنْ لا يَخُونوا ولا يَدَّخِرُوا لغدٍ، فخانُوا وادَّخَروا

ورَفَعُوا لِغَدٍ، فمُسِخُوا قِرَدَةً وخنازِيرَ". "عن عمار بن ياسر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أُنزِلَتِ المائدةُ من السماء خبزًا ولحمًا": منصوبان على التمييز. "وأُمروا أن لا يخونوا ولا يدَّخروا لغدٍ، فخانوا واذَخروا ورفعوا لغدٍ، فمُسِخُوا"؛ أي: فغيرت صُوَرُهم. "قِرَدةً" جمع: قِرد، منصوب على أنه مفعول ثانٍ لـ (مُسخوا). "وخنازير" جمع: خِنزير.

24 - كتاب الرقاق

24 - كِتابُ الرِّقَاقِ

24 - كِتابُ الرِّقَاقِ " كتاب الرقاق" بكسر الراء: جمع رقيق، ضد غليظ، والمراد بها: الكلمات التي تَرِقُّ بها القلوبُ إذا سمعت، وترغب عن الدنيا بسببها وتزهد فيها، وقيل: هو الفقر، فِعَال من: رِقَّة الحال. مِنَ الصِّحَاحِ: 3997 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ "نِعْمَتانِ مَغْبون فيهما كثيرٌ مِن النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَرَاغُ". "من الصحاح": " عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نعمتانِ مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ"، الغَبن: خروج الشيء من اليد بغير عِوَض؛ يعني: لا يَعرف قَدْر هاتين النعمتين كثيرٌ من الناس ما داموا فيهما، فإذا تبدَّل الصحةُ بالمرض والفراغُ بالاشتغال فحينئذ يندمون على ما فاتهم من أوقات الصحة والفراغ، ولا ينفعهم الندمُ. 3998 - وقال: "والله، ما الدُّنيا في الآخِرَةِ إلا مِثْلُ ما يَجْعَلُ أحدُكم إِصبَعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ يَرْجِعُ؟ ".

"وعن المُستورِد بن شدَّاد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله ما الدنيا في الآخرة"؛ أي: ما نعيمُ الدنيا، أو ما زمانُها في مقابلة نعيم الآخرة أو زمانها. "إلا مِثلُ ما يجعل أحدُكم إصبعَه في اليَمِّ"؛ أي: البحر؛ يعني: نسبة تلك إليها كنسبة الماء الملتصق بالإصبع إذا غمسَها في البحر. "فَلْينظرْ بِمَ ترجع"؛ أي: بأيِّ شيءٍ ترجع إصبعُ أحدِكم من ذلك الماء. 3999 - وعن جابرٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بجَدْيٍ أَسَكَّ مَيتٍ، فقال: "أيُّكم يُحِبُّ أَنَّ هذا لهُ بدرهمٍ؟ " فقالوا: ما نُحِبُّ أنَّهُ لنا بشَيْءٍ، فقال: "فَوالله، للدُّنيا أَهْوَنُ على الله مِن هذا عَلَيْكُم". "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بجَدْيٍ": وهو ولد المَعز. "أَسَكَّ"؛ أي: مقطوع الأذنين أو صغيرهما، وقد يقال للذي لا أذنَ له أيضًا. "ميتٍ، قال: أيُّكم يحبُّ"؛ أي: يريد "أن يكون هذا له بدرهم"؛ أي يشتريه به. "فقالوا: ما نحب أنه لنا بشيءٍ، قال: فوالله لَلدنيا أهونُ"؛ أي: أحقرُ وأسهلُ. "على الله من هذا عليكم"؛ أي: مِن هَوَان الجدي عليكم. 4000 - وقال: "الدُّنيا سِجْنُ المُؤْمنِ وجَنَّةُ الكافرِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدنيا سجنُ المؤمن"؛

أي: كالسجن في جنب ما أُعدَّ له في الآخرة من النعيم المقيم الدائم. "وجنةُ الكافر"؛ أي: كالجنة في جنب ما أُعدَّ له في الآخرة من عذاب الجحيم. 4001 - وقال: "إنَّ الله لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يعطَى بها في الدُّنْيا، ويجزَى بِها في الآخِرَةِ، وأمَّا الكافرُ فيُطعَمُ بحَسَناتِ ما عَمِلَ بها لِلهِ في الدُّنْيا، حتى إذا أفضَى إلى الآخِرَةِ لم يَكُنْ له حَسَنَةٌ يُجْزَى بها". "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الله لا يَظلِم مؤمنًا"؛ أي: لا يَنقص "حسنةً": مفعول ثانٍ لقوله: (لا يظلم). "يُعطَى بها في الدنيا"؛ يعني: أنه إذا اكتسب حسنةً يكافئه الله في الدنيا بتوسيع رزقه وتحسين خُلقه ودفع البلاء عنه. "ويُجزَى بها في الآخرة"؛ أي: يُثِيبُه فيها بالجنة واللقاء. "وأما الكافرُ فيُطعَم بحسناتِ ما عملَ بها لله"، من فكِّ أسيرٍ وإنقاذِ غريقٍ. "في الدنيا"؛ يعني: يكافئه في الدنيا. "حتى إذا أَفْضَى إلى الآخرة": أوصلَه إليها. "لم يكن له حسنةٌ يُجزى بها". 4002 - وقال: "حُجبَتْ النَّارُ بالشَّهَواتِ، وحُجبَتْ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حُجبَتِ النارُ بالشهوات"؛ أي: حُفَّت وأُديرت حوالَيها اللذاتُ وما تشتهيه الأَنفس؛ يعني: أن مُتبعَ الشهواتِ

في معصية الله وقعَ في النار بفعله، وهو لا يراها؛ بل يرى مشتهاه. "وحُجبَتِ الجنةُ بالمَكَاره"؛ يعني: متحمِّل المشاقِّ الدينية دخل الجنَّةَ؛ أي: عملَ ما يدخله فيها، وهو لا ينظر إليها؛ بل إلى المكاره الحالية، ويروى: "حُفَّت". 4003 - وقال: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّينارِ، وعَبْدُ الدِّرْهَم، وعَبْدُ الخَميصَة، إنْ أُعطيَ رَضيَ، وإنْ لم يُعْطَ سَخِطَ، تَعِسَ وانتكَسَ، وإذا شِيْكَ فلا انتَقَشَ، طُوبى لعبدٍ آخذٍ بعِنانِ فرسه في سبيلِ الله أشعثَ رأسُه، مُغْبَرَّةٍ قَدَماهُ، إنْ كانَ في الحِراسَةِ كانَ في الحراسةِ، وإنْ كانَ في السَّاقَةِ كانَ في السَّاقةِ، إنْ استأذَنَ لم يُؤذَنْ لهُ، وإنْ شَفَعَ لم يُشَفَّعْ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تَعَسَ" بفتح العين؛ أي: سقطَ على وجهه؛ يعني: هَلكَ. "عبدُ الدينار وعبدُ الدرهم": وهذا دعاء على مَن يستعبده حبُّ الدنيا، وفيه: إشارة إلى أن المذمومَ مَن يكون أسيرًا لجمع الأموال بحيث لا يؤدِّي حقَّ الله منها. "وعبد الخَمِيصة": وهي كِساء أسود معلَّم، أراد به: مُحِبُّ الثياب النفيسة والحريصَ على التجمُّل فوق الطاقة. "إن أُعطِيَ رَضيَ": هذا بيان لشدة حرصه. "وإن لم يُعطَ سخطَ، تعسَ وانتكسَ"؛ أي: صار ذليلًا، والانتكاس: هو الانقلاب على الرأس، إنما أعاد (تعس)؛ ليترقَّى في الدعاء عليه من الأهون إلى الأغلظ، ثم ترقَّى منه إلى قوله:

"وإذا شِيكَ"؛ أي: دخلتْ شوكةٌ في عضوه. "فلا انتُقِشَ" على بناء المجهول؛ أي: فلا أُخرِجَ منه، خصَّ انتقاش الشوكة؛ لأنه أسهلُ ما يُتصوَّر من المعاونة لمن أصابه مكروه، فإذا نُفِيَ ذلك الأهونُ يكون ما فوقَه منفيًا بالطريق الأولى. "طُوبَى لعبدٍ آخِذٍ بعنانِ فرسِه في سبيل الله": هذا يدل على اهتمامه بالمجاهدة. "أشعثَ رأسُه": مرفوع بالفاعلية لـ (أشعث)، وهو خبر مبتدأ محذوف، والأشعث: مُغْبَرُّ الرأس. "مُغبرَّةٍ قدماه"؛ أي: صار ذا غبارٍ من كثرة المشي على التراب. "إن كان في الحراسة"؛ أي: حراسة الجيش على أن يهجمَ عليهم العدوُّ، وهي تكون في مقدمة الجيش "كان في الحراسة"؛ أي: يبذل جهدَه فيها ولا يغفل عنها، تقرَّر في علم المعاني: أن الشرطَ والجزاءَ إذا اتحدا دلَّ على مخافة الجزاء. "وإن كان في الساقة": وهي مؤخر الجيش. "كان في الساقة"، خصَّهما بالذكر؛ لأنهما أشدُّ مشقةً وأكثرُ آفةً، إذ الأولى عند دخولهم دارَ الحرب، والأخرى عند خروجهم منها. "وإن استَأذن لم يُؤذَن له"؛ لكونه غيرَ مُلتفَتٍ إليه في الدنيا. "وإن شَفعَ لم يُشفَّع"؛ أي: لم تُقبَل شفاعتُه؛ لكونه وضيعَ القَدْر عند الناس. 4004 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مِمَّا أخافُ

عليكُم مِن بعدي ما يُفتَحُ عليكُم مِن زَهْرَةِ الدُّنيا وزينَتِها"، فقالَ رجلٌ: يا رسولَ الله! أَوَ يأتي الخَيْرُ بالشَّرِّ؟ فسكتَ حتى ظنَنَّا أنهُ يُنزَلُ عليهِ، قال: فَمَسَحَ عنه الرُّحَضَاءَ وقال: "أينَ السَّائِلُ؟ "، وكأنَّهُ حَمِدَهُ، فقال: "إنَّه لا يأتي الخَيْرُ بالشَّرِّ، وإنَّ مِمَّا يُنبتُ الرَّبيعُ يَقتُلُ حَبَطًا أو يُلِمُّ، إلَّا آكلَةَ الخضراءِ، أكَلَتْ حتى إذا امتَدَّتْ خاصِرَتَاهَا استقبَلَتْ عينَ الشَّمْسِ فَثَلَطَتْ وبَالَتْ، ثم عادَتْ فأَكَلَتْ، وإنَّ هذا المالَ خَضرَةٌ حُلْوَةٌ، فمَن أخذَهُ بحَقِّه ووَضَعَهُ في حَقِّه فنِعْمَ المَعُونَةُ هُوَ، ومَن أخذَهُ بغيرِ حقِّهِ كانَ كالذي يأكُلُ ولا يَشْبَعُ، ويكونُ شهيدًا عليهِ يومَ القيامةِ". "عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن مما أخاف عليكم مِن بعدي ما يُفتَح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها"، والزَّهرة - بفتح الزاي المعجمة وسكون الهاء وتحريكها -: حُسنها وبهجتها وكثرة خيرها مِن كل ما يُستلَذُّ به ويُستمتَع منها؛ أي: إني أخافُ إنْ كَثُرت أموالُكم أن تكونَ شاغلةٌ لكم عن الأعمال الصالحة، وموجبةً لتكبُّركم على الناس. "فقال رجل: يا رسولَ الله! أوَ يأتي الخير، - بفتح الواو - "بالشر؟ " الباء فيه للتعدية؛ يعني: حصول الغنيمة لنا خيرٌ، وهل يكون ذلك الخير سببًا للشرِّ وتركِ الطاعة؟ "فسكت - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننا أنه يُنزَل عليه"؛ أي: الوحي. "قال"؛ أي: الراوي: "فمسحَ عنه"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن نفسِه "الرُّحَضاء": وهو العَرَق الذي يَظهَر للنبي - عليه الصلاة والسلام - عند نزول الوحي، يَغسل الجِلدَ لكثرته. "فلمَّا سُرِّيَ عنه مسحَها": وهذا كناية عن تلقِّي الوحي، وكثيرًا ما يُستعمل في الحُمَّى والمرض.

"وقال: أين السائلُ؟ وكأنه حمدَه"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حَمِدَ السائلَ. "فقال: إنه لا يأتي الخيرُ بالشرِّ، وإن مما يُنبت الربيعُ ما يَقتُل حَبَطًا" بفتحتين، نُصب على التمييز؛ أي: هلاكًا، يقال: حَبَطتِ الدابةُ حَبَطًا إذا أصابت مرعَى طيبًا، فأفرطت في الأكل حتى تنتفخَ، فتموت؛ وذلك لأن الربيعَ يُنبت خيارَ العُشب والبُقول ما يُؤكَل غيرَ مطبوخ، فتَستكثر منه الماشيةُ؛ لاستطابتها إياه حتى تنتفخَ بطونُها عند مجاوزتها حدَّ الاحتمال، فتنشقُّ أمعاؤها من ذلك "أو يُلِمُّ"؛ أي: تُقارب من الهلاك، كذلك المُفرِطُ في جمع المال من غير حلِّها؛ يُفرِط في التنعُّم حتى يقسوَ قلبُه من كثرة الأكل والشرب، فيتكبَّر ويحتقر الناسَ ويؤذيهم، ويمنع ذا الحقِّ حقَّه منها، فإنه قد تعرَّض لهلاكه في الآخرة بدخول النار، وفي الدنيا بأذى الناس؛ فهذا المالُ شرٌّ له ووبالٌ عليه. "إلا آكلةَ الخُضَر": استثناء مفرغ من المثبت، و (الخُضَر) بضم الخاء وفتح الضاد المعجمتين، وقيل بفتح الخاء وكسر الضاد، وهو أكثر الروايات: هو الطَّرِيَّ الغَضُّ من النبات. "أكَلتْ حتى إذا امتدَّتْ خاصرتاها"؛ أي: شَبعتْ "استَقبلتْ عينَ الشمس"؛ أي: ذاتَها وقرصَها؛ يعني: بَرَكَتْ مستقبلةً إليها، تَستمرِئ بذلك ما أَكلتْ. "فثَلَطَتْ"؛ أي: رَاثَتْ وأَلقَتْ رجيعَها سهلاً رقيقًا. "وبالَتْ"، فيزول عنها الحَبَط. "ثم عادتْ فأكَلتْ"، كذلك مَن أَخرجَ ما في المال من الحقوق، وفيه: حثٌّ على ترك الإمساك للادخار، وهذا المالُ خيرٌ له ومعونةٌ في تحصيل الخير؛ يعني: الجنة. "وإن هذا المالَ خَضرةٌ حلوةٌ"، إنما أنَّث على معنى تأنيث المشبَّه به؛

أي: إن هذا المالَ شيءٌ كالخُضرة، وقيل: يريد أن المالَ الذي هو صيرورة الدنيا ومتاعها خضرةٌ حلوةٌ؛ أي: حسنةُ المنظر تُعجب الناظرَ. "فمَن أخذَه بحقِّه"؛ أي: بقَدْر احتياجه ومِن حِلِّه، "ووضعَه في حقِّه": بأن أدَّى زكاتَه، "فنِعمَ المعونةُ هو، ومَن أخذَه بغير حقِّه كان كالذي يَأْكل ولا يَشبَع ويكون"؛ أي: المالُ "شهيدًا عليه"، أي: وبالًا وحُجَّةً عليه "يومَ القيامة". 4005 - وقال: "والله لا الفَقْرَ أَخْشَى عليكُم، ولكِنْ أخشَى عليكُم أنْ تُبْسَطَ عليكُم الدُّنيَا كما بُسِطَتْ على مَن قَبْلَكم، فتنَافسُوها كما تَنَافَسُوها، وتُهلِكَكُم كما أهلَكَتْهُم". "وعن عمرو بن عوف - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ووالله ما الفقرَ أَخشَى عليكم، ولكن أخشى عليكم أن تُبسَطَ عليكم الدنيا كما بُسطت على مَن كان قبلَكم، فتَنَافَسوها" - بحذف إحدى التاءين - "كما تنافسوها"؛ أي: فتتنافسوا كما تنافس أولئك فيها، والتنافس والمنافسة: الرغبة في الشيء والانفراد به، من: الشيء النفيس، الجيد في نوعه. "وتُهلكَكم"، أي: الدنيا؛ لظهور العداوة بينكم بسببها، فيقتل بعضكم لأجلها، "كما أهلكتهم". 4006 - وقال: "اللهمَّ! اجعلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتًا"، ويُروَى: "كفَافًا". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اجعلْ رزقَ آل محمدٍ قُوتًا"؛ أي: بقَدْر ما يُمسك الرَّمَق.

"ويروى: كَفَافًا"؛ أي: ما كان بقَدْر الحاجة ولا يَفضُل منه شيء، ويكفُّ عن السؤال وإراقة ماء الوجه. 4007 - وقال: "قد أَفْلَحَ مَن أَسْلَمَ، ورُزِقَ كَفَافًا، وقنَّعَهُ الله بما آتاهُ". "عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد أَفلحَ مَن أَسلمَ ورُزقَ كَفَافًا وقنَّعَه الله"؛ أي: جعلَه قانعًا "بما آتاه"؛ أي: أعطاه من الدنيا، ولم يَطلبِ الزيادةَ ولم يَلتفتْ قلبُه لما خَلَتْ عنه يدُه. 4008 - وقال: "يقولُ العبدُ: مالي، مالي، إنَّما لهُ مِن مَالِهِ ثلاثٌ: ما أكلَ فأَفْنَى، أو لَبسَ فأَبْلَى، أو أَعْطَى فاقتَنَى، وما سِوَى ذلك فهوَ ذَاهِبٌ وتَارِكُه للنَّاسِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يقول العبد: مالي مالي، إنما له من ماله ثلاثٌ: ما أكَلَ فأَفْنَى، أو لَبسَ فأبْلَى، أو أَعْطَى"؛ أي: مالَه لوجه الله وابتغاء مرضاته "فاقتنى"؛ أي ادَّخر للآخرة. "وما سوى ذلك فهو ذاهبٌ وتاركُه للناس". 4009 - وقال: "يَتْبَعُ المَيتَ ثلاثةٌ، فيَرجعُ اثنانِ ويبقَى معَهُ واحدٌ، يتبعُهُ أهلُه ومالُه وعَمَلُه، فَيَرْجِعُ أهلُه ومالُه، ويبقَى عَمَله". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يَتبعُ الميتَ ثلاثةٌ، فيرجع اثنان ويبقى معه واحد؛ يتبعه أهلُه ومالُه" كالعبيد والإماء.

"وعمله، فيرجع أهلُه ومالُه، ويبقى عملُه". 4010 - عن عبدِ الله قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّكم مالُ وارثِهِ أَحَبَّ إليهِ مِن مالِهِ؟ " قالوا: يا رَسولَ الله! ما مِنَّا أَحَدٌ إلا مالُه أَحَبُّ إليهِ، قال: "فإنَّ مالَهُ ما قدَّمَ، ومالُ وارِثهِ ما أخَّرَ". "عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّكم مالُ وارثِه أحبُّ إليه من ماله؟ قالوا: يا رسولَ الله! ما منا أحدٌ إلا مالُه أحبُّ إليه، قال: فإن مالَه" الذي ينفعه "ما قدَّم"؛ أي: تصدَّقه. "ومالُ وارِثَه ما أخَّر"، فينتفع به وارثُه، ويُحاسَب عليه مُورِّثُه. 4011 - عن مُطَرِّفٍ، عن أبيهِ قال: أتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يَقْرأُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قال: "يقولُ ابن آدمَ: مالي، مالي"، قال: "وهل لكَ يا ابن آدَم! إلا ما أكلْتَ فأفنَيْتَ، أو لَبسْتَ فأبليْتَ، أو تصدَّقْتَ فأَمضَيْتَ؟ ". "عن مُطرِّف، عن أبيه - رضي الله عنهما - أنه قال: أتَيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يقرأ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ}، قال: يقول ابن آدم: مالي مالي، قال: وهل لك من مالك يا ابن آدم إلا ما أكَلتَ فأفنيتَ، أو لَبستَ فأبليتَ، أو تصدَّقتَ فأمضيتَ؟ "؛ أي: أَبقيتَ للآخرة. 4012 - وقال: "ليس الغِنى عن كَثْرَةِ العَرَضِ، ولكنَّ الغِنَى غِنَى النَّفْسِ".

"وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليس الغنى عن كثرة العَرَض"، وهو - بالتحريك -: متاع الدنيا وحطامها، نقدًا كان أو غيرَه، وجمعه: أمراض، وبالسكون: لا يتناول النقدين، وجمعه: عُروض، قيل: عَرَض الدنيا، كأنه من العَرَض يقابل الجوهر، شبَّه متاعَها به في سرعة زواله وعدم ثباته زمانين. "ولكن الغِنَى غِنَى النفس"؛ أي: الغِنَى الحقيقيُّ هو قناعةُ النفس والتجنُّبُ عن الحرص في طلب الدنيا، فمَن كان قلبُه على جمع المال فهو فقير، وإن كان له مال كثير؛ لأنه محتاجٌ إلى طلب الزيادة، ومَن كان له قلبٌ بعيدٌ عن الحرص راضٍ بالقُوت فهو غني، وإن لم يكن له مال؛ لأنه لا يطلب الزيادةَ عن القُوت ولا يُتعب نفسَه في طلبها. مِنَ الحِسَان: 4013 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يَأْخُذْ عَنِّي هؤلاءِ الكَلِمَاتِ فَيَعْمَل بِهِنَّ، أو يُعَلِّمُ مَن يَعْمَلُ بهنَّ؟ " قلتُ: أنا يا رسولَ الله! فأَخَذَ بيدَيَّ، فعدَّ خَمْسًا فقال: "اتَّقِ المَحَارِمَ تكنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وارضَ بما قَسَمَ الله لكَ تكنْ أغنَى النَّاسِ، وأَحسِنْ إلى جارِكَ تكنْ مُؤْمِنًا، وأَحِبَّ للنَّاسِ ما تُحِبُّ لنَفْسِكَ تكنْ مُسْلِمًا، ولا تُكْثِرِ الضَّحِكَ فإنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُميتُ القَلْبَ"، غريب. "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن يأخذْ عني هؤلاء الكلماتِ، فيعملْ بهنَّ أو يعلِّمْ مَن يَعملُ بهن؟ قلت: أنا يا رسولَ الله، فأخذ

بيدي، فعدَّ خمسًا، فقال: اتَّقِ المحارمَ تكنْ أعبدَ الناس، وارضَ بما قَسَمَ الله لك تكن أغنى الناس، وأَحسِنْ إلى جارِك تكن مؤمنًا، وأحبَّ للناس ما تحبُّ لنفسك تكن مسلمًا، ولا تُكثر الضحكَ؛ فإن كثرةَ الضحك تُميت القلبَ": وهذا تهديد عظيم؛ لأن موتَ القلب إما كفرٌ في الدنيا، وإما فزعٌ في القيامة، وما أُضيف إلى القلب فهو أعظمُ، كقوله تعالى: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283]. "غريب". 4014 - عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله يقولُ: ابن آدَم! تَفَرَّغْ لعبادتي أَمْلأْ صَدْرَكَ غِنًى، وأَسُدَّ فقرَكَ، فإنْ لم تفعلْ مَلأْتُ يدَكَ شُغْلًا، ولم أَسُدَّ فقرَكَ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يقول: ابن آدم! تفرَّغْ" بصيغة الأمر "لعبادتي أَملأ" بالجزم: جواب الأمر. "صدرَك غنًى، وأسدَّ فقرَك"؛ أي: أُزيل عنك فقرَك. "وإنْ لا تفعلْ"؛ أي: وإن لم تفعلْ ما أمرتك من الإعراض عن الدنيا والتفرُّغ لعبادتي "ملأتُ يدَك شغلًا"؛ أي: كثَّرت شغلَك بالدنيا. "ولم أسدَّ فقرَك"، فتُتعب نفسَك بكثرة الترف وفي طلب المال، ولا تنال من الرزق إلا ما قدَّرتُ لك. 4015 - "عن جابرٍ قال: ذُكِرَ رَجُلٌ عندَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعبادة واجتِهادٍ، وذُكِرَ آخرُ بِرِعَةٍ، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَعدِلْ بالرِّعَةِ شَيْئًا"، يعني: الوَرعَ. "وعن جابر - رضي الله عنه - قال: ذُكر رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعبادةٍ واجتهادٍ، وذُكر

آخرُ بِرِعَةٍ"؛ أي: بورعٍ، يقال: وَرعَ يَرِعُ - بالكسر فيهما - وَرَعًا ورِعَةً. "فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: لا تَعدِلْ بالرِّعَةِ شيئًا"؛ أي: لا تقابلْ شيئاً بالورع؛ فإنه أفضلُ من كل خصلة. 4016 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ وهو يَعِظُه: "اغتنمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شبابَكَ قبلَ هَرَمِكَ، وصِحَّتَكَ قبلَ سَقَمِكَ، وغِناكَ قبلَ فَقْرِكَ، وفَراغَكَ قبلَ شُغْلِكَ، وحَياتَك قبلَ مَوْتكَ"، مرسل. "عن عمرو بن ميمون - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ وهو يَعظُه: اغتَنِمْ خمسًا"؛ أي: اتخذها غنيمةً. "قبلَ خمسٍ: شبابَك"؛ أي: اغتنمْ حالَ شبابك الأعمالَ الصالحةَ. "قبلَ هَرَمِك، وصحتَك قبلَ سقمك، وغناك قبلَ فقرك، وفراغَك قبل شغلك، وحياتَك قبل موتك"، "مرسل". 4018 - عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: كما يَنتظِرُ أَحَدُكم إلا غِنًى مُطْغِيًا، أو فَقْرًا مُنْسِيًا، أو مَرَضًا مُفْسِدًا، أو هَرَمًا مُفْنِدًا، أو مَوْتًا مُجْهِزًا، أو الدَّجَّالَ، فالدَّجَّالُ شَرُّ غائبٍ يُنتَظَرُ، أو السَّاعةَ، {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما ينتظرُ أحدُكم إلا غنًى مُطْغِيًا": خرج هذا الكلامُ مخرجَ التوبيخ على تقصير المكلَّفين في أمر دينهم؛ أي: متى تعبدون ربَّكم؟ فإنكم إن لم تعبدوه مع قلة الشواغل وقوة البدن، فكيف تعبدونه مع كثرة الشواغل وتخاذُل القوى؟ لعل أحدَكم ما ينتظر إلا غنًى مُطغِيًا أطغاه المالُ، جعلَه طاغيًا؛ أي: مجاوزًا للحدِّ من البَطَر والغرور به.

"أو فقرًا مُنسِيًا": وهو الذي يجعل صاحبَه مدهوشًا، فينسيه الطاعةَ من الجوع والعُري والتردُّد في طلب القُوت. "أو مرضًا مُفسِدًا": وهو ما يُفسد البدنَ لشدته، أو الدِّين للكسل الحاصل به. "أو هرمًا مُفنِدًا": وهو الذي يبلِّغ صاحبَه إلى الفَنَد، وهو ضَعفُ الرأي، يقال: أَفنَدَه الكِبَر: إذا جعلَ رأيَه ضعيفًا. "أو موتًا مُجهِزًا" بالتخفيف؛ أي: قاتلاً بغتةً بحيث لا يَقدِر على التوبة. "أو الدجالَ؛ فالدجالُ شرُّ غائبٍ يُنتظَر، أو الساعةَ؛ {وَالسَّاعَةُ أَدْهَى} "؛ أي: أشدُّ الدواهي وأفظعُها. {وَأَمَرُّ}؛ أي: أشدُّ مرارةً من القتل ومن جميع الشدائد. 4017 - عن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ألا إنَّ الدُّنيا مَلْعونةٌ، مَلْعونٌ ما فيها، إلا ذكرَ الله وما وَالاَهُ، وعالِمًا أو مُتَعلِّمًا". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ألا إن الدنيا ملعونةٌ"؛ أي: مباعدةٌ عن الله تعالى. "ملعونٌ ما فيها"؛ أي: مُبعَدٌ عن الله تعالى. "إلا ذِكرَ الله تعالى وما والاه"؛ أي: والَى ذِكرَ الله؛ أي: قارَبه من ذِكرِ خيرٍ، وقيل: من: الموالاة، المتابعة، وما والَى ذِكرَه تعالى: طاعتُه واتباعُ أمرِه ونهيه؛ لأن ذِكرَه يقتضي ذلك، أو من: الموالاة، التي هي جريان المحبة بين اثنين، وقد يأتي بمعنى: فَعَلَ، ولا يكون إلا من واحد؛ أي: وما أحبَّه الله مما يجري فيها.

"وعالمًا أو متعلِّمًا": منصوبان في أكثر النسخ عطفًا على (ذكر)؛ فإنه منصوب مستثنى من الموجب. 4019 - وعن سَهْلِ بن سَعْدٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانَت الدُّنيا تَعْدِلُ عندَ الله جناحَ بعوضَةٍ ما سقَى كافِرًا منها شَرْبَةَ ماءٍ". "وعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كانتِ الدنيا تَعدِل"؛ أي: تَزِنُ وتُقابل. "عند الله جناحَ بعوضة ما سَقَى كافرًا منها شربةَ ماءٍ"؛ لأن الكافرَ عدوُّ الله، والعدوُّ لا يُعطَى شيئاً مما له قَدْرٌ عند المُعطِي. 4020 - عن ابن مَسْعودٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتَّخِذوا الضَّيْعَةَ فترْغَبُوا في الدُّنيا". "عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تتخذوا الضَّيعةَ"؛ أي: البستانَ والمزرعةَ. "فترغبوا في الدنيا"؛ يعني: لو اتخذتموها لَحرصتُم على طلب الزيادة، فلا يحصل الشِّبَعُ حينَئذٍ من الدنيا. 4021 - وقال: "مَن أَحَبَّ دُنْياهُ أَضَرَّ بآخِرَتهِ، ومَن أَحَبَّ آخرَتَهُ أَضَرَّ بدنياهُ، فآثِروا ما يَبْقَى على ما يَفْنَى". "وعن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن أحبَّ دنياه أضرَّ

بآخرته"؛ يعني: نقصَ درجتَه في الآخرة؛ لأنه يَشغَل ظاهرَه وباطنَه بالدنيا، فلا يكون له فراغٌ لطاعة الله. "ومَن أحبَّ آخرتَه أضرَّ بدنياه؛ فآثِرُوا"؛ أي: اختاروا "ما يبقى على ما يفنى". 4022 - عن أبي هُريرةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لُعِنَ عبدُ الدِّينارِ، ولُعِنَ عبدُ الدِّرْهَمِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لُعِنَ عبدُ الدينار، ولُعِنَ عبدُ الدرهم". 4023 - عن ابن كَعْبِ بن مالكٍ، عن أبيه قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما ذِئبانِ جائعانِ أُرْسِلا في غَنَمٍ بأَفْسَدَ لها مِن حِرْصِ المَرْءِ على المالِ والشَّرَفِ لديِنهِ". "عن كعب بن مالك، عن أبيه - رضي الله عنهما - أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما ذئبانِ جائعانِ أُرسِلا في غنمٍ بأفسدَ لها"؛ أي: ليسا بأكثرَ إفسادًا للغنم، أنَّث الضمير؛ لأن الغنمَ جمعٌ في المعنى. "مِن حرصِ المرءِ"؛ أي: إفسادِ حرصِ المرءِ "على المال والشرف": عطف على (المال)؛ أي: وعلى الجاه والمَنصِب. "لدِينه": متعلق بـ (أفسد)؛ يعني: حرصُ المرء عليهما أكثرُ إفسادًا لدِينه من إفساد الذئبين للغنم.

4024 - عن خَبَّابٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أَنْفَقَ المُؤْمِنُ مِن نَفَقَةٍ إلا أُجِرَ فيها، إلاَّ نَفَقَتَهُ في هذا التُّرابِ". "عن خَبَّاب بن الأَرَتِّ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ما أَنفقَ المؤمنُ من نفقة إلا أُجِرَ فيها؛ إلا نفقتَه في هذا التراب"؛ أي: البناء؛ يعني: لا أجرَ لمن يَصرِف مالَه في بناء البيوت والقصور زيادةَ على قَدْر الحاجة. 4025 - وعن أنسٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "النَّفَقَةُ كلُّها في سبيلِ الله إلا البناءَ فلا خَيْرَ فيهِ"، غريب. "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: النفقةُ كلُّها في سبيل الله إلا البناءَ فلا خيرَ فيه"، "غريب". 4026 - وقال: "إنَّ كلَّ بناءً وَبَالٌ على صَاحِبه إلَّا مَا لا، إلَّا مَا لا"، يعني: إلَّا مَا لا بُدَّ منه. "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كلَّ بناءٍ وبالٌ على صاحبه"، والوبال: الثقل والمكروه، أو يريد به هنا: العذاب في الآخرة. "إلا ما لا إلا ما لا؛ يعني: إلا ما لا بدَّ منه". 4027 - عن أبي هاشمٍ بن عُبيدٍ قال: عَهِدَ إليَّ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما يَكْفيكَ مِن جَمْعِ المالِ خادِمٌ ومَركَبٌ في سبيلِ الله". "عن أبي هاشم بن عتبة - رضي الله عنه - أنه قال: عَهِدَ إليَّ رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي أوصاني.

"قال: إنما يكفيك من جمع المال خادمٌ ومركبٌ في سبيل الله". 4028 - عن عُثْمانَ - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ لابن آدَمَ حقٌّ في سِوَى هذه الخِصَالِ: بَيْتٌ يَسْكُنُه، وثَوْبٌ يُوَارِي بهِ عَوْرتَهُ، وجِلْفُ الخُبْزِ والماءِ". "عن عثمان - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس لابن آدمَ حقٌّ"، أراد به: ما يستحقُّه لافتقاره إليه وتوقُّف تعيُّشه عليه، وقيل: ما لم يحاسب عليه إذا اكتسب من الحل. "فيما سوى هذه الخصال: بيتٌ يَسكنُه، وثوبٌ يُواري"؛ أي: يَستُر "به عورتَه، وجِلْفُ الخبز والماء" بكسر الجيم وسكون اللام، قيل: الظَّرف الذي يُجعل في الخبز والماء، وقيل: الخبز بلا إدام، وقيل: الخبز الغليظ اليابس، ويروى بفتح اللام، جمع جِلْفة، وهي الكِسرة من الخبز. 4029 - عن سَهْلِ بن سَعْدٍ قال: جاءَ رَجُلٌ فقال: يا رسولَ الله! دُلَّني على عَمَلٍ إذا أنا عَمِلْتُهُ أَحَبنى الله وأَحَبني النَّاسُ، قال: "ازهَدْ في الدُّنيا يُحِبَّكَ الله، وازهَدْ فيما عندَ الناسِ يُحِبَّكَ النَّاسُ ". "عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - أنه قال: جاء رجلٌ، فقال: يا رسولَ الله! دُلَّني على عملٍ إذا أنا عملتُه أحبني الله وأحبني الناسُ، قال: ازهدْ في الدنيا"؛ أي: كنْ تاركًا للدنيا ومُعرِضًا عنها "يحبَّك الله، وازهدْ فيما في أيدي الناس يحبَّك الناسُ".

4030 - عن ابن مَسْعودٍ: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نامَ على حَصيرٍ، فقامَ وقد أَثَّرَ في جَسَدِهِ، فقال ابن مَسْعودٍ: يا رسولَ الله! لو أَمَرْتَنا أن نَبْسُطَ لكَ ونَعْمَلَ، فقالَ: "ما لِي وللدُّنيا، وما أنا والدُّنيا إلا كَراكِبٍ استَظَلَّ تحتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ راحَ وتركها". "عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نامَ على حصيرٍ، فقام وقد أثَّر في جسده، فقال ابن مسعود: يا رسولَ الله! لو أمرتَنا"؛ أي: أَذِنتَ لنا "أن نبَسطَ لك"؛ أي: فِراشًا لينًا. "ونَعملَ"؛ أي: نعملَ لك ثوبًا حسنًا وبيتًا حسنًا يكون لك أحسنَ وأطيبَ من اضطجاعك على هذا الحصير الخشن. "فقال: ما لي وللدنيا"، (ما): للنفي؛ أي: ليس لي ألفةٌ ومحبةٌ مع الدنيا، ولا للدنيا ألفةٌ ومحبةٌ معي حتى أرغبَ فيها وأجمعَ ما فيها، ويجوز أن يكون للاستفهام، فمعناه: أيُّ ألفةٍ ومحبةٍ لي مع الدنيا؟ أو أيُّ شيءٍ حالي مع الميل إلى الدنيا؟ "وما أنا والدنيا إلا كراكبٍ استظلَّ تحتَ شجرةٍ، ثم راحَ وتركها". 4031 - وعن أبي أُمامَةَ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أَغْبَطُ أوليائي عِنْدي لَمُؤْمِنٌ خَفيفُ الحَاذِ، ذو حَظٍّ مِن الصَّلاةِ، أَحْسَنَ عِبادَةَ ربِهِ وأطاعَهُ في السِّرِّ، وكانَ غامِضًا في النّاسِ لا يُشَارُ إليه بالأَصابعِ، وكانَ رزقُهُ كَفَافًا، فصَبَر على ذلكَ"، ثم نقَرَ بِيدِهِ فقال: "عُجِّلَتْ مَنِيَّتُه، وقَلَّتْ بواكِيهِ، وقَلَّ تُرَاثُه". "وعن أبي أُمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أَغْبَطُ أوليائي": أفعل تفضيل بني للمفعول؛ لأنه للمغبوط به، الذي يُتمنَّى حالُه؛ أي: أحسنُهم حالاً.

"عندي لَمؤمنٌ"، واللام: زائدة، أو للابتداء حُذف مبتدؤه؛ أي: لَهو مؤمنٌ. "خفيفُ الحاذِ"؛ أي: خفيف الظَّهر من العيال، متمكِّن من السير في طريق الله، لقلة العلائق بطريق الكفاية؛ لأن خفيفَ الحاذِ أمكنُ في مشيه، وقيل: أي: خفيفُ الحال، قليل المال والعيال. "ذو حظٍّ من الصلاة والصيام"؛ أي: هو ممن نشأ في عبادة الله. "أحسنَ عبادةَ ربه وأطاعَه في السِّرِّ": وهذا كالتفسير لـ (ذي حظٍّ منها). "وكان غامضًا في الناس"؛ أي: خاملاً، من: الغموض، الخمول. "لا يُشار إليه بالإصبع": تفسير له. "وكان رزقُه كفَافًا"؛ أي: لا يَفضُل عما لابد منه. "فصبر على ذلك": إشارة إلى الرزق الكفاف، أو إلى جميع المذكورات. "ثم نقًدَ" بالدال المهملة؛ أي: ضربَ النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - "بيده"، من: نَقدتُ رأسَه بأصبعي؛ أي: ضربتُه، وقيل: من "نقدَ الطائرُ الحَبَّ): إذا التقطَه واحدًا بعدَ واحدٍ، وأُريد به هنا: ضرب الأُنملة على الأُنملة، أو على الأرض وكالمتقلِّل بالشيء. ويروى: "نقر" بالراء المهملة، بمعنى: صوَّت؛ يعني: ضربَ إبهامَه بوسطاه حتى سُمع منه صوت، وهذا فعلُ مَن تعجَّب من شيء أو رأى شيئًا حسنًا، أو أظهرَ عن نفسه قلةَ المبالاة بشيءٍ، أو أَظهرَ طربًا؛ يعني: مَن كانت هذه صفته فهو بمنزلة أن يتعجب من حسن حاله وقلة مبالاته بالدنيا وكثرة طربه بالآخرة. "فقال: عُجِّلَتْ مَنيَّتُه" على بناء المجهول؛ يعني: كان قبضُ روحِه سهلًا؛

لعدم التفاته إلى ما ترك في الدنيا، قيل: هذا مدح له، ومعناه: أن هذا الشخصَ لا يحرص على البقاء في الدنيا وعلى طول عمره حرصَ غيره، فهو كالميت لا يشتهي شيئاً من أنواع أعراض الدنيا، فأراد - صلى الله عليه وسلم - بهذا ما أراد بقوله في صفة الصدِّيق - رضي الله عنه -: "مَن أراد أن ينظرَ إلى ميتٍ يمشي على وجه الأرض فَلْينظرْ إلى هذا"، وأشار إليه. أقول: في الصرف عن الحقيقة وإرادة المجاز لابد من قرينةٍ، كهي في صفة الصدِّيق مِن قوله: "يمشي على وجه الأرض"، وأما هنا فالسياقُ شيءٌ ينافي إرادةَ شيءٍ مما ذُكر؛ لأن البكاءَ والميراثَ يقوِّي إرادةَ الحقيقة، فيُحمل ذلك على إرادةِ الله تعالى تعجيلَ موته شوقًا إلى لقائه. "وقلَّت بواكيه" جمع: باكية، وهي المرأة التي تَبكِي على الميت. "وقلَّ تُراثُه"؛ أي: ميراثُه. 4032 - وقال: "عَرَضَ عليَّ رَبي لِيَجْعَلَ لي بَطْحاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فقلتُ: لا يا رَبِّ! ولكنْ أَشْبَعُ يَوْمًا وأَجُوعُ يومًا، فإذا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إليكَ وذكرتُكَ، وإذا شَبعْتُ حَمِدْتُكَ وشَكَرْتُك". "وعن أبي أُمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عَرضَ عليَّ ربي ليجعلَ لي بَطحاءَ مكةَ"، البَطحاء والأَبطح: مَسيل الماء، أراد به: مكة وصحاريها. "ذهبًا، فقلت: لا يا ربِّ، ولكن أَشبَع يومًا وأجوع يومًا، فإذا جعتُ تضرَّعتُ إليك وذكرتُك، وإذا شبعتُ حمدتُك وشكرتُك".

4033 - عن عبيد الله بن مِحْصَنٍ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن أَصْبَحَ منكم آمِنًا في سِرْبه، مُعَافًى في جَسَدِهِ، عِنْدَه قُوتُ يومِهِ، فكأنَّما حِيزَتْ له الدُّنيا بحَذافيرِها"، غريب. "عن عبيد الله بن مِحْصَن - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن أصبح منكم آمنًا في سِرْبه" بالكسر، أي: في نفسه وقيل: أي: في أهله وعياله، ويروى بالفتح؛ أي: طريقه ومسلكه. "معافًى في جسده"؛ أي: صحيحًا في بدنه، سالمًا من العيوب والآفات. "عنده قُوتُ يومه، فكأنما حِيزَتْ"؛ أي جُمعتْ "له الدنيا! ". "غريب". 4034 - وعن المِقْدَامِ بن مَعْدِ يْكَرِبَ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ما ملأَ آدمي وِعَاءً شَرًّا مِن بَطْنٍ، بحَسْبِ ابن آدَم أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإنْ كانَ لا مَحالةَ، فثُلُثٌ طَعامٌ، وثُلُثٌ شَرابٌ، وثُلُثٌ لِنَفَسِهِ". "وعن المِقْدَام بن معدي كرب - رضي الله عنه - أنه قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًّا": صفة (وعاء). "من بطنٍ، بحسب ابن آدم"، الباء: زائدة؛ أي: كَفَاه. "أُكُلات" بضمتين: جمع أُكْلة - بالضم ثم السكون -، وهي اللُّقمة. "يُقِمْنَ"؛ أي: تلك الأكلاتُ "صُلبَه": من (أقام الشيءَ): إذا حفظَه عن السقوط. "فإن كان لا محالةَ"؛ أي: فإن كان لابد من أن يملأَ بطنَه، ولا يقنع بأدنى قُوت.

"فثلثٌ طعامٌ وثلثٌ شرابٌ"؛ أي: فليجعل ثلثَ بطنه للطعام، وثلثَه للشراب. "وثلثٌ لنَفَسِه"؛ أي: ليتركْ ثلثَه خاليًا لخروج النَّفَس. 4035 - وعن ابن عُمَرَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - سَمعَ رَجُلًا يَتَجَشَّأُ فقال: "أَقْصِرْ مِن جُشَائكَ، فإنَّ أطولَ النَّاسِ جُوْعًا يومَ القِيامةِ أطولُهم شِبَعًا في الدُّنْيا". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سمع رجلًا يتجشَّأ"؛ أي: يَخرجُ الجُشاء من صدره، وهو ريح يخرج عنه من امتلاء المَعِدَة من الطعام، وذلك الرجل كان وهبَ بن عبد الله أبا جُحيفة، من صغار الصحابة، لم يبلغ الحُلمَ في زمنه عليه الصلاة والسلام. رُوي عنه أنه قال: أكلتُ ثَرِيدَ بُرٍّ مع لحمٍ، فأتيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أتجشَّأ "فقال: أَقصِرْ من جُشائك" بفتح الهمزة؛ أي: اكففْ عنه، والنهي وإن ورد الجُشاء لفظًا لكنه على إكثار الطعام معنىً؛ لأنه المقتضي له، ولأن الجُشاءَ إذا استولى كان أمرًا طبيعيًا لم يُقدَر على دفعه، وسببه - وهو الشبع - أمر مقدور، فيَرِدُ النهي عليه. "فإن أطولَ الناس جوعًا يومَ القيامة أطولُهم شِبَعًا في الدنيا"، روي: أن ذلك الرجل لم يأكل ملءَ بطنه بعد ذلك حتى فارقَ الدنيا، كان إذا تعشَّى لا يتغذَّى، وإذا تغدَّى لا يتعشَّى. 4036 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وفِتْنَةُ أُمَّتي المالُ".

"وعن كعب بن عياض - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن لكل أمةٍ فتنةً": وهي ما يوقع أحدًا في الضلالة أو المعصية. "وفتنةُ أمتي المالُ". 4037 - عن أنسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُجَاءُ بابن آدَمَ يومَ القِيامَةِ كأنَّه بَذَجٌ، فيُوقَفُ بينَ يدي الله، فيقولُ له: أَعْطَيتُكَ وخَوَّلتُكَ وأنعمتُ عليكَ، فما صَنَعْتَ؟ فيقولُ: رَبِّ! جَمَّعتُهُ وثَمَّرتُهُ فتركْتُه أكثَر ما كانَ، فارجِعْنى آتكَ بهِ كلِّه، فيقولُ لهُ: أَرِني ما قَدَّمْتَ، فيقولُ: ربِّ! جَمَّعتُه وثَمَّرتُه فتركتُه أكثَر ما كانَ، فَارْجِعْنِي آتِكَ بهِ كلِّه، فإذا عَبْدٌ لم يُقَدِّمْ خَيْرًا فيُمضَى بهِ إلى النَّارِ"، ضعيف. "وعن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: يُجاء"؛ أي: يُؤتَى. "بابن آدم" يريد به: شخصًا واحدًا. "يومَ القيامة كأنه بَذَجٌ"؛ أي: ولدُ الضأن في الحقارة والعجز، وهو معرَّب، وأصله بالفارسية: برة، وهو أصغر ما يكون من الحُملان، شبَّهه به صَغَارًا؛ أي: يكون حقيرًا ذليلًا. "فيُوقَف بين يدَي الله تعالى، فيقول له: أعَطيتُك وخوَّلتُك"؛ أي: جعلتُك ذا خَوَلٍ وخدمٍ. "وأنعمتُ عليك، فما صنعتَ فيها؟ فيقول: ربِّ! جَمَّعتُه وثَمَّرتُه"، والتثمير: تكثير المال. "فتركتُه أكثرَ ما كان، فأرجِعْني آتِك به كلِّه، فيقول له: أرِنى ما قدَّمتَ"؛ أي: للآخرة من الخير.

فإذا عبدٌ لم يقدّم خيرًا، فيُمضَى به إلى النار"، "ضعيفًا. 4038 - عن أبي هُريرةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَوَّلَ ما يُسأَلُ العَبْدُ يومَ القِيامَةِ مِن النعيم أنْ يُقالَ لهُ: ألَم نُصِحَّ جِسْمَكَ ونُرْوِكَ مِن الماءِ الباردِ؟ ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أولَ ما يُسأل العبدُ يومَ القيامة من النعيم أن يقال: ألم نُصِحَّ جسمَك"، يقال: أَصحَّ القومُ فهم مُصحُّون: إذا أصابت أموالَهم عامةٌ ثم ارتفعت. "ونُروِك من الماء البارد؟ ". 4039 - عن ابن مَسْعودٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا تَزولُ قَدَما ابن آدَم يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن خَمْسٍ: عن عُمْرِهِ فيما أَفْنَاهُ، وعن شبابهِ فيما أَبْلاهُ، وعن مالِه مِن أينَ اكتسَبَهُ وفيما أنفقَهُ، وماذا عَمِلَ فيما عَلِمَ". "وعن ابن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لا تزول قدما ابن آدمَ يومَ القيامة حتى يُسأل عن خمس: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه"، وإنما ذَكر شبابَه بعد ذِكر عمرِه؛ لأنه الزمانُ الذي يتمكن فيه على أقوى العبادات. "وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه؟ وماذا عمل فيما علم؟ ": وإنما غيَّر السؤالَ فيه حيث لم يقل: عن علمه؛ لأن العملَ أهمُّ، والعلمَ مقدمتُه، وهو لا يُعتَّد لولا العملُ. "غريب".

2 - باب فضل الفقراء وما كان من عيش النبي - صلى الله عليه وسلم -

2 - باب فضلِ الفُقَراءِ وما كانَ من عَيْشِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (باب فضل الفقراء وما كان من عيش النبي - صلى الله عليه وسلم -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4040 - قال رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رُبَّ أَشْعَثَ مَدْفوعٍ بالأَبوابِ لو أَقسمَ على الله لأبَرَّهُ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رُبَّ أشعثَ"؛ أي: رُبَّ رجل متفرقِ شَعر الرأس. "مدفوعٍ بالأبواب"؛ أي: من الأبواب باليد أو باللسان أن يدخلَها؛ من غاية حقارته في نظر الناس. "لو أَقسَمَ على الله لأَبرَّه"؛ يعني: لو حلفَ يمينًا على أن الله تعالى يفعل الشيءَ أو لا يفعله جاء الأمر فيه على ما يوافق يمينَه؛ من غاية عزَّته عند الله تعالى. 4041 - وقال: "هل تُنْصَرُونَ وتُرْزَقُونَ إلا بِضُعفَائِكُم؟ ". "وعن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تُنصَرون وتُرزَقون إلا بضعفائكم"؛ يعني: إنما حصل لكم النصرُ على الأعداء وقُدِّر لكم الرزقُ ببركة الفقراء؛ فأكَرِمُوهم.

4042 - وقال: "قُمْتُ على بابِ الجَنَّةِ، فكانَ عامَّةُ مَن دَخَلَهَا المَساكينُ، وأصحابُ الجَدِّ مَحبُوسُونَ، غيرَ أنَّ أصحابَ النارِ قد أُمِرَ بهم إلى النَّارِ، وقُمْتُ على بابِ النَّارِ، فإذا عامَّةُ مَن دَخَلَهَا النِّساءُ". "وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: قمتُ على باب الجنة، فكان عامةُ"؛ أي: أكثرُ "مَن دخلَها المساكينَ، وأصحابُ الجَدِّ"، وهو بفتح الجيم وتشديد الدال: المَغنى والحظ الدنيوي مالًا ومنصبًا؛ يعني: أصحاب الأموال والمناصب. "محبوسون" في العَرَصَات لطولِ حسابهم؛ بسبب كثرة أموالهم وتلذُّذهم بها في الدنيا، والفقراء بُرَاء من هذا، فلا يُحبَسون؛ بل يدخلون الجنَّةَ قبل الأغنياء بأربعين خريفًا مكأفاةً عن فقرهم في الدنيا. "غيرَ أن أصحابَ النار" أُريد بهم: الكفار. "قد أُمر بهم إلى النار" من غير وقوف في العَرَصَات. "وقمتُ على باب النار؛ فإذا عامةُ مَن دخلَها النساءُ". 4043 - وقال: "اطَّلَعتُ في الجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أكثرَ أَهْلِها الفُقَراءَ، واطَّلَعْتُ في النَّارِ فرأيتُ أكثرَ أهلِها النِّساءَ". "وعن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اطَّلعت في الجنة، فرأيت أكثرَ أهلها الفقراء، واطَّلعت في النار، فرأيت أكثرَ أهلها النساءَ"، فإن قيل: إن أهلَ الجنة والنار قبلَ يوم القيامة إما أحياءٌ أو أمواتٌ لم يُبعثوا، فكيف رآهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا: يحتمل أنه أراد بالماضي المستقبل، أو رأى أرواحَهم، أو أن الجنَّةَ

والنارَ مُثِّلَتَا له بصورتهم يومَ القيامة، كما قال يومًا: "رأيت الجنَّةَ والنارَ في عرض هذا الحائط"؛ أي: مثالَهما. 4044 - وقال: "إنَّ فُقَراءَ المُهاجِرينَ يَسبقونَ الأَغْنياءَ يومَ القِيامةِ إلى الجَنَّةِ بأربعينَ خَرِيفًا". "وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن فقراءَ المهاجرين يسبقون الأغنياءَ يومَ القيامة إلى الجنة بأربعين خريفًا"؛ أي: سنةً. 4045 - عن سهلِ بن سَعْدٍ قال: مرَّ رَجُلٌ على رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ لرَجُلٍ عِنْدَه جالسٍ: "ما رأيُّكَ في هذا؟ " فقال: رجلٌ مِن أَشْرافِ الناسِ، هذا والله حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ يُنْكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ يُشفَّعَ، قال: فَسَكَتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رأيُّكَ في هذا؟ " فقالَ: يا رسولَ الله! هذا رَجُلٌ مِن فُقَراءَ المُسلِمينَ، هذا حَرِيٌّ إنْ خَطَبَ أنْ لا يُنكَحَ، وإنْ شَفَعَ أنْ لا يُشفَّعَ، وإنْ قالَ أنْ لا يُسْمَعَ لقولهِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا خيرٌ مِن ملءِ الأرضِ مِن مثلِ هذا". "عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: مرَّ رجل على النبي - صلى الله عليه وسلم -: فقال لرجلٍ عندَه جالسٍ: ما رأيُك في هذا؟ "؛ أي: ما ظنُّك في حق هذا الرجل، تظنُّه خيرًا أم شرًّا؟ "فقال: رجلٌ من أشراف الناس، هذا والله حَرِيٌّ"، (هذا): مبتدأ، خبره (حري)، والقَسَم معترض بينهما؛ أي؛ جديرٌ وحقيقٌ "إنْ خَطبَ"؛ أي: طلبَ أن يتزوجَ بامرأة "أن يُنكحَ": متعلق بـ (حري).

"وإنْ شَفَعَ" - بالتخفيف - "أنْ يُشفَّع" بضم الياء وفتح الفاء المشددة؛ أي: تُقبَل شفاعتُه. "قال: فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم مرَّ رجلٌ، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيُّك في هذا؟ "؛ أي: ما ظنُّك بهذا الرجل، تظنُّه خيرًا أم شرًّا؟ "فقال: يا رسولَ الله! هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ إنْ خَطبَ أن لا يُنكح، وإن شَفَعَ أن لا يُشفَّع، وإن قال أن لا يُسمَع لقوله"؛ أي: لا يَسمع أحدٌ لكلامه، ولا يُلتفَت إليه؛ من غاية فقره وحقارته. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا خيرٌ من ملء الأرض من مثل هذا". 4046 - وعن عائِشَةَ قالت: ما شَبعَ آلُ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - مِن خُبْزِ الشَّعيرِ يومَيْنِ مُتَتابعَيْنِ حَتَّى قُبضَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -. "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: ما شبعَ آلُ محمدٍ من خبز الشعير يومَين متتابَعين، حتى قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ". 4047 - وقال أبو هُريرةَ: خَرَجَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مِن الدُّنيَا ولم يَشبعْ مِن خُبْزِ الشَّعيرِ. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - خرجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - من الدنيا، ولم يَشبَع من خبز الشعير". 4048 - عن أنسٍ: أنه مَشَى إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بخُبْزِ شَعيرٍ وإهَالَةٍ سَنِخَةٍ،

ولقد رَهَنَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - دِرْعًا بالمَدينةِ عندَ يهودي وأخذَ منهُ شَعيرًا لأَهْلِهِ، ولقد سَمِعْتُه يقولُ: ما أَمْسَى عندَ آلِ مُحَمَّدٍ صاعُ بُرٍّ ولا صاعُ حَبٍّ، وإنَّ عِنْدَه لَتِسعَ نِسْوَة. "عن أنس - رضي الله عنه -: أنه مشى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بخبز شعير وإهالة" بكسر الهمزة: ما أُذيب من الألية والشحم، وقيل: الدسم الجامد، وقيل: الوَدَك، وهو دسم الشحم، وقيل: كل دُهن يُؤتَدَم به. "سَنِخَة" بفتح السين المهملة وكسر النون وفتح الخاء المعجمة؛ أي: متغيرة لطول المكث. "ولقد رَهنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - درعًا له بالمدينة عند يهوديٍّ، وأخذ منه شعيرًا لأهله، ولقد سمعته"؛ أي: قال راوي هذا الحديث عن أنس - صلى الله عليه وسلم -: سمعتُ أنسًا "يقول: ما أمسى"؛ أي: لم يُدَّخر في الليل للغد "عند آل محمد صاعُ بُرٍّ ولا صاعُ حَبٍّ" للقُوت. "وإن عنده": الواو للحال. "لَتسعَ نسوةٍ". 4049 - وقال عُمَرُ - رضي الله عنه -: دَخَلْتُ على رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو مُضْطَجعٌ على رِمالِ حَصيرٍ، ليسَ بينَهُ وبينَهُ فِرَاشٌ، قد أثَّرَ الرِّمَالُ بجَنْبه، مُتَّكِئًا على وِسادةٍ من أَدَمٍ حَشْوُها ليفٌ، قلتُ: يا رسولَ الله! اُدْعُ الله فلْيُوَسِّعْ على أُمَّتِكَ، فإنَّ فارِسَ والرُّومَ قد وُسِّعَ عليهم، وهم لا يَعبُدونَ الله، فقال: "أَوَ في هذا أَنْتَ يا ابن الخطابِ! أُولئكَ قومٌ عُجِّلَتْ لهم طيباتُهم في الحياةِ الدنيا". وفي رِوايةٍ: "أَمَا تَرْضَى أنْ تكونَ لهُم الدُّنيا ولَنَا الآخِرَةُ؟ ".

"وقال عمر - رضي الله عنه -: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا هو مضطجعٌ على رمالِ حصيرٍ" بكسر الراء المهملة وضمها: جمع رَمِيل بمعنى: مَرمُول؛ أي: منسوج، ويُستعمل في الواحد، وهذا من إضافة الجنس إلى النوع، كـ (خاتم فضة)؛ أي: رمال من حصير، والمراد هنا: المنسوج من ورق النخل. وقيل: الرمال: ما يُنسَج عُودًا عُودًا. "ليس بينه وبينه فراشٌ، قد أثَّر الرمال بجنبه - صلى الله عليه وسلم -، متكئًا على وسادةٍ من أدم، حشوُها لِيفٌ، قلت: يا رسولَ الله! ادعُ الله فَلْيوسِّعْ على أمتك؛ فإن فارسَ والرُّومَ قد وُسِّعَ عليهم وهم لا يعبدون الله، فقال: أوفي هذا أنتَ": استفهام على سبيل الإنكار؛ أي: أأنت في هذا ونظرُك مرتهنٌ بهذه الأشياء؟! أي: أين أنت من النِّعَم الباقية الغائبة عنك "يا ابن الخطاب؟! " وفي ترك مخاطبته بـ (عمر) في هذا المعرض معنًى لطيفٌ؛ لأن الارتهانَ بطيبات الدنيا من خصال ذوي الجهل والعمى، فكان نسبتُه - صلى الله عليه وسلم - إلى أبيه ذي الجهل والعمى أَولى وأليقَ بالكلام، كأنه قال: يا ابن ذلك المقيَّد بطيبات الدنيا الغافل عن نعيم الآخرة. "أولئك قومٌ عُجِّلت لهم طيباتُهم في الحياة الدنيا، وفي رواية: أَمَا ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة؟ ". 4050 - عن أبي هُريرةَ قال: "لقد رأيتُ سَبْعينَ مِن أصحابِ الصُّفَّةِ، ما مِنهم رَجلٌ عليه رِداءٌ، إِمَّا إِزَارٌ وإمَّا كساءٌ، قد رَبطوا في أَعْناقِهم، فمِنْها ما يبلُغُ السَّاقَيْنِ، ومنها ما يَبْلُغُ الكَعْبينِ، فيَجمعَه بيدِه كراهِيةَ أنْ تُرَى عورتُه". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: لقد رأيت سبعين من أصحاب الصُّفَّة": وهم الفقراء الذين بايعوا النبي - صلى الله عليه وسلم -.

"ما منهم رجلٌ عليه رداء"؛ أي: لم يكن منهم رجلٌ عليه رداءٌ وإزارٌ، بل يكون له "إما إزارٌ" فقط يستر به عورتَه، "وإما كِساءٌ" يشتمل به. "قد ربطوا في أعناقهم، فمنها"؛ أي مِن كِساءٍ "ما يَبلُغ نصفَ الساقين، ومنها ما يَبلُغ الكعبين، فيجمعه بيده؛ كراهيةَ أن تُرى عورتُه". 4051 - وقال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا نَظَرَ أَحَدُكم إلى مَن فُضلَ عليهِ في المالِ والخَلْقِ، فلْيَنظرْ إلى مَن هو أَسْفَلَ منهُ". "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه - قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا نظر أحدُكم إلى مَن فُضلَ"؛ أي: زِيدَ "عليه في المال والخَلق"؛ يعني: إذا رأى أحدُكم مَن هو أكثر منه مالًا وجثةً ولباسًا وجمالًا. "فَلْينظرْ إلى مَن هو أسفلُ"؛ أي: أقلُّ "منه" في ذلك؛ ليَعرفَ أن الله تعالى أنعمَ عليه نعمةً كثيرةً بالنسبة إليه. 4052 - وقال: "انظُرُوا إلى مَن هو أَسْفَلَ منكم، ولا تَنظُرُوا إلى مَن هو فَوْقَكم، فهوَ أَجْدرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ الله علَيْكم". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: انظروا إلى مَن هو أسفلُ منكم، ولا تنظروا إلى مَن هو فوقَكم؛ فهو أجدرُ"؛ أي: النظرُ إلى مَن هو أسفلَ منكم مالًا وجمالًا وجثةً ولباسًا أحقُّ "أن لا تزدروا"؛ أي: بألا تحتقروا "نعمةَ الله عليكم"؛ لأنكم بذلك النظرِ علمتُم أن لله تعالى عليكم نعماءَ كثيرةً.

مِنَ الحِسَان: 4053 - قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْشِروا يا مَعْشَرَ صَعَاليكِ المُهاجرينَ! بالنُّورِ التامِّ يومَ القيامةِ، تَدْخُلونَ الجَنَّةَ قبلَ أغنياءِ النَّاسِ بنصْفِ يَوْمٍ وذلكَ خَمْسُ مِئَةِ سَنَةٍ". "من الحسان": " عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَبشِروا يا مَعشرَ صعاليك المهاجرين" جمع: صُعلوك، الفقير الذي لا مالَ له ولا اعتمالَ. "بالنور التام يومَ القيامة، تدخلون الجنَّةَ قبل أغنياء الناس بنصف يوم، وذلك خمس مئة سنة"؛ فإن اليومَ الأخرويَّ مقدارُ طولِه ألفُ سنة من سِنِي الدنيا، لقوله تعالى: {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج: 47]، فنصفه خمس مئة. 4054 - وقال: "يدخُلُ الفُقَراءُ الجَنَّةَ قبلَ الأَغْنياءِ بِخَمْسِ مِئَةِ عامٍ نصفِ يومٍ". "عن أبي هريرة وجابر - رضي الله تعالى عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يدخل الفقراءُ الجنَّةَ قبل الأغنياء بخمسِ مئةِ عامٍ، نصفِ يومٍ" بالجر: بدل، أو عطف بيان عن (خمس مئة عام). 4055 - عن أنسٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ! أَحْيني مِسْكينًا، وأَمِتْني مِسْكينًا، واحشُرْني في زُمْرةِ المَساكينِ"، فقالت عائِشَةُ: لِمَ يا رسولَ الله؟ قال: "إنَّهم يَدْخُلونَ الجَنَّةَ قبلَ أَغنِيائهم بأَرْبعينَ خَرِيفًا، يا عائِشةُ! لا تَرُدِّي

المِسْكِينَ، ولو بِشِقِّ تمرةٍ، يا عائِشَةُ! أَحِبي المَساكينَ وقَرِّبيهم، فإنَّ الله يُقَرِّبُكِ يومَ القِيامةِ". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اللهم أَحْيني مسكينًا، وأَمِتْني مسكينًا، واحشرْني في زُمرة المساكين"، معناه: اجعلْني متواضعًا لا جبارًا متكبرًا، وقد فسَّر النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المسكينَ: "وهو الذي لا يجد غنًى يغنيه، ولا يُفطَن به فيتصدَّق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس"، قيل: هذا تعليم منه لأمته - صلى الله عليه وسلم - أن يعرفوا فضلَ الفقراء ليحبُّوهم وليجالسوهم لينالَهم بركتهم، ويجوز أن يُراد بهذا أن يجعل قُوتَه عليه كفافًا، ولا يشغله بالمال؛ فإن كثرةَ المال مذمومةٌ في حق المقرَّبين. "فقالت عائشة: لِمَ يا رسولَ الله؟ قال: إنهم يدخلون الجنَّةَ قبل أغنيائهم بأربعين خريفًا، يا عائشة! لا تردِّي المسكينَ ولو بشق تمرة، يا عائشةُ! أحبي المساكينَ وقرِّبيهم؛ فإن الله تعالى يقرِّبك يومَ القيامة"، "غريب". 4056 - عن أبي الدَّرْداءَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "ابغُونِي في ضُعَفَائِكُم، فإنَّما تُرْزَقُونَ وتُنصَرونَ بضُعَفائِكُم". "عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ابغوني في ضعفائكم" بهمزة قطع ووصل، من: بَغَى بُغَاءً بالضم: طلبَ؛ أي: اطلبوا رضائي في رضا ضعفائكم؛ فمَن أكرمَهم فقد أكرمَني، ومَن آذاهم فقد آذاني. "فإنما تُرزَقون وتُنصَرون بضعفائكم". 4057 - ورُوِيَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَستفتِحُ بصَعَاليكِ المُهاجِرينَ.

"ورُوي: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يَستفتح"؛ أي: يطلب الفتحَ والنصرةَ من الله الكريم "بصعاليك المهاجرين"؛ أي: ببركة فقرائهم. 4058 - عن أبي هُريرةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَغْبطَنَّ فاجِرًا بنعْمَةٍ، فإنك لا تَدري ما هوَ لاقٍ بعدَ مَوْتِه، إنَّ لهُ عندَ الله قاتِلًا لا يَموتُ"، يعني: النَّار. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تَغبطَنَّ فاجرًا"، قيل: أي: كافرًا. "بنعمةٍ"؛ يعني: لا تتمنَّيَنَّ أن يكونَ لك ما له من النِّعَم. "فإنك لا تدري ما هو لاقٍ بعد موته، إن له"؛ أي: للفاجر. "عند الله قاتلًا" من: القتل، كذا في أكثر النسخ. "لا يموت"؛ أي: لا يَفْنَى. "يعني: النار": تفسير (قاتلًا). وفي "شرح السُّنة": " قائلًا"؛ أي: مَقيلًا، من: القَيلولة. 4059 - وقال: "الدُّنْيا سِجْنُ المُؤْمِنِ وسَنَتُهُ، فإذا فارقَ الدُّنْيا فارقَ السِّجْنَ والسَّنَةَ". "وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الدنيا سجنُ المؤمن وَسَنتُه"؛ أي: قحطُه وشدةُ عيشِه. "فإذا فارقَ الدنيا فارقَ السجنَ والسَّنةَ".

4065 - وعن قتادَةَ بن النُّعْمانِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أَحَبَّ الله عَبْدًا حَماهُ الدُّنْيا كما يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحمِي سَقيمَهُ الماءَ". "عن قتادة بن النعمان - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا أحبَّ الله عبدًا حَمَاه الدنيا"؛ أي: منعَه منها ووقاه أن يتلوثَ بزينتها؛ كيلا يمرضَ قلبُه بداء محبتها. "كما يظلُّ أحدكم"؛ أي: كما طفقَ أحدُكم. "يحمي سقيمَه"؛ أي: مريضَه المستسقي "من الماء"؛ كيلا يزيدَ مرضُه بشربه. 4061 - عن مَحْمودِ بن لَبيدٍ: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اثنتانِ يَكرَهُهُما ابن آدَمَ: يَكْرَهُ المَوْتَ، والمَوْتُ خيرٌ للمُؤْمِنِ مِنَ الفِتْنَةِ، ويَكْرَهُ قِلّةَ المالِ، وقِلّةُ المالِ أقلُّ للحِسابِ". "عن محمود بن لبيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اثنتان يكرههما ابن آدم: يكرهُ الموتَ؛ والموتُ خيرٌ للمؤمن من الفتنة"؛ والفتنةُ التي الموتُ خيرٌ منها هي الوقوعُ في الشِّرك أو في فتنة يتسخَّطها الإنسان ويجري على لسانه ما لا يليق، وفي اعتقاده ما لا يجوز. "ويكرهُ قلةَ المال؛ وقلةُ المال أقلُّ للحساب". 4062 - عن عبدِ الله بن مُغَفَّلٍ قال: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي أُحِبُّكَ، قالَ: "اُنظُرْ ما تقولُ"، فقالَ: والله إِنِّي لأُحِبُّكَ، ثلاثَ مرَّاتٍ، قال:

"إنْ كُنتَ صَادِقًا فأَعِدَّ لِلفَقْرِ تِجْفافًا، لَلْفَقْرُ أَسْرعُ إلى مَنْ يُحِبني مِنَ السَّيْلِ إلى مُنْتهَاهُ"، غريب. "عن عبد الله بن مغفَّل - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إني لأَحبُّك، قال: انظرْ ما تقول؟ " قاله لتفخيم شأن المقول؛ أي: فكِّر فيما تقول في أنك تحبني، أنتَ صادق في هذه الدعوى أم لا؟ "فقال: والله إني لأَحبُّك، ثلاث مرات، قال: إن كنتَ صادقًا فأعدَّ"؛ أي: فهيئ. "للفقر تِجْفَافًا" بكسر التاء وسكون الجيم: شيء يُلبَس لدفع السلاح؛ يعني: آلةً تدفع بها عن دِينك ضررَه من الصبر والقناعة والرضا، كنَّى بالتِّجفاف عن الصبر؛ لأنه يستر الفقرَ كما يسترُ التجفافُ البدن. (لَلفقر): اللام لام الابتداء. "أسرعُ إلى مَن يحبني من السيل إلى منتهاه"؛ يعني: لابد من وصول الفقر إليه. "غريب". 4063 - عن أنسٍ قال: قال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: لقدْ أُخِفْتُ في الله وما يُخافُ أَحَدٌ، ولقدْ أُوذِيْتُ في الله وما يُؤْذَى أَحَدٌ، ولقدْ أتَتْ عليَّ ثلاثونَ منْ بينِ ليلةٍ وَيوْمٍ وما لِي ولِبلالٍ طَعامٌ يأْكْلُهُ ذُو كَبدٍ، إلا شَيءٌ يُوارِيهِ إبْطُ بِلالٍ". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لقد أُخِفتُ" بصيغة المجهول من: الإخافة. "في الله"؛ أي: في إظهار دينه.

"وما يُخاف أحدٌ" بصيغة المجهول؛ أي: مثلَ ما أُخِفتُ. "ولقد أُوذيتُ في الله، وما يُؤذَى أحَدٌ"؛ أي: مثلَ ما أُوذيتُ؛ يعني: كنتُ وحيدًا في ابتداء إظهاري الدينَ، فخوَّفني الكفارُ وآذَوني في ذلك، ولم يكن معي أحد يوافقني في تحمُّل الأذيَّة. "ولقد أتَتْ عليَّ"؛ أي: قد كان بعضُ الأوقات مرَّ عليَّ. "ثلاثون من بين ليلةٍ ويومٍ"، (بين): زائدة، تقديره: من ليلةٍ ويومٍ كان بلالٌ رفيقي في ذلك الوقت. "وما لي ولبلالٍ طعامٌ يأكلُه ذو كبد": هذا إشارة إلى قلته، والمراد بـ (ذو كبد) هاهنا: نحو الفأرة والهِرَّة مما يَشبَع بأدنى شيء. "إلا شيءٌ": بدل من (طعام). "يُوارِبه"؛ أي: يسترُه. "إبطُ بلال" من خبز ونحوه، كنَّى بالمواراة تحت الإبط عن الشيء اليسير، وعن عدم ما يُجعَل فيه الطعامُ من الظَّرف. 4064 - عن أبي طَلْحَةَ قال: "شَكَونْا إلى رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - الجُوعَ، ورَفْعنا عنْ بُطونِنا عنْ حَجَرٍ حَجَرٍ، فرفعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ بَطْنِه عنْ حَجَرَينِ"، غريب. "عن أبي طلحة - رضي الله عنه - قال: شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجوعَ، ورفعْنا عن بطوننا عن حَجَرٍ حَجَرٍ": بدل اشتمال، كما تقول: زيدٌ كشفَ عن وجهِه عن حُسنٍ خارقٍ. عادة أهل الرياضة إذا اشتد جوعُهم أن يربطَ كلُّ واحدٍ منهم حَجَرًا على

بطنه؛ كيلا يسترخي بطنُه، وتنزلَ أمعاؤه، فيشقُّ عليه التحريك. "فرفع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن بطنه عن حَجَرَين"؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - أكثرُهم جوعًا وأشدَّهم رياضةً. "غريب". 4065 - عن أبي هُريرةَ: أنَّهُ أصابَهُم جُوْعٌ، فأَعْطاهُمْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تَمْرَةً. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنه أصابهم جوعٌ، فأعطاهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تمرةً تمرةً". 4066 - عن عَمْرِو بن شُعَيْبٍ، عن أَبيه، عن جَدِّه، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خَصْلتانِ مَنْ كانتا فيهِ كتَبَهُ الله شاكِرًا صابرًا: مَنْ نظَرَ في دِينِه إلى مَنْ هوَ فَوْقَهُ فاقْتَدَى بهِ، ونظَرَ في دُنْياهُ إلى مَنْ هوَ دُونَهُ، فحَمِدَ الله على ما فضَّلَهُ الله عليهِ؛ كتبَهُ الله شاكِرًا صابرًا، ومَنْ نظرَ في دِينِه إلى مَنْ هوَ دُونَهُ، ونظرَ في دُنْياهُ إلى مَنْ هو فَوْقَهُ، فأَسِفَ على ما فاتَهُ منهُ؛ لمْ يكتُبْهُ الله شاكِرًا ولا صابرًا". "عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: خصلتانِ مَن كانتا فيه كتبه الله شاكرًا صابرًا: مَن نَظرَ في دينه إلى مَن هو فوقَه"؛ أي: نظر في الأعمال الصالحة إلى مَن هو أكثرُ منه عبادةً ورياضةً وقناعةً. "فاقتدى به، ونظرَ في دنياه إلى مَن هو دونَه"؛ أي: إلى مَن هو أفقرُ وأقلُّ مالاً منه.

3 - باب الأمل والحرص

"فحمد الله"؛ أي شكرَه "على ما فضَّله الله"؛ أي: على ما أعطاه من الفضل. "كتبه الله شاكرًا صابرًا، ومَن نظر في دينه إلى مَن هو دونَه، ونظرَ في دنياه إلى مَن هو فوقَه فأَسِفَ"؛ أي: غضبَ وحزنَ "على ما فاته منه"؛ أي: من المال الدنيوي وغيره. "لم يكتبه الله شاكرًا ولا صابرًا". 3 - باب الأَمَلِ والحِرْصِ (باب الأمل والحرص) مِنَ الصِّحَاحِ: 4067 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قال: خَطَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خَطًّا مُرَبَّعًا، وخَط خَطًّا في الوَسَطِ خارِجًا منهُ، وخَطَّ خُطُوطًا صِغارًا إلى هذا الذي في الوَسَطِ من جانِبهِ الذِي في الوسَطِ فقال: "هذا الإِنسانُ، وهذا أَجَلُهُ مُحِيطٌ بهِ، وهذا الذي هوَ خارجٌ أَمَلُهُ، وهذهِ الخُطُوطُ الصِّغارُ الأَعراضُ، فإنْ أخْطَأَهُ هذا نهَشَهُ هذا، وإنْ أَخْطَأَهُ هذا نهَشَهُ هذا". "من الصحاح": " عن عبد الله - رضي الله عنه - قال: خطَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - خطًّا مربَّعًا، وخطَّ خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخط خطوطًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط" بهذه الصورة.

"فقال: هذا"؛ أي: الخطُّ الذي في وسط المربع "هو الإنسان، وهذا"؛ أي: الخطُّ المربع "أجلُه محيطٌ به"، بحيث لا يمكنه الفرارُ والخروجُ منه. "وهذا الذي هو خارج" من المربع "أملُه" الذي يظنُّ أنه يدركُه قبلَ موته، وهو ظنٌّ خطأ منه؛ لأن أجلَه أقربُ إليه منه. "وهذه الخطوطُ الصغارُ الأعراضُ" من الآفات والعاهات، كالمرض وغيره، فهذه الأعراضُ مكتنفةٌ به من جميع جوانبه. "فإنْ أخطأه هذا"؛ أي: عرضٌ من هذه الأعراض؛ أي: تجاوزَ. "نهشَه"؛ أي: أخذَه ولدغَه "هذا"؛ أي عرضٌ آخرُ. "وإنْ أخطَأه هذا نهشَه هذا". 4068 - وعن أنسٍ قال: خَطَّ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - خُطُوطًا فقال: "هذا الأَمَلُ، وهذا أَجَلُهُ، فبينَما هو كذلكَ إذْ جاءَهُ الخَطُّ الأَقْرَبُ". "وعن أنس رضي الله تعالى عنه: خطَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خطوطًا، فقال: هذا الأملُ، وهذا أجلُه، فبينما هو كذلك"؛ أي: في الحالة التي يرجو أن يبلغَ أملَه. "إذ جاءه الخطُّ الأقربُ" الذي هو أجلُه قبلَ وصوله إلى الأبعد، الذي هو أملُه. 4069 - عن أنسٍ قال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَهْرَمُ ابن آدَم ويَشِبُّ مَعَه اثنتانِ: الحِرْصُ على المالِ، والحِرْصُ على العُمُرِ". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يَهرَم ابن آدم"؛ أي: يَكبر سِنُّه.

"وَيشِبُّ" بفتح الياء وكسر الشين المعجمة والباء المشددة. "منه اثنان": هذا استعارة؛ يعني: تستحكم الخصلتان في قلب الشيخ، كاستحكام قوة الشاب في شبابه. "الحرص على المال، والحرص على العمر"، إنما لم تنكسر هاتان الخصلتان؛ لأن الإنسانَ مجبولٌ على حُبِّ الشهوات (¬1)، والشهوةُ إنما تُنال بالمال والعمر. * * * 4070 - عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزالُ قَلْبُ الكبيرِ شَابًّا في اثنتَينِ: في حُبِّ الدُّنْيا، وطُولِ الأَمَلِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يزال قلبُ الكبير شابًّا في اثنتين، في حبِّ الدنيا، وطولِ الأمل". * * * 4071 - وقال: "أَعْذَرَ الله إلى امرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَعذَرَ الله إلى امرئ"، قيل: الهمزة في (أعذر) للسلب؛ أي: أزالَ عذرَ امرئ. "أخَّر أجلَه حتى بلَّغه ستين سنةً"، فلم يتب عن المعاصي، ولم يصلح حالَه ومآلَه؛ يعني: أنه لم يترك له شيئًا في الاعتذار يتمسك به. * * * ¬

_ (¬1) في هامش "غ":، كما قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ} الآية".

4572 - وعن ابن عبَّاسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لوْ كانَ لابن آدَم وادِيانِ منْ مالٍ لابْتغَى ثالِثًا، ولا يَمْلأُ جَوْفَ ابن آدَم إلَّا التُّرابُ، ويَتُوبُ الله على مَنْ تابَ". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما -، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لو كان لابن آدم واديانِ من مال" المراد منه: الإبل. "لَابتغى لهما ثالثًا"؛ أي: واديًا ثالثًا. "ولا يملأ جوفَ ابن آدمَ إلا الترابُ"؛ يعني لا يزال حريصًا على الدنيا حتى يموتَ ويمتلئَ جوفُه من تراب قبره، وهذا حكمٌ على الغالب. "ويتوب الله على مَن تاب"؛ أي: يَقبَل التوبَة من التائب عن حرصه المذموم، وعن غيره من المذمومات. * * * 4073 - وعن ابن عُمَرَ قال: أَخَذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببَعْضِ جَسدِي فقال: "كُنْ في الدُّنْيا كأنَّكَ غَرِيبٌ أو عابرُ سَبيلٍ، وعُدَّ نَفْسَكَ مِنْ أهْلِ القُبورِ". "وعن ابن عمر قال: أخذ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببعض جسدي فقال: كُنْ في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ"، (أو) هذه بمعنى: بل، وفي هذا ترقٍّ من التشبيه الأول؛ لأن الغريبَ قد يَسكُن في بلاد الغربة ويقيم فيها، بخلاف عابر السبيل. "وعُدَّ نفسَك من أهل القبور". * * * مِنَ الحِسَان: 4574 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قال: مَرَّ بنا رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا وأُمِّي نُطينُ

شَيْئًا فقال: "ما هذا يا عبدَ الله؟ " فقُلتُ: شَيءٌ نُصْلِحُهُ، قال: "الأَمْرُ أَسْرَعُ منْ ذلِك"، غريب. "من الحسان": " عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: مرَّ بنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنا وأمِّي نُطين شيئًا"؛ أي: نُصلح شيئًا من البيت بالطِّين. "فقال: ما هذا يا عبدَ الله؟ قلت: شيءٌ نصلحه، قال: الأمرُ أسرعُ من ذلك"؛ أي: الأجلُ أقربُ من تخرُّب هذا البيت؛ يعني: تصلح بيتَك خشيةَ أن ينهدمَ قبل أن تموتَ، وربما تموت قبل أن ينهدمَ، فإذا كان كذلك فإصلاحُ عملِك أَولى من إصلاح بيتك. "غريب". * * * 4075 - عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ يُهْريقُ الماءَ فَيَتَيَمَّمُ بالتُّرابِ، فأقولُ: يا رسولَ الله! إِنَّ الماءَ مِنْكَ قريبٌ، فيقولُ: "ما يُدرِيني؟ لَعَلِّي لا أبلُغُه". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يُهريق الماء"؛ أي: يبول، وقيل: يَستعمل الماءَ قبل الوقت. "فيتيمَّم" في الوقت "بالتراب، فأقول: يا رسولَ الله! إن الماءَ منك قريب، يقول: ما يدريني"، (ما): للاستفهام. "لعلي لا أَبلُغُه"؛ أي: الماءَ. * * *

4076 - عن أنسٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "هذا ابن آدَمَ، وهذا أَجَلُهُ"، ووَضَعَ يدَهُ عندَ قَفَاهُ، ثُمَّ بَسَطَ فقال: "وثَمَّ أمَلُهُ". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا ابن آدمَ، وهذا أجلُه، ووضعَ يدَه عند قفاه"؛ يعني: وضع - صلى الله عليه وسلم - يَده على قفاه "ثم بسط"؛ أي: مدَّ يدَه وأشار إلى موضعٍ أبعدَ من قفاه. "فقال: وثَمَّ" بفتح الثاء "أملُه"، وفيه: إشارة إلى أن أجلَه أقربُ إليه من أمله، وإلى أن أملَه أطولُ من أجله. * * * 4077 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَرَزَ عُودًا بينَ يدَيهِ، وآخرَ إلى جَنْبهِ، وآخرَ أَبْعَدَ منهُ فقال: "هلْ تدرونَ ما هذا؟ " قالوا: الله ورسولُه أَعْلَمُ، قال: "هذا الإِنسانُ، وهذا الأَجَلُ"، أُراهُ قال: "وهذا الأملُ، فيتَعاطَى الأَمَلَ، فَلَحِقَهُ الأَجَلُ دُونَ الأَمَلِ". "عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - غَرزَ عودًا بين يدَيه"؛ أي قُدَّامَه. "وآخرَ"؛ أي: غرزَ عودًا آخرَ "إلى جنبه"؛ أي: جنب عُوده. "وآخرَ أبعدَ منه"؛ أي: من ذلك العود الأبعد. "فقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: هذا الإنسان، وهذا الأجل" إشارةً إلى الذي إلى جنبه. "أراه"؛ أي: قال الراوي: أظنُّ أنه - صلى الله عليه وسلم - "قال: وهذا الأمل": إشارةً إلى العُود الأبعد. "فيتعاطى"؛ أي: يتناولُ الإنسانُ "الأملَ ويباشره"؛ أي يشتغل بما يأمل.

"فلحقَه الأجلُ دون الأمل"؛ أي: قبل أن يَتمَّ أملُه. * * * 4078 - عن عبدِ الله بن الشِّخِّيرِ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مُثِّلَ ابن آدَمَ وإلى جَنْبه تِسعٌ وتِسعونَ مَنيَّةً، إنْ أَخْطَأَتْهُ المنَايا وَقَعَ في الهَرَمِ". "عن عبد الله بن الشِّخير - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: مُثِّلَ" بصيغة الماضي المجهول؛ أي: صُوِّرَ وخُلِقَ. "ابن آدم إلى جنبه": حال، سواء كان بالواو أو دونها. "تسعٌ وتسعون مَنِيَّةً"، وروي: "مَثَلُ" على وزن: فَرَس، مبتدأ خبره الجملة التي بعده؛ أي: صفته وحاله العجيبة أن تسعًا وتسعين منية متوجهةً نحوه منتهيةً إلى جانبه، وقيل: خبره محذوف؛ أي: مَثَلُه مَثَلُ مَن يكون إلى جانبه. "إن أخطأتْه المنايا وقع في الهَرَم": تقدم بيانه في (باب عيادة المريض). * * * 4079 - عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "عُمْرُ أُمَّتي منْ ستِّينَ سنةً إلى سَبعين سَنَةً"، غريب. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: عُمرُ أمتي من ستين سنةً إلى سبعين"، "غريب". * * * 4080 - عن أبي هُريرةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "أَعْمارُ أُمَّتي ما بينَ السِّتينَ إلى السَّبْعينَ، وأقلُّهُم مَنْ يَجُوزُ ذلكَ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أعمارُ أمتي ما بين الستين

4 - باب استحباب المال والعمر للطاعة

إلى السبعين، وأقلُّهم"؛ أي: أقلُّ أمتي "مَن يَجُوزُ"؛ أي: يَعبُرُ "ذلك"؛ أي: السبعين. * * * 4 - باب استِحبابِ المالِ والعُمُرِ للطَّاعةِ (باب استحباب المال والعمر للطاعة) مِنَ الصِّحَاحِ: 4081 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا حَسَدَ إلَّا في اثنتَينِ: رَجُلٌ آتاهُ الله القُرآنَ، فهوَ يقومُ بهِ آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ، ورجلٌ آتاهُ الله مالًا، فهوَ يُنفِقُ منه آناءَ اللَّيلِ وآناءَ النَّهارِ". "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حسدَ إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله القرآنَ فهو يقوم به آناءَ الليل وآناءَ النهار، ورجلٌ آتاه الله مالًا فهو ينفق منه آناءَ الليل وآناءَ النهار": تقدم بيانه في (كتاب فضائل القرآن). * * * 4082 - وقال: "إنَّ الله يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ الغَنِيَّ الخَفِيَّ". "عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله يحبُّ العبدَ التقيَّ": وهو مَن يتقي المعاصي، وقيل: أراد به: مَن لا يصرف مالَه في المعاصي.

"الغنيَّ" بغنى القلب. "الخفيَّ" عن أعين الناس في نوافله؛ لئلا يُداخلَه الرياء، وقيل: الخفيُّ مَن لا يتكبَّر على الناس ولا يفتخر عليهم بالمال، بل يجعل نفسَه منكسرةً من التواضع، وقيل: أراد به خفيَّ الذِّكر لخموله، أو قليل التردُّد والخروج إلى الأسواق ونحوها. * * * مِنَ الحِسَان: 4083 - عن أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا قال: يا رَسولَ الله! أيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمُرهُ وحَسُنَ عَمَلُهُ" قالَ: فأيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟ قال: "مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَسَاءَ عَمَلُهُ". "من الحسان": " عن أبي بَكرة - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال: يا رسولَ الله! أيُّ الناسِ خيرٌ؟ قال: مَن طالَ عمرُه وحَسُنَ عملُه، قال: فأيُّ الناسِ شرٌّ؟ قال: مَن طالَ عمرُه وساء عملُه". * * * 4084 - وعن عُبَيْدِ بن خالدٍ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - آخَى بينَ رَجُلَينِ، فقُتِلَ أحدُهُما في سبيلِ الله، ثُمَّ ماتَ الآخَرُ بعدَهُ بجُمُعَةٍ أو نَحْوِها، فَصَلَّوا عليهِ، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما قُلتُمْ؟ " قالوا: دَعَوْنا الله أنْ يَغْفِرَ لهُ وَيرْحَمَهُ ويُلحِقَهُ بصاحِبهِ، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "فأيْنَ صَلاتُهُ بعدَ صَلاتِهِ، وعملُهُ بعدَ عَمَلِهِ؟ - أو قال: صِيامُهُ بعدَ صِيامِهِ - لَمَا بَيْنَهما أَبْعَدُ ممَّا بينَ السَّماءِ والأَرْضِ". "وعن عُبيد بن خالد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آخى"؛ أي: عقدَ الأخوةَ.

"بين رجلَين، فقُتل أحدُهما في سبيل الله، ثم مات الآخر بعده بجمعة أو نحوها، فصلَّوا عليه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما قلتُم؟ قالوا: دَعَونا الله أن يغفرَ له ويرحَمَه ويُلحقَه بصاحبه"؛ أي: الذي قُتل. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأين صلاتُه؟ "؛ أي صلاةُ الميت "بعدَ صلاتِه"؛ أي: صلاة القتيل؟ "وعملُه بعدَ عملِه"؛ فإن الميتَ قد عملَ الطاعةَ بعده؟ "أو قال: صيامُه بعدَ صيامِه"؛ يعني: هذه الزوائد التي زادها هذا بعد قتلِ ذاك يُثاب عليها زائدًا عليها؛ وذلك لأن هذا أيضًا مُرابط في سبيل الله، وإلا فلا عملَ أزيدُ ثوابًا على الشهادة جهادًا في سبيل الله وإظهارًا لدينه، خصوصًا في مبادئ الدعوة إليه، ومع قلة أعوانه. "لَمَا بينهما": اللام فيه توطئة للقَسَم، أو للابتداء؛ أي: التفاوتُ التي بينهما في القرب عند الله تعالى "أبعد مما بين السماء والأرض". * * * 4085 - وعن أبي كَبْشَةَ الأنْمارِيِّ: أنَّه سَمِعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ثلاثٌ أُقْسِمُ عَلَيهِنَّ، وأُحَدِّثُكُمْ حَديثًا فاحفَظُوهُ، فأمَّا الذي أُقسِمُ عليهِنَّ، فإنَّهُ ما نَقَصَ مالُ عَبْدٍ منْ صَدَقةٍ، ولا ظُلِمَ عَبْدٌ مَظْلَمَةً صَبَرَ عليها إلا زادَهُ الله بها عِزًا، ولا فتحَ عَبْدٌ بابَ مَسْأَلةٍ إلَّا فتحَ الله عَلَيهِ بابَ فَقرٍ، وأمَّا الذي أُحَدِّثُكُمْ حديثًا فاحفَظُوه"، قال: "إنَّما الدُّنيا لأَرْبعةِ نفَرٍ: عَبْدٍ رَزَقَهُ الله مالًا وعِلْمًا، فهوَ يَتَّقي فيهِ ربَّهُ، وَيصِلُ فيهِ رَحِمَهُ، ويَعملُ لله فيهِ بحقِّهِ، فهذا بأفضَلِ المنازِلِ، وعَبْدٍ رَزَقَهُ الله عِلْمَا ولمْ يرزُقْهُ مالًا، فهوَ صادِقُ النِّيَّةِ يقولُ: لوْ أنَّ لي مالًا لعَمِلتُ بعَمَلِ فُلانٍ، فهوَ ونِيَّتُهُ، فأَجْرُهُما سَواءٌ، وعَبْدٌ رَزَقَهُ الله مالًا ولمْ يَرزُقْهُ عِلْمًا، فهو يتخبَّطُ في مالِهِ بغيرِ عِلْمٍ، لا يتَّقي فيهِ ربَّهُ، ولا يَصِلُ فيهِ رَحِمَهُ، ولا يَعمَلُ

فيهِ بحَقٍّ، فهذا بأَخبَثِ المنازِلِ، وعَبْدٍ لمْ يرزُقْهُ الله مالًا ولا عِلْمًا، فهوَ يقولُ: لوْ أنَّ لي مالًا لعمِلْتُ فيهِ بعَمَلِ فُلانٍ، فهوَ بنيَّتِهِ، فوِزْرُهُما سَواءٌ"، صحيح. "وعن أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه -: أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ثلاثٌ أُقسِم عليهن، وأُحدِّثكم حديثًا فاحفظوه"؛ أي: الحديثَ. "فأمَّا الذين أُقسم عليهن فإنه ما نقصَ مالُ عبدٍ من صدقة، ولا ظُلِمَ عبدٌ مَظلمةً" بفتح الميم وكسر اللام: اسم ما أخذه الظالم ظلمًا. "فصبر عليها، إلا زاده الله تعالى به عزًّا، ولا فتحَ عبدٌ بابَ مسألة إلا فتحَ الله عليه بابَ فقرٍ، وأمَّا الذي أُحدثكم فاحفظوه فقال: إنما الدنيا لأربعةِ نفرٍ: عبدٍ رزقَه الله مالًا وعلمًا"، قيل: هو علم كيفية صرف المال في وجوه البر. "فهو يتقي فيه ربَّه"؛ يعني: لا يصرف مالَه في معصية. "ويصل فيه رَحِمَه"؛ أي: بالمواساة إلى أقاربه والإحسان إليهم بما أَحسن الله إليه من المال. "ويعمل لله فيه بحقه"؛ أي: بحق المال؛ أي: يؤدي ما في المال من الحقوق، كالزكاة والكفارات والنفقات وإطعام الضيف وغيرها، ويجوز أن يكون الضمير في (بحقه) راجعًا إلى الله؛ أي: بحق الله الواجب في المال. "فهذا بأفضل المنازل، وعبدٍ رزقَه الله علمًا ولم يرزقْه مالًا، فهو صادقُ النية، يقول: لو أن لي مالًا لَعملتُ بعمل فلان، فهو نيتُه، فأجرُهما"؛ أي: أجرُ القِسم الأول والثاني "سواءٌ"؛ لأن الثاني كانت نيتُه صرفَ المال في وجوه الخير لو كان له مال، فهو يُثاب بنيته كما يُثاب صاحب المال ببذل المال في وجوه الخير. "وعبدٍ رزقَه الله مالًا ولم يرزقه علمًا، فهو يتخبَّط في ماله بغير علم،

لا يتقي فيه ربَّه ولا يَصِلُ فيه رَحِمَه ولا يعمل فيه بحق؛ فهذا بأخبث المنازل، وعبدٍ لم يرزقه الله مالًا ولا علمًا، فهو يقول: لو أن لي مالًا لَعملتُ فيه بعمل فلان"؛ يعني: لو كان لي مال لَصرفتُه فيما تشتهيه نفسي من لبسِ الملابس الفاخرة واستمتاعِ بالملاهي والمناهي. "فهو بنيتِه"؛ أي يجد الإثمَ ويُكتب عليه الذنبُ بنيته قصدَ الفسق. "ووِزرُهما"؛ أي: وِزْرُ القِسم الرابع والثالث "سواءٌ". "صحيح". ولا منافاةَ بين هذا وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تجاوَزَ عن أمتي ما وسوستْ به صدورُها ما لم تَعملْ به"؛ لأنه قد عَملَ هنا بالقول اللساني، والمُتجاوَزُ عنه هو القولُ النفسيُّ. * * * 4086 - عن أنسٍ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله تعالى إذا أرادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا استَعْمَلَهُ"، فقيل: وكيفَ يستعمِلُهُ يا رسولَ الله؟ قال: "يُوفِّقُهُ لِعَمَلٍ صالِحٍ قبلَ المَوْتِ". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تعالى إذا أراد بعبدٍ خيرًا استعملَه، فقيل: فكيف يستعمله يا رسولَ الله؟ قال: يوفِّقه لعملٍ صالحٍ قبل الموت". * * * 4087 - عن شَدَّادِ بن أَوْسٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الكَيسُ مَنْ دانَ نفسَهُ وعَمِلَ لِما بعدَ المَوْتِ، والعاجِزُ مَنْ أتبَعَ نفسَهُ هَواها وتَمنَّى على الله تعالى". "عن شداد بن أوس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الكَيسُ" يريد به:

5 - باب التوكل والصبر

العاقل الحازم المحتاط في الأمور. "مَن دانَ نفسَه"؛ أي: أذلَّها واستعبدَها، وقيل: أي حاسبَها في الدنيا أنه عملَ خيرًا أم شرًا؟ فإن كان خيرًا حمدَ الله، وإن كان شرًّا تابَ واستغفرَ وندمَ قبل أن يُحاسَبَ في الآخرة. "وعملَ لِمَا بعدَ الموت، والعاجزُ مَن أَتبعَ نفسَه هواها"؛ أي: أَعطَى ما أرادتْ من المحرَّمات. "وتمنَّى على الله"؛ يعني: العفوَ والمغفرةَ والجنةَ من غير توبةٍ واستغفارٍ. * * * 5 - باب التَّوَكلِ والصَّبرِ " باب التوكل والصبر" والمراد بـ (التوكل): وهو التوكل الخاص، هو أن يتيقَّن أنه لا يصيبه إلا ما كَتَبَ الله له من النفع والضر. مِنَ الصِّحَاحِ: 4088 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يدخُلُ الجَنَّةَ منْ أُمَّتي سَبعُونَ ألفًا بغيرِ حِسابٍ، هُمُ الذينَ لا يَسْتَرْقونَ، ولا يتَطيَّرونَ، وعلى ربهمْ يَتوَكَّلونَ". "من الصحاح": " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفًا بغير حسابٍ، هم الذين لا يَسْتَرْقُون"؛ أي: لا يطلبون الرقيةَ. "ولا يتطيَّرون، وعلى ربهم يتوكلون": وهذا من صفة الأنبياء والأولياء

المُعرِضين عن أسباب الدنيا، وهي درجة الخواصِّ، وأما العوامُّ فقد رُخِّصَ لهم الرقية والتداوي بالعلاج، كما مرَّ في بابها. * * * 4089 - عن ابن عبَّاسٍ قال: خَرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا فقال: "عُرِضَتْ عليَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ يَمرُّ النَّبيّ ومَعَهُ الرَّجُلُ، والنَّبيُّ ومَعَهُ الرَّجُلانِ، والنَّبيُّ ومَعَهُ الرَّهْطُ، والنبيُّ وليسَ مَعَهُ أَحَدٌ، فرأَيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فَرجَوْتُ أنْ يكونَ أُمَّتي، فقيلَ: هذا موسَى في قومِهِ، ثُمَّ قيلَ لي: انظُرْ هكذا، فرأيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فقيلَ: انظُرْ هكذا وهكذا، فرأيتُ سَوادًا كثيرًا سَدَّ الأُفُقَ، فقيلَ: هؤلاءِ أُمَّتُكَ، ومعَ هؤلاءَ سَبْعونَ ألفًا قُدَّامَهُمْ، يَدخُلونَ الجنَّةَ بغيرِ حِسابٍ؛ هُمُ الذينَ لا يَتَطيَّرونَ، ولا يَسْتَرْقونَ، ولا يَكْتَوُونَ، وعلَى ربهمْ يتَوكَّلونَ"، فقامَ عُكَّاشَةُ بن مِحْصَنٍ فقالَ: ادعُ الله أنْ يَجعَلَني منهُمْ، فقال: "اللهمَّ! اجْعَلْهُ منهُمْ"، ثمَّ قامَ رَجُلٌ آخرُ فقال: ادع الله أنْ يَجعلَني منهُمْ، قال: "سَبقَكَ بها عُكَّاشَةُ". "وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: عُرضتْ عليَّ الأممُ"؛ أي: أراني الله! لأنبياءَ مع أممهم. "فجعل"؛ أي: طفقَ. "يمرُّ النبيُّ ومعه الرجلُ"؛ يعني: لم يؤمن به إلا رجلٌ. "والنبيُّ ومعه الرجلان، والنبيُّ ومعه الرَّهطُ، والنبيُّ وليس معه أحدٌ، فرأيتُ سوادًا كثيرًا سدَّ الأفق"؛ أي: سترَه من كثرته، "فرجوت أن تكون أمتي، فقيل: هذا موسى في قومه، ثم قيل لي: انظر فرأيت سوادًا كثيرًا سد الأفق، فقيل لي: انظر هكذا وهكذا، فرأيت سوادًا كثيرًا سدَّ الأفقَ، فقيل: هؤلاء

أمتُك، ومع هؤلاء سبعون ألفًا قُدَّامَهم يدخلون الجنةَ بغير حساب، هم الذين لا يتطيَّرون ولا يَسْتَرْقُون ولا يَكْتَوُون" من: الكَيِّ. "وعلى ربهم يتوكلون، فقام عُكاشة" - بضم العين وتشديد الكاف وتخفيفها - "ابن مِحْصَن فقال: يا رسولَ الله! ادع الله أن يجعلَني منهم، فقال: اللهم اجعلْه منهم، ثم قام رجل آخر"، قيل: هو سعد بن عبادة. "فقال: يا رسولَ الله! ادع الله أن يجعلَني منهم، فقال سَبَقَك بها"؛ أي بتلك الدعوة والمسألة "عُكاشةُ"؛ لأنه لم يُؤذَن له في ذلك المجلس بالدعاء إلا لواحد. وفيه: تحريض للناس على المسارعة إلى الخيرات وطلب الأدعية الصالحة من الصالحين والصالحات؛ لأن في التأخير آفاتٍ، وقيل: كان ذلك الرجلُ منافقًا ولم يكن مستحقًا لتلك المنزلة، فأجابه - صلى الله عليه وسلم - بكلامٍ محتمل، ولم يُرِدِ التصريحَ له بأنك لستَ منهم؛ لحسن خُلقه. * * * 4090 - عن صُهَيْبٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمنِ، إِنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ له خيرٌ، وليسَ ذلكَ لأَحَدٍ إلَّا للمُؤْمنِ، إنْ أصابتْهُ سرَّاءُ شَكَرَ فكانَ خيرًا لهُ، وإنْ أصابتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فكانَ خَيْرًا لهُ". "عن صهيب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عجبًا لأمر المؤمن! إن أمرَه كلَّه له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابتْه سَرَّاء شكرَ فكان خيرًا له، وإن أصابتْه ضَرَّاءُ صبر فكان خيرًا له". * * * 4091 - وقال: "المُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وأَحَبُّ إلى الله مِنَ المُؤْمنِ

الضَّعيفِ، وفي كُلٍّ خيرٌ، اِحْرِصْ على ما ينفعُكَ، واستَعِنْ بالله ولا تَعْجزْ، وإنْ أصابَكَ شيءٌ فلا تَقُلْ: لَوْ أنِّي فَعَلْتُ كذا كانَ كذا وكذا، ولكنْ قُلْ: قَدَّرَ الله وما شاءَ فَعَلَ، فإنَّ لوْ تفتحُ عَمَلَ الشَّيطانِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المؤمنُ القويُّ"؛ أي: في الاعتقاد بالله وفي التوكل عليه، وقيل: أراد به: مَن صبر على مجالسة الناس وتحمُّل أذاهم وعلَّمهم الخيرَ. "خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف": الذي يفرُّ من الناس ولا يخالطهم؛ لعدم تحمُّل أذاهم، ولا ينفع إلا نفسَه. "وفي كلٍّ خيرٌ"؛ أي: في كلُّ مؤمنٍ خيرٌ؛ لقيام الإيمان به، وقيل: أي: في كل أمرٍ من الاختلاط بالناس والاعتزال عنهم خيرٌ من وجهٍ، إلا أن الاختلاطَ معهم أَولى. "احرصْ على ما ينفعُك، واستعنْ بالله ولا تَعجَزْ"؛ أي: عن العمل بما أُمرت، ولا تتركْه مقتصرًا على الاستعانة، بل كمالُ الإيمان أن ينتفعَ أحدُهما بالآخر. "وإن أصابك شيء" مما تكرهه "فلا تقل: لو أني فعلتُ كذا كان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله"؛ أي: كذا وكذا؛ أي: كان ذلك بتقدير الله ومشيئته، "وما شاء الله فعل"، لا مَردَّ له، ومعناه: لا تُنازِعِ القَدَرَ ولا تتأسَّفْ على الفائت. "فإن لو"؛ أي لفظة (لو) "تفتح عملَ الشيطان"؛ أي: تقع فاتحةَ كلامٍ يفضي إلى عمل الشيطان؛ لأن التكذيبَ بالقَدَر وعدمَ الرضا بصنع الله من عمل الشيطان، قيل: النهي عن تلفظ (لو) إنما هو لمن قاله معتقدًا ذلك حتمًا، وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في قلب الحج إلى العمرة: "لو أني استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ لم

أَسُقِ الهَدْيَ" فليس من هذا القبيل، وإنما هو كلامٌ قَصدَ به تطييبَ قلوبهم، وتحريضَهم على التحلُّل من أعمال الحج إلى أعمال العمرة، كما مرَّ في بابه. * * * مِنَ الحِسَان: 4092 - عن عمرَ بن الخَطَّاب - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لوْ أنَّكمْ تتوكَّلونَ على الله حَقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كما يَرْزُقُ الطَّيرَ، تَغْدو خِماصًا، وتَرُوحُ بِطانًا". "من الحسان": " عن عمر بن الخطاب - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لو أنكم تتوكلون على الله حقَّ توكُّلهِ"؛ يعني: لو اعتمدتم على الله اعتمادًا تامًا، وعلمتُم أن الله لا يُخلِف وعدَه فيما قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6]. "لَرَزقَكم"؛ أي: لَوصَّلَ إليكم رزقَكم من غير سعي منكم. "كما يَرزُق الطيرَ؛ تغدو"؛ أي: بُكرة. "خِماصًا" بكسر الخاء المعجمة: جمع خميص، وهو الضامر، والمراد هنا: الجائع. "وتَرُوحُ"؛ أي: عِشاءً "بِطَانًا" بكسر الباء: جمع بطين، وهو عظيم البطن، والمراد: الشِّبَع، يُحكى: أن فرخَ الغراب عند خروجه من بيضته يكون أبيضَ اللون، فيُنكره الغراب، فيتركه ويذهب، ويبقى الفرخُ جائعًا، فيُرسل الله إليه الذبابَ والنملَ، فيلتقطهما إلى أن يَكبرَ قليلًا ويسودَّ، فيرجع إليه الغراب، فيراه أسودَ، فيضمُّه إلى نفسه ويتعهَّده، فهذا يَصِلُ إليه رزقُه بلا سعي، وهو المراد في الحديث. قيل: هذا الحديث ليس لمنع الناس عن الاكتساب

والاحتراف، بل لتعليمهم وتعريفهم أن الرازقَ هو الله تعالى. قال الشيخ أبو حامد: مَن ظنَّ أن التوكلَ تركُ الكسب بالبدن والتدبير بالقلب فقد أخطَأ؛ فإنه حرامٌ في الشرع. وقال الإمام القُشيري: محلُّ التوكل القلبُ، والحركةُ بالظاهر لا تنافيه. * * * 4093 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيُّها النَّاسُ! ليسَ مِنْ شيءٍ يُقرِّبُكُمْ إلى الجَنَّةِ ويُباعِدُكُمْ مِنَ النارِ إلَّا قدْ أَمَرْتُكُمْ بهِ، وليسَ شيءٌ يُقرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ ويُباعِدُكُم مِنَ الجنَّةِ إلَّا قدْ نَهيتُكُمْ عنهُ، وإنَّ الرُّوحَ الأَمينَ - ويُروى: وإنَّ رُوحَ القُدُسِ - نَفَثَ في رُوْعِي: أنَّ نَفْسًا لنْ تموتَ حتَّى تَستكمِلَ رِزْقَها، ألا فاتَّقُوا الله وأَجْمِلُوا في الطَّلَبِ، ولا يَحمِلَنَّكُمُ استِبْطاءُ الرِّزْقِ أنْ تَطلُبوهُ بمَعاصِي الله، فإنَّهُ لا يُدرَكُ ما عِندَ الله إلَّا بطاعتِهِ". "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أيها الناسُ! ليس من شيء"، (من): زائدة. "يقرِّبكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا قد أمرتُكم به، وليس شيءٌ يقرِّبكم من النار ويباعدكم من الجنة إلا قد نَهيتُكم عنه، وإن الروحَ الأمينَ"؛ يعني: جبريل عليه الصلاة والسلام. "ويروى: وإن رُوحَ القدسِ نفثَ"؛ أي أَوحَى أو نفخَ. "في روعي"؛ أي في نفسي وقلبي، والغرض: أنه أَوحَى إليه وحيًا غيرَ جَلِىٍّ. "أن نفسًا" بفتح الهمزة ويجوز الكسر؛ لأن الإيحاءَ في معنى القول.

"لن تموتَ حتى تستكملَ رزقَها، ألا فاتقوا الله وأَجمِلُوا في الطلب"؛ أي: اكتسبوا المالَ الحلالَ بوجهٍ جميلٍ؛ أي: شرعي. "ولا يَحمِلَنَّكم استبطاءُ الرزق أن تطلبوه بمعاصي الله"، إنما قال: "استبطاء الرزق) دون إبطائه؛ لأن الرزقَ لا يُـ[ـستـ]ــــــبطأ عن وقته، ولكن يُستعجل قبل وقته المقدَّر، فإذا لم يأتِ قبل ذلك الوقت استُبطِئ. "فإنه": الضمير للمشار. "لا يُدرَك ما عند الله، من الجنة التي وعدَها الله تعالى للمؤمنين، أو من الرزق "إلا بطاعته". فإن قلت: قد يُدرَك الرزق بالمعاصي؟ قلت: ما يُدرَك به لا بركةَ فيه، فكأن إدراكَه كعدمه، أو أُريد بالإدراك: الطلب؛ لأنه لازمُه، أو المراد به: الرزق الحلال. * * * 4094 - عن أبي ذَرٍّ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "الزَّهادَةُ في الدُّنْيا ليستْ بتَحْريم الحَلالِ، ولا إِضَاعَةِ المالِ، ولكنِ الزَّهادَةُ في الدُّنْيا أنْ لا تكونَ بما في يَديْكَ أوْثَقَ مِمَّا في يَدَي الله، وأنْ تكونَ في ثَوابِ المُصيبَةِ إذا أَنْتَ أُصِبْتَ بها أرْغَبَ فيها لوْ أنَّها أُبقِيَتْ لكَ", غريب. "عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الزَّهادةُ في الدنيا"؛ أي: تركُ الرغبة فيها. "ليست بتحريم الحلال"؛ أي: بأن تحرِّم حلالًا على نفسك بألا تأكلَ لحمًا، ولا تَلبَسَ ثوبًا جديدًا؛ فإن الله تعالى قال: {لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87].

"ولا إضاعة المال، ولكن الزَّهادةَ في الدنيا أن لا تكونَ بما في يدَيك أوثقَ مما في يد الله"؛ يعني: ليكنِ اعتمادُك بوعد الله من إيصال الرزق إليك أقوى وأشدَّ مما في يدك من المال؛ فإن ما في يدك منه يمكن تلفُه، وما عند الله باقٍ. "وأن تكونَ في ثواب المصيبة إذا أنت أُصبتَ" بضم الهمزة: مجهول المخاطَب. "بها"؛ أي: بالمصيبة. "أرغبَ فيها لو أنها أُبقيت لك"؛ أي لو أن تلك المصيبةَ مُنعت وأُخِّرت عنك، وهو حال من فاعل (أرغب)، المعنى: أن تكون في وصول المصيبة وقتَ إصابتها أرغبَ من نفسك في المصيبة حالَ كونك غيرَ مصابٍ بها؛ لأنك لا تُثاب بوصولها إليك، ويفوتك الثوابُ إذا لم تَصِلْ إليك. "غريب". * * * 4095 - عن ابن عبَّاسٍ قال: "كُنْتُ خَلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمًا، فقال: يا غلامُ! احْفَظِ الله يَحْفَظْكَ، احفَظِ الله تَجِدْهُ تُجاهَكَ، إذا سَأَلْتَ فاسأَلِ الله، وإذا استَعَنْتَ فاستَعِنْ بالله، واعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ لو اجتَمَعَتْ على أنْ يَنفَعُوكَ بشيءٍ لمْ يَنفعوكَ إلا بشَيْءٍ قدْ كتبَهُ الله لك، ولو اجتمَعُوا على أنْ يَضرُّوكَ بشيءٍ لمْ يَضرُّوكَ إلا بشَيْءٍ قدْ كتبَهُ الله عليكَ، رُفِعَتْ الأَقْلامُ، وجَفَّتْ الصُّحُفُ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: كنتُ خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا، فقال: يا غلامُ: احفظِ الله"؛ أي: احفظْ حدودَ الله، وامتثلْ أوامَره، واجتنبْ نواهيَه. "يحفظْك": في الدنيا من الآفات والمكروهات، وفي الآخرة من العقاب والدركات.

"احفظِ الله تجدْه تجاهَك"؛ أي: تلقاءَك؛ يعني: إذا حفظتَ طاعةَ الله وجدتَه يحفظك وينصرك في مهماتك أينما توجهت من الأمور، ويسهِّل أمورَك التي تقصدها. "إذا سألتَ فاسألِ الله، وإذا استعنتَ فاستعنْ بالله، واعلم أن الأمةَ لو اجتمعتْ على أن ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرُّوك بشيءٍ لم يضرُّوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلامُ"؛ أي: أقلامُ التقدير عن كتابة الأقدار والأقضية. "وجفَّت الصُّحف": التي دُؤنَ فيها أقضية المخلوقين، فلا توضَع عليها الأقلامُ بعدُ بتدوين شيء آخر، وعبَّر عن سبقِ القضاء والقَدَر برفع القلم وجفاف الصحيفة تشبيهًا بفراغ الكاتب في الشاهد من كتابته. * * * 4096 - عن سَعْدٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنْ سَعادةِ ابن آدمَ رِضاهُ بما قَضَى الله لهُ، ومِنْ شَقاوَةِ ابن آدمَ تركُهُ استِخارَةَ الله، ومِنْ شَقاوَةِ ابن آدمَ سَخَطُهُ بِما قَضَى الله لهُ"، غريب. "وعن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سعادةِ ابن آدم رضاه بما قضى الله له، ومِن شقاوة ابن آدم تركُه استخارةَ الله"، والاستخارة: طلب الخير، ومعنى تركه ذلك: ألا يرضى بما استخار الله له ويتركَه. "ومِن شقاوة ابن آدم سخطُه"؛ أي: غضبه. "بما قضى الله تبارك وتعالى" من الًافات والفقر والمرض وغير ذلك. "غريب". * * *

6 - باب الرياء والسمعة

6 - باب الرِّياءِ والسُّمْعَةِ " باب الرِّياء والسُّمعة" يقال: فعلَ ذلك سُمعةً؛ أي: ليراه الناسُ من غير أن يكونَ قصدَ به التحقيقَ. مِنَ الصِّحَاحِ: 4097 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأموالِكُمْ، ولكنْ يَنْظُرُ إلى قُلوبكُمْ وأعمالِكُمْ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله لا ينظر"؛ أي: نظرَ العطف والرحمة والاختيار. "إلى صوركم" المجردة عن السِّيَر المرضية. "وأموالكم" العارية عن الخيرات. "ولكن ينظر إلى قلوبكم" التي هي موضع التقوى. "وأعمالكم" التي يُتقرَّب بها إلى الله، جعل نظرَه إلى ما هو سِرٌّ ولُبٌّ، وهو القلب وخالص العمل؛ لأنه تعالى منزَّه عن شبه المخلوقين، فإن نظرَهم وميلَهم إلى الصور المعجبة والأموال الفائقة. * * * 4098 - وقال: "قالَ الله تعالَى: أنا أغنَى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلًا أشركَ فيهِ معي غَيْري تركتُهُ وشِرْكهُ". وفي رِوايةٍ: "فأنا منهُ بَريءٌ, هوَ للذي عملَهُ".

"عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشِّرك، مَن عملَ عملًا أَشركَ فيه معي غيري تركتُه وشِركَه": وقد مر هذا في (كتاب الإيمان). "وفي رواية: فأنا منه"؛ أي: من ذلك العمل "بريء، وهو للذي عملَه"؛ أي: ذلك العملُ لفاعله؛ يعني: تركتُ ذلك العملَ وفاعلَه، لا أَقبلُه ولا أُجازي عليه؛ لأنه لم يَعملْه لي. * * * 4099 - وعن جُنْدَبٍ قال: قال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ الله بهِ، ومَنْ يُرائِي يُرائي الله بهِ". "وعن جُندب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن سَمَّعَ سَمَّعَ الله به"، يقال: سَمَّعتُ به تسميعًا وسُمعة: إذا شهرتُه، يريد: مَن عمل عملًا مِن الطاعات لا على وجه الإخلاص، بل ليشتهرَ بين الناس بالصلاح جازاه الله بمثل فعله، بأن يُشهِرَ عيوبَه يومَ القيامة، ويفضحَه على رؤوس الأشهاد. "ومَن يُرائي يُرائي الله به"؛ يعني: مَن فعل فعلًا من الأفعال الصالحة ليراه الناس ويعطوه شيئًا، أو يمدحوه على فعله، يجزيه الله جزاءَ المُرَائين، بأن يقول له: اطلبْ جزاءَ فعلِك ممن فعلتَه لأجله. * * * 4100 - وعن أبي ذَرٍّ قال: قِيلَ لِرَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأَيْتَ الرَّجُلَ يَعْمَلُ العَمَلَ مِنَ الخيرِ ويَحْمَدُهُ النَّاسُ عليهِ؟ قال: "تلكَ عاجِلُ بُشْرَى المُؤْمنِ". وفي رِوايةٍ: "ويُحِبُّهُ النَّاسُ عليهِ".

"وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتَ الرجلَ"؛ أي: أخبرْني بحال الرجل. "يعمل العملَ من الخير" خالصًا لله. "ويحمدُه الناسُ عليه": هل يبطل ثوابُه بمدح الناس إياه أم لا؟ "قال: تلك عاجلُ بشرى المؤمن"؛ يعني: ثوابُهم العاجلُ في الدنيا بأن يُوقِعَ المحبةَ في قلوب الناس، والذِّكر بالخير على ألسنتهم، وأما ثوابُهم في الآخرة فالجنةُ واللقاءُ. "وفي رواية: ويحبُّه الناس عليه"؛ أي على الخير. * * * مِنَ الحِسَان: 4101 - عن أبي سعيدِ بن أبي فَضالَةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جَمَعَ الله النَّاسَ يومَ القِيامَةِ ليومٍ لا ريبَ فيهِ نادَى مُنادٍ: مَنْ كانَ أَشْرَكَ في عَمَلٍ عَمِلَهُ لله أَحَدًا فَلْيَطْلُبْ ثَوابَهُ مِنْ عندِ غيرِ الله، فإنَّ الله أَغْنَى الشُّرَكاءَ عَنِ الشِّرْكِ". "من الحسان": " عن أبي سعيد بن أبي فَضَالة": بفتح الفاء والضاد المعجمة. "عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا جمعَ الله الناسَ يومَ القيامة ليومٍ لا ريبَ فيه نادى منادٍ: مَن كان أَشركَ في عمل عملَه لله أحدًا فليطلبْ ثوابَه من عند غير الله؛ فإن الله أغنى الشركاء عن الشِّرك". * * *

4102 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو: أنَّه سَمعَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "مَنْ سَمَّعَ النَّاسَ بعَمَلِهِ سَمَّعَ الله بهِ أَسامعَ خلقِهِ وحَقَّرَهُ وصَغَّرَهُ". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أنه سمع رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: مَن سَمَّعَ الناسَ بعمله سَمَّعَ الله به أسامعَ خلقِه": بالنصب على المفعولية، جمع: أَسْمُع؛ أي: يفضحه يومَ القيامة، ويروى بالرفع: صفة لله؛ أي: الذي هو أسامعُ خلقِه. "وحقَّره وصغَّره". * * * 4103 - عن أنسٍ: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "مَنْ كانتْ نِيَّتُهُ طَلَبَ الآخِرَةِ جَعَلَ الله غِناهُ في قلبهِ، وجَمَعَ لهُ شَمْلَهُ، وأتَتْهُ الدُّنْيا وهي راغِمَة، ومَنْ كانتْ نيَّتُهُ طَلَبَ الدُّنْيا جَعَلَ الله الفَقْرَ بينَ عَيْنَيْهِ، وشَتَّتَ عليهِ أَمْرَهُ، ولا يأتيهِ منها إلا ما كُتِبَ لهُ". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَن كانت نيتُه طلبَ الآخرة جعلَ الله غناه في قلبه": بأن جعله قانعًا بالكفاف، ولا يُتعب نفسَه في طلب الزيادة، فهذا هو الغنى الحقيقي. "وجمعَ له شملَه"؛ أي: متفرقاتِه؛ يعني: جعله الله مجموعَ الخاطر بتهيئة أسبابه من حيث لا يدري. "وأتتْه الدنيا وهي راغمةٌ: الواو للحال؛ أي: ذليلةٌ حقيرةٌ، لا يحتاج في طلبها إلى سعي كثير. "ومَن كانت نيتُه طلبَ الدنيا جعل الله الفقرَ بين عينَيه، وشتَّت"؛ أي فرَّق. "عليه أمرَه، ولا يأتيه منها إلا ما كُتِبَ له". * * *

4104 - عن أبي هُريرةَ قال: قلتُ يا رسولَ الله! بَيْنا أنا في بيتي في مُصَلَّايَ، إذْ دَخَلَ عليَّ رَجُلٌ، فأَعْجَبني الحالُ التي رآني عليها، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَكَ الله يا أبا هُريرةَ! لكَ أجرانِ: أَجْرُ السِّرِّ، وأَجْرُ العلانِيَّةِ"، غريب. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسولَ الله! بينا أنا في بيتي في مُصلَّاي إذ دخل عليَّ رجل، فأعجبتْني الحال التي رآني عليها"؛ أي: أنه أعجبه ثناءُ الناس، لا أنه أعجبه ليعلمَ منه ذلك ويعظمَ عليه؛ لأنه حينَئذٍ رياءٌ، وقيل: إنما أعجبه رجاءَ أن يعملَ مَن رآه بمثل عمله، فيكون له مثلُ أجره؛ لأن "مَن سَنَّ سُنةً حسنة كان له أجرُها وأجرُ مَن عملَ بها". "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رحمك الله يا أبا هريرة! لك أجرانِ: أجرُ السِّرِّ" من جهة إخلاصك. "وأجرُ العلانية" من جهة اقتداء الناس بك. "غريب". * * * 4105 - عن أبي هُريرةَ قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخرُجُ في آخرِ الزَّمانِ رِجالٌ يَختِلونَ الدُّنْيا بالدِّينِ، يَلْبَسونَ للنَّاسِ جُلودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّينِ، أَلسِنتهُم أَحْلَى مِنَ السُّكَّرِ، وقُلوبُهُمْ قُلوبُ الذِّئابِ، يقولُ الله تعالى: أَبي يَغترُّونَ؟ أمْ عليَّ يَجْترِئُونَ؟ فبي حَلَفْتُ، لأَبْعَثَنَّ على أُولئِكَ منهُمْ فِتنةً تَدَعُ الحَليمَ فيهِمْ حَيْرانَ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يخرج في آخر الزمان رجالٌ يَختِلون الدنيا"؛ أي: يُرادون أهلَها بالخداع. "بالدين"؛ أي بعمل أهل الدِّين.

"يَلبَسون للناس جلودَ الضأن"؛ أي: يَلبَسون الصوفَ؛ ليظنَّهم الناسُ زهَّادًا عبَّادًا تاركين للدنيا. "من اللِّين" أراد به: التخلُّق والتواضع في وجوه الناس ليصيروا مُريدين لهم. "ألسنتُهم أحلى من السكَّر، وقلوبُهم قلوبُ الذئاب"؛ أي: مسودَّة من شدة حب الدنيا والجاه وكثرة العداوة والبغض والصفات الذميمة الراسخة في قلوبهم. "يقول الله تعالى: أبي" الهمزة: للاستفهام؛ أي: أبإهمالي إياهم "يغترُّون؟ " المراد بالاغترار هنا: عدم الخوف من الله، وترك التوبة من فعلهم القبيح؛ أي: أفلا يخافون من سخطي وعقابي؟ "أم عليَّ يجترِئون" بمكرهم الناسَ في إظهار الأعمال الصالحة والاجتراء الانبساط والتشجع؟ "في" الباء: للقَسَم؛ أي: بحقِّ عظمتي. "حَلفتُ لأَبعثَنَّ على أولئك"؛ أي: على أولئك الرجال و (مِن) في "مِنهم": للتبيين. "فتنة"؛ أي: عذابًا، أو متعلقة بـ (فتنة)؛ أي: فتنةً ناشئةً منهم. "تَلأَعُ"؛ أي: تترك تلك الفتنةُ. "الحليمَ"؛ أي: العالِمَ العاقلَ. "فيهم حيرانَ"؛ أي: متحيرًا لا يَقدِر على دفع ذلك العذاب عن نفسه؛ لشدته وصعوبته، وفي بعض النسخ: "الحكيم" بالكاف، معناه واحد. * * *

4106 - عن ابن عُمَرَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله تباركَ وتعالى قال: لقدْ خَلقْتُ خَلْقًا ألسِنتُهُمْ أحلَى مِنَ السُّكَّرِ، وقُلوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ، فبي حَلَفْتُ لأُتِيحَنَّهُمْ فِتْنَةً تَدَعُ الحَليمَ فيهِمْ حَيْرانَ، فبي يغترُّونَ" أمْ عليَّ يَجْتَرِئُونَ؟ "، غريب. "عن ابن عمر - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إن الله تبارك وتعالى قال: لقد خلقتُ خلقًا ألسنتُهم أحلى من السكَّر، وقلوبُهم أمرُّ من الصَّبر، بكسر الباء: الدواء المُرُّ. "فبي حلفت لأُتيحنَّهم"؛ أي: لأَقدرَنَّ لهم "فتنة تَدَعُ الحليمَ فيهم حيرانَ، فبي يغترُّون أم عليَّ يجترئون؟! غريب". * * * 4107 - عن أبي هُريرةَ قال: قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكُلِّ شَيءٍ شِرَّة، ولِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فإنْ كانَ صاحبُها سَدَّدَ وقارَبَ فارْجُوهُ، وإنْ أُشِيرَ إليهِ بالأَصابعِ فلا تعُدُّوهُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لكل شيءٍ شِرَّةً": وهي - بكسر الشين المعجمة وتشديد الراء المهملة المفتوحة - النشاط والرغبة والجِدَّة في العبادة. "ولكل شِرَّةٍ فترة"؛ يعني: أن العابدَ يُبالغ فيها في أول أمره، وكلُّ مُبالِغٍ يَفتُر وتسكُن جدته ومبالغته بعدَ حين. "فإنْ صاحبُها"؛ أي: صاحبُ الشِّرَّة. "سدَّد"؛ أي قصدَ السدادَ؛ يعني: استقام في العمل من غير غلوٍّ ولا تقصيرٍ.

"وقارَبَ"؛ أي: دَنَا من المتوسط. "فارجُوه"؛ أي: فكونوا على رجاء منه على الخير؛ فإن مَن سلك الطريقَ المتوسطَ يَقدِر على المداومة والمواظبة، وأفضلُ الأعمال عند الله أدومُها وإن قلَّ، وإنْ بالَغَ في العمل وأَتعبَ نفسَه عجزَ عن المداومة على ذلك وانقطعَ عنه، بل ربما إذا بالَغَ وأقبلَ الناسُ عليه بوجوههم اغترَّ بنفسه، وتداخلَه أنه خيرٌ من غيره، فيصير أحمقَ مُعجَبًا بنفسه متكبرًا بعمله، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "وإنْ أُشير إليه بالأصابع"؛ أي: وإن صار مشهورًا معروفًا بالعبادة "فلا تَعدُّوه"؛ أي: لا تعدوه شيئًا؛ يعني: فلا تعتقدوا فيه صلاحًا، ولا تتوقعوا فيه فلاحًا، ولا تعدُّوه من أهل الخير، وهذا في حقِّ مَن بالَغَ في العبادة للشهرة، وأما مَن خلصتْ نيتُه وصدقتْ طويتُه فبمعزلٍ عن هذا، ومِن هذا مَنِ اجتهدوا في العبادة كلَّ الاجتهاد، فرُّوا مِن الناس وسكنوا المواضع الخالية؛ حذرًا من الرياء واجتماع الناس إليهم، فلما تمَّ لهم الأمرُ سَكنوا البلادَ ودَعَوُا العبادَ إلى الله، واقتصدوا في العبادة والرياضة، ولم يغترُّوا بإقبال الناس عليهم؛ لأن قلوبَهم صارتْ مطمئنةً بالحق، مزيَّنةً بنور التجلِّي، فصارت كالبحر لا تكدِّره القاذورات؛ لصفاء خواطرهم. * * * 4108 - وعن أنسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بِحسْبِ امرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أنْ يُشارَ إليهِ بالأَصابعِ في دينٍ أو دُنْيا، إلَّا مَنْ عَصَمَهُ الله". "وعن أنس - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بحسْبِ امرئ": الباء زائدة؛ أي: يكفيه. "من الشرِّ أن يُشارَ إليه بالأصابع في دِينٍ أو دنيا"؛ لأن مَن اشتُهر في خصلةٍ من الخصال الدينية أو الدنيوية قلَّما يَسلَم من الآفات الخفية، كالعُجب والكِبْر والرِّياء والسُّمعة وغير ذلك؛ "إلا مَن عصمَه الله".

7 - باب البكاء والخوف

روي: أنه قيل للحسن البصري: إن الناس أشاروا إليك بالأصابع؟ فقال: لا يعني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ذلك؛ وإنما عَنَى به المُبتدِعَ في دِينه، الفاسقَ في دنياه. * * * 7 - باب البكاء والخوف (باب البكاء والخوف) مِنَ الصِّحَاحِ: 4109 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نَفْسي بيدِه، لوْ تَعْلَمونَ ما أعلمُ لبَكَيْتُمْ كثيرًا، ولضحِكْتُمْ قَليلًا". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده! لو تعلمون ما أعلم"؛ أي: من شدة العذاب وغضب الله وصفة النار. "لَبكيتُم كثيرًا" من خشية الله. "ولَضحكتم قليلًا"؛ فإن قيل: الخطاب إن كان للمؤمنين خاصة فليس ثمةَ ما يوجب تقليلَ الضحك وتكثيرَ البكاء؛ لأن المؤمنَ وإن دخل النارَ عاقبتُه الجنة لا محالَة مخلَّدًا فيها، فكان مدةُ ما يوجب البكاءَ بالنسبة إلى ما يوجب الضحكَ والسرورَ نسبةَ شيءٍ يسيرٍ إلى ما لا يتناهى، وذلك يوجب العكسَ، وإن كان عامًا فليس للكافر ما يوجب ضحكًا أصلًا؟ قلنا: الخطاب للمؤمنين، وخرج في مقام ترجيح الخوف على الرجاء إخافةً على الخاتمة. * * *

4110 - وقال: "والله لا أَدْري وأنا رسولُ الله ما يُفْعَلُ بي ولا بِكُمْ". "عن أم العلاء الأنصارية - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله لا أدري وأنا رسولُ الله": الواو فيه للحال. "ما يُفعَل بي ولا بكم"، (ما) هذه: للاستفهام، لا يجوز حملُ نفي الدراية على تردده - صلى الله عليه وسلم - في مآل أمره؛ لدلالة الكتاب والسُّنة على اجتبائه تعالى إياه، بل يُحمل على نفي علم الغيب عن نفسه بالمقدور والمكنون من أمره وأمر غيره، وكان هذا القولُ منه - صلى الله عليه وسلم - حينَ قالت امرأ في حقِّ عثمان بن مظعون لمَّا تُوفي: هنيئًا لك الجنة؛ زجرًا لها على سوء الأدب بالحكم على الغيب، وقيل: كان قبل نزول: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]. قال الحسن البصري: معناه: لا أدري أموتُ أم أُقتل؟ ولا أدري ما يُفعل بكم مثلَ ما فُعل بالأمم المكذِّبة من رمي الحجارة من السماء والخَسف ومسخ الصُوَر أم لا؟ * * * 4111 - وقال: "عُرِضَتْ عليَّ النَّارُ، فَرَأَيتُ فيها امرَأةً منْ بني إسرائيلَ تُعذَّبُ في هِرَّةٍ لها، رَبَطَتْها فلم تُطْعِمْها، ولم تَدعْها تأكُلُ مِنْ خَشاشِ الأَرْضِ حتَّى ماتتْ جُوْعًا، ورأيتُ عَمْرَو بن عامِرٍ الخُزَاعِيِّ يجُرُّ قُصْبَهُ في النَّارِ، وكانَ أوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوائِبَ". "وعن جابر وابن عمر - رضي الله عنهم - أنهما قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عُرضت عليَّ النارُ، فرأيت فيها امرأةً من بني إسرائيل تعذَّب في هِرَّة لها، ربطتْها فلم تطعمْها، ولم تَدَعْها تكل من خشاش الأرض حتى ماتت جوعًا": تقدم بيانه في فصل الصدقة.

"ورأيت عمرو بن عامر الخزاير يجرُّ قُصْبَه"بالضم ثم السكون؛ أي: أمعاءَه. "في النار، وكان"؛ أي: عمرو بن عامر "أولَ مَن سيَّب السوائبَ"؛ أي وضعَ تحريم السوائب، جمع: سائبة، وهي الناقة التي يُسيبها الرجل عند برئه من المرض أو قدومه من السفر، فيقول: ناقتي سائبة، فلا تُمنع من المرعى ولا تُردَّ عن حوضٍ ولا علفٍ، ولا يُحمل عليها، ولا تُركَب، ولا تُحلَب، فكان ذلك تقرُّبا منهم إلى أصنامهم، وقيل: هي الناقة التي وَلدت عشرَ إناث على التوالي، وكانوا يسيبون العبيد فيقولون للعبيد هي سائبة، فيَعتِق، ولا يكون ولاؤه لمُعتِقِه، ويضع مالَه إذا لم يكن له وارثٌ حيث شاء. * * * 4112 - عن زينَبَ بنتِ جَحْشٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ عليها يَوْمًا فَزِعًا يقولُ: "لا إله إلا الله، وَيْلٌ للعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قدِ اقتَرَبَ، فُتِحَ اليومَ منْ رَدْمِ يَأْجوجَ ومَأْجوجَ مِثْلُ هذهِ"، وحَلَّقَ بإِصبعَيْه، الإبهامِ والتي تَلِيها، قالتْ زينبُ: فقلتُ: يا رسولَ الله! أَفَنَهْلِكُ وفِينا الصَّالِحونَ؟ قال: "نعمْ، إذا كثُرَ الخَبَثُ". "وعن زينب بنت جحش - رضي الله تعالى عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل عليها يومًا فَزِعًا، يقول: لا إله إلا الله، ويلٌ للعرب، من شرٍّ قد اقترب"؛ أي: قد قَرُبَ خروج جيش يقاتل العربَ. "فُتِحَ اليومَ من رَدْمِ"؛ أي: سدِّ. "يأجوج ومأجوج" الذي بناه ذو القرنين، وهما طائفتان كافرتان من التُّرك. "مثلُ هذه، وحلَّق بإصبعيه الإبهام والتي تليها"؛ أي؛ جعلَهما حلقةً،

والمراد: أنه لم يكن في ذلك الردم ثقبةٌ إلى اليوم، وقد انفتحت فيه، وانفتاحها من علامات يوم القيامة، فإذا اتسعت خرجوا، وذلك بعد خروج الدجال، وسيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. "قالت زينب: فقلت: يا رسولَ الله! أفنَهلكُ وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كَثُرَ الخَبَثُ": مصدر: خَبُثَ يَخْبُثُ، والمراد به: الفسق والفجور. * * * 4113 - وقال: "لَيَكُونَنَّ في أُمَّتي أَقوامٌ يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ والحَريرَ والخَمْرَ والمَعازِفَ، ولَيَنْزِلَنَّ أَقوامٌ إلى جَنبِ عَلَمٍ يَروحُ عليهمْ بسارِحَةٍ لهُمْ، يأتيهمْ رَجُلٌ لحاجةٍ فيقولون: ارجِعْ إلينا غدًا، فيُبيتُهمْ الله، ويَضَعُ العَلَمَ، وَيمسَخُ آخرينَ قِردَةً وخنازيرَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ". "عن أبي عامر الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لَيكونَنَّ في أمتي أقوامٌ يستحلُّون الحِرَ": قيل: وهو مخفف الحِرْح، وهو الفَرْج؛ أي: يستحلُّون الفروج بالأنكحة الفاسدة أو بالزنا، زاعمين أن الرجلَ والمرأةَ إذا رضيَا حلَّ بينهما جميعُ أنواع الاستمتاعات، ويقولون: المرأة مثل البستان، فكما أن لصاحب البستان أن يبيحَ ثمرةَ بستانه لمن شاء؛ فكذلك يجوز للزوج أن يبيحَ زوجتَه لمن شاء؛ وهذا مُعتقَد الملاحدة والجوالق والقَلَندرية. ذكر صاحب "خلاصة الفتاوى": أن الشيخ الإمام عزَّ الدين الكندي أفتى بسمرقند بقتل الملاحدة والإباحي، والخاقان إبراهيم بن محمد طَمْغَاج خان قَبلَ فتواه وقتلَهم. "والحريرَ والخَمرَ والمعازفَ": - بفتح الميم - جمع مِعْزَف، من: العَزْف، اللعب بآلة اللهو بضرب، وقد عَزَفَ يَعزِف، كأنه أُخذ من عَزْف السحاب، وهو صوتها.

"ولَينزلَنَّ أقوامٌ إلى جنب عَلَمٍ؛ أي: جَبَلٍ. "يروح عليهم": أضمر فاعله اعتمادًا على فهم السامعين، يقال: راحَ القومُ ويروحوا؛ أي: ساروا أيَّ وقتٍ كان؛ يعني: يأتيهم راعيهم كلَّ حين. "بسارحهٍ"؛ أي بماشيةٍ "لهم": التي تَسرَح بالغداة من الغنم وغيرها ينتفعون بألبانها وأوبارها. "يأتيهم" يومًا من الأيام "رجلٌ لحاجةٍ": يلتمس منهم قُوتًا، فيمنعونه. "فيقولون له: ارجعْ إلينا غدًا" لنعطيَك. "فيبيتهم الله"؛ أي: يرسلُ عليهم العذابَ أو الهلاكَ بَيَاتًا. "ويضع العَلَمَ"؛ أي: الجبلَ على بعضهم حتى يهلكوا، فلم يُرَ منهم أثر. "ويمسخ آخرين"؛ أي: يغير صُوَرَ بعضهم. "قردةً وخنازيرَ إلى يوم القيامة"، ولم يبين في هذا الحديث مكانَهم ولا دِينَهم وإنما أفادَ أنه يكون في آخر الزمان نزولُ الفتن ومسخ الصور في هذه الأمة، كما كان في سائر الأمم. * * * 4114 - وقال: "إذا أَنْزَلَ الله بقَوْمٍ عَذابًا؛ أصابَ العَذابُ مَنْ كانَ فيهِمْ، ثُمَّ بُعِثُوا على أَعْمَالِهِمْ". "عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا أَنزلَ الله بقوم عذابًا أصاب العذابُ مَن كان فيهم" من الصالح والظالم والطالح؛ يعني: يصيب الصالحَ ما أصاب الطالحَ بشؤمه. "ثم بُعثوا" يومَ القيامة "على أعمالهم": يُبعث الصالحُ على أعماله الصالحة فيفوز، والفاجرُ على معصيته فيعذَّب. * * *

4115 - وقال: "يُبعَثُ كُلُّ عَبْدٍ على ما ماتَ عليهِ". "وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يُبعث كلُّ عبدٍ"؛ أي: يُحشَر يومَ القيامة "على ما مات عليه" من العمل. * * * مِنَ الحِسَان: 4116 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما رَأَيتُ مِثْلَ النَّارِ نامَ هارِيُها، ولا مِثْلَ الجنَّةِ نامَ طالِبُهَا". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما رأيتُ مثلَ النار"؛ أي: شدةً وهولًا. "نامَ هاربُها"؛ أي: صار غافلًا عنها؛ يعني: ينبغي للهارب من عذاب النار أن يفرَّ عن المعاصي والمناهي كلَّ الفرار؛ ليمكنَه الخلاصُ من أليم الجحيم. "ولا مثلَ الجنة"؛ أي: بهجةً وسرورًا. "نام طالبُها"؛ يعني: ينبغي لطالبها أن يجدَّ كل الجدِّ في الإتيان بالأوامر، طالبا بذلك الامتثالَ لحضرة ذي الجلال؛ ليمكنَه الوصولُ إلى النعيم المقيم. * * * 4117 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يَلِجُ النَّارَ مَن بَكَى مِنْ خَشيةِ الله حتَّى يَعودَ اللَّبن في الضَّرْعِ". "وعنه قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: لا يَلِجُ النارَ"؛ أي: لا يدخلُها.

"مَن بَكَى من خشية الله تعالى": هذا أرجى للعصاة التائبين الباكين من خشية الله. "حتى يعودَ اللَّبن في الضرع": وذلك من التعليقات المستحيلة. * * * 4118 - وعن أبي ذَرٍّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي أرَى ما لا تَرَوْنَ، وأَسْمَعُ ما لا تَسْمَعونَ، أَطَّتِ السَّماء, وحُقَّ لها أن تَئِطَّ، والذي نفسي بيدِه، ما فيها مَوْضعُ أَرْبَعِ أَصابعَ إلَّا ومَلَكٌ واضعٌ جَبْهَتَهُ ساجِدًا لله، والله لو تَعلمونَ ما أعلمُ لضَحِكتُمْ قليلًا ولَبكَيْتُمْ كثيرًا، وما تلذَّذْتُمْ بالنِّساءِ على الفُرُشاتِ، ولَخَرَجْتُمْ إلى الصُّعُداتِ تَجْأرونَ إلى الله"، قالَ أبو ذَرٍّ: يا لَيْتني كنتُ شَجَرةً تُعْضَدُ. "وعن أبي ذَرِّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إني أرى ما لا تَرَون، وأسمع ما لا تسمعون؛ أَطَّتِ السماءُ"؛ أي: صاحتْ وأنَّتْ من كثرة ما فيها من الملائكة، وفي "الصحاح ": الأطيط: صوت الرجل والإبل من ثقل أحمالها. وهذا مَثَلٌ وإيذانٌ بكثرتهم فيها، وتقريرُ عظمته تعالى وإن لم يكن ثَمَّ أطيطٌ. "وحُقَّ" على بناء المجهول؛ أي: ينبغي. "لها أن تئطَّ"؛ أي: تصيحَ وتئنَّ. "والذي نفسي بيده! ما فيها موضعُ أربعِ أصابعَ إلا ومَلَكٌ واضعٌ جبهتَه ساجدًا لله تعالى"، قيل: إن لها أطيطًا وخريرًا متناسبًا، منه أُخذت الألحان والتناسبات الموسيقية، وقيل: أطيطها من خشية الله تعالى، فإذا كانت تخشى من الله مع أنها جمادٌ وموضعُ عبادةِ الملائكة؛ فإن الإنسانَ أَولى بأن يخشى، مع أنه ملَّوثٌ بالذنوب، وقيل: أطيطها من ازدحام الملائكة فيها في السجود.

"والله لو تعلمون ما أعلم لَضحكتُم قليلًا ولَبكيتُم كثيرًا، وما تلذَّذتُم بالنساء على الفُرُشات": جمع فُرُش - بضمتين -، وهو جمع: فِراش. "ولَخرجتم إلى الصُّعُدات" بضمتين، وهو جمع: صعيد، كـ (طريق وطُرُق وطُرُقات)، وقيل: جمع: صُعْدَة كـ (ظُلْمة وظُلمات)، وهي فِناءُ الدار وممرُّ الناس بين يدَيك؛ يعني: ولَخرجتُم من منازلكم إلى البراري والصحاري. "تجأرون"؛ أي: تتضرَّعون "إلى الله"، رافعين أصواتكم بالدعاء فعل الوجل من نزول البلاء. "قال أبو ذَرٍّ: يا ليتَني كنتُ شجرةً تُعضَد"؛ أي: تُقطَع؛ يعني يا ليتَني كنتُ بريئًا من الذنوب لم أُحشَر يومَ القيامة، كالشجرة التي تُعضَد، ولم أعذَّب، وهذا القولُ منه من غاية خشية الله تعالى، ظاهره يدل على أنه من كلام أبي ذَرٍّ، وقيل: هو من كلامه - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4119 - عن أبي هُريرَةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ خَافَ أدْلَجَ، ومَنْ أدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ، ألا إنَّ سِلْعَةَ الله غاليةٌ، ألا إنَّ سِلْعَةَ الله الجنَّةُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَن خافَ"؛ أي: مِن عدوٍّ. "أَدْلَجَ"؛ أي: هربَ في أول الليل؛ لأن العدوَّ يُغِيرُ في آخره. "ومَن أَدْلَجَ بَلَغَ المنزلَ" يريد: مَن خاف الله فَلْيهربْ من المعاصي إلى الطاعات. "ألا": حرف تنبيه. "إن سلعةَ الله"؛ أي: متاعه "غاليةٌ"؛ أي: رفيعةُ القيمة، لا يَليق بثمنها

إلا النفسُ والمالُ. "ألا إن سلعةَ الله الجنةُ". * * * 4120 - عن أنسٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقولُ الله جلَّ ذِكرهُ: أخرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ ذَكرني يَوْمًا، أو خافَني في مَقامٍ". "عن أنس - رضي الله عنه - أنه عليه السلامِ قال: يقول الله عز وجل: أَخرِجوا مِن النار مَن ذكرَني يومًا": وهذا بشرط أن يكون مؤمنًا بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، أو نبي آخر من الأنبياء قبلَ نسخ دِينه. "أو خافَني في مقام"؛ أي: من ارتكاب معصية من المعاصي، كما قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41]. * * * 4121 - وعن عائشَةَ رضي الله عنها قالت: سألتُ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ هذهِ الآيةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أَهُم الذينَ يَشْرَبونَ الخَمْرَ وَيسرِقونَ؟ قال: "لا يا ابنةَ الصِّدِّيقِ! ولكنَّهُم الذينَ يَصومونَ ويُصَلُّونَ ويتَصَدَّقونَ، وهُمْ يَخافونَ أنْ لا يُقبَلَ منهُمْ، أولئِكَ الذينَ يُسارِعونَ في الخَيْراتِ". "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا} "؛ أي: يعملون ما عملوا. {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ}؛ أي: خائفة. "أهم الذين يشربون الخَمرَ ويسرقون؟ قال: لا يا ابنة الصدِّيق، ولكنهم الذين يصومون ويصلُّون ويتصدَّقون، وهم يخافون أن لا يُقبَلَ منهم، أولئك

الذين {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ}: وهذا يدل أن مقامَ الخوف أفضلُ من مقام الرجاء، وبه قال بعضهم. * * * 4122 - عن أُبيِّ بن كعْبٍ قال: كانَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إذا ذَهَبَ ثُلُثا اللَّيلِ قامَ فقالَ: "يا أيُّها النَّاسُ! اذْكُروا الله، اذكُروا الله، جاءتِ الرَّاجِفَةُ، تتبَعُها الرَّادِفةُ، جاءَ المَوْتُ بما فيه، جاءَ المَوْتُ بما فيه". "عن أُبي بن كعب - رضي الله عنه - قال: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال: يا أيها الناسُ! ": أراد بها: المشركين. "اذكروا الله، اذكروا الله، جاءتِ الراجفةُ"؛ أي الزلزلة، وهي النفخة الأولى التي يموت منها الخَلقُ وتتزلزل الأرضُ عندها. "تتبعها الرادفةُ": وهي النفخة الثانية التي يحيا فيها الخَلقُ. "جاء الموتُ بما فيه"؛ أي: مع ما فيه من أهوال القبر والقيامة. "جاء الموت بما فيه". * * * 4123 - عن أبي سعيدٍ قال: خرج النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لِصَلاةٍ فرأَى النَّاسَ كأنَّهمْ يَكْتَشِرونَ، فقالَ: "أمَا إنَّكمْ لوْ أَكْثرتُمْ ذِكْرَ هاذِمِ اللَّذَّاتِ لَشغلَكُمْ عمَّا أرَى، فأكْثِروا ذِكرَ هادِمِ اللَّذَّاتِ المَوْتِ، فإِنَّهُ لمْ يأْتِ على القَبْرِ يَوْمٌ إلَّا تكلَّمَ فيقولُ: أنا بَيْتُ الغُربةِ، وأنا بيتُ الوَحْدةِ، وأنا بيتُ التُّرابِ، وأنا بيتُ الدُّودِ، وإذا دُفِنَ العَبْدُ المُؤْمِنُ قالَ لهُ القَبْرُ: مَرْحبًا وأهلًا، أمَا إنْ كنتَ لأَحَبَّ مَنْ يَمْشِي على ظَهري إليَّ، فإذْ وُلِّيتُكَ اليَوْمَ وصِرْتَ إليَّ فَسَترَى صَنيعي بكَ"، قال: "فيتَّسعُ لهُ

مَدَّ بَصَرِه، ويُفتَحُ لهُ بابٌ إلى الجَنَّةِ، وإذا دُفِنَ العَبْدُ الفاجِرُ أو الكافِرُ قالَ لهُ القَبْرُ: لا مَرحَبًا ولا أهلًا، أمَا إنْ كنتَ لأَبغَضُ مَنْ يَمشي على ظَهري إليَّ، فإذْ وُلِّيتُكَ اليومَ وصِرْتَ إليَّ فَسَترَى صَنيعي بكَ، قال: فيَلْتَئِمُ عليهِ حتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ"، قالَ: وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بأصابعِهِ، فأَدْخَلَ بعضَها في جَوْفِ بعضٍ، قال: "ويُقيَّضُ لهُ سَبعونَ تِنِّينًا، لوْ أنَّ واحِدًا منها نَفَخَ في الأَرْضِ ما أنبتَتْ شَيئًا ما بَقيتِ الدُّنْيا، فيَنْهَشْنَهُ ويَخْدِشْنَّهُ حتى يُفْضَى بهِ إلى الحسابِ". قال: وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما القبرُ رَوْضة منْ رِياضِ الجنَّةِ، أوْ حُفْرَةٌ منْ حُفَرِ النَّارِ". "عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - للصلاة، فرأى الناسَ كأنهم يَكتَشِرُون" من: الكَشْر، ظهور الأسنان للضحك. "قال: أما إنكم لو أكثرتُم ذكرَ هاذم اللذات لَشغلَكم عما أرى"؛ أي: من التبسم والضحك. "الموت" مرفوع: فاعلًا لـ (شغل)، أو خبر مبتدأ محذوف، ويجوز النصب بإضمار (أعني)، والجر صفةً لـ (هاذم اللذات). "فأكثِرُوا ذكرَ هاذمِ اللذات الموتِ"؛ يعني: اهدموا اللذاتِ بذكر الموت. "فإنه لم يأتِ على القبر يومٌ إلا تكلَّم، فيقول: أنا بيتُ الغربة، وأنا بيتُ الوحدة، وأنا بيتُ التراب، وأنا بيتُ الدُّود، وإذا دُفن العبد المؤمن قال له القبر: مرحبًا وأهلًا، أما"؛ أي: اعلمْ "إنْ كنتَ": إن هذه مخفَّفة من المثقَّلة. "لأَحبَّ": أفعل تفضيل بني للمفعول. "مَن يمشي على ظهري إليَّ": متعلق بـ (أحب). "فإذ وُلِّيتُك اليومَ"؛ أي: صرتُ حاكمًا قادرًا عليك.

"وصرت إلي"؛ أي: مقهورًا تحتَ فعلي بك. "فسترى صنيعي بك"؛ أي: فعلي بك. "قال: فيتسع له": أي: القبرُ. "مَدَّ بصرِه، ويُفتَح له بابٌ إلى الجنة، وإذا دُفن العبدُ الفاجرُ أو الكافر قال له القبر: لا مرحبًا ولا أهلًا، أما إن كنتَ لأبغضَ مَن يمشي على ظهري إليَّ، فإذ وُلِّيتُيك اليومَ وصرتَ إليَّ فسترى صنيعي بك، قال: فيَلْتَئِمُ"؛ أي: ينضمُّ القبر عليه من كل جانب ويعصُره. "حتى تختلفَ أضلاعُه"؛ أي: يدخلَ بعضُها في بعض. "قال"؛ أي الراوي: "وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأصابعه"؛ أي: أشارَ بها. "فأدخل بعضَها في جوف بعض": تصويرًا لاختلاف الأضلاع، وفيه: إشارة إلى شدة اختلافها. "قال"؛ أي: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ويُقيَّض له"؛ أي يُوكَّل عليه "سبعون تنِّينًا، لو أن واحدًا منها نفخَ في الأرض ما أَنبتتْ شيئًا"، (ما) هذه: نافية. "مما بقيت الدنيا"، (ما) هذه: مصدرية. "فيَنهَشْنَه ويَخدِشْنَه"؛ أي: يَلدَغْنَه. "حتى يُفضَى به"؛ أي: يُوصَل "إلى الحساب، وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما القبرُ روضةٌ من رياض الجنة، أو حفرةٌ من حفر النيران". * * * 4124 - عن أبي جُحَيْفَةَ قال: قالوا: يا رسولَ الله! قدْ شِبْتَ، قال: "شَيَّبَتْني هُوْدٌ وأخَوَاتُها".

8 - باب تغير الناس

وفي رِوايةٍ: "شَيَّبَتْني هُودٌ، والواقِعةُ، والمُرْسَلاتُ، و (عم يتساءلون)، و (إذا الشمس كورت) ". "عن أبي جُحيفة - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسولَ الله! قد شِبْتَ"؛ أي: صرتَ أشيبَ. "قال: شيَّبتْني هودٌ"؛ أي: جعلتْني أشيبَ (سورةُ هود)، وذلك لأن فيها: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]؛ فإن الاستقامةَ على الطريق المستقيم من غير ميلٍ إلى الإفراط والتفريط في الاعتقادات والأعمال الظاهرة والباطنة عسيرٌ جدًا. "وأخواتُها"؛ أي: وأشباهُها من السُّوَر التي ذُكر فيها أحوالُ القيامة وعذابُها؛ لِمَا عَرَاني من الهم والخوف على أمتي. "وفي رواية: شيَّبتْني (هود) و (الواقعة) و (المرسلات) و (عم يتساءلون) وإذا الشمس كورت) ". * * * 8 - باب تغيُّر الناس (باب تغيُّر الناس) مِنَ الصِّحَاحِ: 4125 - قالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّما النَّاسُ كالإبلِ المئةِ، لا تَكادُ تجدُ فيها راحِلةً". "من الصحاح": " عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال رسول الله عليه وسلم: إنما الناسُ كالإبل المئة لا تكاد تجد فيها راحلة": وهي البعير الذي يرتحله الرجلُ، جَمَلًا كان أو ناقةً،

فاعلة بمعنى: مفعولة، والهاء للمبالغة، يريد: أن المَرْضيَّ المُنتخَبَ من الناس في عزّة وجوده كالنجيبة الصالحة للركوب، التي لا توجد في الإبل الكثيرة القوية على الأحمال والأسفار، وقيل: معناه: الناس في أحكام الدين سواء، لا فضلَ فيها لشريفٍ على مشروف، ولا لرفيعٍ على وضيعٍ، كالإبل المئة لا يكون فيها راحلة. * * * 4126 - وقالَ: "لَتَتَبَّعُن سَنَنَ مَنْ قَبلَكُمْ، شِبْرًا بشِبرٍ، وذِراعًا بذِراعٍ، حتَّى لوْ دَخَلوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبعتُموهم"، قيلَ: يا رسولَ الله! اليهودَ والنَّصارَى؟ قالَ: "فمَنْ؟ ". "عن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله عليه وسلم: لَتتبعُنَّ سَنَنَ مَن قبلكم" والمراد به: طريق أهل الأهواء والبدَع التي ابتدعوها مِن قِبَل أنفسهم بعد أنبيائهم من الأفعال القبيحة. "شِبرًا بشِبرٍ، وذراعًا بذراع"؛ أي: ستفعلون مثلَ فعلهم سواءً بسواءٍ. "حتى لو دخلوا جُحرَ ضَبٍّ"؛ أي: ثقبَه. "تبعتُمُوهم، قيل: يا رسولَ الله! اليهود"؛ أي: المتبوعون هم اليهود "والنصارى" أم قوم آخرون؟ "قال: فمَن؟ "؛ أي: فمَن يكون غيرهم؛ يعني: المُتبَعُون هم لا غير، استفهام على سبيل التقرير. * * * 4127 - وقالَ: "يَذهبُ الصَّالِحونَ الأَوَّلُ فالأَوَّلُ، وتبقَى حُفالَةٌ كحُفالَةِ

الشَّعيرِ أو التَّمرِ، لا يُباليهِمُ الله بالةً". "وعن مِرداس الأسلمي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يذهب الصالحون"؛ أي: يموتون. "الأول فالأول" بالرفع: على الفاعلية؛ أي: يذهب الأولُ فالأولُ، وبالنصب: على الحال؛ أي: واحدًا فواحدًا. "ويبقى حُفالة" بضم الحاء؛ أي: الرديء من كل شيء. "كحُفالة الشعير أو التمر": وهو ما يسقط من رديئهما. "لا يباليهم الله بالةً"؛ أي: لا يرفع لهم قَدْرًا ولا يقيم لهم وزنًا، يقال: ما بَاليتُ الشيءَ وبالشيءِ ومن الشيءِ مبالاة وباليةً وبالةً؛ أي: لم أهتمَّ ولم أَكترِثْ به، وقيل: (بالةً)؛ أي: مبالاةً، فيكون محذوف الميم والألف، ويجوز أن يكون معناه: أي: لا يبالي الله حالةً من أحوالهم بسوئها. * * * مِنَ الحِسَان: 4128 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: قال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مشَتْ أمَّتي المُطَيْطِيَاءَ، وخدَمَتْهُم أبناءُ المُلوكِ، أبناءُ فارِسَ والرُّومِ، سَلِّطَ الله شِرارَها على خِيارِها"، غريب. "من الحسان": " عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إذا مَشَتْ أمتي المُطَيطِياءَ": - ممدودة ومقصورة - بمعنى: التمطِّي والتبختُر ومدِّ اليدَين، ويروى بغير الياء الأخيرة، ونصبه على أنه مفعول مطلق، وقيل: منصوب على الحال؛ أي: إذا صارت أمتي متكبرين.

"وخدمتْهم أبناءُ الملوك أبناءُ فارسَ والروم": وهذا الحديث من أدلة نبوته - صلى الله عليه وسلم -؛ لمطابقة أخباره للواقع بعده، فإن الصحابةَ لمَّا فتحوا بعدَه - صلى الله عليه وسلم - بلادَ فارس والروم، وغنموا أموالهم، وسَبَوا أولادهم، فاستخدموهم وتجبَّروا وتكبَّروا. "سلَّط الله شرارَها على خيارِها": قيل: كتسليط قتَلَة عثمانَ عليه، ثم تسليط بني أمية على بني هاشم، ففعلوا ما فعلوا. "غريب". * * * 4129 - عن حُذَيْفةَ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى تَقْتُلوا إمامَكُمْ، وتَجْتَلِدُوا بأَسْيافِكُمْ، وَيرِثَ دُنياكُمْ شِرارُكُمْ". "عن حذيفة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقوم السَّاعةُ حتى تقتلوا إمامَكم" والمراد به: الخليفة أو السلطان. "وتجتلدوا"؛ أي: تتقابلوا "بأسيافكم"؛ يعني: يحاربُ بعضُ المسلمين بعضًا بالسيوف. "وَيرِثُ دنياكم شرارُكم"؛ أي: يصير المُلك والمال في أيدي الظَّلَمَة. 4130 - وقالَ: "لا تقومُ السَّاعةُ حتَّى يكونَ أَسْعَدَ النَّاسِ بالدُّنيا لُكَعُ ابن لُكَعٍ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعةُ حتى يكونَ أسعدَ الناس بالدنيا"؛ أي: أكثرَهم مالًا وأطيبَهم عيشًا وأنفذَهم حكمًا. "لُكَعُ ابن لُكَعٍ"؛ أي: لئيمٌ ابن لئيمٍ، أو أراد به: مَن لا يُعرف له أصلُ ولا يُحمَد له خُلق، وحذف التنوين من (لُكَع) الأول لإجراء اللفظين مجرى

عَلَمَي شخصَين خسيسَين لئيمَين، ثم في بعض النسخ بنصب (أسعد) على أنه خبر (كان)، وفي بعضها برفعه على أن يكون الضمير في (يكون) للشأن، والجملة بعده تفسير الضمير المذكور. * * * 4131 - وعن مَنْ سَمعَ عليَّ بن أبي طالِبٍ قال: إنَّا لَجُلوسٌ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في المَسْجدِ، فاطَّلعَ علينا مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ ما عليهِ إلَّا بُردَةٌ لهُ مَرْقُوعَةٌ بفَرْوٍ، فلَمَّا رآهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكَى للَّذِي كانَ فيهِ مِنَ النِّعْمَةِ، والذي هُوَ فيهِ أليومَ، ثمَّ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ بكُمْ إذا غَدا أَحَدُكُمْ في حُلَّةٍ وراحَ في حُلَّةٍ، ووُضعَتْ بينَ يدَيْهِ صَحْفَةٌ ورُفِعتْ أُخرَى، وسَتَرْتُمْ بُيوتَكمْ كما تستَرُ الكَعْبةُ؟ "فقالوا: يا رسولَ الله! نَحْنُ يَوْمَئِذٍ خيرٌ مِنَّا اليومَ، نتفرَّغُ للعِبادَةِ، ونُكفَى المُؤْنةَ؟ قال: "لا، أنتُمُ اليومَ خَيْرٌ منكُمْ يَوْمَئِذٍ". "وعمن سمع"، في بعض: "عن" "محمد بن كعب: حدثني مَن سمع عليَّ بن أبي طالب أنه قال: إنَّا لَجلوسٌ عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في المسجد، فاطَّلع علينا مصعب بن عُمير": وهو كان مِن أغنياء قريش، هاجَرَ وترك النعمةَ بمكة، وكان من كبار الصحابة وأصحاب الصُّفَّة الساكنين في مسجد قُباء. "ما عليه إلا بُردة له موقوعةٌ بفروٍ، فلما رآه النبي - عليه الصلاة والسلام - بكى للذي"؛ أي: للأمر الذي. "كان فيه من النعمة والذي هو فيه اليوم، ثم قال النبي - عليه الصلاة والسلام -: كيف بكم"؛ أي: كيف يكون حالُكم. "إذا غدا أحدُكم في حُلَّةٍ وراح في حُلَّةٍ"؛ يعني: إذا كَثُرت أموالكم بحيث

يَلبَس كل واحد منكم أولَ النهار حلةً، وآخرَه أخرى من غاية النِّعَم. "ووُضعت بين يديه صَحْفة"؛ أي: قَصْعة. "ورُفعت أخرى، وسترتم بيوتَكم"؛ أي: زيَّنتموها بالثياب النفيسة من فرط التنعُّم. "كما تُستَر الكعبة؟ فقالوا: يا رسولَ الله! نحن يومَئذٍ خيرٌ منا اليومَ، نتفرَّغ للعبادة ونُكفَى المُؤْنَةَ"؛ أي: نستغني عن تحصيل القُوت، هاتان الجملتان سبقتا لبيان كونهم يومَئذٍ خيرًا منهم اليومَ. "قال: لا"؛ أي: ليس الأمرُ كما تظنون. "بل أنتم اليومَ خيرٌ منكم يومَئذٍ"؛ لأن طيباتِ الدنيا آفة الدِّين. * * * 4132 - عن أنسٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأْتي على النَّاسِ زَمان الصَّابرُ فيهِمْ على دينِهِ كالقابضِ على الجَمْرِ"، غريب. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يأتي على الناس زمان الصابرُ فيهم" أي: في أهل ذلك الزمان. "على دِينه كالقابض على الجمر": وهو الحطب المحترق، قبل أن تخبوَ نارُه؛ يعني: كما أن القابضَ على الجمر لا يَقدِر أن يصبرَ عليه لاحتراق يده، كذلك المتدين يومَئذٍ لا يَقدِر على ثباته على دينه؛ لغلبة العصاة والمعاصي، وانتشار الفسق، وضعف الإيمان. "غريب". * * *

4133 - عن أبي هُريرةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ أُمَراؤُكُمْ خِيارَكمْ، وأَغْنِياؤُكُمْ أَسْخِياءَكُمْ، وأُمورُكُمْ شُورَى بينكُمْ، فظَهْرُ الأَرْضِ خَيْرٌ لكُمْ مِنْ بَطْنِها، وإذا كانَ أُمَراؤُكُمْ شِراكمْ، وأَغْنِياؤُكُمْ بُخَلاءكُمْ، وأُمورُكُمْ إلى نِسائِكُمْ، فبَطْنُ الأَرْضِ خَيْرٌ لكُمْ مِنْ ظَهْرِها"، غريب. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان أمراؤُكم خيارَكم، وأغنياؤُكم أسخياءَكم، وأمرُكم شورى": مصدر بمعنى: التشاور. "بينكم"، لا ينفرد أحدٌ برأيٍ دون صاحبه. "فظُهرُ الأرض خيرٌ لكم مِن بطنها"، ظَهرها: كناية عن الحياة، وبطنها: كناية عن الممات. "وإذا كان أمراؤكم شرارَكم، وأغنياؤكم بخلاءَكم، وأمورُكم إلى نسائكم فبطنُ الأرض خيرٌ لكم من ظهرها" "غريب". * * * 4134 - عن ثَوْبانَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تُوشِكُ الأمَمُ أنْ تتَداعَى عَلَيكُمْ كما تتَداعَى الأَكَلَةُ إلى قَصْعَتِها"، فقالَ قائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قال: "بَلْ أنتُمْ يَوْمَئِذٍ كثيرٌ، ولكنَّكُمْ غُثاءٌ كغُثاءِ السَّيْلِ، ولَيَنْزِعَنَّ الله مِنْ صُدورِ عدُوِّكُم المَهابَةَ مِنْكُمْ، ولَيقذِفَنَّ في قُلوبكُم الوَهْنُ". قالَ قائِلٌ: يا رسولَ الله! وما الوَهْنُ؟ قال: حُبُّ الدُّنْيا وكَراهِتةُ المَوْتِ". "عن ثَوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يوشك الأمم"؛ أي: تَقرُب. "أن تَدَاعَى عليكم"، أصله: تتداعى، أراد بـ (الأمم): فِرَق الكَفَرة والضلال؛ أي: تجتمع ويدعو بعضهم بعضًا لمقاتلتكم وكسرِ شوكتكم وسلب ما ملكتُمُوه من الديار والأموال.

9 - باب

"كما تتداعى الآكِلَةُ"؛ أي: الفئة أو الجماعة الآكِلَةُ بعضُهم بعضًا. "إلى قصعتها" التي يتناولونها بلا مانع ولا منازع، فيأكلونها، كذلك يأخذون ما في أيديكم بلا تعبٍ ينالهم. "فقال قائل: ومِن قلةٍ نحن" يُتداعى علينا "يومَئذٍ؟ قال: بل أنتم يومَئذٍ كثير، ولكنكم غُثَاءٌ كغُثَاءَ السيل"، وهو - بضم الغين المعجمة - ما يجيء فوق السيل من زَبَد ووسخ، وقيل: ما يبس من النبت كالتِّبن والحشيش، فحملَه الماء وألقاه في الجوانب؛ يعني: لا يكون لكم قوة وشجاعة، بل تخافون من الأعداء، وتكونون متفرقين ضعيفي الحال دانيي القَدْر. "وَلَينزعَنَّ الله من صدور عدوِّكم المهابةَ"؛ أي: الهيبةَ منك. "وَلَيقذفَنَّ"؛ أي: لَيَرميَنَّ "في قلوبكم الوَهنَ"؛ أي: الضعفَ. "قال قائل: يا رسولَ الله! وما الوهنُ؟ " ليس السؤال عن نفس الوهن، بل عن سببه وموجبه. "قال: حُبُّ الدنيا وكراهيةُ الموت"؛ فإنهما يدعوانكم إلى احتمال الذل من العدو، ووقوع الوهن في قلوبكم. * * * 9 - باب "باب" فيه ذكر الإنذار والتحذير. مِنَ الصِّحَاحِ: 4135 - عن عِياضِ بن حِمارٍ المُجَاشِعيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ ذاتَ يَوْمٍ في خُطبتِهِ: "ألا إنَّ ربي أَمَرَني أنْ أُعَلِّمَكُمْ ما جَهلتُمْ مِمَّا علَّمني يومي

هذا، كُلُّ مالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلالٌ، وإنِّي خَلَقْتُ عِبادِي حُنفاءَ كُلَّهمْ، وإنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّياطينُ فاجتالَتْهُمْ عنْ دِيِنهِمْ، وحَرَّمَتْ عليهمْ ما أَحْلَلْتُ لهمْ، وأَمَرَتْهُمْ أنْ يُشْرِكوا بي ما لَمْ أُنْزِلْ بهِ سُلْطانًا، وإنَّ الله نَظَرَ إلى أهلِ الأَرْضِ فمَقَتَهُمْ، عَرَبَهُمْ وعجَمَهُمْ، إلَّا بَقايا منْ أهلِ الكِتابِ، وقال: إنَّما بَعَثْتُكَ لأبتَلِيَكَ وأبتَليَ بكَ، وأَنْزَلتُ عليكَ كِتابًا لا يَغْسِلُهُ الماءُ، تَقرَؤُهُ نائِمًا ويَقْظانَ، وإنَّ الله أمَرَني أنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فقلتُ: رَبِّ! إذًا يَثْلَغوا رَأْسي فيَدَعوهُ خُبْزَةً، قال: استَخْرِجْهُمْ كما أَخْرجُوكَ، واغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وأنْفِقْ فسنُنْفِقَ عليكَ، وابعَثْ جَيْشًا نبَعَثْ خَمْسةً مِثلَهُ، وقاتِلْ بمَنْ أَطاعَكَ مَنْ عَصَاكَ". "من الصحاح": " عن عِيَاض بن حِمَار المُجاشِعي - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذاتَ يومٍ في خطبة: ألا إن ربي أَمرَني أن أعلِّمَكم ما جهلتُم مما علَّمَني يومي هذا: كلُّ مالٍ نَحَلْتُه"؛ أي: أعطيتُه، فهذا من مقول الله تعالى؛ أي: أعطاه الله. "عبدًا حلالٌ"؛ أي: لا يستطيع أحدٌ أن يحرِّمَه من تلقاء نفسه، ويمنعَه من التصرُّف تصرُّفَ المُلَّاك في أملاكهم، قيل: يمكن أن يكون المراد بهذا نفيَ البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، قال الله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [المائدة: 103]. والبحيرة: هي الولد العاشر من الناقة، كانوا يسيبون الأم والولد، ويشقُّون أذن الولد للعلامة، فلم يركبْها، والوصيلة من الغنم: كانت الشاة إذا ولدت أنثى فهي لهم، وإن ولدت ذَكَرًا جعلوه لآلهتهم، فإن ولدت ذكر أو أنثى وصلت أخاها فلم يذبحوها. والحام على ما قاله ابن عباس - رضي الله عنهما - وابن مسعود - رضي الله عنهما -: إذا نُتجت من صلب الفحل عشرة أبطن قالوا: يُحمَى ظهرُه، وسُيبَ لأصنامهم، فلا يحملون عليه.

"وإني خلقتُ عبادي حنفاءَ كلَّهم"؛ أي مستعدين لقَبول الحق والميل عن الضلال إلى الاستقامة، وقيل: معناه: طاهري الأعضاء من المعاصي، لا أنه خلقَهم كلَّهم مسلمين؛ لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن: 2]. وقيل: أراد أنه خلقهم مؤمنين لما أخذ عليهم الميثاقَ، وقال: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]، فلا يوجد أحد إلا وهو مقرٌّ بأن له ربًّا وإنْ أَشركَ به. "وإنهم أتتْهم الشياطينُ فاجتالتْهم"؛ أي: ساقتْهم الشياطينُ "عن دينهم"، يقال: اجتال الرجلُ الشيءَ: إذا ساقَه وذهبَ به، وقيل: معناه: حملتْهم على جولانهم؛ أي: انحرافهم وميلهم عن الدين، والجائل: الزائل والمائل عن مكانه، أضاف الفعل - وهو الاجتيال - إلى السبب له وهو الشياطين؛ لأنه تعالى جعلهم سببًا لإظهار مشيئته فيهم. "وحرَّمتْ"؛ أي: الشياطينُ "عليهم ما أَحللتُ لهم" يريد به: البحيرة والسائبة وغيرهما. "وأمرتْهم أن يشركوا بي ما لم أُنزل به سلطانًا"؛ أي حُجَّةً وبرهانًا، قيل: هذا على سبيل التهكُّم؛ إذ لا يجوز على الله أن يُنزلَ برهانًا أن يُشرَكَ به غيره. "وإن الله نظرَ إلى أهل الأرض"؛ أي: رآهم حين وجدهم متفقين على الشرك منهمكين في الضلالة، وذلك قبل مجيء الرسول - صلى الله عليه وسلم -. "فمقتَهم"؛ أي: أبغضَهم بسوء صنيعهم. "عَرَبَهم وعَجَمَهم"، والمَقت في الأصل: ابتداء البغض، وإنما أبغضَهم لأنهم كانوا قبلَ مجيء محمد - عليه الصلاة والسلام - كفارًا؛ زعم بعضهم: أن عيسى - عليه الصلاة والسلام - ابن الله، وبعضُهم أنه شريكُ الله، وغير ذلك، وباقي الناس كانوا يعبدون الأصنامَ والشمسَ والنارَ وغيرَ ذلك. "إلا بقايا من أهل الكتاب": وهم الذين آمنوا بعيسى - عليه السلام - قبل

مبعث نبينا عليه الصلاة والسلام، وبقوا على متابعته، ثم آمنوا بنبينا - صلى الله عليه وسلم -. "وقال"؛ أي: الله تعالى: "إنما بعثتُك يا محمدُ لأبتليَك"؛ أي: لأمتحنَك بتبليغ الرسالة عني: هل تصرُّ على إيذاء قومك إياك؟ "وأبتليَ"؛ أي: ولأمتحنَ الخَلقَ بك في قَبول الرسالة عني منك، وابتلاؤه تعالى عائد إلى عباده لا إلى استعلامه. "وأَنزلتُ عليك كتابا"؛ أي: القرآنَ. "لا يغسله الماء"؛ أي: لا يفنى أبدًا، بل هو محفوظ في صدور الذين أُوتوا العلم؛ يعني: يسَّرت حفظَه عليك وعلى أمتك، فإذا كنتم تحفظونه فكيف يغسله الماء عن صدوركم؟ قال الله تعالى: {هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت: 49]. قيل: وكانت الكتب المُنزَلة لا تُجمَع حفظًا، بل يُعتمد في حفظها على الصُّحف، بخلاف القرآن. "تقرؤه نائمًا ويقظانَ"؛ أي تجمعه حفظًا حالتَي النوم واليقظة، أو تقرؤه في نومك؛ وذلك لرسوخه في حافظته، أو تقرؤه في يسرٍ وسهولةٍ، يقال للرجل القادر على الشيء الماهر به: هو يفعله نائمًا، وقيل: أراد بـ (الغَسل): النسخ مجازًا، فالمراد بـ (الماء): الكتاب، كقوله تعالى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} [فاطر: 27] قيل: كتابا سماويًا، وقد يُستعمل الغَسل في الإدحاض والإبطال، وقيل: أراد به غزارةَ معناه وكثرةَ فوائده، من قولهم: مالٌ لا يفنيه الماء والنار. "وإن الله أمرني أن أحرقَ قريشًا"؛ أي: أُهلكَ كفارَ قريش. "فقلت: ربِّ! إذًا يَثْلَغُوا رأسي"؛ أي: يَشْدَخُوه ويكسروه. "فيَدَعُوه خبزةً"؛ أي: يتركوه مثلَ خبزة مكسورة، يريد: لا أَقدِر على محاربتهم؛ لقلة جيشي وكثرتهم.

"قال الله تعالى: استَخرِجْهم كما أخرجوك واغزُهم"؛ أي: اغزُ معهم "نُغْزِك"؛ أي نجهزْ غزوَك معهم، يقال: أَغزَيتُ فلاناً؛ أي: جهَّزتُه للغزو وهيأت أسبابه؛ يعني: ننصرْك ونقوِّ جيشَك. "وأَنفِقْ فسننفق عليك، وابعثْ جيشاً نبعثْ خمسةً مثلَه"؛ أي: خمسةَ أمثال جيشهم من الملائكة، كما فعل يومَ بدر. "وقاتِلْ بمن أطاعك مَن عصاك". * * * 4136 - عن ابن عبَّاسٍ قال: لمَّا نَزلتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} صعِدَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصَّفا، فَجَعَلَ يُنادي: "يا بني فِهْرٍ! يا بني عَدِيٍّ! " لِبُطونِ قُرَيْشٍ، حتَّى اجْتَمعُوا، فقالَ: أرأَيْتَكُمْ لوْ أَخْبَرتُكُمْ أنَّ خَيْلاً بالوادِي تُريدُ أنْ تُغيرَ عليكُمْ، أكنتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟ " قالوا: نعمْ، ما جَرَّبنا عليكَ إلَّا صِدْقاً، قال: "فإنِّي نَذيرٌ لكُمْ بينَ يَدَيْ عَذابٍ شديدٍ"، قالَ أبو لَهَبٍ: تبًّا لكَ سائِرَ اليَوْمِ، أَلِهذا جَمَعْتَنا؟ فنزلَتْ {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. ويُروَى: "نادَى: يا بني عبدِ مَنافٍ! إنَّما مَثَلي ومثَلُكُمْ كمثَلِ رَجُلٍ رأَى العَدُوَّ، فانْطَلقَ يَرْبَأُ أَهْلَهُ، فخَشيَ أنْ يَسبقُوهُ، فجَعَلَ يَهتِفُ: يا صَباحاهْ! ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] صعد النبي - صلى الله عليه وسلم - الصَّفَا": اسم جبل بمكة. "فجعلَ"؛ أي: طفقَ. "ينادي: يا بني فِهْر! " بكسر الفاء وسكون الهاء. "يا بني عَدَي! لبطون قريش"، والبطن: دون القبيلة، وهما قبيلتان من أقارب النبي - صلى الله عليه وسلم -.

"حتى اجتمعوا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أرأيتُكم"؛ أي: أخبرُوني. "لو أخبرتُكم أن خيلاً"؛ أي جيشاً. "بالوادي": موضع معروف بقرب مكة. "تريد أن تُغِيرَ عليكم" من: الغارة، النَّهب. "أكنتم مُصدِّقِيَّ؟ " بتشديد الياء مضافاً إلى ياء المتكلم؛ أي: أتصدِّقونني فيما أخبرتكم؟ "قالوا: نعم، ما جرَّبنا عليك إلا صدقاً"؛ يعني: جرَّبناك وما رأينا منك إلا صدقاً، كانوا يعتقدونه - صلى الله عليه وسلم - صادقاً في الأمور الدنيوية، ويكذِّبون فيما يخبرهم من أمور الدين والآخرة. "قال - صلى الله عليه وسلم -: فإني نذير"؛ أي: مُنذِر. "لكم بين يدَي عذابٍ شديدٍ"؛ أي: قبل نزول عذاب شديد بكم؛ يعني: إن لم تؤمنوا بي ينزلْ عليكم عذاب عن قريب. "فقال أبو لهب": وهو عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما كُني به لشهرته بكنيته، واسمه عبد العُزَّى. "تبًّا لك"؛ أي: خسراناً، نُصب على المصدر. "سائرَ اليوم": منصوب على الظرفية. "ألهذا جمعتَنا؟ فنزلت" جواباً له على سبيل الدعاء عليه: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ}؛ أي خسرتْ وهلكتْ نفسُه. {وَتَبَّ}؛ أي هلكَ، وهذا خبر، كقولهم: أهلكه الله، وقد هلك. "ويروى: نادى: يا بني عبد مناف! إنما مَثَلي ومَثَلُكم كمَثَلِ رجلٍ رأى العدوَّ، فانطلق يَرْبَأ أهلَه"؛ أي: يصير لهم ربيئةً؛ أي: رقيباً، يحفظهم من

عدوهم؛ لئلا يأتيَهم بغتةً، ولا يكون إلا على جبل أو شَرَف ينظر منه، ويقال له: الدَّيْدَبَان. "فخشِي"؛ أي هذا الرجلُ إذا رأى العدوَّ. "أن يسبقوه"؛ يعني: أنه لو أتى قومَه ليخبرَهم لَسبقَه العدوُّ وأغاروا عليهم قبل وصوله إليهم. "فجعل"؛ أي طفقَ "يهتف"؛ أي يصيح وينادي من رأس الجبل: "يا صباحاه! " وهي كلمة تُقال إنذاراً بأمرٍ مَخوفٍ. * * * 4137 - عن أبي هُريرةَ قال: لمَّا نزَلتْ {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دَعا النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قُرَيْشاً، فاجتَمَعُوا، فعَمَّ وخَصَّ، فقال: "يا بني كَعْبِ بن لُؤَيٍّ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني مُرَّةَ بن كَعْبٍ أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النارِ، يا بني عبدِ شَمْسٍ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني عبدِ مَنافٍ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني هاشِمٍ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا بني عبدِ المُطَلِبِ! أَنْقِذوا أنفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يا فاطِمَةُ! أَنْقِذي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فإنِّي لا أَمْلِكُ لكُمْ مِنَ الله شيئاً، غيرَ أنَّ لكُمْ رَحِماً سَأَبُلُّها ببلالِها". وفي رِوايةٍ: "يا مَعْشرَ قُرَيْشٍ! اشتَرُوا أنفُسَكُمْ، لا أُغْني عنكُمْ مِنَ الله شَيْئاً، يا بني عبدِ مَنافٍ! لا أُغني عنكُمْ مِنَ الله شيئاً، يا عبَّاسُ بن عبدِ المُطَّلِبِ! لا أُغني عَنْكَ مِنَ الله شيئاً، ويا صَفِيَّةُ! عمَّةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لا أُغني عنكِ مِنَ الله شيئاً، ويا فاطِمَةُ بنتَ مُحَمَّدٍ! سَلِيني ما شِئْتِ مِنْ مالي، لا أُغني عنكِ مِنَ الله شيئاً". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: لما أنزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا

النبي - صلى الله عليه وسلم - قريشاً، فاجتمعوا، فعمَّ"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في النداء "وخَصَّ، فقال: يا بني كعب بن لؤي! أَنقِذُوا"؛ أي: أَخلِصُوا أنفسكم "أنفسَكم من النار، يا بني مرة" - بضم الميم وتشديد الراء - "ابن كعب! أَنقذوا أنفسَكم من النار، يا بني عبد شمس! أنقذوا أنفسَكم من النار، يا بني عبد مَناف! أنقذوا أنفسَكم من النار، يا بني هاشم! أنقذوا أنفسَكم من النار، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسَكم من النار، يا فاطمةُ! أنقذي نفسَك من النار؛ فإني لا أملك لكم من الله شيئاً"؛ أي: لا أَقدِر أن أدفعَ عنكم شيئاً من عذاب الله إن أراد أن يعذبَكم، فإنما أَشفعُ لمن أَذِنَ الله لي فيه، وإنما قال في حقهم هكذا؛ لترغيبهم على الإيمان والعمل؛ لئلا يعتمدوا على قرابته ويتهاونوا. "غيرَ أن لكم رَحِماً"؛ أي: قرابةً. "سأَبُلُّها ببلالِها"؛ أي: سأَصِلُها بصلة الرحم. "وفي رواية: يا معشرَ قريش! اشتروا أنفسَكم"؛ أي: خلِّصوها من النار بترك الكفر وبالطاعة لِمَا جئتُ به والانقياد له. "لا أغني عنكم من الله شيئًا"؛ أي لا أُبعد عنكم شيئاً من عذاب الله؛ أي: لا أَقدِر على تبعيده، من قولهم: أَغْنِ عني كذا؛ أي: بعِّدْه ونَحِّهِ. "يا بني عبد مناف! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا عباس بن عبد المطلب! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا صفيةُ عمَّةَ رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمةُ بنتَ محمد! سَلِيني ما شئتِ من مالي"، قيل: الظاهر أنه ليس من المال المعروف؛ إذ لم يثبت أنه - عليه الصلاة والسلام - كان ذا مال، لا سيما بمكة، وإنما عبَّر به عما يملكه من الأمر وينفذ تصرفه فيه، ويحتمل أن الفصلَ بين (من) و (ما) وقع ممن لم يحققه من الرواة، والأصل أن يُكتبا متصلَين؛ أي: مما لي من أمر الشرع.

"لا أغني عنك من الله شيئاً". * * * مِنَ الحِسَان: 4138 - عن أبي مُوسى - صلى الله عليه وسلم - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمَّتي هذهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، ليسَ عَلَيها عَذَابٌ في الآخِرَةِ، عذابُها في الدُّنيا: الفِتَنُ والزَّلازِلُ والقَتْلُ". "من الحسان": " عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمتي هذه أمةٌ مرحومةٌ، ليس عليها عذاب في الآخرة"، تأويله: أن المراد: مَن اقتدى به - صلى الله عليه وسلم - كما ينبغي ويحبُّه قولاً وعملاً، أو يكون المراد: عذاب دائم؛ لأن مَن فعلَ كبيرةً فقد استحق العذابَ، ثم أمرُه إلى الله؛ إن شاء الله عاقبه، وإن شاء عفا عنه. "عذابُها في الدنيا: الفتنُ والزلازلُ والقتلُ". * * * 4139 - عن أبي عُبَيْدَةَ ومعاذِ بن جَبَلٍ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ هذا الأمرَ بدأَ نبُوَّةً ورَحْمَةً، ثمَّ يكونُ خِلافةً ورَحْمَةً، ثمَّ مُلكاً عَضُوضًا، ثمَّ كائِنٌ جَبْرِيَّةً وعُتُواً وفَساداً في الأَرْضِ، يَستَحِلُّونَ الحَريرَ والفُروجَ والخُمورَ، يُرْزَقونَ على ذلكَ ويُنْصَرونَ، حتَّى يَلْقَوا الله". "عن أبي عبيدة ومعاذ بن جبل - رضي الله عنهما -، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنه قال: إن هذا الأمرَ"؛ أي: الدينَ والإسلامَ وما بُعث به - صلى الله عليه وسلم -. "بدأ"؛ أي: ظهرَ.

"نبوةً ورحمةً": نصب على التمييز أو على الحال؛ يعني: أولُ الدين إلى آخر زمانه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن فيه باطل، بل كان جميعُه زمانَ نزول الوحي والرحمة. "ثم يكون خلافةً ورحمةٍ"؛ يعني: كان بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - زمانَ خلافةٍ زمانَ شفقةٍ ورحمةٍ وعدلٍ، وذلك زمان الخلفاء الراشدين. "ثم ملكاً عضوضاً": مبالغة من: العَضِّ بالسِّنِّ؛ أي: يصيب الرعيةَ فيه ظلمٌ، كأنهم يعضُّون فيه عضًّا، وروي بضم العين، جمع: عِضٍّ - بالكسر -، وهو الخبيث الشرير؛ يعني: يكون ملوكٌ يظلمون الناسَ ويؤذونهم بغير حق. "ثم كائنٌ"؛ أي الأمرُ. "جبريةً": نصب على أنه خبر (كائن)؛ أي: قهراً وغلبةً. "وعتواً وفساداً في الأرض"؛ يعني: يغلب الظلمُ والفسادُ على الملوك، كما هو الآن كذلك. "يستحلُّون الحريرَ والفُروجَ والخمورَ، يُرزَقون على ذلك ويُنصَرون حتى يَلقَوا الله". * * * 4140 - عن عائِشَةَ قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أوَّلَ ما يُكْفأُ - قال الرَّاوي: يعني: الإسلامَ - كما يُكْفَأُ الإناءُ"؛ يعني: الخَمْرَ. قيلَ: فكيفَ، يا رسولَ الله! وقدْ بيَّنَ الله فيها ما بيَّن؟ قال: "يُسَمُّونَها بغَيْرِ اسمِها فيَستحِلُّونَها". "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول"، قيل: إنه - عليه الصلاة السلام - كان يتحدث في الخمر، فقال في أثناء حديثه: "إن أولَ ما يُكفَأ" على صيغة المجهول، يقال: كَفأتُ الإناءَ؛ أي: أَملتُه وكببتُه لإفراغ ما فيها، والمراد هنا: الشرب.

"قال الراوي: يعني: الإسلام"، وقيل: وصوابه: في الإسلام، لعلها سقطت من لفظ الراوي. "كما يُكفَأ الإناء؛ يعني: الخَمر"؛ أي: إن أولَ ما يُمال؛ أي: يُغيَّر في الإسلام من الأشياء المحرَّمة تغيراً سريعاً شبيهَ قلبِ الإناءِ بما فيه الخَمرُ. "قيل: فكيف يا رسولَ الله وقد بيَّن الله فيها"؛ أي: في الخمر "ما بيَّن؟ "؛ يعني: كيف يشربون الخمرَ وقد بيَّن الله تحريمَها. "قال: يسمُّونها بغير اسمها"؛ أي: يسمُّونها باسم النبيذ والمثلَّث. "فيستحلُّونها" متأوِّلين بذلك، وقيل: يتخذونها من الذُّرة والعسل وغيرهما، ويعتقدون حلَّ هذه الأشربة، ويقولون: ليست بخمرٍ؛ لأن الخمرَ ما يُتخذ من العنب، وهذا باطل؛ لأن الخمرَ ما خامَرَ العقلَ؛ أي: سترَه، سواءٌ كان من العنب وغيره. * * *

25 - كتاب الفتن

25 - كِتابُ الفِتَنِ

25 - كِتابُ الفِتَنِ (كتاب الفتن) جمع: فتنة، وهي الامتحان والاختيار. مِنَ الصِّحَاحِ: 4141 - عن حُذَيْفةَ قال: "قامَ فِينا رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقاماً، ما تركَ شيئاً يكونُ في مَقامِهِ ذلكَ إلى قِيامِ السَّاعةِ إلَّا حدَّثَ بهِ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ ونسَيَهُ مَنْ نسِيَهُ، قدْ عَلِمَهُ أصحابي هؤلاءِ، وإنَّهُ لَيكونُ منهُ الشَّيءُ قدْ نسيتُهُ، فأراهُ فأذْكُرُه كما يَذكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إذا غابَ عنهُ، ثُمَّ إذا رآهُ عَرَفَهُ". "من الصحاح": " عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: قام فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقاماً": نصب على المصدر؛ أي: خطيباً، ووعَظَنا وأخبَرَنا بما يظهر من الفتن. "ما ترك شيئاً يكون": صفة (شيئاً)، وهي تامة. "في مقام": اسم الزمان. "ذلك": صفته؛ أي: في زمانِ عصرِه. "إلى قيام الساعة إلا حدَّث به"؛ أي: بذلك الشيء الكائن. "حفظَه مَن حفظَه، ونسيَه مَن نسيَه، قد عَلِمَه أصحابي هؤلاء، وإنه"؛ أي: وإن الشأنَ.

"لَيكون منه الشيءُ"؛ أي: لَيقع شيءٌ مما ذَكرَه رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. "قد نسيتُه، فأَراه": على صيغة الفاعل. "فأَذكره" عند وقوعه. "كما يَذكر الرجلُ وجهَ الرجل إذا غاب عنه ثم إذا رآه عرفَه". * * * 4142 - وعن حُذَيْفَةَ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "تُعْرَضُ الفِتَنُ على القُلوبِ كالحَصيرِ عُوْداً عُوْداً، فأيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَها نُكِتَتْ فيهِ نُكْتَةٌ سَوْداءُ، وأيُّ قَلْبٍ أنكَرَها نُكِتَتْ فيهِ نُكْتَةٌ بَيضاءُ، حتَّى تَصيرَ على قلبَيْنِ: أَبْيضَ مِثلِ الصَّفا، فلا تَضُرُّهُ فِتنةٌ ما دامَتِ السَّماواتُ والأَرْضُ، والآخرُ أسودُ مُرْبادًّا كالكُوزِ، مُجَخِّياً لَا يَعرِفُ مَعْروفاً، ولا يُنكِرُ مُنْكراً، إلَّا ما أُشْرِبَ مِنْ هَواهُ". "وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: تُعرَض الفتنُ على القلوب"؛ أي: تُوضَع عليها وتُبسَط، من: عرضَ العُود على الإناء يَعرِضه؛ أي: وضعَه عَرضاً. "كالحصير عود عود" بالرفع، كذا ذكره مسلم، والمؤلف اختار رواية رفعه بفعل محذوف؛ أي: نُسج عودٌ عودٌ، واحد: العيدان، وهو ما يُنسَج به الحصير من طاقاته، أو خبر مبتدأ محذوف، ويروى بالنصب في غير "المصابيح" حالاً؛ أي: يُنسَج على هذه الحال، قيل: تعرَض الفتنُ على القلوب شيئاً فشيئاً وتُنسَج فيها واحدةً بعدَ واحدةٍ، كالحصير الذي يُنسَج عوداً عوداً، ويُعرَض عليها، فيؤثِّر فيها واحدةً بعدَ واحدةٍ، كتأثير عيدان الحصير في جنب النائم عليه واحداً بعدَ واحدٍ؛ أي: تُعرَض مترادفةً بعضها خلف بعض، قيل: أراد بالفتن:

الاعتقادات الفاسدة. "فأيُّ قلبٍ أُشرِبَها" على صيغة المجهول؛ أي: الفتنَ، يقال: أُشرِبَ قلبُه محبةَ كذا؛ أي: خالطه وحلَّ محلَّ الشراب؛ يعني: أيُّ قلبٍ اختلط بها اختلاطَ الصبغ بالثوب. "نُكتت فيه": على صيغة المجهول أيضاً؛ أي: نُقطت وأثَّرت في قلبه. "نكتةٌ"؛ أي: نقطةٌ. "سوداءُ"، وأصل النَّكت: ضرب الأرض بقضيب، فيؤثِّر فيها. "وأيُّ قلبٍ أَنكرَها"؛ أي: امتنع عن قَبول تلك الفتن. "نُكتت فيه نكتةٌ بيضاءُ"؛ يعني: ظَهر فيه النورُ. قوله: "حتى تصير": غاية لكلا الأمرين؛ يعني: يصير الإنسانُ، أو قلوبُ أهل ذلك الزمان "على قلبين"؛ أي: نوعين، أحدهما: "أبيضَ مثلَ الصَّفا" بالقصر: وهو الحجر الأبيض شديد البياض. "فلا تضرُّه فتنة ما دامت السماوات والأرض"؛ لأنها قلوبٌ صافيةٌ قد أَنكرتْ تلك الفتنَ في ذلك الزمان، فحفظها الله بعد ذلك الزمان عنها إلى يوم القيامة. "والآخرَ أسودَ مُرْبادًّا"، وهو بضم الميم وسكون الراء المهملة وبالباء الموحدة والدال المشددة المهملة: الطِّين المتغير المُنتِن الذي صار أسودَ من غاية تغيُّره وطول مكثه لمكان، نُصب على الذم، وقيل برفعه، وفي رواية: "مُرْبَدًّا"، من: اربَدَّ، والرُّبْدَة: لون بين السواد والغبرة، وقيل: هي لون الرماد، وإنما وُصف هذا النوع بها لكونها لوناً فيه سواد وبياض، لكن سوادَه أغلبُ، وهذا القلب فيه سواد من قَبول الفتن ودخولها فيه، وفيه بياض لوجود الإيمان فيه، لكن صار مغلوباً بالاعتقادات الفاسدة.

"كالكُوز مُجَخِّياً" بضم الميم وفتح الجيم قبل الخاء المعجمة المكسورة المشددة، نُصب على أنه حال عن الضمير في (مربداً)، أو عن (الكوز)، والعامل فيه معنى الفعل الكائن في الكاف الجارَّة؛ لأنه مفعول معنًى، إذ تقديره: يشبه الكُوزَ. يقال: جَخَّى الليلُ: إذا مالَ ليذهبَ؛ أي: مائلاً منصبًّا ما فيه من المعارف والعلوم، شبه الذي لا يعي خيراً بالكُوز المائل الذي لا يَلبَث فيه شيء. "لا يَعرِف"؛ أي: هذا القلبُ. "معروفاً، ولا يُنكِر منكَراً"؛ يعني: لا يبقى فيه عرفانُ ما هو معروفٌ، ولا إنكارُ ما هو مُنكَرٌ. "إلا ما أُشربَ من هواه"؛ يعني: لا يَعرف إلا ما قِيل من الاعتقادات الفاسدة والشهوات النفسانية. * * * 4143 - وقال حُذَيْفَةُ: حدَّثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَديثَيْنِ، رأَيتُ أَحَدَهُما، وأنا أَنتَظِرُ الآخرَ، حَدَّثنا أنَّ الأَمانةَ نَزلَتْ في جَذْرِ قُلوبِ الرِّجالِ، ثمَّ عَلِموا مِنَ القُرآنِ، ثمَّ عَلِموا مِنَ السُّنَّةِ. وحَدَّثَنا عنْ رفعِها قال: "يَنامُ الرَّجُلُ النَّوْمةَ فتُقْبَضُ الأَمانةُ مِنْ قلبهِ، فيَظلُّ أثَرُها مِثْلَ أثَرِ الوَكْتِ، ثمَّ يَنامُ النَّوْمةَ فتُقْبَضُ، فيَبقَى أثَرُها مِثْلَ أثَرِ المَجْلِ كجَمْرٍ دَحْرجتَهُ على رِجلِكَ فنَفِطَ، فتراهُ مُنْتَبراً وليسَ فيهِ شيءٌ، ويُصْبحُ النَّاسُ يتَبايَعونَ ولا يكادُ أَحَدٌ يُؤدِّي الأمانةَ، فيُقال: إنَّ في بني فُلانٍ رَجُلاً أميناً، ويُقالُ للرَّجُلِ: ما أَعْقَلَهُ، وما أظرَفَهُ، وما أَجْلَدَهُ، وما في قَلْبهِ مِثقالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ". "وقال حذيفة - رضي الله عنه -: حدثنا رسولُ الله صلى الله تعالى عليه وسلم حديثين،

رأيت أحدَهما وأنا أنتظر الآخر: حدثنا أن الأمانة" أراد بها: الإيمان. "نَزلت في جَذْر" بفتح الجيم وكسرها وسكون الذال المعجمة: أصل كل شيء؛ أي: في أصلِ "قلوب الرجال، ثم عَلِموا"؛ أي بنور الإيمان. "من القرآن، ثم عَلِموا من السُّنة": وهي الأحاديث النبوية، وفيه: إشارة إلى أن تعلُّمَ السُّنة بعدَ تعلُّم القرآن. "وحدَّثَنا عن رفعِها" أراد به: ارتفاع الإيمان، أو انتقاصه؛ فإنه سيكون بعد عصر آخر لا في عصر الصحابة. "قال: ينام الرجلُ النَّومةَ، فتُقبَض الأمانة"؛ أي: بعضُها. "من قلبه": تنقص ثمرةُ الإيمان. "فيظلُّ أثرُها"؛ أي: يصير أثرُ الأمانة، والأثر: ما بقي من رسم الشيء. "مثلَ أثر الوَكْت" بفتح الواو وسكون الكاف، واحدها: وَكْتَة، وهي أثر في الشيء كالنقطة من غير لونه، وقيل: هي نقطة بيضاء تَظهَر في سواد العين. "ثم ينام النَّومةَ فيُقبَض"؛ أي: بعضُ ما بقي فيه من الأمانة. "فيبقى أثرُها مثلَ أثر المَجل"، يقال: مَجَلتْ يدُه - بالفتح - تَمْجل - بالضم والكسر - مَجْلاً بسكون الجيم، ومَجِلَتْ - بالكسر - مَجَلاً بفتحتين؛ أي: سخن جلدها وظهرَ فيها ما يشبه البثر عن الأشياء الصلبة، والمجل وإن كان مصدراً أُريد به نفس النقطة. "كجمرٍ": بدل من (مثل أثر المَجل)؛ أي: يكون أثرُها في القلب كأثر جمرٍ، أو خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أثرُ المَجل كجمرٍ. "دحرجَته"؛ أي: ردَّدته على رِجلك. "فنَفِطَ" بالكسر؛ أي: مَجلٌ من جمرٍ.

"فتراه مُنتبراً"؛ أي: منتفخاً مرتفعاً، من: النَّبر، الرَّفع، وهذا أقلُّ من الأول؛ لأنه شبه الأمانة في هذا المجوف، بخلاف الأول، ذكر الضمير على إرادة الموضع المدحرج عليه الجمر. "وليس فيه شيء"؛ أي: شيءٌ صالحٌ، بل ماءٌ فاسدٌ، كذلك هذا الرجل يحسبه الناسُ صالحاً ولا يكون فيه من الصلاح والإيمان؛ يعني: أن الأمانةَ تُقبَض وتُرفَع عن القلوب شيئاً فشيئاً؛ عقوبةً لأصحابها على ما اكتسبوا من الذنوب، حتى إن الرجل إذا استيقظ من منامه لا يجد قلبه على ما كان عليه؛ لأنه أولاً لا يبقى في قلبه من الأمانة أثرٌ إلا أثر الوَكت، وثانياً مثلَ أثر المَجل، أراد به: خلو القلب عنها مع أثر أثرها. "ويصبح الناس يتبايعون"؛ أي: يجرى بينهم البيع. "ولا يكاد أحد يؤدِّي الأمانة"؛ أي: لا يَقرُب يؤدِّيها في المعاملات؛ لأن حفظَ الأمانةِ من أثر كمال الإيمان، فإذا أُنقص الإيمان نقصت الأمانة؛ يعني: لا يبقى مَن يحفظ الأمانةَ إلا قليل، حتى يكون في ناحية واحدٌ. "فيقال: إن في بني فلان رجلاً أميناً، ويقال للرجل: ما أعقلَه! وما أظرفَه! وما أَجلدَه! " (ما) في الثلاثة: للتعجب؛ يعني: يُمدَح أهلُ ذلك الزمان بكثرة العقل والظرافة والجلادة، لا بكثرة الصلاح. "وما"؛ الواو: للحال، و (ما): للنفي؛ أي: والحال أنه ليس "في قلبه مثقالُ حبةٍ من خردلٍ من إيمانٍ". * * * 4144 - وعن حُذَيْفةَ قال: كانَ النَّاسُ يَسألونَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أسأُلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخافةَ أنْ يُدرِكَني، فقُلْتُ: يا رسولَ الله! إنَّا كُنَّا في

جاهِليَّةٍ وشرٍّ، فجاءَنا الله بهذا الخَيْرِ، فهلْ بعدَ هذا الخيرِ مِنْ شرٍّ؟ قال: "نعمْ"، قلتُ: وهلْ بعدَ ذلكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قال: "نعمْ، وفيهِ دَخَنٌ". قلتُ: وما دَخَنُهُ؟ قال: "قومٌ يَسْتنُّونَ بغيرِ سُنَّتي، ويَهدونَ بغيرِ هَدْيي، تَعرِفُ منهمْ وتُنكِرُ". قلت: فهلْ بعدَ ذلكَ الخَيرِ منْ شرٍّ؟ قال: "نعمْ، دُعاةٌ على أبوابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أجابَهُمْ إليها قَذَفوهُ فيها". قلتُ: يا رسولَ الله! صِفْهُمْ لنا. قال: "هُمْ مِنَ جِلْدَتِنا، ويتكلَّمونَ بألسِنَتِنا". قلتُ: فما تأْمُرُني إنْ أدركَني ذلكَ؟ قال: "تَلزَمُ جَماعَةَ المُسْلِمينَ وإمامَهُمْ". قلتُ: فإنْ لمْ يكُنْ لهُمْ جَماعَةٌ ولا إمامٌ؟ قال: "فاعتَزِلْ تلكَ الفِرَقَ كلَّها، ولوْ أنْ تَعَضَّ بأصْلِ شَجَرَةٍ حتَّى يُدرِكَكَ المَوْتُ وأنتَ على ذلكَ". وفي رِوايةٍ: "تكونُ بعدِي أئِمَّةٌ لا يَهتَدونَ بهُدايَ ولا يَستنُّونَ بسُنَّتي، وسيقومُ فيهِمْ رِجالٌ قُلُوبُهُمْ كقلوبِ الشَّياطينِ في جُثمانِ إنسٍ". قالَ حُذَيْفةُ، قلتُ: كيفَ أَصْنَعُ يا رسولَ الله إنْ أدركْتُ ذلكَ؟ قال: "تَسْمَعُ وتُطيعُ الأميرَ، وإن ضُرِبَ ظَهْرُكَ وأُخِذَ مالُكَ". "وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسولَ الله! إنا كنا في جاهليةٍ وشرٍّ"؛ أي كفرٍ. "فجاءنا الله بهذا الخير"؛ يعني: الإسلام. "فهل بعدَ هذا الخير من شرٍّ؟ "؛ أي: هل يجيء بعد الإسلام الكفرُ والضلالةُ والبدَعُ والفتنُ؟ "قال: نعم، قلت: وهل بعد ذلك الشرِّ من خير؟ "؛ أي: وهل تزول تلك الفتنُ والبدَعُ ويجيء بعدها العدلُ والصلاحُ؟ "قال: نعم، وفيه"؛ أي: في ذلك الخير "دَخَنٌ" بفتحتين؛ أي: كُدورة؛ يعني: لا يكون الخير محضاً، بل مشوباً بكدورةٍ وظلمةٍ.

"قلت: وما دَخَنُه؟ قال: قومٌ يستنُّون بغير سُنَّتي"؛ يعني: يكون في ذلك الوقت قومٌ يعتقدون اعتقاداتٍ ويعملون أعمالاً غيرَ ما أنا عليه. "ويَهدون بغير هَدْيي"؛ أي: يتخذون سيرةً وطريقةً غير سيرتي وطريقتي من القول والفعل. "تَعرِف منهم وتُنكِر"؛ أي: تُبصِر منهم المعروفَ والمنكرَ أيضاً، أي: يصدرانِ عنهم مخلوطاً. "قلت: فهل بعد ذلك الخير من شرٍّ؟ قال: نعم، دعاة" جمع: داعٍ. "على أبواب جهنم"؛ يعني: يظهر بعد ذلك جماعة من أهل البدعة والضلالة يدعون الناس من الهداية إلى الضلالة، ومن السُّنة إلى البدعة، فكأنهم كائنون على أبواب جهنم داعين الناسَ إلى الدخول فيها، مثل كون صاحب الدعوة عند باب بيته داعياً الناس إلى الدخول في ضيافته. "مَن أجابهم إليها قذفوه فيها"؛ أي: رَمَوه في جهنم. "قلت: يا رسولَ الله! صِفْهم لنا، قال: هم من جلدتنا"؛ أي: هم من أبناء جنسنا، أو من عشيرتنا وأقربائنا، أو من أهل مِلَّتنا، و (الجِلدة) أخصُّ من (الجِلْد). "ويتكلمون بألسنتنا"؛ أي: بالعربية، قيل: يتكلمون بالمواعظ والحكم، وليس في قلوبهم شيءٌ من الخير، {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ}. "قلت: فما تأمرُني إن أدركَني ذلك؟ "؛ أي: ذلك الزمانُ. "قال: تَلزَم": خبر في معنى الأمر؛ أي: الزمْ. "جماعةَ المسلمين وإمامَهم، قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزلْ تلك الفِرَقَ كلَّها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة"، قيل: (أن) هذه: مخففة من المثقلة المفتوحة، والمراد: الحث على التمسك بما يصبره ويقوِّي

عزمَه على اعتزالهم بأبلغ الوجوه. "حتى يدركك الموتُ وأنت على ذلك"، الواو: للحال. "وفي رواية: يكون بعدي أئمةٌ لا يهتدون بهُداي، ولا يستنُّون بسنَّتي، وسيقوم فيهم رجالٌ قلوبُهم قلوبُ الشياطين في جُثمان إنسٍ" بضم الجيم؛ أي: في جسدهم. "قال حذيفة: قلت: كيف أصنع يا رسولَ الله إن أدركتُ ذلك؟ قال: تَسمع وتُطيع الأميرَ"؛ يعني: طريق النجاح في ذلك الوقت: أن تسمعَ ما يأمرك الأمير وتطيعَه. "وإن ضربَ ظَهرَك وأخذَ مالَك"؛ إلا إذا أمرَك بمعصيةٍ فحينَئذٍ لا تُطِعْه، ولكن لا تقاتِلْه، بل فرَّ منه. * * * 4145 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بادِرُوا بالأَعْمالِ فِتَناً كقِطَعِ اللَّيلِ المُظْلِم، يُصبحُ الرَّجُلُ مُؤمِناً ويُمْسي كَافِراً، ويُمْسي مُؤْمِناً ويُصْبحُ كافِراً، يبيعُ دِينَهُ بعَرَضٍ مِنَ الدُّنيا". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بادروا بالأعمال فتناً"؛ يعني: سابقوا باشتغال الأعمال الصالحة قبل وقوع الفتن المانعة عنه، المراد بـ (الفتن): القتل والنهب والاختلاف بين المسلمين. "كقِطَعِ الليل المُظلِم"، (القِطَع) - بكسر القاف وفتح الطاء - جمع: قطعة، والغرض من هذا التشبيه: بيان حال الفتن، من أنها ستقع وتستمر، ولا يُعرف سببُها ولا طريقُ الخلاص منها. "يصبح الرجلُ مؤمناً": وهذا استئناف بيان لبعض تلك الأحوال.

"ويمسي كافراً"؛ معناه: يصبح محرِّما ما حرَّمه الله ويمسي مستحِلاً إياه. "ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دِينَه بعَرَضٍ من الدنيا"، (عَرَض الدنيا): ما كان من مالٍ، قلَّ أو كَثُرَ. * * * 4146 - وقال: "ستكونُ فِتَنٌ القاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القائِمِ، والقائِمُ فيها خَيْرٌ مِنَ الماشي، والماشي فيها خَيْرٌ مِنَ السَّاعي، مَنْ تَشرَّفَ لها تَسْتَشرِفْهُ، فمَنْ وَجَدَ مَلْجَأً أو مَعاذاً فلْيَعُذْ بهِ". وفي رِوايةٍ: "النَّائِمُ فيها خيرٌ مِنَ اليَقْظانِ، واليَقْظانُ خيرٌ مِنَ القائِمِ". وفي رِوايةٍ: "فإذا وَقَعَتْ فمَنْ كانَ له إبلٌ فَلْيَلْحَقْ بإبلِهِ، ومَنْ كانَتْ لهُ غَنَمٌ فليلْحَقْ بغَنَمِهِ، ومَنْ كانَتْ لهُ أرضٌ فليلْحَقْ بأرضهِ". فقالَ رَجُلٌ: يا رسُولَ الله! أرأَيْتَ مَنْ لمْ تكُنْ لهُ إبلٌ ولا غَنَمٌ ولا أرضٌ؟ قال: "يعمِدُ إلى سيفِهِ فيدُقُّ عَلَى حَدِّهِ بحَجَرٍ، ثمَّ ليَنْجُ إن استطاعَ النَّجاءَ، اللهمَّ هلْ بلَّغْتُ؟ " ثلاثاً، فقال رَجُلٌ: يا رسُولَ الله! أرأيتَ إنْ كرِهْتُ حتَّى يُنْطَلَقَ بي إلى أَحَدِ الصَّفَيْنِ فضرَبني رَجُلٌ بسيفِهِ، أوْ يَجيءُ سَهْمٌ فيقتُلُني؟ قال: "يَبوءُ بإثمه وإثمِك ويكونُ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستكون فتنٌ القاعدُ فيها خيرٌ من القائم"؛ لأن القائمَ أقربُ من القاعد إلى تلك الفتنة لمشاهدته ما لا يشاهده القاعدُ. "والقائم فيها"؛ أي: القائم بمكانه في تلك الحال. "خيرٌ من الماشي"؛ أي: من الذي يمشي إلى الفتنة. "والماشي فيها خيرٌ من الساعي"؛ أي: من الذي يسعى ويعمل في الفتنة. "مَن تشرَّف لها"؛ أي: مَن نظرَ إلى تلك الفتنة.

"تَستشرفْه"؛ يعني: تجرَّه لنفسها وتدعوه إلى الوقوع فيها؛ فالخلاصُ في التباعُدِ منها، والهلاكُ في مقاربتها. "فمَن وجدَ ملجأً أو مَعاذاً": شك من الراوي؛ أي: موضعاً يخلص بالذهاب إليه من الفتنة. "فَلْيَعُذْ به"؛ أي: ليذهبْ إليه. "وفي وراية: النائمُ فيها خيرٌ من اليقظان، واليقظان خيرٌ من القائم، وفي وراية: فإذا وقعت"؛ أي: الفتنُ. "فمَن كان له إبلٌ فَلْيلحقْ بإبله"؛ أي: ليطردْها وَلْيَبعُدْ عن موضع الفتنة. "ومَن كان له غنمٌ فَلْيلحقْ بغنمه، ومَن كان له أرضٌ فَلْيلحقْ بأرضه، فقال رجل: يا رسولَ الله! أرأيتَ"؛ أي: أخبرْني. "مَن لم تكن له إبلٌ ولا غنمٌ ولا أرضٌ؟ قال: يعمد"؛ أي يقصد. "إلى سيفه فيدقُّه على حدِّه بحجرٍ"؛ يعني: فَلْيكسرْ سلاحَه؛ كيلا يذهبَ به إلى الحرب، فإنما أمر - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ لأن تلك الحربَ تكون بين المسلمين، فلا يجوز حضورُها. "ثم لِيَنجُ إن استطاع النَّجاء"؛ أي: لِيسرعْ هرباً؛ حتى لا يصيبَه البلاء والفتن، وقال - صلى الله عليه وسلم - بعد ذكر هذه الفتن: "اللهم هل بلَّغتُ؛ ثلاثاً"؛ أي: ثلاث مرات. "فقال رجل: يا رسولَ الله! أرأيتَ إن كُرهتُ حتى يُنطلَقَ بي إلى أحد الصفَّين، فضربني رجل بسيفه، أو يجيء سهم فيقتلني؟ قال: يبوء"؛ أي: يرجع مَن أكَرهك "بإثمِه وإثمِك"؛ أي: تكون عقوبةُ ذنبه وعقوبةُ قتلِ صاحبه عليه، "فيكون من أصحاب النار"، أضاف الإثمَ إليه؛ لأن قتلَه هو سببُ إثمه. * * *

4147 - وقال: "يُوشِكُ أنْ يكونَ خَيْرَ مالِ المُسْلِم غَنَمٌ يَتْبَعُ بها شَعَفَ الجبالِ ومَواقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بديِنهِ مِنَ الفِتَنِ". "وعن أبي سعيد الخُدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يوشك أن يكون": اسمها ضمير الشأن، وخبرها الجملة بعده، وهي: "خيرُ مالِ المسلم غنمٌ"؛ أي: سوف تكون المواشي أفضلُ أموال الرجل. "يتبع بها شَعَفَ الجبال"؛ أي: رؤوسَها، شَعَفُ كل شيء: أعاليه. "ومواقعَ القطر" جمع: موقع، وهو موضع الوقوع، والقَطْر: المطر؛ أي: المواقع التي ينزل المطر فيها؛ ليرعاها. "يفرُّ بدينه من الفتن"، ويتخلص بإقامته هناك عنها. * * * 4148 - عن أُسامَةَ قال: أَشرَفَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - على أُطُمٍ مِن آطامِ المَدينةِ فقال: "هل تَروْنَ ما أَرَى؟ " قالوا: لا، قال: "فإنِّي لأَرَى الفِتَنَ تَقَعُ خِلالَ بُيوتِكُمْ كوَقعِ المَطَرِ". "وعن أسامة - رضي الله عنه - قال: أشرف النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: اطَّلعَ ونظرَ. "على أُطُم": هو - بضمتين - بناء مرتفع من الحجارة، كالقصر والحِصن. "من آطام المدينة" جمع: أُطُم، وآطامها: حصونها. "فقال: هل تَرَون ما أرى؟ قالوا: لا، قال: فإني لأَرى الفتنَ تقع خلال بيوتكم"؛ أي: وسطَها. "كوقع القطر"؛ يعني: أرى الله نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - حينَ صعدَ ذلك الموضعَ اقترابَ الفتن؛ ليُخبرَ بها أمتَه، ليكونوا على حذرٍ منها. * * *

4149 - وقال: "هَلَكَةُ أُمَّتي على يَدَيْ غِلْمَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هَلَكَةُ أمتي"، أراد بـ (الأمة) هنا: الصحابة؛ فإنهم خيارُ الأمة. "على يَدي غِلْمَة" جمع: غلام؛ يعني: شُبَّان. "من قريش"، والمراد: ما وقع بين عثمان وقَتَلَتِه، وعلي والحسن والحسين مع مَن قاتَلَهم، قيل: لعله - صلى الله عليه وسلم - أراد بأولئك الغِلْمة: الخلفاء الذين كانوا بعد الخلفاء الراشدين، مثل يزيد وعبد الملك بن مروان وغيرهما، فإنه قد لحق بالمسلمين منهم قتلٌ وظلمٌ. * * * 4150 - وقال: "يتقارَبُ الزَّمَانُ، ويُقبَضُ العِلمُ، وتظهَرُ الفِتنُ، ويُلْقَى الشُّحُّ، ويكثُرُ الهَرْجُ". قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: "القتلُ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يتقارب الزمان"، قيل: يريد به اقتراب الساعة، وقيل: تقارب أهل الزمان بعضهم من بعض في الشر، وقيل: هو قِصَر زمان الأعمار وقلة البركة فيها، وقيل: هو قِصَر مدة الأيام والليالي، على ما رُوي: "إن الزمانَ يتقارب حتى تكونَ السَّنةُ كالشهر"، الحديث. "ويُقبَض العلم، وتَظهَر الفتن، ويُلقَى الشُّحُّ"؛ أي: يُوقَع البخل في قلوب الناس، فيحبُّون المال حبًّا جَمًّا، حتى لا يؤدوا الزكاةَ والكفاراتِ والنذورَ من شدة حب المال. "ويكثر الهَرْج، قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: القتلُ"؛ أي: تجري الحرب بين طائفتين من المسلمين للعصبية وطلب الجاه، فسَّر النبي - عليه الصلاة والسلام - الهَرْج بالقتل، وأصله: الاختلاط والاختلاف بحيث يُفضي إلى القتل. * * *

4151 - وقال: "والذِي نَفْسي بيدِه، لا تَذْهَبُ الدُّنْيا حتَّى يأْتيَ عَلَى النَّاسِ يومٌ لا يَدْري القاتِلُ فيمَ قتلَ، ولا المَقتُولُ فيمَ قُتِلَ". فقيلَ: كيفَ يكونُ ذلكَ؟ قال: "الهَرْجُ" القاتِلُ والمَقتولُ في النَّارِ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده! لا تذهب الدنيا حتى يأتي على الناس يومٌ لا يدري القاتلُ فيمَ قَتل؟ ولا المقتولُ فيمَ قُتل؟ فقيل: كيف يكون ذلك؟ قال: الهَرْجُ، القاتل والمقتول في النار"؛ أما القاتلُ فلقتلِه مسلماً ظلماً، وأما المقتولُ فلأنه كان حريصاً على قتل صاحبه المسلم. * * * 4152 - وقال: "العِبادَةُ في الهَرْجِ كهِجْرَةٍ إليَّ". "وعن مَعقِل بن يسار قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: العبادةُ في الهَرْج"؛ أي: ثوابُ العبادة في زمان الفتن والمحاربة بين المسلمين. "كهجرةٍ إليَّ"؛ أي: كثوابِ هجرةٍ من مكة إلى المدينة قبلَ فتح مكة. * * * 4153 - وقالَ الزُّبَيْرُ بن عَدِيٍّ: أتَيْنا أَنَسَ بن مالِكٍ فشكَوْنا إليهِ ما يلقَوْنَ من الحَجَّاجِ، فقالَ: "اصبرُوا فإنَّهُ لا يأْتي عَلَيكُمْ زمانٌ إلَّا الذي بعدَهُ أَشَرُّ منهُ حتَّى تَلْقَوا ربَّكُمْ". سَمِعْتُهُ مِنْ نبيكُمْ - صلى الله عليه وسلم -. "وقال الزبير بن عدي: أتينا أنسَ بن مالك، فشَكَونا إليه ما نلقى من الحَجَّاج، فقال: اصبروا؛ فإنه لا يأتي عليكم زمانٌ إلا الذي بعدَه أشرُّ منه حتى تَلقَوا ربَّكم"؛ أي: حتى تموتوا. "سمعتُه من نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ". * * *

مِنَ الحِسَان: 4154 - عن حُذَيْفةَ - رضي الله عنه - قال: والله ما أَدْري أَنَسِيَ أَصْحابي أوْ تَناسَوْا؟ والله ما تَرَكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ قائِدِ فِتْنَةٍ إلى أنْ تَنْقضيَ الدُّنْيا يَبْلُغُ مَنْ مَعَهُ ثلاثَ مِئَةٍ فَصَاعِداً إلَّا قدْ سَمَّاهُ لنا باسمِهِ واسمِ أبيهِ واسمِ قبيلَتِهِ. "من الحسان": " عن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: والله ما أدري أنَسِيَ أصحابي أم تَنَاسَوا؟ والله ما تركَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من قائدِ فتنةٍ"، أراد به: مَن تظهر بسببه بدعةٌ وضلالةٌ ومحاربة بباطلٍ. "إلى أن تنقضيَ الدنيا، يَبلُغ مَن معه"؛ أي: مع القائد، والجملة صفة (قائد)؛ أي: يَبلُغ أتباعُه "ثلاث مئة فصاعداً"؛ أي: فزائداً. "إلا قد سَمَّاه لنا باسمه واسم أبيه واسم قبيلته". * * * 4155 - وقال: "إنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتي الأَئِمَّةَ المُضلِّينَ، وإذا وُضعَ السَّيْفُ في أُمَّتي لم يُرْفَعْ عنهمْ إلى يَوْمِ القِيامةِ". "وعن ثَوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنما أخاف على أمتي الأئمةَ المُضلِّين": يدعون أمتي إلى البدعة والضلالة. "فإذا وُضع السيفُ في أمتي لم يُرفَع عنهم"؛ يعني: إذا ظهر الحرب بينهم يبقى ذلك. "إلى يوم القيامة"، إن لم يكن في بلد يكون في بلد آخر. * * *

4156 - عن سَفينةَ قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الخِلافَةُ ثلاثونَ سنةً ثَمَّ تكونُ مُلْكاً". ثُمَّ يقولُ سَفينةُ: أمْسِكْ، خِلافةُ أبي بكرٍ سَنتين، وخِلافةُ عُمرَ عَشراً، وخِلافةُ عُثمانَ اثنتَي عَشَرةَ، وعليٌّ سِتًّا". "عن سَفِينة": مولى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: مولى أم سَلَمة، أعتقتْه واشترطتْ عليه خدمةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عاشَ، تُوفي في زمن الحجاج. "أنه قال: سمعت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: الخلافة"؛ أي: الخلافةُ المَرْضيَّةُ لله ولرسوله. "ثلاثون سَنةً": وهو زمن خلافة الخلفاء الراشدين المهديين. "ثم تكون مُلكاً"، فلا يكون الخلفاء مُتَّبعينَ بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، يظلمون الناسَ ويخلطون الشرَّ بالخير. "ثم يقول سَفِينةُ" لراويه حمادٍ أستاذِ أبي حنيفة: "أَمسِكْ"؛ أي: أحسبْ، وقيل: أمر مخاطب لا يعنيه؛ أي: احفظْ أو عدَّ. "خلافةَ أبي بكر سنتين، وخلافةَ عُمرَ عشرةً وَخلافةَ عثمان اثنتي عشرةَ، وعليٍّ ستًّا". * * * 4157 - وعن حُذَيْفةَ قال: قلتُ: يا رسُولَ الله! أيكونُ بعدَ هذا الخَيْرِ شَرٌّ كما كانَ قبلَهُ شرٌّ؟ قال: "نعمْ". قلتُ: فما العِصْمَةُ؟ قال: "السَّيفُ". قلتُ: وهَلْ بعدَ السَّيفِ بقيَّةٌ؟ قال: "نعمْ، تكونُ إِمارَةٌ على أَقْذَاءَ وهُدْنةٌ على دَخَنٍ". قلتُ: ثمَّ ماذا؟ قال: "ثمَّ تَنْشَأُ دُعاةُ الضَّلالِ، فإنْ كانَ لله في الأَرْضِ خَليفَةٌ جَلَدَ ظَهْرَكَ وأَخَذَ مالَكَ فَأطِعْهُ، وإلا فَمُتْ وأنتَ عاضٌّ على جِذْلِ

شَجَرةٍ". قلتُ: ثمَّ ماذا؟ قال: "ثمَّ يَخْرُجُ الدَّجَّالُ بعدَ ذلكَ، معَهُ نَهْرٌ ونارٌ، فمَنْ وَقَعَ في نارِهِ وجَبَ أَجْرُهُ وحُطَّ وِزْرُهُ، ومَنْ وقعَ في نهرِهِ وجَبَ وِزْرُهُ وحُطَّ أجرُهُ". قالَ: قلتُ: ثمَّ ماذا؟ قال: "ثمَّ يُنْتَجُ المُهْرُ فلا يُركَبُ حتَّى تَقُومَ السَّاعةُ". وفي رِوايةٍ: "هُدْنَةٌ على دَخَنٍ، وجَماعةٌ على أقذاءَ". قلتُ: يا رسولَ الله! الهُدْنة عَلَى الدَّخَنِ ما هيَ؟ قال: "لا تَرْجِعُ قلوبُ أقوامٍ على الذي كانتْ عليهِ". قلتُ: بعدَ هذا الخَيْرِ شرٌّ؟ قال: "فِتْنَةٌ عَمْياءُ صَمَّاءُ، عليها دُعاةٌ على أبوابِ النَّارِ، فإنْ مِتَّ يا حُذَيفَةُ وأنتَ عاضٌّ على جِذْلٍ خيرٌ لكَ منْ أنْ تتَّبعَ أَحَداً منهُمْ". "وعن حذيفة - رضي الله عنه - أنه قال: قلت: يا رسولَ الله! أيكون بعدَ هذا الخير شرٌّ"؛ أي: بعد الإسلام كفرٌ. "كما كان قبلَه شرٌّ؟ " يعني: في الجاهلية. "قال: نعم، قلت: فما العصمة؟ "؛ أي: ما طريقُ النجاة من ذلك الشر؟ "قال: السيفُ"؛ أي: طريق النجاة أن تضربَهم بالسيف. قال قتادة: المراد بهذه الطائفة: هم الذين ارتدُّوا بعد وفاة النبي - عليه الصلاة والسلام - في زمن خلافة الصدِّيق - رضي الله عنه - "قلت: وهل بعد السيف بقيةٌ؟ "؛ أي: هل يبقى الإسلامُ بعد محاربتنا إياهم؟ وهل يَصلُح أهلُ ذلك الزمان بعد ذلك؟ "قال: نعم، تكون إمارة على أقذاء" جمع: قَذًى، وهي جمع: قَذَاة، وهي ما يقع في العين من التِّبن والتراب أو غير ذلك؛ أي: يكون اجتماع الناس على مَن جُعل أميراً بكراهة لا بطيبِ القلوب، يقال: فعلت كذا وفي العين قذًى؛ أي: فعلتُه على كراهةٍ. "وهُدْنة" بضم الهاء وسكون الدال: الصُّلح والموادعة بين المتحاربين.

"على دَخَن": وهو الكُدورة واللون الذي يضرب إلى السواد؛ يعني: يقع صلحٌ مع ذلك الأمير غيرُ صافٍ، بل على بقايا من الضغن؛ لعدم الموافقة، وذلك أن الدخانَ أثرٌ من النار يدلُّ على بقيةٍ منها، يُظهرون الصلحَ ويُبطنون العداوةَ والبغضَ؛ كما أن العينَ التي فيها القذاةُ ظاهرُها صحيحٌ وباطنُها سقيمٌ. "قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم تنشأ"؛ أي: تَظهَر "دعاة الضلال". "فإن كان لله في الأرض خليفةٌ جَلَدَ ظَهرَك": صفة (خليفة). "وأخذَ مالَك، فأَطِعْه": إنما أمره بالإطاعة مع ذلك كله؛ لئلا تثورَ فتنة. "وإلا"؛ أي: وإن لم يكن لله في الأرض خليفةٌ "قمتَ": خبر بمعنى الأمر؛ أي: قُمْ. "وأنت عاضٌّ على جذلِ" بفتح الجيم وكسرها؛ أي: على أصلِ "شجرةٍ"؛ أي: فعليك بالعزلة عنهم والفرار منهم إلى موضعٍ بعيدٍ عنهم تحتَ شجرةٍ، وبالصبر على مصائب الزمان وتحمُّل مشاقِّه، وهذا مأخوذ من قولهم: يعضُّ الحجارةَ لشدة الألم، أو من قولهم: عضَّ الرجلُ بصاحبه: إذا لزمَه ولصقَ به. "قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم يخرج الدجال بعد ذلك، معه نهرٌ ونارٌ، فمَن وقع في ناره"؛ يعني: مَن خالَفَه حتى يلقيَه في ناره، وإضافة النار إليه دليلٌ على أنه ليس بنارٍ، بل سحر. "وجب أجرُه وحُطَّ وِزرُه، ومَن وقع في نهره وجب وِزرُه وحُطَّ أجرُه، قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: ثم يُنتج المُهرُ" من: النَّتج، يقال: نتُجت الفَرَسُ أو الناقةُ - على بناء ما لم يسم فاعله - نتاجاً، ونتَجها أهلُها نَتجاً، والإنتاج: اقتراب ولادتها، والمُهر: ولد الفَرَس، والأنثى: مُهرة. "فلا يُركِب" بضم الياء وكسر الكاف، من قولهم: أَركبَ المُهرُ: إذا حان وقتُ ركوبه.

"حتى تقومَ الساعة"، قيل: لعل المراد به: زمان نزول عيسى - عليه السلام - وظهور الإسلام، ووقوع العدل والأمن بين الناس يومَئذٍ، فلا يُركب المُهر إلى يوم القيامة؛ لعدم احتياج الناس في ذلك الزمان إلى محاربة بعضهم بعضاً، وقيل: المراد: أن بعد خروج الدجال لا يكون زمان طويل حتى تقومَ الساعة؛ أي: أنه يكون حينئذ قيام القيامة قريباً قَدْرَ زمان إنتاج المُهر وإركابه. "وفي رواية: هُدنة على دَخَن، وجماعةٌ على أقذاء، قلت: يا رسولَ الله! الهُدنة على الدَّخَن ما هي؟ قال: لا ترجع قلوبُ أقوامٍ على الذي كانت عليه"؛ أي: لا تكون قلوبُهم صافيةً عن الحقد والبغض كما كانت صافيةً قبل ذلك. "قلت: بعدَ هذا الخير شرٌّ؟ قال: فتنة عمياء"؛ أي: يَعمَى فيها الإنسانُ عن أن يرى الحقَّ. "صمَّاء"؛ أي: ويصمُّ عن أن يَسمعَ فيها النصيحةَ والهُدى، بل يتحاربون لا عن بصيرة بل جهلاً وعداوةً، كما أن الأعمى لا يدري أين يذهب؛ فكذا أولئك لا يدرون بأي سببِ يقاتلون؟ وقيل: الفتنة التي لا سبيلَ إلى تسكينها؛ لتناهيها شدةً ودهاءً. "عليها دعاةٌ على أبواب النار، فإن تَمُتْ يا حذيفةُ وأنت عاضٌّ على جذلٍ خيرٌ لك من أن تتبعَ أحداً منهم". * * * 4158 - عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قالَ: كنتُ رَديفاً خَلْفَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْماً على حِمارٍ، فلمَّا جاوَزنا بُيوتَ المَدينةِ قال: "كيفَ بكَ يا أبا ذَرٍّ إذا كانَ في المدينةِ جُوْعٌ تقومُ عنْ فِراشِكَ فلا تبلُغُ مَسْجدَكَ حتَّى يُجْهِدَكَ الجُوعُ؟ " قالَ: قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قالَ: "تعفَّفْ يا أبا ذرٍّ"، ثمَّ قالَ: "كيفَ بكَ يا أبا ذرٍّ إذا كانَ بالمَدينةِ مَوْتٌ يبلُغُ البَيْتُ العبدَ حتَّى أنَّه يُباعُ القَبْرُ بالعبدِ؟ " قالَ: قلتُ: الله

ورسولُهُ أعلمُ، قال: "تصَبَّرْ يا أبا ذرٍّ"، قالَ: "كيفَ بكَ يا أبا ذرٍّ إذا كانَ بالمَدينةِ قَتْلٌ تَغْمُرُ الدِّماءُ أَحْجارَ الزَّيْتِ؟ " قال: قلتُ: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال: "تأْتي مَنْ أنتَ منهُ" قالَ: قلتُ: وألبَسُ السِّلاحَ؟ قال: "شارَكْتَ القَوْمَ إذاً" قُلتُ: فكيفَ أَصْنعُ يا رسولَ الله؟ قال: "إنْ خَشِيْتَ أنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فأَلْقِ ناحِيةَ ثوبكَ عَلَى وَجْهِكَ لِيَبُوءَ بإثْمِكَ وإِثْمِهِ". "عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: كنتُ رديفاً خلفَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً على حمارٍ، فلما جاوزْنا بيوتَ المدينة قال: كيف بك يا أبا ذَرٍّ إذا كان في المدينة جوعٌ"؛ يعني: كيف يكون حالك إذا ظهر فيها قحطٌ وحصل لك جوعٌ؟ "تقوم عن فراشك ولا تَبلُغ مسجدَك حتى يَجهدَك الجوعُ؟ "؛ أي: يُلقيك في الجَهد، وهو المشق؛ يعني: يُزيل قوتَك حتى تعجزَ عن المشي من البيت إلى المسجد. "قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: تعفَّفْ يا أبا ذَرٍّ"؛ أي: لازِمِ العفةَ، وهي الصلاح والتصبُّر على أذى الجوع، والتقوى والكفُّ عن الحرام وعن سؤال الناس. "ثم قال: كيف بك يا أبا ذَرٍّ إذا كان في المدينة موتٌ يَبلُغ البيتُ" أراد به: القبر. "العبدَ حتى إنه يُباع القبرُ بالعبدِ؟ "؛ يعني: يُباع موضعُ كلُّ قبرٍ بعبدٍ؛ يعني: لا يَحفر الحفَّار قبراً حتى يأخذَ عبداً أو قيمتَه بالأجرة، أو لا يجد أحدٌ موضعَ قبرٍ إلا بعبدٍ؛ من كثرة الأموات، وقلة مَن يقوم بأمرهم، أو أنه لا يبقى في كل بيت كان فيه كثيرٌ من الناس إلا عبدٌ يقوم بمصالح ضَعَفَة أهل ذلك البيت. "قال: قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: تصبَّرْ يا أبا ذَرٍّ"؛ يعني: اصبرْ بالبلاء ولا تَجزعُ تُصِبِ الأجرَ.

"قال: كيف بك يا أبا ذَرٍّ إذا كان في المدينة قتلٌ تَغمرُ"؛ أي: تسترُ "الدماءُ أحجارَ الزيت؟ " وتعلوها؛ لكثرة القتلى، وهي اسم موضع بالمدينة قريب الزَّوراء، موضع صلاة الاستسقاء. وفي "المغرب": (أحجار الزيت): مَحلَّة بالمدينة، قيل: قد وقعت هذه الوقعةُ في أيام يزيد بن معاوية، توجَّه إليها مسلم بن عقبة المُرِّيُّ المستبيح لحرم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونزل بعسكره في متن الغربية من المدينة، واستباح حُرمتَها وقَتلَ رجالَها وعاث فيها ثلاثةَ أيام؛ أي: أفسدَ، وقيل: خمسةَ أيام، ثم توجَّه إلى مكة، وذابَ كما يذوب الملح في الماء، ومات في الطريق. "قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: تأتي مَن أنتَ منه"؛ أي: ترجع إلى إمامك ومَن بايعتَه. "قال: قلت: وأَلبَس السلاحَ؟ قال: شاركتَ القومَ إذاً"؛ أي: في الإثم، قاله لتأكيد الزجر عن إراقة الدماء، وإلا فالدفعُ واجبٌ. "قلت: فكيف أصنع يا رسولَ الله؟ قال: إن خشيتَ أن يَبهَرَك شعاعُ السيف"؛ أي: يغلبَك ضوؤُه وبريقُه، والبَهْر: الغَلَبة، وقيل: الباهر: الشديد الإضاءة. "فألقِ ناحيةَ ثوبكِ على وجهك"؛ يعني: لا تُحارِبْهم وإن حاربوك، بل اسلمْ نفسَك للقتل. "لِيبوءَ"؛ أي لِيرجعَ القاتلُ "بإثمِك وإثمِه"، والاستسلام: إنما يكون إذا لم يمكن الفرار، وإنما أُمر بالاستسلام وعدم المحارب؛ لأن أولئك من أهل الإسلام. * * *

4159 - وعن عبدِ الله بن عَمْرِو بن العاصِ: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "كيفَ بكَ إذا بَقيتَ في حُثالَةٍ مِنَ النَّاسِ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ وأَماناتُهُمْ، واخْتَلَفُوا فكانُوا هكذا؟ " وشَبَّكَ بينَ أَصَابعِهِ، قال: فبمَ تأمُرُني؟ قال: "عليكَ بِما تعرِفُ، ودَعْ ما تُنكِرُ، وعَلَيكَ بخَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَإيَّاكَ وعَوَامَّهُمْ". وفي روايةٍ: "اِلزَمْ بَيْتَكَ، واملِك عَليكَ، لسانَكَ، وخُذْ ما تَعْرِفُ، ودَعْ ما تُنكِرُ، وعليكَ بأمرِ خَاصَّةِ نفسِكَ، ودَعْ أَمْرَ العَامَّة"، صحيح. "وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: كيف بك"؛ أي: كيف حالُك. "إذا بقيتَ في حُثالةٍ من الناس", والحُثالة بضم الحاء المهملة: الرديء من كل شيء. "مَرَجَتْ"؛ أي: اختلطتْ وفَسدتْ. "عهودُهم وأماناتُهم"؛ يعني: لا يكون أمرهم مستقيماً، بل يكون كلَّ يومٍ أو كلَّ لحظةٍ على طبعٍ وعلى عهدٍ، ينقضون العهودَ ويخونون الأماناتِ. "واختلفوا، فكانوا هكذا، وشبَّك بين أصابعه"؛ يعني: يمزج بعضهم في بعض، فلا يُعرف الأمين والخائن، ولا البَرُّ ولا الفاجر. "قال: فبمَ تأمرُني؟ قال: عليك بما تَعرِف"؛ أي: الزمْ بما تَعرف كونَه حقًّا وصواباً وافعلْه. "ودَعْ"؛ أي: اتركْ "ما تُنكِر، وعليك بخاصة نفسك"؛ أي: الزمْ أمرَ نفسِك ودِينك واحفظْهم من الفساد. "وإياك وعوامَّهم"؛ أي: اتركْهم ولا تتبعْهم، وفي هذا رخصةٌ منه - عليه الصلاة والسلام - في ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كثرت الأشرار،

وقلَّت الأخيار، وضعفت الحال، ولم يقدروا على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. "وفي رواية: الزمْ بيتَك، وأملِكْ عليك لسانَك" من: الإملاك، وهو الشَّدُّ والإحكام؛ يعني: شدَّ لسانَك؛ أي: أمسكْ لسانَك ولا تتكلمْ في أحوال الناس؛ كيلا يؤذوك. "وخذْ ما تَعرِف، ودَعْ ما تنكر، وعليك بأمر خاصة نفسك، ودَعْ أمرَ العامة. صَحَّ". * * * 4160 - عن أبي مُوسى، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قال: "إنَّ بينَ يَدَي السَّاعةِ فِتَناً كقِطَعِ اللَّيلِ المُظْلِمِ، يُصْبحُ الرَّجُلُ فيها مُؤْمِناً ويُمسي كافِراً، ويُمْسِي مُؤْمِناً ويُصْبحُ كافِراً، القاعِدُ فيها خَيْرٌ منَ القائِمِ، والماشي خيرٌ مِنَ السَّاعي، فكسِّرُوا فيها قِسِيَّكُمْ، وقطِّعُوا فيها أوْتاركمْ واضْرِبُوا سُيُوفَكُمْ بالحِجَارَةِ، والزَمُوا فيها أَجْوافَ بُيوتكُمْ، فإنْ دُخِلَ على أَحَدٍ منكُمْ فَلْيكُنْ كخَيْرِ ابنيْ آدمَ"، صحيح. ويُروَى: أَنَّهم قالوا: فَما تأمُرُنا؟ قال: "كونوا أَحْلاسَ بُيُوتكُمْ". "عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن بين يدَي الساعة فتناً كقِطَعِ الليل المُظلِم"؛ أي: تكون فتنة ملتبسة شائعة في الدنيا؛ لفظاعتها واستمرارها. "يصبح الرجلُ فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعدُ فيه خيرٌ من القائم، والماشي خيرٌ من الساعي، فكسِّروا فيها قِسيَّكم" جمع: قَوس. "وقطِّعوا فيها أوتاركم، واضربوا سيوفَكم بالحجارة"، إنما أَمَرَ بذلك؛

لأن تلك المحاربةَ تكون بين المسلمين. "والزموا فيها أجوافَ بيوتكم، فإنْ دُخِلَ على أحدٍ منكم فليكنْ كخيرِ ابني آدم"؛ يعني: فليستسلمْ حتى يكونَ قتيلاً كهابيل، ولا يكونَ قاتلاً كقابيل. "صح". "ويروى: أنهم قالوا: فما تأمرنا؟ قال: كونوا أحلاسَ بيوتكم" جمع: حِلْس، وهو في الأصل: كِساء تحت بَزذَعَةِ البعير، وأحلاس البيوت: ما يُبسط تحت حُرِّ الثياب، ويقال للرجل اللازم لبيته ولا يبرح فيه: هو حِلْس بيته؛ أي: الزموا بيوتَكم ولا تخرجوا؛ كيلا تقعوا في الفتنة. * * * 4161 - وعن أُمِّ مالكٍ البَهْزِيَّةِ قالت: ذكَرَ رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِتنةً فقَرَّبَها، قلتُ: مَنْ خيرُ النَّاسِ فيها؟ قال: "رَجُلٌ في ماشِيَتِهِ يُؤدِّي حَقَّها ويَعبُدُ ربَّهُ، ورَجُلٌ آخذٌ برَأْسِ فَرَسِهِ يُخِيْفُ العَدُوَّ ويُخوِّفُونَه". "عن أم مالك البَهْزِية - رضي الله عنها - أنها قالت: ذكرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فتنةً، فقرَّبَها"؛ أي: جعلها قريبة الوقوع؛ يعني: وصفَها للصحابة وصفاً بليغاً، فإن مَن وصفَ عند أحدٍ شيئاً وصفًا بليغاً فكأنه قرَّب ذلك الشيءَ إليه. "قلت: مَن خيرُ الناس فيها؟ قال: رجلٌ في ماشيته"؛ يعني: هربَ من الفتنة ومخالطة الناس إلى بادية بعيدة، ويرعى مواشيَه ويقيم هناك. "يؤدي حقَّها" من زكاتها. "ويعبد ربَّه، ورجلٌ آخِذٌ برأس فرسه يُخيف العدوَّ" أراد به: الكفار. "ويخوِّفونه"؛ يعني: أنه هربَ منها و [من] قتال المسلمين، وقصدَ ثغراً من الثغور يقاتل فئةَ الكفار ويقاتلونه، فبقي سالماً منها غانماً للأجر والمَثُوبة. * * *

4162 - عن عبد الله بن عمرو قال، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستكونُ فِتنةٌ تستنظِفُ العربُ قَتلاها في النَّارِ اللِّسانُ فيها أشدُّ منْ وَقْعِ السَّيفِ". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستكون فتنةٌ تَستنظِفُ العربَ"؛ أي: تستوعبهم وتَصِلُ إلى جميعهم. "قتلاها": جمع قتيل، بمعنى: مقتول. "في النار": وإنما كانوا فيها؛ لإباحتهم القتالَ مع القاتلين، أو لأنهم لم يقصدوا إعلاءَ الدِّين ودفعَ الظلم عن المسلمين، بل قصدوا التفاخرَ والطمعَ في المال والمُلك. "اللسانُ فيها أشدُّ من وقعِ السيفِ"؛ أي: التعرُّض لأهلها من الشتم والغِيبة وذِكرِهم بالسوء كالمحاربة معهم، لعل لمراد بهذه الفتنة: الحرب التي وقعت بين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وبين معاوية؛ فإن أصحابَهما أكثرُهم كانوا أصحابَ النبي - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4163 - وعن أبي هُريرةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ستكونُ فِتْنَةٌ صَمَّاءُ بَكْماءُ عَمْياءُ، مَنْ أَشْرَفَ لها استَشْرَفَتْ لهُ، وإِشْرافُ اللِّسانِ فيها كوُقُوعِ السَّيفِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستكون فتنة صمَّاء بَكْمَاء"؛ يعني: لا يَقدِر أحدٌ أن يأمرَ بالمعروف أو ينهى عن المنكر، فمَن تكلَّم فيها بحقٍّ أُوذِيَ. "عمياء": تقدم معنى (العمياء) و (الصَّمَّاء). "مَن أَشرفَ لها"؛ أي: اطَّلع عليها وقَرُبَ منها.

"استَشرفتْ له"؛ أي: اطلعتْ تلك الفتنةُ عليه وجذبتْه إليها. "وإشرافُ اللسان"؛ أي: إطالتُه "فيها كوقوع السيف". * * * 4164 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ قال: كُنَّا قُعُوداً عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ الفِتَنَ، فأَكثَرَ حتَّى ذَكَرَ فِتْنَةَ الأَحْلاسِ، فقالَ قائِلٌ: وما فِتْنَةُ الأَحْلاسِ؟ قال: "هيَ هَرَبٌ وحَرْبٌ، ثمَّ فِتْنَةُ السَّرَّاءِ دَخَنُها منْ تحتِ قَدَمَيْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ بيتي، يَزْعُمُ أنَّهُ منِّي وليسَ منِّي، إنَّما أَوْليائي المُتَّقُونَ، ثمَّ يَصْطَلِحُ النَّاسُ على رَجُلٍ كوَرِكٍ على ضلَعٍ، ثمَّ فِتْنَةُ الدُّهَيْماءِ لا تَدَع أَحَدًا مِنْ هذهِ الأُمَّةِ إلا لطَمَتْهُ لَطْمةً، فإذا قيلَ: انقضَتْ تمادَتْ، يُصْبحُ الرَّجُلُ فيها مُؤْمِناً ويُمْسِي كافِراً، حتَّى يَصيرَ النَّاسُ إلى فُسْطاطَيْنِ: فُسطاطِ إِيْمانٍ لا نِفاقَ فيهِ، وفُسْطاطِ نِفاقٍ لا إِيْمانَ فيهِ، فإذا كانَ ذلكُمْ فانتظِرُوا الدَّجَّالَ مِنْ يَوْمِهِ أوْ مِنْ غَدِه". "عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: كنا قعوداً"؛ أي: قاعدين. "عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فذَكرَ الفتنَ، فأَكَثرَ"؛ أي: أكثرَ ذِكرَها. "حتى ذَكرَ الأحلاس": إنما أُضيفت إلى (الأحلاس) لدوامها وطول لبثها، فإن الحِلْسَ يفرش على المكان ويبقى عليه ما دام لا يُرفَع، أو شبَّهها بها لسواد لونها وظلمتها. "قال قائل: وما فتنةُ الأحلاس؟ قال: هي هَرَبٌ"؛ أي: فرارٌ، يفرُّ بعضُ الناس من بعض؛ لِمَا بينهم من المحاربة. "وحَرَبٌ" بفتح الحاء والراء المهملتين؛ أي: أخذُ مالٍ وأهلٍ بغير استحقاق. "ثم فتنة السرَّاء"؛ أي: ذكرَها، تسميتها بـ (السرَّاء)؛ لأنها تَسُرُّ العدوَّ، أو

لأن سببَ الوقوع فيها والابتلاء بها البَطَرُ وسَعَةُ النعمة؛ إذ السرَّاء هو الرخاء، فالإضافة للملابسة أو لكونه فتنةً واسعةً لكثرة الشرور والمفاسد فيها، وقيل: (سرَّاء) من: السَّرَر، داءٌ يأخذ الناقةَ في سُرَّتها، يقال: ناقة سرَّاء؛ أي: بها داء السَّرَر، فالمعنى: فتنة واقعة في الناس تُوجع صدورَهم من الحزن ولحوق الضرر بهم. ويحتمل أن تكون صفة للفتنة، فأُضفيت إليها إضافةَ (مسجد الجامع) على تأويل: فتنة الحادثة السرَّاء. "دَخَنُها"؛ أي: دخانُها، والمراد: ظهورها وإثارتها، شبتهها بالدخان المرتفع، يقال: دَخِنَتِ النارُ دَخَناً: إذا ارتفع دخانُها. "من تحت قَدَمَي رجل"؛ أي: تَظهَر تلك الفتنة بواسطة رجل. "من أهل بيتي، يزعم أنه مني" في الفعل، وإن كان مني في النَّسَب. "وليس مني"؛ أي: من أخلَّائي، أو من أوليائي في الحقيقة، أو من أهلي في الفعل؛ لأنه لو كان من أهلي لم يهيج الفتنةَ. "إنما أوليائي المتَّقون، ثم يصطلح الناسُ على رجلٍ كَورِكٍ على ضلَعٍ" واحد: الضلوع. قال الخطابي: معناه: يصطلحون على بَيعةِ رجلٍ لا يَصلُح للخلافة، ولا يستقيم به الأمر، وهو تمثيل لعدم استقلاله بالمُلك وعدم ملائمته له، كالوَرِك لا يلائم الضلعَ، ولا يقوم به ولا يحمله. "ثم فتنة الدُّهَيماء" تصغير: الدَّهماء، وهي الداهية، وقيل: السوداء المظلمة. "لا تَدَعُ"؛ أي: لا تتركُ. "أحداً من هذه الأمة إلا لطمتْه لَطمةً"، واللَّطم: الضرب على الوجه ببطن

الكَف، والمراد: أن أثر تلك الفتنة يعمُّ الناسَ ويَصِلُ إلى كل أحد ممن حضرها. "فإذا قيل: انقضت"؛ أي: تلك الفتنةُ. "تمادت"؛ أي: بلغتْ غايتَها. "يصبح الرجلُ فيها مؤمناً"؛ لتحريمه دمَ أخيه وعِرضَه ومالَه. "ويمسي كافراً" بتحليله ذلك. "حتى يصيرَ الناس إلى فسطاطَين" يريد بالفسطاط: المدينة التي فيها مجتمع، وكل مدينة: فسطاط، ويقال لنوع من الأبنية في السفر مثل الخيمة. "فسطاطُ إيمانٍ لا نفاقَ فيه، وفسطاطُ نفاقٍ لا إيمانَ فيه"؛ يعني: يصير أهلُ لك الزمان فرقتين: مؤمن خالص، وكافر خالص. "فإذا كان ذلك فانتظروا الدجالَ من يومِه أو من غدِه". * * * 4165 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "وَيْلٌ للعَرَبِ مِن شَرٍّ قدِ اقترَبَ، أَفلَحَ مَنْ كَفَّ يدَهُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ويلٌ للعرب، من شرٍّ قد اقترب"، لعله يريد بهذا الشر: الاختلاف الذي يَظهَر في زمن عليٍّ ومعاوية، وبين الحسين وبين يزيد. "أفلحَ مَن كفَّ يدَه"؛ أي: مِن المحاربة والمخاصمة. * * * 4166 - عن المِقْدادِ بن الأَسْوَدِ: أنَّه قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ السَّعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السَّعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَنَ، إنَّ السَّعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ

الفِتَنَ، ولَمَنْ ابتُلِيَ فَصَبَرَ فَواهاً". "عن المقداد بن الأسود - رضي الله عنه - أنه قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفتنَ"؛ أي: بَعُدَ عنها. "إن السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفتنَ، إن السعيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفتنَ، ولَمَنْ ابتُلي"؛ أي: وقعَ في الفتنة. "فصبر" على أذاهم ولم يحاربهم. "فواهاً" معناه: التلهُّف، وقد يُوضَع موضعَ الإعجاب بالشيء والاستطابة له، وهو المراد هنا؛ أي: ما أحسنَ وأطيبَ صَبْرَ مَن صَبَرَ عليها! وقد يَرِدُ بمعنى: التوجُّع، وقيل: معناه: فطُوبَى له. * * * 4167 - عن ثوبانَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وُضعَ السَّيْفُ في أُمَّتي لم يُرفَعْ عَنْها إلى يَوْمِ القِيامَةِ، ولا تقومُ السَّاعَةُ حتَّى تَلْحَقَ قبائِلُ مِنْ أُمَّتي بالمُشْرِكينَ، وحتَّى تَعْبُدَ قبائِلُ مِنْ أُمَّتي الأَوْثانَ، وأَنَّهُ سيكونُ في أُمَّتي كذَّابونَ ثلاثونَ، كُلُّهمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيُّ الله، وأنا خَاتَمُ النَّبيينَ لا نبيَّ بَعْدِي، ولا تَزَالُ طائفة مِنْ أُمَّتي على الحَقِّ ظاهِرينَ لا يَضُرُّهُمْ مَنْ خالَفَهُمْ حتَّى يأتيَ أمرُ الله". "عن ثوبان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله عليه وسلم: إذا وُضع السيف في أمتي، لم يرفع عنها إلى يوم القيامة، ولا تقوم الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان، وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون، كلهم يزعم أنه نبي الله، وأنا خاتم النبيين، لا نبيَ بعدي، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله":

تقدم بيانه في (باب العلم). * * * 4168 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "تدورُ رَحَى الإِسلامِ لخَمْسٍ وثلاثينَ، أو سِتٍّ وثلاثينَ، أو سَبعٍ وثلاثينَ، فإنْ يَهْلِكُوا فَسَبيلُ مَنْ هَلَكَ، وإنْ يَقُم لهمْ دينُهُمْ يقُمْ لهمْ سبعينَ عاماً". قلتُ: "أَمِمَّا بقيَ أوْ مِمَّا مَضَى؟ قال: "مِمَّا مَضى"، صحيح. "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: تدور رحى الإسلام": وهو أن ينتظمَ أمره، من قولهم: فلان رحى القوم؛ أي: سيدهم، سمي به لانتظام أمرهم به، والمعنى: أن أمر الإسلام يستقر ويدور على ما ينبغي. "لخمس وثلاثين": ففيها مقتل عثمان - رضي الله عنه -، وهو فتنة الدار، ولم يكن قبلها في الإسلام، واللام بمعنى: (في). "أو لست وثلاثين": شك من الراوي، ففيها خرج طلحة والزبير إلى حرب الجمل. "أو لسبع وثلاثين": ففيها حرب صفين، بكسر الصاد المهملة والفاء المشددة. "فإن يهلكوا"؛ أي: اختلفوا بعد ذلك، واستهانوا بالدين. "فسبيل من هلك"؛ أي: سبيلهم سبيل من هلك قبلهم من الأمم السالفة الذين زاغوا عن الحق، سمي الاشتغال بأسباب الهلاك هلاكاً تسميةً للسبب باسم المسبب. "وإن يَقُمْ لهم دينُهم"؛ أي: إن عاد أمرهم إلى ما كان عليه من إيثار الطاعة ونصرة الحق.

"يَقَمْ لهم"؛ أي: تمادى لهم قوة الدين. "سبعين عاماً، قلت: أمما بقي أو مما مضى؟ "؛ يعني: قيام دينهم تلك المدة بعد خمس وثلاثين أم يكون مع الخمسة والثلاثين؟ "قال: مما مضى"؛ يعني: يكون مع الخمسة والثلاثين. قال الخطابي: دوران الرحى: كناية عن امتداد الحرب والقتال، شبَّهها بالرحى الدوارة التي تطحن الحب؛ لما فيها من هلاك الأنفس، وفسر الدين بالملك، يريد به: ملك بني أمية وانتقاله إلى بني العباس، وكان ما بين استقرار الملك لبني أمية إلى أن ظهرت الدعاة بخراسان وضعف أمر بني أمية نحواً من سبعين سنة. ردَّ بعض الشارحين قول الخطابي بأن ما ذكره مخالفٌ لظاهر الحديث ولسياقه؛ لأنا لم نجدهم يستعملون دوران الرحى في أمر الحرب من غير جريان ذكرها والإشارة إليها. وقال: لو تأمل الخطابي الحديث كلَّ التأمل وبنى التأويل على سياقه؛ لعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرد ملك بني أمية دون غيرهم من الأمة، فإن الملك في بعض الأيام العباسية، لم يكن أقل استقامة منه في الأيام المروانية، ومدة إمارة بني أمية من معاوية إلى مروان بن محمد كانت نحواً من تسع وثمانين سنة، والتواريخ تشهد له، بل أراد: استقامة أمر الأمة في طاعة الولاة وإقامة الحدود والأحكام، وجعل المبدأ فيه أول زمان الهجرة، وأخبرهم: أنهم يلبثون على ما هم عليه خمساً أو ستاً أو سبعاً وثلاثين، ثم يشقون عصا الخلاف، فتفترق كلمتهم. * * *

2 - باب الملاحم

2 - باب المَلاحِمِ (باب الملاحم) جمع: ملحمة، وهي الواقعة العظيمة، وقيل: موضع القتال، مأخوذ من اللحم؛ لكثرة لحوم القتلى فيها، قيل: ومن أسمائه - صلى الله عليه وسلم -: نبي الملحمة؛ أي: نبي القتال. مِنَ الصِّحَاحِ: 4169 - عن أبي هُريرَةَ: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَقْتَتِلَ فِئَتانِ عَظيمَتانِ، يكونُ بينَهُما مَقْتَلَةٌ عَظيمةٌ دَعْواهُما واحِدَةٌ، وحتَّى يُبعَثَ دجَّالونَ كَذَّابونَ قَريبُ مِنْ ثلاثينَ، كلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رسولُ الله، وحتَّى يُقبَضَ العِلْمُ، وتَكْثُرَ الزَّلازِلُ، ويتقارَبَ الزَّمانُ، وتَظْهَرَ الفِتَنُ، ويَكْثُرَ الهَرْجُ وهو القتْلُ، وحتَّى يَكْثُرَ فيكُمُ المالُ فيَفيضَ حتَّى يُهِمَّ رَبَّ المالِ مَنْ يَقْبَلُ صَدَقتَهُ، وحتَّى يَعْرِضَهُ فيقولُ الذي يَعْرِضُهُ عليهِ: لا أَرَبَ لي بِهِ، وحتَّى يتَطاوَلَ النَّاسُ في البنيانِ، وحتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فيقولَ: يا ليتَني مَكانَهُ، وحتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبها، فإذا طَلعَتْ ورَآها النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، فذلكَ حِيْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}، ولتُقُومَنَّ السَّاعَةُ وقَدْ نشَرَ الرَّجُلانِ ثَوبَهُما بينَهُما فلا يتَبايَعانِهِ ولا يَطْوِيانِهِ، ولتُقُومَنَّ السَّاعَةُ وقَدِ انصَرَفَ الرَّجُلُ بلَبن لِقْحَتِهِ فلا يَطْعَمُهُ، ولتُقومَنَّ السَّاعَةُ وهو يَلِيطُ حَوْضَهُ فلا يَسقي فيهِ، ولتقومَنَّ السَّاعَةُ وقدْ رَفَعَ أُكْلَتَهُ إلى فيهِ فلا يَطعَمُها". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعة حتى يقتتلَ

فئتان عظيمتان، يكون بينهما مقتلة عظيمة"؛ أي: موضع قتال. "دعواهما واحدة": وهي الإسلام؛ يعني: تدَّعي كلُّ واحدة من الطائفتين أنها على دين الإسلام. "وحتى يُبعَث دجَّالون كذابون": كل كذاب دجال، يقال: دجل الحقَّ بالباطل؛ أي: غطاه به، ومنه أخذ الدجَّال، ودجله: سحره وكذبه، أو تمويهه على الناس وتلبيسه، أو ضربه في الأرض وقطعه أكثر نواحيها. "قريب من ثلاثين، كلهم يزعم أنه رسول الله، وحتى يقبض العلم، وتكثر الزلازل": جمع زلزلة، وهي تحريك الأرض. "ويتقارب الزمان": قال الخطابي: يريد به زمان خروج المهدي، ووقوع الأمانة في الأرض بما يبسطه من العدل فيها. "وتظهر الفتن، ويكثر الهرج، وهو القتل، وحتى يكثر فيكم المال فيفيض": من فاض الماء: إذا انصبَّ عند امتلائه. "حتى يهمَّ ربُّ المال"؛ أي: يحزنه فقدان "من يقبل صدقته": قيل: وذلك إنما يكون لانقطاع نفوس الناس عن الرغبة في المال؛ لما رأوا من أشراط الساعة. "وحتى يعرضه فيقول الذي يعرضه عليه"؛ يعني: الفقير. "لا أربَ"؛ أي: لا حاجة. "لي فيه وحتى يتطاول الناس في البنيان"؛ أي: يفتخرون بارتفاع الأبنية. "وحتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه"؛ يعني: يا ليتني كنت ميتاً حتى لا أرى الفتن. "وحتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناس، آمنوا أجمعون، فذلك حين لا ينفعُ نفساً إيمانها لم تكن آمنت": قيل: الجملة صفة

(نفس)، والأولى أن تحمل على الاستئناف؛ لئلا يقع الفصل بين الصفة والموصوف. "من قبل"؛ أي: قبل طلوع الشمس من مغربها؛ لأن ذلك الإيمان إيمان يأس، وهو غير مقبول. "أو كسبت": عطف على (آمنت). "في إيمانها خيراً": المراد من الخير: التوبة أو الإخلاص، فتنوينه للتعظيم؛ يعني: لا ينفع تلك النفس إيمانها في قبول توبتها، وهذا اقتباس من قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] الآية. قيل: عدم قبول الإيمان والتوبة في ذلك الوقت مخصوصٌ بمن يشاهد طلوعها حتى أن من ولد بعده أو لم يشاهده يقبل كلاهما منه، والأصح أنه غير مخصوص به؛ لما جاء في الحديث الصحيح: "إن التوبة لا تزال مقبولة (¬1) حتى يُغلَق بابُها، فإذا طلعت الشمس من مغربها أُغلِق". "ولتقومن الساعة وقد نشر"؛ أي بسط "الرجلان ثوبهما بينهما، فلا يتبايعانه، ولا يطويانه، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته": وهي ذات اللبن من النوق. "فلا يطعمه"؛ أي: فلا يتمكن أن يشرب اللبن الذي حلبه. "ولتقومن الساعة وهو يليطُ حوضه"؛ أي: يطينه، ويصلحه؛ ليسقي به إبله. "فلا يسقي فيه، ولتقومن الساعة وقد رفع أُكْلَته": بضم الهمزة؛ أي: لقمته. ¬

_ (¬1) في "غ": "تقبل".

"إلى فيه، فلا يطعمها": وهذا إشارة إلى أن قيام الساعة يكون بغتة، تقوم وهم في اشتغالهم. * * * 4170 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقاتِلُوا قَوْمًا نِعَالُهُمُ الشَّعَرُ، وحتَّى تُقاتِلُوا التُّرْكَ صِغَارَ الأَعيُنِ حُمْرَ الوُجوهِ ذُلْفَ الأُنوفِ، كأنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ". "وعنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا أقواماً نعالهم الشعر"؛ أي: من جلود مشعرة غير مدبوغة، ذهب بعضهم إلى أنهم الديلم؛ لأن نعالهم الشعر. "وحتى تقاتلوا التُّرْكَ"، قال السدي: الترك سرية من يأجوج ومأجوج، فجميع الترك منهم، وعن قتادة: أنهم كانوا اثنين وعشرين قبيلة، بنى ذو القرنين السدَّ على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت قبيلة واحدة وهم الترك، سموا التُّرك؛ لأنهم تركوا خارجين. "صغارَ الأعين حمرَ الوجوه ذُلْفَ الأنوف": جمع الأنف، (الذُّلف) بضم الذال المعجمة وسكون اللام: جمع الأذلف كـ (حمر) و (أحمر)، وهو الذي يكون أنفه صغيراً أو يكون في طرفه غلظ. "كأن وجوههم المجان" بفتح الميم وتشديد النون: جمع المجنُّ، وهو الترس. "المطرَّقة" بضم الميم وفتح الراء المخففة: وهي التي ألبست طراقًا؛ أي: جلداً يغشاها، شبه وجوههم في عرضها ونتوء وجناتها بالترس الملبس طراقًا، قيل: وجد قتال هؤلاء الترك الموصوفين بالصفات المذكورة مرات، وهذه كلها

معجزات لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى. * * * 4171 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تُقاتِلُوا خُوزاً وكِرْمانَ مِنَ الأعاجِمِ، حُمْرَ الوُجوهِ فُطْسَ الأُنوفِ صِغارَ الأَعيُنِ، كأنَّ وُجوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ نِعالُهُمُ الشِّعَرِ". ويُروَى: "عِراضَ الوُجُوهِ". "وعنه قال: قال رسول الله عليه السلام: لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا خُوزاً": بضم الخاء. "وكرمان" بفتح الكاف: هما بلدتان معروفتان، والمراد منهما: صنفان من الترك. "من الأعاجم حمرَ الوجوهِ فُطْسَ الأنوف" [بضم الفاء] وسكون الطاء المهملة: جمع الأفطس، وهو: الذي تنخفض قصبة أنفه. "صغار الأعين، وجوههم المجان المطرقة، نعالهم الشعر. ويروى: عِراض الوجوهِ". * * * 4172 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يُقاتِلَ المُسْلِمُونَ اليَهودَ، فيقتُلُهُم المُسْلِمونَ حتَّى يَخْتَبئَ اليَهودِيُّ مِنْ وَراءِ الحَجَرِ والشَّجَرِ، فَيقولُ الحَجَرُ والشَّجَرُ: يا مُسْلِمُ! يا عَبْدَ الله! هذا يَهُودِيٌّ خَلفِي، فَتَعَالَ فاقتُلْهُ، إلا الغَرْقَدَ فإنَّهُ منْ شَجَرِ اليَهودِ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعة حتى يقاتل

المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئَ اليهوديُّ"؛ أي: يختفي. "من وراء الحجر والشجر"؛ أي: خلفهما. "فيقول الحجر والشجر: يا مسلم! يا عبد الله! هذا يهودي خلفي، فتعالَ فاقتله، إلا الغرقد" بفتح الغين المعجمة وسكون الراء المهملة وفتح القاف: ضرب من شجر العضاه وشجر الشوك، وقيل: هو كبار العَوْسَج، وله ثمر يؤكل حلو أحمر، كأنه حب العقيق. "فإنه شجر اليهود": أضيف إليهم بأدنى ملابسة. * * * 4173 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَخْرُجَ رَجُلٌ مِنْ قَحْطانَ يَسوقُ النَّاسَ بعَصاهُ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان": اسم قبيلة باليمن، وكان هو قحطان بن هود أبو اليمن. "يسوق الناس بعصاه"؛ أي: يصير حاكمًا عليهم، ويسوقهم كيف شاء سوقَ الراعي غنمه بعصاه. قيل: لعل ذلك الرجل القحطاني يقال له: جَهْجَاه. * * * 4174 - وقال: "لا تَذْهَبُ الأيَّامُ واللَّيالي حتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ يُقالُ لهُ: الجَهْجَاهُ". وفي رِوايةٍ: "حتَّى يَمْلِكَ رَجُلٌ مِنَ المَوالي يُقالُ لهُ: الجَهْجَاهُ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تذهب الأيام والليالي"؛ أي: لا ينقطع الزمان، ولا تأتي القيامة.

"حتى يملكَ رجل يقال له: الجَهْجَاهُ". "وفي رواية: حتى يملك رجل من الموالي": جمع المولى، وهو هنا: المملوك أو العتيق؛ أي: يصير حاكمًا على الناس. "يقال له: الجهجاه". * * * 4175 - وقالَ: "لَيَفْتَتِحَنَّ عِصابَةٌ مِنَ المُسْلِمينَ كَنْزَ آلِ كِسرَى الذي في الأَبْيَضِ". "وعن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليفتتحنَّ عصابةٌ"؛ أي: جماعة. "من المسلمين كنزَ آل كسرى الذي في الأبيض": أراد به: أبيض المدائن، وهو قصر حصين كان لكسرى، وكانت الفرس تسميه سيد كوشك، وقيل: الأبيض المدائن، وقد أُخرِج كنزه في أيام عمر - رضي الله عنه -، والآن بني موضعه مسجد المدائن. وعن بعض أهل الحديث: إن الأبيض الذي في الحديث هو الذي بهمدان المدعو بشهرستان، وهو مما بناه دارا بن دارا، والأول أكثر. * * * 4176 - وقالَ: "هَلَكَ كِسْرَى فَلا يكونُ كِسْرَى بَعْدَهُ، وقَيْصَرُ ليَهْلِكَنَّ ثمَّ لا يكونُ قَيْصَرُ بَعْدَهُ، ولتُقْسَمَنَّ كُنُوزُهُما في سبيلِ الله". وسَمَّى الحَرْبَ خُدْعَةَ. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا هلك كسرى هذا": ماض بمعنى المستقبل؛ يعني: سيهلك كسرى، وهو اسم لمن ملك فارس.

"فلا يكون كسرى بعده، وقيصر": وهو اسم لمن ملك الروم. "ليهلكنَّ، ثم لا يكون قيصر بعده"؛ يعني: سيفتح المسلمون الفرس والروم، ولا يكون ملكهما إلا للمسلمين. "ولتُقسَمنَّ كنوزُهما في سبيل الله، وسمى"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "الحربَ خَدعةَ": بفتح الخاء المعجمة وضمها، وهذا وارد منه - صلى الله عليه وسلم - على سبيل الاستطراد؛ لأن أصل الكلام كان في ذكر الفتح، وكان حديثًا مشتملاً على الحرب، فأورده بالذكر. * * * 4177 - وقال: "تَغْزُونَ جَزِيرَةَ العَرَبِ فَيَفْتَحُها الله، ثُمَّ تَغْزُونَ فارِسَ فَيَفْتَحُها الله، ثُمَّ تَغْزُونَ الرُّومَ فَيَفْتَحُها الله، ثُمَّ تَغْزُونَ الدَّجَّالَ فَيَفْتَحُهُ الله". "عن نافع بن عقبة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: تغزون جزيرة العرب، فيفتحها الله، ثم فارس فيفتحها الله، ثم تغزون الروم فيفتحها الله، ثم تغزون الدجال": الخطاب للصحابة، والمراد به الأمة. "فيفتحه الله"؛ أي: يجعله مغلوبًا مقهوراً. * * * 4178 - عن عَوْفِ بن مالِكٍ قال: أتَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في غَزْوَةِ تَبوكَ وهو في قُبَّةٍ مِنْ أدَمٍ فقالَ: "اُعْدُدْ سِتًّا بينَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتي، ثمَّ فَتْحُ بَيْتِ المَقْدِسِ، ثمَّ مُوْتانٌ يَأْخُذُ فيكُمْ كقُعاصِ الغَنَمِ، ثمَّ استِفاضَةُ المالِ حتَّى يُعطَى الرَّجُلُ مِئَةَ دينارٍ فَيَظَلُّ ساخِطًا، ثمَّ فِتْنَةٌ لا يَبقَى بيتٌ مِنَ العَرَبِ إلَّا دَخَلَتْه، ثمَّ هُدْنَةٌ تكونُ بينَكُمْ وبينَ بني الأَصْفَرِ فيغْدِرونَ فيأْتُونَكُمْ تحتَ ثمانينَ غايةً، تَحْتَ كُلِّ غايةٍ اثْنا عَشَرَ ألفًا".

"عن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك وهو في قبة من أدم، فقال: اُعدُدْ ستاً"؛ أي: ست علامات. "بين يدي الساعة"؛ أي: قبل قيام القيامة. "موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم مُوتانٌ" بضم الميم: هو الموت الكثير الوقوع، يريد به: الوباء في تلك الغزوة. "يأخذُ فيكم كقُعاصِ الغنم" بضم القاف: داء يأخذ الغنم يقتلها على المكان، وقد وقع ذلك في زمان عمر - رضي الله عنه - في عمواس؛ قرية من قرى بيت المقدس، كان بها عسكر المسلمين، وهو أول طاعون وقع في الإسلام، مات فيه سبعون ألفًا في ثلاثة أيام. "ثم استفاضة المال"؛ أي: كثرته. "حتى يُعطَى الرجل": على بناء المجهول. "مئة دينار": قيل: أي: من الزكاة. "فيظل ساخطاً"؛ أي: يصير غضبًا؛ لاستقلاله المال. "ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب": قيل: معناه: بيت من أمتي. "إلا دخلته": خص العرب؛ لشرفها وقربها منه. "ثم هدنة"؛ أي: صلح. "تكون بينكم وبين بني الأصفر": قيل: هم الروم، وهو: الروم بن عيضور بن يعقوب بن إسحاق، كان أصفر في بياض، فسموا به، وقيل: سموا بالأصفر؛ لأنه اسم رجل أسود ملك الروم، فنكح من نسائها، فولد له أولاد في غاية الحسن، فنُسِب الروم إليه. "فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين غاية": وهو بالغين المعجمة والياء المثناة من تحت: العلم، ويروى بالباء الموحدة، وهو: الأجمة، شبه رماحهم بها.

"تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً". * * * 4179 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَنْزِلَ الرُّومُ بالأَعْماقِ أوْ بدابقَ، فَيَخْرُجُ إليهمْ جَيْشٌ منَ المَدينةِ منْ خِيارِ أَهْلِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ، فإذا تَصَافُّوا قالت الرُّومُ: خَلُّوا بَيْننا وبينَ الذينَ سَبَوْا مِنَّا نُقاتِلْهُمْ، فيقولُ المُسْلِمونَ: لا والله لا نُخلِّي بينَكُمْ وبينَ إخْوانِنا، فيُقاتِلونَهُمْ، فيَنْهزِمُ ثُلُثٌ لا يَتُوبُ الله عَلَيهمْ أَبَداً، ويُقْتَلُ ثُلُثٌ هُمْ أَفْضَلُ الشُّهداءِ عندَ الله، ويَفْتَتِحُ الثُّلُثُ لا يُفْتَنُونَ أَبَداً، فيَفْتَتِحونَ قُسْطَنْطِينيَّةَ، فَبَيْنَما هُمْ يَقْتَسِمونَ الغَنائِمَ قَدْ عَلَّقُوا سُيوفَهُمْ بالزَّيْتونِ إذْ صاحَ فيهِم الشَّيطانُ: إنَّ المَسِيْحَ قدْ خَلَفَكُمْ في أَهْلِيكُمْ، فَيَخْرُجُونَ، وذلكَ باطِلٌ، فإذا جاؤُوا الشَّامَ خَرَجَ، فَبَيْنَما هُمْ يُعِدُّونَ للقِتَالِ ويُسَوُّونَ الصُّفُوفَ إذْ أُقيمَتِ الصَّلاةُ، فينزِلُ عيسَى بن مَرْيمَ فَأَمَّهُمْ، فإذا رآهُ عدُوُّ الله ذابَ كما يَذُوبُ المِلْحُ في الماءِ، فلو تَرَكَهُ لانذابَ حتَّى يَهلِكَ، ولكنْ يَقتُلُهُ الله بيدِهِ، فيُريهِمْ دَمَهُ في حَرْبَتِهِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم - أي: أهل الروم - بالأعماق" بفتح الهمزة وسكون العين المهملة: اسم موضع من أطراف المدينة. "أو بدابق" بفتح الباء الموحدة: موضع سوق بالمدينة، قيل: هو في الحديث بكسر الباء، وهو شك من الراوي. "فيخرج إليهم جيش من المدينة": قيل: المراد منها: حلب، والأعماق ودابق موضعان بقربه، وقيل: المراد منها: دمشق. "من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم: خلوا بيننا وبين

الذين سبوا منا": علي بناء الفاعل، يريدون: من غزوا بلادهم من المسلمين، فسبوا ذراريهم. "نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث"؛ أي: من جيش المسلمين. "لا يتوب الله عليهم"؛ أي: لا يلهمهم الله التوبة، بل يصرون على الفرار "أبدًا، ويُقتلُ ثلثُهُمْ أفضلُ الشهداء عند الله": (أفضل) بالرفع: خبر مبتدأ محذوف، وبالنصب حال. "ويفتتح الثلث، لا يُفتَنون": بصيغة المجهول؛ أي: لا يقع بينهم فتنة الخلف وغيره. "أبدًا، فيفتتحون قسطنطينية": وهي بلدة عظيمة من أعظم بلاد الروم. فبينما هم يقتسمون الغنائم، قد علقوا سيوفهم بالزيتون"؛ أي: بشجرة. إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح"؛ يعني: الدجَّال. "قد خَلَفَكم" بتخفيف اللام؛ أي: قام مقامكم. "في أهليكم"؛ أي: في دياركم ومنازلكم. "فيخرجون"؛ أي: جيش المسلمين من قسطنطينية. "وذلك"؛ أي: ذلك القول من الشيطان. "باطل": وكذب. "فإذا جاءوا الشامَ، خرج"؛ أي: الدجَّال. "فبينما هم يُعِدُّون": من (الإعداد) بمعنى: التهيئة. "للقتال"؛ أي: لقتال الدجال. "يسوون الصفوت إذ أقيمت الصلاة"؛ أي: جاء وقت إقامة المؤذن للصلاة.

"فينزل عيسى ابن مريم، فأمَّهم": قال الطيبي: معناه: قصد المسلمين بأخذ سنة رسولهم والاقتداء بهم، لا أن عيسى - عليه السلام - يؤمهم ويقتدون به، وقيل: الضمير المنصوب يعود إلى أهل الدجال ومتابعيهم؛ يعني: قصدهم بإهلاكهم. "فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه"؛ أي: لو ترك عيسى - عليه السلام - الدجالَ، ولم يقتله. "لانذابَ حتى يهلك"؛ أي: بالكلية. "ولكن يقتله الله بيده"؛ أي: عيسى عليه السلام. "فيريهم"؛ أي: عيسى - عليه السلام - المسلمين أو الكافرين. "دمَهُ في حربته". * * * 4180 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ قالَ: إنَّ السَّاعةَ لا تَقُومُ حتَّى لا يُقْسَمَ مِيراثٌ ولا يُفْرَحَ بغَنيمةٍ. ثمَّ قالَ: عَدُوٌّ يَجْمَعونَ لأَهْلِ الشَّامِ ويَجْتَمعُ لهُمْ أَهْلُ الإسْلامِ، يعني الرُّومَ، فيتَشَرَّطُ المُسْلِمونَ شُرْطةً للمَوْتِ لا تَرْجِعُ إِلا غالِبةً، فَيقْتَتِلونَ حتَّى يَحْجُزَ بينهمُ الليلُ، فَيَفِيءُ هؤلاءِ وهؤلاءِ، كلٌّ غيرُ غالِبٍ، وتَفْنَى الشُّرْطَةُ، ثمَّ يتَشَرَّطُ المُسْلِمونَ شُرْطَةً للمَوْتِ لا ترجِعُ إلا غالِبةً، فيقتَتِلونَ حتَّى يُمْسُوا، فَيَفِيءُ هؤلاءَ وهؤلاءَ، كلٌّ غيرُ غالِبٍ، وتفنَى الشُّرْطَةُ، فإذا كانَ اليومُ الرَّابعُ نَهدَ إليهِمْ بَقيَّةُ أَهْلِ الإِسلامِ، فيجعلُ الله الدَّبْرَةَ عليهِمْ فَيقْتَتِلُونَ مَقْتَلةً لمْ يُرَ مِثلُها، حتَّى إنَّ الطَّائِرَ ليَمُرُّ بجنَباتِهمْ فما يُخَلِّفُهُمْ حتَّى يخِرَّ مَيْتاً، فيتَعادُّ بنو الأَبِ كانوا مِئَةً فلا يَجدونه بَقِيَ منهُمْ إلَّا الرَّجُلُ الواحِدُ، فَبأَيِّ غَنيمةٍ يُفْرَحُ؟ أو أَيُّ مِيْراثٍ يُقَسَمُ؟ فبينا هُمْ كذلكَ إذْ سَمِعُوا ببَأْسٍ هو أكبَرُ منْ ذلكَ، فجاءَهُمُ

الصَّريخُ أنَّ الدَّجَّالَ قدْ خَلَفَهُمْ في ذَرَارِيهِمْ فيَرفُضُونَ ما في أَيديهِمْ ويُقبلونَ، فيَبعثونَ عَشْرَةَ فوارِسَ طَليعةً، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعْرِفُ أَسماءَهُم وأَسْماءَ آبائهِمْ، وألوانَ خُيولهِم هُمْ خَيرُ فَوارِسَ، أو مِنْ خيرِ فَوارسَ على ظَهرِ الأَرْضِ يَوْمَئِذٍ". "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -؛ قال: قال رسول الله عليه وسلم: لا تقوم الساعةُ حتى لا يقسم ميراث، ولا يفرَح بغنيمة، ثم قال"؛ أي النبي عليه الصلاة والسلام. "عدو": هو اسم يقع على الواحد والجمع. "يجمعون لأهل الشام"؛ أي: يجمعون الجيش والسلاح والخيل للقتال مع أهل الشام. "ويجمع لهم أهل الإِسلام"؛ أي: للقتال. "يعني: الروم": تفسير للعدو. "فيشترَّط المسلمون شُرْطة" بضم الشين وسكون الراء: أول طائفة تشهد الوقعةَ من الجيش، سموا بها؛ لأنهم يشرطون؛ أي: يتقدَّمون، ويُعِدُّون أنفسهم للمهلكة. "للموت"؛ أي: للحرب، واللام للعاقبة. "لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل"؛ أي: يدخل بينهم الليل، فيتركوا القتال، والحجز: المنع. "فيفيء"؛ أي: فيرجع. "هؤلاء"؛ أي: المسلمون. "وهؤلاء"؛ أي: الكفار.

"كلٌّ غير غالب، وتفنى الشُّرطة، ثم يتشرط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كلٌّ غير غالب، وتفيء الشرطة، ثم يتشرط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يمسوا، فيفيء هؤلاء وهؤلاء، كلٌّ غير غالب، وتفيء الشرطة": وهنا إشكال من حيث أن الشرطة إذا فاءت غيرَ غالبة لم تفنَ؛ إذ لو فنيت لم ترجع غير غالبة، فتوجيهه أن يقال: كان مع الشرطة جمع آخر من الجيش، وهم الراجعون غير غالبين لا الشرطة، أو كان سائر المسلمين في كل يوم مع شرطة ذلك اليوم، فالراجعُ سائرهم دونها. وقيل: معناه: شرطوا مع أنفسهم شرطًا أن لا ينهزموا عن الحرب، ولا يرجعوا عنها إلا غالبين، وهذا إنما يصح لو كان الشين من (شرطة) مفتوحة؛ أي: شرطة واحدة، وعلى هذا فناءُ الشرطة زوالها بسبب دخول الليل؛ لأن عند دخوله ترتفع الشرطة بغير اختيارهم. "فإذا كان يوم الرابع نهد إليهم"؛ أي: قام وقصد مسرعًا إلى قتالهم. "بقيةُ أهل الإِسلام، فيجعل الله الدَّبَرَة" بفتحات؛ أي: الهزيمة. "عليهم"؛ أي: على الكفار. "فيقتتلون مقتلة لم يُرَ مثلها حتى إن الطائر ليمرُّ بجنباتهم"؛ أي: بنواحيهم وجوانبهم. "فما يخلِّفهم" بكسر اللام المشددة: من خلفت فلانًا ورائي: إذا جعلته متأخِّراً عنك. "حتى يخر"؛ أي: يسقط. "ميتًا": من نتنهم، وفي هذا إيماءٌ إلى طول مسافة بسقوط الموتى.

"فيتعادُّ بنو الأبِ"؛ أي: يعد جماعة حضروا تلك الحرب كلهم أقارب. "كانوا"؛ أي: بنو الأب "مئة، فلا يجدونه": الضمير المنصوب فيه عائد إلى (بنو الأب)؛ لأنه ليس يجمع حقيقة لفظًا بل معنى، وقيل: عائد إلى (مئة) بتأويل العدد؛ أي: فلا يجدون عدَّهم، وروي: (فلا يجدون) بدون ضمير المفعول. "بقي منهم إلا الرجل الواحد، فبأي غنيمة يُفرَح؟ أو أي ميراث يقسم؟ فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس"؛ أي: بحرب. "هو أكبر من ذلك، فجاءهم الصريخ"؛ أي: المستغيث، فعيل من (الصراخ): الصوت. "إن الدجال قد خَلَفهم في ذراريهم"؛ أي: قعد مكانهم. "فيرفضون"؛ أي: يتركون ويلقون. "ما في أيديهم": من الغنيمة. "ويقبلون فيبعثون"؛ أي: فيرسلون. "عشرة فوارس طليعة": وهي التي تبعث؛ لتطَّلعَ على أحوال العدو كالجواسيس، وجمعها: طلائع، وهي دون السرية. "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف أسمائهم وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس - أو: من خير فوارس - على ظهر الأرض يومئذ": شك من الراوي. * * * 4181 - عن أبي هُريرةَ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "هل سَمِعْتُمْ بمَدينةٍ جانِبٌ منها في البَرِّ وجانِبٌ منها في البَحْرِ؟ " قالوا: نَعَمْ يا رسولَ الله، قال: "لا تَقُومُ

السَّاعَةُ حتَّى يغَزُوَهَا سَبْعونَ ألفًا منْ بني إسحاقَ، فإذا جَاؤُوهَا نزَلُوا فَلَمْ يُقاتِلُوا بسِلاحٍ ولمْ يَرمُوا بسَهْمٍ، قالوا: لا إلهَ إلَّا الله والله أكبَرُ، فيَسقُطُ أحدُ جانِبَيْها الذي في البَحْرِ، ثمَّ يقولون الثَّانِيَةَ: لا إلهَ إلَّا الله والله أكبَرُ، فيَسقُطُ جانِبُها الآخرُ، ثمَّ يقولون الثَّالثةَ: لا إلهَ إلَّا الله والله أكبَرُ، فيُفَرَّجُ لهُمْ، فيَدخُلونهَا فيَغْنَمُون، فبَيْنا هُمْ يَقْتَسِمُونَ المَغَانِمَ إذْ جاءَهُمُ الصَّريخُ فقالَ: إنَّ الدَّجَّالَ قدْ خَرَجَ، فيترُكُونَ كلَّ شَيْءٍ وَيرْجِعُونَ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: هل سمعتم بمدينة جانبٌ منها في البر، وجانبٌ منها في البحر": أراد بها: قسطنطينية. "قالوا: نعم يا رسول الله! قال: لا تقوم الساعة حتى يغزوها سبعون ألفًا من بني إسحاق": قيل: هم أكراد الشام؛ إذ هم من نسل إسحاق النبي عليه الصلاة والسلام، وهم مسلمون. "فإذا جاءوها نزلوا، فلم يقاتلوا بسلاح، ولم يرموا بسهم، قالوا: لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط أحد جانبيها الذي في البحر، ثم يقولُ الثانية"؛ أي: في المرة الثانية: "لا إله إلا الله، والله أكبر، فيسقط جانبها الآخر، ثم يقول الثالثة: لا إله إلا الله والله أكبر، فيفرَّج لهم، فيدخلونها، فيغنمون، فبينما هم يقتسمون الغنائم إذ جاءهم الصريخُ فقال: إن الدجال قد خرج، فيتركون كلَّ شيء، ويرجعون". * * * مِنَ الحِسَان: 4182 - عن معاذِ بن جَبَلٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عُمْرانُ بَيْتِ المَقْدِسِ خَرابُ يثرِبَ، وخَرابُ يثرِبَ خُروجُ المَلْحَمةِ، وخُروجُ المَلْحَمةِ فَتْحُ

قُسْطَنْطِينيَّةَ، وفَتحُ قُسْطَنْطِينيَّةَ خُروجُ الدَّجَّالِ". "من الحسان": " عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عُمرانُ بيت المقدس خرابُ يثربَ"؛ يعني: يخرب بيت المقدس، ثم يعمر في آخر الزمان، فإذا عمر خرب يثرب، وهو مدينة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأما الآن فقد عمر بيت المقدس، عمره السلطان الملك الناصر نصر الله وجه الإِسلام، واستخرج فيه العيون، وأجرى فيه المياه، جزاه الله خيراً. "وخراب يثرب خروج الملحمة"؛ أي: بعد خرابها تظهر حرب عظيمة، قيل: بين الشام والروم، والظاهر: أنه يكون بين التاتار وأهل الشام. "وخروج الملحمة فتح قسطنطينية، وفتح قسطنطينية خروج الدجَّال". * * * 4183 - وعن مُعاذِ بن جَبَلٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المَلْحَمَةُ العُظْمَىَ، وفَتْحُ قُسْطَنْطِينيَّةَ، وخُرُوجُ الدَّجَّالِ في سَبْعَةِ أَشْهُرٍ". "وعن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الملحمة العظمى وفتح قسطنطينية وخروج الدجَّال في سبعة أشهرٍ". * * * 4184 - عن عَبْدِ الله بن بُسْرٍ: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينَ المَلْحَمَةِ وفَتْح المَدينةِ سِتُّ سنِينَ، ويَخرُجُ الدَّجَّالُ في السَّابعةِ" قالَ أبو داودَ: وهذا أَصَحُّ. "وعن عبد الله بن بُسْرٍ - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم

قال: بين الملحمة وفتح المدينة ست سنين، ويخرج الدجال في السابعة. قال أبو داود: هذا أصح"؛ أي: القول بسبع سنين أصح من سبعة أشهر في الحديث الذي قبل. * * * 4185 - وعن أبي الدَّرْداءِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ فُسْطاطَ المُسْلِمينَ يَوْمَ المَلْحَمَةِ بالغُوطَةِ، إلى جانِبِ مَدينةٍ يُقالُ لها: دِمَشق، منْ خَيْرِ مَدائِنِ الشَّامِ". "عن أبي الدرداء - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن فُسطاط المسلمين"؛ أي: خيامهم. "يوم الملحمة بالغُوطةِ" بضم الغين المعجمة اسم بلد قريب من دمشق. "إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق من خير مدائن الشام": وغوطة دمشق معروفة، وهي: بساتينها ومياهها حولها، سميت بها لكونها في مطمئن من الأرض؛ يعني: ينزل جيش المسلمين ويجتمعون هناك. * * * 4186 - وعن ابن عُمَرَ: "يُوشِكُ المُسْلِمونَ أنْ يُحاصَروا إلى المَدينَةِ حتَّى يكونَ أبعَدَ مَسالِحِهِمْ سَلاحِ" وسَلاح: قريب من خَيْبرَ. "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: يوشك"؛ أي: يقرب. "أن يُحاصَروا": على صيغة المجهول. "إلى المدينة حتى يكونوا أبعد مسالحهم" بفتح الميم: جمع مسلحة، وهي كالثغر والمرقب، أي: أبعد ثغورهم التي فيها أقوام يرقبون العدو؛ لئلا

يطرقهم على غفلة. "سَلاح": وهو منون في نسخة، ومبني على الكسر في أخرى، قيل: هو مبني في الحجاز، غير منصرف في بني تميم. "وسلاح": اسم موضعًا قريب من خيبر"؛ يعني: يفر المسلمون من الكفار ويجتمعون بين المدينة وسلاح. * * * 4187 - عن ذي مِخْبَرٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ستُصالِحونَ الرُّومَ صلْحًا آمِناً، فتَغزونَ أنتمْ وهمْ عَدُوًّا منْ وَرائِكُمْ، فتُنْصَرونَ وتَغْنَمونَ وتَسْلَمونَ، ثمَّ ترجِعونَ حتَّى تَنزِلُوا بمَرْجٍ ذِي تُلُولٍ، فيَرفَعُ رَجُل منْ أهلِ النَّصْرانيّةِ الصَّليبَ، فيقولُ: غَلَبَ الصَّليبُ، فيغضَبُ رَجُلٌ منْ المُسْلمينَ فيدُقُّهُ، فَعِنْدَ ذلكَ تَغْدِرُ الرُّومُ وتَجْمَعُ للملحمةِ". وزادَ بَعْضُهم "ويثورُ المُسْلِمونَ إلى أَسْلِحَتِهِمْ تقْتَتِلونَ، فيُكرِمُ الله تِلْكَ العِصابةِ بالشَّهادَةِ". "عن ذي مخبر" بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الباء الموحدة: هو خادم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ابن أخ النجاشي الحبشي. "قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ستصالحون الروم": خطاب للمسلمين. "صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم"؛ أي: فتقاتلون أنتم أيها المسلمون والروم معكم بعد مصالحتكم مع الروم. "عدوًا من ورائكم"؛ أي: من خلفكم. "فتُنصَرون وتغنمون وتسلمون، ثم ترجعون حتى تنزلوا بمرج"؛ أي:

موضع ذي خضرة. "ذي تلول": جمع تل، وهو الموضع المرتفع. "فيرفع رجل من أهل النصرانية": وهم الروم. "الصليب، فيقول: غلب الصليب، فيغضب رجل من المسلمين فيدقه، فعند ذلك تغدر الروم، وتجمع"؛ أي: الروم "للملحمة". "وزاد بعضهم"؛ أي: من الرواة: "ويثور المسلمون إلى أسلحتهم"؛ أي ينهضون ويسرعون إليها. "فيقتتلون، فيكرم الله تلك العصابة"؛ أي: الجماعة من المسلمين. "بالشهادة"؛ أي: يجعلهم شهداء. * * * 4188 - عن عبدِ الله بن عَمْروٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "اتْرُكوا الحَبَشَةَ ما تَركوكمْ، فإنَّهُ لا يَستَخْرِجُ كَنْزَ الكعبةِ إلاّ ذُو السّويقَتَيْنِ منَ الحَبَشَةِ". "عن عبد الله بن عمرو، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اتركوا الحبشةَ ما تركوكم؛ فإنه": الضمير للشأن. "لا يستخرج كنز الكعبة": قيل: هو كنز مدفون تحت الكعبة. "إلا ذو السّويقتين": تصغير الساق. "من الحبشة": أراد به: حبشياً دقيق الساق. قال الخطابي: وجه الجمع بين قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً} [التوبة: 36] وبين هذا الحديث: أن الآية مطلقة، والحديث مقيد، فيحمل المطلق على المقيد، ويجعل الحديث مخصصًا لعموم الآية، كما خص ذلك في حق المجوس فإنهم كفرة، ومع ذلك أخذ منهم الجزية لقوله عليه الصلاة

والسلام: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". * * * 4189 - عن رَجُلٍ من أصْحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "دَعُوا الحَبَشَةَ ما وَدَعُوكُمْ، واتْرُكُوا التّرْكَ ما تَرَكُوكُمْ". "عن رجل من أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: دعوا الحبشة ما وَدَعُوكم، واتركوا الترك ما تركوكم"؛ أي: اتركوهم. وجه تخصيص الحبشة والترك بتركِ الحرب معهم ما داموا تاركين لها: أن الحبشة بلادهم وعرة حارة جداً، بينها وبين المسلمين مفازات شديدة وقفار وبحار، فلم يكَلّفِ المسلمين دخول ديارهم؛ لكثرة التعب وعظم المشقة. وأما الترك فبأسهم شديد، وبلادهم بعيدة أيضًا، باردة لا تخلو صيفا وشتاء من الثلوج، وجند العرب كانوا من البلاد الحارة، وأمزجتهم حارة، فلم يكلفهم أيضًا دخول بلاد غير ملائمة لطباعهم، وأما إذا دخلوا بلاد الإِسلام قهراً؛ فلا يباح لأحد ترك المقاتلة معهم. * * * 4190 - عن بُرَيْدَةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حديثٍ: "يُقاتِلُكُمْ قَومٌ صِغارُ الأَعْيُنِ - يعني التركَ - قال: تَسوقونَهمْ ثلاثَ مرَّاتٍ حتَّى تُلْحِقوهُمْ بجَزيرَةِ العَرَبِ، فأمَّا في السَّاقَةِ الأُولَى فَيَنْجُو مَنْ هَرَبَ منهُمْ، وأَمَّا في الثَّانيةِ فَيَنْجُو بَعْضٌ ويَهْلِكُ بَعْضٌ، وأمَّا في الثالثةِ فيُصْطَلَمُونَ"، أو كما قالَ. "عن بريدة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث: يقاتلكم قوم صغار الأعين - يعني: الترك - قال: تسوقونهم": من السَّوق؛ يعني: صاروا مغلوبين منهزمين

بحيث أنكم تسوقونهم. "ثلاث مرات حتى تلحقوهم بجزيرة العرب، فأما في الساقة الأولى؛ فينجو من هرب منهم، وأما في الثانية؛ فينجو بعض ويهلك بعض، وأما في الثالثة؛ فيُصطَلمون": على صيغة المجهول؛ أي: يُستأصلون. "أو كما قال"؛ أي: قال: (فيصطلمون)، أو قال غير هذا اللفظ. * * * 4191 - عن أبي بَكْرَةَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَنْزِلُ أُناسٌ منْ أُمّتي بغائِطٍ يُسمُّونَهُ: البَصْرَة، عِند نَهْرٍ يُقالُ لهُ: دِجْلةُ، يكونُ عَلَيهِ جِسْرٌ يكثرُ أهلُها، وتكونُ منْ أَمْصارِ المُسْلِمين، فإذا كانَ في آخرِ الزَّمانِ جاءَ بنو قَنْطُوراءَ عِراضُ الوُجوه صِغارُ الأَعيُنِ، حتَّى يَنْزِلُوا على شَطّ النَّهْرِ فيتفرَّقُ أهلُها ثلاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ يأخُذونَ في أذنابِ البقَرِ والبَرِّيةَ، وهلَكوا، وفِرْقَةٌ يأخُذُونَ لأنفُسِهِمْ، وهلَكوا، وفِرقةٌ يَجْعَلونَ ذَرارِيَّهمْ خَلْفَ ظُهورِهْم ويُقاتِلونهم، وهُمُ الشُّهداءُ". "عن أبي بكرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: ينزل أناس من أمتي بغائط"؛ أي: بغائر من الأرض. "يسمونه البصرة، عند نهر يقال له: دجلة، يكون عليه جسرٌ يكثر أهلها، ويكون من أمصار المسلمين": أراد بالبصرة بغداد؛ فإن دجلة هي الشط، وجسرها في وسطها، وإنما عرَّفها بالبصرة؛ لأن ببغداد موضعًا خارجًا عنه قريبًا من بابه يدعى بباب البصرة، فسمى بغداد باسم بعضها؛ لأن بغداد لم تُبن في عهده - صلى الله عليه وسلم - على هذه الهيئة من كونها مصراً من الأمصار، بل كانت قرى متفرقة منسوبة إلى البصرة محسوبة من أعمالها. ومعنى الحديث: أن بعضًا من أمتي ينزلون ثمة، ويتوطنون به، ويصير

ذلك الموضع مِصرًا من أمصار المسلمين. "وإذا كان في آخر الزمان جاء بنو قنطوراء" بفتح القاف وسكون النون: وهم الترك، ويقال: قنطوراء اسم جارية كانت لإبراهيم عليه السلام، ولدت له أولاد، جاء من نسلهم الترك. "عراض الوجوه صغار الأعين، حتى ينزلوا على شطِّ النهر": فيقاتلون أهل بغداد. "فيتفرق أهلها ثلاث فرق: [فرقة] يأخذون في أذنابَ البقر والبرية": يقال: أخذ في الشيء: إذا شرع فيه، معناه: يأخذون طريق الهرب طلبًا لخلاص أنفسهم ومواشيهم، فيهيمون في البوادي. "فهلكوا": أو معناه: يشتغلون بالزراعة ويعرضون عن المقاتلة ويتبعون البقر للحرث. "وفرقة يأخذون لأنفسهم"؛ أي: يطلبون الأمان من العدو لخلاص أنفسهم فيقتلهم. "وهلكوا": بأيديهم. "وفرقة يجعلون ذراريهم خلفَ ظهورهم، ويقاتلونهم، وهم الشهداء": ولم ينجُ منهم إلا شرذمة قليلة جرحى، وهذا من معجزاته - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه وقع كلّ ما ذكر على وفق ما أخبره، وكانت هذه الوقعة في صفر سنة ست وخمسين وست مئة. * * * 4192 - عن أنسٍ: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أَنسُ إنَّ النَّاسَ يُمَصِّرونَ أمْصَاراً، وإن مِصْراً منها يُقالُ لهُ: البَصْرَة، فإنْ أَنْتَ مَرَرْتَ بها أو دَخَلْتَها فإيَّاكَ

وسِباخَها وكلاءَها وسُوقَها وبابَ أُمرائِها، وعليكَ بضَواحِيها، فإنَّه يكونُ بها خَسْفٌ وقَذْفٌ ورَجْفٌ، وقومٌ يَبيتونَ ثم يُصْبحونَ قِردةً وخَنازيرَ". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أنس! إن الناس يمصرون أمصاراً": التمصيرُ: اتخاذُ المِصْر، وهو البلد. "وإن مصراً يقال لها: البصرة، فإن أنت مررتَ بها، أو دخلتها، فإياك وسِبَاخَها"؛ أي: احذر عن سباخها، وهو بكسر السين: جمع سبخة، وهي أرض تعلوها ملوحة. "ونخيلَها، وكلاءَها، وسوقها، وباب أمرائها، وعليك بضواحيها": جمع ضاحية، وضاحية كل شيء ناحيته البارزة، وقيل: أراد بضواحيها: جبالها، وهذا أمرٌ بالعزلة. "فإنه يكون بها": قيل: الضمير للسباخ، والصواب: للمواضع المذكورة. "خسف": وهو الإذهاب في الأرض. "وقذف"؛ أي: رمي بالحجارة من السماء؛ أو بالريح الشديدة، أو قذف الأرض الموتى بعد الدفن. "ورجف": وهو الزلزلة والحركة الشديدة. "وقوم يبيتون ويصبحون قردة وخنازير": قيل: وفي هذا إشارة إلى أن بها قدرية؛ لأن الخسف والمسخ إنما يكون للمكذبين بالقدر. * * * 4193 - عن صالحِ بن دِرْهَم يقولُ: انطَلَقْنَا حاجِّينَ، فإذا رَجُلٌ فقالَ لنا: إلى جَنْبكُمْ قَرْية يُقالُ لها الأُبُلَّة، قُلنا: نعَم، قال: مَنْ يَضْمَنُ لي منكُمْ أنْ

يُصَلِّيَ في مَسْجدِ العَشَّارِ رَكعتَينِ أو أَرْبعاً، ويقولَ: هذا لأبي هُريرَةَ؟ سَمِعْتُ خليلي أبا القاسِم - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِنَّ الله تعالَى يَبْعَثُ مِنْ مَسجدِ العَشَّارِ يَوْمَ القِيامَةِ شُهَدَاءَ لا يَقُومُ مع شُهداءِ بَدْرٍ غَيْرُهُم". قال أبو داودَ رحمه الله هذا المَسْجدُ مِمَّا يلي النَّهرَ. "عن صالح بن درهم يقول: انطلقنا حاجين"؛ أي: قاصدين الحج. "فإذا رجل": وهو أبو هريرة - رضي الله عنه -، و (إذا) للمفاجأة. "فقال لنا: إلى جنبكم": بحذف همزة الاستفهام. "قرية يقال لها: الأبلَّة": قيل: بضمتين وتشديد اللام وقيل بفتح الهمزة: اسم قرية من البصرة. "قلنا: نعم، قال: من يضمن لي منكم"؛ أي: من يقبل؟ استفهامٌ للالتماس والسؤال. "أن يصليَ لي في مسجد العَشَّار": بفتح العين والشين المعجمة المشددة. "ركعتين أو أربعاً، ويقولَ": بالنصب معطوفًا على أن (يصلي). "هذه": إشارة إلى الصلاة التي عهد بها أبو هريرة. "لأبي هريرة": أراد بهذا القول فضيلة الصلاة في هذا المسجد. "سمعت خليلي أبا القاسم - صلى الله عليه وسلم - ": قيل: قوله: (خليلي) لا يخلو عن ترك الأدب؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كنت متخذًا خليلاً، لاتخذتُ أبا بكر خليلاً". قلت: لا يتم أنه ترك الأدب؛ لأنه لا يلزم من اتخاذ أبي هريرة رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خليلاً اتخاذُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أبا هريرة خليلا، والممنوع هذا، لا العكس. "يقول إن الله عز وجل: يبعث من مسجد العشار يوم القيامة شهداء لا يقوم مع

3 - باب أشراط الساعة

شهداء بدر غيرهم. قال أبو داود: هذا المسجد مما يلي النهر": وهو نهر الفرات. * * * 3 - باب أَشْراطِ السَّاعَةِ " باب أشراط الساعة" جمع شَرَط بالتحريك، وهي العلامة؛ أي: علامات الغنيمة. مِنَ الصِّحَاحِ: 4194 - قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ مِنْ أَشْراطِ السَّاعةِ أنْ يُرْفَعَ العِلمُ، ويَكْثُرَ الجهلُ، ويكثُرَ الزِّنا، ويَكْثُرَ شُرْبُ الخَمْرِ، ويَقِلَّ الرِّجالُ، ويَكْثُرَ النِّساءُ, حتَّى يَكونَ لخَمْسينَ امرَأَةً القَيمُ الوَاحِدُ". وفي رِوايةٍ: "يَقِل العِلمُ ويَظهَرُ الجَهْلُ". "من الصحاح": " عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن من أشراط الساعة: أن يُرفَعَ العلم، ويكثر الجهل، ويكثر الزنا، ويكثر شرب الخمر، ويقل الرجال، ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأة القيمُ الواحد": المراد به: القائم بمصالحهن، لا أنْ يَكُنَّ زوجات له، بل يَكُنَّ زوجاته وأمهاته وجداته وأخواته وعماته وخالاته إلى غير ذلك. "وفي رواية: يقل العلم، ويظهر الجهل". * * *

4195 - عن جابرِ بن سَمُرَةَ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إِن بَيْنَ يَدَي السَّاعةِ كذَّابينَ فاحْذَرُوهُم". "عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن بين يدي الساعة كذَّابين فاحذروهم": يريد بهم: من قلَّ علمه وكثر جهله، وأتى بالموضوعات من الأحاديث، وادَّعى النبوة، أو دعوى فاسدة، واعتقادات باطلة، وأسندها إليه - صلى الله عليه وسلم -، كأهل البدع والأهواء الباطلة. * * * 4196 - عن أبي هُريرةَ قال: بَيْنَما النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يُحَدِّثُ إذْ جاءَ أَعْرابيٌّ قال: متَى السَّاعةُ؟ قالَ: "فإذا ضيعَتِ الأَمانة فانتظِرِ السّاعةَ". قالَ: كيْفَ إضاعَتُها؟ قال: "إذا وُسِّدَ الأَمْرُ إلى غَيْرِ أَهْلِهِ فانتظِرِ السَّاعةَ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: بينما النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يحدث: جاء أعرابي فقال: متى الساعة؟ قال: إذا ضُيعت الأمانةُ فانتظر الساعةَ، قال: كيف إضاعتها؟ قال: إذا وُسِدَ الأمرُ"؛ أي: فُوِّض الحكم من سلطنة أو إمارة أو قضاء. "إلى غير أهله"؛ أي: إلى من ليس لها بأهل، كما في أيامنا هذه. "فانتظر الساعة". * * * 4197 - وقالَ: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى يكثُرَ المالُ ويَفِيضَ حتَّى يُخْرِجَ الرَّجُلُ زكاةَ مالِهِ فلا يَجدُ أَحَدًا يقبَلُهَا منهُ، وحتَّى تَعُودَ أَرْضُ العَرَبِ مُروجًا وأَنْهاراً". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعة حتى يكثر المال فيفيض، حتى يُخرِجُ الرجلُ زكاةَ ماله، فلا يجد أحدًا يقبلها منه": وذلك يكون لانعدام

رغبة الناس في الأموال؛ لتعاقب أشراط الساعة وظهور الأهوال. "وحتى تعودُ أرض العرب مُرُوجاً"؛ أي: رياضًا ومزارع. "وأنهاراً": قيل: كانت أكثر أراضيهم أولًا مروجًا وصحارى ذات مياه وأشجار، فخربت، ثم تكون معمورة باشتغال الناس في آخر الزمان بالعمارة، وقيل: المراد بأرض العرب: هي المدينة. * * * 4198 - وقالَ: "تَبْلُغُ المَساكِنُ إِهابَ أوْ يَهابَ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تبلغ المساكنُ"؛ أي: مساكن المدينة. "إهاب": بكسر الهمزة. "أو نِهاب": بكسر النون: اسما موضعين بنواحي المدينة على أميال، وهما إن رُويا منصرفين فباعتبار المكان كـ (واسط)، وإن مُنِعا الصرفَ فللتأنيث والعلمية" كـ (بغداد) و (دمشق). والمعنى: لا تقوم الساعة حتى تبلغ مساكن أهل المدينة لكثرتهم وكثرة عمرانهم إلى ذلك الموضع. * * * 4199 - وقالَ: "يكونُ في آخرِ الزَّمانِ خليفة يَقْسِمُ المالَ ولا يَعُدُّهُ". وفي رِوايةٍ: "يكونُ في آخرِ أُمَّتي خَليفةٌ يَحْثِي المالَ حَثْيًا لا يَعُدُّهُ عَدًّا". "عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده عداً"؛ أي: يعطي جُزافًا من غير عد وإحصاء، ويحتمل أن يكون من الإعداد، وهو: جعل الشيء عدة وذخيرة؛ أي: لا يدَّخرُ

لغد، ولا يكون له خزانة، كفعل الأنبياء عليهم السلام. والسر فيه: أن ذلك الخليفة تظهر له كنوز الأرض، أو يعلم الكيمياء، أو يكون من كرامته أن ينقلب الحجر والنحاس ذهبًا كرامةً، كما رُئِيَ من الأولياء. "وفي رواية: يكون في آخر أمتي خليفةٌ يحثي المال حثياً"؛ أي: يعطي بالكفين، "ولا يعده عداً". * * * 4200 - وقالَ: "يُوشِكُ الفُراتُ أن يَخسِرَ عنْ كنْزٍ مِنْ ذَهَبٍ، فمنْ حَضَرَ فلا يأخُذْ منهُ شيئًا". "عن أبي بن كعب وأبي هريرة - رضي الله عنهما -: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يوشك الفرات"؛ أي: يقرب. "أن يحسِرَ"؛ أي: يكشف. "عن كنز من ذهب، فمن حضر فلا يأخذ منه شيئًا": وإنما نهى عن الأخذ؛ لأنه يحتمل أنه مال مغضوب عليه كمال قارون، فيحرم الانتفاع به، أو لأنه مال اقتتل عليه، كما ذكر بعده، فنهى دفعًا لثائرة الفتنة. * * * 4201 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى يَحْسِرَ الفُراتُ عنْ جَبلٍ منْ ذَهَبٍ، يَقتتِلُ النَّاسُ عليهِ، فيُقتَلُ مِنْ كلِّ مِئَةٍ تِسْعَةٌ وتسعونَ، ويقولُ كلُّ رَجُلٍ منهُمْ: لَعَلِّي أكُونُ أنا الذي أنْجُو". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله عليه - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعة حتى

يحسر الفرات عن جبل من ذهب، يقتتل الناس عليه، فيُقتَلُ من كل مئة تسعة وتسعون، ويقول كل رجل منهم: لعلي أن أكون أنا الذي أنجو"؛ أي: يرجو كل واحد أن يكون هو الناجي، فيقتل رجاء أن ينجو، فيأخذ المال. * * * 4202 - وقالَ: "تَقيءُ الأَرْضُ أفْلاذَ كبدِها أمثالَ الأُسْطُوانِ منَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، فيَجيءُ القاتِلُ فيقولُ: في هذا قتَلْتُ، ويَجيءُ القَاطِعُ فيقولُ: في هذا قَطَعْتُ رَحِمي، ويَجيءُ السَّارِقُ فيقولُ: في هذا قُطِعَتْ يَدي، ثم يَدَعُونه فلا يَأخُذونَ منهُ شيئًا". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تقيء الأرض"؛ أي: تُخرِج. "أفلاذ كبدها": فلذة البعير: قطعة من كبده طولًا، والمراد الكنوز المدفونة فيها، شبهها بالكبد الذي في بطن البعير؛ لأنه من أطيب الجزور عند العرب، أو أراد ما رسخ فيها من العروق المعدنية، يؤيَّده قوله: "أمثالَ الأُسطوان من الذهب والفضة": نصب (أمثالَ) على الحال من أفلاذ، تقديره: شابهها حال كونها أمثال الأسطوان، أو بدلًا عنها. و (الأسطوان) بضم الهمزة والطاء: السواري، جمع سارية، وهي العمود، والواحد: أسطوانة. "فيجيء القاتل فيقول: في هذا قَتلت، ويجيء القاطع فيقول: في هذا قطعت رحمي، ويجيء السارق فيقول: في هذا قُطعَت يَدي، ثم يدعونه"؛ أي يتركونه، "فلا يأخذون منه شيئًا". * * *

4203 - وقالَ: "والذي نَفسِي بيدِه، لا تَذْهَبُ الدُّنيا حتَّى يمُرَّ الرَّجُلُ على القَبرِ فيتمرَّغُ عليهِ ويقولُ: يا لَيتَنِي كنتُ مَكانَ صاحِبِ هذا القَبْرِ، وليسَ بهِ الدِّينُ إلا البَلاءُ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لا تذهب الدنيا حتى يمرَّ الرجل على القبر، فيتمرغ عليه"؛ أي: يتمعَّك على رأس القبر، ويتقلَّب في التراب. "ويقول: يا ليتني مكانَ صاحب هذا القبر، وليس به الدِّين": الواو للحال، و (الدين) بكسر الدال: هو العادة. "إلا البلاءُ"؛ أي: يتمرغ ويتمنى الموت في حالة ليس التمرغ من عادته؛ وإنما حمله عليه شدة البلاء، وكثرة الفتن والمحن. * * * 4204 - وقالَ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَخرُجَ نارٌ من أَرْضِ الحِجازِ تُضيءُ أَعْناقَ الإبلِ ببُصرَى". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعة حتى تَخرُجَ نار من أرض الحجاز تضيء"؛ أي: تضيء الجو حتى يتضح بها. "أعناقُ الإبل" في سواد الليل: جمع عَنَق بفتح العين والنون، وهو الجماعة. وقيل: جمع عنق بضمتين، وهو العضو المعروف. "ببصرى"؛ أي: بأرض بصرى - بضم الباء - مدينة معروفة بالشام، بينها وبين دمشقَ نحو ثلاث مراحل، تخصيصها بالذكر دون غيرها من البلاد من أسرار النبوة، قيل: قد خرجت هذه النار سنة أربع وخمسين وست مئة من

الحجاز من جنب المدينة الشرقي وراء الحرة، وقريب من المدينة، فسطعت واشتعلت حتى أحرقت أكثر بنيان المدينة، ولبثت نحوًا من خمسين يومًا تتقد، وكانت تُرمى بالحجارة المحمرة بالنار من بطن الأرض إلى ما حولها. * * * 4205 - وقالَ: "أَوَّلُ أَشْراطِ السَّاعةِ نارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أولُ أشراطِ الساعة نارٌ تحشر الناس"؛ أي: تسوقهم. "من المشرق إلى المغرب": قيل: أراد بالنار في هذا الحديث: نار الفتن والحروب، كفتنة الجيوش التاتارية السائرة من المشرق إلى حدود المغرب؛ فلا منافاة بين الحديثين، وفي ذكر النار تنبيهٌ على عظم تلك الفتن. * * * مِنَ الحِسَان: 4206 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى يتقارَبَ الزَّمانُ، فتكونُ السَّنَةُ كالشَّهْرِ، والشَّهْرُ كالجُمُعةِ، وتكونُ الجُمُعةُ كاليَوْمِ، ويكونُ اليَوْمُ كالسَّاعةِ، وتكونُ السَّاعةُ كالضَّرْمَةِ بالنَّارِ". "من الحسان": " عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعة حتى يتقاربَ الزمان، فتكونُ السنة كالشهر، والشهرُ كالجمعة، وتكونُ الجمعة كاليوم، ويكونُ اليومُ كالساعة، وتكون الساعة كالضَّرمَة بالنار"؛ أي: كزمان إيقاد الضرمة، وهي ما توقد به النار أولًا، كالشعلة من الحشيش والكبريت والقصب

ونحو ذلك في سرعة انقضائها، وذلك قيل: لقصر الزمان، وقيل: لكثرة النعم، وقيل: هو محمول على ما يهمهم من النوازل، لا يدرون كيف تنقضي أيامهم ولياليهم، فإن الإنسان إذا استولت عليه الهموم والأفكار، فهو لا يدري أسبوعيه من أسبوعه ونحوهما. * * * 4207 - عن عبدِ الله بن حَوالةَ قال: بَعَثَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِنَغْنَمَ علَى أَقْدامِنا، فَرَجَعْنا فلمْ نَغْنَمْ شَيْئاً، وعَرَفَ الجَهْدَ في وُجوهِنا، فقامَ فينا فقالَ: "اللهمَّ لا تَكِلْهُمْ إليَّ فأَضْعُفَ عنهُمْ، ولا تَكِلْهُمْ إلى أنفُسِهِمْ فيَعْجزُوا عنها، ولا تَكِلْهُم إلى النَّاسِ فيَستأثِروا عليهمْ". ثمَّ وَضَعَ يدَهُ علَى رأْسِي ثُمَّ قال: "يا ابن حَوالَةَ! إذا رأيتَ الخِلافةَ قدْ نزلَت الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ، فقدْ دَنَتِ الزَّلازِلُ والبَلابلُ والأُمورُ العِظامُ، والسَّاعةُ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ منَ النَّاسِ منْ يَدِي هذهِ إلى رأْسِكَ". "عن عبد الله بن حوالة": بفتح الحاء المهملة وتخفيف الواو. "قال بعثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لنغنم على أقدامنا" في موضع الحال؛ أي: رجالة. "فرجعنا فلم نغنم شيئًا، وعرف الجهدُ"، وهو بالضم: الطاقة، وبالفتح: المشقة. "في وجوهنا، فقام، فقال: اللهم لا تكِلْهم إلي، فأضْعُفَ عنهم": بالنصب جواباً للنهي. "ولا تكلهم إلى أنفسهم فيعجزُوا عنها, ولا تكلهم إلى الناس فيستأثروا عليهم"؛ أي: يختاروا لأنفسهم الجيد، ويدفعوا الرديء إلى أمتي، وفي هذا الدعاء تعليم منه - صلى الله عليه وسلم - لأمته حتى يكلوا أمورهم وحوائجهم إلى الله تعالى،

ولا يعتمدون على غيره تعالى؛ لأنه تعالى كفاهم؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. "ثم وضع يده على رأسي ثم قال: يا ابن حَوَالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرضَ المقدسة"؛ أي: المطهرة من الذنوب، وهي أرض الشام. "فقد دنتِ"؛ أي: قربت. "الزلازلُ": جمع زلزلة، وهي الحركة. "والبلابل": جمع بلبلة، وهي الهم ووسوسة الصدور. "والأمورُ العظامُ، والساعةُ يومئذ أقربُ من الناس من يَدِي هذه إلى رأسك". * * * 4208 - وعن أبي هُريرَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اتُّخِذَ الفَيْء دوَلاً، والأَمانةُ مَغنَماً، والزَّكاةُ مغرمًا، وتُعُلِّمَ لغيرِ دِينٍ، وأَطاعَ الرَّجُلُ امرأتَهُ، وعَقَّ أُمَّهُ، وأدْنىَ صَديقَهُ، وأقْصَى أباهُ، وظَهَرتِ الأَصْواتُ في المَساجِدِ، وسَادَ القَبيلةَ فاسِقُهُمْ، وكانَ زَعيمُ القَوْمِ أَرْذَلَهُمْ، وكرِمَ الرَّجُلُ مَخافَةَ شَرِّه، وظَهَرتِ القَيْناتُ والمَعازِفُ، وشُرِبَتِ الخُمورُ، ولَعَنَ آخِرُ هذِه الأمَّةِ أوَّلَها، فارتَقِبُوا عِنْدَ ذلكَ ريحاً حَمْراءَ، وزَلْزَلَةً وخَسْفًا ومَسْخًا وقَذْفاً، وآياتٍ تتابَعُ كنِظامٍ قُطِعَ سِلْكُهُ فتتابَع". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا اتخذ الفيء"؛ أي: الغنيمة. "دولاً" بكسر الدال وفتح الواو: جمع دولة بالضم والفتح. قال الزهريّ: الدولة بالضم: اسم لما يتناول من المال؛ يعني: الفيء،

وبالفتح: الانتقال من حال البؤس والضر إلى حال الغبطة والسرور. ومعنى الحديث: أنه إذا كان الأغنياء وأصحاب المناصب يتداولون أموال الفيء؛ أي: يقتسمونها بينهم، ويمنعونها مستحقها، كما هو عادة الجاهلية، ويغزون لطلب الغنيمة، لا لإعلاء الدين. "والأمانة مغنماً"، أي: ذهب الناس بودائع بعضهم بعضًا وأماناتهم، فيتخذونها مغانم يغتنمونها. "والزكاة مغرماً"، أي: يعدون الزكاة غرامة تؤخذ منهم؛ أي: يشق عليهم أداؤها، كما يشق عليهم أداء الغرامات. "وتعلم لغير دين"، أي: تعلم العلم؛ ليطلب المناصب والحُطام الدنيوي. "وأطاع الرجل امرأته، وعن أمه": خصَّ عقوق الأم بالذكر، وإن كان عقوق كل من الأبوين من الكبائر؛ لتأكيد حقها، أو لكون قوله بعد: "وأقصى أباه"؛ أي: أبعده بمنزلة قوله: (وعن أباه)، فيكون عقوقهما مذكوراً. "وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم"؛ أي: المتكفل بأمرهم. "أرذلهم": والأرذل من كل شيء: رديئه. "وأكرم الرجل مخافة شره، وظهرت القينات": وهي بفتح القاف وسكون الياء: المغنيات. "والمعازف" بفتح الميم والعين المهملة وكسر الزاي المعجمة: اللهو واللعب.

"وشربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فارتقبوا"؛ أي: فانتظروا عند ذلك. "ريحاً حمراء"؛ أي: شديدة. "وزلزلة وخسفًا ومسخًا وقذفاً"؛ أي: مطر السوء والبرد، وجاز أن يراد به نوع من البلاء. "وآيات تتابع"؛ أي: علامات للقيامة يتبع بعضها بعضًا. "كنظام"؛ أي: كعقد "قُطع سلكه فتتابع". * * * 4209 - ورُوِي عن عَلِيٍّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا فَعَلَتْ أُمَّتي خَمْسَ عشْرَةَ خَصْلَةً حَلَّ بها البَلاءُ" وعدَّ هذه الخِصَالَ ولم يَذْكُرْ: "تُعُلِّمَ لغَيْرِ دِينٍ"، وقالَ: "وبَرَّ صَدِيقَهُ، وجَفا أباه"، وقالَ: "وشُرِبَ الخَمْرُ، ولبسَ الحَريرُ". "وروي عن علي - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا فعلت أمتي خمس عشرة خصلة حل بها البلاء وعدَّ"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام. "هذه الخصال ولم يذكر"؛ أي: علي - رضي الله عنه - "تعلم لغير دين وقال"؛ أي: علي - رضي الله عنه - "وبر صديقه": مقام (أدنى)، "وجفا أباه": مقام (أقصى)، وهذا من كلام الراوي عن علي - رضي الله عنه - "وقال: وشربت الخمور ولبس الحرير". * * *

4210 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَذْهَبُ الدّنيا حتَّى يَمْلِكَ العَرَبَ رَجُل منْ أَهْلِ بَيْتي يُواطِئُ اسمُهُ اسمِي". وفي رِوايةٍ: "لوْ لَمْ يَبْقَ منَ الدّنيا إلَّا يَوْمٌ لَطَوَّلَ الله ذلكَ اليَوْمَ حتَّى يَبْعَثَ فيهِ رَجُلاً منِّي - أوْ منْ أَهْلِ بَيْتي - يُواطِئُ اسمُهُ اسِمي، واسمُ أبيهِ اسمَ أبي، يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطًا وعَدْلاً كَمَا مُلِئَتْ ظلْمًا وجَوْراً". "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تذهب الدنيا حتى يملك العربَ": منصوب على أنه مفعول (يملك)، وفاعله "رجل من أهل بيتي": يريد أنه يملك العرب والعجم جميعًا، وذكر العرب؛ لغلبتهم في زمانه - صلى الله عليه وسلم -. "يواطئ"؛ أي يوافق "اسمه اسمي". "وفي رواية: لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله تعالى ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلًا مني - أو من أهل بيتي - يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه أبي، يملأ الأرض قسطاً": وهو بكسر القاف: العدل وبالفتح: الجور. "وعدلاً كما مُلئت جَوْرًا وظلماً". * * * 4211 - عن أُمِّ سَلَمةَ قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "المَهْدِيُّ منْ عِتْرَتي مِنْ وَلَدِ فاطِمَةَ". "عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: المهدي من عترتي من أولاد فاطمة رضي الله عنها": عترة الرجل: نسله ورهطه الأقربون.

قال الخطابي: العترة: ولد الرجل من صُلْبه، وقد يكون للأقرباء وبني العمومة. * * * 4212 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "المَهْدِيُّ مِنِّي، أجْلَى الجَبْهَةِ أقْنَى الأَنْفِ، يَمْلأُ الأَرْضَ قِسْطًا وعَدْلاً كما مُلِئَتْ ظُلماً وجَوْراً، يَمْلِكُ سَبع سِنين". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: المهدي مني أجلى الجبهة"؛ أي: واسع الجبهة. "أقنى أنف"؛ أي: مرتفع الأنف، وكلاهما صفتا مدح، وقيل: في أنفه فطوسة. "يملأ الأرض قسطًا وعدلاً، كما مُلِئت جورًا وظلماً، يملك سبع سنين". * * * 4213 - وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قِصَّةِ المَهْدِيَ قالَ: "فيَجيءُ إليهِ الرَّجُلُ فيقولُ: يا مَهدِيّ أَعْطِني أَعْطِني، فيَحْثِي لهُ في ثَوبه ما استَطاعَ أنْ يَحْمِلَه". "عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة المهدي قال: فيجيء إليه الرجل فيقول: يا مهدي أعطني أعطني، قال: فيحثي له"؛ أي: المهدي للرجل "في ثوبه ما استطاع أن يحمله". * * *

4214 - عن أمِّ سَلَمَةَ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يكونُ اختِلافٌ عِنْدَ مَوتِ خَليفَةٍ، فيَخرُجُ رَجُلٌ منْ أهلِ المَدينةِ هارِباً إلى مكَّةَ، فيأتيهِ ناسٌ مِنْ أهلِ مَكّةَ فيُخْرِجونه وهو كارِهٌ، فيُبايعونه بينَ الرُّكنِ والمَقامِ، ويُبْعَثُ إليهِ بَعْثٌ منَ الشَّامِ، فيُخْسَفُ بهمْ بالبَيْداءَ بينَ مكَّةَ والمَدينةِ، فإذا رأَى النّاسُ ذلكَ أتاهُ أَبْدالُ الشَّامِ وعَصَائِبُ أَهْلِ العِراقِ فيُبايعونه، ثُمَّ يَنْشَأُ رَجُلٌ منْ قُرَيشٍ، أَخْوَالُه كلْبٌ، فَيَبْعَثُ إليهم بَعْثاً فيَظهرونَ عَلَيهمْ، وذلكَ بَعْثُ كلْبٍ، ويَعْمَلُ في النَّاسِ بِسُنَّةِ نبيهِمْ، ويُلقي الإِسلامُ بجرانِهِ إلى الأَرْضِ، فيَلبَثُ سبعَ سِنينَ، ثمَّ يُتَوفَّى ويُصلِّي عليهِ المُسْلمون". "عن أم سلمة رضي الله عنها، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: يكون اختلاف عند موت خليفة، فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة، فيأتيه"؛ أي: ذلك الرجل. "ناس من أهل مكة": بعد ظهور أمره لهم ورفعة شأنه. "فيخرجونه وهو كاره، فيبايعونه بين الركن والمقام، ويبعث إليه بعث"؛ أي: جيش. "من الشام، فيخسف بهم بالبيداء"؛ أي: يخسف الله بهم أرضًا يقال له: البيداء، وهي أرض ملساء. "بين مكة والمدينة، فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال الشام": وهم الأولياء، وفي "صحاح الجوهري": الأبدال: قوم من الصالحين لا تخلو الدنيا منهم، وسموا بذلك؛ لأنه كما مات منهم واحدًا بدل الله به آخر. "وعصائب أهل العراق": جمع عصابة، وهي الجماعة من العشرة إلى الأربعين، يقوم بعضهم بأمر بعض، وكذلك العُصْبة، وقيل: يريد بالعصائب:

جماعة من الزهاد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - قرنهم بالأبدال، وقيل: يحتمل إرادة خيار الناس بالعصائب، من قولهم: هم من عصب القوم؛ أي: خيارهم. "فيبايعونه، ثم ينشأ"؛ أي: يظهر. "رجل من قريش أخواله كلب": يريد أن ذلك الرجل القرشي يكون من قبيلة كلب، فيكون بنو كلب أخواله، فينازع المهدي في أمره، ويستعين عليه بأخواله من بني كلب. "فيبعث إليهم"؛ أي: الرجل القرشي إلى المبايعين. "بعثاً"؛ أي: جيشًا. "فيظهرون عليهم"؛ أي: يغلب المبايعون على بعث القرشي. "وذلك"؛ أي: البعث الذي بعثه القرشي. "بعث كلب": لينصروا به ابن أختهم. "ويعمل في الناس بسنة نبيهم، ويلقي الإِسلام بجرانه في الأرض": الجران بكسر الجيم: باطن عنق البعير، يقال: ألقى البعير جرانه على وجه الأرض: إذا برك واستقر وصار مستريحًا، وهذا كناية عن تمكن الإِسلام وقراره، فلا يكون فتنة ولا هيج، وجرت أحكامه على السنة والاستقامة والعدل. "فيلبث سبع سنين، ثم يتوفى، ويصلي عليه المسلمون". * * * 4215 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قال: "ذكر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بلاءً يُصيبُ هذهِ الأُمَّةَ حتَّى لا يَجدَ الرَّجُلُ مَلْجَأً يَلْجَأُ إليهِ مِنَ الظُّلْم، فَيَبْعَثُ الله رَجُلاً، منْ عِتْرتي أهلِ بَيتي، فَيَمْلأُ بهِ الأَرض قِسْطًا وعَدْلاً كما مُلِئَتْ ظُلْمًا وَجَوْراً، يَرضَى عنهُ ساكِنُ السَّماءِ, وساكنُ الأَرْض، لا تَدع السَّماءُ منْ قَطْرِها شَيْئاً إلَّا صبَّتْهُ

مِدْرارًا، ولا تَدَعَ الأرضُ منْ نبَاتِها شَيْئاً إلَّا أَخْرَجَتْهُ، حتَّى تتَمَنَّى الأَحياءُ الأموَاتَ، يعيشُ في ذلكَ سَبع سِنينَ، أو ثَمانِ سِنينَ، أو تِسعَ سِنينَ". "عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلاءً": بالنصب مفعول (ذكر). "يصيب هذه الأمة حتى لا يجد الرجل ملجأ يلجأ إليه من الظلم، فيبعث الله رجلًا من عترتي وأهل بيتي، فيملأ به الأرض قسطًا وعدلاً، كما مُلِئت ظلماً وجوراً، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض، لا تَدَعَ السماء"؛ أي: لا تترك. "من قطرها شيئًا إلا صبَّته مِدْرارًا": وهو بكسر الميم: الكثير الدر، منصوب على الحال من (السماء)، يستوي فيه المذكر والمؤنث. "ولا تدع الأرض من نباتها شيئًا إلا أخرجته، حتى يتمنى الأحياء": بالرفع فاعل (يتمنى). "الأمواتَ": مفعول به؛ أي: حياة الأموات، ليروا ما هم فيه من الخير والأمن ليشاركوهم فيه. "يعيش"، أي: هذه الأمة. "في ذلك"؛ أي: في المذكور من العدل وأنواع الخيرات والأفعال المحمودة. "سبع سنين، أو ثمان سنين، أو تسع سنين": (أو) هذه للشك من الراوي، وقيل: للتنويع كقوله تعالى: {أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: 33] , وفي صحته نظر. * * * 4216 - عن علِيِّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ رَجُل منْ وَراءِ

النَّهر يقالُ له الحارِثُ بن حَرَّاثٍ، على مُقَدِّمَتِهِ رَجُلٌ يقالُ لهُ: مَنْصُورٌ، يُوَطِّنُ - أو يُمَكِّنُ - لآلِ مُحَمَّدٍ كما مكَّنَتْ قُرَيْشٌ لِرَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَجَبَ علَى كلِّ مُؤْمِنٍ نَصْرُه، أو قال: إجابتُهُ". "عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يخرج رجل من وراء النهر يقال له: الحارث حراث": صفة لرجل؛ أي: أكَّار. "على مقدمته"؛ أي: جيشه "رجل يقال له: المنصور". "يوطِّن أو يمكِّن لآل محمَّد": (أو) هذه لشكِّ الراوي، أو بمعنى: الواو، ويقال: وطنته جعلت له وطناً، وقد تستعمل في معنى: تهيئة الأسباب. "كما مكنت قريش لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": أريد بهم: من آمن منهم، وإلا فكفار قريش أخرجوه من مكة، ولم يوطنوه، ويدخل في التمكين أبو طالب، وإن لم يؤمن على رأي أهل السنة. "وجب على كل مؤمن نصره، أو قال: إجابته": (أو) هذه للشك أيضًا. * * * 4217 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذِي نَفْسِي بيَدهِ، لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى تُكلِّمَ السِّباعُ الإنْسَ، وحتَّى تُكلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ، وشِرَاكُ نَعْلِهِ، وتُخبرَهُ فَخِذُهُ بما أَحْدَثَ أهلُهُ بَعْدَهُ". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لا تقوم الساعة حتى تكلِّمَ السباعُ الإنسَ، وحتى تكلم الرجلَ عَذَبَةُ سوطه"؛ أي: علاقة سوطه. "وشراك نعله، وتخبره فخذه بما أحدث أهله بعده"؛ أي: في غيبته.

4 - باب العلامات بين يدي الساعة، وذكر الدجال

4 - باب العلاماتِ بين يَدَي السَّاعةِ، وذِكْرُ الدَّجَّالِ " باب العلامات بين يدي الساعة"؛ أي: قدامها "وذكر الدجال". مِنَ الصِّحَاحِ: 4218 - عن حُذَيْفَةَ بن أَسِيدٍ الغِفارِيِّ - رضي الله عنه - قالَ: اطَّلَعَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - علَيْنا ونحنُ نتَذَاكرُ فقال: "ما تَذْكرون؟ " قالوا: نَذْكُرُ السَّاعَةَ، قال: "إنَّها لنْ تَقُومَ حتَّى تَرَوْا قَبْلَها عَشْرَ آياتٍ". فَذَكَرَ الدُّخانَ، والدَّجَّالَ، والدَّابَّةَ، وطُلوعَ الشَّمْسِ منْ مَغرِبها، ونُزولَ عيسىَ بن مَرْيَمَ، ويأْجُوجَ ومَأجُوجَ، وثلاثةَ خُسوفٍ: خَسْفٌ بالمَشْرِقِ، وخَسْفٌ بالمَغْرِبِ، وخَسْفٌ بجَزيرَةِ العَرَبِ، وآخِرُ ذلكَ نارٌ تَخْرُجُ منَ اليَمَنِ تَطْرُدُ النَّاسَ إلى مَحْشَرِهِمْ". ويُروَى: "نارٌ تَخْرُجُ منْ قَعْرِ عَدَنَ تَسُوقُ النَّاسَ إلى المَحْشَرِ". وفي رِوايةٍ في العاشِرةِ: "ورِيحٌ تُلقي النَّاسَ في البَحْرِ". "من الصحاح": " عن حذيفة بن أَسِيد - رضي الله عنه - " بفتح الهمزة: على وزن (رشيد) = الغفاري. "قال: اطلع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علينا ونحن نتذاكر، فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات، فذكره"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام.

"الدخان": قال ابن مسعود: وهو عبارة عما أصاب قريشًا من القحط حتى يرى الهواء لهم كالدخان. وقال حذيفة: هو على حقيقته؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - سُئِل عنه، فقال: "يملأ ما بين المشرق والمغرب، يمكث أربعين يومًا وليلة، والمؤمن من يصير كالزكام، والكافر كالسكران". "والدجال": مأخوذ من الدَّجَل، وهو السحر، أو السير؛ فإنه سيَّاح يقطع أكثر نواحي الأرض في زمان قليل. "والدابة": روي: أن طولها ستون ذراعاً، وفيها من كل لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب، معها عصى موسى وخاتم سليمان، لا يدركها طالب، ولا يفوت عنها هارب، قيل: لها ثلاث خرجات: أولها: في أيام المهدي، تفزع الناس. وثانيها: في أيام عيسى عليه السلام، تطهر الأرض من المنافقين. وثالثها: بعد طلوع الشمس من مغربها؛ لتميز بين الكافرين والمسلمين، فتشير بالعصا، فتبيض بها وجوه المؤمنين، وتشير بالخاتم، فتسود به وجوه الكافرين. "وطلوع الشمس من مغربها، ونزول عيسى ابن مريم، ويأجوج ومأجوج": هما قبيلتان من أولاد يافث بن نوح، وهم تسع أعشار بني آدم؛ لأنه لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من صُلْبه يحملون السلاح. "وثلاثة خسوف؛ خسفاً بالمشرق، وخسفاً بالمغرب، وخسفاً بجزيرة العرب، وآخرُ ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس"؛ أي: تسوقهم.

"إلى محشرهم": قيل: هو بيت المقدس. "ويروى: نار تخرج من قعر عدن": وهي مدينة باليمن، وقعرها: أقصى أرضها. "تسوق الناس إلى المحشر، وفي رواية: في العاشرة وريح تلقي الناس في البحر". * * * 4219 - وقال: "بادِرُوا بالأَعْمالِ سِتًّا: الدخانَ، والدَّجَّالَ، ودابَّةَ الأَرْضِ، وطُلوعَ الشَّمسِ منْ مَغرِبهَا، وأَمْرَ العامَّةِ، وخُويصَّةَ أحَدِكُم". "وعن أنس وأبي هريرة - رضي الله عنهما - قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بادروا بالأعمال ستاً"؛ أي: ست آيات؛ أي: أسرعوا بالأعمال الصالحة قبل ظهور الآيات الست؛ لأن ظهورها يوجب عدم قبول التوبة؛ لكونها ملجئة إلى الإيمان. "الدخان، والدجَّال، ودابة الأرض، وطلوع الشمس من مغربها، وأمر العامة": يريد به: القيامة الكبرى بين العامة، وقيل: الفتنة التي تعم الناس. "وخويصة أحدكم": تصغير خاصة، وهي: ما يختص به الإنسان من الشواغل المقلقة في نفسه وأهله وماله وما يهتم به، وقيل: هي الموت الذي يخص الإنسان، ويمنعه من العمل، وصُغِّرت لاستصغارها في جنب سائر الحوادث العظام من البعث والحساب وغير ذلك. * * * 4220 - عن عبدِ الله بن عَمْرٍو قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنَّ أَوَّلَ الآياتِ خُرُوجاً طُلوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبها، وخُروجُ الدَّابَّةَ علَى النَّاسِ ضُحًى، وأيتهُما ما كانتْ قبلَ صاحِبَتِها فالأُخرَى علَى أثَرِها قَرِيباً".

"عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن أول الآيات خروجاً": نصب على التمييز. "طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدابة على الناس ضُحى"؛ أي: وقت ضحى. "وأيهما ما كانت قبل صاحبتها، فالأخرى على أثَرِها قريبًا". * * * 4221 - عن أبي هُريرَةَ قالَ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاث إذا خَرَجْنَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}: طُلوعُ الشَّمْسِ من مَغرِبها، والدَّجَّالُ ودابَّةُ الأَرْضِ". "عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ثلاث"؛ أي: ثلاث آيات. "إذا خرجن {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا}: طلوع الشمس من مغربها، والدجَّال، ودابة الأرض". * * * 4222 - وقال: "لا تَقُومُ السَّاعةُ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ منْ مغرِبها، فإذا طَلَعَتْ ورآها النَّاسُ آمَنُوا أَجْمَعُونَ، وذلكَ حينَ {لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} " ثمّ قرأَ الآيةَ. "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت ورآها الناسُ، آمنوا أجمعون": تأكيد للضمير في (آمنوا). "وذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها": إذ طلوع الشمس من مغربها من

أحكام الساعة، وظهور الساعة علامة انقضاء التكليف، فلا ينفعُ ما كان بعد الإلجاء. "ثم قرأ الآية": وهو قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ} [الأنعام: 158] الآية. * * * 4223 - وعن أبي ذَرٍّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حِينَ غَرَبَت الشَّمْسُ: "أتدْرِي أينَ تَذْهَبُ هذه؟ " قلتُ: الله ورسولُهُ أعلَمُ، قال: "فإنَّهَا تَذهَبُ حتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ العَرشِ، فتستأْذِنُ فيُؤذَنُ لها، ويُوشِكُ أنْ تَسْجُدَ فلا يُقبَلُ مِنها، وتَسْتَأْذِنَ فلا يُؤذنَ لها، ويقالُ لها: ارجِعي منْ حَيْثُ جِئْتِ، فتَطْلُعُ منْ مَغرِبها، فذلكَ قولُهُ تعالى {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا}. قال: مُسْتَقَرُّها تَحْتَ العَرْشِ". "عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين غربت الشمس: أتدري أين تذهب هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش": قيل: سجدة الشمس تحت العرش؛ ليجدد لها نورٌ. "فتستأذن، فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، ويقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، وذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38]: قال الخطابي في "شرح السنة": قال أهل التفسير من أهل المعاني: فيه قولان: أحدهما: أن معنى (لها)؛ أي؛ لأجل قُدِّر لها؛ أي: إلى انقطاع مدة بقاء العالم. وثانيهما: مستقرها غاية منتهاها صعودًا وارتفاعًا لأطول يوم من الصيف، ثم تأخذ نزولاً إلى أقصى مشارق الشتاء لأقصر يوم في السنة.

"قال - صلى الله عليه وسلم -: مستقرها تحت العرش": أخبر به الصادق عليه الصلاة والسلام، فلا ينكر أن يكون لها استقرارٌ تحت العرش من حيث لا ندركه ولا نشاهده؛ لأن علمنا لا يحيط به. * * * 4224 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بينَ خَلْقِ آدَم إلى قِيامِ السَّاعةِ أمْرٌ أَكبَرُ منَ الدَّجَّالِ". "وعن هشام بن حكم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمرٌ أكبرُ من الدجَّال": (ما) هذه نافية؛ أي: ليس فتنة أعظم منها. * * * 4225 - عن ابن عُمَرَ قالَ: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّاسِ فأَثْنَى علَى الله بما هو أَهْلُهُ، ثمَّ ذَكَرَ الدَّجَّالَ فقال: "إنِّي لأُنذِرُكُموهُ، وما منْ نبَيٍّ إلَّا أنذرَ قومَهُ، لقدْ أَنْذَرَ نوحٌ قَوْمَهُ، ولكنْ أقولُ لكُمْ فيهِ قَوْلاً لمْ يقُلْهُ نبيٌّ لقومِهِ، تَعْلَمونَ أنَّهُ أَعْوَرُ وأنَّ الله ليسَ بأَعْوَرَ". "عن ابن عمر - رضي الله عنهما -: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس"؛ أي: خطب فيهم. "فأثنى على الله بما هو أهله، ثم ذكر الدجال، فقال: إني لأُنذرُكُموه"؛ أي: أحذركم من الدجَّال، وإنما أنذر أمته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن خروجه في شدة من الزمان، وعسر من الحال، وأنه يستولي على أموالهم ومواشيهم، فحذر مثله عليه الصلاة والسلام؛ لئلا يختلج في قلب أحدٍ الترخُّصُ في اتباعه بالظاهر دون الباطن على تأويل قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106]؛ فإن متابعته مصروف عنها؛ إذ لم يأتِ في شيء من الأخبار رخصة في اتباعه.

"وما من نبي إلا أنذره قومه، لقد أنذره نوح قومه، ولكن أقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه: تعلمون": خبر بمعنى الأمر؛ أي: اعلموا. "أنه أعور، وأن الله ليس بأعور": فإن قيل: ما الحكمة في أنه خُلِق أعور؟ قلنا: لأنه لو كان بآفة أخرى غير العور، لم يكن ظاهرًا بين الناس، ويدل أيضًا على كذبه وسحره. فإن قيل: لو كان أعمى لكان أظهر من العور، فلم لم يُخلَق أعمى؟ قيل: لأنه قدَّر الله سبحانه وتعالى إضلالَ قوم به، ولو كان أعمى، لم يكن له منه إغواء وإضلال. * * * 4226 - وقالَ: "إنَّ الله لا يَخْفَى عَلَيكُمْ، إنَّ الله ليسَ بأعْوَرَ، وإنَّ المَسيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ عَيْنِ اليُمْنَى، كأنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طافِيةٌ". "وقال: إن الله تعالى لا يخفى عليكم، إن الله ليس بأعور، وإن المسيح الدجَّال": سمي مسيحًا؛ لأنه ممسوح عن جميع الخير، أو لأن إحدى عينيه ممسوحة، وعلى التقديرين فهو فعيل بمعنى: مفعول، أو لأنه يتردد في جميع الأرض إلا مكة والمدينة، فهو فعيل بمعنى: فاعل ووصف المسيح بالدجال؛ لأن المسيح وصف غلب على عيسى بن مريم عليه السلام، فوصف به ليتميز المِحقُّ عن المبطِلِ. "أعور عين اليمنى، كأن عينَهُ عنبةٌ طافية": وهي الناتئة المرتفعة عن أخواتها، يريد: أن حدقته قائمة كذلك. * * *

4227 - وعن أَنسٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ نبَيٍّ إلَّا قَدْ أَنْذَرَ أُمَّتهُ الأَعْوَرَ الكَذَّابَ، ألا إنَّه أَعْوَرُ، وإنَّ ربَّكُمْ ليسَ بأَعْوَرَ، ومَكْتُوبٌ بينَ عَيْنَيهِ: ك ف ر". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من نبي إلا قد أنذر أمته الأعور الكذاب، ألا أنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور": المراد منه: نفي النقص والعيب، لا إثبات الجارحة. " [و] مكتوب بين عينه: ك ف ر": إشارة إلى أنه داعٍ إلى الكفر، لا إلى الرشد، فاجتنبوه، وهذه نعمة عظيمة من الله تعالى في حق الأمة حيث أظهر رقم الكفر بين عينيه. * * * 4228 - وعن أبي هُريرةَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أُحدِّثُكُمْ حديثاً عنِ الدَّجَّالِ ما حَدَّثَ بهِ نبيٌّ قَوْمَهُ؟ إِنَّه أَعْوَرُ، وإنَّهُ يَجيءُ مَعَهُ بمِثْلِ الجَنَّةِ والنَّارِ، فالتي يقولُ: إنَّها الجَنَّةُ هيَ النَّارُ، وإنِّي أُنذِرُكُمْ كما أَنْذَرَ بهِ نُوْحٌ قَوْمَهُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا أحدثكم حديثاً عن الدجَّالِ ما حدَّثَ به نبي قومه: إنه أعور، وإنه يجيء معه بمثل الجنة والنار، فالتي يقول لها: إنها الجنة هي النار": لأن من دخل جنته تصديقًا له استحقَّ النار. "وإني أنذركم، كما أنذر به نوح قومه". * * * 4229 - عن حُذَيْفةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ وإنَّ معَهُ ماءً وناراً، فأمَّا الذي يَراهُ النَّاسُ ماءً فنارٌ تُحْرِقُ، وأمَّا الذي يَراهُ النَّاسُ ناراً فماءٌ بارِدٌ

عَذْبٌ، فمنْ أدركَ ذلكَ مِنْكُمْ فَلْيقَعْ في الذي يراهُ نارًا، فإنَّهُ ماءٌ عَذْبٌ طَيبٌ، وإن الدَّجَّالَ مَمْسوحُ العَيْنِ، عليها ظَفَرَةٌ غَليظَةٌ، مَكْتوبٌ بينَ عَيْنيهِ: كافِر، يَقْرَؤُهُ كلُّ مُؤْمِنٍ كاتِبٍ وغيرِ كاتِب". "عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الدجال يخرجُ وإنَّ معه ماءً وناراً": فمن صدَّقه رضي عنه وأعطاه من مائه، ومن كذبه غضب عليه ورماه في ناره. "فأما الذي يراه الناس ماء؛ فنارٌ تحرق"؛ يعني: جعل الله له الماء البارد النار المحرقة المخلدة. "وأما الذي يراه الناس ناراً؛ فماء بارد عذب"؛ يعني: جعل الله ناره ماء بارداً، كالنار النمرودية التي جعلها الله لخليله - عليه السلام - بردًا وسلامًا. "فمن أدرك ذلك منكم، فليقع في الذي يراه ناراً؛ فإنه ماء عذب طيب، وإن الدجَّال ممسوح العين"؛ أي: له عين واحدة، وموضع عين أخرى ممسوح مثل جبهته ليس ثمة أثر عين. "عليها"؛ أي: على تلك العين. "ظفرة غليظة": و (الظفرة) بفتحتين: جليدة تغشى العين نابتة من الجانب الذي يلي الأنف على بياض العين إلى سوادها. قال الأصمعي: هي لحيمة تنبت عند المآق في كثرة البكاء أو الماء. "مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤ [هـ] كل مؤمن كاتب وغير كاتب". * * * 4230 - وعن حُذَيْفة قالَ: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الدَّجَّالُ أَعْوَرُ العَيْنِ اليُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ، معَهُ جَنَّتُهُ ونارُهُ، فنارُهُ جنَّةٌ، وجَنتهُ نارٌ".

"عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: [قال] النبي - صلى الله عليه وسلم -: الدجالُ أعور العين اليسرى": وجه التوفيق بينه وبين الرواية المتقدمة: أنه أعور عين اليمنى: أن الراوي سمع اليسرى أو اليمنى على التعيين، فنسيها، فذكر اليسرى مكان اليمنى، أو عكسه، أو يكون بالنسبة إلى أشخاص متفرقة، فقوم يرونه أعور اليسرى، وقوم يرونه أعور اليمنى؛ ليدل ذلك على بطلان أمره؛ لأنه إذا لم تُرَ خلقته كما هي، عُلِمَ أنه ساحر كذاب لا يكون له حقيقة. ووجه الجمع بين كونه أعور، وممسوح العين، أو كأنها عنبة طافية: هو بالحمل على أنه ممسوح إحدى العينين، وأعور بالعين الأخرى، والعين الممسوحة يصدق عليها أنها عوراء؛ لأن عورَ العين أن لا تكون سليمة الفص، وأن كلا منهما عوراء من جهة العيب؛ إحداهما عوراء حقيقة، والأخرى معيبه بالظفرة ونحوها، أو أن الأعور يطلق على من بقيت له عين، وذهبت عنه أخرى، فأطلق عليه العور تارة بالذاهبة وأخرى بالباقية. "جُفال الشعر": بضم الجيم؛ أي: كثير الشعر. "معه جنته وناره، فناره جنة، وجنته نار". * * * 4231 - عن النَّوَّاسِ بن سَمْعانَ قال: ذَكَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الدَّجَّالَ فقال: "إنْ يَخْرُجْ وأنا فيكُمْ فأنا حَجيْجُهُ دُونَكُمْ، وإنْ يَخْرُجْ ولَسْتُ فيكُمْ فامْرُؤٌ حَجيْجُ نَفْسِهِ، والله خليفَتي على كُلِّ مُسْلِمٍ، إنَّهُ شابٌّ قَطَطٌ عينُهُ طافِئةٌ، كأنِّي أُشَبهُهُ بِعَبْدِ العُزَّى بن قَطَنٍ، فَمَنْ أَدْركَهُ منكُمْ فلْيَقْرأْ علَيهِ فواتِحَ سُورةِ الكَهْفِ". وفي رِوايةٍ: "فلْيَقْرَأْ علَيهِ بفواتِح سُورَةِ الكَهْفِ فإنَّها جَوازُكم منْ فِتْنَتِهِ - إنَّهُ خارِجٌ مِنْ خَلَّةٍ بينَ الشَّامِ والعِراقِ، فعاثَ يَمينًا وعاثَ شِمالاً، يا عِبادَ الله

فاثبُتُوا". قُلنا: يا رسولَ الله! وما لَبْثُهُ في الأَرْضِ؟ قال: "أَرْبعونَ يَوْماً، يومٌ كسَنةٍ، ويَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيوْمٌ كجُمُعَةٍ، وسائِرُ أيَّامِهِ كأيَّامِكُمْ"، قُلنا: يا رسولَ الله! فذلكَ اليَوْمُ الذي كسَنةٍ أيَكفِينا فيهِ صَلاةُ يومٍ؟ قال: "لا، اقْدُروا لهُ قَدرَه". قُلنا: يا رسولَ الله! وما إسْراعُهُ في الأَرْضِ؟ قال: "كالغَيْثِ استَدْبَرَتْهُ الرِّيحُ، فيأتي على القَوْمِ فيَدعوهُمْ فيؤمِنونَ بهِ، فيأْمُرُ السَّماءَ فتُمطِرُ، والأَرْضَ فتُنبتُ، فتَروحُ عليهمْ سارحَتُهُمْ أطولَ ما كانتْ ذُرًى، وأَسْبَغَهُ ضُرُوعاً، وأَمَدَّهُ خَواصِرَ، ثم يأتي القَوْمَ فيَدعوهُمْ فيَردُّونَ عليهِ قولَهُ، فيَنصرِفُ عنهُمْ، فيُصبحونَ مُمْحِلينَ ليسَ بأَيْديهِمْ شَيْء مِنْ أَمْوالِهِمْ، ويمرُّ بالخَرِبَةِ فيقولُ لها: أَخْرِجي كُنوزَكِ فتتبَعُهُ كنوزُها كيَعاسِيبِ النَّحْلِ، ثمَّ يَدعُو رَجُلاً مُمْتلِئًا شباباً، فيَضْرِبُهُ بالسَّيْفِ فيقطَعُهُ جَزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الغَرَضِ، ثمَّ يَدعُوه فيُقبلُ ويَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ، فَبَيْنَما هوَ كذلكَ إذْ بَعَثَ الله المَسيحَ ابن مَرْيمَ، فيَنزِلُ عِندَ المنارَةِ البَيْضاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ بينَ مَهْرودَتَيْنِ واضعاً كفَّيْهِ على أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إذا طَأْطَأَ رأسَهُ قَطَرَ، وإذا رفعَهُ تَحَدَّرَ منهُ مِثْلُ جُمانٍ كاللّؤْلؤِ، فلا يَحِلُّ لكافِرٍ يَجدُ رِيحَ نَفَسِهِ إلا ماتَ، ونَفَسُهُ يَنْتَهي حَيْثُ يَنْتَهي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حتَّى يُدرِكَهُ ببابِ لُدٍّ فَيقْتُلُه، ثمَّ يأتي عيسَى قَوْم قدْ عَصَمَهُمُ الله مِنْهُ، فَيَمْسَحُ عنْ وُجوهِهِمْ ويُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجاتِهِمْ في الجَنَّةِ، فبينَما هوَ كذلكَ إذْ أَوْحَى الله إلى عيسى: إنِّي قدْ أَخْرَجتُ عِبادًا لي لا يَدانِ لأَحَدٍ بقتالِهمْ فَحَرِّزْ عِبادِي إلى الطورِ، وَيبْعَثُ الله يأجُوجَ ومَأجُوجَ {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} فيمُرُّ أوائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرةِ طَبَرِيَّةَ، فيَشرَبونَ ما فيها، ويمُرُّ آخِرُهُمْ فيقولُ: لقدْ كانَ بهذِهِ مَرَّةً ماءٌ، ثمَّ يَسيرونَ حتَّى يَنتهُوا إلى جَبَلِ الخَمْرِ، وهو جَبلُ بيتِ المَقْدِسِ، فيقولونَ: لقدْ قتلنا مَنْ في الأرضِ، هَلُمَّ فلْنَقْتُلْ مَنْ في السماءِ، فيَرمُونَ بنشَّابهِمْ إلى السَّماءِ، فيرُدُّ الله عليهِمْ نُشَّابَهُمْ مَخْضُوبَةً دَمًا. ويُحْصَرُ نبَيُّ الله وأَصْحابُهُ حتَّى يكونَ رأسُ الثَّوْرِ

لأَحدِهِمْ خَيراً مِنْ مِئَةِ دِينارٍ لأحدِكُمُ اليَوْمَ، فيَرْغَبُ نبيُّ الله عِيسَى وأَصْحابُهُ إلى الله، فيُرسلُ الله عَلَيهِمُ النَّغَفَ في رِقابهِمْ، فيُصْبحونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ واحِدَةٍ، ثمّ يَهبطُ نبيُّ الله عيسَى وأصحابُهُ إلى الأَرْضِ، فلا يَجدونَ في الأَرْضِ موضعَ شِبرٍ إلَّا مَلأَهُ زهَمُهُمْ ونَتنُهُمْ، فَيَرْغَبُ نبيُّ الله عيسَى وأصحابُهُ إلى الله، فيُرسلُ الله طيراً كأعْنَاقِ البُخْتِ فتحْمِلُهُمْ فتطرَحُهُمْ حَيْثُ شاءَ الله - ويُروى: فتطرَحُهُمْ بالمَهْبلِ، ويَسْتَوقدُ المُسْلِمونَ مِنْ قِسِيهِمْ ونُشَّابهِمْ وجِعابهِمْ سَبْعَ سِنينَ - ثمَّ يُرْسلُ الله مَطَراً لا يَكُنُّ منهُ بيتُ مَدَرٍ ولا وَبَرٍ، فيَغْسِلُ الأَرْضَ حتَّى يترُكَها كالزُّلَفَةِ، ثم يُقالُ للأَرضِ: أنْبتي ثَمَرتكِ ورُدِّي بَرَكتكِ، فيَوْمَئِذٍ تأكُلُ العِصابَةُ مِنَ الرُّمَّانَةِ ويَسْتَظِلُّونَ بِقَحْفِها، ويُبارَكُ في الرِّسلِ حتَّى أنَّ اللِّقْحَةَ مِنَ الإبلِ لَتكْفي الفِئامَ مِنَ النَّاسِ، واللِّقْحَةَ مِنَ البقَرِ لَتكْفي القَبيلةَ مِنَ النَّاسِ، واللِّقْحَةَ مِنَ الغَنَم لَتكْفي الفَخِذَ منَ النَّاسِ، فَبَيْنَما هُمْ كذلكَ إذْ بعثَ الله رِيحاً طَيبةً فتأخُذُهُمْ تحتَ آباطِهمْ، فتَقبضُ رُوْحَ كلِّ مُؤْمِنٍ وكُلِّ مُسْلِمٍ، ويبقى شِرارُ النَّاسِ يَتهارَجونَ فيها تَهارُجَ الحُمُرِ، فَعليْهِمْ تقومُ السَّاعَةُ". "عن النوَّاس": بفتح النون وتشديد الواو. "ابن سمعان": بكسر السين المهملة، ومنع الصرف. "أنه قال: ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الدجَّال فقال: إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجُهُ": فعيل بمعنى: الفاعل من أفعل المبالغة من الحجة؛ أي: غالَبٌ عليه بالحجة. "دونكم"؛ أي: قدامكم؛ يعني: إن كنت فيكم كفيتكم شرَّه. "وإن يخرج ولست فيكم، فامرؤٌ حجيجُ نفسه"؛ أي: ليدفع شره عن نفسه بما عنده من الحجج القاطعة الشرعية والعقلية، وإنما قال: (إن يخرج وأنا فيكم) مع علمه - عليه الصلاة والسلام - أنه لا يخرج في زمانه؛ لاحتمال أنه أراد

به: ديني قائم فيكم، أو يريد تحقيق خروجه؛ يعني: لا تشكوا فيه، فإنه سيخرج لا محالة. والأوجه: أن يراد به عدم علمه بوقت خروجه؛ لعدم علمه بالساعة. "والله خليفتي على كل مسلم"؛ يعني: أنه تعالى وليُّ كل مسلم وحافظ [ـه] , فيعينه عليه، ويدفع شره عنه. وهذا دليل على أن المؤمن الموقن لا يزال منصورًا وإن لم يكن معه نبي ولا إمام. "إنه شاب قطط": بفتحتين؛ أي: شديد الجعودة مثل شعور الحبش. "عينه طافئة، كأني أشبهه بعبد العُزَّى" بضم العين المهملة والزاي المعجمة المشددة المفتوحة: يهودي من خزاعة، مات في الجاهلية. "ابن قطن": بفتح القاف والطاء المهملة المفتوحة، وتشبيهه إشارة إلى أنه كذَّاب. "فمن أدركه منكم، فليقرأْ عليه فواتحَ سورة الكهف"؛ أي: أوائلها، جمع فاتحة، وهي أول كل شيء، والتخصيصُ به دون سائر السور تعبديٌّ لا يُعقَل معناه، أو لأن فواتحها مشتملة على قصة أصحاب الكهف، وعصمتهم من دقيانوس وجنده، فكذا من قرأها حفظ من الدجال. "وفي رواية: فليقرأ عليه بفواتح سورة الكهف؛ فإنها جوازكم": وهو بكسر الجيم (¬1) والزاي المعجمة، وهو الصكُّ الذي يأخذه المسافر من السلطان أو نوابه؛ لئلا يتعرض له المترصدةُ في الطريق. وفي بعض النسخ بالراء المهملة، فمعناه: حافظكم. ¬

_ (¬1) المشهور أنه بالفتح، انظر: "القاموس المحيط"، (مادة: جوز).

"من فتنته إنه خارج من خَلَّة": وهو - بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام -: الطريق في الرمل، يذكر ويؤنث؛ يعني: يخرج الدجال من طريق واقع "بين الشام والعراق، فعاث يميناً": بصيغة الماضي؛ أي: أفسد جانب يمينه. "وعاث شمالاً"؛ أي: جانب شماله. وفي بعض بصيغة اسم الفاعل؛ أي: مفسد، وهذا أظهر من حيث العطف. وفيه إشارة إلى أنه لا يكتفي بالإفساد فيما يطأه من البلاد، بل يبعث سراياه يمينًا وشمالًا، فلا يأمن ولا يخلو من فتنته موطن. "يا عباد الله فاثبتوا"؛ أي: يومئذ على ما أنتم عليه الآن من الإيمان, ولا تتبعوا اللعين، ولو فعل بكم من العقوبات، والخطاب مع الصحابة والمراد: من يدركه. "قلنا: يا رسول الله! وما لبثه في الأرض؟ قال: أربعون يومًا؛ يوم كسنة": قيل: يمكن إجراؤه على ظاهره؛ لأن الله تعالى قادر على أن يزيد في اليوم من الأجزاء مقدار السنة، فيكون بقدر السنة. "ويوم كشهر، ويوم كجمعة": وقيل: يمكن أن يحمل معناه: أن فتنة الدجال وشدة بلائه على المؤمنين تكون في أول الأمر أشد وأصعب، وكلما مرَّ زمان، ضَعُفَ أمره، ويهون كيده؛ لأن الحقَّ يزيد كل وقت نورًا وعزاً، والباطل ينقص، وأيضًا فإن الناس إذا اعتادوا بالبلاء والمحنة، فإنه يهون عليهم إلى أن يضمحل أمره. "وسائر أيامه كأيامكم": وفيه إشارة إلى أن الامتداد في الأيام الثلاثة على القدر المذكور. "قلنا: يا رسول الله! فذلك اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: لا، اقدروا له قدره"؛ أي: قدروا لوقت الصلاة قدر وقتها في سائر الأيام،

فصلوا كلَّ صلاة إذا ذهب القدر الذي كان يذهب في سائر الأيام، ويدخل وقتها. "قلنا: يا رسول الله! وما إسراعه في الأرض؟ "؛ أي: كيف إسراعه؟ قال: كالغيث استدبرته الريح، فيأتي على القوم فيدعوهم، فيؤمنون به، فيأمر السماء فتمطر، والأرض فتنبت، فتروح عليهم سارحتهم"؛ أي: ماشيتهم. "أطول ما كانت ذُرى": بضم الذال المعجمة وفتح الراء المهملة؛ أي: أسنمة جمع ذروة، وهي: أعلى سنام البعير، وذروة كل شيء: أعلاه. "وأسبغه": أفعل تفضيل من السبوغ؛ أي: أتمه. "ضروعاً": جمع الضرع؛ وهو الثدي؛ أي: تعود إليهم ماشيتهم سماناً كثيرة الدر [أكثر] مما كانت قبل، والضمير فيه للفظة (ما)، وكذا في: "وأمده خواصر": جمع خاصرة، وهي ما تحت الجنب، وكونها أمدها كناية عن كثرة الأكل والامتلاء؛ أي: أوسعها وأتمها. "ثم يأتي القوم فيدعوهم، فيردون عليه قوله، فينصرف عنهم، فيصبحون ممحلين"؛ أي: يصيرون أصحاب مَحْل، وهو القحط، من (أمحل): إذا دخل في القحط، وأصله انقطاع المطر، ويبس الأرض والكلأ. "ليس بأيديهم شيء من أموالهم، ويمر بالخربة"؛ أي: بالأرض الخربة. "فيقول لها: أخرجي كنوزك، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل": جمع يعسوب، وهو أمير النحل، ومنه قيل للسيد: يعسوب قومه، والمعنى: تتبعه كنوز الأرض، كما يتبع النحل اليعسوب الذي هو ملكها. "ثم يدعو رجلًا ممتلئاً شبابًا"؛ أي: يكون في عنفوان شبابه، نصب

(شبابًا) على التمييز. "فيضربه بالسيف، فيقطعه جِزْلتين"؛ أي: قطعتين. و (الجزلة) بكسر الجيم وسكون الزاي: القطعة، وبفتح الجيم: المصدر. "رمية الغرض"؛ أي: الهدف؛ يعني: بعدُ ما بين القطعتين بقدر رمية السهم؛ أي: الهدف. قيل: هذا على تقدير كسر الجيم، وأما إن فتح؛ فهو إشارة إلى سرعة نفوذ السيف فيه، أو إلى إصابة المحن. "ثم يدعوه، فيُقبل"؛ أي: ذلك الشاب على الدجَّال. "ويتهلل وجهه"؛ أي: يتلألأ ويضيءُ. "يضحك": حال من الضمير؛ أي: يقبل ضاحكا بشاشًا، فيقول: يصلح هذا إلهًا. "فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهروذتين": يروى بالدال المهملة والمعجمة؛ أي: حلتين أو شقتين من الهرد، وهو الشق، وقيل: الثوب المهروذ المصبوغ بالورس ثم بالزعفران، وقيل: ثياب فيها صفرة خفيفة. "واضعاً كفيه على أجنحة ملكين، إذا طأطأ رأسَه"؛ أي: خفضه. "قطر"؛ أي: عرقه. "وإذا رفعه تحدر منه"؛ أي: نزل من رأسه. "مثل جمان" وهو بضم الجيم وتشديد الميم: اللؤلؤ الصغار، وبتخفيفها: حب يتخذ من الفضة كالذرة. قيل: المراد من الجمان في صفة عيسى - عليه الصلاة والسلام - هو

الحب المتخذ من الفضة. "كاللؤلؤ": فإنه - صلى الله عليه وسلم - شبَّه الجمان باللؤلؤ، فلا بد من المغايرة بينهما، فيكون صفة لجمان، وجاز كون الكاف اسماً في محل الرفع بدلًا من (مثل) الأول، وهو صفة لموصوف محذوف، وتقديره: عرق مثل جمان، أو قطرات نورانية مثله. "فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه"؛ أي: نفس عيسى عليه السلام. "لا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، فيطلبه"، أي: عيسى - عليه السلام - الدجالَ. "حتى يدركه بباب لُدٍّ"، بضم اللام وتشديد الدال المهملة: اسم جبل بالشام. "فيقتله، ثم يأتي عيسى - عليه السلام - قومٌ قد عصمهم الله منه"؛ أي: من الدجال. "فيمسح عن وجوههم": قيل: أثر المشقة، وقيل: معناه: أنه يسرهم بأن يخبرهم بأن الله تعالى قد قتل الدجَّال. "ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة، فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى - عليه السلام - أني قد أخرجت عبادًا لي لا يدانِ"؛ أي: لا قدرة ولا طاقة. "لأحد بقتالهم": وإنما كنى باليد عن القدرة؛ لأن المباشرة والدفاع يكون باليد، وثنَّى اليد، ليكون أبلغ في المعنى. "فحرِّزْ عبادي"؛ أي: ضمهم "إلى الطور" وحصِّنهم. "ويبعث الله يأجوج ومأجوج، {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ} ": وهو ما ارتفع من الأرض.

{يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96]؛ أي: يسرعون. "فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية": تصغير بحرة، وطبرية: قصبة بالشام، وطول تلك البحيرة عشرة أميال. "فيشربون ما فيها، ويمر آخرهم فيقول: لقد كان بهذه"؛ أي: بهذه البحيرة. "مرة ماء، ثم يسيرون حتى ينتهوا إلى جبل الخمر" بفتح الخاء المعجمة والميم: هو الشيء الملتف، وفي بعض بسكون الميم. "وهو جبلُ بيتِ المقدس": وإنما فسر به؛ لكثرة شجره. "فيقولون: لقد قتلنا مَنْ في الأرض هَلمَّ"؛ أي: تعال، ويطلقه أهل الحجاز على المذكر والمفرد وفروعهما بلفظ واحد، وبنو تميم تطابق به. "فلنقتل مَنْ في السماء، فيرمون نشابهم" بضم النون وتشديد الشين: جمع النشابة، وهي السهم. "إلى السماء، فيرد الله تعالى عليهم نشابهم مخضوبةً دمًا، ويحضر نبي الله"؛ يعني: "عيسى" عليه الصلاة والسلام "وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مئة دينار لأحدكم اليوم"؛ يعني: يبلغ الفقر بهم هذا الحد. "فيرغب نبي الله عيسى - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه"؛ أي: يدعوا الله تعالى بهلاكهم واستئصالهم. "فيرسل الله عليهم النَّغَفَ" بفتح النون والغين المعجمة: دود يكون في أنف الإبل والبقر والغنم، واحدها: نغفة. "في رقابهم، فيصبحون فَرْسى"؛ أي: يصيرون قتلى، جمع: فريس،

وهو القتيل، مِنْ فَرَسَ الذئبُ الشاة؛ أي: كسرها وقتلها. "كموت نفس واحدة"؛ أي: فيموتون في وقت واحد، وفيه تنبيهٌ على أنه تعالى يهلكهم في أدنى ساعة بأهون شيء. "ثم يهبط"؛ أي: ينزل. "نبي الله عيسى - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه إلى الأرض": من الطور. "فلا يجدون في الأرض موضعَ شبر إلا ملأه زَهَمهم ونتنهم"، والزهم بفتح الزاي المعجمة والهاء: مصدر زَهِمت يده - بالكسر - تزهم؛ أي: دسمت من رائحة اللحم. ويروى بضم الزاي مع فتح الهاء؛ جمع (زُهْمة) بالضم ثم السكون، وهي المنتنة؛ يعني: تنتن الأرض من جيفهم. "فيرغب نبي الله عيسى - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه إلى الله تعالى، فيرسل الله طيرًا كأعناق البخت": وهي جمال طوال الأعناق؛ أي: ملائكة على صورتها. "فتحملهم، فتطرحهم حيث شاء الله تعالى، ويروى: تطرحهم بالنهبل": وقيل: حيث تطلع الشمس. "ويستوقد المسلمون من قسيهم ونشابهم وجِعابهم" بكسر الجيم: جمع الجَعْبة بالفتح، وهو غلاف النشاب. "سبع سنين، ثم يرسل الله مطرًا لا يكِنُّ منه": من الإكنان، والكنُّ: ما يردُّ الحرَّ والبرد من الأبنية والمساكن، كننته أكنُّه كنًّا: سترته وصنته، وأكننته أيضًا بمعنى، وهو صفة (مطر)، ومفعوله محذوف؛ أي: لا يستر ولا يصون من ذلك المطر.

"بيت مدر، ولا وبر"، أي: أهل الحضر والبدو، بل يعمُّ جميع الأماكن. "فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلفة" بفتح الزاي المعجمة واللام: واحدة الزلف، وهي مصانع الماء، أراد: أن المطر يغزر فتصير الأرض كلها كمصنعة من مصانع الماء، وقيل: الزلفة: المرأة، شبَّه الأرض بها؛ لاستوائها ولطافتها، وقيل: الروضة. "ثم يقال للأرض: أنبتي ثمرتك، ورُدِّي بركتك، فيومئذ تأكل العصابة"؛ أي: الجماعة من الناس. "من الرمانة، ويستظلون بقحفها": بالكسر ثم السكون؛ أي: بقشرها، أصل القحف: العظم المستدير فوق الدماغ، ثم استعير لقشر الرمان تشبيها به. "ويبارك": بصيغة المجهول من البركة، وهي الكثرة والاتساع. "في الرِّسْل": وهو - بكسر الراء -: اللبن والحليب. "حتى إن اللقحة من الإبل"، وهي - بكسر اللام -: الناقة التي نتجت حديثًا. "لتكفي الفِئام من الناس" بكسر الفاء: الجماعة الكثيرة، لا واحدَ لها من لفظها، وأراد بها هنا: أكثر من القبيلة التي هي أكثر من الفخذ؛ فإن الناقة أكثر رسلًا من البقر، وهي من الغنم. "واللقحة من البقر، لتكفي القبيلة من الناس، واللقحة من الغنم، لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك": (هم) مبتدأ، و (كذلك) خبره؛ يعني: تنعمون في طيب عيش وسعة ورفاهية. "إذ بعث الله"؛ أي: أرسل عليهم فجاءة. "ريحًا طيبة، فتأخذهم تحت آباطهم، فتقبض روحَ كلِّ مؤمن وكل مسلم": فيموت من في ذلك الزمان من أهل الطاعة.

"ويبقى شرارُ الناس، يتهارجون فيها"؛ أي: يختلطون ويتفاسدون في الأرض، وهو حال من (شرار الناس)؛ أي: متهارجين. "تهارجَ الحمر"؛ أي: كاختلاطها؛ يعني: يجامعون النساء بحضرة الناس. "فعليهم تقوم الساعة". * * * 4232 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فَيتوَجَّهُ قِبَلَهُ رَجُلٌ مِنَ المُؤْمنينَ، فَتَلْقاهُ المَسالحُ، مَسالحُ الدَّجَّالِ، فيقولونَ لهُ: أينَ تَعْمِدُ؟ فيقولُ: أَعْمِدُ إلى هذا الذي خَرَجَ، قال فيقولونَ لهُ: أَوَ ما تُؤمِنُ بِرَبنا؟ فيقولُ: ما بِرَبنا خَفاءٌ، فيقولونَ: اقتُلُوه، فيقولُ بعضُهُمْ لبعضٍ: أليسَ قدْ نهَاكُمْ ربُّكُمْ أن تقتُلُوا أَحَدًا دُونهُ، فينطلِقُونَ بهِ إلى الدَّجَّالِ، فإذا رآهُ المُؤْمِنُ قال: يا أيُّها النَّاسُ هذا الدَّجَّالُ الذي ذَكَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: فَيَأْمُرُ الدَّجَّالُ النَّاسَ بهِ فيُشَبَّحُ، فيقولُ: خُذوهُ وشُجُّوهُ، فيُوسَعُ ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضَرْبًا، قال فيقولُ: أما تُؤمِنُ بي؟ قالَ فيقولُ: أنتَ المَسِيحُ الدَّجَّالُ الكَذَّابُ، قالَ: فيُؤْمَرُ بهِ فيُؤْشَرُ بْالمِئْشارِ مِنْ مَفْرِقِهِ حتَّى يُفَرَّقَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ، قال: ثمَّ يَمْشي الدَّجَّالُ بينَ القِطْعَتَيْنِ، ثمَّ يقولُ لهُ: قُمْ، فيَستوِي قائِمًا، ثُمَّ يقولُ لهُ: أتُؤْمِنُ بي؟ فيقولُ: ما ازْدَدْتُ فيكَ إلا بَصيرَةً، قالَ: ثُمَّ يقُولُ: يا أيُّها النَّاسُ إنَّهُ لا يَفْعَلُ هذا بَعْدِي بأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، قال: فيأخُذُهُ الدَّجَّالُ لِيَذْبَحَهُ فيُجعَلُ ما بينَ رقَبَتِهِ إلى تَرْقُوَيهِ نُحاسًا، فلا يَسْتطيعُ إليهِ سَبيلًا، قال: فَيَأْخُذُ بيدَيْهِ ورِجلَيْهِ فيقْذِفُ بهِ، فيَحْسِبُ النَّاسُ أنَّما قذَفَهُ إلى النَّارِ، وإنَّمَا أُلقيَ في الجنَّةِ". فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا أَعْظَمُ النَّاسِ شَهادَةً عندَ رَبِّ العالمينَ".

"عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يخرج الدجال فيتوجه قِبَله": بكسر القاف وفتح الباء الموحدة؛ أي: نحوه وجانبه. "رجل من المؤمنين فتلقاه"؛ أي: الرجلَ. "المسالحُ": جمع مَسْلَحَة، وهي قوم ذوو سلاح. "مسالح الدجال": بدل من المسالح. "فيقولون له: أين تعمِد؟؛ أي: تقصد. "فيقول: أعمد إلى هذا الذي خرج، قال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فيقولون له: أوما تؤمن بربنا؟ فيقول: ما بربنا خفاء، فيقولون: اقتلوه، فيقول بعضهم لبعض: أليس قد نهاكم ربكم أن تقتلوا أحدًا دونه، فينطلقون به إلى الدجال، فإذا رآه المؤمن قال: يا أيها الناس! هذا الدجَّال الذي ذكر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: فيأمر الدجال به، فيُشبَّح": الشَّبْحُ في الرأس: هو أن يُضرَب بشيء، فيجرحه ويشقه. "فيقول: خذوه، وشجوه": قيل: معناه: شدوا أربعة أطرافه بالأوتاد؛ ليجلد. "فيوسع ظهره وبطنه ضربًا"؛ أي: فيكثر الضرب فيهما. "قال: فيقول"؛ أي: الدجال. "أما تؤمن بي؟ قال: فيقول"؛ أي: الرجل المؤمن. "أنت المسيح الكذاب، قال: فيؤمر به فيؤشَرَ بالمئشار"؛ أي: يشق به. "من مفرقه حتى يفرَّق بين رجليه، قال: ثم يمشي الدجَّال بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيستوي قائمًا، ثم يقول له: أتؤمن بي؟ فيقول: ما ازددت":

علي بناء المجهول. "فيك إلا بصيرةٍ"؛ أي: علمًا بك وبفعلك بأنك كاذب مُمَوِّهٌ. "قال: ثم يقول"؛ أي: المؤمن. "يا أيها الناس! إنه لا يفعل [هذا] بعدي بأحد من الناس"؛ أي: ما فعل بي من القتل والإحياء في الظاهر. "قال: فيأخذه الدجال؛ ليذبحه، فيجعل ما بين رقبته إلى ترقوته نحاسًا"؛ أي: فيجعل الله ما بينهما كالنحاس لا يعمل فيه السيف. "فلا يستطيع إليه سبيلًا، قال: فيأخذه بيديه ورجليه، فيقذف به، فيحسب الناس أنما قذفه إلى النار، وإنما ألقي في الجنة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا أعظمُ الناسِ شهادة عند رب العالمين". 4233 - عن أُمِّ شَرِيكٍ أنَّها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَفِرَّنَّ النَّاسُ مِنَ الدَّجَّالِ حتَّى يَلْحَقُوا بالجبالِ". قالت أُمُّ شَرِيكٍ: قلتُ يا رسولَ الله! فأيْنَ العَرَبُ يومئذٍ؟ قالَ: "هُمْ قَليلٌ". "عن أم شَرِيك - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ليفرنَّ الناسُ من الدجال حتى يلحقوا بالجبال. قالت أم شَرِيك: قلت: يا رسول الله! فأين العرب يومئذ؟ ": الفاء فيه جواب شرط محذوف؛ أي: إذا كان حال الناس هذا؛ فأين المجاهدون من العرب في سبيل الله؟ "قال: هم قليل". 4234 - عن أنس، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يَتْبعُ الدَّجَّالَ منْ يَهودِ أَصْبَهانَ سَبْعونَ ألفًا عليهِمُ الطَّيَالِسَةُ". "عن أنس - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: يتَّبعُ الدجالَ": بتشديد التاء.

"من يهود أصفهان سبعون ألفًا عليهم الطيالسة": جمع الطيلسان. قال سليمان بن جرير: ليس هذا أصفهان العراق، إنما هو أصفهان بخراسان. * * * 4235 - وقالَ: "يأتي الدَّجَّالُ، وهوَ مُحَرَّمٌ عليهِ أنْ يَدخُلَ نِقابَ المَدينةِ، فينزِلُ بَعْضَ السِّباخِ التي تَلي المَدينَةَ، فيخرُجُ إليهِ رَجُل، وهو خَيْرُ النَّاسِ، أو منْ خِيارِ النَّاسِ، فيقولُ: أَشْهَدُ أنَّكَ الدَّجَّالُ الذي حَدَّثَنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَديثَهُ، فيقولُ الدَّجَّالُ: أرأَيْتُمْ إنْ قَتلتُ هذا ثمَّ أَحْيَيْتُهُ هلْ تَشُكُّونَ في الأَمْرِ؟ فيقولونَ: لا، فيقتُلُهُ ثمَّ يُحْييهِ، فيقولُ: والله ما كنْتُ فيكَ أَشَدَّ بَصيرةً منِّي اليَوْمَ، فيُريدُ الدَّجَّالُ أنْ يقتُلَهُ فلا يُسلَّطُ عليهِ". "وقال: يأتي الدجال، وهو محرَّم عليه أن يدخل نِقابَ المدينة": وهو بكسر النون: جمع نقب، وهو الطريق بين الجبلين؛ أي: لا يستطيع أن يدخل طرفها. "فينزل بعض السِّباخ": بكسر السين: جمع سبخة. "التي تلي المدينة، فيخرج إليه رجل": قيل: هو الخضر عليه الصلاة والسلام. "وهو خير الناس، أو من خيار الناس، فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثه، فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا، ثم أحييته، هل تشكون في الأمر؟ فيقولون: لا"؛ أي: لا نشك، وإنما قالوا ذلك خوفًا منه، لا تصديقًا، ويحتمل: أنهم قصدوا لا نشك في كذبك وكفرك، وخادعوه بهذه التورية خوفًا منه.

ويحتمل: أنهم هم الذين يصدقونه من اليهود وغيرهم ممن قدر الله شقاوته. "فيقتله، ثم يحييه، فيقول: والله ما كنت فيك أشدَّ بصيرة مني اليوم، فيريد الدجال أن يقتله، فلا يسلط عليه"؛ أي: لا يقدر على قتله. قال الكلاباذي: في الحديث دليل على أنَّ الدجال لا يقدر على ما يريده، وإنما يفعل الله ما يشاء عند حركته في نفسه، ومحل قدرته ما شاء الله أن يفعله؛ اختبارًا للخلق وابتلاء لهم؛ ليهلك من هلك عن بينة، ويحيى من حي عن بينة، ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء. * * * 4236 - عن أبي هريرةَ عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "يأتي المَسيحُ منْ قبَلِ المَشْرِقِ هِمَّتُهُ المَدينةُ، حتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحدٍ، ثمَّ تَصْرِفُ الملائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وهُنالِكَ يَهلِكُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يأتي المسيح"؛ أي: الدجال. "من قِبل المشرق وهمتُه"؛ أي: قصده. "المدينةُ، حتى ينزل دبر أحد"؛ أي: خلف جبل أحد. "ثم تصرف الملائكة وجهه قِبل الشام وهنالك يُهلك". * * * 4237 - وعن أبي بَكرَةَ أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "لا يَدْخُلُ المَدينَةَ رُعْبَ المَسيح الدَّجَّالِ، لها يَوْمَئِذٍ سَبعةُ أبواب عَلَى كلِّ بابٍ مَلَكانِ".

"عن أبي بكرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: لا يدخل المدينة رُعْبَ المسيح الدجال": بضم الراء وسكون العين المهملة؛ أي: خوفه. "لها"؛ أي: للمدينة. "يومئذ سبعةُ أبواب على كل باب ملكان". * * * 4238 - عن فاطمةَ بنتِ قَيْسٍ قالت: سَمِعْتُ مُنادِيَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يُنادِي: الصَّلاةَ جامِعَةً، فخَرَجْتُ إلى المَسْجدِ فَصَلَّيْتُ مَعَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ جَلَسَ عَلَى المِنبرِ وهوَ يَضْحَكُ فقال: "لِيَلزَمْ كلُّ إِنْسانٍ مُصَلاهُ"، ثُمَّ قال: "هلْ تَدرونَ لِمَ جَمعتُكُمْ؟ " قالوا: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال: "إِنِّي والله ما جَمَعْتُكُمْ لرَغْبةٍ ولا لرَهْبةٍ، ولكنْ جَمَعْتُكُمْ لأَنَّ تَميمًا الدَّارِيَّ كانَ رَجُلًا نَصْرانِيًّا، فجاءَ وأَسْلَمَ، وحَدَّثَني حَديثًا وافَقَ الذي كنْتُ أُحَدِّثُكُمْ بهِ عنِ المَسيح الدَّجَّالِ، حدَّثَني أنَّهُ ركِبَ في سَفينةٍ بَحْرِيَّةٍ مَعَ ثلاثينَ رَجُلًا منْ لَخْمٍ وجُذامَ، فلَعِبَ بهِمْ المَوْجُ شَهْرًا في البَحْرِ، فَأَرْفَؤُوا إلى جَزيرةٍ حينَ تَغْرُبُ الشَّمْسُ، فجَلَسُوا في أَقْرُبِ السَّفينةِ فدخَلُوا الجزيرةَ، فلقِيتهُمْ دابّةٌ أَهْلَبُ كثيرُ الشَّعَرِ، لا يَدْرونَ ما قُبُلُهُ منْ دُبُرِهِ منْ كثرةِ الشَّعَرِ، قالوا: ويلَكِ ما أنتِ؟ قالت: أنا الجَسَّاسَةُ، انطلِقُوا إلى هذا الرَّجُلِ في الدَّيْرِ فإنَّهُ إلى خَبَرِكُمْ بالأشْواقِ، قال: لمَّا سَمَّتْ لنا رجلًا فَرِقْنا منها أنْ تكونَ شَيْطانةً، قال: فانطلَقْنا سِراعًا حتَّى دخَلْنا الدَّيْرَ، فإذا فيهِ أَعْظَمُ إِنْسانٍ ما رأيناهُ قطُّ خَلْقًا، وأشدُّهُ وِثاقًا، مَجْمُوعَةٌ يَداهُ إلى عُنُقِهِ ما بينَ رُكبَتِهِ إلى كَعْبهِ بالحَديدِ، قُلنا: ويلَكَ ما أنتَ؟ قال: قدْ قَدَرْتُمْ علَى خَبرِي فأخبروني ما أنتُمْ؟ قالوا: نَحْنُ أُناسٌ مِنَ العَرَبِ ركِبنا في سَفينَةٍ بَحْريَّةٍ فلَعِبَ بنا البَحْرُ شَهْرًا فدَخَلْنا الجزيرةَ، فلَقِيَتْنا دابَّةٌ أهْلَبُ فقالت: أنا الجَسَّاسَةُ، اعْمِدُوا إلى هذا الرَّجلِ في الدَّيْرِ، فأقبَلْنا إليكَ سِرَاعًا، فقال:

أَخْبروني عنْ نَخْلِ بَيْسانَ هلْ تُثمِرُ؟ قُلْنا: نعَم، ثُمَّ قال: أَما إنَّها يُوشِكُ أنْ لا تُثْمِرَ، قال: أَخْبروني عنْ بُحَيْرَةِ الطَّبَرِيَّةِ هلْ فيها ماءٌ؟ قلنا: هيَ كثيرةُ الماءِ قال: أَما إنَّ ماءَها يُوشِكُ أنْ يذهَبَ، قال: أَخْبروني عنْ عَيْنِ زُغَرَ هلْ في العينِ ماءٌ؟ وهلْ يَزْرعُ أهلُها بماءَ العَيْنِ؟ قلنا: نعمْ، هيَ كثيرةُ الماءِ، وأهلُها يزرَعونَ مِنْ مائِها، قال: أَخْبروني عنْ نبَيِّ الأُمِّيينَ ما فعلَ؟ قالوا: قد خرجَ من مكةَ ونزلَ يثربَ، قال: أقاتَله العربُ؟ قلنا نعم، قال: كيفَ صَنَعَ بهمْ؟ فأخبرناهُ أنَّهُ قدْ ظَهَرَ علَى مَنْ يَليهِ مِنَ العَرَبِ وأطاعوهُ، قال: أَمَا إنَّ ذلكَ خَيْرٌ لهمْ أنْ يُطيعوهُ، وإنِّي مُخبرُكُمْ عنِّي، إنِّي أنا المَسِيحُ، وإدي أُوشِكُ أنْ يُؤْذَنَ لي في الخُروجِ فأَخْرُجَ فأَسيرَ في الأَرْضِ فلا أَدعُ قريةً إلَّا هَبَطْتُها في أربعينَ ليلةً غيرَ مكَّةَ وطَيْبَةَ، هُما مُحَرَّمَتانِ عليَّ كلتاهُما، كُلَّما أرَدْتُ أنْ أَدْخُلَ واحِدَةً مِنهُما استقبَلَني مَلَكٌ بيدِهِ السَّيْفُ صَلْتًا يَصُدُّنِي عنها، وإنَّ على كلِّ نَقْبٍ منها ملائِكَةً يَحرُسونَها"، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وطَعَنَ بمِخْصَرَتِهِ في المِنْبَرِ: "هذِه طَيْبَةُ، هذِه طَيْبَةُ، هذه طيبةُ"، يَعني: المَدينَةَ، "ألا هلْ كنتُ حَدَّثْتُكُمْ؟ " فقالَ النَّاسُ: نعمْ، قال: "ألا إِنَّهُ في بَحْرِ الشَّامِ أوْ بَحْرِ اليَمَنِ، لا بَلْ منْ قِبَلِ المَشرِقِ ما هُوَ"، وأَوْمَأ بيدِه إلى المَشرِقِ. "عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أنها قالت: سمعت مناديَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينادي: الصلاة جامعةً": برفعهما مبتدأ وخبر، أو بنصبهما على تقدير: احضروا الصلاة في حال كونها جامعة، وبرفع الأول على تقدير: هذه الصلاة، ونصب الثاني على الحالية، وبالعكس على تقدير: احضروا الصلاة وهي جامعة، وهو ضعيف؛ لإضمار حرف العطف، وعلى جميع التقادير فمحل الجملة نصب؛ لأنه مفعول (ينادي) حكاية لكونه في معنى القول. "فخرجت إلى المسجد، فصليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما قضى صلاته، جلس على المنبر وهو يضحك، فقال: ليلزمْ كلُّ إنسان مُصلَّاه"، أي: ليقعدْ

فيه حتى يسمع ما أقول. "ثم قال: هل تدرون لم جمعتكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: إني والله ما جمعتكم لرغبة"؛ أي: فيكم. "ولا لرهبة"؛ أي: منكم. "ولكن جمعتكم لأن تميم الداريَّ كان رجلًا نصرانيًا، فجاء وأسلم، وحدثني حديثًا وافق الذي كنت أحدثكم به عن المسيح الدجال، حدثني: أنه ركب في سفينة بحرية"؛ أي: كبيرة. قيل: قيد بالبحرية لتتميَّز عن الإبل؛ إذ يقال لها: سفن البر، وهذا ليس بشيء؛ لأن القرائن الصارفة عن ذلك كثيرة في سياق الحديث. "مع ثلاثين رجلًا من لخم وجُذامَ": قبيلتان من العرب. "فلعب بهم الموج شهرًا في البحر": سمي اضطراب أمواج البحر لعبًا؛ لما لم تَسِرْ بهم على الوجه المراد، ويقال: لكل من عمل عملًا لا يجري عليه نفعًا: إنما أنت لاعب. "فأرفَأُوا"؛ أي: قرَّبوا السفينة. "إلى جزيرة حين تغرب الشمس، فجلسوا في أقرُبِ السفينة": بضم الراء: جمع قارب - بالفتح - على غير القياس، وقد يكسر، وهو سفينة صغيرة تكون مع السفن البحرية كالجنائب لها، تتخذ لحوائجهم. "فدخلوا الجزيرة، فلقيتهم دابة أهلبُ": بفتح الهمزة وسكون الهاء وفتح اللام؛ أي: كثير شعر الأطراف غليظه. "كثير الشعر": تفسير له، والهُلْب: ما غلظ من الشعر، كشعر الذَّنَب. "لا يدرون ما قُبُلُه من دُبُرِه من كثرة الشعر، قالوا: ويلك ما أنت؟ ":

خاطبوها مخاطبة المتعجب. "قالت: أنا الجساسة": سميت جساسة؛ لأنها تجسس الأخبار للدجَّال، والحيوان ينطق بقدرة الله تعالى. "انطلقوا إلى هذا الرجل في الدير"؛ أي: في دير النصارى. "فإنه إلى خبركم بالأشواق": وفيه مبالغة؛ أي: كأن الأشواق إلى خبركم ملتصقة به وهو بها. "قال: لما سمت لنا رجلًا فَرِقنا": بكسر الراء؛ أي: فزعنا وخفنا. "منها أن تكون شيطانة، قال: انطلقنا سراعًا حتى دخلنا الدير، فإذا فيه أعظم إنسان"؛ أي: في الجثة. "ما رأيناها"؛ أي: الأعظم. "قط خلقًا، وأشده وثاقًا، مجموعة يده إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد، قلنا: ويلك ما أنت؟ قال: قد قدرتم على خبري"؛ أي: على أن تخبروني عن حالكم، أو على خبري إياكم. "فأخبروني": أنتم عن حالكم. "ما أنتم"؛ أي: من أنتم؟ أو ما حالكم؟ "قالوا: نحن أناس من العرب ركبنا في سفينة بحرية، فلعب بنا البحر شهرًا، فدخلنا الجزيرة، فلقيتنا دابةٌ أهلَبُ، فقالت: أنا الجساسةُ، اعمدوا"؛ أي: اقصدوا. "إلى هذا الرجل في الدير، فأقبلنا إليك سراعًا"؛ أي: مسرعين. "فقال: أخبروني عن نخل بيسان": بفتح الباء الموحدة وسكون الياء المثناة من تحت: قرية بالشام.

"هل تثمر؟ قلنا: نعم. قال: أما إنها يوشك أن لا تثمر، قال: أخبروني عن بحيرة الطبرية، هل فيها ماء؛ قلنا: هي كثيرة الماء، قال: أما إن ماءها يوشك أن يذهب، قال: أخبروني عن عين زُغَر": بضم الزاي وفتح الغين المعجمتين والراء المهملة: اسم عين بالشام. "هل في العين ماء؟ وهل يزرع أهلها بماء العين؟ قلنا: نعم هي كثيرة الماء، وأهلها يزرعون من مائها، قال: أخبروني عن نبي الأميين، ما فعل؟ قلنا: قد خرج من مكة، ونزل يثرب، قال: أقاتله العرب؟ قلنا: نعم، قال: كيف صنع بهم؟ فأخبرناه أنه قد ظهر على من يليه من العرب"؛ أي: غلب عليهم. "وأطاعوه، قال: أما إن ذلك"؛ أي: الإطاعة. "خير لهم أن يطيعوه": فإن قيل هذا القول إنما يصدر من المحق الناطق بالصواب، وهو بمعزل عن ذلك. أجيب بأنه يحتمل أن الله تعالى صرفه عن الطعن والتكبر عليه، فلم يستطع أن يتكلم بغيره؛ تأييدًا لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. ويحتمل: أنه أراد الخير في الدنيا؛ أي: طاعتهم له خير؛ فإنهم إن خالفوه استأصلهم. "وإني مخبركم عني، أنا المسيح، وإني أوشك أن يُؤذَن لي في الخروج فأخرج، فأسير في الأرض فلا أدعُ قرية إلا هبطتها في أربعين ليلة غير مكة وطيبة، وهما محرمتان علي كلتاهما، كلما أردت أن أدخل واحدة منهما، استقبلني ملكٌ بيده السيف صلتًا": نصب على الحال: أي: مجردًا عن الغمد. "يصدني عنها"؛ أي: يردني، ويطردني عن دخولها. "وإن على كل نقب"؛ أي: باب. "منها ملائكة يحرسونها، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وطعن بمخصرته": وهي

- بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة والصاد والراء المهملتين - قضيب يشير به الملك، أو الخطيب إذا خطب. "في المنبر: هذه طيبة، هذه طيبة؛ يعني: المدينة": سماها النبي - صلى الله عليه وسلم - بها؛ لأنها طاهرة، آمنها الله تعالى من كل خبث ونفاق، كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "المدينة كالكير تنفي خبثها". "ألا هل كنتُ حدثتكم ذلك؟ فقال الناس: نعم، ألا إنه"؛ أي: المسيح الدجال. "في بحر الشام، أو في بحر اليمن، لا بل من قبل المشرق": تردده - صلى الله عليه وسلم - في موضعه للشك، وظن أنه لا يخلو عن هذه المواضع الثلاثة؛ فلما ذكر البحرين تيقن من جهة الوحي، أو غلب على ظنه: أنه من قبل المشرق؛ فنفى الأولين، وأضرب عنهما، وأثبت الثالث، أو علم موضعه، وردَّد لمصلحة. ولم تكن العرب تسافر يومئذ إلا في هذه البحرين، أو أراد ببحر الشام ما يلي الجانب الشامي، وببحر اليمن ما يلي الجانب اليماني، والبحر بحر واحد ممتدّ على أحد جوانب جزيرة العرب. "ما هو": (ما) زائدة، و (هو) مبتدأ خبره الظرف المتقدم، أو موصولة مبتدأ خبره (هو)؛ أي: الجانب الذي هو فيه قبل المشرق. "وأومأ بيده"؛ أي: أشار بها "إلى المشرق". * * * 4239 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيتُني الليلَةَ عِنْدَ الكعبةِ، فرأيتُ رَجُلًا آدمَ كأحْسَنِ ما أنتَ راءٍ منْ أُدْمِ الرِّجالِ، لهُ لِمَّةٌ كأحْسَنِ ما أنتَ راءٍ مِنَ اللِّمَم، قد رجَّلَها فهيَ تقطُرُ ماءً، مُتَّكِئًا على عَواتِقِ رَجُلَيْنِ، يَطُوفُ

بالبيتِ، فسألتُ مَنْ هذا؟ فقالوا: هذا المَسيحُ ابن مريمَ"، قال: ثمَّ إذا أنا برجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أعوَرِ العَيْنِ اليُمنَى، كانَّ عَيْنَهُ عِنَتة طافِية، كأشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ مِنَ النَّاسِ بابن قَطَنٍ، واضعا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ يَطوفُ بالبيتِ، فسألتُ: مَنْ هذا؟ فقالوا: هذا المَسِيحُ الدَّجَّالُ". وفي رِوايةٍ: قالَ في الدَّجَّال: "رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسيمٌ، جَعدُ الرَّأْسِ، أَعْوَرُ عَيِنهِ اليُمنَى، أقرَبُ النَّاسِ بهِ شَبَهًا ابن قَطَنٍ". "عن عبد الله بن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: رأيتُني الليلة عند الكعبة، فرأيت رجلًا آدم"؛ أي: أسمر. "كأحسن ما أنت راءً من أُدْمِ الرجال له لمة": وهو بكسر اللام وفتح الميم المشددة: الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن. "كأحسن ما أنت راءٍ من اللِّمم": جمع لمة. "قد رجَّلها"؛ أي: سرَّحها وامتشطها. "فهي تقطر ماء، متكئًا على عواتق رجلين": جمع عاتق، وهو موضع الرداء من الكتف. "يطوف بالبيت، فسألت من هذا؟ فقالوا: هذا المسيح ابن مريم": كوشف في رؤياه - صلى الله عليه وسلم - نزول عيسى - عليه السلام - على صفة الحسن والبهاء وإقامة الدين، ينزل بأحسن ما يكون عليه الإنسان؛ ظاهرًا وباطنًا، متكئًا على العصمة والتأييد، فيطوف حول الدين، ويصلح فاسده. "قال: ثم إذا أنا برجل جَعْدٍ"؛ أي: كثير الشعر. "قَطَط"؛ أي: شديد الجعودة. "أعور العين اليمنى، كان عينه عنبة طافية، كأشبه من رأيت من الناس بابن قطن، واضعًا يديه على منكبي رجلين يطوف بالبيت، فسألت من هذا؟

فقالوا: هذا المسيح الدجال": خروجه على صفة نقص الخلقة، واعوجاج البنية، على صورة كريهة المنظر خبيث الباطن؛ متكئًا على التلبيس، فيدور حول الدين ليحدث فيه ثلمة. "وفي رواية: قال في الدجال: "رجل أحمر جسيم جعد الرأس أعورُ عينه اليمنى، أقربُ الناس به شبها ابن قطن". * * * مِنَ الحِسَان: 4240 - عن فاطِمَةَ بنتِ قَيْسٍ في حديثِ تَميمٍ الدَّارِيِّ قال: فإذا أنا بامرأةٍ تجُرُّ شَعْرَها، قال: ما أَنْتِ؟ قالت: أنا الجَسَّاسَةُ، اذهَبْ إلى ذلكَ القَصْرِ، فأتيتُهُ، فإذا رَجُلٌ يجُرُّ شَعْرَهُ، مُسَلْسَلٌ في الأَغْلالِ، يَنْزُو فيما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ، فقُلت: مَنْ أنتَ؟ قال: أنا الدَّجَّالُ. "من الحسان": " عن فاطمة بنت قيس في حديث تميم الداري قال: فإذا أنا بامرأة تجرُّ شعرها قال: ما أنت؟ قالت: أنا الجساسة": جساسة هذه امرأة، وفي الحديث المتقدم: أنها دابة؛ فيحمل على أن للدجال جاسوسين دابة وامرأة، وكلاهما شيطان واحد، إلا أنه رآه تارة على صورة دابة، وأخرى على صورة امرأة، والشيطان يتصور بأي صورة شاء. "اذهب إلى ذلك القصر، فأتيته، فإذا رجل يجر شعره مسلسل" أي: معلق. "في الأغلال يَنْزُو"؛ أي: يتحرك مع القيد مضطربًا بلا قرارٍ. "فيما بين السماء والأرض": متعلق بقوله: (مسلسل)، ويجوز تعليقه

بـ (ينزو)، وهو الأظهر. "فقلت: من أنت؟ قال: أنا الدجال". * * * 4241 - عن عُبادَة بن الصَّامِت، عن رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنِّي حَدَّثتُكُمْ عنِ الدَّجَّالِ حتَّى خَشِيْتُ أنْ لا تَعْقِلوا، إنَّ المَسيحَ الدَّجَّالَ رَجُلٌ قَصيرٌ، أَفْحَجُ، جَعْدٌ، أعوَرُ، مَطْموسُ العينِ، ليستْ بناتِئَةٍ ولا حَجْراءَ فإنْ أُلْبسَ عليكُمْ فاعلَمُوا أنَّ ربكُّمْ ليسَ بأعوَرَ". "عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إني حدثتكم عن الدجال حتى خشيت"؛ أي: خفت. "أن لا تعقلوا"؛ أي: لا تفهموا ما حدثتكم في شأن الدجال، أو تنسوه من كثرة ما قلت في وصفه، أو خشيت أن يضلكم بخوارقه، فأحدثكم عنه بما تأمنون معه عن الضلال. "إن المسيح الدجال": بكسر الهمزة. "رجل قصير أفحَجُ": بفتح الهمزة وسكون الفاء وفتح الحاء قبل الجيم هو الذي تباعد بين رجليه إذا مشى. "جعد أعور مطموسُ العين"؛ أي: ممسوحها، والطمس: استئصالُ أثر الشيء. "ليس بناتئة"؛ أي: مرتفعة. "ولا حجراء": بفتح الجيم وسكون الحاء؛ أي: ليست بمنخفضة. "فإن ألبس عليكم": الإلباس: الخلط والاشتباه، يعني: إن اشتبه عليكم أمر ما يدعيه في الإلهية.

"فاعلموا أن ربكم ليس بأعور"؛ لأنه منزه عن النقصان، وليس بموصوف بما لا يليق به. * * * 4242 - عن أبي عُبَيْدةَ بن الجَرَّاحِ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إنَّهُ لمْ يكُنْ نبيٌّ بعدَ نوُحٍ إلَّا قدْ أنذَرَ الدَّجَّالَ قومَهُ، وإنِّي أُنْذِرُكُموهُ"، فَوَصَفَهُ لنا فقالَ: "لعلَّهُ سيُدْرِكُهُ بعضُ مَنْ رآني أو سمعَ كلامي"، قالوا: يا رسولَ الله! فكيفَ قُلوبنا يَوْمَئِذٍ؟ قال: "مِثْلُها - يعني: اليومَ - أو خَيْرٌ". "عن أبي عبيدة بن الجراح قال: سمعت رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يقول: إنه لم يكن نبي بعد نوح، إلا وقد أنذر الدجال قومه، وإني أُنذِرُكُموه. فوصفه لنا، فقال: لعله سيدركه"؛ أي: الدجال. "بعض من رآني، أو سمع كلامي": المراد بمن سمع كلامه - صلى الله عليه وسلم -: من وصل إليه أحاديثه - صلى الله عليه وسلم - وإن كان بعد طول زمان. "قالوا: يا رسول الله! فكيف قلوبنا يومئذ؟ قال: مثلها؛ يعني: اليوم، أو خير": عطف على مثلها. * * * 4243 - عن عمرِو بن حُرَيْثٍ، عن أبي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رضي الله عنه - قال: قال حَدَّثنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدَّجَّالُ يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بالمَشْرِقِ يُقَالُ لها: خُراسانُ، يتْبَعُهُ أَقْوامٌ كأَنَّ وُجُوهَهُمُ المَجَانُّ المُطْرَقَةُ". "عن عمرو بن حُريث، عن أبي بكر الصديق قال: حدثنا رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن الدجال يخرج من أرض بالمشرق يقال

لها: خراسان، يتبعه أقوام كأن وجوههم المجان المطرقة": تقدَّم بيانه. * * * 4244 - عن عِمْرانَ بن حُصَيْنٍ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَمعَ بالدَّجَّالِ فَلْيَنْأ عنهُ، فوالله إنَّ الرَّجُلَ لَيأْتِيهِ وهو يَحسِبُ أنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيتَّبعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بهِ مِنَ الشُّبُهاتِ". "عن عمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: [قال] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من سمع بالدجال"، أي: بخروجه. "فلْينأَ"؛ أي: فليبعد. "منه، فوالله إن الرجل ليأتيه"؛ أي: الدجَّال. "وهو"؛ أي: الرجل. "يحسب أنه"؛ أي: الدجال. "مؤمن، فيتبعه"؛ أي: الرجلُ الدجالَ. "مما"؛ أي: من أجل ما "يبعث به من الشبهات": كالسحر، وإحياء الأموات، وغير ذلك من الإنبات والأمطار. أكَّد - صلى الله عليه وسلم - اتباع بعض أمته للدجال باليمين، فينبغي لمن سمع خروجه أن لا يأمنَ من فتنته، ويبعد منه بُعدَ المشرقين، حتى لا يقع فيها، والمعصوم من عصمه الله تعالى. * * * 4245 - عن أسماءَ بنتِ يَزيدَ قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَمْكُثُ الدَّجَّالُ في الأَرْضِ أَرْبعينَ سَنَةً، السَّنَةُ كالشَّهْرِ، والشَّهْرُ كالجُمُعةِ، والجُمُعةُ كاليَوْمِ، واليَوْمُ كاضْطِرامِ السَّعَفَةِ في النَّارِ".

"عن أسماء بنت يزيد": بن السكن بفتحتين. "قالت: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يمكث الدجال في الأرض أربعينَ سنة، السنة كالشهر، والشهرُ كالجمعة، والجمعةُ كاليوم، واليومُ كاضطرام السعفة": وهو بفتحتين: غُصَينُ النخل، وقيل: الغصن الرقيق من النخل، وقيل: ورق النخل؛ أي: كالتهابها "في النار". * * * 4246 - عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يتبَعُ الدَّجَّالَ منْ أُمَّتي سَبعونَ ألفًا عليهِمُ السِّيجانُ". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يتبع الدجال من أمتي سبعون ألفَّا عَليهم السِّيجان، بكسر السين المهملة وبالجيم: جمع ساج، وهو الطيلسان الأخضر، وقيل: المنقوش ينسج كذلك. نبه - صلى الله عليه وسلم - بهذا القول عن كثرة سوادهم؛ يعني: إذا كان أصحاب الثروة سبعون ألفًا، فما ظنك بالفقراء؟! * * * 4247 - عن أَسْماءَ بنتِ يَزيدَ قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَيتي، فذكرَ الدَّجَّالَ فقال: "إنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ثلاثَ سِنينَ: سنة تُمْسِكُ السَّماءُ فيها ثُلُثَ قَطْرِها والأرْضُ ثُلُثَ نبَاتِها، والثَّانِيةُ تُمْسِكُ السَّماءُ ثلُثَيْ قَطْرِها والأرْضُ ثلُثَيْ نَبَاتِها، والثَّالِثَةُ تُمْسِكُ السَّماءُ قَطْرَها كُلَّهُ والأَرْضُ نبَاتَها كُلَّهُ، فلا يبقَى ذاتُ ظِلْفٍ ولا ذَاتُ ضرْسٍ مِنَ البَهائِم ألَّا هلكَ، وإنَّ أَشَدَّ فِتنَتِهِ أنَّهُ يأتي الأَعْرابيَّ فيقولُ: أرأَيْتَ أنْ أحيَيْتُ لكَ أبلَكَ ألسْتَ تَعْلَمُ أنِّي رَبُّكَ؟ فيقولُ: بلَى، فيُمثَّلُ لهُ نحوَ إبلِهِ كأَحْسَنِ ما يكونُ ضُرُوعًا وأَعْظَمِهِ أَسْنِمَةً" قال: "ويأتي الرَّجُلَ قدْ

ماتَ أَخُوهُ، وماتَ أبوهُ، فيقولُ: أرأيتَ إنْ أَحْيَيْتُ لكَ أباكَ وأخاكَ أَلَسْتَ تَعْلَمُ أنِّي ربُّكَ؟ فيقولُ: بَلَى، فيُمَثَّلَ لهُ الشَّياطِينُ نحوَ أبيهِ ونَحْوَ أخيهِ"، قالت: ثُمَّ خَرَجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وسلم لحاجَتِهِ، ثمَّ رَجَعَ والقَومُ في اهتِمامٍ وغَمٍّ ممَّا حدَّثهُمْ، قالت: فأخذَ بِلُجْمتَي البابِ فقالَ: "مَهْيَمْ أسماءُ؟ " قلتُ: يا رسولَ الله! لقدْ خَلَعْتَ أفئِدَتَنَا بذِكرِ الدَّجَّالِ، قال: "إنْ يَخْرُجْ وأنا حَيٌّ فأنا حَجيجُهُ، وإلاَّ فإنَّ ربي خَليفَتي على كلِّ مُؤمنٍ"، فقُلتُ: يا رسولَ الله! والله إنَّا لَنَعْجنُ عَجينَنا، فما نَخْبزُهُ حتَّى نَجُوعَ، فكيفَ بالمُؤْمنينَ يَوْمَئِذٍ؟ قال: "يَجْزِيهِمْ ما يُجْزِي أهلَ السَّماء مِنَ التَّسبيح والتَّقْديسِ". "وعن أسماء بنت يزيد - رضي الله عنها - قالت: كان النبي في بيتي، فذكر الدجال، فقال: إن بين يديه ثلاث سنين: سنة تمسك السماء فيها ثلث قطرها والأرض ثلث نباتها، والثانية تمسك السماء فيها ثلثي قطرها والأرض ثلثي نباتها، والثالثة تمسك السماء قطرها كله والأرض نباتها كله، فلا يبقى ذات ظِلْفٍ": أراد به: البقر والغنم والظبي. "ولا ذاتُ ضرس": أراد به: السباع. "من البهائم إلا هلكت، وإن من أشدِّ فتنته: أنه يأتي الأعرابي فيقول: أرأيت"؛ أي: أخبرني. "إن أحييت لك إبلَك ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيتمثل له نحو إبله"؛ أي: يتصور مثل إبله. "كأحسن ما يكون ضروعًا وأعظمِه أسنمَة. قال: ويأتي الرجلَ قد مات أخوه، ومات أبوه، فيقول: أرأيتَ إن أحييت لك أباك وأخاك، ألست تعلم أني ربك؟ فيقول: بلى، فيمثل له الشياطين نحو أبيه ونحو أخيه. قالت"؛ أي: أسماء.

5 - باب قصة ابن الصياد

"ثم خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته، ثم رجع والقوم في اهتمام وغمٍّ مما حدثهم، قالت: فأخذ بلَحْمَتي الباب": بفتح اللام وسكون الحاء المهملة والميم المفتوحة؛ أي: بناصيتي الباب. "فقال: مَهْيَمْ": كلمة يمانية يستفهم بها، معناه: ما لك؟ وما شأنك؟ "أسماء"؛ أي: يا أسماء. "قلت: يا رسول الله! لقد خلعت أفئدتنا"؛ أي: كسرت قلوبنا. "بذكر الدجال، قال: إن يخرج وأنا حيٌّ فأنا حجيجه، وإلا فإن ربي خليفتي على كلِّ مؤمن. فقلت: يا رسول الله! والله إنا لنعجن عجيننا"؛ أي: نُهيئ العجين للخبز. "فما نخبزه حتى نجوع"؛ أي: لا نستطيع أن نخبزه؛ لأجل همٍّ عظيم خلع أفئدتنا وحيَّر عقولنا بذكر الدجال. "فكيف بالمؤمنين يومئذٍ؟ "؛ أي: كيف يكون حال من ابتلي بزمانه؟ "قال: يجزيهم ما يجزي أهل السماء"؛أي: يكفيهم ما يكفي الملأ الأعلى. "من التسبيح والتقديس"؛ يعني: من ابتلي بزمانه لا يحتاج إلى الأكل والشرب، كما لا يحتاج الملأ الأعلى إليهما. * * * 5 - باب قِصَّةِ ابن الصَّيَّادِ (باب قصة ابن الصياد) مِنَ الصِّحَاحِ: 4248 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ: أنَّ عُمرَ بن الخَطَّابِ انطلقَ معَ

رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في رَهْطٍ منْ أَصْحابهِ قِبَلَ ابن صيَّادٍ حتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ معَ الصِّبيانِ في أُطُمِ بني مَغالةَ، وقدْ قارَبَ ابن صيَّادٍ يَوْمَئذٍ الحُلُمَ، فَلَمْ يَشعُرْ حتَّى ضَرَبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ظَهْرَهُ بيدِه ثمَّ قالَ: "أتَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ " فنظرَ إليهِ فقالَ: أَشْهَدُ أنَّكَ رسولُ الأمّيينَ، ثُمَّ قال ابن صيَّادٍ: أتَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ فَرَضَّهُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قالَ: "آمنتُ بالله ورسولهِ"، ثُمَّ قالَ لابن صيّادٍ: "ماذا تَرَى؟ " قال: يأتِيني صادِقٌ وكاذِب، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلِّطَ عَلَيكَ الأمرُ"، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي خَبأْتُ لكَ خَبيئًا"، وخَبأَ لهُ {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}، فقالَ: هوَ الدُّخُّ، قالَ: "اخْسَأْ، فلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ"، قال عُمَرُ: يا رسولَ الله! أتأْذَنُ لي فيهِ أضْرِبْ عنُقَه؟ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ يَكُنْ هوَ فلا تُسلَّطُ عليهِ، وإنْ لمْ يكُنْ هوَ فلا خيرَ لكَ في قتلِهِ"، قال ابن عمرَ: انطلقَ بعدَ ذلكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأُبَيُّ بن كَعْبٍ الأَنْصارِيُّ يَؤُمَّانِ النَّخْلَ التي فيها ابن صيَّادٍ، فطَفِقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يتَّقي بجُذوعِ النَّخْلِ، وهوَ يَخْتِلُ أنْ يسمعَ منْ ابن صيَّادٍ شيئًا قبلَ أنْ يراهُ، وابن صيَّادٍ مُضْطَجعٌ علَى فِراشِهِ في قَطِيفَةٍ لهُ فيها زَمْزَمَةٌ، فَرَأَتْ أمُّ ابن صيَّادٍ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يتَّقي بجُذوعِ النَّخْلِ فقالت: أيْ صَافِ! وهوَ اسمُه، هذا مُحَمَّد، فتَنَاهَى ابن صيَّادٍ، قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو تَرَكَتْهُ بيَّنَ"، قالَ عبدُ الله بن عُمَرَ: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في النَّاسِ فأثنَى على الله بما هوَ أَهْلُهُ، ثمَّ ذَكرَ الدَّجَّالَ فقالَ: "إنِّي أُنْذِرُكُمُوهُ، وما منْ نبَيٍّ إلا وقدْ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لقد أنذرَهُ نُوحٌ قومهُ، ولكنِّي سأقولُ لكمْ فيهِ قَوْلًا لمْ يقلْهُ نبيٌّ لقومِهِ: تعلمونَ أنَّهُ أَعْوَرُ، وأنَّ الله ليسَ بأَعْوَرَ". "من الصحاح": " عن عبد الله بن عمر: أن عمر بن الخطاب انطلق مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في رهط من أصحابه": والرهط: ما دون العشرة من الرجال، اسم مفرد وُضع للجمع.

"قِبَل ابن صياد" أي: جانبه، قيل: هو الدجال، وقيل: هو يهودي وُلِدَ في المدينة. "حتى وجدوه": (حتى) هاهنا حرف ابتداء يُستأنفَ بعده الكلام، ويفيد انتهاء الغاية. "يلعب مع الصبيان": حال من الضمير المنصوب في (وجدوه). "في أُطُم" بضم الهمزة: جمع (إِطام) بالكسر، وهو الحصين. "بني مَغالَة" بفتح الميم والغين المعجمة: قبيلة؛ أي: في حصونهم. "وقد قارب ابن صياد يومئذ الحلم"؛ أي: البلوغ. "فلم يشعر حتى ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ظهره بيده، ثم قال: أتشهد أني رسول الله؟ فنظر إليه"؛ أي: ابن صياد إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقال: أشهد أنك رسول الأميين": أراد بهم: أمة العرب؛ فإنهم كانوا لا يكتبون ولا يقرؤون، قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2]. وهذا الكلام منه جرى على سُنةِ اليهود، وهي أنهم إذا عجزوا عن الطعن في نبوة نبينا عليه الصلاة والسلام، زعموا أنه بعث إلى العرب خاصة، لا إلى الكافة. "ثم قال ابن صياد: أتشهد أني رسول الله؟ فرصَّه النبي": بفتح الصاد المهملة المشددة، وهو الصواب؛ أي: فتناوله وضغطه حتى ضمَّ بعضه بعضًا بالعصر، وإنما لم يقتله النبي - صلى الله عليه وسلم - مع أنه ادعى النبوة بحضرته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه كان غير بالغ، أو لأنه في أيام مهادنة الرسول - عليه الصلاة والسلام - اليهودَ وحلفائهم، وهو منهم، أو دخيلٌ فيهم. "ثم قال"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام:

"آمنت بالله ورسله، ثم قال لابن صياد: ماذا ترى؟ قال: يأتيني صادق وكاذب "؛ أي: كانت له تارات يصيب في بعضها، ويخطئ في بعضها؛ لأن ذلك كان شيئًا يلقيه إليه الشيطان، ويجريه على لسانه؛ قد يكون صادقًا، وقد يكون كاذبًا. "قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: خلطَ عليك الأمر"؛ أي: هو شيطان خلَّط عليك الكذب بالصدق؛ ليغويك. "قال - صلى الله عليه وسلم -: إني خبأتُ لك خبيئًا"؛ أي: أضمرت لك مضمرًا؛ لتخبرني عنه. "وخبأ له "؛ أي: اضمر النبي - صلى الله عليه وسلم - لابن صياد: {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10]، فقال: هو الدُّخُّ" بضم الدال المهملة والخاء المعجمة المشددة: لغة في الدخان. "فقال: اخسَأْ": كلمة زجر واستهانة؛ أي: ابعد واسكت صاغرًا، فإنك وإن أخبرت عن خبيئتي: "فلن تعدوَ قدرك"؛ أي: لن تستطيع أن تتجاوز الحد الذي حُدَّ لك، يريد: أن الكهانة لا ترفع صاحبها عن القدر الذي هو عليه، وإن أصاب في كهانته، وإنما امتحنه - صلى الله عليه وسلم - بذلك؛ ليظهر إبطال حاله للصحابة، وأنه كاهن ساحر، يأتيه الشيطانُ، فيلقي على لسانه. وقيل: معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلن تعدو قدرك" أنه دعاء عليه بعدم بلوغه قدره من مطالعة الغيب؛ وحيًا كما للأنبياء، أو إلهامًا كما للأولياء. "قال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله! أتأذن لي فيه أضرب عنقه؟ قال عليه الصلاة والسلام: إن يكن هو": الضمير المستكن يعود إلى الدجَّال، والمنفصل إلى [ابن] صياد، ويجوز بالعكس، والضمير المنفصل خبر (كان). قيل: كان حقه أن يقال: إن يكن إياه، فوضع المرفوع المنفصل موضع المنصوب المنفصل، وقيل: في (يكن) ضمير للشأن، وهو مبتدأ محذوف

الخبر، والتقدير: إن يكن الشأن ابن صياد الدجال. "لا تُسلِّط عليه"؛ أي: لا تقدر أن تقتله؛ لأن قاتله عيسى عليه السلام. "وإن لم يكن هو، فلا خيرَ لك في قتله": منعه - صلى الله عليه وسلم - عن قتله؛ لأنه كان صغيرًا، وقد منع - صلى الله عليه وسلم - عن قتل الصبيان، أو لأنه كان من أهل الذمة. وهذا يدل على أن عهد الوالد يجري على ولده الصغير. "قال ابن عمر: انطلق بعد ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأُبي بن كعب الأنصاري يؤمان"؛ أي: يقصدان. "النخل التي فيها ابن صياد، فطفق"؛ أي: شرع. "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتقي"؛ أي: يستر نفسه. "بجذوع النخل، وهو يختلُ"؛ أي: يراود ويطلب من حيث لا يشعر. "أن يسمع من ابن صياد شيئًا قبل أن يراه"؛ يعني: يريد أن يسترقَ السمع منه؛ ليعلم أنه على الحق، أو على الباطل. "وابن صياد مضطجع على فراشه في قطيفة"؛ أي: دثار. "له فيها زَمْزَمة": بزايين معجمتين؛ أي: صوت لا يفهم منه شيء. "فرأتْ أم [ابن] صياد النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يتقي بجذوع النخل فقالت: أي صاف! وهو اسمه، هذا محمد، فتناهى ابن صياد"؛ أي: امتنع من زمزمته، وسكت عنها. "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو تركته"؛ أي: أمه على حاله، ولم تخبره بمجيئي، لبيَّن باختلاف كلامه ما يهوِّنُ عليكم شأنه، وقيل: أي: أوضح ما في نفسه، وكنت أسمع ما يقول. "قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه -: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأثنى على الله بما هو

أهله، ثم ذكر الدجَّال فقال: إني أنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذر قومه، لقد أنذر نوح قومه، ولكني سأقول لكم فيه قولًا لم يقله نبي لقومه: تعلمون أنه أعور، وأن الله ليس بأعور". * * * 4249 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيَ قال: لقِيَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ في بَعْضِ طُرُقِ المَدينةِ، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أتَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ " فقال هو: تَشْهَدُ أنِّي رسولُ الله؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "آمنتُ بالله وملائِكتِهِ وكتبهِ ورُسُلِهِ، ما تَرَى؟ " قال: أَرَى عَرْشًا على الماءَ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تَرَى عَرْشَ إِبْليسَ على البَحْرِ، وما تَرَى؟ " قالَ: أَرَى صادِقَيْنِ وكاذِبًا، أو كاذِبَيْنِ وصَادِقًا، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لُبسَ عليهِ فَدَعوهُ". "عن أبي سعيد الخدري أنه قال: لقيه"؛ أي: ابن صياد. "رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر في بعض طرق المدينة، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتشهد أني رسول الله؟ فقال هو: أتشهد أني رسول الله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله، ما ترى؟ " قال ابن صياد: "أرى عرشًا على الماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ترى عرشَ إبليس على البحر، وما ترى؟ قال: أرى صادقين وكاذبًا، أو كاذبين وصادقًا"؛ يعني: يأتيني شخصان يخبران بما هو صدق، وآخرُ بما هو كذب، أو بالعكس، والشك منه يدل على افترائه؛ لأن المؤيَّد لا يكون كذلك. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لُبس عليه"؛ أي: خُلِط الأمر عليه في كهانته. "فدعوه"؛ أي: اتركوه، وأعرضوا عنه؛ فإنه لا يحدث بشيء يقول عليه. * * *

4250 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ: أنَّ ابن صَيَّادٍ سَأَلَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عنْ تُربةِ الجنَّةِ، فقال: "دَرْمَكَة بَيْضاءُ مِسْكٌ خالِصٌ". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن ابن صياد سأل النبي - عليه الصلاة والسلام - عن تربة الجنة، فقال: دَرْمَكةٌ" بفتح الدال وسكون الراء المهملتين: ترقيق (¬1) الحُوارى، ويروى: (درمقة)، وهو بمعناه، فقوله: "بيضاء"؛ للتأكيد، شبَّه تربة الجنة بها لبياضها. "مسك خالص": شبَّهها بالمسك؛ لطيبها. * * * 4251 - عن نافعٍ قال: لقيَ ابن عُمرَ ابن صَيَّادٍ في بَعْضِ طُرُقِ المدينةِ، فقالَ لهُ قولًا أَغْضَبَهُ، فانتَفَخَ حتَّى مَلأَ السِّكَّةَ، فدخلَ ابن عُمرَ على حَفْصَةَ وقدْ بَلَغَها، فقالتْ لهُ: رَحِمَكَ الله، ما أَرَدْتَ منْ ابن صَيَّادٍ؟ أما علِمْتَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما يَخْرُجُ منْ غَضْبةٍ يغضَبُها". "قال نافع: لقي ابن عمر ابن صياد في بعض طرق المدينة، فقال له"؛ أي: ابن عمر لابن صياد "قولًا أغضبه" ذلك القول. "فانتفخ"؛ أي: صار بدنه منتفخًا من الغضب. "حتى ملأ السكة، فدخل ابن عمر على حفصة، وقد بلَّغها"؛ أي: ابن عمر تلك القصة التي جرى بينه وبين ابن صياد إلى حفصة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فقالت له: رحمك الله! ما أردت": (ما) للاستفهام، محله نصب؛ لكونه مفعول (أردت) مقدمًا عليه؛ أي: أي شيء أردت "من ابن صياد؟ أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما يخرج"؛ أي: الدجَّال. ¬

_ (¬1) في"ت" و"غ": " الرقيق، والتصويب من "القاموس"، (مادة: درمك).

"من غضبة يغضبها؟ "؛ يعني: إنما يخرج حين يغضب، وهذا يدل على أنَّ ابن صياد هو الدجال. * * * 4252 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ قال: صَحِبْتُ ابن صَيَّادٍ إلى مَكَّةَ، فقالَ لي: ما لقيتُ من النَّاسِ؟ يَزْعُمونَ أنِّي الدَّجَّالُ، ألسْتَ سَمِعْتَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: إنَّهُ لا يُولَدُ له؟ وقدْ وُلِدَ لي، أوَ ليسَ قدْ قالَ: هو كافِرٌ؟ وأنا مُسْلِمٌ، أَوَ لَيس قدْ قالَ: لا يَدْخلُ المدينةَ ولا مَكَّةَ؟ وقدْ أَقْبَلْتُ منَ المدينةِ وأنا أُريدُ مَكَّةَ، ثمّ قالَ لي في آخِر قولهِ: أَمَا والله إنِّي لأَعْلَمُ مَوْلدَهُ ومكانهُ وأيْنَ هوَ، وأعرفُ أباهُ وأُمَّهُ، قال: فَلَبَسَنِي، قال: قلتُ لهُ: تبًّا لكَ سائِرَ اليَوْمِ. قال، وقيلَ لَهُ: أيسُرُّكَ أنَّكَ ذاكَ الرَّجُلُ؟ قال: فقالَ: لوْ عُرِضَ عليَّ ما كَرِهْتُ. "عن أبي سعيد الخدري قال: صحبتُ ابن صياد إلى مكة، فقال لي: ما لقيت": (ما) هذه استفهام بمعنى الإنكار. "من الناس؟ يزعمون أني الدجال، ألست سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنه لا يولد له، وقد وُلِد لي؟ أليس قد قال: هو كافر، وأنا مسلم؟ أو ليس قد قال: لا يدخل المدينة ولا مكة، وقد أقبلت من المدينة، وأنا أريد مكة؟ ": ذهب القائل بأنه الدجال إلى أن المراد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يولد له، ولا يدخل المدينة ولا مكة": أنه لا يكون كذلك بعد خروجه. "ثم قال لي في آخر قوله: أما إني لأعلم"؛ أي لا أعرف مولده"؛ أي: زمان ولادة الدجال. "ومكانه"؛ أي: مكان ولادته. "وأين هو؟؛ أي: أعلم مكانه الذي الآن فيه.

"وأعرف أباه وأمه، قال"؛ أي: أبو سعيد. "فلبسني" أي: ابن صياد، من (التلبيس) بمعنى: التخليط، حيث لم يعين مولده وموضعه، بل تركه ملتبسًا، فالتبسَ عليَّ، أو معناه: أوقعني في الشك بقوله: ولد لي وبدخول المدينة ومكة، وكان ظني أنه دجال. "قال: قلت له: تبًا لك سائر اليوم"؛ أي: خسرانا لك جميع اليوم أو باقي اليوم؛ يعني: ما تقدم من اليوم قد خسرت فيه، فكذا في باقيه. "قال" أبو سعيد: "وقيل له: أيسرك أنك ذلك الرجل؟ "؛ يعني: الدجال. "قال: فقال لو عُرِض علي"؛ أي: هذا الأمر "ما كرهت"، بل قبلت، (ما) هذه نافية، وهذا دليلٌ واضح على كفره. * * * 4253 - وقالَ ابن عُمَرَ: لقِيتُهُ وقد نَفَرَتْ عَيْنُه، فَقُلْتُ: متَى فَعَلَتْ عَيْنُكَ ما أَرَى؟ قال: لا أَدْرِي، قلتُ: لا تَدرِي وهيَ في رَأْسِكَ؟ قال: إنْ شاءَ الله خلَقَها في عَصاكَ، قال: فنخَر كأشَدِّ نَخِيرِ حِمارٍ سَمِعْتُ. "وقال ابن عمر - رضي الله عنه -: لقيته وقد نفرت عينه "؛ أي: ورمت، وأصله من النفار؛ لأن الجلد ينفر عن اللحم؛ للداء الحادث بينهما، والجملة وقعت حالًا من الضمير المنصوب في (لقيته). "فقلت: متى فعلت عينك ما أري" من الورم؟ أسند الفعل إلى العين مجازًا، والمراد غيره، كأنه لبس على ابن صياد؛ ليختبره أيوافقه، أو يخالفه. "قال: لا أدري، قلت: لا تدري وهي"؛ أي: العين. "في رأسك؟ قال: إن شاء الله خلقها في عصاك": يريد أن تكون العين في رأسي لا يقتضي أن أكون منها على خبر؛ فإن الله قادر على أن يخلق مثلها في عصاك، والعصا لا تكون منها على خبر، وكأنه ادعى بذلك الاستغراق وعدم

الإحساس في أفكاره، بحيث تشغله تلك الأفكار عن الإحساس. "قال: فنخر": بفتح النون والخاء المعجمة؛ أي: صَوَّت صوتًا منكرًا. "كأشد نخير حمار سمعتُ": والنخير: صوت بالأنف. * * * 4254 - عن مُحَمَّدِ بن المُنْكَدِر - رضي الله عنه - قال: رَأَيتُ جابرَ بن عبدِ الله يَحْلِفُ بالله أنَّ ابن الصَيَّادَ الدَّجَّالُ، قلتُ: تَحلِفُ بالله؟ قال: إنِّي سَمِعْتُ عُمرَ يَحلِفُ على ذلكَ عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فلمْ يُنكِرْهُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -. "عن محمد بن المنكدر أنه قال: رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أن ابن صياد الدَّجالُ، قلت: تحلف بالله؟ قال: إني سمعت عمر يحلف على ذلك"؛ أي: على أن ابن صياد الدجال "عند النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فلم ينكره النبي - صلى الله عليه وسلم - ": لعل عمر أراد بذلك: أن ابن صياد من الدجَّالين، يخرجون فيدعون النبوة، أو يضلون الناس ويلبسون الأمر عليهم، وإنما لم ينكر - عليه السلام - عند حلفه؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - عرف أنه مِن جملِة مَنْ حَذَّر (¬1) الناسَ منه. * * * مِنَ الحِسَان: 4255 - عن نافِع قالَ: كانَ ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - يَقُولُ: "والله ما أَشُكُّ أنَّ المَسِيحَ الدَّجَّالَ ابن صَيَّادٍ". "من الحسان": " عن نافع - رضي الله عنه - أنه قال: كان ابن عمر يقول: والله ما أشكُّ أن المسيحَ ¬

_ (¬1) في"غ": "حذره".

الدجالَ ابن صياد". * * * 4256 - وعن جابر - رضي الله عنه - قالَ: "فُقِدَ ابن صيّادٍ يومَ الحَرَّةِ". "وعن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: فُقِد ابن صياد يوم الحرَّةِ": وهو يوم مشهور بين العرب، وقعت فيه حرب بين عسكر يزيد وأهل المدينة؛ أي: فُقِدَ من ذلك الزمان. * * * 4257 - عن أبي بَكْرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَمْكُثُ أبَوا الدَّجَّالِ ثلاثينَ عامًا لا يُولَدُ لهما ولَدٌ، ثمَّ يُولَدُ لهُما غُلامٌ أَعْوَرُ أَضرَس، وأقلُّهُ مَنْفَعَةً، تنامُ عَيْناهُ ولا يَنامُ قلبُهُ"، ثمَّ نعتَ لنا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَويهِ فقالَ: "أبوه طُوَالٌ ضَرْبُ اللَّحْمِ، كأنَّ أنفَهُ مِنْقارٌ، وأُمُّهُ امرأةٌ فِرضَاخِيّةٌ طَويلةُ اليدَيْنِ"، فقالَ أبو بَكْرَةَ - رضي الله عنه -: فَسَمِعْنا بمَولودٍ في اليهودِ بالمدينةِ، فذهبتُ أنا والزُّبَيْرُ بن العَوّامِ حتَّى دخَلْنَا على أبَويهِ، فإذا نَعْتُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِيهما، فقُلْنا: هلْ لكُما وَلَدٌ؟ فقالا: مَكَثْنا ثلاثينَ عامًا لا يُولَدُ لنا وَلَدٌ، ثمَّ وُلِدَ لنا غُلامٌ أَعْوَرُ أَضْرَسُ وأقلُّهُ مَنْفَعَةً، تنامُ عَيْناهُ ولا ينَامُ قلبُهُ، قال: فَخَرَجْنا منْ عِنْدِهِما فإذا هو مُنْجَدِلٌ في الشَّمْسِ في قَطيفَةٍ ولهُ هَمْهَمَةٌ، فكَشَفَ عنْ رأسِهِ فقالَ: ما قُلتُما؟ قُلْنا: وهلْ سَمِعْتَ ما قُلناه؛ قال: "نعمْ، تنامُ عَيْنايَ ولا ينَامُ قلبي". "عن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: يمكث أبوا الدجالِ ثلاثين عامًا لا يُولَد لهما ولا، ثم يولد لهما غلامٌ أعورُ أضرسُ"؛ أي: عظيم الضرس، وهو السن، وقيل: هو الذي يولد مع الضرس.

"وأقله"؛ أي: أقل الغلام؛ أي: لا غلام أقل منه. "منفعةً، تنام عيناه، ولا ينامُ قلبها: وعدم نوم القلب قد يكون لاستيلاء الأفكار الفاسدة على المخيلة؛ لما يلقيه إليه الشيطان، وهذا من أوصاف الكهنة، وقد يكون من الأفكار الصالحة، كما في الأنبياء والأولياء. "ثم نعت لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: وصف. "أبويه، فقال: أبوه طُوال": بالضم والتخفيف؛ أي: طويل، وقد يشدد مبالغة. "ضرب اللحم"؛ أي: خفيف اللحم مستدق. "كأن أنفه منقار"؛ أي: في أنفه طول بحيث يشبه منقار الطائر. "وأمه امرأة فِرضاخية": بكسر الفاء؛ أي: ضخمة، عظيمة الثديين، والياء للمبالغة. "طويلة اليدين، فقال أبو بكرة: فسمعنا بمولود في اليهود بالمدينة، فذهبت أنا والزبير بن العوام حتى دخلنا على أبويه، فإذا نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهما"؛ أي: وصفه موجود في أبويه. "فقلنا: هل لكما ولد؟ فقالا: مكثنا ثلاثين عامًا لا يولد لنا ولد، ثم ولد لنا غلام أعور أضرس، وأقله منفعة، تنام عيناه، ولا ينام قلبه، قال: فخرجنا من عندهما فإذا هو منجدل"؛ أي: غلام ملقى على وجه الأرض. "في الشمس، وله همهمةٌ" أي: كلام خفي ضعيف لا يُفهَم. "فكشف"؛ أي: الغلام القطيفة "عن رأسه، فقال: ما قلتما؟ قلنا: وهل سمعت ما قلنا؟ قال: نعم، تنام عيناي، ولا ينام قلبي". * * *

4258 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ امرأةً منَ اليهودِ بالمَدينةِ ولَدَتْ غُلامًا مَمْسُوحَةً عَيْنُهُ طالعَةٌ نابُهُ، فأشْفَقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يكونَ الدَّجَّالَ، فَوَجَدَهُ تَحْتَ قَطيفَةٍ يُهَمْهِمُ، فآذنتهُ أُمّهُ فقالت: يا عبدَ الله! هذا أبو القاسم، فَخَرَجَ منَ القَطِيْفَةِ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لها؟ قاتَلَها الله، لو تَرَكتْهُ لبَيَّنَ"، فَذَكَرَ مِثلَ مَعْنَى حديثِ ابن عُمَرَ، فقالَ عُمرُ بن الخَطَّابِ - رضي الله عنه -: ائذَنْ لي يا رسولَ الله! فأقتُلَهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ يكُنْ هُوَ فَلَسْتَ صاحبَهُ، وإنَّما صاحِبُهُ عيسَى ابن مَرْيَمَ عليه السلام، وإلا يكُنْ هوَ فَلَيسَ لكَ أنْ تقتُلَ رَجُلًا منْ أَهْلِ العَهْدِ"، فلمْ يزَلْ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُشْفِقًا أنهُ الدَّجَّالُ. "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلامًا ممسوحةً عينه، طالعةً نابه"؛ أي: سنه. "فأشفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: خاف. "أن يكون الدجال، فوجده تحت قطيفة يُهمهِمُ، فآذنته"؛ أي: أعلمته "أمه، فقالت: يا عبد الله! هذا أبو القاسم، فخرج من القطيفة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما لها": (ما) للاستفهام مبتدأ، و (لها) خبره؛ أي: أيُّ شيء لها؟ "قاتلها الله"؛ أي: دعاء عليها. "لو تركته لبيَّن. فذكر مثل معنى حديث ابن عمر"، ومعنى حديثه هو: أنه قال قولًا أغضبه. "فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي يا رسول الله فأقتله، فقال - صلى الله عليه وسلم -: إن يكن هو"؛ أي: ابن صياد الدجال. "فلست صاحبه"؛ أي: قاتله. "إنما صاحبه عيسى ابن مريم": و (إنما) تفيد الحصر، معناه: لا يقدر أحدٌ على قتله إلا عيسى ابن مريم.

"وإن لم يكن هو، فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد، فلم يزلْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مشفقًا"؟ أي: خائفًا "أنه الدجال". والوجه في الأحاديث الواردة في ابن صياد على ما فيها من الاختلاف والتضاد: أن يقال: إنه - صلى الله عليه وسلم - حسبه الدجال قبل التحقيق بخبر المسيح الدجال، فلما أُخبر - عليه الصلاة السلام - بما أخبر به من شأنه وقصته في حديث تميم الداري، ووافق ذلك ما عنده، تبين له - صلى الله عليه وسلم - أن ابن صياد ليس بالذي توهمه، ويؤيده ما ذكره أبو سعيد حين صحبه إلى مكة. وأما توافق النعوت في أبوي الدجال وأبوي ابن صياد؛ فليس مما يقطع به قولًا؛ فإن اتفاق الوصفين لا يلزم منه اتحاد الموصوفين. وكذا حلف عمر وابنه - رضي الله عنهما - مع عدم إنكاره - عليه الصلاة والسلام - عليه، وكذا إشفاقه - عليه السلام - من ابن صياد أن يكون دجالًا، كلُّ ذلك قبل تبيُّنِ الحال، وقد كان ابن صياد دجَّال الفِعالِ موافقًا له في بعض علاماته، فجرَّأ ذلك على الحلف، وأورث في النبي - صلى الله عليه وسلم - إشفاقًا منه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

شَرْحُ مَصَابِيحِ السُّنَّةِ لِلإمَامِ البَغَوِيِّ [6]

6 - باب نزول عيسى عليه السلام

تَابع (25) كِتابُ الفِتَنِ 6 - باب نزول عيسى عليه السلام (باب نزول عيسى عليه السلام) مِنَ الصِّحَاحِ: 4259 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذِي نفسِي بيدِه، ليُوشكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فيكُمُ ابن مَرْيمَ حَكَمَاً عَدْلاً، فَيَكْسِرَ الصَّليبَ، ويقتُلَ الخِنزيرَ، ويَضَعَ الجزيةَ، ويَفِيضَ المالُ حتَّى لا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حتَّى تكونَ السَّجْدَةُ الواحِدةُ خيراً منَ الدُّنيا وما فيها"، ثُمَّ يقولُ أبو هُريرةَ - رضي الله عنه -: واقرَؤوا إنْ شِئْتُم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} الآية. "من الصحاح": "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسي بيده لَيوشكنَّ": بفتح اللام جواباً للقسم؛ أي: ليشرعن وليقربن. "أن ينزل فيكم"؛ أي: في أهل دينكم.

"ابن مريم حكمًا": بالتحريك؛ أي: حاكمًا وإمامًا. "عدلًا"؛ أي: عادلًا، كلاهما منصوبان على الحال. "فيكسر الصليب": وهو في اصطلاح النصارى خشبة مثلثة، يدَّعون أن عيسى - عليه الصلاة والسلام - صُلِب على خشبة على تلك الصورة، وقد تكون فيه صورة المسيح، وقد لا تكون. ومعنى كسره: إبطال النصرانية، والحكم بشرع الإسلام. "ويقتل الخنزير": معناه: تحريم اقتنائه وأكله، وإباحة قتله. "ويضع الجزية": معنى وضعها: أنه لا يقبلها عن أهل الكتاب، بل يحملهم على الإسلام. "ويفيض المال"؛ أي: يكثر "حتى لا يقبله أحد"؛ إذ لا يوجد فقيرٌ في ذلك الزمان. "حتى تكون السجدة الواحدة": أراد بالسجدة نفسها، أو الصلاة. "خيرًا"؛ أي: عند المسلمين. "من الدنيا وما فيها": والمعنى: أنهم يرغبون في طاعة الله تعالى، ويعرضون عن الدنيا؛ لكثرة المال، فلا طاعةَ في بذله والتصدق به. "ثم يقول أبو هريرة - رضي الله عنه -: فاقرؤوا إن شئتم: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ} ": والضمير لعيسى عليه الصلاة والسلام على ما أراده أبو هريرة، أو لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن عيسى عليه الصلاة والسلام يومئذ على دين محمد عليه الصلاة والسلام، أو لله تعالى.

{قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]؛ أي: موت عيسى عليه الصلاة والسلام، أو أهل الكتاب. "الآية". * * * 4260 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لَيَنْزِلنَّ ابن مَرْيَمَ حَكَمَاً عَدْلاً، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّليبَ، ولَيقْتُلَنَّ الخِنْزِيرَ، ولَيَضَعَنَّ الجِزيَةَ، ولَيَتْرُكَنَّ القِلاَصَ ولا يَسعَى عَلَيها، ولَتَذْهَبن الشَّحْناءُ والتَّباغُضُ والتَّحاسُدُ، ولَيَدْعُوَنَّ إلى المالِ فلا يقبَلُهُ أَحَدٌ". "وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله لينزلنَّ ابن مريم حكماً عدلاً، وليكسرنَّ الصليبَ، وليقتلن الخنزير، وليضعن الجزية، وليتركن القلاصَ" بكسر القاف: جمع (قَلوص) بالفتح، وهي الناقة الشابة. "فلا يَسعَى عليها"؛ أي: يترك العمل عليها؛ استغناءً عنها بكثرة غيرها، أو معناه: لا يأمر أحداً أن يسعى على أخذها وتحصليها للزكاة؛ لعدم من يقبلها. "ولتذهبن الشحناء"؛ أي: العداوة. "والتباغض"؛ أي: جريان البغض بين اثنين. "والتحاسد"؛ يعني: تزول عن قلوبهم هذه الأخلاق الذميمة؛ لأنها نتيجة حبِّ الدنيا. "وليدعونَّ إلى المال، فلا يقبله أحد". * * *

4261 - وقال: "كَيْفَ أنتُمْ إذا نزَلَ ابن مَرْيمَ فيكُمْ وإمامُكُمْ منكُمْ؟ ". "وقال: كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامُكُمْ منكم"؛ أي: من أهل دينكم، وقيل: من قريش. وفي بعض: (فأمَّكم منكم)؛ أي: من جنسكم، معناه: يأمكم بكتاب ربكم، وسنة نبيكم. والظاهر: أن المعنى: وإمامكم واحد منكم، أو يأمكم واحد منكم دون عيسى - عليه السلام - مع وجوده، وإنما يكون عيسى عليه الصلاة والسلام بمنزلة الخليفة. وهذا يدل على أن عيسى عليه الصلاة السلام لا يكون من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، بل مقررًا لدينه - صلى الله عليه وسلم - وعونًا لأمته. * * * 4262 - وقال: "لا تزالُ طائِفَة منْ أُمَّتي يُقاتِلونَ على الحَقِّ ظاهِرينَ إلى يَوْمِ القيامَةِ". قال: "فينزِلُ عيسَى بن مَرْيمَ، فيقولُ أميرُهُمْ: تعالَ صَلِّ لنا، فيقولُ: لا، إنَّ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ أُمَراءُ، تَكْرِمَةَ الله هذهِ الأمّةَ". "وقال: لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحقَّ ظاهرين"؛ أي: غالبين. "إلى يوم القيامة، قال: فينزلُ عيسى ابن مريم فيقول أميرهم: تعالَ صلِّ لنا، فيقول"؛ أي: عيسى عليه السلام: "لا، إن بعضكم على بعض أمراءُ، تكرمةَ الله": عز وجل منصوب على أنه مفعول له، والعامل محذوف؛ أي: شرع الله

7 - باب قرب الساعة وأن من مات فقد قامت قيامته

أن يكون إمام المسلمين منهم؛ لتكرمته تعالى. "هذه الأمة": (هذه) في موضع نصب مفعول به لـ (تكرمة)، و (الأمة) صفة لـ (هذه)، ويجوز رفع (التكرمة) خبرًا لمبتدأ محذوف؛ أي: تأمُّرُ بعضكم على بعض تكرمةٌ من الله تعالى لهذه الأمة. * * * 7 - باب قُرْبِ السَّاعَة وأنَّ مَنْ ماتَ فقد قامَتْ قيامَتُه " باب قرب الساعة وأن من مات"؛ أي: إن الشأن من مات "فقد قامت قيامته": قيل القيامة ثلاثة: الكبرى، وهي: حشر الأجساد وسوقهم إلى المحشر للجزاء. والصغرى: وهي موت كل واحد من الإنسان. والوسطى: وهي موت جميع الخلائق. مِنَ الصِّحَاحِ: 4263 - عن قتَادَةَ عن أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثْتُ أنا والسَّاعةُ كهاتينِ". قال قَتادَةُ في قَصَصِهِ: كفَضْلِ إحْداهُما على الأُخرَى. "من الصحاح": " عن قتادة، عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بعثت أنا والساعة": بالرفع، ويجوز النصب مفعولًا معه؛ أي: بعثني مع الساعة متقاربان "كهاتين"؛ أي: كتقارب هاتين الإصبعين السبابة والوسطى. ويحتمل أن يكون المراد: ارتباط دعوته - صلى الله عليه وسلم - بها بحيث لا يتخلل بينهما دينٌ آخر، كما لا يتخلل بين هاتين الإصبعين إصبع أخرى.

"قال قتادة في قصصه": بكسر القاف، والضمير لـ (قتادة). "كفضل إحداهما على الأخرى": يريد: ما بيني وبين الساعة من مستقبل الزمان بالإضافة إلى ما مضى مقدارُ فضل الوسطى على السبابة. * * * 4264 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ قبلَ أنْ يَمُوتَ بشَهْرٍ: تَسْألونني عنِ السَّاعةِ؟ وإنَّما عِلْمُها عندَ الله، وأُقسِمُ بالله ما على الأَرْضِ منْ نَفْسٍ مَنْفوسَةٍ تأتِي عليها مِئَةُ سَنَةٍ". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول قبل أن يموت بشهر: تسألوني عن الساعة، وإنما علمها عند الله، وأقسم بالله ما على الأرض": (ما) بمعنى: ليس، وهو جواب القسم. "من نفس": (من) زائدة. "منفوسة": صفة (نفس)؛ أي: مولودة. "تأتي عليها مئة سنة؛ يعني: لا تبقى نفس مولودة اليوم إلى مئة سنة، والفائدة من الإعلام تنبيهٌ على قدرته تعالى في إهلاك جميع العالم، والإتيان بغيرهم. قيل: قاله - صلى الله عليه وسلم - على الغالب، وإلا فقد عاش بعضٌ أكثر من ذلك؛ فقيل: عاش سلمان الفارسي ثلاث مئة سنة وخمسين، وقيل: مئتين وخمسين. * * * 4265 - وعن أَبي سعيدٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تأتِي مئة سَنَةٍ وعلى الأَرْضِ نَفْسٌ من مَنفوسَةٌ اليَوْمَ". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تأتي مئة سنة وعلى

الأرض نفسٌ منفوسة اليوم": إشارة إلى زمانه عليه السلام. * * * 4266 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رِجالٌ منَ الأَعْرابِ جُفاةٌ يأتونَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ويَسأَلونَهُ عن السّاعةِ، فكانَ ينظُرُ إلى أَصْغرِهِمْ فيقولُ: "إنْ يَعِشْ هذا لا يُدرِكْهُ الهَرَمُ حتَّى تَقُومَ عَلَيكُمْ ساعتُكم". "عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رجال من الأعراب يأتون النبي عليه الصلاة والسلام، فيسألونه عن الساعة، فكان ينظر إلى أصغرِهِمْ، فيقول: إن يعشْ هذا": إشارة إلى الأصغر. "لا يدركه الهرمُ حتى تقومَ عليكم ساعتُكم": أراد به: القيامة بطريق موتهم؛ فإن الرجل إذا مات يرى جزاء ما فعل، فكأنه رأى القيامة؛ يعني: قبل أن يصير هذا الصغير هرماً يأتي على بعضكم أو على جميعكم الموت. * * * مِنَ الحِسَان: 4267 - عن المُسْتَوْرِدِ بن شَدَّادٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "بُعِثْتُ في نَفَسِ السَّاعةِ، فسبَقْتُها كما سبَقَتْ هذِه هذِه"، وأَشارَ بِإِصْبَعَيْهِ السَبَّابَةِ والوُسْطَى. "من الحسان": "عن المُستورِد بن شدَّاد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: بعثت في نَفَسِ الساعة": بفتح النون والفاء؛ أي: في قربها، وظهور أشراطها المتتابعة الخارقة للعادة. "فسبقتها"؛ أي: الساعة.

8 - باب لا تقوم الساعة إلا على الشرار

"كما سبقت هذه هذه": فـ (هذه) الأولى محلها رفع؛ لأنها فاعل سبقت، وهذه الثانية محلها نصب لأنها مفعول به. "وأشار بإصبعيه السبابة والوسطى"؛ يعني: مقدار ما بيني وبين الساعة من الزمان مقدار ما فضل الوسطى على السبابة. * * * 4268 - عن سَعْدِ بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنِّي لأَرْجُو أنْ لا تَعجزَ أُمَّتي عِنْدَ ربها أنْ يؤَخِّرَهُمْ نِصْفَ يَوْمٍ"، يعني: خَمْسَ مِئَةِ سَنَةٍ. "عن سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إني لأرجو أن لا تعجزَ أمتي"؛ أي: أن لا تفوت. "عند ربها": مِنْ أعجزه الشيء؛ أي: فاته. "أن يؤخرهم": بدل من قوله: (أن لا تعجز)، قيل: أراد به: بقاء دينه وملته في الدنيا مدة خمس مئة سنة، أو متعلق به على حذف (عن)؛ أي: عن يؤخرهم الله عز وجل في الدنيا سالمين عن العقوبات والذلة والشدائد. "نصف يوم؛ يعني: خمس مئة سنة": وقيل: أن لا يؤخرهم إلى يوم القيامة أكثر من خمس مئة سنة، وهذا ليسلموا عن شدائد الزمان ومن فتنته. * * * 8 - باب لا تقومُ السَّاعةُ إلا على الشِّرارِ (باب لا تقوم الساعة إلا على الشِّرار) مِنَ الصِّحَاحِ: 4269 - عن أَنسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تَقُومُ السَاعةُ حتَّى

لا يُقالَ في الأَرْضِ: الله، الله". "من الصحاح": " عن أنس - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض: الله الله"؛ يعني: لا تقوم الساعة ما دام على وجه الأرض موحِّدٌ يذكر الله تعالى. وهذا يدل على أن بركة العلماء والصلحاء تصلُ إلى من في العالم من الإنس والجن والدواب والطير، وتكرير لفظ (الله) عبارة عن ذكره كثيرًا، وقيل: معناه: الله حسبي، أو الله هو الإله لا غيره، أو الله هو المستحق للعبودية لا غيره. فالأول مبتدأ، والثاني خبره. * * * 4270 - وقالَ: "لا تَقُومُ السَاعَةُ على أَحَدٍ يَقولُ: الله، الله". "وقال: لا تقوم الساعة على أحد يقول: الله الله". * * * 4271 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَقُومُ السَاعةُ إلّا على شِرارِ الخَلْقِ". "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تقوم الساعة إلا على شِرار الخلق". * * * 4272 - وقالَ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى تَضْطَرِبَ ألَياتُ نِساءِ دَوْسٍ حَوْلَ ذي الخَلَصَةِ -وذو الخلَصَةِ: طاغِيَةُ دَوْسٍ التي كانوا يَعْبُدونَ في الجاهِليَّةِ-".

"وقال: لا تقوم الساعة حتى تضطربِ"؛ أي: تتحرك. "أَلَياتُ" بالفتحات: جمع ألية، وهي لحم المقعد. "نساء دوس" بفتح الدال المهملة وسكون الواو وبالسين المهملة: قبيلة من اليمن. "حول ذي الخَلَصة" بالفتحات: جمع خالص، وذو الخلصة "طاغية دوس"؛ أي: صنمهم. "التي كانوا يعبدون في الجاهلية": سمي بذي الخلصة زعماً منهم أن من عبده وطاف حوله فهو خالص، وقيل: ذو الخلصة بيت فيه أصنام لهم؛ يعني: أنهم سيرتدون ويرجعون إلى عبادة الأصنام، فترمل نساؤهم بالطواف حول ذي الخلصة، فتتحرك أكفالهن. * * * 4273 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا يَذْهَبُ اللَّيلُ والنَّهارُ حتَّى تُعْبَدَ اللاتُ والعُزَّى"، فقلتُ: يا رسولَ الله! إنْ كُنْتُ لأَظُنُّ حينَ أنزلَ الله {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} أنَّ ذلكَ تامٌ، قال: "إنَّهُ سَيَكونُ مِنْ ذلكَ ما شاءَ الله، ثُمَّ يَبعَثُ الله ريْحاً طَيبةً، فتَوَفَّى كُلَّ مَنْ كانَ في قَلْبه مِثقالُ حَبَّةٍ من خَرْدَلٍ مِنْ إيمانٍ، فيَبقَى مَنْ لا خيرَ فيهِ، فيَرجِعونَ إلى دينِ آبائهِمْ". "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يذهب الليلُ والنهار"؛ أي: لا تقوم الساعة. "حتى تُعبَد اللاتُ": وهو اسم صنم لثقيف. "والعُزَّى" بضم العين المهملة وفتح الزاي المعجمة المشددة: اسم صنم لغطفان وسليم.

"فقلت يا رسول الله! إن كنت": (إن) هذه مفخخة من المثقلة، واللام في "لأظن" للفرق بينهما وبين (إن) الشرطية والنافية؛ أي: أن الشأن كنت أظن "حين أنزل الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى} "؛ أي: بالتوحيد، وهو شهادة أن لا إله إلا الله. {وَدِينِ الْحَقِّ} وهو دين الإسلام. " {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] = أن ذلك تامٌ"؛ أي: أن عبادة الأصنام قد تمت، ولا تكون كذلك بعدُ أبدًا. "قال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "إنه": الضمير للشأن. "سيكون من ذلك"؛ أي: من عبادتها. "ما شاء الله تعالى"؛ أي: مدةً يشاءُها، وقد بيَّن ذلك بقوله: "ثم بعث الله ريحًا طيبة؛ فتوفيَّ كلَّ من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فيبقي من لا خير فيه، فيرجعون إلى دين آبائهم":المشركين. * * * 4274 - عن عبدِ الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فيمكث أربعين -لا أدري أربعين يومًا أو شهرًا أو عامًا-، فيبعثُ الله عيسي بن مريم عليهما السَّلامُ كأنَّهُ عُروةُ بن مسعودٍ - رضي الله عنه - فيطلبه فيهلكه، ثُمَّ يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوةٌ، ثم يرسلُ الله ريحًا باردَةً من قبل الشام، فلا يبقي علي وجه الارض أحدٌ في قلبهِ مثقال ذرَّةٍ من خيرٍ أو إيمانٍ إلَّا قَبضَتهُ، حتى لو أحدكم دخل في كبد جبلٍ لدخلتهُ عليه حتي تقبضهُ" قال: فيبقي شرارُ النَّاس في خِفَّةِ الطير وأحلام السِّباع، لا يعرفون معروفًا

ولا يُنْكِرُونَ مُنكَرًا، فيتَمثَّلُ لهُمُ الشَّيطانُ فيقولُ: ألا تستحيُونَ؟ فيقولونَ: فما تأْمُرُنا؟ فيأمُرُهُمْ بِعبادَةِ الأَوْثْانِ، وهُمْ في ذلك دارٌّ رِزْقُهُمْ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ، ثمَّ يُنفَخُ في الصُّورِ، فلا يَسْمَعُهُ أَحَدٌ إلَّا أصْغَى لِيتًا ورَفَعَ لِيتًا". وقال: "وأوَّلُ مَنْ يَسْمَعُهُ رَجُلٌ يَلوطُ حَوْضَ إبلهِ، فيَصْعَقُ ويَصْعَقُ النَّاسُ، ثمّ يُرسِلُ الله مَطَرًا كأنَّهُ الطَّلُّ فينبُتُ منهُ أَجْسادُ النَّاسِ، ثمَّ يُنفَخُ فيهِ أُخرَى {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ}، ثمَّ يُقالُ: يا أيُّها النَّاسُ! هَلُمَّ إلى ربكُمْ: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ}، ثمَّ يُقالُ: أَخرِجُوا بَعْثَ النَّارِ، فيُقالُ: مِنْ كَمْ؟ فيُقالُ: مِنْ كُلِّ ألفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وتسعَةً وتِسعينَ، قال: فذاكَ يومَ {يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا}، وذلكَ {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} ". "عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يخرج الدجالُ فيمكث" في الأرض "أربعين، لا أدري أربعين يومًا، أو شهرًا، أو عامًا": هذا من كلام الراوي؛ أي: لا أدري أيًا أراد به النبي عليه الصلاة والسلام من هذه الثلاثة. "فيبعث الله عز وجل عيسى ابن مريم، كأنه عروة بن مسعود، فيطلبه فيهلكه، ثم يمكث الناسُ سبعَ سنين، ليس بين اثنين عداوة، ثم يرسل الله تعالى ريحًا باردة من قبل الشام، فلا يبقى على وجه الأرض أحدٌ في قلبه مثقال ذرة من خير أو إيمان إلا قبضته، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل"؛ أي: في جوفه ووسطه، وكبد كل شيء: وسطه. "لدخلته عليه حتى تقبضه، قال: فيبقى شرارُ الناس في خِفَّةِ الطير": بكسر الخاء المعجمة وتشديد الفاء؛ أي: اضطرابها وتنفرها بأدنى توهم. "وأحلام السباع": جمع الحلم: العقل؛ أي: هم في قلة المعرفة واستيلاء الجهل عليهم في أحلام السباع. "لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا": شبَّه حال الأشرار وعدم ثباتهم وميلهم إلى الفسق والفجور بحال الطير والسباع.

"فيتمثل لهم الشيطانُ، فيقول: ألا تستحيون؟ فيقولون: فما تأمرنا؟ ": (ما) هذه استفهامية؛ أي: أي شيء تأمرنا؟ "فيأمرهم بعبادة الأوثان، وهم في ذلك"؛ أي: في عبادتها. "دارٌّ"؛ أي: نازل. "رزقهم، حسن عيشهم، ثم يُنفَخُ في الصور، فلا يسمعه أحدٌ إلا أصغى"؛ أي: أمال. "لِيتًا": بكسر اللام؛ أي: صفحة عنقه. "ورفع ليتاً"؛ يعني: من سمع ذلك يسقط رأسه إلى أحد شقيه خوفاً ودهشة، فتسقط قواه، فيميل ليتًا، ويرفع ليتًا. "وأول من يسمعُهُ رجلٌ يلوط حوضَ إبله"؛ أي: يطينه ويصلحه. "فيصعق"؛ أي: يموت هو، "ويصعق الناس"؛ أي: يموتون، والصعق: أن يغشى على الإنسان من صوت شديد يسمعه، وربما استُعمِلَ في الموت كثيرًا. "ثم يرسل الله مطرًا كأنه الطَّلُّ" بفتح الطاء: أضعف المطر. "فينبت منه أجساد الناس، ثم ينفخ فيه أخرى، فإذا هم قيام ينظرون"؛ أي: فإذا جميع الخلائق يقومون من قبورهم، وينظرون أهوال يوم القيامة. "ثم يقال: يا أيها الناس هلم": اسم فعل يستوي فيه الواحد والجمع؛ أي: تعالوا وارجعوا. "إلى ربكم: " {وَقِفُوهُمْ} ": الخطاب فيه للملائكة، وضمير المفعول للناس؛ أي: احبسوهم وقفوهم. " {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] "، فيسألون، "ثم يقال: اخرجوا بعث النار":

(البعث): الجماعة يبعثون لأمر إلى موضع، والمراد: المبعوثون إلى النار. "فيقال: من كم كم؟ ": هذا استفهام عن مقدار المخرج منه والمخرج، قيل: (كم) الأولى خبر مقدم، و (كم) الثانية مبتدأ. "فيقال: من كل ألف تسع مئة": مفعول فعل محذوف؛ أي: أخرجوا تسع مئة "وتسعة وتسعين": قيل: هم ممن استوجبَوا النار بذنوبهم، يُعرضون عليها، ويُتركون فيها بقدر ما تقتضيه ذنوبهم، ويجوز أن يُصرفوا عن طريق جهنم بالشفاعة. "قال: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} ": جمع وليد، وهو الصبي. " {شَيْبًا} [مريم: 4] ": جمع أشيب؛ أي: يصير الأطفال شيبًا من أهوال ذلك اليوم وشدائده، ويجوز أن يراد به: عظم الأهوال، لا حقيقة صيرورتهم شيبًا؛ يعني: لو أن وليدًا شابَ من واقعة عظيمة، لكان شاب في ذلك اليوم. "وذاك {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] "؛ أي: عن أمر عظيم، وهو: أهوال القيامة، والساق: الشدة والمشقة، يقال: كشفت الحربُ عن الساق: إذا اشتد الأمر في الحرب. مِنَ الحِسَان: * * * 4275 - عن مُعاوِيَةَ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حتَّى تَنْقَطِعَ التَّوبَةُ، ولا تَنْقَطِعُ التَّوبَةُ حتَّى تَطْلُعَ الشمْسُ منْ مَغْرِبها". "من الحسان": " عن معاوية - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تنقطع الهجرةُ"؛ أي: من المعاصي إلى الطاعة، ومن الكفر إلى الإيمان" أو عن ديار الشر إلى ديار الخير.

1 - باب النفخ في الصور

"حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلعَ الشمسُ من مغربها". * * * 1 - باب النَّفْخِ في الصورِ (باب النفخ في الصور) مِنَ الصِّحَاحِ: 4276 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ما بينَ النَّفْختَيْنِ أَرْبعون"، قالوا: يا أبا هُريرةَ! أَرْبعونَ يَوْماً؟ قال: أَبَيْتُ، قالوا: أَرْبعونَ شَهْراً؟ قالَ: أَبَيْتُ، قالوا: أَرْبعونَ سَنَةً؟ قال: أبَيْتُ، "ثمَّ يُنزِلُ الله منَ السَّماء ماءً فيَنبُتونَ كما ينبُتُ البقْلُ" قالَ: "وليسَ مِنَ الإنسانِ شَيْءٌ لا يَبْلَى إلا عَظْمًا واحِداً، وهوَ عَجْبُ الذَّنَبِ، ومنهُ يُركبُ الخَلْقُ يَوْمَ القِيامَةِ". وفي رِوايةٍ: "كُلُّ ابن آدمَ يَأكلُهُ التُّرابُ إلا عَجْبَ الذَّنَبِ، منهُ خُلِقَ وفيه يُركَبُ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما بين النفختين"؛ أي: نفخة النشور ونفخة الصعق. "أربعون، قالوا: يا أبا هريرة! أربعون يومًا؟ قال: أبيتُ"؛ أي: امتنعت عن الجواب، فإني لا أعلمه. "قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: أبيتُ، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيتُ"، وقد جاءت مفسرة من رواية غيره! أربعون سنة.

"ثم ينزل الله تعالى من السماء ماء، فينبتون كما ينبت البقل، قال: وليس من الإنسان شيء إلا يبلى": خبر (ليس)، وقوله: (من الإنسان) في المعنى صفة لي (شيء)، فلما تقدم على موصوفه انتصبَ على الحال. "إلا عظما واحداً": استثناء من موجب؛ لأن نفي النفي إثبات، فيكون تقديره: كل شيء من الإنسان يبلى إلا عظمًا واحدًا. "وهو عَجْبُ الذنب" بفتح العين وسكون الجيم: عظم في أسفل الصُّلب عند العجز بين الأليتين، والمراد منه: طول بقائه تحت التراب، لا أنه لا يبلى أصلًا؛ فإنه خلاف المحسوس، والحكمة فيه: أنه قاعدة بدن الإنسان وأساسه، فبالحريِّ أن يكون أصلبَ من الجميع، فيكون أطول بقاء، "فمنه يُركَب الخلق يوم القيامة". "وفي رواية: كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجيب الذنب، فمنه خُلِق، ومنه يركَّب": قيل: خُصَّ منه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ فإن الله عز وجل حرم على الأرض أجسادهم. * * * 4277 - وقال: "يَقْبضُ الله الأَرْضَ يَوْمَ القِيامَةِ، ويَطْوِي السَّماءَ بِيَمِينهِ، ثمَّ يقولُ: أنا المَلكُ، أَيْنَ مُلوكُ الأَرْضِ؟ ". "وقال: يقبض الله الأرضَ يوم القيامة": فهذا تصوير لكمال القدرة، ونفاذ التصرف فيها. "ويطوي السماءَ بيمينه"؛ أي: بقدرته، والمراد من الطي: التسخير التام، والقهر الكامل. "ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض"؟ * * *

4278 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَطوِي الله السَّماواتِ يَوْمَ القِيامَةِ، ثُمَّ يأخُذُهُنَّ بيدِه اليُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ، أينَ الجبَّارونَ؟ أينَ المُتكَبرُونَ؟ ثمَّ يَطْوِي الأَرْضينَ بشِمالِه - وفي رِوايةٍ: ثُمَّ يأخُذُهُنَّ بيدِه الأُخْرىَ - ثمَّ يَقُولُ: أنا المَلِكُ، أينَ الجَبَّارونَ؟ أينَ المُتكبرونَ؟ ". "عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يطوي الله تعالى السماوات يوم القيامة، ثم يأخذهن بيده اليمنى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين بشماله": تخصيص السماء باليمين والأرض بالشمال بحسب شرف المقبوض؛ لشرف العلويات على السفليات، وإلا فلا يمينَ له حقيقةً، ولا شمال. "وفي رواية: ثم يأخذهن بيده الأخرى، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون"؟ * * * 4279 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ قال: "جَاءَ حَبْرٌ منَ اليهودِ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا مُحَمَّدُ! إنَّ الله يُمسِكُ السَّماواتِ يَوْمَ القِيامةِ على إِصبَعٍ، والأَرضينَ على إِصْبَعٍ، والجبالَ والشَّجَرَ على إِصبَع، والماءَ والثَّرَى على إِصْبَعٍ، وسائِرَ الخَلْقِ على إِصبَعٍ، ثم يَهُزُّهُن فيقولُ: أنا الملِكُ، أنا الله، فَضَحِكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - تَعَجُّباً مِمَّا قالَ الحَبْرُ تَصْدِيقاً لهُ، ثُمَّ قَرأَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} ". "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: جاء حبر من اليهود إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا محمَّد! إن الله تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على إصبع": يراد به: سعة القدرة.

"والأرضين على إصبع، والجبال والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثم يهزهنَّ فيقول: أنا الملك، أنا الله، فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تعجباً مما قال الحبرُ تصديقاً له، ثم قرأى؛ أي: رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}؛ أي: ما عرفوه حقَّ معرفته. {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا}: الواو للحال؛ أي: والأرضون السبع. {قَبْضَتُهُ}؛ أي: مقبوضة. {يَوْمَ الْقِيَامَةِ}؛ يعني: في ملكه وتصرفه، يتصرف فيها كيف يشاء بلا مزاحم مع سهولة؛ أي: هن بعظمتهن بالنسبة إلى قدرته تعالى ليست إلا قبضة واحدة. {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}؛ أي: مجموعات بقدرته. أو معناه: مفنيات بقسَمِهِ؛ لأنه تعالى أقسم بعزته وجلاله أنه يفنيها، وفيه تنبيه للناس على عظمته؛ ليعرفوه حق معرفته، ويعظموه حق عظمته، ولا يصفوه كما وصفه اليهود والمشركون بنسبة الولد إليه والشريك. {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]؛ أي: نزَّه نفسه تنزيها وتعظَّم عما يصفون له مما لا يليق بذاته وصفاته. * * * 4280 - عن عائشة رضي الله عنها قالت: سَاَلْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عنْ قوله عز وجل: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ}: فأَينَ يكونُ النّاسُ يومئذٍ؟ قالَ: "علَى الصِّراطِ". "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سألتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله:

{يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ} [إبراهيم: 48]: التبديلُ: تغييرُ الشيء عن حاله، والإبدال: جعل الشيء مكان آخر. قال الأزهري: تبديل الأرض: تسيير جبالها، وتفجير أنهارها، وتكوينها مستوية لا ترى فيها عوجًا ولا أمتًا، وتبديل السموات: بانتشار كواكبها وانفطارها، وتكوير شمسها، وخسف قمرها. "فأين يكون الناس يومئذ؟ فقال: على الصراط". * * * 4281 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الشَّمْسُ والقَمَرُ مُكوَّرانِ يَوْمَ القِيامَةِ". "قال عليه الصلاة والسلام: الشمس والقمر مكوَّرانِ يوم القيامة"؛ أي: مجموعان ومكفوفان، ومنه تكوير العمامة، وقيل: يُلفُّ ضوءهما لفًّا، فيذهب انبساطهما في الآفاق، وقيل: من (كوَّره): إذا ألقاه، فمعناه: يلقيان من فلكيهما. * * * مِنَ الحِسَان: 4282 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كيفَ أَنْعَمُ وصاحِبُ الصُّورِ قدِ التَقَمَهُ، وأصْغَى سَمْعَهُ، وحنَى جَبْهَتَهُ متَى يُؤمَرُ بالنفْخ؟ ". فقالوا: يا رسولَ الله! وما تأمُرُنا؟ قال: "قُولُوا: حَسْبنا الله ونعْمَ الوَكيلُ". "من الحسان": " عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي: كيف أَنْعَمُ"؛ أي: كيف أتنعم؟ وقيل: كيف أفرح؟ "وصاحبُ الصور قد التقمه"؛ أي: وضع طرف الصور في فيه. "وأصغى سمعه"؛ أي: أمال أذنه.

2 - باب الحشر

"وحنى جبهته"؛ أي: أمالها ينتظر. "متى يُؤمَرُ بالنفخ، فقالوا: يا رسول الله! وما تأمرنا؟ قال: قولوا: حسبنا الله": وهو مبتدأ، خبره (حسبنا)؛ أي: كافينا. "ونعم الوكيل"؛ أي: نعم الموكول إليه الله، فعيل بمعنى: مفعول، والمخصوص بالمدح محذوف. 4283 - عن عبد الله بن عَمْرٍو - رضي الله عنه -، عَن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "الصُّورُ قَرْن يُنْفَخُ فيهِ". "عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: الصورُ قرنٌ ينفخ فيه": قيل: دائرة رأسه كعرض السموات والأرض. * * * 2 - باب الحَشْرِ (باب الحشر) مِنَ الصِّحَاحِ: 4284 - قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامةِ على أَرْضٍ بَيْضاءَ عَفْراءَ كقُرْصَةِ النَّقِيِّ، ليسَ فيها عَلَم لأَحَدٍ". "من الصحاح": " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء"؛ أي: خالية من الغرس. "عفراء": وهي البيضاء التي ليست بشديدة البياض.

"كقُرصةِ النقيِّ": وهو صفة لمحذوف؛ أي: الخبز النقي، يريد بذلك: استدارتها واستواء أجزائها، شبَّهها بقرصة النقي باعتبار صغر أجزائها؛ لأنها تدكُّ يومئذ دكًا. "ليس فيها علم لأحد": من الأبنية وغيرها، بل تكون مستوية؛ لئلا يختفي بها أحد. * * * 4285 - وقالَ: "تكونُ الأَرْضُ يَوْمَ القِيامَةِ خُبْزَةً واحِدَةً، يتكَفَّؤُها الجَبَّارُ بيدِه، نزلاً لأَهْلِ الجَنَّةِ". "وقال: تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة": معناه كمعنى قُرصة النقي. "يتكفَّؤها الجبارُ": صفة (خبزة)؛ أي: يقلبها ويميلها ويبدلها. "بيده نزلاً لأهل الجنة": و (النزل) بالضم: ما يُهيَّأ للنزيل، وهو الضيف. وقيل: المراد ما عند الله من الأجر والثواب. وقيل: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يرد أن جرم الأرض ينقلب يومئذ في الشكل والطبع خبزة واحدة، بل أراد به: أنها تكون حينئذ بالنسبة إلى ما أعده الله تعالى لأهل الجنة كقرصة النقي يستعجل المضيف بها نزلاً للضيف، ونبه - صلى الله عليه وسلم - بذلك على عظم نعم الآخرة، وحقارة نعم الدنيا بالإضافة، وأشار إلى سهولة تصرفه فيها. ومنهم من أجرى الحديث على ظاهره، فإن الله تعالى قادر على أن يقلب طبع الأرض إلى طبع المطعوم. * * *

4286 - وقال: "يُحْشَرُ النَّاسُ على ثلاثِ طرائِقَ: راغِبينَ راهِبينَ، واثنانِ على بعيرٍ، وثلاثة على بَعيرٍ، وأَرْبَعة على بَعيرٍ، وعَشَرة على بَعيرٍ، وتَحْشُرُ بقيتَهُمُ النَّارُ، تَقيلُ مَعَهُمْ حيثُ قالُوا، وتَبيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ باتُوا، وتُصْبحُ مَعَهُمْ حيثُ أَصْبَحُوا، وتُمْسِي مَعَهُمْ حيثُ أَمْسَوْا". "وقال: يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثِ طرائقَ"؛ أي: ثلاث فرق. "راغبين"؛ أي: الأول: قوم يرغبون، ويحرصون باختيارهم إلى أرض المحشر، وهم الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهم أصحاب اليمين. "راهبين"؛ أي: الثاني: قوم يرهبون؛ أي: يخافون، يريد به: عوام المؤمنين الذين يترددون بين الخوف والرجاء؛ فتارة يرجون رحمة الله لإيمانهم، وتارة يخافون عذابه لما اجترحوا من السيئات، وهم أصحاب الميمنة. "واثنان على بعير": الواو للحال. "وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير": يريد: أنهم يتناوبون، يعتقبون البعير الواحد، والأولى أن يُحمَل ذلك على الاجتماع؛ لأن في الاعتقاب لا يكون الاثنان ولا الثلاثة على بعير، وهذا تفصيل لمراتبهم ومنازلهم في السبق وعلو الدرجة على سبيل الكناية والتمثيل، وأن تفاوتهم في المراكب بحسب تفاوت نفوسهم واختلاف أقدامهم في العلم والعمل، فمن كان أعلى مرتبة كان أقل شركة وأشد سرعة وأكثر سباقاً، وإنما لم يذكر منهم من يتفرد على بعير؛ لأن ذلك مخصوص بالأنبياء إكرامًا لهم، فالمراد بالناس: غير الخواص. "وتحشر بقيتهم النار"؛ أي: الثالث: قوم تسوقهم النار، وهم أصحاب المشأمة.

"تقيل معهم": من القيلولة، وهي النوم في الظهيرة؛ أي: تقيل النار مع المحشورين "حيث قالوا، وتبيت"؛ أي: النار "معهم حيث باتوا، وتصبح معهم حيث أصبحوا، وتمسي معهم حيث أمسوا"؛ يعني: تلازمهم النار في جميع أحوالهم، بحيث لا تفارقهم أصلًا، ولا يفارقونها، وهم الكفرة. وقيل: هذا الحشر إنما يكون قبل قيام الساعة أحياء إلى الشام بقرينة قيلولتهم وبيتوتهم؛ لأن هذه الأحوال إنما تكون في الدنيا. وهذا آخر أشراط الساعة، كما في حديث آخره: "وآخر ذلك نار تخرج من قعر عدن تطرد الناس إلى محشرهم"، فأما الحشر الذي يكون بعد البعث من القبور؛ فعلى خلاف هذه الصفة من ركوب الإبل والمعاقبة عليها، وإنما هو كما أخبر: أنهم يبعثون حفاة عُراة غُرلاً، كما في الحديث التالي. وقيل: يكون بعد البعث؛ لأن الحشر إذا ذُكِر مطلقًا يُصرَف إلى ما بعد الموت، وهو مختار الإِمام التوربشتي؛ لما رُوِي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: "يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفًا مشاة، وصنفًا ركبانًا، وصنفًا على وجوههم"، وكونهم حفاة عراة لا ينافي كونهم ركباناً. * * * 4287 - وقالَ: "إنَّكم مَحْشورونَ حُفاةً عُراةً غُرْلاً"، ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}، "وأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى يومَ القِيامةِ إبراهيمُ، وإنَّ ناساً منْ أَصْحابي يُؤْخَذُ بهمْ ذاتَ الشِّمالِ فأقولُ: أَصْحابي، أَصْحابي، فيقولُ: إنَّهُمْ لنْ يَزالوا مُرْتَدِّينَ على أَعْقابهم مُذْ فارَقْتَهُمْ، فأقولُ كما قالَ العَبْدُ الصَّالح: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ}، إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.

"وقال: إنكم تحشرون حُفاة": جمع الحافي، نصب على الحال. "عُراة": جمع العاري. "غُرْلاً" بضم الغين المعجمة وسكون الراء المهملة: جمع الأغرل، وهو الأقلف، والغُرْلة: القُلْفة. "ثم قرأ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ}: الكاف متعلق بمحذوف دلَّ عليه (نعيده)، تقديره: نعيد الخلق إعادةً مثل الخلق الأول؛ يعني: بدأناهم في بطون أمهاتهم حفاة عراة غرلاً، كذلك نعيدهم يوم القيامة. {وَعْدًا عَلَيْنَا}؛ أي: واجبًا علينا إنجازه، نصب على المصدر من غير لفظ الفعل؛ لأن الإعادة ومحمد، ويجوز أن يكون (علينا) صفة لـ (وعدا)؛ أي: وعداً واجبًا علينا بإيجابنا. {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104]؛ أي: الإعادة والبعث. "وأول من يُكسَى يوم القيامة إبراهيم"، وإنما خُصَّ بكرامة الكسوة أولًا؛ لأنه أول من عُرِّي وجُرِّد في سبيل الله من النبيين حين أرادوا إلقاءه في النار، لا لأنه أفضل من نبينا - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه تعالى اختصه بفضائل لم يشاركه فيها أحدٌ من النبيين، أو لكون إبراهيم - عليه السلام - أباه، وتقدمه في اللباس لغرة الأبوة، والحديث مخصوص بنبينا - صلى الله عليه وسلم -، لكن في غير هذه الرواية: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - يُكسَى على أثره. "وإن ناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: أُصيحابي! أصيحابي! ": تصغير أصحاب، وهو جمع قلة، وإنما صُغِّر لقلة عددهم، وهم الذين دخل عليهم بعده - صلى الله عليه وسلم - دواخلُ الشيطان، فأخلدوا إلى الدنيا، قيل: كثعلبة، وبسر بن أرطاة. "فيقول"؛ أي: قائل، أو مجيب، أو مناد.

"إنهم لن يزالوا مرتدين على أعقابهم حين فارقتهم": لم يرد به الردة عن الإِسلام؛ إذ لم يرتد أحدٌ من الصحابة، وإنما ارتد قوم من جفاة العرب، بل المعنى: تخلفوا عن بعض الحقوق الواجبة، وأساءوا السيرة، بدليل التقييد بـ (على أعقابهم). "فأقول كما قال العبد الصالح": وهو عيسى عليه السلام. {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}؛ أي: رقيباً أمنعهم من الكفر. {مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي}؛ أي: قبضتني ورفعتني إليك. {كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ}؛ أي: الحفيظ. {عَلَيْهِمْ}: تحفظ أعمالهم، {وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117]. {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ}: بإقامتهم على الكفر. {فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}: أحقاء بالتعذيب؛ لأنك المالك المتصرف. {وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ}؛ أي: للمؤمنين منهم، {فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118]. "إلى قوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة: 118] ": تلخيصه: إن تعذب فعدل، وإن تغفر ففضل. * * * 4288 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ حُفاةً عُراةً غُرْلاً"، قلتُ: يا رسولَ الله! الرِّجالُ والنِّسَاءُ جَميعاً يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ؟ فقالَ: "يا عائشةُ! الأَمرُ أَشَدُّ مِنْ أنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ". "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يحشر

الناس يوم القيامة حُفاة عُراة غُرلاً، قلت: يا رسول الله! الرجال والنساء جميعًا ينظر بعضهم إلى بعض؟! فقال: يا عائشة! الأمر أشد من أن ينظرَ بعضهم إلى بعض": المراد من الأمر: أهوال يوم القيامة وشدته من دنو الشمس، وطول الموقف، والسؤال والحساب. * * * 4289 - عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً قالَ: يا نبيَّ الله! يُحْشَرُ الكافِرُ على وَجْههِ يومَ القِيامَةِ؟ قال: "أليْسَ الذِي أمْشاهُ على الرِّجلَيْنِ في الدُّنيا قادِرٌ على أنْ يُمْشِيَه على وَجْهِهِ يَوْمَ القِيامَةِ؟ ". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال: يا نبي الله! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا قادرًا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ ": قيل: كان سؤال السائل عند نزول قوله تعالى: {الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ} الآية، فإن الحشر إذا كان على الوجه، يفهم منه أن المشي يكون كذلك باستصحاب الحال، كأن السائل قال: كيف يمشي الكافر على وجهه؟ * * * 4290 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يَلقَى إبراهيمُ أباهُ يومَ القِيامَةِ وعلى وَجْهِ آزَرَ قَتَرَةٌ وغَبَرَةٌ، فيقولُ لهُ إبراهيمُ: ألمْ أقُلْ لكَ: لا تَعْصِني؟ فيقولُ لهُ أبوهُ: فاليَوْمَ لا أَعصِيكَ، فيقُولُ إبراهيمُ: يا ربِّ! إنَّكَ وعَدْتَنِي أنْ لا تُخزِيَني يَوْمَ يُبعَثونَ، فأيُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أبي الأَبْعَدِ؟ فيقولُ الله عز وجل: إنِّي حَرَّمْتُ الجَنَّةَ على الكافِرينَ، ثُمَّ يُقالُ لإبراهيمَ: ما تحتَ رِجلَيْكَ؟ فينظُرُ فإذا هوَ بذِيخٍ مُتَلطّخٍ، فيُؤخَذُ بقَوائِمِهِ فيُلقَى في النَّارِ".

"عن أبي هريرة - رضي الله عنه -[قال]: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يلقى إبراهيم - عليه السلام - أباه يوم القيامة وعلى وجه آزرَ" بالمد: اسم أبي إبراهيم عليه السلام. "قتَرةٌ وغبرةٌ": وهما بفتحتين بمعنى، وقيل: القترة: غبارٌ معه سواد، وعن ابن زيد: القترة: ما ارتفع من الغبار، فلحق بالسماء، والغبرة: ما كان أسفل في الأرض. "فيقول له إبراهيم: ألم أقلْ لك: لا تعصني؟ فيقول له أبوه: فاليومَ لا أعصيك، فيقول إبراهيم: يا رب! إنك وعدتني أن لا تخزيني يوم يبعثون، فأيُّ خزي أخزى من أبي"؛ أي: من خزي أبي "الأبعد؟ "؛ أي: الأهلك، والبعد: الهلاك، أو الأبعد من رحمة الله تعالى، وفي خزي الأب إهانة الابن. "فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين": أجيب إبراهيم - عليه السلام - بأن تعذيب الكافر ليس خزياً بالحقيقة، والوعد حينئذ بأن لا يخزيه؛ أي: في نفسه، وفي حق مَنْ لا يستحقُّ الخزيَ. "ثم يقال لإبراهيم: انظر ما تحت رجليك؟ ": (ما) استفهام مبتدأ، وخبره (تحت)، ويحتمل أن يكون بمعنى: الذي؛ أي: انظر إلى الذي تحت رجليك. "فينظر فإذا هو بِذِيْخ" بالذال المعجمة المكسورة، والياء الساكنة المثناة من تحت والخاء المعجمة: ولد الضبع، والأنثى: ذيخة؛ أي: غُير أبوه على صورة ذيخ. وفي بعض بالباء الموحدة الساكنة، والحاء المهملة، وهو: ما يذبح. "متلطخ"؛ أي: برجيعه، أو بالطين. "فيؤخذ بقوائمه": جمع قائمة، وهي ما تقوم به الدوابُّ بمثابة الأرجل من الإنسان.

"فيلقى في النار": حوَّل الله تعالى صورته إلى تلك الصورة تسليةً لإبراهيم عليه السلام؛ لئلا يخزيه لو رآه قد ألقاه في النار على صورته. * * * 4291 - وقالَ: "يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ حتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ في الأَرْضِ سَبعينَ ذِراعًا، ويُلْجمهُمْ حتَّى يَبْلُغَ آذانَهُمْ". "وقال: يعرق الناس يوم القيامة حتى يذهبَ عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً": قيل: سبب هذا العرق تراكم الأهوال، وتزاحم حرِّ الشمس والنار، كما جاء في الرواية: أن جهنم تُديرُ أهلَ المحشر يوم القيامة، فلا يكون للجنة طريق إلا الصراط. "ويلجمهم"؛ أي: يصلُ العرق إلى أفواههم، فيصير لهم كاللجام يمنعهم عن الكلام. "حتى يبلغ آذانهم". * * * 4292 - وقال - صلى الله عليه وسلم - "تُدْنىَ الشَّمْسُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ الخَلْقِ حتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كمِقْدارِ مِيلٍ، فَيكونُ النَّاسُ على قَدْرِ أَعْمالهِمْ في العَرَقِ، فمِنْهُمْ مَنْ يكونُ إلى كَعْبَيْهِ، ومنهُمْ مَنْ يكونُ إلى رُكبتَيْهِ، ومنهُمْ مَنْ يكونُ إلى حَقْويهِ، ومنهُمْ مَنْ يُلْجمُهُ العَرَقُ إِلْجاماً". وأَشَارَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيدِه إلى فيهِ. "وقال - صلى الله عليه وسلم -: تُدنى الشمسُ يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل": أراد به: الميل الذي تكتحل به العين، وقيل: ثلث فرسخ، وقيل: قطعة من الأرض ما بين العلمين، وقيل: مد البصر. "فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه،

ومنهم من يكون إلى رُكبتيه، ومنهم من يكون إلى حَقْويه": الحَقْو: معقد الإزار، وهو الخاصرة. "ومنهم من يلجمهم العرق إلجاماً، وأشار رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بيده إلى فيه": فإن قلت: إذا كان العرق كالبحر يلجم البعض، فكيف يصل إلى كعبي الآخر؟ قلت: يجوز أن يخلق الله تعالى ارتفاعا في الأرض تحت أقدام البعض. أو يقال: يمسك الله عرق كل إنسان عليه بحسب عمله، فلا يصلُ إلى غيره منه شيء، كما أمسك جَرْية البحر لموسى وقومه حين اتبعهم فرعون. * * * 4293 - عن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقولُ الله تعالَى: يا آدمُ! فيقُولُ: لبّيكَ وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ في يَدَيْكَ، قال: أخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ، قالَ: وما بَعْثُ النَّارِ؟ قالَ: مِنْ كُلِّ ألفٍ تِسْعُ مِئَةٍ وتسْعَة وتِسْعونَ، فعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغيرُ، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} "، قالوا: يا رسولَ الله! وأينا ذلكَ الوَاحِدُ؟ قال: "أَبْشِرُوا، فإنَّ مِنْكُم رَجُلاً، ومِنْ يأجُوجَ ومأجوجَ ألفًا، ثُمَّ قال: "والذِي نَفْسِي بيدِه، إنِّي أَرْجُو أنْ تكونوا رُبُعَ أَهْلِ الجَنَّةِ"، فكَبَّرنا، فقال: "أرجُو أنْ تكونُوا ثُلُثَ أهلِ الجَنةِ" فكبَّرنا، فقال: "أرجُو أنْ تكونوا نِصفَ أهلِ الجَنَّةِ"، فكبرنا، قال: "ما أنتُم في النَّاسِ إلَّا كالشَّعْرَةِ السَّوْداء في جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أو كشَعرَةٍ بيضاءَ في جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يقول الله تعالى"؛ أي في يوم الموقف.

"يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك، والخير بيديك، قال: أخرجْ بعثَ النار"؛ أي: الجماعة المبعوث لها. "قال: وما بعثُ النار؟ ": (ما) بمعنى: كم العددية. "قال"؛ أي: الله تعالى: "من كل ألف تسع مئة وتسعة وتسعين، فعنده"؛ أي: عند ذلك التقاول "يشيبُ الصغير، {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} "، وهما كنايتان عن شدة أهوال يوم القيامة، معناه: لو تصورت الحوامل والصغائر هنالك لوضعن أحمالهن، ولشاب الصغائر، وإنما خص آدم بهذا الخطاب؛ لأنه أصل الجميع. وَتَرَى {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى}؛ أي: من الخوف. {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى}؛ أي: من الخمر. {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج: 2] , قالوا: يا رسول الله! وأيُّنا ذلك الواحد": الباقي من الألف. "قال: أبشروا؛ فإن منكم رجلاً": الخطاب للصحابة وغيرهم من المؤمنين. "ومن يأجوج ومأجوج ألفًا، ثم قال: والذي نفسي بيده أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، فكبرنا، فقال: أرجو أن تكونوا ثلثَ أهل الجنة، فكبرنا، فقال: أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة، فكبرنا، قال: ما أنتم في الناس إلا كالشعرة السوداء في جلد ثور أبيض، أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود"؛ يعني: أنتم قليلون بالإضافة إلى الأمم السالفة، أو الكفار مطلقًا. * * * 4294 - وقالَ: - صلى الله عليه وسلم - "يَكْشِفُ ربنا عنْ ساقِهِ، فيَسْجُدُ لهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ ومُؤْمِنةٍ،

وَيبقَى مَنْ كانَ يَسْجُدُ في الدُّنيا رِياءً وسُمْعَةً، فيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا واحِداً". "وقال: يكشِفُ ربنا عن ساقه": معناه عند المؤوِّلين: مَثَلٌ في شدة الأمر وصعوبة الخطب، والأصل فيه: أن يموت الولد في بطن الناقة، فيدخل الرجل يده في رحمها، فيأخذ بساقه؛ ليخرجه، فإذا هو الكشف عن الساق، ثم استعمل في كل أمر فظيع، وأضافَ الساق إلى ربنا؛ تنبيهاً على أن الساق هي الشدة التي لا يُجلِّيها لوقتها إلا هو. "فيسجد له كلُّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رياءً وسمعة": السُّمعة، الصيت والشهرة. "فيذهب ليسجد، فيعود ظهره طبقًا واحد": الطبق: فِقارُ الظهر، واحدها: طبقة، يريد: أنه تفسير فِقاره كلها كالفقرة الواحدة، فلا يقدر عَلى السجود. * * * 4295 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "لَيَأتيَنَّ الرَّجُلُ العَظيمُ السَّمِيْنُ يَوْمَ القيامَةِ لا يَزِنُ عِنْدَ الله جَناحَ بَعُوضَةٍ"، وقالَ: "أقرَؤُوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} ". "وقال - صلى الله عليه وسلم -: ليأتي الرجلُ العظيمُ السمين يوم القيامة لا يزنُ عند الله جناحَ بعوضة"؛ أي: ما له قدر ومنزلة؛ لخسته وحقارته. "وقال: اقرؤوا: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] "؛ أي: قدراً. مِنَ الحِسَان: * * *

4296 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: قرأَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هذِه الآيةَ: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} قالَ: "أتدْرونَ ما أَخْبارُها؟ " قالوا: الله ورسولُهُ أعلمُ، قال: "فإنَّ أَخْبارَها أنْ تَشْهَدَ على كُل عبدٍ أو أَمَةٍ بما عَمِلَ على ظَهرِها، أنْ تقولَ: عَمِلَ عليَّ كذا يومَ كذا وكذا، قالَ: فهذِه أَخْبارُها"، غريب. "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] "؛ أي: الأرض أخبارها. "وقال: أتدرون ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإن أخبارها أن تشهد على كل عبد، أو أمة بما عمل على ظهرها، أن تقول: عمل عليَّ كذا وكذا، يوم كذا وكذا، قال: فهذه أخبارها". "غريب". * * * 4297 - وقال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنْ أحَدٍ يَمُوتُ إلا نَدِمَ". قالوا: وما نَدامَتُهُ يا رسولَ الله؟ قالَ: "إنْ كانَ مُحْسِناً نَدِمَ أنْ لا يكونَ ازدادَ، وإنْ كانَ مُسِيئاً نَدِمَ أنْ لا يكونَ نزَعَ". "وقال"؛ أي: أبو هريرة - رضي الله عنه -: "قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما من أحدٍ يموت إلا ندم، قالوا: وما ندامته يا رسول الله؟ قال: إن كان محسناً، ندم أن لا يكونَ ازداد"؛ أي: خيرًا. "وإن كان مسيئاً، ندم أن لا يكون نزَعَ"؛ أي: كفَّ نفسه عن ارتكاب المعاصي. * * *

4298 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُحْشَرُ النَّاسُ يومَ القِيامةِ ثَلاثَةَ أَصْنافٍ: صِنْفاً مُشَاة، وصِنْفاً رُكباناً، وصِنْفَا على وجُوهِهمْ" قيلَ: يا رسولَ الله! وكيفَ يَمْشونَ على وجُوهِهم؟ قال: "إنَّ الذِي أمْشاهُمْ على أَقْدامِهِمْ قادِرٌ على أنْ يُمشِيَهُمْ على وجُوهِهِمْ، أما إنَّهمْ يتَّقونَ بِوُجُوهِهمْ كُلَّ حَدَبٍ وشَوْكٍ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يحشر الناسُ يوم القيامة ثلاثةَ أصناف: صنفاً مشاة": إنما بدأ بالمشاة دون الركبان؛ لأنهم الأكثرون من أهل الإيمان. "وصنفاً ركباناً، وصنفاً على وجوههم، قيل: يا رسول الله! وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادرٌ على أن يمشيهم على وجوههم، أما" بالتخفيف: كلمة تنبيه. "إنهم"؛ أي: الكفرة. "يتقون"؛ أي: يحترزون. "بوجوههم كلَّ حدب": وهو ما ارتفع من الأرض. "وشوك"؛ يعني: يجعلون وجوههم واقية لأبدانهم من جميع الأذى؛ لأجل أن غُلَّت أيديهم وأرجلهم، وفي الدنيا الأمر على العكس، وهذا بيان لغاية هوانهم وبلوغ اضطرارهم إلى حدِّ أن جعلوا وجوههم مكان الأيدي والأرجل في التوقي عن كل مُؤذٍ للبدن، وذلك لأنهم لم يسجدوا بوجوههم لمن خلقها وصوَّرها، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24] فشروا بأنه يلقى الكافر مغلولًا في النار، فلا يقدر أن يدفعَ عن نفسه النار إلا بوجهه. * * *

3 - باب الحساب والقصاص والميزان

4299 - عن ابن عُمَر - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ سَرَّهُ أنْ يَنظُرَ إلى يَوْمِ القِيامَةِ كأنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيقرأْ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} ". "عن ابن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ سرَّه أن ينظر إلى يوم القيامة"؛ أي: إلى أهوالها. "كأنه رأيُ عين"؛ أي: مرئيُّها. "فليقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1)} [التكوير: 1] و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)} [الانفطار: 1] و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1)} [الانشقاق: 1] ": فإن هذه السور مشتملة على ذكر أحوال القيامة. * * * 3 - باب الحِسَابِ والقِصَاصِ والمِيْزانِ (باب الحساب والقصاص والميزان) مِنَ الصِّحَاحِ: 4300 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يدخلُ منْ أُمَّتي الجَنَّةَ سَبعونَ ألفًا بغيرِ حِساب". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يدخل من أمتي الجنة سبعونَ ألفًا بغير حساب": يحتمل أن يراد به الكثرة، كقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]. 4301 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليسَ أَحَدٌ

يُحَاسَبُ يَوْمَ القِيامَةِ إلَّا هَلَكَ"، قلتُ: أَوَ ليسَ يقولُ الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} نقالَ: "إنَّما ذلكَ العَرْضُ، ولكنْ مَنْ نُوقشَ في الحِسابِ يَهلِكُ". "عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا هلك"؛ أي: على تقدير المناقشة؛ أي: الاستقصاء في الحساب. "قلت: أوليس يقول الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8)} [الانشقاق: 8]؟! قال: إنما ذلك"؛ أي: الحسابُ اليسيرُ "العرضُ"؛ أي: في عرض عمله، لا في الحساب على ما ينبغي. "ولكن من نُويشَ في الحسابِ يهلك": يقال: ناقشه في الحساب؛ أي: عاسره فيه، فلا يترك قليلاً ولا كثيرًا. * * * 4302 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِنكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا سيُكلمُهُ ربُّه، ليسَ بينَهُ وبينَهُ تَرجُمان ولا حِجاب يَحجُبُهُ، فيَنظُر أيمنَ منهُ فلا يَرى إلَّا ما قدَّمَ منْ عَمَلِهِ، وينظُرُ أشْأَمَ منهُ فلا يرَى إلَّا ما قَدَّمَ منْ عَمَلِهِ، ويَنْظُرُ بينَ يدَيْهِ فلا يَرَى إلَّا النَّارَ تِلْقاءَ وَجْهِهِ، فاتَّقُوا النَّارَ ولَوْ بشِقِّ تَمْرَة". "وقال: ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربُّه يوم القيامة، ليس بينه وبينه"؛ أي: ليس بين ربه تعالى وبين العبد. "تُرجمان" بضم التاء والجيم وبفتح التاء أيضًا؛ يعني: مفسِّر. "ولا حجابٌ يحجبه"؛ أي: تحجب ذلك الحجاب العبد من ربه. "فينظر"؛ أي: العبد. "أيمنَ منه"؛ أي: يمينًا حيرة ودهشة من ذلك الموقف. "فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله": الذي عمله في الدنيا.

"وينظر أشأمَ منه"؛ أي: شمالاً. "فلا يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاءَ وجهه، فاتقوا النارَ"؛ أي: فإذا كان كذلك، فاحذروا النار. "ولو بشقِّ تمرة"؛ أي: ولو بشيء يسير من عمل البر. * * * 4303 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يُدْني المُؤْمِنَ فيضَعُ عليهِ كَنَفَهُ وَيسْترُه فيقولُ: أتعْرِفُ ذنْبَ كذا؟ فيقولُ: نعمْ، أيْ رَبِّ! حتَّى إذا قرَّرَهُ بذُنوبهِ ورأَى في نَفْسِهِ أنَّهُ هَلَكَ قالَ: ستَرتُها عليكَ في الدُّنيا، وأنا أَغْفِرُها لكَ اليَوْمَ، فيُعْطَى كتابَ حَسناتِهِ، وأمَّا الكُفارُ والمُنافِقُونَ فيُنادَى بهِمْ على رؤُوسِ الخَلائقِ: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} ". "وقال: إن الله تعالى يدني المؤمنَ"؛ أي: يقربه قربَ كرامةٍ لأقرب مسافة. "فيضعُ عليه كَنَفه": بالتحريك؛ أي: جانبه، وهذا تمثيلٌ معناه: إظهار عنايته عليه، وصونه عن الخزي بين أهل الموقف، كمن يضع كنف ثوبه على رجل إذا أراد صيانته. "ويستره، فيقول: أتعرف ذنبَ كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي رب! حتى [إذا] قرره بذنوبه"؛ أي: جعله مقراً بها. "ورأى في نفسه"؛ أي: علم الله أنه في ذاته: "أنه هلك"؛ أي: المؤمن، ويجوز أن يكون الضمير في (رأى) للمؤمن، والواو للحال. "قال: سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم": تقديم (أنا) يفيد التخصيص؛ لأن الذنوب لا يغفرها يومئذ إلا الله.

"فيعطى": علي بناء المجهول؛ أي: المؤمن. "كتابَ حسناته": بالنصب مفعوله الثاني. "وأما الكفار والمنافقون؛ فينادى بهم على رؤوس الخلائق: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18] ". * * * 4304 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ دفعَ الله إلى كُلِّ مُسْلِم يَهودياً أو نصرانِيًّا فيقولُ: هذا فَكاكُكَ مِنَ النَّارِ". "وقال - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان يوم القيامة": (كان) هذه تامة. "دفع الله إلى كل مسلم"؛ أي: أعطاه "يهودياً، أو نصرانياً، فيقول: هذا فِكاكُكَ من النار": (فِكاكُ الرهن) بكسر الفاء وفتحها: ما يفتك به؛ أي: يخلِّص؛ يعني: كان لك منزل في النار، لو كنت استحققته، لدخلتَ فيه، فلما استحقه هذا الكافر، صار كالفِكاك لك؛ لأنك نجوت منه، وتعين الكافر له، فالقه في النار فداءك، لعل تخصيص اليهود والنصارى؛ لاشتهارهم بمضادة المسلمين. * * * 4305 - وقالَ: "يُجَاءُ بنوْحٍ يومَ القِيامَةِ فيُقالُ له: هلْ بلَّغْتَ؟ فيقولُ: نعمْ، يا رَبِّ! فتُسألُ أمَّتُهُ: هلْ بلَّغَكُمْ؟ فيقولون: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ}، فيُقالُ: مَنْ شُهودُكَ؟ فيقول: مُحَمَّد وأُمَّتُهُ"، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فيُجاءُ بِكُمْ فتَشْهَدونَ أنه قدْ بَلَّغَ"، ثُمَّ قَرأَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.

"وقال - صلى الله عليه وسلم -: يُجاء بنوح - عليه السلام - يومَ القيامة، فيقال: هل بلغتَ؟ فيقول: نعم يا رب! فيسأل أمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما جاءنا": (ما) فيه نافية. "من نذير"؛ أي: منذر. "فيقال: من شهودك؟ ": (من) فيه استفهامية، طلب الله من نوح شاهدًا على تبليغه أمته، وهو أعلم به؛ إقامةً للحجة عليهم. "فيقول محمَّد وأمته، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: فيجاء بكم، فتشهدون أنه قد بلَّغ"؛ أي: نوحًا قد بلغ أمته ما أوحى الله إليه وأنذرهم. "ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ}؛ أي: كما هديناكم، فضَّلناكم بأن جعلناكم {أُمَّةً وَسَطًا}؛ أي: خيارًا، أو عدولًا، وإنما كانت هذه الأمة وسطًا؛ لأنهم لم يغلوا غلوَّ النصارى، ولا قصَّروا تقصيرَ اليهود في تكذيب أنبيائهم وقتلهم إياهم. {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]: بأن يسأل عليه السلام عن حال أمته، فيزكيهم، ويشهد بصدقهم، وإنما شهد أمة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - بذلك مع أنهم بعد نوح؛ لعلمهم بالفرقان أن الأنبياء كلهم قد بلغوا أممهم ما أرسلوا به. * * * 4306 - عن أنس - رضي الله عنه - قالَ: كُنَّا عِنْدَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فضَحِكَ، فقالَ: "هلْ تَدْرونَ مِمَّ أَضْحَكُ؟ " قال: قُلنا: الله ورسولُه أَعْلَمُ، قال: "مِنْ مُخَاطَبةِ العَبْدِ رَبَّهُ، يقولُ: يا رَبِّ! ألمْ تُجرْني مِنَ الظُّلم؟ "، قال: "فيقولُ: بَلَى"، قالَ: "فيقولُ: فإنِّي لا أُجيزُ على نفسِي إلَّا شاهِداً مِنِّي"، قال: "فيقولُ: كَفَى بنفْسِكَ

اليَوْمَ عليكَ شَهيداً، وبالكِرامِ الكاتِبينَ شُهوداً"، قال: "فيُختَمُ على فيهِ، فيُقالُ لأَرْكانِهِ: انْطِقي"، قالَ؛ "فتَنْطِقُ بأَعْمالِهِ، ثُمَّ يُخَلَّى بينهُ وبينَ الكلامِ"، قال: "فيقولُ: بُعْداً لَكُنَّ وسُحْقاً، فَعَنْكُنَّ كنتُ أُناضلُ ". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فضحك، فقال: هل تدرون مم أضحك؟ قال: قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: من مخاطبة العبد ربه، يقول: يا رب! ألم تُجرْني من الظلم؟ "؛ أي: ألم تؤمِّني من أن تظلم علي؟ (قال: يقول)؛ أي: الله تعالى في جوابه العبد. "بلى" قد أجرتك من الظلم. "قال: فيقول"؛ أي: العبد. "فإني لا أجيز" بالزاي المعجمة من الإجازة. "على نفسي إلا شاهدًا مني، قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا": نصب على الحال، و (عليك) متعلق به، خبر بمعنى الأمر؛ أي: اكتفى نفسُكَ في حال كونك شهيدا عليك. "وبالكرام الكاتبين شهوداً، قال: فيُختَم على فيه"؛ أي: على فيه. "فيقال لأركانه"؛ أي: لجوارحه. "انطقي، فتنطق بأعماله": فتقول اليد: بي أخذت مال فلان وبطشت بفلان، والرجل: بي ذهبت إلى المعصية الفلانية، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65]. "ثم يخلَّى"؛ أي: العبد المختوم. "بينه وبين الكلام"؛ أي: يرفع الختم عن فيه، فيقدر على التكلم. "قال: فيقول، لجوارحه: "بعدًا لَكُنَّ وسحقًا": كلاهما بمعنى، منصوبان

على المصدرية، وجب حذف فعلهما؛ لكثرة الاستعمال. "فعنكنَّ كنتُ أناضل": يقال: ناضلت عنك؛ أي رميت عنك وحاججت ودافعت وتكلمت بعذرك، وأصل المناضلة: المراماة بالسهام. والمراد هنا: المحاجة بالكلام؛ يعني: كنت أجتهد وأخاصم مع الله في خلاصكنَّ من النار، فأنتن تشهدن، وتلقين أنفسكنَّ في النار. * * * 4307 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: يا رسولَ الله! هلْ نرَى ربنا يومَ القِيامةِ؟ قال: "هلْ تُضَارُّونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ في الظَّهيرَةِ ليسَتْ في سَحابَةٍ؟ " قالوا: لا، قالَ: "فهل تُضارُّونَ في رُؤْيَةِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ ليسَ في سَحابَة؟ " قالوا: لا، قالَ: "فوالذي نَفْسِي بيدِه، لا تُضَارُّونَ في رُؤْيةِ ربكُمْ إلَّا كما تُضارُّونَ في رُؤْيةِ أَحَدِهما. قال: "فيَلقَى العَبْدَ فيقولُ: أيْ فُلْ! ألَمْ كرِمْكَ وأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وأُسخِّرْ لكَ الخَيْلَ والإبلَ وأدرْكَ تَرْأَسُ وتَرْبَعُ؟ فيقولُ: بلَى". قالَ: "فيقولُ: أفَظننْتَ أنَّكَ مُلاقِيَّ؟ فيقولُ: لا، فيقولُ: فإنِّي قدْ أَنْساكَ كما نسِيتَني، ثُمَّ يَلقَى الثَّانيَ، فَذَكَرَ مِثْلَه، ثُمَّ يَلقَى الثَّالثَ فيقولُ لهُ مثلَ ذلكَ، فيقولُ: يا رَبِّ! آمَنْتُ بكَ وبكتابكَ وبرُسُلِكَ، وصَلَّيْتُ وصُمْتُ وتَصَدَّقْتُ، ويُثني بخَيْر ما استَطاعَ، فيقولُ: ها هُنا إذًا، ثُمَّ يُقالُ: الآنَ نبعَثُ شاهِداً علَيكَ، ويتَفَكَّرُ في نفسِهِ: مَنْ ذا الذي يَشْهَدُ عليَّ؟ فيُختَمُ على فيهِ، ويُقالُ لفَخِذِه: انْطِقي، فتنطِقُ فخِذُهُ ولَحْمُهُ وعِظامُهُ بعَمَلِهِ، وذلكَ ليُعذَرَ مِنْ نَفْسِهِ، وذلكَ المُنافِقُ وذلك الذي سَخِطَ الله عَلَيهِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه قال: قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: هل تُضارون": يروى بالتشديد والتخفيف من (الضر) و (الضير)،

وهما متقاربا المعنى؛ أي: لا تخالفون، ولا تجادلون. "في رؤية الشمس"؛ لوضوحه وظهوره. "في الظهيرة": نصف النهار. "ليست في سحابة": جملة حالية. وقيل: لا تَضارون بفتح التاء؛ أي: لا تظلمون؛ أي: لا تسترون في الرؤية؛ يعني: لا يلحقكم ضرر الازدحام لرؤيته عند النظر إليه. "قالوا: لا، قال: فهل تضارون في رؤبة القمر ليلة البدر ليس في سحابة؟ قالوا: لا، قال: والذي نفسي بيده لا تضارون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤية أحدهما": وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك تحقيقا لرؤيته، وهو تشبيه الرؤية بالرؤية لا تشبيه المرئي بالمرئي. " قال: فيَلقَى"؛ أي: الرب. "العبدَ، فيقول: أيْ فُل" بضم الفاء وسكون اللام، معناه: يا فلان! قيلْ هذا ليس ترخيمًا له؟ إذ لو كان ترخيمًا له لم تلحقه التاء في المؤنث نحو: يا فلة، ولم يحذف منه الألف. "ألم أكرمك وأسوِّدك": من السيادة؛ أي: ألم أجعلك سيدًا؟ "وأزوجك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأذرك"؛ أي: أتركك. "ترأس"؛ أي: تكون رئيسهم. "وتربع"؛ أي: تأخذ المرباع من أموالهم، وهو الربع من رأس مالٍ غنموه عند غزو بعضهم بعضًا، كان الرئيس في الجاهلية يأخذه دون أصحابه، والمِرْباع أيضًا: ناقة تحمل قبل الوقت. "فيقول: بلى، قال: فيقول: أفظننتَ أنك مُلاقيَّ؟ فيقول: لا، فيقول:

فإني قد أنساكَ كما نسيتني، ثم يلقى الثاني، فذكر مثله، ثم يلقى الثالث، فيقول له مثل ذلك، فيقول: يا رب! آمنت بك وبكتابك وبرسلك، وصليت وصمت وتصدقت، ويثني"؛ أي: على الله. "بخير ما استطاع، فيقول ها هنا"؛ أي: أثبت مكانك. وإذاً": حتى تعرف أعمالك. "ثم يقال: الآن نبعث شاهدًا عليك، ويتفكَّر"؛ أي: العبد. "في نفسه من ذا الذي يشهد عليَّ، فيُختَم على فيه، ويقال لفخذه: انطقي، فينطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك"؛ أي: إنطاق أعضائه. "ليُعذِرَ من نفسه": على بناء الفاعل من (الإعذار)؛ أي: ليزيل عذره من قبل نفسه بكثرة ذنوبه، وشهادة أعضائه عليه بحيث لم يبقَ له عذرٌ يتمسَّك به. "وذلك المنافقُ، وذلك الذي سخط الله عليه". * * * مِنَ الحِسَان: 4308 - عن أبي أُمامَةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "وَعَدَني ربي أنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ منْ أُمَّتي سَبْعينَ ألفًا لا حِسابَ عَلَيهمْ ولا عذابَ، معَ كُلِّ ألفٍ سَبْعونَ ألفاً، وثلاثُ حَثَياتٍ منْ حَثَياتِ ربي". "من الحسان": " عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: وعدني ربي أن يُدخِلَ الجنةَ من أمتي سبعين ألفًا": المراد منه الكثرة، لا العدد. "لا حسابَ عليهم ولا عذابَ، مع كلِّ ألفٍ سبعون ألفًا، وثلاثَ": بالنصب عطفًا على (سبعين).

"حثيات": جمع حثية، وهي ملءُ الكف. "من حثيات ربي": وهذا على وجه التمثيل والمبالغة في الكثرة بحيث يخفى على العادين تقديره وإحصاؤه؛ لأن حثيات الكريم لا تكون إلا كذلك، كما أن المأخوذ من التراب بالكف لا يُحصى ولا يعلم عدده، وإلا فلا كفَّ ثمةَ ولا حثيَ. * * * 4309 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يُعرَضُ النَّاسُ يَوْمَ القِيامةِ ثَلاثَ عَرَضاتٍ، فأمَّا عَرْضَتانِ فجدال ومَعاذيرُ، وأمَّا العَرْضَةُ الثَّالثةُ فعِنْدَ ذلكَ تَطَايَرُ الصُّحُفُ في الأَيْدِي فآخِذٌ بيَمينهِ وآخِذ بشِمالِهِ"، ضعيف. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يُعرَض الناس يوم القيامة ثلاثَ عرضات؛ فأما العرضتان فجدال": وهو عبارة عن دفع الذنوب عن الأنفس، لا سيما الكفار المنكرين لإبلاغ الرسل وتكذيبهم الأنبياء. "ومعاذيرُ": جمع معذرة، وهي عبارة عن اعترافِ العبد بالذنوب والاعتذارِ عنها بالسهو والاضطرار ونحو ذلك. "وأما العرضة الثالثة": فلقطعِ الخصومات، وإظهارِ الحق، وتقويةِ قول الأنبياء، وتأكيدِ شهادة الحفظة على صدق العبد أو كذبه. "فعند ذلك تطاير": أصله تتطاير؛ أي: تتفرق. "الصحف": جمع صحيفة، وهي المكتوب. "في الأيدي، فآخذ بيمينه"؛ أي: بعضهم يأخذ كتابه بيمينه، وهم أهل السعادة.

"وآخذٌ بشماله"؛ أي: بعضهم يأخذ كتابه بشماله، وهم أهل الشقاوة. "ضعيف". * * * 4310 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله يَسْتَخْلِصُ رَجُلاً منْ أُمَّتي على رُؤُوسِ الخَلائِقِ يَومَ القِيامَةِ، فيَنْشُر عليهِ تِسْعَةً وتسعينَ سِجلًا، كُلُّ سِجل مِثلُ مَدِّ البَصَرِ، ثُمَّ يقولُ: أتُنْكِرُ مِنْ هذا شَيْئاً؟ أَظَلَمَكَ كتَبَتي الحافِظونَ؟ فيقولُ: لا، يا رَبِّ! فيقولُ: أفلَكَ عُذر؟ قالَ: لا، يا رَبّ! فيقولُ: بَلَى، إنَّ لكَ عِنْدَنا حَسَنةً، وإنَّهُ لا ظُلْمَ عَلَيكَ اليَوْمَ، فتُخرَجُ بِطاقة فيها: أَشْهَدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وأنَّ مُحَمَّداً عبدُهُ ورسولُهُ، فيقولُ: احضُرْ وَزنَكَ، فيقولُ: يا رَب! ما هذهِ البطاقَةُ معَ هذهِ السجلاتُ؟ فيقولُ: إنَّكَ لا تُظلَمُ، قال: فتُوضَعَ السِّجلاتُ في كَفَّةٍ والبطاقَةُ في كَفةٍ، فطاشَتِ السِّجلاتُ وثَقُلتِ البطاقَةُ، فلا تثْقُلُ معَ اسم الله شَيْءٌ". "وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله تعالى يستخلِصُ"؛ أي: يختار. "رجلًا من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سِجلاً": وهو الكتاب الكبير. "كل سِجل مثل مدِّ البصر": وهذا عبارة عما ينتهي إليه بصر الإنسان؛ يعني: كل كتاب منها طوله وعرضه مقدار ما يمتد إليه البصر. "ثم يقول: أتنكر من هذا شيئًا؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عُذر؟ قال: لا يا رب، فيقول: بلى، أن لك عندنا حسنة، وإنه لا ظلمَ عليك اليوم، فتُخرَج بِطاقة" بكسر الباء الموحدة: رقعة صغيرة - وهي كلمة كثيرة الاستعمال في البلاد المصرية والشامية - يكتب فيها أمر

عظيم الخطب من أمور المملكة، وتُشدُّ بطاقةٍ من طاقات ريش الحمامة؛ لتذهب بها إلى الحاكم ببلدة من تلك البلاد؛ ليعلم ذلك الأمر، ويسعى في تدبيره. "فيها: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، فيقول"؛ أي: الله تعالى. "احضر وزنك"؛ أي: الوزنَ الذي لك، أو وزنَ عملك. "فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول: إنك لا تظلم، قال: فتوضع السجلات في كِفَّة": بكسر الكاف وفتحها؛ أي: كفة الميزان. "والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات"؛ أي: خفت، والطيش: خفة العقل. "وثقلت البطاقة، فلا يثقلُ مع اسم الله تعالى شيءٌ"؛ أي: لا يقاومه شيء من المعاصي، بل يترجَّح ذكر الله على سائر المعاصي. فإن قيل: الأعمال أعراض لا يمكن وزنها إنما توزن الأجسام. قلنا: إنما يوزن السجلُ الذي كُتِبَ فيه الأعمال. أو أنه تعالى يخلق في كفة ميزان السعداء ثقلاً، وفي كفة ميزان الأشقياء خفة، وهي علامة السعادة والشقاوة. والجوابان على قول من يجري الوزن والميزان على الظاهر، وهو مذهب أهل السنة، وأما من يحمله على المعنى؛ فيقول: إن الوزن في الأجسام علامةٌ يُعرَف بها الربح والخسران، وفي الأعم الذي الآخرة علامة تظهر بها السعادة والشقاوة، نحو بياض الوجوه وسوادها عند المعتزلة والفلاسفة. * * * 4311 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها ذَكَرَت النَّارَ فَبَكَتْ، فقالَ

4 - باب الحوض والشفاعة

رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما يُبكيكِ؟ " قالت: ذَكَرْتُ النَّارَ فبَكيتُ، فهلْ تذكُرونَ أَهْليكُمْ يَوْمَ القِيامةِ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمَّا في ثلاثةِ مَواطِنَ فلا يَذْكُرُ أحد أحدًا: عِنْدَ الميزانِ حتَّى يَعْلَمَ أيَخِفُّ ميزانُه أم يثقُلُ، وعندَ الكتابِ حينَ يُقالُ {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} حتَّى يَعْلَمَ أينَ يقعُ كتابُه أفي يمينهِ أمْ في شِمالِهِ أو منْ وراءِ ظهرِه، وعند الصِّراطِ إذا وُضعَ بينَ ظَهْراني جَهَنَّمَ". "عن عائشة رضي الله عنها: أنها ذكرت النار، فبكت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يبكيك؟ قالت: ذكرتُ النارَ فبكيتُ فهل تذكرون أهليكم يوم القيامة؟ ": خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو مع مَنْ حضرَ من الرجال. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أما في ثلاثة مواطنَ فلا يذكر أحدٌ أحدًا: عند الميزان حتى يعلم أيخفُّ ميزانه أم يثقل، وعند الكتاب حين يقال: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] "؛ أي: خذوه وانظروا ما فيه. "حتى يعلم أين يقع كتابه؛ أفي يمينه، أم في شماله، أو من وراء ظهره"؛ لأن يده تكون مشددة إلى ظهره. "وعند الصراط إذا وُضع"؛ أي: الصراطُ "بين ظَهْراني جهنم"؛ أي: في وسطها. * * * 4 - باب الحَوْضِ والشفاعة (باب الحوض والشفاعة) مِنَ الصِّحَاحِ: 4312 - قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بَيْنا أنا أَسيرُ في الجنَّةِ إذا أَنا بنهْرٍ حافَّتاهُ

قِبابُ الدّرِّ المُجَوَّفِ، قلتُ: ما هذا يا جِبْريلُ؟ قال: هذا الكَوثَرُ الذي أَعْطاكَ ربُّكَ، فإذا طِينُه مِسْكٌ أذفَرُ". "من الصحاح": " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بينا أنا أسيرُ في الجنة إذا أنا": (إذا) هذه للمفاجأة. "بنهر حافتاه"؛ أي: طرفاه. "قِبابُ الدُّر" بكسر القاف: جمع قُبَّة. "المجوف": وهو الذي له جوفٌ. "قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك": و (الكَوْثَر) على وزن فَوْعَل من (الكثرة). قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: الكوثر: الخير الذي أعطاه الله تعالى إياه، وقيل: القرآن والنبوة. "فإذا طينه مسكٌ أذْفَرُ"؛ أي: شديد الرائحة، قيل: الذَّافر بالتحريك: يقع على الطيب والكريه، ويُفرَّق بينهما بما يضاف إليه، أو يوصف به. * * * 4313 - وقالَ: "حَوْضي مَسيرةُ شَهْرٍ، وزَواياهُ سَواءٌ، ماؤُهُ أبيضُ مِنَ اللَّبن، وريحُهُ أَطْيَبُ مِنَ المِسْكِ، وكِيزانُه كنُجومِ السَّماء، مَنْ يشْرَبْ منها فلا يَظمأُ أبدًا". "وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حوضي ميسرةُ شهرٍ، وزواياه": جمع زاوية، وهي الناحية والجانب. "سواء"؛ أي: يستوي طوله وعرضه، وقيل: عمقه أيضًا.

"ماؤه أبيضُ"؛ أي: أشد بياضًا "من اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه": جمع كوز. "كنجوم السماء"؛ أي: كعدد نجومها في الكثرة. "من شرب منها"؛ أي: من الكيزان. "فلا يظمأ أبدًا"؛ لأن الشرب منها علامةٌ للمغفرة، والمغفورُ لا يلحقه ضررُ ظمأ ولا غيره. * * * 4314 - وقال: "إنَّ حَوْضي أَبْعَدُ مِنْ أَيْلَةَ مِنْ عَدَنَ، لهوَ أَشدُّ بَياضاً مِنَ الثَّلْج، وأَحْلَى مِنَ العَسَلِ باللبن، ولاَنيَتُهُ أكثَرُ منْ عَدَدِ النُّجومِ، وإنِّي لأَصُدُّ النَّاسَ عنهُ كما يَصُدُّ الرَّجُلُ إبلَ النَّاسِ عنْ حَوْضهِ"، قالوا: يا رسولَ الله! أتعْرِفُنَا يومئذٍ؟ قال: "نعمْ، لكُمْ سِيما ليستْ لأَحَدٍ مِنَ الأُمَم، تَرِدُونَ عَلَيَّ غُراً مُحَجَّلينَ مِنْ أثرِ الوُضُوءَ". ويُروَى: "تُرَى فيهِ أَبارِيقُ الذَّهَبِ والفِضَّةِ كعَدَدِ نُجومِ السَّماءَ". ويُروَى: "يَغُتُّ فيهِ ميزابانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الجَنَّةِ، أَحَدُهُما مِنْ ذَهَبٍ، والآخَرُ منْ وَرِقٍ". "وقال: إن حوضي أبعد من أَيْلَةَ"؛ أي: من بعد أيلة بفتح الهمزة وسكون الياء: بلد بالساحل من آخر بلاد الشام مما يلي بحر اليمن. "من عدن": آخر بلاد اليمن مما يلي بحر الهند. وقد جاء في حديث ثوبان: "ما بين عدن إلى عُمان"، وفي حديث حارثة: "كما بين صنعاء والمدينة" والتوفيق: أن إخباره عليه السلام عن ذلك على طريق التقريب، لا على سبيل التحديد، والتفاوت من اختلاف أحوال السامعين في

الإحاطة بها علماً. "لهو أشد بياضاً من الثلج، وأحلى من العسل باللبن، ولآنيته أكثرُ من عدد النجوم، وإني لأصدُّ الناسَ عنه"؛ أي: لأمنعهم عن حوضي، قيل: أراد بها: الكفار، ويجوز أن تكون أمة غيره من الأمم. "كما يصدُّ الرجل"؛ أي: يمنع "إبلَ الناس عن حوضه، قالوا: يا رسول الله! أتعرفنا يومئذ، قال: نعم، لكم سِيمَا"؛ أي: علامة. "ليست لأحد من الأمم، تردون عليَّ غُراً": جمع الأغر، وهو الأبيض الوجه. "محجَّلين": المحجل مفعول من (التحجيل)، وهو بياض الأيدي والأرجل إلى المرافق، وهما منصوبان على الحال؛ يعني: علامة أمتي من بين الأمم نورٌ يلوح في أعضاء وضوئهم "من أثر الوضوء"، وبذلك يتميزون عن غيرهم. "وفي رواية أنس - رضي الله عنه -: ترى فيه"؛ أي: في حوضي. "أباريق الذهب والفضة كعدد نجوم السماء". "وفي رواية ثوبان: يغت فيه"؛ أي: يسيل متتابعًا. "ميزابان يمدانه"؛ أي: الحوض. "من الجنة؛ أحدُهما من ذهب، والآخرُ من وَرِقٍ"؛ أي: فضة. * * * 4315 - وقال: "إنِّي فَرَطُكُمْ على الحَوْضِ، مَنْ مرَّ عليَّ شَرِبَ، ومَنْ شرِبَ لمْ يَظْمَأ أَبَداً، لَيَرِدَنَّ عليَّ أَقْوامٌ أعرفُهُمْ وَيعْرِفُونَنِي ثمَّ يُحَالُ بَيْني وبَيْنَهُمْ، فأقولُ: إنَّهمْ مِنِّي، فيُقالُ: إنَّكَ لا تَدري ما أَحْدَثوا بَعْدَكَ، فأقولُ: سُحْقًا سُحْقاً لَمنْ غَيَّرَ بَعْدِي".

"وقال: إني فرطكم"؛ أي: متقدمكم وسابقكم. "على الحوض، من مرَّ عليَّ شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدًا، ليردنَّ علي أقوام أعرفهم ويعرفونني، ثم يحال بيني وبينهم، فأقول: إنهم مني، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقاً سحقاً"؛ أي: بعداً "لمن غيَّر بعدي". * * * 4316 - عن أنس: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "يُحْبَسُ المُؤْمِنونَ يَوْمَ القِيامةِ حتى يهِمُّوا بذلكَ، فيقولونَ: لَوِ استشْفعْنا إلى رَبنا فيُريحُنا منْ مَكانِنا، فيأتونَ آدمَ فيقولونَ: أنتَ آدمُ، أبو النَّاسِ، خَلقَكَ الله بيدِه، وأَسْكَنَكَ جنتهُ، وأَسْجَدَ لكَ ملائكَتَهُ، وعلَّمَكَ أسماءَ كُل شيءٍ، اشفَعْ لنا عِنْدَ ربكَ حتَّى يُريحَنا منْ مكانِنا هذا، فيقولُ: لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكرُ خَطِيئتَهُ التي أَصابَ، أكلَهُ مِنَ الشَّجَرَةِ وقدْ نُهيَ عنها, ولكنِ ائتوا نُوحاً أوَّلَ نبيٍّ بَعَثَهُ الله إلى أَهْلِ الأَرْضِ، فيأتونَ نُوْحاً فيقولُ: لَسْتُ هُناكمْ، ويَذْكرُ خَطِيئتَهُ التي أَصابَ، سُؤالَه ربَّهُ بغيرِ عِلْم، ولكنِ ائتوا إبراهيمَ خليلَ الرَّحمَن". قال: "فيأتونَ إبراهيمَ فيقولُ: إنِّي لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكرُ ثلاثَ كِذْباتٍ كَذَبَهُنَّ، ولكنِ ائتوا مُوْسَى عَبْداً آتاهُ الله التَّوراةَ وكلَّمَهُ وقَرَّبَهُ نَجيًّا، قال: فيَأتونَ مُوْسَى فيقولُ: إنِّي لَسْتُ هُناكُمْ، ويَذْكرُ خَطِيئتَهُ التي أَصابَ، قَتْلَهُ النَّفْسَ، ولكنِ ائتوا عيسَى عبدَ الله ورسولَهُ ورُوحَ الله وكلِمَتَهُ، قال: فيأتونَ عيسَى فيقول: لَسْتُ هُناكُمْ، ولكنِ ائتوا مُحَمَّداً عَبْداً غَفَرَ الله لهُ ما تَقَدَّمَ منْ ذَنْبهِ وما تأخرَ". قال: "فيَأتونَنِي، فأَسْتَأذِنُ على ربي في دارِه، فيُؤْذَنُ لي عَلَيهِ، فإذا رأيتُهُ وَقَعْتُ ساجِداً، فيدَعُني ما شاءَ الله أنْ يَدَعَني، فيقولُ: ارفَعْ مُحَمَّدُ! وقُلْ تُسْمَعْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، وسَلْ تُعْطَهْ"، قال: "فَارْفَعُ رَأْسي، فأُثني على ربي بثناءً وتَحْمِيدٍ! يُعلِّمُنيهِ، ثمَّ أَشْفَعُ فيَحُدُّ لي حَداً فأَخْرُجُ، فأُخْرِجُهُمْ مِنَ

النَّارِ فأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فأَسْتَأذِنُ على ربي في دارِه، فيُؤذَنُ لي عليهِ، فإذا رأيتُهُ وَقَعْتُ ساجِداً، فيدَعُني ما شاءَ الله أنْ يدَعَني، ثُمَّ يقولُ: ارفَعْ مُحَمَّدُ! وقُلْ تُسْمَعْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، وسَلْ تُعطَهْ، قال: فَأَرْفَعُ رَأْسي فَأُثني على رَبي بثَناءٍ وتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنيه، ثمَّ أَشْفَعُ فيَحُدُّ لي حَداً فأَخْرُجُ، فأُدخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ الثَّالِثةَ، فأَسْتأذِنُ على ربي في داره، فيُؤذَنُ لي عليهِ، فإذا رأيتُهُ وَقَعْتُ ساجِدًا، فيدَعُني ما شاءَ الله أن يدَعَني، ثُمَّ يقولُ: ارفَعْ مُحَمَّدُ! وقُلْ تُسْمَعْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، وسَلْ تُعْطَهْ، قالَ: فأَرْفَعُ رَأْسي، فأُثني على ربي بثناءٍ وتَحْميدٍ يُعلِّمُنيهِ، ثُمَّ أَشْفَعُ، فيَحُدُّ لي حَدًا فأَخْرُجُ، فأُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، حتَّى ما يبقى في النَّارِ إلَّا مَنْ قد حَبَسَهُ القُرْآنُ"، أيْ: وَجَبَ عليهِ الخُلودُ، ثُمَّ تلا هذهِ الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} وقالَ: "وهذا المَقَامُ المَحْمُودُ الذي وُعِدَهُ نبيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم - ". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: [قال]- صلى الله عليه وسلم -: يحبس المؤمنون يوم القيامة حتى يُهمُّوا": علي بناء المجهول؛ أي: يقلقوا ويحزنوا. "بذلك": الحبس. "فيقولون: لو استشفعنا": (لو) هذه للتمني؛ أي: لو سألنا أن يُشفَع لنا. "إلى ربنا، فيريحَنا": بالنصب جواب للتمني؛ أي: يزيلنا. "من مكاننا، فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الناس، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء، اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول"؛ أي؟ آدم. "لست هُنَاكم"؛ أي: لست بالمكان الذي تظنونني فيه من الشفاعة، و (هُنا) إذا ألحق به كاف الخطاب يكون للتبعيد عن المكان المشار إليه؛ يعني: أنا بعيد من مقام الشفاعة.

"ويذكر خطيئته التي أصاب": والمفعول محذوف؛ أي: أصابها. "أكلَهُ": بالنصب بدل من (خطيئة)؛ أي: يذكر أكله. "من الشجرة، وقد نهي عنها": الواو للحال. "ولكن ائتوا نوحاً أوَّلَ نبي بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض": أراد بهم الكفار. "فيأتون نوحًا، فيقول: لست هُنَاكم، ويذكر خطيئته التي أصاب؛ سؤالَهُ": بالنصب أيضًا. "ربَّه بغير علم": وهو قوله: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]. "ولكن ائتوا إبراهيمَ خليلَ الرحمن، قال: فيأتون إبراهيم، فيقول: إني لست هُنَاكم، ويذكر ثلاث كذبات كذبهن": إحداها: إني سقيم، والثانية: بل فعله كبيرهم هذا، والثالثة: قوله لزوجته سارة: هي أختي، وسميت كذبات، وإن كان الخليل عليه السلام أتى بها في صورة المعاريض؛ لكونها في صورة الكذب، والكاملُ قد يؤاخَذ بما هو عبادة في حقِّ غيره، فإن حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين. "ولكن ائتوا موسى - عليه الصلاة والسلام - عبدًا آتاه الله التوراة، وكلَّمه وقرَّبه نجياً، قال: فيأتون موسى فيقول: إني لست هُنَاكم، ويذكر خطيئته التي أصاب قتلَهُ النفسَ"؛ يعني: القبطي. "ولكن ائتوا عيسى عبدَ الله ورسولَهُ، وروحَ الله وكلمته، قال: فيأتون عيسى فيقول: لست هُنَاكم": إنما قال كذا مع أن خطيئته غير مذكورة، لعله كان لاستحيائه من افتراء النصارى في حقه بأنه ابن الله عز وجل. "ولكن ائتوا محمدًا صلى الله تعالى عليه وسلم عبدًا غفر الله تعالى له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال: فيأتونني، فاستأذن على ربي في داره"؛ أي:

تحت عرشه، وقيل: التي دورها لأنبيائه وأوليائه، وهي الجنة؛ لقوله تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ}، إضافةُ الدار إلى الله تعالى إضافةُ تشريف وتكريم. والمراد من الاستئذان: طلب الأذن من الله تعالى أن يؤذن له - صلى الله عليه وسلم - في الشفاعة، فيقوم - صلى الله عليه وسلم - في مقام لا يقوم فيه سائلٌ إلا أجيب، ولا يقفُ فيه داع إلا استجيب؛ إذ الشفيع لا بد له أن يقوم أولًا مقامَ الكرامة؛ لتقعَ الشفاعة موقعها. "فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته": بارتفاع الحجاب عني. "وقعت ساجداً": خوفًا منه وإجلالًا له. "فيدعني"؛ أي: يتركني في السجود. كما شاء الله تعالى أن يدعني، فيقول"؛ أي: الله تعالى. "ارفعْ، محمَّد! "؛ أي: ارفع رأسك في السجود يا محمَّد. "وقيل"؛ أي: ما شئت. "تُسمَعْ": على صيغة المجهول بالجزم جوابًا للأمر؛ أي: يسمع قولك. "واشفعْ تشفَّعْ": بتشديد الفاء علي بناء المجهول؛ أي: تقبل شفاعتك. "وسلْ تعطَه": الضمير لما مسألة؛ أي: تعطَ ما تَسألُ. وإنما لم يُلهموا أولًا أن يستشفعوا محمدًا عليه الصلاة والسلام؛ ليظهر على جميع المخلوقين أن المقام خاصٌ له. "قال: فأرفع رأسي، فأُثني على ربي بثناء وتحميد يُعلّمنيه، ثم أشفعْ، فيحدُّ لي حداً"؛ أي: يعين لي حدًا معلوما لا أتجاوز عنه مثل أن يقول: شفعتك فيمن أخل بالصلاة، وكذا تقبل الشفاعة في كل طور في طائفة من العاصين، كمن أخلَّ بالزكوات، وارتكب سائر المنهيات. "فأخرج"؛ أي: من تلك الدار.

"فأخرجهم من النار": أراد بالنار: شدة الحرِّ من دنو الشمس، وبالإخراج الخلاص منها. "فأدخلهم الجنة، ثم أعود الثانية، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقول: ارفعْ، محمد! " رأسَك، "وقيل تُسمَع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم أشفع، فيحدُّ لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة، ثم أعود الثالثة، فأستأذن على ربي في داره، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيته وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله تعالى أن يدعني، ثم يقول: ارفع، محمَّد! وقيل تسمع، واشفع تشفع، وسل تعطه، قال: فأرفع رأسي، فأثني على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، ثم اشفع، فيحدُّ لي حداً، فأخرج، فأدخلهم الجنة حتى ما يبقى في النار إلا من قد حبسَهُ القرآنُ"؛ أي: منعه حكمُ القرآن، وهم الكفار. "أي: وجب عليه الخلودُ": قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6)} [البينة: 6]. "ثم تلا هذه الآية: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] , وقال: وهذا المقام المحمود الذي وُعِده نبيُّكم" - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4317 - وعن أنس - رضي الله عنه - قالَ: إذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ ماجَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ في بَعْضٍ، فيأتُونَ آدمَ، فيقولونَ: اِشْفَعْ لنا إلى ربكَ، فيقولُ: لَسْتُ لها, ولكنْ عَلَيكُمْ بإبراهيمَ فإنَّهُ خَليلُ الرَّحْمنِ، فيأتونَ إبراهيمَ فيقولُ: لَسْتُ لها, ولكنْ عَلَيكُمْ بموسَى فإنَّهُ كَليمُ الله، فيأتونَ موسَى فيقولُ: لَسْتُ لها, ولكنْ عليكُمْ بعيسَى فإنَّهُ رُوحُ الله وكَلِمَتُهُ، فيأتونَ عيسَى فيقولُ: لستُ لها, ولكنْ عليكُمْ

بمُحَمَّدٍ، فيأتوننَي فأقولُ: أنا لها، فأَسْتاذِنُ على ربي فَيُؤذَنُ لي، ويُلهِمُني مَحامِدَ أَحْمَدُهُ بها لا تَحْضُرُني الآنَ، فأَحْمَدُهُ بتلكَ المَحامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِداً فيُقال: يا مُحَمَّدُ! اِرفَعْ رأسَكَ، وقُلْ تُسْمَعْ، وسَلْ تُعطَة، واشْفَع تُشَفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقالُ: اِنْطَلِقْ فأَخْرِجْ منها مَنْ كانَ في قلبهِ مِثقالُ شَعيرةٍ منْ إيمانٍ، فأَنْطَلِقُ فأَفْعَلُ، ثُمَّ أَعُودُ فأَحْمَدُهُ بتِلكَ المَحامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِداً، فيُقال: يا مُحَمَّدُ! ارفَعْ رأسَكَ، وقُلْ تُسمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقَالُ: اِنْطَلِقْ فأَخْرِجْ مَنْ كانَ في قَلْبهِ مِثقالُ ذرَّةٍ أو خردلةٍ مِن إيمانٍ، فأَنطَلِقُ فَأَفْعَلُ، ثمَّ أَعُودُ فأحمدُهُ بتلكَ المَحامِدِ، ثمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِداً، فيُقالُ: يا مُحَمَّدُ! اِرْفَعْ رأْسَك، وقُلْ تُسْمَعْ، وسَل تُعطَهْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! أُمَّتي، أُمَّتي، فيُقالُ: اِنْطَلِقْ فأخرِجْ مَنْ كانَ في قَلْبهِ أَدْنَى أدنَى أدنىَ مِثْقالِ حَبَّةِ خَرْدلةٍ مِنْ إيمانٍ فأَخْرِجْهُ مِنَ النَّارِ، فأَنْطَلِقُ فأَفْعَلُ، ثمَّ أعودُ الرَّابعةَ فأَحْمَدُهُ بتلكَ المَحامِدِ، ثُمَّ أَخِرُّ لهُ ساجِداً، فيقالُ: يا مُحَمَّدُ! اِرفَعْ رأْسَكَ، وقُلْ تُسْمَعْ، وسَلْ تُعطَهْ، واشفَعْ تُشفَّعْ، فأقولُ: يا رَبِّ! ائْذَنْ لي فيمَنْ قالَ: لا إله إلَّا الله، قال: ليسَ ذلكَ لكَ، ولكنْ وعِزَّتي وجَلالي وكِبريائي وعَظَمتي، لأُخْرِجَنَّ منها مَنْ قال: لا إله إلَّا الله". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان يوم القيامة ماجَ الناس"؛ أي: اختلط. "بعضُهم في بعض": مقبلين مدبرين حَيارى. "فيأتون آدم عليه السلام، فيقولون: اشفع لنا إلى ربك، فيقول: لست لها"؛ أي: للشفاعة. "ولكن عليكم بإبراهيم"؛ أي: الزموه؛ فالباء زائدة، أو تشفعوا وتوسلوا به؛ فالباء غير زائدة.

"فإنه خليل الرحمن، فيأتون إبراهيم عليه السلام، فيقول: لست لها، ولكن عليكم بموسى؛ فإنه كليم الله تعالى، فيأتون موسى عليه السلام، فيقول: لست لها؛ ولكن عليكم بعيسى؛ فإنه روح الله تعالى وكلمته، فيأتون عيسى، فيقول: لست لها؛ ولكن عليكم بمحمد، فيأتونني، فأقول: أنا لها، فأستأذنُ على ربي، فيؤذن لي، ويلهمني"؛ أي: يلقي في رُوْعي. "محامدَ": جمع (حَمْد) على غير قياس، كـ (محاسن) جمع حُسن، أو جمع: مَحْمَدَة. "أحمده بها"؛ أي: بتلك المحامد، والجملة صفة (المحامد). "لا تحضرني الآن، فأحمده بتلك المحامد، وأَخِرُّ له"؛ أي: أسقط على الأرض لربي "ساجداً"؛ لشفاعة أمتي. "فيقال: يا محمدا ارفعْ رأسك، وقيل تُسمَع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي"؛ أي: ارحمْ أمتي، وتفضل عليهم بالكرامة، كرَّره للتأكيد. "فيقال: انطلق فأخرج منها من كان في قلبه مثقال شعيرة"؛ أي: وزن شعيرة. "من إيمان": والمثقال: ما يُوزَنُ به، قيل: هذا مثل في معرفة الله تعالى، لا في الوزن؛ لأن الإيمان ليس بجسم يحصره وزن أو قيل، لكن المعقول قد يُمثَّلُ بالمحسوس؛ ليعلم. "فانطلق فافعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمَّد! ارفعْ رأسك، وقيل تُسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول:

يا رب! أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه مثقال ذرة"؛ أي: وزنها. "أو خردلة من إيمانٍ": والمراد به: أدق ما يفرض من الإيمان بحيث ينتهي إلى أنه لا يقبل قسمةً بعدُ، وأن ليس بعده إلا الكفر الصريح؛ إذ الإيمانُ كلما قلَّ قَرُبَ من الكفر حتى ينتهي إليه، هذا على مذهب من يجوِّز التجزئةَ من الإيمان؛ وأما من لم يجوِّز التجزئةَ؛ فيقول: المراد به: القلة من أعمال الخير مع قطع النظر عن شيء آخر، وإلا فالإيمان الذي هو التصديق القلبي لا تدخله التجزئة. "فأنطلق فأفعل، ثم أعود، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمَّد! ارفع رأسك، وقيل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! أمتي أمتي، فيقال: انطلق فأخرج من كان في قلبه أدنى أدنى أدنى مثقال حبَّة من خردل من إيمان، فأخرجْهُ من النار، فانطلق فأفعل، ثم أعود الرابعة، فأحمده بتلك المحامد، ثم أخِرُّ له ساجداً، فيقال: يا محمدا ارفع رأسك، وقيل تسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فأقول: يا رب! ائذنْ لي فيمن قال: لا إله إلا الله، قال: ليس ذلك لك"؛ أي: ليس إخراجهم من النار إليك، فاللام بمعنى: (إلى)، أو ليس إخراجهم منها لأجلك، بل إنَّا أحِقَاءُ أن نفعلَ ذلك كرما وتفضلاً وإجلالاً لتوحيدي وتعظيمًا لاسمي. "ولكن وعزتي": الواو فيه للقسم. "وجلالي وكبريائي وعظمتي، لأخرجنَّ منها من قال: لا إله إلا الله": يعلم من هذا أن إخراج من لم يعمل خيراً قط في الدنيا سوى كلمة الإخلاص خارجٌ عن حدِّ الشفاعة، بل موكولٌ إلى محضِ الكرم. * * *

4318 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أَسْعَدُ النَّاسِ بشفاعَتي يَوْمَ القِيامَةِ مَنْ قال: لا إله إلَّا الله خالِصاً مِنْ قَلْبهِ - أو: - نفْسِهِ ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أسعدُ الناس بشفاعتي يومَ القيامة": أفعل التفضيل هنا للزيادة المطلقة. "من قال: لا إله إلا الله خالصًا من قلبه، أو نفسه": شك من الراوي. والمراد به: أن لا يشوبه شرك، ولا نفاق. قيل: التوفيق بين هذا الحديث وبين الحديث المتقدم: أن المراد بالأول إخراجُ جميع الأمم الذين آمنوا على أنبيائهم، لكنهم استوجبوا النار، والمراد بالثاني: من قال؛ لا إله إلا الله من أمته - صلى الله عليه وسلم -. أو المراد بالأول: قائل هذه الكلمة بلا عمل أصلًا، والمراد بالثاني: الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا. والشفاعةُ تُوجدُ على طرق شتى، منها الشفاعة في المحشر حيث يطول بهم القيام، ومنها عند ورود الحوض، وعند اختلاف السبيلين، وعند الجواز على الصراط وغيرها، فالمؤمن المطيع غير العاصي والمؤمن المطيع العاصي سعيدان بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - في جميع تلك المقامات. * * * 4319 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: أُتيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بلَحْمٍ، فرُفِعَ إليهِ الذِّراعُ، وكانتْ تُعْجبُهُ، فَنَهَسَ منها نهسَةً، ثُمَّ قالَ: "أنا سَيدُ النَّاسِ يومَ القِيامَةِ، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، وتَدنُو الشَّمْسُ فيَبلُغُ النَّاسُ مِنَ الغَمِّ والكَرْبِ ما لا يُطيقونَ، فيقولُ النَّاسُ: ألا تنظُرونَ مَنْ يَشْفَعُ لكُمْ إلى رَبكُمْ؟ فيأتونَ آدمَ"، وذَكرَ حَدِيْثَ الشَّفاعَةِ، وقال: "فأَنْطَلِقُ، فآتي تَحْتَ العَرْشِ، فَأَقَعُ

ساجِداً لربي، ثُمَّ يَفْتَحُ الله عَلَيَّ مِنْ مَحامِده وحُسْنِ الثَّنَاء عليهِ شيئًا لمْ يَفتحْهُ على أَحَدٍ قَبلي، ثُمَّ يُقالُ: يا مُحَمَّدُ! ارفَعْ رأَسكَ، سَلْ تُعطَهْ، واشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسي فأقولُ: أُمَّتي، يا رَبِّ! أُمَّتي يا رَبِّ، أُمَّتي ياربِّ، فيقالُ: يا محمدُ! أَدْخِلْ منْ أُمَّتِكَ مَنْ لا حِسابَ عليهمْ من الباب الأيمنِ من أبوابِ الجنَّةِ وهم شركاءُ النَّاسِ فيما سِوَى ذلك مِنَ الأَبْوابِ. ثُمَّ قال: والذي نفْسي بيدِه إنَّ ما بينَ المِصْراعَيْنِ منْ مَصاريعِ الجَنَّةِ كما بينَ مكَّةَ وهَجَرَ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أُتِي النبي - صلى الله عليه وسلم - بلحم، فرُفع إليه الذراع، وكانت"؛ أي: الذراع، وهو يذكر ويؤنث. "تعجبه"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لسمنها وحسن طبخها. "فنهس منها نهسةً"؛ أي: أخذ ما عليها بمقدَّم أسنانه. "ثم قال: أنا سيدُ ولد آدم يوم القيامة"؛ يعني: أن جميع الناس يوم القيامة من الأنبياء وغيرهم محتاجون إلى شفاعتي؛ لكرامتي عند الله، فإذا اضطروا أتوا إليَّ طالبين لشفاعتي لهم. "يوم يقوم الناس لرب العالمين": يحتمل أن يكون جواب سائل قائل: ما يوم القيامة؟ ويحتمل أن يكون بدلًا لـ (يوم القيامة). "وتدنو الشمس"؛ أي: من الغروب، أو من رؤوس الناس في العرصات. "فيبلغ الناس من الغمِّ والكرب ما لا يطيقون، فيقول الناس: ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيأتون آدم، وذكر"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "حديث الشفاعة، وقال: فأنطلق فآتي تحت العرش، فأقع ساجداً لربي، ثم يفتح الله تعالى عليَّ من محامِده وحُسنِ الثناء عليه شيئًا لم يفتحه على أحد قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، سل تعطه، واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب! أمتي يا رب! أمتي يا رب! فيقال: يا محمد! أدخل

من أمتك من لا حسابَ عليهم" من الباب الأيمن من أبواب الجنة، وهم شركإءُ الناس فيما سوى ذلك "من الأبواب، ثم قال: والذي نفسي بيده إن ما بين المصراعين": وهما قطعتا باب واحد، تغلقان على منفذ واحد، وهو مِفْعال من (الصرع)، وهو الإلقاء، سمي الباب به؛ لأنه كثير الدفع والإلقاء. "من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر": يحتمل أن يكون هجر؛ الذي هو قرية من قرى المدينة، وأن يكون هجر البحرين، وهي قرية من قراها؛ يعني: مسافة ما بينهما كمسافة ما بين مكة وهجر. * * * 4320 - وعن حُذَيْفةَ - رضي الله عنه - في حَديثِ الشَّفاعَةِ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "وتُرْسلُ الأَمانةُ والرَّحِمُ فيقومانِ جَنَبَتَيْ الصِّراطِ يَمينًا وشِمالاً". "وعن حذيفة - رضي الله عنه - في حديث الشفاعة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: تُرسَلُ الأمانةُ والرحمُ"؛ يعني: أن الأمانة والرحم لعظم شأنهما وفخامة ما يلزم العباد من رعاية حقهما يُمثَّلان هنالك للأمين والخائن، والواصل والقاطع. "فتقومان جَنَبَتي الصراطِ": و (الجنبة) بفتحتين؛ بمعنى: الجانب. "يمينًا وشمالاً": يقوم أحدهما من هذا الجانب، والآخر من ذاك، وتحاجَّان عن المحق، وتشهدان على المبطل؛ ليتميز كلٌّ منهما، وقيل: يرسل من الملائكة من يحاج لهما، وفي هذا من الحث على رعاية حقوقهما. * * * 4321 - عن عَبْدِ الله بن عَمْرِو بن العاصِ: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - تَلا قولَ الله تعالى في إبراهيمَ: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي}، وقالَ عيسَى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ}، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وقالَ: "اللهمَّ أُمَّتي أُمَّتي". وبَكَى،

فقالَ الله عز وجل: يا جِبْريلُ اِذهَبْ إلى مُحَمَّدٍ وربُّكَ أعلَمُ فسَلْهُ ما يُبكيهِ؟ فأتاهُ جِبْريلُ فَسَألَهُ، فأَخْبَرَهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بما قالَ، فقالَ الله لِجبْريلَ: اِذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ فقُلْ: إنَّا سَنُرْضيْكَ في أُمَّتِكَ ولا نَسُوؤُكَ. "عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قول الله تعالى في إبراهيم"؛ أي: في حقه عليه السلام: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)} [إبراهيم: 36]. "وقال عيسى عليه الصلاة والسلام"؛ أي: قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] فرفع يديه فقال: اللهم أمتي أمتي، وبكى، فقال الله - صلى الله عليه وسلم -: يا جبريل! اذهب إلى محمَّد، وربك أعلم، فاسأله ما يبكيه؟ فأتاه جبريل عليه الصلاة والسلام، فسأله, فأخبره على بما قال، فقال الله تبارك وتعالى لجبريل: اذهب إلى محمَّد، فقل: إنا سنرضيكَ في أمتك، ولا نَسُوءُكَ". * * * 4322 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - أنَّ ناساً قالوا: يا رسولَ الله! هلْ نرى رَبنا يومَ القِيامَةِ؟ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نعَمْ، هلْ تُضارُّونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ بالظَّهيرةِ صحْوا ليسَ مَعَها سَحاب، وهلْ تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ صَحْوا ليسَ فيها سَحاب؟ " قالوا: لا يا رسولَ الله، قال: كما تُضَارُّونَ في رُؤْيَةِ الله يومَ القِيامةِ إلَّا كما تُضارُّونَ في رُؤْيةِ أحدِهِما، إذا كانَ يومُ القِيامةِ أذَّنَ مُؤذِّن: لِيتَّبعْ كُلُّ أُمَّةٍ ما كانتْ تَعبُدُ، فلا يَبقَى أحدٌ كانَ يَعبُدُ غيرَ الله مِنَ الأَصْنامِ والأنصابِ إلَّا يتساقَطُونَ في النَّارِ، حتَّى إذا لمْ يَبْقَ إلَّا مَنْ كانَ يَعْبُدُ الله من بَرٍّ وفاجِرٍ أتاهُمْ رَبُّ العالَمينَ قال: فَماذا تَنتظِرونَ؟ يتَّبعُ كُلُّ أمّةٍ ما كانتْ تعبُدُ، قالوا: يا رَبنا فارَقْنا النَّاسَ في الدُّنيا أفقَرَ ما كُنَّا إلَيْهمْ ولمْ نصُاحِبْهُمْ".

وفي رِوايةِ أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: "فيقولونَ: هذا مَكانُنا حتَّى يأتِينَا ربنا، فإذا جاءَ ربنا عَرَفْناه". وفي رِواية أَبي سعيدٍ - رضي الله عنه -: "فيقولُ: هلْ بَيْنَكُمْ وبينَهُ آيةٌ تَعرِفُونهُ؟ فيقولون: نعَم، فيُكشَفُ عنْ ساقٍ فلا يَبقَى مَنْ كانَ يَسْجُدُ لله مِنْ تِلقاءَ نفسِه إلَّا أَذِنَ الله لهُ بالسُّجودِ، ولا يَبقَى مَنْ كانَ يَسْجُدُ اتِّقاءً ورِياءً إلَّا جَعَلَ الله ظَهْرَهُ طَبقةً واحِدَةً، كُلَّما أَرادَ أنْ يَسْجُدَ خَرَّ على قَفاهُ، ثمَّ يُضرَبُ الجسْرُ على جَهَنَّمَ وتَحِلُّ الشَّفَاعةُ، ويقولونَ: اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، فَيَمُرُّ المُؤْمِنونَ كطَرْفِ العَيْنِ وكالبَرْقِ وكالرِّيح وكالطَّيرِ وكأجاوِيدِ الخَيْلِ والرِّكابِ، فناجٍ مُسَلَّمٌ، ومَخدوشٌ مُرْسَل ومَكْدوسٌ في نارِ جهنم، حتَّى إذا خَلَصَ المُؤْمِنونَ مِنَ النَّارِ، فوالَّذي نَفْسي بيدِه ما مِنْ أَحَدٍ منكُمْ بأَشَدَّ مُناشَدَةً في الحَقِّ، وقدْ تبينَ لكُمْ، مِنَ المُؤْمنينَ لله يومَ القِيامةِ لإخْوانِهمُ الذينَ في النَّارِ، يقولونَ: ربنا كانوا يَصومونَ مَعَنا، ويُصْلُّونَ معنا، ويَحُجُّونَ معنا، فيُقالُ لهمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرفْتُمْ، فتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ على النَّارِ، فيُخرِجونَ خَلْقًا كثيراً ثُمَّ يقولونَ: ربنا ما بقيَ فيها أَحَد مِمَّنْ أَمَرْتَنا بهِ، فيقولُ: اِرجِعُوا فمَنْ وَجَدْتُمْ في قلبهِ مِثْقالَ دِينارٍ منْ خَيْرٍ فأَخْرِجوهُ، فيُخْرِجونَ خَلْقاً كثيرًا، ثُمَّ يقولُ: اِرجِعُوا فمَنْ وَجَدتُمْ في قلبهِ مِثقالَ نِصْفِ دِينارٍ منْ خَيْرٍ فأخرِجُوهُ، فيُخْرِجونَ خَلْقاً كثيرًا، ثُمَّ يقولُ: اِرجِعُوا فمَنْ وَجَدْتُمْ في قلبهِ مِثقالَ ذرَّةٍ منْ خَيْرٍ فأَخْرِجُوهُ، فيُخرِجونَ خَلْقاً كثيرًا، ثمَّ يقولونَ: ربنا لمْ نَذَرْ فيها خَيْراً، فيقولُ الله شَفَعَت الملائِكةُ، وشَفعَ النبيونَ، وشَفَعَ المُؤْمِنونَ، ولمْ يَبقَ إلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمينَ، فيقْبضُ قَبْضَةً مِنَ النارِ، فَيُخْرِجُ مِنْها قَوْما لم يَعْمَلوا خَيْراً قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَماً، فَيُلْقِيهِمْ في نَهْرٍ في أَفْوَاهِ الجَنَّةِ يُقالُ لهُ: نهرُ الحياةِ، فيَخْرُجُونَ كما تَخْرُجُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ، فيَخرُجونَ كاللُّؤْلؤِ في رِقابهِمُ الخَواتِمُ، فيقولُ أهلُ الجنَّةِ: هؤلاءَ عُتَقاءُ الرَّحْمنِ، أَدْخَلَهُمُ الجنَّةَ بغيرِ عَمل عَمِلُوهُ، ولا خَيرٍ قَدَّموهُ، فيُقالُ لهمْ: لكُمْ ما رأَيْتُمْ ومِثلُهُ مَعَهُ".

" عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن ناسًا قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال عليه السلام: نعم، هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صحوًا ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحوًا ليس فيها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول الله! قال: ما تضارون في رؤية الله تعالى يوم القيامة، إلا كما تضارون في رؤية أحدهما، إذا كان يوم القيامة أذن مؤذنٌ؟ لتتبعْ كلُّ أمة ما كانت تعبد، فلا يبقى أحدٌ كان يعبد غير الله من الأصنام ": بيان (غير الله): جمع صنم، " والأنصاب ": جمع (نُصْب) بالفتح والضم وسكون الصاد، وقد يحرك مع الضم، وهو ما نُصِب من الحجارة، فعُبد من دون الله تعالى. " إلا يتساقطون في النار، حتَّى إذا لم يبقَ إلا من كان يعبد الله تعالى مِنْ برٍّ أو فاجرٍ، أتاهم ربُّ العالمين "؟ أي: أمره، وقيل: يجوز أن يعبَّر بالإتيان عن التجليات الإلهية، والتعريفات الربانية. " قال: فماذا تنظرون؟ تتبعُ كلُّ أمة ما كانت تعبُدُ، قالوا: يا ربنا! فارقنا الناسَ ": والمراد بالناس هنا: هم الذين عبدوا غيرَ الله تعالى. " في الدنيا أفقرَ ": منصوب على أنَّه حال من ضمير (فارقنا). " ما كنا إليهم ": (ما) هذه مصدرية؛ أي: أفقر زمان كوننا إليهم. " ولم نصاحبهم ": والمعنى: فارقناهم في الدنيا على تلك الحال من شدة افتقارنا واحتياجنا إلى ما في أيديهم من الأمور الدنيوية، فمفارقتنا إياهم الآن أولى مع عدم الاحتياج إليهم في أمرٍ ما أصلًا. " وفي رواية أبي هريرة - رضي الله عنه -: فيقولون: هذا مكاننا حتَّى يأتينا ربنا، فإذا جاء ربنا عرفناه ". " وفي رواية أبي سعيد - رضي الله عنه -: فيقولون: هل بينكم وبينه "؟ أي: بين الله.

" آية "؟ أي: علامة. " تعرفونه "؟ أي: ربكم بتلك الآية، وهي المعرفة والمحبة والإيمان. " فيقولون: نعم، فيكشفُ عن ساقٍ ": قد مرَّ تفسير كشفِ الساق في (بابٌ: لا تقوم الساعة). " فلا يبقى من كان يسجد لله تعالى من تلقاء نفسه إلا أذن الله تعالى له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجدُ لله تعالى اتقاءٌ "؟ أي: من العباد والسيف. " ورياء إلا جعل الله تعالى ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خَرَّ "؟ أي: سقط. " على قفاه، ثم يُضرَب الجسرُ على متن جهنم، وتحلُّ الشفاعة، ويقولون "؟ أي: الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - طلبًا للسلامة لأمتهم. " اللهم سلِّمْ سلِّمْ ": أمر من التسليم، وهو: جعل الشخص سالمًا من الآفة، والثاني تأكيد للأول؛ أي: اجعل أمتي سالمين من ضرر الصراط والسقوط في النار. " فيمرّ المؤمنون كطرفة العين ": يقال: طرف طرفًا: إذا أطبق أحدَ جفنيه على الآخر، والتاء للوحدة. " وكالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الخيل ": جمع: أجود، وجواد، وهو الفرس السابق الجيد. " والركاب ": وهو الإبل التي يُسارُ عليها، الواحدة: راحلة، ولا واحدَ لها من لفظها. " فناجٍ مُسلَّم "؟ أي: فالناس بالإضافة إلى المرور على ثلاث طبقات: الأولى: ناجون سالمون من الآفات، وهم المؤمنون الذين ذكر مرورهم قبلُ.

" ومخدوش "؟ أي: الثانية: مخدوش؛ أي: الَّذي خُدِش جلده؛ أي: جُرِح بالكلاليب من عصاة أهل الإيمان. " مُرسَلٌ "؟ أي: مطلق عن القيد والغل بعد أن عُذِّبوا مدة. " ومكدوش "؟ أي: الثالثة: مكدوش؛ أي: مغلول مقيد بالسلاسل والأغلال " في نار جهنم ": وهم الكفار. ويروى: بالسين المهملة؛ أي: مدفوع في النار من وراء ظهره. " حتَّى إذا خَلَص المؤمنون من النار ": (حتَّى) غاية لمرور البعض على الصراط وسقوط البعض في النار. " فوالذي ": الفاء جواب (إذا)، والواو للقسم. " نفسي بيده ما من أحد ": (من) فيه زائدة للاستغراق، و (أحد) اسم (ما). " منكم ": صفة لـ (أحد). " بأشد ": خبر (ما). " مناشدة ": نصب على التمييز؛ أي: مطالبة ومناظرة، من نشدت الضالة: إذا طلبتها. " في الحق "؟ أي: في أمر الحق، وهو ظرف لـ (مناشدة). " قد تبين لكم ": نصب على الحال؛ أي: ظهر لكم الحق. " من المؤمنين ": متعلق بـ (أشد). " لله ": متعلق بـ (المناشدة). " يوم القيامة ": متعلق أيضًا بـ (أشد). " لإخوانهم "؟ أي: لأجل نجاة إخوانهم. " الذين في النار ": تلخيصه: لا يكون أحدٌ منكم أكثر اجتهادًا ومبالغة في

طلب الحق حين ظهوره من المؤمنين في طلب خلاص إخوانهم العصاة في النار من النار يوم القيامة. " يقولون: ربنا! كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا! ما بقي فيها أحدٌ ممن أمرتنا به، فيقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقول: ارجعوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقًا كثيرًا، ثم يقال: ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف ذرة من خير، فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرًا، ثم يقولون: ربنا لم نذرْ فيها "؟ أي: لم نترك في جهنم " خيرًا "؟ أي: أهل خير. " فيقول الله تعالى: شفعت الملائكةُ، وشفع النبيون، وشفع المؤمنون، ولم يبقَ إلا أرحمُ الراحمين، فيقبض قبضةً من النار ": القبضة: عبارة عما يسعه الكفُّ، والله سبحانه وتعالى منزهٌ عن الجوارح؛ فإنها صفة الأجسام، ومثل هذا من المتشابهات فتركُ الخوض فيها أقربُ إلى السلامة. " فيخرج الله منها قومًا لم يعملوا خيرًا قط قد عادوا حُمَمًا ": جمع حممة، وهي الفحم؛ أي: قد صاروا محترقين سُودًا مثل الفحم. " فيلقيهم في نهر في أفواهِ الجنّة ": صفة نهر؟ أي: في أوائلها ومقدماتها وطرقها، يقال: فوهة الطريق، والجمع: (أفواه) على غير قياس. " يقال له: نهر الحياة، فيخرجون كما تخرجُ الحِبَّة " بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة: اسم جامع لحبوب البقول التي تنتشر إذا هبت الريح، ثم إذا أمطرت السماء من قابل نبتت.

" في حَميلِ السيل "؟ أي: محموله من طين ونحوه، فإذا اتفقت فيه حبة، واستقرت على شطِّ مجرى السيل، تنبت في يوم وليلة، فشبَّه بها سرعةَ عود أبدانهم وأجسامهم إليهم بعدَ إحراق النار لها. وفيه دليلٌ على أن العاصي لا يخلد في النار، وعلى تفاضل الناس في الإيمان. " فيخرجون كاللُّؤْلؤ في رقابهم ": جمع رقبة. " الخواتم ": جمع خاتم، والمراد بها: العلامة، وتعليق الخواتم؛ ليمتازوا عن المغفورين بواسطة العمل الصالح. " فيقول أهل الجنّة: هؤلاء عتقاءُ الرحمن، أدخلهم الجنّة بغير عمل عملوه، ولا خير قدَّموه، فيقال لهم "؟ أي: للعتقاء. " لكم ما رأيتم "؟ أي: مدَّ بصركم من فضله الكامل. " ومثله معه "؟ أي: مع ما رأيتم من الدور والقصور. * * * 4323 - وقال: " إذا دَخَلَ أهلُ الجَنَّةِ الجنَّةَ وأهلُ النَّارِ النَّارَ يقولُ الله تعالى: مَنْ كانَ في قَلْبهِ مِثْقالُ حَبَّةٍ منْ خَرْدَلٍ منْ إيمانٍ فأخْرِجُوهُ، فيُخْرَجونَ قدِ امتَحَشُوا وعادُوا حُمَمًا، فيُلقَوْنَ في نهرِ الحياةِ فيَنْبُتونَ كما تَنبُتُ الحِبَّةُ في حَمِيلِ السَّيْلِ، ألَمْ تَرَوْا أنَّها تَخْرُجُ صَفْراءَ مُلتَوِيةً ". " وقال: إذا دخل أهلُ الجنّة الجنّة، وأهلُ النار النارَ، يقول الله تعالى: من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجوه، فيخرجون قد امْتَحَشُوا "؟ أي: احترقوا، والمحش: احتراق الجلد، وظهور العظم. " وعادوا حُممًا، فيُلقَون في نهر الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبَّة في

حميل السيل، ألم تروا أنها تخرج صفراء "؟ أي: خضراء. " ملتوية "؟ أي: مجتمعة. * * * 4324 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّاسَ قالوا: يا رسولَ الله! هلْ نَرَى ربنا يومَ القِيامةِ؟ فذكرَ معنَى حديثِ أبي سعيد - رضي الله عنه - غيرَ كَشْفِ السَّاقِ. وقال: " ويُضْرَبُ الصِّراطُ بينَ ظَهْرانَيْ جَهَنَّمَ، فَأَكُونُ أوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، ولا يَتَكلَّمُ يَومئِذٍ إلَّا الرُّسُلُ، وكلامُ الرُّسُلِ يَومَئِذٍ: اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وفي جَهَنَّمَ كلالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدانِ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِها إلَّا الله، تَخْطَفُ النَّاسَ بأَعْمالِهِمْ، فمِنْهُمْ مَنْ يُوبَقُ بعَمَلِهِ، ومنهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنجُو، حتَّى إذا فَرَغَ الله مِنَ القَضاءِ بينَ عِبادهِ، وأرادَ أنْ يُخْرِجَ مِنَ النَّارِ مَنْ أرادَ أنْ يُخرِجَهُ ممَّنْ كانَ يَشهدُ أنْ لا إله إلَّا الله؛ أَمَرَ الملائِكَةَ أنْ يُخرِجُوا مَنْ كانَ يعبُدُ الله، فيُخرِجونَهُمْ، وَيعْرِفُونَهُمْ بآثارِ السُّجودِ، وحَرَّمَ الله على النَّارِ أنْ تَأَكُلَ أثرَ السُّجودِ، فكُلُّ ابن آدمَ تَأكُلُهُ النَّارُ إلَّا أثرَ السُّجودِ، فيُخرَجونَ مِنَ النَّارِ قدِ امتَحَشُوا، فيُصَبُّ عليهِمْ ماءُ الحَياةِ، فَيَنْبتُونَ كما تنبُتُ الحِبَّةَ في حَميلِ السَّيْلِ، ويَبقَى رَجُلٌ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، وهوَ آخِرُ أهلِ النَّارِ دُخولًا الجَنَّةَ، مُقْبلٌ بوَجهِهِ قِبَلَ النَّارِ، فيقولُ: يا ربِّ اصْرِفْ وَجْهي عنِ النَّارِ، قدْ قَشَبني رِيحُها وأحرَقَني ذَكاؤُها، فيقولُ: هلْ عَسَيْتَ إنْ فُعِلَ ذلكَ بكَ أنْ تسألَ غيرَ ذلك؟ فيقولُ: لا وعِزَّتِكَ، فيُعطِي الله ما شاءَ مِنْ عَهْدٍ ومِيثاقٍ، فيَصرِفُ الله وَجْهَهُ عنِ النَّارِ، فإذا أقبَلَ بهِ إلى الجَنَّةِ رأَى بَهْجَتَها سَكَتَ ما شاءَ الله أنْ يَسكُتَ، ثم قال: يا رَبِّ قَدِّمْني عِندَ بابِ الجنَّةِ، فيقولُ الله تباركَ وتعالَى: أليسَ قدْ أَعطَيْتَ العُهُودَ والمِيثاقَ أنْ لا تَسألَ غيرَ الَّذي كنتَ سألتَ؟ فيقولُ: يا ربِّ لا أَكُونُ أَشْقَى خَلقِكَ، فيقولُ: فما عَسَيْتَ إنْ أُعْطِيْتَ ذلكَ أنْ تسألَ غيرَهُ، فيقولُ:

لا وعِزَّيكَ لا أَسألُك غيرَ ذلكَ، فيُعْطِي ربَّهُ ما شاءَ منْ عَهْدٍ وميثاقٍ، فيُقدِّمُهُ إلى بابِ الجَنَّةِ، فإذا بلغَ بابَهَا فرأَى زَهْرَتَها وما فيها مِنَ النَّضْرَةِ والسُّرورِ، فَسَكَتَ ما شاءَ الله أنْ يَسكُتَ، فيقولُ: يا رَبِّ أَدْخِلْني الجَنَّةَ، فيقولُ الله تباركَ وتعالَى: ويلَكَ يا ابن آدمَ ما أغْدَرَكَ! أليسَ قدْ أَعْطيْتَ العُهودَ والمِيثاقَ أنْ لا تَسألَ غيرَ الَّذي أُعْطِيتَ؟ فيقولُ: يا رَبِّ لا تَجْعَلْني أَشْقَى خَلقِكَ، فلا يزالُ يَدعُو حتَّى يَضْحَكَ الله منهُ، فإذا ضَحِكَ أذِنَ لهُ في دُخُولِ الجَنَّةِ، فيقولُ: تَمنَّ، فيَتمنَّى حتَّى إذا انقَطَعَ أُمنِيَّتُهُ قالَ الله تعالَى: تَمَنَّ كذا وكذا، أَقْبَلَ يُذكِّرُهُ ربُّهُ، حتَّى إذا انتهتْ بهِ الأَمانيُّ قالَ الله تعالَى: لكَ ذلكَ ومِثلُهُ معه ". وقالَ أبو سعيدٍ - رضي الله عنه -: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " قالَ الله تعالَى: لكَ ذلكَ وعَشْرَةُ أَمْثالِهِ ". " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن الناس قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فذكر معنى حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - غير كشف السَّاق، وقال: ويُضرَبُ الصِّراط بين ظَهْرَانيْ جهنم، فأكون أوَّلُ من يَجُوْزُ من الرُّسل بأمته، ولا يتكلم يومئذ إلا الرُّسل، وكلام الرُّسل يومئذ: اللهم سَلِّمْ سَلِّمْ، وفي جهنَّم كلاليب ": جمع كُلَّاب - بالضم والتشديد -، وهو حديدة معوجَّة الرَّأس يُجرَّ الناس بها. " مثل شوك السَّعْدان ": نبت أغبر اللون يأكله كل الدَّواب، وهو عند العرب أطيب مرعى الإبل، وله شوك يشبه حلمة الثدي. " لا يعلم قدر عِظَمها إلا الله، تَخْطَفُ الناس بأعمالهم، فمنهم مَنْ يُوْبَق "؟ أي: يُحْبَسُ " بعمله، ومنهم مَنْ يُخَرْدَلُ "؟ أي: يُقطَّع؛ يعني: تقطعه كلاليب الصراط حتَّى يهوي في النار، ثم ينجو، وقيل: تقطِّع الكلاليب لحمه على الصراط وتخرج أعضاؤه. " ثم ينجو " ولا يقع في النار، يقال: خَرْدَلْتُ اللحم؛ أي: قَطَّعته صغارًا.

" حتَّى إذا فرغ الله من القضاء بين عباده، وأراد أن يُخْرِج من النار مَنْ أراد أن يُخرجه، ممن كان يشهد أن لا إله إلا الله، أمر الملائكة أن يُخْرِجُوا مَنْ كان يعبد الله، فيُخْرِجُونهم وَيعْرِفُونهم بآثار السُّجود، وحرَّمَ الله على النَّار أن تأكل أثر السُّجود، فكل ابن أدم تأكله النار إلا أثر السجود، فيخرجون من النار قد امتَحَشُوا، فيصبُّ عليهم ماء الحياة، فينبتون كما تنبت الحِبَّة في حَمِيْلِ السَّيْل، ويبقى رجل بين الجنّة والنار، وهو آخر أهل النار دخولًا الجنة، مُقْبِلٌ بوجهه قِبَلَ النار، فيقول: يا ربِّ، اصرف وجهي عن النار فقد قَشَبني "؛ أي: آذَاني. " ريحها وأحرقني ذَكَاؤُها "؛ أي: شدَّة وهجها واشتعالها. " فيقول: هل عَسَيْتَ ": استفهام بمعنى التقرير. " إن فُعِلَ ذلك بك ": جملة شرطية يدل على جزائه ما تقدم؛ أي: إن صُرِف وجهك عن النار فهل عسيت " أن تسأل غير ذلك، فيقول: لا وعزَّتك فيعطي الله "؛ أي: الرجلُ ربَّه. " ما شاء من عَهْدٍ وميثاق، فيصرف الله وجهَهُ عن النار، فإذا أقبل به "؛ أي: بوجهه. " على الجنّة، ورأى بهجَتَها "؛ أي: حُسْنَها. " سَكَتَ ما شاء الله أن يَسْكُتَ، ثم قال: يا ربِّ، قدِّمني عند باب الجنّة، فيقول الله تبارك وتعالى: أليس قد أعطيْتَ العهود والميثاق أن لا تسأل غير الَّذي كنت سألْتَ؟ فيقول: يا ربِّ، لا أكون أشقى خلقك، فيقول: فما عسيت إن أُعطيْتَ ذلك أن تسأل غيره؟ فيقول: لا وعزَّتك لا أسألك غير ذلك، فيعطي ربَّه ما شاء الله من عهد وميثاق، فيقدِّمُهُ إلى باب الجنّة، فإذا بَلَغَ بابها، فرأى زهرتَها "، و (الزهرة): البياض، وزهرة الدنيا: نضارتها؛ أي: رأى طيب العيش في الجنّة.

" وما فيها من النَّضْرَة "؛ أي: الحُسْنِ والرَّونق. " والسرور "؛ أي: الفرح. " فسكت ما شاء الله أن يسكُتَ، فيقول: يا ربِّ، أدخلني الجنّة، فيقول الله تبارك وتعالى: ويلك ": عبارة عن الهلاك؛ أي: هلكْتَ هلاكًا. " يا ابن آدم ما أغدَرَكَ ": (ما) فيه إما للتعجب؛ أي: إنك تستحق أن يُتَعَجَّب من كثرة غدرك وثباتك عليه، أو للاستفهام؛ أي: أي شيء صيَّرك غادرًا. " أليس قد أعطيْتَ العهود والميثاق أن لا تسأل غير الَّذي أُعْطِيْتَ "، روي: (أعذرك) - بالعين المهملة والذال المعجمة -؛ معناه: أي شيء جعلك في هذا السؤال معذورًا. " فيقول: يا ربِّ لا تجعلني أشقى خلقك، فلا يزال يدعو "؛ أي: يداوم في دعائه. " حتَّى يضحك الله منه "، ضحكه تعالى: عبارة عن كمال الرضى. " فإذا ضحك أَذِنَ له في دخول الجنّة، فيقول له تمنَّ ": أمر مخاطب من تمنَّيت الشيء: إذا اشتهيته. " فيتمنَّى حتَّى إذا انقطع أُمْنِيَّتُهُ "؛ أي: مُشْتَهاه ومطلوبه. " قال الله تعالى: تمنَّ من كذا وكذا "؛ أي: من كل جنس تشتهي منه. " أقبلَ ربُّه "؛ أي: طفق لطفه تعالى " يذكِّره " ما تفضل عليه من النِّعم. " حتَّى إذا انتهت به الأمانيُّ، قال الله تعالى: لك ذلك ومثله معه، وقال أبو سعيد: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال الله تعالى: لك ذلك وعشرة أمثاله ". * * *

4325 - عن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " آخِرُ مَنْ يَدخُلُ الجَنَّةَ رَجُلٌ فهوَ يَمْشي مَرَّةً ويَكْبُو مَرَّةً وتَسْفَعُهُ النَّارُ مَرَّةً، فإذا جاوَزَها التفَتَ إلَيْها فقال: تَبَارَكَ الَّذي نجَّاني مِنكِ لقدْ أَعْطانيَ الله شَيْئًا ما أعطاهُ أَحَدًا مِنَ الأَوَّلينَ والآخِرينَ، فتُرْفَعُ لهُ شَجَرَةٌ فيقولُ: أيْ رَبِّ أدْنِني منْ هذهِ الشَّجَرةِ فلأَستَظِلَّ بظِلِّها، وأَشْربَ منْ مائِها، فيقولُ الله: يا ابن آدمَ لعَلِّي إنَّ أَعْطَيْتُكَها سألتَني غيرَها، فيقول: لا يا رَبِّ، ويُعاهِدُهُ أنْ لا يسألَهُ غيرَها، فيُدنِيه منها، فيَستظِلُّ بظِلِّها، ويَشْرَبُ منْ مائِها ثُمَّ تُرْفَعُ لهُ شَجَرَةٌ هيَ أَحْسنُ مِنَ الأُولى، فيقولُ: أيْ رَبِّ أدْنِني منْ هذهِ الشَّجَرةِ لأَشربَ منْ مائِها، وأَستظِلَّ بظِلِّها، فيقولُ: لَعلِّي إنْ أدنَيْتُكَ منها تسألُني غيرَها، فيُعاهِدُه أنْ لا يسأَلَهُ غيرَها، فيُدنيهِ منها فيَستظِلُّ بظِلِّها، وَيشْرَبُ منْ مائِها، ثمَّ تُرفَعُ لهُ شجَرةٌ عندَ بابِ الجَنَّةِ هيَ أَحْسنُ مِنَ الأُولَيَيْنِ فيقولُ: أيْ ربِّ أدْنِني منْ هذهِ فلأستظِلَّ بظِلِّها وأشربَ منْ مائِها، فيقولُ: يا ابن آدمَ أَلَم تُعاهِدْني أنْ لا تَسأَلَني غيرَها؟ قال: بَلَى يا رَبِّ هذهِ لا أسألُكَ غيرَها، ورَبُّهُ يَعْذِرُهُ لأنَّهُ يَرَى ما لا صَبْرَ لهُ عليهِ، فيُدنِيهِ منها، فإذا أدناهُ منها سَمعَ أَصْواتَ أَهْلِ الجَنَّةِ فيقولُ: أيْ ربِّ أَدْخِلْنِيها، فيقولُ: يا ابن آدمَ ما يَصْرِيني منكَ؟ أيُرضيكَ أنْ أُعْطِيَكَ الدُّنْيا ومِثلَها مَعَها؟ قال: أيْ رَبِّ أتَسْتهْزِئُ مِنِّي وأنتَ ربُّ العالمينَ ". فضَحِكَ ابن مَسعودٍ فقالوا: مِمَّ تَضْحَكُ؟ قال: هكذا ضَحِكَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: مِمَّ تَضْحَكُ يا رسولَ الله؟ قال: " منْ ضحْكِ ربِّ العالمينَ حِينَ قال: أتَستهْزِئُ مِنِّي وأنتَ ربُّ العالمينَ؟ فيقولُ: إنِّي لا أَسْتَهْزِئُ مِنكَ، ولكنِّي على ما أشاءُ قدِير ". " وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: آخِرُ مَنْ يدخل الجنّة رجل فهو يمشي مرَّة ويَكْبُو مرَّة "؛ أي: يقف تارة، والكَبْوَة: الوقفة، وقيل: أي يسقط لوجهه.

" وتَسْفَعُهُ النار مرَّة "؛ أي: تلفحه لفحًا يسيرًا فتغيِّر لون بشرته، وقيل: أي تعلمه علامة؛ يعني: به أثر منها. " فإذا جاوَزَها "؛ أي: النار. " التفَتَ إليها، فقال: تَبَارَكَ الَّذي نجَّاني "؛ أي: خلَّصني. " منك، لقد أعطاني الله شيئًا ما أعطاه أحدًا من الأوَّلين والآخرين، فَتُرْفَع "؛ أي: تظهر. " له شجرة، فيقول: أَيْ ربِّ أدْنِني ": أمرٌ من الإدناء؛ أي: قرِّبني. " مِنْ هذه الشجرة فلأستظل ": الفاء زائدة؛ أي: لأستريح. " بظلها وأشرب من مائها، فيقول الله تعالى: يا ابن آدم، لعلي إن أعطيْتُكَها سألتني غيرها، فيقول: لا يا رب، ويعاهده على أن لا يسأله غيرها، فيدنيه منها فيستظل بظلها ويشرب من مائها، ثم تُرْفَعُ له شجرة هي أحسن من الأُولى، فيقول: أَيْ ربِّ أَدْنِني من هذه الشجرة لأشرب من مائها وأستظل بظلِّها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها، فيقول لعلِّي إن أدنَيْتُكَ منها سألتني غيرها، فيعاهده أن لا يسأله غيرها، فيدنيه منها فيستظل بظلِّها ويشرب من مائها، ثم تُرْفَع له شجرة عند باب الجنّة، وهي أحسن من الأُوْلَيَيْنِ، فيقول: أَيْ ربِّ، أَدْنِني مِنْ هذه فلأستظِلَّ بظلِّها وأشرب من مائها، فيقول: يا ابن آدم، ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها؛ قال: بلى يا ربِّ، هذه لا أسألك غيرها، وربُّهُ يعذِرُهُ؛ لأنه يرى ما لا صبْرَ له عليه، فيدنيه منها، فإذا أدناه منها سمع أصواتَ أهل الجنّة، فيقول: أي ربِّ، أدخلنيها، فيقول: يا ابن آدم، ما يَصْرِيني منك "؛ أي: ما الَّذي يقطع مسألتك عني ويرضيك مني. " أيرضيك أن أعطيك الدنيا ومثلها معها، قال: أَيْ ربِّ أتستهزئ مني "، يريد به: أتحلني محل المستَهْزَئ به، " وأنت ربُّ العالمين "، والاستهزاء

بالشيء إذا أُسْنِد إلى الله يراد به: إيقاع الهَوَان، فإن قيل: كيف صحَّ هذا القول منه بعد كشف الغطاء واستواء العالم والجاهل في معرفة ما يجوز على الله وما لا يجوز. قلنا: مثابة هذا العبد مثابة العالم العارف الَّذي يستولي عليه الفرح بما آتاه الله، فيزلُّ لسانه من شدة الفرح، كما أخطأ في القول مَنْ ضَلَّتْ راحلته بأرض فلاة وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، ثم بعد ما وجدها وأخذ بخطامها قال من شدَّة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك. " فضحك ابن مسعود فقالوا: ممَّ تضحك؟ قال: هكذا ضحك رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقالوا: مم تضحك يا رسول الله؟ قال: مِنْ ضحك ربِّ العالمين حين قال: أتستهزئ مني وأنت رب العالمين "، وإنما ضحك - صلى الله عليه وسلم - سرورًا بما رآه من كمال رحمته، ولطفه بعبده المذنب، وغاية رضاه عنه استعجابًا منه. " فيقول: إني لا أستهزئ منك، ولكني على ما أشاء قدير ": وهذا استدراك عن مقدَّر، فإنه تعالى لما قال: (أيرضيك إن أعطيتك الدنيا ومثلها معها) فاستبعده العبد لما رأى أنَّه ليس أهلًا لذلك، وقال: أتستهزئ بي، قال سبحانه وتعالى: نعم كنْتَ لسْتَ أهلًا له لكني أجعلك أهلًا له وأعطيك ما استبعدته؛ لأني على ما أشاء قدير. * * * 4326 - وفي رِوَايةٍ: " ويُذَكِّرُهُ الله سَلْ كذا وكذا، حتَّى إذا انقَطَعَتْ بهِ الأمَانِيُّ قال الله: هوَ لكَ وعَشَرةُ أمثالِهِ، قال: ثُمَّ يَدْخُلُ بيتَهُ فتدخُلُ عليهِ زَوْجتاهُ مِنَ حُوْرِ العِينِ فتقولانِ: الحَمْدُ لله الَّذي أحْياكَ لنا وأحْيانا لكَ، قالَ فيقولُ: ما أُعطيَ أَحَدٌ مِثلَ ما أُعْطِيتُ ".

" وفي رواية: ويذكره الله: سَلْ كذا وكذا، حتَّى إذا انقطعَتْ له الأماني، قال الله تعالى: هو لك وعشرة أمثاله، قال: ثم يدخله بيته، فتدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فتقولان: الحمد لله الَّذي أحْيَاك لنا وأحْيَانا لك، قال: فيقول: ما أعطي أحدٌ مِثْلَ ما أُعْطِيْتُ ". * * * 4327 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " لَيُصِيبنَّ أَقْوامًا سَفْعٌ مِنَ النَّارِ بذُنُوبٍ أَصابُوها عُقوبةً، ثُمَّ يُدخِلُهُمْ الله الجنَّةَ بفَضْلِ رَحْمَتِهِ، فيُقالُ لهُمْ: الجَهَنَّمِيُّونَ ". " عن أنس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لَيُصِيْبنَّ أقوامًا ": جواب قسم مقدَّر. " سَفْعٌ "؛ أي: إحراق قليل. " من النار ": صفة (سفع). " بذُنُوبٍ ": الباء فيه للسببية. " أصابوها ": صفة (ذنوب). " عقوبةً ": مفعول له. " ثم يُدْخِلُهم الله الجنّة بفضل رحمته، فيقال لهم: الجَهَنَّمِيُّون ": جمع جَهَنَّمِيٍّ، وهو منسوب إلى جهنَّم. * * * 4328 - عن عِمران بن حُصَيْن، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " يَخرُجُ قومٌ مِنَ النَّارِ بشَفاعةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فيَدخُلونَ الجَنَّةَ ويُسمَّوْنَ: الجَهنَّميينَ ". وفي رِوايةٍ: " يَخْرُجُ قومٌ مِنْ أُمَّتي مِنَ النَّارِ بشَفاعَتي يُسمَّوْنَ: الجَهنَّميينَ ".

" عن عِمْرَان بن حُصَيْن - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يخرج قومٌ من النار بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - فيدخلون الجنَّة، ويُسَمَّوْنَ الجَهَنَّمِييِّن ": كذلك في أكثر النُّسخ، وفي بعضها: (الجَهَنَّمِيُّونَ)، ليست التَّسمية بها تنقيصًا لهم، بل لأن ذلك يكون عَلَمًا لكونهم عتقاء الله تعالى. " وفي رواية: يخرج قومٌ من أمتي من النار بشفاعتي، يُسَمَّوْنَ الجَهَنَّميِّين ". * * * 4329 - عن عبدِ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - " إنِّي لأَعلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُروجًا منها، وآخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخولًا، رَجُلٌ يخرُجُ مِنَ النَّارِ حَبْوًا، فيقولُ الله: اِذْهَبْ فادخُلِ الجَنَّةَ، فيأتِيها فيُخَيَّلُ إليهِ أنَّها مَلأَى، فيقولُ الله: يا رَبِّ وَجَدتُها مَلأَى، فيقولُ الله: اذهَبْ فادخُلِ الجَنَّةَ فإنَّ لكَ مِثْلَ الدُّنْيا وعَشَرَةَ أمثالِها، فيقول: تَسْخَرُ مِنِّي - أو تَضْحَكُ مِنِّي - وأنتَ المَلِكُ؛ " ولقَدْ رَأَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نوَاجِذُهُ. وكانَ يُقالُ: " ذلكَ أدنىَ أهلِ الجنَّةِ مَنزِلةً ". " عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم إنِّي لأعلم آخر أهل النَّار خُروجًا منها، وآخر أهل الجنّة دخولًا، رجلٌ يخرج من النار حَبْوًا ": وهو المشي على أربع، أو الدَّب على الأست، نصب على الحال، أو المصدر. " فيقول الله: اذهب فأدخل الجنّة، فيأتيها فيخيَّل إليه أنها مَلأى " تأنيث ملآن. " فيقول: يا ربِّ وجدْتُها مَلأى، فيقول: اذهب فادخل الجنّة، فإنَّ لك مِثْلَ الدنيا وعشرة أمثالها، فيقول: أتسخَرُ مني، أو: تَضْحَكُ مني، وأنت الملك؟!

ولقد رأيْتُ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نوَاجِذُهُ، وكان يقال: ذلك أدنى أهل الجنّة مَنْزِلَةً ". * * * 4330 - عن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعلَمُ آخِرَ أَهْلِ الجَنَّةِ دُخولًا الجَنَّةَ، وآخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُروجًا منها، رَجُلٌ يُؤتَى بهِ يومَ القِيامَةِ فيُقالُ: اعْرِضُوا عليهِ صِغارَ ذُنوبهِ، وارفَعوا عنهُ كِبارَها، فيُعرَضُ عليهِ صِغارُ ذُنوبهِ، فيُقالُ: عَمِلتَ يَوْمَ كَذا وكَذا؛ كَذا وكَذا، وعَمِلتَ يَوْمَ كَذا وكَذا؛ كَذا وكَذا، فيقولُ: نعمْ، لا يَستطيعُ أنْ يُنكِرَ، وهوَ مُشفِقٌ مِنْ كِبارِ ذُنوبهِ أنْ تُعرَضَ عليهِ، فيُقالُ لهُ: فإنَّ لكَ مَكانَ كُلِّ سيِّئةٍ حَسَنَةً، فيقولُ: رَبِّ قدْ عَمِلتُ أَشْياءَ لا أَراها ها هُنا "، فلقدْ رَأَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حتَّى بدَتْ نَواجِذُهُ. " عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعلم آخرَ أهل الجنّة دخولًا الجنّة ": نصب بـ (دخولًا). " وآخر أهل النار خروجًا منها، رجلٌ يؤتى به يوم القيامة، فيقال: اعرضوا عليه صغار ذُنُوبه وارفعوا عنه كبارها، فتُعْرَضُ عليه صغار ذنوبه، فيقال: عَمِلْتَ يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول: نعم لا يستطيع أن يُنْكِرَ وهو "؛ أي: العبد " مُشْفِقٌ "؛ أي: خائف " من كبار ذنوبه أن تُعْرَضَ عليه، فيقال له: فإن لك مكان كلِّ سيئةٍ حسنةً، فيقول: ربِّ قد عملت أشياء لا أَراها هاهنا، فلقد رأيْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضَحِكَ حتَّى بَدَتْ نواجِذُهُ ". * * * 4331 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ أَرْبعَةٌ

فيُعرَضونَ على الله تعالى، ثُمَّ يُؤْمَرُ بهمْ إلى النَّارِ، فيَلتفِتُ أَحَدُهُمْ فيقولُ: أيْ ربِّ لقد كُنْتُ أرجُو إذْ أَخْرَجْتَني منها أنْ لا تُعيدَني فيها، قال: فيُنْجيهِ الله منها ". " عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يخرجُ من النار أربعة "؛ أي: أربعة رجال. " فيُعْرَضُون على الله، ثم يُؤْمَر بهم إلى النار فيَلتفِتُ أحدهم فيقول: أَيْ ربِّ لقد كنْتُ أرجو إذ أخرجتني منها أن لا تعيدني فيها، قال: فينجيه الله منها ". * * * 4332 - وقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " يَخْلُصُ المُؤْمِنونَ مِنَ النَّارِ، فيُحْبَسونَ على قَنْطَرةٍ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، فيُقْتَصُّ لبَعْضهِمْ منْ بَعْضٍ مَظالِمُ كانتْ بينَهُمْ في الدُّنْيا، حتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا أُذِنَ لهُمْ في دُخُولِ الجَنَّةِ، فوالذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ لأَحدُهُمْ أَهْدَى لِمَنْزِلهِ في الجنَّةِ منهُ لِمَنْزِلهِ كانَ في الدُّنْيا ". " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يَخلُصُ المؤمنون من النار، فيحبسون على قَنْطَرة "، والمراد بها هنا: الصراط الممدود. " بين الجنّة والنار فيُقْتَصُّ ": بصيغة المجهول، من الاقتصاص. " لبعضهم من بعضٍ مَظالم ": جمع مَظْلِمَة - بكسر اللام -، وهي ما تطلبه من عند الظالم مما أخذه منك. " كانت بينهم في الدنيا ": مالية كانت أو عرضية. " حتَّى إذا هُذِّبوا ونُقُّوا " من الذنوب، بأداء ما عليهم من الحقوق إلى صواحبها، أو يرضيهم الله سبحانه بكرمه ولطفه مما عنده، والتَّهذيب والتَّنقية واحد.

" أُذِنَ لهم في دخول الجنّة، فوالذي نفسُ محمد بيده لأَحَدُهُمْ ": اللام فيه للابتداء. " أهدَى "؛ أي: أَعْرَف. " بمنزله ": المعدُّ له. " في الجنَّة منه "؛ أي: من مَعْرِفَتِهِ. " بمنزله، الَّذي " كان في الدنيا ". * * * 4333 - وقال: " لا يَدْخُلُ أَحَدٌ الجَنَّةَ إلا أُرِيَ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ، لوْ أَساءَ لِيَزْدادَ شُكرًا، ولا يدخُلُ النَّارَ أَحَدٌ إلَّا أُرِيَ مقعدَهُ مِنَ الجنَّةِ، لوْ أحسنَ ليكونَ عليهِ حَسْرةً ". " وقال - صلى الله عليه وسلم -: لا يدخل الجنَّة إلا أُرِيَ ": علي بناء المجهول. " مقعَدَهُ ": بالنصب مفعوله الثاني. " من النار لو أَسَاء "؛ يعني لو أساء لكان ذلك مقعده. " ليزداد شُكرًا ": متعلق بقوله: (أري). " ولا يدخل النار أحد إلا أُرِيَ مقعده من الجنّة لو أحسن؛ ليكون عليه حَسْرَة ". * * * 4334 - وقالَ: " إذا صارَ أَهْلُ الجَنَّةِ إلى الجَنَّةِ، وأهلُ النَّارِ إلى النَّارِ جِيءَ بالمَوْتِ حتَّى يُجْعَلَ بينَ الجَنَّةِ والنَّارِ، ثمَّ يُذْبَحُ، ثُمَّ يُنادِي مُنادٍ: يا أَهْلَ الجَنَّةِ لا مَوْتَ، ويا أَهْلَ النَّارِ لا مَوْتَ، فيزدادُ أهلُ الجَنَّةِ فَرَحًا إلى فرَحِهم،

ويزدادُ أَهْلُ النَّار حُزنًا إلى حزنهم ". " وقال: إذا صار أهل الجنّة إلى الجنّة "؛ أي: وصل إليها. " وأهل النار إلى النار جِيءَ بالموت ": يخرجُ الموت المعقول يوم القيامة في صورة المحسوس. " حتَّى يُجعَلَ بين الجنّة والنار " فيشاهده أهل الجنّة والنار بأعينهم فيمثَّل لهم في صورة كبش. " ثم يُذْبَحُ "؛ ليعلموا أنَّ نعيم أهل الجنّة في الجنّة أَبَدِيٌّ بلا انقطاع، وعذاب أهل النار الذين لهم استحقاق الخلود في النار أَبَدِيٌّ بلا انقطاع. " ثم ينادي منادٍ: يا أهل الجنّة خلود لا موت، ويا أهل النار لا موت، فيزداد أهل الجنّة فرحًا إلى فرحهم، ويزداد أهل النار حُزْنًا إلى حُزْنهم ". * * * مِنَ الحِسَان: 4335 - عن ثَوْبان - رضي الله عنه - قال: قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: " حَوْضِي من عَدَنَ إلى عَمَّانَ البَلْقاءَ، ماؤُهُ أشدُّ بياضًا مِنَ اللَّبن، وأحلَى مِنَ العَسَلِ، وأكوابُهُ عَدَدُ نُجومِ السَّماءِ، مَنْ شَرِبَ منهُ شَرْبةً لمْ يَظْمَأ بعدَها أبدًا، أوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا فُقراءُ المُهاجِرينَ، الشُّعْثُ رُؤُوسًا الدُّنسُ ثيابًا، الذينَ لا يَنْكِحونَ المُتَنعِّماتِ، ولا يُفْتَحُ لهُمُ السُّدَدُ "، غريب. "من الحسان": " عن ثويان - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: حوضي من عَدَن إلى عَمَّان " بالفتح ثم التشديد: موضع بالشام، وبالضم ثم التخفيف: موضع بالبحرين.

" البَلْقَاء " بفتح الباء وسكون اللام: مدينة بالشام. " ماؤه أشدُّ بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، وأكوابه ": جمع كُوبٍ، وهو كُوزٌ لا عُرْوَة له. " عددَ ": نصب بنزع الخافض، أو رفع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: عددُ أكوابه عددُ " نجوم السماء، مَنْ شَرِب منها شربةً لم يظمَأْ بعدها أبدًا، أوَّلُ الناس وُرُودًا ": نصب على التمييز. " فقراء المهاجرين الشُّعْث " بضم الشين المعجمة وسكون العين المهملة: جمع أشعث. " رؤوسًا ": نصب على التمييز أيضًا. " الدُّنُس " بضمتين: جمع دنس، وهو الوسخ. " ثيابًا، الذين لا ينكحون المُتَنَعِّمات ": جمع مُتَنَعِّمَة؛ يعني: لو خطبوا المتنعِّمات من النسوان لم يُجابوا. " ولا يفتح لهم السُّدد " بضم السين المهملة: جمع سُدَّة، وهي الباب؛ يعني: لو دفعوا الأبواب لم يُفْتَحْ لهم هوانًا بهم. " غريب ". * * * 4336 - عن زيْدٍ بن أَرْقَمَ قال: كُنَّا مَعَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فنزَلنا مَنْزِلًا، فقالَ: " ما أنتُمْ جُزْءٌ منْ مِئَةِ ألْفِ جُزءٍ مِمَّنْ يرِدُ عليَّ الحَوْضَ ". قيلَ: كمْ كنتُمْ يومئذٍ؟ قال: سبعَ مِئَةٍ أو ثمانِ مِئَةَ. " عن زيْدِ بن أرقم - رضي الله عنه - قال: كُنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزلنا منزلًا، فقال: ما أنتم جزء ": يجوز نصب (جزء) على لغة أهل الحجاز بإعمال (ما) وإجرائه

مجرى (ليس)، ويجوز رفعه على لغة بني تميم. " مِنْ مئة ألف جزء ممَّنْ يَرِدُ عليَّ الحوض ": يريد كثرة مَنْ آمَنَ به وصدَّقه من الجن والإنس، وهذه العبارة للمبالغة. " قيل: كَمْ كنتم "، (كم) هنا: للاستفهام، محلها نصب على خبر (كان)، تقديره: كم رجلًا كنتم، أو كم عددًا كنتم. " يومئذ قال "؛ أي: زيد. " سبع مئة أو ثمان مئة ". * * * 4337 - عن الحَسَنِ، عن سَمُرةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ لكُلِّ نبيٍّ حَوْضًا، وإنَّهُمْ ليتباهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وارِدَةً، وإنِّي أَرْجُو أنْ أكونَ أكثرَهُمْ وارِدةً "، غريب. " عن الحسن، عن سَمُرَة - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ لكلِّ نبيٍّ حَوْضًا "، قيل: يجوز على ظاهره، وأن يحمل على المجاز، ويراد به: العلم والهدى ونحوه. " وإنهم ليَتَبَاهَوْنَ "؛ أي: ليتفاخرون. " أيُّهم أكثر وارِدَةً "، قيل: موصول صدر صلتها محذوف، أو مبتدأ وخبر كما تقول: يتباهى العلماء أيهم أكثر علمًا؛ أي: قائلين: أيهم أكثر علمًا، و (الواردة): بمعنى الوارد، وهم الذين يردون الماء. " وإنِّي لأرجو أن أكون أكثرهم واردة ". " غريب ". * * *

4338 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: سأَلتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَشْفَعَ لي يَوْمَ القِيامَةِ، فقالَ: " أنا فاعِلٌ ". قُلتُ: يا رسُولَ الله! فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قالَ: " اُطلُبنى أوَّلَ ما تطلُبني على الصِّراطِ ". قلتُ: فإنْ لمْ ألْقَكَ عَلَى الصِّراطِ؟ قالَ: " فاطلُبني عِنْدَ المِيزانِ. قلتُ: فإنْ لم ألْقَكَ عِنْدَ المِيزانِ؟ قال: " فاطلُبني عِنْدَ الحَوْضِ، فإنِّي لا أُخطِئُ هذَهَ الثلاثَ المَواطِنَ "، غريب. " عن أنس - رضي الله عنه - قال: سألْتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يشفَعَ لي يوم القيامة، فقال: أنا فاعل "؛ أي: أنا فاعِلٌ الشفاعة؛ يعني: أشفع لك. " فقلت: يا رسول الله! فأين أطلبك، قال: اطلبني أوَّلَ ما تطلبني على الصراط، قلْتُ: فإن لم ألْقَكَ على الصِّراط؟ قال: فاطلبني عند الميزان، قلت: فإن لم ألْقَكَ عند الميزان؟ قال: فاطلبني عند الحوض، فإنِّي لا أُخْطِئ "؛ أي: لا أتجاوز. " هذه الثلاثة المواطِنَ ": جمع موطن، وهو الموضع. " غريب ". * * * 4340 - عن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: قيلَ لهُ: وما المَقَامُ المَحْمُودُ؟ قال: " ذاكَ يَوْمٌ يَنْزِلُ الله تعالى على كُرْسِيِّهِ فيَئِطُّ كَما يئِطُّ الرَّحُلُ الجديدُ منْ تضايقهِ بهِ، وهو يَسَعُهُ ما بينَ السَّماءِ والأَرْضِ، ويُجَاءُ بكُمْ حُفاةً عُراةً غُرْلًا، فيكونُ أوَّلَ مَنْ يُكْسَى إبراهيمُ صَلَوات الله علَيه، يقولُ الله تعالى: اكْسُوا خَليلي. فيُؤتَى برَيْطَتَيْنِ بَيْضَاوَيْنِ مِنْ رِياطِ الجنَّةِ، ثُمَّ أُكْسَى على أَثَرِهِ، ثُمَّ أقومُ عنْ يَمِيْنِ الله مَقامًا يغبطُنِي الأوَّلونَ والآخِرونَ ". " عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قيل للنبي - صلى الله عليه وسلم -: ما المقام المحمود؟ قال: ذاك

يومٌ " بالرفع والتنوين، وهو الرواية الصحيحة، وفي الكلام حذف، والتقدير: ذلك اليوم الَّذي أبلغ فيه المقام المحمود، يوم " ينزل الله على كرسيِّه ": نزوله: كناية عن تجلِّي أثار عظمته على الكرسي، وظهور مملكته وحكمه محسوسًا مشاهدًا بلا حِجَاب بينه تعالى وبين عباده، فيتضايق الكرسي عن احتمال ما يغشاه من عظمته. " فيئِطُّ "؟ أي: يصوِّت الكرسي ويئنُّ. " كما يئطُّ "؟ أي: يصوِّت. " الرَّحْل الجديد " براحلته " من تضايقه به ": متعلق بقوله (فيئط)؛ أي: من تضايق الكرسي بالله، أو بملائكة الله تعالى، وهذا تمثيل عن كثرة الملائكة بالكرسي، وتقرير رحمة الله وإن لم يكن ثمَّةَ أطيط. " وهو "؟ أي: والحال أنَّ الكرسي. " يسعه ما بين السماء والأرض ": قال الله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [البقرة: 255] وهو إشارةٌ إلى عِظَم الكرسي. " ويجاء بكم حُفَاة عُرَاة غُرْلًا، فيكون أوَّلَ مَنْ يُكْسَى ": خبر (يكون) واسمه " إبراهيم " عليه السلام. " يقول الله تعالى: اكسوا خليلي، فيُؤْتَى بِرَيْطَتَيْنِ "، (الريطة) بالفتح: الملحفة، وقيل: كل ثوب رقيق لين. " بَيْضَاوَيْن من رِيَاط الجنّة، ثمَّ أُكْسَى على أَثَرِهِ، ثم أقوم على يمين الله تعالى "، أراد به: قيامه مَقَام الكرامة. " مقامًا يغبِطني الأولون والآخرون "، ذكر - صلى الله عليه وسلم - أولًا الوقت الَّذي يكون فيه المقام، ووصفه بما يكون فيه من الأهوال؛ ليكون أعظم في النفوس موقعًا، ثم

أشار إلى الجواب بقوله: (ثم أقوم على يمين الله). . . إلى آخره. * * * 4339 - عن المُغِيرةِ بن شُعْبةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " شِعَارُ المُؤْمنينَ يومَ القِيامَةِ على الصِّراطِ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ "، غريب. " عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: شِعَار المؤمنين "؛ أي: علامتهم " يوم القيامة على الصِّراط: ربِّ سَلِّمْ سَلِّمْ "، " غريب ". * * * 4341 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " شَفاعَتِي لأَهْلِ الكَبائِرِ مِنْ أُمَّتي ". " عن أنس - رضي الله تعالى عنه -: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: شفاعتي لأهل الكبائر من أُمَّتي ". * * * 4342 - عن عَوْفِ بن مالِكٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أَتاني آتٍ منْ عِنْدِ ربي فخيَّرَني بينَ أنْ يَدْخُلَ نِصْفُ أُمَّتي الجَنَّةَ وبينَ الشفاعةِ، فاخْتَرْتُ الشَّفاعَةَ، وهيَ لِمَنْ ماتَ لا يُشرِكُ بالله شَيْئًا ". " عن عَوْفٍ بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتاني آتٍ من عند ربي، فخيَّرَني بين أن يَدْخُلَ نِصْفُ أمَّتي الجنّة وبين الشفاعة، فاخترْتُ الشفاعة، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئًا " ": جملة حالية. * * *

4343 - عن عبدِ الله بن أبي الجَدْعاءِ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: " يَدخُلُ الجَنَّةَ بشَفاعَةِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتي أَكْثَرُ منْ بني تَميمٍ ". " عن عَبْدِ الله بن أبي الجَدْعَاءِ - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: يدخُلُ الجنَّةَ بشفاعَةِ رجلٍ من أُمَّتي أكثرُ من بني تميم ": وهو تميم بن مرة بن أد ابن طابخة بن إلياس بن مضر. * * * 4344 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " إنَّ مِنْ أُمَّتي مَنْ يَشْفَعُ للفِئامِ، ومنهُم مَنْ يَشْفَعُ للقَبيلَةِ، ومنهُم مَنْ يَشْفَعُ للعَصَبَةِ، ومنهُم مَنْ يَشْفَعُ للرَّجُلِ حتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة ". " عن أبي سعيد - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّ من أمتي مَنْ يشفع للفِئَام ": وهي جماعة من الناس أكثر من القبيلة، لا واحد له من لفظه. " ومنهم من يشفع للقبيلة، ومنهم من يشفع للعُصْبَة ": وهي - بضم العين، وسكون الصاد المهملتين - جماعة من الناس ما بين العشرة إلى الأربعين، لا واحد لها من لفظها. " ومنهم من يشفع للرجل، حتَّى يدخلوا الجنّة ". * * * 4345 - عن أَنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إِنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - وَعَدَني أنْ يُدخِلَ الجَنَّةَ منْ أُمَّتي أَرْبَعَ مِئَةِ ألفٍ ". فقالَ أبو بَكْرٍ: زِدْنَا يا رسولَ الله، قال: " وهكذا "، فحَثا بكَفَّيْه وجَمَعَهُما، قال أبو بَكْرٍ: زِدْنَا يا رسولَ الله، قال: " وهكذا ". فقالَ عُمَرُ: دَعْنا يا أبا بَكْرٍ: فقال أبو بَكْرٍ وما عليك أنْ يُدْخِلَنا الله

كُلَّنا الجَنَّةَ، فقال عُمَرُ: إنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - إنْ شاءَ أَنْ يُدخِلَ خَلْقَه الجَنَّةَ بكفٍّ واحِدٍ فَعَلَ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: " صَدَقَ عُمَرُ ". " عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - وعدني أن يُدْخِلَ الجنّة من أمتي أربع مئة ألف بلا حساب، فقال أبو بكر: زدنا يا رسول الله! قال: وهكذا فحَثَا بكفَّيه وجمعهُما "، إنما ضرب المثل بالحثيان؛ لأن من شأن المعطي الكريم إذا اسْتُزِيْد أن يحثي بكفَّيه من غير حساب، فالحثيُ كِنَاية عن المبالغة في الكثرة وإلا فلا كَفَّ ثَمَّةَ ولا حَثْيٌ. " فقال أبو بكر " مرة أخرى: " زدنا يا رسول الله! قال: وهكذا "، وهذا دليل على أن له - عَزَّ وَجَلَّ - مدخلًا ومجالًا في الأمور الأخروية. " فقال عمر: دعنا يا أبا بكر، فقال أبو بكر: وما عليك "؟ أي: ما عليك بأس. " أن يدخلنا الله كلنا الجنّة، فقال عمر: إنَّ الله - عَزَّ وَجَلَّ - إنْ شاء أن يُدْخِل خلقَهُ بكَفٍّ واحِدٍ "، أراد به: بعض عطائه وفضله؛ أي: لو أراد الله أن يدخل خلقه الجنّة ببعض رحمته لا بكلها. " فعل " فإنها أوسع من ذلك. " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: صَدَقَ عمر "، قيل: ما ذهب إليه أبو بكر هو من باب الجُؤار والمسكنة، وما ذهب إليه عمر هو من باب التَّسليم. * * * 4346 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -: قالَ: " يُصَفُّ أَهْلُ النَّارِ، فَيَمُرّ بهِم الرَّجَلُ من أَهْلِ الجَنَّةِ، فيقُولُ الرَّجُلُ منهم: يا فُلانُ! أما تَعرِفُني؟ أنا الَّذي سَقَيْتُكَ شَرْبةً، وقال بَعْضُهُمْ: أنا الَّذي وَهَبْتُ لكَ وَضُوءًا، فيشفَعُ لهُ فيُدْخِلُهُ الجنَّةَ ".

" عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُصَفُّ أهلُ النار، فيمر بهم الرجل من أهل الجنّة، فيقول الرجل منهم: يا فلان! أما تعرفني؟ أنا الَّذي سقيتك شَرْبَةً، وقال بعضهم: أنا الَّذي وهبت لك وَضوءًا " بفتح الواو: الماء الَّذي يُتَوَضَّأ منه. " فيشفَعُ له، فَيُدْخِلُهُ الجنّة ": وهذا تحريضٌ على الإحسان إلى المسلمين سيما العلماء والصلحاء، والمجالسة معهم ومحبتهم؛ فإن محبتهم زين في الدنيا ونور في الآخرة. * * * 4347 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -، " أنَّ رَجُلَيْنِ مِمَّنْ دَخَلَ النَّارَ اشتَدَّ صِياحُهُما، فقالَ الرَّبُّ: أَخْرِجُوهُما، فقال لهما: لأَيِّ شَيءٍ اشتَدَّ صِياحُكُما؟ قالا: فعَلْنا ذلكَ لتَرْحَمَنا، قالَ: فإن رَحْمَتي لكُما أنْ تَنْطَلِقا فتُلْقِيا أنفُسَكُما حيثُ كنتُما مِنَ النَّارِ. فيُلقِيْ أَحَدُهُما نفسَهُ، فَيَجْعَلُهَا الله عَلَيهِ بَرْدًا وسَلامًا، ويَقُومُ الآخرُ فلا يُلقي نفسَهُ، فيقولُ لهُ الرَّبُّ: ما مَنَعَكَ أنْ تُلقيَ نفسَكَ كما أَلْقى صاحِبُكَ؟ فيقول: رَبِّ إنِّي أَرْجُو أنْ لا تُعِيْدَني فيها بَعْدَ ما أخرَجْتَني منها، فيقولُ لهُ الرَّبُّ: لكَ رَجاؤُكَ. فيَدْخُلانِ جَميعًا الجَنَّةَ برَحْمَةِ الله ". " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ رجلين ممن دخل النار اشتدَّ صياحُهُما، فقال الربُّ: أخرجوهما، فقال لهما: لأيِّ شيءٍ اشتدَّ صياحكما؟ قالا: فعلنا ذلك لترحَمَنَا، قال: فإن رحمتي لكما أَنْ تنطَلِقَا فَتُلْقِيَا أنفُسَكُما حيثُ كُنْتُمَا من النار، فيلقي أحدهما نفسه فيجعلها الله عليه بَرْداً وسَلامًا، ويقوم الآخر فلا يُلْقِي نفسَهُ، فيقول له الربُّ: ما منعَكَ ": (ما) هذه استفهامية. " أن تُلقِيَ نفسَكَ كما ألقَى صاحِبُكَ؟ فيقول: ربِّ إني لأرجو أن لا تُعيدني فيها بعد ما أخرَجْتَني منها، فيقول له الربُّ: لك رجاؤُكَ، فيدخلان

5 - باب صفة الجنة وأهلها

جميعا الجنَّة برحمة الله ". * * * 4348 - عن ابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " يَرِدُ النَّاسُ النار ثُمَّ يَصْدُرُونَ منها بأَعْمالِهِمْ، فَأَوَّلُهُمْ كلَمْحِ البَرْقِ، ثُمَّ كالرِّيحِ، ثُمَّ كحُضْرِ الفَرَسِ، ثُمَّ كالرَّاكِبِ في رَحْلِهِ، ثمّ كَشَدِّ الرَّجُلِ، ثُمَّ كمَشْيِهِ ". " عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يَرِدُ الناس النَّارَ "، المراد بالورود هنا: الجواز على الصراط. " ثم يَصْدُرُون منها "؟ أي: ينصرفون عن النار، والنجاة منها " بأعمالهم ": قيل: (ثم) هذه مثلها في قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] في أنها للتراخي في الرُّتبة لا للزمان. " فأوَّلهم كلَمْح البَرْقِ، ثمَّ كالريح، ثم كحُضْرِ الفَرَس " بضم الحاء المهملة؛ أي: كعَدْوِه وإسراعه. " ثم كالراكب في رَحْلِه "، أراد به: الإنسان في مسكنه ومنزله. " ثم كشدِّ الرجل "؛ أي: كَعَدْوِهِ إذ الشَّدُّ: العَدْو. " ثم كمشيه ". * * * 5 - باب صِفَةِ الجَنَّةِ وأَهْلِهَا (باب صفة الجنّة وأهلها) (الجنّة): هي دار النعيم في الآخرة، من الاجتنان: التَّستر لتكاثف أشجارها

وتظليلها بالتفاف أغصانها. * * * مِنَ الصِّحَاحِ: 4349 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: قالَ الله تعالى: أَعْدَدتُ لِعباديَ الصَّالحينَ ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطرَ على قَلْبِ بَشَرٍ، واقرأوا إِنْ شِئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: أعددْتُ "؟ أي هيأْتُ. " لعبادي الصالحين ما لا عين رأَتْ، ولا أذنٌ سمعَتْ ولا خَطَرَ "؛ أي: لا وقع " على قلب بشر ": من النعيم في الجنّة. " واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17]؛ أي: مما تقرَّ به أعينهم يقال: أقرَّ الله عينه، معناه: برَّدَ الله دمعته؛ لأن دمعة الفرح باردة، وقيل معناه: بلَّغه الله أمنيته حتَّى ترضى به نفسه وتقرَّ به عينه، فلا يستشرف إلى غيره. * * * 4350 - وقال رَسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " مَوْضعُ سَوْطٍ في الجَنَّةِ خَيْرٌ منَ الدُّنْيَا وما فيها. ولو أَنَّ امرأةً منْ نِساءَ أَهْلِ الجَنَّةِ اطَّلَعتْ إلى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضاءَتْ ما بينهَمُا ولَملأَتْ ما بينَهما رِيحًا، ولَنَصِيْفُها على رأْسِها خَيْرٌ مِنَ الدُّنيا وما فيها ".

" وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: وَضِعُ سَوْطٍ في الجنّة خيرٌ من الدنيا وما فيها " سوى كلام الله تعالى وصفاته، وجميع أنبيائه، وهذا لأن الجنّة مع نعيمها باقية، والدنيا مع ما فيها فانية، وكل ما هو باقٍ لا يوازيه ما هو في معرض الفناء، وإنما خصَّ السَّوط بالذِّكْرِ؛ لأن من شأن الراكب إذا أراد النزول في منزلٍ أن يلقي فيه سوطه لئلا يأخذ مكانه غيره. " ولو أنَّ امرأة من نساء أهل الجنّة اطَّلَعَتْ إلى أهل الأرض لأضاءَتْ ما بينهما ": يريد ما بين المشرق والمغرب، أو ما بين السماء والأرض، ولملأت ما بينهما " ريحًا، ولَنَصيفها "؛ أي: خمارها " على رأسها ": وقيل: كل مُغَطٍّ نصيف، ونَصَفَ رأسه: عَمَّمَهُ. " خير من الدنيا وما فيها ". * * * 4351 - وقالَ: " إنَّ في الجَنَّةِ شَجَرَة يَسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّها مِئَةَ عامٍ لا يَقْطَعُها. ولَقابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الجَنَّةِ خَيْرٌ مِمَّا طَلعَتْ عليهِ الشَّمْسُ أو تَغْرُبُ ". " وقال: إنَّ في الجنّة شجرة ": قيل إنها شجرة طوبى. " يسير الراكب في ظلِّها "؟ أي: في ناحيتها. " مئة عام لا يقطعها، ولَقَاب " بفتح اللام. " قَوْسِ أحدكم في الجنّة "، (قاب القوس): ما بين المَقْبِضِ والسِّيَةِ، ولكلِّ قَوْسٍ قَابان، وقيل: معناه: لقدر قوس أحدكم؛ لأن من شأن الراجل أن يلقي قوسه، كما أن الراكب يلقي سوطه. " خير مما طلعَتْ عليه الشمس أو غَرَبَتْ "، عَبَّرَ - صلى الله عليه وسلم - عن القدر اليسير من

الجنّة، الَّذي هو خير من الدنيا وما فيها، تارةً بقدر القَاب، وأخرى بقدر السَّوط. * * * 4352 - وقال: " إنَّ للمُؤْمِنِ في الجَنَّةِ لَخَيْمَةً مِنْ لُؤلُؤةٍ واحِدَةٍ مُجَوَّفةٍ طُولُها سِتُّونَ مِيْلًا، في كُلِّ زاويَةٍ منها للمُؤْمِنِ أَهْلٌ لا يراهمُ الآخَرون، يَطُوفُ عَلَيهمُ المُؤْمِنونَ، وجَنَّتانِ من فِضَّةٍ آنيتُهما وما فيهما، وجنَّتانِ من ذهب آنيتُهما وما فيهما، وما بَيْنَ القَوْمِ وبينَ أنْ يَنظُروا إلى ربهمْ إلا رِداءَ الكبرياءِ على وَجْههِ في جَنَّةِ عَدْنٍ ". " وقال: إنَّ للمؤمن في الجنّة لخيمةً من لؤلؤة واحدة مجوَّفة، طولُها ستون ميلًا ": وهو ثلث الفرسخ. " في كل زاوية منها "؛ أي: من كل جانب وناحية من الخيمة. " للمؤمن أهل ": من الزَّوج وغيره. " لا يراهم الآخرون، يطوف عليهم المؤمنون ": والطواف هنا: كناية عن المجامعة. " وَجَنَّتان ": عطف على (أهل)؛ أي: وله جنتان. " من فضة آنيتُهما وما فيهما، وَجَنَتَّان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربِّهم إلا رداء الكبرياء "؛ يريد به: صفة الكبرياء والعظمة، معناه: لم يبقَ لهم حينئذ حُجُب ككدورة الجِسميَّة: ونقصان البشرية، فلا يحجبهم عن النظر إليه ولا يصدهم عنه إلا عظمة ألوهيته وهيبة كبريائه. " على وجهه "؛ أي: على ذاته. " في جنة عدن ": بدل من قوله: (في الجنّة)؛ أي: جنة قرار وثبات

وخلود، فَيَرَوْنَهُ فيها. * * * 4353 - وقالَ: " إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجَةٍ، ما بينَ كُلِّ دَرَجتَيْنِ كما بينَ السَّماءَ والأَرْضِ، والفِرْدَوْسُ أَعْلاها دَرَجَةً، منها تُفجَّرُ أَنْهارُ الجَنَّةِ الأَرْبعةُ، ومنْ فَوْقها يكُونُ العَرْشُ، فإذا سَأَلتُمُ الله فاسألوهُ الفِردَوْسَ ". " وقال: في جنة عدن مئة درجة": أراد بالمئة هنا: الكثرة. " ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ": وهذا التفاوت يجوز أن يكون صوريًا، وأن يكون معنويًا، فيكون المراد من الدرجة: المرتبة، فالأقرب إلى الله تعالى يكون أرفع مما دونه. " والفردوس أعلاها درجة، منها تُفَجَّرُ "، أصله: تتفجَّر، فحذف إحدى التاءين. " أنهار الجنّة الأربعة ": صفة (الأنهار) وهي المذكورة في قوله تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى} [محمد: 15]، المراد منها: أصول أنهار الجنّة. " ومن فوقها يكون العرش ": وهذا يدل على أنَّه فوق جميع الجنان. " فإذا سألتم الله الجنّة، فاسألوه الفِرْدَوس ": وهو بستان في الجنّة جامع لأصناف الثمر. * * * 4354 - وقالَ: " إنَّ في الجَنَّةِ لسُوقًا يأتُونهَا كُلَّ جُمُعةٍ، فتهُبُّ رِيحُ الشَّمالِ فتحْثُو في وُجُوهِهِمْ وثيابهِمْ فيَزْدادُونَ حُسْنًا وجَمالًا، فَيَرْجِعُونَ إلى

أَهْليهِمْ وقدِ ازْدادُوا حُسْنًا وجَمَالًا، فيقولُ لهُمْ أهلُوهُمْ: والله لَقَدِ ازْدَدْتُمْ بَعْدَنا حُسْنًا وجَمَالًا، فيقولونَ: وأنتُمْ والله لَقَد ازْدَدْتُمْ بَعْدَنا حُسْنًا وجَمَالًا ". " وقال: إن في الجنّة لسوقًا ": والمراد به هنا: مجمع يجتمع أهل الجنّة فيه، وقد حَفَّتْ به الملائكة بما لا عين رأَتْ ولا خَطَرَ على قلب بشر، فيأخذون ما يشتهون بلا شراء، وهذا نوع من الإلْتِذَاذ. " يأتونها كُلَّ جمعة "؛ يعني: في مقدار كل أسبوع. " فتهب ريحُ الشَّمال " بفتح الشين: جهة تقابل القِبْلَة خصَّها بالذِّكْرِ؛ لأنها ريح المطر عند العرب. " فتحْثُو "؛ أي: تنثر تلك الريح. " في وجوههم وثيابهم "؛ يعني: أنواع العطر. " فيزدادون حُسْنًا وجمالًا فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حُسْنًا وجمالًا "، زيادة حُسْن أهليهم، يجوز أن يكون الهبوب شملهم. " فيقول لهم أهلوهم: والله لقد ازددْتُمْ بعدنا "؛ أي بعد مفارقتنا. " حُسْنًا وجمالًا "، قيل: زيادة حُسْنِهم تكون بقدر حسناتهم. " فيقولون: وأنتم والله لقد ازدادتم بعدنا حُسْنًا وجمالًا ". * * * 4355 - وقالَ: " إنَّ أوَّلَ زُمرةٍ يَدْخُلونَ الجَنَّةَ على صُورَةِ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ، ثُمَّ الذينَ يَلونَهُمْ كَأَشَدِّ كوْكَب دُرِّيٍّ في السَّماءِ إضاءَةً، قُلوبُهُمْ على قَلْبِ رَجُلٍ، لا اخْتِلافَ بينَهم ولا تَبَاغُضَ، لكُلِّ امرِئٍ منهُمْ زَوْجَتانِ مِنَ الحُورِ العِيْنِ يُرَى مُخُّ سُوقِهنَّ مِنْ وَراءِ العَظْم واللَّحْم مِنَ الحُسْنِ، يُسبحُونَ الله بُكْرَةً وعَشِيًّا، لا يَسْقَمُونَ، ولا يَبُولُونَ، ولا يتغوَّطُونَ، ولا يَتْفِلُونَ، ولا يَمْتَخِطُونَ،

آنيتُهُمُ الذَّهَبُ والفِضَّةُ، وأَمْشاطُهُمُ الذَّهبُ ووَقُودُ مجامِرِهِمْ الألُوَّةُ ورَشْحُهُمُ المِسْكُ، على خُلُقِ رَجُلٍ واحِدٍ، على صُورةِ أبيهم آدَمَ سِتُّونَ دِراعًا في السَّماءَ ". " وقال إنَّ أوَّل زُمْرة "؛ أي: جماعة. " يدخلون الجنّة على صورة القمر ليلةَ البدر "، وهذه هم الأنبياء والأولياء غير المحتاجين إلى شفاعة شافع، بل يحتاج الناس إلى شفاعتهم؛ لأنهم هم الكاملون في أنفسهم المُكَمِّلون لغيرهم. " ثم الذين يلونهم كأشد كوكب دُرِّي في السماء إضاءة "، (الدُّري) بضم الدال: هو الشديد الإنارة نُسِبَ إلى الدُّرِّ تشبيهًا به صفاءً وإشراقًا. " قلوبهم على قلب رجل واحد، لا اختلاف بينهم ولا تباغض "، وهذا تفسير لقوله: (قلوبهم على قلب رجل واحد). " لكل امرئ منهم زوجتان من الحور العين، يُرَى مُخُّ سُوقِهنَّ ": جمع السَّاق. " من وراء العظم واللحم من الحُسْن، يسبِّحون الله بكرةً وعشيًا، لا يَسْقَمُون ولا يبولون ولا يتغوَّطون ولا يَتْفِلُون "؛ أي: لا يبزقون. " ولا يَمْتَخِطُون، آنيتهم الذهب والفضة، وأمشاطهم الذهب، ووَقُود " بفتح الواو: وما يُوْقَد به. " مَجَامِرِهم " بفتح الميم: جمع مجمر - بكسر الميم وفتحها - فالأول: ما يوضع فيه النار للبخور، والثاني: ما يُتَبَخَّر به، وأُعِدَّ الجمر له، وهو المراد هنا. " الألُوَّة " بضم الهمزة وفتحها وضم اللام وتشديد الواو: العود الَّذي يُتَبَخَّر به.

" ورَشْحُهُمْ "؛ أي: عَرَقُهُمْ. " المِسْك "؛ أي: يفوح كرائحة المسك. " على خلق " بضم الخاء واللام، وبفتح الخاء وإسكان اللام " رجل واحد على صورة أبيهم آدم سِتُّون ذِراعًا في السَّماء "؛ أي: في جهة السماء، يريد به طول القَدِّ. * * * 4356 - وقالَ: " إنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يأكُلونَ فيها ويَشْربونَ، ولا يَتْفِلُونَ ولا يَبُولونَ، ولا يَتَغَوَّطُونَ، ولا يَمْتَخِطُونَ ". قالوا: فما بَالُ الطَّعامِ؟ قال: " جُشَاءٌ ورَشْحٌ كرَشْحِ المِسْكِ، يُلْهَمونَ التَّسْبيحَ والتَّحْميدَ كما تُلهَمُونَ النَّفَسَ ". " وقال - صلى الله عليه وسلم -: إن أهل الجنّة يأكلون فيها ويشربون، ولا يَتْفُلُونَ ولا يبولون ولا يتغوَّطون ولا يمتخطون، قالوا: فما بالُ الطعام؟ قال: جُشَاءٌ " بضم الجيم: تنفس المعدة من الامتلاء. " ورَشْحٌ "؛ أي: عرق. " كَرَشْح المِسْكِ، يُلْهَمُوْنَ التَّسْبيح والتَّحميد كما تُلْهَمُونَ النَّفَسَ "، معناه: أنَّ: مجرى التَّسبيح فيهم كمجرى النَّفَسِ من ابن آدم، لا يشغله عن النَّفَسِ شيء؛ يعني: يصدر عنهم بمقتضى الطبيعة بلا مشقَّة منهم فيه أو أنَّه يصير صفة لازمةً لهم لا ينفكُّون عنها، كالنَّفَس اللازم للحيوان. * * * 4357 - وقال: " مَنْ يَدْخُل الجَنَّةَ يَنْعَمُ ولا يَبْأَسُ، ولا تَبْلَى ثِيابُهُ، ولا يَفْنَى شَبابُهُ ".

" وقال صلى الله تعالى عليه وسلم: مَنْ يدخل الجنَّة يَنْعَمُ "؛ أي: يُصِبْ نعمةً. " ولا يبؤس "؛ أي: لا يكون في شدَّة وضِيْقِ، قيل: هذا تأكيد لقوله: (ينعم)، والأصل أن لا يجاء بالواو، ولكن أراد به التقرير على الطَّرد والعكس كقوله تعالى: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. " ولا تَبْلَى ثيابه، ولا يَفْنَى شبابه ". * * * 4358 - وقالَ: " يُنادي مُنادٍ: إنَّ لكُمْ أنْ تَصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وإنَّ لكُمْ أنْ تَحْيَوْا فلا تَموتُوا أَبَدًا، وإنَّ لكُمْ أنْ تشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبدًا، وإنَّ لكُمْ أنْ تَنْعَمُوا فلا تَبْأَسُوا أبدًا ". " وقال: ينادي منادٍ "، وهذا النِّداء يكون في الجنّة، وقيل: إذا رأوها من يعيد. " إنَّ لكم أن تصِحُّوا فلا تَسْقَمُوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تحيَوْا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَشِبُّوا " بكسر الشين: من الشباب. " فلا تَهْرَمُوا أبدًا، وإن لكم أن تَنْعَمُوا ولا تَبْأسُوا أبدًا "؛ أي: لا يصيبكم بَأْسٌ، وهو شدَّة الحال. * * * 4359 - وقالَ: " إنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ يَتَراءَوْنَ أَهْلَ الغُرَفِ منْ فَوْقهم كما تَتَراءَوْنَ الكَوْكَبَ الدُّرِّيَّ الغابرَ في الأُفُقِ مِنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ لِتَفَاضُلِ ما بَيْنَهُمْ ". قالوا: يا رسُولَ الله! تِلْكَ منازِلُ الأنبياءِ لا يبلُغُها غيرُهُمْ، قال: " بَلَى والذي نَفْسي بيدِه، رجالٌ آمَنُوا بالله وصَدَّقُوا المُرْسَلِين ".

" وقال - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ أهل الجنَّة يتراءَوْنَ "؛ أي: ينظرون. " أهلَ الغُرَفِ ": جمع غرفة، المراد من أهلها: أصحاب المنازل الرفيعة، قيل: الجنّة طبقات أعاليها للسَّابقين، وأوسطها للمقتصدين وأسافلها للمخلِّطين. " من فوقهم كما تتراءَوْنَ الكوكب الدُّرِّي الغابر "؛ أي: الباقي. " في الأُفُق من المشرق والمغرب "، فإن الكوكب الدُّرِّي الباقي في الأفق بعد انتشار ضوء الصبح يُرَى أَضْوَء، فشبَّهَ أهل الغُرَف من أصحاب الجنّة بالنسبة إلى سائر أصحابها في علوِّ الدَّرجة، ورفع المنزلة، وتباعد ما بينهما بالكوكب الدُّرِّي في السماء بالنسبة إلى من في الأرض. " لتفاضل ما بينهم "؛ أي: ما بين أهل الجنّة، وأهل الغرف الذين من فوقهم. " قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها "؛ أي: لا يملكها. " غيرهم، قال: بلى "؛ أي: يبلغها غيرهم. " والذي نفسي بيده رجالٌ "؛ أي: يبلُغُها رجالٌ " آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين ": وإنما قَرَنَ القَسَمَ ببلوغ غيرهم لما في وصول المؤمنين بمنازل الأنبياء من استبعاد السامعين. * * * 4360 - وقالَ: " يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَقْوامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ ". " وقال يدخُلُ الجنَّة أقوامٌ أفئدتُهُمْ "؛ أي: قلوبهم. " مِثْلُ أفئدة الطير "؛ أي: في الرِّقَّةِ واللِّيْنِ، وقيل: أي في التوكل، وقيل: أي: في الخوف والتَّحَذُّر. * * *

4361 - وقالَ: " إنَّ الله تعالى يقولُ لأَهْلِ الجَنَّةِ: يا أَهْلَ الجَنَّةِ، فيقولونَ: لبَّيْكَ ربنا وسَعْدَيْكَ، والخَيْرُ في يَدَيْكَ، فيقولُ: هلْ رَضيتُمْ؟ فيقولونَ: وما لنا لا نرضَى يا رَبِّ وقد أُعْطَيْتَنا ما لمْ تُعطِ أَحَدًا منْ خَلقِكَ، فيقولُ: ألا أُعطِيكُمْ أَفْضَلَ منْ ذلكَ؟ فيقولونَ: يا رَبِّ وأيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ منْ ذلكَ؟ فيقولُ: أُحِلُّ عليكُمْ رِضْواني، فلا أَسْخَطُ عليكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا ". " وقال - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الله تعالى يقول لأهل الجنّة: يا أهل الجنّة، فيقولون: لبَّيك ربنا وسَعْدَيْكَ والخير كله في يَدَيْكَ، فيقول: هل رضِيتُمْ؟ فيقولون: وما لنا "؛ أي: أي شيء لنا " لا نرضى يا ربِّ ": والاستفهام للتقرير. " وقد أعطيتنا ما لم تعطِ أحدًا من خَلْقِكَ، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا ربِّ وأيُّ شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أُحِلُّ عليكم رِضْواني "؛ أي: أُنْزِل عليكم رضائي. " فلا أسْخَطُ عليكم بعده أبدًا "، الحديث يدل على أنَّ رضوان الله تعالى على العبد فوق إدخاله إياه الجنَّة. * * * 4362 - وقالَ: " إنَّ أدْنىَ مَقْعَدِ أَحِدِكُمْ مِنَ الجَنَّةِ أنْ يقولَ لهُ: تَمَنَّ، فيتَمَنَّى، وَيتَمَنَّى، فيقُولُ لهُ: هلْ تمنَّيْتَ؟ فيقولُ: نَعَمْ، فيقولُ لهُ: فإنَّ لكَ ما تَمَنَّيْتَ ومِثْلَهُ معَهُ ". " وقال: أن أدنى مقعَدِ أحدكم "؛ أي موضع قعوده. " من الجنّة ": والمراد: ملكه ومسيره. " أن يقول له: تمنَّ فيتمنَّى "، والقائل له هو الله تعالى، أو المَلَك. " ويتمنَّى ": بعد ما يقال له مرة أخرى: تمنَّ.

" فيقول له: هل تمنَّيْتَ، فيقول: نعم، فيقول له: فإنَّ لك ما تمنَّيْتَ ومثله معه ". * * * 4363 - عن أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " سَيْحَانُ وجَيْحانُ والفُرَاتُ والنِّيلُ، كُلٌّ مِنْ أَنْهارِ الجَنَّةِ ". " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم سَيْحَان ": وهو نهر بالشام، وقيل نهر بالهند. " وجَيْحَان ": وهو نهر ببلخ. " والفُرات ": وهو نهر الكوفة. " والنيل ": وهو نهر مصر. " كُلٌّ من أنهار الجنّة "، إنما جعل الأنهار الأربعة من أنهار الجنّة لعذوبة مياهها وسلاستها، وكثرة منافعها من الهضم وغيره، ولشرفها بورود الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عليها وشربهم منها. وهذه الأسامي الأربعة مشتركة بين أنهار الجنّة وأنهار الدنيا. وفي " معالم التنزيل ": روى ابن عباس - رضي الله عنهما -: أنَّ الله تعالى أنزل هذه الأنهار من عَيْنٍ واحدة من عيون الجنّة، من أسفل درجة من درجاتها، على جناحي جبريل - عليه السلام - استودعها الجبال وأجراها الأرض، وجعل فيها منافع للناس، فذلك قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} [المؤمنون: 18]، فإذا كان عند خروج يأجوج ومأجوج أرسل الله جبريل - عليه الصلاة والسلام - يرفع من الأرض: القرآن، والعلم، والحجر الأسود من ركن البيت، ومقام إبراهيم - عليه السلام -، وتابوت موسى - عليه الصلاة والسلام - بما فيه،

وهذه الأنهار الأربعة، فيرفع جبريل - عليه السلام - كل ذلك إلى السماء، فذلك قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18]. * * * 4364 - عن عُتْبةَ بن غَزْوانَ قال: ذُكِرَ لنا أنَّ الحَجَرَ يُلقَى مِنْ شَفَةِ جَهَنَّمَ فيَهْوِي فيها سَبْعينَ خَرِيفًا لا يُدرِكُ لها قَعْرًا، والله لَتُمْلأَنَّ. ولقدْ ذُكرَ لنا أنَّ ما بينَ مِصْراعَيْنِ منْ مَصارِيعِ الجنَّةِ مَسيرةُ أربعينَ سنةً، ولَيأْتيَنَّ عليها يَوْمٌ وهو كَظيظٌ مِنَ الزِّحامِ. " عن عتبة بن غزوان أنَّه قال: ذُكِرَ لنا: أن الحجر يُلَقَى من شَفَةِ جهنم فيَهْوِي "؛ أي: يسقط. " فيها سبعين خريفًا "؛ أي: سنة. " لا يُدْرِكُ لها "؛ أي: الحجر لجهنَّم. " قَعرًا "، نصب على التمييز؛ يعني: لا يدرك قَعْرَها. " والله لَتُمْلأَنَّ "؛ أي: جهنم من الكفار. " ولقد ذُكِرَ لنا: أنَّ ما بين مِصْرَاعَيْن من مَصَارِيعِ الجنّة مسيرة أربعين سنة، ولَيَأَتِيَنَّ عليها يومٌ وهو كَظِيظٌ "؛ أي: ممتلئ " من الزِّحام ". * * * مِنَ الحِسَان: 4365 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: " قُلتُ: يا رسُولَ الله! مِمَّ خُلِقَ الخَلْقُ؟ قال: مِنَ الماءِ، قُلنا: الجَنَّةُ ما بناؤُها؟ قالَ: لَبنةٌ مِنْ فِضَّةٍ ولَبنةٌ مِنْ ذَهَبٍ، ومِلاطُها المِسْكُ الأَذْفَرُ، وحَصْباؤُها اللُّؤْلؤُ والياقُوتُ، وتُرْبتُها الزَّعْفَرانُ، مَنْ

يَدْخُلْها يَنْعُمُ ولا يَبْأَسْ، ويَخْلُدُ ولا يَمُوتُ، ولا تَبْلَى ثيابُهُمْ ولا يَفْنَى شَبابُهُمْ ". "من الحسان": " قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله! ممَّ خُلِقَ الخَلْقُ؟ قال: من الماء "؛ يريد به: النطفة. " قلنا: الجنَّةُ ما بناؤها؟ قال: لَبنةٌ من فِضَّةٍ ولَبنةٌ مِنْ ذَهَب، ومِلَاطُهَا ": وهو الطين الَّذي يُجْعَل بين سافَي (¬1) البناء يُملَّطُ به الحائط. " المسك الأَذْفَر "؛ أي: الشديد الريح الطَّيبة. " حَصْبَاؤُها "؛ أي الحصباء الَّذي في الأنهار. " اللؤلؤ والياقوت، وتربتها الزعفران، مَنْ يدخلها يَنْعَمُ ولا يَبْأَسُ، ويخلد ولا يموت، لا تبلى ثيابهم، ولا يفنى شبابهم ". * * * 4366 - وقالَ: " ما في الجَنَّةِ شَجَرةٌ إلَّا وسَاقُها مِنْ ذَهَبٍ ". " وقال: ما في الجنّة شجرة إلا وساقُها مِنْ ذَهب ". * * * 4367 - وقالَ: " إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجةٍ، ما بينَ كُلِّ دَرَجتَيْنِ مِئَةُ عامٍ "، غريب. " قال: إن في الجنّة مئة درجة "، المراد بـ (المئة) هنا: الكثرة، وبـ (الدرجة): المرقاة. ¬

_ (¬1) في " ت " و " غ ": " ساقتي "، والمثبت من " تهذيب اللغة " (13/ 242).

" ما بين كل درجتين مئة عام ". " غريب ". * * * 4368 - وقالَ: " إنَّ في الجَنَّةِ مِئَةَ دَرَجةٍ، لوْ أنَّ العالَمينَ اجتَمعُوا في إحْداهُنَّ لَوَسِعَتْهُمْ "، غريب. " وقال: إن في الجنّة مئة درجة، لو أنَّ العالمين اجتمعوا في إحداهنَّ لَوَسِعَتْهُمْ "، " غريب ". * * * 4369 - وعن أبي سَعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: " في قوله: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: اِرتفاعُها لكَما بينَ السَّماءَ والأَرْضِ مَسيرَةَ خَمْسِ مِئَةِ سَنةٍ "، غريب. " عن أبي سعيد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] "، قيل: المراد بـ (الفراش): نساء أهل الجنّة رُفِعْنَ بالجمال على نساء أهل الدنيا، وكل فاضل رفيع، والظاهر أنَّ المراد بارتفاع الفرش: ارتفاع الدَّرجة التي فُرِشَتْ تلك الفُرُش فيها. " قال: ارتفاعها لَكَمَا بَيْنَ السَّماء والأرض مسيرة خمس مئة سنة "، قيل: هذا خبر بعد خبر للمبتدأ وهو (ارتفاعها)، ويجوز أن يكون بيانًا لـ (ما بين السماء والأرض). " غريب ". * * *

4370 - وقالَ: " إِنَّ أَوَّلَ زُمْرةٍ يَدْخُلونَ الجَنَّةَ يَوْمَ القِيامَةِ ضَوْءُ وُجُوهِهِمْ عَلَى مِثْلِ ضَوْءَ القَمَرِ ليلةَ البَدْرِ، والزُّمْرةُ الثَّانيةُ عَلَى مِثْلِ أَحْسنِ كَوْكَب دُرِّيٍّ في السَّماءِ، لكُلِّ رَجُلٍ منهُمْ زَوْجَتانِ، عَلَى كُلِّ زَوْجةٍ سبعُونَ حُلَّةً يُرَى مُخُّ ساقِها منْ ورائِها ". " وقال: إنَّ أولَ زُمْرَةٍ يدخلون الجنّة يوم القيامة ضَوْءُ وجوههم على مثل ضوء القمر ليلةَ البَدْر، والزُّمْرَةُ الثانية على مِثْلِ أحسن كوكب دُرِّيٍّ في السَّماء، لكل رجل منهم زوجتان، على كُلِّ زوجة سبعون حُلَّة، يُرَى مُخُّ ساقها مِنْ ورائها"؟ أي: من خلف ساقها من غاية اللطافة. " روي أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: أدنى أهل الجنّة الَّذي له اثنتان وسبعون زوجة، وثمانون ألف خادم " (¬1): والوجه في التوفيق بينهما بأن يقال: يكون لكل منهم زوجتان موصوفتان بأن يُرى مخُّ ساقهما، وهذا لا ينافي أن يحصل لكل منهم كثيرة من الحور العين الغير البالغة إلى هذه الغاية. * * * 4371 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " يُعْطَى المُؤْمِنُ في الجَنَّةِ قُوَّةَ كذا وكذا مِنَ الجِماعِ "، قِيلَ: يا رسُولَ الله! أوَ يُطيقُ ذلك؟ قال: " يُعْطَى قُوَّةَ مِئَةٍ ". " عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يُعْطَى المؤمن في الجنّة قوَّة كذا وكذا من الجِماع، قيل: يا رسول الله! أَوَ يُطيق؟ ": الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على فعل مُقَدَّر؛ أي: أيعطى تلك القوة ويطيق ذلك المقدار. " قال: يعطى قوة مئة "؛ أي: مئة رجل. * * * ¬

_ (¬1) انظر: الحديث (4382).

4372 - وعن سَعْدِ بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: " لوْ أنَّ ما يُقِلُّ ظُفُرٌ مِمَّا في الجَنَّةِ بَدا لتَزَخْرَفَتْ لهُ ما بينَ خَوافِقِ السَّماواتِ والأَرْضِ، ولوْ أنَّ رَجُلًا مِشْ أهلِ الجَنَّةِ اطَّلعَ فبَدا أَساوِرُهُ لَطَمَسَ ضَوْءُهُ ضَوْءَ الشَّمْسِ كما تَطْمِسُ الشَّمْسُ ضَوْءَ النُّجومِ "، غريب. " عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: لو أن ما يُقِلُّ ": من الإقلال: الحمل؛ أي: قَدْر ما يحمل. " ظُفُرٌ مما في الجنّة بَدا "؛ أي: ظهر. " لَتَزَخرَفتْ له "؛ أي: لتزيَّنت لذلك المقدار. " ما بين خَوَافق السماوات والأرض "؛ أي: أطرافها، وإنما أَنَّثَ إرادةً للمعنى، فإن ما بين السماء والأرض أماكن كثيرة. " ولو أنَّ رجلًا من أهل الجنّة اطَّلع فبدا "؛ أي: ظهر. " أساوِرُهُ ": جمع أَسْوِرَة، وهي ما تلبسه المرأة من الحلي. " لَطَمَسَ "؛ أي: لمحى. " ضوؤُه ضَوْءٌ الشمس، كما تَطْمِسُ الشَّمس ضوء النُّجوم "؛ أي: تمحوه. " غريب ". * * * 4373 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أَهْلُ الجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ كُحْلٌ لا يفنَى شبابُهُمْ ولا تبلَى ثيابُهُمْ ". " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أهل الجنّة جُرْدٌ ": جمع الأجرد، وهو الَّذي لا شَعْرَ في بدنه.

" مُرْدٌ ": جمع الأمرد، وهو الَّذي لا شَعْرَ على ذقنه. " كُحْلٌ ": جمع كحِيْل، بمعنى مكحول، كقتلى وقتيل، وهو الَّذي عينه مكتحلة في أصل الخِلْقَة. " لا يَفْنَى شبابُهم، ولا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ ". * * * 4374 - وعن مُعاذِ بن جَبَلٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " يَدْخُلُ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكحَّلينَ أَبناءَ ثلاثينَ - أو ثلاثٍ وثلاثينَ - سَنَةً ". " عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يدخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا مُكحَّلين أبناء ثلاثين، أو ثلاث وثلاثين سنة ". * * * 4375 - عن أسماءَ بنتِ أبي بَكرٍ قالت: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وذُكِرَ لَهُ سِدْرَةُ المُنْتهَى قالَ: " يسيرُ الرَّاكِبُ في ظِلِّ الفَنَنِ منها مِائةَ سَنَةٍ، أو يَسْتظِلُّ بظلِّها مِئَةُ راكبٍ - شَكَّ الرَّاوي - فيها فَراشُ الذَّهبِ كأنَّ ثِمارَها القِلالُ "، غَريب. " عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنها - قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذُكِرَ لَهُ سِدْرَة المُنتهَى: وهي شجرة في أقصى الجنّة، إليها ينتهي علم الأولين والآخرين ولا يتعدَّاها (¬1)، وقيل: سميت بها لأن جبريل - عليه السلام - ينتهي إليها ولا يتجاوزها. " قال " رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " يسير الراكب في ظلِّ الفَنَن "؛ أي: الغصن. " منها مئة سنة، أو يستظل بظلها مئة راكب - شكَّ الراوي - فيها "؛ أي: في سدرة المنتهى " فَرَاش الذَّهب ": والفَرَاش - بفتح الفاء -: جمع فَرَاشة، وهي ¬

_ (¬1) في " غ ": " ينفذها ".

التي تطير وتتهافت في السِّراج، ولعله أراد بها: الملائكة تتلألأ أجنحتها تلألؤ أجنحة الفراش كأنها مذهبة، وقيل: كناية عن كثرة الذهب في الجنّة، أو عن كونه ساقطًا غير متقوم كالفراش في الدنيا. " كأن ثمرها القِلَال " بكسر القاف: جمع قُلَّة - بالضم -، وهي الجَرَّة العظيمة، سميت لأنها ثُقَل؛ أي: ترفع وتحمل. عن ابن جريج: تسع قِرْبَتَيْن وشيئًا. وفي " معالم التنزيل ": هي شجرة تحمل الحلي والمال والثمار من جميع الألوان لو أن ورقة منها وُضعَتْ في الأرض لأضاءت لأهل الأرض. " غريب ". * * * 4376 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: سُئِلَ رسَولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ما الكَوْثَرُ؟ قال: " نهرٌ أَعْطانِيهِ الله - يعني في الجنَّةِ - أَشَدُّ بياضًا منَ اللَّبن، وأَحْلىَ منَ العَسَلِ، فيهِ طَيْرٌ أَعْناقُها كأَعْناقِ الجُزُر ". قالَ عُمَرُ: إنَّ هذه لناعِمَةٌ. قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " آكِلُها أَنْعَمُ مِنْها ". " عن أنس - رضي الله عنه - قال: سُئِلَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما الكوثر؟ قال: نهرٌ أَعْطَانِيْهِ الله تعالى - يعني: في الجنّة - أشدُّ بَيَاضًا من اللَّبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجُزُرِ " بضم الجيم والزاي المعجمة قبل المهملة: جمع جَزُور - بالفتح - وهو البعير الَّذي أُعِدَّ للنَّحر. " قال عمر: إن هذه لناعمة "؛ أي: لطيِّبة سِمَان. " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آكلها أَنْعَمُ منها ". * * *

4377 - عن سُلَيْمانَ بن بُرَيْدَةَ عن أَبيهِ: أَنَّ رَجُلًا قالَ: يا رسولَ الله! هلْ في الجَنَّةِ منْ خَيلٍ؟ قال: " إِن الله أَدْخَلَكَ الجَنَّةَ، فلا تَشاءُ أنْ تُحْمَلَ فيها على فَرَسٍ منْ ياقوتَةٍ حَمْراءَ يطيرُ بكَ في الجنَّةِ حَيْثُ شِئتَ إلا فَعَلْتَ ". وسَأَلَهُ رَجُلٌ فقالَ: يا رسولَ الله! هلْ في الجَنَّةِ منْ إبلٍ؟ فقالَ: " إنْ يُدْخِلْكَ الله الجَنَّةَ يكُنْ لكَ فيها ما اشْتَهتْ نَفْسُكَ ولذَّتْ عينُكَ ". وفي رِوايةٍ: " إنْ أُدخِلْتَ الجَنَّةَ أُتيتَ بفَرَسٍ منْ ياقُوتَةٍ لهُ جَناحانِ فحُمِلْتَ عَلَيهِ طارَ بكَ حَيْثُ شِئْتَ ". " عن سليمان بن بريدة عن أبيه - رضي الله عنه -: أنَّ رجلًا قال: يا رسول الله! هل في الجنّة من خَيل؟ قال: إِنِ الله تعالى أَدْخَلَكَ الجنّة "، (إن): حرف شرط جزاؤه (فلا تشاء)، تقدير الكلام: إِنْ أدخَلَكَ الله الجنّة. " فلا تشاءُ أنْ تُحمَلَ فيها على فرس مِنْ يَاقوتَةٍ حَمراء يطيرُ بك في الجنّة حيث شِئْتَ إلا فعلَتْ ": بتاء التأنيث الساكنة والضمير للفرس، وفي بعض النسخ بتاء المخاطب؟ يعني: إن تشاء أن تفعله، والمعنى: ما مِنْ شيء تشتهيه الأنفس في الجنّة إلا وجدته على وِفق مُشتهاها. " وسأله رجل فقال: يا رسول الله! هل في الجنّة من إبل؟ فقال: إنْ يُدْخِلْكَ الله الجنّة يَكُنْ لك فيها ما اشتَهَتْ نفسُكَ ولذَّتْ عينُكَ "؛ أي: وجدته لذيذًا. " وفي رواية: إن أُدْخِلْتَ الجنّة أُتِيْتَ بفرس من ياقوتة له جناحان، فحُمِلْتَ عليه فطاربك حيث شِئْتَ ". * * * 4378 - وعن بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أَهْلُ الجَنَّةِ عِشرونَ

ومِئة صفٍّ، ثمانونَ منها منْ هذَه الأَمّةِ، وأَرْبعونَ منْ سائِر الأمَمِ ". " عن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أهل الجنّة عشرون ومئة صفٍّ؟ ثمانون منها مِنْ هذه الأُمَّة وأربعون من سائر الأمم ": فإن قلت: كيف التوفيق بين هذا وبين ما وَرَدَ من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " والذي نفسي بيده أرجو أن تكونوا ربع أهل الجنّة "، فكبَّرنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة "، فكبَّرنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: " أرجو أن تكونوا نصف أهل الجنّة ". قلت: يحتمل أن يكون الثمانون صَفَّا مساويًا في العدد للأربعين صفًّا، وأن يكون كما زاد على الربع والثلث يزيد على النصف كرامة له - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4379 - عن سالمٍ، عن أبيه - رضي الله عنهما - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " بابُ أُمَّتي الَّذي يَدْخُلونَ مِنْهُ الجَنَّةَ عَرْضُهُ مَسيرَةُ الرَّاكِبِ المُجَوَّدِ ثلاثًا، ثُمَّ إنَّهمْ ليُضْغَطونَ عليهِ حتَّى تكادُ مناكِبُهُمْ تَزُولُ "، ضعيفٌ مُنْكرٌ. " عن سألم، عن أبيه - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: بابُ أُمَّتي الَّذي يدخلون منه الجنّة عرضُهُ مَسِيرَةُ الرَّاكِب المُجَوِّد ": اسم فاعل من جَوَّدَ: إذا جَاد شيئًا؟ أي: جعله جيدًا. " ثلاثًا "؛ أي: ثلاث ليالٍ، يعني: عرض ذلك الباب مَسِيرَةَ الرَّاكب الَّذي يُجَوِّد ركضَ الفرس ثلاث ليال، ويحتمل الساعات والأشهر والسنين. " ثم إنهم لَيُضْغَطون عليه "؛ أي: ليزدحمون على الباب عند دخولهم. " حتَّى تكاد مناكِبُهُمْ تزول "؛ أي: يقرب أنْ تزول مناكِبُهُم مِنْ شدَّة الازدحام. " ضعيف منكر ": كونه منكرًا لمخالفته الأحاديث الصحيحة الواردة في

هذا المعنى، منها الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: " والذي نفسي بيده إن ما بين مِصْرَاعين من مَصَاريع الجنّة كما بين مكة وهَجَر " هي مدينة باليمن، وهي قاعدة البحرين، بينها وبين البحرين عشر مراحل، واين مسيرة الراكب ثلاثًا عن هذه المسافة؟! * * * 4380 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ في الجَنَّةِ لَسُوقًا ما فيها شِراءٌ ولا بَيْعٌ إلَّا الصُّوَرَ منَ الرِّجالِ والنِّساءِ، فإذا اشْتَهَى الرَّجُلُ صُورَةً دَخَلَ فيها "، غريب. " عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن في الجنّة لَسُوقًا ما فيها "؛ أي: في تلك السوق، أنَّت الضمير لأن السُّوق مؤنث سماعي. " شِرَاءٌ ولا بَيعٌ إلا الصُّوَرَ من الرجال والنساء ": والاستثناء منقطع، " فإذا اشتهى الرجل صُوْرَةً دخل فيها ": والمراد (بالصورة): ما يختار الإنسان أن يكون عليها من التَّزين والتَّلبس، فدخوله فيها للتَّزين بها، ويحتمل أن يكون المراد بها: صورة الشخص نفسه من الصُّوَر المستحسنة بأن يبدِّل الله صورته فتتغير الهيئة مع بقاء الذات كما كان، ويصير منطبعًا على الصورة التي تمناها. " غريب ". * * * 4381 - عن سعيدٍ بن المُسَيِّبِ - رضي الله عنهما -: أنَّهُ لَقِيَ أبا هُريرَةَ - رضي الله عنه -، فقالَ أبو هُريرة: أَسْألُ الله أنْ يَجْمَعَ بينِي وبينَكَ في سُوقِ الجَنَّةِ، فقالَ سعيدٌ: أَفِيْها سُوْقٌ؟ قالَ: نعَم، أَخْبَرَنِي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ إذا دَخَلُوها نزلُوا فيها بفَضْلِ أَعْمالِهِمْ، ثُمَّ يُؤْذَنُ في مِقْدارِ يَوْمِ الجُمُعةِ منْ أَيَّامِ الدُّنيا فيَزورُونَ رَبَّهم،

ويُبْرِزُ لهُمْ عَرْشَهُ، ويَتَبَدَّى لهُمْ في رَوْضَةٍ منْ رِياضِ الجَنَّةِ، فيُوضَعُ لهُمْ منابرُ من نورٍ ومنابرُ من لؤلؤٍ ومنابرُ من ياقوتٍ ومنابرُ من زبرجدٍ ومنابرُ منْ ذهَبٍ ومَنابرُ منْ فِضّةٍ، وَيجْلِسُ أَدْناهُمْ، وما فيهم دَنيءٌ، على كُثبانِ المِسْكِ والكافورِ، وما يُرَوْنَ أَنَّ أَصْحابَ الكَراسِيِّ بأَفْضَلَ منهمْ مَجْلِسًا. قالَ أبو هُريرةَ - رضي الله عنه -: قلتُ: يا رسولَ الله! وهل نَرى رَبنا؟ قال: " نعم، هلْ تتمارَوْنَ في رُؤيةِ الشَّمْسِ والقَمَرِ ليلةَ البَدْرِ؟ " قلنا: لا. قال: " كذلكَ لا تَتَمارَوْنَ في رُؤيةِ ربكُمْ، ولا يَبقى في ذلكَ المَجْلسِ رَجُلٌ إلّا حاضَرَهُ الله مُحاضَرَةً، حتَّى يقولَ للرَّجُلِ منهُمْ: يا فلانُ بن فُلانٍ أَتَذْكُرَ يومَ قُلْتَ كذا وكذا؟ فَيُذَكِّرُهُ ببَعْضِ غَدراتِهِ في الدُّنيا، فيقولُ: أفلَمْ تغفِرْ لي؟ فيقولُ: بلَى، فبسَعَةِ مَغْفِرتي بَلَغْتَ منزلتَكَ هذهِ. فَبَينَما همْ علَى ذلكَ غَشِيَتْهُمْ سَحابَةٌ منْ فَوْقِهِمْ، فَأَمْطَرتْ عليهمْ طِيبًا لمْ يَجدوا مِثْلَ رِيحِهِ شَيْئًا قطُّ، ويقولُ ربنا: قُومُوا إلى ما أَعْدَدْتُ لكُمْ منَ الكرامَةِ فخُذوا ما اشْتَهَيْتُمْ. فنأتي سُوْقًا قدْ حَفَّتْ بهِ الملائكةُ ما لَمْ تَنْظُرِ العُيونُ إلى مثلِهِ، ولم تسمع الآذانُ ولم يَخْطُرْ على القُلوبِ، فيُحْمَلُ لنا ما اشتهَيْنا، ليسَ يُباعُ فيها ولا يُشْترَى، وفي ذلكَ السُّوقِ يَلقَى أهلُ الجَنَّةِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، قال: فيُقبلُ الرَّجُلُ ذُو المَنزِلةِ المُرْتَفِعَةِ فيَلْقَى مَنْ هو دُونَهُ، وَمَا فِيهِمْ دَنِيٌّ فَيَرُوعُهُ ما يَرى عليهِ منَ اللِّباسِ، فما ينقضي آخِرُ حدَيثِهِ حتَّى يتخيَّلَ عليهِ ما هو أَحْسَنُ منهُ، وذلكَ أنَّهُ لا يَنبَغي لأَحدٍ أنْ يَحْزَنَ فيها، ثُمَّ نَنْصَرِفُ إلى منازِلِنا فيتلقَّانا أَزْواجُنا فيقُلْنَ: مرحبًا وأهلًا لقدْ جِئْتَ وإنَّ بكَ منَ الجَمالِ أَفْضَلَ مِمَّا فارقْتَنا عليهِ، فيقولُ: إنَّا جَالَسْنا اليَوْمَ ربنا الجَبَّارَ وَيحِقُّنا أنْ نَنْقَلِبَ بمِثْلِ ما انقلَبنا "، غريب. " عن سعيد بن المسيّب: أنَّه لقي أبا هريرة - رضي الله عنه - فقال أبو هريرة: أسأل الله تعالى أن يجمع بيني وبينك في سُوق الجنّة، فقال سعيد: أفيها سُوق؟ قال:

نعم، أخبرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنَّ أهل الجنّة إذا دخلوها نزلوا فيها "؛ أي: في السُّوق. " بفضل أعمالهم "؛ أي: بِقَدْرها. " ثم يُؤْذَنُ لهم في مِقْدَار يوم الجمعة من أيام الدنيا فيزورون ربهم، وَيَبْرُزُ "؛ أي: يظهر. " لهم عرشه "؛ أي: عرش ربهم؛ أي: لطفه ورحمته. " وَيَتَبَدَّى "؛ أي: يَظْهَرُ ربهم. " لهم في رَوْضَة من رِيَاضِ الجنّة، فَيُوْضَع لهم مَنَابِر ": جمع مِنْبَر. " مِنْ نوُر، ومنابر من لؤلؤ، ومنابر من ياقوت، ومنابر من زبرجد، ومنابر من ذهب، ومنابر من فضة، ويجلس أدناهم "؛ أي: أقلُّهم منزلةً في الجنّة. " وما فيهم "؛ أي: في أهل الجنّة. " دَنِيء "؛ أي: دُونٌ خَسِيسٌ. " على كُثْبَان المِسْك ": جمع الكثيب، وهو تلُّ الرَّمل المُسْتَطِيل، من كَثَبْتُ الشيء: جمعته. " والكافور، ما يرون "؛ أي: الجالسون على الكثبان. " أن أصحاب الكراسي ": وهم أصحاب المنابر والأنبياء. " بأفضل منهم مجلسًا "؛ أي: أعلى مرتبة؛ لئلا تنكسر قلوبهم. " قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قلت: يا رسول الله! وهل نرى ربنا؟ قال: نعم، هل تتمارون "؛ أي: هل تشكُّون. " في رؤية الشمس والقمر ليلة البدر؟ قلنا: لا، قال: كذلك لا تتمارون في رؤية ربكم، ولا يبقى في ذلك المجلس رجل إلا حاضَرَهُ الله تعالى "؛ أي:

كَلَّمه من غير حجاب ولا ترجمان بكلام لا يسمعه غيره. " محاضرةً "؛ أي: مكالمة. " حتى يقول للرجل منهم: يا فلان ابن فلان، أتذكر يومَ قلت: كذا وكذا، فيذكِّره ببعض غَدَرَاته ": - بفتحتين - جمع غَدْرَة، وهو ترك الوفاء، والمراد بها هنا: المعاصي التي لم يفِ بتركها. " في الدنيا، فيقول: أفلم تغفر لي؟ فيقول: بلى، فَبِسَعَةِ مغفرتي بلغْتَ مَنْزِلَتَكَ هذه، فبينما هم على ذلك غَشِيَتْهُم "؛ أي: غَطَّتْهُم. " سحابة من فوقهم، فأمطرت عليهم طيبًا لم يجدوا مثل ريحه شيئًا قط، ويقول ربنا: قوموا إلى ما أعددْتُ "؛ أي: هَيَّأْتُ. " لكم من الكرامة، فخذوا ما اشتهيتم، فنأتي ": على صيغة المتكلم. " سُوقًا قد حَفَّتْ به الملائكة ": وروي: (بها)، والسوق يذكَّر ويؤنَّث؛ أي: أحدقوا وأطافوا بجوانب ذلك السوق. " ما لم تنظُر العيون إلى مثله ": (ما) هذه موصولة، وهي مع صلته تحتمل أن يكون منصوبًا على أنه بدل من الضمير المنصوب المحذوف في قوله: (ما أعددت)؛ أي: ما أعددته، وأن يكون مجرورًا بدلًا من (الكرامة)، وأن يكون مرفوعًا على أنه خبر مبتدأ محذوف؛ أي: المُعَدُّ لكم، أو مبتدأ خبره محذوف؛ أي: فيها. " ولم تسمع الآذان، ولم يَخْطُر على القلوب، فَيُحْمَلُ لنا ما اشتهينا ليس يباع فيها ولا يُشْتَرى، وفي ذلك السوق يلقى أهل الجنة بعضهم بعضًا، قال ": النبي - صلى الله عليه وسلم -: " فَيُقْبِلُ الرَّجل ذو المنزلة المرتفعة، فيلقى مَنْ هو دُوْنَه، وما فيهم دَنِيٌّ فَيَرُوْعُهُ "؛ أي: يعجبه، ضمير المفعول عائد إلى (من).

" ما يرى عليه من اللباس، فما يَنْقَضِيْ آخر حديثه "؛ أي: لا ينقطع آخر كلامه. " حتى يتخيَّل "؛ أي: يرى. " عليه ما هو أحْسَنُ منه "؛ أي: أَحْسَنَ من لباس صاحبه. " وذلك أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يَحْزَنَ فيها، ثم ننصَرِفُ إلى منازلنا فَيَتَلَقَّانا "؛ أي: يستقبلنا. " أزواجنا ": جمع زوجة. " فيقلن: مرحبًا وأهلًا ": منصوبان على المصدر، تقديره: رَحِبْتَ مرحبًا وتَأَهَّلْتَ أهلًا. " لقد جِئْتَ ": اللام جواب قسم مقدر؛ أي: والله لقد جِئْتَ. " وإنَّ بك مِنَ الجمال ": الواو للحال. " أفضل مما فارقْتَنَا عليه "؛ أي: في حال كونك أحسن وجهًا وأتم جمالًا مما كنْتَ عليه حين فارقتنا. " فيقول: إنا جالسنا اليوم ربنا الجبَّار "؛ أي: جالسنا لُطْفَ ربنا في هذا اليوم، فأعطانا خِلْقَةَ الجمال، وحُلَّةَ الكمال. " وَيَحِقُّنَا " أي: يجب. " لنا أن نَنْقَلِبَ "؛ أي: نرجع. " بمثل ما انقلَبنا "؛ أي: رجعنا من الجمال التام. " غريب ". * * *

4382 - عن أبي سعيدٍ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " أدنىَ أَهْلِ الجَنَّةِ الذي لهُ ثمانونَ ألفَ خادِمٍ، واثنتانِ وسَبْعونَ زوجةً، ويُنْصَبُ لهُ قُبَّةٌ منْ لُؤْلُؤٍ وزَبَرْجَدٍ وياقوتٍ كما بينَ الجابيةِ إلى صَنْعاءَ ". وبه قالَ: " مَنْ ماتَ منْ أَهْلِ الجَنَّةِ منْ صَغيرٍ أو كبيرٍ يُرَدُّونَ بني ثلاثينَ في الجَنَّةِ، لا يزيدونَ علَيها أَبَدًا، وكذلكَ أَهْلُ النَّارِ ". وبه قالَ: " إنَّ عليهمُ التِّيْجَانَ، أَدْنىَ لُؤْلُؤةٍ مِنْها لَتُضيءُ ما بَيْنَ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ "، غريب. " قال أبو سعيد - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَدْنىَ أهل الجنة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة، وتُنْصَبُ "؛ أي: تُتَّخَذُ. " له قُبَّةٌ من لؤلؤ وزَبَرْجَد ": جوهر معروف. " وياقوت "؛ يريد: أن القُبَّة تتخذ منها، أو هي مكللة بها. " كما بين الجابِيَة إلى صَنْعاء "؛ يعني: فُسْحَتُها كَفُسْحَة ما بين جابية الشَّام وصنعاء اليمن، قيل: هي أول بلدةٍ بنيَتْ بعد الطوفان. وبه قال: " منْ ماتَ منْ أهلِ الجنّةِ منْ صغيرٍ أو كبيرٍ يُردُّونَ بني ثلاثينَ في الجنّةِ، لا يزيدونَ عليها أَبَدًا، وكذلكَ أهلُ النارِ ". " وبه "؛ أي: بهذا الإسناد. " قال: مَنْ مَاتَ مِنْ أهل الجنة مِنْ صغير أو كبير يُرَدُّون بني ثلاثين في الجنة، لا يزيدون عليها أبدًا، وكذلك أهل النار " يُرَدُّون بني ثلاثين في النار. * * *

وبه قال: " إنَّ عليهمُ التِّيجانَ، أدنىَ لؤلؤةٍ منها لتُضِيءُ ما بينَ المشرقِ والمغربِ " (غريب). " وبه "؛ أي: بهذا الإسناد. " قال: إن عليهم التِّيجَان " بكسر التاء: جمع تاج. " أدنى لؤلؤةٍ منها لَتُضِيء ما بين المشرق والمغرب "، " غريب ". * * * 4383 - وبه قالَ: " المُؤْمِنُ إذا اشتَهَى الوَلَدَ في الجَنَّةِ كانَ حَمْلُهُ ووَضْعُهُ وسِنُّه في ساعَةٍ كما يَشْتَهي "، غريب. قالَ إسْحاقُ بن إبراهيمَ في هذا الحديث: إذا اشْتَهَى المُؤْمِنُ في الجَنَّةِ الوَلَدَ كانَ في ساعَةٍ ولكنْ لا يَشْتَهي. " وبه "؛ أي: بهذا الإسناد. " قال: المؤمن إذا اشتهى الوَلَدَ في الجنة، كان حَمْلُهُ ووَضْعُهُ وسِنُّهُ في ساعة كما يشتهي "، " غريب ". " قال إسحاق بن إبراهيم في هذا الحديث: إذا اشتهى المؤمن في الجنة الولد كان في ساعة ولكن لا يشتهي " الولد. * * * 4384 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ في الجَنَّةِ لمُجْتَمَعًا للحُورِ العِينِ، يَرْفَعْنَ بأَصْواتٍ لَمْ يَسمَع الخَلائِقُ مِثْلَها، يقُلْنَ: نحنُ الخالِداتُ فلا نبَيدُ، ونحنُ النَّاعِمَاتُ فلا نَبْأَسُ، ونحنُ الرَّاضياتُ فلا نَسْخَطُ، طُوْبىَ لِمَنْ كانَ لنا وكُنَّا لهُ ".

6 - باب رؤية الله تعالى

" وعن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ في الجنة لمُجْتَمَعًا "؛ أي: إجتماعًا، أو موضع الاجتماع. " للحور العين "؛ أي: عِظَام الأعين حِسَانها. " يَرْفَعْنَ بأصوات لم يَسْمَع الخلائق مثلَها، يَقُلْنَ نحن الخالدات فلا نَبِيد "؛ أي: فلا نهلك. " ونحن النَّاعمات "؛ أي: المتنعمات. " فلا نبأس "؛ أي: لا نصير فقراء محتاجين. " ونحن الرَّاضيات فلا نَسْخَطُ، طُوبى لِمَنْ كان لنا وكُنَّا له ". * * * 4385 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ في الجَنَّةِ بَحْرَ الماءِ، وبَحْرَ العَسَلِ، وبَحْرَ اللَّبن، وبَحْرَ الخَمْرِ، ثُمَّ تُشَقَّقُ الأَنْهارُ بَعْدُ ". " وقال - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ في الجنة بَحْرَ الماء وبَحْرَ العسل وبَحْرَ اللبن وبَحْرَ الخمر ثم تُشَقَّقُ الأنهار بعدُ "؛ أي: تُشَقَّق من الأبحر الأربعة أنهار بعد دخول أهل الجنة الجنة فتجري إلى مكان كلِّ واحدٍ منهم. * * * 6 - باب رُؤْيَةِ الله تَعالى (باب رؤية الله تعالى) مِنَ الصِّحَاحِ: 4386 - قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ ربَّكُمْ عِيانًا ".

"من الصحاح": " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنكم سَتَرَوْنَ ربكم عِيَانًا " بكسر العين -؛ أي: ستبصرون ربكم معاينًا بلا حجاب. * * * 4387 - وقال جَريرُ بن عبدِ الله: كُنّا جُلوسًا عِنْدَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَنَظَرَ إلى القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ فقالَ: " إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ ربَّكُمْ كما تَرَوْنَ هذا القَمَرَ، لا تُضامُونَ في رُؤْيتِهِ، فإن استَطَعتُمْ أن لا تُغْلبُوا على صَلاةٍ قَبْلَ طُلوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُروبها فافعَلوا. ثُمَّ قَرَأَ {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} ". " وقال جرير بن عبد الله - رضي الله عنه -: كنا جلوسًا "؛ أي: جالسين. " عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَنَظَرَ إلى القمر ليلةَ البدر، فقال: إنكم سَتَرَوْنَ ربَّكم كما تَرَوْنَ هذا القمر ": وهذا تشبيه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي. " لا تُضَامُّون في رؤيته " بتشديد الميم؛ أي: لا ينضمُّ بعضكم إلى بعض مزدحمين وقت النظر إليه، وبالتخفيف؛ أي: لا ينالكم ضَيْمٌ: أي: ظلم في رؤيته بأن لا يراه البعض ورآه البعض. " فإن استطعتم أن لا تُغْلَبوا "؛ أي: إِنْ قدرتم على أن لا تكونوا مغلوبين. " على صلاةٍ قبل طلوع الشَّمس وقبل غروبها "؛ يعني: صلاة الصبح والعصر. " فافعلوا ": وإنما خصَّهما بالحثِّ عليهما لشدَّة خوف فوتهما بالنوم؛ لميل النفس إلى الاستراحة في الصبح؛ وبكثرة المعاملات والاشتغال بها وقت العصر، وهذا يدل على أن نيل الرؤية يُرْجَى بالمحافظة عليها. " ثم قرأ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] ". * * *

4388 - وعن صَهَيْبٍ عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " إذا دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ الجَنَّةَ يقُولُ الله تبارَكَ وتعالى: تُريدُونَ شَيْئًا أَزيدُكُمْ " فيقولونَ: ألَمْ تُبيِّضْ وُجُوهَنا؟ ألَمْ تُدْخِلْنا الجَنَّةَ وتُنجِّنا منَ النَّارِ؟ قالَ: بلى. فيُرْفَعُ الحِجَابُ فيَنظُرونَ إلى وَجْهِ الله، فما أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إليهِمْ مِنَ النَّظَرِ إلى رَبهمْ. ثُمَّ تلا {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} ". " عن صُهَيْب الرُّومي - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا دَخَلَ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، يقول الله تبارك وتعالى: تريدون شيئًا ": في تقدير الاستفهام. " أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيِّض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة، وتنجِّنا من النار؟ قال: بلى، فَيُرْفَعُ الحِجَاب "؛ أي: عن أعين الناظرين. " فينظرون إلى وجه الله تعالى، فما أُعْطُوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم، ثم تلا {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا} "؛ أي: العمل في الدنيا. {الْحُسْنَى} أي: الجنة. {وَزِيَادَةٌ}: وهي النظر إلى وجهه الكريم، فإنها زِيْدَتْ على ثواب أعمالهم. * * * مِنَ الحِسَان: 4389 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ أَدْنىَ أَهْلِ الجَنَّةِ مَنْزِلةً لَمَنْ ينظُرُ إلى جِنانِهِ وأَزْواجِهِ ونَعيمِهِ وخَدَمِهِ وسُرُرِهِ مَسيرةَ ألْفِ سَنَةٍ، وأَكْرَمَهُمْ على الله مَنْ ينظُرُ إلى وَجْهِهِ غَدْوَةً وعَشِيَّةً. ثمّ قَرأَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ". "من الحسان": " عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن أدنىَ أهلِ الجنَّة منزلةً لَمَن

ينظُرُ إلى جِنَانِهِ وأزواجه ونعيمه وخَدمِهِ وسُرُرِهِ مسيرة ألف سنةٍ، وأكرمهم على الله ": عطف على (أدنى). " مَنْ يَنْظُرُ إلى وجهه غَدْوَةً وعَشِيَّةً، ثم قرأ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} "؛ أي: حسنة ناعمة. {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}: لا إلى غيره؛ لأن تقديم الظرف يُؤْذِن بذلك. * * * 4390 - عن أبي رَزينٍ العُقَيْليِّ قالَ: قلتُ يا رسُولَ الله! أَكُلُّنا يَرى ربَّهُ مُخْلِيًا بهِ يومَ القِيامَةِ؟ وما آيةُ ذلكَ في خَلْقِهِ؟ قالَ: " يا أبا رَزِينٍ أَلَيْسَ كُلُّكُمْ يَرى القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ مُخْلِيًا بهِ؟ " قالَ: بلى، قالَ: " فإنَّما هو خَلْقٌ منْ خَلْقِ الله، والله أجَلُّ وأَعْظَمُ ". " قال أبو رَزِين العُقَيْلي - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله! أكلُّنا يرى ربه مَخْلِيًّا به " بالفتح ثم السكون وتشديد الياء؛ أي: خاليًا بربه بحيث لا يزاحمه شيء في الرؤية. " يومَ القيامة، قال: بلى، قال: وما آية ذلك "؛ أي: وما علامة رؤية كلنا [ربه] بحيث لا يزاحمه شيء. " في خَلْقِه "؛ يعني: مَثِّلْ لنا ذلك في خَلْقِه. " قال: يا أبا رزين! أليس كلُّكم يرى القمر ليلة البدر مخليًا به؟ قال: بلى، قال: فإنما هو خلق من خلق الله، والله أجلُّ وأعظم ": مَثَّلَه - صلى الله عليه وسلم - برؤية القمر ليلة البدر مع عدم المزاحمة. * * *

7 - باب صفة النار وأهلها

7 - باب صِفَةِ النَّار وأهلِها (باب صفة النار وأهلها) مِنَ الصِّحَاحِ: 4391 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " نارُكُمْ جُزْءٌ منْ سَبْعينَ جُزءًا منْ نارِ جَهَنَّمَ ". قيلَ: يا رسولَ الله! إنْ كانتْ لكَافِيَةً، قالَ: " فإِنَّها فُضلَتْ عَلَيْهِنَّ بتِسْعَةٍ وسِتِّينَ جُزءًا، كلُّهنَّ مثلُ حَرِّها ". "من الصحاح": " قال أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ناركم جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم، قيل: يا رسول الله! إنْ كانت لكافيةً "، (إن) هذه: مخففة من المثقَّلة، واللام هي الفارقة؛ أي: هذه النار التي تراها في الدنيا كانت كافيةً في الإحراق والتعذيب. " قال: فإنها "؛ أي: نار جهنم. " فُضِّلَتْ عليهنَّ "؛ أي: زيدَتْ على نيران الدنيا وحرِّها ونكايتها " بتسعةٍ وستين جزءًا كلهنَّ "؛ أي: كل جزء من أجزاء نار جهنم " مثل حَرِّها "؛ أي: حر نار الدنيا. * * * 4392 - وقالَ: " اِشْتَكَتِ النَّارُ إلى رَبها فقالت: رَبِّ أكلَ بعضي بَعْضًا، فأَذِنَ لها بنفَسَيْنِ: نفَسٍ في الشِّتاءَ، ونفَسٍ في الصَّيفِ، أَشَدُّ ما تَجِدُونَ منَ الحَرِّ، وأَشَدُّ ما تَجِدونَ مِنَ الزَّمْهَريرِ ".

" وقال: اشْتَكَتِ النار إلى ربها فقالت: ربِّ أكل بعضي بعضًا، فأَذِنَ لها بنفْسَيْنِ: نفسٍ في الشِّتاء، ونفسٍ في الصَّيف، أشدُّ ما تجدون من الحرِّ فمن حرِّها وأشد ما تجدون من الزَّمْهَرير فمن زمهريرها ": تقدم بيانه في (باب تعجيل الصلاة). * * * 4393 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: " يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لها سَبْعونَ ألفَ زِمامٍ، معَ كُلِّ زِمامٍ سَبْعونَ ألفَ مَلَكٍ يجُرُّونهَا ". " وقال: يؤتى بجهنم ": الباء للتعدية؛ يعني: يؤتى بجهنم من المكان الذي خلقها الله فيه. " يومئذٍ "؛ أي: يوم القيامة. " لها سبعون ألف زِمَام ": وهو ما يشدُّ به ويُرْبَط. " مع كل زمامٍ سبعون ألف مَلَك يجرُّونها ": فتدار بأرض المحشر حتى لا يبقى للجنة طريق إلا الصراط، وهذه الأَزِمَّة التي تجرَّ بها جهنم تمنعها من الخروج على أهل المحشر إلا مَنْ شاء الله. * * * 4394 - وقالَ: " إنَّ أهْوَنَ أَهْلِ النَّارِ عَذابًا مَنْ لهُ نَعْلانِ وشِرَاكَانِ مِنْ نارٍ يَغْلي منهُما دِماغُهُ كما يَغْلي المِرْجَلُ، ما يَرى أَنَّ أَحَدًا أَشَدُّ منهُ عَذابًا، وإنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ عَذابًا ". " وقال: إن أهونَ أهل النار "؛ أي: أيْسَرَهم. " عذابًا مَنْ له نعلان وشِرَكان ": الشِرَاك: سَيْرُ النَّعل الذي على ظهر القدم.

" من نار يَغْلِي منهما دماغُهُ كما يغلي المِرجَل " بكسر الميم وفتح الجيم: قِدْرٌ من نحاس. " ما يَرَى "؛ أي: لا يظنُّ ذلك الشَّخص. " أن أحدًا ": من أهل النار. " أشدُّ منه عذابًا، وإنه "؛ أي: والحال أنه: " لأهْوَنهم عَذابًا "، وفيه تصريحٌ بتفاوت عذاب أهل النار. * * * 4395 - وقالَ: " أَهْوَنُ أَهْلِ النَّارِ عَذابًا أبو طَالِبٍ، وهو مُنْتَعِلٌ بنعْلَيْنِ يَغْلي مِنْهُما دِماغُه ". " وقال: أهون أهل النار عذابًا أبو طالب، وهو مُنْتَعِلٌ بنعلَيْن يَغْلِي منهما دِماغُه ". * * * 4396 - وقالَ: " يُؤْتَى بأَنْعَم أَهْلِ الدُّنيا منْ أَهْلِ النَّارِ يومَ القِيامةِ فيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقالُ: يا ابن آدَم! هلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بكَ نَعِيمٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا والله يا رَبِّ، ويُؤتَى بأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا في الدُّنيا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، فيُصبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ فيقالُ لهُ: يا ابن آدمَ! هلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قطُّ؟ هلْ مَرَّ بكَ شِدَّةٌ قطُّ؟ فيقولُ: لا والله يا رَبِّ، ما مَرَّ بي بُؤْسٌ قطُّ، ولا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ". " وقال - صلى الله عليه وسلم -: يؤتى بِأَنْعَم أهْلِ الدُّنيا ": الباء للتعدية، و (أنعم): أفعل تفضيل من النِّعمة؛ أي: بأكثرهم نعمةً. " من أهل النار ": (من) هذه بيانية في محل النصب على الحال.

" يومَ القيامة فيُصْبَغُ في النار صَبْغَةً "؛ أي: يُغْمَسُ فيها غَمْسَةً، أراد من الصَّبْغِ: الغَمْس؛ إطلاقًا للملزوم على اللازم؛ لأن الصَّبْغَ إنما يكون بالغَمْسِ غالبًا؛ يعني: يلحقه لَفْحَة منها. " ثم يقال: يا ابن آدم! هل رأيْتَ خيرًا قط؟ هل مرَّ بك نعيم قط؟ فيقول: لا والله يا رب ": فشدة العذاب تنسيه ما مضى عليه من نعم الدنيا. " فيؤتى بأشد الناس بؤسًا "؛ أي: شدة وبلاءً. " في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤسًا قط؟ وهل مر بك شدةً؟ فيقول: لا والله يا رب ما مر بي بؤس قط، ولارأيت شدةً قط ": فنعيم الجنة ينسيه ما مضى من سوء الحال. * * * 4397 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " يقولُ الله تعالى لأِهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذابًا يَوْمَ القِيامةِ: لوْ أنَّ لكَ مَا في الأَرْضِ منْ شَيءٍ أَكُنْتَ تَفْتَدِي بهِ؟ فيقولُ: نَعَم، فيقولُ: أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هذا وأنتَ في صُلْبِ آدَمَ، أنْ لا تُشْرِكَ بي شَيْئًا فأبَيْتَ إلا أنْ تُشرِكَ بي ". " وقال أنس - رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يقول الله تعالى لأَهْوَنِ أهلِ النار عذابًا يوم القيامة: لو أنَّ لك "؛ أي: لو ثَبَتَ أنَّ لك. " ما في الأرض من شيء، أكنْتَ ": استفهام بمعنى التوبيخ. " تفتدي به؟ "، والافتداء: إعطاء الفِدَاء. " فيقول: نعم، فيقول "؛ أي الله: " أرَدْتُ منك أَهْوَنَ مِنْ هذا "؛ أي: أَمَرْتُكَ بأسهل مِنْ هذا، وإنما فسَّرنا الإرادة بالأمر؛ لأن مُرَاد الله تعالى لا يتخلَّف أصلًا عند أهل الحق.

" وأنت في صُلْبِ آدم أن لا تشرك بي شيئًا، فأَبَيْتَ إلا أن تُشْرِكَ بي "؛ أي: امتنعت عن الإيمان والإسلام وأشركْتَ بي. * * * 4398 - وعن سَمُرةَ بن جُنْدَبٍ: أنَّ نبَيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " منهُمْ مَنْ تأخُذُهُ النَّارُ إلى كَعْبَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلى رُكْبَتَيْهِ، ومِنْهُمْ مَنْ تأخُذُهُ النَّارُ إلى حُجْزَتِهِ، ومنهُم مَنْ تَأْخُذُهُ النَّارُ إلى تَرْقُوَتِهِ ". " وقال سَمُرَةَ بن جُنْدَب - رضي الله تعالى عنه - أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال: منهم "؛ أي: مِنْ أهل النار. " مَنْ تَأْخُذُهُ النار إلى كَعْبَيْه، ومنهم من تأخُذُهُ النار إلى رُكْبَتَيْهِ، ومنهم مَنْ تأخُذُهُ النار إلى حُجْزَته " بضم الحاء المهملة وسكون الجيم؛ أي: إلى مَعْقِد إزاره. " ومنهم مَنْ تأخُذُهُ النار إلى تَرْقُوَتِهِ "؛ أي: الرقبة (¬1). * * * 4399 - وقالَ: " ما بَيْنَ مَنْكِبَي الكافِرِ في النَّارِ مَسيرةُ ثلاثةِ أيَّامٍ للرَّاكِبِ المُسْرِعِ ". " وقال: ما بَيْنَ مَنْكِبَيِ الكافر في النار مَسِيْرَةُ ثلاثَةِ أَيَّام للرَّاكِبِ المُسْرِع ": إنما عظم جسمه ليعظم عذابه. * * * ¬

_ (¬1) في " غ ": " إلى صدره ".

4400 - وقالَ: " ضرْسُ الكافِرِ مِثْلُ أُحُدٍ، وغِلَظُ جِلْدِهِ مَسيرَةُ ثَلاثٍ ". " وقال: ضِرْسُ الكافر "؛ أي: سِنُّه يوم القيامة. " مثل أُحُد ": جبل بالمدينة. " وغِلَظُ جلده مَسِيْرَةُ ثلاث "؛ أي: ثلاث ليال، وذلك ليشتد في التعذيب. * * * مِنَ الحِسَان: 4401 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " أُوقِدَ على النَّارِ ألْفَ سَنَةٍ حتَّى احْمَرَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ عَلَيها ألْفَ سَنَةٍ حتَّى ابيَضَّتْ، ثُمَّ أُوقِدَ علَيها ألْفَ سَنَةٍ حتَّى اسْوَدَّتْ، فهيَ سَوداءُ مُظْلِمَةٌ ". "من الحسان": " قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: أُوْقِدَ على النار ": فاعل (أوقد) [محذوف] " ألف سنةٍ حتى احمرَّتْ، ثم أُوقد عليها ألف سنةٍ حتى ابيضَّتْ، ثم أوقد عليها ألف سنةٍ حتى اسودَّت فهي سوداء مظلمة ": لا يضيء لهبها ولا تطفئ جمرتها. * * * 4402 - وقالَ - صلى الله عليه وسلم -: " ضرْسُ الكافِرِ يَوْمِ القِيامةِ مِثْلُ أُحُدٍ، وفخِذهُ مِثْلُ البَيْضاءِ، ومَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ مَسيرةُ ثلاثٍ مِثْلُ الرَّبَذَةِ ". " وقال - صلى الله عليه وسلم -: ضِرْسُ الكافر يوم القيامة مثل أُحُدٍ، وفَخِذُه مثل البَيْضَاء ": جبل قرب الرَّبَذَة - بالتحريك -: قرية على ثلاثة مراحل من المدينة، بها قبر أبي ذر الغفاري، وقيل: جبل بالشام.

" ومقعده من النار مَسيرَةُ ثلاث مثل الرَّبَذَة "؛ أي: كمثل الرَّبَذَة، يريد ما بينهما. * * * 4403 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ غِلَظَ جِلْدِ الكافِر ثِنْتانِ وأَرْبعونَ ذِراعًا، وإِنَّ ضرْسَهُ مِثْلُ أُحُدٍ، وإنَّ مَجْلِسَهُ مِنْ جَهَنَّمَ ما بينَ مَكَّةَ والمَدينَةِ ". " وقال: إن غِلَظَ جِلْدِ الكافر اثنان وأربعون ذراعًا، وإن ضِرْسَهُ مثل أُحُد، وإن مَجْلِسَهُ من جهنَّم ما بين مكة والمدينة ". * * * 4404 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " إنَّ الكافِرَ لَيُسْحَبُ لِسانُهُ الفَرْسَخَ والفَرْسَخَيْنِ يتَوَطَّؤُهُ النَّاسُ "، غريب. " قال ابن عمر - رضي الله عنهما -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ الكافر لَيُسْحَبُ "؛ أي: لَيُجَرُّ. " لِسَانُهُ الفَرْسَخَ والفَرْسَخَيْنِ يَتَوَطَّؤُه الناس "؛ أي: يمشون على لسانه. " غريب ". * * * 4405 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " الصَّعُودُ جَبَلٌ منْ نارٍ يَتَصَعَّدُ فيهِ سَبْعينَ خَرِيفًا، ويَهوي بهِ كذلكَ فيه أَبَدًا ". " عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17]: " الصَّعُود: جبل من نار يتصعَّدُ فيه "؛ أي: يكلَّف " الكافر " ارتقاءه.

" سبعين خريفًا "؛ أي: سنة. " ويَهوِي به "؛ أي: يكلَّف بسقوط ذلك الكافر. " كذلك "؛ أي: سبعين سنة. " فيه "؛ أي: في ذلك الجبل. " أبدًا "؛ يعني: لا ينقطع تكليفه صعود ذلك الجبل وسقوطه منه. * * * 4406 - وقالَ في قَوْلِه: {كَالْمُهْلِ} أي كعَكَرِ الزَّيْتِ، فإذا قُرِّبَ إلى وَجْهِهِ سَقَطَ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فيهِ ". " وقال - صلى الله عليه وسلم - في قوله عز وجل: {بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ}: أي: كَعَكَرِ الزَّيْتِ "؛ أي: كدُرْدِيُّهُ. " فإذا قُرِّبَ إلى وجهه سَقَطَ فَرْوَةُ وَجْهِهِ فيه "؛ أي: جلد وجهه في العَكَرِ. وقيل: المهل: الرصاص المُذَاب أو الصُّفْرُ والفضَّة، وكل ما أُذِيْبَ من هذه الأشياء فهو مهل، وقيل: المهل: الصَّديد الذي يَسيْلُ من البدن. * * * 4407 - وقالَ: " إنَّ الحَمِيمَ لَيُصَبُّ على رُؤُوسهِمْ فيَنْفُذُ الحَمِيمُ حتَّى يَخلُصَ إلى جَوْفِهِ، فيَسْلُتُ ما في جَوْفِهِ حتَّى يَمْرُقَ منْ قَدَمَيْهِ، وهو الصَّهْرُ، ثمَّ يُعادُ كما كانَ ". " وقال: إن الحميم ": وهو الماء البالغ نهاية الحرِّ. " لَيُصَبُّ على رؤوسهم "؛ أي: لَيُسْكَبُ. " فَيَنْفُذُ الحميم "؛ أي: يمضي. " حتى يَخْلُصَ "؛ أي: يصل.

" إلى جوفه، فَيَسْلِتُ "؛ أي: يقطع، أو يمسح " ما في جوفه ": مِنْ سَلَتُّ القَصْعَة: إذا مسحتها من الطعام. " حتى يَمْرُقَ "؛ أي: يخرج. " مِنْ قَدَمَيْهِ، وهو الصَّهْرُ ": المذكور في قوله تعالى: {يُصْهَرُ بِهِ}؟ أي: يُذَاب بالحميم المسكوب على رؤوسهم {مَا فِي بُطُونِهِمْ} [الحج: 20] مِنْ شحومٍ وغيرها، فيقطعها ويخرج من أدبارهم. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: لو سَقَطَتْ قطرة من الحميم على جبال الدنيا لأذابتها. " ثم يعاد كما كان ". * * * 4408 - عن أبي أُمامَةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في قوله {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ} قالَ: " يُقرَّبُ إلى فيهِ فَيَكْرهُهُ، فإذا أُدْنِيَ مِنْهُ شَوَى وَجْهَهُ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رأْسِهِ، فإذا شَرِبَهُ قَطَّعَ أَمْعاءَهُ حتَّى تَخْرُجَ مِنْ دُبُرِهِ، يقولُ الله تعالَى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} ويقولُ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} ". " عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قوله تعالى: {وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} "؛ أي: من ماء رقيقٍ مختلط بالدَّم الذي يخرج من الجرح. {يَتَجَرَّعُهُ}؛ أي: يتحسَّاه ويشربه جُرْعَةً بعد جُرْعَةٍ لمرارته وحرارته. " قال: يُقَرَّبُ إلى فِيْهِ فيكرهه، فإذا أُدْنِيَ "؛ أي: قرب منه " شوى وجهه "؛ أي: نضجه. " ووقَعَتْ فروة رأسه، فإذا شربه قطَّع أمعاءه ": جمع معي.

" حتى يخرج من دبره، يقول الله تعالى: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15]، ويقول تعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف: 29] "؛ أي: ينضجها من حَرِّه. * * * 4409 - وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " لِسُرْادِقِ النّارِ أَرْبَعةُ جُدُرٍ، كِثَفُ كُلِّ جِدارٍ مَسيرةُ أَرْبعينَ سَنَةً ". " قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله عليه تعالى وسلم " في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]. " لِسُرَادِقِ النار ": السُّرْدَاق: ما أحاط بشيء. " أربعة جُدُر ": جمع جدار. " كِثَفُ كلِّ جدار "؛ أي: غلظه. " مسيرة أربعين سنة ". * * * 4410 - وبه قالَ: " لوْ أن دَلْوًا منْ غَسَّاقٍ يُهْراقُ في الدُّنيا لأَنْتَن أَهْلُ الدُّنيا ". " وقال: لو أنَّ دلْوًا من غَسَّاق ": وهو - بتشديد السين المهملة وتخفيفها -: ما يسيل من صديد أهل النار، وقيل: من دموعهم، وقيل: هو الزَّمهرير، وقيل: هو بارد يحرق لا يقدر أحد على شربه من برده، كما لا يقدر على شرب الحميم لحرارته. " يُهَرَاق "؛ أي: يُصَبُّ.

" في الدنيا لأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنيا ": برفع (أهل) فاعل لأنَّ (أنتن) لازم؛ أي: لصاروا ذوي نتن. * * * 4411 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَرَأَ هذهِ الآيَة: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " لوْ أنَّ قَطْرةً منَ الزَّقُّومِ قَطَرتْ في دارِ الدُّنيا لأَفْسَدَتْ على أَهْلِ الأَرْضِ مَعَايِشَهُمْ، فكَيْفَ بِمَنْ يكونُ طعامُهُ؟ "، صحيح. " عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه سلم قرأ هذه الآية: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} "؛ أي: موحِّدون، والنَّهي في الظاهر: عن الموت، وفي الحقيقة: عن ترك الإسلام؛ يعني: لا يُوْجَد مَوْتُكُم إلا على حالِ كونكم ثابتين على الإسلام. " قال: لو أنَّ قَطْرَةً من الزَّقُّوم ": وهو شجرة خبيثة مُرَّة كريهة الطعم والرائحة. " قَطَرَتْ في دار الدنيا لأفسدَتْ على أهل الأرض معايِشَهُمْ ": جمع المعيشة. " فكيف بمن " الفاء: جواب شرط مُقَدَّر كأنه قيل: إذا عُرِفَ ذلك فكيف حال مَنْ " يكون " ذلك الزقوم " طعامه " في النار. " صحيح ". * * * 4412 - عن أبي سَعيدٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ}

قالَ: تَشْويهِ النّارُ فَتَتَقَلَّصُ شَفَتُهُ العُليا حتَّى تَبْلُغَ وَسَطَ رَأْسِهِ وتَسْترخِيَ شَفَتُهُ السُّفلَى حتَّى تَضْرِبَ سُرَّتهُ ". " عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} "؛ أي: الكفار في النار عَابِسُون باديةٌ أسنانهم. " قال: تَشْوِيه النار "؛ أي: تحرقه. " فَتَقَلَّصُ "؛ أي: تنقبض. " شَفَتُهُ العُلْيَا ": تأنيث الأعلى. " حتى تبلغ وَسَطَ رأسه، وَتَسْتَرْخِي ": وتتَدَلَّى. " شَفَتُهُ السُّفْلَى ": تأنيث الأسفل. " حتى تَضْرِبَ سُرَّتَهُ ". * * * 4413 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " يا أيُّها النَّاسُ ابْكُوا، فإنْ لَمْ تَسْتَطيعوا فتباكَوْا، فإنَّ أَهْلَ النَّارِ يَبْكونَ في النَّارِ حتَّى تسيلَ دُمُوعُهُمْ في وُجُوهِهِمْ كأَنَّها جَداوِلُ، حتَّى تَنْقَطِعَ الدُّمُوعُ فتسيلُ الدِّماءُ فَتَقَرَّحُ العُيونُ، فلوْ أنَّ سُفُنًا أُرْخِيَتْ فيها لجَرَتْ ". " وقال أنس - رضي الله عنه -: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أيها الناس ابكوا فإن لم تستطيعوا فتباكوا "؛ أي: أظهروا البكاء من أنفسكم. " فإنَّ أهلَ النار يبكون في النار حتى تسيل دموعهم في وجوههم كأنها "؛ أي: الدموع. " جداول ": جمع جدول، وهو النهر الصغير.

" حتى تنقطع الدموع، فتسيل الدماء فتَقَرَّحُ "؛ أي: تُجْرَحُ. " العيون، فلو أن سُفُنَا ": جمع سفينة. " أُزْجِيَتْ فيها "؛ أي: سِيْقَتْ في دموع الكفرة. " لَجَرَتْ "؛ لكثرتها. * * * 4414 - عن أبي الدَّرْداءَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " يُلقَى على أَهْلِ النَّارِ الجُوعُ فَيَعْدِلُ ما هُمْ فيهِ منَ العَذابِ، فَيَسْتَغيثونَ، فيُغاثونَ بطَعامٍ {مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}، فيسَتَغيثونَ بالطَّعامِ، فيُغاثونَ بطَعامٍ ذي {غُصَّةٍ} فَيذكُرونَ أنَّهمْ كانوا يُجيزونَ الغُصَصَ في الدُّنيا بالشَّرابِ، فيسَتَغيثونَ بالشَّرابِ، فيُرفَعُ إليهِمُ {الْحَمِيمُ} بكلاليبِ الحَديدِ، فإذا دنَتْ منْ وُجُوهِهِمْ شَوَتْ وُجُوهَهُمْ، فإذا دَخَلتْ بُطونَهُمْ قَطَّعَتْ ما في بُطُونِهِمْ، فيقَولونَ: ادْعُوا خَزَنَة جَهَنَّمَ، فيقولون: {قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} قالَ: فيقولون: ادْعُوا مالِكًا، فيقولون: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} قال: فيُجِيبُهم {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} "؛ قال الأَعْمَشُ: نُبِّئْتُ أنَّ بَيْنَ دُعائهِمْ وإِجابَةِ مالِكٍ إيّاهُمْ ألفَ عامٍ. قالَ: " فيقولون: ادْعُوا ربَّكُمْ فلا أَحَدَ خَيْرٌ منْ ربكُمْ، فيقولونَ: {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} قال: فيُجيبُهُمْ {اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} قال: فعندَ ذلكَ يَئِسوا منْ كُلِّ خيرٍ، وعِنْدَ ذلكَ يأخُذونَ في الزَّفيرِ والحَسْرةِ والوَيْلِ ". ويُروَى هذا مَوْقُوفًا على أبي الدَّرْداءِ. " قال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يُلْقَى على أهل النار الجوع

فَيَعدِلُ "؛ أي: يماثل ألم جوعهم. " ما هم فيه من العذاب "؛ أي: ألم عذابهم. " فيستغيثون بالطعام، فيغاثون بطعام {مِنْ ضَرِيعٍ}: وهو نبت بالحجاز، له شوك يقال له: الشِّبْرِق ما دام رطبًا، فإذا يبس يقال له: ضريع، لا تقربه دابة لخبثه لو أكلت ماتَتْ، والمراد هنا: شوك من نار أمر من الصَّبِرِ، وأنتن من الجيفة، وأشد حرًا من النار. {لَا يُسْمِنُ}؛ أي: لا يُشبع الجائع. {وَلَا يُغْنِي}؛ أي: لا ينفع. " {مِنْ جُوعٍ} فيستغيثون بالطعام فيغاثون بطعام ذي غُصَّة ": وهو ما يَنْشَبُ في الحلْقِ من عَظْمٍ وغيره، ولم يَسُغ. " فيذكرون أنهم كانوا يُجِيْزُونَ "؛ أي: يُسَوِّغون. " الغُصَصَ ": جمع غُصَّة. " في الدنيا بالشراب، فيستغيثون بالشراب، فَيُرْفَعُ إليهم الحميم بكَلاَليب الحديد ": جمع الكَلُّوب. " فإذا دَنَتْ من وجوههم شَوَتْ وجوههم، وإذا دَخَلَتْ بُطُوْنهمْ قَطَّعَتْ ما في بطونهم، فيقولون "؛ أي: الكفار بعضهم لبعض: " ادعوا خَزَنَةَ جهنم ": جمع خازن، وهم الملائكة الموكَّلون على النار. " فيقولون "؛ أي: الخزنة للكفار: {أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؛ أي: ألم يخبركم رسلكم بالدلائل الواضحة أنَّ عذاب جهنم إلى الأبد. {قَالُوا بَلَى}؛ أي: أُخْبِرنا بها.

{قَالُوا}؛ أي: الخزنة لهم تهكُّما بهم: {فَادْعُوا} أنتم ما شئتم فإنا لا نشفع للكافرين. {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ}؛ أي: في هلاك؛ لأنه لا ينفعهم؛ يعني: لا يُسْتَجاب لكم لكفركم. " قال: فيقولون: ادعوا مَالكًا، فيقولون: {يَامَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}؛ أي: ليمتنا لنستريح. " قال: فيجيبهم {إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ}؛ أي: دائمون في العذاب. " قال الأعمش: نُبِّئْتُ "؛ أي: أُخْبِرْتُ. " أن ما بين دعائهم وإجابة مالك إيَّاهم ألف عام، قال: فيقولون "؛ أي: الخزنة: " ادعوا ربَّكم، فلا أَحَدَ خيرٌ من ربكم، فيقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا}؛ أي: شقاوتنا التي كتبت علينا فلم نهتَدِ. {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} عن الهداية {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا}؛ أي: من النار {فَإِنْ عُدْنَا} إلى الكفر والتكذيب {فَإِنَّا ظَالِمُونَ} لأنفسنا. " قال: فيجيبهم: {اخْسَئُوا فِيهَا} "؛ أي: أبعدوا أذلاء في النار. {وَلَا تُكَلِّمُونِ} في رفع العذاب، فإني لا أرفعه عنكم. " قال: فعند ذلك يئسوا من كل خير، وعند ذلك يأخذون في الزَّفِير ": وهو اعْتِراقُ النفس للشدة. " والحَسْرَةِ والوَيْل، ويروى هذا موقوفًا على أبي الدرداء ". * * * 4415 - عن النُّعمانِ بن بَشيرٍ قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: " أَنْذَرْتُكُم النَّارَ، أَنْذَرْتُكُم النَّارَ، فما زالَ يقولُها حتَّى لوْ كَانَ في مَقامِي هذا

سَمِعَهُ أَهْلُ السُّوقِ، وحتَّى سَقَطَتْ خَمِيصَةٌ كانتْ عَلَيهِ عِنْدَ رِجْلَيهِ ". " عن النعمان بن بشير - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أنذَرْتُكُمُ النَّار، أنذَرْتُكُمُ النار، أنذرتكم، قال: فما زال يقولها "؛ أي: تلك الكلمة. " حتى لو كان "؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. " في مكاني هذا سمعه أهل السوق، وحتى سَقَطَتْ خَمِيْصَةً كانت عليه عند رِجْلَيه ": من كثرة قوله: (أنذرتكم). * * * 4416 - عن أبي بُرْدَةَ عن أَبِيهِ - رضي الله عنهما -، عن النَّبى - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ في جَهَنَّمَ وادِيًا يُقالُ لهُ: هَبْهَبُ، يَسكُنُه كُلُّ جَبَّارٍ ". " عن أبي بردة، عن أبيه - رضي الله عنهما - عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: إن في جَهَنَّمَ واديًا يُقال له: هَبْهَبُ ": وهو السَّريع؛ لسرعة وقوعه في المجرمين، ولشدَّة أجيج النار فيهم. " يسكنه كل جَبَّار ". * * * 4417 - عن عبدِ الله بن عَمْرِو بن العاصِ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " لوْ أنَّ رَضْرَاضَةً مِثْلَ هذِهِ، وأَشارَ إلى مِثْلِ الجُمْجُمَةِ، أُرسِلتْ منَ السَّماءِ إلى الأَرْضِ في مَسيرةِ خَمْسِ مِئَةِ سَنَةٍ لَبَلَغتِ الأَرْضَ قبلَ اللَّيلِ، ولوْ أنَّها أُرْسِلَتْ مِنْ رأْسِ السِّلسِلَةِ لسارتْ أَرْبعينَ خَريفًا اللَّيلَ والنَّهارَ قبل أنْ تبلُغَ أَصْلَها أَوْ قَعْرَها ". " عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو أن

8 - باب خلق الجنة والنار

رَصاصة (¬1) ": وهي القطعة من الرصاص. " مثل هذه وأشار إلى مثل الجُمْجُمَة " بضم الجيمين وسكون الميم الأولى: وهي عظم الرأس المشتمل على الدِّماغ، أشار - صلى الله عليه وسلم - إليها تبيينًا لحجمها، وتنبيهًا على تدور شكلها؛ ليكون في ذلك بيان مدى قَعْرِ جهنم بأبلغ ما يمكن من البيان، وضرب المثل بالرصاص الرزين، والجوهر كلما كان أتم رزانة كان أسرع هبوطًا إلى مستقره؛ يعني: لو أنها. " أُرْسِلَتْ من السماء إلى الأرض، وهي مسيرة خمس مئة سنة لبلغت الأرض قبل الليل، ولو أنها أُرْسِلَتْ مِنْ رأس السِّلسلة ": يريد بها سلسلة الصراط. " لسارت أربعين خريفًا الليلَ والنهارَ قبل أن تبلغ أصْلَهَا "؛ أي: أصل السِّلسلة. " أو قَعْرَها ": شكٌّ من الراوي، أراد بها: قعر جهنم، إذ لا قعر للسلسلة. * * * 8 - باب خَلْقِ الجَنَّةِ والنَّارِ (باب خلق الجنة والنار) مِنَ الصِّحَاحِ: 4418 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " حُفَّتِ الجَنَّةُ بالمَكارِهِ وحُفَّتِ النَّارُ بالشَّهَواتِ ". ¬

_ (¬1) في " ت ": " رضاضة ".

"من الصحاح": " عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حُفَّتِ الجنة "؛ أي: أُحْدِقَتْ وأُحِيطَتْ. " بالمكاره ": جمع كُرْه على غير قياس كمحاسن وحسن، وهو المشقة والشدة؛ يعني: الجنة محدقة بأنواع الشدائد والمشقات، وهي تكاليف الشرع أمرًا ونهيًا. " وحُفَّتِ النار بالشَّهوات ": وهي مستلذات النفس ومراداتها. * * * 4419 - عن أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " تَحَاجَّتِ الجَنَّةُ والنَّارُ، فقالتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بالمُتَكبرينَ والمُتَجبرينَ، وقالت الجَنَّةُ: فما لي لا يدخُلني إلَّا ضُعفاءُ النَّاسِ وسَقَطُهُم وغِرَّتُهُمْ؟ فقالَ الله للجَنَّةِ: إنَّما أَنْتِ رَحْمَتي أرحَمُ بكِ مَنْ أشاءُ مِن عِبادِي، وقال للنَّارِ: إنَّما أَنْتِ عَذابي أُعذِّبُ بكِ مَنْ أشاءُ مِنْ عِبادِي، ولكُلِّ واحدَة مِنْكُما مِلْؤُها، فأمَّا النَّارُ فلا تَمْتَلِئُ حتَّى يَضَعَ الله رِجْلَهُ فيها، وتَقُول: قَطْ قَطْ قَطْ، فَهُنالِكَ تَمْتَلِئُ ويُرْوَى بَعْضُها إلى بَعْضٍ فلا يَظْلِمُ الله مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وأمَّا الجَنَّةُ فإن الله يُنشِئُ لها خَلْقًا ". " قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تحاجَّت "؛ أي: تخاصَمَتْ. " الجنة والنار، فقالت النار: أُوثِرْتُ ": على صيغة المتكلم المجهول، من آثر بمعنى اختار. " بالمتكبِّرين والمتجبِّرين، وقالت الجنة: فما لي ": استفهام؛ أي: أيُّ شيء وقع لي. " لا يدخلني إلا ضعفاء الناس "؛ أي: أراذلهم.

" وَسَقَطُهُمْ (¬1) "؛ أي: دونهم. " وغِرَّتُهُمْ "؛ أي: الذين لم يجرِّبوا الأمور الدنيوية، قال - صلى الله عليه وسلم -: " أكثر أهل الجنة البُلْهُ " أي: في أمور الدنيا. " فقال الله للجنة: إنما أنت رحمتي ": سُمِّيت الجنة رحمةً؛ لأنها مظهرها. " أرحم بك مَنْ أشاء مِنْ عبادي، وقال للنار: إنما أنت عذابي أعذِّب بك مَنْ أشاء مِنْ عبادي، ولكل واحدة منكما مِلْؤُها، فأمَّا النار فلا تمتلِئُ حتى يَضَعَ الله رِجْلَهُ ": قيل: المراد به: القهر والاستهانة؛ أي: حتى يستهين بأهلها، يقال: وضعْتُ رجلي على فلان؛ أي: قهرته، وقيل: المراد به: الجماعة التي بها يتمُّ عدد أهل النار. " فتقول: قَطْ قَطْ قَطْ " بسكون الطاء وتخفيفها؛ معناه: أكتفي وأنتهي، وروي بالكسر، معناه: حسبي، وتكرارها ثلاثًا هو إحدى الروايات في (كتاب مسلم)، وفي سائر النسخ مرتين. " فهنالك تَمْتَلِئُ ويُزْوَى ": على بناء المجهول؛ أي: يُضَمُّ ويجمع " بعضها إلى بعض " من غاية الامتلاء. " فلا يظلم الله مِنْ خلقه أحدًا "؛ يعني: كل واحد من الناس مجزًى بعمله، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، فحينئذٍ لا ظلم على أحد، قال الله تعالى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر: 17]. " وأما الجنة فإن الله تعالى ينشئ لها خلقًا "؛ أي: يخلق يوم القيامة خلقًا لتمتلئ الجنة بهم بعد ما دخل فيها الأنبياء والأولياء والمؤمنون؛ تصديقًا لقوله: ¬

_ (¬1) في هامش " غ ": " في نسخة: وسفلتهم ".

(ولكل واحدةٍ منكما مِلْؤُها). * * * 4420 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " لا تزالُ جَهَنَّمُ يُلقَى فيها وتَقُولُ: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} حتَّى يَضَعَ رَبُّ العِزَّةِ فيها قدَمَهُ، فيَنْزَوِي بَعْضُها إلى بَعْضٍ وتقولُ: قَطْ قَطْ قَطْ بِعِزَّتِكَ وكَرَمِكَ، ولا يزالُ في الجَنَّةِ فَضْلٌ حتَّى يُنْشِئَ الله لها خَلْقًا فيُسْكِنهمْ فَضْلَ الجَنَّةِ ". " قال أنس - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا تزال جهنم يُلْقَى فيها، وتقول: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} "؛ أي: زيادة. " حتى يضعَ ربُّ العزَّة قدَمَهُ فيها "، قيل: المراد من القَدَم: قومٌ مسمى بهذا الاسم. قال وهب: إن الله تعالى كان قد خلق قومًا قبل آدم رؤوسهم كرؤوس الكلاب، وسائر أعضائهم كأعضاء بني آدم، يقال لهم: القدم، فعصوا ربهم فأهلكهم الله يملأ الله بهم جهنم حين تستزيد، أو المراد به: مَنْ قَدَّمَهُم الله وأَعَدَّهم للنار من الكفرة، وقيل: المراد به: قدم بعض مخلوقاته أضافها إلى الله تعالى تعظيمًا كما قال: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} [التحريم: 12] وكان النافخ جبرائيل - عليه السلام -، وقيل: هو اسم لقومٍ يخلقهم الله تعالى لجهنم، قال القاضي عياض: هذا أظهر التأويلات، ومذهب السلف فيه التَّسليم؛ لأنه من المتشابهات. " فَيُزْوَى بعضها إلى بعض وتقول: قَطْ قَطْ، بعزَّتك وكرمك، ولا يزال في الجنة فضل "؛ أي: مسكنٌ خالٍ عن ساكنها لا تساعها. " حتى ينشئ الله تعالى لها خلقًا فيسكنهم فضل الجنة ". * * *

مِنَ الحِسَان: 4421 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " لمَّا خَلَقَ الله الجَنَّةَ قال: لجبريلَ اذهَبْ فانظُرْ إليها، فذهَب فَنَظرَ إليها وإلى ما أعَدَّ الله لأَهْلِها فيها، ثُمَّ جاءَ فقالَ: أيْ رَبِّ وعِزَّتكَ لا يَسْمَعُ بها أَحَدٌ إلَّا دَخَلها، ثُمَّ حَفَّها بالمَكارِهِ، ثُمَّ قال: يا جبريلُ! اِذْهَبْ فانْظُرْ إليها، فَذَهَبَ فنظَر إليها، ثمَّ جاءَ فقال: أيْ رَبِّ وعِزَّتكَ لقدْ خَشِيتُ أنْ لا يَدْخُلَها أَحَدٌ. قال: فَلَمَّا خَلَقَ الله النَّارَ قال: يا جبريلُ! اِذْهَبْ فانظُرْ إليها، قالَ: فَذَهَبَ فَنَظَر إليها، فقالَ: أيْ رَبِّ وعِزَّتكَ لا يَسْمِعُ بها أَحَدٌ فَيَدْخُلُها، فَحَفَّها بالشَّهَواتِ، ثُمَّ قالَ: يا جبريلُ! اِذْهَبْ فانظُرْ إليها، فذَهبَ فنَظَرَ إليها، فقالَ: أيْ رَبِّ وعِزَّتِكَ لقدْ خَشِيتُ أنْ لا يبْقَى أَحَدٌ إلَّا دَخَلَها ". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لما خلق الله الجنة قال لجبريل: اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها وإلى ما أعدَّ الله لأهلها فيها، ثم جاء فقال: أي ربِّ، وعزَّتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حَفَّها بالمكاره، ثم قال: يا جبريل، اذهب فانظر إليها، فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي ربِّ، وعزتك لقد خشيْتُ أن لا يدخلها أحد، قال: فلما خلق الله النار قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها، قال: فذهب فنظر إليها، ثم جاء فقال: أي ربِّ، وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخُلَها ": بالنصب خبر (لا) دخلها الفاء. " فحفَّها بالشهوات، ثم قال: يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهَبَ فنظر إليها، فقال: أي ربِّ، وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها ". * * *

9 - باب بدء الخلق، وذكر الأنبياء عليهم السلام

9 - باب بدءِ الخَلقِ، وذكرِ الأَنبياءِ عليهم السَّلام (باب بدء الخلق وذكر الأنبياء) مِنَ الصِّحَاحِ: 4422 - عن عِمرانَ بن حُصَينٍ - رضي الله عنه -: أنَّه قال: إنِّي كُنْتُ عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ جاءَهُ قَوْمٌ منْ بني تَميمٍ، فقالَ: " اقبَلُوا البُشْرَى يَا بني تميمٍ ". قالوا: بَشَّرتَنا فأَعِطِنا، فَدَخَلَ ناسٌ منْ أهلِ اليَمَنِ، فقالَ: " اقبَلُوا البُشْرَى يا أَهْلَ اليمنِ إذْ لم يَقْبَلْها بنو تميمٍ ". قالوا: قبلْنا، جِئْناك لنَتَفَقَّهَ في الدِّينِ، ولنَسْأَلكَ عنْ أَوَّلِ هذا الأَمْرِ ما كان؟ قالَ: كانَ الله ولَمْ يكنْ شَيْءٌ قبلَهُ، وكانَ عَرْشُهُ علَى الماءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّماواتِ والأَرْضَ، وكَتَبَ في الذِّكْرِ كلَّ شيءٍ ". ثُمَّ أتاني رَجُلٌ فقالَ: يا عِمرانُ! أدْرِكْ ناقَتَكَ فقدْ ذَهَبَتْ، فانطلَقْتُ أَطلُبُها، وايْمُ الله لودِدْتُ أنَّها قد ذَهبَتْ ولمْ أقُمْ ". "من الصحاح": " عن عِمْرَان بن حصين - رضي الله عنه - أنه قال: إني كنْتُ عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إِذْ جاءهُ قومٌ مِنْ بني تميم "؛ أي: وقت مجيئهم. " فقال: اقبلوا البُشْرَى يا بني تميم، قالوا: بَشَّرْتَنَا "؛ أي: قَبْلَ هذا بالرحمة والجنة. " فأَعْطِنا "؛ أي: الآن حاجتنا من الدنيا، وإنما قالوا هذا؛ لعدم وثوقهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - وارتهان هممهم بالحظوظ الدنيوية. " فدخل ناس من أهل اليمن، فقال: اقبلوا البُشْرَى يا أهل اليمن إذ لم يقبلها بنو تميم، قالوا: قَبِلْنَا جِئْنَاك لنتفقَّه في الدِّين "؛ أي: لنتعلَّم الفقه وأحكام الشرع.

" ولنسألك عن أوَّل هذا الأمر "؛ أي: هذا الخلق. " ما كان "؛ يعني: ما خُلِقَ أولًا قبل خلق السماوات والأرض. " قال: كان الله، ولم يكن قبله شيء "؛ يعني: أنه الأول قبل كل شيء، ولا شيء قبله. " وكان عرشه على الماء "؛ يعني: أنهما كانا مخلوقَيْن قبل السماوات والأرض، ولم يكن تحت العرش قبل خَلْقِهِمَا إلا الماء، فالعرش على الماء، والماء على متن الريح، والريح قائمة بقدرة الله القديمة. " ثم خلق السماوات والأرض وكتب في الذِّكْرِ "؛ أي: أثبت في اللوح المحفوظ. " كلَّ شيء " مما هو كائن. " ثم أتاني رجل فقال: يا عِمْرَان أدرِكْ ناقَتَكَ، فقد ذهبَتْ، فانطلقْتُ "؛ أي: فذهبْتُ " أطلبها "؛ أي: الناقة. " وايم الله ": قال الكوفيون: هو محذوف عن أَيْمُن، جمع يمين، والهمزة للقطع، وعند سيبويه: كلمة بنفسها وُضِعَتْ للقسم، وليسَتْ جمعًا، والهمزة للوصل. " لَوَدِدْتُ "؛ أي: تمنَّيت واشتهيت. " أنها قد ذهبَتْ ولم أَقُمْ ". * * * 4423 - عن عُمَرَ - رضي الله عنه - قالَ: قامَ فينا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقامًا، فأَخْبَرَنا عنْ بِدْءِ الخَلْقِ حتَّى دَخَلَ أَهْلُ الجَنَّةِ منازِلَهُمْ، وأهلُ النَّارِ منازِلَهُمْ، حَفِظَ ذلكَ مَنْ حَفِظَهُ، ونسَيَهُ مَنْ نَسِيَه ".

" عن عمر - رضي الله عنه - قال: قام فينا النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: خطبنا. " مَقَامًا "؛ أي: قيامًا. " فأخبرنا عن بِدْءَ الخلق حتى دخلَ أهلُ الجنَّةِ منازِلَهُمْ وأهلُ النَّار منازِلَهُمْ "؛ يعني: أخبرنا عن أحوال جميع الأمم، وعن أحوال أُمَّته مما يجري عليهم من الخير والشر إلى أن يدخل أهل الجنةِ الجنةَ منهم وأهل النار النار. " حفظ ذلك "؛ أي: الأخبار. " مَنْ حَفِظَه، ونَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ ". * * * 4424 - وعن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: " إنَّ الله تعالى كتبَ كِتابًا قبلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ: إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضبَي، فهو مَكْتوبٌ عِندَهُ فَوْقَ العَرْشِ ". " قال أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: [سمعت] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن الله كتب "؛ أي: أثْبَتَ " كتابًا قبل أن يخلُقَ الخَلْقَ: إن رحمتي سَبَقَتْ غضبي "، معنى سبقها: أن قِسْطَ الخَلْقِ منها أكثر مِنْ قِسْطِهِمْ من الغضب؛ لنيلهم إيَّاها بلا استحقاق، والغضب بالاستحقاق، فهو يرحم البر والفاجر في الدنيا والآخرة، ولا يغضب إلا على الفاجر. وقيل: رحمة الله: إرادة الخير لعباده، وغضبه: إرادة عقوبتهم، فمعنى سبقها: أنه لا يعجِّل عقوبة الكفار والعصاة، بل يرزقهم الله ويعافيهم ويحفظهم عن الآفات، ويَقْبَلُ توبتهم إذا تابوا. " فهو مكتوبٌ عنده "؛ أي: ذلك الكتاب مثبت في علمه الأزلي. " فوق العرش ": معنى كونه فوقه: ثبوته مستورًا عن جميع الخَلْقِ مرفوعًا

عن حَيِّزِ الإدراك، لا أن فوقه مكانًا. * * * 4425 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " خُلِقَتِ المَلائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وخُلِقَ الجَانُّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ، وخُلِقَ آدمُ مِمَّا وُصِفَ لكُم ". " عن عائشة - رضي الله عنها -، عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: خُلِقَتِ الملائكة من نور، وخُلِقَ الجانُّ ": أبو الجنِّ. " من مَارِج من نار "؛ أي: من لهب مختلط بسواد النار. " وخُلِقَ آدم مما وُصِفَ لكم "؛ أي: من الطِّين، أو هو إشارة إلى قوله تعالى: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]. * * * 4426 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " لمَّا صَوَّرَ الله آدمَ في الجَنَّةِ تَرَكَهُ ما شاءَ الله أنْ يترُكَهُ، فجَعَلَ إبْليسُ يُطيفُ بهِ يَنظُرُ ما هوَ، فلَمَّا رآهُ أَجْوَفَ عَرَفَ أنَّهُ خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمالَكُ ". " وعن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لما صَوَّرَ الله آدمَ في الجنة تركَهُ ما شاء الله أن يترُكَه ": ظاهر الحديث على أنه خُلِقَ في الجنة، والأخبار دالة على أن الله تعالى خَلَقَ آدم من تُرَابٍ قبضه من وجه الأرض، وخَمَّرَهُ حتى صار طينًا، ثم تركه حتى صار صلصالًا، وكان ملقًى بين مكة والطائف ببطن نُعْمان، وهو من أودية عرفات. وقيل: ذلك لا ينافي تصويره في الجنة؛ فإنه من الجائز أن تكون طينته لما خُمِّرَتْ في الأرض وتُرِكَتْ فيها حتى مَضَتْ عليها الأطوار واستعدَّتْ لقَبُول

الصُّورة الإنسانية، حُمِلَتْ إلى الجنة، فصوَّرَتْ ونُفِخَ فيها الروح. ولعله لما كان مادة آدم - عليه الصلوات والسلام - التي هي البدن من العالم السفلي أضاف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم تكوُّن مادته إلى الأرض؛ لأنها نشأَتْ فيها، ولما كانت صورته التي بها يضاهي المَلَك، وبها يتميز عن سائر الحيوانات من العالم العلوي أضاف صورته إلى الجنة. " فجعل ": الفاء للعطف على قوله: (تركه)؛ أي: شرع. " إبليس يُطِيْفُ به يَنْظُرُ ما هو "؛ أي: يتفكَّر في عاقبة أمره، وماذا يظهر منه. " فلما رآه أجوف ": وهو الذي له جوف. " عرف أنه خُلِقَ خَلْقًا لا يَتَمَالك "؛ أي: لا يقدر أن يملك نفسه عن المنع من الشَّهوات، وقيل: أي: لا يتماسك، وقيل: لا يملك بعضه بعضًا، بل يكون فيه أبعاض مختلفة، فيصدر منه ما يوجب تغير الأحوال عليه، وعدم الاستمرار على الطاعة، ويكون محتاجًا إلى الطعام والشَّراب والنِّكاح. * * * 4427 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: قالَ: جاءَ رَجُلٌ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا خَيْرَ البرِيَّةِ، فقالَ: " ذاكَ إَبْراهِيْمُ ". " وعنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال: يا خَيْرَ البَرِيَّة ": فعيلة مِنْ برأ، بمعنى خَلَقَ؛ أي: المخلوق. " فقال: ذاك "؛ أي: خَيْرُ البَرِيَّة " إبراهيم "، إنما قاله - صلى الله عليه وسلم - تواضعًا مع أسلافه الأكرمين، وإلا فنبيُّنا - عليه الصلاة والسلام - سيِّد الأولين والآخرين، أو لأن هذه الصفة مختصَّة به، وله أن يُنْعِمَ بها على غيره كالصَّلاة عليه المخْصُوصَةِ به،

وقد كان يصلِّي على معطي الزكاة. * * * 4428 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " اِخْتَتَنَ إِبْراهيمُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ ابن ثَمانينَ سَنَةً بالقَدُومِ ". " وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: اختتَنَ إبراهيم النبي - عليه الصلاة والسلام - وهو ابن ثمانين سنةً بالقَدُوِمِ " بفتح القاف وتخفيف الدَّال: اسم موضع، وقيل: قرية بالشام، فالباء بمعنى (في)، وقيل: أراد به قَدُوم النَّجار، وهذا وهم، وقيل: بالتشديد وهو غلط. * * * 4429 - وعن أَبِي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " لمْ يَكْذِبْ إبْراهيمُ إلَّا ثلاثَ كَذَباتٍ: ثِنتَيْنِ مِنْهُنَّ في كتابِ الله تعالَى: قولهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقولهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}. وقالَ: بَينا هُوَ ذاتَ يومٍ وسارَةُ إذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبابرَةِ، فقيلَ لهُ: إنَّ ها هُنا رَجُلًا مَعَهُ امرأةٌ منْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فأَرْسَلَ إليهِ فَسَألَهُ عنها: مَنْ هذِهِ؟ قال: أُخْتي. فأتَى سارَةَ فقالَ لها: إنَّ هذا الجَبَّارَ إنْ يَعْلَمْ أنَّكِ امرأتي يغلِبني عليكِ، فإنْ سَأَلكِ فأخبريهِ أنَّكِ أُخْتي، فإنَّك أُخْتِي في الإِسلامِ، ليسَ علَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْري وغَيْرُكِ. فأَرْسَلَ إليها فأُتِيَ بها، وقامَ إِبْراهيمُ يُصَلَّي، فلَمَّا دخَلَتْ عليهِ ذَهَبَ يتناوَلُها بيدِهِ فأُخِذَ - ويُروَى فغُطَّ حتَّى رَكضَ برِجْلِه - فقالَ: ادعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ، فدعَتِ الله فأُطلِقَ، ثُمَّ تناوَلَها الثَّانِيَةَ فأُخِذَ مِثْلَها أو أَشَدَّ، فقال: ادعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ، فدعَتِ الله فأُطلِقَ، فدَعا بعضَ حجَبتِهِ فقالَ: إنَّكَ لَمْ تأتِني بإنسانٍ إنَّما أَتَيتَني بشَيْطانٍ، فأَخْدَمَها هاجَرَ، فأتَتْهُ

وهو قائِمٌ يُصَلِّي، فأَوْمَأَ بيدِهِ مَهْيَمْ؟ قالت: رَدَّ الله كَيْدَ الكافرِ في نَحْرِهِ وأَخْدَمَ هاجَر ". قال أبو هُريرَةَ - رضي الله عنه -: تِلْكَ أُمُّكُم يا بني ماءِ السَّماءِ. " وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لم يكذِبْ إبراهيم إلا ثلاث كَذَبَات، ثنتين منهنَّ "؛ أي: من الكذبات الثلاث. " في ذات الله "؛ أي: لأجل الله، وقيل: أي: في أمر الله، وفيما يتعلق بتنزيه ذات الله عن الشَّريك، ويجوز أن يُرَاد به: القرآن؛ أي: في كلام الله، عَبَّرَ به عنه لما لم ينفك الكلام عن المتكلِّم، كما هو رأي الأشعري. " قوله: {إِنِّي سَقِيمٌ} ": حين طلبوا منه - عليه السلام - أن يخرج معهم إلى عيدهم، فأراد أن يتخلف عن الأمر الذي هم به، فنظر نظرةً في علم النجوم، فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ}؛ أي: خارج مزاجي عن حَدِّ الاعتدال. " وقوله: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} ": حين كسر عليه السلام أصنامهم إلا كبيرها، وعَلَّقَ الفأس في عنقه، نَسَبَ ذلك إلى كبيرهم؛ إثباتًا للحُجَّة عليهم؛ لأنهم إذا نظروا النَّظر الصحيح علموا عَجْزَ كبيرهم. " وقال: بينا هو ذاتَ يوم وسَارة ": بنت عم إبراهيم وزوجته، وكانت هي أحسن النساء وَجْهَا شِبْهَ حواء في حُسْنِها، تزوَّجها إبراهيم عليه الصلاة والسلام بعدما أهلك الله عدوه نمرود، فعزم على الخروج بها نحو الشام. " إذ أتى على جَبَّارٍ من الجبابرة، فقيل له: إن هاهنا رجلًا معه امرأة من أحسن الناس، فأرسل إليه فسأله عنها مَنْ هذه؛ قال: أختي "؛ يعني: أختي في الدين، قيل: إنما عدل عن الإخبار بالزوجيَّة إلى الأختيَّة؛ لأن في دين ذلك الملك الجبار لا يحل له التَّزوج، ولا التَّمتع بقرابات الأنبياء، وقيل: كان من عادته أن لا يتعرض إلا لذوات الأزواج.

وإنما سمى ذلك كذبًا، وإن كان من المعارض؛ لعلوِّ شأن الأنبياء عن الكناية بالحق، فيقع ذلك منهم موقع الكذب من غيرهم؛ لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقيل: لتصورها بصورة الكذب. " فأتى "؛ أي: إبراهيم. " سارة، فقال لها: إنَّ هذا الجبار إنْ يعلَمْ أنَّك امرأتي يَغْلِبني عليك، فإن سأَلَكِ فأخبريه أنك أختي، فإنك أختي في الإسلام ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك فأرسل "؛ أي: الجبَّار " إليها، فأُتِيَ بها، فقام إبراهيم يصلِّي، فلمَّا دخلَتْ عليه ذهب يَتَنَاوَلُها "؛ أي: أراد تناولها. " بيده فَأُخِذَ ": على صيغة المجهول؛ أي: حُبِسَ عن إمساكها، وقيل: أي: عوقب بذنبه، وقيل: أي: أغمي عليه. " ويروى: فَغُطَّ " بالغين المعجمة والطاء المهملة المشددة، على صيغة المجهول؛ أي: حصرًا شديدًا، أو قيل: الغَطُّ هنا: بمعنى الخَنْق؛ أي: أخذ [بمجامع] مجاري نفسه حتى يُسْمَع له غطيط؛ أي: نخير، وهو صوتٌ بالأنف. " حتى ركض برجله "؛ أي: ضرب بها الأرض من شِدَّة الغَطِّ. " فقال: ادْعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ فَدَعَتِ الله فَأُطْلِقَ، ثم تناولها الثانية فأُخِذَ مثلها، أو أَشَدَّ فقال: ادْعِي الله لي ولا أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ الله فَأُطْلِقَ فدعا "؛ أي: طلبَ الجبَّار " بعض حَجَبَتِهِ ": جمع حاجب. " فقال: إنك لم تأتني بإنسان، إنما أتيتني بشيطان "؛ أي: متمرِّد من الجنِّ، قاله لأنهم كانوا يهابون الجنَّ ويعظِّمون أمرهم. " فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ "؛ أي: فجعل ذلك الجبَّار سارة تخدمها هَاجَرَ، وهي أم إسماعيل - عليه السلام -، وأرسلها طاهرةً لما رأى من كرامتها عند الله، قيل: إنما سميت هاجر؛ لأنها هاجَرَتْ من الشَّام إلى مكة.

" فأتته وهو قائم يصلِّي فأَوْمأ "؛ أي: أشار إبراهيم " بيده ": إلى سارة، وهو في الصلاة. " مَهْيَمْ "؛ أي: ما شأنك، وهي كلمة استخبار بلغة اليمن، وقد جعلت لفظة (مَهْيَمْ) هنا مفسرة للإيماء، وليست بترجمة لقوله عليه السلام، وإلا لكان من حقِّه أن يقال: فأومأ بيده وقال: مهيم. " قالت: رَدَّ الله كَيْدَ الكافر في نَحْرِه "؛ أي: في صدره. " وأَخْدَمَ هَاجَرَ ": قيل: كان لا يولد له من سارة، فوهبَتْ هَاجَرَ له، وقالت: عسى الله أن يرزقَكَ منها ولدًا، وكان إبراهيم يومئذ ابن مئة سنة. " قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: تلك "؛ أي: هَاجَر. " أمُّكم يا بني ماء السماء ": يريد به العرب؛ لأنهم يعيشون بماء المطر، وقيل: أي: يا بني إبراهيم الطاهر كماء السماء، خاطبهم به تنبيهًا على طهارة نسبهم. وقيل: أراد بهم الأنصار؛ لأنهم أولاد عامر بن حارثة الأزدي جد نعمان بن المنذر، وكان ملقبًا بماء السماء؛ لأنه كان يُسْتَمطر به. وقيل: أشار بذلك إلى كونهم مِنْ وَلَدِ هَاجَرَ؛ لأن إسماعيل عليه الصلاة والسلام أنبع الله له ماء زمزم، وهي ماء السماء. * * * 4430 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قال: " أكرَمُهُمْ عِنْدَ الله أتقاهُمْ " قالوا: لَيْسَ عنْ هذا نَسْألُكَ، قالَ: " فأَكْرَمُ النَّاسِ يوسُفُ نبَيُّ الله ابن نبَيِّ الله ابن نبيِّ الله ابن خليلِ الله ". قالوا: ليسَ عنْ هذا نَسْألُكَ، قال: " فعَنْ معادِنِ العَرَبِ تسألُونني؟ " قالوا: نَعَم، قالَ:

" فخِيارُكُمْ في الجَاهِلِيَّةِ خِيارُكُمْ في الإِسلامِ إذا فَقِهُوا ". " وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أيُّ الناس أَكْرَمُ؟ قال: أكرمُهُمْ عند الله أتقاهم، قالوا: ليس عن هذا نسألُكَ، قال: فأكرم الناس ": الفاء: جواب شرط مقدَّر؛ أي: إذا لم تسألوني عن هذا فأكرم الناس؛ أي: في زمانه. " يوسُفُ ": وهو مبتدأ قُدِّمَ خبره للعناية به. " نبي الله ": صفة. " ابن نبيِّ الله "؛ يعني: يعقوب عليه السلام. " ابن نبيِّ الله "؛ يعني: إسحاق عليه السلام. " ابن خليل الله "؛ أي: إبراهيم عليه السلام. " قالوا: ليس عن هذا نسألُكَ، قال: فَعَنْ معادن العرب "؛ أي: عن أصولهم. " تسألوني؟ قالوا: نعم، قال: فخيارُكُمْ في الجاهلية "؛ أي: بالمآثر. " خيارُكُمْ في الإسلام إذا فَقِهُوا "؛ أي: إذا صاروا عالمين في أحكام الشريعة. * * * 4431 - وعن ابن عمرَ - رضي الله عنهما -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: " الكَرِيمُ ابن الكَريمِ ابن الكَريمِ ابن الكَريمِ: يوسُفُ بن يعقوبَ بن إِسْحاقَ بن إبْراهيَم ". " وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ": اسم جامع لكلِّ ما يُحْمَد به.

فيوسُفُ بن يعقوبَ بن إسحاقَ بن إبراهيم ": اجتمع في يوسف مع كونه ابن ثلاثة أنبياء متراسلين: شرف النبوة، وحسن الصورة، وعلم الرؤيا، ورئاسة الدنيا، وحياطة الرعايا في القَحْط والبلايا، وأنَّى رجل أكرم مِنْ هذا؛! * * * 4432 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " نَحْنُ أَحَقُّ بالشَّكِّ مِنْ إبراهيمَ إذْ قالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}، وَيرْحَمُ الله لُوْطًا لقدْ كانَ يأْوِي إلى رُكْنٍ شَديدٍ، ولوْ لبثْتُ في السِّجنِ طُولَ ما لَبثَ يوسُفُ لأَجَبْتُ الدَّاعِي ". " وقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: نحن أحقُّ بالشَّكِّ مِنْ إبراهيم إذْ قال: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} ": قيل: لما نزلت هذه الآية قالوا: شَكَّ إبراهيم، ولم يشك نبينا فقال - صلى الله عليه وسلم - تواضعًا: (نحن أحقُّ بالشكِّ من إبراهيم). والقصد: نفي الشكِّ عن إبراهيم - عليه السلام - لا إثبات الشكِّ لنفسه، يعني: نحن لا نشكُّ فكيف يشكُّ إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بسؤاله: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى}، مع علوِّ درجته؛ لأنه أري ملكوت السموات والأرض، وإنما سأل عن ذلك لزيادة العلم بالمشاهدة؛ فإنها تفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال، أراد بذلك: تعظيم شأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لكمال فكرته وعلوِّ همته الطالبة لحصول الاطمئنان بالوصول إلى درجة العَيَان. " ويرحَمُ الله لوطًا لقَدْ كان يأْوِي إلى رُكْنٍ شديدٍ ": حين قصد قومه أضْيَافه بسوء ظانيِّن أنهم غلمان، وهم الملائكة نزلوا على صُورة المرد الحِسَان، كان يناظرهم من وراء الباب مغلقًا فقال: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80]؛

يعني: لو أن لي بدفعكم قوة البدن، أو انضم إليَّ عشيرة منيعة لدفعناكم ما صدر عنه عليه السلام هذا القول إلا حين صعب عليه الأمر، وضاق الصدر، فدعا له النبي صلى تعالى عليه وسلم بالمغفرة؛ لأنه استغرب هذا القول وَعَدَّه نادرةً، إذ لا رُكْنَ أشدُّ من ضمان الله وكلامه له، فلما رأى المَلَكُ ما به من الاحتراق قالوا له: يا لوط إن ركنك لشديد إنا رسل ربك. " ولو لبثْتُ في السِّجن طول ما لبث يوسف لأجبْتُ الدَّاعي "؛ أي: داعي المَلِكِ، ولم أقلْ لرسول المَلِكِ: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} [يوسف: 50]، مدحه عليه السلام على شدَّة صبره، وترك استعجاله للخروج من السجن مع امتداده. قيل: إن يوسف - عليه الصلاة والسلام - أشْفَقَ أَنْ يراه الملِكُ بعين مَشْكُوْكٍ في أمره مُتَّهَمٍ بفاحشة، فأحبَّ أن يراه بعد أن يزول عن قلبه ما كان فيه مُتَّهم. * * * 4433 - وقالَ: " إنَّ مُوْسى صلواتُ الله عليه كانَ رَجُلًا حَييًّا سِتِّيرًا لا يُرَى منْ جِلْدِهِ شَيءٌ استِحْياءً، فآذاهُ مَنْ آذاهُ منْ بني إِسْرائيِلَ فقالوا: ما يَتَسَتَّرُ هذا التَّستُّرَ إلا مِنْ عَيْبٍ بجِلدِهِ: أمَّا بَرَصٍ أو أُدْرَةٍ، وإنَّ الله أرادَ أنْ يُبَرِّئهُ، فَخَلا يَوْمًا وَحْدَهُ لِيَغْتَسِلَ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ على حَجَرٍ، فَفَرَّ الحَجَرُ بثَوْبهِ، فجَمَحَ مُوْسى في إثْرِهِ يقولُ: ثَوْبي يا حَجَرُ، ثَوْبي يا حجرُ، حتَّى انتهَى إلى مَلإٍ منْ بني إِسْرائيلَ فرأَوْهُ عُرْيانا أَحْسَنَ ما خَلَقَ الله، وقالوا: والله ما بِمُوسى منْ بَأْسٍ، وأَخَذَ ثوبَهُ وطَفَقِ بالحَجَرِ ضَرْبًا، فوالله إنَّ بالحَجَرِ لَنَدَبًا منْ أثرِ ضربهِ " ثلاثًا أو أَرْبَعًا أو خَمْسًا.

" وقال: إنَّ موسى عليه السلام كان رجلًا حَيِيًّا "؛ أي: مُسْتَحْيِيًا. " سِتِّيرًا "؛ أي: مستورًا، يعني: كان من شأنه أن يَسْتُرَ جميع بدنه عند اغتساله. " لا يُرَى من جِلْدِهِ شيءٌ استحياءً، فآذاه مَنْ آذاه من بني إسرائيل " بأن نسبوا إليه العيوب. " فقالوا: ما تستَّر هذا التَّسَتُّرَ إلا من عَيْبٍ بجلده: إمَّا بَرَصٌ أو أُدْرَةٌ " بالضم ثم السكون: نفخةً في الخصية. " وإن الله أراد أَنْ يُبَرِّئَهُ": مما قالوا. " فخلا يومًا وحدَهُ ليغتَسِلَ فوضَعَ ثَوْبَهُ على حجر، ففرَّ الحجر بثوبه فَجَمَحَ موسى "؛ أي: عَدَا وأَسْرَعَ إسراعًا. " في إِثْرِهِ "؛ أي: عقيب الحجر. " يقول: ثوبي "؛ أي: دع ثوبي. " يا حجر، ثوبي يا حجر، حتى انتهى إلى ملأ "؛ أي: وصل إلى جماعة الأشراف. " من بني إسرائيل، فرأوه عُرْيَانًا أَحْسَنَ ما خلق الله، وقالوا: والله ما بموسى من بأس "؛ أي: عيب. " وأخذ ثوبه فطَفِقَ "؛ أي: شرع موسى " بالحجر ضَرْبًا ": تمييز، ضَرْبُهُ الحجر لا يعد سَفَهًا عند ثوران الغضب؛ شفاء للغيظ، مع العلم بأن الحجر لا يتأثر بالضرب، أو يقال: حسب أنه شيطان أرسل إليه في صورة حجر. " فوالله، إنَّ بالحجر لَنَدَبًا ": بالتحريك؛ أي: أثر الجرح. " من أثَرِ ضَرْبِهِ ثلاثًا أو أربعًا أو خمسًا ": (أو) هذه للشكِّ من الراوي

يتعلق بالضَّرب، أو بالنَّدَبِ. * * * 4434 - وقالَ: " بَيْنا أيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرادٌ منْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أيُّوبُ يَحْتَثِي في ثَوبهِ، فناداه ربُّه: يا أيُّوبُ أَلَمْ أكُنْ أغنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وعِزَّتِكَ، ولَكنْ لا غِنى بِيْ عَنْ بَرَكَتِك ". " وقال: بينما أيوب - عليه الصلاة والسلام - يغتسل عُرْيَانًا فَخَرَّ عليه "؛ أي: سقط من عُلُوٍ. " جَرَادٌ من ذَهَبٍ فَجَعَلَ "؛ أي: أراد أيوب أن " يَحْتَثِي "؛ أي: يجمع " في ثوبه، فناداه ربه: يا أيُّوبُ، ألم أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ "؛ أي: جعلتك ذا غنًى. " عمَّا ترى؛ قال: بلى وعزتك، ولكن لا غِنَاءَ بي عن بَرَكَتِكَ " وإنْعَامِكَ عليَّ. * * * 4435 - عَنْ أَبِي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - أنَّهُ قَالَ: اسْتَبَّ رَجُلٌ مِنَ المُسلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ اليَهودِ، فَقَالَ المُسلمُ: والَّذي اصطَفَى مُحمَّدًا على العَالَمِيْنَ، فقالَ اليَهُودِيُّ: والذي اصْطَفَى مُوسَى علَى العَالَمِينَ، فَرَفعَ المُسْلمُ يدَهُ عندَ ذلكَ فلطَمَ وَجْهَ اليَهُوديِّ، فَذَهبَ اليَهُودِيُّ إِلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبَرَهُ بِمَا كَانَ منْ أَمْرِهِ وأَمْرِ المُسلِم، فدَعا النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - المُسلِمَ فَسَألَهُ عَنْ ذلكَ، فأخبَرَه، فَقَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: " لا تُخيِّروني على موسَى، فإنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ يومَ القِيامَةِ فَأَصْعَقُ مَعَهُم فأكون أوَّلَ من يُفيقُ، فإذَا موسَى باطِشٌ بجانِبِ العَرشِ، فلا أَدْرِي كَانَ فيمَنْ صَعِقَ فأفاقَ قَبْلِي، أوْ كَانَ مِمَّنْ استَثْنَى الله ". وفي رِوَايَةٍ: " فَلاَ أَدْرِي أحُوسِبَ بصَعقةِ يَومِ الطُّورِ أَوْ بُعِثَ قَبْلِي،

ولا أَقُولُ إنَّ أَحَدًا أَفضَلُ مِنْ يونسُ بن مَتَّى ". وفي رِوَايَةٍ: " لا تُخيِّروا بينَ الأَنبياءِ ". وفي رواية: " لا تُفضلُوا بَيْنَ أَنْبياءِ الله ". " وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: استَبَّ رجلٌ من المسلمين ورجلٌ من اليهود "؛ أي: جرى بينهما السَّبُّ؛ أي: الشَّتم. " فقال المسلم: والذي اصطفى محمدًا على العالمين، فقال اليهود: والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده عند ذلك، فلطَمَ وَجْهَ اليهودي، فذهب اليهودي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بما كان مِنْ أمره وأمر المسلم، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلم فسأله عن ذلك، فأخبره، فقال النبي: - عليه الصلاة والسلام -: لا تُخَيِّرُوني "؛ أي: لا تُفَضِّلُوني " على موسى ". وإنما نهى عليه الصلاة والسلام عن تفضيله عليه مِنْ تلقاء أنفسهم؛ تواضعًا منه - صلى الله عليه وسلم -، وزَجْرًا للأمة عن تفضيل بعض الأنبياء على بعض من عند أنفسهم؛ لأداء ذلك إلى العَصَبِيَّة وإلى الإفراط في محبةِ نبي، والتفريط في محبة آخر، أو الإزراء به، وهو كفر. " فإن الناس يَصْعَقُون "؛ أي: يصيرون مغشيًّا عليهم. " يوم القيامة، فَأَصْعَقُ معهم ": قيل: هذه الصَّعْقَة بعد البعث عند نفخة الفزع. " فأكون أول مَنْ يفيق، فإذا موسى بَاطِشٌ بجانب العَرْشِ "؛ أي: متعلِّق به بقوة. " فلا أدري، كان فيمن صَعِقَ فأفاق قَبْلي، أو كان مِمَّنِ استثنى الله " في قوله: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68].

" وفي رواية: فلا أدري أحوسب "؛ أي: عوفي. " بصعقة يوم الطور، أو بُعِثَ قبلي، ولا أقول: إن أحدًا أفضل من يُونُسَ ابن مَتَّى "؛ أي: لا أقول ذلك مِنْ تلقاء نفسي، ولا أفضِّل أحدًا عليه من حيث النبوة والرسالة، فإن الأنبياء كلهم متساوون فيها؛ لأن النبوة شيء واحد لا تفاضل فيها، وإنما التفاضل باعتبار الدرجات كما قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة: 253]، وإنما خصَّه بالذّكر لما قصَّ الله تعالى عليه في كتابه العزيز من أمر يونس - عليه الصلاة والسلام - بقلَّة احتماله عن قومه وإعراضه عنهم، قال تعالى: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] وقال: {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] فلم يأمن عليه السلام أن يعتقد الضعفاء من أمته نقصانًا في شأنه، فنبَّههم أنَّ ذلك ليس بقادح فيما آتاه الله من فضله. " وفي رواية أبي سعيد الخدري: لا تخيروا بين الأنبياء، وفي رواية: لا تفضلوا بين أنبياء الله "؛ معناه: ترك التفضيل على وجه الإزراء ببعض؛ فإن ذلك يكون سببًا لفساد الاعتقاد في بعضهم، وذلك كفر. * * * 4436 - وقَالَ: " مَا ينبَغي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إنِّي خَيرٌ مِنْ يونُسَ بن مَتَّى ". " وقال: ما ينبغي لعبد أن يقول: إني خيرٌ من يونس بن متَّى ": قيل: (مَتَّى): اسم أمِّ يونس. * * * 4437 - وقَالَ: " مَنْ قَالَ أَنا خَيرٌ مِنْ يونُسَ بن مَتَّى فقدْ كَذَبَ ".

" وقال: مَنْ قال: أنا خيرٌ من يونس بن مَتَّى ": يحتمل أن يكون لفظ (أنا) واقعًا موقع هو، ويكون راجعًا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ يعني: مَنْ فضَّلني على يونس في النبوة. " فقد كَذَبَ "؛ أي: كفر، كنَّى به عن الكفر؛ لأن هذا الكذب مساوٍ للكفر. * * * 4438 - وعَنْ أُبَيِّ بن كعْبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " إنَّ الغُلامَ الذي قَتَلَهُ الخَضرُ طُبعَ كَافِرًا، ولوْ عَاشَ لأَرهَقَ أبوَيْهِ طُغيانًا وكُفرًا ". " وعن أُبَيِّ بن كعب - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الغلام الذي قتلَهُ الخَضِر " بفتح الخاء وكسر الضاد " طُبِعَ "؛ أي: خُلِقَ " كافرًا ". والتوفيق بين هذا وبين قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كلُّ مولود يُوْلَدُ على الفِطْرَة " أن المراد بالفطرة: استعداده قبول الإسلام، وذلك لا ينافي كونه شقيًا في جِبِلَّته. " ولو عَاشَ لأَرْهَقَ أبوَيْه "؛ أي: غَشِيَهما " طغيانًا " عليهما، " وكفرًا " لنعمتهما بعقوقه وسوء صنيعه، أو معناه: حملهما حُبُّهُ على أن يَتَّبِعَاه فيطغيا. * * * 4439 - وعَنْ أَبِي هُريرَةَ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " إنَّما سُمِّيَ الخَضرَ لأنَّهُ جَلَسَ على فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ، فإذَا هِيَ تَهْتزُّ منْ خَلْفِهِ خَضراءَ ". " وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنما سُمِّيَ الخَضِرُ ": بالرفع قائم مقام الفاعل، ومفعوله الثاني محذوف؛ أي: خَضِرًا. " لأنه جلس على فَرْوَةٍ "؛ أي: قطعة أرضٍ يابسةٍ.

" بيضاء "؛ يعني: خالية من النبات. " فإذا هي تهتزُّ "؛ أي: تتحرَّك. " من تحته خضراء ": حال من الضمير العائد إلى (الفروة)، قيل: اسم الخضر: بليا، والخضر لقبٌ له، وهو كان من بني إسرائيل، وقيل: كان من أبناء الملوك الذين تزهدوا في الدنيا، وكان في أيام أفريدون، قبل موسى عليه الصلاة والسلام، وكان مقدمة جيش ذي القرنين، وبقي إلى أيام موسى - عليه الصلاة والسلام -. * * * 4440 - وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ مَلَكُ المَوْتِ إلى مُوسَى فَقَالَ لهُ: أَجِبْ رَبَّكَ، قَالَ: فَلَطَمَ موسَى عينَ مَلَكِ الموتِ فَفَقأَهَا، قال: فرَجَعَ المَلَكُ إلَى الله تَعَالَى فَقَالَ: إنَّكَ أَرْسَلْتَني إلى عَبدٍ لكَ لا يُريدُ المَوتَ وقَدْ فقأَ عَيْني، قَالَ: فردَّ الله إلَيْهِ عَيْنَهُ وقَالَ: ارجِعْ إلَى عَبدِي فَقُل: الحَيَاةَ تَريدُ؟ فإنْ كُنْتَ تُريْدُ الحَياةَ، فضَعْ يدَكَ علَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَمَا وارَتْ يدُكَ منْ شَعْرةٍ فإنَّكَ تَعِيشُ بِهَا سَنةً، قَالَ: ثُمَّ مَهْ؟ قَالَ: ثُمَّ تَمُوتُ، قَالَ: فالآنَ مِنْ قَرِيب، رَبِّ! أَدْنِني مِنَ الأَرْضِ المُقدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجرٍ. قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: " والله لوْ أنِّي عِندهُ، لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلى جَنْبِ الطَّريقِ عِنْدَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ ". " وعنه أنه قال: جاء مَلَكُ الموت إلى موسى بن عِمْرَان، فقال له: أجِبْ رَبَّكَ، قال: فَلَطَمَ موسى "؛ أي: ضرب بباطن كَفِّه. " عَيْنَ مَلَكِ الموت فَفَقَأَها "؛ أي: قلع عينه وأعماها، واللَّطْمَة: أَثَّرَتْ في العين الصُّورية لا في العين الملكية، فإنها غير متأثرة بها. قيل: إن الله تعالى لإكرامه إيَّاه ولطفه به لم يأمر الملك بِأَخْذِ روحه قَهْرًا،

بل أرسَلَهُ في صورة بشر مُنْذِرًا بالموت، وأمره بالتَّعرض على سبيل الامتحان، وكان في طبعه حدة حتى روي: أنه كان إذا غضب اشتعلَتْ قلنسوته نارًا؛ لحدَّة طبعه، وقد جَرَتِ السُّنَّة بدفع القاصد بسوء، فلما نظر إلى شخص يقصد إهلاكه وهو لا يعرفه، دَفَعَ عن نفسه، وكان في دَفْعِهِ ذهاب عينه الصُّورية. وقيل: إنما لطمها موسى - عليه السلام -؛ لأن الأنبياء - عليهم الصلاة والمسلام - كانوا مخيَّرين من عند الله آخر الأمر بأحد الشيئين؛ إما الحياة، وإما الوفاة، فأقدم ملك الموت على قَبْضِ روحه قبل التَّخيير. " قال: فرجع الملك إلى الله تعالى، فقال: إنك أرسلتني إلى عَبْدٍ لك لا يريد الموت، وقَدْ فَقَأَ عيني قالْ فَرَدَّ الله إليه عينه، وقال: ارجع إلى عبدي ": وإنما ردَّ إليه رسوله ليعلم إذا رأى صحَّة عينه المفقوءة أنه رسول الله بعثه لقبض روحه، فيستسلم لأمره ويطيب نفسًا بقضائه. " فَقُل: الحياةَ تريدُ؟ فإنْ كُنْتَ تريدُ الحياةَ فَضَعْ يَدَكَ على مَتْنِ ثَوْرٍ، فما تَوَارَتْ يَدُكَ من شَعْرَةٍ فإنك تعيش بها "؛ أي: بكل شعرة من تلك الشعور " سنة، قال "؛ أي: موسى عليه السلام: " ثم مَهْ؛ ": استفهام؛ أي: ثُمَّ ما يكون بعد ذلك؟ " قال "؛ أي: ملك الموت: " ثم تموت، قال "؛ أي: موسى عليه السلام: " فالآن من قَرِيبٍ، ربِّ أَدْنِني "؛ أي: قرِّبني " من الأرض المقدَّسة رَمْيَة بِحَجَر "؛ أي: إدْنَاءً مثل رمية بحجر. " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والله لو أني عنده لأَرَيْتُكُمْ قَبْرَهُ إلى جَنْبِ الطَّريق عند الكَثِيْبِ "؛ أي: المجتمع من الرمل " الأحمر ". * * *

4441 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " مَرَرْتُ على مُوسَى لَيْلةَ اُسرِيَ بي عِندَ الكَثِيبِ الأَحْمَرِ، وهُوَ قائِمٌ يُصلِّي في قبرِهِ ". " عن أنس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مررْتُ على موسى ليلةَ ": نصب على الظرف. " أُسري بي ": الباء للتعدية. " عند الكَثِيبِ الأحمر، وهو قائم ": الواو للحال. " يُصَلِّي ": في موضع الحال من ضمير (قائم)، يعني: قائمًا مصليًا. " في قبره ": صلاة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في قبورهم عبارة عن زيادة درجاتهم بعد الموت، فإن الصلاة والسَّجدة فيها خاصية قُرْب من الله تعالى قال الله تعالى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. * * * 4442 - وعَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " عُرِضَ عليَّ الأنبياءُ، فإذا مُوسَى ضَرْبٌ من الرِّجَالِ كأنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَة، ورَأَيتُ عِيْسَى بن مَرْيمَ فإذَا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا عُرْوَةُ بن مَسْعُودٍ، ورَأيتُ إِبْراهيْمَ فإذا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ - يَعْنِي: نَفسَهُ -، ورَأَيْتُ جِبْرِيْلَ فإذا أَقْربُ مَنْ رَأَيتُ بهِ شَبَهًا دِحْيَةُ بن خَليفةَ ". " عن جابر - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عُرِضَ عليَّ الأنبياء "؛ أي: أرواحهم متشكِّلين بالصُّوَر التي كانوا عليها في الدنيا مع الأجساد. " فإذا موسى ضَرْبٌ من الرجال ": الضَّرْبُ: الرجل الخفيف اللحم. " كأنه من رجال شَنُوءَة ": قبيلة من اليمن، يقال لهم: أَزْد شَنُوءَة، وهي لغة: التَّباعد عن الأدناس، لعلهم لُقِّبوا بذلك لطهارة نسبهم وحسن سيرتهم.

" ورأيت عيسى بن مريم، فإذا أَقْرَبُ من رأيت به شَبَهًا عُرْوَةُ بن مسعود ": (إذا) للمفاجأة، و (أقرب) مبتدأ، خبره (عروة)، الجار والمجرور متعلق بقوله: (شبهًا) وهو تمييز، أو مفعول (رأيت). " ورأيْتُ إبراهيم فإذا أَقْرَبُ مَنْ رأيْتُ به شَبَهًا صاحِبُكُم؛ يعني "؛ أي: يريد النبي عليه الصلاة والسلام " نفسه، ورأيت جبريل، فإذا أقرَبُ مَنْ رأيْتُ به شَبَهًا دَحْيَةُ " بفتح الدال وكسرها " ابن خَلِيْفَة ". * * * 4443 - عَنِ ابن عبَّاسٍ، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " رَأَيتُ لَيْلةَ أُسرِيَ بي موسَى رَجُلًا آدمَ طُوَالًا جَعْدًا كانَّهُ منْ رِجَالِ شَنوءَةَ، ورَأَيتُ عيسَى رَجُلًا مَربوعَ الخَلْقِ إلى الحُمرَةِ والبَيَاضِ سَبطَ الرَّأسِ، ورَأَيتُ مالِكًا خَازِنَ النَّارِ، والدَّجالَ في آياتٍ أَرَاهُنَّ الله إيَّاهُ {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ} ". " وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: رأيتُ ليلَةَ أُسْرِيَ بي موسى رَجُلًا آدَمَ "؛ أي: أسمر. " طُوَالًا "، وهو - بضم الطاء وتخفيف الواو -: الطويل جدًا. " جَعْدًا "، وهو - بفتح الجيم وسكون العين -: ضد السَّبْط وهو مسترسل الشعر. " كأنه من رجال شَنُوءَة، ورأيت عيسى رَجُلًا مَرْبُوع الخَلْقِ "؛ يعني: ليس بالطويل ولا بالقصير. " إلى الحُمْرَةِ والبَيَاض "؛ أي: لونه بينهما. " سَبِطَ الرأس "؛ أي: شعر رأسه. " ورأيت مالِكًا خازِنَ النار، والدَّجَّال في آياتٍ ": جمع آية، وهي العلامة.

"أَرَاهُنَّ الله إيَّاه": الجملة صفة (آيات)، قيل: هو من كلام الرَّاوي ألحقه بالحديث؛ دفعاً لاستبعاد السَّامعين، وإماطة ما عسى يختلج في صدورهم يدل عليه قوله: (إياه)، ولو كان من كلامه عليه السلام لقال: إياي. {فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ}؛ أي: في شك. {مِنْ لِقَائِهِ} "؛ أي: مِنْ رُؤْية محمدٍ هذه الأشياء، ووصوله إلى مشاهدتها، وقيل: معناه وتقديره: رأى عليه السَّلام الدَّجَّال مع آيات أُخَر ما حكاها، فإذا كان خروجه موعوداً فلا تكن في مِرْيَة من لقائه؛ أي: من لقاء الدَّجَّال. 4444 - عَنْ أَبي هُريْرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَيْلَةَ أُسرِيَ بِي لَقِيتُ موسَى - فَنَعَتَهُ -، فإذا رَجلُ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ الشَّعرِ، كأنَّه منْ رِجالِ شَنُوءَةَ، ولَقيْتُ عيسَى رَبْعَة أَحمَرُ، كأنَّما خرجَ منْ دِيْمَاسٍ - يعني: الحَمَّام - ورأيتُ إبْراهِيمَ صلَواتُ الله عَلَيْهِ، وأنا أشبَهُ ولدِهِ بهِ، قَالَ: وأُتِيتُ بإنَاءَيْنِ أحدُهُما لَبن والآخَرُ فيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لي: خُذْ أيهُمَا شئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبن فشرِبْتُهُ، فَقِيْلَ لي: هُدِيتَ الفِطْرةَ، أَمَا إنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الخَمرَ غوَتْ أُمَّتُكَ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ليلةَ أُسْرِيَ بي لَقِيْتُ موسى - فَنَعَتَهُ - فإذا هو رَجل مُضْطَرِبٌ"؛ أي: [كان] مستقيم القَدِّ حادًا، فإن موسى كان فيه حِدَّة، والرجل الحاد يكون قلقاً متحركاً، فكان فيه اضطراباً، وقيل: معناه: كان مضطربا من خشية الله، وهو من صفة الأنبياء. "رَجِل الشَّعر" بفتح الراء وكسر الجيم؛ أي: غير شديد الجعودة والسُّبُوطة، بل بينهما.

"كأنه من رجال شَنُوْءَة، ورأيت عيسى عليه السلام رَبْعَة"؛ أي: مَرْبُوْعَ القامة لا طويل ولا قصير، وأنَّث على تأويل النفس. "أحمر، كأنما خرج من ديماس" بفتح الدال وكسرها؛ "يعني: الحَمَّام، ورأيت إبراهيم، وأنا أَشْبَهُ وَلَدِه به، قال: وأُوْبيْتُ لإناءَيْنِ أحدهما لَبن، والآخر فيه خَمرٌ": فيه إشعارٌ بأن اللَّبن كان أكْثر من الخمر. "فقيل في: خُذْ أيهما شِئْتَ، فأخذْتُ اللبن فشربته، فقيل لي: هُدِيْتَ الفِطْرَةَ"؛ أي: التي فُطِرَ الناس عليها، وفي هذا القول له عند أخذ اللبن لطف ومناسبة، فإن اللبن لما كان في العالم الحسِّي ذا خلوص وبياض، وأول ما يحصل به تربية المولود صيغ في عالم القدسي مثال الهداية والفطرة التي يتمُّ بها تربية القوة الروحانية؛ لأن العالم القدسي قد تُصاغ فيه الصور من العالم الحسي لإدراك المعاني. "أَمَا": كلمة تنبيه. "إنَّك" بكسر الهمزة "لو أخذت الخمر": بدل اللبن. "غَوَتْ"؛ أي: ضَلَّتْ. "أمتك": فإن الخمر لكونه ذات تَلَفٍ (¬1) ومفسدة صيغ منها مثال الغواية، وما يفسد القوة الروحانية. 4445 - عَنِ ابن عبَّاسِ قَالَ: سِرْنا معَ رسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ مكَّةَ والمَدِينَةِ، فَمَرَزنا بِوادٍ فَقَالَ: "أيُّ وادٍ هذَا؟ " فَقَالوا وَادِي الأَزْرَقِ، قَالَ: "كأنّي أنظُرُ إلى موسَى، فذكرَ منْ لونهِ وشَعره شَيْئاً، واضعًا أُصبُعَيْهِ في أُذُنيهِ، لَهُ جُؤارٌ إلى الله ¬

_ (¬1) في "غ": "كلف".

بالتَّلبيَةِ مارًّا بهذا الوَادِي"، قَالَ: ثُمَّ سِرْنا حتَّى أتيْنا عَلَى ثَنِيَّةٍ فَقَال: "أيُّ ثَنِيةٍ هذهِ؟ " قالوا: هرشَى أو: لِفْتٌ، فَقَال: "كَأنِّي أنظُرُ إِلَى يُونسُ عَلَى ناقَةٍ حَمراء، عليهِ جُبَّةُ صُوفٍ، خِطامُ ناقَتِهِ خُلْبَةٌ مَارًّا بِهذا الوَادِي مُلبياً". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: سِرْنا مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم بين مكَّة والمدينة فمررنا بِوَادٍ، فقال: أيُّ وَادٍ هذا؟ فقالوا: وادي الأزرق": سمي به؛ لزرقة مائه، وقيل: منسوب إلى رجل بعينه. "قال: كأني أنظر إلى موسى"؛ والمراد به: الحقيقة، وإنما عَبَّرَ بلفظ كأني لئلا يلزموه الإراءة. "فذكر من لونه وشَعَره شيئًا، وَاضِعًا": حال من موسى؛ أي: حال كونه واضعاً. "إصْبَعَيْهِ في أُذُنيهِ، له جُؤَار"؛ أي: صِيَاح وتضرُّع. "إلى الله تعالى بالتَّلبية، مارًّا بهذا الوادي قال: ثم سِرْنَا حتى أتينا على ثَنِيَّةِ": اسم موضع. "فقال: أيُّ ثَنِيَّةٍ هذه؛ قالوا: هرشَى": - بالشين المعجمة - على مثال شكرى، ثنيَّة بين مكة والمدينة، وقيل: جبل بقرب الجحفة. "أو لفت" بسكون الفاء وكسرها، وفتحها وفتح اللام، ويروى بكسر اللام مع سكون الفاء: ثنيَّةٌ أيضاً، [شلَّ] بينهما. "فقال - صلى الله عليه وسلم - كأني أنظر إلى يونس على نَاقَةٍ حمرَاءَ عليه جُبَّةُ صُوفٍ خِطَام ناقته"؛ أي: زمامها. "خُلْبَة" بضم الخاء المعجمة وسكون اللام، قيل: وضمها أيضاً: واحد خُلْب، وهو الليف، وقد يسمى الحبل نفسه خُلْبةً.

"ماراً بهذا الوادي ملبِّياً". 4446 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "خُفِّفَ عَلَى داودَ القُرآنُ، فكَانَ يأمرُ بدوابهِ فتُسرَجُ، فَيقْرَأُ القُرآنَ قبلَ أنْ تُسرجُ دَوابُّهُ، ولا يأكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمِلِ يدهِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي على الله تعالى عليه وسلم - أنه قال: خُفِّفَ على داود القرآن"؛ أي: القرآءة، ويحتمل المقروء. "فكان يأمر بدوابِّه": جمع الدابة، وهي التي تُركَب، والمراد هنا: الفرس. "فتُسْرَجُ، فيقرأ القرآن"؛ أي: المقروء، والمراد به: الزَّبور؛ يعني: خفف عليه قراءة الزبور بحيث لو أمر بِسرْج دابته مبتدئاً في قراءته لفرغ من قراءته. "قبل أن تُسْرَجَ دابته": وهذا من جُملة معجزاته عليه السلام، وهذا الحديث يدل على جواز على الزَّمان. "ولا يأكل إلا من عمل يديه". 4447 - وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كَانتْ اِمرأتانِ مَعَهُما ابناهُما، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهبَ بابن إحدَاهُما، فَقَالتْ صَاحِبَتُها: إنَّما ذَهبَ بِابنكِ، وقَالَتِ: الأُخرى: إنَّما ذَهبَ بابنكِ، فتَحَاكمَتا إِلى داوْدَ، فَقَضَى بهِ لِلْكُبرى، فخَرجَتَا عَلَى سُلَيْمانَ بن داودَ، فَاَخْبَرتَاهُ فَقَال: ائتوني بالسِّكِّينِ أشقُّهُ بَيْنَكُما، فَقَالتْ الصُّغرَى، لاَ تَفعَلْ، يَرحَمُكَ الله، هُوَ ابنها، فَقَضَى بهِ للصُّغرَى".

"عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كانت امرأتان معهما ابناهما، جاء الذِّئْبُ، فذهب بابن إحداهما، فقالت صاحبتها إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكما"؛ أي: ترافعا الأمر. "إلى داود": للحُكْم. "فقضى به"؛ أي: حَكَم بالابن. "للكُبْرَى، فخرجتا" من عند داود، ودخلتا "على سليمان بن داود عليهما الصلاة والسلام فأخبرتاه" ما حكم داود بذلك، فألهمه الله تعالى بما كان محرِّكا للرحمة والمحبة البعضية. "فقال: ائتوني بالسِّكين أشقُّه بينكما، فقالَتْ الصغرى" خوفاً على ذهاب روح الابن: "لا تفعل": يا نبيَّ الله. "يرحمك الله، هو ابنها، فقضى به"؛ أي: حَكَمَ سليمان بالابن "للصغرى": لوجود هذه القرينة المعيِّنة لها، وهي الرِّقة والشفقة. اعلم أن قضاءهما كان حقًّا بالاجتهاد، وكان مُسْتَنَدُ حكمهما في هذه القضية نفس القرينة، لكنَّ قرينة سليمان أقوى من حيث الظاهر. قيل: يحتمل أن قرائن الأحوال كانت في شرعهم بمثابة البيِّنة فلذا حكموا بها. 4448 - عَنْ أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -: "قالَ سُلَيْمانُ صلَواتُ الله عليهِ: لأَطوفَنَّ اللَّيلةَ عَلَى تِسعِيْنَ اَمرأةً - وفي رِوَايَةٍ: على مِئَةِ امرأةٍ - كُلُّهنَّ تأتِي بِفارِسٍ يُجاهِدُ في سَبيلِ الله، فَقَالَ لهُ المَلَكُ: قُلْ: إنْ شاءَ الله، فلم يقُلْ ونَسِيَ، فَطَافَ عليهِنَّ، فلم تحمِلْ منهُنَّ إلَّا امرأة واحِدةٌ جَاءَتْ بشِقِّ رَجُلٍ،

وايْمُ الَّذي نَفْسُ محمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ الله، لَجَاهدُوا في سَبيْلِ الله فُرسَاناً أَجْمَعُونَ". "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قال سليمان" عليه الصلاة والسلام: "لأطوفَنَّ": اللام فيه جواب قسم مُقَدَّر تقديره: والله لأطوفَنَّ. "الليلةَ على تسعين امرأة": والطواف هنا: كناية عن الجماع. "وفي رواية: بمئة امرأة كلُّهنَّ": مبتدأ، وخبره "تأتي"؛ أي: تلد. "بفارسٍ يُجَاهد": صفة لـ (فارسٍ). "في سبيل الله، فقال له الملَكُ: قُلْ: إن شاء الله، فلم يقل فنسي، فطاف عليهن"؛ أي: جامع كلهنَّ. "فلم تحمِلْ منهنَّ إلا امرأة واحدة جاءَتْ بشقِّ رجل"؛ أي: بنصفه، ونصفه الآخر أَشَل. "وايم الذي نفس محمدٍ بيده": وهذا قسم. "لو قال"؛ أي: سليمان عليه الصلاة والسلام: "إن شاء الله، لجاهدوا"؛ أي: لحصل مقصوده، وحملَتْ كل واحدة منهنَّ، وأتَتْ بفارس فجاهدوا. "في سبيل الله فرساناً": نصب على الحال من ضمير (جاهدوا). "أجمعون": تأكيد للضمير، أو حال أيضاً. 4449 - وعَنْ أَبيْ هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كَانَ زكرِيَّا نجَّاراً". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: كان زكريَّا نجَّاراً": ينجر

الخشبة؛ أي: ينحتها. 4450 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى بن مَريمَ في الأولَى والآخِرةِ، الأَنْبيَاءُ إِخْوةٌ مِنْ عَلاَّت، وأُمهاتُهُمْ شَتَّى، ودينُهُم واحِدٌ، ولَيْسَ بَيْننا نبِيٌّ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أَوْلَى الناس"؛ أي: أقربهم. "بعيسى بن مريم في الأُوْلَى"؛ أي: في الدنيا "والآخرة"، لأنه أقرب المسلمين إليه، ودينه متَّصل بدينه، ومبشر به، وداعٍ للخلق إلى دينه وتصديقه. "الأنبياء إخوةٌ من عَلاَّت"؛ أي: من أبٍ واحد. "وأمهاتهم شتى"؛ أي: متفرقة. "ودينهم واحد"؛ يريد به: أن دينهم واحد في الأصل، وهو إرشاد الخَلْقِ إلى الحقِّ، فهذا كالأب المتحد، وشرائعهم مختلفة وهي كالأمهات المختلفة. "وليس بيننا"؛ أي: ليس بيني وبينه. "نبي": بل جئْتُ بعده كما قال الله تعالى: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. 4451 - وعَنْ أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "كُلُّ بني آدمَ يَطْعنُ الشَّيْطانُ في جَنبَيْهِ بإصبعَيْه حِينَ يُولَدُ، غيرَ عيسَى بن مَرْيمَ، ذَهبَ يَطْعنُ فَطَعنَ فَوَقعَ في الحِجَابِ".

"وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كل ابن آدم يَطْعن الشيطان" بفتح العين وضمها، والطَّعْنُ: الضَّربُ، وهنا: المسُّ. "في جَنْبَيْهِ بإصبعيه"؛ يعني: السبابة والوسطى. "حين يُوْلَد": وقيل: الطَّعْنُ: كناية عن استفزازه إيَّاه إلى العصيان، وتحريكه إلى الشَّهوات الملقية في الطغيان. "غير عيسى بن مريم ذَهبَ"؛ أي: أراد. "يَطْعن فَطَعَنَ في الحِجَاب": وهذا كناية عن سلامته مِنْ تسويله. وقيل: عبارة عن المَشِيمَة، يعني: ما وصل إليه من مَسِّه شيء؛ لأنه طعن بحيث ما كان متأثراً من طعنه، وإنما لم يتاثر من مَسِّه؛ لأن الله تعالى أعاذ مريم وولدها من الشيطان؛ لاستجابة دعاء أمها حنة، قال الله تعالى حكاية عنها: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36]، وقيل: معناه: حُجِبَ عن طعنه بازدحام الملائكة. 4452 - عَن أَبي مُوسَى - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثيرٌ، ولَم يَكمُلْ مِنَ النِّساء إلَّا مَريمُ بنتُ عِمرَانَ وآسِيةُ امرَأه فِرعَوْنَ، وفَضْلُ عَائِشةَ عَلَى سَائِر النِّسَاءِ كفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ". "عن أبي موسى - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كَمُلَ من الرجال كثير"؛ يعني: كثر أهل الكمال في الرجال، وهم الأنبياء (¬1)، فإنهم الكاملون في أنفسهم، والمكمِّلون لغيرهم على حسب مراتبهم في علمهم. ¬

_ (¬1) في "غ" زيادة: "والأولياء".

"ولم يَكْمُلْ من النساء إلا مريم بنت عمران، وآسِيَة امرأة فرعون": قال الله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11]. قيل: لما علم فرعون إيمانها، أَوْتَدَ يديها ورجليها، وألقى على صدرها رحًى عظيمة واستقبل بها الشمس إذ قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11]، تريد مكاناً شريفاً، فكشف لها بيتها، فسهل عليها تعذيبها. وقيل: رفعت إلى الجنة حية، فهي تأكل وتشرب {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11]، {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا}؛ أي: بشرائعه {وَكُتُبِهِ}؛ أي: المنزلة {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] أي: المطيعين لربها. "وفَضْلُ عائشة على النساء كَفَضْلِ الثَّريد على سائر الطعام": ضرب المثل بالثَّريد؛ لأنه أفضل الأطعمة عندهم؛ لكونه مركباً من الخبز وقوة اللحم، وفيه التذاذ وغذاء وسهولة المساغ، وفضل عائشة على النساء من جهة. حُسْنِ المعاشرة والخلق، وفصاحة اللهجة، وجودة القريحة، وتعقلها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعقل من رسول الله غيرها من النساء. مِنَ الحِسَان: 4453 - عَنْ أَبي رَزْينٍ قَالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ الله! أَينَ كَانَ ربنا قبلَ أنْ يَخْلُقَ خَلْقَه؟ قَال: "كَانَ في عَمَاءٍ مَا تحتَهُ هوَاءٌ ومَا فَوْقَهُ هوَاءٌ، وخَلَقَ عَرْشَهُ علَى المَاء"، وقَال يَزيدُ بن هارُون: العَمَاءُ؛ أَيْ: لَيْسَ مَعَه شَيءٌ. "من الحسان": " عن أبي رَزِين العُقَيلي - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله! أين كان ربنا قبل

أن يخلُقَ خلقه؟ قال: كان في عَمَاء": وهو السَّحاب الرقيق، وقيل: هو الكثيف المنطبق، وقيل: هو شبه الدخان يركب رؤوس الجبال. وروي: (عمى) بالقصر قيل: هو كل أمر لا تدركه عقول بني آدم، ولا يبلُغُ كُنْهَهُ الوصف. "ما تحته هواء وما فوقه هواء"؛ أي: ليس معه شيء، عَبَّر عليه السلام عن عدم المكان بما لا يُدْرَك ولا يُتَوهَّم، وعن عدم ما يحويه ويحيط به: بالهواء فإنه يُطْلَقُ ويراد به: الذي هو عبارة عن عدم الجسم؛ ليكون أقرب إلى فهم السامع، قيل: هنا حذف مضاف؛ أي: أين كان عرش ربنا بدليل قوله: "وخلق عرشه على الماء": لأنه لو لم يكن السؤال عنه؛ لكان التَّعرض له من غير حاجةٍ. "قال يزيد بن هارون: العماء: أي: ليس معه شيء". 4454 - عَنِ العَبَّاس بن عَبْد المُطَّلِب - رضي الله عنه -: زَعَمَ أنَّه كانَ جَالِساً في البَطْحاءَ في عِصَابةٍ ورَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَالِسٌ فيهِمْ، فمرَّت سَحابة فنظَرُوا إليها، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما تُسَمُّونَ هذه؟ "، قَالُوا: السَّحَابُ، قَالَ: "والمُزنُ"، قَالُوا: والمزْنُ، قَالَ: "والعَنَانُ"، قَالُوا: والعَنَانُ، قَالَ: "هلْ تَدرَونَ مَا بُعْدُ مَا بَيْنَ السَّماءَ والأَرضِ؟ "، قَالُوا: لا نَدرِي، قَالَ: "إنَّ بُعْدَ مَا بينَهُما إمَّا واحدة وإمَّا اثنَتانِ أو ثَلاَثٌ وسَبْعُونَ سَنة، والسَّماءُ الَّتي فَوْقَها كَذلِكَ، حتَّى عَدَّ سَبع سَمَاواتٍ، ثُمَّ فَوْقَ السَّماءَ السَّابعَةِ بحرٌ بَيْنَ أَعلاهُ وأَسْفلِهِ كَمَا بَيْنَ سَماءٍ إلى سَماءٍ، ثُمَّ فوقَ ذَلِكَ ثَمَانِيةُ أوْعَالٍ بَيْنَ أَظْلافِهنَّ ورُكَبهنَّ مِثْلُ مَا بَيْنَ سَمَاءٍ إلى سَمَاءٍ، ثُمَّ عَلَى ظُهورِهِنَّ العرشُ بَيْنَ أَسْفلِهِ وأَعلاهُ مَا بَيْنَ سَماءٍ إلى سماءٍ، ثُمَّ الله فَوْقَ ذَلِكَ".

"وعن العباس بن عبد المطلب - رضي الله عنه - زعم أنه كان جالساً في البَطْحَاء في عِصَابةٍ"، أي: في جماعة من الناس. "ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالس فيهم، فَمَرَّتْ سحابَةٌ فنظروا إليها، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: ما تسمُّون": (ما) استفهام بمعنى التقرير؛ أي: أيُّ شيء تسمُّون. "هذه": إشارة إلى السحابة، مفعول الثاني (لتسمُّون)، ومفعوله الأول (ما) مُقدَّم عليه. "قالوا: السَّحاب": منصوب بفعل محذوف؛ أي: تسميتها السَّحاب، أو مرفوع خبر مبتدأ محذوف؛ أي: هي السَّحاب. "قال: والمُزْنُ، قالوا: والمُزْنُ" بضم الميم وسكون الزاء المعجمة: هو السَّحاب الأبيض. "قال: والعَنَان؟ قالوا: والعَنَان"، وهو بفتح العين المهملة: السَّحاب، سُمِّي به لأنه من عَنَّ في السماء؛ أي: ظهر. "قال: هل تدرون ما بُعْدُ ما بين السماء والأرض؟ قالوا: لا ندري، قال: إنَّ بُعْدَ ما بينهما إما واحدة"؛ أي: واحدة وسبعون. "وإما اثنتان" وسبعون. "أو ثلاث وسبعون سنة": شكٌّ من الراوي. "والسماء التي فوقها"؛ أي: فوق السماء الدنيا. "كذلك، حتى عَدَّ"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "سبع سماوات، ثم فوق السماء السابعة بحرٌ بين أعلاه وأسفله": الضمير فيهما يعود إلى البحر. "كما بين سماء إلى سماءٍ، ثم فوق ذلك": إشارة إلى البحر.

"ثمانية أَوْعَال": جمع وَعْل: تيس شياه الجبل، والمراد: ثمانية ملائكة على صور الأوعال. "بين أَظْلاَفِهِنَّ": جمع ظِلْف. "وأوْرَاكِهِنَّ": جمع الورك، ما فوق الفخذ. "مثل ما بين سماءٍ إلى سماءٍ، ثم على ظُهُورِهِنَّ العَرْشُ بين أسْفَلِهِ وأَعلاَه": الضمير فيهما عائد إلى (العرش). "ما بين سماء إلى سماء، ثم الله فوق ذلك": إشارة إلى العرش؛ أي: الله سبحانه وتعالى فوق العرش حكمًا وعظمةً وعُلُوًّا، لا بالمكان تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيرًا. 4455 - عَنْ جُبَيْرِ بن مُطْعِم قَالَ: أتى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أعرابي فَقَال: جُهِدَتْ الأنفُسُ وجَاعَ العِيالُ، ونُهِكَتْ الأَمْوالُ، وهلكَتْ الأَنْعامُ، فاسْتَسْقِ الله لَنَا، فإنَّا نستَشْفِعُ بِكَ عَلَى الله، ونستَشْفِعُ بالله عَلَيْكَ، فَقَال النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "سُبحَانَ الله، سُبحانَ الله"، فَمَا زَالَ يُسبحُ حتَّى عُرِفَ ذلكَ في وُجوه أصحَابهِ، ثُمَّ قَالَ: "ويحَكَ! إنَّهُ لا يُستَشْفَعُ بالله علَى أَحَدٍ، شَأنُ الله أَعْظَمُ مِنْ ذلكَ، ويحَكَ! أتدرِي مَا الله؟ إنَّ عَرْشَهُ علَى سَمَاواتِهِ لهكَذا - وقَالَ بأَصابعِهِ مِثْلَ القُبَّةِ عليهِ -، وإنَّه لَيئطُّ بهِ أطِيطَ الرَّحْلِ بالرَّاكِب". "عن جُبَيْر بن مُطْعِم - رضي الله عنه - قال: أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعرابى فقال: جُهِدَتِ الأنفس"؛ أي: حُمِّلَتْ فوق طاقتها. "وجاع العِيَال"، عيال الرجل: مَنْ يَمُوْنُهُ من الزوجة والأولاد والعبيد وغير ذلك. "ونُهِكَتِ الأموال"؛ أي: نقصت.

"وهلكت الأنعام": جمع النَّعَم - بفتح النون والعين -، وهي الإبل والبقر والغنم. "فاسْتَسْقِ الله"؛ أي: اطلب السقي "لنا، فإنا نستشفع بك"؛ أي: نطلب الشفاعة بوجودك "على الله، ونستشفع بالله عليك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سبحان الله، سبحان الله، فما زال يسبِّح حتى عُرِفَ ذلك"؛ أي: التغير. "في وجوه أصحابه"؛ يعني: سَاءَهم تكرير التسبيح منه - صلى الله عليه وسلم -، وتوهَّموا أنه عليه السلام غضب من هذا السؤال، فخافوا من غضبه، فتغيرت وجوههم؛ خوفًا من الله تعالى، فلما أَثَّر فيهم الخوف، رقَّ لهم - صلى الله عليه وسلم - وقطع التسبيح. "ثم قال: ويحك إنه لا يُسْتَشْفَعُ بالله على أحدٍ؛ شَأْنُ الله أعظم من ذلك"؛ أي: من أن يستشفع به على أحدٍ. "ويحك، أتدري ما الله"؛ أي: ما عظمة الله سبحانه وتعالى. "إن عرشه على سماواته لَهكذا" بفتح اللام، "وقال بأصابعه"؛ أي: أشار بها. "مثل القبة"؛ أي: العرش مثل القبة. "وإنه"؛ أي: العرش مع ما وصف من العظمة والسَّعة. "لَيَئِطُّ به"؛ أي: ليصوِّت بعظمة الله. "أطيط الرَّحل"؛ أي: كتصويت الرحل الجديد. "بالراكب": قرره - صلى الله عليه وسلم - بهذا النوع من التمثيل، معنى عظمة الله وجلاله وارتفاع عرشه؛ ليعلم أن الموصوف بعلوِّ الشأن وجلالة القَدْر لا يُجْعَل شفيعاً إلى من هو دونه في القدر وأسفل منه في الدرجة.

4456 - عَنْ جَاِبرٍ بن عَبْدِ الله - رضي الله عنه -، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أُذِنَ لِي أَنْ أُحدِّثَ عنْ مَلَكٍ منْ ملائِكَةِ الله مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحمَةِ أُذُنيهِ إلَى عَاتِقِهِ مَسِيْرةُ سَبع مِئَةِ عَامٍ". "عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أُذِنَ لي"؛ أي: صرْتُ مأذونا مِنْ حضرته تعالى. "أن أُحدِّثَ"؛ أي: أخبر أمتي. "عن مَلَكٍ"؛ أي: عن كيفية عِظَم جثة مَلَكٍ. "من ملائكة الله تعالى من حملة العرش": جمع حامل؛ أي: الذين يحملون. "إنَّ ما بين شَحْمَةِ أُذُنيه إلى عاتقه مسيرة سبع مئة عام". 4457 - عَنْ زُرَارَةَ بن أَوْفَى - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ لِجبْريِلَ عليه السلام: "هل رَأَيتَ ربَّك؟ "، فانتفضَ جِبْريِلُ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! إنَّ بَيني وبيْنَهُ سَبْعِيْنَ حِجَاباً مِنْ نُورٍ لَو دنوتُ منْ بَعضها لاَحْتَرَقْتُ. "عن زُرارة بن أوفى - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجبريل عليه الصلاة والسلام: هل رأيْتَ ربَّك فانتفض جبريل"؛ أي: ارتعد ارتعاداً شديداً من عظمة ذلك السؤال. "وقال: يا محمدا إنَّ بيني وبينه سبعين حجاباً من نور": والحجاب عبارة عن كمال الله تعالى ونقصان جبريل عليه الصلاة والسلام، فالحجاب من طرف جبريل عليه السلام. "لو دَنَوْتُ"؛ أي: لو قربت.

"من بعضها لاحترقْتُ": وسؤاله - صلى الله عليه وسلم - عن رؤية الله تعالى يدل على حقِّية إمكانها في الآخرة، وإلا لما سأل عنها. 4458 - عَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ اللهَ خَلَقَ إسْرافيلَ مُنْذُ يَومَ خَلَقَهُ صَافًّا قَدمَيْهِ لا يَرْفَعُ بَصَرَه، بَيْنَهُ وبَيْنَ الرَّبِّ تَبَارَكَ وَتَعالَى سَبْعُونَ نُوراً، مَا مِنْها مِنْ نُورٍ يَدْنُو مِنهُ إلَّا احتَرقَ"، صحَّ. "عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الله خلق إسرافيل منذ يوم خلقه صَافًّا": نصب على الحال من الضمير المنصوب في (خلقه). "قدمَيْه": مفعول له؛ أي: واقفاً على قدميه. "لا يرفع بصره بينه وبين الربِّ تبارك وتعالى سبعون نوراً، ما منها من نور يدنو منه إلا احترق"، "صحيح". 4459 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لَمَّا خَلَقَ الله تعالى آدمَ وذُرَّيتَهُ قَالَتِ المَلائِكةُ: يَا ربِّ! خَلَقتَهُم يَأْكلونَ وَيشْرَبُونَ ويَنْكِحُونَ ويَركَبُونَ، فَاجْعَلْ لَهمُ الدُّنيا ولَنَا الآخرة، قَالَ الله تَعَالَى: لاَ أَجْعَلُ مَنْ خَلقْتُهُ بِيَديَّ، ونَفَخْتُ فيهِ مِنْ رُوحِي، كمَنْ قُلْتُ لَهُ: كُنْ، فَكَانَ". "عن جابر - رضي الله عنه - أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة: يا ربِّ خلقتَهُم يأكلون ويشربون وينكِحُون ويركبون، فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة، قال الله تعالى: لا أجعل مَنْ خلقْتُهُ": الضمير يعود إلى (من)؛ أي: لا أجعل كرامة من خلقته.

1 - باب فضائل سيد المرسلين صلوات الله عليه

"بيديَّ، ونفخْتُ فيه مِنْ روحي": وهو آدم وذريته، إضافة الروح إلى نفسه للتشريف والتخصيص. "كمن قُلْتُ له: كُنْ فكان"؛ أي: كَمَنْ خلقته بمجرد الأمر، وهو المَلَك، يعني: لا يستوي البشر والمَلَك في الكرامة والقربة، بل كرامة البشر أكبر ومنزلته أعلى وأَجَل، وهذا من جملة ما استدل به أهل السنة في تفضيل البشر على المَلَك. 1 - باب فَضَائِلِ سيدِ المُرسَلِينَ صلَوَاتُ الله عَلَيْهِ " باب فضائل سيد المرسلين"، جمع الفضيلة، وهي ضدُّ النقيصة. مِنَ الصِّحَاحِ: 4460 - قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعثتُ مِنْ خَيْرِ قُرُونِ بني آدمَ قَرْناً فقَرْناً، حتى كُنتُ منْ القرْنِ الذِي كُنتُ مِنْهُ". "من الصحاح": " قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بُعِثْت من خير قرون بني آدم"، (القرن): ثمانون سنة، وقيل: أهل زمان واحد. "قَرْنًا فَقَرْنًا": الفاء فيه للترتيب في الفضل على سبيل التَّرقي. "حتى كنْتُ من القَرْنِ الذي كنْتُ منه": والمراد (بالبعث) هنا: تقلبه في أصلاب الآباء أبًا فأبًا، قرناً فقرناً؛ يعني: انتقل النبي - صلى الله عليه وسلم - أولاً من صلب ولد إسماعيل، ثم من كنانة، ثم من بني هاشم.

4461 - وقَالَ: "إنَّ الله اصْطَفَى كِنانة مِنْ ولَدِ إسْماعِيلَ، واصطفَى قُريْشاً مِنْ كِنَانةَ، واصطفى مِنْ قُريْشٍ بني هاشمِ، واصطفانِي مِنْ بني هاشمٍ". ويُرْوَى: "إنَّ الله اصْطَفَى مِنْ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلَ، واصطَفَى مِنْ وَلَدِ إسْماعيلَ بني كِنَانة". "وقال: إن الله اصطفى"؛ أي: اختار. "كِنَانة"، وهي - بكسر الكاف -: عدة قبائل، أبوهم كنانة بن خزيمة، وهو "من ولد إسماعيل، واصطفى قُريشا من كنانة"؛ لأن أبا قريش: مضر بن كنانة، هذا "واصطفى من قريش بني هاشم": وهاشم هو ابن عبد مناف، وهو من أولاد مضر هذا. "واصطفاني من بني هاشم": لأن محمداً - صلى الله عليه وسلم - عبد الله بن عبد المطلب ابن هاشم، هذا ومعنى الخيرية والاصطفاء في هذه القبائل باعتبار الخِصَال الحميدة. "ويروى: إنَّ الله اصطفى مِنْ وَلَدِ إبراهيم إسماعيل، واصطفى مِنْ وَلَدِ إسماعيل بني كنانة". 4462 - وقَالَ: "أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدمَ يَومَ القِيامَةِ، وأوَّلُ مَنْ يَنشَقُّ عَنهُ القَبرُ، وَأَوَّلُ شَافِعٍ، وأَوَّلُ مُشَفَّعٍ". "وقال: أنا سيِّد وَلَدِ آدم يوم القيامة": قَيَّد به مع أنه سيدهم في الدنيا؛ لأن سؤدده تظهر فيه لكل أحدٍ بلا معاند. قيل: لم يقل - صلى الله عليه وسلم - هذا الحديث فَخْرًا، بل لامتثال قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، أو لأنه مما يجب تبليغه إلى أمته كي يعتقدوه ويتبعوه.

"وأول مَنْ ينشقُّ عنه القبر"؛ يعني: أنا أول مَنْ يعاد فيه الروح يوم القيامة. "وأول شَافع وأول مُشفَّع" بتشديد الفاء؛ أي: مقبول الشفاعة، والحديث يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل من جميع بني آدم وجميع الأنبياء والمرسلين، وعلى ثبوت الشفاعة لغيره من الأنبياء والملائكة والمؤمنين. 4463 - وقَالَ: "أَنَا أَكْثَرُ الأَنبيَاءَ تَبَعاً يَومَ القِيامَةِ، وأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَقرعُ بَابَ الجَنَّةِ". "وقال: أنا أكثر الأنبياء تَبَعاً": نصب على التمييز؛ أي: تَبَعِي أكثر من أتباع الأنبياء. "يوم القيامة، وأنا أولُ مَنْ يَقْرعُ"؛ أي: يدقُّ "بابَ الجنة". 4464 - وقَالَ: "آتِي بَابَ الجَنَّةِ يَومَ القِيامَةِ فَأَستَفْتِحُ فَيقُولُ الخَازِنُ: مَن أَنتَ؟ فَأقولُ: مُحَمَّدٌ، فَيَقُولُ: بِكَ أُمِرْتُ لاَ أَفْتَحُ لأِحَدٍ قَبلَك". "وقال: آتي باب الجنة يوم القيامة، فأَستَفْتِح"؛ أي: أطلب الفتح. "فيقول الخازن: مَن أنت؟ ": الاستفهام بمعنى السؤال. "فأقول: محمد، فيقول: بِكَ أُمرتُ"؛ يعني: أُمرتُ بأن أفتح لك باب الجنة أولاً. "لا أفتح لأحد قبلك".

4465 - وقَالَ: "نَحْنُ الآخِرونَ الأوَّلُونَ يَومَ القِيامَةِ، ونَحنُ أوَّلُ مَنْ يَدخُلُ الجَنَّةَ". "وقال: نحن الآخرون"؛ أي: في الدنيا. "الأوَّلون يوم القيامة"؛ أي: في البعث. وقال: "نحن أوَّلُ مَنْ يدخل الجنة". 4466 - وقال: "نَحْنُ الآخِرونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيا، والأوَّلونَ يومَ القِيامَةِ، المَقْضيُّ لَهُم قَبْلَ الخَلائقِ". "وقال: نحن الآخرون مِنْ أهل الدنيا، والأوَّلون يوم القيامة، المَقْضِيُّ لهم": للأمة. "قبل الخلائق"؛ يعني: تُقْضَى حوائج أمتي من الحساب، والجواز على الصراط، ودخول الجنة قبل قضاء حوائج الخلائق. 4467 - وقَالَ: "أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ في الجَنَّةِ، لم يُصَدَّقْ نبيٌّ مِنَ الأَنبياءِ مَا صدِّقْتُ، وإنَّ مِنَ الأَنبيَاءِ نبَيًّا مَا صدَّقهُ منْ أُمَّتهِ إلَّا رَجُل واحِدٌ". "وقال: أنا أول شافع"؛ أي: للعصاة من أمتي. "في الجنة"؛ أي: في دخولها. "لم يُصَدِّقْ نبيٌّ من الأنبياء ما صدّقْتُ": على صيغة المجهول و (ما) مصدرية؛ أي: لم يُصدَّق نبي من الأنبياء تصديقاً مثل تصديق أمتي إيَّايَ.

"وإن من الأنبياء نبيًّا ما صدَّقه من أُمَّته إلا رجل واحد". 4468 - وقَالَ: "مَثَلي ومَثَلُ الأَنْبياءِ كمثَلِ قَصر أُحسِنَ بنيانُه، وتُرِكَ مِنْهُ مَوْضعُ لَبنةٍ، فَطَافَ بهِ النُّظَّارُ يتَعجَّبونَ مِنْ حُسْنِ بنيانِهِ إلَّا مَوْضعَ تِلكَ اللَّبنةِ، فكُنْتُ أَنَا سَدَدتُ مَوْضعَ تِلْك اللبنةِ، فتَمَّ بيَ البنيانُ، وخُتِمَ بيَ الرُّسُلُ". وفي رِوَايَةٍ: "فأَنَا اللَّبنةُ، وأَنَا خَاتَمُ النَّبيينَ". "وقال: مثلي ومَثَلُ الأنبياء"؛ أي: مَثَلِي في تبليغ الرسالة إلى الكافة ومَثَلُ الأنبياء في تبليغ رسالتهم إلى أممهم. "كمثل قصرٍ أحْسِنَ بنيانه": جمع بناء. "وتُرِكَ منه مَوْضِعُ لَبنةٍ فطافَ به"؛ أي: دار حوله. "النُّظَّار" بضم النون وتشديد الظاء المعجمة: جمع ناظر. "يتعجَّبون من حُسْنِ بنيانه إلا موضعَ تلك اللَبنة، فكنْتُ أنا سَددتُ"؛ أي: أصلَحْتُ. "وضعَ اللَبنة" حتى "خُتِمَ بي البنيان، وخُتِمَ بي الرُّسل" "وفي رواية: فأنا اللَّبنة، وأنا خاتم النبيين". 4469 - وقَالَ: "مَا مِنَ الأنبياءِ مِنْ نبيٍّ إلَّا قد أُعطِيَ مِنَ الآياتِ مَا مِثْلُهُ آمنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وإنَّما كَانَ الَّذِي أُوتيْتُ وَحيا أَوْحَى الله إليَّ، فأرجُو أنْ كُونَ أكثَرَهُم تَابعاً يَوْمَ القِيامةِ". "وقال: ما مِنَ الأنبياء مِنْ نبيٍّ"، (ما) هذه بمعنى (ليس).

"إلَّا قد أُعْطِي من الآيات"؛ أي: المعجزات، و (من) بيانية لـ (ما) الموصولة في قوله: "ما مِثْلُهُ"؛ أي: صفته، وهو مبتدأ وخبره الجملة التي بعده. "آمنَ عليه البشر": الجار والمجرور متعلق بـ (آمن) لتضمنه معنى الاطلاع، أو بحال محذوفة تقديره: آمن به البشر واقفاً عليه، ويجوز أن تكون (ما) موصوفة بمعنى: شيء، والجملة الاسمية صفة (ما)؛ يعني: ما من نبي إلا أعطاه الله من المعجزات وأيَّدهم بها ما إذا شُوهد واطلع عليه دعا الشاهد إلى تصديقه، فإذا انقطع زمانه انقطعت تلك المعجزة. "وإنما كان الذي أُوْتِيْتُ"؛ أي: معظم ما أُوْتِيْتُ من المعجزات. "وحياً أوحى الله إليَّ"؛ يعني: قرآناً بالغاً أقصى غاية الإعجاز نظماً ومعنى، وهو أكثر فائدة وأعم عائدة من سائر معجزاته - عليه الصلاة والسلام -؛ لاشتماله على الدعوة والحجة، ينتفع به الحاضرون عند الوحي والغائبون عنه إلى يوم القيامة، ولذا رتَّبَ النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: "فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة". 4470 - وقَالَ: "أعُطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرَةَ شَهرٍ، وجُعِلَتْ لِيَ الأَرضُ مَسْجدًا وطَهُورًا، فأيُّما رَجُل مِنْ أُمَّتِي أدركَتْهُ الصَّلاةُ فليُصَلِّ، وأُحِلَّتْ لِيَ المَغَانِمُ ولم تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلي، وأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وكَانَ النَّبيُّ يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ خَاصَّةً وبُعِثْتُ إلى النَّاسِ عَامَّة". ويُروَى: "فُضلْتُ على الأَنْبياءِ بسِتٍّ: أُعْطِيتُ جَوامعَ الكَلِمِ - وذكرَ هذهِ الأَشْيَاءَ إلَّا الشَّفاعةَ وَزَاد: - وخُتِمَ بيَ النَّبيُّونَ".

"وقال: أُعطِيْتُ خمساً"؛ أي: خمس خِصَال. "لم يُعْطَهُنَّ أحدٌ قبلي: نُصِرْتُ بالرُّعْبِ"؛ أي: الخوف. "مَسِيرَةَ شهر"؛ يعني: نصرني الله بإلقاء الخوف في قلوب أعدائي من مسيرة شهر بيني وبينهم. "وجُعِلَتْ في الأرض مسجداً وطهوراً"؛ يعني: أباح الله تعالى لأمتي الصلاة حيث كانوا؛ تخفيفاً لهم، وأباح التيمم بالتراب عند فقد الماء، ولم يُبحِ الصلاة للأمم الماضية إلا في كنائسهم، ولم يجز التَّطهر لهم إلا بالماء. "فأيما رجل من أمتي أدركتْهُ الصلاة فليصلِّ": وهذا تفريع لما قبله. "وأُحِلَّتْ في الغنائم (¬1) ولم تحلَّ لأحد قبلي": أراد أن المتقدمة منهم مَنْ لم تحل لهم الغنائم، بل كانت توضع فتأتي نار فتحرقها وأباحها الله لهذه الأمة. "وأعطِيْتُ الشفاعة": اللام فيها للعهد، وهي الشفاعة العامة للإزالة من المحشر. "وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يُبْعَثُ إلى قومه خاصَّة وبعثْتُ إلى الناس عامة". "ويروى: فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ أُعْطِيْتُ جوامع الكلم": يريد به القرآن، جمع الله فيه المعاني الكثيرة واللطائف الغزيرة في ألفاظ يسيرة. "وذكر هذه الأشياء، إلا الشفاعة وزاد" على الخمس: "وخُتِمَ بي النبيون". 4471 - وَقَالَ: "بُعِثْتُ بجَوامعِ الكَلِم، ونُصرتُ بالرُّعبِ، وبَيْنا أَنَا نائِمٌ ¬

_ (¬1) في هامش "غ": "في نسخة: المغانم".

رأَيْتُني أُتيِتُ بِمَفاتِيح خَزائِنِ الأَرضِ فوُضعَتْ في يَدِي". "وقال: بُعِثْتُ بجوامع الكَلِم ونُصِرتُ بالرُّعبِ، وبينا أنا نائم رَأَيْتُني أُوتِيْتُ بمفاتيح خَزَائِنِ الأرض": جمع مفتاح، وهو ما يُفْتَحُ به الأبواب، والخزائن: جمع خزانة، وهي ما يحفظ فيها الأشياء. "فَوُضِعَتْ على يدي"؛ أراد - صلى الله عليه وسلم - بذلك: ما سهَّله الله له أو لأمته في فتح البلاد واستخراج الكنوز، أو المراد منه: معادن الأرض التي فيها الذهب والفضة. 4472 - وقَالَ: "إنَّ الله زَوَى لِيَ الأرْضَ فرَأَيتُ مَشَارِقَها ومَغَارِبَها، وإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِىَ لِي مِنْها، وأُعطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأحمرَ والأَبْيض، وإنِّي سألتُ رَبي لأِمَّتِي أَنْ لا يُهْلِكَها بسَنَةٍ عَامَّةٍ، وأَنْ لا يُسلِّطَ عَلَيْهم عَدُوًّا مِنْ سِوَى أنفُسِهم فَيَستَبيحَ بَيْضَتَهُم، وإنَّ رَبي قَالَ: يا محمّدُ! إنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فإنَّهُ لا يُرَدُّ، وإِنِّي أَعطَيْتُك لأمَّتِكَ أنْ لا أُهلِكَهُم بسَنَةٍ عَامَّةٍ، وأنْ لا أُسلِّطَ عَلَيهِم عَدُوًّا مِنْ سِوَى أنفُسِهم فيَستَبيحَ بَيْضَتَهم، ولو اجتَمعَ عَلَيْهِم مَنْ بأَقْطَارِها، حتَّى يكُونَ بعضُهُم يُهلِكُ بعضاً ويَسبي بعضُهُم بَعضاً". "وقال: إن الله تعالى زَوَى لي الأرضَ"؛ أي: قَبَضَها وجَمَعَها، واللام فيه للعهد الخارجي. "فرأيْتُ مشارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا": جمعهما باعتبار اختلاف طلوع الشَّمس في الشتاء والصَّيف، أو باعتبار الكواكب، وإراءتها للنبي على سبيل التَّخيل والتَّمثيل كان لتبشيره بكثرة أمته. "وإن أُمَّتي سَيَبْلُغُ مُلكُها ما زُوِيَ لي منها": (من) هذه للتبيين.

"وأُعْطِيْتُ الكَنْزَيْنِ الأحمرَ والأبيضَ"، قيل: أراد بهما: كنوز كسرى وقيصر؛ لأن الغالب على نقود مالك كسرى: الدنانير، وعلى نقود مالك قيصر: الدراهم. قال أبو موسى: الأحمر ملك الشام؛ لأن الغالب على أموالهم الذهب، وعلى ألوانهم الحمرة، والأبيض ملك فارس؛ لأن الغالب على نقودهم الفضة، وعلى ألوانهم البياض. "وإني سألْتُ ربي لأمتي أن لا يهلكها بسَنَةٍ"؛ أي: بقحط. "عامة"؛ أي: شاملة للمسلمين. "وأن لا يُسَلِّطَ عليهم عدواً من سِوَى أنفُسِهِم"؛ أراد به: الكفار. "فيَسْتَبِيْحُ بَيْضَتَهم"؛ أي: يسبيها وينهبها ويجعلها مباحة. بيضة الدار: وسطها ومُعْظَمها. وقال أبو موسى: (بيضتهم): مجتمعهم، وموضع سلطانهم، ومستقر دعوتهم، وبيضة كل شيء: مجتمعه، أراد: أنه يستأصلهم ويهلكهم جميعاً. "وإن ربي قال: يا محمد، إني إذا قضيْتُ قضاءً فإنه لا يُرَدُّ"؛ يعني: إذا حكمتُ بوقوع شيء فإنه غير مردود لا محالة. "وإني أعطيتك"؛ أي عهدي وميثاقي. "لأمتك"؛ أي: لأجلها. "أن لا أهلكهم بسَنَةٍ عامة، وأن لا أسلِّطَ عليهم عدواً من سِوَى أنفسهم فيستبيحُ بَيْضَتَهُم، ولو اجتمع عليهم مَنْ بأقطارها": جمع قطر، وهو الجانب والناحية. "حتى يكون بعضُهُم يُهْلِكُ بعضاً ويسبي بعضُهُم بَعضًا".

4473 - عَنْ سَعدٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بمَسجدِ بني مُعَاوِيةَ، دَخَلَ فرَكعَ فيهِ رَكعتَيْنِ، وصَلَّيْنا مَعَهُ، ودَعا ربَّهُ طَوْيلاً، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَال - صلى الله عليه وسلم -: سَألْتُ ربي، ثَلاَثاً فأعطَانِي ثِنتيْنِ، ومَنعَنِي وَاحِدةً: سَألتُ ربي أنْ لا يُهلِكَ أُمَّتِي بالسَّنَةِ فأعطَانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يُهلِكَ أُمَّتِي بالغَرَقِ فأعطَانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يَجْعَلَ بأسَهُم بَيْنَهُم فمَنعَنِيها". "عن سعد: مرَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمسجد بني معاوية": قيل: هو بالمدينة، وبنو معاوية بطن من الأنصار. "دخل فركع"؛ أي: صلَّى فيه. "ركعتين، وصلينا معه، ودعا ربَّه طويلاً"؛ أي: دعاء طويلاً. "ثم انصرَف"؛ أي: رجع. "فقال: سألْتُ ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة؛ سألْتُ ربي أن لا يُهْلِكَ أمتي بالسَّنَة فأعطانيها"؛ أي: أعطاني الله تلك المسألة وأجاب دعائي. "وسألته أن لا يُهْلِكَ أمتي بالغَرَق" بفتحتين؛ أراد به: الغَرَق العام الشامل لجميع الأمة، كما فعل بقوم نوح - عليه السلام - وقوم فرعون. "فأعطانيها، وسألته أن لا يجعل بأسَهُم"": أراد به: الشِّدة في الحرب. "بينهم، فمَنَعَنِيْها"؛ أي: لم يجب دعائي فيها. 4474 - عَنِ عَطَاءَ بن يَسَارٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لَقِيْتُ عَبْدَ الله بن عَمرِو بن العَاصِ - رضي الله عنه - قُلْتُ: أخبرْني عَنْ صِفةِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في التَّوْراةِ، قَالَ: أجَلْ، والله إنَّهُ لمَوصُوفٌ في التَّوْراةِ ببعضِ صِفتِهِ في القُرآنِ: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وحِرْزاً للأُمييْنَ، أَنتَ عَبْدِي ورَسُولي، سَمَّيْتُكَ

المُتوكِّلَ، لَيْسَ بفَظٍّ ولا غَليْظٍ ولا سَخَّابٍ في الأَسْواقِ، ولا يَنفَعُ بالسَّيئةِ السَّيئةَ ولكنْ يَعفُو وَيغْفِرُ، ولنْ يَقبضَهُ حتَّى يُقيمَ بهِ المِلَّةَ العَوْجاءَ بِأَنْ يَقُولُوا: لا إله إلَّا الله، وتُفتَحُ بِها أَعيُن عُمى، وآذان صُمٌّ، وقُلوب غُلفٌ، ورَوَاهُ عَطَاء عَنِ ابن سَلاَم. "عن عطاء بن يسار - رضي الله عنه - قال: لقيْتُ عبد الله بن عمرو بن العاص قلْتُ: أخبرني عن صِفَةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التَّوراة، قال: أجَل": وهو في التَّصديق مثل (نعم) في الاستفهام. "والله إنه": بكسر الهمزة؛ أي: إنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم -. "لموصوفٌ في التوراة ببعض صفته في القرآن {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا}، وهو - بكسر الحاء وسكون الراء المهملتين -: الموضع الحصين. "للأميِّين"؛ أي: للعرب؛ يعني. بعثناك مَؤْئِلاً لأمَّتك الأميَّة، يتحصنون بك من آفات النفس وغوائل الشيطان، ويجوز أن يكون المراد بالحرز: حفظ قومه من عذاب الاستئصال، أو الحفظ لهم من العذاب ما دام فيهم لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. "أنت عبدي ورسولي، سمَّيْتُكَ المتوكِّل ليس بفَظٍّ"؛ أي: غليظ القلب. "ولا غَليظ": وهو الضَّخم الكريه الخلق، قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. "ولا سخَّاب" بفتح السين المهملة وتشديد الخاء المعجمة؛ أي: مرتفع الصوت ويروى أيضاً: بالصاد المهملة؛ أي: مكثر الصِّياح، شديد الصَّوت عند الخصام من السخب والصخب، وهما شِدَّة اختلاط الأصوات.

"في الأسواق، ولا يدفع بالسَّيئة السَّيئة"؛ يعني: لا يسيء إلى مَنْ أساء إليه. "ولكن يَعْفُو": عن المسيء ويحسِنُ إليه. "ويَغْفِرُ"؛ أي: يدعو له بالغفران. "ولن يقبضَهُ حتَّى يُقيْمَ به"؛ أي: يُجْعَل مستقيماً برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "المِلَّة العوجاء": يريد بها الكفر؛ لأنها مِلَّةٌ معوجَّةٌ باطلة، لا استقامة لها، وقيل: يريد ملَّة إبراهيم عليه السلام غيَّرتها العرب عن استقامتها وتَدَيْنَتْ بها. "بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها"؛ أي: بكلمة التوحيد، وهو قول: لا إله إلا الله. "أعينٌ عُمي" بضم العين: جمع أعمى. "وآذان صُمٌّ": جمع أصم. "وقلوب غُلْفٌ": جمع أَغْلَف، وهو الذي لا يفهم كأنَّ قلبه في غلاف، وهذا إشارة إلى المذكور في قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] يعني: أنه عليه السلام يدعوهم إلى الإيمان والطاعة ويحملهم عليه. "ورواه عطاء": وهو عطاء بن يسار. "عن ابن سلام"؛ يعني: عبد الله بن سلام. مِنَ الحِسَان: 4475 - عَنْ خَبَّابِ بن الأَرَتِّ - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلاَةً

فأَطَالَها، قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! صَلَّيْتَ صَلاَةً لم تكُنْ تُصلِّيْها! قال: "أجَلْ، إنَّها صلاةُ رَغْبةٍ ورَهْبةٍ، إِنِّي سَألتُ الله فِيها ثلاثاً فأعطانِي اثنتَيْنِ ومَنعنِي واحِدَةً: سَألتُهُ أَنْ لا يُهلِكَ أُمَّتي بسَنَةٍ فأعطَانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يُسلِّطَ علَيهِم عَدُوًّا مِنْ غيْرهِم فأعطانِيها، وسَألتُهُ أنْ لا يُذيقَ بَعضَهُم بأسَ بعضٍ فمنعَنِيها". "من الحسان": " عن خَبَّاب بن الأرَت - رضي الله عنه - قال: صلَّى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةً فأطالها، قالوا: يا رسول الله! صلَّيْتَ صلاةً لم تكن تُصلِّيها قال: أجَل"؛ أي: نعم. "إنها"؛ أي: تلك الصلاة. "صلاة رَغْبَةٍ"؛ أي: إلى الله. "ورَهْبةٍ"؛ أي: خوف منه تعالى، وفيه تعليمٌ للأمة إذا ظهر لهم أمر عظيم، وخوف شديد، أو رجاء إلى الله تعالى يلتجئون إلى صلاة رغبة ورهبة؛ ليزول عنهم ذلك بفضله ورحمته ويحصل مطلوبهم. "إني سألْتُ الله فيها ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة؛ سألْتُ الله أن لا يُهْلِكَ أمتي بسَنَةٍ فأعطانيها، وسألته أن لا يسلِّط عليهم عدواً من غيرهم فأعطانيها، وسألته أن لا يذيْقَ بعضَهُمْ بأسَ بعضٍ فمَنَعَنِيها". 4476 - عَنْ أَبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله - عز وجل - أَجَاركم مِنْ ثَلاثِ خِلالٍ: أنْ لا يَدعُوَ عَلَيكُم نبيُّكم فتَهلِكُوا جَمِيْعاً، وأنْ لا يَظهرَ أَهْلُ البَاطِلِ على أَهْلِ الحَقِّ، وأنْ لا تَجتمِعُوا على ضَلاَلةٍ". "عن أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - عز وجل -: إن الله أجاركم"؛ أي: أنقذَكُم.

"مِنْ ثلاثِ خِلال"؛ أي: خِصَال؛ تعظيماً لنبيكم وتكريماً لكم. "أن لا يدعو عليكم نبيُّكم" بسبب كفر بعضكم. "فتهلِكُوا جميعاً": كما دعا نوح على قومه فقال: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] فهلكوا جميعاً، ودعا موسى على قوم فرعون فقال: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88]. "وأن لا يظهرَ"؛ أي: لا يغلبَ. "أهلُ الباطل"؛ يعني: أهل الشِّرْك، وإن كثرَتْ أنصاره وأعوانه. "على أهل الحق"؛ يعني: على أهل الإسلام بحيث يمحقه ويطفئ نوره. "وأن لا يجتمعوا على ضلال"؛ أي: لا يتفقوا على شيء باطل، وهذا يدل على أن إجماع الأمة حُجَّة. 4477 - وعَنْ عَوْفِ بن مالِكٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لَنْ يَجْمَعَ الله تعالى على هذهِ الأمَّةِ سيفَيْنِ: سَيفاً مِنْها وسَيفاً مِنْ عدُوِّها". "وعن عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لن يَجْمَعَ الله على هذه الأمة"؛ أي: المسلمة المؤمنة. "سَيْفَيْنِ: سيفاً منها، وسيفاً مِنْ عدوِّها"؛ يريد: أنَّ السيفين لا يجتمعان فيقع الاستئصال، ولكن إذا جعلوا بأسهم بينهم سَلَّط الله عليهم العدو فيشغلهم به عن أنفسهم ويكفَّ عنهم بأسهم. 4478 - عَنِ العَبَّاس - رضي الله عنه -: أَنَّه جَاءَ إِلَى النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فكأنَّهُ سمعَ شَيْئًا، فَقَامَ

النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عَلى المِنْبَرِ فَقَالَ: "مَنْ أَنَا؟ "، فَقَالُوا: أَنْتَ رَسُولُ الله، قَالَ: "أَنَا مُحمَّدُ بن عبدِ الله بن عبدِ المُطلِب، إنَّ الله خَلَقَ الخَلْقَ فجَعَلَنِي في خَيْرِهِم، ثُمَّ جَعَلَهُم فِرقتَيْنِ فجَعَلَنِي في خَيْرِهِم فِرقةً، ثُمَّ جَعَلَهم قَبَائِلَ فجَعَلَنِي في خَيْرِهِم قَبيلة، ثُمَّ جَعَلَهُم بُيوْتاً فَجَعَلَنِي في خَيْرِهِمْ بَيْتاً، فَأَنَا خَيْرُهُم نفْساً وأَنَا خَيْرُهُم بَيتاً". "عن العباس - رضي الله عنه -: أنه جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانه"؛ أي: كأنَّ العباس. "سمع شيئاً"؛ أي شيئاً يكرهه في حقّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - على المنبر": لوعظ أُمَّتِهِ. "فقال: من أنا؟ ": استفهام سؤال تقرير، و (أنا) عائد إلى حقيقته وكمالِهِ النبوي. "فقالوا: أنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، إنَّ الله خلق الخلْقَ فجعلني في خيرهم"، المراد: مِنْ خَيْرِ الخَلْقِ؛ الإنسان. "ثم جعلهم"؛ أي: صيَّر خيرهم. "فرقتين"؛ يعني: العرب والعجم. "فجعلني في خيرهم فرقة": نصب على التمييز؛ أي: في العرب. "ثم جعلهم"؛ أي العرب قبائل. "فجعلني في خيرهم قبيلة"؛ أي: في قريش. "ثم جعلهم"؛ أي تلك القبيلة. "بيوتاً"؛ أي بطونا، والبطن: دون القبيلة. "فجعلني في خيرهم بيتاً"؛ أي: بطناً، وهو قبيلة بني هاشم.

"فأنا خيرهم نَفْساً، وخيرهم بيتاً"، بيِّنَ - صلى الله عليه وسلم - بعض كمالاته وفضائله تواضعاً منه - صلى الله عليه وسلم - وتلقيناً لأمته بالتواضع. 4479 - عَنْ أَبي هُريرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالُوا: يا رَسُولَ الله! متَى وَجَبَتْ لكَ النُّبُوَّةُ؟ قال: "وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجَسدِ". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متى وَجَبَتْ"؛ أي: ثَبَتَتَ لك. "النبوة؟ قال: وآدم": الواو للحال؛ يعني: ثَبَتَتْ نبوتي في حال أنَّ آدمَ "بين الروح والجسد"؛ أي: مطروح على الأرض سورة بلا روح؛ أي: قبل تعلق روحه بجسده. 4480 - وعَنِ العِربَاضِ بن سَارِيَةَ، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قَالَ: " إنِّي عِنْدَ الله مَكتوب: خَاتَمُ النَّبيينَ، وإنَّ آدمَ لمُنْجَدلٌ في طِينَتهِ، وسَأُخبرُكُم بأوَّلِ أَمْرِي: دَعوةُ إِبراهِيْمَ، وبشَارَةُ عيسَى، ورُؤْيا أُمِّي الَّتي رَأَتْ حِينَ وضَعَتْني وقدْ خَرجَ لها نُورٌ أضَاءَتْ لَها منهُ قُصُورُ الشَّامِ". "عن عرباض بن سارية - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إني عند الله مكتوب: خاتم النبيين": برفع (خاتم) نائب مناب فاعل (مكتوب)، وفي بعض النسخ بالنصب؛ تمييزاً أي: مكتوب من هذه الحيثية. "وإن آدم لمُنْجَدلٌ"؛ أي: لملقى على وجه الأرض. "في طِيْنَتِه"؛ أي: في خلقته، من قولهم: طَانَهُ الله؛ أي: خلقه، والجار

والمجرور خبر ثان لـ (إن)، والجملة حال من (المكتوب)، والمعنى كتبْتُ خاتم الأنبياء في الحال التي آدم مطروح على وجه الأرض صورة من طين لم يُنفخ فيه الروح بعدُ. "وسأخبرُكم بأوَّل أمري، دعوة إبراهيم": وهي قوله: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة: 129] قيل: يريد بالآيات: خبر من مضى، وخبر من بقي إلى يوم القيامة، والضمير في (فيهم) و (منهم) يعود إلى الذرية. "وبشارة عيسى عليه السلام": وهي قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6]. "ورُؤْيا أمِّي التي رأَتْ حين وضَعَتْني، وقد خَرَجَ لها"؛ أي: لأمي، واللام للعلة. "نوراً أضاءَتْ لها منه"؛ أي: من النور. "قصور الشام": جمع قصر. 4481 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا سيدُ ولَدِ آدمَ يَومَ القِيامَةِ ولا فَخْرَجَ، وبيَدِيْ لِواءُ الحمدِ ولا فخرَ، ومَا منْ نبَيٍّ يومَئذٍ آدمُ فمن سِواهُ إلَّا تحتَ لِوائِي، وأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنشق عنهُ الأَرْضُ ولا فَخْرَ". "وعن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا سيد وَلَدِ آدم يوم القيامة ولا فَخْرَ"؛ أي: لا أقوله مفاخرة، بل إظهاراً لنعمة الله تعالى عليَّ، وقيل: أي: لا أفتخر بذلك، بل فخري بربي الذي أعطاني هذه المرتبة. "وبيدي لِوَاء الحمد": بكسر اللام ويالمد؛ أي: رايته، يريد به: انفراده بالحمد وشهرته على رؤوس الخلائق، والعرب تضع اللواء موضع الشهرة،

ولا مقام أعلى وأرفع من مقام الحمد، ودونه تنتهي سائر مقامات العباد، ولما كان نبينا - عليه الصلاة والسلام - أحمد الخلائق في الدنيا والآخرة أُعطي لواء الحمد؛ ليأوي إلى لوائه الأولون والآخرون، ويفتح عليه في ذلك اليوم من المحامد ما لم يفتح على أحدِ. "ولا فَخْرَ، وما مِنْ نبي يومئذ"؛ أي: يوم إذْ تقوم الساعة. "آدم": عطف بيان لقوله: (نبي) أو بدل. "فمَنْ سِواه": (من) موصولة، (سواه) صلته، نصب على الظرف، والفاء للعطف على (آدم)؛ أي: وغيره من الأنبياء والمرسلين. "إلا تحت لوائي، وأنا أول من تنشقُّ عنه الأرض، ولا فَخْرَ". 4482 - عنْ ابن عَبَّاسِ - رضي الله عنهما - قَالَ: جَلسَ نَاس مِنْ أَصحَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فخَرجَ، فسمِعَهُم يَتذاكَرونَ، قَالَ بعضُهُم: إِنَّ الله اتَّخذَ إبْراهِيمَ خَليلاً، وقَالَ آخرُ: مُوسُى كلَّمهُ الله تَكْلِيْما، وقالَ آخرُ: فعيسَى كَلِمةُ الله ورُوحُهُ، وقَالَ آخرُ: آدمُ اصْطَفَاهُ الله، فخَرجَ عَلَيهِم فسَلَّمَ وقَالَ: "قد سَمِعت كَلامَكم وعَجَبَكم أنَّ إِبْراهيمَ خَلِيْلُ الله وهوَ كَذلِكَ، ومُوسَى نَجيُّ الله وهوَ كَذَلكَ، وعِيْسَى رُوْحُهُ وكَلِمتهُ وهوَ كَذلكَ، وآدمُ اصطَفاهُ الله وهُوَ كذلكَ، أَلاَ وأَنَا حَبيبُ الله ولا فَخْرَ، وأَنَا حَامِلُ لِواء الحمدِ يَومَ القِيامةِ ولاَ فَخْرَ، تحتَهُ آدَمُ فمنْ دُونه ولا فخرَ، وأنا أوَّلُ شَافِعٍ وأوَلُ مُشفَّعٍ يومَ القِيامةِ ولا فَخْرَ، وأَنا أوَّلُ مَنْ يُحرِّكُ حِلَقَ الجنَّةِ فيَفتَحُ الله لِيَ فيُنخِلُنِبْها ومَعِي فُقَراءُ المُؤمِنينَ ولا فَخْرَ، وأَنَا أكْرَمُ الأوَّلينَ والآخِرينَ على الله ولا فَخْرَ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: جَلَسَ ناسٌ مِنْ أصحاب النبي على الله تعالى

عليه وسلم فخرج فسمعهم": نصب على الحال من الضمير في (خرج) العائد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، و (قد) مقدرة. "يتذاكرون": نصب على الحال من الضمير المنصوب في (سمعهم)، يعني: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد سمعهم متذاكرين في فضائل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. "قال بعضهم: إن الله تعالى اتَّخذ إبراهيم خليلاً، وقال آخر: موسى كلَّمه الله تعالى تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه، وقال آخر: آدم اصطفاه الله تعالى، فخرج النبي عليهم وسلَّم وقال: قد سمعت كلامَكُم، وعَجَبَكُم أنَّ إبراهيم خليل الله، وهو كذلك": هذا تصديقٌ لكلامهم. "وموسى نَجيُّ الله، وهو كذلك، وعيسى روحه وكلمته، وهو كذلك، وآدم اصطفاه الله، وهو كذلك، ألا": كلمة تنبيه؛ أي: تنبَّهوا. "وأنا حبيب الله، ولا فَخْرَ": والفرق بين الخليل والحبيب: أن الخليل اشتقاقه من الخلَّة وهي الحاجة، فإبراهيم عليه السلام كان كلُّ افتقاره إلى الله تعالى، فمن هذا الوجه اتَّخذه خليلاً، والحبيب اشتقاقه من المحبة، فعيل بمعنى الفاعل والمفعول، فكأنه عليه السلام محبوب ومُحِب، والخليل محبٌّ لحاجته إلى مَنْ يحبه، والحبيب محبٌّ لا لغرض. وقيل: الخليل يكون فعله برضاء الله تعالى، والحبيب يكون فعل الله تعالى برضاه. ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد تحويل القبلة فقال الله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] وقال له: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]. وقيل: الخليل لا يحب الاستعجال إلى لقاء خليله، كما قيل: إن ملك

الموت لما جاء إلى قَبْضِ روح إبراهيم عليه السلام قال له: هل رأيت خليلاً يقبض روح خليله، فعرج إلى السماء ثم نزل فقال: إن الله يقرئك السلام ويقول لك: هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله. والحبيب يحبُّ الاستعجال إلى لقاء حبيبه كما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في دعائه: "اللهم إنِّي أسألك النظر إلى جَلال وجهك والشَّوق إلى لقائك". والخليل يكون في مغفرته في حدِّ الطمع كما قال إبراهيم عليه السلام: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82]. والحبيب مغفرته في حدِّ اليقين من غير سؤال، قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2]. والخليل قال: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87]، والحبيب قال الله تعالى له: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8]. والخليل قال: {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]، والحبيب قال له: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7]. والخليل قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء: 84]، وقال للحبيب: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]. والخليل قال: {وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ} [الشعراء: 85]، والحبيب قال له: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]. "وأنا حاملٌ لواءَ الحمد يوم القيامة، تحته آدم فمَنْ دونه، ولا فَخْرَ، وأنا أول شافع وأول مشفَّع": بفتح الفاء المشددة؛ أي: الذي قَبلْتَ شفاعته. "يوم القيامة، ولا فَخْرَ، وأنا أول مَنْ يحرك حِلَق الجنة": جمع حلقة، وهي هنا: حلقة باب الجنة.

"فيفتح الله تعالى لي فَيُدخِلُنيها، ومعي فقراء المؤمنين، ولا فَخْر"، فيه دليل على فضلهم وكرامتهم عند الله تعالى. "وأنا أكرم الأوَّلين والآخِرين على الله تعالى، ولا فَخْر"، فيه دليل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أفضل من السموات والأرض. 4483 - عَنْ عَمرِو بن قَيْسٍ: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "نَحْنُ الآخِرونَ، ونَحْنُ السَّابقُونَ يومَ القِيامةِ، وإنِّي قَائِلٌ قَوْلاً غيرَ فَخْر: إِبْراهِيمُ خليلُ الله، ومُوسَى صفِيُّ الله، وأَنَا حَبيْبُ الله، ومعِي لِواءُ الحمدِ يومَ القِيامةِ، وإنَّ الله وعَدَنِي في أُمَّتِي وأَجَارَهم مِنْ ثَلاثٍ: لا يَعمُّهم بسَنةٍ، ولاَ يَستأصِلُهم عَدُوٌّ، ولا يَجْمعُهُم عَلَى ضَلالَةٍ". "عن عمرو بن قيس - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نحن الآخرون"؛ أي: في المجيء إلى الدنيا. "ونحن السابقون يوم القيامة"؛ أي: في دخول الجنة. "وإني قائل قولاً غَير فَخْر، إبراهيم خليلُ الله، وموسى كليم الله، وآدم صفِيُّ الله"؛ أي: مختاره. "وأنا حبيب الله، ومعي لِواء الحمد يوم القيامة، وإن الله وعدني في أمتي وأجارَهم"؛ أي: حفظهم وأنقذهم. "من ثلاث"؛ أي: ثلاث خصال. "لا يَعُمُّهُمْ بسَنَة"؛ أي: قَحْط. "ولا يستأصلُهُمْ عدوُّ، ولا يجمعُهُم على ضَلالةٍ".

4484 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "أَنَا قَائِدُ المُرسَلِينَ ولا فَخْرَ، وأَنَا خَاتَمُ النبيينَ ولا فَخْرَ، وأَنَا أَوَّلُ شَافعٍ ومُشفَّعٍ ولا فَخْرَ". "عن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أنا قائد المرسلين"؛ أي: مُقَدَّمهم. "ولا فخر، وأنا خاتم النبيين، ولا فخر، وأنا أول شافع ومشفَّع، ولا فخر". 4485 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ، قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنَا أوَّلُ النَّاسِ خُرُوجاً إذَا بُعِثوا، وأَنَا قائِدُهم إذَا وَفَدُوا، وأَنَا خَطيبُهُم إذَا أنْصَتُوا، وأَنَا مُستَشفِعُهُم إذا حُبسُوا، وأَنا مُبشّرُهم إذَا آيسُوا، الكَرامةُ والمَفَاتيحُ يَومَئِذٍ بيَدِي، ولواءُ الحمْدِ يومَئذٍ بيدي، وأَنَا أكْرمُ ولَدِ آدمَ على ربي، يَطوفُ عَليَّ ألفُ خَادِمٍ كأنهم بَيْض مَكْنونٌ أو لُؤلؤٌ مَنْثورٌ"، غريب. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أول الناس خروجاً إذا بُعثوا"؛ أي: نشروا، يعني: أنا مُقَدَّمهم في الخروج عن القبر. "وأنا قائدهم"؛ أي: متبوعهم. "إذا وَفَدُوا"؛ أي: جاؤوا على الله تعالى. "وأنا خطيبهم إذا أَنْصَتُوا"؛ أي: سكتوا متحيرين؛ يعني: يكون في قدرة على الكلام في ذلك اليوم. "وأنا مُستَشْفَعهم": بفتح الفاء اسم مفعول، من استشفعتُهُ إلى فلان؛ أي: سألته أن يشفع في إليه. "إذا حُبسُوا"؛ أي: في الموقف، ولم يحاسبوا. "وأنا مُبشّرُهُم"؛ أي: بالرحمة والرضوان.

"إذا أيسوا الكرامة"؛ أي: قَنطوا من الرحمة. "والمفاتيح"؛ أي: مفاتيح كلِّ خير. "يومئذ بيدي": وهذا لأنه يصل أنواع اللُّطف والرَّأفة من الله إلى أهل العَرَصَات من الأنبياء وغيرهم بواسطة شفاعته العامة في المقام المحمود، فكما أنَّ المفاتيح آلة للفَتْحِ، فهو أيضاً سبب لما ينفتح من فضله العميم على عباده. "ولواء الحمد يومئذٍ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي، يطوف عليَّ ألف خادم كأنهم بَيْضٌ مَكْنون"؛ أي: لؤلؤ مستور في صدفة لم تمسَّه الأيدي. "أو لؤلؤ منثوراً" شكٌّ من الراوي. "غريب". 4486 - عَنْ أَبي هُريْرَة - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "فأُكسَى حُلَّةً منْ حُلَلِ الجَنَّةِ، ثُمَّ أقومُ عَنْ يَمينِ العَرْشِ، لَيسَ أَحدٌ مِنَ الخَلائِقِ يَقومُ ذلكَ المَقامَ غَيْري". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فأكسَى حُلَّة": وهي إزار ورداء. "من حُلَل الجنة": وفي "الصحاح": لا يسمى حُلَّة حتى يكون ثوبين. "ثم أقوم عن يمين العرش، ليس أحدٌ من الخلائق يَقُومُ ذلك المقام غيري"؛ يعني: ذلك المقام مختصّ بي. 4487 - عَنْ أبي هُريْرَة - رضي الله عنه - عَنْ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "سَلُوا الله لِيَ الوَسيلَة"،

قَالُوا: يَا رَسُولَ الله! ومَا الوَسيلَةُ؟ قَالَ: "أَعلَى درَجةٍ في الجَنَّةِ، لا ينالُها إِلاَّ رَجُلٌ واحِدٌ، أرجُو أنْ أكُونَ أَنَا هوَ". "عن أبي هريرة - صلى الله عليه وسلم -، عن النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: سلوا الله لي الوسيلة. قالوا: يا رسول الله! وما الوسيلة؟ قال: أعلى درجةٍ في الجنة لا يَنَالُها"؛ أي: تلك الدرجة. "إلا رجل واحد، أرجو أن أكون أنا هو": لفظ (هو) وقع موقع (إياه)، أو (أنا) مبتدأ و (هو) خبره والجملة خبر (أكون)، وإنما ذكر الكلام مبهما على سبيل التواضع؛ لأنه قد عرف جزماً أن تلك الدرجة له - صلى الله عليه وسلم -. 4488 - عَنْ أُبي بن كَعبٍ - رضي الله عنه - عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إذا كانَ يَومُ القِيامَةِ كُنْتُ إِمَامَ النَّبيينَ وخَطيبَهُم، وصاحِبَ شفاعَتِهِم غيرَ فَخْرٍ". "عن أُبَي بن كعب - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا كان يوم القيامة كنْتُ إِمَام النبيين": بكسر الهمزة، والفتح غلط. "وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، غَيْرَ فَخرٍ": نصب على المصدر نحو: هذا زيد غَيْرَ ما تقول. 4489 - عَنْ عَبْدِ الله بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لِكُلِّ نبيٍّ وُلاةً مِنَ النَّبيينَ، وإنَّ وَليي أَبي خَلِيلُ رَبي"، ثمَّ قَرأَ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ}. "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن لكل نبي وُلاَةً":

جمع وَليٍّ، وهو بمعنى الحبيب والصديق؛ يعني: أحباء وقرناء. "من النبيين": وهم أولى بهم من غيرهم، وأقرب إليهم في جميع الأوقات. "وإنَّ وَليي أبي" وهو إبراهيم "خليل ربي": بالإضافة خبر (إن) بعد خبر. "ثم قرأ: " {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيّ} ": عطف على (للذين)؛ يعني: محمداً عليه الصلاة والسلام. 4490 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ الله بَعثَنِي لِتَمَامِ مَكارِمِ الأخْلاقِ، وكَمَالِ مَحاسِنِ الأفعْالِ". "عن جابر - رضي الله عنه -: أنَّ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قال: إن الله بعثني"؛ أي: أرسلني. "لتمامِ مَكَارم الأخلاق": جمع مَكْرُمَة، وهي خصلة مرضية يُكْرَم الشخص بها؛ أي: يستحق أن يكون كريماً. "وكمال محاسِن الأفعال": جمع حسن على غير قياس؛ يعني: بعثني إلى العالم ليتمَّ بوجودي مكارم أخلاق عباده، ويكمل بي محاسن أفعالهم. 4491 - عَنْ كَعبٍ - رضي الله عنه - يَحْكِي عَنِ التَّوْراةِ قَالَ: نَجدُ مَكتوباً: مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله، عَبدِي المُختارُ، لا فظٌّ ولا غَليظٌ، ولا سَخَّابٌ بالأَسْواقِ، ولا يَجزِي بالسَّيئةِ السَّيئةَ، ولكنْ يَعفُو ويَغْفِرُ، مَوْلدُهُ بمكَّةَ، وهِجرتُهُ بطَيْبةَ، ومُلكُهُ بالشَّامِ، وأُمّتُهُ الحمَّادونَ، يَحمَدونَ الله في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، يَحمَدونَ الله في كلِّ مَنْزِلَةٍ، ويُكبرونه على كُلِّ شَرَفٍ، رُعاةٌ للشَّمسِ، يُصَلُّونَ الصَّلاةَ إذا جَاءَ وقتُها، يتأزَّرُونَ على أَنْصافِهِم، ويتوَضَّؤُون على أَطرافِهِم، مُنادِيهِم يُنادِي

في جَوِّ السَّماءِ، صَفُّهُمْ في القِتالِ وصَفُّهم في الصَّلاةِ سَواءٌ لهُم باللَّيلِ دَوِيٌّ كَدَوِيِّ النَّحلِ. "عن كعب يحكي عن التوراة قال: نَجدُ مكتوباً: محمد رسول الله عبدي المختار، لا فظَ ولا غليظ، ولا سخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسَّيئة السَّيئة، ولكن يعفو ويغفر": مرَّ البيان فيه قبل حِسَان هذا الباب. "مَوْلدُه"؛ أي: موضع ولادته. "بمكة، وهِجْرته": وهو ترك الوطن والذهاب إلى موضع آخر. "بطيبة": اسم مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام. "ومُلْكُه بالشام": يريد بالمُلْك هنا: النبوة والدين؛ يعني: يعمُّ دينه جميع البلدان، لكن أهل الشام ومصر ومُلْكُهما يكون أتبع لدينه من أهل سائر البلاد وسائر الملوك. "وأمته الحمَّادون"؛ أي: كثير [و] الحمد. "يحمدون الله في السَّراء والضَّراء يحمدون الله في كلّ منزلة"؛ أي: منزل. "ويكبرونه على كلِّ شَرَف"؛ أي: مكان مرتفع. "رُعاة للشمس": جمع الراعي، بمعنى الحافظ؛ أي: حُفَّاظ لأوقات الصلاة، يراقبون طلوع الشمس وغروبها، وينظرون في سيرها ليعرفوا مواقيتها. "يصلون الصلاة إذا جاء وقتها"، قيل: فيه دليل على أن معرفة النجوم قَدْرَ ما يعرف به أوقات الصلاة مطلوبة. قال محيي السنة في "التهذيب": معرفة دلائل القِبْلة فرضُ عين يجب على كل بَصيرٍ تعلمها.

"يتأزِّرون على أنصافهم"؛ أي: يشدُّون الأُزُرَ على أوساطهم، وهي من السرَّة إلى تحت الركبة. "ويتوضؤون على أطرافهم"؛ أي: يجرُّون الماء على أطراف أبدانهم من الوجه واليدين والرأس والرجلين للوضوء. "مُنَاديهم"؛ أي: مُؤَذِّنهم. "ينادي في جوِّ السماء"؛ أي: في مواضعَ مرتفعة من منارة ونحوها. "صفهم في القتال وصفهم في الصلاة سواء" في كونه كالبنيان المرصوص. "لهم بالليل"؛ أي: في جوف الليل. "دَوِيٌّ"؛ أي: أصوات خفية بالتسبيح والتهليل وقراءة القرآن والذِّكر. "كَدَوِيِّ النَّحل"؛ أي: كصوتها. 4492 - عَنْ عَبْدِ الله بن سَلاَم - رضي الله عنه - قَالَ: مَكْتُوبٌ في التَّوراةِ صِفةُ مُحَمَّدٍ وعيسَى بن مريمَ يُدفَنُ مَعَهُ. قِيْلَ: قد بَقِيَ في البَيتِ مَوضعُ قَبْرِه. "عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال: مكتوبٌ في التوراة صفةُ محمد عليه الصلاة والسلام": مبتدأ، وخبره (مكتوب) مُقَدَّم عليه. "وعيسى بن مريم يُدفَنُ معه"؛ أي: مع محمد - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني: عنده. "قيل: قد بقي في البيت"؛ أي: البيت الذي دُفِنَ فيه محمد - صلى الله عليه وسلم -. "موضع قبره": فلعله يُدْفَنُ فيه عيسى عليه السلام.

2 - باب أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفاته

2 - باب أَسْمَاءِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وَصِفَاتُهُ (باب أسماء النبي - صلى الله عليه وسلم - وصفاته) مِنَ الصِّحَاحِ: 4493 - عَن جُبَيْرِ بن مُطعِم - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: "لِي خَمسةُ أَسمَاءٍ: أَنا مُحمَّد، وأَنَا أَحمَدُ، وأَنا المَاحِي الذِي يَمحُو الله بي الكُفرَ، وأَنَا الحَاشِرُ الذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلى قَدمَيَّ، وأَنا العَاقِبُ"، والعَاقِبُ: الَّذي لَيسَ بعدَهُ نبيٌّ. "من الصحاح": " عن جبير بن مطعم - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لي خمسة أسماء: أنا محمد، وأنا أحمد وأنا الماحي الذي بمحو الله بي الكفر، وأنا الحاشر الذي يُحشر الناس على قَدمي"؛ أي: على أثري، يعني: أنه - صلى الله عليه وسلم - يحشر أولهم، ثم يحشر الناس على أثره؛ أي: عقبه؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أولُ مَنْ تنشق عنه الأرض". "وأنا العاقب"؛ أي: الآخر. "والعاقب: الذي ليس بعده نبي"، يريد به: خاتم الأنبياء. 4494 - وعَن أبي مُوسى الأَشعَرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُسمِّي لِنَفسِهِ أَسْماءً، فَقَال: "أَنا مُحَمَّد، وأَحمَدُ، والمُقَفِّي، والحَاشِرُ، ونبيُّ التَّوْبةِ، ونبيُّ الرَّحمَةِ".

"وعن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يُسمِّي نفسه أسماءً فقال: أنا محمد، وأحمد، والمُقَفِّي": على بناء الفاعل، بمعنى العاقب؛ يعني: أنا آخر الأنبياء، وقيل: بناء المفعول أي: المتبع للنبيين. "والحاشر، ونبي التَّوبة": سمي به لأن التوبة: الرجوع، وقد كان رجوع الكفرة إلى الإسلام في زمانه - صلى الله عليه وسلم -، وكذا يكون بعده إلى يوم القيامة، وكذا العصاة يرجعون إلى الطاعة ببركته - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان كثير الرجوع إلى الله تعالى؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أستغفر الله في اليوم سبعين مرة"، ولأنه قُبلَ من أمته التوبة بمجرد الاستغفار. "ونبي الرحمة": فإن قيل: روي: أنه صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "ونبي الملاحم"، فكيف التوفيق بين كونه مبعوثاً بالرحمة وبين كونه مبعوثاً بالسيف قيل: إن الله تعالى بعث الأنبياء وأيَّدهم بالمعجزات، فمَنْ لم يؤمِنْ بعْدَ الحُجَّة والمعجزة عُذِّبوا بالهلاك والاستئصال، وأمر نبينا بالسّيف ليرتدعوا عن الكفر، فإن للسَّيف بقيَّة، وليس مع العذاب المنزل تقيَّة. 4495 - وعَنْ أَبي هُريرَة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَلاَ تَعجَبونَ كيفَ يَصرِفُ الله عنِّي شَتْمَ قُرَيْشٍ ولَعنَهم؟ يشتِمونَ مُذَمَّماً، ويَلعَنونَ مُذَمَّماً، وأَنَا مُحَمَّد". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا تعجبون كيف يصرف الله عني شَتْمَ قريش ولَعنَهم": (كيف) سؤال عن الحال، واللعن: الطرد والإبعاد من الخير.

"يشتِمُون"؛ أي: يسبُّون مذمماً. "ويلعنون مُذَمَّماً": يريد بذلك تعريضهم إيَّاه بمُذَمَّم مكان محمد، وكانت العوراء بنت حرب زوجة أبي لهب تقول: مُذَمَّما قَلَيْنَا، ودينه أَبْيَنا، وأمره عَصَيْنَا. "وأنا محمد": الواو للحال. 4496 - وعَنْ جَابر - رضي الله عنه - عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "سَمُّوا باسْمِي ولا تَكنَّوْا بكُنْيتي، فإنِّي إنَّما جُعِلْتُ قاسِماً أقسِمُ بينكُم". "وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سمُّوا باسمي ولا تَكنَّوْا بكُنيتي": الاكتناء: عبارة عما تقول: الرجل أبو فلان. قيل: النهي للتنزيه، وقيل: للتحريم، وقيل: النهي مخصوص بزمانه - صلى الله عليه وسلم -. "فإني إنما جُعِلْتُ قاسماً أقسِمُ بينكم"؛ أي: ما ينزل من الوحي عليَّ. 4497 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرَة - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قد شَمِطَ مُقدَّمُ رأْسِهِ ولِحيتهِ، وكَانَ إذا ادَّهنَ لم يَتَبيَّنْ، وإذا شَعِثَ رَأسُهُ تَبيَّنَ، وكانَ كثيرَ شَعرِ اللِّحيةِ، فقالَ رجل: وجهُهُ مِثْلُ السَّيْف؟ قال: لا كانَ مِثْلَ الشَّمسِ والقَمرِ، وكانَ مُستَديراً، ورَأيتُ الخَاتَمَ عندَ كتِفهِ مِثْلَ بَيْضةِ الحَمامَةِ يُشبهُ جَسَدَهُ. "عن جابر بن سَمُرَة - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شَمِطَ مقدم رأسه"؛ أي: ظهر الشيب في مُقَدَّم رأسه. "ولحيته": يقال: شَمِطَ - بالكسر - شمطًا إذا ابيضَّ بعض شعر رأسه،

واختلط بأسوده (¬1). "وكان إذا ادَّهن لم يتبيَّن"؛ يعني: إذا استعمل الدهن في لحيته ورأسه لم يظهر الشيب. "وإذا شعث"؛ أي اغبرَّ رأسه. "تبيَّن"؛ أي ظهر. "وكان كثير شعر اللحية فقال رجل: وكأن وجهُهُ مِثْلَ السَّيف"؛ أي: في التلألؤ واللَّمعان. "قال: لا بل كان مِثلَ الشَّمس والقمر، وكان مُستديراً"؛ أي: مُدوراً. "ورأيت الخاتم"؛ يعني: خاتم النبوة. "عند كتفه مثل بَيْضَةِ الحمامة": في الحجم والصورة. "يُشْبهُ جسدَه"؛ أي: لونه كلون جسده. 4498 - عَنْ عَبدِ الله بن سرْجِسَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأيتُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وأكَلْتُ مَعهُ خُبْزاً ولَحْماً - أو قَالَ: ثَرِيْدًا - ثمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ، فنظَرتُ إلى خَاتَم النُّبوَّةِ بينَ كتِفَيْهِ عندَ ناغِضِ كَتِفِهِ اليُسرَى، جُمعاً، عليه خِيْلان كَأمثالِ الثَّآلِيلِ. "عن عبد الله بن سرْجِس - رضي الله عنه - قال: رأيت النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأكلْتُ معه خُبْزًا ولحماً، أو قال: ثَريداً، ثم دُرْتُ خلفه فنظرْتُ إلى خاتم النبوة بين كتفيه عند ناغِضِ كَتِفِهِ اليُسرى": والنَّاغِض - بالغين والضاد المعجمتين -: أعلى الكتف، وقيل: عظم رقيق على طرفها، وقيل: أصل العنق. ¬

_ (¬1) في "ت" و "غ": "يخالط سواده".

"جمْعاً": بضم الجيم وسكون الميم، هو الكفُّ حين يقبض، نصب بنزع الخافض أي: كَجُمع. ويروى: (جَمْعًا) بفتح الجيم، نصب على أنه حال؛ أي: نظرت إليه مجموعاً. "عليه خِيْلان": بكسر الخاء وسكون الياء، جمع الخال، وهو نقطة سوداء تظهر في البشرة، يقال له: الشامة، وهو مبتدأ وخبره (عليه) مُقَدماً. "كأمثال الثآليل": بالثاء المثلثة والمد، جمع ثؤلول، وهو الحبة التي تظهر في الجلد كالحِمِّصة وما دونها. 4499 - وَقَالَ السَّائِبُ بن يِزيْدَ: نَظرتُ إلى خَاتَم النُّبوَّةِ بينَ كَتِفَيْهِ، مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ. "وقال السَّائب بن يزيد: نظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه مثل زِرِّ الحَجَلَةِ": بتقديم الرّاء المعجمة المكسورة على المهملة المشددة، أراد به الأزرار التي تُشَدُّ على ما يكون في حجال العرائس من الكلل والستور. 4500 - وعَنْ أُمِّ خَالِدٍ بنتِ خَالِدِ بن سَعيْدٍ: أُتِيَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بثيابٍ فيها خَميصَة سَوداءُ صَغِيْرَة، فقَالَ: "ائْتُوني بأُمِّ خَالدٍ فأُتِيَ بها تُحمَلُ، فأَخَذَ الخَميصةَ بيدِهِ فألبَسَها، قَالَ: أبْلي وأَخْلِقِي، ثُمَّ أَبْلِي وأَخْلِقي، ثُمَّ أَبْلِي وأخْلِقي"، وكانَ فيها عَلَمٌ أخْضَرُ أو أصْفَرُ، فَقالَ: "يا أُمَّ خَالدٍ! هذا سَناه"، وهيَ بالحبَشِيَّةِ حَسَنةٌ، قَالَتْ: فذهبْتُ ألعبُ بِخَاتَم النُّبوَّةِ، فزَبَرَني أبي، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "دَعْها".

"عن أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بثياب فيها خَميصة سوداء صغيرة، فقال: ايتوني بأمِّ خالد فأُتِي بها تُحْمَل"؛ أي: محمولة؛ لأنها طفل. "فأخذ الخَمِيصة بيده فألبَسَها"؛ أي: الخميصة لأمِّ خالد، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَبْلِي": من إبلاء الثوب، وهو جعله خَلَقاً. "وأخلقي": من الإخلاق بمعنى الإبلاء. "ثم أَبْلِي وأخلقي، ثم أبلي وأخلقي": والتكرار دعاء لها بطول البقاء، فكأنه قال لها حال إلباسها إياها: عمَّرك الله تعميراً، وفي بعض النسخ: بالفاء أي: أخلفي ثوبًا بعد الثوب. "وكان فيها علم أخضر أو أصفر فقال: يا أمَّ خالد هذه سَنَاهْ": بفتح السين وسكون الهاء في بعض النسخ، (سناه) بلا همزة، وروي: بهمزة، وهي بالحبشية حسنة. "قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فَزَبَرَني أبي"؛ أي: زجرني ومنعني وخوَّفني. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: دعها"؛ أي: اتركها. 4501 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ بالطَّويلِ ولا بالقَصِيْرِ، ولَيْسَ بالأَبيَضِ الأَمهقِ ولا بالآدَمَ، ولَيْسَ بالجَعدِ القَطَطِ ولا بالسَّبْطِ، بَعَثَهُ الله على رَأسِ أَربَعينَ سَنةً، فأَقَامَ بمكَّةَ عَشْرَ سِنينَ وبالمَدِينةِ عَشْرَ سِنينَ، وتَوفَّاهُ الله على رأسِ سِتِّينَ سَنةً، ولَيْسَ في رأسِهِ ولِحْيَتِهِ عِشرُونَ شَعرةً بيضَاءَ. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ليس بالطويل

البائن"؛ أي: الذي بَان طوله عن حدِّ الاعتدال. "ولا بالقصير، أَزهرَ اللون"؛ أي: نير اللون، والزُّهْرَة: البياض النَّير، وهو أحسن الألوان. "ولا بالأبيض الأمهقِ": وهو الشَّديد البياض، الذي لا يخالط بياضه شيء من الحمرة كلون الجصِّ. "ولا بالأَدَم": بالقصر، وهو هنا الأحمر، يريد: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان نيَر البياض. "ليس بالجَعد القَطَط" بفتحتين؛ أي: شديد الجعودة كما في الحبشة. "ولا بالسَّبط": وهو بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة، ضد الجعد؛ أي: الذي ليس له تكسر. "بعثه الله على رأس أربعين سنة، فأقام بمكة عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتوفاه الله على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرةً بيضاء". 4502 - وفي رِوَايَةٍ عن أَنسٍ - رضي الله عنه - يَصِفُ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كانَ رَبعةً منَ القومِ، لَيسَ بالطَّويلِ ولا بالقَصِيرِ، أَزهرَ اللَّونِ. "وفي رواية عن أنس - رضي الله عنه - يصِفُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان رَبْعَةً من القوم، ليس بالطويل ولا بالقصير": تفسير للرَّبعة. "أزهر اللون". 4503 - وقَالَ: كَانَ شَعرُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أنْصَافِ أُذُنيهِ.

وفي رواية: بَيْنَ أُذُنيهِ وعَاتِقِهِ. "وقال: كان شَعرُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أَنْصَاف أُذُنيهِ": جمع نصف، يعني: كان شعره مسترسلاً محاذياً لأنصاف أذنيه. "وفي رواية: بين أذنيه وعاتقه": واختلاف روايات طول شعره - صلى الله عليه وسلم - وقع بحسب اختلاف أزمنة حلقه، فإنه - صلى الله عليه وسلم - حلق رأسه عام الحديبية، ثم عام عمرة القضاء، ثم عام حجة الوداع؛ فلْيعتبَر الطول والقصر بحسب المناسبات الواقعة في تلك الأزمنة، وأقصرها مدة ما وقع بعد حجة الوداع، فإنه توفي بعد الحلق بثلاثة أشهر. 4504 - وقَالَ: كَانَ ضَخْمَ الرَّأْسِ والقَدَمَيْن، لم أرَ بعدَهْ ولا قبلَهُ مِثْلَه، وكَانَ بَسِطَ الكفَّيْن. وفي رواية: كَانَ شَثْنَ القَدَمَيْن والكَفَّيْن. "وقال: كان ضخم الرأس والقدمين"؛ يعني: كان رأسه ليس بصغير ولا كبير، بل وسطاً، وكذلك قدماه وسط بين الصغر والكبر. "لم أر قبله ولا بعده مثله"؛ أي: في الحسن. "وكان بَسِطَ الكفَّين" أي: مبسوطاً ممتداً، قيل: هذا كناية عن جوده وسخاوته فإن العرب تقول للسخي: بسط الكفِّ، وللبخيل: جَعدُ الكفِّ، وشهرة جوده من أحاديث وأخبار أخر لا تنافي الكناية. "وفي رواية: كان شَثْنَ القدمين والكفَّين"، يعني: أنهما يميلان إلى الغلظ والقصر، وقيل: هو الذي في أنامله غلظ بلا قصر، يحمد ذلك في الرجال؛ لأنه أشد لقبضهم.

4505 - وعَنِ البَراءِ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَرْبُوعاً بَعِيدَ مَا بَيْنَ المَنْكِبَيْن، لهُ شَعَرٌ بَلَغَ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ، رَأَيْتُهُ في حُلَّةٍ حَمْراءَ، لمْ أرَ شَيْئاً قَطُّ أَحْسَنَ مِنهُ. "وعن البراء - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مَرْبُوعاً"؛ أي: مربوع الخَلْق لا طويل ولا قصير. "بعيدَ ما بَيْنَ المَنْكِبَيْنِ، له شَعَرٌ يبلغ شَحْمَةَ أذنيه"، شَحْمَةُ الأُذُن: مُعَلَّقُ القُرْطِ. "رأيتُهُ في حُلَّةٍ حمراء لم أرَ شيئاً قطُّ أحْسَنَ منه". * * * 4506 - وفي رِوَايَةٍ عَنْهُ قَالَ: مَا رَأيْتُ مِنْ ذِي لِمَّةٍ أَحْسنَ في حُلَّةٍ حَمْراءَ منْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، شَعْرُهُ يَضرِبُ مَنْكِبَيْهِ، بَعِيْدَ مَا بَيْنَ المَنْكِبَيْنِ، لَيسَ بالطَّويلِ ولا بالقَصِيرِ. "وفي رواية عنه: ما رأيْتُ مِنْ ذِيْ لِمَّةٍ" بكسر اللام وفتح الميم المشددة: شعر يجاوز شَحْمَة الأذن. "أحسن في حُلَّة حمراء من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، شعره يضرب مَنْكَبيه، بعيد ما بين المنكبين، ليس بالطويل ولا بالقصير". * * * 4507 - عَنْ سِمَاكِ بن حَرْبٍ، عَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَليعَ الفمِ، أَشْكَلَ العَيْنِ، مَنْهُوشَ العَقِبَيْنِ، قِيْلَ لسِماكٍ: ما ضَليعُ الفَمِ؟ قَالَ: عَظِيْمُ الفَمِ، قِيْلَ: مَا مَنْهوشُ العَقِبَيْنِ؟ قَالَ: قَليْلُ لَحْمِ العَقِبَيْنِ، قِيْلَ: ما أشْكَلُ العَيْنِ؟ قال: طَويْلُ شَقِّ العَيْنِ.

"عن سِمَاك بن حَرْب، عن جابر بن سَمُرَة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضَلِيْعَ الفم": كناية عن الفصاحة، وقيل: عظيمه، وقيل: واسعه، والعرب تمدح عِظَمَ الفم، وتذمُّ صغره. "أَشْكَلَ العين، مَنْهُوش العَقِبَيْن، قيل لسِمَاك: ما ضَليع الفم؟ قال: عظيم الفم، قيل: ما أشْكَل العين؟ قال: طويل شقِّ العين"، وقيل الشُّكْلَة: الحمرة تكون في بياض العين، وهو محمود. "قيل: ما منهوش العَقِبَيْنِ؟ قال: قليل لحم العَقِب"، ويروى بالسين المهملة، معناه كهو المعجمة. * * * 4508 - عَنْ أَبي الطُّفَيْل - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ الله، كَانَ أَبْيضَ مَليحاً مُقَصَّداً. "عن أبي الطفيل - رضي الله عنه - قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أبيض مليحاً"؛ أي: حسناً. "مقصداً": على بناء اسم المفعول من التفعيل أي: متوسطاً في القامة والجثة. * * * 4509 - وسُئِلَ أَنسٌ عنْ خِضَابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: إنَّهُ لمْ يَبلُغْ ما يَخضبُ، لو شِئْتُ أنْ أعُدَّ شَمَطاتِهِ في لِحيَتِه. وفي رِوَايَةٍ: لو شِئْتُ أَنْ أعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ في رَأسِهِ. وفي رِوايَةٍ: إِنَّما كَانَ البَياضُ في عَنْفَقَتِهِ، وفي الصُّدْغَيْنِ، وفي الرَّأسِ نَبْذٌ.

"وسُئِلَ أنسٌ عن خِضَابِ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فقال: إنه لم يَبْلُغ"؛ أي: شعره. "ما يَخْضب": مفعول (يبلغ)؛ أي: حداً لخضبه، يعني: كان بياضه قليلاً. "لو شئْتُ أن أعُدَّ شَمَطاته"؛ أي: شعراته البيض. "في لحيته"، جواب (لو) محذوف أي: لعددْتُهُ. "وفي رواية: لو شئْتُ أن أعُدَّ شَمَطَاتٍ كُنَّ في رأسه، وفي رواية: إنما كان البَياضُ في عَنْفَقَتِهِ": وهو الشعر المجتمع تحت الشفه. "وفي الصُّدْغَين وفي الرأس نَبْذٌ"؛ أي: يسير من شيب. * * * 4510 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أزْهَرَ اللَّونِ، كأنَّ عَرَقَهُ اللُّؤْلؤُ، إذا مشَى تَكَفّأَ، وما مَسِسْتُ دِيباجَةً ولا حَريرَةً ألْيَنَ منْ كَفِّ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شَمِمْتُ مِسْكاً ولا عَنْبراً أَطْيبَ مِنْ رائحةِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أَزْهَرَ اللون، كأنَّ عَرَقه اللُّؤلؤ"؛ أي: صافٍ في غاية الصفاء. "إذا مشى تكفَّأ"؛ أي: تمايل إلى قُدَّام، كما تتكَفَّأ السفينة في جريها، قيل: أراد به: التَّرفع عن الأرض مرَّة واحدة كمشي الأقوياء وذوي الجلادة بخلاف [المتماوت] الذي يجرُّ رجله في الأرض. "ولا مَسِسْتُ ديباجة ولا حريرةً ألينَ من كفِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا شممت مِسْكاً ولا عنبرة أطيب من رائحة النبي - صلى الله عليه وسلم - ". * * *

4511 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه -، عَنْ أُمِّ سُلَيْمٍ رَضيَ الله عَنْها: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يأْتِيها فَيَقِيلُ عِندَها، فتَبْسُطُ نِطْعاً فيَقِيلُ عَلَيْهِ، وكَانَ كَثيرَ العَرَقِ، فكانتْ تجمعُ عَرَقَهُ فتجْعَلُهُ في الطِّيبِ، فقالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "يا أُمَّ سُلَيْمٍ! ما هَذَا؟ "، قَالَتْ: عَرَقُكَ نجْعَلُهُ في طِيبنا، وهوَ مِنْ أطْيَبِ الطِّيبِ. وفي رِوَايَةٍ: قَالَتْ: يا رَسُولَ الله! نَرْجُو برَكَتَهُ لصِبْيانِنا، قَالَ: "أَصَبْتِ". "عن أنس - رضي الله عنه - عن أمِّ سُلَيْم رضي الله عنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يأْتِيها فَيَقِيلُ عندَها": من القيلولة، وهو النوم نصف النهار. "فَتَبْسُطُ"؛ أي: تَفْتَرِشُ. "نِطْعًا": وهو فراش من الجلد. "فيَقِيلُ عليه"، قيل: كانت أمُّ سليم وأختها أم حِرَام من ذوات محارم النبي صلى الله تعالى عليه وسلم من جهة الرَّضاعة. "وكان"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "كثيرَ العَرَق، فكانَتْ"؛ أي: أمُّ سليم "تجمع عرقه فتجعله في الطِّيب، فقال النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: يا أُمَّ سُلَيْمٍ ما هذا؟ قالت: عَرَقُكَ نجعلُهُ في طيبنا، وهو من أطْيَبِ الطِّيب": وفيه دليلٌ على جَوَاز التقرب إلى الله تعالى بآثار المشايخ والعلماء والصلحاء. "وفي رواية: وقالت: يا رسول الله! نرجو برَكتَهُ"، والبركَةُ: كثرة الخير ونماؤه. "لصبياننا": جمع صبيٍّ، وهو الغلام. "قال: أَصَبتِ"؛ أي: وجدتِ الصَّوَاب. * * *

4512 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: صَلَّيتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - صَلاةَ الأُولى، ثُمَّ خَرَجَ إِلى أهلِهِ وخرجْتُ مَعَهُ، فاستقْبَلَهُ وِلْدانٌ، فَجَعلَ يَمْسَحُ خَدَّيْ أَحَدِهمْ واحِداً وَاحِداً، وأمَّا أنا فَمسَح خَدِّي، قَالَ: فَوَجَدْتُ لِيَدِهِ بَرْداً أو رِيْحاً كَأنَّما أخرَجَهَا منْ جُؤْنَةِ عَطَّارٍ. "عن جابر بن سَمُرَة - رضي الله عنه - قال: صلَّيْتُ مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاةَ الأُولى": وهي صلاة الظهر. "ثم خرج"؛ أي: من المسجد. "إلى أهله"؛ أي: متوجِّهاً إليهم. "وخرجْتُ معه، فاستقبلَهُ"؛ أي: توجَّه إليه. "وِلْدَانٌ": جمع ولد، وهو الصبي. "فجعل"؛ أي: فأخذ. "يمسح"؛ أي: بيده - صلى الله عليه وسلم -. "خَدَّي أحدهم واحداً واحداً": نصب على الحال. "وأما أنا فمسح خدَّيَّ، فوجدْتُ لِيَدِهِ بَرْدًا"؛ أي: راحة. "أو رِيحاً"؛ أي: رائحة طيبة. "كأنما أخرجَهَا من جُؤْنَةِ عَطَّار" بضم الجيم وسكون الواو؛ أي: مِنْ حُقَّتِهِ التي يُعَدُّ فيها الطِّيب ويُحْرَز، والحديث يدل على الشَّفقة والرَّحمة على الأولاد والصغار. * * * مِنَ الحِسَان: 4513 - عَنْ عَلِيٍّ بن أَبيْ طَاِلبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لَيْسَ

بالطَّويلِ ولا بالقَصِيرِ، ضَخْمَ الرَّأسِ واللِّحيةِ، شَثْنَ الكَفَّيْنِ والقَدمَيْنِ، مُشْرَباً حُمْرَةً، ضَخْمَ الكَرادِيسِ، طَويلَ المَسْرُبَةِ، إِذَا مشَى تَكفّأَ تَكفُّأً كأنَّما يَنحطُّ منْ صَبَبٍ، لَمْ أرَ قبلَهُ ولا بَعْدَهُ مِثْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -. صح. "من الحسان": " عن علي - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليس بالطويل ولا بالقصير، ضَخْمَ الرأس واللِّحية، شَثنَ الكفَّيْنِ والقدمَيْنِ مُشْرَبٌ حمرة (¬1) ": على صيغة اسم المفعول؛ أي: مختلطاً بياضه بالحمرة، والإشراب: خَلْطُ لون بلون. "ضَخْمَ الكَرَادِيس": جمع الكُردوس، ملتقى كل عظمين كالركبتين والمرفقين والمنكبين، أراد: أنه كان ضخم الأعضاء. "طويل المَسْرُبة" بفتح الميم وسكون السين المهملة وضم الراء: الشعر الدقيق الذي [هو كأنه] قضيبٌ من الصدر إلى السرة. "إذا مشى تَكَفَّأَ تَكَفُّأً كأنما يَنحطُّ"؛ أي ينزل. "من صبَبٍ"؛ أي: من موضع منحدر عالٍ. "لم أرَ قبلَهُ ولا بعدَهُ مثله - صلى الله عليه وسلم - ". "صحَّ". * * * 4514 - وعَنْ عَلِيٍّ - رضي الله عنه -، كَانَ إذا وصَفَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ: لمْ يكُنْ بالطَّويلِ المُمَّغِطِ ولا بالقَصِيرِ المُتردِّدِ، كَانَ رَبْعةً منَ القَومِ، ولمْ يكُنْ بالجَعْدِ القَطَطِ ولا بالسَّبطِ، كَانَ جَعْداً رَجِلاً ولمْ يكُنْ بالمُطَهَّمِ ولا بالمُكَلْثَمِ، وكانَ في ¬

_ (¬1) في هامش "غ": "في نسخة: بالحمرة".

وجْهِهِ تَدْويرٌ، أَبيَضُ مُشْرَبٌ، أدْعَجُ العَينَيْنِ، أَهْدَبُ الأَشْفارِ، جَلِيْلُ المُشَاشِ والكَتَدِ، أَجْرَدُ ذو مَسْرُبَةٍ، شَثْنُ الكفَّيْنِ والقَدمَيْنِ، إذا مشَى يَتقلَّعُ كأنَّما يمشِي في صَبَبٍ، وإذا التَفَتَ التَفَتَ مَعاً، بَيْنَ كتفَيْهِ خَاتَمُ النُّبوَّةِ، وهوَ خَاتَمُ النَّبيينَ، أَجْودُ النَّاسِ كَفًّا، وأَرْحبُهُمْ صَدْراً، وأَصْدَقُ النَّاسِ لَهْجَةً، وأليَنُهُمْ عَرِيْكَةً، وأَكْرمُهُمْ عَشيرةً، مَنْ رآهٌ بَديهةً هَابَهُ، ومَنْ خَالَطَهُ مَعرِفةً أَحبَّهُ، يَقُولُ ناعِتُهُ: لَمْ أرَ قبلَهُ ولا بَعْدَهُ مِثْلَهُ - صلى الله عليه وسلم -. "وعنه: كان إذا وَصَفَ النبيَّ صلى الله تعالى عليه وسلم قال: لم يكُنْ بالطويل المُمَّغِطِ": على بناء المفعول، وتشديد الميم الثانية وبالغين المعجمة، وقيل: بالمهملة أيضاً بمعنى، وهو الممتدُّ المتناهي طولاً، وفي بعض: بتشديد الغين المكسورة، وهو الذي بأن طوله. "ولا بالقصير المتردِّد"؛ أي: المتناهي قصراً، كأنه تردد في بعض خلقه على بعض، وتداخلت أجزاؤه. "وكان رَبْعَةً من القَوْمِ، ولم يكن بالجَعْدِ القَطَط ولا بالسَّبطِ، كان جَعْدًا رَجِلاً"، وهو - بكسر الجيم وفتحها أيضاً -: بين الجعودة والسبوطة. "ولم يكن بالمُطَهِّم"، وهو - بضم الميم وفتح الطاء المهملة وكسر الهاء المشددة -: كثير اللحم، وقيل: مُنْتفخ الوجه. "ولا بالمُكَلْثِم"، وهو - بكسر الثاء -: مستدير الوجه مع كثرة اللحم، وقيل: مدور الوجه غاية التدوير. "وكان في الوجه تَدْوِيْرٌ"؛ أي: تدويرٌ ما؛ يعني: كان بين الإسالة والاستدارة. "أبيض مُشْرَبٌ"؛ أي: مختلط بالحمرة.

"أدعَجُ العينين"؛ أي: أسود العينين غاية السواد مع سعتهما، وقيل: شِدَّة سوادها في بياضها. "أَهْدَب الأَشْفَار"؛ أي: طويل شعر الأجفان، وقيل: كثيرها. "جليل المُشَاس"، وهو - بضم الميم -: رؤوس العظام اللينة الممكنة المضغ. "والكَتَد" بفتح التاء وكسرها: مجتمع الكتفين، وهو الكاهل أصل العنق؛ يعني: عظيم رؤوس المناكب والعظام مثل الركبتين والمرفقين والكتفين. "أَجْرَدُ": وهو من ليس على بدنه شعر. "ذو مَسْرُبَة"؛ أي: ذو شعر (¬1)؛ يريد: أن الشعر كان في أماكن من بدنه كالمَسْرُبة والسَّاعدين والسَّاقين. "شَثْن الكَفَّين والقدمين، إذا مشى يتقلع"؛ أي: يرفع رجليه من الأرض رفعاً بائناً بقوة. "كأنما يمشي في صَبَبٍ": لا كمن يمشي اختيالاً ويقارب بين خطاه، فإنه مِنْ مَشْيِ النساء. "إذا التفت التفت معاً"؛ أي: ينظر بعينيه جميعاً، لا بطرف عينه، كما هو عادة المتكبرين وذوي الغضب. "بين كتفيه خاتم النبوة، وهو خاتم النبيين، أجود الناس كَفًّا، وأرحبهم"؛ أي: أوسعهم. "صدراً، وأصدقهم لَهجة"؛ أي: لساناً. "وألينهم عَريكة"؛ أي: طبيعة، يقال: فلان لَين العَريكة أي: سَلس ¬

_ (¬1) في "غ": "شعرة الصدر".

مُطْوَاع مُنْقَاد قليل الخِلاف. "وأكرمهم عشيرة"؛ أي: صحبة، والعشير: الصاحب. "من رآه بديهة"؛ أي: فجأة. "هابه"؛ أي؛ خاف منه، ووقع في قلبه مهابة لوقاره. "ومن خالطه مَعْرِفَةً" وجالسه. "أحبه"؛ لحسن خلقه. "يقول ناعِتُهُ"؛ أي: ناعت النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنَّعْتُ: وصف الشيء بما فيه من حُسْن. "لم أرَ قبله ولا بعده مِثْلَه عليه الصلاة والسلام". * * * 4515 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لَمْ يَسلُكْ طَرِيْقاً فيَتبعُهُ أَحَدٌ إلَّا عَرَفَ أنَّهُ قدْ سَلَكَهُ منْ طِيبِ عَرْفهِ. "وعن جابر بن سَمُرة: أنه عليه الصلاة والسلام لم يَسْلُكْ طريقاً فَيَتْبَعُهُ"؛ أي: النبي - عليه الصلاة والسلام -. "أحد"؛ أي: يمشي عقيبه. "إلا عرف"؛ أي: ذلك الأحد. "أنه قد سلَكَهُ"؛ أي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد سلك هذا الطريق. "مِنْ طِيْبِ عَرْفِهِ"؛ أي: رائحته، وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام دون سائر الأنبياء. * * *

4516 - قِيلَ للرُّبَيعِ بنتِ مُعَوِّذِ بن عَفْراءَ رَضيَ الله عَنها: صِفي لَنَا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَتْ: يا بنيَّ! لوْ رَأَيتَهُ رَأَيتَ الشَّمسَ طَالِعةً. "قيل للرُّبَيع بنت مُعَوِّذ بن عفراء: صِفي"؛ أي: للمؤنث، من وَصَفَ يَصِفُ. "لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. قالت: يا بنيَّ لو رأيتَهُ رأيْتَ الشمس طالعة". * * * 4517 - وعَنْ جابرِ بن سَمُرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: رَأَيتُ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في لَيْلَةٍ إِضْحِيانٍ، فجَعلتُ أنظُرُ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى القَمرِ وعليهِ حُلَّةٌ حَمْراءُ فإذا هو أَحسنُ عندي مِنَ القَمرِ. "قال جابر بن سمرة: رأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - في ليلة إِضْحِيان" بكسر الألف وسكون الضاد المعجمة وكسر الحاء المهملة، وفي بعضٍ: بضم الألف؛ أي: مقمرة مضيئة. "فجعلت"؛ أي: طفقت. "أنظر إلى رسول الله وإلى القمر، وعليه حُلَّةٌ حمراء"؛ أي: حُلَّة فيها خطوط حُمر. "فإذا هو أحسن عندي من القمر". * * * 4518 - عَنْ أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: ما رأيتُ شيئاً أحسنَ منْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كأنَّ الشَّمسَ تَجرِي في وجههِ، وما رأيتُ أحداً أسرعَ في مَشْيهِ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كأنَّما الأرضُ تُطْوَى لهُ، إنَّا لَنُجْهِدُ أنفُسَنا، وإنَّه لَغيرُ مُكترِثٍ.

"عن أبي هريرة قال: ما رأيت شيئاً أحسنَ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأن الشَّمس تجري في وجهه، وما رأيتُ أحداً أسرعَ في مشيته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كأنما الأرض تُطْوى له، إنا لَنجْهِدُ": يجوز فيه فتح النون وضمها. "أنفسنا"؛ أي: تحمل عليها في السَّير فوق طاقتها. "وإنه لغير مُكْتَرِثٍ"؛ أي: غير مبالٍ؛ يعني: كان - صلى الله عليه وسلم - إذا مشى ما قدرنا أن نلحقه مسرعين في المشي، وإن اجتهدنا في مشينا. * * * 4519 - عن جَابرِ بن سَمُرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ في ساقَيْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُمُوشَةٌ، وكانَ لا يضحكُ إلَّا تَبسُّماً، وكُنْتُ إذا نظَرتُ إليهِ قُلتُ: أكْحَلُ العَينَيْنِ، وليسَ بأكْحَلَ. "عن جابر بن سَمُرَة قال: كان في ساقَي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُمُوْشَة" بضم الحاء المهملة وبالشين المعجمة؛ أي: رِقَّة. "وكان لا يضحك إلَّا تَبسُّماً": يقال: تبسَّم: إذا حرَّك شفته إرادة الضحك، وهو دون الضحك، يقال: ضحك: إذا ظهر سنه؛ يعني كان - صلى الله عليه وسلم - طلق الوجه بساماً. "وكنْتُ إذا نظرت إليه قلت: أكْحَلُ العينين": يقال: رجل أكحل: بين الكحل، وهو الذي في جفون عينيه سَواد. "وليس بأكحل"؛ أي: بالاكتحال، ولكن كانت عينه كحلاء خِلْقة. * * *

3 - باب في أخلاقه وشمائله - صلى الله عليه وسلم -

3 - باب في أَخْلاقِهِ وشَمَائِلِهِ - صلى الله عليه وسلم - " باب في أخلاقه وشمائله - صلى الله عليه وسلم - ": جمع شِمَال - بالكسر - وهو الخُلُق. مِنَ الصِّحَاحِ: 4520 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَدمتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سِنينَ فما قَالَ لِي أُفٍّ، ولا: لِمَ صَنَعتَ؟ ولا: ألا صَنَعتَ. "من الصحاح": " عن أنس قال: خدمْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - عشرَ سنين, فما قال لي: أفٍّ": وهو في الأصل: وسخ الأذن والظفر، ويقال لكل ما يتضجر منه ويستثقل: أف له. "ولا لِمَ صنعْتَ"، (لم): حرف يستفهم به، وأصله (لما) حذفت منه الألف؛ أي: لم يقل عليه الصلاة والسلام لشيء صنعْتُهُ: لِمَ صنعتَه. "ولا أَلَّا صنعت" (ألا) بفتح الهمزة وتشديد اللام: حرف تحضيض، معناه: لم لا؛ أي: لم يقل لشيء لم أصنعه وكنْتُ مأموراً به: لِمَ لا صنعْتَ، قيل: الحكمة في ذلك: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مشغولاً بتحمل الأحوال لا بتغيرها، وهذا مستند أهل الحق في تفويض الأمر إلى الله تعالى، وعدم الاعتراض على الخلق؛ لأن الفاعل الحقيقي هو الله تعالى. * * * 4521 - وقَالَ أَنَسٌ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أَحْسنِ النَّاسِ خُلُقاً، فأرسَلَنِي يوماً لِحاجَةٍ، فقلتُ: والله لا أذهبُ، وفي نفسِي أنْ أذهبَ لِما أمرَنِي بهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فخَرجتُ حتَّى أمُرَّ على صِبيانٍ وهُمْ يَلعبونَ في السُّوقِ، فإذا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قدْ

قَبضَ بِقَفايَ مِنْ ورائِي، قَالَ: فنظرتُ إليهِ وهو يَضحكُ فقال: "يا أُنَيْسُ! ذَهَبْتَ حيثُ أَمَرتُكَ؟ "، قُلتُ: نعمْ، أنا أذهبُ يا رَسُولَ الله! "وقال: كان - صلى الله عليه وسلم - من أحسن الناس خُلُقاً، فأرسلني يوماً لحاجة، فقلت"؛ أي: في نفسي: "والله لا أذهب، وفي نفسي أن أذهَبَ لما أمرني به - صلى الله عليه وسلم -، فخرجْتُ حتى مررْتُ على صبيان وهم يلعبون في السوق، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد قبض"؛ أي: أخذ. "بقفايَ": وهو - مقصوراً - مؤخَّر العنق. "من ورائي"؛ أي: من خلفي. "قال: فنظرت إليه وهو يضحك، فقال: يا أُنَيْس": تصغير أنس. "ذهبْتَ": بحذف همزة الاستفهام؛ أي: أذهبت. "حيث أمرتُكَ، قلت: نعم": وإنما قال: نعم، ولم يذهب بعدُ بناءً على جزم العزم على الذهاب؛ لأن المأمول كالموجود، ولذا صرَّح بقوله: "أنا أذهبُ يا رسول الله". * * * 4522 - وعَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنتُ أَمشِي معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وعليهِ بُرْدٌ نَجْرانِيٌّ غليظُ الحاشِيَةِ، فأدركَهُ أعرابيٌّ فجَبذَهُ بردائِهِ جَبْذَةً شَدِيدةً، رَجَعَ نبيُّ الله في نَحْرِ الأَعْرابيِّ، حتَّى نَظَرْتُ إلى صَفْحَةِ عاتِقِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثَّرَتْ بها حَاشِيَةُ البُرْدِ منْ شِدَّةِ جَبْذَتِه، ثُمَّ قَالَ: يا مُحَمَّدُ! مُرْ لي منْ مالِ الله الذي عِندَكَ، فالتفَتَ إليهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثُمَّ ضحِكَ، ثمَّ أمرَ لهُ بعَطاءٍ. "وقال: كنت أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعليه بُرْدٌ نَجْرَانيٌّ"؛ أي: منسوب إلى نجران، بلد باليمن، وقيل: موضع بين الشام والحجاز واليمن.

"غليظُ الحاشية": حاشية كل شيء: طرفه. "فأدركه"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "أعرابيٌّ فجَبَذَهُ"؛ أي: جرَّ الأعرابيُّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. "بردائِهِ" الذي عليه "جبذة شديدة"؛ أي: جَرًّا شديداً بحيث "رجع نبي الله - صلى الله عليه وسلم - في نَحْرِ الأعرابي، حتى نظرْتُ إلى صَفْحَةِ عاتِقِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أثَّرَتْ بها حاشِيَةُ البُرْدِ من شِدَّة جبذته ثم قال: يا محمد! مُرْ لي من مال الله الذي عندك": قيل: هو الزكاة. "فالتفَتَ إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم ضحك، ثم أمر له بعطاءٍ": وفيه إشارة إلى أن مَنْ وَلِيَ على قوم يُسْتَحَبُّ له الاحتمال من أذاهم. * * * 4523 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أَحْسنَ النَّاسِ، وأجودَ النَّاسِ، وأشجَعَ النَّاسِ، ولقد فَزِعَ أهلُ المَدِينةِ ذَاتَ لَيلةٍ، فانطلقَ النَّاسُ قِبَلَ الصَّوتِ، فاستقبلَهُم النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قدْ سَبقَ الناسَ إلى الصَّوتِ، وهو يقول: "لَمْ تُراعُوا، لَمْ تُراعُوا"، وهوَ على فرَسٍ لأبي طَلْحةَ عُرْيٍ ما عليهِ سَرجٌ، في عُنُقِهِ سَيْفٌ، فَقَالَ: "لقدْ وجدْتُهُ بَحْراً". "عن أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحسَنَ الناس، وأجود الناس, وأشجع الناس، ولقد فَزِع أهل المدينة"؛ أي: استغاثوا. "ذاتَ ليلة"؛ أي: في ليلة. "فانطلق"؛ أي: ذهب. "الناس قِبَل الصَّوت"؛ أي: جانبه. "فاستقبلهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، قد سبق الناس إلى الصوت, وهو يقول: لم تُرَاعُوا,

لم تُرَاعُوا"، (لم) هنا بمعنى (لا)، والعرب تضع (لم) و (لن) بمعنى (لا)، والرَّوع هو الخوف؛ أي: لا فزع ولا روع فاسكنوا، ويروى: (لن تُرَاعوا) خبراً بمعنى النهي. "وهو"؛ أي النبي - صلى الله عليه وسلم -. "على فرس لأبي طلحة عُرْيٍ": يقال: فرس عُرْيٍ - بالضم وسكون الراء -: إذا لم يكن عليه سَرْج. "وقوله: ما عليه سَرج": وقع تأكيداً وبياناً. "وفي عُنُقِهم سيف فقال: لقد وجدتُهُ بَحْرًا"؛ أي: واسع الجري، يقال للفرس الذي لا ينقطع جريه: بحر؛ تشبيهاً له بالبحر الذي لا ينقطع ماؤه. وقيل: إنما شبهه بالبحر لأن البحر إذا كانت الريح طيبة يستريح مَنْ يركب فيه، فكذلك الفرس إذا كان جواداً غير شموس، يستريح راكبه ويسيره كما يشاء بلا تعب. * * * 4524 - وقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: ما سُئِلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شَيئاً قطُّ فَقَالَ: لا. "وقال جابر - رضي الله عنه -: ما سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قط فقال: لا"؛ يعني: ما كان من شأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يردَّ السائل، كان يعطى إذا حضر عنده شيء من الأموال، وإلا كان يجيب بنعم. * * * 4525 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلاً سَألَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - غَنَماً بينَ جبلَيْن فأعطَاهُ إيَّاهُ، فأتَى قَوْمَهُ فَقَال: أيْ قومِ! أسْلِمُوا، فَوَالله إنَّ مُحمَّداً ليُعطِي عَطاءً ما يَخافُ الفقرَ.

"عن أنس - رضي الله عنه -: أن رجلاً سأل النبي عليه الصلاة والسلام غَنَماً"؛ أي: قطيعاً من الشاة. "بين جبلين": قيل: كان ذلك الغنم أربعين ألفاً. "فأعطاه إيَّاه، فأتى"؛ أي: الرجل قومَه. "فقال: أَيْ قَومِ": بكسر الميم، أصله قومي، حذفت الياء اكتفاء بالكسرة، و (أي): لنداء القريب. "أسلِمُوا، فوالله إنَّ محمداً ليعطي عطاءً ما يخاف الفقر": والجملة صفة (عطاء). * * * 4526 - عن جُبَيْرِ بن مُطْعِمٍ - رضي الله عنه -: بيْنَمَا هو يَسيرُ معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقْفَلَهُ منْ حُنَيْنٍ، فَعَلِقَتِ الأَعْرَابُ يَسْأَلُونَهُ حتَّى اضْطَرُّوهُ إلى سَمُرَةٍ فخطِفَتْ رداءَهُ، فوقَفَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: "أعطُوني رِدَائِي، لوْ كَانَ لي عَددُ هذِه العِضَاهِ نَعَماً لَقسمْتُهُ بينكُمْ، ثُمَّ لا تَجِدُونَنِي بَخيلاً ولا كَذوباً ولا جَباناً". "عن جبير بن مطعم بينما هو يسير مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مَقْفَلَهُ" بفتح الميم وسكون القاف وفتح الفاء بعدها: مصدر ميمي، يستعمل في اسم الزمان والمكان، من القُفُول، وهو الرجوع من السفر؛ أي: وقت قُفُوله ورجوعه، أو مكانه. "من حُنَيْن": موضع بين مكة والطائف. "فَعَلِقَتِ الأعراب"؛ أي طفقوا. "يسألونه حتى اضطَرُّوه"؛ أي ألجؤوه. "إلى سَمُرَة": وهو ضَرْب من شجرة الطَّلح، وهو شجر عظام من شجر العِضَاه.

"فخُطِفَتْ"؛ أي: استَلَبَتِ الشجرة أو الأعراب. "رداؤه، فوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال" من غاية لطفه العظيم: "أعطوني ردائي، لو كان بي عددَ": نصب بنزع الخافض؛ أي: كعدد، أو على المصدر؛ أي: بعَدِّ عدد. "هذه العِضَاه" بكسر العين المهملة والضاد المعجمة والهاء: شجر أم غيلان، وقيل: كلُّ شجر له شوك. "نعمٌ" اسم (كان) وخبره (لي) مقدَّماً. "لقسمته بينكم ثم لا تجدوني"؛ أي: لا تعلموني "بخيلاً ولا كذوباً ولا جباناً". * * * 4527 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا صلَّى الغَداةَ جَاءَ خَدمُ المَدِينةِ بآنِيَتِهِمْ فيها المَاءُ، فَمَا يأتُونَ بإناءٍ إلَّا غَمسَ يَدهُ فِيْها، فرُبَّما جَاؤُوهُ في الغَداةِ البَارِدَةِ فيَغمِسُ يَدهُ فيها. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا صلى الغداة"؛ أي: الصبح. "جاء خدم المدينة": جمع خادم؛ أي: خدم أهلها من جاريةٍ وغلام ونحوِ ذلك. "بآنيتهم": جمع إناء. "فيها الماء، فما يأتون بإناء إلا غمس يده فيها"؛ يعني: كانوا يتبرَّكون بالماء الذي كان يغمس يده صلى الله تعالى عليه وسلم فيه. "فربما جاؤوه في الغداة الباردة فيغمس يده فيها" وفيه دليلٌ على جواز أن يُطلب مثل ذلك مما يُتبرَّك به من العلماء والصُّلحاء. * * *

4528 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: كانتِ الأمَةُ منْ إِمَاءِ أَهْلِ المَدِينةِ لتَأخذُ بيدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطَلِقُ بهِ حيثُ شاءَتْ. "وقال أنس - رضي الله عنه - كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتنطلق به"؛ أي: تذهب به "حيث شاءت" والباء للتعدية، يقال: انطلق به: إذا أذهبه؛ يعني: لو دعاه صلى الله تعالى عليه وسلم عبدٌ أو أمة إلى شغل لأجابه بحيث لو كان يأخذ بيده - صلى الله عليه وسلم - فيذهب به حيث شاء. * * * 4529 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ امرَأةً كَانتْ في عَقْلِها شيءٌ، فقَالَت: يا رَسُولَ الله! إنَّ لي إليكَ حَاجَةً، فَقَال: "يا أُمَّ فُلانٍ! انظُري أيَّ السِّكَكِ شِئْتِ حتَّى أقْضيَ لكِ حاجَتَكِ"، قال: فخَلا مَعَها في بَعْضِ الطُّرُقِ حتَّى فَرغَتْ منْ حَاجتِها. "وعن أنس - رضي الله عنه -: أن امرأة كان في عقلها شيء"؛ أي: عقلُها ناقصٌ من جنون أو غيره. "فقالت: يا رسول الله! إن لي إليك حاجةً، فقال: يا أم فلان! انظري أيَّ السكك شئت": جمع سكة، وهي بمعنى الزقاق. "حتى أقضي لك حاجتك، فخلا"؛ أي: مضى "معها في بعض الطرق حتى فرغت من حاجتها". * * * 4530 - وعَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لم يكُنْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاحِشاً ولا لعَّاناً ولا سَبَّاباً، كانَ يَقُولُ عندَ المَعْتَبَةِ: "ما لَهُ؟ تَرِبَ جَبينُه". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً ولا لعاناً ولا سباباً،

كان يقول عند المعتبة"؛ أي: عند العتاب، من عتب: إذا غضب. "ما له تَرِبَ جبينُه" وفي هذا القول احتمالُ إرادةِ الدعاء له بكثرة السجود لله تعالى. * * * 4531 - عَنْ أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قيلَ: يا رَسُولَ الله! ادْعُ على المُشركينَ، قَالَ: "إنِّي لمْ أُبعثْ لعَّاناً، وإنَّما بُعِثتُ رَحْمةً". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قيل: يا رسول الله! ادع على المشركين، قال: إني لم أبعث لعَّاناً"؛ يعني: لو كنتُ أدعو عليهم لبَعُدوا عن رحمة الله، ولصرتُ قاطعاً عن الخير فإني ما بُعثت لهذا. "وإنما بعثت رحمة"؛ أي: ما بعثت إلا رحمةً للعالمين، أما للمؤمنين فظاهرٌ، وأما للكافرين فلأنَّ العذاب رُفع عنهم في الدنيا بسببه، قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33]. * * * 4532 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيّ - رضي الله عنه - قال: كانَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - أشدَّ حَياءً مِنَ العَذْراءِ في خِدْرِها، فإذا رَأَى شَيئاً يكرَهُهُ عَرَفْناهُ في وجههِ. "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: كان النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أشدَّ حياءً من العذراء"؛ أي: من البكر. "في خدرها"؛ أي: في سترها؛ يعني: كان أكثر حياءً من البكر المخدَّرة التي من شأنها الحياء. "فإذا رأى شيئاً يكرهه عرفناه"؛ أي: كراهتَه "في وجهه". * * *

4533 - وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: مَا رأيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - مُستجْمِعاً قطُّ ضاحِكاً حتَّى أَرى منهُ لهَوَاتِهِ، إنَّما كانَ يَتبسَّمُ. "وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - مستجمعاً قط ضاحكاً"؛ أي: ما رأيته ضاحكاً كلَّ الضحك مقبلاً عليه بكلِّيته. "حتى أرى منه لهواته": جمع لهاة، وهي ما في أقصى سقف الفم. "إنما كان يتبسم" دون الضحك. * * * 4534 - وعَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: إنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لمْ يكُنْ يَسرُدُ الحَدِيثَ كَسْردِكُمْ، كانَ يُحدِّثُ حَدِيثاً لو عَدَّهُ العَادُّ لأَحصَاهُ. "وقالت: لم يكن يسرد الحديث كسردكم"؛ يعني: ما كان أحاديثه متتابعةً بعضها على إثر بعض كما هو عادتُكم في التحدُّث باستعجال، بل كان يفصِل بين الكلامين حتى لا يشتبه على المستمع بعضُ كلامه ببعض. "كان يحدِّث حديثاً لو عدَّه العادُّ"؛ أي: لو أراد أن يَعُدَّه بسهولة "لأحصاه"؛ أي: لعدَّه. * * * 4535 - وسُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضيَ الله عَنْها: ما كانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَصنعُ في بيتهِ؟ قَالَت: كانَ يَكُونُ في مَهْنَةِ أَهْلِهِ - تَعنِي: خِدمَةَ أَهْلهِ - فإذا حَضرتْ الصَّلاةُ خرجَ إلى الصَّلاة. "وسئلت عائشة رضي الله عنها: ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله" بكسر الميم، وقيل: بالفتح.

"تعني خدمة أهله"؛ يعني: كان يشتغل بمصالح أهله وعياله. "فإذا حضرت الصلاة"؛ أي: جاء وقتها "خرج إلى الصلاة". * * * 4536 - وعَنْها قَالَتْ: "ما خُيرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بينَ أمرَيْنِ قطُّ إلَّا أخذَ أيسَرَهُما، ما لمْ يكُنْ إِثْماً، فإنْ كانَ إِثْماً كانَ أبعدَ النَّاس منهُ، وما انتقمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسِهِ في شَيءٍ قَطُّ، إلَّا أنْ تُنْتَهكَ حُرمَةُ الله فيَنتقِمَ لله بها. "وعنها: قالت: ما خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أمرين قط إلا أخذ أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإذا كان إثماً كان أبعد الناس منه، وما انتقم"؛ أي: ما كان يعاقب أحداً "لنفسه في شيء قط"، أي: في شيء يتعلق بنفسه. "إلا أن تنتهك حرمة الله تعالى" انتهاك الحرمة: تناولُها بما لا يحلُّ، يقال: انتهك محارم الله؛ أي: فعل ما حرَّم الله تعالى عليه. "فينتقم لله بها". * * * 4537 - وقَالَت: ما ضَرَبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً قطُّ بيدِه، ولا امرأةً، ولا خادِماً، إلَّا أنْ يُجاهِدَ في سَبيل الله، وما نِيلَ منهُ شَيءٌ قطُّ فيَنتقِمَ منْ صَاحِبهِ، إلَّا أنْ يُنتهَكَ شَيءٌ منْ مَحارِمِ الله فيَنتقِمَ لله. "وقالت: ما ضرب رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئاً قط بيده، ولا امرأة ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى" فإنه - صلى الله عليه وسلم - قتل أبيَّ بن خلف. "وما نيل منه"؛ أي: ما أصابه "شيء قط فينتقم من صاحبه"؛ أي: صاحب

ذلك الشيء. "إلا أن يُنتهك شيءٌ من محارم الله فينتقم لله تعالى". * * * مِنَ الحِسَان: 4538 - عَن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَدمتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأَنَا ابن ثَمانِ سِنينَ، خَدمتُهُ عشرَ سِنينَ، فما لامَنِي على شيءٍ قطُّ أُتيَ فيهِ على يَديَّ، فإنْ لامَنِي لائمٌ منْ أَهْلِهِ قَالَ: "دَعُوهُ فإنَّهُ لو قُضيَ شيءٌ كَان". "من الحسان": " عن أنس - رضي الله عنه - قال: خدمتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا ابن ثمانِ سنين، خدمتُه عشر سنين فما لامني"؛ أي: ما يلومني. "على شيء قط أُتي فيه": صفة لـ (شيء) بمعنى أُهلك وأُتلف، من قولهم: أتى عليهم الدهر؛ أي: أهلكهم وأفناهم والضمير في (فيه) يعود إلى (شيء). "على يدي" حال أو صفة. "فإن لامني لائم من أهله قال: دعوه فإنه لو قُضي شيء لكان". * * * 4539 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالتْ: لمْ يكُنْ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فاحِشاً ولا مُتفحِّشاً، ولا سخَّاباً في الأَسْواقِ، ولا يَجزِي بالسَّيئةِ السَّيئةَ، ولكن يَعْفُو ويَصفحُ. "عن عائشة رضي الله تعالى قالت. لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاحشاً"؛ أي: ذا فحش.

"ولا متفحشاً"؛ أي: متكلِّفاً ومتعمِّداً في الفحش. "ولا سخَّاباً"؛ أي: كثير الصياح. "في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئةَ، ولكن يعفو ويصفح". * * * 4540 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - يُحدِّثُ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّهُ كَانَ يَعُودُ المَرِيضَ، ويتْبعُ الجَنَازَةَ، ويُجيبُ دَعوةَ المَمْلُوكِ، ويَركَبُ الحِمَارَ، لقدْ رأيتُهُ يومَ خَيْبَرَ على حِمارٍ خِطامُه لِيفٌ. "عن أنس رضي الله تعالى عنه: كان يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعود المريض ويتبع الجنازة ويجيب دعوة المملوك ويركب الحمار، ولقد رأيته يوم خيبر" موضعٌ بالحجاز. "على حمار خطامُه"؛ أي: زمامه "ليف" بكسر اللام؛ أي: خُوص النخل، وفيه دليلٌ على أن ركوب الحمار سنَّة. * * * 4541 - وعن عَائِشَةَ رَضيَ الله عنها قَالَت: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْصِفُ نَعلَهُ، ويَخِيطُ ثوبَهُ، ويَعمَلُ في بيتِه كَمَا يَعْمَلُ أحدُكُمْ في بيتِهِ. "عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخصف نعله"؛ أي: يَرْقَعُه. "ويخيط ثوبه، ويعمل في بيته كما يعمل أحدكم في بيته". * * *

4542 - وقَالَتْ: كَانَ بَشَراً منَ البشَرِ، يَفْلِي ثَوْبَهُ، ويَحلُبُ شَاتَهُ، ويَخدُمُ نفسَهُ. "وقالت: كان - صلى الله عليه وسلم - بشراً"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - خَلْقاً "من البشر" تريد: أنه واحد من أولاد آدم من حيث الظاهرُ، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [الكهف: 110]. "يفلي ثوبه"؛ أي: يلقط القمل من ثوبه ويطلبه. "ويحلب شاته, ويخدم نفسه". * * * 4543 - وقِيْلَ لِزَيدِ بن ثَابتٍ - رضي الله عنه -: حدِّثْنا أَحَاديثَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كُنْتُ جَارَهُ، فكَانَ إذا نزلَ عَلَيهِ الوَحْيُ بعثَ إليَّ فكتَبْتُهُ لَهُ، وكانَ إذا ذَكَرْنا الدُّنْيا ذَكرَها مَعنا، وإذا ذَكَرْنا الآخِرَةَ ذَكَرَها معَنا، وإذا ذكَرْنا الطَّعَامَ ذَكَرَهُ معَنا، فكُلُّ هذا أُحدِّثُكُمْ عنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقيل لزيد بن ثابت: حدَّثنا أحاديثَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: كنت جاره" الجار هو الذي يجاورك. "فكان إذا نزل عليه الوحي بعث"؛ أي: أرسل "إلي فكتبته له"؛ أي: الوحي لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم. "فكان إذ ذكرنا الدنيا"؛ أي: شرعنا في ذكرها، "ذكرها معنا"، أي: يوافقنا في ذكرها. "وإذا ذكرنا الآخرة ذكرها معنا، وإذا ذكرنا الطعام ذكره معنا، فكلُّ هذا" إشارة إلى ما ذكر قبل. "أحدِّثكم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". * * * 4544 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كَانَ إذا صَافحَ الرَّجُلَ لَمْ يَنزِعْ يَدَهُ

مِنْ يدِهِ حتَّى يَكُونَ هوَ الَّذِي يَنزِعُ يَدَهُ، ولا يَصرِفُ وجهَهُ عنْ وجهِهِ حتَّى يكونَ هوَ الذِي يَصرِفُ وجهَهُ عنْ وجهِهِ، ولمْ يُرَ مُقدِّماً رُكبتَيْهِ بينَ يَدَيْ جَليسٍ لهُ. "عن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صافح الرجل" المصافحة: الأخذ باليد. "لم يَنِزْعْ"؛ أي: لم يجر (¬1). "يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده، ولا يصرف وجهه حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عن وجهه، ولم يُر مقدِّماً ركبتيه" قيل: كأنهما عبارتان عن رجليه، وتقديمهما عبارةٌ عن مدِّهما؛ أي: لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يمدُّ رجليه "بين يدي جليس له" وقيل: معناه: لم يكن مقدِّماً ركبتيه في الجلوس على رُكَب جلسائه، بل يجلس مستوياً في الصف معهم. وقيل: معناه: لم يرفع ركبتيه عند من يجالسه بل يخفضهما تعظيماً لجليسه، وذلك لفرط أدبه - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4545 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ لا يَدَّخِرُ شيئاً لِغدٍ. "وقال: كان لا يدخر شيئاً"؛ أي: لا يبقي شيئاً لغدٍ توكُّلاً على الله تعالى واعتماداً على خزائنه. * * * 4546 - عَنْ جَابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - طَويلَ الصَّمْتِ. "عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم طويل الصمت"؛ أي: كثير السكوت لا يتكلم إلا لحاجة. * * * ¬

_ (¬1) كذا في "ت"، وفي "غ": "يجز"، ولعل المراد: "يخلص" أو "يفك". انظر: "مرقاة المفاتيح" (10/ 492).

4547 - وعَنْ جَاِبرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ في كَلامِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - تَرْتيلٌ وتَرْسِيلٌ. "وعن جابر - رضي الله عنه - قال: كان في كلام رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ترتيل وترسيل" وهما بمعنًى، وهو التبيينُ والإيضاح في الحروف. * * * 4548 - عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَت: مَا كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسْرُدُ سَرْدَكُمْ هَذَا، ولكنَّهُ كانَ يتكلَّمُ بكَلامٍ بَيْنَهُ فَصْلٌ، يَحفظُهُ مَنْ جَلَسَ إليهِ. "عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما كان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يسرد سردَكم هذا، ولكنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتكلم بكلامٍ بينه فصلٌ"؛ أي: كان مفصَّلاً بعضه عن بعض. "يحفظه من جلس إليه". * * * 4549 - وعَنْ عَبدِ الله بن الحَارِثِ بن جَزْءٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَحَداً أَكْثرَ تبسُّماً مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء" - بفتح الجيم وسكون (¬1) الزاي المعجمة - "قال: ما رأيت أحداً أكثر تبسُّماً من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم". * * * 4550 - عَنْ عبدِ الله بن سَلامٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلَسَ يتحدَّثُ، يُكثِرُ أنْ يرفعَ طَرْفَهُ إلى السَّماءِ. "عن عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس يتحدث يُكثر أن يرفع طرفه إلى السماء"؛ أي: يكثر النظر إلى السماء حالة التكلم ترقُّباً لهبوط جبرائيل عليه السلام بالوحي. * * * ¬

_ (¬1) في "ت" و"غ": "وتشديد"، والصواب المثبت.

4 - باب المبعث وبدء الوحي

4 - باب المَبْعَثِ وَبدْءِ الوَحْيِ (باب المبعث) مِنَ الصِّحَاحِ: 4551 - عن عِكْرِمَةَ، عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: بُعِثَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِأَرْبَعِينَ سَنةً، فمَكثَ بمكَّةَ ثَلاثَ عشْرةَ سَنةً يُوحَى إِليهِ، ثُمَّ أُمِرَ بالهِجرةِ فهَاجَرَ عشْرَ سِنينَ، ومَاتَ وهُوَ ابن ثَلاثٍ وستِّينَ سَنةً. وهو بمعنى البعث مصدرٌ ميمي من بَعَثَ: إذا أرسل، (وبدء الوحي)؛ أي: ابتداء الرسالة. "من الصحاح": " عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: بُعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأربعين سنة" اللام فيه للتاريخ؛ أي: أُرسل إلى كافة الخلق بعد أربعين سنة. "فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحَى إليه، ثم أُمر بالهجرة فهاجر عشر سنين، ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة". * * * 4552 - وعَنْ عمَّارِ بن أبي عمَّارٍ، عَنْ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: أَقَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمكّةَ خَمْسَ عشْرَة سَنةً، يَسمَعُ الصَّوْتَ ويَرَى الضَّوْءَ سَبعَ سنينَ ولا يَرَى شَيْئاً، وثَمَانِي سِنينَ يُوحى إلَيهِ، وأقامَ بالمدِينةِ عَشْراً. "عن عمار بن أبي عمار عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: أقام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت"؛ أي: صوتَ جبرائيل عليه السلام. "ويرى الضوء"؛ أي. ضياء الضوء في الليالي المظلمة.

"سبع سنين، ولا يرى شيئاً" سواه من مَلَكٍ وغيره، والسرُّ فيه: أن الملك لا يفارقه ضوءُ الملكية ونورُ الربوبية، فلو رآه ابتداء فربما لم تُطِقْه القوة البشرية الترابية، وعسى أن يحدث من ذلك غشيٌ، فاستؤنس أولاً بالضوء، ثم غشيه الملك بعد ذلك. ويجوز أن يراد بالضوء: انشراح صدره قبل نزول الوحي، فسمَّى الانشراح ضوءاً، ولما تكمَّل انشراحُ صدره بعد وصول العمر إلى الأربعين استعدَّ أن يكون واسطةً بين الله تبارك وتعالى وبين خلقه. "وثماني سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشراً". * * * 4553 - ويُروَى عَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تُوفِّيَ وهوَ ابن خَمْسٍ وسِتِّينَ سَنةً. "ويروى عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو ابن خمس وستين سنة". * * * 4554 - ورُوِيَ عَنْ رَبيعَةَ، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: تَوفَّاهُ الله على رأسِ سِتِّينَ سَنةً. "ويروى عن ربيعة عن أنس - رضي الله عنه - أنه قال: توفَّاه الله تعالى على رأس ستين سنة". * * * 4555 - وعَنِ الزُّبَيْرِ بن عَدِيٍّ - رضي الله عنه -، عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قُبضَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهُوَ ابن ثلاثٍ وسِتِّينَ، وأبو بَكْرٍ وهوَ ابن ثلاثٍ وسِتِّينَ، وعُمَرُ وهوَ ابن ثلاثٍ وسِتِّين وقَالَ مُحَمَّدُ بن إِسْمَاعيل: ثَلاثٍ وسِتِّينَ أكثرُ. "وعن الزبير بن عديٍّ عن أنس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: قُبض

النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو ابن ثلاثٍ وستين سنة، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين، وعمر وهو ابن ثلاث وستين، قال محمد بن إسماعيل" هو البخاري صاحب الصحيح: "ثلاث وستين أكثر"؛ أي: هذه الرواية أكثر وأشهر. * * * 4556 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: أَوَّلُ ما بُدِئَ بهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - منَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّادِقةُ في النَّومِ، فكَانَ لا يَرَى رُؤْيا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثمَّ حُببَ إِليهِ الخَلاءُ، وكان يَخْلو بِغَارِ حِراءٍ فيَتحَنَّثُ فيهِ - وهو التَّعبُّدُ - اللَّياليَ ذَواتِ العَددِ قبلَ أنْ يَنزِعَ إلى أَهْلِهِ ويتزوَّدَ لذلكَ، ثُمَّ يَرجِعُ إلى خَديجةَ فيتَزوِّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وهوَ في غَارِ حِراءٍ، فجَاءَهُ المَلَكُ فَقَال: "اقْرَأْ"، قَالَ: "ما أَنَا بِقارِئٍ"، قَالَ: "فأخذَنِي فغَطَّنِي حتَّى بَلغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرْسَلَني، فَقَال: اقْرَأْ، فَقُلتُ: مَا أَنَا بِقارِئٍ، فأخذَنِي فغَطَّني الثانيةَ حتَّى بلغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَال: اقْرَأَ، قُلْتُ: ما أَنَا بِقارِئٍ, فأخذَنِي فغَطَّنِي الثَّالِثَةَ حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثُمَّ أرسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} "، فرجَعَ بها رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَرْجُفُ فُؤادُهُ، فَدخَلَ على خَديْجَةَ فَقَال: "زَمِّلونِي، زَمِّلوني"، فزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عَنْهُ الرَّوْعُ، فَقَالَ لخَديجةَ رَضيَ الله عنها وأخْبَرَها الخبَرَ: "لقدْ خَشيتُ على نَفْسِي"، فقالتْ خَديجةُ: كلَّا والله لا يُخْزِيكَ الله أبداً، إنّكَ لَتَصِلُ الرَّحمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نوَائبِ الحَقِّ، ثُمَّ انطلقَتْ بهِ خَديجةُ إلى وَرَقَةَ بن نَوْفَلِ، ابن عمِّ خَديجَةَ، فقالتْ لهُ: يا ابن عمِّ! اسمَعْ مِن ابن أخِيْكَ، فقالَ لهُ وَرَقَةُ: يا ابن أخي! ماذا تَرَى؛ فأخبَرَهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَبَرَ مَا رَأَى، فَقَالَ وَرَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الَّذي أَنْزلَ الله علَى مُوسَى، يا لَيْتَني فيها جَذَعاً، لَيْتَني أكونُ حيًّا إذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ؟ "، قَالَ: نعمْ، لمْ يأْتِ

رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ مَا جِئْتَ بهِ إِلَّا عُودِي، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نصْراً مُؤَزَّراً، ثُمَّ لمْ يَنْشَبْ وَرَقَةُ أنْ تُوفِّيَ، وفَتَرَ الوَحْيُ حتَّى حَزِنَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنَا- حُزناً غَدَا مِنْهُ مِراراً كيْ يَترَدَّى منْ رُؤُوْسِ شَواهِقِ الجِبالِ، فكلَّما أَوْفَى بذِروَةِ جَبَلٍ لِكيْ يُلقِي نفسَهُ منهُ تبَدَّى لهُ جِبريلُ فَقَال: "يَا مُحَمَّدُ! إنَّكَ رَسُولُ الله حَقاً". فيَسكُنُ لذلكَ جأْشُهُ وتقِرُّ نفسُهُ. "وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أولُ ما بدء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثلَ فَلَقِ الصبح"؛ أي: ضوءه. "ثم حُببَ إليه الخلاء" وهو في الأصل مصدر خلا يخلو، يطلق على الموضع الخالي. "وكان يخلو بغار حراء" بالكسر والمد: جبل بمكة؛ أي: في كهفه. "فيتحنَّث فيه، وهو"؛ أي: التحنُّث "التعبد" تفسير من قول عائشة، ويحتمل أن يكون من كلام الزهري؛ أي: يتعبَّد في ذلك الغار، سُمي التعبد تحنُّثاً؛ لأنه يُلقي به الحِنْثَ والذنب عن نفسه، وأصله: التجنُّب عما يوجب الحنث. "الليالي" نصب على الظرف لـ (يتحنَّث). "ذوات العدد قبل أن ينزع" متعلق بـ (يتحنّث) يعني: يتعبد فيه أياماً قلائل قبل أن يشتد الشوق "إلى أهله"؛ يعني: لا يترك أهله بالكلية، بل كان يجعل لهم منه حظاً. "ويتزوَّد لذلك"؛ أي: يأخذ الزاد قَدْرَ تلك الأيام. "ثم يرجع إلى خديجة" أم فاطمة إذا نَفَدَ زاده. "فيتزود لمثلها"؛ أي: لمثل تلك الأيام. "حتى جاءه الحق"؛ أي: الأمر الحق وهو الوحي، أو رسول الحق وهو جبريل عليه السلام.

"وهو في غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ، قال: فأخذني فغطني"؛ أي: عصرني شديداً "حتى بلغ مني الجُهدُ" بضم الجيم ورفع الدال؛ أي: بلغ مني الطاقة مبلغاً هو غايتها. ويروى بالفتح والنصب؛ أي: بلغ مني الغاطُّ جهدي وكربي؛ لأن المغطوط في غاية الكرب والجهد، قيل: إنما غطَّه ليختبره هل يقول من تلقاء نفسه شيئاً إذا اضطر أم لا. "ثم أرسلني، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة، ثم أرسلني فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ} "؛ أي: جنسَ الإنسان. {مِنْ عَلَقٍ}: جمع علقة. {اقْرَأْ وَرَبُّكَ}: مبتدأ خبره: {الْأَكْرَمُ} ومحلُّها حالٌ من ضمير (اقرأ)، و (الأكرم) هو الذي لا يوازيه كريم، ولا يعادله في الكرم نظير. {الَّذِي عَلَّمَ}؛ أي: الخطَّ. {بِالْقَلَمِ} ويدخل في هذا كلُّ كتابة، وكلُّ قلم، وأول من خَطَّ بالقلم إدريس عليه الصلاة والسلام. {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} والمراد: الجنس؛ أي: علَّمهم ما لم يكونوا عالمين به من الهدى والبيان، وما يأتون ويذرون من مصالحهم وصناعاتهم، أو (الإنسان) آدم علَّمه أسماء كلِّ شيء. "فرجع بها"؛ أي: بالقراءة، أو الآية، وقيل: بسبب تلك الغطة. "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجف"؛ أي: يضطرب من الخوف "فؤاده" الرجفة: شدة الحركة. "فدخل على خديجة فقال: زملوني"، أي: غطُّوني ودثِّروني، قيل: إنما

طلب التزميل؛ أي: التستر بالثوب؛ لأنه أصابه رعدةٌ من رؤية الملك وهيبته وعظمة القرآن، والمرتعدُ إذا زمِّل سكن ما به. "زملوني" كرره للتأكيد. "فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع"؛ أي: الفزع. "فقال لخديجة وأخبرها الخبر: لقد خشيت" مقولُ (¬1) (قال)؛ أي: خشيت "على نفسي" أن يكون ذلك نوعُ تخبُّطٍ من الشيطان. "فقالت خديجة: كلا" للردع؛ أي: امتنعْ عن هذا الكلام؛ يعني: ليس الأمر كما تظن. "والله لا يُخزيك الله تعالى أبداً، إنك لتصِلُ الرحم وتَصْدُقُ الحديث وتحمِلُ الكَلَّ" بفتح الكاف واللام المشددة؛ أي: المنقطع، تريد: إنك تعينُ الضعيف. "وتُكْسِبُ المعدوم" يقال: كسب الرجلُ مالاً وأكسبتُه؛ أي: أعَنْتُه على كسبه، أو جعلته يكسبه، فإن كان من الأول فمعناه: إنك تصلُ إلى كلِّ معدوم وتناله، ولا يتعذَّر عليك لبعده. وإن كان من الثاني فمعناه: إنك تعطي الناس الشيء المعدوم عندهم وتُوصله إليهم، وهذا أولى؛ لأنه أشبه بما قبله من باب التفضيل والإنعام، إذ لا إنعام في أن يكسب هو لنفسه مالاً كان معدوماً عنده، وإنما الإنعام أن يُوْليه غيره. وقيل: المراد بالمعدوم الفقير الذي صار من شدة حاجته وغاية اضطراره كالمعدوم؛ أي: تعطيه. وفي رواية: "وتكسب المُعْدَمَ"؛ أي: تعطى العائل وتمنحه، قيل: وهو الأصوب؛ لأن المعدوم لا يدخل تحت الاختيار. ¬

_ (¬1) في "غ": "مفعول".

وقيل: رواية (المعدوم) صحيحة اتساعاً، مبالغةً في العجز، كقولهم للبخيل أو للجبان: ليس بشيء وإنما ذُكرت لفظة الكسب؛ للاستعارة في زيادة السعي والجد. "وتقري الضيف"؛ أي: تُحسِن إليه. "وتعين على نوائب الحق": جمع نائبة، وهي ما ينوب الإنسان؛ أي: ينزل به من المهمات والحوادث؛ أي: تعين الملهوف على ما أصابه من النوائب. "ثم انطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل": كان نصرانيًّا بمكة. "ابن عم خديجة فقالت له: يا ابن عم! اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي" وهذا ليس على سبيل الحقيقة، بل للتعظيم والتبجيل. "ماذا ترى؟ فأخبره صلى الله تعالى عليه وسلم خبر ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله تعالى على موسى" قيل: (الناموس): صاحب سرِّ الرجل الذي يُطلعه على باطن أمره ويخصُّه بما يستره عن غيره، والمراد: جبريل عليه الصلاة والسلام؛ لاختصاصه باطِّلاع الوحي والغيب. "يا ليتني فيها"؛ أي: في النبوة والدعوة. "جذعاً"؛ أي: شاباً، نصب بإضمار كان؛ أي: يا ليتني كنت شاباً باقياً وقت نبوتك ودعوتك، أو نصبٌ على الحال؛ أي: باقٍ فيها جذعاً، والأصل في الجذع: حديث السن. "ليتني أكون حياً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: أو مخرجيَّ هم؟ " قيل: الهمزة للاستفهام، والواو للعطف على مقدَّر؛ أي: أيكون ما قلتَ وهم مخرجيَّ، قوله: (هم) مبتدأ و (مخرجي) خبره قُدِّمَ عليه. "قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عُودِي" فعلٌ ماضٍ

مجهولٌ من المعاداة، وفي بعضٍ: (إلا أُوذي). "وإن يدركني يومك" يريد به: زمان ظهور دعوته، أو زمانَ يعاديه فيه قومه ويريدون فيه إخراجه. "أنصرك نصراً مؤزراً" بالهمزة المفتوحة والزاء المعجمة المفتوحة قبل الراء المهملة؛ أي: نصراً بالغاً شديداً، من الأزر: القوة. "ثم لم يَنشَب"؛ أي: لم يلبث. "ورقة أن توفي"؛ أي: من أن توفي، حُذف عنه حرف الجر؛ يعني: لم يتعلق ورقة بشيء، ولم يشتغل بعدما تكلم بهذا إلا أياماً يسيره ثم قبض روحه. قيل: هو محكوم عليه بدخول الجنة؛ لأنه كان قائماً على دين عيسى عليه الصلاة والسلام، وآمن بدين نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم، يدل عليه قوله: (أنصرك). ولمَا روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - رآه بعد وفاته في ثياب بيض، وهو يدل على حسن حاله. "وفتر الوحي"؛ أي: انقطع مدة. "حتى حزن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فيما بلغنا" من الأحاديث الدالة على حزنه، وهذا معترِضٌ بين الفعل ومفعوله المطلق وهو: "حزناً غدا منه"؛ أي: ذهب من فتور الوحي "مراراً" وقيل: (عدا) بالعين المهملة؛ أي: جاوز. "كي يتردى"؛ أي: يسقط. "من رؤوس شواهق الجبال": جمع شاهق، وهو الجبل المرتفع. "فكلما أوفى"؛ أي: أشرف واطلع. "بذروة جبل" ذروة كل شيء: أعلاه. "لكي يلقي نفسه منه، تبدى"؛ أي: ظهر.

"له جبريل" عليه الصلاة والسلام. "فقال: يا محمد! إنك رسول الله حقاً" مصدر مؤكِّدٌ للجملة السابقة، وهي قوله: (إنك رسول الله)، نُصِبَ بفعلٍ مضمر؛ أي: أحق هذا الكلام حقاً. "فيسكن لذلك جأشه"؛ أي: روع قلبه. "ويقر" من القرار؛ أي: يطمئن. "نفسه" ويزول روعه. * * * 4557 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أَنَّهُ سَمعَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُحدِّثُ عَنْ فَترةِ الوَحْي قَالَ: "فبَيْنا أَنا أمشِي إِذْ سَمِعْتُ صوتاً مِنَ السَّماءِ، فرفعتُ بَصَري، فإِذَا المَلَكُ الَّذي جَاءَنِي بحِراءٍ قاعِدٌ على كُرسِيٍّ بيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، فَجُئِثْتُ منهُ رُعْباً، حتَّى هَوَيْتُ إلى الأَرْضِ، فَجِئْتُ أَهْلِي فقُلتُ: زمِّلوني، زمِّلوني، فزمَّلُوني, فأنزَلَ الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} - إلى قوله -: {فَاهْجُرْ}، ثُمَّ حَمِيَ الوَحْيُ وتَتَابَعَ". "عن جابر - رضي الله عنه - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يحدث عن فترة الوحي قال: فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعدٌ على كرسي بين السماء والأرض، فجُئِثتُ" بهمزة بعد الجيم المضمومة؛ أي: فزعت. "منه رعباً" نصب على المصدر؛ أي: ممتلئاً رعباً، أَو على الحال؛ أي: مرعوباً كلَّ الرعب. "حتى هويت"؛ أي: سقطت. "إلى الأرض، فجئت أهلي فقلت: زمِّلوني، زمِّلوني، فزمَّلوني فأنزل الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} "؛ أي: أَعْلِم الناس بالتخويف من العذاب.

"إلى قوله: {فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] ثم حمي الوحي وتتابع"؛ أي: اشتد نزوله متتابعاً متواتراً. * * * 4558 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها: أنَّ الحَارِثَ بن هِشامٍ - رضي الله عنه - سَألَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: يا رَسُوْلَ الله! كيفَ يأتِيكَ الوَحْيُ؟ فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحْياناً يأْتِيني مِثْلَ صَلْصَلَةِ الجَرَسِ، وهوَ أَشَدُّهُ عَليَّ، فَيُفْصِمُ عنِّي وقدْ وَعَيْتُ عنهُ ما قَالَ، وأحْياناً يَتمثَّلُ لي المَلَكُ رجُلاً فيُكلِّمُني فأعِي ما يقولُ"، قالت عَائِشَةُ رَضيَ الله عَنْها: ولقدْ رأيتُهُ يَنزِلُ عليهِ الوَحْيُ في اليومِ الشَّديدِ البرْدِ، فيَفْصِمُ عَنهُ وإنَّ جَبينَهُ ليَتَفَصَّدُ عَرَقاً. "عن عائشة - رضي الله عنها - أن الحارث بن هشام سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! كيف يأتيك الوحي؟ "، (كيف) سؤالٌ عن الحال. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أحياناً" جمع (حين)، نصب على الظرفية. "يأتيني مثل صلصلة الجرس"؛ أي: صوته إذا حرِّك، وهذه الصلصلةُ كانت من ضرب أجنحة الملك الذي كان يهبط إليه. قال الخطابي: يريد -والله أعلم- أنه صوتٌ متدارِكٌ يسمعه ولا يثبته عند أول ما يقرع سمعه حتى يتفهم فيتلقَّفه ويعيه، ولذا قال: "وهو أَشَدُّه"؛ أي: إتيانه إياي مثلَ صلصلة الجرس أشدُّ نوعي الوحي "عليَّ، فيَفْصِمُ عني"؛ أي: ينقطع الوحي عني "وقد وعيت عنه"؛ أي: حفظت "ما قال". وإنما حقَّق الوحيَ في هذا النوع بحرف (قد)؛ لبعد الوحي في هذه الحال لصعوبته وعسره فيها.

"وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي"؛ أي: فأحفظ "ما يقول" وإنما لم يقل فيه لفظة (قد)؛ لسهولته ويسره. قيل: وقد يكون الوحي بالكلام، ولا يتأتى ذلك إلا بواسطة ملك يتمثَّل في صورة بشر كجبريل تمثَّل في صورة دحية الكلبي. وقد يكون بالرمز والإشارة والكتابة كما قال الله تبارك: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 11]، قيل: معناه: أشار، وقيل: كتب. وقد يكون بالإلهام كقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص: 7]. وقد يكون بالتسخير كقوله تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ} [النحل: 68]. وقد يكون بالرؤيا، قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: "انقطع الوحي وبقيت المبشِّرات"؛ أي: رؤيا المؤمن. والثلاثة الأخيرة لا تختص بالأنبياء، بل قد تكون للأولياء أيضاً. "قالت عائشة - رضي الله تعالى عنها -: ولقد رأيته ينزل عليه الوحيُ في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه"؛ أي: جبهته. "ليتفصَّد"؛ أي: ليتصبَّب ويسيل. "عرقاً" نصبٌ على التمييز. * * * 4559 - عَنْ عُبَادَةَ بن الصَّامِتِ - رضي الله عنه - قَالَ: كانَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا أُنزِلَ عَلَيهِ الوَحْيُ كُرِبَ لِذلِكَ وَتَرَبَّدَ وجْهُهُ. وفي رِوَايةٍ: نَكَسَ رأسَهُ، ونَكَسَ أَصْحَابُهُ رؤسَهُمْ، فلمَّا سُرِّيَ عنهُ رَفَعَ رأسَهُ.

"عن عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا نزل عليه الوحي كُرِبَ لذلك"، أي: لنزول الوحي عليه، والكرب: هو الغم الذي يأخذ بالنفس. "وتربَّد وجهه"؛ أي: تلوَّن وتغيَّر فصار كلون الرماد. يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يهتمُّ بأمر الوحي اهتماماً شديداً، ويهابُ مما يطالَبُ به من حقوق العبودية والقيام بشكر المنعِم، ويخشى على عصاة الأمة أن ينالهم غضبٌ من الله تعالى، فيأخذه الغمُّ حتى يعلم ما يقضى. "وفي رواية: نكس رأسه"؛ أي: نظر إلى الأرض كالمتفكِّر تعظيماً للوحي وإجلالاً له. "ونكس أصحابه رؤوسهم" موافقةً له صلى الله تعالى عليه وسلم في ذلك. "فلما أُتْلِيَ عنه"؛ أي: قطع عنه "الوحي رفع رأسه". * * * 4560 - عَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: لمَّا نَزلَت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} خَرَجَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى صَعِدَ الصَّفا، فَجَعَلَ يُنادِي: "يا بني فِهْرٍ! يا بني عَدِيّ! "، لبُطونِ قُريشٍ، حتَّى اجتمعُوا، فجَعَلَ الرَّجُلُ إذا لمْ يستطِعْ أن يَخرجَ أَرْسَلَ رَسُولاً لِينظُرَ ما هوَ، فجَاءَ أبو لَهَبٍ وقُريشٌ، فقال: "أرأيتُمْ إنْ أخبرتُكُمْ أنَّ خَيْلاً تخرُجُ منْ سَفْحِ هذا الجَبلِ - وفي رِوَايةٍ: أنَّ خَيْلاً تخرجُ بالوادِي تُريدُ أنْ تُغيرَ عليكُم - أكُنتُمْ مُصَدِّقيَّ؟ "، قالوا: نَعَمْ، مَا جرَّبنا عليكَ إلَّا صِدقاً، قَالَ: "فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عذابٍ شَدِيدٍ"، قَالَ أبو لَهَبٍ: تبًّا لكَ، ألِهذا جَمعْتَنا؟ فنزلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}. "عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: لما نزلت: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]

خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى صعد الصفا فجعل"؛ أي: طفق "ينادي: يا بني فهرٍ" بكسر الفاء وسكون الهاء: أبو قبيلة من قريش، وهو فهر بن مالك بن النضر بن كنانة. "يا بني عدي" وهو عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر. "لبطون قريش": جمع بطن، وهو دون القبيلة. "حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريشٌ، فقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيتم"؛ أي: أخبروني. "إن أخبرتكم"؛ أي: أعلمتكم. "أن خيلاً"؛ أي: فرساناً. "تخرج من صفح هذا الجبل"؛ أي: من جانبه وناحيته. "وفي رواية: أن خيلاً تخرج بالوادي تريد أن تُغِير عليكم أكنتم مصدِّقيَّ؟ "؛ أي: هل أنتم تصدقونني أم لا؟. "قالوا: نعم ما جرَّبنا عليك إلا صدقاً، قال: فإني نذير"؛ أي: منذر. "لكم بين يدي"؛ أي: قدام. "عذاب شديد" إما في الدنيا، أو في الآخرة. "قال أبو لهب" للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "تباً لك"؛ أي: خسراناً وهلاكاً لك. "ألهذا جمعتنا"؛ أي: لأجل هذا دعوتنا، وروي أنه أخذ حجراً ليرميه بها. "فنزلت: {تَبَّتْ} "؛ أي: خسرت وهلكت.

{يَدَا أَبِي لَهَبٍ} عبَّر باليد عن نفسه مجازاً إطلاقاً للجزء على الكل، أو اليد زائدة. {وَتَبَّ} تأكيد للأول. * * * 4561 - عَنْ عبدِ الله بن مسعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنما رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يُصلِّي عِندَ الكَعبةِ، وجَمْعُ قُريشٍ في مَجالِسِهِمْ، إذْ قالَ قائِلٌ: أيُّكُمْ يقومُ إِلى جَزورِ آلِ فُلانٍ فيَعْمِدُ إلى فَرْثِها ودَمِها وسَلاها، ثُمَّ يُمْهلُهُ حتَّى إذا سجدَ وضعَهُ بينَ كتِفَيْهِ؟ فانبعَثَ أَشْقَاهُمْ، فلمَّا سَجدَ وَضَعَهُ بينَ كتِفَيْهِ، وثَبَتَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِداً، فضَحِكوا حتَّى مَالَ بعضُهم على بَعضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فانطلقَ مُنطلِقٌ إلى فَاطِمةَ رَضيَ الله عَنْها فأخبَرَهَا، فأقبلَتْ تسعَى، وثَبَتَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَاجِداً حتَّى ألقَتْهُ عنهُ، وأقبَلَتْ عَليهِمْ تسُبُّهُمْ، فلمَّا قضَى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الصَّلاةَ قَالَ: "اللهمَّ! عليكَ بقريشٍ"، ثلاثاً - وكانَ إذا دَعا دَعا ثلاثاً، وإذا سألَ سألَ ثلاثاً - اللهمَّ! عليكَ بعَمرِو بن هِشامٍ، وعُتبةَ بن رَبيعةَ، وشَيْبَةَ بن رَبيعةَ، والوليدِ بن عُتْبةَ، وأُميَّةَ بن خَلَفٍ، وعُقْبَةَ بن أبي مُعَيْطٍ، وعُمَارةَ بن الوَليدِ"، قَالَ عبدُ الله: فوَالله لَقَدْ رَأيتُهُمْ صَرْعَى يومَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبوا إلى القَلِيبِ قَلِيبِ بَدْرٍ، ثُمَّ قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وأُتبعَ أَصْحابُ القَلِيبِ لَعنةً". "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائماً يصلي عند الكعبة وجمعُ قريش في مجالسهم، إذ قال قائل: أيكم يقوم إلى جزور آل فلانٍ" بفتح الجيم وضم الزاء المعجمة قبل المهملة، وهو من الإبل يقع على الذكر والأنثى. "فيعمد"؛ أي: يقصد.

"إلى فرثها" وهو السرجين ما دام في الكرش. "ودمها وسَلاَها" بفتح السين بالقصر، وهو جلدٌ رقيق يكون فيه الولد من المواشي، فإذا انقطع في البطن هلكت الناقة والولد. "ثم يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه، فانبعث أشقاهم"؛ أي: ذهب أشقى كفار قريش، قيل: هو أبو جهل، وقيل: عقبة بن أبي معيط، جاء بسلا جزور "فلما سجد وضعه بين كتفيه، وثبت النبي - عليه الصلاة والسلام - ساجداً" وإنما ثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً في الصلاة؛ لأن هذا الصنيع منهم كان قبل تحريم هذه الأشياء من الفرث والدم وذبيحة أهل الشرك، فلم تكن تبطل الصلاة بها. "فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك، فانطلق منطلقٌ إلى فاطمة فأخبرها، فأقبلت تسعى وثبت النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجداً حتى ألقته عنه وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الصلاة قال: اللهم عليك بقريش" الباء زائدة، و (عليك) اسم فعل بمعنى: خذ؛ أي: خذهم مقهورين واستأصِلْهم. "ثلاثاً، وكان إذا دعا دعا ثلاثاً وإذا سأل سأل ثلاثاً: اللهم عليك بعمرو ابن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة ابن أبي معيط وعمارة بن الوليد، قال عبد الله - رضي الله عنه -: فوالله لقد رأيتهم صرعى": جمع صراع، أو صريع، نصب على الحال من الضمير المنصوب في (رأيتهم). "يوم بدر ثم سحبوا"؛ أي: جرُّوا. "إلى القليب" وهو البئر قبل أن تُطْوى. "قليب بدر، ثم قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: وأُتبعَ أصحاب القليب لعنة"؛ يعني: لحقتهم اللعنة. * * *

4562 - عن عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها أَنَّها قَالَتْ: يا رَسُولَ الله! هلْ أتَى عَلَيكَ يَومٌ كانَ أَشَدَّ مِنْ يومِ أُحُدٍ؟ قَال: "لقدْ لَقيتُ منْ قومِكِ، وكانَ أشدَّ ما لَقيتُ منهُمْ يومَ العَقَبةِ، إِذْ عَرَضْتُ نفسِي على ابن عبدِ يالِيلَ بن عبدِ كُلالٍ فلمْ يُجِبني إلى مَا أردْتُ، فانطلقتُ وأنا مَهمومٌ على وجْهِي، فلمْ أستَفِق إلَّا بقَرْنِ الثَّعالِبِ، فرفعتُ رأسِي فإذا أنا بسَحابَةٍ قدْ أظلَّتْنِي، فنظَرْتُ فإذا فيها جِبريلُ، فنادَانِي فَقَال: إنَّ الله سَمِعَ قولَ قومِكَ وما ردُّوا عليكَ، وقدْ بعثَ إليكَ مَلَكَ الجِبالِ لِتأْمُرَهُ بما شِئْتَ فيهِمْ"، قَالَ: "فَنَادَانِي مَلَكُ الجِبالِ وسلَّمَ عليَّ، ثمَّ قالَ: يا مُحَمَّدُ! إنَّ الله قدْ سَمِعَ قولَ قومِكَ، وأنا مَلَكُ الجِبالِ، وقدْ بَعَثنِي ربُّكَ إليكَ لِتأْمُرَني بأمْرِكَ، إنْ شِئْتَ أنْ أُطْبقَ عليهِمُ الأخشَبَيْنِ"، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بلْ أرجُو أنْ يُخرِجَ الله منْ أصْلابهِمْ مَنْ يعبُدُ الله وحْدَهُ لا يُشرِكُ بهِ شَيئاً". "عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله! هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟ فقال: لقد لقيت من قومك" بحذف المفعول؛ أي: ما هو أشد من يوم أحد. "وكان أشدُّ ما لقيت منهم" بحذف خبر (كان)؛ أي: ما لقيتُ "يومَ العقبة" وهي التي يضاف إليها الجمرة موضعٌ بمكة، وكان - صلى الله عليه وسلم - وقف يوماً عند العقبة في الموسم يدعو القبائل من العرب إلى الإسلام، فأبوا فاشتد ذلك عليه. "إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن كُلالٍ، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم"؛ أي: كأني مَغْشيٌّ عليه. "على وجهي" متعلق بـ (انطلقت)، وكان ذلك بعد وفاة عمه أبي طالب، وكان أبو طالب ينصره على كفار قريش، فلما مات كان الكفار يؤذونه - صلى الله عليه وسلم -، فخرج إلى الطائف يدعو ثقيفاً إلى الله فأبوا ذلك، فلما يئس منهم قدم مكة ووجد الكفار أشدَّ مما كانوا عليه من إيذائه - صلى الله عليه وسلم - ومخالفته، إلا شرذمة قليلين آمنوا بالله وصدقوه.

فلما أراد الله إظهار دينه ونصرة نبيه ذهب إلى الموسم فأجاب رهط من الخزرج أراد الله بهم الخير بما دعاهم إليه وقبلوا منه الإسلام، ثم رجعوا إلى بلادهم فدعوا قومهم إلى الإسلام، فأجابوهم إليه حتى فشا فيهم الإسلام، حتى إذا كان العام المقبل فوصل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اثنا عشر رجلاً منهم بالعقبة، فبايعوه على بيعة النساء، وهو أن لا يشركوا بالله شيئاً ولا يسرقوا ولا يزنوا ... إلخ. "فلم أستفق"؛ أي: لم يزل عني ذلك الغم والحيرة. "إلا بقرن الثعالب" جبل بين مكة والطائف، والباء بمعنى (في). "فرفعت رأسي فإذا أنا" (إذا) للمفاجأة. "بسحابةٍ قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني فقال: إن الله سمع قول قومك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال فسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمد! إن الله قد سمع قول قومك، وأنا ملكُ الجبال، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك إن شئت أن أطبق عليهم" من الإطباق، وهو جعل الشيء فوق الشيء محيطاً بجميع جوانبه. "الأخشبين" قيل: أخشبا مكة جبلان مُطْبقان بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، قيل: تارةً يضافان إلى مكة، ومرة إلى منى، وكلُّ جبل خشنٍ عظيمٍ فهو أخشب. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً". * * *

4563 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كُسِرَتْ رَباعِيَتُهُ يومَ أُحُدٍ وشُجَّ في رأسِهِ، فجَعلَ يَسْلُتُ الدمَ عنهُ ويقولُ: "كيفَ يُفلِحُ قومٌ شَجُّوا نبيَّهُمْ وكَسَروا رَباعِيَتَهُ؟! ". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسرت رباعيته" بفتح الراء وتخفيف الباء؛ أي: سنُّه التي بين الثنية والناب. "يوم أحد" جبل بالمدينة. "وشج في رأسه"؛ أي: كسر رأسه. "فجعل يَسْلُتُ الدمَ عنه"، أي: يزيله ويمسحه. "ويقول: كيف يفلح"؛ أي: يظفر ويفوز. "قوم شجوا رأس نبيهم، وكسروا رباعيته". * * * 4564 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اشتدَّ غضَبُ الله على قَوْمٍ فعلُوا بنبيهِ - يُشيرُ إلى رَباعِيَتِهِ - اشتَدَّ غضَبُ الله على رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ الله في سَبيلِ الله". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: اشتد غضب الله على قوم فعلوا بنبيه - ويشير إلى رباعيته - اشتد غضب الله على رجل" - وهو أبي بن خلف - "يقتله رسول الله في سبيل الله" وفيه إشعار بأن مَن يقتله من هو رحمةٌ للعالمين لم يكن إلا أشقى الناس. * * * مِنَ الحِسَان: 4565 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُذِنَ لِيْ أَنْ أُحَدِّثَ عنْ

5 - باب علامات النبوة

مَلَكٍ مِنْ مَلائِكةِ الله مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ، إِنَّ مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِيْهِ إِلى عاتِقِهِ مَسيرةُ سَبْعِ مِئَةِ عامٍ". "عن جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش، إن ما بين شحمة أذنيه إلى عاتقه مسيرة سبع مئة عام". * * * 5 - باب علامات النبوة (باب علامات النبوة) مِنَ الصِّحَاحِ: 4566 - قَالَ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: إنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَتاهُ جِبريلُ وهوَ يَلعبُ معَ الغِلْمانِ، فأخذَهُ فصَرَعَهُ، فشَقَّ عنْ قلبهِ، فاستخْرَجَ منهُ عَلَقةً فقال: "هَذَا حَظُّ الشَّيطانِ مِنْكَ"، ثُمَّ غَسَلهُ في طَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ لأَمَهُ وأَعادَهُ في مَكانِهِ، وجَاءَ الغِلْمانُ يَسْعَوْنَ إلى أُمِّهِ - يعني: ظِئْرَهُ - فقالوا: إنَّ مُحَمَّداً قد قُتِلَ، فاستقبَلُوه وهوَ مُنْتَقِعُ اللَّونِ، قالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: فكنْتُ أرَى أثرَ ذلك المِخْيَطِ في صَدرِه. "من الصحاح": " قال أنس - رضي الله عنه -: إن رسول الله - عليه الصلاة والسلام - أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان فأخذه فصرعه"؛ أي: ألقاه "فشق عن قلبه فاستخرج"؛ أي: أخرج "منه علقة" وهي دم غليظ. قيل في سبب الشق: إن الله تعالى أراد أن يقدس قلبه وينوِّره بأنوار ألطاف جلاله تحصيلاً لكمال الاستعداد حالةَ الطفولية، وتهييئاً لقبول الوحي القديم السماوي، فتصير نفسه قدسيةً ملكوتيةً؛ لكونها منقادةً للقلب فكانت قابلةً

للأنوار الإلهية التي جعلت في القلب، فأرسل إليه جبريل حتى شق صدره فأخرج منه علقة، وهي التي تكون أمَّ المفاسد والمعاصي في الإنسان. "فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طستٍ من ذهب بماء زمزم ثم لأَمَه" بالمد أو القصر؛ أي: جمعه، يقال: لأمتُ الجرح والصدغ: إذا شددته وسوَّيته وأصلحته. "وأعاده إلى مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعني ظئره" حليمة. "فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون"؛ أي: متغير اللون، يقال: انتقع لونه: إذا تغير من حزن أو فزع. "قال أنس: فكنت أرى أثر المِخيط" بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة؛ أي: الإبرة "في صدره". * * * 4567 - وعن جَابرِ بن سَمُرة - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَعرِفُ حَجَراً بمكَّةَ كانَ يُسَلِّمُ عليَّ قبلَ أنْ أُبعَثَ، إنِّي لأَعرِفُهُ الآن". "عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأعرف حجراً بمكة" قيل: إنه الحجر الأسود، وقيل: غيره. "كان يسلِّم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن" قيل: تسليم الحجر مجازٌ معناه: كان يشاهد منه أنه لو كان ناطقاً يشهد بنبوته ويسلِّم عليه. وقيل: حقيقي بأن يخلق الله فيه حياة ونطقاً معجزةً للنبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أن إحياء الموتى معجزةٌ لعيسى عليه السلام، بل إحياءُ الجماد أقوى، وإنما قيَّد بقوله: (قبل أن أبعث) لأن كل الأحجار كان يسلِّم على النبي عليه الصلاة والسلام بعد كونه مبعوثاً؛ لمَا روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: كنَّا بمكة، فخرجنا مع

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بعض نواحيها فلم نمرَّ بشجرة ولا حجر إلا قال: السلام عليك يا رسول الله. * * * 4568 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: إِنَّ أهْلَ مكَّةَ سَألُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُريَهُمْ آيةً، فأرَاهُمْ القَمرَ شِقَّتَيْنِ، حتَّى رأَوْا حِراءَ بينهُما. "وقال أنس - رضي الله عنه -: إن أهل مكة"؛ يعني: كفار قريش. "سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يريهم آية"؛ أي: ما يدل على نبوته في خرق العادة. "فأراهم القمر شقين" بإشارته إليه. "حتى رأوا حراء"؛ أي: جبل حراء. "بينهما"؛ أي: بين الشقين، قيل: وقد أنكر جمعٌ حديثَ شقِّ القمر بأنه لو صح لتناقلته العوام وأهل السير والتواريخ في كتبهم. وأجيب: بأنه طلبه منه - صلى الله عليه وسلم - قوم خاصٌّ كما حكاه أنس - رضي الله عنه -، فأراهم ذلك ليلاً وأكثرُ الناس نيام ومُستكنُّون بالأبنية، والأيقاظ في البوادي والصحارى قد يتفق اشتغالهم في ذلك الوقت، وقد يُكسف القمر فلا يشعر به كثير من الناس، على أن ذلك كان في قَدْرِ لحظة، ولو دامت هذه الآية حتى يشترك فيها الكل، ثم لم يؤمنوا؛ لاستؤصلوا بالهلاك. والعجب من المنكر أن يخالف النص الصريح، وهو قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر:1 - 2]. * * *

4569 - وقَالَ ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: انشقَّ القَمرُ على عهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فِرقتَيْنِ: فِرْقَةً فوقَ الجبَلِ، وفِرْقَةً دُونه، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "اشْهَدُوا". "وقال ابن مسعود - رضي الله عنه -: انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين: فرقة فوق الجبل وفرقة دونه" يريد أنهما تباينا: إحداهما إلى جهة العلو، والأخرى إلى جهة السفل. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اشهدوا"؛ أي: على نبوَّتي ومعجزتي، وقيل: معناه احضروا وانظروا. * * * 4570 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قالَ أبو جَهْلٍ: هلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وجْهَهُ بَيْنَ أظهُرِكُمْ؟ فقيلَ: نعمْ، فقالَ: واللَّاتِ والعُزَّى، لَئِنْ رأيتُهُ يفعلُ ذلكَ لأَطأنَّ على رَقَبَتِهِ، فأتَى رَسُوْلَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يُصلِّي، زَعَمَ لِيَطأَ على رَقبَتهِ، فما فَجِئَهُمْ منهُ إِلَّا وهوَ يَنْكِصُ على عَقِبَيْهِ ويَتَّقي بيدَيْهِ، فقيلَ لهُ: ما لكَ؟ فقَالَ: إنَّ بينِي وبينَهُ لخَندقاً منْ نارٍ وهَوْلاً وأجنِحةً، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لوْ دَنا مِنِّي لاخْتَطَفَتْهُ المَلائِكَةُ عُضْواً عُضْواً". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال أبو جهل: هل يعفِّر محمدٌ وجهه"؛ أي: هل يسجد لمعبوده "بين أظهركم؛ "؛ أي: بينكم، تعفير الوجه كناية عن الصلاة. "فقيل: نعم، فقال" أبو جهل. "واللات" وهو اسم صنم بالطائف. "والعزى" اسم شجرة كانت لغطفان يعبدونها. "لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، فأتى رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي،

زعم"؛ أي: قصد أبو جهل "ليطأ" بكسر اللام؛ أي: ليضع رجله "على رقبته" وفي بعض النسخ بالفتح لام تأكيد، و (زعم) جملة حالية. "فما فَجِئهم"؛ أي: فما أتى قومه فجأة. "منه"؛ أي: من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو من إتيانه إليه. "إلا وهو ينكص" بكسر الكاف؛ أي: يرجع القهقرى. "على عقبيه"؛ أي: على مؤخَّر قدميه. "ويتقي بيديه"؛ أي: يحترز بهما. "فقيل له: ما لك؟ "؛ أي: أيُّ شيء لك؟ (ما) هذه استفهامية. "فقال: إن بيني وبينه لخندقاً من نارٍ وهولاً"؛ أي: خوفاً وأمراً شديداً. "وأجنحة"؛ أي: أجنحة الملائكة. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو دنى"؛ أي: لو قَرُبَ أبو جهل "مني لاختطفته الملائكة"؛ أي: لاستلبته "عضواً عضواً". * * * 4571 - وقَالَ عَدِيُّ بن حَاتِمٍ - رضي الله عنه -: بَيْنا أنا عندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إذْ أتاهُ رَجُلٌ فشَكا إليهِ الفَاقَةَ، ثُمَّ أتاهُ آخرُ فشَكا إليهِ قَطْعَ السَّبيلِ، فَقَالَ: "يا عَدِيُّ! هلْ رأيتَ الحِيرَةَ؟ "، قَالَ: نَعَم، قَالَ: "فإنْ طَالَتْ بِكَ حَياةٌ فلَتَرَيَنَّ الظَّعينَةَ تَرْتحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطوفَ بالكَعْبةِ لا تَخَافُ أَحَداً إلَّا الله، ولَئنْ طَالَتْ بكَ حَياةٌ لتُفْتَحنَّ كُنوزُ كِسْرَى، ولَئنْ طَالَتْ بِكَ حياةٌ لَتَرَيَنَّ الرَّجُلَ يُخرِجُ مِلْءَ كفِّهِ منْ ذهَبٍ أو فِضّةٍ، يَطلُبُ مَنْ يَقبَلُهُ منهُ فلا يَجِدُ أحداً يَقبَلُهُ منهُ، ولَيلقَيَنَّ الله أحدُكُمْ يومَ يَلقاهْ وليسَ بينَهُ وبينَهُ تَرْجُمانٌ يُترجِمُ لهُ، فلَيقولَنَّ: أَلَمْ أبعَثْ إِليْكَ رَسُولاً

فيُبلِّغَكَ؟ فيقولُ: بلَى، فيقولُ: ألَمْ أُعطِكَ مالاً وأُفْضلْ عليكَ؟ فيقولُ: بلَى، فيَنظُرُ عنْ يَمينِهِ فلا يرَى إلَّا جهنَّمَ، وينظُرُ عنْ يَسارِهِ فلا يرَى إلَّا جهنَّمَ، فاتَّقُوا النَّارَ ولوْ بشِقِّ تَمْرةٍ، فمَنْ لمْ يَجِدْ فبكلمةٍ طيبةٍ". قالَ عَدِيٌّ: فرأيتُ الظَّعينَة تَرْتحِلُ مِنَ الحِيرَةِ حتَّى تَطوفَ بالكعبةِ لا تخافُ إلَّا الله، وكنتُ فيمَنْ افتتحَ كُنوزَ كِسْرَى بن هُرْمُزَ، ولَئنْ طالَتْ بكُم حَياةٌ لَتَرَوُنَّ ما قالَ النَّبيّ أبو القَاسِمِ - صلى الله عليه وسلم -: يُخرِجُ مِلْءَ كفِّهِ. "وقال عدي بن حاتم: بينا أنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ أتاه رجل فشكى إليه الفاقة" وهي الفقر والحاجة (¬1). "ثم أتاه آخر فشكى إليه قطع السبيل"؛ يعني: عَدَمَ أمن الطريق. "فقال: يا عدي هل رأيت الحيرة؟ " بكسر الحاء: بلد قديم بظهر الكوفة، ومحلَّةٌ معروفة بنيسابور. "فإن طالت بك حياة فلترين الظعينة" وهي المرأة التي في الهودج. "ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحداً إلا الله"؛ يعني: إن طال عمرك ترى أمن الطريق بحيث تذهب المرأة من الحيرة إلى مكة قاصدةً إلى البيت آمنةً غير خائفة سوى الله تعالى. "ولئن طالت بك حياة لتُفتحَنَّ كنوز كسرى": جمع كنز، وهو المال المدفون، و (كسرى) بكسر الكاف وفتحها: لقب ملوك الفرس. "ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يُخرج ملْءَ كفه من ذهب، أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحداً يقبله منه"؛ يعني: ترى الغنى والسعة بين الناس بحيث لا يوجد فقير يقبل شيئاً من الأغنياء. ¬

_ (¬1) في "غ": "أي من الفاقة وهي الحاجة".

"وليلقين الله أحدكم يوم يلقاه وليس بينه وبينه ترجمان" بضم التاء وفتح الجيم وضمها. "يترجم له"؛ أي: يفسر كلامه. "فليقولن: ألم أبعث إليك رسولاً فيبلِّغَك؟ فيقول: بلى، فيقول: ألم أعطك مالاً وأُفْضلْ عليك؟ فيقول: بلى، فينظر عن يمينه فلا يرى إلا جهنم وينظر عن يساره فلا يرى إلا جهنم، فاتقوا النار ولو بشق تمرة" وهذا تحريضٌ على التصدُّق بالمال على المساكين والاجتناب عما لا يحلُّ له أخذُه. "فمن لم يجد فبكلمة طيبة، قال عدي: فرأيت الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف إلا الله، وكنت فيمن افتتح كنوز كسرى بن هرمز، ولئن طالت بكم حياة لتروُنَّ ما قال النبي أبو القاسم - عليه الصلاة والسلام -: يُخرج ملْءَ كفه". * * * 4572 - وقَالَ أبو هُريْرَةَ - رضي الله عنه -: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يَهلِكُ كِسْرَى ثُمَّ لا كِسْرَى بَعْدَهُ، وقَيْصَرُ لَيَهْلِكَنَّ ثمَّ لا يكونُ قَيْصَرُ بعدَهُ، ولَتُنْفِقُنَّ كُنوزَهُما في سَبيلِ الله". "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يهلك كسرى ثم لا يكون كسرى بعده"؛ يعني: ينقطع ملكه ونسله. "وقيصر" وهو لقب ملك الروم. "ليهلكن ثم لا يكون قيصر بعده، ولتنفقُنَّ كنوزهما في سبيل الله" وجه الجمع بين هذا وبين ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام فمزق كتابه، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "تمزق ملكه"، وكتب إلى قيصر فأكرم كتابه ووضعه في

مسك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ثبت ملكه": أن كسرى تمزق ملكه فلم يكن له ملك باقيةٌ أصلاً، وأُنفقت كنوزه في سبيل الله، وأَوْرَثَ الله المسلمين أرضه، وقيصر ثبت ملكه بالروم وانقطع عن الشام واستفتحت خزائنه التي كانت بها، وأُنفقت في سبيل الله، فمعنى: (لا قيصر بعده)؛ يعني: ثبوت ملك قيصر في الجملة بالروم وانقطاعه عن الشام أصلاً. * * * 4573 - وقَالَ: "ليَفتَتِحَنَّ عِصَابةٌ مِنَ المُسلِميْنَ كَنْزَ آلِ كِسْرَى الذِي في الأَبْيَضِ". "وقال لتَفْتحَنَّ" اللام جواب قسم مقدَّرٍ. "عصابةٌ"؛ أي: جماعة. "من المسلمين كنز آل كسرى الذي في الأبيض" يريد به القصر الأبيض الذي كان في المدائن يسمونه سبيد كوشك. * * * 4574 - وعَنْ خَبَّابِ بن الأَرَتِّ - رضي الله عنه - قَالَ: شَكَوْنا إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وهوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ في ظِلِّ الكَعْبةِ، وقدْ لَقِينا مِنَ المُشرِكِينَ شِدَّةً، فقُلنا: ألا تَدعو الله؟ فقعَدَ وهوَ مُحْمَرٌّ وجهُهُ، قَالَ: "كانَ الرَّجُلُ فيمَنْ كَانَ قبلَكُمْ يُحفَرُ لهُ في الأرضِ فيُجعَلُ فيهِ، فيُجاءُ بالمِنْشَارِ فيُوضَعُ فَوْقَ رَأسهِ فيُشَقُّ باثنَيْنِ، وما يَصُدُّهُ ذلكَ عن دينهِ، ويُمشَطُ بأمشَاطِ الحَدِيدِ ما دُونَ لَحْمهِ مِنْ عَظْمٍ وعَصَبٍ، وما يَصُدُّهُ ذَلكَ عَنْ دِينهِ، والله لَيُتِمَّنَّ الله هذا الأَمرَ، حتَّى يَسيرَ الرَّاكِبُ منْ صَنعاءَ إلى حَضْرَ مَوْتَ لا يخافُ إلَّا الله أو الذِّئبَ على غَنَمِهِ، ولكنَّكُمْ تَسْتَعجلُونَ".

"وعن خبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه -: شكونا إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وهو متوسِّد بردةً"؛ أي: كساءً مخططاً؛ يعني: جاعلٌ لها كالوسادة تحت رأسه. "في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدةً فقلنا: ألا تدعو الله لنا؟ "؛ أي: على المشركين فإنهم يؤذوننا. "فقعد وهو محمرٌّ وجهُه قال: كان الرجل فيمن كان قبلكم يُحفر له في الأرض فيجعل [فيه] فيجاء بالمنشار" وهو آلة تُشقُّ بها الخشبة. فيوضع فوق رأسه فيشق باثنين وما يصدُّه"؛ أي: ما يصرفه "ذلك" العذاب الشديد "عن دينه، ويمشَّط بأمشاط الحديد ما دون لحمه"؛ أي: ما تحت لحمه. "من عظم أو عصب" بيان (ما دون لحمه). "وما يصدُّه ذلك عن دينه، والله لَيَتِمَّنَّ" بفتح اللام للتأكيد. "هذا الأمر"؛ أي: هذا الدين. "حتى يسير الراكب من صنعاء" بلدٌ باليمن. "إلى حضر موت" وهو موضعٌ حضره صالحٌ النبيُّ عليه السلام فمات فيه فسمي بهذا الاسم، وقيل: حضر فيه موت جرجس، وقيل: هو اسم قبيلة. "لا يخاف إلا الله تعالى، أو الذئب على غنمه" أشار به - صلى الله عليه وسلم - إلى خلوِّ الطريق والأماكن عن الأعداء، فإنها إذا خلت عن الأعداء ربما ظهر فيها الذئب، يعني: سيزول أذى المشركين عن المسلمين بظهور الدين على الأديان الباطلة. "ولكنكم تستعجلون" وفيه تحريض على الصبر على الأذى، والتحمُّل على المشاق، وعدم الاستعجال في الأمور. * * *

4575 - وقَالَ أَنسٌ - رضي الله عنه -: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَدخُلُ على أُمِّ حَرامٍ بنتِ مِلْحانَ، وكَانتْ تحتَ عُبادَةَ بت الصَّامِتِ - رضي الله عنه -، فدَخَلَ عليها يَوماً فأطعَمَتْهُ، ثُمَّ جلسَتْ تَفْلِي رَأْسَهُ، فَنَامَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ استيقَظَ وهُوَ يَضحَكُ، قالتْ: فقلتُ: وما يُضحِكُكَ يا رَسُولَ الله؛ قال: "نَاسٌ منْ أُمَّتِي عُرِضوا عَليَّ غُزاةً في سَبيلِ الله، يَركَبونَ ثَبَجَ هذا البَحْرِ، مُلوكاً على الأسِرَّةِ" - أوْ: "مِثْلَ المُلوكِ على الأسِرَّةِ" -، فقلتُ: يا رَسُولَ الله! ادْعُ الله أنْ يَجعَلَنِي منهُمْ، فدَعا لَهَا، ثُمَّ وضَعَ رأسَهُ فَنَامَ، ثُمَّ اسْتَيْقَظَ وهوَ يَضحكُ، فقُلتُ: يا رَسُولَ الله! ما يُضحِكُكَ؟ قال: "نَاسٌ منْ أُمّتي عُرِضُوا عَليَّ غُزاةً في سَبيلِ الله" - كمَا قَالَ في الأُولى -، فقُلتُ: يا رَسُولَ الله! ادْعُ الله أنْ يَجعَلَنِي منهُمْ، قَالَ: "أنتِ مِنَ الأوَّلينَ"، فركِبَتْ أُمِّ حَرامٍ البَحرَ في زَمَنِ مُعَاويَةَ، فصُرِعتْ عَنْ دابَّتِها حِيْنَ خَرجَتْ مِنَ البَحرِ فهَلَكَت. "وقال أنس - رضي الله عنه -: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدخل على أم حرام بنت ملحان": قيل: كانت من خالات النبي - صلى الله عليه وسلم - من الرضاع. "وكانت تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها يوماً فأطعمته، ثم جلست تَفْلي رأسه" من القمل. "فنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم استيقظ وهو يضحك، قالت. فقلت: ما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناسٌ من أمتي عُرِضوا عليَّ غزاةً في سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر"؛ أي: وسطها. "ملوكاً" نصب على الحال من ضمير (يركبون). "على الأسرة": جمع سرير بمعنى السفينة. "أو" قال: "مثل الملوك" نصبه إما حالٌ أو صفة مصدرٍ محذوف؛ أي:

ركوباً مثل ركوب الملوك "على الأسرة، فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، فدعا لها، ثم وضع رأسه فنام، ثم استيقظ وهو يضحك فقلت: يا رسول الله ما يضحكك؟ قال: ناس من أمتي عرضوا عليَّ غزاة في سبيل الله تعالى - كما قال في الأولى - فقلت: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني منهم، قال: أنت من الأولين، فركبت أم حرام البحر في زمن معاوية - رضي الله عنه - فصرعت"؛ أي: سقطت. "عن دابتها حين خرجت من البحر فهلكت". * * * 4576 - وقَالَ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: إنَّ ضماداً قَدِمَ مَكَّةَ، وكَانَ منْ أَزْدِ شَنُوْءَةَ، وكَانَ يَرْقي مِنْ هذِه الرِّيحِ، فَسَمِعَ سُفَهاءَ أهْلِ مَكَّةَ يقُولُونَ: إنَّ مُحمَّداً مَجنُونٌ، فَقَالَ: لَوْ أنِّي رَأَيْتُ هَذا الرَّجُلَ لَعَلَّ الله يَشْفِيهِ على يَدَيَّ، قَالَ: فلِقَيَهُ فَقَالَ: يا مُحَمَّدُ! إنِّي أَرْقِي منْ هذا الرِّيحِ، فهلْ لكَ؟ فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ ونسَتَعينُهُ، مَنْ يَهْدِهِ الله فلا مُضلَّ لهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ لهُ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا الله، وحدَهُ لا شَريكَ لهُ، وأنَّ مُحَمَّداً عبْدُهُ ورَسُولُهُ، أمَّا بَعْدُ"، فَقَالَ: أعِدْ عليَّ كَلِماتِكَ هؤلاءِ، فأعَادَهُنَّ عليهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثَ مرَّاتٍ، فَقَالَ: لَقَدْ سَمِعتُ قَوْلَ الكَهَنَةِ وقَوْلَ السَّحَرَةِ وقَوْلَ الشُّعَراءِ، فما سَمِعتُ مِثْلَ كَلِمَاتِكَ هَؤُلاءِ، ولَقدْ بَلَغْنَ نَاعُوْسَ البَحرِ، هَاتِ يَدَكَ أُبايعْكَ عَلَى الإِسلامِ، قَالَ: فبايَعَهُ. "وقال ابن عباس: - رضي الله عنه - إن ضماداً: بكسر الضاد المعجمة، هو ضمادٌ الأَزْديُّ كان صديقاً للنبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحباً له في الجاهلية قبل أن يبعث - صلى الله عليه وسلم -. "قدم مكة"؛ أي: رجع من سفره. "وكان من أَزْدِ شَنُوءَةَ" قبيلة من اليمن.

"وكان"؛ أي: ضماد "يرقي"؛ أي: يعالج من داءٍ بقراءةٍ ونفث فيه، وهي جملة حالية. "من هذه الريح"؛ يعني: من العلة الحاصلة من مسِّ الجن، قال أبو موسى: الريح هنا بمعنى الجن، سُموا بها؛ لأنهم لا يُرون كالريح. "فسمع سفهاءَ أهل مكة يقولون: إن محمداً مجنون" ولا بُعدَ فيه؛ لأنهم كانوا مجانين، والمجانين إذا كان فيهم عاقل يسمونه مجنوناً لمخالفته إياهم. "فقال: لو أني رأيت هذا الرجل لعل الله يشفيه على يدي، قال: فلقيه فقال: يا محمد! إني أرقي من هذا الريح فهل لك؟ "؛ أي: هل لك من حاجة إلى دوائي؟. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الحمد لله نحمده" على تخلصي مما ينسبونه إلي من الجنون. "ونستعينه" على الصبر على إيذاء السفهاء. "مَنْ يهده الله فلا مُضلَّ له، ومن يُضْلِلْ فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد" هذا شروعٌ بعد تحميد الله إلى خطاب آخر، ولكن لم يظفر ما ذكر النبي - عليه الصلاة والسلام - "فقال"؛ أي: ضماد حين سمع هذه الكلمات التي يقطر منها ماءُ الحياة: "أعد عليَّ كلماتك هؤلاء، فأعادهن عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث مرات، فقال": ما أحسن وأفصح هؤلاء الكلمات. "لقد سمعت قول الكهنة" جمع كاهن. "وقول السحرة" جمع ساحر. "وقول الشعراء" جمع شاعر. "فما سمعت مثل كلماتك هؤلاء، ولقد بلغنا ناعوس البحر" قيل:

فصل في المعراج

الناعوس في البحر: ما سكن فيه الأمواج، وهو الوسط؛ أي: انتهى معاني كلماتك هذه إلى سويداء قلبي، وقيل: معناه: بلغنا في سماع كلامك هذا لجةَ بحرٍ لا يتناهى قعره في الفصاحة والبلاغة وكثرة المعاني. قيل: وقع الرواية في كتاب "المصابيح": (بلغنا) وهو غير مستقيم من طريق المعنى، والصواب: (بلغن) وكذا (ناعوس البحر) خطأ لم يسمع في لغة العرب، والصواب: (قاموس البحر)؛ أي: وسطه ومعظمه. "هات"؛ أي: أعطني "يدك أبايعك" بالجزم جواب الأمر. "على الإسلام، قال: فبايعه" انظر إلى كمال حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كيف داوى ضماداً وشفاه من جنون الجهالات. * * * فصل في المِعْرَاجِ (باب في المِعْراجِ) وهو الدرجة، مفعال من العروج، وجميع أحاديث هذا الباب من "الصحاح" فلذا لم يتعرض لذكره. مِنَ الصِّحَاحِ: 4577 - عَنْ قتادَةَ - رضي الله عنه -، عَنْ أَنسَ بن مالِكٍ - صلى الله عليه وسلم -، عَنْ مالِكِ بن صَعْصَعَة - رضي الله عنه -: أَنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثَهُم عَنْ لَيْلَةِ أُسرِيَ بهِ: "بَيْنَما أَنَا في الحَطِيمِ - وربَّما قَالَ: في الحِجْرِ - مُضطَجعاً، إذْ أتانِي آتٍ فشقَّ ما بينَ هذِه إلى هذِه - يَعني: منْ ثُغْرةِ نَحْرِهِ إلى شِعْرتِهِ - فاستخرجَ قَلبي، ثُمَّ أُتيتُ بطَسْتٍ منْ ذَهبٍ مملوءٍ إِيْماناً، فغُسِلَ

قَلبي، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أُعيدَ - وفي روايةٍ: ثُمَّ غُسِلَ البَطْنُ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ إِيْمَاناً وحِكْمةً - ثُمَّ أُتيتُ بِدابَّةٍ دُونَ البَغلِ وفوقَ الحِمارِ أبيضَ، يَضَعُ خَطْوَهُ عندَ أقصَى طَرْفِهِ، فحُمِلتُ عليهِ، فانطلقَ بي جِبريلُ، حتَّى أتَى السَّماءَ الدُّنيا، فاسْتفتَحَ، قيلَ: مَنْ هذا؟ قالَ: جِبريلُ، قيل: ومَن معكَ؟ قال: محمّدٌ، قيلَ: وقدْ أُرسِلَ إليه؟ قال: نعم، قيل: مَرحباً بهِ فنِعْمَ المجيءُ جاءَ، ففتَحَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإذا فيها آدمُ صَلَواتُ الله عليهِ، فَقَالَ: هذا أَبوكَ آدمُ فسَلِّمْ عليهِ، فسلَّمتُ عليهِ، فردَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرحباً بالابن الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ الثَّانيةَ، فاسْتَفتَحَ، قِيلَ: مَنْ هَذا؟ قَال: جِبريلُ، قِيلَ: ومَنْ معكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيلَ: وقَدْ أُرسِلَ إليه؟ قَالَ: نَعمْ، قِيلَ: مَرحباً بهِ فنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، ففتَحَ، فلمَّا خَلَصْتُ إذا يَحيَى وعيسَى صلواتُ الله عليهما، وهُمَا ابنا خَالَةٍ، قَالَ: هذا يَحيَى وعيسَى فسلِّمْ عليهما، فسَلَّمتُ، فردَّا ثُمَّ قالا: مَرحباً بالأخِ الصَّالح والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي إلى السَّماءَ الثَّالثةِ، فاسْتفتَحَ، قِيْلَ: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبْريلُ، قِيْلَ: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيْلَ: وقدْ أُرسِلَ إِليهِ؟ قَالَ: نعَمْ، قِيلَ: مَرحَباً بهِ فنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، ففُتِحَ، فلمَّا خَلَصْتُ إذا يُوسُفُ، قَالَ: هذا يُوسُفُ فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرحَباً بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ الرَّابعةَ، فاسْتَفتَحَ، قِيْل: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبريلُ، قِيْلَ: ومَنْ معكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيْلَ: وقدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قِيلَ: مَرحَباً بهِ فنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، ففُتِحَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإذا إدْرِيسُ، قَالَ: هذا إدْرِيسُ فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرحَباً بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ الخَامِسَةَ، فاستفتَحَ، قِيْل: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبْريْلُ، قِيْل: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ، قِيْلَ: وقدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نعَمْ، قِيْلَ: مَرحَباً بهِ فنِعْمَ المَجيءُ جَاءَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإذَا هَارونُ، قَالَ: هذا هَارونُ فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ

قَال: مَرحَباً بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثمَّ صَعِدَ بي حتَّى أتَى السَّماءَ السَّادِسةَ، فاستفتَح، قيل: مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبريلُ، قِيلَ: ومَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ؟ قِيْل: وقَدْ أُرسِلَ إليهِ؟ قَالَ: نَعمْ، قِيلَ: مَرحَباً بهِ فنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، فَلَمَّا خَلَصْتُ فإذا مُوسَى، قال: هذا مُوسَى فسَلِّمَ عليهِ، فسَلَّمتُ عليهِ، فردَّ ثُمَّ قَالَ: مَرحَباً بالأخِ الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، فلمَّا تَجَاوَزْتُ بكَى، قِيلَ لَهُ: ما يُبكِيكَ؟ قَالَ: أَبْكِي لأنَّ غُلاماً بُعِثَ بعدِي يَدخُلُ الجَنَّةَ منْ أُمَّتِه أكَثَرُ مِمَّنْ يَدخُلُها منْ أُمَّتي، ثمَّ صَعِدَ بي إلى السَّماءَ السَّابعةِ، فاستفتَحَ جِبريلُ، قِيلَ. مَنْ هذا؟ قَالَ: جِبريلُ، قِيْلَ: ومَن مَعَكَ؟ قَالَ: مُحمَّدٌ، قِيْل: وقدْ بُعِثَ إِليْهِ؟ قَالَ: نَعمْ، قِيلَ: مَرحَباً بهِ فنِعْمَ المَجِيءُ جَاءَ، فلمَّا خَلَصْتُ فإذَا إِبْراهيمُ، قَالَ: هَذا أَبُوكَ فسَلِّمْ عليهِ، فسَلَّمْتُ عليهِ، فردَّ السَّلامَ ثُمَّ قَالَ: مَرحباً بِالابن الصَّالحِ والنَّبيِّ الصَّالحِ، ثُمَّ رُفِعَتُ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، فإذَا نبَقُها مِثْلُ قِلالِ هَجَرَ، وإِذَا وَرَقُها مِثْلُ آذانِ الفِيَلَة، قَالَ: هذه سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فإذا أَرْبَعةُ أَنْهارٍ: نَهرانِ باطِنان، ونَهرانِ ظاهرانِ، قُلتُ: ما هذانِ يا جِبْريلُ؟ قَالَ: أمَّا البَاطِنانِ فَنهرانِ في الجَنَّةِ، وأمَّا الظّاهِرَانِ فَالنِّيلُ والفُراتُ، ثُمَّ رُفِعَ لي البَيْتُ الْمَعْمُورُ، ثُمَّ أُتيتُ بإناءٍ منْ خَمْرٍ وإناءٍ مِنْ لَبن وإناءٍ منْ عَسَلٍ، فأخذتُ اللَّبن، فَقَالَ: هِيَ الفِطرةُ التي أنتَ عليها وأُمَّتُكَ، ثُمَّ فُرِضَتْ عَليَّ الصَّلاةُ خَمسينَ صَلاةً كُلَّ يومٍ، فرَجَعْتُ فمَررْتُ عَلَى مُوسَى فَقَال: بِمَ أُمِرْتَ؟ قُلْتُ: أُمِرْتُ بخَمسينَ صَلاةً كُلَّ يَومٍ، قَالَ: إنَّ أمَّتَكَ لا تَستطيعُ خَمسينَ صَلاةً في كُلِّ يومٍ، وإنِّي والله قدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وعَالَجْتُ بني إِسْرائِيلَ أَشَدَّ المُعَالَجَةِ، فارجِعْ إلى ربك فسَلْهُ التخْفِيفَ لأُمَّتِكَ، فرجَعْتُ، فوضَعَ عنِّي عَشْراً، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَال مِثْلَهُ، فرجَعْتُ فوضَعَ عنِّي عَشْراً، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فرَجَعْتُ فوضَعَ عنِّي عَشْراً، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فقالَ مِثْلَهُ، فرجَعتُ فأُمِرْتُ بعَشْرِ صَلواتٍ كُلَّ يَومٍ، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَالَ مِثْلَهُ، فرجَعْتُ فأُمِرْتُ بخَمسِ صلواتٍ

كُلَّ يومٍ، فرجَعتُ إلى مُوسَى فقال: بِمَ أُمِرْتَ؟ قلت: أُمِرْتُ بخَمسِ صَلواتٍ كُلَّ يَومٍ، قال: إنَّ أُمَّتَكَ لا تَستطيعُ خَمسَ صَلواتٍ كُلَّ يومٍ، وإنِّي قدْ جَرَّبْتُ النَّاسَ قَبْلَكَ وعَالَجْتُ بني إِسْرائيلَ أشَدَّ المُعَالجَةِ، فارجِعْ إلى ربكَ فسَلْهُ التخْفِيفَ لأُمَّتِكَ"، قَالَ: "سَأَلْتُ ربي حتَّى استَحْيَيْتُ ولكنِّي أرْضَى وأُسلِّمُ" قال: "فلمَّا جاوَزْتُ نادَى مُنادٍ: أمضَيْتُ فَريضَتِي، وخفَّفْتُ عن عِبادِي". "عن قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة: أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم حدَّثهم عن ليلة أسري به: بينما أنا نائم في الحطيم - وربما قال: في الحجر - " بكسر الحاء "مضطجعاً" والترديد من الراوي، اشتبه عليه أنه سمع (في الحطيم)، أو (الحجر)، وكثير من علماء العربية يرون (الحجر) و (الحطيم) شيئاً واحداً، ويقولون: سمي حجراً لما حُجر عليه بحيطانه، وسمي حطيماً لأنه حُطم جداره؛ أي: كسر عن مساواة جدار الكعبة. وقال بعضهم: هو غيره. فقال مالك: (الحطيم) ما بين المقام إلى الباب. وقال ابن جريج: هو ما بين الركن والمقام وزمزم، و (الحجر) حيث ينحطم الناس للدعاء؟ أي: ينكسر. وقيل: ما بين الركن الأسود إلى الباب. وقال ابن عباس - رضي الله عنه -: (الحطيم) جدار الكعبة، و (الحجر) ما أحاط به (الحطيم) مما يلي الميزاب من الكعبة. "إذ أتاني آت" يريد به جبريل - عليه السلام -. "فشق ما بين هذه إلى هذه، يعني من ثغرة نحره"؟ أي: من نقرة نحره "إلى شعرته" بكسر الشين؛ أي: إلى عانته، والشعرة: منبت شعر العانة. "فاستخرج قلبي" قيل: هذا الشق غير الشق الذي كان في صغره؛ لأن ذاك كان لأن يخرج من قلبه مادة الهوى، ولأن يصير قلبه مثل قلوب الأنبياء، وهذا

كان لأن يدخل فيه كمال المعرفة والعلم والإيمان، ولأن يصير قلبه مثل قلوب الملائكة. "ثم أُتيت بطست من ذهب مملوءٍ إيماناً" قيل: لعله من باب التمثيل، أو تَمثَّل له الإيمان بصورة الجسم كما تَمثَّل له أرواح الأنبياء بالصور التي كانوا عليها. "فغُسل قلبي" وهذا الغَسل كان لتصفيته وتزييد قابليته لمعرفته ما عجز القلوب عن معرفته. "ثم حُشي" على بناء المجهول؛ أي: مُلئ إيماناً وحكمة بدليل الرواية الأخرى. "ثم أعيد" إلى مكانه. "وفي رواية: ثم غُسل البطن بماء زمزم، ثم مُلئ إيماناً وحكمة". "ثم أتيت بدابة" هي البراق. "دون البغل وفوق الحمار، أبيض، يضع خطوه عند أقصى طَرْفه"؟ أي: عند غاية مدِّ بصره. "فحُملت عليه، فانطلق بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح"؟ أي: طلب فتح بابها. "قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد" وفيه إشارة إلى أنه إنما استفتح لكون إنسان معه، ولو انفرد لما طلب الفتح، وإلى أن السماء محروسةٌ لا يقدر أحد أن يمر عليها أو يدخلها إلا بإذن الحارسين. "قيل: وقد أرسل إليه؟ "؟ أي: هل أرسل الله إلى محمد للعروج رسولاً؟. "قال: نعم، قيل: مرحباً به"؟ أي: لقي رحبةً وسعة.

"فنعم المجيء جاء" وفيه تقديم وتأخير، والمخصوص بالمدح محذوف فيه، تقديره: جاء فنعم المجيءُ مجيئُه. "ففتح"؛ أي: باب السماء الدنيا. "فلما خلصت"؛ أي: وصلت إلى السماء الدنيا. "فإذا فيها آدم عليه الصلاة والسلام"، (إذا) للمفاجأة. "فقال"؛ أي: جبريل: "هذا أبوك آدم فسلَّم عليه، فسلَّمت عليه فردَّ السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح" قيل: إنما أُمر بالتسليم على الأنبياء وإن كان أفضل منهم؛ لأنه كان عابراً عليهم، وكان في حكم القائم وهم في حكم القعود، والقائم يسلِّم على القاعد. "ثم صعد بي حتى أتى السماء الثانية فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أُرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت إذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة"؛ يعني: كل منهما ابن خالة الآخر؛ لأن عيسى بن مريم بنت عمران، ويحيى بن إيشاع بنت عمران. "قال: هذا يحيى وعيسى فسلِّم عليهما، فسلمت فردَّا، ثم قالا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففُتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه فردَّ ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى إلى السماء الرابعة فاستفتح، قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا إدريس قال: هذا أدريس فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه فرد ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح

والنبي الصالح، ثم صعد بي إلى السماء الخامسة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال: هذا هارون فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة، فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، فلما خلصت فإذا موسى قال: هذا موسى فسلِّم عليه، فسلمت عليه فرد السلام، ثم قال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت"؟ أي: عن موسى. "بكى قيل له: ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأن غلاماً بُعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي" إنما بكى عليه السلام إشفاقاً على أمته حيث قصر عددهم عن عدد أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، لا حسداً عليه؛ لأن ذلك لا يليق بصفات الأنبياء. وأما قوله: (أن غلاماً بعث بعدي) فلم يكن على سبيل الإزراء، بل على معنى تعظيم منة الله على محمد صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك بلا طول عمرٍ في عبادته. "ثم صعد إلى السماء السابعة فاستفتح قيل: من هذا؟ قال: جبريل، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: وقد أرسل إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به فنعم المجيء جاء، فلما خلصتُ فإذا إبراهيم عليه السلام، قال: هذا أبوك إبراهيم فسلِّم عليه، فسلَّمت عليه فردَّ السلام، ثم قال: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح". قيل: المرئيُّ كان أرواح الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - متشكِّلة بصورهم التي كانوا عليها إلا عيسى بن مريم فإنه مرئيٌّ بشخصه، ورؤيتهم على

الترتيب المذكور تدل على تفاوت منازلهم وعروجهم، وعبورُه - صلى الله عليه وسلم - عن جميعهم يدل على أنه - صلى الله عليه وسلم - أعلى منهم درجةً ورتبةً وعروجاً. "ثم رفعت لي"؛ أي: جُعلت قريبة "سدرة المنتهى" وهي شجرة في أقصى الجنة ينتهي إليها أعمال العباد، أو ينتهي إليها علم الملائكة والرسل. "فإذا نبَقُها" بكسر الباء الموحدة؛ أي: ثمرتها. "مثل قلال هجر": جمع قلة، وهي جرَّة عظيمة، و (هَجَر) بالفتحات: قرية قريبة من مكة كانت يُعمل فيها القِلاَلُ مثلُ الحِبَاب. "وإذا ورقها مثل آذان الفيلة" بكسر الفاء وفتح الياء: جمع الفيل، كقِرَدة جمع قردٍ. "قال"؛ أي: جبريل عليه السلام: "هذا سدرة المنتهى، فإذا أربعة أنهارٍ: نهران باطنان ونهران ظاهران، قلت: ما هذان يا جبريل؟ قال: أما الباطنان فنهران في الجنة" يقال لأحدهما: كوثر وللآخر: نهر الرحمة، وإنما قال: باطنان، لخفاء أمرهما فلا تهتدي العقول إلى وصفهما، أو لأنهما مَخفيَّان عن أبصار الناظرين فلا يُريان حتى يَصُبَّا في الجنة. "وأما الظاهران فالنيل والفرات" والأوجه أنهما النهران المسميان على ما عرفنا بأعيانهما، وتكون مادتهما مما يخرج من أصل السدرة. ويحتمل أن تكون تسميتهما بهذين الاسمين من باب الاستعارة، بأن شبَّههما بنهري الجنة في الهضم والعذوبة، أو من باب تَوافُق الأسماء بأن يكون اسما نهري الجنة موافقتين لاسمي نهر الدنيا. "ثم رفع لي البيت المعمور" قيل: هو بيتٌ في السماء السابعة حيال الكعبة، حرمتُه في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، ويقال لهذا البيت أيضاً: صراخ.

"ثم أُتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل، فأخذت اللبن، فقال: هي الفطرة التي أنت عليها وأمتك" وهي الاستعداد لقبول السعادات الأبدية: أولُها الانقياد للشرع، وآخِرها الوصولُ إلى الله تعالى. "ثم فرضت علي الصلاة خمسين صلاة كل يوم" قيل: كانت كلُّ صلاة منها ركعتين. "فرجعت فمررت على موسى فقال: بم أمرت؟ قلت: أُمرت بخمسين صلاة كل يوم، قال"؛ أي: موسى: "إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كلَّ يوم وإني والله قد جرَّبت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة"؛ أي: مارستُهم ولقيت الشدة فيما أردت منهم من الطاعة. "فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشراً" قيل: إنما جاز مراجعته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الخمسين لم تكن واجباً قطعاً، وإلا لما جاز المراجعة، وقيل: فرضت ثم نسخت بخمس، وفيه دليلٌ على أنه يجوز النسخ قبل وقوعه. "فرجعت إلى موسى فقال مثله"؛ أي: مثل ما قال أولاً، وهو: (عالجت بني إسرائيل فارجع إلى ربك فسله التخفيف). "فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فوضع عني عشراً، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بعشر صلوات كلَّ يوم وليلة، فرجعت إلى موسى فقال مثله، فرجعت فأُمرت بخمس صلوات كل يوم وليلة، فرجعت إلى موسى فقال: بم أُمرت؟ قلت: أمرت بخمس صلوات كلَّ يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فسله التخفيف لأمتك، قال: سألت ربي حتى استحييت" فلا أرجع، فإن رجعت

كنتُ غير راضٍ ولا مسلِّمٍ. "ولكني أرضى" بما قضى الله. "وأسلِّم" أمري وأمرَهم إلى الله. "قال: فلما جاوزت نادى منادٍ: أمضيتُ"؛ أي: أنفذت "فريضتي وخففت عن عبادي" فهي خمس فرائض في التخفيف وخمسون فريضة في التضعيف؛ لقوله تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]. * * * 4578 - ورَوَى ثَابتٌ عَنْ أنسِ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أُتيتُ بالبُراقِ، وهوَ دابَّةٌ أبيضُ طويلٌ فَوقَ الحِمارِ ودُونَ البَغْلِ، يَقَعُ حافِرُهُ عندَ مُنْتَهىَ طَرْفِهِ، فركِبْتُهُ حتَّى أتيتُ بَيْتَ المَقْدِسِ، فربَطْتُهُ بالحَلْقَةِ التي يَربطُ بها الأَنبيَاءُ"، قَالَ: "ثُمَّ دخلتُ المَسجِدَ فصلَّيْتُ فيهِ رَكعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ، فجَاءَنِي جِبريلُ بإناءٍ مِنْ خَمْرٍ وإِناءٍ من لَبن، فاخْتَرتُ اللَّبن، فَقَالَ جِبريْلُ: اختَرْتَ الفِطْرَةَ، ثُمَّ عَرَجَ بنا إلى السَّماءِ". وقَالَ في السَّماءِ الثَّالِثَة: "فإذا أَنَا بيُوسُفَ، إذا هوَ قدْ أُعطِيَ شَطْرَ الحُسْنِ، فَرَحَّبَ بي ودَعا لي بخَيْرٍ". وقالَ في السَّماءِ السَّابعة: "فإذا أنا بإِبْراهيمَ مُسْنِداً ظَهْرَهُ إلى البَيْتِ المَعْمُورِ، وإذا هوَ يَدخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبعونَ ألْفَ مَلَكٍ لا يَعودونَ إليهِ، ثمَّ ذَهبَ بى إلى سِدْرَةِ المُنْتهَى، وإِذَا وَرَقُها كآذانِ الفِيَلَةِ، وإذا ثَمَرُها كالقِلالِ، فلمَّا غَشِيَها من أمْرِ الله ما غَشِيَ تَغيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ منْ خَلْقِ الله يَستطيعُ أنْ يَنْعَتَها منْ حُسْنِها، وَأوْحى إليَّ مَا أوْحَى، ففَرضَ عَليَّ خَمسينَ صَلاةً في كُلِّ يَوْمٍ ولَيلةٍ، فنزَلْتُ إلى مُوسَى". وقال: "فلمْ أَزَلْ أرْجِعُ بَيْنَ ربي وبَيْنَ مُوسَى حتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ! إنَّهُنَّ خَمسُ صَلواتٍ كُلَّ يَوْمٍ وليلةٍ، لكُلِّ صَلاةٍ عَشْرٌ، فذلِكَ خَمْسُونَ صَلاةً، ومَنْ هَمَّ بحَسنةٍ فلمْ يَعْمَلْها كُتِبَتْ لهُ حَسنةً، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ لهُ عَشْراً، ومَنْ هَمَّ بسَيئةٍ

فلمْ يَعْمَلْها لمْ تُكْتَبْ شَيئاً، فإنْ عَمِلَها كُتِبَتْ سَيئةً واحِدةً". "وروى ثابت عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أُتيت بالبراق وهي دابة طويل أبيض فوق الحمار دون البغل يقع حافره عند منتهى طرفه، فركبته حتى أتيت بيت المقدس فربطته بالحلقة التي كانت تَربط بها الأنبياء"؛ أي: تَربط الأنبياءُ بالحلقة الدابةَ. "قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفطرة، ثم عرج بنا إلى السماء وقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "في السماء الثالثة: فإذا أنا بيوسف إذ هو قد أُعطي شطر الحسن"؛ أي: نصفه، والمراد هنا البعض مطلقاً؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - كان أملح منه. "فرحب بي"؛ أي: قال: مرحباً. "ودعا لي بخير، وقال في السماء السابعة: فإذا أنا بإبراهيم مسنداً ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو"؛ أي: البيت المعمور "يدخله كلَّ يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا ثمرها كالقلال" اختص النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك بالقربات العميمة والكرامات الجسيمة فغشي السدرة من أنواع الألطاف ما لا يقدر على وصفه تشرلفاً لحبيبه. "فلما غشيها"؛ أي: جاء السدرة "من أمر الله ما غشي تغيرت"؛ أي: السدرة. "فما أحد من خلق الله يستطيع أنا ينعتها"؛ أي: يصفها "من حسنها، وأوحى إلي ما أوحى، ففَرض عليَّ خمسين صلاة في كلِّ يوم وليلة، فنزلت إلى موسى. وقال: فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى حتى قال: يا محمد

إنهن خمس صلوات كلَّ يوم وليلة، لكلِّ صلاة عشرٌ فذلك خمسون صلاة"؛ أي: من حيث الثوابُ والأجر. "من هَمَّ بحسنة"؛ يعني: من أراد أن يعمل حسنة. "فلم يعملها، كُتِبت له حسنة، فإن عملها، كُتِبت له عشر"؛ أي: عشر حسنات. "ومن هم بسيئة"؛ أي: أراد أن يعمل سيئة. "فلم يعملها، لم يكتب عليه شيء، فإن عملها، كتبت عليه سيئة واحدة": وهذا من جملة إنعامه الكامل على عباده، ونتائج سبقِ رحمتِهِ على غضبه. * * * 4579 - عنِ ابن شِهَابٍ، عَنْ أَنسٍ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: كَانَ أَبو ذَرٍّ يُحدِّث: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "فُرِجَ عنِّي سَقْفُ بَيتي وأَنَا بمكَّةَ، فنزلَ جِبريْلُ ففَرَجَ صَدرِي، ثُمَّ غَسلَهُ بماءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جاءَ بطَسْتٍ منْ ذَهَبٍ مُمتلِئٍ حِكمةً وإِيْمَاناً فأفرَغَهُ في صَدرِي، ثُمَّ أطبَقَهُ، ثُمَّ أخذَ بيدِي فَعَرَجَ بي إلى السَّماءَ، فلمَّا جِئتُ إِلى السَّماءَ الدُّنْيا قَالَ جِبريلُ لخازِنِ السَّماءَ: افْتَحْ، فلمَّا فَتحَ عَلَوْنا السَّماءَ الدُّنْيا، فإذَا رَجُلٌ قاعدٌ، على يَمينِه أَسْوِدَةٌ، وعلى يَسارِهِ أسْوِدَةٌ، إذا نَظَرَ قِبَلَ يَمينِهِ ضَحِكَ، وإذا نظرَ قِبَلَ شِمالِه بَكَى، فَقَالَ: مَرْحَباً بالنَّبيِّ الصَّالحِ والابن الصَّالح، قُلْتُ لِجبريلَ: مَنْ هذا؟ قَالَ: هذا آدمُ، وهذِه الأَسْوِدَةُ عنْ يَمينِه وعنْ شِمالِهِ نَسَمُ بنيهِ، فأهْلُ اليَمينِ منهُمْ أهْلُ الجَنَّةِ، والأسْوِدَةُ التي عنْ شِمالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فإذا نَظَرَ عنْ يَمينِه ضَحِكَ، وإذا نظرَ قِبَلَ شِمالِهِ بَكَى". وقال ابن شِهابٍ - رضي الله عنه -: فأخبرَني ابن حَزْمٍ: أنَّ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - حَيَّةَ

الأنصارِيَّ كانا يَقُولان: قالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ثمَّ عُرِجَ بي حتَّى ظَهرْتُ بِمُسْتَوًى أَسْمعُ فيهِ صَريفَ الأقلامِ". وقالَ ابن حَزْمٍ وأنسٌ: قَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ففَرَضَ الله على أُمَّتي خَمسينَ صَلاةً، فرجَعْتُ حتَّى مَرَرْتُ على مُوسَى عليه السَّلامُ، فَرَاجَعَني، فوَضَعَ شَطْرَها"، وقَالَ في الآخرِ: "فراجَعْتُه، فَقَالَ: هِيَ خَمسٌ، وهي خَمْسُونَ، ما يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ، فرجَعْتُ إلى مُوسَى فَقَال: رَاجِعْ ربَّكَ، فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ ربي، ثُمَّ انطلَقَ بي حتَّى انتهىَ بي إِلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وغَشِيَها ألْوانٌ لا أدْرِي ما هِيَ، ثمَّ أُدْخِلْتُ الجَنَّةَ، فإذا فيها جَنَابذُ الُّلؤْلؤِ، وإذا تُرابُها المِسْكُ". "عن ابن شهاب، عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان أبو ذر - رضي الله عنه - يحدث: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فُرِّج": على بناء المجهول؛ أي: شق وكشف. "عني سقف بيتي وأنا بمكة": قيل: التوفيق بين هذه الرواية، وبين رواية أنس: أنه كان في الحطيم: ما ذكر أصحاب الحديث أنه كان للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم معراجان؛ فرواية أنس في معراجه حالة اليقظة، ورواية أبي ذر في معراجه حالة النوم. "فنزل جبريل، ففرَّج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمةً وإيماناً، فأفرغه"؛ أي: صبَّ ما في الطست. "في صدري، ثم أطبقه"؛ أي: غطاه. "ثم أخذ بيدي، فعرج بي إلى السماء، فلما جئت إلى السماء الدنيا، قال جبريل لخازن السماء: افتح، فلما فتح علونا السماء الدنيا، إذا رجلٌ قاعدٌ على يمينه أسودة": جمع سواد، وهو شخص الإنسان. "وعلى يساره أسودة، إذا نظر قِبَلَ يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَلَ شماله

بكى، فقال. مرحباً بالنبى الصالح والابن الصالح، فقلت لجبريل: من هذا؟ قال: آدمُ، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نَسَمُ بنيه"؛ أي: أرواح أولاده، وقيل: هي الأجسام المصورة في صورة الإنسان. "فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَلَ شماله بكى. وقال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم: أن ابن عباس وأبا حيَّةَ الأنصاري كانا يقولان: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ثم عرج بي حتى ظهرت"؛ أي: صعدت وعلوت. "لمستوَى": بفتح الواو؛ أي: إلى مكان عالٍ، فاللام بمعنى: إلى، كقوله تعالى: {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5]، وقيل: المستوى: المستقرُ، وموضع الاستعلاء، واللام للعلة؛ أي: علوت لاستعلاء مستقر. "أسمع فيه صريفَ الأقلام"؛ أي: صوتها عند الكتابة في جريانها على اللوح، وقيل: المعنى: بلغت في الارتقاء إلى رتبة من العلياء حتى اطلعتُ على تصاريفِ الأحوال وجري المقادير من غير توسط جبريل وغيره من الملائكة عليهم السلام. "وقال ابن حزم وأنس - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت حتى مررتُ على موسى، فراجعني، فوضع شطرها"؛ أي: ترك نصفها. "وقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "في الآخر"؛ أي: في العَودِ الأخير. "فراجعته، فقال"؛ أي: الله تعالى. "هي خمس"؛ أي: بحسب العدد. "وهي خمسون"؛ أي: بحسب الثواب.

"ما يُبدَّل"؛ أي: ما يُغيَّر. "القولُ لديَّ، فرجعت إلى موسى فقال: راجعْ ربك، فقلت: استحييت من ربي، ثم انْطُلِقَ بي حتى انتُهيَ بي": كلاهما على صيغتي المجهول. "إلى سدرة المنتهى، وغشيها ألوان لا أدري ما هي، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جَنابذ اللؤلؤ": بفتح الجيم: جمع (جُنبذة) بالضم، وهي: القبة. "وإذا ترابها المسك". * * * 4580 - عن عبدِ الله - رضي الله عنه - قَالَ: لمَّا أُسرِيَ بِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - انتُهِيَ بهِ إلى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وهيَ في السَّماءِ السَّادِسَة، إِليها يَنتهِي ما يُعْرَجُ بهِ مِنَ الأَرضِ فيُقبَضُ مِنْها، وإِليها يَنتهي ما يُهْبَطُ بهِ مِنْ فَوقِها فيُقْبَضُ مِنْها، قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى}؛ قَالَ: فَراشٌ منْ ذَهَبٍ، قَالَ: فأُعطِيَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ثَلاثاً: أُعطِيَ الصَّلواتِ الخَمسَ، وأُعطِيَ خَواتيمَ سُورَةِ البقَرَةِ، وغُفِرَ لمنْ لا يُشرِكُ بالله مِنْ أُمَّتِه شَيئاً المُقْحِمَاتُ. "عن عبد الله - رضي الله عنه - أنه قال: لما أُسرِي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انتُهِي به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السادسة": قيل: المشهور المروي عن الجمهور: أنها في السابعة، فلعل السادسة وقع غلطاً من بعض الرواة. "إليها ينتهي ما يُعرَج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يُهبَط به"؛ أي: ينزل. "من فوقها فيقبض منها، قال: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} ": قيل: يغشاها جمٌّ غفير من الملائكة، روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "رأيت على كل ورقة ملكاً قائماً يسبح"، وقيل: رفرفٌ من الطير الخضر، وهي أرواح الأنبياء.

"قال"؛ أي: ابن مسعود. "فَراش من ذهب": وهي - بفتح الفاء -: طير معروف يتهافت في النار، وهذا لا ينافي ذلك؛ لجواز كون هذا أيضاً مما غشيها، وجعلها من الذهب لصفائها وإضاءتها. ووجه الجمع بين هذا وبين قوله: "وغشيها ألوان لا أدري ما هي": أن الثاني إشارة إلى أنها لا تشبه الأعيان المشهورة المستحضرة في النفوس، فتُنْعَتْ لكم بذكر نظائرها. "قال: فأعطي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثاً؛ أعطي الصلوات الخمس، وأعطي خواتيم سورة البقرة": قيل: معناه: استجيب له - عليه السلام - مضمون الآيتين الأخيرتين من قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا} [البقرة: 285] إلى آخر السورة. وعن الحسن وابن سيرين ومجاهد - رضي الله عنه -: أن الله تعالى تولى إيحاءهما إليه بلا واسطة جبريلَ ليلة المعراج، فهما مكيتان عندهم. "وغُفِر": على صيغة المجهول. "لمن لا يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات (¬1) ": وهي الذنوب العظام التي تُقحِم أصحابها في النار؛ أي: تلقيهم فيها، وهي الكبائر. * * * 4581 - وعن أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لقدْ رأَيْتُنِي في الحِجْرِ وقريشٌ تَسْألُنِي عنْ مَسْرايَ، فَسَألَتْنِي عنْ أَشْيَاءَ منْ بيتِ المَقْدِسِ لمْ أُثْبتْها، فكُرِبْتُ كَرْباً ما كُرِبْتُ مِثلَهُ، فرفَعَهُ الله لِي أَنظُرُ إليهِ، مَا يَسْألوننِي عَنْ شَيءٍ إِلاَّ أنبأْتُهُمْ، وَلقد رأيْتُنِي في جَماعةٍ مِنَ الأنبياءِ، فإذا مُوسَى قَائِمٌ يُصلِّي، فإذا رَجُلٌ ¬

_ (¬1) في "ت" و "غ": "من المقحمات"، والتصويب من "صحيح مسلم" (173).

ضَرْب جَعْدٌ كأنّهُ منْ رِجالِ شَنُوءَةَ، وإذا عيسَى قائِمٌ يُصلِّي، أَقْربُ النَّاسِ بهِ شَبَهاً عُرْوَةُ بن مَسعودٍ الثَّقَفيُّ، وإذا إِبْرَاهيمُ قائِمٌ يُصلِّي، أشْبَهُ النَّاسِ بهِ صَاحِبُكُمْ - يَعني: نَفْسَهُ - فَحَانَتْ الصَّلاةُ فأَمَمْتُهُمْ، فلمَّا فَرَغْتُ مِنَ الصَّلاةِ قَالَ لِيْ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ! هذا مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ فسَلِّمْ عليهِ، فالتَفَتُّ إليهِ، فبَدَأَنِي بالسَّلامِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد رأيتني": اللام جواب قسم مقدر. "في الحجر"؛ أي: حجر الكعبة. "وقريشٌ تسألني عن مَسْراي" بفتح الميم، مصدر ميمي؛ أي: عن سيري إلى بيت المقدس. "فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أُثبتها"؛ أي: لم أشاهدها على التعيين. "فكُرِبت"؛ أي: أصابني كربٌ، وهو الغمُّ. "كرباً ما كربت مثله، فرفعه الله"؛ أي: رفع الله بيت المقدس. "لي أنظر إليه"؛ يعني: رفع الحجاب بيني وبينه حتى شاهدته. "ما يسألونني عن شيء إلا أنبأتهم"؛ أي: أخبرتهما. "وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء، فإذا موسى قائمٌ يصلي، فإذا رجلٌ ضربٌ"؛ أي: خفيف اللحم. "جعدٌ، كأنه من رجال شنوءة": قبيلة من اليمن. "وإذا عيسى قائم يصلي، أقربُ الناس به شبهاً عروةُ بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم؛ يعني: نفسه"؛ أي: نفس النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، هذا التفسير من الراوي.

فصل في المعجزات

"فحانت الصلاة"؛ أي: جاء وقتها. "فأممتهم، فلما فركت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك خازن النار، فسلِّم عليه، فالتفت إليه، فبدأني بالسلام"؛ ليزيل ما استشعر من الخوف؛ لكونه خازن النار. * * * فصل في المُعْجِزَاتِ (فصل في المعجزات) جمع: معجزة، وهي: أمر بخلاف العادة، يظهر على يدِ من يدَّعي النبوةَ دالاً على صدقة. 4582 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رضي الله عنه - قَالَ: نظَرتُ إلى أَقْدَامِ المُشْرِكِينَ على رُؤوسِنَا ونَحْنُ في الغَارِ، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ الله! لوْ أنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ إِلَى قَدمِهِ أبْصَرَنا، فَقَالَ: "يَا أَبَا بَكْرٍ! ما ظنُّكَ باثْنَينِ الله ثالِثُهُمَا؟ ". "عن أنس بن مالك: أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: نظرت إلى أقدام المشركين على رؤوسنا ونحن في الغار": وهو الكهف في الجبل. "فقلت: يا رسول الله! لو أن أحدهم نظرَ إلى قدمه أبصرنا، فقال: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين"؛ يعني: نفسه وأبا بكر. "الله ثالثهما؟ "؛ أي: في المعاونة، واتحاد الضمير في (اثنين) و (ثالثهما) دليلٌ على كرامة أبي بكر وفضيلته. * * *

4583 - وقَالَ البَراءُ بن عَازِبٍ لأَبِي بَكْرٍ: يَا أَبَا بَكْرٍ! حَدِّثْنِي كَيْفَ صنَعْتُما حِينَ سَرَيْتَ معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: أسْرَيْنا لَيْلَتَنا ومِنْ الغَدِ حتَّى قَامَ قَائِمُ الظَّهيرَةِ وخَلا الطَّريقُ لا يَمُرُّ فيهِ أَحَدٌ، فرُفِعَتْ لنا صَخْرةٌ طَويْلةٌ لَهَا ظِلٌّ لمْ تأتِ عليهِ الشَّمسُ، فنزَلْنا عِندَهُ، وسَوَّيْتُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مَكَاناً بيدِي يَنَامُ عليهِ، وبَسَطْتُ عليهِ فَرْوَةً، وقُلْتُ: نَمْ يَا رَسُولَ الله! وأَنَا أنفُضُ ما حَوْلَكَ، فنامَ، وخَرَجْتُ أنفُضُ ما حَوْلَهُ، فإِذَا أَنَا براعٍ مُقبلٍ، قُلْتُ: أفي غَنَمِكَ لَبن؟ قَالَ: نعَمْ، قُلْتُ: أفتحلِبُ لي؟ قَالَ: نَعَمْ، فأَخَذَ شَاةً فَحَلَبَ في قَعْبٍ كُثْبةً مِنْ لَبن، ومَعِي إِدَاوةٌ حَمَلتُها للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَرْتَوِي فِيْهَا، يَشْرَبُ ويَتَوضَّأُ، فأتيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُ فوافَقْتُهُ حتَّى اسْتَيْقَظَ، فصَبَبْتُ مِنَ المَاءِ على اللَّبن حتَّى بَرَدَ أَسْفَلُهُ، فقُلْتُ: اشرَبْ يَا رَسُولَ الله! فشَرِبَ حتَّى رَضيْتُ، ثُمَّ قَالَ: "ألَمْ يَأْنِ للرَّحِيلِ؟ "، قُلتُ: بَلَى، قال: فارْتحَلْنا بَعْدَ مَا مالَتِ الشَّمْسُ، واتَّبَعَنا سُراقَةُ بن مَالِكٍ، فَقُلْتُ: أُتِينا يَا رَسُولَ الله! فَقَالَ: "لا تَحزَنْ، إنَّ الله مَعنا"، فدَعَا عَلَيْهِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فارتَطَمَتْ بهِ فرَسُهُ إلى بَطنِها في جَلَدٍ مِنَ الأرْضِ، فَقَال: إِنِّي أَرَاكُمَا دَعُوْتُما عَلَيَّ فادعُوَا لي، فالله لكُمَا أنْ أرُدَّ عنكُما الطَلَبَ، فدَعا لهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَنَجَا، فجَعَلَ لا يَلقَى أَحَداً إلَّا قَالَ: كُفيتُمْ مَا هُنَا، فلا يَلقَى أحداً، إلَّا ردَّهُ. "وقال البراء بن عازب لأبي بكر: يا أبا بكر! حدثني كيف صنعتما حين سَرَيت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ": سَرَى وأَسْرَى بمعنى، وهو: السير بالليل. "قال: أسرينا ليلتنا ومن الغد حتى قام قائمُ الظهيرة": وهي نصف النهار. "وخلا الطريقُ لا يمرُّ فيه أحدٌ، فرفعت لنا"؛ أي: ظهرت. "صخرة طويلة لها ظلٌّ، لم تأتِ عليها الشمس، فنزلنا عنده، وسوَّيتُ للنبي - صلى الله عليه وسلم - مكاناً بيدي، ينام عليه"؛ أي: على ذلك المكان. "وبسطتُ عليه فروة"؟ أي: ما يلبس من جلد الضأن وغيره.

"وقلت: نمْ يا رسول الله! وأنا أنفضُ ما حولك"؟ أي: أحفظ ما حولك، وأحرسك من الأعداء، وأتجسَّس الأخبار من كل وجه. "فنام وخرجت أنفض ما حوله، فإذا أنا براعٍ مقبل، قلت: أفي غنمك لبن؟ قال: نعم، قلت: أفتحلب؟ قال: نعم، فأخذ شاة فحلب في قَعْبٍ" بفتح القاف وسكون العين المهملة: قدح من خشب مقعر، وقيل: قدح صغير. "كُثْبة" بضم الكاف وسكون الثاء المثلثة؛ أي: قدر حلبة، وقيل: ملء القدح. "من لبن، ومعي إداوة": وهي - بكسر الهمزة وفتح الدال المهملة -: المطهرة. "حملتها للنبي - صلى الله عليه وسلم - يرتوي فيها"؛ أي: يكسر عطشه من مائها. "يشرب ويتوضأ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكرهت أن أوقظه، فوافقته": بتقديم الفاء على القاف؛ أي: فوافقته فيما هو عليه من النوم، ويروى بتقديم القاف من الوقوف؛ أي: صبرتُ، وتوقفت في المجيء إليه. "حتى استيقظ، وصببت من الماء على اللبن حتى برد أسفله، فقلت: اشرب يا رسول الله! فشرب حتى رضيت به، ثم قال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "ألم يأنِ للرحيل؟ "؟ أي: ألم يدخل وقت الارتحال؟ "قلت: بلى، قال: فارتحلنا بعدما مالت الشمس، واتَّبَعَنَا سُراقةُ بن مالك": كافر من كفار قريش. "فقلت: أُتينا يا رسول الله"؛ أي: جاءنا من يطلبنا. "فقال: لا تحزن إن الله معنا، فدعا - صلى الله عليه وسلم -، فارتطمت به فرسه"؛ أي: ساخت قوائمها.

"إلى بطنها": كما تسوخُ في الوحل. "في جَلَد": وهو - بفتحتين -: القطعة الغليظة الصلبة. "من الأرض، فقال: إني أراكما"؛ أي: أظنكما. "دعوتما عليَّ، فادعوا لي، فالله لكما"؛ أي: فالله شاهدٌ على أن لا أغْدِرَكُما في الردِّ عنكما، فـ (الله) مبتدأ، والخبر محذوف، وإن نصب فالتقدير: أُشهِد الله. "أن أرد": بحذف الجار؛ أي: بأن أرد. "عنكما الطلب"؛ أي: طلب الكفار. "فدعا له النبي عليه الصلاة والسلام، فنجا، فجعل لا يلقى أحداً"؛ أي: ما وصل سراقة أحداً من الكفار؛ لطلب النبي - صلى الله عليه وسلم -. "إلا قال. كفيتم"؛ أي: استغنيتم عن الطلب. "ما هاهنا": قيل: (ما) للنفي؛ أي: ليس هاهنا أحد، وقيل: بمعنى: (الذي)؛ أي: كفيتم الذي هاهنا؛ يعني: كفيتم الطلب في هذا الجانب. "فلا يلقى أحداً إلا رده"؛ وفاء بما وعد، ومراعاةً لما عهد. * * * 4584 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: سَمعَ عبدُ الله بن سَلامٍ بِمَقْدَمِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهوَ في أَرْضٍ يَخْترِفُ، فَأَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: إنِّي سَائِلُكَ عنْ ثلاثٍ لا يعلَمُهُنَّ إلَّا نبيٌّ: فما أَوَّلُ أَشْراطِ السَّاعةِ؟ وما أَوَّلُ طَعَامِ أَهْلِ الجَنَّةِ؟ وما يَنْزِعُ الوَلدَ إلى أبيهِ أوْ إلى أُمِّهِ؟ قَالَ: "أخبَرنِي بهِنَّ جِبريلُ آنِفاً، أمَّا أَوَّلُ أَشْراطِ السَّاعةِ فنارٌ تحشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إلى المَغْرِبِ، وأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ فزِيَادَةُ

كَبدِ حُوتٍ، وإِذَا سَبَقَ مَاءُ الرَّجُلِ مَاءَ المَرْأةِ نزَعَ الولدَ، وإِذَا سَبَقَ مَاءُ المَرأةِ نزَعَتْ"، قَالَ: أَشْهدُ أنْ لا إِلَهَ إِلاَّ الله وأنَّكَ رَسُولُ الله، ثُمَّ قَالَ: يا رَسُولَ الله! إنَّ اليَهُودَ قومٌ بُهْتٌ، وإنَّهُمْ إِنْ يَعلَمُوا بإسْلامِي قبلَ أَنْ تَسْألَهُمْ يَبْهتوني، فجَاءَت اليَهُودُ، فقال: "أيُّ رَجُلٍ عبدُ الله فيكُمْ؟ "، قالوا: خَيْرُنا، وابن خَيْرِنا، وسَيدُنا وابن سَيدِنا، قال: "أرأَيْتُمْ إنْ أسلَمَ عبدُ الله بن سَلامٍ؟ "، قالوا: أَعَاذَهُ الله مِنْ ذلكَ، فخرجَ عبدُ الله فَقَالَ: أَشْهدُ أنْ لا إِلهَ إلَّا الله وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ الله، فَقَالوا: شَرُّنا وابن شَرِّنا، فانتقَصُوهُ، قال: هَذَا الَّذي كُنْتُ أَخَافُ يَا رَسُولَ الله!. "وقال أنس - رضي الله عنه -: سمع عبد الله بن سلام بمقدَمِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -"؛ أي: بقدومه - صلى الله عليه وسلم -. "وهو"؛ أي: عبد الله بن سلام. "في أرض يخترِفُ"؛ أي: يجني الثمرة من الشجر. "فأتى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، فما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد"؛ أي: ما يشبهه "إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال: أخبرني بهن جبريل آنفاً؛ أما أول أشراط الساعة؛ فنارٌ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة؛ فزيادةُ كبد الحوت"؛ أي: طرف كبده، وهي أطيب ما يكون من كبده. "وإذا سبق"؛ أي: علا وغلب. "ماءُ الرجل ماءَ المرأة نزع"؛ أي: جذب ذلك السبق "الولدَ" إلى مشابهة الرجل، أو جذب الرجل الولد إلى مشابهته بسبب سبق مائه على مائها. "وإذا سبق ماء المرأة نزعت"؛ أي: جذبت المرأة الولد إلى مشابهتها بسبب غلبة مائها على مائه.

"قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله! إن اليهود قومٌ بُهْتٌ" بضم الباء ثم السكون: جمع بَهُوت، من بناء المبالغة؛ أي: كثيرُ البهتان؛ يعني: أنهم قوم لا يبالون بالكذبِ والافتراءِ على الناس. "وإنهم إن يعلموا بإسلامي من قبل أن تسألهم عني"؛ أي: قبل سؤالك منهم عن حالي. "يبهتوني"؛ أي: يقولون عليَّ ما لم أفعله. "فجاءت اليهود، فقال: أيُّ رجل عبد الله فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وسيدنا وابن سيدنا، قال: أرأيتم"؛ أي: أخبروني "إن أسلم عبد الله بن سَلامٍ؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالوا: شرنا وابن شرنا، فانتقصوه"؛ أي: عابوه وحقروه. "قال"؛ أي: عبد الله بن سلام: "هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله". * * * 4585 - وقَالَ أَنسٌ - رضي الله عنه -: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - شَاوَرَنا حِيْنَ بلَغَنا إِقْبالُ أبي سُفْيانَ، فَقَامَ سَعدُ بن عُبادَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله! والّذِي نَفْسِي بيدِهِ، لوْ أمَرْتَنَا أنْ نُخِيضَها البحرَ لأخَضْنَاها، ولوْ أمَرْتَنا أنْ نَضْرِبَ أكبَادَها إلى بَرْكِ الغِمادِ لفعَلْنا، قال: فندَبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - النَّاسَ، فانطَلَقُوا حتَّى نزَلُوا بَدْراً، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا مَصْرَعُ فُلانٍ"، ويَضعُ يَدهُ على الأَرْضِ هَاهُنَا وهَاهُنَا، قَالَ: فَمَا مَاطَ أحدُهُمْ عن مَوْضعِ يَدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقال أنس - رضي الله عنه -: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاورَ حين بلغنا إقبالُ أبي سفيان"؛ أي: حين سمعنا أن أبا سفيان أقبل من مكة مع الجيش للمحاربة.

مشاورته - صلى الله عليه وسلم - أهل المدينة كان امتحاناً على وثوق عهدهم. "فقام سعد بن عبادة، فقال: يا رسول الله! والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نُخِيضَها"؛ أي: ندخل الخيل والإبل؛ لدلالة الحال عليهما. "البحر لأخضناها"؛ أي: لأدخلناها البحر. "ولو أمرتنا أن نضربَ أكبادها": ضرب أكباد الخيل والإبل كنايةٌ عن تكليفها السير الكثير. "إلى بَرْكِ الغِماد": بكسر الباء الموحدة وفتحها، والفتح أشهر، قال التوربشتي: كسر الباء أصح الروايتين، وبضم الغين المعجمة وكسرها أيضاً: اسم موضع بأقصى اليمن، وقيل: وراء مكة بخمس ليالٍ بناحية الساحل مما يلي اليمن؟ يعني: لو أمرتنا أن نفعلَ خلاف العادة بالسير والقتال إلى موضع ذلك، "لفعلنا"، فكيف لا نسير ونقاتل ببدر مع قربها؟! "قال: فندب"؛ أي: دعا. "رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الناسَ، فانطلقوا"؛ أي: فذهبوا. "حتى نزلوا بدراً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا مصرعُ فلان"؛ أي: مقتله. "ويضع يده على الأرض هاهنا وهاهنا، قال: فما ماطَ"؛ أي: ما بعد، وما تجاوز "أحدُهم عن موضع يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: عن الموضع الذي عيَّنه - صلى الله عليه وسلم - بيده لمصرع كفار قريش في بدر. * * * 4586 - وعَنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ وهوَ في قُبَّةٍ يَوْمَ بَدْرٍ: "اللهمَّ! أَنشُدُكَ عَهْدَكَ ووعْدَكَ، اللهمَّ! إِنْ تَشَأْ لا تُعبَدُ بعدَ اليومِ"، فأَخَذَ أبو بَكْرٍ بيَدِهِ فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ الله! ألْحَحْتَ على ربك، فخَرجَ وهوَ يَثِبُ في

الدِّرْعِ وهوَ يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو في قبة"؛ أي: خيمة. "يوم بدر: اللهم أنشدك عهدك ووعدك"؛ أي: أسألك إيفاء عهدك، وإنجاز وعدك، المشار إليه بقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، وفي سورتي (الفتح) و (النصر). "اللهم إن تشأ"؛ أي: عدمَ الإسلام، مفعوله محذوف؛ لدلالة السياق عليه؛ أي: إن تشأ أن لا تُعبَدَ، "لا تُعبَدُ بعد اليوم"؛ لأنه حينئذ لا يبقى على وجه الأرض مسلم. "فأخذ أبو بكر - رضي الله عنه - بيده فقال: حسبك يا رسول الله! ألححتَ على ربك"؛ أي: بالغت في الدعاء كلَّ المبالغة. إلحاحُهُ - صلى الله عليه وسلم - في دعائه تشجيعٌ للمسلمين، وتثبيتٌ لأقدامهم؛ لأنهم كانوا عالمين بأن دعاءه مستجاب البتة، لاسيما إذا بالغ فيه. وقول أبي بكر هذا يدل على أنه أقوى قلباً من الصحابة، وأوثقهم بإنجاز وعده تعالى. "فخرج"؛ أي: الرسول - صلى الله عليه وسلم -. "وهو يثب في الدرع"؛ أي: حال كونه مسرعاً فيها، "وهو يقول: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] "؛ أي: يدبرون. * * * 4587 - وعنِ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ بَدْرٍ: "هذا جِبريلُ آخِذٌ بِرَأسِ فرَسهِ، عَليهِ أداةُ الحَرْبِ".

"وعنه: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: هذا جبريلُ آخذٌ برأس فرسه عليه أداةُ الحرب"؛ أي: آلته. * * * 4588 - وقَالَ ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه -: بَيْنَما رَجُلٌ مِنَ المُسْلِميْنَ يومئذٍ يَشتَدُّ في أثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بالسَّوْطِ فَوقَهُ، وصَوْتَ الفَارِسِ يَقُولُ: أقْدِمْ حَيْزومُ! إذْ نظرَ إلى المُشركِ أَمَامَهُ خَرَّ مُسْتَلْقِياً، فنظرَ إليهِ، فإذا هوَ قدْ خُطِمَ أنفُهُ وشُقَّ وجهُهُ كضَرْبةِ السَّوْطِ، فاخْضَرَّ ذلكَ أجْمَعُ، فجاءَ الأَنْصَارِيُّ فَحَدَّثَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صَدَقْتَ، ذلكَ منْ مَدَدِ السَّمَاءَ الثالِثةِ". "وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: بينما رجل من المسلمين يومئذٍ"؛ أي: يوم إذ قامت الحرب. "يشتدُّ"؛ أي: يعدو. "في إثر رجل من المشركين أمامَهُ"؛ أي: قُدَّامه. "إذ سمع"؛ أي: الرجل، (إذ) هنا للمفاجأة. "ضربةً بالسوط فوقه، وصوتَ الفارس": معطوف على (ضربة). "يقول: أَقْدِم" بفتح الهمزة: أمرٌ بالإقدام. "حيزوم" بفتح الحاء المهملة وضم الزاء المعجمة: اسم فرس جبريل، وحرف النداء منه محذوف، وقيل: اسم فرسٍ من خيول الملائكة. "إذ نظر": بدل من (إذ سمع). "إلى المشرك أمامه خَرَّ"؛ أي: سقط. "مستلقياً، فنظر إليه"؛ أي: إلى المشرك.

"فإذا هو قد خُطِم أنفه"؛ أي: ظهر على أنفه أثر ضربة، و (الخطم) بالخاء المعجمة: الأثر على الأنف. "وشُقَّ وجهُهُ كضربة السوط، فأخْضرَّ ذلك أجمعُ"؛ أي: صار موضع الضربة كله أسود. "فجاء الأنصاريُّ، فحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: صدقت، ذلك من مددِ السماء الثالثة"؛ أي: مدد ملائكتها. خُصَّ المدد بأهل السماء الثالثة؛ تنبيهاً على أن المدد كان من كثير من السماوات، أو على أن لأهلها هذا التأثير المخصوص. * * * 4589 - وقَالَ سَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه -: رأيتُ عنْ يَمينِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وعَنْ شِمالِه يَومَ أُحُدٍ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِما ثِيابٌ بِيضٌ، يُقاتِلانِ كأشَدِّ القِتَالِ، مَا رأَيْتُهُما قَبْلُ ولا بَعْدُ، يَعني: جِبريلَ ومِيكائِيلَ عليهما السَّلام. "وقال سعد بن أبي وقاص: رأيت عن يمين رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وعن شماله يومَ أُحدٍ رجلين عليهما ثياب بيض، يقاتلان كأشد القتال، ما رأيتهما قبلُ ولا بعدُ؛ يعني: جبريل وميكائيل": تفسير للرجلين. * * * 4590 - وعَنِ البَراءِ - رضي الله عنه - قال: بَعثَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رَهْطاً إِلى أَبي رافِعٍ، فدَخَلَ عليهِ عبدُ الله بن عَتِيكٍ بيتَهُ لَيْلاً وهوَ نائِمٌ فقتَلَهُ، فَقَالَ عَبدُ الله بن عَتِيكٍ: فوضَعْتُ السَّيفَ في بطنِهِ حتَّى أَخَذَ في ظهرِهِ فعرَفْتُ أنِّي قَتَلتُهُ، فَجَعَلْتُ أفتحُ الأبوابَ حتَّى انتهَيْتُ إِلى دَرَجةٍ، فوضَعْتُ رِجْلِي، فوقعْتُ في لَيلةٍ مُقْمِرَةٍ، فانكسَرَتْ سَاقِي،

فعصَبْتُها بِعِمَامةٍ، فانطلَقْتُ إلى أَصْحَابي فانتَهَيْتُ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فحَدَّثتُهُ فَقَال: "ابْسُطْ رِجْلَكَ"، فبسَطْتُ رِجْلِي فمسَحَها، فكَأنَّها لمْ أشتَكِها قطُّ. "عن البراء - رضي الله عنه - قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - رهطاً": من الخزرج، والرهط: ما دون العشرة من الرجال لا يكون فيهم امرأة. "إلى أبي رافع": وهو ابن الحقيق اليهودي، وكان أعدى عدوٍّ للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، كان يسعى في أذيته، ويهجوه بعدما نقض عهده، وكان له قلعة، فهو ملكها يتحصَّنُ بها. "فدخل عبد الله بن عَتيكٍ": بفتح العين المهملة وكسر التاء، وهو أمير الرهط. "بيته ليلاً وهو نائم، فقتله، فقال عبد الله بن عتيك: فوضعت السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره، فعرفت أني قتلته، فجعلت"؛ أي: طفقت "أفتح الباب، حتى انتهيت إلى درجة، فوضعت رجلي، فوقعت"؛ أي: من تلك الدرجة. "في ليلة مقمرة"؛ أي: مضيئة من نور القمر، يقال: أقمرت الليلة: إذا أضاءت. "فانكسرت ساقي، فعصبتها بعمامة"؛ أي: شددتها بها. "فانطلقتُ إلى أصحابي، فانتهيتُ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فحدثته، فقال: ابسطْ رِجلَكَ، فبسطتُ رجلي، فمسحها"؛ أي: مسح رجلي بيده، فصارت صحيحة. "فكأنما لم أشتكها قط": وفيه دليل على أن الذمي إذا نقض عهده يُقتَلُ. * * * 4591 - وقَالَ جَابرٌ: إنَّا يومَ الخَنْدَقِ نَحفِرُ، فَعَرَضَتْ كُدْيَةٌ شَدِيْدَةٌ، فجَاءُوا النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالُوا: هَذِه كُدْيَةٌ عَرضَتْ في الخَنْدَقِ، فَقَالَ: "أَنَا نازِلٌ، ثُمَّ

قَامَ وبطنُهُ مَعصُوبٌ بحَجَرٍ، ولَبثْنا ثَلاثَةَ أيَّامٍ لا نَذوقُ ذَواقاً، فأخَذَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - المِعْوَلَ فضَربَ فعَادَ كَثِيْباً أهْيَلَ، فانْكَفأْتُ إلى امرأَتِي فَقُلتُ: هَلْ عِندَكِ شَيءٌ؟ فإنِّي رَأيتُ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - خَمَصاً شَدِيْداً، فأخْرجَتْ جِراباً فيهِ صَاعٌ مِنْ شَعيرٍ، ولَنَا بُهَيْمةٌ داجِنٌ فذبَحْتُها، وطَحنْتُ الشَّعيرَ، حتَّى جَعَلْنا اللَّحْمَ في البُرْمَةِ، ثُمَّ جِئتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فسَارَرْتُهُ فقلْتُ: يا رَسُولَ الله! ذَبَحْنَا بُهَيْمَةً لَنَا، وطَحَنْتُ صَاعًا مِنْ شَعيرٍ، فتَعَالَ أَنْتَ ونَفَرٌ معَكَ، فَصَاحَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "يَا أَهْلَ الخَنْدَقِ! إنَّ جَابراً صَنَع سُوْراً، فَحَيَّ هَلا بكُمْ"، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُنْزِلُنَّ بُرْمَتَكُمْ، ولا تَخْبزُنَّ عَجينَكُمْ حتَّى أَجِيءَ"، وجاءَ فأخرَجَتْ لهُ عَجيْناً فبَصَقَ فيهِ وبَارَكَ، ثُمَّ عَمَدَ إلى بُرْمَتِنا فبَصَقَ وباركَ، ثُمَّ قالَ: "ادْعِي خابزةً فلتَخْبزْ معَكِ، واقْدَحِي مِنْ بُرْمَتِكُمْ ولا تُنزِلُوها"، وهُمْ ألفٌ، فأُقسِمُ بالله لأَكَلوا حتَّى تَركُوه وانحَرَفوا، وإنَّ بُرْمَتَنا لَتَغِطُّ كَمَا هِيَ، وإنَّ عَجينَنا لَيُخْبَزُ كَمَا هُوَ. "وقال جابر: إنَّا يوم الخندق نحفرُ، فعرضت"؛ أي: ظهرت. "كُديةٌ": وهي - بضم الكاف وسكون الدال المهملة -: الأرض الصلبة الغليظة التي لا يعملُ فيها الفأس. "شديدة، فجاءوا النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقالوا: هذه كُديةٌ عرضت في الخندق، فقال: أنا نازل"؛ أي: في الخندق. "ثم قام، وبطنُهُ معصوبٌ"؛ أي: مشدود من الجوع. "بحجر، ولبثنا ثلاثة أيام لا نذوق ذَواقاً" بالفتح: ما يُذاقُ من المأكول والمشروب. "فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - المِعوَلَ": وهو - بكسر الميم وسكون العين المهملة -: الفأس العظيم التي ينقر بها الصخر. "فضربَ، فعادَ كثيباً"؛ أي: تلاً من الرمل.

"أَهْيَلَ"؛ أي: سائلاً؛ يعني: ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - تلك الكُديةَ، فصارت كثيباً من الرمل ينصبُّ ويسيل. "فانكفأت"؛ أي: فانصرفت ورجعت "إلى امرأتي، فقلت: هل عندك شيء؟ فإني رأيت بالنبي - صلى الله عليه وسلم - خَمَصاً"؛ أي: جوعاً. "شديداً، فأخرجت جِراباً" بكسر الجيم: جلد مُنقَّى عن الشَّعر. "فيه صاعٌ من شعير، ولنا بُهيمة": تصغير بَهْمة، وهي ولد الضأن، يقع على الذكر والأنثى، وقيل: هي السخلة. "داجن": وهو ما ألف البيتَ واستأنس. "فذبحتها، وطحنت الشعير، حتى جعلنا اللحم في البُرمة": وهي القدر من حجر. "ثم جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فساررته"؛ أي: فكلمته سراً. "وقلت: يا رسول الله! ذبحنا بُهيمة لنا، وطحنت صاعاً من شعير، فتعالَ أنت ونفرٌ معك، فصاح النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: يا أهل الخندق! إن جابراً صنع سُؤْراً"؛ أي: هيأ لكم طعاماً. "فحيَّ هلا بكم"؛ أي: يا رجال! هلموا وعجلوا إلى الطعام الذي صنع لكم جابر، وهي كلمة مركبة من (حيَّ) و (هل) مثل (خمسة عشر)، ويستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، فإذا وقفتَ عليه قلت: حي هلا، والألف لبيان أن الحركة كالهاء في {كِتَابِيَهْ} و {حِسَابِيَهْ} لأن الألف من مخرج الهاء، ويجوز: (حي هلاًّ) بالتنوين. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تنزلنَّ برُمتكم، ولا تَخبزنَّ عجينَكم حتى أجيء، وجاء، فأخرجتُ له عجيناً، فبصق فيه"؛ أي: رمى بالبزاق في العجين.

"وبارك"؛ أي: دعا بالبركة. "ثم عَمِدَ"؛ أي: قصد. "إلى برُمتنا، فبصق وبارك، ثم قال: ادعُ خابزةً، فلتخبزْ معي": قيل: بإعانتي إياها. خاطب جابراً، ثم عدل إلى خطاب ربةِ البيتِ بقوله: "واقدحي"؛ أي: اغرفي "من برمتكم"، ثم عدل إلى الجمع، فقال: "ولا تنزلوها"، خطاباً للخابزةِ وغيرها على التغليب. "وهم يومئذ ألفٌ، فأقسمُ بالله لأكلوا حتى تركوه، وانحرفوا"؛ أي: مالوا ورجعوا إلى أماكنهم. "وإن برُمتنا لتغِطُّ": بكسر الغين المعجمة والطاء المهملة؛ أي: لتفور وتغلي غلياناً، لها صوتٌ، ممتلئة "كما هي، وإن عجيننا ليُخبَزُ كما هو". * * * 4592 - وقَالَ أَبو قتادَةَ: إنَّ رَسُولَ الله صلى الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ لِعمَّارٍ حِينَ يَحفِرُ الخَنْدَقَ، فجَعلَ يَمسحُ رأسَهُ ويقول: "بُؤْسَ ابن سُمَيَّةَ، تَقْتُلُكَ الفِئَةُ البَاغِيَةُ". "وقال أبو قتادة - رضي الله عنه -: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار حين يحفرُ الخندقَ، فجعل يمسح رأسه"؛ أي: فأخذ يمسح رأسَ عمار بن ياسر. "ويقول: بؤس ابن سُمية": (البؤس): الشدة والمشقة، و (سمية) بضم السين وفتح الميم والياء المشددة: اسم أم عمار؛ أي: يا شدة سمية التي تصل إليه، هذا إن رُوي (بؤسَ) بالنصب. وإن رُوي رفعاً، فخبر مبتدأ محذوف، و (ابن سمية) منادى؛ أي: يصيبك بؤسٌ وشدةٌ يا ابن سمية! "تقتلك الفئة الباغية"؛ يعني: أهل البغي، وهم معاوية

وقومه، كأنه - صلى الله عليه وسلم - ترحم له من الشدة التي يقع فيها، ثم ظهر صدقه - صلى الله عليه وسلم -، قتلة أهل معاوية وقومه، وكان مع علي - رضي الله عنه - في حرب صِفين. * * * 4593 - وقَالَ سُلَيمانُ بن صُرَدٍ: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حِيْنَ أُجْلِيَ الأحزابُ عنهُ: "الآنَ نَغزوهُم ولا يَغزوننَا، نحنُ نسَيرُ إليهِمْ". "وقال سليمان بن صُرَد - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أُجلِيَ الأحزابُ عنه": يقال: أجلوا عن كذا؛ أي: انكشفوا عنه وانفرجوا، والأحزاب: الجماعة التي تجتمع على محاربة الأنبياء، ويوم الأحزاب: يوم الخندق؛ لأن الكفار تحزبوا؛ أي: اجتمعوا على محاربة أهل المدينة. "الآن نغزوهم، ولا يغزوننا، ونحن نسيرُ إليهم": أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - حين انهزم الأحزاب بأن الظفرَ والنصرةَ قد جاء عليهم في هذه الساعة. * * * 4594 - وَقَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: لمَّا رَجَعَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الخَنْدَقِ ووَضَعَ السِّلاحَ واغتَسلَ، أَتاهُ جِبريلُ وهو يَنْفُضُ رَأسَهُ مِنَ الغُبارِ، فقالَ: "لَقَدْ وضَعْتَ السِّلاحَ، والله ما وَضَعتُهُ، اخرُجْ إِليهِمْ"، قالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "فأَيْنَ؟ فأشارَ إلى بني قُرَيْظَةَ". "وقالت عائشة رضي الله عنها: لما رجع رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من الخندق، ووضع السلاح، واغتسل، أتاه جبريلُ وهو ينفضُ رأسَه": النفض: تحريك الشيء؛ ليزول ما عليه من الغبار وغيره؛ يعني: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يمسح رأس جبريل "من الغبار"، والأولى أن يعود الضميران إلى جبريل عليه السلام.

"فقال"؛ أي: جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام. "قد وضعتَ السلاح؟ والله ما وضعته، اخرجْ إليهم"؛ أي: قاصداً إلى بني قريظة، وهم اليهود. "فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: فأين" أقصد؟ "فأشار إلى بني قريظة". * * * 4595 - قَالَ أَنسٌ: كَأنِّي أنظُرُ إلى الغُبارِ سَاطِعاً في زُقاقِ بني غَنْمٍ مِنْ مَوْكِبِ جِبريلَ عليهِ السَّلامُ حِينَ سَارَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قُرَيْظَةَ". "قال أنس - رضي الله عنه -: كأني أنظر الغبار ساطعاً"؛ أي: مرتفعاً. "في زقاق بني غَنْم": بفتح الغين المعجمة وسكون النون، ويروى بتحريكها: قبيلة من الأنصار؛ أي: في سكنهم. "من موكب جبريل عليه السلام"؛ أي: جماعته الذين هو فيهم، والموكب: جماعة الفرسان، وجماعة الركبان أيضاً يسيرون برفق. "حين سار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بني قريظة". * * * 4596 - وقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: عَطِشَ النَّاسُ يومَ الحُدَيْبيَةِ ورَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بيْنَ يَدَيْهِ رَكوَةٌ فتَوضَّأَ مِنها، ثُمَّ أَقْبَلَ النَّاسُ نحوَهُ، قَالُوا: لَيسَ عِنْدَنا مَاءٌ نتَوضَّأُ بهِ ونَشْربُ إِلاَّ ما في رَكْوَتِكَ، فوَضَعَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَدَهُ في الرَّكْوَةِ، فَجَعَلَ المَاءُ يَفُورُ مِنْ بَيْنِ أَصَابعِهِ كَأَمْثَالِ العُيونِ، قَالَ: فشَرِبنا وتَوضَّأْنا، قيلَ لِجَابرٍ: كَمْ كُنْتُم؟ قَالَ: لوْ كُنَّا مِائةَ ألْفٍ لَكَفانَا، كُنَّا خَمْسَ عَشْرةَ مِئَةً. "وقال جابر: عطش الناس يوم الحديبية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين يديه رَكوة"

بفتح الراء المهملة: ظرف يتوضأ منها ويشرب. "فتوضأ منها، ثم أقبل الناس نحوه قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ به ونشرب إلا ما في ركوتك، فوضع النبي - صلى الله عليه وسلم - يده في الركوة، فجعل الماء"؛ أي: طفق. "يفور"؛ أي: يجيش. "من بين أصابعه كأمثال العيون، قال: فشربنا وتوضأنا، قيل لجابر: كم كنتم"؛ أي: كم رجلاً كنتم؟ "قالوا: لو كنا مئة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مئة". * * * 4597 - وقَالَ البَراء بن عازِبٍ - رضي الله عنه -: كُنَّا معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَع عَشْرةَ مِئَةً يومَ الحُدَيْبيَةِ، والحُدَيْبيَةُ بِئرٌ، فنَزَحْنَاها، فلَمْ نترُكْ فيها قَطْرةً، فبلَغَ ذَلِكَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأَتَاها فجَلَسَ على شَفِيرِها، ثُمَّ دَعَا بإناءٍ مِن مَاءٍ فَتَوضَّأَ، ثُمَّ مَضْمَضَ ودَعا، ثُمَّ صَبَّهُ فيها، ثُمَّ قَالَ: "دَعُوها سَاعة"، فأَرْوَوا أنفُسَهُمْ ورِكابَهُمْ حتَّى ارتَحَلوا. "وقال البراء بن عازب: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربع عشرة مئة يوم الحديبية، والحديبية بئر فنزحناها"؛ أي: استقينا ما في الحديبية. "فلم نترك فيها قطرة، فبلغ"؛ أي: خبر انقضاء الماء. "النبيَّ عليه الصلاة والسلام، فأتاها"؛ أي: الحديبية. "فجلس على شفيرها"، أي: طرفها. "ثم دعا بإناء من ماء فتوضأ، ثم مضمض ودعا، ثم صبَّه فيها"؛ أي: ذلك الماء في الحديبية.

"ثم قال: دعوها ساعة، فأَرْووا أنفسهم وركابهم": وهي الإبل التي يسار عليها. "حتى ارتحلوا"؛ أي: كانوا هم وركابهم يرتوون منها مدة إقامتهم هناك. * * * 4598 - وقَالَ عِمْرانُ بن حُصَيْنٍ - رضي الله عنه -: كُنَّا في سَفَرٍ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فاشتَكَى إليهِ النَّاسُ مِنَ العَطشِ، فنزَلَ، فدَعا فُلاناً ودَعا عَليًّا فقال: "اذْهَبا فابتَغِيا المَاءَ"، فانطلَقا فلَقِيا امرأةً بينَ مَزادَتَيْنِ - أو سَطيحَتَيْنِ - مِنْ مَاءٍ، فجَاءَا بها إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاستَنْزَلوها عَنْ بَعيرِها، ودَعا النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بإناءٍ ففرَّغَ فيهِ منْ أفواهِ المَزادَتَيْنِ، ونُودِيَ في النَّاسِ: اسْقُوا واسْتَقوا، قال: فشَرِبنا عِطَاشاً أَرْبعينَ رَجُلاً حتَّى رَوِينا، فمَلأْنا كُلَّ قِرْبَةٍ مَعَنا وإِداوَةٍ، وايمُ الله لَقْدْ أُقلِعَ عنها وإنَّهُ لَيُخيَّلُ إلَيْنا أنَّها أَشَدُّ مِلأَةً منها حِينَ ابتَدأَ. "وقال عمران بن حصين - رضي الله عنه -: كنا في سفر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاشتكى إليه الناس من العطش، فنزل فدعا فلاناً، ودعا علياً، فقال: اذهبا فابتغيا"؛ أي: اطلبا. "الماء، فانطلقا، فتلقيا"؛ أي: استقبلا. "امرأة بين مزادتين": المَزَادة - بفتح الميم والزاي المعجمة -: وعاء يوضع فيه طعام السفر. قال الجوهري: المزادة: الراوية. "أو سطيحتين من ماء": والسطيحة: نوع من المزادة يتخذ من جلدين سُطِحَ أحدهما على الآخر. "فجاءا بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاستنزلوها"؛ أي: طلبوا منها أن تنزل.

"عن بعيرها، ودعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء، ففرَّغ فيه"؛ أي: صب في الإناء. "من أفواه المزادتين، ونودي في الناس: اسقوا واستقوا"؛ أي: ناولوا الإناء وانزحوا في أوانيكم وقربكم. "قال: فشربنا عطاشاً": نصب على الحال من الضمير في (شربنا). "أربعين رجلاً": حال بعد حال، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في (عطاشاً). "حتى روينا، فملأنا كل قربة معنا وإدَاوَة" بكسر الهمزة: المِطهَرة. "وايم الله لقد أُقلِع عنها": بصيغة المجهول؛ أي: كُفَّ عن تلك المزادة وترك. "وإنه"؛ أي: إن الشأن "ليخيَّل"؛ أي: ليظنُّ "إلينا أنها"؛ أي تلك المزادة "أشد ملأً منها حين ابتدئ"؛ يعني: كانت أكثر ماء من تلك الساعة التي كان الناس يبتدؤون بالاستقاء. * * * 4599 - وقَالَ جَابرٌ - صلى الله عليه وسلم -: سِرْنا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى نَزَلنا وادِياً أفْيَحَ، فذهَبَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقْضي حَاجتَهُ فَلَمْ يرَ شَيئاً يَسْتتِرُ بهِ، وإذا شَجَرتانِ بِشَاطِئِ الوادِي، فانطلَقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إِلىَ إِحْداهُما فأخَذَ بغُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِها فَقَال: "انْقادِي عَليَّ بإذنِ الله"، فانقادَتْ مَعَهُ كالبَعيرِ المَخْشوشِ الذي يُصانِعُ قائِدَهُ حتَّى أَتَى الشَّجَرَةَ الأُخرَى، فأخذَ بغُصْنٍ منْ أغصَانِها فقال: "انقادِي عليَّ بإذنِ الله"، فانقادَتْ معهُ كذلك، حتَّى إذا كانَ بالمَنْصَفِ ممَّا بينهُما قال: "التَئِما عليَّ بإذنِ الله"، فالتَأَمَتا، فجلسْتُ أُحدِّثُ نفسِي، فحانَتْ مِنِّي لَفْتَةٌ فإِذَا أنَا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُقبلاً، وإذا الشَّجَرتانِ قدْ افْتَرَقَتَا، فقامَتْ كُلُّ واحِدةٍ منهُما على ساقٍ.

"وقال جابر: سرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى نزلنا وادياً أفيح"؛ أي: واسعاً. "فذهب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقضي حاجته، فلم يرَ شيئاً يستتر به، وإذا شجرتين": روي منصوباً لفعلٍ مضمرٍ؛ أي: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شجرتين، وروي: (شجرتان) مرفوعاً، وهو ظاهر؛ لأنه موضع الخبر مبتدأ، ف (إذا) للمفاجأة. "بشاطئ الوادي"؛ أي: بطرفه. "فانطلق رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ أي: ذهب. "إلى إحداهما، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله، فانقادت معه": معجزة له - صلى الله عليه وسلم -. "كالبعير المخشوش": وهو الذي جعل في أنفه الخِشاش، وهو - بكسر الخاء -: عُوَيد يجعل في أنف البعير لينقاد. "الذي يصانع"؛ أي: يطاوع وينقاد. "قائده"، والأصل في المصانعة: الرشوة. "حتى أتى الشجرة الأخرى، فأخذ بغصن من أغصانها، فقال: انقادي عليَّ بإذن الله، فانقادت معه كذلك، حتى إذا كان بالمَنْصَف" بفتح الميم والصاد المهملة: نصف الطريق. "مما بينهما"؛ أي: بين الشجرتين. "قال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "التئما"؛ أي: اجتمعا "علي بإذن الله، فالتأمتا، فجلست أحدث نفسي، فحافت مني لفتة"؛ أي: أتى وقتها، فعلة من (الالتفات)؛ يعني: كنت مشتغلاً بنفسي لا ألتفت إلى شيء، فالتفتُّ بغتةً.

"فإذا أنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقبلاً، وإذا الشجرتان قد افترقتا": بعد اجتماعهما. "فقامت كل واحدة منهما على ساق"؛ يعني: رأيت تلك المعجزة منه - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4600 - عَنْ يَزيْدَ بن أبي عُبَيْدٍ - رضي الله عنه - قال: رأيتُ أثَرَ ضَرْبةٍ في سَاقِ سَلَمةَ ابن الأكْوَعِ - رضي الله عنه - فقلتُ: يا أبا مُسْلمٍ! ما هذِه الضَّرْبةُ؟ قال: ضَرْبةٌ أصَابَتْنِي يومَ خَيْبَرَ، فقالَ النَّاسُ: أُصيْبَ سَلَمَةُ، فأتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فنَفثَ فيهِ ثَلاثَ نَفَثَاتٍ، فمَا اشْتكَيْتُها حتَّى السَّاعةِ. "عن يزيد بن أبي عُبيدٍ - رضي الله عنه - قال: رأيت أثر ضربة في ساق سلمة بن الأكوع فقلت: يا أبا مسلم! ما هذه الضربة؟ قال: ضربة أصابتني يوم خيبر، فقال الناس: أصيب سلمة"؛ أي: مات بسبب الضربة. "فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم -، فنفث فيه ثلاث نفثات، فما اشتكيتها حتى الساعة"؛ أي: إلى الآن. * * * 4601 - وقَالَ سهْلُ بن سَعْدٍ - رضي الله عنه -: قالَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ خَيْبَرَ: "لأُعْطِيَنَّ هذِه الرَّايةَ غَداً رَجُلاً يَفتحُ الله على يَديهِ يُحبُّ الله ورسولَهُ ويُحبُّهُ الله ورسولُهُ"، فلمَّا أصْبحَ النَّاسُ غَدَوْا على رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: "أَيْنَ عليُّ بن أبي طالِبٍ؟ "، فقالوا: هوَ يا رَسُولَ الله! يَشْتَكِي عيْنَيْهِ، فأُتِيَ بهِ، فبَصقَ في عَيْنَيْهِ ودَعا لهُ فَبَرَأَ حتَّى كأنْ لَمْ يَكُنْ بهِ وجَعٌ، فأعطاهُ الرايةَ. "وقال سهل بن سعد - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم خبير: لأعطين هذه

الراية غداً رجلاً يفتح الله"؛ أي: خيبر. "على يديه، يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، فلما أصبح الناسُ غَدَو على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: أتوه وقت الغداة. "فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينه، فأتي به، فبصق في عينه، ودعا له فبرأ"؛ أي: فشفي. "حتى كأن لم يكنْ به وجع، فأعطاه الراية": وفيه دليل على فضيلة علي - رضي الله عنه - على سائر الصحابة. * * * 4602 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: نَعَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - زيداً وجَعْفَراً وابن رَواحةَ لِلنَّاسِ قبلَ أنْ يأتيَهُمْ خبرُهُمْ فَقَالَ: "أخذَ الرَّايةَ زَيْدٌ فأُصيبَ، ثُمَّ أَخَذَ جَعفَرُ فأُصيبَ، ثُمَّ أخذَ ابن رَواحَةَ فأُصيبَ - وعَيْناهُ تَذرِفان - حتَّى أخذَ الرَّايةَ سَيْفٌ منْ سُيوفِ الله - يَعني: خَالدَ بن الوليدِ - رضي الله عنه - حتَّى فتحَ الله عليهِم". "وقال أنس - رضي الله عنه -: نعى النبي - صلى الله عليه وسلم - زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس"؛ أي: أخبر الناس بموتهم. "قبل أن يأتيهم خبرهم"؛ أي: الناس خبر موتهم، وفيه دليل على جواز النعي. "فقال"؛ أي: النبي عليه الصلاة والسلام. "أخذ الراية زيد فأصيبَ"؛ أي: مات. "ثم أخذ جعفرٌ فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب، وعيناه"؛ أي: عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "تذرفان"؛ أي: يسيل منهما الدمع لموت هؤلاء الثلاثة، وفيه

دليل على جواز البكاء على الميت. "حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله؛ يعني: خالد بن الوليد حتى فتح الله عليهم". * * * 4603 - وقَالَ عَبَّاسٌ - رضي الله عنه -: شَهِدتُ معَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حُنَيْنٍ، فلمَّا الْتَقَى المُسْلِمُونَ والكُفّارُ وَلَّى المُسْلِمُونَ مُدبرينَ، فطفِقَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَرْكُضُ بَغلتَهُ قِبَلَ الكُفَّارِ وأَنَا آخِذٌ بلِجامِ بَغلةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أكُفُّها إِرَادَةَ أنْ لا تُسرِعَ، وأَبُو سُفيانَ بن الحَارِثِ - رضي الله عنه - آَخِذٌ برِكابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فنَظَر رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم وهوَ على بَغلتِهِ كالمُتطاوِلِ عليْها إلى قِتالهِمْ فقال: "هذا حِينَ حَمِيَ الوَطِيسُ! "، ثُمَّ أَخَذَ حَصَياتٍ فرَمَى بهِنَّ وجُوهَ الكُفَّارِ ثُمَّ قال: "انهَزَموا ورَبِّ مُحَمَّدٍ"، فوالله ما هُوَ إلَّا أنْ رَماهُمْ بحَصَياتِهِ، فما زِلْتُ أرَى حَدَّهُمْ كلِيلاً وأمْرَهُمْ مُدبراً. "وقال عباس - رضي الله عنه -: شهدت"؛ أي: حضرتُ. "مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يوم حُنينٍ"؛ أي: يوم وقعة حنين اسم موضع. "فلما التقى المسلمون والكفار ولَّى المسلمون مدبرين"؛ أي: أدبروا متوجِّهين إلى خلفهم. "فطفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَركُضُ بغلته"؛ أي: يحثها لتعدو "قِبَلَ الكفار"؛ أي: نحوهم. "وأنا آخذ بلجام بغلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أكفها"؛ أي: أمنع البغلة. "إرادة أن لا تسرع": في العدو نحوهم.

"وأبو سفيان بن الحارث آخذ بركاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو على بغلته": الواو للحال؛ يعني: نظر - صلى الله عليه وسلم - في حال كونه راكباً على بغلته، والكاف في قوله: "كالمتطاول عليها": حال من الضمير المرفوع في (على بغلته)؛ أي: كائناً كالغالب القادر على سوقها. "إلى قتالهم": متعلق بـ (نظر). "فقال: هذا"؛ أي: هذا الحين. "حين حمي الوطيس": وهو - بفتح الواو وكسر الطاء -: التنور، وقيل: الضراب في الحرب، وقيل: الوطء الذي يطيس الناس؛ أي: يدقهم، وقيل: حجارة مدورة إذا أُحمِيت لم يقدر أحد أن يطأها، ولم تسمع لغة الوطيس من أحد قبل النبي - صلى الله عليه وسلم -، عبر به عن اشتباك الحرب واشتدادها وقيامها على ساق. "ثم أخذ حصيات": جمع حصاة. "فرمى بهن وجوه الكفار، ثم قال: انهزموا ورب محمدٍ": والرمي وإن صدر في الظاهر منه - صلى الله عليه وسلم -، لكن الله تعالى نفاه عنه حقيقة؛ دفعاً للسبب، وأضاف إلى نفسه من الحقيقة، إتياناً للمسبب؛ لأنه لا فاعلَ في عالم الوجود إلا الله في الحقيقة بقوله تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17]. قال الراوي: "فو الله ما هو"؛ أي: ليس انهزام الكفار. "إلا أن رماهم بحصياته، فما زلتُ أرى حَدَّهم"؛ أي: بأسهم وشدتهم وسيوفهم. "كليلاً"؛ أي: ضعيفاً. "وأمرهم مدبراً". * * *

4604 - وقِيْلَ للبَراءِ بن عَازِبٍ - رضي الله عنه -: أفَرَرْتُمْ يومَ حُنَيْنٍ؟ قال: لا والله ما ولَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكنَّ خَرَجَ شُبَّانُ أَصْحابهِ لَيسَ عليهِمْ كثيرُ سِلاحٍ، فلَقُوا قَوماً رُماةً لا يَكادُ يَسقُطُ لهُمْ سَهْمٌ، فرَشَقُوهُمْ رَشْقاً ما يَكادونَ يُخطِئونَ، فأقبَلُوا هُناكَ إِلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ورَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على بَغلتِهِ البَيْضَاءِ، وأبو سُفيانَ بن الحَارِثِ - رضي الله عنه - يَقُودُهُ، فنزلَ واستنصَرَ وقال: "أَنَا النَّبيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابن عبدِ المُطَّلِبْ" ثُمَّ صَفَّهُمْ. "وقيل للبراء: أفررتم يوم حُنين؟ قال: لا والله ما ولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن خرج شبان أصحابه": جمع شاب. "ليس عليهم كثير سلاح، فلقوا"؛ أي: أبصروا. "قوماً رماة" بضم الراء: جمع رام. "لا يكاد يسقط لهم"؛ أي: على الأرض. "سهم، فرشقوهم"؛ أي: رموهم بالسهام. "رشقاً ما يكادون يخطئون"؛ أي: في الرمي. "فأقبلوا هناك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورسولُ الله على بغلته البيضاء وأبو سفيان بن الحارث يقوده، فنزل"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بغلته. "واستنصر"؛ أي: طلب النصرة من الله تعالى. "وقال: أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب": قيل: إنه على سبيل التعريف لا على سبيل المباهاة، وقد كان أصحاب الأخبار من أهل الكتاب يتحدثون بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - الموعود به في آخر الزمان من بني عبد المطلب، فذكَّرهم بما اشتهر فيهم؛ ليرجعوا عن قتالهم.

قال التوربشتي: إن القول ربما صدر عن صاحبه مستقيماً على وزن الشعر من غير تعمد منه، فلا يعدُّ ذلك عليه شعراً، ثم إنه رجز، والرجز خارجٌ من جملة ما يتعاطاه الشعراء على القوانين الموضوعة في العَروض. "ثم صفهم"؛ أي: المسلمين، يقال: صففت القوم: إذا أقمتهم في الحرب صفاً. * * * 4605 - قَالَ البَرَاءُ: كُنَّا والله إِذَا احْمَرَّ البَأْسُ نتَّقِي بِهِ، وإنَّ الشُّجاعَ مِنَّا لَلَّذِي يُحاذِي بهِ، يَعني: رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -. "قال البراء: كنا والله إذا احمرَّ البأسُ"؛ أي: اشتد الحرب، من قولهم: موت أحمر: إذا وُصِف بالشدة، وكذا: سنة حمراء، والعرب تصف عام القحط بالحمرة، واحمرار الحرب كناية عن إراقة الدماء. "نتقي به"؛ أي: بالنبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: نجعله واقياً لنا من العدو. "وإن الشجاعَ منا لَلذي يحاذي به؛ يعني: بالنبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: يوازي منكبه حذو منكبه. * * * 4606 - وقَالَ سَلَمَةُ بن الأَكْوَعِ - رضي الله عنه -: "غَزَوْنا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُنَيْناً، فوَلَّى صَحابةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا غَشُوا رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - نزَلَ عَنِ البَغْلةِ، ثُمَّ قَبضَ قَبْضةً مِنْ تُرابٍ مِنَ الأَرْضِ، ثُمَّ اسَتَقْبَلَ بها وُجُوهَهُمْ، فَقَال: "شَاهَتِ الوُجوهُ"، فَمَا خَلَقَ الله منهُمْ إِنْسَاناً إلَّا مَلأَ عَيْنَيْهِ تُراباً بِتِلْكَ القَبْضةِ، فوَلَّوْا مُدبرينَ.

"وقال سلمة بن الأكوع: غزونا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُنيناً، فولى صحابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما غَشُوا"؛ أي: جاؤوا "رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - "وحفوه، "نزل عن البغلة، ثم قبض قبضة من ترابٍ من الأرض، ثم استقبل به"؛ أي: بالتراب فرمى به. "وجوههم فقال: شاهت الوجوه"؛ أي: قبحت، دعاء على العدو. "فما خلق الله منهم إنساناً إلا ملأ عينيه تراباً بتلك القبضة، فولوا مدبرين". * * * 4607 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: شَهِدْنا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُنَيْناً، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِرَجُلٍ مِمَّنْ مَعَهُ يَدَّعِي الإسلامَ: "هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ"، فلمَّا حَضَرَ القِتَالُ قاتَلَ الرَّجُلُ مِنْ أَشَدِّ القِتالِ وكثُرَتْ بهِ الجِراحُ، فجَاءَ رَجُلٌ فقال: يَا رَسُولَ الله! أَرَأَيْتَ الذِي تَحدَّثْتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، قَدْ قاتَلَ في سَبيلِ الله مِنْ أَشَدِّ القِتالِ فكثُرَتْ بهِ الجِرَاحُ، فَقَال: "أَمَا إِنَّهُ منْ أَهلِ النَّارِ"، فكادَ بعضُ المُسْلِمِينَ يَرتابُ، فبَيْنَما هُمْ عَلَىَ ذَلِكَ إذْ وَجَدَ الرَّجُلُ أَلَمَ الجِراحِ فَأَهْوَى بيَدِه إلى كِنانتِهِ فانتزَعَ سَهْماً فانتحَرَ بهِ، فاشْتَدَّ رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمينَ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالوا: يا رسولَ الله! صَدَّقَ الله حَديثَكَ، قَدْ انتحَرَ فُلانٌ وقتلَ نفسَهُ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله أَكْبرُ، أَشْهَدُ أَنِّي عَبدُ الله ورَسُولُهُ، يَا بِلالُ! قُمْ فأذِّنْ: لا يَدخلُ الجَنَّةَ إِلاَّ مُؤْمِنٌ، وإنَّ الله لَيُؤيدُ هذا الدِّينَ بالرَّجُلِ الفاجِرِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: شهدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حنيناً، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرجل ممن معه يدَّعي الإسلام"؛ أي: في الظاهر، وهو منافق. "هذا من أهل النار، فلما حضر القتال قاتل الرجل من أشد القتال،

فكثرت به الجراح، فجاء رجل فقال: يا رسول الله! أرأيت الذي تحدِّثُ أنه من أهل النار، قد قاتل في سبيل الله من أشد القتال، فكثرت به الجراح، فقال: أما إنه من أهل النار، فكاد بعض الناس يرتاب"؛ أي: فقرب أن يرتاب بعضهم؛ أي: يشك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: إنه من أهل النار. "فبينما هو على ذلك، إذ وجد الرجلُ ألمَ الجراح، فأهوى بيده"؛ أي: قصد بها. "إلى كنانته": وهو - بكسر الكاف -: ظوف السهم. "فانتزع"؛ أي: سلَّ "سهماً". "فانتحر بها"؛ أي: نحر نفسه. "فاشتد رجال من المسلمين"؛ أي: عدوا قاصدين "إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: يا رسول الله! صدق الله حديثك، قد انتحر فلان، وقتل نفسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله أكبر": هذا كلام يقال عند الفرح. "أشهد أني عبد الله ورسوله، يا بلال! قم فأذن: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، وإن الله ليؤيد"؛ أي: يقوي "هذا الدين": المحمدي، وينصره "بالرجل الفاجر". * * * 4608 - عَنْ عَائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قَالَتْ: سُحِرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إليهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيءَ وما فَعَلَهُ، حتَّى كَانَ ذَاتَ يَومٍ عندِي، دَعا الله ودَعاهُ، ثُمَّ قال: "أشَعَرْتِ يَا عَائِشَةُ! أنَّ الله قَدْ أَفتانِي فِيْمَا استفتَيْتُهُ، جَاءَنِي رَجُلانِ، جَلَسَ أحدُهُما عندَ رأْسِي والآخرُ عِندَ رِجْلِي، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُما لِصَاحبهِ: ما وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قالَ: مَطْبوبٌ، قَالَ: ومَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبيدُ بن الأَعْصَمِ اليَهُودِيُّ،

قَالَ: فِي ماذا؟ قال: في مُشْطٍ ومُشَاطَةٍ وجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، قال: فَأَينَ هوَ؟ قَالَ: في بِئْرِ ذَرْوانَ"، فَذَهَبَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أُنُاسٍ مِنْ أَصْحَابه إلى البئرِ فَقَال: "هذِهِ البئرُ الَّتي أُريتُها، وكأَنَّ مَاءَها نُقاعَةُ الحِنَّاءِ، وكأَنَّ نَخْلَها رُؤُوسُ الشَّياطِينِ"، فاستخرجَهُ. "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سُحِر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم"؛ يعني: سحره لبيد بن الأعصم اليهودي. "حتى إنه ليخيل إليه"؛ أي: ليظن. "أنه فعل الشيء، وما فعله"؛ يعني: غلب عليه النسيان، وقد فعل ذلك في أمر الدنيا، لا في أمر الدين؛ لأن [الأنبياء] معصومون في أمر الوحي، فلا يؤثر فيهم السحر في ذلك. "حتى إذا كان ذات يوم عندي، دعا الله ودعاه"؛ أي: استجاب دعاءه، وقيل: معناه: دعاء الله مرة بعد أخرى. "ثم قال: أشعرت"؛ أي: أعلمت "يا عائشة! أن الله قد أفتاني"؛ أي: بيَّن لي. "فيما استفتيته"؛ أي: فيما طلبت منه بيانه. "جاءني رجلان، جلس أحدهما عند رأسي، والآخر عند رِجْلي، ثم قال أحدهما لصاحبه: ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب"؛ أي: مسحور، والطب: السحو، كنُّوا عن السحر بالطب الذي هو العلاج تفاؤلاً بالبرء، كما كنوا عن اللديغ بالسليم، وقيل: هو من الأضداد. "قال: ومن طبه؟ قال: لبيد بن الأعصم اليهودي، قال: في ماذا؟ "؛ أي: في أيِّ شيء طبه؟

"قال: في مشط ومشاطة" بضم الميم: الشعر الذي يسقط من الرأس واللحية عند الامتشاط بالمشط. "وجُفِّ طلعة ذكر": والجف - بضم الجيم - وعاء الطلع، وهو قشره، ويروى: (في جب طلعة) أراد بالجب: داخل الطلعة، وقيل: طلعةِ ذكرٍ بالإضافة، أراد بالذكر: فحل النخل، وفي بعض بالتنوين صفة وموصوفاً. "قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذروان": وهو - بفتح الذال المعجمة وسكون الراء المهملة -: اسم موضع، وقيل: ذروان بئر المدينة؛ يعني: بئر بالمدينة لبني زريق. وفي "كتاب مسلم": (بئر ذي أروان). قيل: وهو الصواب؛ لأن أروان بالمدينة أشهر من ذروان، وذروان على مسيرة ساعة من المدينة. "فذهب النبي - صلى الله عليه وسلم - في أناس من أصحابه إلى البئر، فقال: هذه البئر التي أُريتها"؛ أي: التي أراني جبريل - عليه السلام - إياها. "وكأن ماءها نقاعةُ الحنَّاء"؛ أي: متغير لونه، كمثل ماء نقع فيه الحناء. "وكأن نخلها"؛ أي: نخل تلك البئر، أراد به: طلع النخل، وإنما أضافه إلى البئر؛ لأنه كان مدفوناً فيها. "رؤوس الشياطين": وإنما شبهه بها لقبح صورته، وكراهة منظره؛ لأن العرب إذا استقبحوا شيئاً يشُبهوه بوجه الشيطان، قال الله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65]. وقيل: أراد بالشياطين: الحيَّات الخبيثة؛ أي: أنها دقيقة كرؤوس الحيات، والحيةُ لخبثها يقال لها: شيطان. "فاستخرجه".

4609 - عَنْ أَبي سَعيدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: بَيْنما نَحْنُ عِندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يَقْسِمُ قَسْماً أَتَاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ، وهوَ رَجُلٌ مِنْ بني تَميمٍ، فَقَال: يا رَسُولَ الله! اعدِلْ، فَقَال: "ويلَكَ! فمَنْ يَعدِلُ إذا لمْ أعدِلْ؟ قدْ خَبْتُ وخَسِرْتُ إِذَا لمْ أكُنْ أعدِلُ"، فَقَال عُمرُ: ائْذَنْ لي أَنْ أَضْرِب عُنُقَهُ، فَقَالَ: "دَعْهُ، فَإِنَّ لهُ أَصْحَاباً يَحقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاتَهُ معَ صَلاتِهِمْ، وصِيامَهُ معَ صِيامِهِمْ، يَقْرَؤُوْنَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ تَراقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كما يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إلى نَصْلِهِ، إلى رِصَافِهِ، إلى نَضيهِ - وهو: قِدْحُهُ - إلى قُذَذِهِ، فلا يُوجدُ فيهِ شيءٌ، قَدْ سَبَقَ الفَرْثَ والدَّمَ، آيتُهُمْ رَجُلٌ أَسْودُ إِحْدَى عضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ المَرأَةِ، أو مِثْلُ البَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، ويَخرُجونَ على حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ". قالَ أبو سَعِيْدٍ: أَشْهَدُ أنَيِّ سَمِعْتُ هذا الحَديْثَ مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وأَشْهَدُ أنَّ عليَّ بن أبي طالِبٍ - رضي الله عنه - قاتَلَهُمْ وأَنَا معَهُ، فأمرَ بذلكَ الرَّجُلِ فالتُمِسَ، فأُتِيَ بهِ حتَّى نظَرتُ إليهِ على نَعْتِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - الذي نعَتَهُ. وفي رِوَايَةٍ: أقبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ العَيْنَيْنِ، نَاتِئُ الجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مُشْرِفُ الوَجْنتَيْنِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، فَقَال: يَا مُحَمَّدُ! اتَّقِ الله، قَالَ: "فمَنْ يُطيعُ الله إذا عَصَيْتُهُ، فَيَأْمَنُني الله على أهلِ الأرضِ فلا تَأْمَنُوني؟ "، فَسَألَ رَجُلٌ قَتْلَهُ فمنعَهُ، فلَمَّا ولَّى قال: "إنَّ مِنْ ضئْضئِ هذا قَوْماً يَقْرَؤُونَ القُرآنَ لا يُجاوِزُ حَناجِرَهُمْ، يَمْرُقونَ مِنَ الإِسلامِ مُروقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، فيَقتُلُونَ أهلَ الإِسلامِ، ويَدَعُونَ أهلَ الأوْثَانِ، لَئِنْ أدْرَكْتُهُمْ لأقْتُلنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ". "عن أبي سعيد الخدري منه قال: بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسماً" بالفتح: مصدر (قسمت الشيء)، سمى الشيء المقسوم - وهو الغنيمة - بالمصدر؛ يعني: أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم غنائم حنين بالجعرانة. "أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم": قيل: اسمه حرقوص بن

زهير التميمي، وهو رئيس الخوارج. "فقال: يا رسول الله! اعدل، فقال: ويلك! فمن يعدل إذا لم أعدلْ، قد خبتَ وخسرتَ": بضمير المخاطب فيهما؛ يعني: صرت خائباً وخاسراً إذا اعتقدت أني لم أعدل، وذلك لأنه تعالى بعثه رحمة للعالمين، وليقوم فيهم بالعدل، وإذا اعتقد أن الرسول خائن كفر، وأيُّ خسران وخيبة أشد منه؟! "فقال عمر: ائذن لي أضرب عنقه، قال: دعه؛ فإن له أصحاباً يحقر"؛ أي: يقلل. "أحدكم صلاتَهُ مع صلاتهم، وصيامَهُ مع صيامهم": وفيه تنبيهُ على أنهم يصلون، وقد نهى عن قتل المصلين. ووجه الجمع بين منعه - صلى الله عليه وسلم - عن قتله مع قوله: "لئن أدركتهم لأقتلنهم": أن الإباحة عند كثرتهم، وإظهارهم الخلاف، وامتناعهم على الإمام بالسلاح، وهو غير موجود عند المنع، وأول ظهورهم كان في زمان علي - رضي الله عنه - وقاتلهم حتى قتل كثيراً منهم. "يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم": جمع ترقوة، وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق؛ أي: لا يتخلص من ألسنتهم وآذانهم إلى قلوبهم وأفهامهم. "يمرقون"؛ أي: يخرجون بسرعة. "من الدين"؛ أي: من طاعة الإمام. "كما يمرق السهم من الرمية": وهي الصيد الذي تقصده فترميه، ومروق السهم: عبارة عن خروجه إلى الجانب الآخر، وعدم قراره فيها. "ينظر إلى نصله إلى رِصافه" بكسر الراء: جمع الرَّصفة بالفتح وهي العقب الذي يُلوَى - أي: يشد - على مدخل النصل. "إلى نضيه": بفتح النون وكسر الضاد المعجمة.

"وهو قِدْحه": بكسر القاف: هو السهم قبل أن يراش ويركب نصله. "إلى قُذذه" بضم القاف والذالين المعجمتين: جمع قذة، وهي ريش السهم. وتفسير النضي بالقدح كأنه من قول بعض الرواة أدرج في الحديث. قيل: وفيه نظر؛ لأن القدح السهم قبل أن يراش ويركب نصله، ونضي السهم: ما بين الريش والنصل. "فلا يوجد فيه"؛ أي: في السهم، وقيل: أي: في كل من النصل وأخواته. "شيء قد سبق الفرث"؛ أي: الروث. "والدم": وهذه جملة حالية؛ يعني: كما نفذ السهم في الرمية بحيث لم يتعلق به شيء من الفرث والدم، فكذلك دخول هؤلاء في الإسلام، ثم خروجهم منه سريعاً بحيث لم يتأثر فيهم. قيل: المراد بالنصل: القلب الذي هو المؤثر والمتأثر، فإذا نظرتَ إلى قلبه فلا تجد فيه أثراً مما شرع من العبادات. وبالرّصاف: الصدر؛ الذي هو محلُّ الانشراح والانفساح بالأوامر (¬1) والنواهي، وتحمل مشاق التكاليف، فلم ينشرح لذلك، ولم يظهر فيه أثر السعادة. وبالنضي: البدن؛ أي: أن البدن - وإن تحمل تكاليف الشرع من الصلاة والصوم وغير ذلك - لكنه لم يحصل له من ذلك فائدة. وبالقذذ: أطراف البدن التي هي بمثابة الآلات لأهل الصناعات، إذا لم يحصل له بها ما يحصل لأهل السعادات. ¬

_ (¬1) في "غ" و"ت": "مجار الأوامر"، والتصويب من "مرقاة المفاتيح" (11/ 35).

"آيتهم"؛ أي: علامتهم. "رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي المرأة، ومثل البضعة" بفتح الباء: قطعة اللحم. "تدردر"؛ أي: تجيء وتذهب وتضطرب من تحريكه، وأصله: تتدردر. "ويخرجون على خير فرقة من الناس": يريد: علياً وأصحابه - رضي الله عنهم -، وفيه دليل على فضله وفضل أصحابه. وفي بعض: (على حين فُرقة) بضم الفاء، فمعناه: أوان تشتت أمر الناس، واضطراب أحوالهم، وظهور المحاربة، وتكون (على) بمعنى: في، كقوله تعالى: {وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا} [القصص: 15]. "قال أبو سعيد - رضي الله عنه -: أشهد أني سمعت هذا الحديث من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن عليَّ بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر"؛ أي: علي - رضي الله عنه - "بذلك الرجل"؛ أي: بطلبه. "فالتُمس"؛ أي: طُلِب. "فأتي به حتى نظرت إليه، فوجدته على نعت النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي نعته"؛ أي: وجدته على الصفة التي وصف - صلى الله عليه وسلم -. "وفي رواية: أقبل رجل" مكان: (أتاه ذو الخويصرة) في أول هذا الحديث. "غائر العينين"؛ اسم فاعل من (غارت عينه): إذا دخلت في الرأس. "ناتئ الجبهة"؛ أي: مرتفعها. "كَثُّ اللحية": بفتح الكاف وتشديد الثاء المثلثة؛ أي: كثيفها. "مشرف الوجنتين"؛ أي: عالي الخدين.

"محلوق الرأس، فقال: يا محمد اتق الله! قال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فمن يطيع الله إذا عصيته؟ فيأمِّنني الله"؛ أي؛ يجعلني أميناً. "على أهل الأرض، ولا تأمنوني؟ ": الخطاب مع ذي الخويصرة وقومه. "فسأل رجل" من الصحابة "قتله، فمنعه"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الرجل عن قتله. "فلما ولى"؛ أي: رجع ذو الخويصرة. "قال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "إن من ضئْضئ هذا قوماً": الضئضئ - بكسر الضادين المعجمتين وبهمزتين -: الأصل، وأشار بهذا إلى ذي الخويصرة التميمي؛ يعني: إن قوماً نعتهم كذا وكذا سيخرجون من الأصل الذي هو منه في النسب، أو هو عليه في المذهب. "يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام مروقَ السهم من الرمية، فيقتلون أهل الإسلام، ويدعون"؛ أي: يتركون. "أهل الأوثان، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتلَ عاد": أراد به: الاستئصال بالإهلاك، كما أُهلكت عاد بالصيحة دون القتل. * * * 4610 - وقَالَ أَبُو هُريرَةَ - رضي الله عنه -: كُنْتُ أدعُو أُمِّي إِلَى الإِسْلاَمِ وهيَ مُشرِكَةٌ، فدَعَوْتُها يَوماً، فأسمعَتْنِي في رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ما أكْرَهُ، فأَتيْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وأَنَا أَبْكِي قُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ادْعُ الله أنْ يَهدِيَ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ، فَقَال: "اللهمَّ! اهْدِ أُمَّ أبي هُرَيْرَةَ"، فخرجتُ مُستبْشِراً بدَعْوةِ نبَيِّ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا صِرْتُ إلى البَابِ، فإذا هوَ مُجَافٌ، فسمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فقالتْ: مَكَانَكَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ!

وسَمِعتُ خَضْخَضَةَ المَاءِ، فاغتَسَلَتْ، ولبسَتْ دِرْعَها، وعَجلَتْ عنْ خِمارِها، ففَتحَتِ البَابَ، ثُمَّ قَالَت: يا أبا هُرَيْرةَ! أشهدُ أنْ لا إلهَ إلاِّ الله وأشهدُ أنِّ مُحَمَّداً عبْدُهُ ورسُوْلُهُ، فرجَعْتُ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكِي مِنَ الفَرح، فحمِدَ الله وقالَ خَيْراً. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: كنت أدعو أمي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوماً، فأسمعتني في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: في حقه. "ما أكره"؛ أي: شيئاً أكرهه. "فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله! ادعُ الله أن يهدي أم أبي هريرة، فقال: اللهم اهدِ أمَّ أبي هريرة، فخرجت مستبشراً بدعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما صِرت إلى الباب، فإذا هو مُجافٌ"؛ أي: الباب مغلق مردود. "فسمعت أمي خشفَ قدمي"؛ أي: صوتهما، وقيل: أي: حركتهما وحسهما. "فقالت: مكانك"؛ أي: الزم مكانك. "يا أبا هريرة! وسمعت خضخضة الماء"؛ أي: تحريكه. "فاغتسلت، وليست درعها"؛ أي: قميصها. "وعجلت عن خِمارها"؛ أي: عن لبس خمارها. "ففتحت الباب، ثم قالت: يا أبا هريرة! أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا أبكي من الفرح، فحمد الله، وقال خيراً".

4611 - وقَالَ أَبُو هُريْرَةَ - رضي الله عنه -: إنَّكُمْ تَقُولُون: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرةَ عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، والله المَوعِدُ، وإنِّ إخْوَتِي مِنَ المُهاجِرينَ كانَ يَشغَلُهُمْ الصَّفْقُ بالأسْواقِ، وإنَّ إخْوَتِي مِنَ الأنْصَارِ كَانَ يشغَلُهُمْ عَمَلُ أموالِهِمْ، وكُنْتُ امْرَءاً مِسْكيناً، ألزَمُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على مِلْءَ بَطنِي، وقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَوماً: "لَنْ يَبسُطَ أَحَدٌ منكُمْ ثَوْبَهُ حتَّى أقضيَ مَقالتِي هذهِ ثُمَّ يَجمعُهُ إلى صَدرِهِ فيَنسَى منْ مَقالتِي شيئاً أبداً"، فبسَطْتُ نَمِرَةً لَيْسَ عَلَيَّ ثَوْب غيرُهَا، حتَّى قضَى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - مَقالَتهُ ثُمَّ جَمَعْتُها إلى صَدرِي، فَوالذِي بَعثَهُ بالحَقِّ ما نَسيتُ مِنْ مَقالتِهِ تِلْكَ إلى يَومِي هذا. "وقال أبو هريرة - رضي الله عنه -: إنكم": خطاب مع الصحابة. "تقولون: أكثر أبو هريرة"؛ أي: أكثر الرواية. "عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والله الموعد"؛ أي: لقاء الله يوم القيامة موعودنا؛ أي: مرجعنا إليه، فيظهر عنده صدق الصادق وكذب الكاذب لا محالة. "وإن إخوتي من المهاجرين": يريد به: أهل مكة؛ فإنهم كانوا أصحاب تجارات. "كان يشغلهم الصفق"؛ أي: البيع والشراء. "بالأسواق": قيل للبيعة: صفقة؛ لضرب اليد على اليد عند عقد البيع؛ يعني: كان يمنعهم اشتغالهم بالتجارات والمعاملات عن كثرة ملازمتهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. "وإن إخوتي من الأنصار": يريد به: أهل المدينة، فإنهم كانوا أصحاب زراعات. "كان يشغلهم عمل أموالهم"، وأموالهم: المواضع التي فيها نخيلهم. "وكنت امرأً مسكيناً ألزمُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ملء بطني"؛ أي: إذا شبعت لزمته، قيل: المراد منه: امتلاؤه رغبةً وحرصاً في طلب العلم وسماع الحديث

لا الامتلاء من الطعام، ويحتمل أن يكون كناية عن الفراغة من المعاملات والأمور الدنيوية وعدم المبالاة بها. "وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً: لن يبسط أحدٌ منكم ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه": قيل: كانت مقالة رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم الدعاء لصحابته بالحفظ والفهم. "ثم يجمعه"؛ أي: ذلك الثوب. "إلى صدره، فينسى من مقالتي شيئاً أبداً، فبسطت نَمِرة" بفتح النون وكسر الميم: كساء ملون. "ليس عليَّ ثوب غيرها، حتى قضى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مقالته، ثم جمعتها إلى صدري، فوالذي بعثه بالحقِّ ما نسيتُ من مقالته ذلك إلى يومي هذا": قيل: وقد أسلم أبو هريرة سنة سبع من الهجرة، ومكث عنده ثلاث سنين. * * * 4612 - وقَالَ جَرِيْرُ بن عبدِ الله: قالَ لي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا تُريحُني منْ ذِي الخَلَصَة؟ "، فقلتُ: بلى يا رَسُولَ الله! وكُنْتُ لا أثبُتُ على الخَيْلِ، فَذَكَرتُ ذلِكَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فضربَ بِيَدِهِ على صَدرِي حتَّى رَأَيْتُ أثرَ يَدِهِ في صَدرِي، وقَالَ: "اللهمَّ! ثَبتْهُ، واجعلْهُ هَادِياً مَهْدِيًّا"، قَالَ: فَمَا وقَعْتُ عنْ فرَسِي بَعْدُ، فانْطَلقَ في مِئَةٍ وخَمسينَ فارِساً منْ أحْمَسَ، فحرَّقَها بالنَّارِ وكسرَها. "وقال جرير بن عبد الله: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا تريحني"؛ أي: ألا تخلِّصني. "من ذي الخلصة": بيت لخثعم، كان يدعى كعبة اليمامة، وكان فيه صنم يقال له: [ذو] الخلصة، والمعنى: ألا تخرب ذا الخلصة وتكسرها، فأستريح من وجودها.

"فقلت: بلى، وكنت لا أثبتُ على الخيل"؛ أي: لا أقدر أن أركب على الخيل. "فذكرت ذلك للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، فضرب يده على صدري حتى رأيت أثرَ يده في صدري، وقال: اللهم ثبته، واجعله هادياً مهدياً، قال: فما وقعت عن فرسي بعد، فانطلقَ": فيه التفاتٌ من الحضور إلى الغيبة. "في مئة وخمسين فارساً من أحمس" بالحاء والسين المهملتين: قبائل من قريش، سموا بذلك؛ لأنهم تحمسوا؛ أي: تشددوا في دينهم، والحماسة: الشجاعة. "فحرقها بالنار، وكسرها". * * * 4613 - وَقَالَ أَنسٌ - رضي الله عنه -: إنَّ رَجُلاً كانَ يكتُبُ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فارتدَّ عن الإِسلامِ، ولحِقَ بالمُشركينَ، فَقَالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الأرضَ لا تَقبَلُهُ"، فأخبرَنيِ أبو طَلْحةَ أنَّهُ أتَى الأرضَ التي ماتَ فيها، فوجدَهُ مَنْبُوذاً"، فَقَالَ: مَا شَأنُ هذا؟ فَقَالُوا: دَفنَّاهُ مِراراً فلمْ تَقبَلْهُ الأرضُ. "وقال أنس - رضي الله عنه -: إن رجلاً كان يكتب للنبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: يكتب له الوحي، وهو عبد الله بن أبي السرح، فلما أملى - عليه الصلاة والسلام - قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] ووصل إلى قوله: {خَلْقًا آخَرَ} خطر بباله: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14]؛ تعجباً من تفصيل خلق الإنسان طوراً بعد طور، فأملاها - صلى الله عليه وسلم - كذلك، فقال: إن كان ما يقوله محمد وحياً، فأنا نبي يوحى إلي، فسبقه الحكم الأزلي بكفره. "فارتد عن الإسلام، ولحق بالمشركين": نعوذ بالله من ذلك.

"فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن الأرض لا تقبله، فأخبرني"؛ أي: قال أنس: أخبرني "أبو طلحة: أنه أتى الأرض التي مات فيها، فوجده منبوذاً"؛ أي: ملقًى على الأرض، "فقال: ما شأن هذا؟ فقالوا: دفنَّاه مراراً، فلم تقبله الأرض". * * * 4614 - وقَالَ أَبُو أيُّوب: خرجَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وقد وَجَبَت الشَّمْسُ، فَسمعَ صَوْتاً فَقَال: "يَهودُ تُعذَّبُ في قبُورِها". "وقال أبو أيوب: خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد وجبت الشمس"؛ أي: سقطت وغربت. "فسمع صوتاً، فقال: يهود تعذب في قبورها": وهذا يدل على أن عذاب القبر حق. * * * 4615 - وَقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: قَدِمَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - منْ سَفَرٍ، فلَمَّا كَانَ قُرْبَ المَدينةِ هَاجَتْ رِيحٌ تكادُ أنْ تَدْفِنَ الرَّاكِبَ، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بُعِثَتْ هذِه الرِّيحُ لمَوْتِ مُنافِقٍ"، فقَدِمَ المَدِينَةَ، فإذا عَظيمٌ مِنَ المُنافِقينَ قدْ ماتَ. "وقال جابر - رضي الله عنه -: قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - من سفر، فلما كان قرب المدينة هاجت"؛ أي: ثارت. "ريح تكاد أن تدفن الراكب"؛ أي: يقرب أن يتوارى الراكب من شدة ثورانها. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بعثت هذه الريح لموت منافق": اللام للتوقيت؛ أي: في وقت موت منافق.

"فقدم المدينة فإذا عظيم من المنافقين قد مات". * * * 4616 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه - قال: خرَجْنا معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى قَدِمْنَا عُسْفانَ، فأَقَامَ بِهَا لَيالِيَ، فقالَ النَّاسُ: ما نحنُ هَاهُنا في شَيءٍ، وإنَّ عِيالَنا لَخُلوفٌ مَا نَأْمَنُ عليهِمْ، فبَلَغَ ذلكَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فَقَال: "والَّذِي نفسِي بيدِه، ما مِنَ المَدينةِ شِعْبٌ ولا نَقْبٌ إلَّا عليهِ مَلَكانِ يَحْرُسَانِها حتَّى تَقْدَموا إليها"، ثُمّ قال: "ارتَحِلُوا"، فارتَحَلْنا، وأقبَلْنا إلى المَدِينةِ، فوَالَّذِي يُحْلَفُ بهِ، ما وَضَعْنا رِحَالَنا حِينَ دَخَلنا المَدِينَةَ حتَّى أَغَارَ عَلَيْنا بنو عَبدِ الله بن غَطَفانَ، ومَا يَهْيجُهُمْ قبلَ ذلكَ شيءٌ. "قال أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه -: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى قدمنا عُسْفان" بضم العين وسكون السين المهملتين: موضع قريب من المدينة. "فأقام بها ليالي، فقال الناس: ما نحن هاهنا في شيء، وإن عِيالنا": بكسر العين؛ أي: أهل بيتنا. "لخُلوفٌ": بضم الخاء المعجمة؛ أي: ليس فيهم إلا النساء من غير الرجال. "ما نأمن عليهم، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: والذي نفسي بيده ما في المدينة شِعبٌ": وهو - بكسر الشين المعجمة -: الطريق في الجبل. "ولا نَقَب" بفتح النون: بمعنى الشعب. "إلا عليه ملكان يحرسانها"؛ أي: يحفظان المدينة. "حتى تقدموا"؛ أي: ترجعوا "إليها، ثم قال: ارتحلوا، فارتحلنا وأقبلنا إلى المدينة، فوالذي يحُلَفُ به، ما وضعنا رحالنا حين دخلنا المدينة، حتى

أغارَ علينا بنو عبد الله بن غطَفْان" بفتح الغين والطاء المهملتين: اسم قبيلة. "وما يهيجهم"؛ أي: ما يثير بني عبد الله. "قبل ذلك"؛ أي: قبل الغارة "شيء". * * * 4617 - وقَالَ أَنَسٌ - رضي الله عنه -: أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ على عَهْدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فبَبْنا النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يَخطُبُ في يومِ جُمُعَةٍ فَقَامِ أعْرَابيٌّ فَقَالَ: يا رَسُولَ الله! هَلَكَ المَالُ، وجَاعَ العِيالُ، فادْعُ الله لَنَا، فَرَفعَ يدَيْهِ ومَا نرَى في السَّماءَ قَزَعَةً، فوَالَّذِي نفسِي بيَدِهِ، ما وضَعَهُما حتَّى ثارَ السَّحابُ أمثالَ الجبالِ، ثُمَّ لمْ يَنْزِلْ عنْ مِنبَرِهِ حتَّى رَأَيْتُ المَطَرَ يَتَحادَرُ على لِحيَتِهِ، فمُطِرْنا يومَنا ذلكَ، ومِنَ الغَدِ، ومِنْ بعدِ الغَدِ، حتَّى الجُمْعَةِ الأَخرَى، فقامَ ذلكَ الأعرابيُّ، أو غيرُهُ، فَقَال: يا رسولَ الله! تَهدَّمَ البناءُ، وغَرِقَ المَالُ، فادْعُ الله لَنَا، فرفَعَ يدَيْهِ وقال: "اللهمَّ! حَوالَيْنا ولا علَيْنا"، فَمَا يُشيرُ إلى ناحيةٍ مِنَ السَّحابِ إلَّا انفرَجَتْ، وصَارَتِ المَدِينةُ مِثْلَ الجَوْبَةِ، وسَالَ الوادِي قَناةُ شَهَراً، ولم يَجئْ أَحَدٌ منْ ناحِيَةٍ إلَّا حَدَّثَ بالجَوْدِ. وفي رِواية: قال: "اللهمَّ! حَوالَيْنا ولا عَلَيْنَا، اللهمَّ! على الآكَامِ والظِّرَابِ وبُطونِ الأوْدِيةِ ومَنابتِ الشَّجرِ"، قال: فأَقلَعَتْ، وخَرَجْنا نمشِي في الشَّمسِ. "قال أنس - رضي الله عنه -: أصابت الناس سنة"؛ أي: قحط. "على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبينا النبي - عليه الصلاة والسلام - يخطب في يوم الجمعة، قام أعرابي فقال: يا رسول الله! هلك المال"؛ أي: المواشيء لأنها أكثر أموالهم. "وجاع العيال، فادعُ الله لنا، فرفع يديه وما نرى في السماء قَزَعة": بفتح

القاف والزاء المعجمة؛ أي: قطعةً من السحاب. "فوالذي نفسي بيده ما وضعهما حتى ثار"؛ أي: سطع (¬1). "السحاب أمثال الجبال، ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطَر يتحادر"؛ أي: يتساقط. "على لحيته": قيل: يريد أن السقف قد وكف حتى نزل الماء عليه. "فمُطِرنا يومنا ذلك، ومن الغد، ومن بعد الغد، حتى الجمعة الأخرى، وقام ذلك الأعرابي أو غيره فقال: يا رسول الله! تهدم البناء، وغرق المال، فادعُ الله لنا، فرفع يديه فقال: اللهم حوالينا ولا علينا"؛ أي: أنزل الغيث على موضع النبات، لا على موضع الأبنية. "فما يشير إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت، وصارت المدينة مثل الجوبة": بفتح الجيم وسكون الواو، وهي الفرجة في السحاب، وهنا حذف تقديره: صار جوب المدينة مثل الفرجة في السحاب؛ أي: خالياً عن السحاب. وقيل: الجوبة: الحفرة المستديرة الواسعة؛ أي: صار الغيم والسحاب محيطاً بآفاق المدينة. "وسال الوادي قناة": نصب على الحال من فاعل (سأل)، أي: سائلاً مثل القناة "شهراً". أو على التمييز؛ أي: قدر قناة، فحينئذ تفسير القناة بالرمح أولى منه بالتي تحُفَر في الأرض؛ لأنه قلَّما تبلغ القنى في كثرة مياهها مبلغ السيول، ويجوز أن يكون مصدراً على حذف؛ أي: سيل القناة أو سيلانها في الدوام والاستمرار والقوة. ¬

_ (¬1) في "ت" و "غ": "جمع"، والصواب المثبت.

"ولم يجئ أحد من ناحية"؛ أي من جانب من جوانب المدينة. "إلا حدث"؛ أي: أخبر. "بالجود" بفتح الجيم وسكون الواو: بالمطر الكثير. "وفي رواية: قال: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام" بفتح الهمزة الممدودة وكسرها المقصورة: جمع أكمة، وهو ما ارتفع من الأرض. "والظِّراب" بكسر الظاء المعجمة: الجبال الصغار. "وبطون الأودية ومنابت الشجر، قال: فأقلعت"؛ أي: انكشفت السحاب، والضمير فيه للسحاب، فإنها جمع سحابة. "وخرجنا نمشي في الشمس". * * * 4618 - وقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: كَانَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إذا خَطَبَ اسْتَنَد إِلى جِذْعِ نَخلةٍ منْ سَوارِي المَسْجدِ، فَلَمَّا صُنِعَ لهُ المِنَبُر فاستَوَى عليهِ، صَاحَت النَّخلةُ الَّتي كَانَ يَخطُبُ عِندَها حتَّى كَادَتْ أَنْ تَنشَقَّ، فنزَلَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - حتَّى أخذَهَا فضَمَّها إليهِ، فجَعَلَتْ تَئِنُّ كَمَا يَئِنُّ الصَّبيُّ الذي يُسَكَّتُ حتَّى استقرَّتْ، قَالَ: "بَكَتْ على مَا كانتْ تَسمَعُ مِنَ الذِّكْرِ". "وقال جابر - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب استند إلى جذع نخلة"؛ أي: أصلها وساقها. "من سواري المسجد": جمع سارية، وهي الأُسطُوانة. "فلما صُنِع له المنبر فاستوى عليه، صاحت النخلة التي كان يخطب عندها حتى كادت أن تنشقَّ، فنزل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم حتى أخذها"؛ أي: تلك النخلة.

"فضمَّها إليه"؛ أي: إلى نفسه. "فجعلت"؛ أي: شرعت النخلة. "تئنُّ"؛ أي: تصيح. "أنينَ الصبي الذي يُسكَّت"؛ أي: يجعل ساكناً. "حتى استقرت، قال" النبي صلى الله تعالى عليه وسلم: "بكت"؛ أي: النخلة. "على ما كانت"؛ أي: على فوت ما كانت "تسمع من الذكر". * * * 4619 - عَنْ سَلَمَة بن الأَكْوَعِ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَجُلاً أَكَلَ عندَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بشمالِهِ، فقال: "كُلْ بيَمينِكَ"، فَقَال: لا أستطيعُ، قال: "لا استَطَعْتَ"، مَا منعَهُ إلا الكِبْرُ، قَالَ: فما رفعَها إلى فيهِ. "عن سلمة بن الأكوع - رضي الله عنه -: أن رجلاً": اسمه بُسر ابن راعي العير. "أكل عند النبي - صلى الله عليه وسلم - بشماله فقال: كل بيمينك، قال: لا أستطيع، قال: لا استطعته": دعاء عليه. "ما منعه ذلك"؛ أي: ما منع الرجل من الأكل بيمينه. "إلا الكبر": فيه دليل على أن الأكل باليمين من السنن. "قال"؛ أي: الراوي. "فما رفعها"؛ أي: الرجل يمينه. "إلى فيه" بعد ذلك؛ لدعائه - صلى الله عليه وسلم - عليه.

4620 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - أنَّ أَهْلَ المَدينةِ فَزِعُوا مَرّةً، فركِبَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فرساً لأبي طَلحَةً بَطيئاً فكَانَ يَقْطِفُ، فَلمَّا رَجَعَ قَالَ: "وَجَدْنا فرسَكُمْ هذا بَحْراً"، فكانَ بعدَ ذلكَ لا يُجارَى. وفي رِوَايَةٍ: فَمَا سُبقَ بعدَ ذلكَ اليَومِ. "عن أنس - رضي الله عنه -: أن أهل المدينة فزعوا مرة، فركب النبي - صلى الله عليه وسلم - فرساً لأبي طلحة بطيئاً، وكان يقطف"؛ أي: يتقارب في الخطوات. "فلمَّا رجع قال: وجدنا فرسكم هذا بحراً"؛ أي: واسع الجري. "فكان بعد ذلك لا يُجارَى"؛ أي: لا يُقاوم في الجري، وفي بعض: "لا يُجازى" أي: لا يجازيه فرس يجري معه. "وفي رواية: فما سُبق" - على صيغة المجهول - "بعد ذلك اليوم". * * * 4621 - وَقَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: تُوفِّي أَبي وعَليهِ دينٌ، فعَرَضْتُ على غُرَمائِهِ أنْ يَأْخُذُوا التَّمرَ بما عليهِ فأبَوْا، فأتيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: قدْ عَلِمْتَ أنَّ والِدي استُشْهِدَ يومَ أُحُدٍ وتَرَكَ دَيْنا كَثِيراً، وإنِّي أُحِبُّ أنْ يَراكَ الغُرَماءُ، فقالَ لي: "اذهَبْ فبَيْدِرْ كُلَّ تمرٍ على ناحِيةٍ"، ففعلتُ، ثمَّ دعَوْتُهُ، فلمَّا نَظَروا إليهِ كأنّهُمْ أُغْروا بي تلكَ السَّاعةَ، فلمَّا رأَى ما يَصنعونَ طَافَ حولَ أعظَمِها بَيْدَراً ثلاثَ مرَّاتٍ، ثُمَّ جَلَس عليهِ، ثمَّ قال: "اُدْعُ لي أصحابَكَ"، فَمَا زالَ يَكِيلُ لهُمْ حتَّى أَدَّى الله عنْ والِدي أَمَانَتَهُ، وأَنَا أَرْضى أنْ يُؤَدِّيَ الله أمانَةَ والِدي ولا أَرْجِعَ إلى أَخَواتِي بتمرةٍ، فسَلَّمَ الله البَيادِرَ كُلَّها وحتَّى إنِّي أنظُرُ إلى البَيْدَرِ الَّذي كانَ عليهِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - كأنَّها لمْ تنقُصْ تَمرةً واحِدةً. "وقال جابر - رضي الله عنه -: توفي أبي"؛ أي: مات.

"وعليه دين، فعرضتُ على غرمائه أن يأخذوا التمَر بما عليه، فأبوا"؛ لأنه كان في أعينهم قليلاً، وكانوا يهوداً. "فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: قد علمتَ أن والدي استشهد يوم أحد، وترك ديناً كثيراً، وإني أحب أن يراك الغرماءُ، فقال لي: اذهبْ فبيدر كلَّ تمر على ناحية"؛ أي: اجعل كل نوع من التمر بيدراً؛ أي: صُبرة واحدة. "ففعلت، ثم دعوته، فلما نظروا إليه"؛ أي: الغرماء إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. "كأنهم أُغْروا بي"؛ أي: أولعوا بي، ولجوا في مطالبتي، وألحوا. "تلك الساعة، فلما رأى"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -. "ما يصنعون، طاف حول أعظمها بيدراً ثلاث مرات، ثم جلس عليه، ثم قال: ادعْ لي أصحابك"؛ أي: غرماءك. "فما زال يكيل لهم حتى أدَّى الله تعالى عن والدي أمانته"؛ أي: دينه، سمى الدين أمانة؛ لأنه ائتمن على أدائه. "وأنا أرضى أن يؤدي الله أمانة والدي، ولا أرجعُ إلى أخواتي بتمرة، فسلَّم الله البيادر كلها"؛ أي: جعلها سالماً عن النقصان. "حتى أني أنظر إلى البيدر الذي كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، كأنها": الضمير للقصة. "لم تنقص تمرة واحدة". * * * 4622 - وقَالَ جَابرٌ: إنَّ أُمَّ مالِكٍ كَانتْ تُهْدي للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في عُكَّةٍ لَهَا سَمْناً، فيأتِيها بنوهَا فيَسألونَ الأُدْمَ وليسَ عِندَهُمْ شَيءٌ، فتعمِدُ إلى الذِي كانتْ

تُهْدي فيه للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فتَجدُ فيهِ سَمْناً، فما زالَ يُقيمُ لَهَا أُدْمَ بيتِها حتَّى عَصَرَتها، فأتَتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "عصرتيها؟ "، قالتْ: نعمْ، قَالَ: "لوْ تَركْتِيها ما زالَ قائِماً". "وقال جابر - رضي الله عنه -: إن أمَّ مالك كانت تهدي للنبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: ترسل. "في عُكَّةٍ لها سمناً": و (العكة) بضم العين المهملة وتشديد الكاف: وعاء من جلد مستدير مختص بالسمن والعسل، وبالسمن أخص. "فيأتيها بنوها، فيسألون الأُدم" بضم الهمزة: ما يؤتدم. "وليس عندهم شيء، فتعمد إلى الذي كانت تهدي فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فتجد فيه سمناً، فما زال"؛ أي: ذلك السمن الذي في العكة. "يقيم لها أدم بيتها": ببركة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. "حتى عصرتها"؛ أي: العكة. "فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: عصرتيها؟ ": الياء للإشباع. "قالت: نعم، قال: لو تركتيها"؛ أي: لو تركت ما فيها من السمن وما عصرتها. "ما زال" أدم بيتك "قائماً"؛ فإن البركة تترك في شيء ولو كان قليلاً، فإذا تركت فيه كثر ذلك القليل. * * * 4623 - وقَالَ أَنسٌ - رضي الله عنه -: قَالَ أبو طَلْحَةَ لأُّمِّ سُلَيْمٍ: لَقَدْ سَمِعتُ صَوْتَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ضَعيفاً أعرِفُ فيهِ الجُوعَ، فهَلْ عِندَكِ منْ شيءٍ؟ قَالَتْ: نعمْ، فأخرجَتْ أَقْرَاصاً منْ شَعِيْرٍ، ثُمَّ أخرجَتْ خِماراً لَهَا فلَفَّتِ الخُبزَ ببعضهِ، ثمَّ دَسَّتْهُ تحْتَ يَدِي، ولاَثَتْنِي ببعضهِ، ثمَّ أرسَلَتْنِي إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قَالَ:

فذهبتُ بهِ، فوجَدْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في المَسجدِ ومعهُ نَاسٌ، فقُمْتُ فسلَّمتُ عليهِمْ، فقالَ لي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أرسلكَ أبو طَلْحَةَ؟ "، قُلْتُ: نعمْ، قَالَ: "بطعامٍ؟ "، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لِمَنْ مَعَهُ: "قُوموا"، فانطلَقَ، وانطَلَقْتُ بَيْنَ أيْدِيهِمْ، حتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ فأخبَرْتُهُ، فَقَالَ أبو طَلْحَةَ: يا أُمَّ سُلَيْمٍ! قدْ جَاءَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالنَّاسِ وليسَ عِندَنا ما نُطْعِمْهُمْ، فقَالَتْ: الله ورسُولُهُ أَعْلَمُ، فانطلقَ أبو طَلْحَةَ حتَّى لَقِيَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طَلْحَةَ معهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هَلُمِّي يا أُمَّ سُلَيْم! ما عِنْدَك"، فأتَتْ بذلك الخبزِ، فأَمَر به رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - فَفُتَّ، وعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً، فأَدَمَتْهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فيهِ مَا شَاءَ الله أنْ يقولَ، ثُمَّ قال: "ائْذَنْ لِعَشَرةٍ"، فأذِنَ لهُمْ، فأكَلوا حتَّى شَبعوا ثُمَّ خرَجوا، ثُمَّ قال: "ائْذَنْ لِعَشَرةٍ، ثُمَّ لِعَشَرةٍ"، فأكَلَ القَومُ كُلُّهُمْ وشَبعُوا، والقومُ سَبعونَ أو ثَمانونَ رَجُلاً. ويُروى أَنَّه قال: "ائْذَنْ لِعَشَرةٍ"، فدَخَلوا فَقَالَ: "كُلوا، وسَمُّوا الله"، فأَكَلوا حتَّى فَعَلَ ذلك بِثَمانينَ رَجُلاً، ثمَّ أَكَلَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وأهلُ البيتِ وتَرَكَ سُؤْراً. ويُروى: فجَعَلْتُ أنظُرُ: هلْ نَقَصَ منها شَيءٌ؟!. ويُروَى: ثُمَّ أَخَذَ ما بَقِيَ فجَمَعَهُ، ثُمَّ دَعا فيهِ بالبَرَكَةِ، فَعَادَ كَمَا كَانَ، فقال: "دُونَكُمْ هذا". "قال أنس - رضي الله عنه -: قال أبو طلحة لأم سليم": هي أم أنس. "لقد سمعتُ صوتَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفاً أعرف فيه الجوع، فهل عندك من شيء؟ قالت: نعم، فأخرجت أقراصاً من شعير، ثم أخرجت خماراً لها": وهو ما تستر المرأة [به] رأسها. "فلفت الخبز ببعضه"؛ أي: جمعته ببعض الخمار.

"ثم دسَّته"؛ أي: أخفته. "تحت يدي، ولاثَتْني ببعضه"؛ أي: عصبت ببعض الخمار على رأسي. "ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فذهبت به فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ومعه الناس، فسلمت عليهم، فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: آرسلك أبو طلحة؟ قلت: نعم، قال: بطعام؟ قلت: نعم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم لمن معه: قوموا، فانطلق، وانطلقتُ بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة، فأخبرته، فقال أبو طلحة: يا أم سليم! قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، وليس عندنا ما نطعمهم، فقالت: الله ورسوله أعلم، فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقبل رسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة معه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هلمي"؛ أي: عجِّلي وأحضري. "يا أم سليم ما عندك": من الطعام. "فأتت بذلك الخبز، فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَفُتَّ"؛ أي: كسر وجعل فتيتاً؛ أي: قطعاً صغاراً. "وعصرت أمُّ سليم عكَةً فأَدَمَتْهُ"؛ أي: جعلت السمن الذي في العكة إداماً لذلك الفتيت. "ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ما شاء الله أن يقول، ثم قال" رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: "ائذن لعشرة، فأذن لهم، فأكلوا حتى شبعوا، ثم خرجوا، ثم قال: ائذن لعشرة، ثم لعشرة، فأكل القوم كلهم وشبعوا، والقوم سبعون، أو ثمانون رجلاً": قيل: إنما لم يأذن للكل مرة واحدة؛ لأن الجمع الكثير إذا نظروا إلى طعام قليل يزداد حرصهم على الأكل، ويظنون أن ذلك الطعام لا يشبعهم، فإذا كان كذلك فالحرصُ عليه ممحقة للبركة، وإذا كان الأمر بالعكس، فلا يهيج

حرصهم عليه، وتطمئن نفوسهم، فعند ذلك نزولُ البركة متوقعٌ من عند الله، فلهذه الحكمة قال: ائذن لعشرة عشرة. وقيل: يحتمل أن يكون لضيق بالمنزل. "ويروى: أنه قال: ائذن لعشرة، فدخلوا فقال: كلوا، وسموا الله، فأكلوا حتى فعل ذلك بثمانين رجلاً، ثم أكل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل البيت، وتركوا سُؤْراً": بالهمزة؛ أي: بقية من الطعام. "ويروى: فجعلت أنظر؛ هل نقص منها شيء؟ ويروى: ثم أخذ ما بقي فجمعه، ثم دعا فيه بالبركة، فعاد كما كان، فقال: دونكم هذا"؛ أي: خذوه وكلوه، اسم فعل للأمر. * * * 4624 - وقَالَ أَنسٌ - رضي الله عنه -: أُتِىَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بإناءٍ وهَوَ بالزَّوْراءِ، فوَضَعَ يَدهُ في الإِناءِ فجعَلَ الماءُ يَنبُعُ منْ بينِ أَصَابعِهِ، فتوضَّأَ القَوْمُ، قال قَتادةُ - رضي الله عنه -: قُلتُ لِأَنَسٍ: كمْ كنتُمْ؟ قالَ: ثَلاثَ مَئِةٍ، أوْ زُهَاءَ ثَلاثَ مِئَةٍ. "وقال أنس - رضي الله عنه -: أُتي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بإناء وهو بالزَّوراء" بفتح الزاء المعجمة وسكون الواو: وهي دار عثمان - رضي الله عنه -، موضعٌ بالمدينة، وفي الأصل: البئر البعيدة القعر، قيل: سميت بذلك؛ لبعدها عن المدينة. "فوضع يده في الإناء، فجعل الماء ينبع"؛ أي: ينصب. "من بين أصابعه، فتوضأ القوم": قال النووي: في كيفية هذا النبع قولان: أحدهما: أن الماء يخرج من بين أصابعه، وينبع من ذاتها، وهو قول أكثر العلماء، وهذا أعظم [في] المعجزة من نبعه من حجر.

وثانيها: أنه تعالى أكثر الماء في ذاته، فصار يفور من أصابعه. "قال قتادة: قلت لأنس: كم كنتم؟ قال: ثلاث مئة، أو زُهاء ثلاث مئة": بضم الزاء المعجمة وبالمد؛ أي: مقدارها. * * * 4625 - عَنْ عبدِ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا نعُدُّ الآياتِ برَكَةً، وأنتُمْ تَعُدُّونَها تَخْوْيفاً، كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ فَقَلَّ المَاءُ، فَقَالَ: اطلُبوا فَضْلةً من مَاءٍ، فَجَاءُوا بإناءٍ فيهِ مَاءٌ قليلٌ، فأدْخَلَ يَدَهُ في الإِناءِ ثُمَّ قَالَ: "حَيَّ على الطَّهورِ المُبارَكِ، والبَرَكَةُ مِنَ الله"، فلقدْ رأيتُ الماءَ يَنبُعُ منْ بينِ أَصَابعِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولَقدْ كُنَّا نسمعُ تسبيح الطَّعامِ وهوَ يُؤْكَلُ. "وعن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: كنا نعد الآيات": جمع آية، وهي العلامة، والمراد بها: المعجزات، سميت آية؛ لأنها علامة على نبوته - صلى الله عليه وسلم -. "بركةً، وأنتم تعدُّونها تخويفاً": قيل: أراد ابن مسعود بذلك أن عامة الناس لا ينفع فيهم الآيات التي نزلت بالعذاب والتخويف، وأن خاصتهم - وهم الصحابة - ينتفعون بالآيات المقتضية للبركة. "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر، فقلَّ الماء، فقال: اطلبوا فضلةً من ماء، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل، فأدخل يده في الإناء، ثم قال: حيَّ على الطهور المبارك"؛ أي: هلموا إليه وأسرعوا. "والبركة من الله": وأصل البركة: الثبات والدوام. "ولقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولقد كنا نسمع تسبيحَ الطعام وهو يؤكل": وإنما سبح؛ لأنه كان خير طعام؛ لكونه مأكول خير الأنبياء.

4626 - قَالَ أَبُو قَتادَةَ - رضي الله عنه -: خَطَبنا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "إنَّكمْ تَسيرُونَ عَشيَّتكُمْ ولَيْلَتكُمْ، وتأْتونَ المَاءَ إنْ شَاءَ الله غَداً"، فانطلقَ الناسُ لا يَلْوِي أَحدٌ على أَحدٍ، قال أبو قَتادَةَ - رضي الله عنه -: فبَيْنَما رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَسيرُ حتَّى ابْهارَّ اللَّيلُ، فمَالَ عنْ الطَّريقِ، فوَضَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: "احْفَظُوا علَيْنا صَلاتَنا"، وَكَانَ أوَّلَ مَنْ استَيْقَظَ رَسَولُ الله - صلى الله عليه وسلم - والشَّمْسُ في ظَهْرِهِ، ثُمَّ قَالَ: "ارْكَبُوا"، فركِبنا، فسِرْنا، حتَّى إذا ارتفَعَتِ الشَّمسُ نزَلَ، ثُمَّ دَعا بمِيضأَةٍ كانتْ معِي فيها شَيءٌ منْ ماءٍ، فتوضَّأَ مِنْهَا وُضُوءاً دُونَ وُضوءٍ، قال: وبقيَ فيها شَيءٌ منْ مَاءٍ، ثُمَّ قال: "احْفَظْ علَيْنا مِيضَأَتَكَ فسيَكونُ لَهَا نبَأٌ"، ثُمَّ أَذَّنَ بِلالٌ بالصَّلاةِ، فصَلَّى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتَيْنِ، ثُمَّ صَلَّى الغَداةَ، ورَكِبَ ورَكِبنا مَعَهُ، فانتَهَينا إلى النَّاسِ حِينَ امتدَّ النَّهارُ وحَمِيَ كُلُّ شيءٍ وهُمْ يقولون: يا رَسُولَ الله! هَلَكْنا عَطَشاً، فقال: "لا هُلْكَ عَلَيْكُمْ"، ودَعا بالمِيضأَةِ، فَجَعلَ يَصُبُّ وأبو قَتادَةَ يَسقيهِمْ، فلمْ يَعْدُ أنْ رَأَى النَّاسُ ماءً في المِيضأَةِ فتكَابُّوا عليها، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحْسِنوا المَلأَ، كلُّكُمْ سَيَرْوَى"، قال: ففعلَوا، فجَعَلَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَصُبُّ ويَسقِيهِمْ، حتَّى ما بَقِيَ غَيْرِي وغَيْرُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ صَبَّ فقالَ لي: "اشرَبْ"، فقلتُ: لا أشرَبُ حتَّى تَشْرَبَ يا رَسُولَ الله! قَالَ: "إنَّ سَاقِيَ القَومِ آخِرُهُمْ شُرْباً"، قال: فشرِبْتُ وشَرِبَ، قال: فأتَى النَّاسُ المَاءَ جامِّينَ رِواءً. "وقال أبو قتادة - رضي الله عنه -: خطبنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تسيرون عشيتكم وليلتكم، وتأتون الماء إن شاء الله غداً، فانطلق الناس لا يلوي أحدٌ على أحد"؛ أي: لا يميل ولا يلتفت إليه، بل يمشي كلُّ واحد على حدته من غير مراعاة صحبةِ أصحابهِ اهتماماً بطلب الماء وحرصاً عليه. "قال أبو قتادة: فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير حتى ابهارَّ الليل"؛ أي:

انتصف، (البُهْرَة) بالضم: وسط كل شيء. "فمال عن الطريق، فوضع رأسه، ثم قال" لأصحابه: "احفظوا علينا صلاتنا"؛ أي: وقت صلاتنا. "فكان أول من استيقظ رسول الله عليه الصلاة والسلام، والشمس في ظهره، ثم قال: اركبوا، فركبنا فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس، نزل - صلى الله عليه وسلم -، ثم دعا بميضأة" بكسر الميم: مطهرة كبيرة يتوضأ بها. "كانت معي، فيها شيء من ماء، فتوضأ منها وضوءاً دون وضوء"؛ أي: دون وضوئه الذي كان يكثر فيه إراقة الماء؛ يعني: توضأ وضوءاً وسطاً لقلة الماء، وقيل: أراد: أنه استنجى في هذا الوضوء بالحجر لا بالماء. "قال: فبقي فيها شيء من ماء، ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: احفظ علينا مِيضأتك، فسيكون لها نبأ"؛ أي: خبر، والمراد هنا: أن يكون لها شأنٌ يتحدث به الناس. "ثم أذن بلال بالصلاة، فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين، ثم صلى الغداة": وفي تأخيره - صلى الله عليه وسلم - قضاء الصلاة دليلٌ على أن من نام عن صلاة، أو نسيها، لا يجب عليه القضاء على الفور، وعلى استحباب مفارقة الموضع الذي ترك فيه المأمور، أو ارتكب فيه المنهي، واستحباب الإتيان بالمتروك في موضع آخر ترغيماً للشيطان. "فركب وركبنا معه، فانتهينا إلى الناس حين امتدَّ النهار"؛ أي: ارتفع. "وحمي كلُّ شيء"؛ أي: اشتدت حرارته. "وهم يقولون: يا رسول الله! هلكنا وعطشنا، فقال: لا هُلْك عليكم": و (الهلك) بالضم وسكون اللام: اسمٌ للهلاك. "ودعا بالميضأة، وجعل يصب وأبو قتادة يسقيهم، فلم يَعْدُ أن رأى

الناس"؛ أي: لم يتجاوز رؤيتهم "ما في الميضأة"؛ يعني: قصروا الرؤية عليه. "فتكابُّوا عليها"؛ أي: ازدحموا على الميضأة مُكِباً بعضهم على بعض. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أحسنوا الملأ" بفتح الميم واللام: الخُلُق. "كلُّكم سيُروى، قال"؛ أي: الراوي. "ففعلوا"؛ أي: فعل الناس بعضهم مع البعض إحسانَ الخلق. "فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصبُّ وأيسقيهم، حتى ما بقي غيري وغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم صبَّ، فقال لي: اشرب، فقلت: لا أشرب حتى تشربَ يا رسول الله! فقال: إن ساقي القوم آخرهم شُرباً، قال: فشربت وشرب، قال: فأتى الناس الماء"؛ أي: من الماء؛ يعني: انصرفوا عنه. "جامِّين"؛ أي: مستريحين، جمع جامٍّ، وهو المستريح، من (الجَمَام) بالفتح، وهو الراحة، وقيل: أي: مجتمين من (الجمِّ)، قال الله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20]؛ أي: كثيراً. "رِواء" بكسر الراء: جمع راوٍ، وهو الذي رَوِيَ من الماء، أو جمع: ريان. * * * 4627 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: لمَّا كَانَ يَومُ غَزوةِ تَبوكَ أَصَابَ النَّاسَ مَجَاعَةٌ، فَقَالَ عُمرُ - رضي الله عنه -: يَا رَسُولَ الله! ادْعُهُمْ بفَضْلِ أزْوادِهمْ، ثمَّ ادْعُ الله لهُمْ عليها بالبَرَكَةِ، فقال: "نعَمْ" فدَعا بنطَعٍ فبُسِطَ، ثُمَّ دَعا بفَضْلِ أزْوادِهمْ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجيءُ بكَفِّ ذُرَةٍ، ويَجيءُ الآخرُ بكَفِّ تَمْرٍ، ويَجيءُ الآخَرُ بكِسْرةٍ، حتَّى اجتمَعَ على النَّطَعِ شَيءٌ يَسيرٌ، فدَعا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بالبَرَكَةِ، ثُمَّ قَالَ: "خُذوا في أَوْعيَتِكُمْ"، فأخَذوا في أوْعِيَتهِمْ حتَّى مَا تَرَكوا في العَسْكَرِ وِعاءً إلَّا مَلَؤُوهُ،

قَالَ: فأكَلوا حتَّى شَبعوا، وفَضَلَتْ فَضْلَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلَّا الله وأنِّي رَسُولُ الله، لا يَلْقَى الله بهِما عبدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فيُحْجَبَ عن الجَنَّةِ". "قال أبو هريرة - رضي الله عنه -: لما كان يوم غزوة تبوك أصاب الناسَ مَجاعةٌ": بفتح الميم؛ أي: جوع. "فقال عمر - رضي الله عنه -: يا رسول الله! ادعهم بفضل أزوادهم": جمع زاد، وهو الطعام الذي يُتَّخذُ للسفر؛ يعني: اطلب منهم أن يأتوا ببقية أزوادهم. "ثم ادع الله لهم عليها بالبركة": قيل: هي ثبوت الخير الإلهي في شيء، وذلك إما أن يجعل الله القليل مشبعاً بقدرته بالبركة القديمة، وإما بزيادته في أجزائه زيادةً غير محسوسة ابتلاء للآكلين. "فقال: نعم، فدعا بنطعٍ فبُسطَ، ثم دعا بفضل أزوادهم، فجعل الرجل يجيء بكفِّ ذرة، ويجيء الآخر بكف تمر، ويجيء الآخر بكسرة، حتى اجتمع على النطع شيءٌ يسير، فدعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبركة، ثم قال: خذوا في أوعيتكم، فأخذوا في أوعيتهم، حتى ما تركوا في العَسْكِر وعاءً إلا ملؤوه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، وفضلت فضلةٌ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما"؛ أي: بالشهادتين. "عبدٌ غيرُ شاكٍّ"؛ أي: غير متردد في الإسلام، يجوز رفع (غير) على أنه صفة (عبد)، ونصبه على أنه حال. "فيحجبَ": بالنصب جواب النفي؛ يعني: من لقي الله بالشهادتين من غير ترددٍ وشكٍّ فلا يحجب "عن الجنة" البتَّةَ. * * * 4628 - وقَالَ أَنسٌ - رضي الله عنه -: كَانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَروساً بزَيْنَبَ، فعَمَدَتْ أُمِّي

أُمُّ سُلَيْمٍ إلى تَمْرٍ وسَمْنٍ وأَقِطٍ، فَصَنَعَتْ حَيْساً فجعلَتْهُ في تَوْرٍ، فَقَالتْ: يَا أَنَسُ! اذهَبْ بهذا إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقُلْ: بَعَثَتْ بهذا أُمِّي إليكَ، وهيَ تُقْرِئُكَ السَّلامَ، وتَقُولُ: إنَّ هَذا لكَ مِنَّا قَلِيلٌ يَا رَسُولَ الله! فذهبْتُ فقلتُ، فَقَالَ: "ضَعْهُ"، ثُمَّ قَالَ: "اذهَبْ فادْعُ لي فُلاناً وفُلاناً وفُلاناً - رِجالاً سمّاهُمْ -، وادْعُ مَنْ لَقِيتَ"، فدعَوْتُ مَنْ سَمَّى ومَنْ لَقِيتُ، فرجعتُ، فإذا البَيْتُ غَاصٌّ بأهلِهِ، قِيلَ لِأَنَسٍ: كَمْ كَانَ عَدَدَكُمْ؟ قال: زُهاءَ ثَلاَثِ مِئَةٍ، فَرَأَيتُ النَّبيَّ وَضَعَ يَدَهُ على تِلْكَ الحَيْسَةِ، وتَكلَّمَ بَما شَاءَ الله، ثُمَّ جَعَلَ يَدعُو عَشَرَةً عَشَرةً يأْكُلونَ منهُ ويقولُ لهُمْ: "اذْكُروا اسمَ الله عَلَيْهِ، ولْيأْكُلْ كُلُّ رَجُلٍ مِمَّا يَليهِ"، قال: فَأَكَلوا حتَّى شَبعوا، فخَرَجَتْ طَائِفةٌ ودَخلَتْ طَائِفةٌ حتَّى أكَلوا كلُّهُمْ، فقالَ لي: "يا أنسُ! ارْفَعْ"، فرفَعْتُ، فَمَا أدْرِي حِينَ وضَعْتُ كَانَ أكثرَ أمْ حينَ رَفَعْتُ!. "وقال أنس - رضي الله عنه -: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - عروساً بزينب"؛ أي: متزوجاً بها. "فعمدت"؛ أي: قصدت. "أمي أمُّ سليم إلى تمرٍ وسمنٍ وأَقِطٍ، فصنعت حَيْساً": وهو تمر يخلط بسمنٍ وأقطٍ. "فجعلته في تَورٍ": وهو: إناء يشرب فيه. "فقالت: يا أنس! اذهبْ بهذا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقل: بعثَت بهذا إليك أمي، وهي تقرئك السلام، وتقول: إن هذا لك منا قليلٌ يا رسول الله، فذهبت وقلت، فقال: ضعه، ثم قال: اذهب، فادعُ لي فلاناً وفلاناً وَفلاناً رجالاً سماهم، وادعُ لي من لقيت، فدعوت من سمى، ومن لقيتُ، فرجعتُ فإذا البيتُ غاصٌّ"؛ أي: ممتلئٌ. "بأهله، قيل لأنسٍ: عددكم كم كانوا": جمع الضمير نظراً إلى معنى العدد؛ لزيادته على الواحد.

"قال: زُهاء ثلاث مئة"؛ أي: قدرها. "قرأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وضع يده على تلك الحيسة، وتكلم بما شاء الله، ثم جعل يدعو عشرةً عشرةً يأكلون منه، ويقول لهم: اذكروا اسم الله، وليأكل كلُّ رجلٍ مما يليه، قال: فأكلوا حتى شبعوا، فخرجت طائفة، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم، فقال لي: يا أنس! ارفع، فرفعت، فما أدري حين وضعتُ كان أكثر، أم حين رفعتُ". * * * 4629 - قَالَ جَابرٌ - رضي الله عنه -: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وَأَنَا على نَاضحٍ قدْ أعْيا فلا يَكَادُ يَسيرُ، فَتَلاحَقَ بِي النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: "ما لِبَعيرِكَ؟ "، قُلْتُ: قدْ عَييَ، فتخلَّفَ رَسُولُ الله فَزَجَرَهُ ودَعا لَهُ، فما زالَ بينَ يَدَي الإِبلِ قُدَّامَها يَسيرُ، فَقَالَ لِي: "كيفَ تَرى بَعيرَكَ؟ "، قلتُ: بخَيْرٍ، قدْ أصابَتْهُ بَرَكَتُكَ، قال: "أفَتَبيعُنِيهِ بِوُقِيَّةٍ؟ "، فبعْتُهُ على أنَّ لي فَقارَ ظهرِهِ إلى المدينةِ، قَالَ: فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَدِينةَ غَدَوْتُ عليهِ بالبَعيرِ، فأعْطَانِي ثَمْنَهُ، ورَدَّهُ عليَّ. "قال جابر - رضي الله عنه -: غزوت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا على ناضح": وهو: بعير يُستقَى عليه الماء. "قد أعيا"؛ أي: عجز عن السير وغيره. "فلا يكاد يسير، فتلاحقَ بي النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ما لبعيرك؟ قلت: قد عَييَ، فتخلَّف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فزجره، فدعا له، فما زال بين يدي الإبل قُدَّامها يسير": ببركة دعائه - صلى الله عليه وسلم -. "فقال لي: كيف ترى بعيرك؟ قلت: بخير، قد أصابته بركتك، قال: أفتبيعنيه بوقيةٍ؟ "؛ أي: بأربعين درهماً. "فبعته على أن لي فَقارَ ظهرِهِ"؛ أي: ركوب فقار ظهره.

"إلى المدينة، فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة غدوت عليه بالبعير، فأعطاني ثمنه وردَّه"؛ أي: البعير "عليَّ": وفيه دليل على جواز استثناء بعض منفعة المبيع مُدةً. * * * 4630 - عَنْ أَبي حُمَيْدٍ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجْنا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - غَزْوَةَ تَبوكَ، فأتَيْنا وادِي القُرَى على حَديقةٍ لامْرأةٍ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخْرُصُوهَا"، فخَرَصْناهَا، وخَرَصَها رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَشَرَةَ أوْسُقٍ وقال: "أَحْصِيْهَا حتَّى نرَجِعَ إِلَيكِ إِنْ شَاءَ الله - عزَّ وجلَّ - "، وانْطَلَقْنا حتَّى قَدِمْنَا تَبوكَ، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستَهُبُّ عَلَيكُمُ اللَّيلةَ رِيحٌ شَديدةٌ، فلا يَقُمْ فيها أَحدٌ، فمَنْ كَانَ لَهُ بَعيرٌ فلْيَشُدَّ عِقالَهُ"، فهَبَّتْ رِيحٌ شَديدةٌ، فَقَامَ رَجَلٌ فحَملَتْهُ الرِّيحُ حتَّى ألْقَتْهُ بجَبَلَ طَيئٍ، ثُمَّ أقبَلْنا حتَّى قَدِمنا وادِي القُرَى، فَسَألَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَرأَةَ عنْ حَديقتِها، "كَمْ بَلَغَ تمرُها؟ "، فَقَالت: عَشَرَةَ أوْسُقٍ. "عن أبي حُميَدٍ - رضي الله عنه - أنه قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غزوة تبوك، فأتينا وادي القرى": اسم موضع. "على حديقة"؛ أي: بستان. "لامرأة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اخرصوها"؛ أي: قدِّروها. "فخرصناها، وخرصها النبي - صلى الله عليه وسلم - عشرة أوسقٍ، وقال: أحصيها"؛ أي: احفظيها وعديها إلى كم يبلغ ثمرها. "حتى نرجع إليك إن شاء الله، وانطلقنا حتى قدمنا تبوك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستهب عليكم الليلة ريحٌ شديدةٌ، فلا يقم فيها أحدٌ، من كان لى بعيرٌ فليشدَّ عقاله، فهبت ريحٌ شديدةٌ، فقام رجلٌ فحملته الريح حتى ألقته بجبلي طي": أحدهما

سلمى، والآخر أَجَأٌ، وهما بأرض نجد. "ثم أقبلنا حتى قدمنا وادي القرى، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المرأةَ عن حديقتها، كم بلغ ثمارها؟ فقالت: عشرة أوسق". * * * 4631 - وقَالَ أَبُو ذَرٍّ، قَالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّكُمْ ستَفْتَحُونَ مِصْرَ، وهيَ أَرْضٌ يُسمَّى فيها القِيراطُ، فإذا فتَحتُموها فأحْسِنوا إلى أَهلِها فإنَّ لَهَا ذِمَّةً ورَحِماً - أَوْ قَالَ: ذِمَّةً وصِهْراً - فإِذَا رَأيتُمْ رجُلَيْنِ يَخْتصِمَانِ في مَوْضعِ لَبنةٍ فاخْرُجْ مِنْهَا"، قَالَ: فَرَأَيْتُ عبدَ الرَّحمنِ بن شُرَحْبيلَ بن حَسَنةَ وأَخاهُ رَبيعةَ يَخْتصِمانِ في مَوْضعِ لَبنةٍ فخرجْتُ منها. "قال أبو ذر - رضي الله عنه -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنكم ستفتحون مصرَ، وهي أرض يسمى فيها القيراط": قيل: تسمية القيراط لم تختصَّ بأهل مصر، بل يشاركهم فيها البدو والحضر من بلاد العرب، وإنما الإشارة بها إلى كلمة يستعملها أهل مصر في المسابة وإسماع المكروه، فيقولون: أعطيتُ فلاناً قراريط؛ أي: سمَّعته المكروه، واذهب لأعطيك قراريطك؛ أي: سبابك، حكاه الطحاوي عنهم، وهو أعلم بلهجة أهل بلده؛ لأنه منهم. "فإذا فتحتموها، فأحسنوا إلى أهلها"؛ أي: بالصفح والعفو عمَّا تنكرون، ولا يحملنكم حدة لسانهم فيما يذكرون من المساوئ على الإساءة. "فإن لهم ذمةً"؛ أي: ذماماً وعهداً حصل لهم بإبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - من مارية القبطية؛ فإنها من أهل مصر. "ورحماً": من قِبَلِ هاجرَ أم إسماعيل عليه السلام؛ فإنها من أهل مصر أيضًا.

"أو قال: ذمةً وصهراً": فعلى هذه الرواية الصهر يختص بمارية، والذمة بهاجر. "فإذا رأيتم رجلين يختصمان في موضع لبنة، فاخرجْ منها": والقياس: فاخرجوا منها، لعل النبي - صلى الله عليه وسلم - التفت عند الأمر بالخروج إلى أبي ذرٍّ الراوي، وخصَّه بهذا الأمر دون غيره؛ شفقةً عليه من وقوعه في الفتنة لو أقام ثمة بينهم، وقد وقع ذلك في آخر عهد عثمان - رضي الله عنه - حين عتبوا عليه ولايةَ عبد الله بن سعد بن أبي سرح أخيه من الرضاعة، وكان منهم ما كان. "قال" أبو ذر: "فرأيت عبد الرحمن بن شُرَحبيل": بضم الشين وفتح الراء وسكون الحاء المهملتين، وفي بعض بالفتح وبالجيم. "ابن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها". * * * 4632 - عَنْ حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "في أَصْحَابي - وفي رَوِايَةٍ: في أُمَّتِي - اثنا عَشَرَ مُنافِقاً، لا يَدخُلونَ الجَنَّةَ ولا يَجِدونَ رِيحَها حتَّى يَلِجَ الجمَلُ في سَمِّ الخِياطِ، ثَمانِيةٌ منهُمْ تَكفِيهِم الدُّبَيْلَةُ: سِراجٌ مِنَ النارِ تَظهرُ في أكتافِهِمْ حتَّى تَنْجُمَ في صُدورِهِم". "عن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: في أصحابي": الصحابة: لا تُطلَق إلا على من صَدَقَ في إيمانه، وإطلاقها على من يستر النفاق إنما هو بطريق المجاز؛ لتشبههم بالصحابة، وإدخالهم أنفسَهم في زمرتهم، ولذا قال: في أصحابي، ولم يقل: من أصحابي. "وفي رواية: في أمتى اثنا عشر منافقاً، لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها حتى يلجَ الجمل"؛ أي: يدخل.

"في سمِّ الخِياط": بكسر الخاء: الإبرة؛ أي: في ثقبها؛ يعني: لا يدخلون الجنة أبداً؛ لأن دخول الجمل في ثقبة الإبرة محال، والمعلق بالمحال محالٌ. "ثمانية منهم تكفيهم"؛ أي: تمنعهم وتطردهم. "الدُّبيلَةُ": بالموت، وهي - بضم الدال المهملة وفتح الباء الموحدة ثم السكون - في الأصل: الداهية، وتستعمل في القرحة، فسرها - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "سراج من نار، يظهر في أكتافهم حتى ينجُم": بضم الجيم؛ أي: يظهر. "في صدورهم": لعله أراد بها: ورماً حاراً يحدث في أكتافهم بحيث يظهر أثرُ تلك الحرارة وشدة لهبها في صدورهم. قصد - صلى الله عليه وسلم - بهذا القول تنبيهَ أصحابه الصديقين؛ لئلا يأمنوا من مكرهم، وهم الذين كانوا قد قصدوا أن يمكروا به - صلى الله عليه وسلم - ليلةَ العقبة مرجعَهُ من غزوة تبوك متلثمين، وكان الرسول - صلى الله عليه وسلم - منقطعاً في تلك الليلة عن جماعة المسلمين مع حذيفة وعمار آخذاً في طريق الثنية، وهم في بطن الوادي، فسمع - صلى الله عليه وسلم - خشفة القوم من ورائه، فأمر حذيفة أن يزجرهم، فاستقبلَ حذيفة وجوهَ رواحلهم بمحجن كان معه ضرباً، فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة، فانقلبوا مسرعين على أعقابهم، فأدرك حذيفة النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "هل عرفت واحداً منهم؟ " قال: لا، فإنهم كانوا متلثمين، ولكن أعرف رواحلهم، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله أخبرني أسماءهم، وأسماء آبائهم، وسأخبرك بهم إن شاء الله تعالى عند الصباح"، فمن ثمة كانوا يراجعون حذيفة في أمر المنافقين، قيل: أسرَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أمرَ هذه الفئة المشؤومة؛ لئلا تهيج الفتنة من تشهيرهم. * * * 4633 - عَنْ جابرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ يَصْعَدُ الثَّنِيَّةَ ثَنيَّةَ المُرارِ فإنَّهُ يُحَطُّ عنهُ ما حُطَّ عنْ بني إسْرائيلَ"، فكانَ أوَّلَ مَنْ صَعِدَها خَيْلُنا

خَيْلُ بني الخَزْرَجِ، ثمَّ تَتامَّ النَّاسُ، فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "وكُلُّكُمْ مَغفورٌ لهُ إِلاَّ صاحِبَ الجَملِ الأحمرِ"، فَأتَيْنَاهُ فقُلنا لهُ: تَعَالَ يَستغفِرْ لكَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله لأَنْ أَجِدَ ضَالَّتِي أحبُّ إليَّ منْ أنْ يَستغفِرَ لِي صاحِبُكُمْ، وكَانَ رَجُلاً يَنشُدُ ضَالَّةً لهُ. "عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من يصعد": روي بالرفع على جعل (من) استفهاماً، وبالجزم شرطاً، وهو الأشبه. "الثنيةَ": وهي في الجبل كالعقبة فيه، وقيل: الطريق العالي فيه. "ثنيةِ": بدل مما قبلها، أو عطف بيان. "المرار" - بالحركات الثلاث -: اسم موضعبين مكة والمدينة من طريق الحديبية، حثهم - صلى الله عليه وسلم - على صعودها؛ لأنها عقبةٌ شاقةٌ؛ إما لقربها من العدو، أو لصعوبة طريقها، فلهذا قال: "فإنه يحطُّ عنه ما حُطَّ"؛ أي: مثل الحط الذي حُطَّ "عن بني إسرائيل" حين امتثلوا قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58]، وهذا غاية المبالغة في حطِّ ذنوب ذلك الصاعد، وإلا فخطيئة المؤمن كيف تكون مثل خطيئتهم العظيمة حين خالفوا أمر موسى وعبدوا العجل؟! "فكان أول من صعدها خيلنا خيل بني الخزرج، ثم تتام الناس"؛ أي: جاؤوا كلهم، واجتمعوا على صعودها. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وكلكم مغفورٌ له إلا صاحب الجمل الأحمر، فأتيناه فقلنا له: تعال يستغفرْ لك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: والله لأن أجد ضالتي أحبَّ إليَّ من أن يستغفر لي صاحبكم، وكان"؛ أي: صاحبُ الجمل "رجلاً ينشد ضالَّةً له".

مِنَ الحِسَان: 4634 - عَنْ أَبي مُوْسَى الأَشْعرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: خَرَجَ أبو طَالِبٍ إِلى الشَّامِ، وخَرجَ مَعَهُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في أَشْياخٍ منْ قُريشٍ، فلمَّا أشْرَفوا على الرَّاهِبِ، هَبَطوا فحَلُّوا رِحَالَهُمْ، فخرجَ إليهِم الرَّاهِبُ، وكانوا قَبْلَ ذلكَ يَمُرُّونَ بهِ فَلا يَخرُجُ إليهِمْ، قَالَ: فهُمْ يَحُلُّونَ رِحَالَهُمْ، فجَعَلَ تتخلَّلُهُم الرَّاهِبُ حتَّى جَاءَ فأخذَ بيدِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: هذا سَيدُ العَالَمِينَ، هذا رَسُولُ رَبِّ العَالَمِينَ، يَبعثُهُ الله رَحْمَةً للعَالَمينَ، فقالَ لهُ أَشْياخٌ منْ قُريشٍ: مَا عِلْمُكَ؟ قال: إنَّكُمْ حِينَ أشْرَفْتُم مِنَ العَقَبةِ لم يَبْقَ شَجرٌ ولا حجرٌ إلَّا خَرَّ سَاجِداً، ولا يَسجَدانِ إِلاَّ لِنَّبيٍّ، وإِنِّي أَعْرِفُهُ بَخَاتَمِ النُّبوَّةِ أَسْفَلَ مِنْ غُضْروفِ كتِفِهِ مِثْلَ التُّفَّاحةِ، ثُمَّ رَجَعَ فَصَنَعَ لهُمْ طَعَاماً، فلمَّا أَتاهُمْ وكانَ هوَ في رِعْيَةِ الإبلِ قَالَ: أَرْسِلوا إليْهِ، فأقبَلَ وعلَيهِ غَمامَة تُظِلُّهُ، فلمَّا دَنا مِنَ القَومِ وجَدَهُمْ قدْ سَبقوهُ إلى فَيْءِ الشَّجَرَةِ، فلمَّا جَلَسَ مالَ فَيْءُ الشَّجرةِ عَلَيْهِ فَقَال: انظُروا إلى فَيْءِ الشَّجَرةِ مَالَ عليهِ، فَقَالَ: أنشُدُكُم الله، أيُّكُمْ ولِيُّهُ؟ قَالُوا: أَبُو طَالِبٍ، فلمْ يَزَلْ يُناشِدُهُ حتَّى رَدَّهُ أَبُو طَالِبٍ، وبعثَ معهُ أَبُو بَكرٍ - رضي الله عنه - بِلالاً، وزوَّدَهُ الرَّاهِبُ مِنَ الكَعْكِ والزَّيْتِ. "من الحسان": " عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال: خرج أبو طالب إلى الشام، وخرج معه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أشياخ من قريش، فلما أشرفوا"؛ أي: اطلعوا. "على الراهب": وهو الزاهد من النصارى، قيل: اسم ذلك الراهب بحيرا، وكان أعلم النصارى، وكان موضعه ببصرى من بلاد الشام. "هبطوا"؛ أي: نزلوا. "فحلوا رحالهم"؛ أي: فتحوها. "فخرج إليهم الراهب، وكانوا قبل ذلك يمرُّون به، فلا يخرج إليهم،

قال"؛ أي: الراوي. "فهم يحلُّون رحالهم، فجعل يتخللهم الراهبُ"؛ أي: يدخل وسطهم. "حتى جاء، فأخذ بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: هذا سيد العالمين، وهذا رسول رب العالمين، يبعثه الله رحمةً للعالمين، فقال له أشياخ من قويش: ما علمك؟ فقال: إنكم حين أشرفتم من العقبة"؛ أي: وقت ظهوركم منها. "لم يبقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرَّ ساجداً، ولا يسجدان إلا لنبيٍّ، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفلُ من غضروف كتفه": وهو: اللحم الذي بين الكتفين. "مثل التفاحة، ثم رجع، فصنع له طعاماً، فلما أتاهم به"؛ أي: بالطعام. "وكان هو"؛ أي: النبي صلى الله تعالى عليه وسلم. "في رعية الإبل، فقال"؛ أي: الراهب. "أرسلوا إليه"؛ أي: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فأقبل وعليه غمامةٌ تظله، فلما دنا من القوم"؛ أي: قرب منهم. "وجدهم قد سبقوه إلى فيء شجرة"؛ أي: إلى ظلها. "فلما جلس مالَ فيءُ الشجرة عليه، فقال: انظروا إلى فيء الشجرة مال عليه، فقال: أنشدكم الله"؛ أي: أطلب منكم بالله. "أيكم وليُّه؟ "؛ أي: قريبه. "قالوا: أبو طالب، فلم يزل"؛ أي: الراهب. "يناشده"؛ أي: أبا طالب؛ يعني: يقول له: بالله سألتك أن ترد محمداً إلى مكة، وتحفظه من العدو، قيل: كان الراهب يخاف أن يذهبوا به إلى الروم، فيصلَ إليه الضرر منهم، فلذلك ناشده. "حتى ردَّه أبو طالب": إلى مكة.

"وبعث معه أبو بكر بلالاً، وزَّوده الراهبُ من الكعك والزيت". * * * 4635 - عَنْ عَلِيِّ بن أبي طَالِبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنْتُ مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بِمَكَّةَ، فخرَجْنا في بعضِ نَواحِيها، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ ولا شَجَرٌ إِلاَّ وهوَ يقولُ: السَّلامُ عليكَ يَا رَسُولَ الله!. "وعن عليٍّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة، فخرجنا في بعض نواحيها، فما استقبله جبلٌ ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله"! * * * 4636 - عَنْ أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أُتِيَ بالبُراقِ لَيْلةَ أُسْرِيَ بهِ مُلْجَماً مُسْرَجاً، فاسْتَصْعَبَ عليهِ، فَقَالَ لهُ جبريلُ: "أَبمُحَمَّدٍ تفعلُ هذا؟ فَمَا ركِبَكَ أَحَدٌ أكرمُ على الله مَنْهُ"، قَالَ: فارْفَضَّ عَرَقاً. غريب. "عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أتي بالبراق ليلة أُسرِي به مُلجَماً"؛ أي: مشدوداً عليه اللجام. "مُسرَجاً": موضوعاً عليه السرج؛ أي: كان مهيئاً للركوب. "فاستصعبَ عليه"؛ أي: البراق على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يمكنه من الركوب. "فقال له جبريل: أبمحمدٍ تفعل هذا؟ فما ركبك أحدٌ أكرم على الله منه"؛ أي: من محمد. "قال: فأرْفَضَّ عرقاً"؛ أي: سأل منه العرق. "غريب".

4637 - وعَنْ بُرَيْدةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لمَّا انتهَيْنا إلى بيتِ المَقْدِسِ قالَ جِبريلُ بأُصبُعِهِ، فخَرَقَ بها الحَجرَ، فشدَّ بهِ البُراقَ". "وعن بريدة - رضي الله عنه - قال: قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبرائيل بإصبعه"؛ أي: أشار بها. "فخرق بها الحجر"؛ أي: ثقب ثقباً نافذاً. "فشدَّ به البراق". * * * 4638 - عن يَعلى بن مُرَّة الثَّقَفيِّ قَالَ: ثَلاثةُ أَشْيَاءَ رأَيْتُها مِنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: بَيْنا نحنُ نَسيرُ معهُ إِذ مَرَرْنا ببَعِيرٍ يُسْنَى عَلَيهِ، فلَمَّا رَآهُ البَعيرُ جَرْجَرَ، فوضَعَ جِرانَهُ، فوقَفَ عليهِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فَقَال: "أينَ صاحِبُ هذا البعيرِ؟ "، فجَاءَهُ، فَقَالَ: "بِعْنِيهِ"، فَقَالَ: بلْ نَهَبُهُ لكَ يَا رَسُولَ الله! وإنَّهُ لِأَهلِ بيتٍ ما لهُمْ مَعيشَةٌ غيرُهُ، فقال: "أَمَّا إِذَ ذَكَرتَ هذا منْ أمْرِهِ فإنَّه شَكا كَثْرَةَ العملِ وقِلَّةَ العَلَفِ، فأحْسِنوا إليهِ"، ثُمَّ سِرْنا حتَّى نزَلْنا مَنْزِلاً، فَنَامَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فجَاءَتْ شَجَرةٌ تَشُقُّ الأَرْضَ حتَّى غَشِيَتْهُ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلى مَكانِها، فلمَّا استيقظَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذَكَرْتُ لهُ، فقال: "هِيَ شَجرةٌ استأْذَنَتْ ربَّها في أَنْ تُسَلِّمَ على رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأذَنِ لَها"، قال: ثُمَّ سِرْنا، فمَرَرْنا بماءٍ، فأتَتْهُ امرأَةٌ بابن لَهَا بهِ جِنَّةٌ، فأخذَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بمَنْخِرِهِ، ثُمَّ قَالَ: "اخرُجْ، إنِّي مُحَمَّد رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "، ثمَّ سِرْنا، فلمَّا رَجَعْنا مَرَرْنا بذلكَ المَاءِ، فَسَألَها عَنْ الصَّبيِّ، فَقَالَتْ: والَّذِي بعثَكَ بالحَقِّ، ما رأَيْنا منهُ رَيْباً بَعْدَك. "عن يَعلى بن مُرَّة الثقفي - رضي الله عنه - قال: ثلاثة أشياء رأيتها من رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعيرٍ يُسْنَى عليه"؛ أي: يُستقَى الماء.

"فلما رآه البعير جَرجَر"؛ أي: صوَّت وصاح، وقيل: أي: ردد الصوت. "فوضع جِرانه": وهو بكسر الجيم باطن العنق، وقيل: مقدم العنق من المذبح إلى المنحر. "فوقف عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: أين صاحب هذا البعير؟ فجاءه فقال: بعنيه، فقال: بل نهبه لك يا رسول الله، وإنه لأهل بيت ما لهم معيشةٌ غيره، قال: أما إذا ذكرت هذا من أمره، فإنه شكا كثرةَ العملَ وقلة العلفَ، فأحسنوا إليه، ثم سرنا حتى نزلنا منزلاً، فنام النبي - صلى الله عليه وسلم -، فجاءت شجرةٌ تشقُّ الأرضَ حتى غشيته"، أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأظلته. "ثم رجعت إلى مكانها، فلما استيقظ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ذكرت له فقال: هي شجرةٌ استأذنت ربها في أن تسلم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأذن لها، قال: ثم سِرْنا فمررنا بماءٍ"؛ أي: بقبيلةٍ. "فأتته امرأةٌ بابن لها به جِنةٌ": بكسر الجيم؛ أي: بالابن جنونٌ. "فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنخره، ثم قال" للجنون: "اخرجْ؛ فإني محمد رسول الله، ثم سرنا فلما رجعنا مررنا بذلك الماء، فسألها عن الصبي فقالت: والذي بعثك بالحق نبياً ما رأينا منه"؛ أي: من الصبي "رَيْباً"؛ أي: مكروهاً، وقيل: أي: شكاً؛ يعني: ما رأينا منه ما أوقعنا في الشك من حاله. "بعدك"؛ أي: بعد مفارقتك عنا. * * * 4639 - وَقَالَ ابن عبَّاس - رضي الله عنهما -: إنَّ اَمْرأةً جَاءَتْ بابن لَهَا إلَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله! إنَّ ابني بهِ جُنونٌ، وإِنَّهُ يأخُذُهُ عِنْدَ غَدائِنا وعَشائِنا، فمَسَحَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - صَدْرَهُ ودَعا، فثَغَّ ثَعَّةً، وخرجَ منْ جَوْفِهِ مثلُ الجَرْوِ الأَسْودِ يَسعَى.

"وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إن امرأةً جاءت بابن لها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إن ابني به جنونٌ، وإنه ليأخذه عند غدائنا وعشائنا"؛ أي: عند صباحنا ومسائنا. "فمسح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صدره، ودعا، فثَعَّ ثعةً": بتشديد العين؛ أي: قاء قيئةً. "وخرج من جوفه مثل الجِرو الأسود": والجِرو - بكسر الجيم -: ولد الكلب وغيره من السباع. "يسعى": حالٌ من الجرو؛ أي: يتحرك ويمشي، وفيه دليل على جواز الرقية إذا لم يكن فيها غير اسم الله تعالى. * * * 4640 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاء جِبريلُ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وهو جالِسٌ حَزينٌ، قدْ تَخضَّبَ بالدَّمِ مِنْ فِعْلِ أهلِ مَكَّةَ، قَالَ: يا رَسُولَ الله! هَلْ تُحبُّ أنْ نُريَكَ آَيَةً؟ قال: "نَعَمْ"، فنَظَرَ إلى شَجرةٍ منْ ورائِهِ فَقَال: "ادعُ بِهَا"، فدَعا بها، فجاءتْ، فقامَتْ بينَ يَدَيْهِ، فقال: مُرْهَا فلْتَرجِعْ، فَأَمَرَها، فَرجَعَتْ، فَقَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "حَسْبي، حَسْبي". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: جاء جبرائيل - عليه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس حزينٌ، قد تخضَّب بالدم من فعل أهل مكة": وذلك كان يوم أُحُدٍ من كسر رَباعيته. "قال: يا رسول الله! هل تحب أن نريك آية؟ "؛ أي: علامة لصحة نبوتك، قيل: قاله جبريل - عليه السلام - لتردده - صلى الله عليه وسلم - في نبوته؛ لأنه كان في أَول الأمر. "قال: نعم، فنظر إلى شجرة من ورائه، فقال جبريل: ادعُ بها، فدعا

بها، فجاءت، فقامت بين يديه، فقال: مرها فلترجعْ، فأمرها فرجعت، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: حسبي حسبي"؛ أي: كفاني في تسليتي عمَّا لقيته من حزني هذه الكرامةُ من ربي. * * * 4641 - وقَالَ ابن عُمَرَ - رضي الله عنه -: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في سَفَرٍ، فأقبَلَ أَعْرَابيٌّ، فَلَمَّا دَنا قَالَ لهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "تشهدُ أنْ لا إِلهَ إلَّا الله وحْدَهُ لا شَريكَ لهُ، وأنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ ورسولُهُ؟ "، قَالَ: ومَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَا تَقُولُ؟ قَالَ: "هذِهِ السَّلَمَةُ"، فَدَعَاهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهوَ بِشَاطِئِ الوَادِي، فَأَقبَلَتْ تَخُدُّ الأَرْضَ حتَّى قامَتْ بينَ يَدَيْهِ، فاستَشْهَدَها ثَلاَثاً، فَشَهِدَتْ ثَلاثاً أَنَّه كَمَا قَالَ، ثُمَّ رَجَعَتْ إلى مَنْبتِها. "قال ابن عمر: كنَّا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرٍ فأقبل أعرابيٌّ، فلما دنا قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تشهد": بحذف حرف الاستفهام. "أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله؟ قال: ومن يشهد على ما تقول؟ قال: هذه السَّلَمة": وهي بفتحتين: شجرة من العضاه، ورقُها القرظُ الذي يُدَبغ به الجلد، وبكسرها: الحجر. "فدعاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بشاطئ الوادي"؛ أي: كان - صلى الله عليه وسلم - واقفاً بطرفه. "فأقبلتْ تَخُدُّ الأرضَ": بضم الخاء المعجمة وتشديد الدال المهملة؛ أي: تشقها. "حتى قامت بين يديه، فاستشهدها ثلاثاً، فشهدت ثلاثاً: أنه كما قال، ثم رجعتْ إلى منبتها".

4642 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: جَاءَ أَعْرَابيٌّ إلى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: بِمَ أَعْرِفُ أَنَّكَ نبيٌّ؛ قَالَ: "إِنْ دَعَوْتُ هذا العِذْقَ منْ هذهِ النَّخْلَةِ يَشْهَدُ أنِّي رَسُولُ الله"، فدَعاهُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعلَ يَنزِلُ منَ النَّخْلَةِ حتَّى سَقَطَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ قال: "ارجِعْ"، فَعَادَ، فَأَسْلَمَ الأَعْرابيُّ. صَحَّ. "عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال: جاء أعرابيٌّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: بم أعرف أنك نبيٌّ؟ قال: أن دعوتُ": بفتح الهمزة. "هذا العِذْقَ" بكسر العين المهملة: العرجون بشماريخه. "من هذه النخلة": والعذق من النخل بمنزلة العنقود من العنب. "يشهد أني رسول الله، فدعاه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعل ينزل من النخلة حتى سقطَ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: ارجعْ فعاد، فأسلمَ الأعرابيُّ"، "صح". * * * 4643 - عَنْ أبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: جَاءَ ذِئبٌ إلى رَاعِي غَنْمٍ فأخذَ منها شَاةً، فطَلبَهُ الرَّاعِي حتَّى انتزَعَها منهُ، قَالَ: فصَعِدَ الذِّئبُ على تَلِّ فأقْعَى واسْتَقَّر وقال: عَمَدْتُ إلى رِزْقٍ رَزَقَنِيهِ الله أَخَذْتُهُ ثمَّ انتزَعْتَهُ منِّي؟ فقالَ الرَّجلُ: تالله إنْ رأيتُ كاليومِ! ذِئبٌ يَتكلَّمُ؟ فقالَ الذِّئبُ: أَعْجَبُ منْ هذا رَجُلٌ في النَّخَلاتِ بينَ الحَرَّتَيْنِ يُخْبرُكُمْ بِمَا مَضَى وبمَا هوَ كَائِنٌ بعدَكُمْ، قال: وكَانَ الرَّجُلُ يَهُودِياً، فجَاءَ إِلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخبرَهُ وأسلَمَ، فصَدَّقَهُ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ قَالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -. "إنَّها أَمَاراتٌ بينَ يَدَي السَّاعَةِ، فقدْ أَوْشَكَ الرَّجُلُ أنْ يَخرُجَ فلا يَرجِعَ حتَّى تُحدِّثَهُ نَعْلاهُ وسَوْطُه بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء ذئبٌ إلى راعي غنمٍ، فأخذ منها شاةً، فطلبه الراعي حتى انتزعها منه، قال: فصعد الذئبُ على تلٍّ فأقْعَى"؛ أي:

جلس مقعياً، وهو: أن يجلس على وركيه، وينصب يديه. "واستثفرَ"؛ أي: أدخل ذنبه بين رجليه. "وقال: عمدت إلى رزقٍ رزقنيه الله، أخذته، ثم انتزعته مني، فقال الرجل: تالله إن رأيتُ كاليوم"؛ أي: ما رأيت أعجوبةً كأعجوبةِ اليوم، فحُذِف الموصوف، وأُقِيمت الصفة مقامه، ثم حُذِف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وقيل: معناه وتقديره: ما رأيت ذئباً يتكلم مثل الذئب الذي رأيته في اليوم. "ذئب": خبر مبتدأه محذوف، كأنه قيل: وأي شيءٍ هو؟ فقال: هو ذئب. "يتكلم فقال الذئبُ: أَعْجَبُ من هذا رجلٌ في النَّخَلات بين الحرَّتين"؛ أي: بين الحجرين، والحرةُ: حجارة سُود بين جبلين. "يخبركم بما مَضَى وما هو كائنٌ بعدكم، قال: فكان الرجل يهودياً فجاء إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبره وأسلم فصدَّقه النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: إنها"؛ أي: إن الحال التي رأيتُها "أمارات"؛ أي: علامات "بين يدي الساعة قد أوشك الرجل"؛ أي: قرب "أن يخرجَ فلا يرجع حتى تحدِّثَه نعلاه وسوطه بما أحدث أهله بعده"؛ أي: بعد أن يخرج. * * * 4644 - عَنْ أبي العَلاءِ عَنْ سَمُرَةَ بن جُنْدَبٍ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنَّا معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - نتَداول منْ قَصْعَةٍ مِنْ غُدْوَةٍ حتَّى اللَّيلِ، تَقُومُ عَشَرةٌ وتَقْعُدُ عَشَرةٌ، قُلنا: فَمَا كانتْ تُمَدُّ؟! قَالَ: منْ أيِّ شَيءٍ تَعْجَبُ؟ ما كانتْ تُمَدُّ إلَّا مِنْ هَاهُنَا، وأَشَارَ بيدِهِ إِلى السَّماءَ.

"عن أبي العلاء، عن سمُرة بن جندَب - رضي الله عنهما -: قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نتداولُ من قصعةٍ"؛ أي: نتناوب بأكل الطعام منها. "من غدوةٍ حتى الليل"؛ يعني: طولَ النهار. "تقوم عشرة وتقعد عشرة، قلنا: فما كانت تُمد"، على صيغة المجهول؛ من الإمداد؛ أي: فأي شيء كانت القصعة تُزاد طعاماً، يعني: من أين يكثُر الطعام فيها طولَ النهار. "قال"؛ أي: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "من أي شيء تعجب"؛ يعني: لا تعجب. "ما كانت تُمد إلا من هاهنا، فأشار بيده إلى السماء"؛ يعني: لا يكون كثرة الطعام فيها إلاّ من عالم القُدرة بنزول البركة فيما فيها منه. * * * 4645 - عَنْ عبدِ الله بن عَمْرٍو - رضي الله عنه -: أَنَّ نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ يومَ بَدْرٍ في ثَلاَثِ مِئَةٍ وخَمْسةَ عَشَرَ، فقال: "اللهمَّ! إنَّهُمْ حُفاةٌ فاحْمِلْهُمْ، اللهمَّ إنَّهُمْ عُراةٌ فاكْسُهُمْ، اللهمَّ إنَّهُمْ جِياعٌ فأَشْبعْهُمْ"، ففَتحَ الله لَهُ، فانقَلَبوا وما منهُمْ رَجُلٌ إِلاَّ وقدْ رَجَعَ بجَمَلٍ أو جَمَلَيْنِ، واكتَسَوا وشَبعوا. "عن عبد الله بن عمرو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج يوم بدرٍ في ثلاث مئة وخمسة عشر" رجلاً، "فقال: اللهم إنهم حفاة": جمع الحافي "فاحملهم"؛ أي: أعطِ كلَّ واحدٍ منهم المركوب. "اللهم إنَّهم عُراة": جمع العاري "فاكسهم"؛ أي: أعطهم كساء. "اللهم إنهَّم جياع": جمع الجائع "فأشبعهم، ففتح الله له"؛ أي: للنبي - صلى الله عليه وسلم - "فانقلبوا"؛ أي: انصرفوا "وما منهم رجلٌ إلاّ وقد رجع بجملٍ أو جملين واكتسوا وشَبعوا".

4646 - عَنِ ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -، عَنْ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّكُمْ مَنصورُونَ ومُصِيْبُونَ ومَفتوحٌ لَكُمْ، فمَنْ أَدْرَكَ ذلكَ منكُمْ فليَيَّقِ الله، ولْيأْمُرْ بالمَعْروفِ، ولْيَنْهَ عَنِ المُنكَرِ". "عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنكم منصورون": على الأعداء، "ومصيبون"؛ أي: الغنيمة، "ومفتوحٌ لكم"؛ أي: يفتح لكم البلاد الكثيرة. "فمن أدرك ذلك منكم فليتقِ الله وليأمُرْ بالمعروف ولْيَنْهَ عن المنكر"، قيل: أي: عن الغُلول. * * * 4647 - وَعَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ يَهودِيَّةً مِنْ أَهلِ خَيْبَرَ سَمَّتْ شَاةً مَصْلِيَّةً، ثمَّ أهدَتْها لِرَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأَخذَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذِّرَاعَ فأَكَلَ منها، وأكلَ رَهْطٌ منْ أَصْحَابهِ معهُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارْفَعوا أيْدِيَكُمْ"، وأَرْسَلَ إلى اليَهودِيَّةِ، فدَعَاها فقال: "سَمَمْتِ هذِه الشاةَ؟ "، فقالت: مَنْ أخبَرَكَ؟ فقال: "أخبَرَنِي هذِه في يَدِي"، يَعني: الذِّراعَ، قالتْ: نعَمْ، قلتُ: إنْ كانَ نبَيًّا فلنْ يَضُرَّهُ، وإنْ لمْ يكُنْ نبيًّا اسْتَرَحْنا منهُ، فعفَا عَنْهَا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ولمْ يُعاقِبْها. "عن جابر - رضي الله عنه -: أن يهوديةً"، وهي زينب بنت الحارث "من أهل خيبر سَمَّت شاةً"؛ أي: جعلت فيها سماً. "مَصْلِيَّة"؛ أي: مشوية؛ من صليت اللحم - بتخفيف اللام -: شويته بالصَّلا، وهي النار. "ثم أهدتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - الذراعَ فأكل منها، وأكل رهطٌ من أصحابه معه، فقال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ارفعوا أيديكم، وأرسل إلى

اليهوديَّة فَدَعاها، فقال: سَمَمْتِ هذه الشاةَ؟ فقالت: مَنْ أخبرك؟! قال: أخبرتني هذه في يدي": حال من (هذه)؛ أي: مستقرةً فيها. "الذراع": خبر مبتدأ محذوف. "قالت: نعم، قلت: إن كان نبياً فلن يضرَّه، وإن لم يكن نبياً استرحنا منه، فعفى عنها"؛ أي: عن هذه المرأة "رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يعاقبها". وفي رواية: "أنه - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتلها فَقْتلت". وجه التوفيق بين الروايتين: أنه عفا عنها أولاً، ثم لما مات بِشْر بن البراء من الأَكلة التي ابتلعها أَمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بقتلها، فقُتلت في الحال. * * * 4648 - عَنْ سَهْلِ بن الحَنْظَلِيَّةِ: أنَّهُمْ سَارُوا مَعَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَومَ حُنَيْنٍ، فأطْنَبُوا السَّيْرَ حتَّى كَانَ عَشِيَّةً، فجَاءَ فَارِسٌ فقال: يا رَسُولَ الله! إنِّي طَلعْتُ عَلَى جَبَلِ كَذا وكَذا، فإذا أَنَا بهَوازِنَ على بَكْرَةِ أَبيهِمْ بظُعُنِهِمْ وَنعَمِهِمْ، اجْتَمَعُوا إِلَى حُنَيْنٍ، فتبسَّمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "تِلكَ غَنيمَةُ المُسلِمِينَ غداً إنْ شَاءَ الله"، ثُمَّ قال: "مَنْ يَحْرُسُنا الَّليلةَ؟ "، قالَ أَنسُ بن أبي مَرْثَدٍ الغَنَوِيُّ: أَنَا يا رَسُولَ الله! قال: "اركَبْ"، فركبَ فرَساً لهُ فقال: "استقْبلْ هذا الشِّعْبَ حتَّى تكونَ في أَعْلاهُ"، فلمَّا أَصْبَحْنا خَرَجَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مُصَلاَّه فركَعَ ركعَتَيْن ثُمَّ قال: "هلْ حَسِسْتُمْ فارِسَكُمْ؟ "، فقالَ رَجُلٌ: ما أَحْسَسْنا، فثُوِّبَ بالصَّلاة، فجعَل رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلي يَلْتَفِتُ إلى الشِّعْبِ، حتى إذا قَضَى الصَّلاةَ قال: "أبشِروا فقدْ جاءَ فارِسُكُمْ"، فجعَلْنا نَنْظُرُ إلى خِلالِ الشَّجرِ في الشِّعْبِ، وَإِذَا هوَ قدْ جاءَ حتَّى وَقَفَ على رَسُوِل الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إِنِّي انطلَقْتُ حتَّى كُنْتُ في أَعْلَى هذا الشِّعْبِ حَيْثُ أمرَنِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا أَصبحْتُ طَلَعْتُ الشِّعْبَيْنِ

كليهما فلمْ أرَ أَحَداً، فقالَ لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هلْ نزلْتَ الليلةَ؟!، قال: لا، إلَّا مُصَلِّيا أوْ قَاضيَ حَاجَةٍ، قالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا عَلَيْكَ أنْ لا تَعْمَلَ بَعْدَها". "وعن سهل بن الحَنْظلية: أنهم ساروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ حُنينٍ فأطنبوا السير"؛ أي. بالغوا فيه وأطالوه. "حتى كان عشية، فجاء فارسٌ فقال: يا رسول الله! إنِّي طَلَعت على جبل كذا"؛ أي: أتيته، "فإذا أنا بهوازن" قبيلة من قيس "على بَكْرة أبيهم"؛ أي: جاؤوا بأجمعهم، يقال: جاؤوا على بَكْرة أبيهم: للجماعة إذا جاؤوا جميعاً بلا تخلُّف أحدٍ منهم. "بظُعُنهم": الظُّعْن - بضم الظاء المعجمة وسكون العين المهملة - جماعة الرجال، أو النساء الذين يظعنون، والمراد بها الهودج معهنَّ. "ونعمهم اجتمعوا إلى حُنين، فتبسَم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: تلك غنيمةُ المسلمين غداً إن شاء الله، ثم قال: مَنْ يحرسنا"؛ أي: مَنْ يكون حارساً لنا "الليلة؟ قال أنس بن أبي مرثد الغَنَوي: أنا يا رسول الله، قال: اركب، فركب فرساً له فقال: استقبلْ هذا الشِّعب"، وهو بالكسر: الطريق في الجبل. "حتّى تكون في أعلاه، فلمَّا أصبحنا خرج رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مصلَّاه، فركع ركعتين، ثم قال: هل حسستم"؛ أي: هل أدركتم بالحر "فارسَكم"، يريد به: أنس بن أبي مرثد الغنويّ الذي أرسله ليتفحَّص عن حال العدو. "فقال رجل: يا رسول الله! ما أحسسنا، فَثُوِّبَ بالصلاة"؛ أي: أقيم بها، "فجعل"؛ أي: طَفِق "رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلّي": الواو للحال؛ أي: حال كونه مصلِّياً "يلتفت إلى الشِّعب"، وفيه دليل على أن الالتفات في الصلاة لا يبُطلها. "حتّى إذا قضى الصلاةَ"؛ أي: فَرَغ منها "قال: أبشِروا، فقد جاء فارسُكم، فجعلنا ننظُر إلى خِلال الشَّجر في الشِّعب، فإذا هو قد جاء حتى

وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إِنِّي انطلقت حتى كنت في أعلا هذا الشَّعب حيث أمرني النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلما أصبحت طلعت الشِّعبين كليهما، فلم أر أحداً، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: هل نزلتَ الليلة"؛ أي: عن فرسك؟ "قال: لا، إلا مصلِّياً أو قاضيَ حاجةٍ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلا عليكَ أن لا تعمل بعدها"؛ أي: فلا بأس عليك في ترك العمل الصالح سوى الفرائض بعد هذه الليلة؛ لأنه قد حَصَل لك فضيلة كافية، وهذه بشارةٌ له منه - صلى الله عليه وسلم - بأن الله قد غفر له ما تقدَّم من ذنبه وما تأخر. * * * 4649 - وعن أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: أتيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بتَمَراتٍ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله! ادْعُ الله فيهِنَّ بالبَرَكَةِ، فضَمَّهُنَّ ثُمَّ دَعا لِي فيهنَّ بالبَرَكَةِ، قال: "خُذهُنَّ فاجعَلْهُنَّ في مِزْوَدِكَ، كُلَّمَا أَرَدْتَ أنْ تأخُذَ منهُ شَيْئاً فأدْخِلْ فيهِ يَدَكَ فخُذْهُ، ولا تَنْثُرْهُ نَثْراً"، فقدْ حَمَلْتُ منْ ذلكَ التَّمرِ كَذا وكَذا مِنْ وَسْقٍ في سَبيلِ الله، فكُنَّا نَأْكُلُ مِنهُ ونُطْعِمُ، وكانَ لا يُفارِقُ حِقْوِي حتَّى كانَ يَوْمُ قَتْلِ عُثمانَ فإنَّهُ انقطَعَ. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بتمراتٍ فقلت: يا رسولَ الله! ادعُ الله فيهنَّ بالبركة، فضمَّهنَّ ثم دعا لي فيهن"؛ أي: في التمرات "بالبركة، قال: خذهنَّ فاجعلْهُن في مِزْودك" - بكسر الميم - هو ما يجعل فيه الزَّاد. "كلَّما أردتَ أن تأخذ منه شيئاً فأدخِلْ فيه يدَك فخذه، ولا تنشره نشراً، فقد حملت من ذلك التمر كذا وكذا من وسقٍ": وهو ستون صاعاً "في سبيل الله تعالى، فكنَّا نأكل منه ونُطعم، وكان لا يفارق حقوي"؛ أي: مَعْقِد إزاري، "حتى كان يوم قتلِ عثمان، فإنَّه"؛ أي: المِزْود "انقطع مني"؛ أي: سقط وضاع، وفيه إشارة إلى أن الفساد إذا شاع وكثُر بين الناس ارتفعت البركة، كما

6 - باب الكرامات

أن بالصلاح تنزل البركة، فبالفساد تزولُ وترتفع. وكان أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول: للناس همُّ ولي هَمَّان بينهم. . . همُّ الجِراب وهمُّ الشيخ عثمانا * * * 6 - باب الكَرَامَاتِ " باب الكرامات": جمع كرامة، وهي تشارك المعجزةَ في خَرق العادة، وتفارقها بقدرة الأنبياء عليها متى أرادوها؛ ليسهل عليهم تمهيد الأديان والشرائع، وبأن المعجزة تقترن بالتحدِّي مع عدم المعارضة، بخلاف الكرامة. مِنَ الصِّحَاحِ: 4650 - قَالَ عَبْدُ الله بن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه -: لَقَدْ كُنَّا نَسْمَعُ تَسْبيْحَ الطَّعامِ وهُوَ يُؤكَلُ. "من الصحاح": " قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: لقد كنَّا نسمَع تسبيحَ الطعام وهو يؤكل". * * * 4651 - وعَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه -: أن أُسَيْدَ بن حُضَيْرٍ وعَبَّادَ بن بِشْرٍ تَحدَّثَا عِنْدَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حَاجةٍ لَهُمَا حتى ذَهَبَ مِن الَّليلِ سَاعة، في لَيْلة شَدِيْدةِ الظُّلمةِ، ثُمَّ خَرَجَا مِن عِندِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْقَلِبانِ وبيَدِ كُلِّ واحدٍ مِنْهُمَا عُصَيَّةٌ، فأَضَاءَتْ عَصَا أَحدِهِما لَهُمَا حتَّى مَشَيَا في ضَوْئها، حَتى إذَا افترقَتْ بِهِما الطَّريقُ أَضَاءَت

بالآخرِ عَصاهُ، فمَشَى كُلُّ واحدٍ مِنْهُما في ضَوءِ عَصاهُ حَتَّى بَلَغَ أَهْلَه. "وعن أنس: أنَّ أُسيد بن حُضير وعبادة بن بشر - رضي الله عنهم - تحدّثا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - في حاجةٍ لهما حتى ذهبَ من الليل ساعةٌ في ليلةٍ شديدة الظلمة، ثمَّ خرجا من عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينقلبان، وبيد كل واحدٍ منهما عُصَيَّة": تصغير عصا، "فأضاءت عصا أحدِهما لهما حتى مَشَيا في ضوئها، حتى إذا افترقت بهما الطريقُ أضاءت للآخر عصاه، فمشى كلّ واحدٍ منهما في ضوء عصاه حتى بلغَ أهلَه": فضوءُ عصاهما كان كرامةً لهما. * * * 4652 - وقالَ جابرٌ: لَمّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعانِي أبي مِنَ اللَّيلِ فَقال ما أُراني إِلَّا مَقْتُولًا في أَوَّلِ مَن يُقتَلُ مِن أَصحابِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، وإنِّي لا أتركُ بعدي أَعَزَّ عليَّ مِنْكَ غيرَ نفسِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّ عَلى دينًا فاقْضِ، واستَوْصِ بأخواتِكَ خَيْرًا، فَأَصبَحْنا فَكانَ أَوَّلَ قَتِيْلٍ، ودَفَنته معَ آخرَ في قبرٍ. "وقال جابرٌ - رضي الله عنه - لما حَضَر أُحدٌ"؛ أي: حرب أحد، "دعاني أبي من الليل، فقال: ما أُراني"؛ أي: ما أظنني "إلَّا مقتولًا في أول من يقتل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإني لا أترك بعدي أعزَّ عليَّ منك غيرَ نَفْسِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإنَّ علي دينًا فاقض واستوص بأخواتك"؛ أي: اقبل وصيتي فيهنَّ "خيرًا"؛ أي: استيصاء خيرًا، قيل: كان لجابر تسع أخواتٍ. "فأصبحنا، فكان أول من قتل"، وكان هذا القول من أبي جابر كرامة. "ودفنته مع آخرَ في قبَر"؛ أي: مع شخصٍ آخر من المقتولين في قبرٍ واحدٍ، وهذا يدل على أن الاثنين يُدفنان في قبرٍ واحد.

4653 - وقالَ عَبدُ الرَّحمنِ بن أَبي بَكْرٍ - رضي الله عنهما -: إِنَّ أَصحابَ الصُّفَّةِ كانُوا أُناسًا فُقَراءَ، وإِنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَن كانَ عِندَهُ طَعامُ اثنينِ فلْيَذهبْ بثالثٍ، ومَن كانَ عندَه طَعامُ أَرْبَعةٍ، فليَذهبْ بخامِسٍ، أو سادِسٍ"، وإنَّ أَبا بكرٍ جاءَ بثَلاثةٍ، وانطلقَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - بِعَشَرَةٍ، وإنَّ أبا بَكْرٍ تَعَشَّى عِندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ لَبثَ حتَّى صُلِّيَت العِشاءُ، ثُمَّ رَجَعَ فلبثَ حتَّى تَعَشَّى النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فجاءَ بعدَ ما مَضَى مِن الَّليلِ ما شاءَ الله، قالَتْ له امرأتُهُ: ما حَبَسَكَ عن أَضْيافِكَ؟ قَالَ: أَوَ ما عَشَّيْتِيهم؟ قالَت: أَبَوا حتَّى تَجيءَ، فغضبَ وقالَ: والله لا أَطْعَمُه أَبَدًا، فَحَلفَتِ المَرأةُ أنْ لا تَطعمُه، وحَلَفَ الأَضْياف أَنْ لا يَطَعمُوه، قَالَ أبو بكرٍ - رضي الله عنه -: كانَ هذا مِن الشَّيطانِ، فَدَعا بالطَّعامِ فأكَلَ وأكَلُوا، فجَعَلُوا لا يرفعُون لُقْمَةً إِلَّا رَبَتْ مِن أَسْفلِها أكَثَرُ منها، فقالَ لامرأتِه: يا أُختَ بني فِراس! ما هذا؟ قالَت: وقُرَّةِ عيني، إِنَّها الآنَ لأكثرُ منها قبلَ ذلكَ بِثَلاثِ مِرارٍ، فأكلوا، وبَعَثَ بها إِلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فذُكرَ أَنَّه أكَلَ منها. "وقال عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنهما -: إنَّ أصحاب الصُّفَّة كانوا أناسًا فقراء، وإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال" عند توزيعه إيّاهم على الصحابة: "من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث"؛ معناه: طعام الاثنين يغذّي الثلاثة ويُزيل الضعف عنهم. "ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامسٍ أو سادسٍ، وانَّ أبا بكرٍ": - رضي الله عنه - "جاء بثلاثةٍ، وانطلق النبي - صلى الله عليه وسلم - بعشرة، وإن أبا بكرٍ تعشى"؛ أي: أكل العشاء "عند النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ثمَّ لَبثَ حتى صُلِّيت العشاء، ثمَّ رجع فلبث حتى تعشَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - "، في بعضٍ: "حتى نَعِسَ" من النعاس، قيل: هذا أصحّ. "فجاء بعد ما مضى من الليل ما شاء الله، فقالت له امرأته: ما حبسك عن أضيافك؟ قال: أو ما عشيتهم"، الهمزة للاستفهام، والواو للعطف، التعشية: إعطاء العشاء أحداً.

"قالت: أَبَوا حتى تجيء، فغضب وقال: والله لا أطعمه"؛ أي: الطعام "أبدًا، فحلفت المرأة أن لا تطعمه، وحلف الأضياف أن لا يطعموه، قال أبو بكر: كان هذا من الشيطان، فدعا" أبو بكرٍ "بالطعام فأكل وأكلوا، فجعلوا لا يرفعون لُقمةً إلا رَبَت"؛ أي: زادَت "من أسفلها أكثر منها"، وضمير التأنيث للطعام. "وقال لامرأته: يا أخت بني فراس" - بكسر الفاء -: "ما هذا؟! ": وكانت أم عائشة وعبد الرحمن ويقال لها أُم رُومان من بني فراس بن غنم بن مالك بن النضر بن كِنانة. "قالت: وقرة عيني" بالجر، والواو للقسم، وفي بعضٍ بالنصب: منادى حُذف نداؤه. "إنها الآن لأكثر منها قبل ذلك بثلاث مِرارٍ، فأكلوا وبَعَثَ بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر أنَّه أكل منها". * * * مِنَ الحِسَان: 4654 - عَنْ عائِشَةَ رَضيَ الله عنْها قالَتْ: لمّا ماتَ النَّجاشِيُّ كُنّا نتَحدَّثُ أَنَّه لا يَزالُ يُرَى على قبرِهِ نورٌ. "من الحسان": " عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لمّا مات النجاشي كنا نتحدث أنَّه لا يزال يُرى على قبره نورٌ".

4655 - وقالَتْ عائِشَةُ رَضيَ الله عَنْها: لمّا أَرادُوا غَسْلَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالُوا: لا نَدري، أنجَرِّدُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن ثيابهِ كما نُجَرِّدُ مَوتانَا، أَمْ نَغْسِلُه وعَلَيْهِ ثِيابُه؟ فلمّا اختلفُوا ألقَى الله عليهم النَّومَ، حتَّى ما مِنهُم رَجُل إلا وَذَقْنُه في صَدره، ثُمَّ كلَّمَهُم مُكَلِّم مِن نَاحِيَةِ البيتِ لا يَدرُونَ مَن هُوَ: اغِسلُوا النَّبيَّ وعليهِ ثِيابُه، فَقامُوا فَغَسلوهُ وعليهِ قَميصُه، يَصبُّونَ الماءَ فَوْقَ القَميصِ ويُدَلِّكُونهُ بالقَمِيصِ. "وقالت عائشة - رضي الله عنها - لما أرادوا غسلَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالوا: لا ندري أنجرِّد رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابُه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عليهم النومَ حتى ما منهم رجلٌ إلا وذَقْنه في صدره، ثمَّ كلّمهم مكلّمٌ من ناحية البيت لا يدرون مَنْ هو: اغسلوا النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليه ثيابُه"، هذا بيانٌ لقوله: (كلمهم). "فقاموا فغسلوه وعليه قميصه يصبُّون الماء فوق القميص، ويَدلكُونه بالقميص"، والحديث يدل على أن غسل الميت وعليه قميصُه مستحب. * * * 4656 - عَنْ ابن المُنْكَدِرِ: أنَّ سَفِيْنَةَ مَولَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أخَطْأ الجيشَ بأرضِ الرُّومِ، أَوْ أُسِرَ، فانطلقَ هارِبًا يلتمِسُ الجيشَ فإذا هو بالأسدِ، فقال: يا أبا الحارثِ! أنا مَولَى رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، كانَ مِن أَمْري كيْتَ وكيْتَ، فأقبلَ الأَسَدُ، لهُ بصبَصَةٌ، حتَّى قامَ إلى جنبهِ، كلَّما سَمعَ صَوتًا أَهْوَى إِليْهِ، ثُمَّ أَقبلَ يَمْشِي إلى جَنْبهِ حتَّى بَلَغَ الجَيْشَ، ثُمَّ رَجَعَ الأَسَدُ. "عن ابن المُنْكَدر: أن سفينة - رضي الله عنه - مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخطأ الجيش"؛

أي: ضَلَّ الطريقَ فلم يهتد إليهم سبيلًا، "بأرض الروم، أو أُسِرَ فانطلق هاربًا يلتمس الجيشَ، فإذا هو بالأسد فقال: يا أبا الحارث" - كنية الأسد -: "أنا مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان من أمري كَيت وكيت، فأقبل الأسد له بَصبَصَة"؛ أي: تحريك ذنب كفعل الكلب تملُّقاً وتذللًا إلى صاحبه "حتى قام إلى جنبه، كلما سمع"؛ أي: الأسد "صوتًا أهوى إليه"؛ أي: قصده. "ثمَّ أقبل يمشي إلى جنبه حتى بَلَغ"؛ أي: سفينةُ "الجيشَ، ثمَّ رجع الأسد". * * * 4657 - عَنْ أَبي الجَوْزاءِ - رضي الله عنه - قال: قُحِطَ أَهْلُ المَدِينَةِ قَحطًا شَدِيْدًا، فَشَكَوْا إِلَى عائِشةَ رَضيَ الله عَنْها فَقالَت: انظُروا قبرَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاجعَلُوا مِنهُ كُوًى إلى السَّماءِ، حتَّى لا يكونَ بينَهُ وبينَ السَّماءِ سَقفٌ، ففعلُوا فمُطِرُوا مَطَرًا حتَّى نبتَ العُشْبُ وسَمِنَتِ الإِبلُ، حتَّى تَفتّقَتْ مِنَ الشَّحم، فسُمِّيَ عامَ الفَتْقِ. "عن أبي الجَوزاء قال: قحط أهل المدينة قحطًا شديدًا، فشكَوا إلى عائشة - رضي الله عنها - فقالت: انظروا قبَر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فاجعلوا منه كوًى"، جمع كوة - بضم الكاف وفتحها -؛ أي: منافذ "إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سَقْفٌ ففعلوا"، يحتمل أن تلك الكُوى كانت وسيلةً إلى الله في الاستسقاء به ميتًا كَهُو حيًا. "فمُطروا مطرًا"، قيل: يحتمل أن المطر كان بكاءً من السماء لمّا رأت قبره - صلى الله عليه وسلم -، فسال الوادي من بكائها، قال الله تعالى حكايةً عن الكفار: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29]، فحقيق للسماء أن تبكي على فقد النبي - صلى الله عليه وسلم -. "حتى أثبت العشب وسَمِنت الإبل حتى تفتَّقت من الشَّحم"؛ أي: انشقت من الشحم، وقيل: أي: انتفخت خَواصِرُها مِن كثرة الرعي.

"فسمي عام الفَتْق"؛ أي: الخصْب. * * * 4658 - عَنْ سعِيْدِ بن عَبْدِ العَزيزِ قَالَ: لمّا كانَ أيّامَ الحَرَّةِ لم يُؤَذَّنْ في مَسْجدِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا ولم يُقَمْ، ولم يَبْرح سعِيْدُ بن المُسَيَّبِ مِن المَسْجدِ، وكانَ لا يَعْرِفُ وقْتَ الصَّلاةِ إلَّا بِهَمْهَمَةٍ يَسمعُها مِن قَبرِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. "عن سعيد بن عبد العزيز - رضي الله عنه - قال: لما كان؛ أي: وقع "أيام الحرة"، (كان) هذه تامة، وأيام الحرة وقعة كانت في المدينة مشهورة في زمن يزيد بن معاوية، وهذه الحرة أرضٌ بظاهرها بها حجارةٌ سودٌ. "لم يُؤذَّن في مسجد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ثلاثًا، ولم يُقمَ": الفعلان كلاهما علي بناء المجهول، "ولم يبرح سعيد بن المسيّب المسجدَ"؛ أي: لم يزل من المسجد. "وكان لا يعرف وقت الصلاة إلا بهمْهَمة": وهي كلامٌ خفي لا يفهم، وقيل: ترديد الصوت في الصَّدر، "يسمعها من قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - ". * * * 4759 - قِيلَ لأبي العاليةِ: سَمعَ أَنسُ بن مالك - رضي الله عنه - مِن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: خَدَمَهُ عَشْرَ سِنينَ، ودعا لهُ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَكانَ لهُ بُستانٌ يَحمِلُ في كُلِّ سَنةٍ الفاكَهةَ مرَتَّينِ، وكانَ فيها ريحانٌ يجيءُ منهُ ريحُ المِسكِ. غريب. "قيل لأبي العالية"؛ أي: سُئل منه: "سمع"؛ أي: أسمع - بحذف حرف الاستفهام - "أنسٌ من النبي - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: شيئًا من الأحاديث، كأنه تردَّد فيه بعض الناس بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -. "قال"؛ أي: أبو العالية: "خدمه"؛ أي: أنسٌ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - "عشرَ سنينٍ، ودعا له النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، وكان له بستان يحمل في كل سنةٍ الفاكهة مرتين، وكان فيها

7 - باب (باب في بيان هجرة أصحابه من مكة)

ريحانٌ" نبتٌ معروف "يجيء منه ريحُ المِسْك": فمن كان شأنه هذا، فكيف لا يسمع منه - صلى الله عليه وسلم - شيئاً. "غريب". * * * 7 - باب (باب في بيان هجرة أصحابه من مكة) 4660 - عَنِ البَراءَ - رضي الله عنه - قَالَ: أَوَّلُ منَ قَدِمَ عَلَيْنا مِن أَصحابِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُصعَبُ بن عُمَيْر وابن مَكْتومٍ، فَجَعلا يُقْرآنِنا القُرآنَ، ثُمَّ جاءَ عمّارٌ وبلالٌ وسَعْدٌ، ثُمَّ جاءَ عُمَرُ بنَ الخطابِ رضي الله تَعالى عنه في عِشْرِينَ، ثُمَّ جاءَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فَما رَأَيتُ أَهْلَ المَدينةِ فَرِحُوا بشيءٍ فَرَحَهُم بهِ، حتَّى رَأَيتُ الوَلائِدَ والصِّبيانَ يَقُولُونَ: هذا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدْ جاءَ، فَما جاءَ حتَّى قَرَأْتُ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} في سُورٍ مثلِها. "من الصحاح": " عن البراء قال: أولُ مَنْ قدم علينا"؛ أي: أول مَنْ جاء من مكة إلى المدينة "من أصحاب النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مصعبُ بن عُمير وابن أم مَكْتوم، فجعلا يُقْرآننا القرآن"؛ أي: يعلَّماننا القرآن. "ثم جاء عمارٌ وبلال وسعدٌ، ثمَّ جاء عمر بن الخطّاب - رضي الله عنهم - في عشرين رجلًا، ثمَّ جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فما رأيتُ أهلَ المدينة فرِحوا بشيءٍ فرحَهم به حتى رأيت الولائدِ"، جمع الوليدة وهي الجارية الصغيرة، والذكر وليدٌ فعيلٌ بمعنى مفعول، وقد يطلق على الأَمَة وإن كانت كبيرة. "والصبيان يقولون: هذا رسوُل الله - صلى الله عليه وسلم - قد جاء، فما جاء حتى قرأت"؛

أي: تعلَّمت، ذَكَرَ المسبَّب وأراد السبَبَ. " {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} في سورة"؛ أي: مع سورة أخرج "مثلها" في المقدار، والحديث يُشعر. أن البراء كان من الأنصار، وأن القادمين عليهم كانوا من المهاجرين. * * * 4661 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - جَلَسَ على المِنْبرِ فَقالَ: "إنَّ عَبْدًا خيَّرهُ الله بينَ أنْ يُؤتيَهُ مِن زَهْرةِ الدُّنيا ما شاءَ وبينَ ما عندَهُ، فاختارَ ما عندَه"، فبَكَى أَبُو بَكرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: فَدَيْناكَ بآبائِنا وأُمَّهاتِنا، فعَجبنا لهُ، وقال النّاسُ: انظرُوا إلى هَذا الشِّيخ، يُخبرُ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ عَبدٍ خيَّرَهُ الله بيْنَ أنْ يُؤتِيَهُ مِن زَهْرةِ الدّنيا، وبَيْنَ ما عنْدَهُ، وهوَ يَقَولُ: فَدَيْناكَ بآبائِنا وأُمَّهاتِنا! فكانَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هوَ المُخَيَّرُ، وكانَ أبو بَكْرٍ - رضي الله عنه - أَعْلَمَنا. "عن أبي سعيدٍ الخُدري - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جلس على المنبر فقال: إنَّ عبدًا خيَّره الله تعالى بين أن يؤتيَه الله من زهرة الدنيا"؛ أي: من زينتها "ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر - رضي الله عنه - ": لما علم أن المخيَّر إنما هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، واختيارُه لمِا عند الله يُؤْذِن بالارتحال والانتقال. "قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، وقال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ يخُبر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن عبدٍ خيره الله بين أن يؤتَيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا": قال الراوي: "فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المخير، وكان أبو بكر - رضي الله عنه - أعلمنا"؛ أي: أكثرُنا علمًا بأنَّ ذلك العبدَ المخيَّرَ هو رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -.

4662 - عَنْ عُقْبةَ بن عامرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: صلَّى رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - على قَتلى أُحُدٍ بَعْد ثَمانِ سِنينَ كالمُودع للأحياءَ والأَمْواتِ، ثُمَّ طَلَعَ المِنْبرَ فقال: "إِنِّي بينَ أَيْديكُم فَرَطٌ، وأَنا عَلَيْكُم شَهيْدٌ، وإِنَّ مَوْعِدكُم الحَوضُ، وإنِّي لأَنظرُ إليهِ من مَقامِي هَذا، وإنِّي قَدْ أُعطِيتُ مفاتيحَ خَزائنِ الأَرضِ، وإنِّي لَسْتُ أخْشَى عليكُم أنْ تُشرِكُوا بَعْدِي، ولكنْ أَخْشَى عليْكُم الدنيا أنْ تَنافسُوا فيها". وزادَ بعضُهم: "فتَقْتَتِلُوا فتَهْلَكُوا كَما هَلَكَ مَن كانَ قبلَكم". "عن عقبةَ بن عامر - رضي الله عنه - قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قتلى أحد"؛ أي: استغفر لهم بأمر الله تعالى "بعد ثمان سنين"؛ يعني عند قرب انقضاء عُمُره - صلى الله عليه وسلم - "كالمودعِّ": اسم فاعل من التوديع "للأحياء والأموات"، وكان هذا وداعاً منه - صلى الله عليه وسلم - لهم، وإعلاماً بزيادة درجتهم بعد شهادتهم ببركة دعائه - صلى الله عليه وسلم -، وهذا يدل على أن الدعاء للميت ينفعه. "ثمَّ طلع المنبر"؛ أي: عَلاَهُ، "فقال: إني بين أيديكم فَرَط"، وهو بالتحريك: من يتقدم الواردة فيهيئ ما يحتاج إليه الرُّفقة من الدِّلاء وإصلاح الحِياض؛ يعني: أنا سابقكم ومتقدِّمكم لأشفع لكم عند الله، "وأنا عليكم شهيدٌ"؛ أي: رقيبٌ وحفيظ. "وإن موعدكم الحوض، وإني لأنظر إليه"؛ أي: إلى الحوض الموعود في المحشر "وأنا في مقامي هذا، وإني قد أُعطيت" - علي بناء المجهول - "مفاتيح خزائنِ الأرض"، وهذا إشارةٌ إلى ما فتح الله لأمته من الممالك واستباحوا خزائنَ ملوكها. "وإني لست أخشى عليكم أن تُشركوا بعدي، ولكن أخشى عليكم الدُّنيا أن تَنافَسوا فيها"؛ أي: ترغبوا في الدنيا وتَميلوا إليها وزهراتهِا كلَّ الميل.

"وزاد بعضهم: فتقتلوا، فتهلَكوا كما هَلَك من كان قبلكم". * * * 4663 - وعن عائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها قالَتْ: إنَّ مِن نِعَم الله عَلَيَّ أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تُوفِّيَ في بَيْتِي، وفِي يَوْمِي، وبينَ سَحري ونَحري، وأن الله جَمَعَ بينَ ريقي وريقِهِ عِنْدَ مَوتهِ، دَخَلَ عليَّ عبدُ الرَّحمنِ بن أبي بكرٍ وبيدِهِ سِواكٌ، وأَنا مُسْنِدةٌ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، فرأيتُهُ يَنْظُرُ إِلَيه، فعَرَفْتُ أنهُ يُحِبُّ السِّواكَ، فَقُلتُ: آخُذُهُ لَكَ؟ فأَشارَ برأسِهِ أنْ نعمْ، فتَناولْتُهُ، فاشتَدَّ عَلَيهِ فَقلْتُ: أُلَينُه لكَ؟ فأَشارَ برأسِهِ: أن نعمْ، فلَيَّنته، فأَمَرَّهُ على أَسْنانِهِ، وبينَ يديْهِ رَكْوَةٌ فيها ماءٌ، فجعلَ يُدخِلُ يدَهُ في الماءَ فيَمسحُ بها وجْهَهُ ويَقُولُ: "لا إلهَ إلا الله، إنَّ للمَوتِ سَكَراتٍ"، ثُمَّ نَصَبَ يده فجعلَ يقولُ: "في الرَّفيقِ الأَعلَى"، حتَّى قُبضَ ومالَتْ يدُه. "وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إنَّ من نِعَم الله عليَّ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توفي في بيتي وفي يومي"، أي: في نَوبتي من القَسَم، "وبين سحري ونحري"، والسحر - بفتحتين وبضم السين ثمَّ السكون -: الرئة، تريد: ما حاذى الرئة من جسدها، وقيل: السحر ما لصق الحلقوم من أعلى البطن؛ أي: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - توفي وهو مستندٌ إلى صدرها، وما يحاذي سحرها، والنحر: موضع القلادة من أعلى الصدر. "وأن الله"، قيل: الصواب بفتح (أن) عطفًا على (أن) المفتوحة، "جمع بين ريقي وريقه عند موته"، ونُثبتُ جمعَه بين ريقهما بقولها: "دخل عليَّ عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي الله عنه - وبيده سواك وأنا مُسندةٌ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأيته"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "ينظر إليه"؛ أي: إلى السواك بيد عبد الرحمن، "وعرفت أنَّه يحب السواك"، أي: يريده، "فقلت: آخذه لك؛ فأشار برأسه: أن نعم": (أن) هذه مفسرة.

"فتناولتُه فاشتدَّ عليه"؛ أي: السواك على النبي - صلى الله عليه وسلم - لكونه يابسًا. "فقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه: أن نعم، فلينته بريقي، فأمرَّهُ على أسنانه" - ماضٍ من الإمرار - "وبين يديه رَكوة فيها ماء، فجعل يُدخل يديه في الماء، فيمسح بهما وجهَه ويقول: لا إله إلا الله إنَّ للموت سَكَرات" - بالتحريك - جمع سكرة، وهي الشدة والمشقة. "ثمَّ نَصَب يده فجعل يقول: في الرفيق الأعلى"، متعلق بمحذوف؛ أي: اجعلني في الرفيق الأعلى قال الأزهري: الرفيقُ هنا جماعة الأنبياء الساكنين أعلى علِّيين، وهو اسمٌ جاء على فعيلٍ، ومعناه الجماعة، يقع على الواحد والجمع؛ أي: اجعلني في أرواحهم الساكنات في حَظبرة القُدْس، أو: اجعلني في مكان الرفيق الأعلى، وأراد بالرفيق الأعلى: نفسَه، وبالمكان: المقام المحمود المخصوص به؛ أي: اجعلني ساكنًا فيه، "حتى قُبض ومالت يدُه". * * * 4664 - عَنْ عائِشَةَ رَضيَ الله عنها قالَتْ، سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "ما مِن نبيِّ يمَرضُ إِلَّا خُيرَ بينَ الدُّنيا والآخرةِ"، وكانَ في شكواهُ التي قُبضَ بها أخذَتْهُ بُحَّةٌ شَدِيْدة، فسمعتُهُ يقولُ: "معَ الذينَ أَنْعمْتَ عليهم مِن النَّبيينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهداءِ والصّالحينَ"، فعَلِمْتُ أَنَّه خُيرَ. "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: سمعتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما من نبيِّ يمرض إلا خُيرَ بين الدنيا والآخرة، وكان في شَكْواه"؛ أي: مرضه "الذي قبض فيه"؛ أي: مات "أخذته بحةٌ شديدة"، البحة - بضم الباء وتشديد الحاء -: غِلظة الصوت وخشونته، والمراد هنا: السُّعال. "فسمعته يقول: مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء

والصالحين، فعلمتُ أنَّه خير"؛ أي: بين البقاء في الدنيا، وبين ما عند الله في الآخرة. * * * 4665 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لمّا ثَقُلَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - جَعَلَ يتَغشّاهُ الكَربُ، فقالَتْ فاطِمَةُ رَضيَ الله عنها: واكَربَ أَباه! فقالَ لها: "ليسَ على أَبيكِ كَربٌ بعدَ اليومِ"، فلمّا ماتَ قالَتْ: يا أَبَتاهُ! أجابَ ربًّا دَعاه، يا أبتاهُ! مَنْ جَنَّةُ الفِردَوسِ مأواهُ، يا أبتاهُ! إلى جِبْريلَ ننعاهُ، فلمّا دُفِنَ قالَتْ فاطِمَةُ: يا أَنسُ! أَطابَتْ أَنْفُسُكُم أنْ تَحثُوا على رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - التُّرابَ؟!. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما ثَقُل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: اشتد مرضه "جعل يتغشّاه الكَرب"؛ أي: يُغمى عليه من شدة المرض، "فقالت فاطمة: واكربَ أباه، فقال لها: ليس على أبيك كربٌ بعد اليوم"؛ أي: لا يُصيبه بعد اليوم نَصَبٌ ولا وَصَبٌ يجدُ له ألماً إذا أفضى إلى الدار الآخرة والسلامة الدائمة. "فلما مات قالت: يا أبتاه! ": أصله: (يا أبي) فالتاء أبدلت من الياء، والألف للندبة، والهاء للسَّكت، "أجاب ربًّا دعاه"؛ أي: إلى الآخرة؛ أي: اختار الدار الآخرة على الدنيا. "يا أبتاه! من جنة الفردوس مأواه"؛ أي: موضع قراره. "يا أبتاه! إلى جبريل ننعاه"؛ أي: نُظهر خبر موته - صلى الله عليه وسلم -. "فلمّا دفن قالت فاطمة: يا أنسُ أطابت أنفسُكم أن تحَثُوا على رسول الله - التراب".

مِنَ الحِسَان: 4666 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: لمّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَدينةَ لَعِبَتْ الحَبَشَةُ بحرابهم فرحًا لِقُدومِه. "من الحسان": " عن أنس - رضي الله عنه -: لما قدم رسولُ الله المدينة لَعِبت الحبشةُ بحرابهم": - جمع حربة - "فرحًا لقدومه". * * * 4667 - وقالَ: ما رَأيتُ يَومًا كانَ أحسنَ ولا أَضْوَأَ مِن يَومٍ دَخَلَ عَلَيْنا فيهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وما رَأيتُ يَومًا كانَ أَقْبَحَ ولا أَظلَم مِن يَومٍ ماتَ فيهِ. "وقال: ما رأيتُ يومًا كان أحسنَ ولا أضوءَ من يوم دخل علينا فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، وما رأيت يومًا كان أقبحَ ولا أظلمَ من يوم مات فيه". * * * 4668 - وَقال: لمّا كانَ اليَومُ الَّذي دَخَلَ فيهِ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المَدينةَ أضاءَ مِنها كُلُّ شَيءٍ، فلمّا كانَ اليَومُ الَّذي ماتَ فيهِ أَظْلمَ مِنها كُلُّ شَيءٍ، وما نفضْنا أَيْدِينا مِنَ التُّرابِ وإنَّا لَفِي دفنِهِ حتَّى أَنْكَرنا قُلوبنا. "وقال: لما كان اليومُ الذي دخل فيه رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كلُّ شيءٍ، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلمَ منها كلُّ شيءٍ، وما نفضنا أيدينا من التراب، وإنّا لَفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا"؛ يعني: ما وجدناها بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في حياته من الصفاء والرِّقة والألفة لانقطاع الوحي السماوي، والمفارقة عن صحبته التي هي مُوجبة للسعادات الأبدية؛ لأنهم لم يجدوها على ما كانت عليه من التصديق.

8 - باب

4669 - عَنْ عائِشَةَ رَضيَ الله عنها قالَتْ: لَمّا قُبضَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اخْتَلَفُوا في دَفْنِهِ، فقالَ أَبو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: سَمِعْتُ مِنْ رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - شَيْئًا؛ قَالَ: "ما قَبَضَ الله نبَيًّا إِلَّا في المَوْضعِ الَّذِي يُحِبُّ أَنْ يُدفَنَ فِيهِ"، ادفِنُوه في مَوْضعِ فِراشِهِ. "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما قُبض رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر - رضي الله عنه -: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما قَبَضَ الله نبيًا إلا في الموضع الذي يحُبُّ أن يُدفن فيه، ادفنوه في موضع فراشه"، توفي - صلى الله عليه وسلم - يوم الإثنين، ووليَ غَسْلَه وتكفينه: عليٌّ، والعباس، والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد - رضي الله عنهم -، ونزل في قبره عليّ وأسامة والفضل - رضي الله عنهم -. * * * 8 - باب (باب) مِنَ الصِّحَاحِ: 4670 - قالَتْ عائِشَةَ رَضيَ الله عَنْها: ما تركَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دِينارًا، وَلاَ دِرهَمًا، ولا شاةً ولا بَعِيرًا، وَلا أَوْصَى بِشَيْءٍ. "من الصحاح": " قالت عائشةُ - رضي الله عنها -: ما تركَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - دينارًا ولا درهماً ولا شاةً ولا بعيرًا ولا أوصى بشيء". * * * 4671 - وعَنْ عَمْرِو بن الحارِثِ أَخي جُويريةَ قال: ما تركَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -

عندَ موته دِرهَمًا ولا دِيْنارًا، ولا عَبْدًا ولا أَمَةً، ولا شَيْئًا، إِلَّا بغلَتَهُ البَيْضاءَ، وسِلاحَهُ، وأرضًا جَعَلَها صَدَقةً. "عن عمرو بن الحارث أخي جُويرية - رضي الله عنه - قال: ما تَركَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عند موته درهمًا ولا دينارًا ولا عبدًا ولا أَمَةً ولا شيئًا"، يريد بما تركه: ما كان من أموال الفَيء الذي كان يتصرَّفُ فيها تصرف الملَّاك ولم يكن ذلك لغيره، "إلا بغلتَه البيضاء، وسلاحه، وأرضًا جعلها"؛ أي: البغلة والسلاح والأرض. "صدقة"؛ أي: وَقفاً. * * * 4672 - عَنْ أَبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يَقْتَسِمُ ورثتي دِينارًا، ما تَرَكتُ بَعْدَ نفقةِ نِسائي وَمَؤُنَةِ عامِلي فهو صدقةٌ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يَقتسم ورثتي دينارًا، ما تركت بعد نفقة نسائي"، وكانت نفقة نسائه بعده - عليه الصلاة والسلام - من صَفايا أموال بني النضير وفَدَك وخيبر مدةَ حياتهنَّ؛ لكونهن محبوساتٍ عليه، "ومؤنة عاملي"، أراد بالعامل الخليفةَ بعده، "فهو صدقةٌ"؛ يعني الذي فَضَل من نفقة هؤلاء صدقةٌ تُصرَف في مصالح المسلمين، وكان أبو بكر متصرِّفاً في تلك الحصة، ثم عمر كذلك، فلما صارت الخلافة إلى عثمان - رضي الله عنه - استغنى عنها بماله، فأعطاها مروان وأقاربه، فلم تزل في أيديهم حتى ردَّها عمر بن عبد العزيز. * * * 4673 - وعن أَبي بَكْرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا نُورَثُ، ما تَرَكْناهُ صدقةٌ".

"وعن أبي بكرٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا نُورث، ما تركناه صدقة"، والمراد؛ بعد نفقة نسائه؛ للحديث الذي قبله. * * * 4674 - عَنْ أَبي مُوْسى - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّهُ قَالَ: "إنَّ الله إذا أَرادَ رَحْمَةَ أُمةٍ مِن عِبادِهِ قَبَضَ نبيَّها قبلَها، فَجَعلَهُ لَها فَرَطًا وسَلَفًا بَيْنَ يَدَيْها، وإذا أرادَ الله هَلَكَةَ أُمةٍ عذَّبَها ونبِيُّها حيٌّ، فأهلكَها وهوَ ينظرُ، فأقَرَّ عينَهُ بهلَكتِها حينَ كذَّبُوه وعَصَوْا أمرَهُ". "عن أبي موسى - رضي الله عنهم - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إنَّ الله إذا أراد رحمةَ أمةٍ من عباده قَبَضَ نبيَّها قبلها، فجعله لها"؛ أي: ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - لتلك الأمة "فَرَطاً وسَلَفاً بين يديها"، الفرط والسلف بمعنى واحد. "وإذا أراد هلكة أمةٍ عذَّبها ونبيُّها حيٌّ، فأهلكها وهو ينظر، فأقرَّ عينَه بهلكتها"؛ أي: عين ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - بهلكة تلك الأمة "حين كذَّبوه وعَصَوا أمره". * * * 4675 - وعَنْ أبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسُ مُحَمَّدٍ بيدِهِ، ليأتِيَنَّ عَلَى أَحدِكم يَومٌ ولا يَراني، ثُم لأَنْ يَراني أَحَبُّ إليهِ مِن أهلِهِ ومالِهِ مَعَهُم". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: والذي نفسُ محمدٍ بيده ليأتينَّ على أحدكم يومٌ ولا يرائي، ثمَّ لأنَّ يراني أحب إليه من أهله وماله معهم"، قال أبو إسحاق: في الحديث تقديمٌ وتأخير تقديره: ليأتين على أحدكم يومٌ لأنَّ يراني معهم أحب إليه من أهله وماله ولا يراني، ولعل معناه: لأن يراني

1 - باب في مناقب قريش وذكر القبائل

فيه مع أهله أحب إليه من أهله وماله حالَ كونه لا يراني. * * * 1 - باب في مَناقبِ قريشٍ وَذِكرِ القَبَائِلِ " باب مناقب قريش"، جمع منقبة وهي الفضيلة، "وذكر القبائل"، جمع قبيلة. مِنَ الصِّحَاحِ: 4676 - عَنْ أبي هُريْرَة - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "النّاسُ تَبَعٌ لِقُريشٍ في هذا الشّأنِ، مُسْلِمهُم تَبَعٌ لِمُسلمِهم، وكافرُهم تَبَعٌ لِكافِرِهم". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الناس تَبَعٌ لقريش في هذا الشأن"، يريد به الخلافة والإمارة، وقيل: الدِّين، والمعنى: تفضيلهم على القبائل، وتقديمهم في الإمامة والإمارة. "مسلمهم تَبَعٌ لمسلمهم"، خبرٌ في معنى الأمر؛ أي: مَنْ كان مسلماً فليتبعهم ولا يخرج عليهم. "وكافرهم تبعٌ لكافرهم"، يعني: أنهم لم يزالوا متبوعين في زمان الكفر لكون أمر الكعبة في أيديهم، وقد علم أن أحدًا من قريش لم يبقَ بعده - صلى الله عليه وسلم - على الكفر، فعلم أن المراد منه: أن الإسلام لم ينقصهم مما كانوا عليه في الجاهلية من الشرف، فهم سادَة في الإِسلام كما كانوا قادةً في الجاهلية. وقيل: معناه: أنَّ مسلمي قريش قدوةُ غيرهم من المسلمين؛ لأنهم المتقدمون في التصديق، السابقون بالإيمان، وكافرهم قدوةُ غيرهم من الكفار،

فإنهم أولُ مَنْ ردَّ الدعوة، وكَفَر بالرسول، وأعرض عن الآيات. * * * 4677 - وعَنْ جابرٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "النّاسُ تَبَعٌ لِقُريشٍ في الخَيرِ والشَّرِّ". "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الناس تبعٌ لقريش في الخير والشر"؛ أي: في الإسلام والكفر. * * * 4678 - عَنِ ابن عُمَرَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا يزالُ هذا الأَمرُ في قُريْشٍ ما بَقِيَ مِنْهُم اثنانِ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يزال هذا الأمر"؛ أي: الخلافة والولاية "في قريش ما بقي منهم اثنان" واحدٌ خليفة وواحدٌ تَبَع. * * * 4679 - وعَنْ مُعاوِيةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّ هذا الأَمرَ في قُريشٍ لا يُعادِيْهم أحد إلَّا كَبَّهُ الله على وجْهِهِ، ما أقامُوا الدِّين". "وعن معاوية - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنَّ هذا الأمر في قريش لا يعاديهم"؛ أي: لا يخالفهم "أحدٌ" في ذلك "إلا كبَّه الله"؛ أي: أسقطه "على وجهه"، يريد: أذلَّه الله، "ما أقاموا الدين"؛ أي: ما داموا يحافظون [على] الدين، يحتمل أنه أراد بالدين: الصلاة لما في الحديث: "ما أقاموا الصلاة".

4680 - عَنْ جابرِ بن سَمُرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: سَمِعتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يَقُول: "لا يَزالُ الإِسلامُ عَزِيْزًا إلى اثنَيْ عَشَرَ خَلِيفَةً، كلُّهم مِن قُريشٍ". وفي رِوايَةٍ: "لا يزالُ أمرُ النّاسِ ماضيًا ما وَليَهم اثنا عَشَرَ رَجُلًا كلُّهم مِن قريشٍ". وفي رِوايَةٍ: "لا يزالُ الدِّينُ قائِمًا حتَّى تَقَومَ السَّاعةُ، أو يكونَ عليهم اثنا عَشَرَ خَليْفَةً كلُّهم مِن قُريْشٍ". "وعن جابر بن سَمُرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا يزال الإِسلامُ عزيزًا إلى اثني عشر خليفةً كلهم من قريش"، يُحمل هذا على العادلين؛ لأن غيَر العادل لا يستحقُّ الخلافة. "وفي رواية: لا يزال أمرُ الناس"؛ أي: أمر دينهم "ماضيًا" على الصواب والحق "ما وَليهم اثنا عشر رجلًا كلهم من قريش". "وفي رواية: لا يزال الدِّين قائمًا حتى تقوم الساعة، أو يكون عليهم اثنا عشر خليفة كلهم من قريش". * * * 4681 - وَقالَ: "غِفارُ غَفَرَ الله لها، وأَسْلَمُ سالَمَها الله، وعُصَيَّةُ عَصَتِ الله ورسُولَه". "وقال - صلى الله عليه وسلم -: غِفار" - بكسر الغين المعجمة - قبيلة "غفر الله لها"؛ أي: أقول في حقهم: غفر الله لها. "وأسلمُ سالمها الله"؛ أي: صالحها، وإنما دعا لهاتين القبيلتين؛ لدخولهما في الإسلام من غير حرب، وكانت غِفار تنسب إلى سَرِقة الحُجَّاج، فدعا - صلى الله عليه وسلم - لهم بأن يمحوَ الله تلك السيئة عنهم ويغفر لهم.

"وعُصَية" - بضم العين المهملة وفتح الصاد وتشديد الياء - اسم قبيلة "عصتِ الله ورسوله"، وهم الذين قتلوا القُرّاء عند بئرِ معونة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يَقْنُتُ عليهم في صلاته. * * * 4682 - وقالَ: "قُريْشٌ، والأَنْصارُ، وجُهَيْنةُ، ومُزَيْنةُ، وأَسلمُ، وغِفارُ، وأَشجعُ = مَوالِيَّ، لَيسَ لهم مَوْلًى دُونَ الله ورَسُولهِ". "وقال - صلى الله عليه وسلم -: قريش والأنصار وجهينة ومزينة وأسلم وغفار وأشجع"، وهم قبائل من قريش، "موالي" بالإضافة إلى ياء المتكلم؛ أي: أحبائي وأنصاري، ومنوناً بلا إضافة؛ أي: بعضهم لبعضٍ أحباء وأنصارٌ، "ليس لهم مولًى دون الله ورسوله". * * * 4683 - وقالَ: "أسلمُ، وغِفارُ، ومُزَيْنةُ، وجُهَيْنَةُ، خيرٌ مِن بني تميمٍ، ومِن بني عامرٍ، والحَلِيفَيْنِ بني أَسَدٍ وغَطَفانَ". "وقال - صلى الله عليه وسلم -: أسلم وغفار ومزينة وجهينة خيرٌ من بني تميم، ومن بني عامر والحليفين بني أسد وغَطَفان" - بفتح الغين المعجمة - وهما بدل من الحليفين، أو بيانٌ، وإنما يقال لهم: الحليفان؛ لأنهم تحالفوا على التناصر والتعاون، وأسدٌ - بالتحريك - أبو قبيلة من مضر وهو أبو أسد بن ربيعة بن نزارٍ. * * * 4684 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: ما زِلْتُ أُحِبُّ بني تَمِيمٍ مُنْذُ ثَلاثٍ، سَمِعتُ مِن رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ فيهم، سَمِعتُه يَقُولُ: "هُمْ أَشَدُّ أُمَّتي على

الدَّجّالِ"، قال: وجاءَتْ صَدَقاتُهم فقالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذه صَدَقاتُ قومِنا"، وكانَتْ سَبيّةٌ منهم عِنْدَ عائِشةَ رَضيَ الله عنها فقالَ: "أعَتْقِيها فإنَّها مِن وَلَدِ إسماعيل". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ما زِلت أحب بني تميم منذ ثلاثٍ"؛ أي: ثلاث خصال "سمعت" صفة (ثلاث)، والعائد محذوف؛ أي: سمعتها "من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول فيهم"؛ أي: يقولها في حقهم، وهي جملةٌ حالية. "سمعته يقول" بدل من قوله: (سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)، أو بيانٌ له، وبالجملة فهو تفصيلٌ للخصال الثلاث. "هم أشد أمتي على الدجال"، هذه إحدى الخصال الثلاث. "قال: وجاءت صدقاتهم، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: هذه صدقات قومنا": أضاف - صلى الله عليه وسلم - إياهم إلى نفسه تشريفاً لهم، وهذه ثانيتها. "وكانت سبية"؛ أي: مَسْبية "منهم عند عائشة - رضي الله عنها - فقال: أعتقيها"، فيه دليل على جواز استرقاق العرب، "فإنها من ولد إسماعيل - عليه السلام - ": جعل - صلى الله عليه وسلم - أباهم من ولد إسماعيل - عليه السلام -، وهذه ثالثتها. * * * مِنَ الحِسَان: 4685 - عَنْ سَعْدٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مَن يُرِد هَوانَ قُريشٍ أَهانَهُ الله". "من الحسان": " عن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ يُرد هوان قريش أهانه الله"، خبرٌ أو دعاء على من يريد هوانهم. * * *

4686 - وعَنِ ابن عبّاسٍ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ! أَذَقْتَ أوَّلَّ قُريشٍ نَكَالًا فأَذِقْ آخرَهُمْ نَوالًا". "وعن ابن عباس قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: اللهم أذقت أولَ قريش نكالًا"؛ أي: عقوبة، وقيل: أراد به القحط والغلاء، "فأذِقْ آخرهم نَوالًا"؛ أي: عطاء وإنعامًا. * * * 4687 - عَنِ أبي عامِرٍ الأَشْعريِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ الحَيُّ الأَسْدُ والأَشعريُّونَ، لا يَفِرُّونَ في القَتالِ، ولا يَغُلُّونَ، هُمْ مِنِّي وأَنَا مِنْهُم"، غريب. "عن أبي عامر الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نعم الحي الأسد"، وهو بسكون السين: أبو حيّ من اليمن، ويقال لهم: الأزد، وهو بالسين أفصح. "والأشعريون لا يفرون في القتال ولا يَغُلُّون" - بضم الغين -؛ أي: لا يخونون في المغنم، "هم مني وأنا منهم". "غريب". * * * 4688 - وعَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الأَزْدُ أَزْدُ الله في الأرْضِ، يرُيدُ النّاسُ أنْ يَضَعُوهم ويَأبَى الله إِلَّا أنْ يرفَعَهم، ولَيأتينَّ على النّاسِ زَمانٌ يَقُولُ الرَّجلُ: يا لَيْتَ أَبي كانَ أَزْدِيًا، ويا ليتَ أمي كانَت أَزْدِيَّةً"، غريب. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأزد"، وهو أزد شنوءة حي باليمن، "أزد الله"؛ أي: أهل نصرته "في الأرض"، أضافهم إلى الله؛ لكونهم

من حزبه وجنوده وأهل نصرة رسوله ودينه. "يريد الناس أن يضعوهم"؛ أي: يحقروهم ويذلُّوهم "ويأبى الله إلا أن يرفعهم، وليأتين على الناس زمانٌ يقول الرجل: يا ليت أبي كان أزديًّا، ويا ليت أمي كانت أزدية". "غريب". * * * 4689 - عَنْ عِمرانَ بن حُصَينٍ - رضي الله عنه - قَالَ: ماتَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهوَ يَكْرهُ ثَلاثةَ أحياءً: ثَقيفاً، وبني حَنِيفَةَ، وبني أُمَيَّةَ. غريب. "عن عِمران بن حُصين - رضي الله عنه - قال: مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يكره ثلاثة أحياء"؛ أي: قبائل؛ "ثقيف وبني حنيفة وبني أمية". "غريب". * * * 4690 - عَنِ ابن عُمَرَ - رضي الله عنه -: عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "في ثَقِيفٍ كذّابٌ ومُبيرٌ"، قيل: الكَذابُ هو المُختارُ بن أبي عُبيدٍ، والمُبيرُ هُوَ الحَجّاج بن يُوْسُفَ، قَالَ هِشامُ بن حَسّانَ: أحْصَوْا ما قتلَ الحَجَّاجُ صَبْرًا فبلَغَ مئةَ ألفٍ وعِشْرينَ ألفًا. "عن ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: في ثقيف كَذّابٌ ومُبير"؛ أي: مهلك. "قيل: الكذاب هو المختار بن أبي عبيد": بن مسعود الثقفي، فإنه كان متدلساً مشغوفاً بطلب الدنيا بالدين، يُظهر الخير ويُضْمر الشر، وكان يبغض عليًا، وقد عُرف ذلك منه، وكان يدَّعي موالاته، وقام طالباً لثأر الحسين، وكان

غرضُه صرفَ وجوهِ الناس إليه توسُّلًا لطلب الإمارة، وأفسد على قومٍ من الشيعة عقائدَهم، يُنسَبون إليه يقال لهم: المختارية، وقيل: سماه كذاباً؛ لادعائه النبوة بالكوفة. وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال رسول - صلى الله عليه وسلم - في حقه: تالله! لو شُقَّ عن قلبه الآن لَوُجِدَت اللاتُ والعزَّى فيه. "والمبير: هو الحجاج بن يوسف"، لم يكن في الإهلاك أحدٌ مثله. "قال هشام بن حسان: أحصَوا" - بصيغة الماضي - من الإحصاء؛ أي: عَدَّوا "ما قتل الحجاج صَبْرًا"؛ أي: حبسًا، "فبلغ مئة ألفٍ وعشرين ألفًا" سوى مَنْ قتله محاربةً. * * * 4691 - وَرَوَى مُسْلِمٌ في الصَّحيح: حينَ قتلَ الحَجّاجُ عبدَ الله بن الزُّبيرِ - رضي الله عنه - قالَت أَسْمَاءُ لهُ: إِنَّ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - حدَّثنا: أنَّ في ثقيفٍ كذّابًا ومُبيرًا، فأَمّا الكَذابُ فرأيناهُ، وأمَّا المُبيرُ فلا أخالُكَ إلا إيَّاه. "وروى مسلمٌ في الصحيح: حين قتل الحجاج عبد الله بن الزبير" جاءت أمه أسماءُ بنت أبي بكر الصديق - رضي الله عنهم -، فرأته مَصلوباً، فحاضت بعد كِبَر سنِّها، وخرج اللبن من ثديها، فدخلت على الحجاج وسألته أن ينزل المصلوب، فقال: خلُّوا بينها وبين جيفته. "قالت أسماء" بنت الصديق "له"؛ أي: للحجاج: "إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم حدَّثنا أنَّ في ثقيف كذابًا ومبيرًا، فأما الكذاب فرأيناه": أرادت به المختار بن أبي عبيد، "وأما المبير فلا أخالك"؛ أي: لا أظنك.

"إلا إياه": الضمير يعود إلى المبير. * * * 4692 - وعَنْ جابرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قالوا يا رَسُولَ الله! أَخرَقَتْنا نِبالُ ثقيفٍ، فادعُ الله عَلَيهم، قال: "اللهمَّ! اهْدِ ثَقِيفًا". "وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسول الله! أحرقتْنا نبالُ ثقيف"، أي: سهامهم، "فادع الله عليهم قال: اللهم اهد ثقيفًا". * * * 4693 - عَنْ أَبي هُريَرةَ - رضي الله عنه - قَالَ: كُنّا عِندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَجاءَهُ رَجُل أَحسبُه مِن قيْسٍ قَالَ: يا رَسُولَ الله! الْعَنْ حِمْيَرًا، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "رَحِمَ الله حِمْيَرًا، أفواهُهم سلامٌ، وأيدِيهم طَعامٌ، وهم أَهْلُ أَمْنٍ وإِيمانٍ"، منكر. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل أحسبه من قيسٍ" أبو قبيلة من مضر، "قال: يا رسول الله! العن حميرًا" أبو قبيلةٍ من اليمن، "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رحم الله حميرًا؛ أفواههم سلام"، أي: ذو سلامٍ، أو محل سلام، "وأيديهم طعام"؛ أي: ذات طعام، ويمكن أن يقال: جعل أفواههم نفس السلام، وأيديهم نفس الطعام للمبالغة، "وهم أهل أمن وإيمانٍ". "منكر"، أي: هذا الحديث منكر، قيل: يحتمل أنه ألحقه بعض أهل المعرفة بالحديث؛ لا أنه من لفظ المؤلف؛ لأنه التزم الإعراض عن ذكر المنكر في هذا الكتاب. * * * 4694 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِمَّن أَنْتَ؟ "،

قُلْتُ: مِن دَوْسٍ، قَالَ: "ما كُنْتُ أُرَى أنَّ في دَوْسٍ أحدًا فيهِ خيرٌ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال لي النبيُّ صلى الله تعالى عليه وسلم: ممن أنت؟! قلت: من دوس" قبيلةٌ باليمن من الأزد. "قال: ما كنت أرى"؛ أي: أظن "أن في دوس أحدًا فيه خيرٌ" * * * 4695 - عَنْ سَلْمان - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ لي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تُبغِضْنِي فتفارِقَ دينَكَ"، قُلْتُ: يا رَسُولَ الله! كيفَ أُبغِضُكَ وبكَ هَدانا الله؟ قال: "تُبغِضُ العربَ فتُبغِضُني"، غريب. "عن سلمان - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تبغضني" - بصيغة النهي - "فتفارق دينك" بنصب (تفارق) جوابًا للنهي. "قلت: يا رسول الله! كيف أبغضك وقد هدانا الله بك؟ قال: تبغض العرب فتبغضني"، "غريب". * * * 4696 - عَنْ عُثْمان بن عَفّان - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن غَشَّ العَربَ لَمْ يَدخلْ في شَفاعَتي، ولَمْ تَنَلْهُ مَوَدَّتي"، غريب. "عن عثمانَ بن عفان - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ غَشَّ العرب"؛ أي: أبغضهم "لم يدخل في شفاعتي، ولم تنلْهُ مودتي"؛ أي: أرده، وإنما قال - صلى الله عليه وسلم - في حق العرب ذلك؛ لأنه نزل القرآن بلغتهم، وبلغتهم تعرف فضيلته؛ لازدياد فصاحة القرآن على فصاحتهم، وأيضًا العرب تحمَّلوا الشريعة، ونقلوها إلى الأمم، وضبطوا أقواله وأفعاله، ونقلوا إلينا معجزاتِه، ولأنهم مادة الإسلام،

وبهم فُتحت البلاد وانتشر الإسلام في أقطار العالم، ولأنهم أولاد إسماعيل - عليه السلام -. "غريب". * * * 4697 - وقالَ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مِنِ اقترابِ السَّاعةِ هَلاكُ العربِ". "قال - صلى الله عليه وسلم -: من اقتراب الساعة هلاكُ العرب". * * * 4698 - عَنْ أَبي هُريْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "المُلْكُ في قُريشٍ، والقَضاءُ في الأَنْصارِ، والأَذانُ في الحَبشَةِ، والأَمانةُ في الأَزْدِ"، يَعِني: اليَمينَ. ويُروَى مَوْقوفًا وهُوَ الأَصحُّ. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الملك في قريش"، يريد به كون الأموال أو الخلافة فيهم. "والقضاء"؛ أي: الحكم الجزئي "في الأنصار"، قاله تطييباً لقلوبهم؛ لأنهم آووا ونَصَروا، وبهم قام عمود الإسلام، وفي بلدهم تم أمرُه واستقام، وبنيت المساجد وجُمِّعت الجُمُعات. "والأذان"؛ أي: أذان زماننا "في الحبشة، والأمانة في الأزد؛ يعني: "اليمن" "ويروى موقوفًا"؛ يعني: وَقَفه بعضهم على أبي هريرة، ولم يرفعه إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، "وهو الأصح".

2 - باب مناقب الصحابة - رضي الله عنهم -

2 - باب مناقب الصحابة - رضي الله عنهم - (باب مناقب الصحابة) مِنَ الصِّحَاحِ: 4699 - عَنْ أَبي سَعِيْدٍ الخُدرِيَّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَسُبُّوا أَصحابي، فَلَو أنَّ أَحدَكُم أَنفقَ مِثَلَ أُحُدٍ ذَهَباً ما بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهم ولا نَصِيفَهُ". "من الصحاح": " عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا تسبُّوا أصحابي": فيه نهيٌ عن سبهم. قال الجمهور: مَنْ سب واحدًا منهم يعزَّر، وقال بعض المالكية: يقتل. "فلو أنَّ أحدكم أنفق مثلَ أحدٍ ذهبًا ما بَلَغَ مُدَّ أحدهم" - بضم الميم -، وروي: بفتحها: ربع الصاع. "ولا نصيفه": وهو لغة في النصف؛ كالخميس في الخمس، فالضمير للمد، وقيل: النصيف مكيالٌ دون المد، فالضمير للأحد، والمعنى: لو أنفق أحدكم مثل جبل أحد ذهبًا في سبيل الله ما بلغ ثوابُه ثواب إنفاق أحد من أصحابي مدًا من الطعام ولا نصفه؛ لمقارنة إنفاقِهم مزيد الإخلاصِ وصدق النية، مع ما كانوا في وقت الضرورة وكثرة الحاجة إلى نصرة الدين. * * * 4700 - عَنْ أَبي بُردَة - رضي الله عنه -، عَنْ أَبيْهِ: قَالَ: رَفَعَ - يعني: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأسَهُ إلى السَّماءَ، وكانَ كثيرًا ما يَرفعُ رَأسَه إلى السَّماءَ، فقالَ: "النجومُ أَمَنةٌ

للسَّماءَ، فإذا ذهبَتِ النَّجومُ أتى السَّماءَ ما تُوعَدُ، وأنا أَمَنةٌ لأصَحابي، فإذا ذهبْتُ أتى أَصحابي ما يُوعَدُونَ، وأَصحابي أَمَنةٌ لأُمَتي، فإذا ذَهَبَ أَصحابي أتى أُمَّتي ما يُوعَدُون". "عن أبي بردة عن أبيه قال: قال رفع - يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسَه إلى السماء - وكان كثيرًا ما يرفع رأسه إلى السماء - وقال: النجوم أمنةٌ": - بالفتحات - مصدر بمعنى الأمن "للسماء"، وقيل: جمع أمين وهو الحافظ، يعني: أنها سببٌ لأمن السماء. "فإذا ذهبت النجوم"؛ أي: تناثرت، "أتى السماء ما تُوعَدُ" من الانفطار والطَّي كالسِّجِلِّ. "وأنا أمنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبتُ أتى أصحابي ما يوعدون" من كثرة الفتن والاختلافات بينهم. "وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون" من ظهور البدع وغلبة أهل الأهواء. * * * 4701 - عَنْ أبي سَعِيدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتي على النّاسِ زَمان فيَغْزُو فِئامٌ مِن النّاسِ فيَقُولُونَ: هل فِيْكُم مَن صاحَبَ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقُولُونَ: نعم، فيُفتَحُ لَهُم، ثُمَّ يَأتِي على النّاسِ زَمان فيَغزُو فِئامٌ مِن النّاسِ فيُقالُ: هَلْ فيكُم مَن صاحبَ أَصحابَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولونَ: نعمْ، فيُفتَحُ لَهُم، ثُمَّ يأتي على النّاسِ زَمان فيَغزو فِئامٌ مِن النّاسِ فيُقالُ: هَلْ فيكُم مَن صاحَبَ مَن صاحَبَ أصحابَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولونَ: نعمْ، فيُفتَحُ لهم".

وزادَ بعضُهم: "ثُمَّ يَكُونُ البَعْثُ الرّابعُ فيُقالُ: انظُرُوا هَلْ تَرَوْنَ فيهم أَحَدًا رَأَى مَن رَأَى أَحدًا رَأَى أَصحابَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ فيُوجَدُ الرَّجُلُ فيُفتَحُ لَهُ". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يأتي على أمتي زمانٌ فيغزو فئام" - بكسر الفاء وبالهمزة -؛ أي: جماعة "من الناس فيقولون"؛ أي: الذين يغزو الفئام لهم: "هل فيكم مَنْ صاحَبَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فيقولون"؛ أي: الفئام: "نعم، فيُفتح لهم"؛ أي: ينُصرون. "ثمَّ يأتي على الناس زمان، فيغزو فِئامٌ من الناس، فيقال لهم: هل فيكم من صاحبَ أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فيقولون: نعم، فيُفتح لهم"؛ أي: ينصرون. "ثمَّ يأتي على الناس زمانٌ، فيغزو فِئامٌ من الناس فيقال: هل فيكم مَنْ صاحب أصحابَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فيقولون: نعم، فيفتح لهم"، فيه بيان فضيلة الصحابة والتابعين وتابعيهم - رضي الله عنهم -. "وزاد بعضهم"؛ أي: بعض الرواة: "ثمَّ يكون بعث الرابع"؛ أي: جيش الزمان الرابع، "فيقال: انظروا هل ترون فيهم أحدًا رأى مَنْ رأى أحدًا رأى أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيُوجد الرجل، فيفتح له". * * * 4702 - وعَنْ عِمرانَ بن حُصَيْنٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خيرُ أُمَّتي قَرني، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونهم، ثُمَّ الَّذينَ يَلُونَهم، ثُمَّ إِنَّ بَعْدَهم قَوْمًا يَشهدُونَ ولا يُستَشهَدونَ، ويَخُونُونَ ولا يُؤْتَمَنُون، ويَنذُرُونَ ولا يَفُونَ، ويَظهرُ فيهمُ السّمَنُ". وفي رِوايةٍ: "ويَحلِفُونَ ولا يُستَحلَفُونَ". ويرُوَى: "ثُمَّ يَخْلُفُ قومٌ يُحبُّونَ السُّمَانَة".

"وعن عِمران بن حصين - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خير أمتي قرني"؛ يعني الصحابة، "ثمَّ الذين يلونهم"؛ يعني: التابعين، "ثمَّ الذين يلونهم"؛ يعني: السلف. "ثمَّ إن بعدهم قومًا يَشْهدون ولا يُسْتشهدون"؛ أي: يشهدون قبل أن تطلب منهم الشهادة. "ويخونون ولا يُؤتمنون"؛ أي: لا يجعلون أمناء. "وينذُرون ولا يَفُون، ويظهر فيهم السِّمن"؛ أي: التكثُّر بما ليس فيهم من الشرف، وقيل: أراد به جمع المال والحرص على الدنيا. وقيل: هو كنايةٌ عن الغفلة وقلة الاهتمام بأمر الدين، فإنَّ الغالب على أهل السمن أن لا يهتموا برياضة البدن، وتكميل النفس، بل مُعظم هِمَمِهم تناول الحظوظ الدنيوية. "وفي روايةٍ: يحلفون ولا يستحلفون"؛ أي: يحلفون قبل أن يُستحلفوا. "ويروى: ثمَّ يخلف قومٌ يحبون السمانة" - بفتح السين -: مصدر سَمُن - بالضم - سَمْناً وسَمِانةً. * * * مِنَ الحِسَان: 4703 - عَنْ عُمَرَ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أكرِمُوا أَصحابي فَإنّهم خِيارُكم، ثُمَّ الذينَ يَلُونهم، ثُمَّ الذينَ يَلُونَهم، ثمَّ يَظهرُ الكَذِبُ، حتَّى إنَّ الرَّجُلَ لَيَحلِفُ ولا يُستحلَفُ، ويَشهدُ ولا يُستشهَدُ، أَلا فمَن سَرَّه بُحبُوحةُ الجَنَّةِ فليَلْزمِ الجَماعةَ، فإنَّ الشَّيطانَ معَ الفَذِّ، وهو من الاثنينِ أَبْعَدُ، ولا يَخلُونَّ رَجُلٌ بامرأةٍ فإن الشَّيطانَ ثالِثُهُما، ومَن سرَّتْهُ حَسَنته وساءَتْهُ سَيئته فهُوَ مؤمِنٌ".

"من الحسان": " عن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكرموا أصحابي فإنهم خيار أمتي، ثم الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ يظهر الكذب، حتى إنَّ الرجل ليحلف ولا يُستحلف، ويَشْهد ولا يستشهد، ألا" - حرف تنبيه - "من سرَّه بحبوحة الجنة"؛ أي: وسطها وخيارها "فليلزمِ الجماعة": المراد بالجماعة: السواد الأعظم وما عليه الجمهور من الصحابة والتابعين والسلف. "فإن الشيطان مع الفذِّ": - بتشديد الذال المعجمة -؛ أي: مع المنفرد برأيه دون رأي الجماعة، "وهو"؛ أي: الشيطان "من الاثنين أبعد"؛ أي: بعيد. "ولا يخلون رجل بامرأةٍ فإن الشيطان ثالثهما، ومن سرته حسنُته وساءته سيئتُه فهو مؤمنٌ"؛ أي: كامل في إيمانه. * * * 4704 - عَنْ جابرٍ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "لا تَمَسُّ النّارُ مُسْلِمًا رآني، أو رَأي مَن رَآني". "عن جابر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تمسُّ النارُ مسلمًا رآني، أو رأى مَنْ رآني"، فيه دليلٌ على فضل الصحابة على غيرهم، وفضل التابعين على أتباعهم. * * * 4705 - عَنْ عبدِ الله بن مُغَفَّلٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الله الله في أَصحابي، الله الله في أَصحابي، لا تتَّخِذُوهُم غَرَضًا مِنْ بَعْدِي، فمَن أَحبَّهم فبحُبي أَحبَّهم، ومَن أَبغضَهم فَببُغضي أَبغضَهُمِ، ومَن آذاهُم فَقْد آذانِي، وَمَنْ آذانِي فَقَذ آذَى الله، ومَنْ آذَى الله فيُوشِكُ أنْ يَأخُذَه"، غريب.

"عن عبد الله بن مغفَّل - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الله الله"؛ أي: اتقوا الله "في أصحابي"؛ يعني: لا تذكُروهم إلا بالتعظيم والتوقير. "لا تتخذوهم غَرَضًا"؛ أي: لا تجعلوهم هدفًا لكلامكم القبيح "من بعدي": بالطَّعن في سريرتهم، والرمي بالألسن إليهم بما لا يليق بهم. "فمن أحبَّهم فبحبي أحبهم، ومَنْ أبغضهم فببغضي أبغضهم، ومَنْ آذاهم فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله تعالى، ومن آذى الله فيوشك أن يأخذه". "غريب". * * * 4706 - عَنْ عَبْدِ الله بن بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "ما مِن أَحدٍ مِن أَصحابي يَمُوتُ بِأَرضٍ إِلَّا بُعِثَ قائدًا ونُورًا لَهُم يومَ القيامةِ"، غريب. "وعن عبد الله بن بُريدة، عن أبيه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما مِنْ أحدٍ من أصحابي يموت بأرضٍ إلا بُعث"؛ أي: ذلك الأحدُ من أصحابي "قائدًا" لأهل تلك الأرض، "ونورًا لهم يوم القيامة"، "غريب". * * * 4707 - عَنْ أَنسٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ أَصحابي في أَمَّتِي كالمِلْح في الطَّعامِ لا يَصلُحُ الطَّعامُ إلا بالمِلْح". "عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَثَلُ أصحابي في أمتي كالملح في الطعام، لا يصلح الطعام إلا بالملح"، قال الحسن البصري: فقد ذهب مِلحُنا فكيف نصلح؟

3 - باب مناقب أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -

4708 - عَنْ ابن مَسْعُودٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُبَلِّغُني أحدٌ عَنْ أَحدٍ مِنْ أَصحابي شَيئًا فإنِّي أُحِبُّ أَنْ أَخْرُجَ إليْهِم وأَنا سَليمُ الصّدْرِ". "عن ابن مسعودٍ - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يبلغني أحدٌ عن أحد من أصحابي شيئًا"؛ أي: من مساوئهم، "فإني أحبُّ أن أخرُجَ إليهم وأنا سليم الصدر"؛ أي: من الغِلِّ والحقد، وقيل: معناه: أنَّه - صلى الله عليه وسلم - يتمنى أن يخرج من الدنيا وقلبُه راضٍ عن أصحابه من غير حقدٍ على أحدٍ منهم. * * * 3 - باب مَناقِبِ أَبي بَكرٍ الصِّديقِ - رضي الله عنه - (باب مناقب أبي بكر - رضي الله عنه -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4709 - عَنْ أَبي سَعْيدٍ الخُدرِيِّ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "إنَّ مِنْ أَمَنِّ النّاسِ عَليَّ في صحبَتِهِ ومالِهِ أبا بكْرٍ، ولَوُ كنتُ مُتَّخِذًا خليلًا مِن أُمتي لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ، ولكنْ أُخُوَّةُ الإِسلامِ ومَودَّتُه، لا يَبقَى في المسجدِ خَوْخةٌ إلا خَوْخَةُ أبي بكرٍ". وفي روايةٍ: "لو كنْتُ مُتَّخِذًا خَليلًا غيرَ ربي لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ". "من الصحاح": " عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّ مِنْ أمَنِّ الناس"، وهو أفعل التفضيل من المَنِّ الذي هو العطاء، أي: مِنْ أبذلهم وأسمحهم "عليَّ"؛ أي: لأجلي "في صحبته وماله أبا بكر"، حيث فارق أهلَه وماله، وجعل نفسه وقِايةً له - صلى الله عليه وسلم -.

"ولو كنت متَّخذًا خليلًا من أمتي": قيل: الخليل من الخُلَّة وهي الصداقة المتخلِّلة في قلب المحب الداعية إلى اطِّلاع المحبوب على سره؛ يعني: لو جاز لي أن أتخذ صديقًا من الخلق يقف عليَّ، "لاتخذت أبا بكر خليلًا"، ولكن لا يَطَّلِع على سري إلا الله، وإنما خصَّصه بذلك؛ لأنه كان أقربَ سرًا من أسرار رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لما روي أنَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أبا بكر لم يفضُل عليكم بصومٍ ولا صلاةٍ، ولكن بشيء كُتِبَ في قلبه". "ولكن أخوة الإسلام"، اللام فيه للعهد؛ أي: الإِسلام الذي سبق به المسلمين، "ومودته"، أراد به المودة الثابتة بالإسلام، وهذا استدراك عن فحوى الجملة الشرطية، كأنه قال: ليس بيني وبينه خُلَّة، ولكن أخوة الإِسلام ومودته، فإنهما تقومان مقام الخلة. "لا يبقين في المسجد خَوخةٌ إلا خوخة أبي بكرٍ"، والخوخة - بفتح الخاءين المعجمتين وسكون الواو -: كُوةٌ في الجدار تؤدي الضوء، وقيل: باب صغير يمر كالنافذة الكبيرة بين بيتين أو دارين يُنصب عليهما بابٌ. وكان هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه في آخر خطبة خَطَبها، وفيه تعريض باستخلافه - صلى الله عليه وسلم - إياه بعده. وهذه الكلمة إنْ أريد بها حقيقتها فالمعنى: الأمر بسدِّ الخوخات التي لأصحاب البيوت الملتصقة بالمسجد إلا خوخة أبي بكر - رضي الله عنه - تكريمًا له بذلك أولًا، ثمَّ تعريضاً باستحقاقه أمرَ الإمامة دون مَنْ عَداه ثانياً، وإن أريد بها المجاز فهي كناية عن الخلافة وسدِّ أبواب المَقالة دون التطرق إليها، ويؤيد هذا التأويل تقديمُه - صلى الله عليه وسلم - إياه في الصلاة وإباؤه وقوفَ غيره ذلك الموقف الخطير. "وفي رواية: لو كنت متخذًا خليلًا غير ربي لاتَّخذت أبا بكرٍ خليلًا".

4710 - عن عبدِ الله بن مَسْعود - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو كنْتُ مُتَّخِذًا خليلًا لاتَّخَذْتُ أبا بكرٍ خَلِيلًا، ولكنَّهُ أخِي وصاحِبي، وقد اتخذَ الله صاحِبَكم خليلًا". "عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لو كنتُ متخذاً خليلًا لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ولكن أخي وصاحبي، وقد اتخذ الله صاحبَكم خليلًا". * * * 4711 - عن عائِشَة رَضيَ الله عَنْها، قالتْ: قَالَ لِي رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضهِ: "ادعِي لي أَبا بَكْرٍ أَباكِ، وأَخاكِ، حتى أكتُبَ كتابًا، فإنِّي أخافُ أنْ يتمنَّى مُتَمَن ويقولَ قائلٌ: أنا أَوْلى، وَيأْبَى الله والمؤمنونَ إلا أبا بكرٍ". "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك، وأخاك" وهو عبد الرحمن "حتى أكتب كتابًا، فإني أخافُ أن يتمنى متمن ويقول قائل"؛ أي: متمنٍّ: "أنا أولى"؛ أي: أنا أحق بالخلافة ولا يستحقها غيري. "ويأبى الله والمؤمنون"؛ أي: يأبيان خلافةَ كلِّ أحد "إلا أبا بكر"؛ أي: إلا خلافة أبي بكر. * * * 4712 - عن جُبَير بن مُطعِمٍ - رضي الله عنه - قال: أتَتِ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ فَكَلَّمَتْهُ في شيءٍ، فأمرَها أنْ ترجعَ إليه، قالت: يا رسولَ الله! أرأيتَ إنْ جئتُ ولم أجدْكَ؟ كأنَّها تريدُ المَوْتَ، قال "فإِنْ لَمْ تَجديني فَأتِي أبا بكرٍ".

"عن جُبير بن مُطْعِم - رضي الله عنه - قال: أتتِ النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأةٌ فكلمته في شيءٍ، فأمرها أن ترجع إليه"؛ أي: إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرةً أخرى حتى يعطيَها شيئًا. "قالت: يا رسول الله! أرأيت"؛ أي: أخبرني "إن جئت ولم أجدك، كأنها تريد الموت، قال: فإن لم تجديني فأتي أبا بكر"، وهذا يدل على خلافته - رضي الله عنه - عقيبه - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4713 - وعن عمرِو بن العاصِ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بعثَه على جَيْشِ ذاتِ السَّلاسِلِ، قَالَ: فأَتيتُه فقُلتُ: أيُّ الناسِ أَحبُّ إليكَ؟ قال: "عائشةُ"، قلتُ: مِن الرِّجالِ؟ قال: "أبوها"، قلتُ: ثُمَّ مَن؟ قال: "عمرُ"، فعدَّ رِجالًا، فَسكتُّ مخافَةَ أنْ يجعلَني في آخرِهم. "عن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه على جيش ذات السلاسل"، بإضافة الجيش إليه، قيل: هو رملٌ منعقد بعضه على بعض، وذلك الجيش لما بعث إلى تلك الأرض كان بها رملٌ على هذا النعت، أو اتفق ملاقاة الفريقين بها فأُضيف إليها؛ أي: جيش أرض ذات السلاسل، وقيل: سميت تلك الغزوة بذلك (¬1)؛ لأن الفئة المغزوة شد بعضهم بعضاً بالسلاسل للثبات. "قال: فأتيته فقلت: أيُّ الناس أحب إليك؟ قال: عائشة، قلت: ثمَّ من؟ قال: أبوها، قلت: ثمَّ من؟ قال: عمر، فعدَّ رجالًا، فسكتُّ مخافةَ أنْ يجعلني في آخرهم". ¬

_ (¬1) في هامش "غ": "أي: بذات السلاسل".

4714 - عن مُحَمَّدِ بن الحَنَفيَّة قال: قلتُ لأَبي: أيُّ النّاسِ خيرٌ بعدَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: أبو بكرٍ، قلتُ: ثُمَّ مَن؟ قال: عُمَرُ، وخَشِيتُ أنْ يقولَ: عثمانُ، قلتُ: ثُمَّ أنتَ؟ قال: ما أنا إلا رَجُلٌ مِن المُسلمين. "عن محمَّد بن الحنفية - رضي الله عنه - قال: قلت لأبي"؛ أي: لعليٍّ - رضي الله عنه -: "أي الناس خيرٌ بعد النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: أبو بكر، قلت: ثم من؟ قال: عمر، وخشيت أن يقول عثمان، قلت: ثمَّ أنت؟ قال: ما أنا إلا رجلٌ من المسلمين". * * * 4715 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: كُنّا في زَمَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لا نَعدِلُ بأبي بَكْرٍ أَحَدًا، ثُمَّ عُمَرَ، ثُمَّ عُثْمانَ، ثمَّ نترُكُ أَصحابَ النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نُفاضلُ بينَهم. وفي روايةٍ: كُنا نقولُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَيٌّ: أَفْضَلُ أُمَّةِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - بعدَه أبو بكرٍ ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عُثْمانُ. "عن ابن عمر قال: كنا في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا نعدل بأبي بكرٍ أحدًا، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ثمَّ نترك أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". قال أبو سليمان الخطابي: وجه ذلك أنه أراد به الشيوخ وذوي الأسنان منهم الذين شاورهم - صلى الله عليه وسلم - إذ أَحْزَنه أمرٌ، وكان عليٌّ - رضي الله عنه - في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثَ السنِّ، ولم يُرِدِ ابن عمر الازدراء به، ولا تأخيره عن الفضيلة بعد عثمان، وفضلُه مشهور لا ينكره هو ولا غيره من الصحابة، وإنما اختلفوا في تقديم عثمان عليه، فذهب الجمهور من السلف من أهل كوفة إلى تقديم عثمان عليه، وذهب أكثر أهل الكوفة إلى تقديمه على عثمان. "لا تفاضل بينهم"؛ أي: مفاضلة مثلهم، وإلا فأصحابُ النبي - صلى الله عليه وسلم - يتفاضل بعضهم على بعضٍ كأهل بدر وأهل بيعة [الرضوان]، وكعلماء الصحابة.

"وفي رواية: كنا نقول ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ: أفضل أمة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده أبو بكر، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان". * * * مِنَ الحِسَان: 4716 - عن أبي هريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما لأَحدٍ عِنْدَنا يدٌ إلا وقد كافَأنَاهُ ما خلا أبا بَكْرٍ، فإنَّ لهُ عندَنا يدًا يُكافئُه الله بِهِ يومَ القِيامةِ، وما نَفَعَني مالُ أَحَدٍ قَطُّ ما نفعَني مالُ أبي بكر، ولو كنتُ مُتَّخِذًا خليلًا لاتخَذْتُ أبا بكرٍ خليلًا، ألا وإنَّ صاحبَكم خليلُ الله". "من الحسان": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما لأحدٍ عندنا يدٌ"، أراد باليد: النعمة، "إلا وقد كافأناه"؛ أي: جازيناه "ما خلا أبا بكر"، فإنه قد بذلها كلَّها إياه من المال والنفس والأهل والولد، "فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مالُ أحدٍ قط"، (ما) هذه نافية، "ما نفعني مال أبي بكر"، (ما) هذه مصدرية، ولفظ (مثل) مضمر؛ أي: مثل نفع مال أبي بكر. "ولو كنت متخذًا خليلًا لاتخذت أبا بكرٍ خليلًا، ألا وإن صاحبكم"؛ يعني: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "خليل الله". * * * 4717 - وقال عُمَرُ - رضي الله عنه -: أبو بكرٍ سَيَّدُنا وخيرُنا وأحبنا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقال عمر: أبو بكر سيدنا وخيرنا وأحبنا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".

4718 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - عن رَسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: أَنَّه قَالَ لأَبي بكرٍ - رضي الله عنه -: "أنتَ صاحِبي في الغارِ، وصاحِبي على الحَوْضِ". "عن ابن عمر عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم أنَّه قال لأبي بكر: أنتَ صاحبي في الغار، وصاحبي على الحوض". * * * 4719 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ينبغي لقومٍ فيهم أبو بكر أَنْ يَؤُمَّهم غيرُه"، غريب. "وعن عائشة - رضي الله تعالى عنها - قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يؤمَّهم غيرُه"، فيه دليل على فضله على جميع الصحابة، وتأكيد صحة إمامته وإثبات خلافته. * * * 4720 - وعن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: أمرَنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنْ نتَصدَّقَ، ووافَقَ ذلك مالًا عندي، فقلتُ: اليومَ أَسْبقُ أبا بَكْرٍ، إنْ سبقتُهُ يومًا، قال: فجئتُ بنصفِ مالي، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَبقيْتَ لأهلِكَ؟ "، فقلتُ: مثلَهُ، وأتى أبو بكرٍ بكلِّ ما عندَهُ فقال: "يا أبا بكرٍ! ما أبقيْتَ لأهلِكَ؟ "، فقال: أبقيْتُ لهم الله ورسولَهُ، قلتُ: لا أَسْبقُه إلى شَيْءً أبدًا. "عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: أَمرنا رسول الله أن نتصدق، ووافق ذلك"؟ أي: صادف أمرُه - صلى الله عليه وسلم - بالتصدق "عندي مالًا"؛ أي: حصول مال عندي. "فقلت: اليومَ أسبقُ أبا بكر إنْ سبقته يومًا، قال: فجئتُ بنصف مالي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أبقيتَ لأهلك؟ فقلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده،

فقال - صلى الله عليه وسلم -: يا أبا بكر! ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيتُ لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدًا". * * * 4721 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّ أبا بَكْرٍ - رضي الله عنه - دَخَلَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "أنتَ عَتيقُ الله من النّارِ، فيَومَئذٍ سُمِّيَ عَتِيقًا". "عن عائشة: أن أبا بكرٍ - رضي الله عنها - دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنت عتيقُ الله من النار، فيومئذٍ سُمِّي عتيقًا"، فَعِيل بمعنى مُفْعَل؛ كحكيم بمعنى مُحْكَم. * * * 4722 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنا أَوَّلُ مَن تَنْشَقُّ عنه الأرضُ، ثُمَّ أبو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ آتي أَهْلَ البقيعِ فيُحشرُونَ معي، ثُمَّ أَنتظِرُ أهلَ مَكَّةَ حتى أُحشَرَ بينَ الحَرَمَيْنِ". "عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا أولُ مَنْ تنشق عنه الأرض، ثم أبو بكر"؛ يعني: أحشر أول الخلق، ثم يحشر من أمتي أبو بكر، "ثم عمر، ثمَّ آتي أهلَ البقيع فيحشرون معي، ثم أنتظر أهل مكة حتى أحشر بين الحرمين"؛ أي: حتى أجمع أنا وهم؛ يعني: لي ولهم اجتماع بين الحرمين. * * * 4723 - عن أبي هُرَيرَةَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - "أتاني جِبْريلُ فأخذَ بيدي فأراني بابَ الجَنَّةِ الذي تَدْخُلُ منهُ أُمَّتي"، فقالَ أبو بَكْرٍ - رضي الله عنه -: يا رسولَ الله! وَدِدتُ أَنِّي كُنْتُ معَكَ حتى أَنظُرَ إليه، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَما إِنَّكَ يا أبا

4 - باب مناقب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -

بكرٍ! أَوَّلُ مَن يدخلُ الجَنَّةَ مِن أُمَّتي". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أتاني جبرائيل فأخذ بيدي فأراني بابَ الجنة الذي تَدخل منه أمتي، فقال أبو بكر: يا رسول الله! وددت"؛ أي: تمنيتُ "أني كنت معك حتى انظر إليه"؛ أي: إلى باب الجنة. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أَما إنك يا أبا بكر أول من يدخل الجنة من أمتي". * * * 4 - باب مَناقِبِ عُمَرَ بن الخَطابِ - رضي الله عنه - (باب مناقب عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه) مِنَ الصِّحَاحِ: 4724 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لقد كانَ فيما قَبْلَكُمْ مِن الأُمم مُحَدَّثونَ، فإنْ يَكُ في أُمتي أَحدٌ فإنَّه عُمَرُ". "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد كان فيمَنْ قبَلكم من الأمم مُحدَّثون"، والمحدث - بفتح الدال وتشديدها - هو المُلْهَم الذي يُلقى الشيء في رُوعه من الملأ الأعلى، فيخبر به فِراسة، يريد - صلى الله عليه وسلم -: قوماً يصيبون في فراستهم إذا ظَنُّوا، فكأنهم حُدِّثوا بشيء فقالوه، فتلك منزلةٌ جليلة من منازل الأولياء. "فإن يك في أمتي أحدٌ فإنَّه عمر"، لم يُرِدْ - صلى الله عليه وسلم - به الترددَ، فإن أمته أفضل الأمم، وحيث وُجد في غيرها ففيها أولى، بل أراد التأكيدَ لفضل عمر، والقطع

به، يعني: أنَّه كان صادق الظن صافيًا؛ لصفاء قلبه الطاهر الذي هو محلٌ إلهامه تعالى. * * * 4725 - وعن سَعْدِ بن أبي وَقّاصٍ - رضي الله عنه - قال: استأذَنَ عُمَرُ بن الخَطّابِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وعِنْدَه نِسْوَةٌ مِن قُرَيْشٍ يُكَلِّمْنَهُ، عاليةً أصواتُهنَّ، فلَمّا استأذنَ عمرُ قُمْنَ فبْادَرنَ الحِجابَ، فدخَلَ عُمَرُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَضْحَكُ فقالَ: أَضْحَكَ الله سِنَّكَ يا رسولَ الله! مِمَّ تَضْحَكُ؟ فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "عَجبْتُ مِن هؤلاءَ اللاتي كُنَّ عندي، فلمّا سَمِعْنَ صَوْتَكَ ابتَدَرنَ الحِجابَ"، قال عُمَرُ: يا عَدُوّات أنفُسِهنَّ! أتهَبنني ولا تَهَبن رسولَ الله؟ فقُلنَ: نعَم، أنَتَ أفظُّ وأغلظُ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إيْهِ يا ابن الخطابِ! والذي نفسي بيدِهِ، ما لَقِيَكَ الشَّيطانُ سالكًا فَجًّا قطُّ إلا سَلَكَ فَجًا غيرَ فَجِّكَ". "عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: استأذن عمر بن الخطّاب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نسوةٌ من قريش يكلِّمْنَه، عالية أصواتهن، فلما استأذن عمرُ قُمنَ فبادَرنَ الحجاب، فدخل عمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك، فقال: أضحكَ الله سنَّكَ يا رسول الله، ممَّ تضحك؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: عجبت من هؤلاء اللاتي كنَّ عندي، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب، فقال عمر: يا عدوّاتِ أنفسِهنَّ أتهبنني"؛ أي: أتوقرنني وتعظِّمنني "ولا تهبن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقلن: نعم، أنت أفظُّ وأغلظ"، وفي "الصحاح": الفظ من الرجال: الغليظ الجافي. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إيهِ": - بكسر الهمزة والهاء - معناه: استزد على ما أنت عليه من التشدُّد والتصلُّب في الدين "يا ابن الخطاب، والذي نفسي بيده ما لَقِيَكَ الشيطانُ سالكًا فجًّا"؛ أي: طريقاً واسعًا "قط إلا سلك فجًا غيرَ فَجِّك"، وفيه تنبيه على صلابة عمر - رضي الله عنه - في الدين واستمرار حاله على الحق

المحَض والجد الصِّرف، ولذا كان إذا سلك طريقاً من طرق الدين سلك الشيطان غيره؛ ليأسِه منه، حتى كان بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالسيف الصارم إنْ أمضاه مضى، وإن كَفَّه كَفَّ. * * * 4726 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قَالَ النّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "دَخَلْتُ الجَنَّةَ فإذا أنا بالرُّمَيْصاء، امرأةِ أبي طَلْحَةَ - وسَمِعْتُ خَشْفَةً، فقلتُ: مَن هذا؛ فقالَ: هذا بلالٌ، ورأيتُ قَصراً بفِنائهِ جاريةٌ فقلتُ: لِمَنْ هذا؟ فقال: لعُمَرَ، فأردْتُ أنْ أدخُلَهَ فأنظرَ إليه فذكرتُ غيرتَكَ"، فقال عُمَرُ - رضي الله عنه -: بِأَبي وأُمِّي يا رسولَ الله! أعليكَ أغارُ؟ "عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دخلتُ الجنة فإذا أنا بالرُّمَيصاء" - بضم الراء وبالصاد المهملتين - تصغير رَمْصاء، يقال: رجل أرمص وامرأةٌ رمصاء، والرَّمَص - بفتحتين -: وسخ يجتمع في المُوْقِ وجَمَد، وإن سال فَغَمصٌ. "امرأة أبي طلحة": عطف بيان، أو بدل من الرميصاء، وهي أم سليم بنت مِلحان، كانت تحتَ مالك بن النضر فولدت منه في الجاهلية أنس بن مالك، فأسلمت وعَرَضت الإسلام على زوجها، فغضب عليها، وذهب إلى الشام فهلَكَ هنالك، فخطبها أبو طلحة الأنصاريَّ فأبت، فعلم أنه لا سبيل إليها إلا بالإسلام، فأسلم وتزوَّجها وحَسُن إسلامه. "وسمعت خَشَفة"؛ يعني صوت قرع النعل، "فقلت: مَنْ هذا؟ فقال"؛ أي: قائل: "هذا بلالٌ، ورأيت قصرًا بفنائه جارية"، فناء الدار: ما امتد من جوانبها، "فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمر"؛ أي: هذا لعمر.

"فأردت أن أدخله فأنظر إليه فذكرت غَيرتك، فقال"؛ أي: "عمر: بأبي وأمي"، الباء للتفدية؛ أي: أنت مفدَّى بهما "يا رسول الله! أعليك أغار؟! ". * * * 4727 - وعن أبي سَعيدٍ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بينا أنا نائمٌ رأيتُ النّاسَ يُعرَضُونَ عليَّ وعليهم قُمصٌ، مِنْها ما يَبلغُ الثّدْيَ، ومِنْها ما دونَ ذلكَ، وعُرِضَ عليَّ عُمَرُ بن الخَطّابِ - رضي الله عنه - وعَلَيْهِ قميصٌ يَجرُّه"، قالوا: فما أَوَّلْتَ ذلكَ يا رسولَ الله؛ قال: "الدَّينَ". "عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون عليَّ وعليهم قُمُصٌ" - بضم الميم - جمع قميص، "منها ما يَبْلُغ الثدي"؛ أي: الصدر، "ومنها ما دون ذلك"؛ أي: أَقصر منه. "وعُرِضَ عليَّ عمر بن الخطّاب وعليه قميصٌ يجرُّه، قالوا: فما أولت ذلك"؛ أي جر القميص لعمر "يا رسول الله؟! قال: الدين"؛ أي: أولته الدين؛ أي: يقيم الدين في زمان خلافته، ويطول زمانُ خلافته. * * * 4728 - وعن ابن عُمَرَ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "بَيْنا أنا نائمٌ أُتيتُ بقَدَحِ لَبن فَشَرِبْتُ، حتى إِنِّي لأَرَى الرِّيَّ يَخْرُجُ في أَظْفاري، ثمَّ أَعْطَيْتُ فَضْلي عُمَرَ بن الخطابِ - رضي الله عنه - " قالوا: فما أَوَّلْتَهُ يا رسولَ الله؛ قال: "العِلْمَ". "وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بينا أنا نائم أُتيت بقَدَح لبن فشربت، حتى إني لأرى الرِّي يخرج في أظفاري، ثمَّ أَعطيت فضلي عمَر بن الخطّاب، قالوا: فما أوَّلته يا رسول الله؟ قال: العلم"، فالعلم في عالم

المثال مصور بصورة اللبن بمناسبة أن اللبن أول غذاء البدن وسبب صلاحه، والعلم أول غذاء الروح وسبب لصلاحه، وفي الحديث دليل لمن قال بوجود الري في العلم. * * * 4729 - عن أبي هُرَيرةَ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "بَيْنا أنا نائمٌ رأيتُني على قَلِيبٍ عليها دلوٌ، فَنَزَعْتُ منها ما شاءَ الله، ثُمَّ أخذَها ابن أبي قُحافةَ فَنَزَعَ بها ذَنُوبًا أو ذَنُوبينِ، وفي نزعِه ضَعْفٌ والله يغفِرُ لهُ ضَعْفَه، ثُمَّ استَحالَتْ غَربًا، فأخذَها ابن الخَطّابِ، فَلَمْ أَرَ عَبْقريًا مِن النّاسِ يَنزِعُ نزعَ عُمَرَ، حتى ضَرَبَ النّاسُ بعَطَنٍ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: بينا أنا نائم رأيتني على قَليب"، وهي البئر التي لم تُطْو، "عليها دَلو، فنزعت منها ما شاء الله، ثمَّ أخذها"؛ أي: الدلو "ابن أبي قحافة": - بضم القاف -، وهو أبو بكر، "فنزع بها ذنَوباً"، وهو بفتح الذال المعجمة: الدلو العظيمة الملأى ماءً، "أو ذنوبين"، شك من الراوي، أشار به - صلى الله عليه وسلم - إلى قصر مدة خلافته، وهي سنتان وأشهر. "وفي نَزْعه ضعف": لم يُرِدْ به نسبةَ الضعف إليه لتقصيرٍ منه؛ لأنه تحمل من أعباء الخلافة - أي: مشقاتها - ما كانت الأمة تعجَز عن تحملها، ولذا قالت عائشة - رضي الله عنها -: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ارتدَّت جُفاةُ العرب وكثر المنافقون، فنزل بأبي ما لو نزل بالجبال الراسيات لقضَّها؛ أي: كسرها، بل هو إشارة إلى أن الفتوح في أيامه أقل منها في أيام عمر. "والله يغفِرُ له ضعفَه"، قيل: دعا - صلى الله عليه وسلم - له بالمغفرة ليتحقق السامعون أن الضعف الذي وُجد في نزعه هو من مقتضى تغيُّر الزمان وقلة الأعوان.

"ثم استحالت"؛ أي: انقلبت الذنوب وتحولت "غربًا" - بسكون الراء -: الدَّلو العظيمة التي تتخذ من جِلد ثور، "فأخذها ابن الخطاب، فلم أر عبقرياً من الناس"؛ أي: سيدًا قويًا "ينزع نزعَ عمر"؛ أي: كنزعه. "حتى ضرب الناس بِعَطَن": وهو مناخ الإبل حول الماء، ضَربَ النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك مثلًا لاتساع الناس في زمان عمر وما فتح عليهم من الأمصار. * * * 4730 - ورواهُ ابن عُمَرَ، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ثمَّ أخذَها ابن الخَطّابِ مِن يَدِ أبي بَكم فاستحالَتْ في يدِه غَرباً، فلم أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفرِي فَريَهُ، حتى رَوِي النّاسُ وضَرَبوا بعَطَنٍ". "ورواه ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: ثمَّ أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر فاستحالت في يده غرباً، فلم أر عبقريًا يَفْري فَريه"؛ أي: يعمل عمله العجيب، ويقوَى قوته، ويقطع قطعه، وهذا كله إشارة إلى ما أكرم الله تعالى به عمر من امتداد مدة خلافته، ثمَّ القيام فيها بإعزاز الإسلام وحفظ حدوده وتقوية أهله. "حتى روِيَ الناس وضربوا بعطنٍ"؛ أي: حتى رووا وأَرووا إبلَهم، وأبركوها، وضربوا لها عَطَنا. * * * مِنَ الحِسَان: 4731 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الله وَضَعَ الحَقَّ على لِسانِ عُمَرَ وقلبهِ".

"من الحسان": " عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إن الله وضع الحقَّ على لسانِ عمَر وقلبه". * * * 4732 - وقالَ عليٌّ - رضي الله عنه -: ما كُنّا نبعِدُ أنَّ السَّكينَةَ تَنْطِقُ على لِسانِ عُمَرَ. "وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: ما كنا نبعد أن السكينة تنطق على لسان عمر"؛ أي: ما كنا نعد بعيدًا أنَّه مُلْهم من الملك، إذ كان ما يقوله حقاً وصواباً، يعني: ينطق بما يستحق أن تَسكُنَ إليه النفوس، وتَطمئن به القلوب، وإنه أمرٌ غيبي أُلقي على لسان عمر، ويحتمل أنَّه أراد بالسكينة: المَلَك الذي يُلْهمه ذلك القول. وفي "شرح السنة": قال ابن عمر: ما نزل بالناس أمرٌ قط فقالوا فيه وقال عمر فيه، إلا نزَلَ القرآنُ على ما قال عمر - رضي الله عنه - * * * 4733 - عن ابن عبّاسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللهمَّ! أَعِزَّ الإِسلامَ بأبي جَهْلِ بن هشامٍ، أو بعُمَرَ بن الخَطّابِ"، فأَصْبَحَ عُمَرُ فَغَدا على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأَسْلَمَ، ثمَّ صلَّى في المَسْجدِ ظاهِرًا. "عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: اللهم أعزَّ الإِسلام"؛ أي: قَوِّه وانصره "بأبي جهل بن هشام، أو بعمر بن الخطاب، فأصبح عمرُ فغدا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأسلم، ثمَّ صلى"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "في المسجد ظاهرًا"؛ أي: غير مختفٍ من الناس، وكانوا قبلَ إسلامِ عمر يصلون في خُفية منهم.

4734 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قَالَ عُمَرُ - رضي الله عنه - لأبي بكرٍ: يا خيرَ الناسِ بعدَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -! فقالَ أبو بَكْرٍ: أَما إِنَك إنْ قلتَ ذلكَ، فَلقَدْ سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ما طَلَعَت الشَّمْسُ على رَجُلٍ خيرٍ مِن عُمَرَ". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال عمر لأبي بكر - رضي الله عنهما -: يا خيرَ الناسِ بعد رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، فقال أبو بكر: أَما إنك إنْ قلت ذلك فلقد سمعتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ما طلعتِ الشمسُ على رجلٍ خيرٌ من عمر". "غريب". * * * 4735 - عن عُقبةَ بن عامرٍ - رضي الله عنه - قال: قَالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كانَ بَعْدي نبِيٌّ لكانَ عُمَرَ بن الخَطّابِ"، غريب. "عن عقبةَ بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لوكان بعدي نبيّ لكان عمر ابن الخطاب"، "غريب". * * * 4736 - عن بُرَيْدَةَ قال: خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في بَعْضِ مَغازيه، فلمّا انصَرَفَ جاءَتْ جارَيةٌ سَوْداءُ فقالت: يا رسولَ الله! إنِّي كنتُ نَذَرْتُ: إنْ رَدَّكَ الله صالِحًا أنْ أَضْرِبَ بينَ يَدَيْكَ بالدُّفِّ وأتغَنَّى، فقالَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنْ كنتِ نَذَرتِ فاضْرِبي وإلَّا فلا"، فجَعَلَتْ تَضْرِبُ فدَخَلَ أبو بَكْرٍ وهي تَضْرِبُ، ثُمَّ دخلَ عليٌّ وهي تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمانُ وهي تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فألقَت الدفَّ تَحتَ اسْتِها ثُمَّ قَعَدَتْ عليه، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطانَ ليَخافُ مِنْكَ يا عُمَرُ! إنّي كنْتُ جالِسًا وهي تَضْرِبُ، فدخلَ أبو بَكْرٍ وهي تَضْرِبُ، ثُمَّ دَخَلَ عَلِيٌّ وهي تَضْربُ، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمانُ وهي تَضْرِبُ، فلمَّا دَخَلْتَ أَنْتَ ألقَت الدُّفَّ"، غريب صحيح.

"عن بُريدة - رضي الله عنه - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض مغازيه فلما انصرف جاءت جاريةٌ سوداءُ فقالت: يا رسول الله! إني كنت نذرت إنْ ردك الله صالحًا"؛ أي: سالمًا "أن أضرِبَ بين يديك بالدُّفِّ وأتغنى، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن كنت نذرتِ فاضربي، وإلا فلا"، فيه دليلٌ على أن الوفاء بالنذر الذي فيه قربة واجب، والسرور بمقدَمه - صلى الله عليه وسلم - قربة، خصوصًا من الغزو الذي فيه تَهلك الأنفس. وعلى أن ضرب الدف مباح. "فجعلت تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل عليٌّ وهي تضرب، ثم دخل عثمانُ وهي تضرب، ثم دخل عمُر - رضي الله عنهم - فألقت الدفِّ تحت اسْتِها"؛ أي: تحت أَليتها "ثم قعدت عليه، فقال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: إنَّ الشيطانَ ليخاف مِنكَ يا عمر"، سمى - صلى الله عليه وسلم - ضاربةَ الدف بين يديه شيطانًا؛ لفعلها فعلَ الشيطان من زيادة الضرب على ما حصل به المقصود من السرور؛ لأنه قد حصل بأدنى الضرب، والزيادة عليه من جنس اللهو. "إني كنت جالسًا وهي تضرب، فدخل أبو بكر وهي تضرب، ثم دخل علي وهي تضرب، ثم دخل عثمان وهي تضرب، فلما دخلتَ أنت ألقت "الدف". "غريب". قيل: إنما أمكنها من ضرب الدف؛ لأن نذرها دلَّ على أنها عَدَّت انصرافَه - صلى الله عليه وسلم - على حال السلامة نعمةٌ من نعم الله عليها، فانقلب الأمر فيه من صنعة اللهو إلى صنعة الحق، ومن المكروه إلى المستحب، وإنما ترك - صلى الله عليه وسلم - الأمر في الزيادة إلى حد المكروه؛ ليكون راجعًا إلى حد التحريم، وحدّ انتهائها عما كانت فيه بمجيء عمر - رضي الله عنه - * * *

4737 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جالِسًا في المَسْجدِ، فسمعْنَا لَغَطًا وصَوْتَ صِبْيَانٍ، فقامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حَبَشِيَّة تَزْفِنُ والصِّبْيانُ حَوْلَها، فقال: "يا عائِشَةُ! تعالَيْ فانظري"، فجئتُ فَوَضَعْتُ لَحْيَيَّ على مَنْكِبِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إليها ما بينَ المَنْكِبِ إلى رأسِهِ، فقالَ لي: "أَمَا شَبعْتِ؟ أَمَا شَبعْتِ؟ "، فَجَعَلْتُ أقولُ: لا؛ لأَنْظُرَ منزلَتي عِنْدَهُ، إذ طَلَعَ عمرُ، فارفَضَّ النَّاسُ عَنْها، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي لأَنْظُرُ إلى شياطينِ الجِنِّ والإنسِ قد فَرُّوا مِن عُمَرَ"، قالَت: فَرَجَعْتُ. صحيح غريب. "وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا، فسمعنا لَغَطًا"، وهو بفتح اللام والغين المعجمة والطاء المهملة: الصوت العالي، وقيل: صوتٌ وضَجةٌ لا يفهم معناه. "وصوت صبيان، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا حبشية تزفن" - بسكون الزاء المعجمة وضم الفاء وكسرها -؛ أي: ترقص "والصبيان حولها"؛ أي: حول الحبشية. "فقال: يا عائشة! تعالي فانظري، فجئت فوضعت لحيي"، واللحْي - بالفتح ثم السكون - مَنبت الأسنان، "على منكب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجعلت أنظر إليها ما بين المنكب إلى رأسه، فقال لي: أما شبعت" - بفتح الهمزة وتخفيف الميم -، "أما شبعت، فجعلت أقول: لا، لأنظر منزلتي عنده، إذ طلع عمر - رضي الله عنه - فارفضَّ الناس عنها"؛ أي: تفرقوا عن تلك الحبشية من هيَبة عمر - رضي الله عنه -. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأنظر إلى شياطين الجن والإنس قد فَرُّوا من عمر، قالت: فرجعت". "غريب". * * *

5 - باب مناقب أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما -

5 - باب مَنَاقِبِ أَبي بَكْرِ وَعُمَرَ - رضي الله عنهما - (باب مناقب أبي بكر وعمر) مِنَ الصِّحَاحِ: 4738 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -، عن رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قال "بينَما رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إذ أَعْيَا فرَكِبَها، فقالَت: إنَّا لم نُخلَقْ لهذا، إنَّما خُلِقْنا لحِراثةِ الأَرْضِ"، فقالَ النَّاسُ. سُبْحانَ الله! بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنِّي أُومِنُ بهِ أنا، وأبو بَكْرٍ، وعُمَرُ"، وما هُمَا ثَمَّ، وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "بينَما رَجُلٌ في غَنَمٍ لهُ إذ عَدَا الذئْبُ على شاةٍ منها فأَخَذَها، فأَدْرَكها صاحبُها فاستَنْقَذَها، فقالَ لهُ الذِّئْبُ: فمَن لها يومَ السَّبُعِ يَوْمَ لا راعِىَ لها غيري؟ "، فقالَ النَّاسُ: سُبْحانَ الله! ذِئْبٌ يَتَكلَّمُ، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "فأنا أوْمِنُ بهِ، وأبو بَكْرٍ، وعُمَرُ"، وما هُما ثَمَّ. "من الصحاح": " عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بينما رجل يُسوق بقرة إذ أعيا"؛ أي: تعب ذلك الرجل، "فركبها فقالت"؛ أي: البقرة: "إنا لم نخلق لهذا"؛ أي: للركوب، "وإنما خُلقنا لحراثة الأرض"، وفيه دَلالة على أن ركوب البقرة والحمل عليها غير مرضيٍّ. "فقال الناس: سبحان الله! بقرة تكلم"؛ أي: تتكلم - بحذف إحدى التاءين -؟!. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فإتي أؤمن به" - أي: بكلم البقرة - "أنا وأبو بكر وعمر - رضي الله عنهم -، أراد بذلك تخصيصَهما بالتصديق اليقيني الذي ليس وراءه للتعجب

مجالٌ، يعني: نحن نصدِّق أن الله قادر على إنطاق البقرة وغيرها من الحيوانات والجمادات، والله على كل شيءٍ قدير. "وما هما ثَمَّ"؛ أي: ليس أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - حاضرين في الموضع الذي تكلم فيه البقرة. "وقال - صلى الله عليه وسلم -: بينما رجلٌ في غنم له إذ عَدا الذئب" - من العَدْوِ - "على شاةٍ منها"؛ أي: من الغنم، "فأخذها فأدركها صاحبُها فاستنقذها"؛ أي: خَلَّصها. "فقال له الذئب: فمن لها"؛ أي: مَنِ الحافظ لها "يومَ السَّبعْ" - بسكون الباء -، قيل: هو اسم عيد كان لهم في الجاهلية يشتغلون فيه بلعبهم فيأكل الذئب غنمهم. وروي بضم الباء، وهو الصحيح، فمعناه: مَنْ لها عند الفتن إذا ترك الناس مواشيهم فيتمكن منها السباع بلا مانع. "يوم لا راعيَ لها غيري، فقال الناس: سبحان الله! ذئب يتكلم، فقال: أؤمن به أنا وأبو بكر وعمر، وما هما ثَمَّ"، وفي الحديث إخبارٌ برسوخ إيمانهما، وبيان وقوع خارقِ العادة لغير نبيٍّ. * * * 4738 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - قالَ: إنِّي لَوَاقِفٌ في قَوْمٍ فَدَعَوا الله لعُمَرَ، وقد وُضعَ على سريرِهِ، إذا رَجُل مِن خَلْفي قد وَضَعَ مِرفَقَهُ على مَنكِبي يقولُ: يَرْحَمُكَ الله، إنِّي لأَرْجُو أَنْ يَجْعَلَكَ الله مَعَ صاحِبَيْكَ؛ لأَنِّي كثيرًا ما كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "كُنْتُ وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ، وفَعْلتُ وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ، وانطَلَقْتُ وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ، ودَخَلْتُ وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ، وخَرَجْتُ وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ"، فالتَفَتُّ فإذا عليُّ بن أبي طالبٍ، - رضي الله عنهم - أجمعين.

"عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: إني لواقف في قومٍ فدعوا الله" - من الدعاء - "لعمر وقد وضع على سريره"؛ أي: للغسل، وهو جملة حالية، والسرير: ما يوضع عليه الميت. "إذا رجلٌ من خلفي قد وضع مِرفقه على منكبي يقول: يرحمك الله" - خطاب مع عمر -: "إني لأرجو أن يجعلك الله مع صاحبيك"، يريد بهما النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر - رضي الله عنه -، وجَعْلُه معهما إما في الروضة، أو في عالم القُدس. "لأني كثيرًا ما كنت أسمعُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: كنت وأبو بكر"، عطف على الضمير في (كنت) من غير تأكيد بالمنفصل، وكذلك في أخواتها، "وعمر، وفعلتُ وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، ودخلت وأبو بكر وعمر، وخرجتُ وأبو بكر وعمر، فالتفتُّ فإذا عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنهم - ". * * * مِنَ الحِسَان: 4739 - عن أبي سعيدٍ الخُدْرِيِّ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ لَيَتَراءَوْنَ أَهْلَ عِلِّيينَ، كما تَرَوْن الكَوْكبَ الدُّرِّيَّ في أفقِ السَّماءِ, وإنَّ أبا بَكْرٍ وعُمَرَ لَمِنْهُمْ، وأَنْعَما". "عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّ أهلَ الجنة ليتراءون أهلَ عِلِّيين"، وهم الذين في أعلى الأمكنة. وقال مجاهد: إن عِلِّيين السماء السابعة، وقال قَتادة: تحت قائمة العرش اليمنى. "كما ترونَ الكوكبَ الدُّريَّ في أُفق السماء، وإن أبا بكر وعمر لمنهم"؛ أي: من أهل عِلِّيين، والظرف خبر (إن)، والعامل فيه مقدَّر؛ أي: استقرَّ منهم،

واللام للتأكيد. "وأنعمًا"، عطف على المقدر، معناه: صارا إلى النعيم ودخلا فيه؛ كأَجْنَب وأشمل؛ أي: دخل في الجنوب والشِّمال، وقيل: معناه: زاد منزلة على تلك المنزلة، يقال: أحسنتُ فأنعم؛ أي: فَزِدْ. * * * 4740 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أبو بَكرٍ وعُمَرُ عز وجل سَيدا كُهُولِ أَهْلِ الجَنَّةِ مِن الأَوَّلينَ والآخِرينَ إلا النبيينَ والمُرْسَلينَ". "وعن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أبو بكر وعمر سَيدا كُهولِ أهل الجنة من الأوَّلين والآخِرين إلا النبيين والمرسلين"، المواد به الكُهولة قبل دخولها، وإلا فلا كَهْلَ فيها، وقيل: أراد به الحليم العاقل، فإنَّ أهلَها يكونون حُلماء عُقلاء. * * * 4742 - وعن حُذَيْفَةَ قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتَدُوا باللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي: أَبي بَكرٍ وعُمَرَ". "وعن حذيفةَ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اقْتَدُوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر". * * * 4743 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دَخَلَ المسجد لم يَرْفَعْ أَحَدٌ رأسَه غيرَ أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، كَانَا يتبسَّمان إليهِ, ويتبسَمُ إليهما. غريب.

"عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد لم يرفع أحدٌ رأسه"؛ عود الضمير إلى (أحد) أصوب، وإنما لم يرفعوا رؤوسهم هَيبةً له - صلى الله عليه وسلم - وإجلالًا. "غير أبي بكر وعمر، كانا يتبسَّمان إليه ويتبسم إليهما"، وهذا مجاز عن غاية الانبساط بينهم. "غريب". * * * 4744 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ ذاتَ يَوْمٍ ودَخَلَ المَسْجدَ وأبو بِكْرٍ وعُمُرُ، أَحَدُهما عن يَميِنه والآخَرُ عن شمالِه، وهوَ آخِذٌ بأَيْدِيهما، فقالَ: "هكذا نُبْعَثُ يومَ القِيامةِ"، غريب. "عن ابن عمَر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خَرَجَ ذاتَ يوم"؛ أي: من الحُجْرة. "ودخل المسجد وأبو بكر وعمر أحدهما عن يمينه، والآخر عن شماله، وهو آخِذٌ بأيديهما فقال: هكذا نبُعث يوم القيامة"، فيه دليلٌ على فضيلتهما على سائر الناس غير الأنبياء والمرسلين. "غريب". * * * 4745 - عن عبدِ الله بن حَنْطَب: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى أبا بَكْرٍ وعُمَرَ فقال: "هذانِ السَّمْعُ والبَصَرُ"، مرسل. "عن عبد الله بن حَنْطب" - بفتح الحاء والطاء المهملتين -، منهم من يروي بالظّاء المعجمة، ومنهم من يضمهما.

"أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأى أبا بكر وعمر فقال: هذان السمع والبصر"، إشارة إلى الشيخين، يريد بذلك: أنَّ منزلتهما في الدين منزلَة السمع والبصر. ويؤيد هذا: ما ذهب إليه بعضُهم أن المراد بالأسماع والأبصار في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم متِّعنا بأسماعنا وأبصارنا" أبو بكر وعمر. وقيل: أي: هما في المسلمين بمنزلة العضوين، أو هما في العزة كالعضوين، أو سماهما بذلك؛ لشدة حرصهما على الحق واتباعه. "مرسل"؛ أي: هذا الحديث مرسل؛ لأن عبد الله هذا لم يرَ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4746 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما مِن نبَيٍّ إلا وَلَهُ وزيرانِ مِن أَهْلِ السَّماءِ، ووَزيرانِ مِن أَهْلِ الأَرْضِ؛ فأمَّا وزيرايَ من أَهْلِ السَّماءِ فجبْريلُ وميكائيلُ، وأَمَّا وزيرايَ مِن أَهْلِ الأَرْضِ فأبو بَكْرٍ وعُمَرُ". "عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما مِنْ نبيٍّ إلا وله وزيران من أهل السماء، ووزبران من أهل الأرض"، الوزير: المؤازِر؛ لأنه يحمل عنه وزِره؛ أي: ثقله، يعني: إذا حَزَبَه أمرٌ - أي: أصابه - شاورهما، كما أن الملَكِ إذا حَزَبَه أمرٌ شاور الوزير. "وأما وزيراي من أهل السماء فجبريل وميكائيل، وأما وزيراي من أهل الأرض فأبو بكر وعمر - رضي الله عنهما -، وفيه دليلٌ على فضلهما على سائر الأمة. * * * 4747 - عن أبي بَكْرَة - رضي الله عنه -: أنَّ رَجُلًا قالَ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: رَأَيْتُ كأنَّ ميزانًا نَزَلَ مِن السَّماءِ فوُزِنْتَ أَنْتَ وأبو بَكْرٍ فَرَجْحْتَ أنتَ، ووُزِنَ أبو بَكْرٍ وعُمَرُ

6 - باب مناقب عثمان في عفان - رضي الله عنه -

فَرَجَحَ أبو بَكْرٍ، ووُزِنَ عُمَرُ وعُثْمَانُ فَرَجَحَ عُمَرُ، ثم رُفِعَ الميزانُ، فاستاءَ لها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، يعني فساءَهُ ذلكَ، فقالَ: "خِلافَةُ نبُوَّةٍ، ثُمَّ يُؤْتي الله المُلْكَ مَن يشاءُ". "عن أبي بكرة - رضي الله عنه -: أن رجلًا قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيت كأنَّ ميزانًا نزل من السّماء فوُزِنتَ أنتَ وأبو بكر فرجحت أنت، ووزن أبو بكر وعمر فرجح أبو بكر، ووُزن عمر وعثمان فرجَح عمر، ثم رفع الميزان، فاستاء لها"؛ أي: اغتمَّ لهذه الرؤيا "رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -؛ يعني: فساءه ذلك"؛ أي: أحزنه، هذا تفسير من الراوي. "فقال: خلافة نبوة"؛ أي: هذا خلافة نبوة، "ثم يؤتي الله الملكَ مَنْ يشاء"، أوَّلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - رفعَ الميزان بأن زمان الخلافة قليل، ثم يصير إلى المملكة. * * * 6 - باب مَنَاقِبِ عُثمانَ في عَفَّانَ - رضي الله عنه - (باب مناقب عثمان بن عفان - رضي الله عنه -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4748 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُضْطَجعًا في بَيْتِه كاشِفًا عن فَخِذَيْهِ أو ساقيْهِ، فاستَأْذَنَ أبو بَكرٍ فأَذِنَ له، وهو على تلكَ الحالِ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ استَأْذَنَ عُمَرُ فأَذِنَ لهُ وهو كذلكَ، فَتَحَدَّثَ، ثُمَّ اسئَأْذَنَ عُثْمانُ فَجَلَسَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وسَوَّى ثِيابَهُ، فلمَّا خَرَجَ قالت عائِشَةُ رضي الله عنها: دخلَ أبو بَكْرٍ فلَمْ تَهْتَشَّ لهُ وَلَمْ تُبَالِه، ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ فلم تَهْتَشَّ لهُ ولم

تُبَاله، ثُمَّ دَخَلَ عُثْمانُ فَجَلَسْتَ وسَوَّيتَ ثِيابَكَ! فقالَ: "ألا أَسْتَحْيي مِن رَجْلٍ تَسْتَحْيي مِنْهُ المَلائِكَةُ". "من الصحاح": " عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعًا في بيته كاشفًا عن فَخِذيه أو ساقيه"، شكٌّ من الراوي، الظاهر أن الثانية هي الصحيحة؛ لأنه لم يكن النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - ليكشفَ عن عورته، ويجوز أن يكون المراد بكشف الفخذ كشفه عما عليه من القميص لا المِئْزَر. "فاستأذن أبو بكر، فأذن له وهو على تلك الحال، فتحدث"؛ أي: أبو بكر. "ثم استأذن عمر، فأذن له وهو كذلك، فتحدث"؛ أي: عمر. "ثم استأذن عثمان، فجلس النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وسوَّى ثيابه، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له"؛ أي: لم تتحرك لأجله، وأصل الاهتشاش: إظهار البَشاشة والفرح؛ يعني: ما ظهر منك بَشاشة لدخول أبي بكر. "ولم تُباله، ثم دخل عمر فلم تهتشَّ له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسوَّيت ثيابك، فقال: ألا أستحيي من رجلٍ تستحيي منه الملائكة"، المراد من استحياء النبي والملائكة - عليهم السلام - من عثمان توقيرُه وتعظيمُه. * * * 4749 - وفي رِوايةٍ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عُثْمانَ رَجُل حَييٌّ، وإنِّي خَشِيْتُ إن أذنْتُ لهُ على تِلْكَ الحالةِ أنْ لا يَبْلُغَ إليَّ في حاجتِهِ". "وفي رواية: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ عثمان رجلٌ حييٌّ" - على وزن فَعِيل - من الحياء.

"وإني خشيت إنْ أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ"؛ أي: من أن لا يبلغ "إليَّ في حاجته"، أي: في قضاء حاجته، وجواب الشرط محذوف دلَّ عليه (خشيت)، يعني: إنْ أذنت له على تلك الحال أخاف أن يرجع حياءً مني عندما يراني على تلك الهيئة، ولا يعرض إليَّ حاجته. * * * مِنَ الحِسَان: 4750 - عن طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ نبيٍّ رَفيقٌ ورفيقي - يعني في الجَنَّةِ - عُثْمانُ"، غريب منقطع. "من الحسان": " عن طلحة بن عبيد الله - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لكلِّ نبيٍّ رفيقٌ، ورفيقي - يعني: في الجنة - عثمان"، فيه دليل على عظم قدره وارتفاع منزلته. "غريبٌ منقطع". * * * 4751 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن خَبَّابٍ - رضي الله عنه - قال: شَهِدْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وهو يَحُثُّ على جَيْشِ العُسْرَةِ، فقامَ عُثْمَانُ فقالَ: يا رسولَ الله! عليَّ مِئَةُ بعيرٍ بأَحْلاسِها وأَقْتابها في سبيلِ الله، ثُمَّ حَضَّ على الجيشِ، فقامَ عُثْمانُ فقال: عليَّ مِئَتا بعيرٍ بأَحْلاسِها وأَقتابها في سبيلِ الله، ثُمَّ حَضَّ على الجيشِ، فقامَ عثمانُ فقالَ: عليَّ ثلاثُ مِئَةِ بعيرٍ بأَحْلاسِها وأَقْتابها في سبيلِ الله، فأنا رَأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَنْزِلُ عن المِنْبرِ وهو يقولُ: "ما على عُثْمانَ ما عَمِلَ بعدَ هذهِ، ما على عُثْمانَ ما عَمِلَ بعدَ هذهِ".

"عن عبد الرحمن بن خباب - رضي الله عنه - قال: شهدت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يَحُثُّ"؛ أي: يحرِّض "على جيش العُسْرة"؛ وهو جيشُ غزوة تبوك، سمي به لأنها كانت في زمان اشتداد الحر وقلة الزَّاد والمَرْكب، قيل: كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في تلك الغزوة ثلاثون ألفًا، وهي آخر مغازيه - صلى الله عليه وسلم -، وفي يوم بدرٍ ثلاث مئة وثلاثة عشر مقاتلًا، وفي يوم أحد سبع مئةٍ، وفي يوم الحديبيَة ويوم خيبر ألفٌ وخمس مئة، وفي يوم الفتح عشرة آلافٍ، وفي يوم حنين اثنا عشر ألفًا. "فقام عثمان فقال: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -! "عليَّ مئةُ بعيرٍ بأحلاسها" - جمع حلسٍ بكسر الحاء -: كساء رقيق يجعل تحت البَرْذَعة، "وأَقْتابها" - جمع قَتَب بالتحريك -: وهو رحل صغيرٌ على قدر سنام البعير، يريد: بجميع أسبابها وأدواتها. "في سبيل الله، ثم حَضَّ على الجيش"؛ أي: حث الناس على الغزو وتهيئة أسباب الجيش. "فقام عثمانٌ فقال: عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش، فقام عثمانٌ فقال علي: ثلاث مئة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فانا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينزل عن المنبر وهو يقول: ما على عثمان"، (ما) هذه بمعنى (ليس) فاسمه "ما عمل"، (ما) هذه موصولة، أي: لا عليه بأس الذي عمل "بعد هذه" من الذنوب، فإنها مغفورة مكفَّرة، ويجوز أن تكون مصدرية؛ أي: ما عليه أن لا يعمل بعد هذه من النوافل؛ لأن تلك الحسنة تكفيه عن جميعها. "ما على عثمان ما عمل بعد هذه". * * *

4752 - عن عبدِ الرَّحمنِ بن سَمُرةَ - رضي الله عنه - قال: جاءَ عُثْمانُ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - بألفِ دينارٍ في كُمِّهِ حينَ جَهَّزَ جَيْشَ العُسْرَةِ، فنَثَرَها في حِجره، فرأَيْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يُقَلِّبُها في حِجْرِهِ وبقولُ: "ما ضَرَّ عُثْمانَ ما عَمِلَ بعدَ اليَوْمِ"، مرتينِ. "عن عبد الرحمن بن سمرة - رضي الله عنه - قال: جاء عثمان إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بألف دينار في مكة حين جهز جيش العسرة"؛ أي: هيأ جهاز سفره. "فنشرها في حجره، فرأيت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقلبها في حجره ويقول: ما ضر عثمان"، (ما) هذه نافية، "ما عمل" فاعل (ضر)؛ أي: الذي عمله من الذنوب، "بعد اليوم مرتين"، ظرفٌ لـ (يقول). * * * 4753 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لَمّا أُمِرَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ببَيْعَةِ الرِّضْوَانِ كانَ عُثْمانُ رَسُولَ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مَكَّةَ، فَبَايَعَ النَّاسَ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ عُثْمانَ في حاجَةِ الله وحاجَةِ رَسولهِ"، فضرَبَ بإِحْدَى يَدَيْهِ على الأُخرَى، فكانَتْ يَدُ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لِعُثْمانَ خَيْرًا مِنْ أَيْدِيهِمْ لِأَنْفُسِهم. "عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببيعة الرضوان"، وهي البيعةُ التي كانت تحت الشجرة يومَ الحديبيَة، وإنما سميت بها؛ لأنه نزل في أهلها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18]. "كان عثمانُ رسولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى مكة، فبايع"؛ أي: النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - "الناسُ، فقال: إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسول الله، فضرب لإحدى يديه على الأخرى"، وجعل إحدى يديه نائبةً عن يد عثمان، قيل: هي يده اليسرى، وقيل: يده اليمنى. "فكانت يُد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعثمان"؛ أي: كانت إحدى يديه - صلى الله عليه وسلم - في البيعة

من جهة عثمان "خيرًا من أيديهم لأنفسهم". * * * 4753 - عن ثُمامَةَ بن حَزْنٍ القُشَيْريِّ قال: شَهِدْتُ الدَّارَ حينَ أَشرَفَ عليهم عُثْمانُ فقال: أَنشُدُكم الله والإسلامَ، هل تعلمونَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَدِمَ المَدينةَ وليسَ بها ماءٌ يُستعذبُ غيرُ بئرِ رُومَةَ فقال: "مَن يشتري بئرَ رُومَةَ يَجعل دَلْوَه مع دلاء المُسلمينَ بخيرٍ له منها في الجَنَّةِ؟ "، فاشتريتُها مِن صُلْبِ مالي، فأنتم اليومَ تَمنَعوننَي أنْ أَشْرَبَ منها حتَّى أَشْرَبَ مِن ماءِ البَحْرِ! فقالوا: اللهم! نَعَم، قال: أَنشُدُكم الله والإسلامَ، هل تعلمونَ أنَّ المسجدَ ضاقَ بأهلِهِ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يَشْتري بُقعَةَ آلِ فُلانٍ فيزيدُها في المَسْجدِ بخيرٍ لهُ منها في الجنةِ"، فاشتريْتُها مِن صُلْبِ مالى، فأنتم اليومَ تمنعونَني أنْ أُصلِّيَ فيها ركعتينِ؟ قالوا: اللهم! نَعَم، قال أَنشدُكم الله والإسلامَ، هل تعلمونَ أني جَهَّزتُ جيشَ العُسرةِ مِن مالي؟ قالوا: اللهم! نعم، قال: أَنشدُكم الله والإِسلامَ، هل تعلمونَ أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ على ثَبيرِ مَكَّةَ ومعَهُ أبو بَكْرٍ وعُمَرُ وأنا، فتحرَّكَ الجبلُ حتى تساقطَتْ حِجارَتُه بالحَضيضِ، فركضَهُ برجلِهِ وقال: "اُسْكُن ثَبيرُ، فإنَّما عليكَ نبيٌّ وصدِّيقٌ وشهيدانِ؟ " قالوا: اللهمَّ! نَعَم، قال: الله أكبرُ، شَهِدُوا ورَبِّ الكَعْبةِ أَنِّى شَهيدٌ، ثلاثًا. "عن ثُمامة" - بالضم - "بن حَزْن" - بسكون الزاي - "القشيريّ، قال: شهدت"؛ أي: حضرت. "الدار" وهي الدار التي حُصِرَ (¬1) فيها عثمان، وقتل فيها، "حين أشرف"؛ أي: اطلع "عليهم عثمان" فقال: أنشدكم الله والإسلام"؛ أي: أسألكم بالله وبالإسلام: "هل تعلمون أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم ¬

_ (¬1) في "غ": "حصروا".

المدينة وليس بها ماءٌ يُستعذب غير بئر رُومة" - بضم الراء - بئرٌ بالمدينة لرجل من بني غفار، وكان يبيع القِربة منها بمدٍّ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هل تبيعها بعينٍ في الجنة؟ قال: يا رسول الله! ليس لي ولعيالي عينٌ غيرها فلا أستطيع ذلك، "فقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من يشتري بئر رومة، يجعل"، مفعول له أو حال؛ أي: إرادة أن يجعل أو قاصدًا أن يجعل "دَلْوه مع دِلاء المسلمين"؛ أي: مساويًا مع دلائهم في الاستقاء منها، وهذا كناية عن الوقف، "بخير" الباء فيه باء البدل تتعلق بـ (يشتري)؛ يعني: يشتريها بثمنٍ معلوم، ثم يبدلها بخيرٍ حاصل له "منها في الجنة، فاشتريتها من صلب مالي"، قيل: اشتراها بمئة ألف درهم فوقَفَها، وقيل: بخمسة وثلاثين ألف درهم. "فأنتم اليوم تمنعونني أن أشربَ منها حتى أيثرب من ماء البحر"؛ أي: من ماء يُشبه ماء البحر في الملوحة. "فقالوا: اللهم نعم، فقال: أنشدكم الله والإسلامَ هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يتشري بقعةَ آل فلانٍ فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعونني أن أصلي فيها ركعتين، قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أني جهَّزت جيشَ العسُرة من مالي، قالوا: اللهم نعم، قال: أنشدكم الله والإسلام هل تعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على ثَبير مكة"، جبلٌ بمكة، "ومعه أبو بكر وعمر وأنا، فتحرَّك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض"، وهو القرار من الأرض عند منقطع الجبل، "فركضه"؛ أي: ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - الجبل "برجله، فقال: اسكن ثبير"؛ أي: يا ثبير، "فإنما عليك نبيُّ وصديق" وهو أبو بكر، "وشهيدان"، هما عمر وعثمان. "قالوا: اللهم نعم، قال"؛ أي: عثمان: "الله أكبر"، هذه كلمةٌ يقولها

المتعجِّب عند إلزام الخصم وتَبْكِيته، وذلك أنه لما أراد أن يظهر لهم أنه على الحق وأن خصماءَه على الباطل على طريقٍ يُلجئهم إلى الإقرار، أورد حديث ثبير مكة، وأنه أحد الشهيدين مستفهمًا عنهم، فأقروا بذلك، وأكَّدوا إقرارهم بقولهم: اللهم، فقال عثمان: الله أكبر؛ تعجُّبًا وتعجيبا وتجهيلًا لهم واستهجانًا بفعلهم. "اشهدوا وربِّ الكعبة أني شهيدٌ ثلاثًا"؛ أي: ثلاث مراتٍ، ظرفٌ لـ (قال: الله أكبر). * * * 4755 - عن مُرَّةَ بن كَعْبٍ قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وذكرَ الفتنَ فقرَّبَها، فَمَرَّ رَجُل مُقَنَّعٌ في ثَوْبٍ، فقالَ: "هذا يومَئذٍ على الهُدَي، فقمْتُ إليهِ فإذا هو عثمانُ بن عفَّانَ - رضي الله عنه - قال: فأقْبَلْتُ عليهِ بوجهِهِ فقلتُ: هذا؟ قال: "نعم"، صحيح. "عن مرة بن كعبٍ - رضي الله عنه - قال: سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر الفتن فقربها"؛ أي: ذكر أنها قريبةٌ. "فمر رجلٌ مقنَّع"؛ أي: مستترٌ "في ثوبٍ فقال: هذا"؛ أي: هذا الرجل المقنع "يومئذٍ"؛ أي: يوم وقوع تلك الفتن "على الهدى، فقمت إليه، فإذا هو عثمان بن عفان، قال"؛ أي: الراوي: "فأقبلت عليه بوجهه"؛ أي: على النبي - صلى الله عليه وسلم - بوجه عثمان، "فقلت: هذا"؛ أي: هذا هو الرجل الذي يومئذٍ على الهدى؛ "فقال: نعم". "صحيح". فيه دليل على كون عثمان مظلومًا. * * *

4756 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أَنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "يا عُثْمانُ! إنَّه لعلَّ الله يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا، فإنْ أرادوكَ على خَلْعِه فلا تَخْلَعْه لهم". "عن عائشة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا عثمان! إنه لعلَّ الله تعالى يُقمِّصُك قميصًا"؛ أي: يُلبسك قميصًا، أراد منه الخلافة هنا. "فإن أرادوك على خَلعه فلا تخلَعْه لهم"؛ يعني: إن الله تعالى سيجعلك خليفة، فإن النَّاس إنْ قصدوا عزلك عنها فلا تعزِل نفسك عنها لأجلهم، فلهذا كان عثمان ما عزل نفسه حين حاصروه يومَ الدار. * * * 4757 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: ذكرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فِتْنَةً فقالَ: "يُقتَلُ هذا فيها مَظْلومًا" لعثمانَ. غريب. "عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - فتنةً فقال: يقتل هذا فيها"؛ أي: في تلك الفتنة "مظلومًا - لعثمان - "؛ أي: قال ذلك لعثمان. "غريب". * * * 4758 - عن أبي سَهْلَةَ - رضي الله عنه - قال: قال لي عُثْمانُ يومَ الدَّارِ: إنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قَد عَهِدَ إليَّ عَهْدًا، وأنا صابرٌ عليهِ. صَحَّ، والله الموفِّقُ. "عن أبي سَهْلَةَ - رضي الله عنه - قال: قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عَهِدَ إليَّ عهدًا"، قيل: العهد الخلافة، ويحتمل أن يريد بهذا العهد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإنْ أرادوك على خَلعه فلا تَخْلَعه لهم".

7 - باب مناقب هؤلاء الثلاثة - رضي الله عنهم -

"وأنا صابرٌ عليه"، أي: على أن لا أخلعها وإن استخلعوني. "صح". * * * 7 - باب مَنَاقِبِ هؤلاءِ الثَّلاثة - رضي الله عنهم - (باب مناقب هؤلاء الثلاثة - رضي الله عنهم -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4759 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - صَعِدَ أحُدًا وأبو بَكرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ - رضي الله عنهم -، فَرَجَفَ بهم فَضَرَبَه برِجْلِه، فقالَ: "اثبُتْ أُحُد، فإنَّما عليكَ نبيٌّ وصِدِّيقٌ وشَهيدانِ". "من الصحاح": " عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صَعِدَ أُحُدًا وأبو بكر وعمر وعثمان فرجف بهم"؛ أي: تحرك واضطرب أحد. "فضربه برجله فقال: اثْبُت أحد"؛ أي: يا أحد، "فإنما عليكَ نبىٌّ وصديقٌ وشهيدان"، وتحرُّكُ أحُدٍ كان من المباهاة، وفيه معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر عن كونهما شهيدين، وكانا كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4760 - عن أبي موسى الأَشْعَريِّ - رضي الله عنه - قال: كنْتُ معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في حائطٍ مِن حِيْطانِ المَدينة، فجاءَ رَجُلٌ فاستَفْتَحَ، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "افتَحْ لهُ وبشِّرْهُ بالجَنَّةِ"، فَفَتَحْتُ لهُ، فإذا أبو بَكْرٍ، فَبَشَّرْتُه بما قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِدَ

الله، ثُمَّ جاءَ رَجُلٌ فاستَفْتَحَ، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "افتَحْ لهُ وبشِّرْهُ بالجَنَّةِ"، ففَتَحْتُ لهُ فإذا عُمَرُ، فأَخْبَرْتُه بما قالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِدَ الله، ثُمَّ استَفْتَحَ رَجُلٌ، فقال لي: "افتَحْ لهُ وبَشِّرْهُ بالجَنَّةِ على بَلْوَى تُصِيبهُ"، فإذا عُثْمانُ، فأخبرتُه بما قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِدَ الله، ثُمَّ قال: الله المستعانُ. "عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حائطٍ من حيطان المدينة"؛ أي: في بستان من بساتينها، "فجاء رجلٌ فاستفتح"؛ أي: طلب فتح الباب، "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: افتحْ له وبشِّره بالجنة، ففتحت له، فإذا هو أبو بكر، فبشَّرته بما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فحَمِد الله تعالى، ثم جاء رجلٌ فاستفتح، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: افتحْ له وبشِّره بالجنة، ففتحت له، فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحمِدَ الله تعالى، ثم استفتح رجلٌ، فقال لي رسول الله: افتح له وبشِّره بالجنة على بَلْوى"، (على) هنا بمعنى (مع)؛ أي: مع بلوى "تصيبه"، أراد به: ما أصابه يوم الدار من أذى المحاصرة والقتل وغير ذلك مما يكرهه. "فإذا هو عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله، فحمد الله تعالى، ثم قال"؛ أي: عثمان بعدما حمد: "الله المستعان": وفي ضمنه تصديق النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما أخبر، والاستعانة من الله تعالى في ذلك. * * * مِنَ الحِسَان: 4761 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قالَ: كُنَّا نقُولُ ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حَيٌّ: أبو بَكْرٍ، وعُمَرُ وعُثْمانُ - رضي الله عنهم -. "من الحسان": " عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: كنَّا نقول ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيٌّ" - جملة معترضة

8 - باب مناقب علي في أبي طالب - رضي الله عنه -

بين القول ومقوله -: "أبو بكر وعمر وعثمان"؛ أي: هؤلاء هم المختارون، أو المراد: أنه ما كان يدور على الألسنة إلا ذُكر هؤلاء الثلاثة؛ لعظم منزلتهم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. * * * 8 - باب مَنَاقِبِ عَلِيِّ في أَبي طالب - رضي الله عنه - (باب علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4762 - عن سعدِ بن أبي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعَليٍّ: "أنتَ مِنِّي بِمَنْزِلةِ هارونَ مِن مُوسَى، إلا أنَّه لا نبَيَّ بعدي". "من الصحاح": " عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: أنت منِّي بمنزلة هارون من موسى - عليهما الصلاة والسلام - "، قيل: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين خرج إلى غزوة تبوك ولم يستصحبه، وقال له عليٌّ - رضي الله عنه -: أتخلفني في النساء والذُّرِّية؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى". ضرب المثل باستخلاف موسى وهارون على بني إسرائيل حين خرج إلى الطور، ولم يُرِدْ به الخلافة بعد الموت؛ لأن هارون مات قبل موسى، وإنما كان خليفته في حياته في وقتٍ خاصٍّ، فبيَّن - صلى الله عليه وسلم - بقوله: "إلا أنه لا نبي بعدي": أنَّ اتصاله به ليس من جهة النبوة، فبقي الاتصال من جهة الخلافة؛ لأنها تلي النبوةَ في المرتبة. * * *

4763 - وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: والذي فَلَقَ الحَبَّةَ، وبَرَأَ النَّسَمَةَ، إنَّه لَعَهْدُ النَّبيِّ الأُمِّيِّ - صلى الله عليه وسلم - إليَّ: أنْ لا يُحِبني إلا مُؤْمِنٌ، ولا يُبْغِضَنِي إلا مُنافِقٌ. "وقال عليٌّ - رضي الله عنه - والذي" - الواو للقسم - "فلق الحبة"؛ أي: شَقَّها وأخرج منها النبات، "وَبَرأ النسمة": وهي النَّفْس الإنسانية؛ يعني: خلق الإنسان، وجواب القسم: "إنه لعهد النبيِّ الأمي - صلى الله عليه وسلم - إليَّ"؛ أي: ضمنني "أن لا يحبني إلا مؤمن ولا يبغضني إلا منافق". * * * 4764 - عن سَهْلِ بن سَعْدِ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ يومَ خَيْبَرَ: "لأَعطِيَنَّ هذهِ الرَّايةَ غدًا رَجُلًا يَفتحُ الله على يَدَيهِ، يُحِبُّ الله ورسولَهُ، ويحبُّهُ الله ورسولُه"، فلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ غَدَوْا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، كلُّهم يَرْجُونَ أنْ يُعطَاها، فقالَ: "أينَ عليُّ بن أبي طالب؟ "، فقالوا: هوَ يا رسولَ الله! يشتكي عَيْنَيهِ، قالَ: "فأَرْسِلوا إليهِ"، فأُتيَ بهِ، فبصقَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في عَيْنَيهِ، فبَرَأَ حتى كأنْ لم يكنْ بهِ وَجَعٌ، فأعطاهُ الرايةَ، فقال عليٌّ: يا رسولَ الله! أُقاتِلُهم حتى يكونُوا مثلَنا؟ فقالَ: "انفُذْ على رِسلِكَ حتى تنزِلَ بساحتِهم، ثم ادعُهم إلى الإِسلامِ، وأخبرْهم بما يَجبُ عليهم من حَقِّ الله فِيهِ، فوالله لأَنْ يهديَ الله بكَ رَجُلًا واحِدًا خيرٌ لكَ مِن أنْ تكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ". "عن سهل بن سعد: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: لأعطينَّ هذه الرايةَ غدًا رجلًا يفتح الله على يديه يحب الله ورسوله ويحبُّه الله ورسوله، فلمَّا أصبح الناس غَدَوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: أَتوه وقتَ الغداة، "كلهم يرجُوا أن يُعطاها، فقال - صلى الله عليه وسلم -: أين عليُّ بن أبي طالب؟ قالوا: هو يا رسول الله يشتكي عينيه، قال - صلى الله عليه وسلم -: فأرسلوا إليه، فأْتي به، فبصق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ أي: ألقى بُزاقه "في

عينيه فبرأ"؛ أي: زال الوجعُ عنهما في الحال "حتى كأن لم يكن به وجعٌ، فأعطاه الراية، فقال عليٌّ: يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا"؛ أي: أحاربهم حتى يكونوا مسلمين. "قال: انفذ على رِسْلك"؛ أي: امْضِ على رفِقك ولينك، والرِّسل - بكسر الراء - السير اللين والهينة. "حتى تنزل بساحتهم"؛ أي: بأرضهم. "ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب عليهم من حقِّ الله تعالى فيه"؛ أي: في الإسلام، "فوالله لأَنْ يهدي الله بك رجلًا واحدًا خيرٌ لك من أن يكون لك حُمَرُ النَّعم"، أراد به حُمر الإبل، وهي أعزها وأَنْفَسُها؛ يعني: هداية الله رجلًا بك خيرٌ لك ثوابًا من أن يكون لك حمر النعم فتتصدق بها، وهذا يدل على أن تعليم علمٍ يُهتدَى به خيرٌ من بذل المال وإطعام الطعام صدقةً. * * * 4765 - عن البَرَاءِ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لعليٍّ: "أنتَ مِنِّي وأنا مِنكَ". "عن البراء - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعليٍّ: أنت مني وأنا منك"، إنما قال هذا القول في حقه؛ لأنه كان ابن عمه الذي ربَّاه أبوه وخَتَنه. * * * مِنَ الحِسَان: 4766 - عن عِمْرانَ بن حُصَينٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ عليًّا مِنِّي وأنا مِنه، وهوَ وَليُّ كلِّ مؤمنٍ". "من الحسان": " عن عمِران بن حُصين - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّ عليًا مني وأنا

منه، وهو وليُّ كلِّ مؤمن"؛ أي: حبيبه. * * * 4767 - عن زيدِ بن أَرْقَمَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "مَن كنتُ مَوْلاهُ فعليٌّ مَوْلاهُ". "عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مَنْ كنتُ مولاه فعليٌّ مولاه"، معناه: من كنت أتولاه فعليٌّ يتولاه؛ من الولي ضد العدو، وقيل: سبب ذلك: أن أسامة بن زيد قال لعلىٍّ: لستَ مولاي، إنما مولاي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال - صلى الله عليه وسلم - الحديثَ. وقال الشافعي: أراد بذلك ولاء الإسلام، وذلك قول الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11]: أي: وليُّهم وناصرهم. * * * 4768 - عن حُبْشِيِّ بن جُنَادَةَ قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "عليٌّ مِنِّي وأنا مِنْ عَليٍّ، ولا يُؤدِّي عني إلا أنا أو عليٌّ". "وعن حُبْشي" - بضم الحاء المهملة ثم السكون - "بن جُنادة" - بضم الجيم -، "قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: عليٌّ مني وأنا من عليٍّ، ولا يؤدي عني إلا أنا أو عليٌّ"، قيل: كان من عادة العرب إذا أرادوا مصالحةً أو نقضَ عهدٍ أن لا يؤدي ذلك إلا سيدُ القوم، أو مَن هو مِنْ قرابته القريبة، ولا يقبلون ممن سواهم، ولما كان العام الذي أَمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكرٍ أن يحج بالناس، رأى - صلى الله عليه وسلم - بعد خروجه أن يبعث عليًا خليفةً عنه في نبذِ عهد المشركين إليهم، وقراءة سورة براءةٍ عليهم، وفيها قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة: 28] إلى غير دْلك من الأحكام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قوله هذا تكريمًا له بذلك. فمعناه: لا يعبر عما أقول وآمرُ به إلا أنا وعليٌّ، فلما حضر الموسم بعثه أبو بكر مع جَمْعٍ ليبلِّغ عنه - صلى الله عليه وسلم - ذلك، وينادي به المبعوثون معه في الناس. * * * 4769 - وعن ابن عُمَرَ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - آخَى بينَ أَصْحابه، فجاءَه عليٌّ تَدْمَعُ عينَاهُ، فقال: آخيْتَ بينَ أَصْحابكَ، ولم تُؤاخِ بيني وبينَ أحدٍ؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنتَ أخي في الدُّنيا والآخِرَةِ"، غريب. "عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: آخى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه"؛ أي: جعل بينهم مؤاخاةً في الدين، "فجاء عليٌّ تدمع عيناه، فقال: آخيت بين أصحابك ولم تؤاخ بيني وبين أحدٍ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنت أخي في الدنيا والآخرة". "غريب". * * * 4770 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ عِنْدَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - طَيْرٌ فقال: "اللهمَّ! ائتِني بأَحَبِّ خَلْقِكَ إليك يأكلُ معي هذا الطَّيْرَ"، فجاءَ عليٌّ - رضي الله عنه - فأَكَلَ معَهُ. غريب. "عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كان عند النبي - صلى الله عليه وسلم - طيرٌ، فقال: اللهم ائتني بأحبِّ خلقك إليك"؛ أي: بمن هو أحبُّهم إليك فيشاركه فيه غيره - صلى الله عليه وسلم -، يقال: فلان أعقل الناس وأفضلهم؛ أي: مِنْ أعقلهم وأفضلهم، أو أراد: أحب خلقه من بني عمه، إذ كان - صلى الله عليه وسلم - كثيرًا ما يطلق ويريد التقييد، فيعرفه ذوو الفهم بقرينة الأحوال والأوقات. "يأكل معي هذا الطير، فجاء عليٌّ - رضي الله عنه - فأكل معه". "غريب". * * *

4771 - وقال عليٌّ: كُنْتُ إذا سَأَلْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - أَعْطاني، وَإذا سَكَتُّ ابتَدَأني. غريب. "وقال عليٌّ - رضي الله عنه -: كنت إذا سألت النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاني، وإذا سكتُّ ابتدأني". "غريب". * * * 4772 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَنا دارُ الحِكْمَةِ، وعليٌّ بابُها"، غريب، لا يُعرَفُ هذا عن أَحَدٍ مِن الثقِّاتِ غيرِ شَريكٍ، وإِسْنادُه مُضْطَرِبٌ. "عن عليَّ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنا دار الحكمة وعليٌّ بابها": لعل للشيعة متمسَّكٌ بهذا الحديث في أن أخذ العلم والحكمة منه - صلى الله عليه وسلم - مختصٌّ به لا يتجاوز إلى غيره إلا بواسطته؛ لأن الدار إنما يُدخل فيها من بابها، ولا حجة لهم فيه، إذ ليس دار الجنة بأوسع من دار الحكمة ولها ثمانية أبوابٍ. "غريب، لا يعرف هذا"؛ أي: هذا الحديث "عن أحدٍ من الثقات غير شريك"، وهو شريك بن عبد الله قاضي بغداد، "وإسناده مضطرب"؛ أي: ليس بثابت. * * * 4773 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: دَعَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَلِيًا يَوْمَ الطَّائِف فانتَجَاهُ، فقالَ النَّاسُ: لقد طالَ نَجْوَاهُ مع ابن عَمِّه، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما انتَجَيْتُهُ، ولكنَّ الله انتجَاه". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا يوم الطائف"؛ أي: يومَ أَرسل

النبيُّ - عليه الصلاة والسلام - عليًا إلى الطائف، "فانتجاه"؛ أي: قال معه النَّجْوى، "فقال الناس: لقد طال نجواه مع ابن عمه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما انتجيته"؛ أي: ما خَصَصْته بمناجاتي، "ولكنَّ الله انتجاه"؛ يعني: بلغته ما أمرني أنْ أبلِّغه إياه على سبيل النجوى، فيكون الله الذي انتجاه لا أنا. * * * 4774 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رَسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لِعَلِيٍّ: "يا عليُّ! لا يَحِل لأَحَدٍ يُجْنِبُ في هذا المَسْجدِ غيري وغيرُك" قال ضرَارُ بن صُرَدٍ: معناهُ: لا يَحِلُّ لأَحَدٍ يَسْتَطْرِفُه جُنُبًا غيري وغيرُك. هذا حديثٌ غريبٌ. "عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعلي: يا علي! لا يحل لأحدٍ يجنب"؛ صفةٌ لـ (أحد) "في هذا المسجد" متعلقٌ بمحذوف؛ أي: لا يحل لأحدٍ تصيبه جنابةٌ أن يمر في هذا المسجد "غيري وغيرك، قال ضرار بن صُرد: معناه: لا يحل لأحدٍ أن يستطرقه جُنبًا غيري وغيرك"، وذلك لأنه كان ممرَّ أبواب دارهما في المسجد، وكانا لا يجدان ممرًا، بخلاف غيرهما. "هذا حديثٌ غريب". * * * 4775 - عن أُمِّ عَطِيَّةَ رضي الله عنها قالت: بَعَثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - جَيْشًا فيهم عليٌّ، قالت: فسَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رافِعٌ يَدَيْهِ يقولُ: "اللهمَّ! لا تُمِتْني حتى تُرِيَني عَلِيًّا". "عن أمِّ عَطِية - رضي الله عنها - قالت: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيشًا فيهم عليٌّ قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو رافعٌ يديه يقول: اللهم لا تُمتني حتى

9 - باب مناقب العشرة - رضي الله عنهم -

تريني عليًا"، وَلِيَ عليٌّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - خمس سنين وأشهرٍ، وقتله ابن مُلجمٍ - لعنه الله - صبيحةَ ليلة الجمعة لسبع عشر ليلة خَلَت من شهر رمضان سنة أربعين، وهو ابن ثمانٍ وخمسين، وقيل: ابن ثلاثٍ وستين سنة. * * * 9 - باب مَنَاقِبِ العَشرَةِ - رضي الله عنهم - (باب مناقب العشرة - رضي الله عنهم -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4776 - قال عُمَرُ - رضي الله عنه -: ما أَحَدٌ أَحَقُّ بهذا الأَمْرِ مِن هؤلاءِ النَّفَرِ الذينَ تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهوَ عَنْهم راضٍ، فَسَمَّى: عليًا وعُثْمانَ والزُّبَيْرَ وطَلْحَةَ وسَعْدًا وعَبْدَ الرَّحمنِ. "من الصحاح": " قال عمر - رضي الله عنه -: ما أحدٌ أحق بهذا الأمر": أراد به الخلافة، "من هؤلاء النفر" وهو بالتحريك: عدة رجالٍ من ثلاثة إلى عشرة. "الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض": أراد هنا بالرضا المخصوص، وهو الرضا الذي يستحقون به الخلافة، وإلا لم يكن لتخصيص هؤلاء بالوضاء وجهٌ؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - راضٍ عن جميع الصحابة. "فسمَّى"؛ أي: فعدَّ عمرُ "عليًا وعثمان والزبير وطلحة وسعدًا وعبد الرحمن" بن عوف - رضي الله عنهم - قاله عمر - رضي الله عنه - عند وفاته؛ يعني: الخلافة بعدي بين هؤلاء الستة المذكورة، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان راضيًا عنهم، وهم أفضل الناس في هذا

الزمان، فلما دُفن عمر - رضي الله عنه - أجمعوا على خلافة عثمان. * * * 4777 - وقال قيسُ بن أبي حازمٍ: رأيتُ يَدَ طَلْحَةَ شَلَّاءَ، وقَى بها رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ. "وقال قيس بن أبي حازم: رأيت يدَ طلحة شَلَّاء وقى بها"؛ أي: حفظ بيده "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ أُحد". * * * 4778 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يأتيني بخَبَرِ القَوْمِ؟ " - يومَ الأَحْزابِ -، قالَ الزُّبيرُ: أنا، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لكُلِّ نبَيٍّ حَوَارِيًّا وحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ يأتيني بخبرِ القوم يومَ الأحزاب"؛ أي: يوم الخندق، "قال الزبير: أنا، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ لكل نبيٍّ حواريًّا"؛ أي: ناصرًا مخُلصًا، "وحواريِّ الزبير". * * * 4779 - وقال الزبيرُ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يأتي بني قُرَيْظَةَ فيأتيني بخَبَرِهم؟ "، فانطَلَقْتُ، فلَمَّا رجَعْتُ جَمَعَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَويهِ فقالَ: "فِدَاكَ أَبي وأُمِّي". "وقال الزبير: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من يأت بني قريظة فيأتيني بخبرهم، فانطلقتُ، فلما رجعتُ جمع لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: في الفداء "أبويه، فقال: فداك أبي وأمي"، والمراد به الدعاء. * * *

4780 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: ما سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ أَبَوَيهِ لأَحَدٍ إلا لسَعْدِ بن مالكٍ، فإنِّي سَمِعْتُه يقولُ يومَ أُحُدٍ: "يا سَعْدُ! ارْمِ فِدَاكَ أبي وأمي". "عن عليَّ - رضي الله عنه - قال: ما سمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - جَمَعَ أبويه لأحدٍ إلا لسعدِ بن مالك" - كنية ابن أبي وقاص -، "فإني سمعته يوم أحدٍ يقول: يا سعدُ ارم فداك أبي وأمي"، ولا يلزم من عدم سماع عليٍّ - رضي الله عنه - عدم الجمع الذي ذكره عدم الجمع؛ لجواز جمعه - صلى الله عليه وسلم - مع عدم سماع عليٍّ - رضي الله عنه - ذلك، رضي الله عنه، وكرم الله وجهه. * * * 4781 - وقال سَعْدٌ: إني لأَوَّلُ العَرَبِ رَمَى بسَهْمٍ في سبيلِ الله. "وقال سعدٌ: إني لأول العرب رمى بسهمٍ في سبيل الله تعالى". * * * 4782 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: سَهِرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَقْدَمَهُ المَدينةَ ليلةً فقال: "لَيْتَ رَجُلًا صالِحًا يَحْرُسُني"، إذ سَمِعْنَا صَوْتَ سِلاحٍ، فقالَ: "مَن هذا؟ " قال: سَعْدٌ، قال: "ما جاءَ بكَ؟ " قال: وَقَعَ في نفسِي خَوْفٌ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَجِئْتُ أَحرُسُه، فَدَعَا لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، ثُمَّ نامَ. "وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت: شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مقدمه"؛ أي: وقتَ قدومه "المدينة ليلة" مفعول به لـ (شهد)، "فقال: ليت رجلًا صالحًا يحرسني"؛ أي: يحفظني عن العوارض. "إذ سمعنا صوت سلاحٍ، فقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من هذا؟ "، (من) هذه استفهامية.

"قال: سعد، قال: ما جاء بك؟ قال"، أي: سعد: "وقع في نفسي خوفٌ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجئت أحرُسُه، فدعا له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم نام". * * * 4783 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قال النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِيْنٌ، وأَمِينُ هذه الأُمَّةِ أبو عُبَيْدةَ بن الجَرَّاحِ". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لكلِّ أمةٍ أمين"، أي: ثقةٌ ومعتمدٌ عليه، "وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح": اسمه عامر بن عبد الله بن الجراح، والجراح جدُّه، إنما خصه بتوصيفه بالأمانة - وإن كانت مشتركةً بينه وبين غيره من الصحابة - لغلبتها فيه بالنسبة إليهم، وقيل: لكونها غالبةٌ بالنسبة إلى سائر صفاته. * * * 4784 - وسُئِلت عائِشَةُ: مَن كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مُسْتَخْلِفًا لو استَخْلَفَ؟ قالت: أبو بَكرٍ، فقيل: ثُمَّ مَن بعدَ أبي بكرٍ؟ قالت: عُمَرُ، قيلَ: ثُمَّ مَن بَعْدَ عُمَر؟ قالت: أبو عُبَيْدَةَ بن الجرَّاحِ. "وسئلت عائشة - رضي الله عنها -: مَنْ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستخلفًا أو استخلفه؟ قالت: أبو بكر، فقيل: ثم مَنْ بعد أبي بكر؟ قالت: عمر، قيل: ثم مَنْ بعد عمر؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح". * * * 4785 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كانَ على حِرَاءَ هو وأبو بَكْرٍ وعُمَرُ وعثمانُ وعليٌّ وطَلْحَةُ والزُّبيرُ، فتحرَّكَتْ الصَّخْرَةُ، فقالَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - "اِهْدَأْ، فما عَلَيْكَ إلا نبِيٌّ أو صِدِّيق أو شَهيدٌ"، وزادَ بعضُهم: "وَسَعْدُ بن أبي

وقَّاصٍ"، ولم يَذْكُرْ عَلِيًّا. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - كان على حِراء هو وأبو بكر وعمر وعليٌّ وعثمان وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اهدأ"؛ أي: اسكن ولا تتحرك، "فما عليك إلا نبيٌّ أو صديق أو شهيد"، يريد به الجنس؛ لأن المذكور في الحديث بعد الصدِّيق كلهم شهداء. "وزاد بعضهم: وسعد بن أبي وقاص، ولم يذكر"؛ أي: ذلك البعضُ "عليًا" - رضي الله عنه -. * * * مِنَ الحِسَان: 4786 - عن عبدِ الرَّحْمَنِ بن عَوْفٍ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "أبو بَكْرٍ في الجَنَّةِ، وعُمَرُ في الجَنَّةِ، وعُثْمانُ في الجَنَّةِ، وعَلِيٌّ في الجَنَّةِ، وطَلْحَةُ في الجَنَّةِ، والزُّبَيْرُ في الجَنَّةِ، وعَبْدُ الرَّحْمنِ بن عَوْفٍ في الجَنَّةِ، وسَعْدُ بن أبي وَقَّاصٍ في الجَنَّةِ، وسَعيدُ بن زيدٍ في الجَنَّةِ، وأبو عُبَيدةَ بن الجَرَّاحِ في الجَنَّةِ". "من الحسان": " عن عبد الرحمن بن عوف - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أبو بكرٍ في الجنة، وعمرُ في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وطلحة في الجنة، والزبير في الجنة، وعبد الرحمن بن عوف في الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة". * * * 4787 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "أَرْحَمُ أُمَّتي بأُمَّتي أبو بَكْرٍ،

وأَشَدُّهم في أَمْرِ الله عُمَرُ، وأَصْدَقُهم حَياءً عُثْمانُ، وأَفْرَضُهم زَيْدُ بن ثابتٍ، وأَقْرَؤُهم أُبَيٌّ، وأَعْلَمُهم بالحَلالِ والحَرامِ مُعَاذُ بن جَبَلٍ، ولِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِيْنٌ، وأَمِيْنُ هذهِ الأُمَّةِ أبو عُبَيدَةَ بن الجرَّاحِ"، صح، ورواهُ بَعْضُهم عن قَتادةَ - رضي الله عنه - مُرْسَلًا وفيه: "وأَقْضاهُم عَلِيٌّ". "عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أرحم أمتي بأمتي أبو بكر، وأشدُّهم في أمر الله تعالى"؛ أي: في دين الله "عمر، وأصدقهم حياءً عثمان، وأفرضهم"؛ أي: أكثرهم علمًا بالفرائض "زيد بن ثابت، وأقرؤهم"؛ أي: أعلمهم بقراءة القرآن "أبي بن كعبٍ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمةٍ أمينٌ وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح"، "صحيحٌ". "ورواه بعضهم عن قتادة مرسلًا وفيه"؛ أي: في المروي عنه: "وأقضاهم"؛ أي: أعلمهم بأحكام الشرع "عليٌّ" - رضي الله عنه - * * * 4788 - عن الزُّبَيْرِ - رضي الله عنه - قال: كانَ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - يَوْمَ أُحُدٍ دِرْعانِ فنَهَضَ إلى الصَّخْرةِ، فلم يَسْتَطِعْ، فَقَعَدَ طَلْحَةُ تَحْتَه حتَّى استَوَى على الصَّخْرةِ، فَسَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "أَوْجَبَ طَلْحَةُ". "عن الزبير - صلى الله عليه وسلم - قال: كان على النبي - صلى الله عليه وسلم - يومَ أُحدٍ دِرعان، فنهض إلى الصخرة"؛ أي: قام منتهيًا إلى الصخرة؛ مستوٍ عليها وينظر إلى الكفار. "فلم يستطع"؛ لثقل درعيه، "فقعد طلحة تحته حتى استوى"؛ أي: قام عليه "على الصخرة فسمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: أوجب طلحة"؛ أي: لنفسه الجنة؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - رضي عنه بفعله هذا. قيل: وكان طلحة قد جعل نفسَه يومَ أحد وقايةً للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى جُرح في

جسده بضعًا وثمانين جراحة من بين طَعْنٍ ورمي وضربٍ، وكان يقول: عُقرت يومئذ في جسدي حتى في ذَكَري، وكانت الصحابة إذا ذكروا يوم أحد قالوا: ذلك يومٌ كان كلُّه لطلحة. * * * 4789 - وقالَ جابرٌ: نَظَرَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طَلْحَةَ بن عُبَيْدِ الله وقالَ: "مَن أَحَبَّ أنْ يَنْظُرَ إلى رَجُلٍ يَمْشي على وَجْهِ الأَرْضِ وقد قَضَى نَحْبَهُ فلْيَنظُرْ إلى هذا". وفي رِوايةٍ قال: "مَن سَرَّهُ أنْ يَنْطُرَ إلى شَهيدٍ يَمْشي على وَجْهِ الأَرْضِ فلْيَنظُرْ إلى طَلْحَةَ بن عُبَيدِ الله". "وقال جابر - رضي الله عنه -: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى طلحة بن عبيد الله وقال: مَنْ أحبَّ أن ينظر إلى رجلٍ يمشي على وجه الأرض وقد قضى نحبه"؛ أي: بذل جهده، ووفَى بنذره فيما عاهد الله عليه من الصدق في مواطن القتال والنصرة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، والنَّحْب: النذر، وكان طلحة ممن ذكر الله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} [الأحزاب: 23]. وقيل: النحب: الموت، فمعناه: ذاق الموت في سبيله وإن كان حيًا. "فلينظر إلى هذا"؛ يعني: طلحة. "وفي رواية قال: مَنْ سره أن ينظر إلى شهيدٍ يمشي على وجه الأرض فلينظر إلى طلحة بن عبيد الله. * * * 4790 - وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعَتْ أُذني مِن في رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ:

"طَلْحةُ والزُّبيرُ جارَايَ في الجَنَّةِ"، غريب. "وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: سمعت أذني من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: طلحة والزبير جاراي في الجنة". "غريب". * * * 4791 - عن سعدِ بن أبي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ يَوْمَئذٍ - يعني يومَ أحدٍ -: "اللهمَّ! سَدِّدْ رَمْيَتَهُ، وأَجِبْ دعوتَهُ". "عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه -: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يومئذ - يعني: يوم أحد - اللهم سدد رميته، وأَجِبْ دعوته". * * * 4792 - ورُوِي عن سَعْدٍ: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "اللهمَّ! استَجِبْ لسَعْدٍ إذا دَعَاكَ". "وروي عن سعد - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: اللهم استجب لسعدٍ إذا دعاك". * * * 4793 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: ما جَمَعَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَبَاهُ وأُمَّهُ إلا لسَعْدٍ، قالَ لهُ يومُ أُحُدٍ: "ارْمِ فِدَاكَ أبي وأمي"، وقالَ لهُ: "ارْمِ أيُّها الغُلامُ الحَزَوَّرُ! ". "عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: ما جَمَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباه وأمَّه إلا لسعدٍ، قال له يومَ أحدٍ: ارْمِ فِداك أبي وأمي، وقال له: ارم أيَّها الغلام الحَزَوَّر"، وهو بفتح الحاء المهملة والزاي المعجمة والواو المشددة والراء المهملة، وكذا بسكون

10 - باب مناقب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

الزاي والتخفيف: من قارب البلوغ. * * * 4794 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: أَقْبَلَ سَعْدٌ، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "هذا خالي، فليُرِني امرُؤ خالَه"، وكانَ سَعْدٌ مِن بني زُهْرَةَ، وكانت أمُّ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِن بني زُهْرَةَ. "عن جابر - رضي الله عنه - قال: أقبل سعدٌ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: هذا خالي فليكرمن امرؤٌ خاله، وكان سعد من بني زهرة" حي من قريش، "وكانت أم النبي - صلى الله عليه وسلم - من بني زهرة"، وزهرة اسم امرأة كلاب بن مرة بن كعب بن لؤيّ بن غالب بن فهر، نُسِب ولده إليها، وهم أخوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، كذا في "الصحاح". * * * 10 - باب مَنَاقِبِ أَهْلِ بَيْتِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - (باب مناقب أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4795 - عن سَعْدِ بن أبي وَقَّاصٍ - رضي الله عنه - قالَ: لمَّا نزَلَتْ هذه الآيةُ: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ} دَعَا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عَليًا وفاطِمَةَ وحَسَنًا وحُسَيْنًا فقالَ: "اللهمَّ! هؤلاءِ أهلُ بيتي". "من الصحاح": " عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: لمَّا نزلت هذه الآية: {نَدْعُ أَبْنَاءَنَا

وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ} [آل عمران: 61] ": خطابٌ إلى الكفار، سمى هذه الآية آية المباهلة. "دعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا وفاطمة وحسنًا وحسينًا فقال: اللهمَّ هؤلاء أهل بيتي". * * * 4796 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: خَرَجَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - غَداةً وعَليهِ مِرْطٌ مُرَحَّل مِن شَعْرٍ أسودَ، فجاءَ الحَسَنُ بن عليٍّ فأدخلَهُ، ثُمَّ جاءَ الحُسَينُ فدَخَلَ معَهَ، ثُمَّ جاءَتْ فاطِمَةُ فأَدْخَلَها، ثُمَّ جاءَ عليٌّ فأَدْخَلَهُ، ثُمَّ قالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} ". "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غداةً"؛ أي: وقت الغداة، "وعليه مِرطٌ مرحَّل من شعرٍ أسود"، تقدم ذكره وبيانه في باب اللباس. "فجاء الحسن بن عليٍّ - رضي الله تعالى عنهما - فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليٌّ فادخله، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ} "، وهو الإثم وكل ما يستقذر، " {أَهْلَ الْبَيْتِ} "؛ أي: يا أهل البيت، " {وَيُطَهِّرَكُمْ} ": من التلوث بالأرجاس، {تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33]. * * * 4797 - وقالَ البَرَاءُ: لمَّا تُوُفِّي إبراهيمُ قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ لهُ مُرْضعًا في الجَنَّةِ".

"وقال البراء - رضي الله عنه - لمَّا توفي إبراهيم، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنَّ له مرضعًا"، يروى بفتح الميم والضاد المعجمة؛ أي: رَضاعًا "في الجنة": والمراد من هذا: أن الله تعالى يقيم له من لذات الجنة وروحها ما يقع منه موقع الرضاع. ويروى بضم الميم وكسر الضاد؛ أي: من يتم رضاعه؛ لأنه توفي قبل الفِطام. قيل: إنه ابن ستة عشر شهرًا، وقيل: ثمانية عشر شهرًا، قيل: إنه يكون في النشأة البرزخية؛ لورود الأثر: أنَّ أهل الجنة تكون في عُمُر ثلاثين سنة. ويكون قوله: "في الجنة" باعتبار أن القبر متعلقٌ بها، فيجوز أن لا ينحل بدن إبراهيم ويصير له هيئة يقدر بها على الارتضاع في القبر؛ ليكمل جسمانيته. قال الإمام التُّورِبشتي: أصوب الروايتين الفتح؛ لأن العرب إذا أرادوا الفعل ألحقوا به هاء التأنيث نحو: أرضعت فهي مرضعة. * * * 4798 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: كُنَّا أَزْواجَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - عِنْدَهُ، فأَقْبَلتْ فاطِمَةُ، ما تَخْفَى مِشْيَتُها مِن مِشيَةِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فلمَّا رآهَا قال: "مرحبًا بابنتي"، ثُمَّ أَجْلَسَها، ثم سَارَّها، فبكَتْ بكاءً شديدًا، فلمَّا رأَى حُزْنَها سارَّها الثانية، فإذا هي تَضْحَكُ! فلمَّا قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَأَلتُها: عَمَّا سارَّكِ؟ قالَت: ما كُنْتُ لِأُفشيَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - سِرَّه، فلَمَّا تُوُفِّي قلتُ: عَزَمتُ عليكِ بما لي عليكِ مِن الحقِّ لمَّا أخبرتِني، قالت: أمَّا الآنَ فَنَعَمْ، أمَّا حينَ سارَّني في الأمرِ الأولِ فإنَّهُ أخبرَني: أنَّ جِبْريلَ كانَ يُعارِضُه بالقُرآنِ كلَّ سَنَةٍ مَرَّةً، وأنَّه: "عارضَني بهِ العامَ مرَّتَينِ، ولا أُرَى الأَجَلَ إلا قد اقتَرَبَ، فاتَّقي الله واصبري، فإنِّي نِعمَ السَّلفُ أنا لكِ"، فبَكَيْتُ، فلمَّا رَأَى جَزَعي سارَّني الثانيةَ قال: "يا فاطِمَةُ! ألا تَرْضَيْنَ أنْ تكوني سَيدَةَ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ - أو: نِساءِ المُؤْمنين - ".

وفي روايةٍ: سارَّني فأَخْبَرني أنه يُقْبَضُ في وَجَعِه، فبكَيْتُ، ثُمَّ سارَّني فأَخْبَرَني أنِّي أَوَّلُ أَهْلِ بيتِهِ أَتْبَعُه، فَضَحِكْتُ. "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: كنَّا أزواجَ النبي - صلى الله عليه وسلم - " - نصب على المدح - "عنده"؛ أي: رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، "فأقبلت فاطمة - رضي الله عنها - ما تخفَى مشيتها عن مشية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: تشبه مشيتُها مشيةَ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، الجملة حالٌ عن فاطمة. "فلما رآها قال: مرحبًا بابنتي، ثم أجلسها، ثم سارَّها"؛ أي: يكلِّمها بالسر، "فبكت بكاءً شديدًا، فلما رأى حزنها سارَّها الثانية، فإذا هي تضحك، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سألتُها عما سارَّك، قالت: ما كلنت لأفشي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سِرَّه، فلما توفي قلت: عزمتُ عليك"؛ أي: أقسمت عليك "بما لي عليك من الحق لما أخبرتني" من مسارة النبي - صلى الله عليه وسلم - معك. "قالت: أمَّا الآن فنعم، أمَّا حين سارني في الأمر الأول، فإنه أخبرني أن جبريل - صلى الله عليه وسلم - كان يعارضني بالقرآن"؛ أي: يدارسني جميع القرآن "كل سنةٍ مرة" من المعارضة؛ أي: المقابلة، وسبب المقابلة هو أنه قد ينسخ بعض الأحكام ويثبت بعضها. "فإنه عارضني به العامَ مرتين، ولا أرى الأجل إلا قد اقترب، فاتقي الله واصبري فإني نعم السَّلَف أنا لك، فبكيتُ، فلما رأى جَزَعي سارَّني الثانية قال: يا فاطمة! ألا ترضينَ" - بتخفيف النون وسكون الياء - "أن تكوني سيدة نساء أهل الجنة، أو نساء المؤمنين"، فيه دليل على أن فاطمة خير نساء المؤمنين، وأفضل في الدنيا والآخرة. "وفي رواية: سارني فأخبرني أنه يُقبض في وجعه، فبكيت، ثم سارني فأخبرنى أني أول أهل بيته أتبعه"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -، "فضحكت"، روي: أنها

عاشت بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - شهرين وعشرين يومًا، وفيه معجزةٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أخبر في حياته عن اتباع ابنته، فصار كما قال. * * * 4799 - عن المِسْوَرِ بن مَخْرَمَةَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "فاطمةُ بَضْعَةٌ منِّي، فمَنْ أَغْضَبَها أَغْضَبني". وفي روايةٍ: "يُريبني ما أَرَابَها، ويُؤذيني ما آذَاهَا". "عن المِسْور بن مخرمة - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: فاطمة بَضعةٌ مني": والبضعة - بفتح الباء - قطعةٌ من اللحم، وقد تكسر الباء؛ أي: إنها جزءٌ مني. "فمن أغضبها أغضبني، وفي رواية: يَريبني ما أرابها"؛ أي: يسوؤني ما يسوؤها، "ويؤذيني ما آذاها". روي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال وهو على المنبر: "إن بني هاشم بن المغيرة استأذنوني في أن يُنْكِحوا علي بن أبي طالب ولا آذن، ثم لا آذن، ثم لا آذن، إلا أن يريد علي بن أبي طالب أن يطلق ابنتي وينكح ابنتهم، فإنما هي بضعةٌ مني يريبني ما أرابها"؛ أي: يؤذيني ما آذاها. وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "لما مات ولدي من خديجة أوحى الله تعالى ألا تقربها، وكنت بها محبًا، فسألت الله تعالى أن يجمع بيني وبينها، فأتاني جبريل - عليه السلام - ليلة الجمعة لأربعٍ خَلَون من شهر رمضان بطبقٍ من رُطَب الجنة، فقال لي: يا محمد! كل هذا وواقِعْ خديجةَ الليلة، ففعلتُ، فحملت بفاطمة، فما لَثَمت (¬1) فاطمة إلا وجدت ريح ذلك الرطب منها". ¬

_ (¬1) في هامش "غ": "اللثم: القبلة".

قيل: إنما سميت فاطمة؛ لأن الله تعالى فَطَم مَنْ أحبَّها من النار. * * * 4800 - عن زيدِ بن أَرْقَمَ - رضي الله عنه - قال: قامَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خَطيبًا بماءٍ يُدعَى خُمًّا، بينَ مكَّةَ والمدينةِ، فحَمِدَ الله وأثنَى عليهِ، ووَعظَ وذَكَّرَ ثم قالَ: "أمَّا بَعْدُ, أيُّها النَّاسُ! إنَّما أنا بَشَرٌ يُوشِكُ أنْ يأتيَني رسولُ ربي فأُجيبَ، وأنا تارِكٌ فيكم الثَّقَلَيْنِ، أولهُما: كتابُ الله، فيهِ الهدى والنورُ، فخُذوا بكتابِ الله واستَمْسِكوا بهِ، وأَهْلُ بيتي، أُذَكِّرُكم الله في أَهْلِ بيتي، أُذَكَرُكم الله في أهلِ بيتي، أُذكرُكم الله في أهلِ بيتي". وفي روايةٍ: "كتابُ الله، هوَ حبلُ الله، مَن اتَّبَعَهُ كانَ على الهدَى، ومَن تَرَكَهُ كانَ على الضَّلالةِ". "عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا بماءٍ"؛ أي: عند ماءٍ "يدعى"؛ أي: يسمى ذلك الماء "خُمًا" - بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم - هو موضع بذي الحُلَيفة. "بين مكة والمدينة، فحمِدَ الله تعالى، وأثنى عليه، ووعظ، وذكَّر، ثم قال: أما بعد أيها الناس! إنما أنا بشرٌ يوشك أن يأتيني رسولُ ربي": أراد بالرسول: مَلَك الموت يأتيه لقبض روحه - صلى الله عليه وسلم -، "فأجيب، وأنا تاركٌ فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله تعالى واستمسكوا به وأهل بيتي": سمَّاهما ثقلين؛ لأن الأخذ والعمل بهما ثقيلٌ، وقيل في تفسير قوله تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)} [المزمل: 5]: أي: أوامر الله تعالى وفرائضه ونواهيه؛ لأنه لا تُؤدَّى إلا بتكلف ما يثقل. وقيل: {قَوْلًا ثَقِيلًا}؛ أيْ له وزنٌ وقدرٌ، وسمي الإنس والجن ثقلين؛

لأنهما فُضلا بالتمييز على سائر الحيوانات، وكل شيءٍ له وزنٌ وقدرٌ يُتنافس فيه فهو ثقيلٌ. "أذكركم الله في أهل بيتي"؛ أي: بالمودة والمحافظة بهم واحترامهم. "أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي" "وفي روايةٍ: كتاب الله هو حبل الله"؛ أي: دين الله، وعهد الله "مَن اتبعه كان على الهدى، ومَنْ تركه كان على الضلالة". * * * 4801 - عن البَرَاءِ قال: قالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: "أنتَ مِنِّي وأنا مِنْكَ"، وقال لجَعْفَرٍ: "أَشْبَهْتَ خَلْقِي وخُلُقي"، وقالَ لزَيدٍ: "أنت أَخُونا ومَوْلانا". "عن البراء - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعليٍّ: أنت مني وأنا منك، وقال لجعفرٍ: أشبهت خَلْقى وخُلُقي" - بضم الخاء واللام - بمعنى الطبيعة؛ يعني: أشبهتني خِلقةً وسَجِيةً. "وقال لزيد بن الحارث: اْنت أخونا"؛ أي: في الدين "ومولانا"؛ أي: عَتيقنا؛ لأن الله تعالى أنزل في حق زيد بن الحارث: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، وكان زيد عتيقَ النبيِّ - عليه الصلاة والسلام -، إنما قال لهم هذه الكلمات تطييبًا لقلوبهم. * * * 4802 - وكانَ ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - إذا سلَّمَ على ابن جَعْفَرٍ قالَ: السَّلامُ عليكَ يا ابن ذي الجناحَيْنِ! "وكان ابن عمر - رضي الله عنهما - إذا سَلَّم على ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي

الجناحين"، وإنما سمي جعفر ذا الجناحين؛ لما روي: أنه كان أميرًا بيده راية الإسلام، فقاتل في سبيل الله بأرض الشام حتى قُطعت يداه ورجلاه، فأصيب بها، فكُشف للنبي - صلى الله عليه وسلم - حتى رآه في الجنة أنَّ له جناحين ملطوخين بالدم يطير بهما مع الملائكة حيث يشاء. * * * 4803 - وعن البَرَاءِ قال: رأيتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - والحَسَنُ بن عليٍّ على عاتِقِه يقولُ: "اللهمَّ! إنِّي أُحِبُّه، فأَحِبَّهُ". "وعن البراء - رضي الله عنه - قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - والحسن بن عليٍّ على عاتقه يقول: اللهمَّ إني أحبه فأحبه". * * * 4804 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: خَرَجْتُ معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - في طائِفَةٍ مِن النَّهارِ حتى أَتَى خباءَ فاطِمَةَ فقالَ: "أَثَمَّ لُكَعُ؟ أَثَمَّ لُكَعُ؟ "، يعني حَسَنًا، فلم يَلْبَثْ أنْ جاءَ يَسْعَى، حتَّى اعتَنَقَ كلُّ واحِدٍ منهما صاحبَهُ، فقالَ: رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ! إني أُحِبُّه، فأَحِبَّهُ وأَحِبَّ مَن يُحبُّه". "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في طائفةٍ من النهار"؛ أي: في قطعةٍ منه، "حتى أتى خِباءَ فاطمة": أراد به حُجرتها، وقيل: حول دارها. "فقال: أثمَّ لكع، أثم لكع؛ يعني: حسنًا": سماه لُكعًا لصباه وصغره، واللكع: الصبي الصغير الذي لا عَقل له. "فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كلُّ واحدٍ منهما صاحبه، فقال

النبي - صلى الله عليه وسلم -: اللهم إنِّي أحبه فأحبَّه وأحِبَّ مَنْ يحبه". * * * 4805 - وعن أبي بَكْرةَ - رضي الله عنه - قال: رأَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على المِنْبرِ، والحَسَنُ بن عليٍّ إلى جَنْبهِ، وهوَ يُقْبلُ على النَّاسِ مَرَّةً وعلَيْهِ أُخْرى ويقولُ: "إنَّ ابني هذا سَيدٌ، ولعَلَّ الله أنْ يُصْلِحَ بهِ بينَ فئتينِ عظيمتينِ مِن المُسْلِمين". "وعن أبي بكرة - رضي الله عنه - قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر، والحسن بن عليٍّ إلى جنبه وهو"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "يُقبل على الناس"؛ أي: يتوجه إليهم بوجهه "مرةً، وعليه أخرى"؛ أي: يقبل على الحسن مرةً أخرى. "ويقول: إن ابني هذا سيدٌ"، وهو من لا يَغْلبه غضبه، وقيل: هو الحكيم، وقيل: الذي يفوق قومَه في الخير، والأول أليق. "ولعل الله أن يصلح به"؛ أي: بالحسن "بين فئتين عظيمتين من المسلمين": قيل: قد خرج مصداق هذا القول في الحسن بن علي - رضي الله عنه - بتركه الأمر حين صارت الخلافة إليه، خوفًا من الفتنة، وكراهة لإراقة دماء المسلمين (¬1)، فأصلح الله بين أهل الشام وهي الفئة التي كانت مع معاوية، وأهل العراق وهي فئة الحسن - رضي الله عنه -، دعاه ورعُه وشفقته على أمةِ جَدِّه - صلى الله عليه وسلم - إلى ترك الملك والدنيا رغبةً فيما عند الله تعالى، ولم يكن ذلك لقلة ولا ذِلة، وقد بايعه على الموت أربعون ألفًا تركًا للدنيا، ورغبةً فيما عند الله تعالى. وفي الحديث دليلٌ على أن واحدًا من الفئتين لم يخرج عن ملة الإسلام؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - جعلَهم مسلمِين مع كون إحداهما مخطئة. وفيه دليلٌ أيضًا على أنه لو وَقَفَ شيئًا على أولاده يدخل فيه ولدُ الولد؛ ¬

_ (¬1) في "غ": "أهل الإسلام".

لأنه - صلى الله عليه وسلم - سمَّى ولد بنته (¬1) ولدًا. * * * 4806 - وعن ابن عُمَرَ في الحَسَنِ والحُسَينِ - رضي الله عنهم - قالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "هُما رَيْحَانِي مِن الدُّنيا". "وعن ابن عمر في الحسن والحسين - رضي الله عنهم - قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: هما ريحانيَّ" - بالتشديد والتخفيف -، والريحان هنا مفسَّرٌ بالرزق؛ أي: هما من رزق الله الذي رزقَنيه، "من الدنيا"، ويجوز أن يراد به الريحان المشموم؛ لأن الأولاد قد يُشمون ويُقبَّلون، وكأنهم من الرياحين التي أنبتها الله تعالى. * * * 4807 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لم يكنْ أَحَدٌ أَشْبَهَ بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الحَسَنِ بن عليٍّ. "وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: لم يكن أحدٌ أشبه بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من الحسن بن عليٍّ". * * * 4808 - وقال في الحُسَيْنِ أيضًا: كانَ أَشْبَهَهُمْ برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. "وقال في الحسين بن عليٍّ أيضًا: كان أشبههم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ". * * * 4809 - عن ابن عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قالَ: ضَمَّني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إلي صَدْرِه وقال: ¬

_ (¬1) في "غ": "ابن ابنته".

"اللهمَّ! عَلِّمْهُ الحِكْمَةَ". وفي روايةٍ: "عَلِّمْه الكِتابَ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: ضمني النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - إلى صدره وقال: اللهمَّ علِّمه الحكمة"، قيل: هي الفقه، وقيل: هي الإصابة في الأقوال؛ إنْ نَطَق نطق بالله، وإن سكت سكت مع الله. "وفي روايةٍ: علَّمه الكتاب". * * * 4810 - وعنه قال: إنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ الخَلاءَ فَوَضَعْتُ له وَضُوءًا قال: "مَن وَضَعَ هذا؟ " فأُخْبرَ فقالَ: "اللهمَّ! فَقِّههُ في الدِّين". "وعنه قال: إن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - دخل الخَلاء فوضعت له وضوءًا" - بالفتح -؛ أي: ماءً للوضوء، "قال: مَنْ وضع هذا؟ "، (من) هذه استفهامية. "فأُخبر": على صيغة المجهول، "فقال: اللهم فقِّهه في الدين". * * * 4811 - عن أُسامَةَ بن زيدٍ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كانَ يَأْخُذُه والحَسَنَ فيقولُ: "اللهمَّ! أَحِبَّهما، فإنِّي أُحِبُّهما". "وعن أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - كان يأخذه والحسنَ فيقول: اللهمَّ أحبَّهما فإنِّي أحبُّهما". * * * 4812 - عن أُسامَةَ بن زَيْدٍ - رضي الله عنه - قالَ: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَأْخُذُني فيُقعِدُني على فَخِذِه، ويُقعِدُ الحَسَنَ بن عليٍّ على فَخِذِه الأُخْرى، ثُمَّ يَضُمُّهما، ثم

يقولُ: "اللهمَّ! ارحَمْهُما، فإنِّي أَرْحَمُهما". "وعن أسامة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأخذنى ويُقعدني على فخذه، ويُقعد الحسن بن عليٍّ على فخذه الأخرى، ثم يضمُّهما، ثم يقول: اللهمَّ ارحمهما فإني أرحمهما". * * * 4813 - وعن عبدِ الله بن عُمَرَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بَعَثَ بَعْثًا وأمَّرَ عَلَيهم أُسامَةَ بن زيدٍ فَطَعَنَ النَّاسُ في إِمارتِه، فقامَ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنْ تَطْعَنُوا في إِمارتِه فقد كنتُم تَطْعَنونَ في إِمارةِ أبيهِ مِن قَبْلُ، وايمُ الله إنْ كانَ لَخَليقًا للإمارةِ، وإنْ كانَ لمِن أَحَبِّ النَّاسِ إليَّ، وإنَّ هذا لمِنْ أَحَبَ النَّاسِ إليَّ بَعْدَه". وفي روايةٍ: "وأُوصيكُم بهِ، فإنَّه مِن صَالحِيكم". "وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث بعثًا وأمَّر" - بتشديد الميم - "عليهم أسامة بن زيد"؛ أي: جعله أميرًا عليهم، وكان صغيرًا، وفي الجيش كبار من الصحابة، "فطعن الناسُ في إمارته، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنْ تطعنوا في إمارته فقد كنتم (¬1) تطعَنون في إمارة أبيه من قبل": وإنما طُعِنا؛ لأنهما من الموالي، وقد كانت العرب تَستنكف من اتباع الموالي، وأشار - صلى الله عليه وسلم - إلى ترك عادات الجاهلية فقال: "وايم الله": هذا قسم أصله: وأيمن، "إن كان": (إن) هذه مخففة، اسمها ضمير الشأن محذوف، وكذا (إن) بعدها، وضمير (كان) عائد إلى (أبيه)، "لخليقًا"؛ أي: جديرًا "للإمارة": فإن ارتفاع قدر الناس بالعلم والهجرة والتُّقى. ¬

_ (¬1) في "غ " زيادة: "أي فسبب للإخبار بقد كنتم".

"وإنْ كان لمن أحب الناس إلي، وإن هذا"؛ أي: أسامة "لمن أحب الناس إليَّ بعده"؛ أي: بعد أبيه، أراد به بيان حبه لا تفضيله في الحب على غيره. "وفي روايةٍ: أوصيكم به، فإنه من صالحيكم". * * * 4814 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنه - قال: إنَّ زيدَ بن حارِثَةَ مولَى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ما كُنَّا نَدْعُوهُ إلا زيدَ بن مُحَمَّدٍ حتى نزَلَ القُرآنُ: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ}. "عن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال؛ إن زيد بن حارثة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: عتيقه، وكان - صلى الله عليه وسلم - يتبناه، "ما كنا ندعوه إلا زبد بن محمد، حتى نزل القرآن: {ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5] ". * * * مِنَ الحِسَان: 4815 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: رأَيْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّتِهِ يومَ عَرَفةَ، وهو على ناقتِهِ القَصْواءِ يَخْطُبُ، فَسَمِعْتُهُ يقولُ: "يا أيُّها النَّاسُ! إنِّي قد تَرَكتُ فيكم ما إنْ أخذْتُم بهِ لن تَضلُّوا، كتابَ الله وعِتْرَتي أهلَ بَيْتي". "من الحسان": " عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - في حَجَّته يومَ عرفة وهو على ناقته القَصواء": والقصواء لقب لها، لا أنها مجدوعة الأذن. "يخطب فسمعته يقول: يا أيها الناس! إني تركت فيكم ما إن أخذتم به": (ما) هذه موصولة، والجملة الشرطية صلتها وجواب الشرط: "لن تضلوا أبدًا: كتاب الله": بيان لـ (ما) الموصول، أو بدل منه.

"وعترتي أهل بيتي": بدل من (عترتي)، أو عطف بيان له. * * * 4816 - عن زَيْدِ بن أَرْقَمَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي تَاِركٌ فيكم ما إن تَمَسَّكْتُم بهِ لن تَضلُّوا بَعْدي، أَحَدُهما أَعْظَمُ مِن الآخرِ: كتابُ الله حبلٌ، مَمْدودٌ مِن السَّماءَ إلى الأَرْضِ، وعِتْرَتي أهلُ بيتي، ولن يَتَفرَّقا حتى يَرِدَا عليٍّ الحَوْضَ، فانظُروا كيفَ تَخْلُفوننَي فيهما". "عن زيد بن أرقم - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبلٌ ممدود من السماء إلى الأرض": معنى التمسك به: العمل بما فيه، وهو الائتمار بأوامره والانتهاء بنواهيه. "وعترتي أهل بيتي": معنى التمسك بالعتِرة: محبتهم، والاهتداء بهداهُم وسيرتهم. "ولن يتفرقا"؛ أي: لا يفارقان في مواطن القيامة ومشاهدها، "حتى يَرِدَا عليٍّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما"؛ أي: تأملوا واستعملوا الروَيَّة في اسخلافي إياكم، هل تكونون خَلَفَ صدقٍ أو خَلَفَ سوء؟! * * * 4817 - وعن زيدِ بن أَرْقَمَ - رضي الله عنه -: أنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ لعليٍّ وفاطِمَةَ والحَسَنِ والحُسَينِ: "أنا حَرْبٌ لِمَن حاربَهم، وَسِلْمٌ لِمَن سَالمَهم". "وعن زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين - رضي الله عنهم -: أنا حربٌ"؛ أي: محارب "لمن حاربهم، وسِلْم"؛ أي: مسالم

ومصالح "لمن سالمهم"؛ يعني: مَنْ أحبهم أحبني، ومَنْ أبغضهم أبغضني. * * * 4818 - ويُروى عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أنَّها سُئِلَتْ: أَيُّ النَّاسِ كانَ أَحَبَّ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: فَاطِمَةُ، فقيلَ: مِن الرِّجالِ؟ قالت: زوجُها. "وروي عن عائشة - رضي الله عنها -: أنها سُئلت: أيُّ الناس كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قالت: فاطمة، فقيل: مِنَ الرجال؟ قالت: زوجها". * * * 4819 - وعن عبد المُطَّلِب بن ربيعةَ - رضي الله عنه -: أنَّ العَبَّاسَ - رضي الله عنه - دَخَلَ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مُغْضَبًا وأنا عِنْدَه فقالَ: "ما أغضبَكَ؛ " قال: يا رسولَ الله! ما لَنا ولقُرَيشٍ؟ إذا تَلاقَوْا بينَهم تَلاقَوْا بوُجوهٍ مُسْتَبْشِرَةٍ، وإذا لقُونا لقُونا بغيرِ ذلكَ، فغَضبَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتَّى احمَرَّ وَجْهُهُ، ثُمَّ قال: "والذي نَفْسي بيدِه، لا يَدْخُلُ قَلْبَ رجلٍ الإيمانُ حتى يُحِبَّكم للهِ ولرسولِهِ"، ثُمَّ قال؟ "أيُّها النَّاسُ! مَن آذَى عَمِّي فقد آذَاني، فإنَّما عَمُّ الرَّجُلِ صِنْوُ أبيهِ". "عن عبد المطلب بن ربيعة: أن العباس دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مُغْضَبًا" على صيغة المجهول، "وأنا عنده، فقال - صلى الله عليه وسلم -: ما أغضبك": (ما) للاستفهام؛ أي: أيَّ شيء أغضبك؟ "قال: يا رسول الله! ما لنا ولقريش إذا تلاقوا بينهم تلاقَوا بوجوه مستبشرة" ويروى: مبشرة - بالضم ثم السكون ثم الفتح -، والمعنى فيهما واحدٌ؛ أي: بوجوهٍ عليها البشر والنَّضَارة. "وإذا لقونا لقونا بغير ذلك"، بل رأونا كارهين، "فغضب رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حتّى احمرَّ وجهه، ثم قال: والذي نفسي بيده! لا يدخل قلبَ رجل الإيمانُ

حتّى يحبَّكم لله تعالى ولرسوله، ثم قال: يا أيّها النّاس! مَنْ آذى عَمِّي فقد آذاني، فإنّما عَمُّ الرجلِ صِنْوُ أبيه"؛ أي: مثله، يعني: ما كان عم الرجل وأبوه إلا صِنْوين، وهما من أصلٍ واحد. * * * 4820 - وروي عن عليٍّ - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ لعُمَرَ في العَبَّاسِ: "إنَّ عَمَّ الرَّجُلِ صِنْوُ أبيهِ". "وروي عن عليّ - رضي الله عنه -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال لعمَر في العباس: إن عمَّ الرجل صِنْو أبيه". * * * 4821 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "العَبَّاسُ مِنِّي وأنا مِنهُ". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: العبّاسُ منّي وأنا منه". * * * 4822 - وعنه قال: قالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - للعَبَّاسِ: "إذا كانَ غَداةَ الإثنينِ فأْتِني أنتَ وولدُك حتى أَدْعُوَ لهمْ بدَعْوَةٍ ينفَعُكَ الله بها وَوَلَدَكَ"، فغدَا وغَدَوْنا معَه وألبَسَنا كِسَاءَهُ ثُمَّ قال: "اللهمَّ! اغفِرْ للعَبَّاسِ وولدِهِ مَغْفِرةً ظاهِرَةً وباطِنَهً لا تُغادِرُ ذنبًا، "اللهمَّ! احفَظْهُ في وَلَدِه"، غريب. "وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إذا كان غداة الاثنين فأتني أنت وولدُك حتى أدعَو لكم بدعوةٍ ينفعك الله بها وولدَكِ، فغدا"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -، "وغدونا معه، وألبسنا كسِاءه": إلباسُه - صلى الله عليه وسلم - كساءه إيَّاهم إشارة إلى أنهم خاصته، وأنهم بمثابة النفس الواحدة التي يشمَلُها كساءٌ واحدٌ.

"ثم قال: اللهم اغفر للعباس وولدِه مغفرةً ظاهرةً وباطنة"؛ أي: ما ظهر من الذنوب وما بطن، "لا تغادر"؛ أي: لا تترك "ذنبًا، اللهم احفظه في ولده"؛ أي: مع ولده. "غريب". * * * 4823 - عن ابن عبَّاسٍ: أنه رأَى جِبْريلَ مَرَّتينِ، ودَعَا لهُ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مَرَّتينِ. "عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما -: أنه رأى جبرائيل - عليه الصلاة والسلام - مرتين، ودعا له"؛ أي: للعباس. * * * 4824 - وعنه: أَنَّه قال: دَعَا لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُؤْتيَني الحِكْمَةَ مرَّتينِ. "وعنه: أنه قال: دعا لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يؤتينَي الحكمة"؛ أي: يعطيني الله تعالى العلمَ والفهم "مرتين". * * * 4825 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رَأَيتُ جَعْفَرًا يطيرُ في الجَنَّةِ معَ المَلائكةِ"، غريب. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأيتُ جعفرًا يطيُر في الجنة مع الملائكة". "غريب". * * *

4826 - عن أبي هُريرةَ - رضي الله عنه - قال: كانَ جَعْفَرٌ يُحِبُّ المَساكينَ، ويَجْلِسُ إليهم، ويُحَدِّثُهم ويُحَدِّثونَهُ، فكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَكْنيهِ بأبي المساكينِ. "وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كان جعفرٌ يحبُّ المساكين، ويجَلس إليهم، ويحدِّثهم ويحدثونه، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يَكْنيه بأبي المساكين". * * * 4827 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحَسَنُ والحُسَيْنُ سَيدا شَبابِ أَهْلِ الجَنَّةِ". "عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الحسن والحسين سيدا شبابِ أهل الجنة": جمع شاب، يعني: هما أفضل مَنْ مات شابًا في سبيل الله من أصحاب الجنة، ولم يُرِدْ سِنَّ الشاب لموتهما، وقد اكتهلا، بل ما يفعله الشباب من المروءة كما يقال: فلان فتي وإن كان شيخًا، إشارة إلى مروءته. * * * 4828 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "إنَّ الحَسَنَ والحُسَيْنَ هُما رَيْحانِي مِن الدُّنيا". "عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: الحسن والحسين هما رحماني من الدنيا"، تقدم بيانه. 4829 - عن أُسامَةَ بن زيدٍ - رضي الله عنه - قالَ: طَرَقتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلة في بَعْضِ الحاجَةِ، فخَرَجَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - وهو مُشْتَمِلٌ على شَيْءٍ لا أدري ما هو، فلَمَّا فَرَغْتُ مِن حاجَتي قُلتُ: ما هذا الذي أَنتَ مُشْتَمِلٌ عليه؛ فكشَفَهُ فإذا الحَسَنُ والحُسَينُ على وَرِكيْهِ فقالَ: "هذانِ ابنايَ وابنا ابنتي، اللهمَّ! إِنِّي أُحِبُّهما، فأَحِبَّهما وأَحِبَّ مَن يُحِبُّهما".

"عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: طرقْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - ذاتَ ليلة"؛ أي: أتيته ليلًا "في بعض الحاجة، فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو مشتملٌ على شيءٍ لا أدري ما هو، فلما فَرَغْتُ من حاجتي قلت: ما هذا الذي أنت مشتملٌ عليه؛ فكشفه فإذا الحسنُ والحسين على وَركيه، فقال: هذان ابناي وابنا ابنتي، اللهمَّ إني أحبهما فاحبَّهما، وأحِبَّ مَنْ يحبهما". * * * 4830 - عن سَلْمى قالت: دخلتُ على أُمِّ سَلَمَةَ وهي تبكي، فقلتُ: ما يُبكيكِ؟ قالت: رأيتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، تعني في المنامِ، وعلى رَأْسِه ولحيتِهِ التُّرابُ، فقلتُ: ما لكَ يا رسولَ الله؟ قال: "شَهِدْتُ قتلَ الحُسَينِ آنِفًا"، غريب. "عن سَلْمى - رضي الله عنها - قالت: دخلتُ على أم سلمة - رضي الله عنها - وهي تبكي، فقلت: ما يبُكيكِ؟ قالت: رأيت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -؟ تعني"؛ أي: تريد أم سلمة بالرؤية (¬1) "في المنام، وعلى رأسه ولحيته الترابُ، فقلت: ما لكَ يا رسول الله؟ قال: شهدت"؛ أي: حضرتُ "قتلَ الحسينِ آنفًا"؛ أي: في الحال. "غريب". * * * 4831 - وعن أنسٍ - صلى الله عليه وسلم - قال: سُئِلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ أَحَبُّ إليكَ؟ قال: "الحَسَنُ والحُسَيْنُ"، وكانَ يقولُ لفاطمةَ: "ادعي لي ابنيَّ"، فيَشمُّهما ويَضمُّهما إليهِ. غريب. ¬

_ (¬1) في هامش "غ": "في نسخة: في الرؤية".

"عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أيُّ أهل بيتك أحبُّ إليك؟ قال: الحسن والحسين، وكان يقول لفاطمة: ادعي لي ابنيَّ فيشمُّهما"؛ يعني الحسن والحسين، "ويضمُّهما إليه". "غريب". * * * 4832 - عن بُرَيْدَةَ - رضي الله عنه - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَخْطُبنا، إذ جاءَ الحَسَنُ والحُسَيْنُ وعليهما قميصانِ أَحْمَرانِ يمشيانِ ويعثُرانِ، فنزلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن المِنْبَرِ، فَحَمَلَهما فَوَضعَهما بينَ يديهِ ثم قال: "صَدَق الله {إَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}، نظرْتُ إلى هذيْنِ الصبيَّيْنِ يمشيانِ ويعثُرانِ فلَمْ أَصْبرْ حتى قَطَعْتُ حديثي ورَفَعْتُهما". "عن بريدة - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطُبنا، إذ جاء الحسن والحسين عليهما قميصانِ أحمرانِ يمشيان ويَعْثُران"؛ أي: يسقطان على الأرض لصغر سنِّهما. "فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر، فحملهما ووضعهما بين يديه، ثم قال: صَدَق الله: {إَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبر (¬1) "، لتأثير الرقة والرحمة في قلبي "حتى قطعت حديثي ورفعتهما". * * * 4833 - عن يَعْلى بن مُرَّةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "حُسَيْنٌ منِّي وأنا مِن حُسَيْنٍ، أَحَبَّ الله مَن أَحَبَّ حُسَيْنًا، حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِن الأَسْباطِ". ¬

_ (¬1) في "غ": "أصطبر"، وجاء على هامشها: "في نسخة: أصبر".

"عن يعلى بن مُرَّة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حسينٌ مني وأنا من حسين، أحبَّ الله مَنْ أحب حسينًا، حسينٌ سبطٌ من الأسباط": السبط - بكسر السين - ولد الولد مأخوذ من السَّبَط - بالفتح -، وهي شجرةٌ لها أغصانٌ كثيرة وأصلها واحد، وقيل: معناه: إنه أمةٌ من الأمم في الخير، ويحتمل أنه أراد بالسبط القبيلة؛ أي: يتشعب منه فروع كثيرة كأسباط يعقوب. * * * 4834 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: الحَسَنُ أَشْبَهَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما بينَ الصَّدْرِ إلى الرَّأْسِ، والحُسَيْنُ أَشْبهَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - ما كانَ أَسْفَلَ مِن ذلك. غريب. "عن عليٍّ - رضي الله تعالى عنه - قال: الحسن أشبهُ الناسِ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما بين الصدر إلى الرأس، والحسين أشبه الناس بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ما كان أسفلَ من ذلك". * * * 4835 - عن حُذَيْفة - رضي الله عنه -: قلتُ لأُمِّي: دعيني آتي النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأُصَلِّيَ معَهُ المَغْرِبَ وأَسألُه أنْ يستغفرَ لي ولكِ، فأَتَيْتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فصَلَّيتُ معَهُ المَغْرِبَ، فَصَلَّى حتى صلَّى العِشاءَ، ثُمَّ انفتلَ فتَبعْتُه، فسمعَ صَوْتي فقال: "مَن هذا، حذيفةُ؟ " قلتُ: نعم، قالَ: "ما حاجَتُكَ؟ غفرَ الله لكَ ولأُمِّكَ، إنَّ هذا مَلَكٌ لم يَنْزِلْ إلى الأَرْضِ قَطُّ قبلَ هذه اللَّيلةِ، استَأْذَنَ ربَّهُ أنْ يُسلِّمَ عليَّ ويُبشِّرَني بأنَّ فاطِمَةَ سَيدةُ نساءِ أَهْلِ الجَنَّةِ، وأنَّ الحَسَنَ والحُسَينَ سيدا شبابِ أَهْلِ الجَنَّةِ"، غريب. "عن حذيفَة - رضي الله عنه - قال: قلت لأمي: دعيني آتي النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأصلي معه المغرب وأسأله أن يستغفرَ لي ولك، فأتيتُ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فصليت معه المغرب

فصلى"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - النافلة، "حتى صلى العشاء، ثم انفتل"؛ أي: رجع، "فتبعته فسمع صوتى فقال: مَنْ هذا حذيفة؟ ": بحذف حرف الاستفهام، "قلت: نعم، قال - صلى الله عليه وسلم -: ما حاجتك غفر الله لك ولأمك، إن هذا مَلَك لم ينزل الأرض قط قبل هذه الليلة، استأذن ربَّه أن يسلم عليَّ، ويبشرني بأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة، وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة"، "غريب". * * * 4836 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: كانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - حامِلَ الحَسَنِ بن عليٍّ على عاتِقِه، فقالَ رجلٌ: نِعْمَ المَرْكِبُ رَكبتَ يا غُلامُ! فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "ونِعمَ الرَّاكِبُ هوَ". "عن ابن عباسٍ - رضي الله عنه - قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حاملَ الحسنِ بن عليٍّ - رضي الله عنهما - على عاتقه، فقال رجل: نِعْمُ المركبُ رَكِبْتُ يا غلام، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ونعم الراكب هو". * * * 4837 - عن عُمَرَ - رضي الله عنه -: أنه فَرَضَ لأُسامةَ في ثلاثةِ آلافٍ وخَمْسِ مئةٍ، وفرضَ لعبدِ الله بن عمرَ - رضي الله عنه - في ثلاثةِ آلاَفٍ، فقالَ عبدُ الله بن عمرَ - رضي الله عنه - لأَبيهِ: لِمَ فَضَّلْتَ أُسامَةَ عليَّ؟ فوالله ما سبَقَني إلى مَشْهَدٍ، قال: لأَنَّ زيدًا كانَ أَحَبَّ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - مِن أبيكَ، فكانَ أسامةُ أَحَبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مِنْكَ، فآَثَرْتُ حِبَّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - على حِبي. "عن عمر - رضي الله عنه - أنه فرض لأسامة"؛ أي: قدَّر عمر - رضي الله عنه - في إمارته من بيت المال رزقًا له.

"في ثلاثة آلافٍ وخمس مئة، وفَرَض لعبد الله بن عمر في ثلاثة آلافٍ، فقال عبد الله بن عمر لأبيه: لِمَ فضَّلت أسامة عليّ، فوالله ما سبقني إلى مشهدٍ": أراد بالمشهد: حضور القتال ومعركة الكفار، "قال: لأن زيدًا كان أحبَّ إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أبيك، وكان أسامة أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك فآثرت"؛ أي: اخترت "حبَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على حبي". * * * 4838 - عن جَبَلَةَ بن حَارِثَةَ - رضي الله عنه - قال: قَدِمْتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: يا رسولَ الله! ابعَثْ معي أَخي زيدًا، قال: "هو ذَا، فإنْ انطَلَق مَعَكَ لَمْ أَمْنَعْهُ"، قال زيدٌ: يا رسولَ الله! والله لا أَخْتارُ عليكَ أَحَدًا قال: فرأيتُ رأْيَ أخي أَفْضَلَ مِن رأيي. "عن جَبَلة" - بفتح الجيم والباء الموحدة - "بن حارثة قال: قدمتُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسولَ الله! ابعث معي أخي زيدًا، قال: هو ذا": (هو) عائد إلى (زيد)، و (ذا) إشار إليه، يعني: مطلوبك هذا. "فإن انطلقَ معك لم أمنعه، قال زيدٌ: يا رسول الله! والله لا أختار عليك أحدًا، قال"؛ أي: جَبَلة: "فرأيت رأي أخي" - يعني: زيدًا - "أفضل من رأيي". * * * 4839 - عن أُسامَةَ بن زيدٍ - رضي الله عنه - قال: لمَّا ثَقُلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - هَبَطْتُ وهَبَطَ النَّاسُ المَدينةَ، فدخَلْتُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أُصْمِتَ فلم يَتَكَلَّمْ، فجَعَلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - يَضَعُ يدَيْهِ عليَّ وَيَرْفَعُهما، فأَعْرِفُ أَنَّه يدعُو لي. غريب. "عن أسامة بن زيد - رضي الله عنه - قال: لما ثَقُل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " - أي: من المرض -

"هبطت"؛ أي: نزلت؛ لأنه كان ساكنًا في العوالي وهي قرى المدينة، "وهبط الناس المدينة": والمدينة من أي جهةٍ أَتَوها يكون فيها الهبوط؛ لأنها مُنخفضة. "فدخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أصمت"؛ أي: اعتُقل لسانه، "فلم يتكلم فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضع يديه عليَّ ويرفعهما فأعرف أنه يدعو لي". "غريب". * * * 4840 - عن عائِشَةَ - رضي الله عنه - قالت: لمَّا أرادَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أنْ يُنَحِّيَ مُخاطَ أُسامَةَ قالت عائِشَةُ رضي الله عنها: دَعْني حتَّى أَكُونَ أنا الذي أَفْعَلُ، قال: "يا عائشةُ! أحِبيهِ فإنِّي أَحِبُّه". "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: أراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُنَحِّي"؛ أي: يزيل "مُخاط أسامة": وهو ما يسيل من أنفه. "قالت عائشة - رضي الله عنها - دعني حتى أكون أنا الذي أفعل، قال: يا عائشة! أحبيه فإني أحبُّه". * * * 4841 - وعن أُسامَةَ قال: كنْتُ جَالِسًا إذ جاءَ عليٌّ والعَبَّاسُ يَستَأذنانِ، فقالا لأُسامَةَ: استأذنْ لنا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قُلْتُ: يا رسولَ الله! عليٌّ والعَبَّاسُ يَستَأْذِنانِ، فقالَ: "أَتَدْري ما جاءَ بهما؟ " قلتُ: لا، فقال: "لكنِّي أَدْري، ائذنْ لهما"، فدَخَلاَ فقالا: يا رسولَ الله! جِئناكَ نَسْألك: أيُّ أَهْلِكَ أَحَبُّ إليك؟ قال: "فاطِمَةُ بنتُ مُحَمَّدٍ"، قالا: ما جِئْناكَ نَسْأَلُكَ عن أهلِك، قال: "أَحَبُّ أَهْلي إليَّ مَن قد أَنْعَمَ الله عليهِ وأَنْعَمْتُ عليهِ: أُسامَةُ بن زيدٍ"، قالا: ثُمَّ مَن؟ قال: "عليُّ بن أبي طالبٍ"، فقال العَبَّاسُ: يا رسولَ الله! جَعَلْتَ

11 - باب مناقب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -

عَمَّكَ آخِرَهم! فقال: "إنَّ عَلِيًا قد سَبَقَكَ بِالهِجْرَةِ". "وعن أسامة - رضي الله عنه - قال: كنت جالسًا إذ جاء عليٌّ والعباس يستأذنان، فقالا لأسامة: استاذِنْ لنا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول الله! عليٌّ والعباس يستأذنان، فقال: أتدري ما جاء بهما؟ "، الباء للتعدية، "قلت: لا، قال: لكنِّي أدري، ائذن لهما، فدخلا فقالا: يا رسول الله! جئناك نسألك أيَّ أهلِ بيتك أحب إليك، قال: فاطمة بنت محمد - صلى الله عليه وسلم - قالا: ما جئناك نسألك عن أهلك"؛ أي: عن أولادك وأزواجك، بل نسألك عن أقاربك وعن متعلقيك. "قال: أحبُّ أهلي إليَّ مَنْ قد أتعم الله عليه وأنعمت عليه أسامةُ بن زيد": أراد بإنعام الله ورسوله ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37]، وهو زيد بن حارثة بلا خلافٍ. إنعام الله عليه كان توفيقه للإسلام الذي هو أجَلُّ النعم وأفضلها، وإنعام الرسول عليه إعتاقه وتبنيه وصحبته وتربيته، والإنعام على زيد كان إنعامًا على ولده أيضًا. "قالا: ثم من؟ قال: علي بن أبي طالب، فقال العباس: يا رسول الله! جعلتَ عمَّك آخرهم؟ قال: إن عليًا سبقك بالهجرة". * * * 11 - باب مَنَاقِبِ أَزْوَاجِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - (مناقب أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -) مِنَ الصِّحَاحِ: 4842 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "خَيْرُ نِسائِها مَرْيَمُ بنتُ عِمْرانَ، وخَيْرُ نِسائِها خَديجَةُ بنتُ خُوَيْلدٍ"، وأشارَ وَكِيعٌ إلى السَّماءِ والأَرْضِ.

"من الصحاح": " عن علي - رضي الله تعالى عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: خيرُ نسائها"؛ أي: نساء الأمة التي كانت فيها: "مريم بنت عمران، وخير نسائها"؛ أي: نساء هذه الأمة: "خديجة بنت خويلد": وإنما كرر (نسائها)؛ لبيان أن حكم كل واحدٍ منهما غير حكم الآخر. "وأشار وكيع" - وهو من جملة رواة هذا الحديث - "إلى السماء والأرض": تنبيهًا على أنهما خير نساء العوالم التي فوق الأرض وتحت السماء في زمانهما. * * * 4843 - عن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - قال: أتى جِبْريلُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: يا رسولَ الله! هذه خَديجَةُ، قد أَتَتْ معَها إناءٌ فيهِ إِدامٌ أو طَعامٌ، فإذا أَتَتْكَ فاقرأ عليها السَّلامَ مِن رَبها ومنِّي، وبشِّرْها ببَيْتٍ في الجَنَّةِ مِن قَصَبٍ، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى جبريلُ - عليه الصلاة والسلام - النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله! هذه خديجة قد أتت معها إناءٌ فيه إدام أو طعام، فإذا أتتك فاقرأ عليها السلامَ مِن ربها ومني، وبشِّرها ببيتٍ في الجنة من قَصَب": وهو عبارة عن لؤلؤٍ مجوَّف واسع كالقصر المرتفع. "لا صَخَب فيه": وهو الصياح واختلاط الأصوات للخصام. "ولا نَصَب": وهو التعب، يريد به: أن قصور الجنة ما فيها تعبٌ، بل فيها كمال الاستراحة، بخلاف بيوت الدنيا، فإنها لا تخلو عن صَخَبٍ من ساكنيها، وعن نَصَب في بنائها. * * *

4844 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: ما غِرْتُ على أَحَدٍ مِن نِساءَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ما غِرْتُ على خَديجَةَ، وما رَأَيتُها ولكنْ كانَ يُكثِرُ ذِكْرَها، ورُبَّما ذَبَحَ الشَّاةَ ثم يُقَطِّعُها أَعْضَاءً ثم يَبْعَثُها في صَدَائِقِ خَديجَةَ، فربَّما قلتُ له: كأَنَّه لم يكنْ في الدُّنيا امرَأةٌ إلا خَديجَةُ؟ لْيقولُ: "إنَّها كانَت وكانَت، وكانَ لي مِنْها وَلَدٌ". "وقالت عائشة - رضي الله عنها -: ما غِرْتُ"؛ أي: ما كان لي غَيرةٌ "على أحدٍ من نساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ما غِرت"؛ أي: كغيرة لي "على خديجة، وما رأيتها، ولكن كان يُكثر ذكرَها"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر خديجة. "وربما ذبح الشَّاةَ، ثم يقطعها أعضاءً، ثم يبعثها"؛ أي: يرسل منها "في صدائق خديجة": جمع صديقةٍ من الصداقة وهي المحبة. "فربما قلت له: كانه لم يكن في الدنيا امرأةٌ إلا خديجة، فيقول: إنها كانت وكانت": إشارةٌ إلى تعداد مناقبها وصفاتها المرضية، "وكان لي منها ولدٌ": وهو يطلق على الواحد والكثير، والمراد به هنا الثاني؛ لما رُوي: أن جميع أولاده - صلى الله عليه وسلم - من خديجة سوى إبراهيم فإنه كان من مارِيَة القِبطية. * * * 4845 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "فَضْلُ عائِشَةَ على النِّساءَ كفَضْلِ الثَّريدِ على سائرِ الطعامِ". "عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: فضلُ عائشة على النساء كفضلِ الثَّرِيد على سائر الطعام": ضَرَب المثل بالثريد؛ لأنه أفضلُ الأطعمة عندهم؛ لكونه مركَّبًا من الخبز وقوت اللحم، وفيه التذاذ وغذاءٌ وسهولة المساغ، وفضل عائشة على النساء من جهة حسن المعاشرة، والخُلق، وفصاحة اللهجة، وجَودة القَريحة، وتعقُّلها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما لم يعقل غيرها من النساء. * * *

4846 - عن أبي سَلَمَةَ - رضي الله عنه -: أن عائِشَةَ - رضي الله عنها - الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عائِشُ! هذا جِبْريلُ يُقْرِئُكِ السَّلامَ"، قالت: وعليهِ السَّلامُ ورَحْمَةُ الله، قالت: وهو يرَى ما لا أَرَى. "عن أبي سلمة - رضي الله عنه -: أن عائشة - رضي الله عنه - قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا عائش! ": ترخيم عائشة، "هذا جبريل يُقرئك السلام، قالت: قلت: وعليه السلام ورحمة الله، قالت: وهو"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم - "يرى ما لا أرى"؛ يعني: جبريل عليه السلام. * * * 4847 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُرِيتُكِ في المَنامِ ثلاثَ ليالٍ يَجيءُ بكِ المَلَكُ في سَرَقَةٍ مِن حَريرٍ فقال لي: هذه امرَأتُكَ، فكَشَفْتُ عَنْ وَجْهِكِ الثَّوبَ فإذا أَنْتِ هي، فقُلتُ: إنْ يكنْ هذا مِن عِنْدِ الله يُمْضه". "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أريتُك في المنام ثلاثَ ليال يجيء بك الملك في سَرَقةٍ" - بفتحتين -؛ أي: قطعةٍ "من حرير فقال لي: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهك الثوب فإذا أنت هي، فقلت: إنْ يكن هذا"؛ أي: ما رأيت في المنام "من عند الله يمضه"؛ أي: ينفذه؛ من كلام عائشة رضي الله عنها. 4848 - وقالت عائِشَةُ رضي الله عنها: إِنَّ النَّاسَ كانوا يَتَحَرَّوْنَ بهداياهُم يومَ عائِشَةَ يبتَغونَ بذلكَ مَرْضاةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -.

"وقالت عائشة: إن الناس كانوا يتحرون (¬1) "؛ أي: يطلبون الصواب وينتظرون "بهداياهم يوم عائشة"؛ أي: يوم نَوبتها من القسَم. "يبتغون"؛ أي: يطلبون "بذلك مرضاةَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ". * * * 4849 - وقالت: إنَّ نِساءَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - كُنَّ حِزْبَيْنِ، فَحِزْبٌ فيهِ عائِشَةُ وحَفْصَةُ وصَفِيَّةُ وسَوْدَةُ، والحِزْبُ الآخرُ فيهِ أمُّ سَلَمَةَ وسائرُ نساءِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلَّم حِزْبُ أمِّ سَلَمَة فقُلْنَ لها: كلِّمي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يُكَلِّم النَّاسَ فيقولُ: مَن أرادَ أنْ يُهديَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فَلْيُهدِ إليهِ حيثُ كانَ، فكلَّمَتْه فقالَ لها: "لا تؤذيني في عائِشَةَ، فإنَّ الوَحْيَ لم يأتني وأنا في ثَوْبِ امرأةٍ إلا عائِشةَ"، فقالت: أَتوبُ إلى الله مِن أذاكَ يا رسولَ الله! ثُمَّ إنَّهُن دَعَوْنَ فاطِمَةَ رضي الله عنها فأَرْسَلْنَها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فَكَلَّمَتْه فقال: "يا بنيةُ! أَلاَ تُحِبينَ ما أُحِبُّ؟!، قالت: بلى، قال: "فأَحبي هذه". "وقالت: إن نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كنَّ حزبين": الحزب: الطائفة. "فحزب فيه عائشة وحفصة وصفية وسَودة، والحزب الآخر أم سلمة وسائر نساء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكلَّم حزبُ أمِّ سلمة فقلن لها"؛ أي: لأم سلمة: "كلِّمي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يكلم الناس فيقول: مَنْ أراد أن يهدي إلى رسول الله فليهده إليه حيث كان" من زوجاته. "فكلمته فقال لها: لا تؤذيني في عائشة، فإنَّ الوحي لم يأتني وأنا في ثوب امرأةٍ إلا في ثوب عائشة - رضي الله عنها - قالت"؛ أي: أم سلمة: "أتوب إلى الله مِنْ أذاك يا رسول الله، ثم إنهن"؛ أي: النساء التي في حزب أم سلمة ¬

_ (¬1) في هامش "غ": "في نسخة: يتحينون".

"دَعَون فاطمة، فأرسلن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكلمته، فقال: يا بنية! ألا تحبين ما أحب؟ قالت: بلى، قال: فأحبي هذه"؛ يعني: عائشة رضي الله عنها. * * * مِنَ الحِسَان: 4850 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "حَسْبُكَ من نِساءَ العالمينَ مَرْيَمُ بنتُ عِمْرانَ، وخَديجَةُ بنتُ خُويلدٍ، وفاطِمةُ بنتُ مُحَمَّدٍ، وآسِيةُ امرأةُ فِرعَوْنَ". "من الحسان": " عن أنس - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: حسبك"؛ أي: كفاك يا أنس معرفةً "من نساء العالمين مريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلدٍ، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون"، وقيل: معناه: حسبك أن تقتديَ بهنَّ، وأن تذكر محاسنهنَّ ومناقبهن، وطاعاتهن، ومراقبة حق الله، ورفضهن الدنيا، وإقبالهن على الآخرة. * * * 4851 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن جِبْريلَ جاءَ بصُورتها في خِرْقَةِ حريرٍ خَضْراءَ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: هذهِ زَوْجَتُكَ في الدّنيا والآخِرةِ. "عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: إن جبريل - عليه الصلاة والسلام - جاء بصورتها"؛ أي: صورة عائشة رضي الله عنها، والباء للتعدية. "في خِرْقة حرير خضراء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذه زوجتك في الدنيا والآخرة". * * *

4852 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: بلغَ صَفِيَّةَ أن حَفْصَةَ قالت: بنتُ يَهودِيٍّ، فبَكَتْ، فدخلَ عليها النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وهي تَبْكي فقالَ: "ما يُبْكيك؟ " فقالَتْ: قَالَتْ لي حَفْصَةُ: إنِّي ابنةُ يَهُودِيٍّ، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "إنكِ لابنةُ نبَيٍّ، وإنَّ عَمَّكِ لنَبيٌّ، وإنَّكِ لتُحْتَ نبَيٍّ، فَبمَ تَفْخَرُ عَلَيْكِ؟ "، ثُمَّ قالَ: "اتَّقِ الله يا حَفْصَةُ". "عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: بلغ صفية" بنت حي بن أخطب اليهودي، وكان من أولاد موسى - عليه السلام - "أن حفصة قالت" في حقها: "بنت يهوديٍّ، فبكت"؛ أي: صفية، "فدخل عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تبكي، فقال: ما يبكيك؟ فقالت: قالت لي حفصة: إني ابنة يهوديٍّ، فقال - صلى الله عليه وسلم - إنك لابنة نبيٍّ"، وهو موسى - عليه الصلاة والسلام -، وقيل: يريد به إسحاق. "وإن عمك لنبي": وهو هارون - عليه الصلاة والسلام -، وقيل: يريد به إسماعيل عليه الصلاة والسلام. "وإنك لتحت نبيٍّ": وهو محمدٌ عليه الصلاة والسلام. "ففيم"؛ أي: في أي شيءٍ "تفخر": حفصة "عليك، ثم قال: اتقي الله تمالى يا حفصة". * * * 4853 - ورُوِيَ عن أُمِّ سَلَمَةَ رضي الله عنها: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - دَعَا فاطِمَةَ عامَ الفَتْح، فناجَاهَا فَبَكَتْ، ثُمَّ حَدَّثَها فَضَحِكَتْ، فلَمَّا تُوُفِّيَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سَأَلتُها عن بُكائِها وضَحِكِها؟ قالت: أَخْبَرَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه يَمُوتُ فبكيتُ، ثُمَّ أَخْبَرني أَنِّي سَيدةُ نِساءِ أَهْلِ الجَنَّةِ إلا مريمَ بنتَ عِمْرانَ فضَحِكْتُ. "وروي عن أم سلمة - رضي الله عنها -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا فاطمة عامَ الفتحِ فناجاها"؛ أي: فكلَّمها بالسر، "فبكت، ثم حدَّثها فضحكت، فلما توفي

12 - باب جامع المناقب

النبي - صلى الله عليه وسلم - سألتها عن بكائها وضحكها قالت: أخبرني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يموت فبكيت، ثم أخبرني أني سيدةُ نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران فضحكتُ": والحديث يدل على أن فاطمة خير نساء العالم إلا مريم أم عيسى - عليه الصلاة والسلام -. قيل: يحمل هذا الاستثناء على الانقطاع، إذ لم يثبت الاستثناء في روايةٍ أخرى، وهي التي في الصحاح، وأحاديث الصحاح أعلى درجةً؛ أي: لكن مريم كانت سيدة نساء زمانها. * * * 12 - باب جَامِعِ المَنَاقِبِ (باب جامع المناقب) مِنَ الصِّحَاحِ: 4854 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: رَأَيْتُ في المَنامِ كأَنَّ في يَدي سَرَقَةً مِن حريرٍ، لا أَهْوِي إلى مَكانٍ في الجَنَّةِ إلا طارَتْ بِي إِلَيْهِ، فَقَصَصْتُها على حَفْصَةَ فَقَصَّتْها حَفْصَةُ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ أَخاكِ رَجُلٌ صالِحٌ، أو إنَّ عَبْدَ الله رَجُلٌ صالحٌ". "من الصحاح": " عن عبد الله بن عمر قال: رأيت في المنام كأن في يدي سَرَقةٌ من حرير": والسرقة هنا عبارة عن ذات يده من العمل الصلح. "لا أهوي بها"؛ أي: لا أقصد بتلك السَّرَقة "إلى مكانٍ في الجنة" ولا

أنزل فيها "إلا طارت بي إليه"؛ أي: كانت تلك السرقة مطهرةً لي ومبلغةً إلى تلك المنزلة، فكأنها مثل جناح الطائر. "فَقَصصتُها على حفصة، فقصَصَتها حفصةُ على النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إن أخاك رجلٌ صالحٌ، أو إن عبد الله" وهو أخوها "رجلٌ صالح". * * * 4855 - عن حُذَيفَةَ - رضي الله عنه - قال: إنَّ أَشْبَهَ النَّاسِ دَلاًّ وسَمْتًا وهَدْيًا برسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - لابن أمِّ عَبْدٍ، من حينِ يَخْرُجُ مِن بيتِه إلى أنْ يرجِعَ إليه، لا نَدْري ما يَصْنَعُ في أَهْلِه إذا خَلَا. "عن حذيفة - رضي الله عنه -: إنَّ أشبه الناس دَلَّا": وهو مما يدل على صلاح صاحبه من حسن الحديث، "وسَمتًا"؛ أي: سيرة، "وهديًا"؛ أي: طريقة "برسول الله - صلى الله عليه وسلم - لابن أمِّ عَبد": هو عبد الله بن مسعود، وقيل: الدَّل والسَّمت والهدي متقاربُ المعنى، وهي عبارة عن الحالة التي يكون عليها الإنسان من السكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة واستقامة المنظر والهيئة، يريد شمائله في الحركة، والمشي والتصرف في الدِّين لا في الزينة والجمال. "من حين يخرج من بيته": يريد أنه كان يلازم النبيَّ - عليه الصلاة والسلام - إذا خرج من بيته، "إلى أن يرجع إليه": فنشهد له بما يتبين لنا من ظاهر أمره. "لا ندري ما يصنع في أهله إذا خلا"؛ يعني: لا نعرف ما بَطَن وما خفي عنّا منه، فلا نشهد بذلك. * * * 4856 - وقال أبو موسى الأَشْعَرِيُّ - رضي الله عنه -: قدِمْتُ أنا وأخي مِن اليَمَنِ

فمَكَثْنَا حينًا مَا نُرَى إلا أن عَبْدَ الله بن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - رَجُلٌ مِن أَهْلِ بيتِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - لِمَا نَرَى مِن كثرةِ دُخُولهِ وَفىُ خُولِ أُمِّه على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. "وقال أبو موسى الأشعري: قدمت أنا وأخي من اليمن، فمكثنا"؛ أي: في المدينة "حينًا ما نُرى" - بضم النون -؛ أي: ما نظن "إلا أن عبد الله بن مسعود رجلٌ من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نرى من كثرة دخوله ودخول أمه على النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -. * * * 4857 - عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "استَقْرِؤُوا القُرْآنَ مِن أربَعةٍ: من عبدِ الله بن مَسْعودٍ، وسالمٍ مَوْلَى أبي حُذَيفَةَ، وأُبَيِّ بن كَعْبٍ، ومُعاذِ بن جَبَلٍ" - رضي الله عنهم -. "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: استقرؤوا القرآن"؛ أي: اطلبوا قراءة القرآن وتعلُّمها من أربعةٍ: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبي بن كعبٍ، ومعاذ بن جبل": فإنهم أحفظ الصحابة - رضي الله عنهم -. * * * 4858 - عن عَلْقَمَةَ قال: قَدِمْتُ الشَّامَ فصَلَّيتُ رَكْعَتَينِ ثُمَّ قُلْتُ: اللهمَّ! يَسِّرْ لي جَليسًا صالِحًا، فأتيتُ قَوْمًا فَجَلَسْتُ إليهم، فإذا شَيْخ قد جاءَ حتى جَلَسَ إلى جَنْبي، قُلْتُ: مَن هذا؟ قالوا: أبو الدَّرْداءَ، قلتُ: إلى دَعَوْتُ الله أنْ يُيَسِّرَ لي جَليسًا صالِحًا فيسَّرَكَ لي، فقال: مَن أنتَ؟ قُلْتُ: مِن أَهْلِ الكوفةِ قال: أَوَلَيْسَ عِنْدكم ابن أُمِّ عَبْدٍ صاحِبُ النَّعلَيْنِ والوسادَةِ والمِطْهَرَةِ، وفيكم الذي أَجارَهُ الله من الشَّيطانِ على لسانِ نبيهِ؟ - يعني: عَمَّارًا -، أَوَلَيْسَ فيكم صاحِبُ السِّرِّ الذي لا يَعْلَمُه غيرُه؟ - يعني: حُذَيفَةَ -.

"عن علقمة - رضي الله عنه - قال: قدمت الشام فصليت"؛ أي: بمسجد دمشق "ركعتين، ثم قلت: اللهم يسِّر لي جليسًا صالحًا، فأتيت قومًا فجلست إليهم، فإذا شيخٌ قد جاء حتى جلس إلى جنبي، قلت: مَنْ هذا؟ قالوا: أبو الدرداء، قلت: إني دعوت الله أن ييسر لي جليسًا صالحًا فيسَّرك لي، فقال: مَنْ أنت": قيل: صوابه: من أين أنت، بدليل قوله: "قلت: من أهل الكوفة"، ولعل لفظة (أين) سقطت من القلم، أو من بعض الرواة، أو صحف (أين) بـ (أنت)، و (من) الجارَّة بالاستفهامية. "قال: أوليس عندكم ابن أم عبدٍ صاحب النعلين والوسادة والمطهرة": يريد: أنه خَصَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - بأخذ نعليه إذا جلس، وبوضعها إذا نهض وتسوية المضجع، ووضع الوسادة إذا أحب النوم، وبحمل المطهرة إذا أراد الوضوء. قيل: فيه دليل على جواز أن يستخدم الرجل أحدًا في هذه الأشياء الثلاثة، أو غيرها قياسًا عليها، وسِرُّ هذا الاستخدام أنه استفاد من كل خدمةٍ نوعًا من العلوم من آداب تلك الخدمة فرضها وسنتها وغير ذلك، وكان في ذلك إشارة إلى آداب التصوف التي هي آدابٌ مرضيةٌ لهذه الطائفة، ويحتمل أن يريد: أن هذه الأشياء التي كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - خص بها ابن مسعود بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -. "وفيكم الذي أجاره الله"؛ أي: أنقذه "من الشيطان على لسان نبيه"؛ يعني: عمارًا، "أو ليس فيكم صاحب السر الذي لا يعلمه"؛ أي: ذلك السر "غيره؛ يعني: حذيفة": سماه صاحب السر؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - عرَّفه أسماء المنافقين ليلة العقبة مرجعَه من غزوة تبوك، وكان الصحابة يراجعون حذيفة في أمر المنافقين، وقد ذكر أنهم أربعة عشر فتاب منهم اثنان، ومات اثنا عشر على النفاق. * * *

4859 - وعن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُريتُ الجَنَّةَ، فرَأَيْتُ امرَأَةَ أبي طَلْحَةَ، وسَمِعْتُ خَشْخَشةً أمامي فإذا بلالٌ". "وعن جابر - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أُريت الجنة، فرأيت امرأة أبي طلحة": وهي أم سليم أم أنس بن مالك الملقبة بالرُّميصاء. "وسمعت خشخشةً": وهو صوت يحدث من اصطكاك الأشياء اليابسة، "أمامي فإذا بلال" - رضي الله عنه -. * * * 4860 - عن سَعْدٍ - رضي الله عنه - قالَ: كُنَّا معَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - سِتَّةَ نَفَرٍ، فقالَ المُشْرِكونَ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: اُطرُدْ هؤلاءِ لا يَجْتَرؤوا عَلَينا، قالَ: وكنْتُ أنا، وابن مَسْعُودٍ، ورَجُلٌ مِن هُذَيْل، وبلالٌ ورَجُلانِ لستُ أُسَمِّيهما، فأنزلَ الله: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}. "عن سعد - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ستة نفرٍ، فقال المشركون للنبي - صلى الله عليه وسلم -: اطرُدْ هؤلاء، لا يجترؤون علينا": من الجراءة: الشجاعة. "قال"؛ أي: الراوي: "وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هُذيل وبلال ورجلان لست أسميهما": فوقع في نفس رسول - صلى الله عليه وسلم - ما شاء الله أن يقع فحدث نفسه. "فأنزل الله تبارك وتعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ} "؛ أي: دائبين على الدعاء في كل وقت، " {يُرِيدُونَ} "؛ أي: بعبادتهم " {وَجْهَهُ} ": لأشياء أخر من أعراض الدنيا. * * *

4861 - عن أبي مُوْسى - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قالَ لهُ: "يا أبا موسى! لقد أُعطِيتَ مِزْمارًا مِن مَزَامِير آلِ داودَ". "عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال له: يا أبا موسى! لقد أعطيت مِزمارًا" - بكسر الميم - آلة الزمر، وقد وقد يستعار للصوت الحسن والنغمة الطيبة، وهو المراد في الحديث. "من مزامير آل داود": والآل مقحمٍ، والمراد: نفس داود - عليه الصلاة والسلام -، إذ لم يشتهر أحدٌ من آله بحسن الصوت، شَبَّه حسنَ صوته في قراءة القرآن وحلاوة نغمته بصوت المزمار. * * * 4862 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لأُبيِّ بن كَعْبٍ: "إنَّ الله أَمَرَني أنْ أَقْرأَ عليكَ القرآن"، قال: الله سَمَّاني؟! قال: "نعم"، فَبكَى. ويُرْوَى: أنه قَرَأَ عليه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}. "عن أنسٍ - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بن كعبٍ: إن الله تعالى أمرني أن أقرأ عليك القرآن"؛ قيل: أراد أن يحفظ أبيٌّ من فمه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الرواية بالسماع عن الأصل أقوى من القراءة عليه؛ لأنه أبعد من الغَلَط واحتمال الخطأ، وكان أبيٌّ مقدَّما على قراء الصحابة. "قال"؛ أي: أبي: "الله سماني": بتقدير حرف الاستفهام، "قال: نعم، فبكى"؛ أي: أبيُّ ابتهاجًا وفرحًا من تسمية الله تعالى إياه بأمر القراءة، أو خوفًا من العجز عن قيام شكر تلك النعمة. "ويروى: أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ عليه: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة:1] ".

قيل: تخصيص هذه السورة لأنها وجيزةٌ جامعةٌ لقواعد كثيرةٍ من أصول الدين وفروعه، والإخلاص، وتطهير القلب، فكان الوقت يقتضي الاختصار. وقيل: لأن فيها قصة أهل الكتاب، وأبيٌّ كان من علماء اليهود؛ ليعلم حال أهل الكتاب، وخطاب الله معهم. * * * 4863 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: جَمَعَ القرآنَ على عَهْدِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - أَرْبَعةٌ: أُبَيُّ بن كَعْبٍ، ومُعاذُ بن جَبَلٍ، وزيدُ بن ثابتٍ، وأبو زَيدٍ، قيلَ لأَنَسٍ: مَن أبو زَيدٍ؟ قال: أَحَدُ عُمُومتي. "عن أنسٍ قال: جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي: حَفِظه في زمانه "أربعةٌ: أبي بن كعبٍ ومعاذٌ بن جبل وزيدٌ بن ثابتٍ وأبو زيدٍ": قال التُّورِبشتي: المراد من الأربعة: من رهط أنسٍ وهم الخزرجيون، وإلا فقد جَمَعَ القرآن جمعٌ من المهاجرين، فلعل أنسًا ذكر ذلك على سبيل المفاخرة. "قيل لأنسٍ: من أبو زيدٍ، قال: أحد عمومتي". * * * 4864 - عن خَبَّابِ بن الأَرَتِّ قال: هاجرْنَا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - نبتَغي وَجْهَ الله فَوَقعَ أَجْرُنا على الله، فمِنَّا مَن مَضَى لم يَأْكُلْ مِن أَجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهم مُصْعَبُ بن عُمَيرٍ، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فلَمْ يُوْجَدْ له ما يُكفَّنُ فيهِ إلا نَمِرَةً، فكُنَّا إذا غَطَّينا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ، وإذا غَطَّينا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُه، فقالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "غَطُّوا بها رَأْسَه، واجْعَلُوا على رِجْلَيْهِ مِن الإِذْخِرِ"، ومِنَّا مَن أَيْنَعَتْ لهُ ثَمَرَته فهوَ يَهْدِبُها. "عن خَبَّاب بن الأرت - رضي الله عنه - قال: هاجرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبتغي وجَه

الله"؛ أي: نطلب رضاءه (¬1)، "فوقع أجرنا على الله تعالى، فمنَّا من مضى"؛ أي: مات، "لم يأكل من أجره": وهو الغنيمة "شيئًا"؛ يعني: لم يكن له من الدنيا ما يتمتع به؛ لأنه استشهد في سبيل الله، فبقي أجره كاملًا على الله تعالى في الآخرة. "منهم مصعب بن عميرٍ قُتل يوم أحدٍ فلم يوجد له ما يكفَّن فيه إلا نَمِرةٌ" - بفتح النون وكسر الميم - كل شَمْلةٍ مخظطة من مآزر الأعراب، كانها أُخذت من لون النمر لما فيها من السواد والبياض. "فكنا إذا غطَّينا رأسه خرجت رجلاه، وإذا كطينا رجليه خرج رأسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غطُّوا بها رأسه واجعلوا على رجليه من الإذخر، ومنا من أينعت"؛ أي: أَدْركت ونَضَجَت "له ثمرته فهو يَهْدِبُها"؛ أي: يجتنيها، يعني: ومنا من رجع سالمًا غانمًا. * * * 4865 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قالَ: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "اِهْتَزَّ العَرْشُ لمَوْتِ سَعْدِ بن مُعاذٍ". وفي رِوايةٍ: "اِهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِ سَعْدِ بن مُعاذٍ". "عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: سمعت النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: اهتز العرش"؛ أي: تحرك "لموت سعد بن معاذ"؛ اسعظامًا لموته، فإن العرب إذا عظَّموا أمرًا نَسَبوه إلى أعظم الأشياء. "وفي روايةٍ أخرى: اهتز عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ": قيل: أي: ارتاح واستبشر بروحه حين صُعِد به لكرامته على الله تعالى، وقيل: أراد به ¬

_ (¬1) في "غ": "رضا الله".

فرح أهلِ العرش وَحَملَته لقدوم روحه، فأقام العرشَ مقامَ حَمَلَته. * * * 4866 - وعن البَرَاءِ - رضي الله عنه - قال: أُهْدِيَتْ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حُلَّةُ حَريرٍ، فَجَعَلَ أَصْحابُه يَمَسُّونَها ويَعْجَبُون مِن لِيْنِها، فقال: "أتعجبُونَ مِن لِيْنِ هذهِ؟ لمَنَادِيلُ سَعْدِ بن معاذٍ في الجنَّةِ خَيْرٌ مِنْها وأليَنُ". "عن البراء - رضي الله عنه - قال: أهديت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حُلَّة حريرٍ، فجعل أصحابه يمسونها ويتعجبون من لينها، فقال: أتعجبون من لين هذه، لمناديل سعد بن معاذ": التي يمسح بها سعد يديه، "في الجنة خيرٌ منها وألين"، وفيه تنبيةٌ على بعد المناسبة بين حُلل الدارين، حتى إن أرفع شيءٍ مِنْ هذه لا يقاوم أوضعَ شيء من تلك. * * * 4867 - وعن أُمِّ سُلَيْمٍ أَنَّها قالت: يا رسولَ الله! أَنَسٌ خادِمُك، ادْعُ الله لهُ، قال: "اللهمَّ! أَكْثِرْ مالَهُ ووَلَدَهُ وباركْ لهُ فيما أعطيْتَه"، قال أَنَسٌ: فوالله إنَّ مالي لكثيرٌ، وإنَّ ولدِي ووَلَدَ ولدِي ليَتَعَادُّونَ على نحوِ المِئَةِ اليومَ. "عن أم سليم - رضي الله عنها - أنها قالت: يا رسول الله! أنسٌ خادمك ادع الله تعالى له، قال: اللهم أكثر ماله وولده وبارك له فيما أعطيته": قيل: فيه دليل لمن يفضل الغني على الفقير. وأجيب: بأنه مختصٌّ بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه قد بارك فيه، ومتى بارك فيه لم يكن فيه فتنةٌ، فلم يحصل بسببه ضرر ولا تقصير في أداء حق الله تبارك تعالى.

"قال أنس - رضي الله عنه -: فوالله إن مالي لكثيرٌ، وإن ولدي وولد ولدي ليتعادون اليوم"؛ أي: يزيدون في العدد "على نحو المئة". * * * 4868 - وعن سَعْدِ بن أبي وقَّاصٍ - رضي الله عنه - قال: ما سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقُولُ لأَحَدٍ يمشي على وَجْهِ الأَرْض: إِنَّه مِن أَهْلِ الجَنَّةِ، إلا لعَبْدِالله بن سلامٍ. "عن سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - قال: ما سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول لأحدٍ يمشي على وجه الأرض إنَّه من أهل الجنة إلا لعبد الله بن سلامٍ". * * * 4869 - وقال عبدُ الله بن سلامٍ: رأَيتُ كأَنِّي في رَوْضَةٍ، وذَكَرَ مِن سَعَتِها وخُضْرتِها، وَسْطَها عَمُودٌ مِن حديدٍ، أَسْفَلُهُ في الأَرْضِ وأَعْلاهُ في السَّماءِ، في أعلاهُ عُروةٌ، فقيلَ لي: ارْقَهُ، فقُلْتُ: لا أسْتَطِيعُ، فأتاني مِنْصَفٌ فَرَفَعَ ثِيابي مِنْ خَلْفي، فَرَقَيْتُ حتَّى كُنْتُ في أَعْلاهَا فأخذتُ بالعُرْوَةِ، فاسْتَيقَظْتُ وإنها لفي يَدي، فقصَصْتُها على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "تلكَ الرَّوْضَةُ الإسْلاَمُ، وذلكَ العَمُودُ عَمُودُ الإسْلامِ، وتلْكَ العُرْوَةُ الوُثْقَى، فأنتَ على الإسْلاَمِ حَتّى تَمُوتَ". "وقال عبد الله بن سلام: رأيت" من الرؤيا "كأني في روضةٍ، ذكر"؛ أي: عبد الله بن سلام "من سَعَتها وخضرتها، وسطها" - بالنصب - على أنه ظرف خبر مبتدأ، وهو "عمود من حديد، أسفله في الأرض، وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة": هي عروة القميص والكُوز والدَّلو، ويستعار لما يوثق به ويعوَّل عليه، وهو المراد هنا. "فقيل لي ارقِهُ": أمرٌ مِنْ رقى يرقي: إذا صعد، والهاء للسكت، ويجوز

أن يعود إلى العمود. "فقلت: لا أيستطيع، فأتاني مِنصَف" - بكسر الميم وفتح الصاد -؛ أي: خادم، "فرفع ثيابي من خلفي فرقيتُ حتى كنت في أعلاها، فأخذت بالعروة فاستيقظتُ دمانها لفي يدي، فقصصْتُها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: تلك الروضة الإسلام، وذلك العمود عمود الإسلام، وتلك العروة العروة الوثقى، فأنت على الإسلام حتى تموت". * * * 4870 - وعن أنسٍ - رضي الله عنه - قال: كانَ ثَابتُ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ خطيبَ الأَنْصارِ، فلمَّا نزلَتْ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ} إلى آخرِ الآيةِ، جَلَسَ ثابتٌ في بيتِهِ، واحتبَس عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فَسَأَلَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سَعْدَ بن مُعاذٍ فقال: "ما شأنُ ثابتٍ؟ أَيَشْتكي؟ "، فأَتَاه سَعْدٌ، فذكرَ لهُ قولَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ ثابتٌ: أُنزِلَتْ هذهِ الآيةُ، ولقدْ عَلِمْتُم أَنِّي مِن أَرْفَعِكُم صَوْتًا على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فذكرَ ذلك سَعْدٌ للنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ رسولُ الله: "بل هوَ مِن أَهْلِ الجَنَّةِ". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: كان ثابت بن قيس بن شَمَّاس خطيبَ الأنصار": أي: مقدَّمهم ورئيسهم، "فلما نزلت: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات: 2] إلى آخر الآية، جلس ثابت في بيته، واحتبس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ أي عن الخطبة عند ذلك، ولم يتردَّد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. "فسأل النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - سعدَ بن معاذ فقال: ما شأنُ ثابت، أيشتكي؛ ": أي: أَبهِ مرض، "فأتاه سعد فذكر له قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال ثابت: أنزلت هذه الآية ولقد علمتم أني مِنْ أرفعكم صوتًا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأنا من أهل النار، فذكر

ذلك سعدٌ للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بل هو من أهل الجنة". * * * 4871 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا جُلوسًا عِندَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - إِذْ نزلَتْ سُوْرَةُ الجُمُعةِ، فَلَمَّا نزلَتْ هذهِ: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} قالوا: مَن هؤلاءِ يا رسولَ الله؟ قالَ: وفينَا سَلْمَانُ الفارسيُّ، قالَ: فَوَضَعَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يدَهُ على سَلْمانَ ثُمَّ قال: "لو كانَ الإيمانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِن هؤلاءِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: كنا جلوسًا عند النبي - صلى الله عليه وسلم - إذ نزلت سورة الجمعة، فلما نزلت: {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] ": هذا على أن يكون (آخرين) عطفًا على الأميين، يعني: أنه تعالى بعثه في الأميين الذين على عهده، وفي آخرين من الأميين لم يلحقوا بهم، وسيلحقون بهم وهم الذين بعد الصحابة. "قالوا: مَنْ هؤلاء يا رسول الله؟ قال"؛ أي أبو هريرة: "وفينا سَلْمان الفارسي، قال: فوضع النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يده على سلمان ثم قال: لو كان الإيمان معلقًا بالثريا" - وهو نجم معروف - "لناله": أي لوجده "رجال من هؤلاء"، وقال الحسن: يريد بهم العَجَم لوقوعهم في مقابلة الأميين. وقال عكرمة: يريد بهم فارس الروم. والمراد: المبالغة في انقيادهم للإسلام والإيمان، يعني: لو صور الإيمان عَينًا وكان بعيدًا غاية البعد لَتنَاوله ووصل إليه رجالٌ منهم ببذل مجهودهم. * * * 4872 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ! حَببْ

عُبَيْدَكَ هذا - يعني: أبا هريرةَ - وأُمَّه إلى عِبادِكَ المُؤْمنينَ، وحَببْ إليهم المُؤْمنينَ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم حبب عُبيدك هذا - يعني: أبا هريرة - وأمَّه إلى عبادك المؤمنين، وحبب إليهما المؤمنين". * * * 4873 - وعن عائِذِ بن عَمْروٍ: أن أبا سُفْيانَ أتى على سَلْمَانَ وصُهَيْبٍ وبلالٍ في نَفَرٍ فقالوا: ما أَخَذَتْ سُيوفُ الله مِن عُنُقِ عَدُوِّ الله مَأْخَذَها، فقالَ أبو بكرٍ: أتقولونَ هذا لشيخ قُرَيشٍ وسيدِهم! فأَتَى النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فأخبرَهُ فقال: "يا أبا بكرٍ! لعلَّكَ أَغْضَبْتَهُم، لئنْ كنتَ أَغْضَبْتَهُم لقد أغْضبْتَ ربَّكَ"، فأتَاهُم فقال: يا إخْوَتَاهُ! أَغضبتكم؟ قالوا: لا، يغفرُ الله لكَ يا أُخَيَّ!. "عن عائذ بن عمرو: أن أبا سفيان أتى على سلمان، وصهيب، وبلال في نفر": قيل: كان إتيانه بعد صلح الحديبية وهو كافر، وقيل: كان بعد إسلامه. "فقالوا": لإحساسهم منه آثار النفاق: "ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مآحْذها" - بالقصر وفتح الخاء وبالمد، أو كسر الخاء - يريدون به أبا سفيان حين لم يقتل يوم بدر. "فقال أبو بكر: أتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم، فأتى"؛ أي: أبو بكر "النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فأخبره، فقال"؛ أي: النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا أبا بكر! لعلك أغضبتهم لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربَّك"، وفيه فضيلة لهم حيث كان غضبهم سببًا لغضب ربهم، وتنبيه على إكرام ضعفاء الصالحين والاتقاء من قلوبهم. "فقال"؛ أي: أبو بكر لسلمان وصهيب وبلال: "يا إخوتاه! أغضبتكم؟

قالوا: لا"؛ أي: ما أغضبتنا "يغفر الله لك" بدون الواو، ومقتضى البلاغة إتيانها، روي أن أبا بكر نهى عن هذه الصيغة فقال: قل لا، ويغفر الله لك. "يا أخي": الظاهر أن يقال: يا أخانا، ولعله حكاية قول كل أحد، ضبطوه بضم الهمزة على التصغير، وهو تصغيرُ تحبيبٍ، وفي بعض النسخ بفتحها. * * * 4874 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "آيةُ الإِيمانِ حُبُّ الأَنْصارِ، وآيةُ النِّفاقِ بُغْضُ الأَنْصارِ". "عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي" - صلى الله عليه وسلم -، "قال: آية الإيمان"؛ أي علامته "حب الأنصار، وآية النفاق بغضُ الأنصار"، وإنما قال في حقهم كذلك؛ لأنهم تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم؛ يعني: توطَّنوا المدينة، واتخذوها دار الهجرة وأسلموا في ديارهم، وآثروا الإيمان وبنوا المساجد قبل قدوم النبي عليه الصلاة والسلام. * * * 4875 - وعن البَرَاءِ - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "الأَنْصارُ لا يُحِبُّهم إلا مُؤْمِنٌ، ولا يُبغِضُهم إلا منافقٌ، فمَن أَحَبَّهم أَحَبَّهُ الله، ومَن أَبْغَضَهُم أبغَضَهُ الله". "عن البراء - رضي الله عنه - قال: سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: الأنصار لا يحبُّهم إلا مؤمن، ولا يُبغضهم إلا منافق، فمن أحبَّهم أحبَّه الله تعالى"، وذلك من كمال علامة إيمانهم، "ومن أبغضهم أبغضه الله"، فذلك من علامة نفاقهم. * * *

4876 - عن أَنسٍ - رضي الله عنه -: أن ناسًا مِن الأَنْصارِ قالوا حينَ أفاءَ الله على رسولهِ مِن أموالِ هَوَازِن ما أفاءَ، فطَفِقَ يُعْطِي رِجالًا مِن قُرَيشٍ المِئَةَ مِن الإِبلِ، فقالوا: يَغْفِرُ الله لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، يُعطِي قُرَيشًا ويَدَعُنا وسُيُوفُنا تَقْطرُ مِن دِمائِهم؟ فحُدِّثَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمَقَالَتِهم، فأَرْسَلَ إلى الأَنْصارِ فَجَمَعَهم في قُبَّةٍ مِن أَدَمٍ ولَمْ يَدْعُ معَهم أَحَدًا غيرَهم، فلمَّا اجتَمَعُوا جاءَهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "ما حَديثٌ بلغَني عَنْكم؟ "، فقالَ له فُقَهاؤُهم: أمَّا ذَوُو رَأْينَا يا رسولَ الله! فلَمْ يقولوا شيئًا، وأمَّا أُنَاسٌ مِنَّا حَديثةٌ أَسْنانهُم قالوا: يَغْفِرُ الله لرسولِ الله، يُعطي قُرَيشًا ويَدَعُ الأَنْصارَ وسُيُوفُنا تَقْطُرُ مِن دِمائِهم؟ فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنِّي أُعْطِي رِجالًا حديثي عهدٍ بكُفْرٍ أتأَلَّفُهم، أَمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالأَمْوالِ وتَرْجِعونَ إلى رحالِكم برسولِ الله؟ "، قالوا: بلى يا رسولَ الله! قد رَضينَا. "وعن أنس - رضي الله عنه -: أن ناسًا من الأنصار قالوا حين أفاء الله على رسوله من أموال هوازن ما أفاء، فطَفِقَ يعطي رجالًا من قريش المئة من الإبل، فقالوا: يغفر الله لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يعطي قريشًا ويدعنا"؛ أي: يتركنا من العطاء، "وسيوفنا تقطُر من دمائهم، فحُدِّث رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بمقالتهم، فأرسل إلى الأنصار فجمعهم في قبة من أَدَم، ولم يدع معهم أحدًا غيرهم (¬1) "؛ أي: لم يترك غير الأنصار أن يدخل في القبة مع الأنصار. "فلما اجتمعوا، جاءهم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما حديث"؛ أي: أيُ حديثٍ "بلغني عنكم؟ فقال فقهاؤهم"؟، أي: ساداتهم وعقلاؤهم. "أما ذوو رأينا يا رسول الله، فلم يقولوا شيئًا، وأما أناس منا حديثة أسنانهم": جمع سن؛ يعني: شبابنا، "قالوا: يغفِرُ الله لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم، يعطي قريشًا ويدع الأنصار، وسيوفنا تَقْطُر من دمائهم، فقال ¬

_ (¬1) في "غ": "ولم يدع خيرهم".

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني أعطي رجالًا حديثي عهدٍ بكفر"؛ أي قريبي العهد إلى الإسلام. "أتألفهم"؛ يعني: ليكون ذلك موجبًا لألفتهم على الإسلام. "أما ترضون أن يذهب الناس بالأموال، وترجعون إلى رحالكم"؛ أي منازلكم. "برسول الله - صلى الله عليه وسلم - "؛ أي برضائه. "قالوا: بلى يا رسول الله قد رضينا". * * * 4877 - وقالَ: "لولا الهِجْرَةُ لكُنْتُ امْرَأً مِن الأَنْصارِ، ولو سَلَكَ النَّاسُ وادِيًا أو شِعْبا وسَلَكَتِ الأَنْصارُ وادِيًا أو شِعْبًا لَسَلَكْتُ وادِيَ الأَنْصارِ وشِعْبَها، الأَنْصارُ شعَارٌ والنَّاسُ دِثَارٌ، إنَّكم سَتَرَوْنَ بعدي أثَرَةً فاصبرُوا حتَّى تَلْقَوْني على الحَوْضِ". "وقال: لولا الهجرة كنت امرأ من الأنصار": المراد منه: إكرام الأنصار، والتعريض بأن لا رتبة بعد الهجرة أعلى من النصرة، وبيان أنهم بَلَغوا مبلغًا لولا أنه صلى الله تعالى عليه وسلم من جملة من هاجر من مكة لَعَدَّ نفسَه منهم. "ولو سلك الناس واديًا، وسلكت الأنصار واديًا أو شعبًا"، وهو بكسر الشين: الطريق في الجبل. "لسلكت وادي الأنصار وشعبَها": أراد بهما حقيقتهما لكثرتهما في أرض الحجاز، أو المراد اختيار موافقتهم، ومرافقتهم على غيرهم تطييبًا لقلوبهم. "الأنصار شِعار" وهو بكسر الشين: ثوب يلي الجسد. "والناس دِثار"، وهو بكسر الدال: ما كان فوق الشعار، شبَّههم بالشعار

لكون مودتهم راسخة في باطنه، وكونهم أقربَ الناس إليه كقرب الشِّعار من البدن، ولأنهم كانوا ذوي الأسرار كخفاء الشِّعار من الدِّثار. "إنكم ستلقون بعدي أثرة"، وهو بالفتحات: اسم من الاستئثار، يعني: أمراؤكم تُفَضل عليكم مَنْ هو أدناكم، "فاصبروا"؛ أي على هذه الشدة، ولا تخالفوهم، "حتى تلقوني على الحوض". * * * 4878 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: كُنَّا معَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - يومَ الفَتْح فقالَ: "مَن دَخَلَ دارَ أبي سُفْيانَ فهوَ آمِنٌ، ومَن أَلقَى السِّلاحَ فهوَ آمِنٌ"، فقالَتِ الأَنصْارُ: أمَّا الرَّجُلُ فقد أَخَذَتْهُ رَأْفةٌ بعشيرَتِهِ ورغبةٌ في قَرْيَتِهِ، ونزلَ الوحيُ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، قالَ: "قلتُم: أَمَّا الرَّجلُ أخذَتْهُ رأفةٌ بعشيرَتِهِ ورغبةٌ في قَرْيَتِهِ، قال: كلا! إنِّي عَبْدُ الله ورسولُه هاجَرْتُ إلى الله وإليكم، المَحْيَا مَحْيَاكُم، والمَمَاتُ مَمَاتُكم"، قالوا: والله ما قُلْنَا إلا ضنًّا بالله ورسولهِ، قال: "فإنَّ الله ورسولَه يُصَدِّقانِكم ويَعْذِرَانِكم". "عن أبي هريرة قال: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح، فقال: مَنْ دخل دار أبي سفيان فهو آمن"، قيل: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أوذي بمكة فدخل دار أبي سفيان كان آمنًا فجازاه بمثل ذلك. "ومَنْ ألقى السلاح فهو آمن"، وفيه دلالة على أن فتح مكة كان عَنْوة، لأن لفظ "آمن" إنما يستعمل في القهر. "فقالت الأنصار: أما الرجل": يريد به النبي - صلى الله عليه وسلم -، "فقد أخذته رأفة"؛ أي رحمة وشفقة، "بعشيرته"؛ أي قبيلته، "ورغبة في قريته"؛ يعني مكة شَرَّفها الله تعالى.

"فنزل الوحيُ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: قلتم أما الرجل فقد أخذته رأفةٌ بعشيرته، ورغبة في قريته، كَلاً"، حرف ردع، أي: ليس الأمر كما توهَّمتم من إقامتي بمكة، بل هجرتي كانت إلى الله تعالى. "إني عبدُ الله ورسوله"؛ يعني: كوني على هذه الصفة يقتضي أن لا أرغبَ إلى بلدة هاجرت منها بأمر الله تعالى. "هاجرت إلى الله وإليكم"؛ يعني: قصدت في الهجرة إلى ثواب الله تعالى، وإلى دياركم، فلا أرجعُ عن الهجرة الواقعة لله تعالى. "المَحيْا مَحياكم، والمَمَات مماتكم"؛ يعني: قصدي أن أحيا في بلدكم وأموت فيها ولا أفارقكم، "قالوا: والله! ما قلنا إلا ضَنًّا بالله ورسوله"؛ أي بخلًا وضنَّة بما أنعم الله تعالى علينا من شرف الجوار، والصحبة بك، وخشية على فَوت ذلك بميلك إلى أهلك. "قال: فإن الله ورسوله يصدِّقانكم ويَعْذُرانكم"؛ أي يَقْبلان اعتذارَكم فيما تقولون من دعوى الضنة. وفيه دلالة على جواز البخل بالعلماء والصلحاء، وعدم الرضا بمفارقتهم. * * * 4879 - وعن أَنَسٍ - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رَأَى صِبْيانًا ونِساءً مُقْبلينَ مِن عُرْسٍ، فقامَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "اللهمَّ! أنتُم مِن أَحَبِّ النَّاسِ إليَّ، اللهمَّ! أنتُم مِن أَحَبِّ الناسِ إليَّ، اللهمَّ! أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النّاسِ إِلَيَّ"، يعني: الأنصارَ. "عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى صبيانًا ونساء مقبلين"؛ أي حال كونهم متوجهين "من عرس" - بضم العين -: طعام الوليمة. "فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال - صلى الله عليه وسلم -: اللهم أنتم مِنْ أحبِّ الناس إليَّ، اللهم أنتم

مِنْ أحب الناس إلي"، كرره للتأكيد في محبتهم؛ "يعني: الأنصار". * * * 4880 - عن أنسٍ قال: مَرَّ أبو بَكْرٍ والعَبَّاسُ - رضي الله عنهما - بمَجْلِسٍ مِن مجالسِ الأَنْصارِ وهم يَبْكُونَ فقال: ما يُبْكِيكُم؟ قالوا: ذكَرْنَا مَجْلِسَ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنَّا، فَدَخلَ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فأَخْبَرَهُ بذلكَ، فَخَرَجَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقد عَصَّبَ على رأسه حاشِيَةَ بُرْدٍ، فَصَعَدَ المِنْبرَ ولم يَصْعَدْ بعدَ ذلكَ اليَوْمِ، فحَمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثم قال: "أوصِيْكُم بالأَنْصارِ، فإنَّهم كَرِشي وعَيْبَتي، وقد قَضَوْا الذي عليهم وبقيَ الذي لهم، فاقبلُوا مِن مُحْسنِهم، وتجاوَزُوا عن مُسِيئهم". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: مرَّ أبو بكر والعباس بمجلس من مجالس الأنصار وهم يبكون، فقال: ما يبكيكم؟ فقالوا: ذكرنا مجلسَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - منا فدخل أحدهما على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخبره بذلك، فخرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وقد عَصَب على رأسه حاشيةَ بُرْدٍ، فصعِدَ المنبر، ولم يصعد بعد ذلك اليوم، فحمِدَ الله تبارك وتعالى وأثنى عليه، ثم قال: أُوصيكم بالأنصار، فإنهم كَرشي"، الكرش: الجماعة؛ يعني: هم جماعتي الذين أثق بهم في أموري، "وعَيبتي"، العيبة: ما يجعل فيه الثياب، والمراد هنا: خاصتي وموضع سِرِّي، كما أن عَيبة الرجل موضع يحرز مضاعه وثيابه، والعرب تكنِّي عن القلب والصدر بالعَيبة. "وقد قَضَوا الذي عليهم، وبقي الذي لهم"؛ أي من الأجر والثواب عند الله. "فاقْبلوا من محسنهم، وتجاوزوا"؛ أي اعفوا "عن مسيئهم"، والمراد بذلك فيما سوى الحدود. * * *

4881 - وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - قال: خَرَجَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - في مَرَضه الذي ماتَ فيهِ حتَّى جَلَسَ على المِنْبَرِ، فحَمِدَ الله وأثنَى عليهِ ثُمَّ قال: "أمَّا بَعْدُ، فإِنَّ النَّاسَ يَكثُرون، ويَقِلُّ الأَنْصارُ حتَّى يكونُوا في النَّاسِ بمَنْزِلةِ المِلْح في الطَّعامِ، فمَن وَلِيَ منكم شيئًا يَضُرُّ فيهِ قَوْمًا ويَنْفَعُ فيهِ آخرينَ فلتقبلْ مِن مُحْسِنِهم ويتجاوزْ عن مُسيئهم". "عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: خرج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي مات فيه حتى جلس على المنبر، فحمِدَ الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: أمَّا بعد: فإن الناس يَكْثُرون": هذا إخبار عن الغيب، يريد: أن أهل الإسلام يكثرون بأن يدخلوا في دين الله فوجًا بعد فوج. "ويقِلُّ الأنصار": إذ لا بد لهم، لأنهم هم الذين آووا ونصروا رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا الأمر لا يدركه اللاحقون فيقِلُّون لا محالة. "حتى يكونوا في الناس بمنزلة الملح في الطعام، فمن ولي منكم شيئًا": المراد منه الخلافة والإمارة، "يضر فيه قومًا، وينفع فيه آخرين، فليقبَلْ مِنْ محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم". * * * 4882 - عن زبدِ بن أَرْقَمَ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ! اغفِرْ للأنصارِ، ولأَبناءِ الأَنْصارِ، ولأَبناءِ أَبناءِ الأَنْصارِ". "عن زبد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم اغفِرْ للأنصار، ولأبناءِ الأنصارِ، وأبناء أبناء الأنصار". * * *

4483 - عن أَبي أُسَيْدٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "خَيرُ دُورِ الأَنْصارِ بنو النَّجَّارِ، ثُمَّ بنو عَبْدِ الأَشْهَلِ، ثُمَّ بنو الحارثِ بن الخَزْرج، ثُمَّ بنو ساعِدَةَ، وفي كلِّ دُورِ الأَنْصارِ خيرٌ". "عن أبي أسيد" - بفتح الهمزة وكسر السين -، "قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: خيرُ دورِ الأنصار بنو النجار"، أي: دار بني النجار، والمراد بالدور: القبائل، وإنما كنَّى عنها بالدور، لأن كل واحدة من تلك البطون كانت لها محلة تسكنها، والمحلة تسمى دارًا. "ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو الحارث بن الخزرج، ثم بنو ساعدة، وفي كل دور الأنصار خير": والمراد بالدور: القبائل، وإنما كنى عنها بالدور لأن كل واحدة من تلك البطون كانت لها محَلَّة تسكنها، والمحلة تسمى دارًا، قيل: تفضيلهم على قدر مآثرهم، وسبقِهم إلى الإسلام. * * * 4884 - وقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لعُمَرَ في حاطِبِ بن أبي بَلْتَعَةَ: "إِنَّه شَهِدَ بَدْرًا، وما يُدْريكَ؟ لعلَّ الله قد اطَّلعَ على أَهْلِ بَدْرٍ فقالَ: اعمَلُوا ما شِئْتُم فقد وَجَبَتْ لكم الجَنَّةُ". وفي روايةٍ: "قد غَفرْتُ لكم". "عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعُمر في حاطب بن أبي بلتعة"؛ أي: في حقه حين أرسل كتابًا إلى أهل مكة بامرأة، وكان فيه بيان بعض أمر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحوال المؤمنين، فعلم رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك بالوحي، فبعث رجالًا على عَقبها، فأخذوا منها الكتاب، فقال - صلى الله عليه وسلم - لحاطب: "ما حَملَك على ما صنعتَ؟ " قال: يا رسول الله! والله ما كفرتُ منذ أسلمت، ولكن حملني ذلك أني لست من نفس

قريش، ولم يكن لي قريب فيها، فأردت أن أتخذ عندهم يدًا يَحْمُون بها مالي، فقال عمر - رضي الله عنه -: دعني أضربْ عُنُقَ هذا المنافق، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنه شهد بدرًا"، يعني: حضر غزوة بدر. "وما يدريك"؛ أي: أي شيء يعلمك أنه مستحق للقتل، "لعل الله أن يكون قد اطَّلع على أهل بدر"؛ أي نظر إليهم بنظر الرَّحمة والمغفرة. قيل: الترجي فيه راجع إلى عمر؛ لأن وقوع هذا الأمر محقَّق عنده - صلى الله عليه وسلم -، والأقرب: أن ذكر (لعل) لئلا يتكل من يشهد بدرًا على ذلك، وينقطع عن العمل. "فقال: اعملوا ما شئتم": المراد به: إظهار العناية بهم، لا الترخص لهم في كل فعل. "فقد وجبت لكم الجنة". "وفي رواية: فقد غفرت لكم". * * * 4885 - عن رِفاعةَ بن رافعٍ قال: جاءَ جِبْريلُ إلى النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما تَعُدُّونَ أهلَ بَدْرٍ فيكم؟ قال: "مِن أَفْضَلِ المُسْلِمينَ"، أو كَلِمةً نحوَها، قال: وكذلكَ مَن شهدَ بدرًا مِن الملائكةِ. "عن رفاعة بن رافع - رضي الله عنه - قال: جاء جبريل عليه السلام إلى النبي عليه الصلاة والسلام قال: ما تعدون": قيل: معناه: ممن تعدون "أهل بدر فيكم، قال: من أفضل المسلمين، أو كلمة"؛ أي: أو قال كلمة "نحوها، قال"؛ أي: جبرائيل عليه السلام: "وكذلك من شهد"؛ أي حضر "بدرًا من الملائكة": هم أفضل من الملائكة الذين لم يشهدوها. * * *

4886 - عن حَفْصَةَ رضي الله عَنْها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنِّي لأَرْجو أنْ لا يَدْخُلَ النَّارَ إنْ شاءَ الله أَحَدٌ شَهِدَ بَدْرًا والحُدَيْبيةَ"، قلتُ: يا رسولَ الله! أليسَ قد قالَ الله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}؛ قال: "أَفلم تَسْمعِيهِ يقولُ: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا}. وفي روايةٍ: "لا يَدْخُلُ النَّارَ إنْ شاءَ الله مِن أَصْحابِ الشَّجرةِ أَحَدٌ، الدينَ بايعُوا تحتَها". "عن حفصة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لأرجو أن لا يدخلَ النارَ إن شاء الله تعالى أحدٌ شَهِدَ بدرًا والحديبيَة، قلت: يا رسول الله! أليس قد قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71]؟ ": والورود: بمعنى الدخول عند أهل السنة؛ لأن النجاة التي بعده تدل عليه، "قال - صلى الله عليه وسلم -: أفلم تسمعيه": خطاب لحفصة، أي: أفلم تسمعي الله "يقول: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} [مريم: 72] ": فينجي الله المتقين بفضله، فتكون عليهم بَرْدًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم عليه السلام، ويترك الكافرين فيها بِعَدْله، وقد يكون الورود بمعنى الحضور، والهاء للقيامة أو للنار. وقال ابن عباس: قد يَرِدُ الشيءُ الشيءَ ولم يدخله، كما يقال: وردَت القافلة البلدَ وإن لم تدخله، ولكن قربت منه. وقيل: هو الجواز على الصراط؛ لأن الصراط ممدودٌ عليها. قال خالد بن معدان: يقول أهل الجنة: ألم يَعِدْنا ربنا أن نرِدَ على النار، فيقال: بلى، ولكنكم مررتم وهي خامدة. "وفي رواية: إنه لا يدخل النار إن شاء الله تعالى من أصحاب الشجرة أحدٌ": فاعل (يدخل)، "الذين بايعوا تحتها": بيان لأصحاب الشجرة، أو بدل عنها، وهي بيعة الرضوان. * * *

4887 - وقال جابرٌ: كُنَّا يَوْمَ الحُديْبيَة ألفًا وأربعَ مئةٍ، قالَ لنا النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "أنتمْ اليَوْمَ خَيْرُ أَهْلِ الأَرْضِ". "وقال جابر - رضي الله عنه -: كنا يوم الحديبيَة ألفًا وأربع مئة، قال لنا النبي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أنتم اليومَ خيرُ أهل الأرض". * * * 4888 - عن جابرٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَن يَصْعَدُ الثنيَّةَ، ثنيَّةَ المُرَارِ، فإنَّه يُحَطُّ عنهُ ما حُطَّ عن بني إِسرائيلَ"، فكانَ أَوَّلَ مَن صَعِدَها خَيْلُنا، خيلُ بني الخَزْرجَ، ثُمَّ تتَامَّ النَّاسُ، فقالَ رسولُ الله: - صلى الله عليه وسلم - "كلُّكم مَغْفورٌ لهُ إلا صاحبَ الجَمَلِ الأَحْمَرِ"، فأَتينَاهُ فقلنا: تعالَ يَسْتَغْفِرْ لكَ رسولُ الله، قال: "لأَنْ أَجدَ ضالَّتي أَحَبُّ إليَّ مِن أنْ يَسْتَغْفِرَ لي صاحِبُكم". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَنْ يَصْعَد الثنية": وهي الطريق العالي في الجبل؛ "ثنية المِرَار" بدل مما قبلها، أو عطف بيان، والمِرَار - بكسر الميم - رسم موضع بين مكة والمدينة عند الحديبيَة. "فإنه يحط عنه ما حط"؛ أي مثل الذي حط "عن بني إسرائيل": لعل تلك الثنية كان صعودها شاقًا على الناس؛ إما لقربها من العدو، أو لصعوبة طريقها، وهذا غاية المبالغة في حطِّ ذنوب ذلك الصاعد، وإلا فخطيئة المؤمن كيف تكون مثل خطيئتهم العظيمة حين خالفوا أمرَ موسى وعَبَدُوا العجل؟! "فكان أول من صعدها خيلُنا خيل بني الخزرج، ثم تتامَّ الناس"؛ أي تتابع وصَعَدِ كلُّهم الثنية. "فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: كلكم مغفور له إلا صاحب الجمل الأحمر، فأثيناه فقلنا له: تعال يستغفرْ لك رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: لأن أجد ضالَّتي أحبّ إليَّ من أن

يستغفر لي صاحُبكم". * * * مِنَ الحِسَان: 4889 - عن حُذَيْفَةَ - رضي الله عنه -، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أَنَّه قال: "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِن أصحابي: أبي بَكْرٍ وعُمَرَ، واهتَدُوا بهَدْيِ عمَّارٍ، وتَمَسَّكُوا بعَهْدِ ابن أمِّ عبدٍ". وفي روايةٍ: "ما حَدَّثكم ابن مَسْعودٍ فَصَدِّقُوه". "من الحسان": " عن حذيفة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: اقتدوا باللذين من بعدي من أصحابي أبي بكر وعمر، واهتدوا بهدي عمار"؛ أي بسيرته، "وتمسكوا بعهد ابن أم عبد": وهو عبد الله بن مسعود، يريد به: ما يعهده إلى الصحابة ويوصيهم، ومن جملته استخلاف أبي بكر، فإنه أول مَنْ شَهِدَ بصحتها من أجِلَّة الصحابة، واستدل بأنه - صلى الله عليه وسلم - قدَّم الصديق في صلاتنا، فكيف لا نرتضي لدنيانا من ارتضاه - صلى الله عليه وسلم - لديننا، ويتأيد هذا بالمناسبة الواقعة من أول الحديث وآخره، وكذا يتأيد أيضًا بحديث حذيفة الآتي حيث قال: "إن استخلفتُ عليكم فعصيتموه عُذِّبتم، ولكن ما حدَّثكم حذيفةُ فصدِّقوه"، وهو ما أسر النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه من أمر الخلافة في الحديث الذي نحن فيه. "وفي رواية: ما حدثكم ابن مسعود فصدقوه". * * * 4890 - عن عليٍّ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو كُنْتُ مُؤَمِّرًا عن غَيْرِ

مَشورَةٍ لأَمَّرتُ عليهم ابن أمِّ عَبْدٍ". "عن علي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لو كنت مؤمِّرًا": التأمير: جعل الرجل أميرًا على قوم، وفي بعض طرقه: "لو كنتُ مُستخلفًا". "عن غير مشورة لأمَّرت عليهم ابن أم عبد": أراد به: تأميره في جيش بعينه، أو استخلافه في أمر من أموره - صلى الله عليه وسلم - حالَ حياته في أمر خاص؛ لأنه لم يكن قرشيًا، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "الأئمة من قريش". * * * 4891 - عن خَيْثَمةَ بن أبي سَبْرَةَ - رضي الله عنه - قال: أَتَيْتُ المَدينةَ فسألتُ الله أنْ يُيسِّرَ لي جَليسًا صالِحًا، فيسَّرَ لي أبا هُرَيرةَ، فجَلَسْتُ إلَيْهِ فقلتُ. إنِّي سألتُ الله أنْ يُيسِّرَ لي جَليسًا صالحًا فوُفِّقتَ لي، فقالَ: من أينَ أنتَ؟ قلتُ: مِن أَهْلِ الكُوفَةِ، جِئْتُ ألتَمِسُ الخَيرَ وأَطلبُه، فقالَ: أَلَيْسَ فيكُم سَعْدُ بن مالكٍ مُجَابُ الدَّعْوةِ، وابن مَسْعودٍ - رضي الله عنه - صاحِبُ طَهُورِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ونَعْلَيْهِ، وحُذَيْفَةُ صاحِبُ سِرِّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمَّارٌ الذي أَجارَهُ الله تعالى مِن الشَّيطانِ على لسانِ نَبِيهِ - صلى الله عليه وسلم -، وسَلْمانُ صاحِبُ الكتابيْنِ؟ "، يعني: الإِنجيلَ والقُرآنَ. "عن خَيْثَمة" - بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء المثناة من تحت قبل الثاء المثلثة المفتوحة -. "ابن أبي سَبْرة" - بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة -، "قال: أتيت المدينةَ، فسألت الله أن ييسِّرَ لي جليسًا صالحًا، فيسَّرَ لي أبا هريرة، فجلستُ إليه فقلتُ: إني سألتُ الله أن ييسِّر لي جليسًا صالحًا، فوفِّقت لي، فقال: من أين أنت؟ فقلت: مِنْ أهل الكوفة، جئت ألتمسُ الخيرَ وأطلبه، فقال: أليس فيكم سعد بن مالك مجاب الدعوة، وابن مسعود صاحب طَهور رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - ونعليه، وحذيفة صاحب سرِّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وعمار الذي

أجاره الله من الشيطان على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وسَلْمان صاحب الكتابين؛ يعني: الإنجيل والقرآن": فإنه آمنَ بالإنجيل قبل نزول القرآن، ثم بعد نزوله آمن به أيضًا. * * * 4892 - وعن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "نِعْمَ الرَّجُلُ أبو بَكْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ عُمَرُ، نِعْمَ الرَّجُلُ أبو عُبَيْدَةَ بن الجَرَّاحِ، نِعْمَ الرَّجُلُ أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ ثابتُ بن قَيْسِ بن شَمَّاسٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بن جَبَلٍ، نِعْمَ الرَّجُلُ مُعَاذُ بن عَمْرِو بن الجَمُوحِ"، غريب. "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: نِعْمَ الرجلُ أبو بكر، نعم الرجل عمر، نعم الرجل أبو عبيدة بن الجراح، نعم الرجل أَسِيد" - بفتح الهمزة وكسر السين - "بن حُصَيْن" - بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين وسكون الياء -، "نعم الرجل ثابت بن قيس بن شَمَّاس، نعم الرجل معاذ بن جبل، نعم الرجل معاذ بن عمرو بن الجموح". "غريب". * * * 4893 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِنَّ الجَنَّةَ تَشْتَاقُ إلى ثلاثَةٍ: عَلِيٍّ، وعَمَّارٍ، وسَلْمانَ". "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن الجنة لتشتاق إلى ثلاثة: علي وعمار وسلمان": وإنما تشتاق لهؤلاء الثلاثة؛ لأنهم قد شَغَلَهم عنها قربةُ الحق تعالى، والمشاهدة والكشف، والمراقبة والتجليات الإلهية، فلذلك تشتاق إلى دخولهم إياها. * * *

4894 - وعن عَلِيٍّ - رضي الله عنه - قال: استَأْذَنَ عَمَّارٌ على النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذَنُوا له، مَرْحَبًا بالطِّيبِ المُطَيَّبِ". "عن علي - رضي الله عنه - قال: استأذن عمار على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ائذَنوا له، مرحبًا بالطَّيب المُطَيَّب". * * * 4895 - عن عائِشَةَ رضي الله عنها قالت: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا خُيرَ عَمَّارٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ إلَّا اخْتَارَ أَرْشَدَهُمَا". "عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: ما خُير عمار بين أمرين إلا اختار أرشدَهما"؛ أي: أصوبَهَما. * * * 4896 - عن أَنسٍ - رضي الله عنه - قال: لمَّا حُمِلَت جَنازَةُ سَعْدِ بن مُعَاذٍ قال المُنافِقُونَ: ما أَخَفَّ جَنازتَهُ! وذلك لِحُكْمِهِ في بني قُرَيظَةَ، فبلغَ ذلكَ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: إنَّ المَلائِكَةَ كانَتْ تَحْمِلُه. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: لما حُمِلَتْ جنازةُ سعد بن معاذ قال المنافقون: ما أخفَّ جنازته": على صيغة التعجب، يريدون بذلك حقارته وازدراءه. "وذلك لحُكمِه في بني قريظة": وهذا إشارة إلى أن بني قريظة لمَّا نزلوا على حكمه معتمدين على حسن رأيه = حَكَم بأن تقتل المقاتلة، وتُسبى الذرية، فنسبه المنافقون إلى الجَور، وقد شهد له - صلى الله عليه وسلم - بالإصابة في حكمه. "فبلغ ذلك" القول "النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -، فقال: إنَّ الملائكة كانت تحمله": أجاب - صلى الله عليه وسلم - بما يلزم من تلك الخفة تعظيم شأنه، وتفخيم أمره. * * *

4897 - عن عَبْدِ الله بن عَمْرٍو - رضي الله عنه - قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "ما أَظَلَّتْ الخَضْراءُ ولا أقلَّتْ الغَبْراءُ أَصْدَقَ مِن أبي ذَرٍّ". "عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أظلَّت الخضراء"؛ أي: السماء، "ولا أقلَّتِ الغَبراء"؛ أي: ما حملت الأرض، "أصدق من أبي ذر": وهذا على سبيل المبالغة والتأكيد، لا أنه أصدق على الإطلاق إذ (¬1) لم يكن أصدق من الأنبياء، ولا من أبي بكر؛ لأنه صِدِّيق هذه الأمة. * * * 4898 - وعن أبي ذَرٍّ - رضي الله عنه - قال: قالَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَا أظلَّت الخَضْراءُ، ولا أقلَّت الغَبْراءُ مِن ذي لَهْجَةٍ أَصْدَقَ، ولا أَوْفَى مِن أبي ذرٍّ، شِبهِ عيسى بن مريمَ عليه السّلام". "عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أظلَّت الخضراء، ولا أقلَّت الغبراء من ذي لهجة"؛ أي: لسان "أصدق، ولا أوفى من أبي ذر، شبه عيسى بن مريم"؛ أي في الزهد والتقشف، وقد روى بعضهم هذا الحديث فقال: "أبو ذر يمشي في الأرض بزهد عيسى بن مريم". * * * 4899 - عن معاذِ بن جَبَلٍ - رضي الله عنه -: لمَّا حَضَرَهُ المَوْتُ قال: التمِسُوا العِلْمَ عندَ أربعةٍ: عِنْدَ عُوَيمرٍ أبي الدَّرْداءِ، وعِنْدَ سَلْمانَ، وعِنْدَ ابن مَسْعودٍ، وعِنْدَ عَبْدِ الله بن سلامٍ، الذي كانَ يهوديًا فأَسْلَمَ، فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: ¬

_ (¬1) في "ت" و "غ": "إذا"، والصواب ما أثبت.

"إنَّه عاشِرُ عَشْرَة في الجَنَّةِ". "عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - لمَّا حَضَره الموتُ قال: التمسوا العلم عند أربعة: عند عُويمر أبي الدرداء، وعند سَلْمان، وعند ابن مسعود، وعند عبد الله ابن سَلاَم الذي كان يهوديًا فأسلم، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنه"؛ أي: عبد الله بن سلام "عاشر عشرة في الجنة". * * * 4900 - وعن حُذَيفَةَ - رضي الله عنه - قال: قالوا: يا رسولَ الله! لو استَخْلَفْتَ، قال: "إنْ استَخْلَفْتُ عَلَيكُم فعَصَيْتُمُوهُ عُذِّبْتُم، ولكِنْ: ما حَدَّثَكُم حُذَيْفَةُ فَصَدِّقُوه، وما أَقْرَأَكُم عَبْدُ الله فاقرَؤُوه". "عن حذيفة - رضي الله عنه -: قالوا يا رسول الله! لو استخلفت"؛ أي: إن استخلفت شخصًا فمن يكون، أو لَكان حَسَنًا. "قال: إن استخلفت عليكم فعصيتموه عُذِّبتم، ولكن ما حدَّثكم حذيفةُ فصدِّقوه، وما أقركم عبد الله"؛ أي ما أعلمكم عبد الله بن مسعود "فاقرؤوه": هذا من الأسلوب الحكيم؛ لأنه زيادة على الجواب، كأنه قيل: لا يهمكم استخلافي فدعوه، ولكن يهمكم العمل بالكتاب والسنة فتمسكوا بهما، خصَّ حذيفةَ؛ لأنه كان صاحب [سرِّ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومُنْذِرَهم من الفتن الدنيوية، وعبدَ الله بن مسعود فإنه كان منذَرهم من الأمور الأخروية، وحيثما (¬1) أطلق عبد الله أريد: ابن مسعود. * * * ¬

_ (¬1) في "ت" و "غ": "ومهما".

4901 - عن حُذَيْفةَ قال: ما أَحَدٌ مِن النَّاسِ تُدرِكُه الفِتْنَةُ إلا أنا أَخافُها عليهِ إلا مُحَمَّدَ بن مَسْلَمَةَ، فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "لا تَضَرُّكَ الفِتْنَةُ". "عن حذيفة - رضي الله عنه - قال: ما أحدٌ من الناس تدركه الفتنة إلا أنا أخافها عليه إلا محمد بن مسلمة، فإني سمعت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: لا تضرُّك الفتنة". * * * 4902 - وعن عائِشَةَ رضي الله عنها: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - رأَى في بَيتِ الزُّبَيْرِ مِصْباحًا، فقال: "يا عائِشَةُ! ما أُرَى أَسْماءَ إلا قد نُفِسَت، فلا تُسَمُّوه حتى أُسمِّيَهُ"، فسمَّاهُ: عبدَ الله، وحَنَّكَهُ بتَمْرَةٍ بيدِهِ. "عن عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في بيت الزبير مِصْباحًا فقال: يا عائشة! ما أُرى" - بضم الهمزة -؛ أي: ما أظن "أسماء": أخت عائشة - رضي الله عنهما - زوجة الزبير "إلا قد نُفست" - بضم النون وفتحها -؛ أي: ولدت وصارت ذات نفاس. "فلا تسمُّوه حتى أسميه، فسماه عبد الله، وحَنَّكه بتمرة بيده - صلى الله عليه وسلم - ": يقال: حنكت الصبي: إذا مضغت تمرًا أو غيره، ثم دَلَكْته بِحنَكَه، وفيهه دليل على أن شريف قوم إذا ولد لواحد ولد يطلب منه أن يسمي ذلك الولد ويحنكه بتمرة أو غيره من الحلو تبركًا. * * * 4903 - عن عَبْدِ الرَّحمنِ بن أَبي عُمِيرةَ، عن النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: أنَّه قالَ لِمُعاوِيةَ - رضي الله عنه -: "اللهمَّ! اجعَلْهُ هادِيًا مَهْدِيًا، وَاهْدِ بِهِ".

"عن عبد الرحمن بن أبي عَمِيرة" - بفتح العين وكسر الميم -، "عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال لمعاوية: اللهم اجعله هاديًا مهديًا، واهْدِ به". * * * 4904 - وعن عُقْبَةَ بن عامر - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَسْلَمَ النَّاسُ، وآمَنَ عَمْرُو بن العاصِ"، غريب. "عن عقبة بن عامر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أسلم الناس"، أُريد به: مَنْ أسلم من أهل مكة عامَ الفتح رهبة تحت السيف، وعند استيلاء المؤمنين على دياره وأهله، ذكَرَ العام وأراد به الخاص. "وآمن عمرو بن العاص": فإنه هاجر قبل ذلك إلى المدينة بسنة، وقيل: بسنتين رغبةً في الإسلام. والحديث يدل على أن الإسلام غير الإيمان، وفيه تنبيه على أنهم أسلموا رهبة، وآمن عمرو رغبة، فإن الإسلام يحتمل أن يشوبه كراهية دون الإيمان فإنه إنما يكون رغبة وطواعية، وإنما خصصه بالإيمان رغبة؛ لأنه وقع إسلامه في قلبه في الحبشة حين اعترف النجاشي بنبوته - صلى الله عليه وسلم - فأقبل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤمنًا من غير أن يدعوَه أحدٌ إليه، فجاء إلى المدينة صاعيا، فآمن فأمَّرَه النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحال على جماعة فيهم الصديق والفاروق، وذلك لأنه كان مبالغًا قبل إسلامه في عداوة النبي - صلى الله عليه وسلم - وإهلاك أصحابه، فلما آمن أراد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - أن يُزيل من قلبه أثرَ تلك الوحشة المتقدمة حتى يأمَنَ من جهته ولا ييأس من رحمة الله تعالى. "غريب". * * *

4905 - قالَ جابرٌ - رضي الله عنه -: لقِيَني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقالَ: "يا جابرُ! مالي أَراكَ مُنْكَسِرًا؟ " قلتُ: استُشْهِدَ أبي وتركَ عِيَالًا وَدَيْنًا، قال: "أفلاَ أُبشِّرُكَ بما لقيَ الله بهِ أباكَ؟ " قال: قلتُ: بلى يا رسولَ الله! قال: "ما كَلَّمَ الله أَحَدًا قَطُّ إِلا مِن وَراءِ حِجَابٍ، وأَحْيَا أباكَ فكلَّمَه كفَاحًا، فقالَ: يا عبدي! تَمَنَّ عليَّ أُعْطِكَ، قالَ: يا رَبِّ! تُحْييني، فأُقتَلَ فيكَ ثانيةً، قالَ الرَّبُّ تعالى: إِنَّه قد سَبَقَ منِّي: أَنَّهم لا يُرْجَعونَ"، فنزلَتْ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} الآية. "قال جابر - رضي الله عنه -: لقِيني رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا جابر! ما لي أراك مُنْكسرًا؟ قلتُ: استُشْهِد أبي وترك عيالًا ودَينًا، قال: أفلا أبشرك بما لقي الله تعالى به أباك": وهذا من الأسلوب الحكيم؛ أي: لا تهتم بشأن أمر دنياه، فإن الله تعالى يقضي عنه دَينه ببركة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن أبشرك بما هو فيه من القرب عند الله تعالى، وما لقيه به من الكرامة. "قلت: بلى يا رسول الله، قال: ما كَلَّم الله تعالى أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلَّمه كفاحًا" - بكسر الكاف -؛ أي: مواجهة بلا واسطة غير، ولا حجاب، وإحياءُ أبيه هو بجعل روحه في جوف طير أخضر، وإحياؤه تعالى ذلك الطيرَ بروح أبيه الشهيد، وإلا فالشهداء أحياء عند ربهم يُرزقون، أو لم يكن لروحه قوة مشاهدة الحق كِفاحًا، فوهبه الله تعالى تلك القوة وزيادة حياة إلى حياته. "قال: يا عبدي! تمنَّ عليٍّ أعطك، قال: يا ربِّ! تحييني فأقتل فيك ثانية، قال الربُّ تعالى: إنه قد سبق مني أنهم لا يرجعون، فنزلت: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] الآية". * * *

4906 - وقالَ جابرٌ - رضي الله عنه -: استَغْفَرَ لي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خَمْسًا وعِشْرينَ مَرَّةً. "قال جابر - رضي الله عنه - استغفَرَ لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - خمسًا وعشرين مرة". * * * 4907 - عن أَنسٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كَمْ مِنْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ، لا يُؤْبَهُ لهُ، لو أَقْسَمَ عَلى الله لأَبَرَّه، مِنْهم البَرَاءُ بن مالكٍ" - رضي الله عنه -. "عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: كَمْ مِنَ أشعثَ"، (كم) هذه خبرية مبتدأ، و (من) مبين لها، وخبره (لا يؤبه)، والأشعث: متفرق شعر الرأس. "أغبر": أي ذو غبار، "ذي طِمرين" - بكسر الطاء المهملة وسكون الميم - الطمر: الثوب الخَلِق. "لا يؤيه له"؛ أي لا يُبالى له، ولا يُلتفت إليه لحقارته، ومع ذلك ذو فضل وافر من الدِّين والخضوع لربه تعالى. "لو أقسم على الله"؛ بأن يقول: يارب بحقِّك فافعل كذا، "لأبَّره"؛ أي: لأمضاه على الصدق، "منهم البراء بن مالك". * * * 4908 - عن أبي سعيدٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "ألا إنَّ عَيْبَتي التي آوي إليها أهلُ بَيْتي، وإنَّ كرِشي الأَنْصارُ، فاعفُوا عن مُسِيئهم واقبَلُوا مِن مُحْسِنِهم"، صحيح. "عن أبي سعيد - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألا إنَّ عَيبتي التي آوي"؛ أي: أميل وأرجع "إليها أهل بيتي، وإن كَرشي الأنصار، فاعفوا عن مُسيئهم، واقبلوا من محسنهم": مرَّ تقريره. "صحيح". * * *

4909 - عن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يُبغِضُ الأَنْصارَ أَحَدٌ يُؤْمِنُ بالله واليومِ الآخِرِ"، صحيح. "عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: لا يُبْغِض الأنصار أحدٌ يؤمن باله واليوم الآخر". * * * 4910 - عن أَنسٍ - رضي الله عنه -، عن أبي طَلْحَةَ - رضي الله عنه - قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "أَقْرِئ قومَكَ السَّلامَ، فإنَّهم ما عَلِمْتُ أَعِفَّةٌ صُبُرٌ". "عن أنس - رضي الله عنه -، عن أبي طلحة قال: قال لي رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: أقرِأْ قومَك السلامَ، فإنهم ما علمت"، أي: مدةَ علمي بحالهم "أعفة": جمع عفيف، أو ما علمت فيهم من الصفات أنهم أعفة، "صُبُرْ" - بضم الصاد والباء - جمع صَبور، يريد: أنهم يتعففون عن السؤال، ويتحملون الصبر عند الفاقَة والقتال. * * * 4911 - عن جابرٍ - رضي الله عنه -: أن عَبْدًا لحاطِبٍ جاءَ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَشْكُو حاطِبًا، فقالَ: يا رَسِولَ الله! لَيَدْخُلَنَّ حاطِبٌ النارَ، فقالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "كذَبْتَ، لا يَدْخُلُها، فإنَّه شَهِدَ بَدْرًا والحُديْبيَة". "عن جابر - رضي الله عنه -: أن عبدًا لحاطب جاء رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يشكو حاطبًا، فقال: يا رسول الله! ليدخلنَّ حاطب النار، قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: كذبتَ لا يدخلُها، فإنَّه شَهِدَ بدرًا والحديبيَة". * * * 4912 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أَنَّ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تَلاَ هذه الآيةُ: {وَإِنْ

تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} قالوا: يا رسولَ الله! مَن هؤلاءِ الذينَ إنْ تولَّيْنا استُبدِلُوا بنا ثُمَّ لا يكونُوا أمثالَنا؟ فَضَرَبَ على فَخِذِ سَلْمانَ الفارِسيِّ ثُمَّ قال: "هذا وقَوْمُهُ، ولو كانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّريَّا لَتَنَاوَلَه رِجالٌ مِن الفُرْسِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - تلا هذه الآية {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38]: الخطاب فيه لصناديد قريش؛ أي: إنْ تتولوا عن محمد استبدلَ الله قومًا غيركم، بل خيرًا منكم. "قالوا: يا رسول الله! من هؤلاء الذين إنْ تولَّينا استُبدِلوا بنا، ثم لا يكونوا أمثالنا؟ فضرب على فخذ سَلْمان الفارسي، ثم قال: هذا وقومه، لو كان الدِّين عند الثُّريا لتناوله رجالٌ من الفرس". * * * 4913 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه - قالَ: ذُكِرَت الأَعاجِمُ عِنْدَ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "لأَنَا بهم أو ببَعْضهم أَوْثَقُ مِنِّي بكُم أو ببَعْضكُم". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: ذكرت الأعاجم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: لأنا بهم": اللام فيه للابتداء، "أو ببعضهم": عطف على (بهم)، "أوثق": خبر المبتدأ، "مني بكم"، والباء فيه مفعول فعل مقدَّر يدل عليه (أوثق)، "أو ببعضكم": عطف عليه، المعنى: وثوقي واعتمادي بهم أو ببعضهم أكثرُ من وثوقي واعتمادي بكم أو ببعضكم، قيل: فيه تفضيل الأعاجم. * * *

13 - باب ذكر اليمن والشام، وذكر أويس القرني - رضي الله عنه -

13 - باب ذِكْرِ اليَمَنِ وَالشَّامِ، وَذِكْرِ أُوَيْسِ القَرَنِيِّ - رضي الله عنه - (باب ذكر اليمن والشام، وذكر أويس) مِنَ الصِّحَاحِ: 4914 - عن عُمَرَ بن الخَطَّابِ - رضي الله عنه -: أَن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ رَجُلًا يأتيكُم مِن اليَمَنِ يُقالُ لهُ: أَوَيْسٌ، لا يَدَعُ باليَمَنِ غيرَ أمٍّ له، قد كانَ بهِ بياضٌ فدَعَا الله، فأَذهَبَهُ إلا مَوْضعَ الدِّينارِ أو الدِّرْهَمِ، فمَن لقيَهُ مِنْكم فَلْيَسْتَغْفِرْ لكم". "من الصحاح": " عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إن رجلًا يأتيكم من اليمن يقال له أُويس، لا يَدَعُ"؛ أي: لا يترك شيئًا "باليمن غير أمٍّ له، قد كان به"؛ أي: بأويس "بياض"؛ أي: بَرَصٌ، يقال للبرص بياض لبياضه. "فدعا الله تعالى فأذهبه إلا موضع الدينار أو الدرهم، فمن لَقِيه منكم فليستغفِرْ لكم": أمرُهُ - صلى الله عليه وسلم - الصحابةَ باستغفار أويس لهم، وإن كان الصحابيُّ أفضلَ من التابعي بلا خلاف، يدل على أن الفاضل يُستحب له أن يطلب الدعاء من المفضول، أو قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطييبًا لقلبه؛ لأنه كان يمكنه الوصول إلى حضرته - صلى الله عليه وسلم -، لكنه منعه بِرُّه بأمه عن ذلك الوصول، فأمرهم - صلى الله عليه وسلم - به؛ ليندفع توهم أنه مسيء في التخلُّف. * * * 4915 - وعَنْهُ قَالَ: سَمِعتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: "إنَّ خَيرَ التَّابعينَ رَجُلٌ يُقالُ له: أُوَيْسٌ، ولهُ والدةٌ، وكَانَ بهِ بَيَاضٌ، فمُروه فَلْيَسْتَغْفِرْ لَكُم".

"وعنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إن خير التابعين رجل يقال له أويس وله والدة، وكان به بياض، فَمُرُوه فليستغفر لكم": والحديث يدل على أن خير التابعين أويس، وما روي عن أحمد بن حنبل وغيره من أن خير التابعين سعيد بن المسيب فمعناه: أنه أفضل في العلوم الشرعية، لا في كونه أكثر ثوابًا عند الله تعالى. * * * 4916 - وعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -: "أتاكُم أَهْلُ اليَمَنِ، هُمْ أَرَقُّ أَفئِدَةً وألينُ قُلُوبًا، الإيْمَانُ يَمَانٍ، والحِكْمَةُ يَمَانيَّةٌ، والفَخْرُ والخُيَلاءُ في أَصْحَابِ الإِبلِ، والسَّكِيْنَةُ والوَقَارُ في أَهْلِ الغَنَمِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أتاكم أهلُ اليمن هم أرقُّ أفئدةً، وألينُ قلوبًا": قيل: هما متقاربا المعنى، كرَّرهما باختلاف اللفظين تأكيدًا، وأراد بلين القلوب: سرعة خُلوص الإيمان إليها، وقد يقال: إن الفؤاد فَمُ المعدة. وقيل: الفؤاد غِشاء القلب، فإذا رقَّ الغشاء أسرع نفوذ القول إلى ما وراءه، وإذ لان جوهرُ القلب أثَّر الوعظ فيه تأثيرًا بليغًا، وأهل اللغة يعُدُّون القلب والفؤاد شيئًا واحدًا، وكلام الرسول - صلى الله عليه وسلم - يُنبئ بالتفرقة بينهما، فقيل: لعله أراد بالأفئدة ما يظهر للأبصار، وبالقلوب ما يظهر للبصائر، وعن بعض مشايخ الصوفية: أن الفؤاد وهو القلب بغلافه، وعلى هذا فيحتمل أنه أشار - صلى الله عليه وسلم - بالرقة إليه، وباللين إلى القلب. "الإيمان يمان"؛ أي يَمني، الألف فيه عوض من ياء النسبة، ومعنى نسبته إلى اليمن: أن الإيمان بدأ من مكة وهي من تهامة، وتهامة من أرض اليمن.

قيل: المراد بذلك الأنصار؛ لأنهم يَمانُون في الأصل، فنسب الإيمان إليهم لكونهم أنصاره، وقيل: المراد أهل اليمن، ينسب الإيمان إليهم إشعارًا بكماله فيهم، والمراد بذلك: الموجودون منهم في ذلك الزمان لا كل أهل اليمن في كل الأحيان. "والحكمة": وهي عبارة عن العلم والعمل به، وقيل: الإصابة في القول من غير نبوة، "يمانية" - بتخفيف الياء والألف فيه عوض أيضًا -، "والفخر"؛ أي: المفاخرة والمباهات والمنافسة في الأشياء الخارجة عن نفس الإنسان كالمال والجاه، "والخيلاء"؛ أي: التكبر المانع عن قبول الإيمان، "في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار" - كلاهما بمعنى - "في أصحاب الغنم"، قيل: الراعي خُلُقُه على قَدْر ما يرعاه، فالغنم راعيه يكون ألين القلب؛ لسهولة طبيعة الغنم، ورعاة الإبل تقسُو قلوبهم لقساوة طبيعة الإبل. وقيل: لابد لأصحاب الغنم من مقاربة العمرانات والاختلاط بأهلها، فإن الغنم لا تصبر عن الماء والعلف، ولا تتحمل البرد، فوقارهم يؤدي إلى أنهم لا يخرجون عن الطاعة للإمام. وأما أصحاب الإبل فإن بعدهم عن العمرانات، والتجائهم بالبوادي والصحاري، وقلة اختلاطهم بالخلق يحملهم على الطغيان ونزع اليد عن الطاعة. * * * 4917 - وعَنْة قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "رأسُ الكُفرِ نَحْوَ المَشْرقِ، والفَخْرُ والخُيَلاءُ في أَهلِ الخَيلِ والإِبلِ والفَدَّادينَ أَهلِ الوَبَرِ، والسَّكيْنَةُ في أَهْلِ الغَنَمِ".

"وعنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: رأس الكفر نحو المشرق"؛ يعني: منه يظهر الكفر والفتن؛ كالدجال ويأجوج ومأجوج وغيرهم. "والفخر والخيلاء في أصحاب الخيل والإبل والفَدَادين" - بالتخفيف - جمع فَدَّان - بالتشديد -، وهي البقرة التي يحرث بها، وأهلها هم أهل جَفَاء؛ لبعدهم من الأمصار، والأكثرون على أنها مشدَّدة. قال الأصمعي: فَدَّ الرجل يَفِدُّ فديدًا: إذا اشتد صوته؛ يعني: هم الذين تعلو أصواتهم في حروثهم ومواشيهم. وقال أبو عبيدة: الفدادون المتكثرون (¬1) من الإبل، فيملك أحدهم المئة إلى ألف، وهم جفاة أهل خيلاء. "أهل الوَبر" - بفتح الواو والباء الموحدة -: سكان البوادي وهو بيان للفدادين، "والسكينة في أهل الغنم". * * * 4918 - عَنْ أبي مَسْعودٍ الأنصاريِّ - رضي الله عنه -، عَنِ النَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: "مِن هَاهُنَا جَاءَتِ الفِتَنُ، نَحْوَ المَشْرقِ، والجَفَاءُ وغِلَظُ القُلُوبِ في الفَدَّادينَ أَهلِ الوَبَرِ، عندَ أُصْولِ أَذْنَابِ الإِبلِ والبَقَرِ، في رَبيَعَةَ ومُضَرَ". "عن أبي مسعود الأنصاري - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من هاهنا جاءت الفتن نحو المشرق، والجفاء وغلظ القلوب في الفدادين أهل الوبر عند أصول أذناب الإبل والبقر"؛ يعني: رعاة الإبل والبقر يمشون خلفها للرعي، وقيل: المراد بهم الأَكَّارون يمشون خلفها لإثارة الأرض. ¬

_ (¬1) في "غ": "المكثرون".

"في ربيعة ومضر": متعلق بـ (الفدادين)، أو بدل منه، أو خبر بعد خبر لقوله: (والجفاء). * * * 4919 - عَنْ جَابرٍ - رضي الله عنه - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "غِلَظُ القلوبِ والجفاءُ في المَشْرقِ، والإيمانُ في أَهْلِ الحِجَازِ". "عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: غِلَظ القلوب والجفاء في المشرق، والإيمان في أهل الحجاز": أراد به الأنصار. * * * 4920 - عَنَ ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قَالَ: قَالَ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "اللهمَّ! بارِكْ لَنا في شَامِنَا، اللهمَّ! وفي يَمَنِنَا"، قَالُوا: يا رسولَ الله! وفي نَجْدِنا؛ قَالَ: "اللهمَّ! بَارِكْ لَنَا في شَامِنَا، اللهمَّ! بَارِكْ لَنَا في يَمَنِنَا"، قَالُوا: وفي نَجْدِنَا؛ فأظنُّه قَالَ في الثَّالثةِ: "هُنَاكَ الزَّلازلُ والفِتَنُ، وبها يَطْلُعُ قَرْنُ الشَّيطَانِ". "عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا": وإنما بارك - صلى الله عليه وسلم - في الشام واليمن؛ لأن مولده في إحداهما، ومدفنه في الآخر. "قالوا: يا رسول الله! وفي نجدنا؟ ": وهو من بلاد العرب خلاف الغَور. "قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا، يا رسول الله! وفي نجدنا؟، قال: "؛ أي الراوي: "فأظنه"؛ أي: أظن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "في الثالثة قال: هناك"؛ أي: في النجد "الزلازل والفتن، وبها"؛ أي: بالنجد "يطلُع"؛ أي: يظهر "قرن الشيطان". * * *

مِنَ الحِسَان: 4921 - عن أَنَسٍ - رضي الله عنه -، عن زيدِ بن ثابتٍ - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - نظرَ قِبَلَ اليَمَنِ فقال: "اللهمَّ! أَقبلْ بقُلوبهم، وبارِكْ لنا في صاعِنَا ومُدِّنا". "عن أنس، عن زيد بن ثابت - رضي الله عنهم -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نظر قبل اليمن"؛ أي: جانبه، "فقال: اللهم أَقْبلْ بقلوبهم"؛ أي: اجعل قلوبهم مُقبلة إلينا، "وبارك لنا في صاعنا ومُدِّنا": أراد بالصاع والمد: الطعام المُكال بهما؛ إطلاقًا للظرف وإرادة للمظروف، أو على حذف المضاف؛ أي: طعام صاعنا ومدنا، أو فيما في صاعنا ومدنا. وجه مناسبة ذكرهما: أن أهل المدينة ما زالوا في ضيق عيش، وقلة زاد، لا تقوم أقواتهم بحاجتهم، فلما دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - بإقبال قلوب أهل اليمن إلى دار الهجرة وهم جَمٌّ غفير، دعا الله عقيبه بالبركة في طعام أهل المدينة، ليتسع على القاطنين بها والقادمين عليها، فلا يَسْأم المقيم من القادم، ولا تشق الإقامة على المهاجر إليها. وقيل: إنما دعا - صلى الله عليه وسلم - بالبركة في الطعام بعد الدعاء بإقبال قلوب أهل اليمن إلى مكة؛ لأن طعام أهلها كان يأتيهم من اليمن، ولهذا عَقَّبه ببركة الصاع والمد للطعام المجلوب إليهم منهم، فقد استجاب الله دعاءه إلى الآن؛ لأن أكثر أقواتهم من هناك. قيل: فيه نظر؛ لأنه إنما يستقيم أَنْ لو صَدَر هذا القول منه وهو بمكة، والظاهر خلافه. * * *

4922 - عن زَيدِ بن ثابتٍ - رضي الله عنه - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "طُوبَى للشَّامِ"، قُلْنا: لأيٍّ ذلكَ يا رسولَ الله؟ قالَ: "لأنَّ ملائِكَةَ الرَّحْمنِ باسِطَةٌ أَجْنِحَتَها عَلَيها". "عن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: طوبى للشام": مصدر مِنْ طاب، كبُشرى وزُلْفى، وأصله طيبي قلبت الياء واوًا لانضمام ما قبلها، ومعنى طوبى لك: أصبت خيرًا وطيبًا. "قلنا: لأي شيء ذلك يا رسول الله؟ قال: لأن ملائكة الرحمن باسطة أجنحتها عليها". * * * 4923 - عن عبدِ الله بن عُمَرَ - رضي الله عنهما - قال: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "ستَخْرُجُ نارٌ من نَحْوِ حَضْرَمَوْتَ - أو: مِن حَضْرَمَوْتَ - تَحْشُرُ النَّاسَ"، قُلْنا: يا رسولَ الله! فما تَأْمُرُنا؟ قال: "عليكم بالشامِ". "عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ستخرج نار من نحو حضرموت، أو من حضرموت": شك من الراوي في أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر كلمة (نحو) أم لا. "تحشر الناس": والنار الخارجة عنه إما حقيقة النار، أو فتنة عبَّر عنها بها. "قلنا يا رسول الله! ما تأمرنا؟ "؛ أي في ذلك الوقت، "قال: عليكم بالشام"، وهذا يدل على أن ذلك يكون قبل قيام الساعة. * * *

4924 - عن عبدِ الله بن عَمْرِو بن العاصِ - رضي الله عنه - قالَ سَمِعْتُ رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنها ستَكونُ هِجْرَةٌ بعدَ هجرةٍ، فخِيَار النَّاسِ هِجْرَةً إلى مُهَاجَرِ إبراهيمَ عليهِ السَّلامُ". وفي روايةٍ: "فخِيارُ أَهْلِ الأَرْضِ ألزمُهم مُهَاجَرَ إبراهيمَ، ويَبقَى في الأَرْضِ شِرارُ أَهْلِها، تَلْفِظُهم أَرَضُوهم، تَقْذَرُهم نَفْسُ الله، تَحْشُرُهم النَّارُ معَ القِرَدةِ والخنازيرِ، تَبيتُ معَهم إذا باتُوا، وتَقِيلُ معَهم إذا قَالُوا". "عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إنها" الضمير للقصة، "ستكون هجرة بعد هجرة": ستكون هجرة إلى الشام بعد هجرة كانت إلى المدينة، وذلك حين تكثرُ الفتن ويَقِلُّ القائمون بأمر الله تبارك وتعالى في البلاد، ويستولي الكفرة والظلمة على بلاد الإسلام، ويبقى الشام محفوظًا، فالمهاجر إليه فارٌّ لإصلاح آخرته. "فخيار الناس هجرة": فيه مضاف مقدَّر؛ أي: هجرة خيار الناس، أو المعنى: خيار الناس المهاجر. "إلى مهاجر إبراهيم" - بفتح الجيم - موضع المهاجرة؛ يريد به الشام، لأن إبراهيم عليه السلام لما هاجر (¬1) من العراق مضى إلى الشام وأقام بها. "وفي رواية: فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجرًا إبراهيم": نصب ظرفا عامله أفعل التفضيل وهو (ألزمهم) في الظاهر بلا شرط اشترطه النحاة. "ويبقى في الأرض شرارُ أهلها تَلْفُظهم": أي تقذفهم "أرضوهم": من ¬

_ (¬1) في "غ": "خرج".

أرض إلى أرض لاستنكافها عنهم. "تَقْذُرهم نفس الله"؛ أي: ذاته، يعني: تكرههم. "تحشرهم النار": أي نار الفتنة التي هي نتيجة أفعالهم القبيحة، "مع القِردة والخنازير": لتخلُّقهم بأخلاقها في استيلاء المكر عليهم والشهوات الحيوانية على نفوسهم. "تبيت معهم إذا باتوا": البيتوتة: هو النوم بالليل، "وتقيل معهم إذا قالوا": القيلولة: هي النوم بالنهار؛ يعني: تلازمهم ولا تفارقهم ليلًا، ولا نهارًا. * * * 4925 - عن ابن حَوَالة قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "سَيصيرُ الأَمْرُ أنْ تكونُوا جُنُودًا مُجَنَّدَةً، جُنْدٌ بالشَّامِ، وجُنْدٌ باليَمَنِ، وجُنْدٌ بالعِراقِ"، فقالَ ابن حَوَالة: خِرْ لي يا رسولَ الله! إنْ أَدْركتُ ذلكَ، قال: "عليكَ بالشَّامِ، فإنَّها خِيَرَةُ الله مِن أَرْضهِ، يَجْتبي إليها خِيَرَتُه مِن عبادِه، فأَمَّا إنْ أبَيْتُم فَعَلَيكم بيَمَنِكُم، واسقُوا مِن غُدُرِكم، فإنَّ الله عز وجل تَوَكَّلَ لي بالشَّامِ وأهلِهِ". "عن ابن أبي حَوالة" - بفتح الحاء المهملة -، "قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: سيصير الأمر أن تكونوا جنودًا" - جمع جند - "مجندة"؛ أي مجموعة. "جند بالشام، وجند باليمن، وجند بالعراق": يعني ستصيرون فِرقًا ثلاثًا؛ فرقة منكم تقصِد إلى الشام، وفرقة أخرى إلى اليمن، والثالثة تقصد إلى العراق.

"فقال ابن حوالة: خِرْ لي يا رسول الله"، أي: اطلب لي الخيرة "إن أدركت ذلك" الزمان. "قال: عليك بالشام، فإنها"؛ أي الشام "خيرة الله تعالى"، أي مُختار الله تعالى "من أرضه، يجتبي": أي يجتمع "إليها خيرته من عباده، فأما إنْ أبيتم"؛ أي: إن امتنعتم من القصد إلى الشام، "فعليكم بيمنكم"، أي: الزموا يمنكم! إضافة اليمن إليهم؛ لأن المخاطبين عربٌّ، واليمن من أرضهم، وهذا وقع معترضًا بين قوله: (عليكم بالشام) وبين قوله: "واسْقُوا من غُدَركم": لأنه راجع إلى قوله: عليكم بالشام، والغُدُر - بالغين المعجمة والدال المهملة المضمومتين - جمع الغدير، وهو حفرة يقف فيها الماء، والمعنى: ليسْقِ كلُّ واحد من غديره الذي اختص به، فلا يزاحم غيرَه، لاسيما أهل الثغور والنازلون في المروج من شأنهم أن يتخذ كل رفقة منهم غديرًا لنفسهم للشرب والتطهر، وسقي الدواب، فوصَّاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسقي، وأخذ الماء مما يختص بهم ويترك المزاحمة والتغلب؛ لئلا يكون ذلك سببًا للاختلاف وتهييج الفتن. "فإن الله تعالى قد توكَّل لي بالشام وأهله"؛ أي: تكفل لي أمان أهلها من شر الجنود، وضَمِن حفظهم، وفوَّض أمرهم إلى نفسه. قيل: وقع في نسخ "المصابيح": توكل، والصواب: "تكفَّل"، معناه: ضمن حفظها وحفظ أهلها القائمين بأمر الله تبارك وتعالى. * * *

14 - باب ثواب هذه الأمة

14 - باب ثوَابِ هذِهِ الأُمَّةِ (باب ثواب هذه الأمة) مِنَ الصِّحَاحِ: 4926 - عن ابن عُمَرَ - رضي الله عنهما -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّما أَجَلُكم في أَجَلِ مَن خَلَا مِن الأُمَم ما بينَ صلاةِ العَصْرِ إلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وإنَّما مَثَلُكم ومَثَلُ اليَهودِ والنَّصارَى كرَجُلٍ استَعْمَلَ عُمَّالًا، فقالَ: مَن يَعملُ لي إلى نِصْفِ النَّهارِ على قِيراطٍ قيراطٍ، فعَمِلَتِ اليهودُ إلى نِصْفِ النَّهارِ على قيراطٍ قيراطٍ، ثُمَّ قال: مَن يَعمَلُ لي مِن نِصفِ النَّهارِ إلى صلاةِ العَصْرِ على قيراطٍ قيراطٍ؟ فعَمِلَتِ النَّصارَى مِن نِصْفِ النَّهارِ إلى صلاةِ العَصْرِ على قيراطٍ قيراطٍ؟ ثُمَّ قال: مَن يَعْمَلُ لي مِن صَلاةِ العَصْرِ إلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ على قيراطَينِ قيراطَينِ؟ أَلاَ! فأنتُم الذينَ تعملون مِن صلاةِ العَصْرِ إلى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، أَلاَ لكُم الأَجْرُ مرتينِ، فغضبَتِ اليَهودُ والنَّصارَى، فقالوا: نحنُ أكثرُ عَمَلًا وأقلُّ عطاءً؟ قالَ الله تعالى: وهل ظَلَمْتُكم مِن حقِّكم شيئًا؟ قالوا: لا، قال: فإنَّه فَضْلي أُعطِيهِ مَن شئتُ". "من الصحاح": " عن ابن عمر: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أجلكم في أجلِ مَنْ خلى"؛ أي مضى "من الأمم": المراد بالأجل: جملة العمر؛ يعني: نسبة عمر هذه الأمة في جنب أعمار الأمم الماضية "ما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس"؛ أي كنسبة ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس مِنْ باقي النهار، ومع ذلك تكون هذه الأمة أكثر ثوابا من سائر الأمم الماضية. "وإنما مثلكم ومثل اليهود والنصارى كرجلٍ استعمل عُمَّالًا - جمع عامل -،

"فقال: من يعمل لي إلى نصف النهار على قيراط قيراط": تكرار (القيراط) ليدل على أن الأجرة لكل واحد منهم قيراط. "فعملت اليهودُ إلى نصف النهار على قيراط قيراط، ثم قال: مَن يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، فعملتِ النَّصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط قيراط، ثم قال: مَنْ يعمل لي من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين قيراطين، ألا" حرف تنبيه، "فأنتم الذين تعملون"؛ أي: مثل الذين يعملون "من صلاة العصر إلى مغرب الشمس، ألا لكم الأجر مرتين"؛ لأن هذه الأمة صدَّقوا نبيَّهم والأنبياءَ الماضين أيضًا. "فغضبت اليهود والنصارى، فقالوا: نحن أكثر عملًا وأقلُّ عطاء"؛ يعني: قالوا: ربنا أعطيت لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ثوابًا كثيرًا مع قلة أعمالهم، وأعطيتنا ثوابًا قليلًا مع كثرة أعمالنا. قيل: هذا تخييل وتصوير، لا أن ثمة مقاولةً حقيقة، اللهم إلا أن يحمل ذلك على حصولها عند إخراج الذَّراري من صُلْب آدم - عليه السلام - فيكون حقيقة. "قال الله تبارك وتعالى: وهل ظلمتكم"؛ أي: نَقَصْتُكم "من حقكم شيئًا، قالوا: لا، فقال الله: فإنه" الضمير للشأن، أو العطاء الكثير المدلول عليه بالسياق، أو للأجر مرتين، أي: مثلي ما لليهود والنصارى. "فضلي أعطيه مَن شئت"، وفيه دلالة على أن الثواب على الأعمال ليس من جهة الاستحقاق؛ لأن العبد لا يستحق على مولاه بخدمته أُجرةً، بل من جهة الفضل، ولله أن يتفضل على من يشاء بما يشاء. * * *

4927 - عن أبي هُريرَةَ - رضي الله عنه -: أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "مِن أَشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا ناسٌ يكونونَ بَعْدي يَوَدُّ أَحَدُهم لو رآني بأَهْلِهِ ومالِهِ". "عن أبي هريرة - رضي الله عنه -، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مِنْ أشدِّ أمتي لي حُبًا ناسٌ يكونون بعدي، يَوَدُّ"، أي: يتمنَّي "أحدُهم لو رآني بأهله وماله"، الباء للتفدية، أي: يتمنَّى أن يكون مفديًا بأهله وماله لو اتفق رؤيتهم إياي ووصولهم إلي. * * * 4928 - عن أنسٍ - رضي الله عنه -: أن النَّبيَّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ مِن عبادِ الله مَن لو أَقْسَمْ على الله لأبَرَّه". "عن أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّ من عباد الله مَنْ لو أقسم على الله لأبرَّه". * * * 4929 - وقالَ: "لا يَزَالُ مِن أُمَّتي أُمَّةٌ قائِمَةٌ بأمْرِ الله، لا يَضُرُّهم مَن خَذَلَهم ولا مَن خَالفَهم، حتَّى يأتيَ أمرُ الله وهُم على ذلكَ". "وقال: لا يزال من أمتي أمة قائمة"؛ أي: متمسكة "بأمر الله تعالى"؛ أي: بدينه، وهم قوم آمنوا بموسى وعيسى ومحمد عليهم السلام أجمعين؛ كقوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ} [آل عمران: 113]؛ أي: متمسكة بدينها، "لا يضرهم"، أي: كل الضرر "مَنْ خذلهم، ولا مَنْ خالفهم حتى يأتي أمرُ الله"؛ يعني: يوم القيامة، "وهم على ذلك"، حملَ بعضُهم هذا الحديث على القيام بتعلم العلم، وحفظ الحديث لإقامة الدين. قال أحمد بن حنبل رحمه الله: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة أصحابَ

الحديث، فلا أدري مَنْ هم؟! وقيل: هم جند الله في الشام؛ إذ جاء في بعض طرق هذا الحديث: "وهم بالشام"، وفي بعضها: "حتى يقاتلَ آخرُهم المسيحَ الدَّجَّالَ". * * * مِنَ الحِسَان: 4931 - عن أنسٍ - رضي الله عنه - قالَ: قالَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ أُمَّتي مَثَلُ المَطَرِ، لا يُدْرَى أَوَّلُه خَيْرٌ أَم آخِرُهُ". "من الحسان": " عن أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مَثَلُ أمتي مَثَلُ المطر، لا يُدرى أوَّله خيرٌ أم آخِرُه"، شبَّه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفعهم في الدين بنفع المطر في الزرع، وليس معناه التردد في فضل القرن الأول على الآخر، فإن القرن الأول هم المفضَّلون على سائر القرون بلا خلاف، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وبيان شبههم بالمطر: أن المطر ينبت الزرع في الأول، ويُنميه في الثاني، ولا يُدرى أن نفعه في الأول أكثر أم في الثاني، وكذا القرن الأول مَهَّدوا قواعد الشريعة وأساسها، - والقرن الثاني حفظوها وعَمَرُوها وعملوا بمضمونها إلى قيام الساعة، فلا يُدرى - أيضا - أنَّ نفع القرن الأول في تمهيد أصل الشريعة أكثرُ أم نفع القرن الثاني في حفظها، والعمل بها، بل النفع موجود في كليهما من حيث إن أصل النفع في القرنين مشترك وهو دوام توفيقهما للعمل بمقتضى الشرع، بخلاف الأمم السالفة؛ فإن آخرهم بدَّلوا ما كان أوَّلهُم عليه، وحرَّفوه، فَفَضْلُ أمتهِ - صلى الله عليه وسلم - ثابتٌ على سائر الأمم، وفضيلة القرن الأول من هذه الأمة لا بكثرة العمل، بل لأنهم صَحِبوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - وصادفوا زمانَ الوحي.

تم الكتاب المبارك بعون الله تعالى وحسن توفيقه الحمد لله تعالى أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا وعلى كل حال وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا ولجميع من آمن بك يا رب العالمين (¬1). * * * ¬

_ (¬1) جاء على هامش النسخة الخطية لمكتبة حاجي محمود بتركيا والمرموز لها بـ "ت": "والحمد لله رب العالمين، قد وقع الفراغ من تحريره على يد العبد الحليم، المحتاج إلى رحمة ربه الرحيم، مصطفى بن أحمد استانبولي الشهير بكلامئ جهانكيري عليهما رحمة ربهما الغني الكريم، في يوم العشرين من جمادى الآخر، لسنة سادس وتسعين وألف، من هجرة [من] له العز والشرف العظيم". وجاء في خاتمة النسخة الخطية لمكتبة غازي خسرو، والمرموز لها بـ "غ": "تم الكتاب بعون الله وحسن توفيقه، والحمد لله رب العالمين، وقد وقع فراغ هذه النسخة الشريفة من يد العبد الضعيف الحقير الفقير النحيف، والمحتاج إلى رحمة رب اللطيف عبد الرحمن الشريف بن حاجي نصوح فقه بن حاجي طور حسن، غفر الله لهم ولوالديهم، ولأستاذيهم، ولجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، في قرية (بك)، يوم الثلاثاء، يوم السادس من شهر رييع الأول، في تاريخ سنة أربع عشر وتسع مئة من هجرة محمد المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين".

§1/1